وأحدث تدمير بغداد على أيدي المغول عام 1258 فاجعة في العالم الإسلامي وقت اضمحلال الثقافة والعسكرية العربية التي امتد نفوذها إلى مختلف أرجاء المعمورة. ولكن العراقيين يعتقدون الآن أن المدينة لا تزال عزيزة على قلوب العرب في كل مكان. وقال رئيس قسم التاريخ بجامعة بغداد صادق الحلو: "تنظر الأمتان العربية والإسلامية إلى بغداد كعاصمة سابقة للدولة الإسلامية.. إنها ليست مدينة بسيطة ولكنها تراث دينهم وحضارتهم وثقافتهم".
ولا تزال بغداد تفخر بأنها قدمت بعض أفضل الشعراء والكتاب والفنانين في الشرق الأوسط. وقد وصفها وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل في مقابلة صحفية بأنها "زهرة الحضارة العربية والإسلامية".
اضمحلت قوة بغداد ولكنها استمرت مقر الخلافة الإسلامية إلى أن دمرها هولاكو حفيد زعيم المغول جنكيز خان عام 1258 في هجوم قال الرئيس العراقي صدام حسين إن الولايات المتحدة تدبر مثله "هولاكو العصر الحديث يهاجم أمكم.. الحضارة العراقية". وأضاف أن سكان بغداد مصممون على إجبار الأميركيين على الانتحار على أسوارها.
وتبقى القليل من بقايا الماضي التليد في بغداد الحديثة التي تضم خمسة ملايين نسمة. وتعبر طرق علوية شيدت وقت الطفرة النفطية في السبعينيات فوق بيوت مبنية بالطوب. وحالت حرب باهظة التكاليف مع إيران استمرت ثماني سنوات وهزيمة في حرب الخليج عام 1991 وعقوبات دولية منذ 12 عاما دون تطوير العراق. ولكن تشمخ في أفق المدينة نصب تذكارية هائلة ومساجد ضخمة وقصور رئاسية فخمة. وغادر المدينة عدد كبير من السكان في الأيام الأخيرة إلى أماكن بعيدة مثل سوريا المجاورة في حين بقي آخرون رغم أن الحرب على الأبواب.
ومن جهته قال رئيس مركز الوثائق ببغداد ظفر عبد القادر الذي يضم سجلات تاريخية عن المدينة: "نحن فخورون بالمدينة.. أمضي أغلب الوقت في الخارج.. ولكن أشعر دائما بالحنين إليها.. كانت مركزا للحضارة عندما كان طالبو العلم يحضرون إلى هنا للدراسة، وحاليا يسافرون إلى الولايات المتحدة. ورغم الحديث عن الحرب والهجوم فإننا لا نزال هنا".
================
الحضارة الإسلامية الأعظم تأثيرًا في أسبانيا
السبت :22/06/2002
(الشبكة الإسلامية) لندن ـ حافظ الكرمي
أكدت المستشرقة الأسبانية "مانويلا كوريتز جارسيا" أن الحضارة الإسلامية والعربية كانت أكثر الحضارات تأثيرًا في أسبانيا ، حيث عاش المسلمون هناك ثمانية قرون - من القرن الثامن الهجري حتى القرن الخامس عشر - تركوا خلالها تراثا ثقافيّا وحضاريّا ضخمًا جعل من أسبانيا الجسر الذي يصل بين العرب والمسلمين من ناحية وأوروبا من ناحية أخرى ، واشتهر من العلماء المسلمين في الأندلس ابن سينا وابن رشد وابن فرناس وابن زهير الذي مازالت عائلته موجودة حتى الآن .
وأضافت الدكتورة مانويلا، الحاصلة على الدكتوراة في فقه اللغات السامية والمتخصصة في التراث العربي: أن تأثير العرب والمسلمين في أسبانيا امتد إلى الحياة التجارية في أسبانيا ، حيث أسسوا الموانئ البحرية والبرية ، وبنوا المنارات والخانات التي تشبه الفنادق حاليا ، كما وضعوا القوانين التي تنظم العمل التجاري ، وعملوا - أيضا - على تنشيط التبادل التجاري بين الشرق وأوروبا .
وأشارت مانويلا جارسيا في حوار مع مجلة " المرأة اليوم " الإماراتية إلى أن الأسبان ينظرون إلى التراث العربي والإسلامي أيام الأندلس كجزء من تاريخ أسبانيا ، وهناك 6 آلاف كلمة ذات أصول عربية في اللغة الأسبانية ، وتوجد مدن وعشائر وعائلات ذات أصول عربية ، كما أنه بعد 20 عاما من الآن سيكون للمسلمين حضورًا قويّا في أسبانيا خاصة في غرناطة والعديد من المدن مثل مدريد التي أصبحت مليئة بالمساجد والمدارس العربية والمقابر الخاصة بالمسلمين
وأوضحت جارسيا: أنه يوجد في أسبانيا حتى الآن الكثير من التراث العربي الإسلامي ، خاصة في مدينة قرطبة ، ومن أبرز معالم هذا التراث قصر الحمراء في غرناطة ، كما توجد آثار أخرى مختلفة وتراث فكري وعلمي وموسيقي ، إضافة إلى أن الحضارة العربية والإسلامية تدرس في المدارس ، ويوجد 25 قسمًا للدراسات العربية والإسلامية في جامعات أسبانيا .
وكشفت عن أن العديد من المثقفين الأسبان يشاركون نظرائهم العرب في النظر إلى الأندلس على أنها الفردوس المفقود، نظرًا لما تحقق من إنجازات في مختلف المجالات خلال فترة حكم المسلمين والعرب.
==============
من معالم الحضارة الإسلامية في فلسطين
الاثنين :15/04/2002
(الشبكة الإسلامية) الدكتور مروان خلف - الإيسيسكو
أصدرت المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) كتابا جديدا بعنوان (من معالم الحضارة الإسلامية في فلسطين) لمؤلفه الدكتور مروان خلف الأستاذ بالمعهد العالي للآثار الإسلامية في جامعة القدس.
ويبرز الكتاب المكانة السامية لفلسطين عند المسلمين ، ويستعرض الأطوار التاريخية التي تعاقبت عليها منذ الفتح العُمَرِي لها في السنة الخامسة عشرة للهجرة (636م) ، مرورا بعهود الأمويين والعباسيين والفاطميين والأيوبيين والمماليك فالعثمانيين ، حيث كانت فلسطين من سنة 922هـ (1516م) إلى سنة 1337هـ(1918م) جزءا من الدولة العثمانية إلى أن أخضعت بموجب قرار عصبة الأمم للإنتداب البريطاني في عام 1918م ، وإنتهاء بالاحتلال الصهيوني لها ، وقيام إسرائيل على أرضها في عام 1948م ، ثم احتلال القدس والضفة الغربية من طرف سلطات الاحتلال الإسرائيلية في عام 1967م .
ويعرض المؤلف للعمارة الإسلامية في فلسطين في استفاضة ، فيعرف بها في نسق دقيق ، وتتمثل العمارة الإسلامية في المساجد والجوامع والخانات والزوايا والتكايا والأربطة والقلاع والأسوار والجسور والحمامات ، إضافة إلى الخوانق والأسبلة والمنشآت المائية .
ويبدأ المؤلف بمسجد القبة المشرفة التي يصفها بأنها إحدى أهم المعالم المعمارية الإسلامية في العالم ثم المسجد الأقصى المبارك ، الذي هو القبلة الأولى للمسلمين وثاني مسجد بني لعبادة الله وحده وثالث الحرمين الشريفين ، ثم مسجد عمر بن الخطاب الذي أقيم على المكان الذي صلى فيه الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عندما فتح القدس فالمسجد الإبراهيمي في الخليل .
ثم يعرض المؤلف لمساجد وجوامع كثيرة في فلسطين ، منها مسجد الشيخ علي البكاء في الخليل والجامع الأبيض في الرملة وجامع الجزار في عكا والجامع الكبير في جنين والجامع الأحمر في صفد وجامع البحر في عكا والمسجد الكبير في طبريا والجامع العمري الكبير وجامع السيد هاشم في غزة ومسجد النصر في حيفا والجامع الكبير في يافا .
فيعرف بها من الناحيتين التاريخية والمعمارية الفنية ، وينشر صورا وتصاميم هندسية لها على النحو الذي يقدم صورة شاملة للمظاهر العمرانية الشاهدة على ازدهار الحضارة الإسلامية في فلسطين.
===============
في بريطانيا : أسبوع الإسلام والحضارة الإسلامية
السبت :18/08/2001
(الشبكة الإسلامية) لندن - الشبكة الإسلامية(5/49)
في سابقة تعكس زيادة اهتمام المجتمع البريطاني بالإسلام ، وفي ظل توتر عرقي شديد كان نتاجه اضطرابات عمت شمالي بريطانيا بين البريطانيين من أصول انجلوساكسونية وبريطانيين مسلمين من أصول هندية بدأت هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" عبر قناتها التلفزيونية الثانية اعتبارًا من السبت 11-8-2001م أسبوعًا للتعريف بالإسلام في عدد من البرامج الوثائقية، ويحمل أول برنامج تعرضه القناة الثانية ذات الصبغة التعليمية اسم "الحج" ويعرض قصة 3 بريطانيين مسلمين يؤدون فريضة الحج بمكة المكرمة، ويشمل الأسبوع التثقيفي 9 برامج هدفها رسم صورة إيجابية عن حياة المسلمين في بريطانيا اليوم.
وتلقي سلسلة هيئة الإذاعة البريطانية الجديدة الضوء على تاريخ الإسلام، لكنها تركِّز أكثر على المسلمين البريطانيين؛ لتعكس صورة مشرقة لواقع الجالية الآخذة في النمو والتي تتبوأ مواقع أكثر في الحياة العامة بعد عقود طويلة من العزلة ، وتسهم السلسلة في إزالة الكثير من الشكوك والمخاوف إزاء المسلمين ، في ظل الحملة الإعلامية المستعرة ضدهم منذ اندلاع انتفاضة الأقصى في فلسطين إذ تعرض السلسلة التلفزيونية لشخصيات بريطانية مسلمة من الجيل الثاني والثالث، وهم الذين يتقنون الإنجليزية كلغتهم الأم، ولا يعرف كثير منهم وطنًا غير بريطانيا.
ومن البرامج المعروضة خلال هذا الأسبوع :الإسلام إمبراطوريات الإيمان ، الذي عرض على ثلاث حلقات بدأت مساء الإثنين 13-8-2001م، ويعرض قصة انتشار الإسلام والعقيدة خلال السنوات الألف الأولى من تاريخ الإسلام، ومن خلال برنامج بعنوان "اسمي أحمد" وعرض مساء الثلاثاء 14-8-2001م، ويسعى القائمون على السلسلة إلى التعريف بالإسلام، وكيفية اندماج المسلمين في مجتمعهم البريطاني، من خلال أشخاص يحملون اسم أحمد، أحد أكثر الأسماء انتشارًا في العالم الإسلامي.
أما برنامج "المسجد" الذي عرض مساء الثلاثاء أيضًا فيعطي البريطانيين فرصة للدخول من خلال العدسة إلى حياة المسلمين البريطانيين والتعرف أكثر على دينهم وهويتهم، وأسلوب عيشهم، ويركِّز بشكل رئيسي على المسجد المركزي في مدينة بيرمنجهام، التي تضم واحدًا من أكبر تجمعات الجالية المسلمة في المملكة المتحدة.
ويوم الأربعاء 15-8-2001م عرض القناة الثانية برنامج دليل البرنس نسيم إلى الإسلام، ويقدم هذا البرنامج الشائق بطل الملاكمة البريطانية المسلم نسيم حميد - اليمني الأصل - المشهور بلقب "برنس" (الأمير)؛ إذ تستغل السلسلة شهرة نسيم وشعبيته الواسعة في عرض دليل مبسط لغير المسلمين؛ من أجل فهم أفضل للعقيدة الإسلامية، ولدحض بعض المفاهيم المغلوطة عن الإسلام والمسلمين.
وفي برنامج "واجهة المنزل.. خاص بالإسلام " يعرض مقدما برنامج "واجهة المنزل" الشهير على تلفزيون "بي بي سي" " لورنس ليويلين بووين" و" ديزمود غافين " اللذان يقدمان عادة برنامجًا يعيدان فيه تصميم بيوت أشخاص مختارين أمام عدسات الكاميرا مهمة خاصة لإعادة تصميم منزل زوجين بريطانيين مسلمين وحديقة المنزل، ولكن بما يناسب حياتهما كمسلمين، ويحاولان الاستفادة من الفن الإسلامي في العمارة.
ويعرض أحد البرامج لظاهرة الخوف من الإسلام (الإسلاموفوبيا) من خلال قصص أشخاص تعرضوا للتمييز؛ لأنهم مسلمون، ويناقش قضايا الدين، والمجتمع، والحرية، والمسؤولية في هذا الإطار،
وفي برنامج آخر تعرض السلسلة لدور الرياضة في حياة الشبان المسلمين البريطانيين، واعتقادهم بأن ممارسة الرياضة جزء من عقيدتهم، وترصد نشاط نادٍ رياضي في لندن معظم أعضائه من المسلمين الآسيويين الذين شاركوا في منافسات رياضية بكرة القدم.
ومن ناحية ثانية قالت مصادر في "جمعية الروم" في المملكة المتحدة : إن منظمات إسلامية وهيئات عدة، مسلمة وغير مسلمة في بريطانيا تنظم على هامش هذا الأسبوع أنشطة مستقلة عن أنشطة هيئة الإذاعة البريطانية، في سبيل مواكبة التعريف بالإسلام والمسلمين في البلاد، وتستمر هذه الأنشطة حتى نهاية شهر سبتمبر 2001 م.
وأوضحت مصادر الجمعية المعنية بالنشاطات الثقافية والتي تضم في عضويتها مسلمين وغير مسلمين أن الأنشطة تشمل: منتديات، ومحاضرات، وأنشطة ثقافية، ومعارض، وورش عمل، وبرامج ترفيهية، وبيع كتب وأشرطة،وتتناول قضايا وموضوعات إسلامية معاصرة، أهمها: التعريف بالإسلام والإيمان بالله تعالى والإسلام والعلوم والمرأة في الإسلام، وتاريخ الإسلام في بريطانيا، وردّ الإسلام على العنصرية، ومشكلة المخدرات في الجالية المسلمة، والفهم الخاطئ لدين الإسلام، وتحديات الألفية الجديدة، والشباب المسلم، والتراث الإسلامي (الفن والثقافة)، وحياة الأسرة المسلمة في بريطانيا، والتوعية الصحية، وإنجازات الكفاءات المسلمة في بريطانيا.
وتشارك في تنظيم هذه الأنشطة مؤسسات عديدة تضم: منتدى الشابات المسلمات، والجمعية الإسلامية في بريطانيا، والبعثة الإسلامية في بريطانيا، والرابطة الإسلامية في بريطانيا، ومنتدى الدراسات الاجتماعية، واتحاد جمعيات الطلبة المسلمين في الجامعات البريطانية "فوسيس"، والجمعية السكنية الإسلامية في شمال لندن، ومنتدى لندن المدني، ومنتدى المسلمين النيجيريين، والندوة العالمية للشباب الإسلامي، وجمعية العالم الإسلامي، والمركز الإسلامي في غرب لندن، والمعهد الإسلامي، ومنظمة "الشبان المسلمون"، ومجلس تعزيز التفاهم العربي البريطاني "كابو"، واتحاد المنظمات الإسلامية في بريطانيا، والمركز الثقافي الإسلامي، وجمعية المحامين المسلمين، ومؤسسة الخوئي، ومعهد الفكر السياسي الإسلامي، والصندوق الفلسطيني للإغاثة والتنمية، ومؤسسة الأمير (تشارلز) للفنون الإسلامية والتقليدية، والمنتدى ضد الإسلاموفوبيا والعنصرية "فير"، فضلاً عن بعض المساجد ومكتبات عامة بريطانية.
وتقدَّر بعض الإحصاءات غير الرسمية عدد المسلمين في بريطانيا بثلاثة ملايين نسمة، من أصل عدد سكان البلاد البالغ 58.3 مليون نسمة، بينما تشير الإحصاءات شبه الرسمية التي يلجأ إليها قادة الأحزاب السياسية البريطانية إلى أن عدد المسلمين البريطانيين هو 1.5 مليون نسمة، أي أنهم يشكلون بمفردهم 2.6%.
ومن المتوقع أن يكشف الإحصاء الرسمي للسكان لعام 2001م، الذي أُجري مؤخرًا عن أرقام أدقّ بالنسبة لأتباع الديانات في بريطانيا، بعد إضافة بند في التعداد السكاني يخص الدين، في كل الأقاليم ما عدا إقليم إسكتلندا، وحسب الإحصاءات الرسمية فإن سكان بريطانيا يتوزعون على ستة أديان رئيسة، هي البروتستانتية 55%، والكاثوليكية 10%، ويشكِّل المسلمون واليهود والهندوس والسيخ مجتمعين نسبة 2%.
ومعروف أن في بريطانيا اليوم نحو 10 لغات رئيسة ينطق بها السكان ذوو الأعراق المختلفة، تشمل الإنجليزية والويلزية والغايلية (الإسكتلندية)، وبينها العربية والأردية والبنجابية (الهندية) ولغات أوروبية، غير أن بريطانيا لا تعترف رسميًّا بغير الديانة الإنجليكانية، وهي دين الكنيسة الإنجليزية الرسمية.
==============
دراسة التاريخ الإسلامي
تاريخ الإستشارة : ...
الموضوع : ... استشارات ثقافية وفكرية
السائل : ... محمد الخالدي
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم(5/50)
أنا شاب لدي ثقافة إسلامية لا بأس بها في الفقه والحديث والسيرة، إلا أنني أطمح في المزيد ، فأريد أن تدلوني - مشكورين- على مرجع أفهم من خلاله التاريخ الإسلامي ابتداءً من عصر الفتنة بعد مقتل الصحابي الجليل عثمان إلى سقوط الدولة العثمانية، ويكون هذا المرجع مبسط ومختصر، كما أنني أحب أن أطلع على التاريخ الأوربي القديم والحديث، وأريد أن تدلوني على مراجع لهما، وإذا كانت المراجع متوفرة على الإنترنت فهذا سوف يكون أسهل علي ؛ وذلك بسبب صعوبة الحصول على الكتب العربية الجيدة في البلد الذي أعيش فيه ، ولكم جزيل الشكر والثواب.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الابن الفاضل/ محمد الخالدي حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد،،
نسأل الله العظيم أن يرزقك العلم النافع، والعمل الصالح، ونسأله تبارك وتعالى أن يرزقنا جمعياً الإخلاص في القول والعمل، وأن يلهمنا رشدنا ويعيذنا من شرور أنفسنا وبعد،،
فإن طلب العلم أفضل من كل نافلة، ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد، ولا يزال الرجل عالماً ما طلب العلم، فإن ظن أنه علم فقد جهل، والعلم عميق بحره، والسعيد يأخذ من كل فن بطرق شريطة أن يبدأ بتحصيل العلوم الواجبة على كل مسلم، وهي ما تصح به العقيدة والعبادة، وما يتمكن به من التعامل مع الخلق بما يرضي الخالق، وفقه الضوابط الشرعية للعمل الذي يتكسب من ورائه رزقه.
ولا بأس بعد ذلك بالتوسع في دراسة العلوم، والأفضل أن تؤخر دراسة التاريخ الأوربي وتجعله في مرحلة لاحقه حتى لا يصادف قلباً خالياً فيتمكن منه، وهذا خطأ يقع فيه كثير من المبهورين بحضارة الغرب، ثم يسارع بعد ذلك بانتقاص التاريخ والحضارة الإسلامية التي يجب أن نتذكر أنها هي التي أضاءت أوروبا وغيرها من بلاد الدنيا.
كانت أوروبا ظلاماً ضل سالكه **** وشمس أندلس بالعلم تهديه
كنا أساتذة الدنيا وقادتها **** والغرب يخضع إن قمنا نناجيه
واليوم تفنا لعز فرَّ من يدنا **** فهل يعود لنا ماضٍ نناجيه؟
في العلم والأخلاق مجدكم **** هذا البناء الذي يعلو ببانيه
وعندما نقلب صفحات التاريخ الإسلامي يجب أن نصطحب معاني هذا الدين ونحسن الظن بسلفنا الأبرار، فمن الخطأ قراءة التاريخ الإسلامي بنظرة مادية مجردة، لأن في ذلك تفريغ لهذه الحضارة العظيمة في معانيها الإنسانية والإيمانية، وهذا ما قصده كثير من أعدائنا الذين تناولوا تاريخنا، وما أكثر المظلومين في التاريخ الإسلامي، والإنصاف يقتضي أن نذكر المحاسن إلى جوار المساوئ، وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبيث.
ومن الكتب المهمة جداً لمن يرغب في دراسة التاريخ الإسلامي، كتاب العواصم من القواصم لأبي بكر بن العربي، وكذلك ما كتبه ابن تيمية في هذا الجانب بالإضافة لمؤلفات الدكتور/ عبد العظيم الديب، ومؤلفات د/عماد الدين خليل ، والأستاذ/ عبد العظيم علي شعوة، وأشرطة الدكتور/ الدعيج، وكتابات الدكتور/ عبد العزيز الحميدي وغيرهم من الفضلاء.
وإذا درس الإنسان التاريخ فكأنما أضاف أعماراً إلى عمره، والمطلوب هو الحرص على التحقق من صحة المعلومات التاريخية، والتأكد من خلو مؤلفاتها من الأغراض السيئة، فقد كان للفرق الضالة تشويه للتاريخ وظلم للعظماء.
وقد انتبه لهذا أهل الاختصاص في الجامعات الإسلامية، وهناك مشاريع علمية ضخمة لتحقيق التاريخ الإسلامي، وبيان الروايات الواهية والموضوعة التي ضخمها ورددها أهل الشر في كل زمان ومكان.
وبالله التوفيق.
المجيب : ... د. أحمد الفرجابي
==============
كيف نعالج أسباب ضعف الأمة الإسلامية
تاريخ الإستشارة : ... 2006-02-14 10:41:54
الموضوع : ... استشارات الأسرة والمجتمع
السائل : ... ****
السؤال
ما هي أسباب ضعف الأمة الإسلامية؟ وكيف يمكن أن نعالج هذه الأسباب؟
وشكرا.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد،،،
فنحن أمة تنتصر بطاعتها لله واتباعها لرسولها، وتنكسر بعصيانها لله وبعدها عن شرعه وهداه، ولعل في هذا اختصارٌ لأسباب السقوط، وما أحوجنا إلى قراءة تاريخ أمتنا بتأنٍ وروية لاستخلاص العبر، وأرجو أن نعرف أن أعداءنا اليهود درسوا تاريخنا وحضارتنا ووقفوا على أسباب نهضتنا فحالوا بيننا وبينها، ولا يستطيع رجلٌ منهم أن يصل إلى مواضع القرار إلا إذا تعمق في دراسة الحضارة الإسلامية، وقد أيقنوا أنهم لن يتمكنوا من هزيمة المسلمين إلا إذا أسقطوا الخلافة الإسلامية التي كانت رمزاً لوحدتنا، وأبعدوا الشريعة الإسلامية التي أخرجت للدنيا خالداً والقعقاع والمثنى.
وعندما صدق سلفنا مع الله مشوا على سطح الماء، وكانت الدنيا في خدمتهم ومطر السماء، وقد صدق سلمان عندما قال لسعد بن أبي وقاص: (إن هؤلاء صادقون مع الله ولذلك أيدهم وسخر لهم البحر كما سخر لهم البر، وأخشى أن يأتي يوم يتخلى فيه المسلمون عن طاعة الله فيتأخر عنهم نصر الله)، وقد بكى أبو الدرداء عند فتح قبرص، فقيل له: (تبكي في يوم نصر الله فيه دينه وأعز فيه جنده. فقال رضي الله عنه: أبكي على حال هؤلاء الذين عصوا الله فسلطنا عليهم، وأخشى أن يأتي يوم يقصر فيه المسلمون في طاعة الله فيسلط عليهم عدوهم) ولا شك أن الحالة التي خاف منها سلمان واليوم الذي أشفق منه أبو الدرداء هو ما وصلنا إليه.
وإذا تتبع المسلم أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وقبل ذلك آيات القرآن وقف على جملةٍ من عوامل الضعف والهزيمة، فقد جاء في سياق الحديث عن غزوة أحد قوله تعالى: {ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة}.
ومن هنا يتضح لنا أن الاختلاف وعصيان الرسول، ومخالفة الأوامر، وحب الدنيا، من أسباب الضعف والانكسار.
وإذا نظر الإنسان في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: أومن قلةٍ نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت).
وإذا تأمل الإنسان غثاء السيل فإنه يلاحظ فيه جملةً من أسباب الضعف والخور، فغثاء السيل ليس له قبلة ولا وجهة ولا هوية، وغثاء السيل يفتقر إلى النظام، وفيه معنى الخلاف، فليس بين أجزائه رابط، وغثاء السيل تبعٌ لحركة الماء، وهل أضاعنا إلا الدخول في حجر الضب خلف أمم الغرب مع شدة ظلام حجر الضب وشدة ضيقه ونتن رائحته.
وللضعف أسبابٌ أخرى عديدة، منها ما يلي:
1- الغزو الفكري والمتمثل في سبيل الشبهات.
2- حرب المخدرات والشهوات.
3- التنعم وعباد الله ليسوا بالمتنعمين.
4- ضعف مناهج التعليم، وضعف طرق تدريسها.
5- الغزو الإعلامي مع غياب دور الأبوين في التوجيه والرعاية.
6- غياب الشريعة، والقعود عن الجهاد.
7- الدعوات القومية والوطنية التي فصلتنا عن تاريخنا المجيد وفرقت جمعنا.
8- الجهل والبدع.
وإذا أراد الإنسان أن يختصر أسباب النصر فإنه يستطيع أن يقول: إن الله أعزنا بالإسلام فمتى ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله، وإذا تركت الأمة الجهاد كتب الله عليها ذلاً لا ينزعه حتى يراجعوا دينهم، فالعودة إلى الله سببٌ لكل خير، والبعد عن الله سببٌ لكل شرٍ وهوان.(5/51)
ولا بد من تربية جيل النصر المنشود على كتاب الله ومائدة السنة النبوية الشريعة، وإعادة النظر في مناهجنا، وخاصةً الجوانب الحضارية المشرقة التي تعهد الأعداء إخفائها وتشويهها، والخير باقٍ في أمة النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فإن أمتنا لا تموت، ونحن نحتاج إلى لحظة صدق مع الله، وأحسن الشاعر حين قال:
ولو صدقوا وما في الأرض نهرٌ ** لأجرينا السماء لهم عيوناً
ولأخضعنا لملكهم الثريا ** وصيرنا النجوم لهم حصوناً
وقال تعالى: {وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقا}.
والله ولي الهداية والتوفيق.
المجيب : ... د. أحمد الفرجابي
=============
سرُّ تخلف المسلمين في العلوم المعاصرة
تاريخ الفتوى : ... 27 ذو القعدة 1423 / 30-01-2003
السؤال
لماذا تأخر المسلمون في التكنولوجيا المعاصرة ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فهناك أسباب كثيرة أدت إلى تخلف المسلمين في التكنولوجيا الحديثة، ويأتي على رأسها وفي طليعتها الإعراض عن الكتاب والسنة، وليس أدل على ذلك من واقع المسلمين المشرق يوم كانوا متمسكين بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم حين دانت لهم الدنيا، وفتحوا البلاد وقلوب العباد، فأخذوا بمفاتيح العلوم وسنن الله في الكون، وعملوا بالأسباب، ولذا تنوعت الكشوفات والاختراعات العلمية في شتى الفنون تلك التي كانت مرتكزاً بنى على أساسه الغرب صرح حضارتهم المدنية الحديثة، وإن أدَّعَوا كذباً وزوراً عكس ذلك.
ثم تخلف المسلمون حين تركوا تعاليم دينهم، ولم يأخذوا بعامل التقدم التي أخذ بها غيرهم، وهي سنن من سار عليها وصل، ورحم الله من قال:
إني تذكرت والذكرى مؤرقة === مجداً تليداً بأيدينا أضعناه
أنَّى اتجهت إلى الإسلام في بلد === تجده كالطير مقصوصاً جناحاه
كم صرفتنا يد كنا نصرفها === وبات يملكنا شعب ملكناه
وللدكتور ناصر بن سليمان العمر محاضرة قيمة مطبوعة بعنوان أسباب تخلف المسلمين ذكر فيها جملة أسباب أدت إلى تخلف المسلمين عن ركب الحضارة المعاصرة منها:
- سقوط الخلافة الإسلامية.
- فصل الدين عن الدولة.
- الهزيمة النفسية أمام الأعداء.
- الجهل والإفساد باسم الإصلاح والتطور.
- نشوء العصبيات والقبليات.
وذكر فيها بعض الآثار التي ترتبت على ذلك؛ ومنها: الانحراف الفكري، وفساد بعض مناهج التعليم، والخلل الاجتماعي، وقد ذكر كذلك عدة أمور لعلاج ذلك التخلف؛ ومنها: العودة الصادقة للإسلام، ومنها: العزة والاستقلال، والتخلص من الهزيمة النفسية، ومنها: عودة دور العلماء في المجتمع وتسلمهم دور القيادة.
ولمزيد من الفائدة نوصي بالرجوع إلى تلك المحاضرة على موقع المنبر www.alminbar.net وغيره من المواقع التي نشرت تلك المحاضرة.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
================
أمة الإسلام بين الماضي والحاضر والمستقبل
تاريخ الفتوى : ... 03 ربيع الثاني 1424 / 04-06-2003
السؤال
أين هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد بعث الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم في أمة أمية ضعيفة مستذلة جاهلة متناحرة تعبد الأصنام وتأكلها، وتئد البنات أحياء، وتتقاتل السنين لأتفه الأسباب، وتتعاطى الربا والزنا والخمر، وكثيرا من رذائل الأخلاق، ثم إن هذه الأمة لما دخلت في هذا الدين انقلب حالها، فبعد ما كانوا رعاة الغنم صاروا سادة الأمم، وبعد ما كان يستذلهم كسرى وقيصر، كسروا كسرى وقيصر، وبلغت الفتوحات من الحضارة الإسلامية مشرق أرض الله ومغربها، حتى وصلت إلى الصين شرقا وفرنسا غربا.
فلما ابتعدت هذه الأمة عن دينها واتبعت شهواتها واستجاب كثير من أبنائها لشبهات ألقاها الكفار عليهم، أصابها الذل والهوان، وعادت إلى ما كانت إليه قبل الإسلام من الضعف والمسكنة والتناحر والأخلاق المشينة.
أما عن المخرج مما هي فيه، فإنه يكمن في قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم [الرعد:11].
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم. رواه أحمد وأبو داود.
فكل واحد من أمة الإسلام مسؤول أن يصلح نفسه وذويه وما استطاع من الأمة، حتى نكون أهلا لنصر الله وفتحه.
قال تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40].
وراجع الفتاوى التالية:
11616، 2113، 1411، 16286، 18945.
نسأل الله أن يعزنا بالإسلام، وأن يعز الإسلام بنا، وأن ينصرنا على عدوه وعدونا، وقبل ذلك على أنفسنا الأمارة بالسوء. آمين.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
"لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها"
تاريخ الفتوى : ... 18 رجب 1424 / 15-09-2003
السؤال
أين الخلل ألسنا بحاجة إلى ثورة فكرية تخلصنا من رواسب عصور الانحطاط وتعيد عرض الإسلام خاليا من الشوائب ليحتوي الحضارة الغربية ويهذبها
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فإن الله تعالى مَنَّ على هذه الأمة بهذا الدين الذي جمعها من شتات وأحياها من موات، فصارت به شيئا مذكورا بين الأمم ليهابها القاصي والداني، بل تنصر بالرعب مسيرة شهر. قال تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا [آل عمران: 103]. وقال: لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الانبياء:10]. ثم إنه أتى على هذه الأمة حين من الدهر دب إليها الفساد في عقائدها ومعاملاتها، فوهنت وضعفت حتى وطئها الخف والحافر، واستخف بها أعداؤها، وصار دمها أرخص الدماء وعرضها مباحا لكل غاصب. ولن يعود لها مجدها وعزها حتى تراجع دينها، كما جاء به رسولها صلى الله عليه وسلم صافيا من كل ما علق به من البدع التي شوهته وحالت دون تقدم المسلمين، ورحم الله الإمام مالكا يوم قال: ^لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها^^. نسأل الله أن يعز الإسلام وأهله. والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
===============
الأمة الإسلامية ذات منهج تربوي متميز
تاريخ الفتوى : ... 26 شوال 1424 / 21-12-2003
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله أنا طالب في علوم تربية الأطفال، كيف كان تعامل الرسول صلي الله عليه وسلم مع الأطفال، وما المنهج التربوي النبوي؟ أرشدوني بالتفصيل؟
الفتوى(5/52)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فإذا كانت الحضارة الإنسانية قد ازدهرت وعرفت ألوانا متعددة من التربية، فإن الأمة الإسلامية قد انفردت عن غيرها من الأمم بنظام تربوي متميز، قادر على تكوين أجيال مسلمة متوازنة قادرة على تحمل المسؤولية الكاملة في تحقيق سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة. ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم هو المربي الأول الذي أسس هذا المنهج، فرسم مناهج للطفولة لم يسبق إليها، ولم تكن تربيته قاصرة على من يعيش في كنفه أو تحت سقف بيته، بل كان منهجاً تربوياً ينتهجه لأمته عامة ويرسخه لكل الأجيال. ويبدأ المنهج التربوي النبوي بما قبل تكوين الأسرة، فيوصي باختيار الزوجة الصالحة ذات الدين، كما يوصيها هي بقبول الزوج ذي الدين والخلق، لينشأ الطفل على الفضائل. ثم قبل مباشرة الزوج لزوجته يردد ما أرشده إليه قائد التربية -صلى الله عليه وسلم- يقول: ~اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا.~~ متفق عليه. ثم في مرحلة الحمل يوصي الإسلام بالعناية بالحامل عناية كاملة، فيأمرها بالأخذ بالأسباب العلاجية والوقائية والنفسية والروحية، لدرجة أنه يعفيها من الصيام أثناء الحمل إذا خافت على نفسها أو جنينها من الضرر، ويحثها على قراءة القرآن والدعاء المستمر، وقد أثبتت التجربة العلمية والعملية أن المرأة المطمئنة المتزنة نفسياً يتصف وليدها بطبيعة هادئه ومتزنة. ثم بعد الولادة سن الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- أن يبدأ للطفل بالأذان في أذنه اليمنى، ليبدأ بغرس العقيدة الصحيحة في أول وجوده، ثم يكرم يوم سابع الولادة بالتسمية وبالعقيقة التي يأكل منها الفقير والقريب، ويزداد بها الفرح والمودة بين المجتمع. وهكذا تتدرج التربية للطفل والعناية به من خلال توجيهاته -صلى الله عليه وسلم- حسب كل مرحلة من مراحل نموه، نفسياً وجسدياً، بدءا بالعقيدة السليمة، ومروراً بالتربية الاجتماعية والخلقية والعاطفية. وخلاصة كل ذلك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نموذجاً فريداً للأبوة الكريمة، يفرح بقدوم الأطفال، ويشارك في اختيار أسمائهم ويحنو عليهم فيمازحهم ويلاعبهم، ويضمهم إلى صدره الكريم ويقبلهم بفمه رحمة وحبا وإخاء، وبذلك نشأ الجيل الذي تربى على يديه -صلى الله عليه وسلم- فريداً مثالياً في إيمانه وعبادته وتفكيره وأخلاقه ومعاملاته. وتمكنك معرفة أكثر من ذلك بمطالعة سيرته -صلى الله عليه وسلم-، فإن عجالة كهذه لا يمكن أن تفي بالمقصود. والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
================
معنى الحضارة
تاريخ الفتوى : ... 29 محرم 1425 / 21-03-2004
السؤال
تعريف الثقافة وما الفرق بينها وبين الحضارة؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد سبق التعريف بماهية الثقافة، وذلك في الفتوى رقم: 32376، وأما الحضارة فهي من الحاضر ضد البادي، والحضارة ضد البادية وهي المدن والقرى والريف والبادية، كذا ذكر صاحب مختار الصحاح، هذا اشتقاقها من حيث اللغة، وأما تعريفها كمصطلح فقد عرفها مالك بن نبي بأنها كل ما يوفره المجتمع لأبنائه من وسائل تثقيفية وضمانات أمنية، وحقوق ضرورية، تمثل جميعها أشكالاً مختلفة للمساعدة التي يريد، ويقدر المجتمع المتحضر على تقديمها للفرد الذي ينتمي إليه.
فتبين بذلك أن مفهوم الحضارة عنده شديد الارتباط بحركة المجتمع، وأن الثقافة تمثل جزءاً من الحضارة، فالحضارة على هذا أشمل جهة من حيث المعنى من الثقافة.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
الإسلام هو دين العدالة والمساواة
تاريخ الفتوى : ... 13 صفر 1425 / 04-04-2004
السؤال
سؤالي هو ..كيف ترد على من يقول بأنه لا توجد عدالة ولا مساواة في بعض الأحكام الشرعية، مثل حكم قتل الحر بالعبد، حيث إن هناك قولا للجمهور بأن الحر إذا قتل العبد لا يقتل به، واستدلوا بأدلة كثيرة ومع ذلك كيف تقنع من يقول بأن هذا ليس من تمام العدل، فجميع الناس متساوون وتتكافأ دماؤهم ولا فرق بين حر وعبد ولا ذكر وأنثى.. فأين المساواة في ذلك ؟
وجزاكم الله خيرا
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالحر لا يقتل بالعبد كما قال جمهور العلماء، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 19971، والإسلام هو دين الحضارة والعدالة والمساوة، فقد نظم المعاملات بين الناس وبيّن أحكام العقود والجنايات والعقوبات وغيرها مما يقصد به تنظيم علاقات الناس بعضهم مع بعض، ثم إن هذه الحياة الدنيا هي دار ابتلاء واختبار وليست دار تكريم وجزاء، والعبد قد خصه الله بمضاعفة الثواب إذا أحسن القيام بواجباته، ففي الصحيحين من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن العبد إذا نصح لسيده وأحسن عبادة الله فله أجره مرتين، والمساواة والعدالة ليس معناهما أن يستوي الناس في كل شيء، الرئيس والمرؤوس والشريف والوضيع، والغني والفقير، والصغير والكبير، والذكر والأنثى، فتلك فروق جعلها الله بين البشرية ولا بد أن يبقى لها أثر في الوجود كيفما كان التنظيم المتبع.
ورغم أن مسألة منع القصاص للعبد من الحر، والاقتصار في جنايته عليه على القيمة عادلة عقلا، فإن المسلم لا يحكم عقله في الأحكام الصادرة عن الله تعالى إلا بقدر ما يفهمها، وواجبه الخضوع والإذعان لها استجابة لقوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (النساء:65)، فالله تعالى هو أحكم الحاكمين، وهو أدرى بحقيقة العباد وبمصالحهم، وإن يكفر بشيء من ذلك ناس فقد وكل الله به قوما ليسوا به كافرين، فلا تلتفت إلى إلحاد أولئك الفساق والكفرة الذين همهم الوحيد هو أن يبدلوا دين الله، ويحكموا بغير ما أنزل الله.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
القرآن صالح لكل العصور
تاريخ الفتوى : ... 19 ذو الحجة 1425 / 30-01-2005
السؤال
شبهة كيف ترد عليها، إن القرآن لا يقدر على إقامة المجتمع الراقي ولا يستطيع مواكبة التطورات في كل عصر وخاصة في العصر الحاضر، لأن القرآن نزل على مجتمع بدائي لا يعرف الحضارة ولا التطور ولا القراءة والكتابة؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالقرآن كتاب الله الذي خاطب به البشرية جميعاً إلى يوم القيامة بلا تقيد بزمان دون زمان أو مكان دون مكان، لقد جاء القرآن حين بلغت البشرية سن الرشد العقلى فجاء كتابا مفتوحا يخاطب جميع العقول لا في عصر النزول فقط، بل ممتداً لجميع العصور، وهذه حقيقة لا يختلف فيها عاقلان، فالقرآن لم يأت بشيء يخالف العقل السليم، ولم يأت بشيء يؤخر الإنسان، وإنما أتى بما يرقى بعقل الإنسان في كل مجال من مجالات الحياة في حدود ما أحله الله.
قال الأستاذ سيد قطب: إنه نظام متكامل لحياة شاملة، نظام يوجه ويضبط كل النشاط الإنساني في شتى جوانب الحياة. اهـ بتصرف من مقومات التصور الإسلامي.
وقد شهد بذلك علماء النصارى أنفسهم: يقول إيفور إليويس -كان قساً نصرانياً ثم أعلن إسلامه-: ولعل ما لفت نظري وجذبني لهذا الدين أنه دين شامل وكامل يعالج جوانب كثيرة من حياة الفرد والمجتمع، ويوازن بين الدنيا والآخرة، ويقدم للبشرية مشاريع إصلاح اقتصادية واجتماعية ونفسية. انتهى.(5/53)
فمن يطبق القرآن ويعمل به ينل خير الدنيا والآخرة، وقد صرح بذلك البروفسير (إيرفنج) الأستاذ بجامعة (تنسي) الأمريكية حينما وقف مخاطباً للمسلمين قال: ... تعلموا الإسلام وطبقوه واحملوه لغيركم من البشر تنفتح أمامكم الدنيا، ويدن لكم كل ذي سلطان، أعطوني أربعين شاباً ممن يفهمون هذا الدين فهماً عميقاً ويطبقونه على حياتهم تطبيقاًَ دقيقاً، ويحسنون عرضه على الناس بلغة العصر وأسلوبه، وأنا أفتح بهم الأمريكتين. انتهى، نقلاً عن (قضية التخلف العلمي والتقني في العالم الإسلامي) للدكتور زغلول النجار.
أما من قال إن القرآن لا يستطيع مواكبة التطورات في كل عصر لأنه نزل على مجتمع بدائي، فيرد عليه الأستاذ سيد قطب قائلاً: إن شريعة ذلك الزمان الذي نزل فيه القرآن هي شريعة كل زمان، لأنها بشهادة الله شريعة الدين الذي جاء للإنسان في كل زمان وفي كل مكان لا لجماعة من بني الإنسان... والله الذي خلق الإنسان وعلم من خلق هو الذي رضي له هذا الدين المحتوي على هذه الشريعة، فلا يقول إن شريعة الأمس ليست شريعة اليوم إلا رجل يزعم لنفسه أنه أعلم من الله بحاجات الإنسان وبأطوار الإنسان. انتهى (في ظلال القرآن).
فليس هناك إلا منهج واحد رابح وطريق واحد ناجح ألا وهو ذلك المنهج المستنبط من القرآن، وننصح الأخ السائل بعدم الالتفات لهذه الشبهات، لأن أعداء الإسلام يحاولون تشويه الإسلام وإثارة الشبهات حول القرآن، وذلك لإضعاف الإسلام والمسلمين ونزع ثقتهم بالقرآن.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
===============
الصواب أن تقوم نهضتنا على الحضارة الإسلامية
تاريخ الفتوى : ... 13 صفر 1426 / 24-03-2005
السؤال
ما رأيكم في مشروع صناع الحياة للأستاذ عمرو خالد، بعد إذنكم أنا أرى أنه جميل، لكن لما قرأت الهدف لم يعجبني وهو أنه قيام حضارة عربية، ولم يذكر إسلامية، وفي التعريف قال نحن لا ننتمي إلى أي مؤسسة دينية، فما المقصود، أيضا ونحن نعلم أن النبي لم يقم بدعوة العربية ولا الحيادية ولا الأخلاقية بل جمعها كلها في راية لا إله إلا الله، فهل هذا خطأ من الأستاذ يجب أن يعدله وإلا لن يجنى شيء من الحضارة والتقدم مع أنه الصواب، أتمنى الرد؟ وجزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإننا نوافقك على أن الدعوة إلى قيام حضارة عربية ليست من منهج الإسلام في شيء، فإن العرب قبل الإسلام لم تكن لهم قيمة ولا اعتبار، فلم يكونوا سوى رعاة إبل في صحراء جرداء لا يؤبه لهم ولا يعيرهم أحد اهتماماً، يقطعون السبيل ويأكل القوي منهم الضعيف ويفشو فيهم الزنا والربا.
فلما جاء الإسلام ودخلوا فيه صاغهم صياغة جديدة، فأصبح منهم العباد والزهاد والمجاهدون وسادوا بالإسلام الدنيا، وعلموا الناس كيف يكون العدل مع القوة، قال الله تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ {آل عمران:110}.
وعلى ذلك فإن من الرشد أن تقوم نهضتنا على الحضارة الإسلامية، وأن يكون ابتعاثنا منبثقاً من العقيدة الصحيحة ومفاهيم الإسلام التي ربى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة.
أما أن نجعل همنا قيام حضارة عربية -فإن ذلك يدل على عدم الفهم، بل على الجهل بخصائص الرسالة المحمدية، قال عمر بن الخطاب: كنا أذل أمة فأعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله.
ولمزيد من التفصيل راجع مقدمة تفسير سورة الأنعام من كتاب (في ظلال القرآن) وفصل (طبيعة المنهج القرآني) من كتاب (معالم في الطريق)، وانظر (إخراج الأمة المسلمة) لماجد عرسان كيلاني، (والغرباء الأولون) لسلمان العودة.
ولمعرفة بعض ما يؤخذ وما يرد من أقوال الأستاذ عمرو خالد راجع الفتاوى ذات الأرقام التالية: 24159، 55432، 59243.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
عقليتنا الإسلامية ومنهج التعاطي مع الحضارة
( عقل استنباطي أم قياسي أم انبهار المغلوب بالغالب ؟ )
سيد يوسف
تمهيد:
هل عجز العقل المسلم والعربي عن استيعاب عالم الحضارة إن كان ثمة حضارة فيما يتعاطاه الآن من أحداث وأمور ومنجزات حضارية وعلمية وفلسفية؟ وهل ظل العقل المسلم مكبلا بمنهج الاستنباط دون إعمال أو انتقال جماعي منظم لمنهج الاستقراء الذي اعتمد عليه الغرب؟ فما هو المنهج الاستنباطي هذا؟ وما مجالاته؟ ومن ثم ما المنهج الاستقرائي هذا؟ وما مجالاته؟ وما علاقة المناهج العقلية هذى بالحضارة والتقدم؟ هل يمكننا أن نقول: إننا إلى الآن لا نمتلك الرصيد الفكري المأمول في التعرف على قضية المنهج الذي نتعاطى من خلاله حاضرنا وأن جهود بعض الأفراد من هنا أو من هناك لا تعدو كونها محاولات فردية وإن كنا نرجو لها التعميم لكنها- لا تصب في تأصيل قضية التعريف العام بمنهج تفكيرنا كعرب وكمسلمين، ولم تتسع لتشكل مجرى ثقافيا عاما في الأمة؟ وهل يمكننا القول بأن العقل العربي والمسلم ذو تشكيلة خاصة لم تتجاوز بعد مرحلة الاستنباط حتى في تعاطيها في السنن الكونية والاجتماعية؟ حول هذى المفردات تدور هذى المقالة. يرى د/ عمر عبيد حسنة أن هناك قوانين وسننا، تحكم حركة التاريخ والاجتماع البشري، لا تتخلف ولا تحابي أحدا، ونحن -المسلمين - نخضع للقوانين نفسها، حيث لا يكفي النظر في النتائج بل لابد من النظر في المقدمات والأسباب التي أنتجتها، حتى يتمكن المسلمون من التحكم بها، وأخذ الحذر من الوقوع فيها، وحتى لا ينتهوا النهاية نفسها.. فالمقدمات نملكها، والنتائج تملكنا. وقد تكون إحدى آفات العقل المسلم اليوم، أننا ندع ما نملكه إلى ما يملكنا. ونذكر أن القاعدة القرآنية والتي لها دقة القوانين الرياضية تقول: (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) محمد 38 ولعل هذي صرخة تحذير لأمتنا حتى تستيقظ قبل فوات الأوان, فلقد قاد الركب المجرمون الذين يعيثون في الأرض فسادا, وما فعل الأمريكان بأفغانستان, والعراق وببعض عالمنا العربي عنا ببعيد. نقصد بالمنهج الاستنباطي (بشكل مبسط): تلك الطريقة من التفكير التي بموجبها يحكم العقل في قضية ما بناء على قانون سابق فهو عقل محكوم ومكبل دائما بأصل يقيس عليه أو بنص ما فهو دائما فرع لأصل، يدور في إطار سابق، وهو ينتقل من القاعدة السابقة إلى إثبات المشاهدة أو التجربة. ومن المجالات التي يصلح لها هذا المنهج: قضايا الفقه التشريعي، في إطار الحلال والحرام، وذلك عند إعمال العقل في النص الديني الموحى به لإدراك أبعاده ومقاصده وتحديد علته، ويتعدى الأمر إلى الأدوات الأخرى مثل القياس (الاجتهاد الفردي)، والاستحسان، والاستصلاح، والاستصحاب، والخلاصة ههنا أن العقل إنما يتحرك في إطار سابق محكوم ببعض الضوابط التي جاء بها الوحي. نقصد بالمنهج الاستقرائي (بشكل مبسط): تلك الطريقة من التفكير التي بموجبها يحكم العقل في قضية ما بناء على التجربة والمشاهدة ومن ثم ينتقل من التجربة إلى صياغة القاعدة، فهو منهج يحرر العقل من القيود المسبقة أو المثال. ومن المجالات التي يصلح لها هذا المنهج: قوانين السير في الأرض، واكتشاف السنن الحاكمة لحركة الحياة أوفقه الحياة من علوم مادية وكشف حضاري سواء في مجال العلوم الاجتماعية أو التربوية أو العلمية.
ملاحظات مهمة عرض بعضها د/عمر عبيد حسنة ومنها:
1/ في كلا المنهجين إبداع وإنتاج جميل ولكن لكل مجال وميدان يحقق السبق.(5/54)
2/ فالفقه التشريعي في الإسلام يخضع للمنهج الاستنباطي القياسي بيد أن الفقه الاجتماعي والحضاري يخضع للمنهج الاستقرائي.. وقد يكون من بعض عيوب العقل المسلم المعاصر، الخلط بين المنهجين وعدم القدرة على استخدام كل في مجاله.
3/ إن سنن التداول الحضاري، استيحاء من قوله - تعالى -: (وتلك الأيام نداولها بين الناس) آل عمران: 140 لا تتأتي إلا من السير في الأرض، الذي فرضه الله على المسلم بقوله: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل) الروم30 فلنتعرف على القوانين التي حكمت حركه البشر للإفادة منها للحاضر والمستقبل فقد يكون الحاضر نتيجة لمقدمه في الماضي, وقد يكون مقدمه لنتيجة لا تظهر إلا في المستقبل.
4/ لقد كان جيل القرون الأولى يتعامل مع السنن بشكل عملي وتلقائي؛ لأنهم فقهوا الوحي, أما نحن فلم نزل نبحث فيها وننظر في مدى أهميتها في إعادة تشكيل العقل وتصميم الذهنية الإسلامية، التي لا نزال تعاني من التخلف، بسبب الغفلة عن السير في الأرض والكشف عن سنن الله في الأنفس والآفاق، وأهمية ذلك في معرفة قيام المجتمعات، وسقوط ونهوض الأمم.
5/ لاشك أن معطيات الوحي، في الكتاب والسنة، تضمنت خلاصة السنن التي تحكم الحياة والأحياء، بما عرضت له من القصص القرآني، عن نهوض الأمم والحضارات وسقوطها، وربط الأسباب بالمسببات، والمقدمات بالنتائج، بشكل أشبه ما يكون بالمعادلات الرياضية التي تحكم عالم المادة، ليعتبر أولوا الأبصار.
6/ اكتشاف السنن والتوصل إلى الدليل الذي يبين الحق إنما يتأتى من استقراء التاريخ والواقع وآيات الأنفس والآفاق؛ لكن المشكلة جاءت من الامتداد بأحد المنهجين وتعطيل الآخر خاصة عندما توقف العقل المسلم عن السير في الأرض وتعطل عن النظر في الأنفس والآفاق، في العصور المتأخرة، الأمر الذي أدى به إلى الانحسار الحضاري. تطبيق عملي وجميل أن نسوق ههنا فكرة عملية نرجو لها أن تتسع لها عقول الناشطين وإسهاماتهم في خدمة قضايا أمتنا.. هذه الفكرة عرضها د/عمر عبيد بشكل عام ونركز الضوء عليها بعرض التساؤل الآتي: ما قيمة القصص القرآني الخالد، إذا لم يشكل عقلا مدركا للقوانين والسنن، التي تحكم التجمع الإنساني، وتتحكم بقيام وسقوط الحضارات، هل هي حكايات لتزجية الوقت، أسقطها الزمن، وطواها التاريخ؟! المطلوب اليوم، أكثر من أي وقت مضى، في مجال الدراسات الإنسانية التي بلغت عند غيرنا شأوا بعيدا، أن نتوجه صوب فقه القصص القرآني، بالقدر نفسه الذي توجهنا به نحو آيات الأحكام، واستنبطنا منها هذه الكنوز العظيمة في مجال التشريع، لنكتشف فقها حضاريا في إطار علوم الإنسان، والقوانين الاجتماعية، التي تحكم مسيرة الحياة والأحياء، والتي تخلفنا فيها إلى درجة لا نحسد عليها. في النهاية هذى بداية نرجو لها الدراسة وإعمال العقل لعل وعسى..سيد يوسف.
sayidyusuf@yahoo.com
http://www.islamselect.com المصدر:
==============
سراييفو .. حضارة أخيرة ! ؟
د. سعد عطية الغامدي
لك الله يا أخت أشبيلية *** وتوأم كاديز والمرسيه
حضارتنا.. شادها الأولون *** وأرسوا مناراتها.. عالية
وضيعها صبية مترفون *** تديرهم الكأس والجارية
فعادت مساجدها بيعاً *** وآثارها.. دمناً خاوية
لك الله يا وهجاً في الصدور *** ريا كوكباً في سما بوسنية
تعانين وحدك - يا ويحنا *** وتلقين أسرابهم عارية
وتستنجدين صباح مساء *** وآذاننا - وقرت - واعية
ونبصر قصفهمُ جائراً *** يذيبك.. ناحية.. ناحية
يجرعك الصرب سوء العذاب *** وتستعر البطشة الطاغية
تساق العجوز إلى حتفها *** وتغتصب الحرة الزاكية
ويسقى الرضيع دماء الأسى *** ويطعم من جثة ذاوية
وتسمعى يد للجريح القتيل *** لتذبحه ذبحة الماشية
خذلناك.. إذ يثب الآخرون *** لأشياعهم.. وثبة ماضية
وخضنا على رسلنا في اجتماع *** ومؤتمر أمه هاوية
وقلنا: لينصرهم مجلس ال *** أمن في هيئة الأمم البالية
وننسى بأنهمُ يرقصو *** ن على لهب الهجمة الضارية
لك الله.. يا لهباً عارماً *** ويا صخرة لم تزل عاتية
نسوق إليك وعتوداً عرا *** ضاً وبالوهم نلبسك العافية
ونختال تيهاً بتلك الوعو *** د كما جرجرت ذيلها غانية
بأنّا..وأنّا..ولم ندر أنّا *** أضعناك في ليلة شاتية
وقد نذرف الدمع للزائرين *** إذا أزهقت روحك الغالية
http://www.albayan-magazine.com المصدر:
===============
عندما تتحول أجهزة الإعلام إلى مدفعية ثقيلة: الكاتب جلال أمين يناقش الاعتداء الأميركي المعنوي على الحضارة الإسلامية
يبدو أن الاعتداء المادي لم يعد كافيا في عصر ما بعد سبتمبر، إذ لجأت الدول المتقدمة إلى استخدام السلاح القديم الذي ثبتت فاعليته، وهو الاعتداء المعنوي، والذي تزيد به فرص الانتصار على الخصم، فالاعتداء المعنوي يضعف ثقة الخصم بنفسه ويثبط همته، كما انه يقلل من انتصاره، فيصبح ضحية أسهل مما كان.
ويذكر الدكتور جلال أمين في كتابه «عصر التشهير بالعرب والمسلمين، نحن والعالم بعد 11 سبتمبر 2001» والصادر حديثا عن مكتبة الأسرة بالقاهرة أن العرب والمسلمين تعرضوا لحملات من التحقير والاعتداء المعنوي، وأضيفت إلى ذلك في الخمسين عاما الماضية، حملات التشهير المستمرة من جانب الصهاينة وأبواق الدعاية الإسرائيلية والعاملين في خدمتها، واستمر ذلك من دون انقطاع منذ إعلان الدولة الإسرائيلية منذ نحو نصف قرن، ثم حدث في السنوات الأخيرة ما ضاعف هذا التشهير، وزاد هذه الحملات قسوة وضراوة خاصة في أعقاب أحداث 11 سبتمبر، فأصبح العرب والمسلمون أكثر شعوب العالم تعرضا لحملات تشويه السمعة والاعتداء المعنوي، وهى حملات في رأي المؤلف لا تستهدف إلا تسهيل أهداف اقتصادية وسياسية منبتة الصلة بما تدور حوله حملات التشهير، كانعدام الصلة مثلا بين مضاعفة الأرباح من استغلال النفط العربي وبين وجود الديمقراطية أو عدمها في البلاد العربية، فضلا عن أهداف المشروع الصهيوني، وهى بدورها أهداف منبتة الصلة بما يقال في الإساءة إلى سمعة العرب كانعدام الصلة مثلا بين الرغبة في طرد المزيد من الفلسطينيين من أراضيهم وبين ما إذا كان مركز المرأة في الإسلام أفضل أو أسوأ منه في الأديان الأخرى.
يلاحظ أمين انه منذ 11 سبتمبر 2001، وكثير من الناس يقبلون الكثير مما تردده وسائل الإعلام عن الحادث وعن المتهمين بارتكابه وأهدافهم من ورائه، على الرغم من أن جزءا كبيرا مما تقوله وسائل الإعلام يتعارض تعارضا صارخا مع المنطق السليم، بل ومع بعض البديهيات، فيلاحظ أن هذا الاستعداد للتسليم بما يتعارض مع البديهيات لا يستثنى منه حتى عقلاء الناس ومثقفوهم، مشيرا إلى انه رأى من بين هؤلاء مثلا من يقبل كثيرا مما يقال عن أسامة بن لادن مما يصعب أن يقبله العقل في رأيه، وكذلك عن هوية الأشخاص الذين تنسب إليهم عملية تفجير البرجين في نيويورك ووزارة الدفاع في واشنطن وما يقال عن أهدافهم من هذه العملية، مع الفارق الشاسع بين ما يتطلبه هذا الحادث من قدرات وبين القدرات المتاحة لهؤلاء الأشخاص.
كما يلاحظ أمين أشياء مماثلة في موقف كثير من الناس من الأحداث في العراق، حيث وجدهم يصدقون الكثير مما يقال ويصعب تصديقه، عن موقف صدام حسين ودوره، وعن علاقته بالولايات المتحدة، وعن أهداف الإدارة الأميركية من الاعتداء.(5/55)
وفي الحالتين كان هؤلاء الذين يصدقون ممن يجلسون أمام شاشة التليفزيون ساعات طويلة ويستمعون إلى مختلف القنوات الفضائية وغير الفضائية ولا يفوتهم تعليق أو تصريح نشرته الصحف ولا أي تفاصيل مهما كانت صغيرة، تتعلق بما يدور من أحداث، هذا الموقف يوضح لجلال أمين أننا لا زلنا نتعامل مع ما يرد إلينا من معلومات كأنها في الأساس محايدة خالية من التحيز، ونميل إلى التمييز بأكثر مما ينبغي، بين التعليق الذي نعرف انه قد يكون متحيزا وبين المعلومة التي نعاملها وكأنها محايدة والخطر هنا من استخدام وسائل الإعلام كما يتصوره أمين ليس هو مجرد أن يؤدي بالناس إلى اعتناق أفكار خاطئة ولكنه يصل إلى حد تشكيل عواطف الناس وتوجه هذه العواطف في الاتجاه الذي يحقق مصالح المسيطرين على هذه الوسائل، فإذا أضفنا إلى هذا ما أصبحت تتسم به وسائل الإعلام من درجة لا يستهان بها من احتكار وان هناك تداخلا بين هذه الشبكات التلفزيونية، على قلتها يجعلها تكاد تعبر عن نفس الاتجاه وتصب في نفس المصالح فان الخطر الذي يتعرض له مشاهدو التليفزيون، بل وقراء الصحف والمجلات بدرجة متزايدة مع تزايد درجة الاحتكار في ملكيتها أصبح خطرا في رأيه شديدا إذا أصبح هؤلاء المشاهدون والقراء (محكومين) في تحديد اتجاه عواطفهم ودرجة التهاب هذه العواطف بما يناسب المسيطرين على هذه المصالح ويحقق أهدافهم.
أن ما حدث، والكلام هنا لامين، من اعتداء على العراق لم يحدث فقط بالمدافع والبنادق والدبابات بل حدث أيضاً بأجهزة التصوير ووسائل مندوبي التليفزيون والصحف ووكالات الأنباء والقتل المادي الذي جرى لآلاف العراقيين لا يقل عنه ظلما وقسوة القتل النفس الذي جرى لملايين من العرب والمسلمين في العراق وخارج العراق، وقد اصطلح على تسمية الوسائل التي تم بها هذا النوع الثاني من القتل بوسائل الإعلام وهى تسمية لا تقل في درجة تضليلها عما تبثه من سموم.
لكن يبدو أن عملية التغيير التي تحدث لا تتوقف عند أجهزة الإعلام، حيث يشير أمين إلى انه لم تمض أكثر من أيام معدودة على احتلال الأميركيين للعراق حتى أعلن مسؤولون في الإدارة الأميركية عزمهم على تغيير مناهج التعليم في العراق ومراجعة الكتب المقررة على الطلاب كتابا كتابا لحذف منها ما لا يجوز ووضع أشياء أخرى محلها، بل وقيل أن الولايات المتحدة ستقوم بنفسها بإعداد وطبع بعض الكتب وتوزيعها على التلاميذ العراقيين هدية منها إليهم.
ولم يكن غريبا في اعتقاد أمين أن ينهض في بلادنا من الكتاب والمعلقين من يقول بان هذه الأهداف الأميركية من إصلاح نظام التعليم في العراق والبلاد العربية الأخرى هي نفسها أهداف للمصلحين العرب ولا يهم في الحقيقة ما إذا كانت الدعوة إلى الإصلاح تأتي من هنا أو هناك طالما أن الهدف واحد مشيرا إلى أنه كان هناك بعض المحتجين الذين رفعوا أشعار «بيدي لا بيد عمرو» قاصدين بهذا انه إذا فرض أن كان التغيير ضروريا فدعنا نقوم نحن به لا غيرنا فهذا شأننا ولا يجب أن يكون شأن أحد سوانا.
ويقول المؤلف أن إصلاح التعليم شأن داخلي لكن الأخطر من هذا أن التغيرات المزمع تنفيذها لا علاقة لها بالإصلاح أصلاً بل هي في حقيقتها اقرب إلى الإفساد منها إلى الإصلاح وهو بالطبع ما يجب أن نتوقعه ولا نتوقع شيئا غيره والزعم بغير ذلك في رأيه خداع كريه كان المفروض أن يكون واضحا كالشمس.
ويعتقد أمين انه ليس هناك عاقل يمكن أن يصدق الزعم بان من بين الأهداف التي تهتم الإدارة الأميركية بها إزالة الإشارات التي تنطوي على تقديس حاكم بعينه أو المبالغة في تمجيده فالعالم الثالث مليء منذ ما يقرب من نصف قرن بالأمثلة على نظم وحكومات موالية للولايات المتحدة وتتمتع برضائها ومباركتها وغارقة حتى قمة رأسها في مختلف أساليب تقديس الحاكم، وأي بادرة لإصلاح هذا الخلل أو تنبيه إلى ضرورة التخلي عنه أو الزعم بان طريقة التعليم تشجع على التعصب وتخلقان من التلميذ شخصا سهل القيادة ويجعله فريسة سهلة للحركات الدينية المتطرفة مما يجعل هذه المنطقة معمل تفريخ للإرهاب فانه يثير في رأي أمين كثيرا من المشكلات المنطقية فالمهم في نظر الأميركيين ليس هو الانقياد أو عدمه ولكن موضوع الانقياد ووجهته، فإذا استطاعوا أن يضعوا نظاما للتعليم يجعل العرب أكثر استعدادا للانقياد للسياسة والإدارة الأميركية وأكثر قبولا للتصالح مع إسرائيل ونسيان محنة الفلسطينيين والسكوت على طريقة إسرائيل في إرهابهم فلابد أنهم سوف يفضلون هذا النظام من نظم التعليم على نظام آخر يجعل العرب أكثر استقلالا في الرأي وأكثر حرية في الفكر وأكثر ممارسة لمكلة النقد.
ويقول أمين أن كل الدلائل تشير إلى أن الإدارة الأميركية كان لديها ولا يزال مخطط لإحكام سيطرتها على أماكن متعددة من العالم وعلى موارد اقتصادية أساسية خارج حدودها، من أهمها النفط وان أحداث 11 سبتمبر عام 2001 ساعدت الإدارة الأميركية في السير سيرا حثيثا نحو تنفيذ هذا المخطط مشيرا إلى أن كان من المفيد جدا للإدارة الأميركية وكذلك المشروع الإسرائيلي أن تستغل أحداث 11 سبتمبر إلى أقصى درجة لتشويه سمعة الإسلام والمسلمين، فسواء كان المخططون والمنفذون لهذا الحادث هم بالفعل عربا ومسلمين وان الهدف من تنفيذ هذه التفجيرات شيء له علاقة بالخلاف بين المسلمين أو العرب وبين السياسة الأميركية أم لا، فقد كان ولا يزال في رأيه من المفيد جدا للإدارة الأميركية الزعم بان هذه هي الحقيقة ذلك أنه من الصعب أن تتصور أن تستطيع الإدارة الأميركية السير في تحقيق مخططها العسكري والاقتصادي من دون وجود عدو بل عدو خطير يبرر كل هذا الخلاف على الحرب وكل هذه التضحيات التي لابد أن يتحملها الشعب الأميركي اقتصادية وبشرية وقد وجد أن الإسلام والمسلمين عدو مناسب جدا لوجوده وانتشاره في معظم المناطق التي يراد تنفيذ المخطط العسكري والاقتصادي فيها ولسهولة الربط بين العنف والخطر المراد تخويف الناس منهما وبين الدين، إذ أن التطرف أو التعصب الديني يمكن قبوله بسهولة كتفسير للعنف والقتل والاعتداء، ويعتقد أمين أن من الأرجح أن هذا المنحى من التفكير نشأ وبدأ وضعه موضع التنفيذ قبل أحداث 11 سبتمبر بل وحتى قبل سقوط الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة ذلك أن التفكير الاستراتيجي لا ينتظر حتى آخر لحظة لتفجير حملة دعائية مفيدة بل لابد من التمهيد لها شيئا فشيئا حتى يبدو التطور طبيعيا للغاية، لافتا إلى أن إسرائيل لابد أنها استفادت من أي تشويه لسمعة الإسلام والمسلمين منذ خمسين عاما على الأقل، كما أن تضخيم حجم ما سمى بالإرهاب الإسلامي بل وربما خلقه خلقا في بعض الأحوال كان مفيدا لتحقيق أهداف أميركية مهمة حتى قبل 11 سبتمبر بكثير كتخويف بعض الحكومات العربية وإجباره على الاعتماد على الدعم الأميركيي لمواجهة هذا الإرهاب وفي الوقت نفسه إعطاء هذه الحكومات مبررا للاستمرار في الحكم واستخدام أساليب القمع بحجة التصدي للإرهاب الإسلامي.(5/56)
ويذكر أمين انه في أمر كهذا كان لابد من الاستعانة بمؤرخ بريطاني شهير اكتسب شهرته كمؤرخ خبير بأي شيء يتعلق بالإسلام ولكن لا رغبة عنده البتة في ذكر الحقيقة كاملة عن الإسلام، بل لديه دافع قوي للغاية بسبب ولائه للصهيونية لذكر ما يسئ إلى الإسلام والمسلمين وهو برنارد لويس، الذي اصدر عقب أحداث 11 سبتمبر كتاب «أين مكمن الخطأ» ويقصد بهذا العنوان ما هو بالضبط الذي جعل المسلمين يرتكبون أحداث 11 سبتمبر وطبعا اتبعت أميركا كل الأساليب لضمان نجاح الكتاب وتسويقه على أوسع نطاق ممكن فالرسالة التي يحملها من المهم أن تصل في هذا الوقت إلى اكبر عدد ممكن من الناس وهذا كله من دون أن يحقق من صحة القول بان الخاطئين كلهم مسلمون.
ثم اصدر كتابه الثاني «أزمة الإسلام» الذي يشترك مع الكتاب السابق في أنهما يحملان الإسلام أسباب ما حدث، وفي حديثه عن محاولات تحسين صورة العرب والمسلمين يرى أمين أن من الاستراتيجيات التي يلجأ إليها البعض لذلك محاولة التبرؤ من هؤلاء المسلمين الذين يكرههم الغرب فيقولوا «إنهم ليسوا مسلمين حقيقيين أو ينتمون للإسلام وان الإسلام الحقيقي لا يقول هذا بالمرة ومن ثم فنحن نتبرأ منهم ونعتبرهم مجرمين مارقين مثلما يعتبرهم الغرب بالضبط» وهذا الاتجاه بالتمييز بين ما يسمى بالإسلام الحقيقي وغير الحقيقي هو اتجاه بغيض في رأيه كما انه اتجاه خطير قد يؤدي بالسائر فيه إلى التهلكة أما انه بغيض فلما يتضمنه من ادعاء وغرور إذ يزعم قائله إن هناك إسلاماً «حقيقيا» لا يفهمه إلا هو وكل ما عداه إسلام «غير حقيقي» وكذلك لا يشعر أمين بأي ارتياح عندما يحاول «المحسنون» أن يبينوا فضل المسلمين على الحضارة الغربية، وكل هذا صحيح ولكن الإسلام لا ينحصر فضله في القيام بدور الوسيط بين جزء من الغرب وجزء آخر منه والمسلمون لديهم أكثر من سبب يبرر استحقاقهم للحياة غير قيامهم بهذه الخدمة للغرب في يوم ما من الماضي.
ويخلص أمين إلى أن لهجة الغربيين اليوم في كلامهم عن الإسلام والمسلمين ليست من النوع الذي يثير الرغبة في محاولة تحسين صورة الإسلام والمسلمين في أعينهم بل من النوع الذي يثير الغضب والحنق فقد أساءوا الأدب في الكلام عن شيء نبيل وعزيز لدينا مما لا يترك مجالا لتبادل الحديث معهم ومحاولة تبرئة النفس في مواجهة ظلم صارخ من هذا النوع هو من قبيل الإمعان في إذلال النفس واحتقارها ويزيد الغضب والحنق عندما تجئ هذه الاتهامات والاهانات من سياسيين في الغرب لا يعرف عنهم في رأيه الكثير من صفات التحضير إلا في أتفه الشكليات كنوع ما يرتدونه من ثيات مثلا أو طريقة تناولهم للطعام فلا يعرف عنهم سمو الأخلاق في معاملتهم لغيرهم من الشعوب أو الترفع عن الصغائر عندما يتعاملون مع خصومهم أو الحلم والصبر وضبط النفس عند الشدائد أو الاستعداد للعفو عندما يكونون قادرين عليه وكلها صفات اظهر العرب والمسلمون في تاريخهم قدرا وافرا منها.
المصدر: عصر التشهير بالعرب والمسلمين، نحن والعالم بعد 11 سبتمبر 2001 المؤلف: الدكتور جلال امين الناشر: دار الشروق ـ القاهرة..
11/10/1425 الموافق 01/01/1970
http://www.almokhtsar.com المصدر:
============
حضارة الوفاق بين العلم والدين
أ. د. عماد الدين خليل
جاء الإسلام.. وبضربة من يد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأيدي أصحابه رضوان الله عليهم.. تهاوت جدران الوثنية.. تساقط الأرباب.. حجارتها الصماء تحت الأقدام المتحركة صوب أهدافها الكبرى.. وفتح العرب المسلمون أعينهم يوماً فإذا بالسد الذي حجب عنهم الرؤية والحركة قد انزاح، وامتد الطريق أمامهم مستقيماً واضحاً متجهاً كالسهم إلى أقصى تخوم الأرض.. وإذا بالسماء التي غيبتها غشاوة أعينهم طويلاً، تبدو الآن واضحة للعيان، نقية زرقاء، تنساح باطمئنان عجيب إلى ما لا نهاية.. وكيف لا يبدو الطريق مستقيماً، والسماء منفتحة، وقد أُزيح الركام، ورُفعت هامة العربي لكي لا تنحني من بعد إلا لله؟
وفي عقود من السنين محدودة استطاع الإسلام أن يحول أهل الجاهلية إلى أمة متحضرة خرجت إلى أطراف الأرض تحمل علمها الجديد، وحضارتها المتوحدة، لكي ترسم للعالمين مصيراً جديداً.. من إلغاء الوثنية وكسر الحصار وفتح مجال الرؤية ومنح حرية الحركة، تمكن الإسلام أن يصنع إنسانه المتحضر العالم الذي انطلق إلى تخوم حضارات شاخت وعلوم وهنت، وأفكار طغى عليها ركام الرؤى المشوهة والأضاليل.. خرج المسلم من الصحراء وهو يحمل قيمه الجديدة الحية، وتعاليمه الواضحة البينة، ومعتقداته المتفردة الفذة، وتصوراته الكلية الشاملة، وتوحده الذاتي العجيب، وطموحه الإيماني الذي لا يقف عند حد إلا ليتجاوزه إلى حدود أبعد، وسلوكه الأخلاقي الذي شد أنظار المتخبطين في عبودية كسرى وقيصر.. خرج المسلم من الصحراء لكي يصوغ بهذا كله حضارته الجديدة، وعلمه (الحركي) الذي أشعلته في ذهنه فتيلة الإيمان التي ما لها من نفاد.
انطلق المسلم إلى العالم مع إخوانه يحمل تعاليم الله ورسوله: تثبيتاً لمفاهيم التوحيد في كل مكان، ونشراً للعدل والمساواة في كل أرض.. وتفجيراً للطاقات الحضارية والعلم الصحيح في فؤاد كل إنسان.. وانفتاحاً إنسانياً نادراً على كل ما يمكن أن تقدمه الحضارات القديمة من قيم ومعطيات تساعد الإنسان في تأكيد وتعميق هذه القيم جميعاً، ابتداءً من التوحيد المطلق لله - سبحانه - وانتهاءً بصياغة حضارة تضم جناحيها على منجزات البشرية منذ أن قدح الإنسان الحجر بالحجر فتطايرت الشرارة الأولى.. وإلى أن يشاء الله فيبتكر المسلمون من بعد ويكتشفوا ويخترعوا ويقدموا للبشرية معطيات حضارة متوحدة فذة لم تعرف يوماً تفريقاً وثنائية وازدواجاً بين العلم والدين..
فها نحن قد عرفنا كيف أن الدين هو الذي بّصر الإنسان وحركه، وهيأ له الأرضية الصالحة لبناء حضارة من أكثر حضارات التاريخ غنى وعطاء.. تلك التي أمدّت عالم الغرب فيما بعد عن طريق الجسور التي أقامتها الأحداث بين العالمين، بطرائق لا حصر لها في ميادين البحث والتجربة والتعلم والتحضر، وأتاحت له أن يصل بما أضافه إليها من مبتكرات إلى العصر التكنولوجي الحاضر.. ولكن شتان!! شتان بين علم وحضارة صنعهما دين عرف كيف يوحد الإنسان ويضم أرضه إلى سمائه بانسجام وتوافق معجزين، وبين علم وحضارة يصنعهما اليوم (روافض) لم يعرفوا عن الدين شيئاً، ولا استذوقوا طعم السعي في ظلاله يوماً، ولا أدركوا أبعاد آفاقه التي لم تنغلق يوماً بوجه إنسان يبحث عن (طريقة) تضع طاقات الكون بين يديه وترمي بكنوزها عند قدميه..
شتان بين علم هيأ للإنسان (فعلاً) وحدته البشرية مع ذاته، ومع إخوته من بني الإنسان، وأتاح له (فعلاً) أن يكون سيد للعالمين وخليفة في الأرض.. وبين علم سحق وحدة الإنسان الباطنية والجماعية، ودمر على بني آدم قدرتهم على تحويل الإنجاز العلمي إلى وسيلة لسعادة حقيقية شاملة في الأرض والسماء.. علم أحدث تناقضاً مخيفاً بين كدح الإنسان المادي الملموس وبين مطامحه الروحية والأخلاقية النائية البعيدة.. شتان بين علم أخضع أعناق القوى المادية للإنسان، وبين علم أخضع أعناق بني آدم للقوى المادية.. واليوم تنصب طاقات البحث والتجريب من أجل ابتكار أشد الأسلحة مضاء في قتل الإنسان ودماره.. ويمد العلماء أبصارهم إلى اليوم الذي يتمكنون فيه من إلغاء العالم إلغاءً بحفنة من جراثيم مكتلة، أو سموم مصنعة، أو قنابل لا تعرف شفقة ولا رحمة..(5/57)
تلك تجربة التاريخ تعلمنا ماذا يمكن أن نجنيه من العلم في كلتا الحالتين..وأي معلم أكثر تمرساً وخبرات من التاريخ؟
http://www.almujtamaa-mag.com المصدر:
==============
الإساءة إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إساءة إلى حضارة الإسلام والمسلمين
د. منجية السوايحي
لكل حضارة رموزها الشخصية وكتبها المقدّسة ومخزونها الثقافي الّذي تعتزّ به، وتعدّه جزءا مهمّا من كيانها الحاضر التي يصلها بالماضي، وترفض القطيعة معه، ولا تقبل الاستهزاء به والسخرية منه. وقد أجمعت الإتفاقيات الدّولية ومواثيق حقوق الإنسان على رفض التمييز بين أفراد الإنسانية، وعلى ضرورة احترام عقيدة الإنسان، وحضارته وثقافته. إلا أن هذه القاعدة وقع اختراقها في عديد المناسبات خاصّة بالنسبة للإسلام ولنبيّه محمد - صلى الله عليه وسلم - اخترقها من لا يحترمون دينهم ولا إنسانيتهم بالدرجة الأولى لأن من يحترم دينه وثقافته يستنكف عن أن يلحق الأذى بمن يخالفه في الدّين والمذهب.
وإذا عدنا إلى أوائل القرن التاسع عشر والقرن العشرين فإننا نجد فريقا من المستشرقين أساءوا إلى الرّسول محمّد - صلى الله عليه وسلم -، فمنهم من اتّهمه بسرقة ما جاء في التوراة والإنجيل كأبراهام جيجر في كتابه "ماذا استفاد محمد من اليهودية" (بون 1833)، وهير شفيلد في "العنصر اليهودي في القرآن" (برلين 1878)، وسيدرسكي في "أصول الأساطير الإسلامية في القرآن" (باريس 1933)، وريتشاربل في "أصل الإسلام في بيئته الإسلامية" (لندن 1926).
هؤلاء وأشباههم يزعمون أن محمّدا باعتباره مؤلّفا للقرآن اقتبس أغلب القصص، وعددا من الصور البيانية، والحكم والأمثال من التوراة والإنجيل، وهو زعم باطل وافتراء لأنه يلزم الرّسول محمد مكتبة عظيمة تحتوي الكتب المقدّسة وشبه المقدّسة، ويلزمه إتقان اللّغة العبرية والسريانية واليونانية، وقرارات المجامع الكنسية، وبعض أعمال الآباء اليونانيين...هل هذا معقول في ذلك الزمن، كما أنّه لا توجد وثيقة تاريخية مكتوبة أو مروية تؤكّد هذه المزاعم الوهمية، ومن مزاعمهم أيضا أنّ أكثر القرآن ضاع، وأنه لم يجمع، وأنّ الرّسول مصاب بالهستيريا، وهي تُهم لا أدلّة عليها.والسبب الوحيد لتلك التهم كرههم للإسلام وللمسلمين ونظرتهم الفوقية، فهم الشعوب المختارة التي خصّها اللّه بالكتاب المقدّس الوحي فكيف يكون نبيّ من العرب، وكتاب للعرب.
ويمكن أن تصدر مثل تلك التهم في ذلك الزمن من المتعصّبين والمتطرّفين والإرهابيين، فالعدوان منتشر والحروب متتالية، والتطاحن على اقتسام خيرات الضعفاء على أشدّه، وقد اكتوى الكلّ بنار الحرب العالمية الأولى والثانية، ثم استفاقت البشرية لتنظّم العلاقات بينها وقف بنود حقوق الإنسان التي تضمن حرّية المعتقد والمساواة بين أفراد البشرية بغضّ النظر عن الدّين والعرق والجنس، كما ناضل أحرار الفكر في كلّ الحضارات للحدّ من الصّدام بين الأديان والحضارات والثقافات، والدّعوة إلى احترام الإنسان ورغم هذا الجهد وجدت بعض الأصوات التي تؤسس للصّدام، والتناحر وغرضها تحقيق مصالح استعمارية في الألفية الثالثة، ألفية العلم والتحاور والتكنولوجيا، والحرّية.
ومن تلك الأصوات هذه المجموعة التي تشنّ حاليا وانطلاقا من الدانمارك حملة تسيء إلى المسلمين وإلى الرسول - عليه الصلاة والسلام -، وتشوّه صورتهم، وتحثّ على الكراهية، والتمييز من خلال تصوير كاريكاتور للرسول محمد مع بعض النساء، وعبر بعض الفضائيات الدّينية التي تسخر علنا من شخصية الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم -، والمستهدف هم العرب المسلمون.
إنه لعجيب حقّا أن تصدر مثل هذه التصرّفات من الإعلام الغربي بدعوى حرّية الصحافة، وأن السلطة لا تحكّم لها في الإعلام وهذه مغالطة كبيرة، حيث لا تصعد إلى السطح حرية الإعلام إلا إذا أساءت إلى الإسلام ورموزه، في حين تغيب حرّية الإعلام، وتتدخّل السلطة الحاكمة إذا تعلّق الأمر بالمسيحيين أو اليهود، إن الدّول الأوروبية لا تتجرّأ على الخوض في بعض الموضوعات، ولا يمكن التعلّل بالديمقراطية وحرّية الصحافة في ملفّ الهلكوست، ومعاداة السامية، وهنا يبدو جليّا الكيل بالمكيالين، ألا يدفع مثل هذا الموقف المسلمين والعرب إلى إعادة النظر في مواقفهم المتسامحة التي تجلب لهم السخرية من دينهم ومن نبيّهم ومن حضارتهم؟؟؟ ألا يعي الغرب مخاطر العنصرية والتمييز؟
وإنّه من المستغرب حقّا أن نسمع ونشاهد آراء ومواقف لا تزال تدعو إلى صدام الحضارات، وإلى التمييز في معالمة الإنسان مما يذكّي جذوة العصبيّة والكراهية بين الشعوب، ويولّد الإرهاب والإرهاب المضادّ. فكيف ندعو إلى محاربة الإرهاب من جهة، ونترك مسالك تغذيته تترعرع من جديد عبر الصّحف وبعض الفضائيات بدعوى حرّية الصحافة.
ألم يدرك من يسخر من شخصية الرّسول، ومن الإسلام أنّه يحضّ المسلمين على ردّ الفعل، أم أن هؤلاء يبحثون عن حروب دائمة لأنهم يستفيدون منها مادّيا، ولا يهمّهم الإنسان في شيء.
هل يسمح هؤلاء أن يسخر غيرهم من أنبيائهم ورسلهم ودينهم حتى يسمحوا لأنفسهم بالسخرية من دين قائم وله أكثر من مليار تابع، وهم الّذين تلحقهم الإساءة وليس نبيّهم لأنّه مات منذ خمسة عشر قرنا بعد أن خلّد الزمن ذكراه، ولا يمكن لبعض المزاعم أن تمحو ذاك التاريخ.
ما هو موقف الّذين يجتمعون وينظّمون لمقاومة الإرهاب في العالم من هذا النّوع من الإرهاب النفسي البشع الّذي يلحق الضرر بالمسلمين وخاصة المعتدلين منهم؟
نقول لهذه الفئة الحاقدة على الإسلام وعلى نبيّه إن ما تقوله وما تصوّره لا ينقص شيئا من عظمة الرّسول محمد ولا من عظمة غيره من الأنبياء الّذين نجلّهم كلّهم ونؤمن برسالاتهم التوحيدية، بل على العكس من ذلك، فإن مزاعمهم تلك دليل على قيمة محمد - صلى الله عليه وسلم - الّذي لا يزال مثار جدل ونقاش بعد مضيّ قرون على بعثته.
ونقول لهم إن الدّيانات والحضارات والثقافات تزخر بزاد من المحبّة والاحترام، والسماحة والتفاهم مما يسهّل عليها مواصلة درب الحوار والتعايش لتحقيق السلام والسلم، "لأن السلم العالمي لا يمكن أن يبنى إلا بالحوار والتسامح والتفاهم، كما أنّ مصير العالم لا يمكن أن يقرّر إلا بالبشر جميعا، ومعهم جميعا ولصالحهم جميعا".
ونقول لهم أخيرا إن العالم العربي والإسلامي والعالم الغربي مليء بأحرار الفكر، وبالباحثين عن مسالك الحوار، والساعين لخير الإنسان مهما كان دينه أو لونه أو عرقه أو جنسه، وهم الّذين تعوّل عليهم الإنسانية للحدّ من الصّدام، ومن ويلات الحروب، والبقاء للأصلح.
http://al-shaab.org المصدر:
=============
الإنسان بين العبادة والحضارة
د. نعمان عبد الرزاق السامرائي
حضرت ندوة حول (المشاكل التربوية) في عالمنا المعاصر، وقد وجدت الانقسام واضحاً، فهذا يركز على الفرد، وذاك على المدرسة، وثالث على الإعلام، ورابع على الوضع السياسي، وخامس على الاستعمار، وسادس على الشيطان...
كما وجدت البعض يقول بأن الحل معرفة العلوم الشرعية، وينادي آخر بتعلم العلوم كافة وهكذا.
وأريد أن أطرح سؤالاً ثم أنطلق منه؛ إذ من المعروف أن الإنسان (مخلوق ثقافي غائي)، فهو منذ نعومة أظفاره يتساءل لماذا نفضل كذا؟ لماذا نترك كذا؟.
والسؤال: لماذا خُلق الإنسان؟(5/58)
1- هل صحيح ما قاله (ماركس) إن المبدأ الذي يحكم جميع العلاقات بين البشر هو إنتاج الوسائل التي يحددون حياتهم، وبعد ذلك يأتي تبادل ما أنتجوا، وأن الإنسان يعيش أولاً ثم يفكر بعد ذلك.
والذي أريده (تحديداً) هل هذه النظرية كاشفة لواقع أم مقررة لحقيقة ابتداءً؟ ؟ بمعنى آخر: هل نظر ماركس للإنسان في الغرب فوجده كذلك، أم هي حقيقة توصِّل إليها عن طريق البحث والاستقصاء؟ والأمر الآخر: لنفرض أن الإنسان إذا جاع أو عطش استبد به ذلك بحيث صار كل همه أن يصل إلى الطعام أو الشراب، ولكن بعد أن يأكل أو يشرب ماذا يفعل؟ هل يبحث عن قضايا واهتمامات جديدة أم يبقى محصوراً في دائرة (الإنتاج وتبادل ما أنتج)؟ في العالم الرأسمالي الذي رآه - (ماركس) وعايشه - كان الإنسان والدولة والمجتمع إلى حد كبير مشغولاً بالإنتاج وتوزيعه، حتى قال نيتشه: (اجمع اجمع ذلكم هو الشريعة والقانون) أي اجمع المال فذلكم هو الهدف، من هنا صار (رأس المال) ديناً جديداً، حتى قال برنارد شو الفيلسوف الساخر: (إن الشعب البريطاني يعبد الله يوماً في الأسبوع) ويعبد (بنك باركليز) ستة أيام!.
ومن هنا جاءت قناعة (ماركس)، فهي مأخوذة من الواقع متأثرة به، ولكن تلاميذ (بني التلمود) ينكرون ذلك ويعطون أفكار الرجل الشمولية، علماً بأن ماركس يرى أن الواقع ينطبع في ذهن الإنسان فتتحول الفكرة إلى مجرد صدى للواقع ليس إلا، وهكذا كانت أفكار ماركس صدى لما رآه وعاشه من تكالب استعماري وتطاحن حول ثروات الشعوب ونهبها.
2- هل نذهب مع سارتر فيلسوف الوجودية في عبثيته إذ يقول: (إنهم يكتشفون في وقت واحد، أن كل الأفعال الإنسانية سواء - وأنها بحتمية مبدئية - محكوم عليها بالفشل...
وهكذا يستوي آخر الأمر أن أثمل بالشراب في وحدتي أو أن أقود الشعوب).
أما صاحبته (سيمون دوبوفوار) فتشرح هذه الفكرة بقولها: افعلْ ما ينبغي لك وليكن ما يكون!.
فهل الحياة مسرح لتمثيلية (عبثية) لا يعرف الكاتب ولا المشاهد الهدف منها؟.
3- هل نقول بأن الإنسان حيوان قد سبق (إخوانه) وهو لم يبتعد كثيراً عن الحيوانية في أهدافه وغاياته، فهو يأكل ويتناسل ثم يموت ولا شيء بعد ذلك ولا فوق ذلك؟ إن الإنسان مخلوق غائي، خُلق لتحقيق أهداف كبرى يمكن ردها إلى: 1- عبادة الله - تعالى - كما أمر دون شرك، والعبادة - كما هو معلوم - تطلق بإطلاقين: فمَن يشتغل في بحث علمي أو رياضي أو أي عمل دنيوي يقصد به وجه الله فهو في سبيل الله.
2- العبادة بمعناها الخاص من صلاة وصيام وزكاة، وهذه أساسها النص الصريح، وهي غير قابلة للتصرف بالزيادة أو النقص، أو التوجه لغير وجه الله (تعالى).
- عمارة الأرض: فقد ذكر الله - تعالى - في سورة هود (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ واسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) [هود: 61]؛ فعمارة الأرض - كما يسميها ابن خلدون - هي إقامة الحضارة، وهي من مهمات الإنسان الأساسية الكبرى، وقد قام بها الإنسان جيلاً بعد جيل، وأمة بعد أمة، وكلما تعبت أمة تلقت الراية أمة فتية، وتجد تضافرت جهود الأمم، وراح اللاحق يبني على جهود سلفه ويزيد ويطور.
فمَن أراد العمران فعليه أن يتعلم علوم عصره كلها، حتى قال علماؤنا في (فروض الكفاية) أن الأمة كلها تصير آثمة إذا وجدت صنعة أو علم وليس في الأمة من يعرفه أو يمارسه.
أما العبادة - بالمعنى الخاص - فعلى صاحبها تحري النص الصحيح والاتباع والبعد عن الغلو والابتداع، فإن فعل ذلك فقد حقق الأهداف التي من أجلها خلق وفاز في الدنيا والآخرة وذلك هو الفوز العظيم.
وللشهيد سيد قطب كلمة يقول فيها [1] (...
لقد غابت الأمة المسلمة عن الوجود وعن الشهود دهراً طويلاً، وقد تولت قيادة البشرية أفكار وأمم أخرى وتصورات أخرى، وأوضاع أخرى فترة طويلة، وقد أبدعت العبقرية الأوربية في هذه الفترة رصيداً ضخماً من العلم والثقافة والأنظمة والإنتاج المادي، وهو رصيد ضخم تقف البشرية على، ولا تفرط فيه ولا فيمن يمثله بسهولة، وبخاصة أن العالم الإسلامي يكاد يكون عاطلاً من كل هذه الزينة...
إن هذه الأمة لا تملك الآن وليس مطلوباً منها - أن تقدم للبشرية تفوقاً خارقاً في الإبداع المادي، تحني له الرقاب، ويفرض قيادتها العالمية من هذه الزاوية فالعبقرية الأوربية سبقته في هذا المضمار سبقاً واسعاً، وليس من المنتظر - خلال قرون على الأقل-التفوق المادي عليها، فلابد من مؤهل آخر، المؤهل الذي تفقده هذه الحضارة.
إن هذا لا يعني أن نهمل الإبداع المادي، فمن واجبنا أن نحاول فيه جهدنا ولكن لا بوصفه المؤهل الذي نتقدم به لقيادة البشرية في المرحلة الراهنة، وإنما بوصفه (ضرورة ذاتية) لوجودنا كذلك بوصفه واجباً يفرضه علينا (التصور الإسلامي) الذي ينوط بالإنسان خلافة الأرض ويجعلها تحت شروط خاصة عبادة لله وتحقيقاً لغاية الوجود الإنساني، لابد إذن من مؤهل آخر لقيادة البشرية غير الإبداع المادي ولن يكون هذا المؤهل سوى (العقيدة) والمنهج الذي يسمح للبشرية أن تحتفظ بنتاج العبقرية المادية، تحت إشراف العقيدة والمنهج في تجمع إنساني، أي في مجتمع مسلم).
ربما كان هذا الطرح المتوازن للقضية هو خير الطروحات، فلا نأخذ الحضارة الغربية ومفرزاتها كلها كما دعا بعض الأتراك وطه حسين ولا نرفضها كلها ونستغني عنها ولكن نأخذ بقدر ونطرح بقدر عارفين ما نحتاج وما لا نحتاج.
نحن وهذه الأهداف:
لقد مررنا بعدة مواقف من هذين الهدفين (العبادة والعمارة) يمكن تفصيلها على الوجه التالي: 1- في الجاهلية لم نكن نعبد الله ولا نساهم في الحضارة باستثناء ما قدمه أهل اليمن ومصر والعراق، من مساهمات معمارية.
2- في الإسلام عبدنا الله حق العبادة ثم رحنا نساهم في بناء الحضارة حتى حملنا الراية بجد وجدارة، وراح العالم يقتبس منا وينقل عنا وقد شكا قسس ورهبان مر الشكوى من تعلُّم أبنائهم في الغرب لغتنا وعلومنا.
3- بعد قرون اكتفينا بالعبادة وأهملنا الحضارة، وساهم التصوف والنكبات السياسية وغيرها في هذا التوجه، ثم مع الأيام دخل العبادة الكثير من الدَّخَن، حتى لا نجد مسجداً كبيراً يخلو من قبور، وشاعت زيارة القبور والتبرك بها ودعوة أصحابها وطلب شفاعتهم، وهكذا صرنا مبتدعين في العبادة مقلدين في الحضارة، وكان المطلوب العكس (الاتباع في العبادة والإبداع في الحضارة).
4- لقد أهملنا الحضارة حتى لم تعد من بين همومنا ولا من تطلعاتنا.
وضاقت دائرة العلم وراحت معاهدنا تضيق يوماً بعد يوم من العلوم المفيدة، والتي خلت من الإبداع، تخلو من الجدة وتبعد عن الحياة.
5- أعقب ذلك مرحلة أهملنا حتى العبادة، فصار الفرد منا بعيداً عن معانيها (الواسعة والضيقة) ويكتفي أن يقال عنه إنه مسلم دون أن يتكلف شيئاً، وساعد على ذلك رواج فكر (المرجئة) حتى صار جمهور الأمة منها دون أن يدعوه أحد، فكل مسلم يدَّعي أنه عامر القلب بالإيمان، وهذا في نظره يكفي، وقد يفلسف الأمر فيدعي طهارة القلب وعفة اللسان، وإنه أفضل من كثير ممن يمارس العبادة.
إن الأمة إذا كانت قوية تطلعت إلى الأمور الكبيرة، فإذا ضعفت تحاول فلسفة ضعفها وهزائمها؛ لذا كانت أفكار (المرجئة) والمتصوفة أفضل فلسفة تناسب هذه المرحلة.
6- أخيراً وبعد الصحوة الإسلامية رجعنا للعبادة مرة ثانية، ولكن مازال جمهور الأمة غائباً عن الاهتمام بأمر الحضارة.(5/59)
فليس من الحضارة أن تركب سيارة لا تعرف عنها سوى القيادة، وليس من الحضارة أن تأكل فواكه أمريكا وأوربا، ولكن أن تساهم في علوم العالم وصناعته، وعلى رأس كل ذلك أن تساهم في تقديم فكر متميز، لا يكون عالة على أحد ولا تبعاً لأحد.
يرى الكاتب مالك بن نبي - رحمه الله - [2] أن لكل حضارة منتجاتها، فهي متولدة عنها، ولكن لا يمكن صنع حضارة بمجرد تبني منتجاتها، فشراء ما تنتجه الحضارة الغربية من كل دول العالم لم يجعلها تكسب حضارة، فشراء المنتجات هو كسب وتحصيل للهيكل والجسد وليس للروح، والحضارة ليست تكديس منتجات بل هي فكر ومُثُل وقيم لابد من كسبها أو إنتاجها.
والأنكى من ذلك أن أمراض الحضارة يمكن أن تضرب أولئك الذين يتعاملون معها في الأخذ والاقتباس، فتطحنهم أمراضها قبل أن تصلهم خيراتها.
ومن لا يصدق ذلك فما عليه الا أن يزور إفريقية ليرى مصداق ذلك في أمراض الجنس وتعاطي الخمور والمخدرات، وعدم وصول شيء من حضارة الغرب إليهم.
7- قد يقول البعض إنه يريد الآخرة، ويكفيه في ذلك العقيدة الصحيحة والعبادة السليمة..
والجواب: نعم، قد يصل المسلم الجنة عن هذا الطريق، لكنه لن يكون له نصيب في الدنيا ولا في الحضارة، أو نصيب هامشي لا قيمة له وبالمثل فإن الإنسان في الغرب يشكل الوجه الثاني (للعملة) فهو لا يعرف الله - تعالى - وإن عرفه فهو يفصل بينه وبين الحياة فالإنسان في الغرب جعل دينه (الحضارة) كما جعلها كل شيء في حياته، وقد قفز بها قفزات كبيرة، ولن يستطيع أحد تجاوز ذلك، أو جحوده، ولن تفرط البشرية في منجزاتها الحضارية، وأن حضارة اليوم تطلق قوى كالذرة قد تكون سبباً في دمار الحضارة والقضاء عليها، وما تلوث البيئة، والخراب الذي لحق بمفاعل (تشرنوبيل) وانتشار الأمراض إلا ثمرة من ثمار هذه الحضارة إلى جانب المنجزات الكثيرة.
8- تبقى ألوف الملايين من البشر تدب على هذه الأرض لا تعرف الله - تعالى -ولا تعبده، ولا تساهم في الحضارة من قريب أو من بعيد، وفيهم وفي أمثالهم يصدق قول الله - تعالى - (أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ) [الأعراف: 179] وأقبح من الكل تلك الملايين من البشر التي تعجز حتى عن إطعام نفسها، وتطالب الآخرين أن يطعموها ويداووها ويبنوا لها المساكن.
في العالم اليوم ملايين من الكسالى ليس لديهم الاستعداد لعمل شيء، حتى الخبز تريده مبلولاً وربما مدهوناً وعليه سكر.
والأمة الإسلامية مدعوة بكل جد وقوة لعبادة الله كما أمر، وعدم الشرك مهما صغر، وكذلك المساهمة في الحضارة دون أن تفلسف كسلها وعجزها وتخلفها.
إن العالم يموج بالأقوياء، ومَن لا يكون قوياً بفكره واستقلاله فإنه يعيش على الهامش، كما تعيش بعض القوارض، وستظل الدنيا محكومة بالأقوى فكراً وإنتاجاً وتحضراً، ولن يكون فيه مكان للكسالى المتواكلين، ولن يجدوا (خبزاً مبلولاً) ولا سكناً جاهزاً ولا قبراً جاهزاً.
--------------------------------------
(1) معالم في الطريق، ص8، طبعة10.
(2) شروط النهضة، ص42.
http://www.albayan-magazine.com المصدر:
=============(5/60)
العراق .. قلب الحضارة الإسلامية النابض
تعاقبت على أرض العراق الكثير من الحضارات منذ فجر التاريخ وكان أول هذه الحضارات هي حضارة سومر والتي نشأت تقريباً قبل الميلاد بأربعة آلاف عام ثم تبعتها الحضارة البابلية ثم الآشورية ثم استولى الفرس على البلاد لفترة من الزمن ثم السلوقيين ثم الفرس مرة أخرى حتى فتحها العرب المسلمون عام ً637ً ميلادية.وقد أدى ظهور الإسلام في القرن السابع الميلادي إلى تمكين المسلمين من هزيمة الساسانيين عام 637م وقد نشر العرب اللغة العربية والدين الإسلامي في بلاد ما وراء النهرين وفي عام 752م أنشأت الخلافة العباسية بالقرب من بغداد وفي عام 1228م غزا المغول - من آسيا الصغرى - بلاد ما وراء النهرين وانهارت الخلافة العباسية ثم جاء الحكم العثماني للبلاد وخلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تدهورت قوة الدولة العثمانية واستولت القوات البريطانية على بلاد ما وراء النهرين وتحت ضغط حركة الاستقلال العراقي نال العراق استقلاله وذلك في عام 1932م وأصبح العراق عضوا في جامعة الدول العربية بل وشارك في إنشائها.وقد قامت الملكية في العراق في يونيو بعد قيام ثورة في الحجاز عام 1916 بقيادة فيصل بن الحسين والذي سمي بعد ذلك فيصل الأول وهو أول ملوك العراق، واستمرت الملكية في العراق حتى سقطت في ً14ً يوليو ً1958ً حينما قام قائد الجيش عبد الكريم قاسم بقيادة انقلاب عسكري وتم إعلان الجمهورية وتم قتل الملك فيصل ونوري السعيد. وهكذا فإن المجتمع العراقي مجتمع حضاري بالسليقة ومشارك عبر تاريخه في صنع هذه الحضارة، وهذا يجعل الشخصية العراقية بطبعها شخصية ديناميكية عميقة. ومنذ الفتح الإسلامي للعراق أصبحت بغداد مركزاً هاماً من مراكز صنع التاريخ العربي الإسلامي. ويكفي أن بغداد كانت مصراً شديد الأهمية من أمصار الدولة الإسلامية الأولى في عهود الخلفاء الراشدين، وعلى أرضه حدثت وقعتي الجمل وصفين. ورغم أن الدولة الأموية كانت عاصمتها ومركزها دمشق إلا أن بغداد ظلت على نفس أهمية دمشق بل تزيد. ثم ظل العراق لقرون طويلة قائد حضارة المسلمين خلال عمر الدولة العباسية. ولم يكن التميز العراقي تميزاً في السياسة فقط بل كانت المدارس اللغوية والفقهية في الكوفة والبصرة وبغداد والموصل شاهداً على التميز والريادة الثقافية والفكرية والدينية. فسيبويه والخليل بن أحمد في اللغة، وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل والشافعي في الفقه وعلوم الدين، كل ذلك كان في العراق. وهذه الخلفية التاريخية تؤكد استحالة تطويع الشخصية العراقية والسيطرة عليها لأنها بطبيعتها التاريخية تعودت على القيادة وصناعة الأحداث وليس الانفعال بها. وقد ظل العراق دائماً جبهة متقدمة في مقاومة الكيان الصهيوني منحازاً إلى أمته ورافضاً هذا الخطر الحقيقي الذي يهدد وحدتها، ولعل هذا يفسر لنا استهداف الدوائر الغربية بقيادة الولايات المتحدة وكذلك الدوائر الصهيونية لهذا البلد العربي المهم. فبعد إعلان قيام دولة الكيان الصهيوني 1948 قامت الجيوش العراقية والأردنية بمهاجمة الصهاينة. وفي ً11ً مايو ً1949ً تم عقد هدنة بين الكيان الصهيوني والأردن إلا أن العراق ظل يحاربها. وبعد تأميم مصر لقناة السويس أيدتها العراق تأييداً تاماً وبعد أن قام الصهاينة وبريطانيا وفرنسا بالعدوان الثلاثي على مصر ردت العراق وسوريا. خلال الحرب بين العرب والدولة العبرية عام ً1967ً أرسلت العراق وحشوداً عسكرية وطائرات حربية على الحدود الأردنية الصهيونية ثم أعلنت الحرب على الصهاينة وأغلقت خطوط الأنابيب المتجهة للدول الغربية وفي ذلك الحين ساءت العلاقات العراقية الأمريكية. في يونيو ً1981ًدمر هجوم جوي صهيوني مفاجئ المفاعل النووي العراقي ثم أعلن الصهاينة تبريراً لهذا الهجوم أن هذا المفاعل كان يقوم بتصنيع أسلحة نووية موجهة إليهم. ولعل العراق حاول الخروج من حالة الحصار التقني والعلمي الذي يفرضه الغرب علينا ويفعل مثلما فعلت باكستان ويصبح قوة نووية، ولكن الأعين الغربية والصهيونية كانت مفتوحة، وكما اغتالت إسرائيل الدكتور يحيي المشد المشرف على البرنامج النووي العراقي، ضربت نفس المفاعل. بعد الغزو العراقي للكويت عام 1990 م ونتيجة لتداعيات الأزمة، استغلت أمريكا المشكلة لتحقيق أهدافها وحشدت العالم كله خلفها بما فيه غالبية الدول العربية، وشنت أعنف هجوم في العصر الحديث عام 1991 م ضد بلد وأعادته إلى العصور الوسطى ودمرت بنيته الأساسية. وفور انتهاء الحرب بدأ حصار شامل على العراق قادته أمريكا وبريطانيا واستخدمت فيه الأمم المتحدة لتمرير إطالة أمد الحصار، وتجويع الشعب العراقي. كما بدأ الأطفال والشيوخ رحلة معاناة نتيجة لندرة الدواء مع التزايد المخيف في انتشار السرطان نتيجة استخدام قنابل اليورانيوم المنضب والأسلحة المحرمة دولياً. واستمرت الطائرات الأمريكية والبريطانية في ضرب الأهداف المدنية والعسكرية بصفة يومية وبدون قرار من الأمم المتحدة. ومع ذلك كله استطاع العراق - بشخصيته الحضارية- أن يصمد في وقفة أسطورية ويعيد بناء ما دمرته الحرب. الانقلابات العسكرية وقد عاش العراق فترة من حياته تسيطر عليه حالة الانقلابات العسكرية إلا أنه استطاع التغلب عليها والانفلات منها، ففي ً8ً فبراير عام ً1963ً قامت مجموعة من ضباط الجيش بعزل قاسم ثم تم اغتياله في اليوم التالي وقد كان معظم هؤلاء الضباط من حزب البعث، وتولى عبد السلام عارف رئاسة البلاد وعمل على تحسين العلاقات مع الغرب وفي ً13ً إبريل ً1966ً قتل عارف في حادث تصادم طائرته المروحية وتولى بعده أخوه عبد الرحمن عارف. في ً17ً يوليو ً1968ً تم خلع عارف وتولى رئاسة الوزراء أحمد حسن البكر، الذي أصبح رئيساً لمجلس قيادة الثورة بعد ذلك. وفي عام 1979 تنازل البكر عن السلطة لصدام حسين. ومنذ 1968 حتى الآن عاش العراق في حالة استقرار سياسي داخلي في مجال الحكم وتخلص من الانقلابات العسكرية. المشكلة الكردية والمشكلة الكردية قلق حقيقي يؤرق العراق كما يؤرق الدول المجاورة التي توجد بها أقلية كردية مثل تركيا وإيران، ففي عام ً1958ً قام انقلاب يطالب بإقامة الجمهورية على أساس المشاركة الحرة من العرب والأكراد وتمت عودة القائد العسكري الكردي ورئيس الحزب الكردي الديمقراطي مصطفى برزاني من منفاه في روسيا بعد قيادته لثورات ً1943ً و ً1945ً. في عام ً1960ً و ً1961ً قامت عدة محاولات غير ناجحة لامتصاص الأكراد إلا أن العصيان الكردي المسلح استمر. وفي بدايات ً1970ً وقعت حكومة البكر اتفاقية تقضي بأن يكون نائب الرئيس كردياً وكذلك عدد من الوزراء وكانت الأربعة سنوات التي تم تطبيق هذه الاتفاقية خلالها ليست فترة حرب ولا سلام. في أوائل ً1974ً اندلع قتال عنيف في شمال العراق مع الأكراد وكان حزب برزاني يتلقى مساعدات عسكرية إيرانية ولكن بعد أن وافق العراق على بعض التنازلات بخصوص الحدود العراقية الإيرانية توقفت إيران عن مساعدة الأكراد في يوليو ً1979ً تولى صدام حسين الرئاسة بعد البكر. ورغم ذلك فإن الحكم الذاتي الذي حصل عليه الأكراد العراقيين هو أفضل ما تحقق لهم في دول الجوار التي بها أكراد. مشكلات الجغرافيا السياسية تبعاً لقواعد علم الجغرافيا السياسية فإن العراق يتمتع بعوامل قوة كثيرة ابتداء من مساحة أرض شاسعة وتعدد مناخي مما نتج عنه تعدد في المحاصيل الزراعية، بالإضافة لوجود مياه دجلة والفرات، وكميات الاحتياطي الهائلة من النفط. يكفي أن نشير إلى(5/61)
أن الجبال في شمال العراق خضراء ويتم زراعة القمح على سفوحها على مياه الأمطار، لدرجة أن الخبراء يعدون شمال العراق هو مخزن القمح الذي يكفي دول الخليج كلها دون الحاجة للاستيراد من الخارج. والعراق بتعداد سكانه البالغ أكثر من 22مليوناً، بلد متماسك ولا يعاني من التخلخل السكاني كما في دول الخليج المجاورة. ولكن نقاط القوة هذه تخفي نقاط ضعف أخرى ربما سببت مشكلات كثيرة للعراق عبر تاريخه، فالعراق تجاوره ست دول وهذا عيب في الجغرافيا السياسية، فكلما كانت الحدود بحر ثم دولة أو اثنتين كان أفضل. والأخطر من ذلك أن معظم هذه الدول في قوة العراق الاستراتيجية إن لم تزد، فإيران وتركيا أكبر مساحة وعدداً والسعودية أكثر مساحة ومقاربة في العدد. يكفي أن نعلم أن حدود العراق مع إيران يبلغ 1300 كيلو متر، ومع السعودية 812 كيلو متر، ومع سوريا 600 كيلو متر ومع تركيا 377 كيلو متر، ومع الكويت 195 كيلو متر. ولا يغيب عنا هنا التركيبة الإثنية حيث يشكل الأكراد قطاعا لا يستهان به وخرج في كثير من الأحيان على الدولة العراقية ودخل معها في حرب. والتركيبة المذهبية خطر مماثل حيث الفجوة ماثلة هنا بين السنة والشيعة. وأخطر ما في الأمرين ألاثني والمذهبي أن الأقلية الإثنية (الكردية) منفصلة وموجودة في مكان خاص بها ويمكن فصله وهو شمال البلاد، ويتكرر هذا الأمر جنوباً مع الأقلية المذهبية (الشيعة). كان العراق جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، ثم نال استقلاله، وأصبح مملكة مستقلة، في عام 1932. أعلن العراق تحوله إلى النظام الجمهوري، في عام 1958؛ ولكنه، ظل، على أرض الواقع، خاضعاً لحكم مجموعة من العسكريين، الأقوياء، منذ ذلك الحين، آخر هم، صدام حسين. أدت خلافاته الإقليمية مع إيران إلى اندلاع حرب مريرة، بين الدولتين، دامت ثماني سنوات (1980 ـ 1988). وفي أغسطس عام 1990، غزا العراق دولة الكويت، ولكن قوات التحالف، الذي قادته الولايات المتحدة الأمريكية، تمكنت من طرده، خلال شهري يناير وفبراير من عام 1991. لم تحتل القوات المنتصرة العراق، ومن ثم سمحت ببقاء النظام الحاكم في العراق. وعقب تحرير الكويت، طالب مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة العراق بتدمير كافة ما يمتلكه من أسلحة دمار شامل، وصواريخ طويلة المدى، وأن يسمح للأمم المتحدة بالتفتيش، للتحقق من تنفيذه هذه المطالب. ولا تزال العقوبات التجارية، التي فرضتها الأمم المتحدة على العراق، سارية المفعول، بسبب عدم التزامه التزاماً كاملاً بقرارات مجلس الأمن.
http://jeel.info المصدر:
===============
بر الوالدين بين تعاليم الإسلام وحضارة الغرب المادية
محمد حامد الناصر
الأسرة هي اللبنة الأولى في المجتمع الإسلامي، فهي المحضن الدافئ للأطفال، والمرتع الهاديء للشباب، والمأوى الأمين للمسنين والمسنات.
وإذا كان الإسلام يحرص على صون كرامة الإنسان في كل مراحل عمره، فقد عني عناية خاصة بتوقير الكبار واحترامهم، وخاصة الوالدين.
قال - تعالى -: "واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى" والمساكين(36) {النساء: 36}.
اهتم الإسلام بالوالدين اهتماماً كبيراً، وحض على البر بهما، في كثير من توجيهات الكتاب والسنة، واعتبر أن البر بهما فريضة وعقوقهما من أكبر الكبائر.
بر الوالدين في الكتاب والسنة:
بر الوالدين واجب شرعي، من أجل تلبية حاجاتهما الملحة، وخاصة في سن الشيخوخة، فهما يحتاجان إلى المحبة والعون والنفقة، والاحترام والتقدير.
ولذلك حفلت آيات القرآن الكريم، وتعاليم السنة المطهرة بالنصوص التي تحض على رعاية الوالدين والعناية بهما، لأن الأسرة هي الخلية الأولى في المجتمع المسلم، وهي الدعامة المتينة في بناء المجتمعات الإسلامية، والوالدان هما الركن الأساسي في استقرار الأسرة المتوازنة.
قال - تعالى -: " وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم 13 ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير 14 وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا 15 " {لقمان: 13 - 15}.
فهذه الآيات الكريمة، تعد مثالاً لتلك التعاليم التي زخر بها القرآن الكريم، والتي تدعو إلى تكريم الوالدين ورعايتهما.
وقد قرن - سبحانه وتعالى -، الإحسان إلى الوالدين بتوحيده وخالص عبادته.
" وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما 23 واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا 24 " {الإسراء: 23، 24}.
فقد نهى الإسلام عن الإساءة إلى الوالدين، ولو بالكلمة، فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما، وأمر الابن أن يقول قولاً كريماً، وأن يعاملهما بالاشفاق عليهما، والذّل أمامهما.
" بهذه العبارات الندية والصور الموحية، يستجيش القرآن الكريم وجدان البر والرحمة في قلوب الأبناء، ليذكروا واجب الجيل الذي أنفق رحيقه كله حتى أدركه الجفاف.
ويجيء الأمر بالإحسان إلى الوالدين في صورة قضاء من الله، يحمل معنى الأمر المؤكد، بعد الأمر بعبادة الله".
"فكبر السن له جلال، وضعف الكبر له إيحاؤه، وأول مرتبة من مراتب الرعاية والأدب مع الوالدين، ألا يصدر من الولد ما يدل على الضجر والضيق، وما يشي بالإهانة وسوء الأدب: " فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما، وقل لهما قولا كريما"، وهي مرتبة أعلى إيجابية، عندما يكون كلامه لهما يشي بالإكرام والاحترام".
وفي قوله - تعالى -: " واخفض لهما جناح الذل من الرحمة " يشف التعبير ويلطف ويبلغ شفاف القلب وحنايا الوجدان، فهي الرحمة ترق وتلطف، حتى لكأنها الذل الذي لا يرفع عيناً ولا يرفض أمراً".
وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا، هي الذكرى الحانية، ذكرى الطفولة الضعيفة، يرعاها الوالدان، وهما اليوم في مثلها من الضعف والحاجة إلى الرعاية والحنان، والله أقدر على جزائهما بما بذلا من دمهما وقلبيهما، مما لا يقدر على جزائه الأبناء "(1).
وفي السنة النبوية الزاد الوفير لمن أراد بر والديه:
إذ يعتبر الإسلام أن الإحسان إلى الوالدين من الأعمال الجليلة، التي لا يضاهيها عمل إلا الفرائض المكتوبة.
فعن عبد الله بن مسعود قال: سألت النبي: "أي العمل أحب إلى الله؟! قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله"(2).
وإدراك الأبوين المسنين أو أحدهما، نعمة من الله - تعالى - على الابن البار؛ لأن جزاء البر هو الجنة.
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي، أنه قال: "رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه، قيل: من يا رسول الله؟! قال: من أدرك والدين عند الكبر، أو أحدهما ولم يدخل الجنة"(3).
فبر الوالدين والإحسان إليهما، من آكد الطاعات، ففي الحديث الصحيح، عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -، قال: "جاء رجل إلى نبي الله، فاستأذنه في الجهاد فقال: أحيّ والداك؟! قال: نعم. قال: ففيهما جاهد".
وعن ابن عمرو أيضاً، قال: "جاء رجل إلى رسول الله فقال: جئت أبايعك على الهجرة، وتركت أبوي يبكيان، فقال: ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما"(4).
فبر الوالدين نعمة لا تعوض، لأنهما من أسباب دخول الجنة، كما أن برهما مقدم شرعاً على كل الطاعات، حتى الجهاد في سبيل الله.(5/62)
وقدر الإسلام ما تعانيه الأم في الحمل والولادة والرضاعة والتربية، ونظر إلى عاطفتها تجاه أبنائها ولو قسوا عليها فدعا إلى البر بها ثلاثاً.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟! قال: أمك. قال ثم من؟ قال: أمك، قال ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك"(5).
فللأم الحق الأوفر من البر، كما جاء في الحديث الشريف، وقد يتعدى هذا التعامل الرفيق الوالدين المسلمين، ليشمل الوالدين غير المسلمين.
"عن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما -، قالت: قدمت عليّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله {فاستفتيت رسول الله، وقلت: قدمت عليّ أمي وهي راغبة، أفأصل أمي؟! قال: نعم، صلي أمك"(6).
هذه هي مكانة الوالدين في ديننا، وهي الأواصر الطيبة التي تؤكدها نصوص الكتاب والسنة، وقد ترجمت إلى واقع حيّ في سيرة سلفنا الصالح، والأجيال التالية على مر التاريخ، إلا ما أفسدته الحضارة الوافدة عند الذين ينعقون بمبادئها.
وفي سيرة سلفنا الصالح أمثلة رائعة:
تعبر عن التطبيق العملي لتوجيهات الشريعة الغراء، وهي محل للقدوة والاتباع.
فمن روائع البر ما روته السيدة عائشة - رضي الله عنها - قالت: " كان رجلان من أصحاب رسول الله أبر من كان في هذه الأمة بأمهما (عثمان بن عفان، وحارثة بن النعمان) - رضي الله عنهما -.
أما عثمان فإنه قال: ما قدرت أن أتأمل وجه أمي منذ أسلمت، وأما حارثه، فكان يطعمها، بيده، ولم يستفهمها كلاماً قط تأمر به، حتى يسأل من عندها بعد أن يخرج، ماذا قالت أمي؟! "(7).
وقال أبو هريرة لرجل وهو يعظه في بر أبيه: "لا تمش أمام أبيك، ولا تجلس قبله ولا تدعه باسمه"(8).
فأكرم به من أدب سام، وأنعم به من احترام يليق لمكانة من ضحى وربى وتعب وعلم، وبذلك يبقى الشيخ المسلم عزيزاً مكرماً بين أبنائه وذريته، العاملين بتعاليم دينهم الحنيف.
وسئل الحسن - رضي الله عنه -، ما بر الوالدين؟ "قال: أن تبذل لهما ما ملكت، وتطيعهما فيما أمراك ما لم يكن معصية، ثم قال: أما علمت أن نظرك في وجوه والديك عبادة، فكيف بالبر بهما"(9).
وحدث أبو بردة بن أبي موسى الأشعري: "أن ابن عمر شهد رجلاً يمانياً يطوف بالبيت، حمل أمه وراء ظهره يقول:
إني لها بعيرها المذلّل
إن أُذعرتْ ركابُها لم أُذعرْ
الله ربي ذو الجلال الأكبر
حملتها أكثر مما حملت
فهل ترى جازيتها يا ابن عمرْ
ثم قال: يا ابن عمر! أتراني جزيتها؟! قال: لا ولا بزفرة واحدة"(10).
والصور الناصعة في البر، أكثر من أن يضمها كتاب، لأنها من ثمرات الإيمان الذي ترسخ في النفوس، ونكتفي هنا ببعض النماذج النيرة: فهذا ذر بن عمر بن ذر: كان مثالاً للبر بوالده، قال والده رداً على سؤال وجه إليه: كيف كان ولدك في عشرته معك؟! قال: "ما مشى معي قط في ليل إلا كان أمامي، ولا مشى معي في نهار إلا كان ورائي، ولا ارتقى قط سقفاً كنت تحته".
وهذا حيوة بن شريح: وهو أحد أئمة المسلمين كان يترك الدرس طاعة لأمه، كان يقعد في الدرس يعلم الناس، فتقول له أمه: قم يا حيوة فألق الشعير للدجاج، فيقوم ويترك التعليم"(11).
فليت شبابنا وبناتنا، يستوحون هذه المعاني السامية، في تعاملهم مع والديهم.
وقد شاعت قصص البر في المجتمعات الإسلامية قديماً وحديثاً، حتى صارت مضرب الأمثال.
الإحسان وصلة الرحم:
دعا الإسلام إلى صلة الأرحام، وتوثيق الروابط الأسرية، والإحسان إلى الأهل عموماً، مصداقاً لقوله - تعالى -: "واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا 1 " {النساء: 1}.
وقال - تعالى - محذراً من قطيعة الأرحام: " فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم 22 أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى" أبصارهم 23 " {محمد: 22، 23}.
وقال - عليه الصلاة والسلام -: "من أحب أن يبسط له في رزقه وينشأ له في أثره فليصل رحمه"(12).
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "قال رسول الله : الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله"(13).
فبعد الوالدين، لبقية الأقارب منزلة رفيعة، كالإخوة والأخوات والأعمام والعمات، والأخوال والخالات، والآباء والأمهات، بالرضاعة قال - تعالى -: " واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم 36 " {النساء: 36}.
وللجيران وأهل الحي، وأصدقاء الوالدين مكانة يحث الإسلام على رعايتها. فقد جاء في الحديث الشريف قوله : "ما زال جبريل يوصني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه"(14).
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله يقول: " إن من أبرّ البر، صلة الرجل أهل ود أبيه، بعد أن يولي"(15).
ويعتبر العقوق من الكبائر المحرمة في شرع الله:
وقد وردت الأحاديث الكثيرة، مؤكدة حرمة العقوق وقطيعة الرحم.
روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - عن النبي قال: "الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس"(16).
وعن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر (ثلاثاً)..قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور، فما زال يكررها، حتى قلنا ليته سكت"(17).
والعقوق من الذنوب التي يعجل الله فيها العقوبة في الحياة قبل الممات.
فقد روى الحاكم حديثاً وصححه، عن أبي بكرة، عن النبي قال: "كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلاعقوق الوالدين، فإن الله يعجّله لصاحبه في الحياة قبل الممات".
وفي حياتنا المعاصرة أمثلة كثيرة تحكي آثار العقوق الأليمة على أصحابها، يلمسونها في ضيق معاشهم، وفي الكوارث والآلام، وعذاب الآخرة أشد وأبقى.
الآباء والمسنون في حضارة الغرب المادية:
عرفنا فيما سبق اهتمام الإسلام بالمسنين عموماً وبالوالدين خصوصاً، فكان من أهم ما تباهي به الأسرة المسلمة، هو استقرارها وتوازنها، وتعاطفها وتعاونها.
أما حضارة الغرب المادية فلها شأن مخالف، ففي زمن طغيان المادة، تحتاج البشرية إلى من يذكرها بالمعاني الإنسانية السامية، والقيم الإسلامية الرفيعة.
لقد أصبحت الحيوانات في تلك الحضارة تتفوق أحياناً على رعاية المسنين، ولاسيما المرضى والعجزة، فقد انتهت صلاحياتهم، ولم يعدلهم ما يقدمونه لبلادهم، ولذلك أهملوا ورمي بهم في زوايا قديمة بانتظار أن يأخذهم الموت.
وهذا ما جعل النائب الديمقراطي الأمريكي "كلودبير".
يقول: "إن وضع المسنين في أمريكا عارٌ وطني مرعب".
وذلك في معرض تعليقه على تقرير أعدته لجنة في مجلس النواب الأمريكي، بعد دراسة استمرت ست سنوات جاء فيها: "إن أكثر من مليون مسن ومسنة، تجاوزت أعمارهم (65عاماً) يتعرضون لإساءات خطيرة، فيضربون ويعذبون عذاباً جسدياً ونفسياً، وتسرق أموالهم من قبل ذويهم.
كما أن هذه الإساءات، ليست مقتصرة على طبقة اجتماعية معينة، بل إنها تحدث في كل طبقات المجتمع على حد سواء، في المدن والقرى والأرياف.
ومن أبشع ما ورد في هذا التقرير:
أن امرأة قامت بتقييد أبيها البالغ من العمر(81عاماً) بسلسلة وربطته أمام الحمام، وأخذت تعذبه لعدة أيام!!
وقد أكد التقرير أن الإساءة للمسنين، تأخذ عدة أشكال، منها الضرب والإهمال والحرمان من الطعام والشراب وقد يصل الأمر إلى القتل أحياناً.(5/63)
ويعلق النائب: "كلودبير" قائلاً: "لا أحد يدرك حتى الآن أبعاد هذه المشكلة المرعبة، ولا يرى أحد أن يعترف بما يجري، لقد تجاهلنا المشكلة لأنها مخيفة، لدرجة تمنعنا من الاعتراف بوجودها، ولا نريد أن نصدق أن مثل هذه الأشياء، يمكن أن تحدث في دولة متحضرة.
وتضيف الدكتورة "سوزان ستايتمتر" أستاذة الدراسات العائلية في جامعة "ملاوير" تقول: "لقد تعودنا طوال تاريخنا على الإساءة للمسنين، إننا نميل إلى العنف البدني، وقد أصبح هذا جزءاً ثابتاً من طبيعة عائلات كثيرة تسيء للمسنين، بالعنف والاضطهاد، وأصبح إهمالهم وعدم الرفق بهم، أو حتى نجدتهم من الأمور الشائعة في المجتمعات الأوربية"(18).
أما في الإسلام: فقد نصت الآيات والأحاديث على ضرورة احترام المسنين وحسن رعايتهم.
قال - عليه الصلاة والسلام -: "ليس منا من لا يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا"(19).
صور من مآسي المسنين في الدول الصناعية:
يعيش الوالدان في تلك الديار في حالة بائسة، فلا يسأل الولد عن أمه ولا أبيه، ولا ينفق عليهما، ولو كانت حاجتهما شديدة.
فكم من رجل مسن وامرأة مسنة يموتان في أوربا وأمريكا في كل عام من البرد والجوع!!
نعم، هنالك آلاف الأشخاص من الطاعنين في السن، يموتون بسبب البرد والجوع في بلاد الحضارة المزعومة!!
وقد تبقى الجثة في الشقة أياماً دون أن يحس بها أحد، إذ يعيش معظم هؤلاء الشيوخ بمفردهم، فلا يزورهم أحد إلا نادراً، وقد لا يرون إلا مندوب الضمان الاجتماعي في كل شهر مرة(20).
حدثني أخ أثق بدينه "كان يدرس الطب في بريطانيا" أن صديقاً له، كان يعمل مناوباً في أحد المستشفيات هنالك، وكان قد توفي رجل مسن في تلك الليلة عنده، فأحب أن يعزي أسرة المتوفى، واتصل بولده في الساعة الثانية عشرة ليلاً، وعزاه بوفاة والده على وجل.
فما كان من الابن العاق إلا أن امتعض من هذا الاتصال وقال: أتتصل بي في هذه الساعة المتأخرة من الليل، لتخبرني بوفاة والدي؟! وماذا تنتظر مني أن أفعل؟!
أنا مسافر صباحاً لمدة ثلاثة أيام، ضعوه في الثلاجة، وسأراجعكم حين عودتي، من أجل استلام الجثة(21).
فظاهرة العقوق ظاهرة عامة في المجتمعات الغربية، وفي الدول الشيوعية، لقد تجمدت العواطف، ونضبت معاني الإنسانية، وفسدت الفطرة لديهم.
وهذه المعاني من الجحود والنكران، غريبة على تقاليد العرب حتى في جاهليتهم، ممقوتة بغيضة ومحرمة في شريعتنا الحنيفة، ولكن كثيراً من المفتونين بحضارة التيه والضياع لا يعلمون حقائق الأمور.
وإذا كان الأبناء عاقين، فهم يردون الصاع صاعين لذويهم؛ لأنهم أهملوهم صغاراً، انظر إلى الخبر التالي: "نشرت جريدة الشرق الأوسط خبراً مفاده أن امرأة مطلقة من بريطانيا تدعى "مانيس جاكسون"، عرضت ابنها الوحيد للبيع بمبلغ ألف جنيه، والمبلغ يشمل ملابس الطفل وألعابه، وقالت: إنها تبيع ابنها؛ لأنها لا تستطيع الإنفاق عليه، وليس لديها دخل لإعاشته"(22).
وقد نشرت الصحف قريباً، قصة الشاب الذي رضي أن يؤوي أمه العجوز في بيته، مقابل أن تقوم بخدمته وخدمة زوجته وأولاده، وتنظف بيته، ويعتبر هذا كرماً من هذا الولد البار بأمه"(23).
وقصص القوم ببؤسها وشقائها، تكاد لا تنتهي، وهذا هو الجحيم المعاصر في حضارة الشقاء والضياع، إلا أن المفتونين بتلك الحضارة ما زالوا يزينون الشقاء لمن لا يعرفه.
ومن غرائب الجاهلية المعاصرة: "أن شرطة الاحتلال الصهيوني، اعتقلت شاباً، قتل والده بمساعدة الطبيب الذي كان يتولى علاجه.
وبينت التحقيقات أن الشاب "يوسف زوهر" طمع في أموال والده، ومن ثم فقد وعد الطبيب المشرف على علاج والده بحصة معتبرة إن ساعده على قتل والده.
فقام طبيب الموت بفصل جهاز التنفس عن المريض، ووقف يرقب المغدور، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، دون تقديم أية مساعدة له.
وقد وجهت الشرطة للابن تهمة القتل مع سبق الإصرار والترصد"(24).
ودولة إسرائيل تعتبر امتداداً لحضارة الغرب بكل شرورها ونكدها.
فمعاني الإنسانية نضبت في نفوس القوم، وصار تقديم القليل الزهيد، يعتبر شيئاًِ ضخماً وعظيماً.
يقول أحد الأطباء العاملين في بريطانيا: "كنت أعجب من أحد الشيوخ المرضى، الذين كنت أقوم بعلاجهم في أحد المستشفيات التي كنت أعمل فيها، في إحدى ضواحي مدينة لندن، فقد كان الرجل لا يمل من الكلام عن ابنه البار الذي ليس له نظير في عالم اليوم.
ولم أر ابنه يزوره أبداً، فسألته عن ولده، أمسافر هو؟! فأجاب لا، إنه موجود، ولكنه لا يأتي لزيارتي إلا يوم الأحد، فقد عودني ذلك منذ سنين عديدة.
تصور يا دكتور! كان يأتيني كل يوم أحد حاملاً معه باقة من الورود، ونذهب سوياً لنضعها على قبر أمه.
ولما سألته: هل ينفق عليه؟! قال: لا أحد ينفق على أحد في هذه البلاد.
إنني أستلم كذا من الجنيهات، من الضمان الاجتماعي، وهي لا تكاد تكفيني للقوت والتدفئة، ولكن هل هناك أحد في الدنيا مثل ولدي، الذي يزورني كل يوم أحد منذ سنوات؟!
يقول الدكتور: وما أحببت أن أصدم الأب المسكين، وأقول له: إن الإسلام يعتبر ولده عاقاً، إلا أن المستوى الأخلاقي الهابط، وشيوع العقوق، وغلبة الغدر بدلاً من الوفاء، كل ذلك يجعل مجرد زيارة الولد لأبيه مرة في الأسبوع قمة في البر والصلة(25).
هذه الحضارة الوافدة من ديار الغرب، أو من ديار الشرق الشيوعي "أو البوذي والهندوسي" ربما جعل بعض المفتونين بها، ينعقون بمعطياتها، ويتناسون التعاليم السامية في ديننا وتراثنا وقيمنا العريقة، ويقعون في عقوق أثيم، وجحود قبيح.
فالحمد لله الذي أنعم علينا بهذا الدين، الذي يجعل مجرد التأفف من الوالدين عقوقاً وجحوداً:
" فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما 23 واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا 24 " {الإسراء: 23، 24}
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
--------------------
الهوامش:
1- في ظلال القرآن: المجلد الرابع ص: (221-222) بتصرف يسير.
2- رواه الإمام البخاري في صحيحه.
3- رواه الإمام مسلم في صحيحه.
3- "ورغم أنفه: أي لصق بالرغام وهو التراب"، ينظر: الترغيب والترهيب ج3، ص: (318).
4- رواه أبو داود ينظر: الترغيب والترهيب: ج3، ص: (315).
5- رواه البخاري ومسلم.
6- متفق على صحة الحديث "أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود"، "ينظر شرح السنة: ج3، ص: (13)"، والترغيب والترهيب: ج3، ص: (322)، "ومعنى راغبة: أي طامعة فيما عندي، تسألني الإحسان إليها".
7- صلاح الأمة في علو الهمة: د. سيد العفاني، ج(646/5).
8-9- شرح السنة للإمام البغوي، ج13، ص: (27).
10- رواه الإمام البخاري في الأدب المفرد، وابن المبارك في البر والصلة.
11- صلاح الأمة في علو الهمة: د. سيد ابن حسين العفاني، ج(653/5).
12-13- الحديثان رواهما الإمام البخاري - رحمه الله -.
14- متفق عليه، عن السيدة عائشة - رضي الله عنها -، ينظر صحيح الجامع الصغير: ج(984/2).
15- صحيح مسلم رقم: (2552)، وينظر شرح السنة للبغوي: ج(13)، ص: (330).
16- الترغيب والترهيب للمنذري، ج(326/3). "واليمين الغموس: الكاذية الفاجرة، التي يقتطع بها الحالف مال غيره، سميت غموساً لأنها تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار".
17- رواه البخاري ومسلم والترمذي "ينظر: الترغيب والترهيب، ج(326/3)".
18- مجلة الأسرة، العدد (105) بعنوان: المسنون في ديننا وحضارتهم"، من مقال لخالد ابن ناجم الشريف.(5/64)
19- ينظر: صحيح الجامع الصغير، ج2، ص: (958)، رواه الترمذي وأحمد والطبراني، وقال الألباني: "حديث صحيح".
20- عمل المرأة في الميزان: د. محمد علي البار، ص: (37)، الطبعة الثالثة.
21- ينظر كتابنا: المرأة بين الجاهلية والإسلام ص: (328-329).
22- جريدة الشرق الأوسط، العدد الصادر في 1400/9/15ه.
23- عمل المرأة في الميزان: د. محمد علي البار ص: (38).
24- مجلة الجندي المسلم، العدد (111) سنة 1424ه.
25- عمل المرأة في الميزان ص:(37).
http://jmuslim.naseej.com المصدر:
=============
قيم الانطلاق لبناء الحضارة
د. عماد الدين خليل
إن الكلمة الأولى التي تنزلت على رسول الله في غار حراء لم تكن نفياً أو سلباً، لم تقل: لا تقتل، لا تسرق، لا تزن الخ وإنما كانت تأكيداً وإيجاباً وأمراً بفعل معرفي هو القراءة: اقرأ باسم ربك الذي خلق (1) خلق الإنسان من علق (2) اقرأ وربك الأكرم (3) الذي علم بالقلم (4) علم الإنسان ما لم يعلم (5) (العلق).
القراءة والعلم والقلم، تلك هي المفردات التي تضمنتها الآيات الأولى في السورة الأولى من التنزيل، والتي وضعت المسلم في قلب العالم وليس بعيداً عنه أو منفياً منه.
ليس هذا فحسب، بل إن الدلالة المعرفية تمتد إلى عمق زمني أبعد، إلى لحظة خلق آدم - عليه السلام - الذي علم الأسماء كلها ومنح آدم وذريته من بعده، الاستعداد العقلي والجسدي لممارسة دورهم العمراني في العالم " وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين 31 قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم 32 قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون 33 " (البقرة).
ولقد تضمن القرآن الكريم دعوة واضحة مؤكدة إلى أن ننظر إلى الأمام، وألا نلتفت للوراء. إن هذا الالتفات له ضرورات محددة في حالة التلقي عن الآباء والأجداد معطيات تشريعية أو تراثاً معرفياً، قد تستهدي به الأمم لتبين مواقع الخطأ والصواب، أما أن يكون عملاً لا وعيياً يقوم على التقليد الأعمى فسيجعلنا في حالة تعارض مع ما يريده القرآن الذي نعى على المشركين والمتخلفين أنهم كانوا يتشبثون بما فعله الآباء والأجداد بغض النظر عن مدى سلامة هذا الفعل ومنطقيته: " قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا (يونس: 78)، إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على" آثارهم مقتدون 23 "(الزخرف).
وهي هداية معكوسة يرفضها الإسلام أشد الرفض.
إن توينبي، المؤرخ البريطاني المعروف، يشير إلى نمطين من التعامل مع معطيات الآباء، نمط التقليد الأعمى في مرحلة السقوط الحضاري، ونمط الاقتداء بالنخبة المبدعة وخبراتها الحيوية في مرحلة النهوض الحضاري، والقرآن الكريم يرفض الأولى لأنها تقود إلى التخلف والسكون.
إن القرآن الكريم يضعنا في مساحات واسعة منه في قلب التاريخ بحثاً عن المغزى..عن صيغ العمل في الحاضر والمستقبل: " لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى" ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون 111 " (يوسف).
ولكنه في الوقت نفسه يحررنا من التاريخ لكي نتمحض للحاضر ونتحرك صوب المستقبل، دون أن تعيقنا وتنقل كواهلنا أعمال الأجيال الماضية: " تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون " 141 (البقرة).
وطالما أكدت المعطيات القرآنية والنبوية رفضها لهدر الطاقة التي تعمل أحياناً في غير مجالاتها المرسومة. إن الرسول يقول: "تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله". إنه ها هنا يدعونا للتفكير في الخلق الذي يقود إلى العلم والتكنولوجيا، بموازاة تأكيد إبداعية الله في العالم، والإيمان بوحدانيته - سبحانه -، ويحذرنا من التفكير في الذات الإلهية التي تعلو على الأفهام، وتستعصي على القدرات البشرية، وهو التفكير الذي يقود إلى ال "ما ورائيات" والتعامل التجريدي مع "واجب الوجود" و"متناهي الأول" والميتافيزيقا، وما يتمخض عن هذا كله من هدر للطاقة العقلية.
إنه يريدنا أن نتعامل مع الكتلة الكونية وأن نكشف عن قوانينها لتنمية الحياة التي سخرت إمكاناتها للإنسان من أجل التحقق باستخلافه العمراني في العالم، بدلاً من هدر الطاقة فيما هو خارج عن حدودها وإمكاناتها وضرورات صيرورتها الحضارية في الأرض.
إن القرآن بتأكيده الملحوظ على قيم المعرفة والتقدم والاكتشاف وضع المسلم في البداية الصحيحة والضرورية للفعل الحضاري ودفعه إلى الانطلاق لصياغة حضارة كان لها دورها المؤكد في تاريخ الحضارات البشرية. ولا تزال.
http://www.almujtamaa-mag.com المصدر:
===============
حضارة الإيمان والتوحيد
عماد الدين خليل
إن من أهم ما تميّزت به حضارتنا الإسلامية زمن تألقّها وعطائها أنها قامت في أساسها وجوهرها على الإيمان والتوحيد؛ بمعنى أنها انبثقت عن أصول عقدية مستمدة من منهج عمل الهي..وحي قادم من السماء..وهي بهذا تجاوزت اعتبار (الوجود) المصدر الوحيد للمعرفة، وتميزت عن الأنشطة المعرفية الأخرى باعتماد هذا الأصل الخطير جنباً إلى جنب مع الوجود. ومن ثم تغدو الحضارة الإسلامية بشكل من الأشكال تعبيراً متفرداً عن ذلك اللقاء المرسوم بين السماء والأرض. وهي مهما تضمنت من أخطاء وانحرافات، متعمدة أو غير متعمدة، ومهما شذت أو بعدت أحياناً عن مسارها الأصيل، عن كونها التعبير الصادق للمنطلق المستمد من الجذور، المتوجه صوب الهدف، فإنها تظل في نسيجها العام.. في إيقاعها وصيرورتها وتوجهاتها ونبضها، حضارة إيمانية تعتمد (الوحي) جنبا إلى جنب مع (الوجود).
وهي من أجل ذلك تلتزم العمل في إطار منظومة القيم التي تحددها العقيدة، وليس خارج هذه المنظومة.. ويعبر هذا الالتزام عن نفسه في مفردات سلوكية النشاط الحضاري وفي صيغ التعامل مع نتائجه، كما أنه يعبر عن نفسه في توظيف هذه النتائج لخدمة الأهداف الإيمانية العليا للإنسان، وليس جعلها هدفاً بحد ذاته، أو أداة منفعية صرفة.
تتمحور إيمانية هذه الحضارة، كما هو شأن كل ممارسة إسلامية، عند (التوحيد) وتنطلق منه، منداحة دائرتها باستمرار لكي تغطي كل مفردة في حياة المسلمين المعرفية والسلوكية على السواء.. إنه نقطة الجذب والإشعاع معاً.. القلب الذي يعطي ويأخذ، يضخ ويتلقى.
بما أن التوحيد الذي ينبثق عن الشهادة التأسيسية الكبرى (لا إله إلا الله) هو المرتكز والهدف، فإنه سيدخل منذ اللحظة الأولى، في الزمن، وسيمتد في المكان إلى كل جزئية من جزئيات النشاط الحضاري لكي يطبعه بهذا التقابل المؤثر الفعال مع الله الواحد جل في علاه، ويصبغه بكلمة الله التي يأخذ عنها المسلم منهاج العمل، ويتوجه إليها في الصيرورة والمصير.(5/65)
ولسوف تتأكد هذه الخصيصة المحورية لدى مقارنة الحضارة الإسلامية بأية حضارة أخرى، دينية محرفة أو وضعية. إننا هنا بإزاء عودة إلى الجذور.. إلى الحقيقة الكبرى في أقصى درجات وضوحها وفاعليتها وتألقها.. إن الحضارة الإسلامية سيقدر لها أن تمنح الفعل البشري، وهو يعمل، فرصته في أن يستعيد وظيفته الأصيلة خليفة عن الله وحده في هذا العالم، مستعمراً له وحده فيها: في التاريخ، في الجغرافيا، في النفس، في المجتمع، في الفلك، في الطب، في الهندسة، يعبر التوحيد الإسلامي عن نفسه.. في المعادلات الكيمياوية والجيوب واللوغارِتمات.. في المنائر الواثقة المتفردة الصاعدة إلى السماء، وفي القباب المتكورة على الخشوع والتسليم.. في كلمات الشعراء ولمسات المعماريين.. يتجلى التوحيد كما لم يتجل في أية حضارة أخرى.
لقد منح التوحيد نشاطنا الحضاري عبر التاريخ وحدته المتماثلة وشخصيته المتفردة.. شد جزئياته وتفاريقه في أنساق واحدة تتجه خيوطها جميعاً صوب الهدف الواحد، وتنبثق عنه، لكي ما يلبث النسيج في نهاية الأمر أن يجيء معبراً بلسان الحال عن صنع يدي نساج واحد.
على مستوى الدافع يضع التوحيد العالم المسلم قبالة الله - سبحانه - مسؤولاً عن قدراته التي أودعه الله إياها، ساعياً لأن يستثمرها حتى حدودها القصوى. على مستوى الهدف تصاغ معطيات هذا السعي المعرفي لكي تكون متوافقة مع كلمة الله، متجاوزة ما وسعها الجهد أيما قدر من الثنائية أو الازدواج.
وفي كل الأحوال فإن التوحيد يصير دافعاً لمزيد من العطاء، ومعاملاً لوحدة هذا العطاء ومنحه سماته الأصيلة المتفردة.
في التوحيد يغدو الكون والعالم والطبيعة من صنع الله القادر المهيمن المبدي المعيد، ويتحرر العالم المسلم من سائر الخرافات والصنميات التي تلبستها الطبيعة والعالم في المذاهب والأديان الأخرى، فعرقلت انطلاقه الحر للكشف عن السنن والطاقات والنواميس.. إن التوحيد يضع العالم المسلم حراً في مواجهة الكتلة الكونية، فاعلاً مريداً.. يضعه فوق هذه الكتلة سيداً على الخلائق، ومن ثم يصير التوحيد فرصة كبرى للتحقق بالمعرفة، للاستزادة منها، من أجل الإمساك بتلابيب العالم والطبيعة والحياة.. والتقرب أكثر إلى الله. ودائماً كان التوحيد هو صمام الأمان عبر تعامل الحضارة الإسلامية مع الحضارات الأخرى، فلا تأخذ، في الأعم الأغلب، إلا ما ينسجم وإياه، ولا تمرر إلا ما يسمح هو بتمريره إلى شبكة الحضارة الإسلامية. وها هنا أيضاً أعطى التوحيد الفرصة لهذه الحضارة بأن تتحقق أكثر بوحدتها وخصوصيتها، سيما إذا تذكرنا أن الحضارات الأخرى، كانت تنبض في إيقاعها، في كثير من الأحيان، أصوات الآلهة والصنميات والثنائيات والأضداد.
بإيجاز، حيث لا يسمح المجال بالاستفاضة في موضوع يحتمل المزيد، فإن التوحيد كما يقول الدكتور إسماعيل الفاروقي - رحمه الله - في كتابه (جوهر الحضارة الإسلامية) "هو الذي يعطي الحضارة الإسلامية هويتها، هو الذي يربط بين أجزائها، هو الذي يطبع كل ما يدخل إليها من عناصر فيؤسلمها ويطهرها فتخرج من عبورها في التوحيد متجانسة مع كل ما حولها. قديماً وحديثاً كتب مفكرونا آراءهم في جميع الميادين تحت عنوان التوحيد، وذلك لأنهم رأوا فيه المبدأ الأكبر الذي يشمل جميع المبادئ الأخرى، ورأوا فيه القوة الكبرى التي تفجرت عنها جميع المظاهر المكونة للحضارة الإسلامية" التوحيد هو الشهادة عن إيمان بأن (لا إله إلا الله) هذه الشهادة السلبية في مظهرها، والمختصرة اختصاراً لا اختصار بعده، تحمل أسمى المعاني وأجلها. فإذا أمكن التعبير عن حضارة برمتها بكلمة واحدة، إن أمكن صب كل الثراء والتنوع والتاريخ في أبلغ الكلام وهو أقصره طولاً وأكثره دلالة كان هذا في (لا إله إلا الله) عنوانا للتوحيد وبالتالي للحضارة الإسلامية.
http://www.almujtamaa-mag.com المصدر :
================
أسس الحضارة الإسلامية ومقوماتها
سهيلة العابدين
بعدما تحدثت المستشرقة الألمانية زيغريد هونكة عن معجزة العرب الحضارية في كتابها (شمس العرب تسطع على الغرب) تساءلت عن المقومات التي احتاجها العرب ليبعثوا مثل هذا البعث، كما تساءلت عن العوامل التاريخية والاجتماعية والروحية والفكرية التي كان لا بد لها أن تجتمع لتخلق هذه المعجزة التي حققها العرب.
وأقول جواباً عن تساؤلات المستشرقة الألمانية:
إن الإسلام وحده هو الذي كان وراء هذه البعث العربي والإعجاز الحضاري الذي حققه العرب، فلقد كان العرب في حاجة إلى عقيدة إلهية واحدة تكون مصدر التجمع والتصور، ومنبع الفكر ومنهج الحياة..مؤثرة في المبادئ والشرائع والأنظمة والأوضاع التي تنظم المجتمع أفراداً أو جماعات مع نظام مؤثر في الأخلاق والآداب والتقاليد والعادات والقيم والموازين التي تسود المجتمع وتؤلف ملامحه مع سيادة القيم الإنسانية واستملاء الإنسان في العقيدة الإسلامية والنظام الاجتماعي الإسلامي.
أولاً: العقيدة:
تقوم العقيدة في الإسلام على تنظيم صلة الإنسان بالله وتعطيه قيماً معينة وشريعة تنظم الحياة الاجتماعية حسب هداية الله - سبحانه وتعالى - أن ترتكز هذه العقيدة على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.وهي تعني الإفراد بالعبودية لله وحده دون سواه والاعتراف بالخلق والسلطان له - سبحانه وتعالى - وتنزيهه عن الشريك. ويتمثل ذلك في التصور والإدراك البشري من تلقي الإنسان لحقائق العقيدة من مصدرها الرباني الذي يتكيف به الإنسان في إدراكه لحقيقة ربه ولجلاله ولحقيقة الكون الذي يعيش فيه، ولحقيقة الحياة التي يعيشها، ولحقيقة الإنسان نفسه، ومن ثم تصبح عقيدة (أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) قاعدة لمنهج كامل تقوم عليه حياة الأمة المسلمة بحذافيرها، فأركان الإسلام من مقتضياتها، صلاة، وزكاة، وصيام، وحج، وحدود، وتعازير، وحلال وحرام، وسلوك وأخلاق، والاعتراف بالعقيدة لله رب العالمين يقتضي الطاعة لله وحده والتسليم لحكمه دون سواه: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {162} لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ {163}.
هذه العقيدة القائمة على التوحيد لها معطيات كانت وراء ما حققته الحضارة الإسلامية من سمو وإعجاز أدهش العالم وأثار تساؤلات علمائه عن هذه المعطيات ومن هذه المعطيات.
1- السمو الإنساني:
إذ أعطت هذه العقيدة لحامليها ومعتنقيها الطهارة في أسمى معانيها وأجمل صورها، الطهارة من الشهوات، فلا تستخذله شهوة، ولا تطوعه غريزة شر، بل تعطيه عقيدته قوة يستعصي بها على أي هوى أو نزوة، فلا يضعف، ولا يستكين لعواصف الشهوات، وإغراءات العادة، وقد يضعف أمام ذلك الكثير، رغم ما أوتوا من علم وما بلغوا من حضارة (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ {23}.(5/66)
وتعطيه كذلك كرامة يجالد بها عبودية الإنسان للإنسان وتسلط الطواغيت على حياته ودنياه فلا يتخذ رباً إلا الله (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ {64}.
كما تعطيه سمواً في التفكير فلا يكون أسيراً لرواسب ماضية ونحل متحرفة، وقد كان هذا دأب الجاهلين قبل (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ {170}.
2- النمو الحقيقي للأشياء:
أن تبعث العقيدة الإسلامية في نفوس أصحابها التصور الحقيقي لقيم الأشياء فلا ينطلي عليها غبش الدعايات وبهرج الشبهات، فمن يعرف ربه يعرف شيمة نفسه ويعرف قيمة إيمانه ويعلم تسخير العوالم له، ويعلم كذلك أن الناس كلهم عبيد لله وكلهم من خيره يرزقون، فلا تزلف لأحد إذاً، لأن الكل مخلوق، والكل محتاج إلى عطف الله ورضاه، وإذا استعان صاحب العقيدة فإنما يستعين بالله، وإذا طلب فليطلب من الله.
ويعلم كذلك أن الضر والنفع من الله، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تعليم ذلك لابن عباس: (إذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لا ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك).
3- الرجاء وطمأنينة القلب:
أن تبعث هذه العقيدة في نفوس أصحابها الرجاء في الله وطمأنينة القلب؛ إذ يربي الإيمان القلب على نفسية قائمة على الثقة بالله والرجاء فيه، فهو في كل حال يتغلب على اليأس والقنوط والجلد والثقة حتى يأتيه نصر الله وهو مطلع عليه: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ {186}.
4- الجراءة والشجاعة في مواجهة الشدائد:
فهذه العقيدة تعطي صاحبها صفات نفسية عامرة كريمة بغير حدود من هذه الصفات الجراءة والشجاعة والبسالة النادرة، الشجاعة في كل ميدان من ميادين الحياة، الشجاعة في مواجهة النفس والتغلب على ثقل الحيوانية، ولهذا ترى كثيرين من أصحاب العقائد ضربوا أروع الأمثلة في الاستقامة والقدوة بعد تاريخ طويل في الجهالة وحب العرض وأتباع الشهوات، واستطاعوا أن يفرضوا الاستقامة وأن يعلموا الشعوب الهداية والرجولة ونبذ الانحراف ومداواة النفوس (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً {46}.
5- الإحاطة والشمول:
مما تتميز به العقيدة الإسلامية الإحاطة والشمول حيث تعترف بالكتب السماوية كلها، حيث يأمر الإسلام الإيمان بكل كتاب أنزله الله على أحد من رسله (والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ {4} أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {5}.
ومن مظاهر الإحاطة والشمول: الدعوة العامة لجميع البشر وعدم التمييز بين جنس وجنس، ولون ولون، وفقير وغني، بل الكل أمام الله سواء، والدين لهؤلاء جميعاً. والرسول - صلى الله عليه وسلم - بعض الناس جميعاً (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ {28}.
ومن إحاطة الإسلام وشموله: بيانه لجوانب الحياة صغيرها وكبيرها، ما صلح منها وما فسد من طعام وشراب فأحل الطيب وحرم الخبيث (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ).
وقد بين الإسلام أن الأعمال هي قوام المسلم وهي ميزان بها يصعد وبها يهوي، وبها يسود في الأرض، وبها يضيع من قدمه الطريق (وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً {124}.
ثانياً: النظام الاجتماعي:
الأساس الثاني للحضارة الإسلامية هو النظام الاجتماعي المتكامل الذي جاء به الإسلام، وصبغ به الحياة الإسلامية، وهو نظام رباني اختاره الله للبشرية لينظموا حياتهم عليه، ويحييهم به حياة طيبة، ويسعدهم به في الدنيا والآخرة، ولا تتداخل معه أهواء البشر الشاردة أو أنظارهم القاصرة وإنما هو وعي إلهي رائق ينظم حياة الناس وينسقها، كما ينظم حركة العوالم ويهذبها ويسعد حياة البشر ويهنيها، ومن أهم أسس النظام.
1- المساواة بين البشر:
يقيم الإسلام المجتمعات الإسلامية على قاعدة مهمة مستقيمة هي المساواة التامة بين البشر، ويقرر المساواة على إطلاقها فلا قيود ولا استثناء، وإنما مساواة تامة بين الأفراد ومساواة تامة بين الجماعات، ومساواة تامة بين الأجناس، ومساواة كاملة بين الحاكمين والمحكومين لا فضل لرجل على رجل ولا لأبيض على أسود، ولا لعربي على أعجمي، وذلك لقوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).
فهذه قومية عالمية ووحدة إنسانية متكاملة تكون جماعة دولية، تحمي فيها الامتيازات القائمة على الاختلاف في الألوان والأجناس واللغات والحدود الجغرافية، ومن المحال أن تكون حضارة إنسانية عالمية إلا بتحقيق ذلك لأنها من جانب تحافظ على فردية الفرد، ومن جانب آخر تطهرها من كل ما قد يكون فيها من الميول المتناقضة، والنظام الإسلامي بهذا يقطع الطريق على النظام الطبقي وما يصاحبه من نظام اجتماعي، وقد أحدثت، هذه المبادئ ثورة اجتماعية هائلة بدلت الأوضاع الاجتماعية فالكل أمام الله سواء، ومن هذا المنطلق سار الناس بطاقاتهم إلى المجد لا يعترضهم جهل أو غرور أو تسلط، ويسعى الكل يعليه عمله ويرفعه جهده أو يوبقه كسله ويقصره ضرره، ولهذا نرى أن المجتمع الإسلامي برزت فيه طاقات جبارة ولولاه بعد الله، ما كان لها في الحياة شأن أو ذكر.
2- العدالة المطلقة:
لقد جاء الإسلام بالعدل الذي يكفل لكل فرد ولكل جماعة ولكل قوم قاعدة ثابتة للتعامل لا تميل مع الهوى ولا تتأثر بالوأد أو البغض ولا تتبدل مجاراة للصهر أو النسب، والغني والفقر، والقوة والضعف (وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً {58}.
وعن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تزال هذه الأمة بخير ما إذا قالت صدقت، وإذا حكمت عدلت، وإذا استرحمت رحمت).
وقد ربى الإسلام الإنسان المسلم على العدالة بحيث تكون نابعة من ذاته، لذا قال - صلى الله عليه وسلم -: (أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه) وقوله - عليه السلام -: (عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به).(5/67)
ومن العدالة في الإسلام المساواة أمام القانون فلا يكون هناك قانون للأشراف وآخر لغيرهم أو يكون قانون للبيض وآخر للملونين، فعندما اهتمت قريش بأمر المرأة المخزومية التي سرقت وقد اعتزم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقطع يدها لتكرار السرقة منها، ولأن حد الله يجب أن يقام ولا يحابي أحد لجاهه فوسطوا أسامة بن زيد يشفع في ذلك لمكانته عند الرسول - عليه السلام - قال لائماً: (أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة) ثم وقف خطيباً وقال: (ما بال قوم يشفعون في حد من حدود الله، إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)، هذا هو العدل في الإسلام الذي حض الله وأمر به، جل شأنه، من ذلك قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ).
ومن العدالة في الإسلام العدالة الاجتماعية التي تراعي المواهب وتهيأ لها الفرص بغض النظر عن فقرها أو غناها؛ ولذا برزت في الإسلام مواهب وقدرات وطاقات أذهلت الجميع، فالمهم في الإسلام أن يفسح المجال للمواهب، ويوضع كل في مكانه الصحيح حتى إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - اعتبر من لم يفسح المجال لذوي المواهب مضيعاً لنعمة الله وخائناً للإنسانية، إذ يقول - عليه أفضل الصلاة والسلام -: (ومن استعمل رجلاً من عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين).
ومن العدالة الاجتماعية إعانة الضعيف بقوله جل شأنه: (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ {19}، (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ {9} وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ {10}، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة).
3- الحرية:
تتجلى الحرية في المجتمع الإسلامي في أجل معانيها وأسمى مقاصدها وأروع مظاهرها، ومن هذه الحريات:
حرية الاعتقاد:
لقد قرر الإسلام حرية الاعتقاد وجعل لكل إنسان الحق في أن يعتنق من العقائد ما يشاء، وليس لأحد أن يجبره على ترك دينه واعتناق آخر ولو كان الإسلام، يوضح هذا قوله - تعالى -: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) وقوله جل شأنه: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ).
أي بدون إكراه، ولا يخفى على كل منصف أن ما يقرره الإسلام في هذا المبدأ الذي يتجلى فيه تكريم الإنسان واحترام إراداته ومشاعره، وترك حريته لنفسه فيما يختص بالهدى والضلال في الاعتقاد وتحميله تبعية عمله وحساب نفسه، وهذا هو أخص خصائص التحرر الإنساني.
حرية التفكير:
كما يقرر الإسلام حرية الفكر والتفكير ويحض الناس على التأمل والبحث واستجلاء الحقائق والنظر إلى ما وراء الأشياء إلى غايتها. ولهذا نرى دعوة القرآن إلى التفكر في خلق السموات والأرض وفي خلق أنفسهم وفيما حولهم مما تقع عليه أبصارهم، أو تسمعه آذانهم، ليصلوا من رواء ذلك كله إلى معرفة الخالق وليستطيعوا التمييز بين الحق والباطل والهدى والضلال، والأدلة في القرآن الكريم كثيرة التي تحث على التأمل والتدبر والتفكر، من ذلك قوله جل شأنه (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ {20} وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ {21}، وقوله - تعالى -: (قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا).
حرية القول:
لقد جعل الإسلام حرية القول حقاً لكل إنسان على أن يستعمل الإنسان حرية القول في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {104})، كما يحتم الإسلام على المسلم أن ينطق بالحق إذا سكت الناس ويجهر به إذا توارت الأصوات وخفتت الألفاظ وكممت الأفواه، ويبين هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطيع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر).
كما نهى الإسلام المسلم عن تحقير نفسه بأسره لرأيه وكتمه لفكره، فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يحقرن أحدكم نفسه) قالوا: يا رسول الله وكيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال (يرى أن لله عليه فعالاً ثم لا يقول فيه: فيقول الله - عز وجل - يوم القيامة: (ما منعك أن تقول فيّ كذا وكذا؟) فيقول: (خشية الناس) فيقول: (فإياي كنت أحق أن تخشى).
فهاهي شرائع الإسلام تحض على إبداء رأيه وإظهار فكره ولا يخشى في قول الحق لومة لائم.
هذا وقد وضع الإسلام ضوابط للحرية حتى لا تخرج عن إطار القيم والفضائل والأخلاق وحقوق الآخرين والصالح العام، فالإنسان حر في أن يمارس حريته بشرط أن يكون سيد نفسه فلا تستبد به آراؤه أو تستعبد شهواته، وهو حر أيضاً في أن يمارس حريته على ألا تتعارض هذه الحرية مع الصالح العام أي لا تعارض حرية الفرد مع حق المجتمع كله، فالإنسان حر ولكنه في الوقت ذاته مسؤول عن خير المجتمع والصالح العام.
وعلى هذا ترتكز الحرية الإسلامية على قاعدتين أساسيتين هما: شخصيته فلا يخضع الفرد لأهوائه ولا يكون عبداً لشهواته، والقاعدة الثانية: اجتماعية: وهي تقوم على مراعاة حقوق ومصالح المجتمع.
وهكذا نجد أن الإسلام في تصوره للحرية فاق جميع المذاهب والأديان والفلسفات فلم يطلقها كالوجودية الملحدة والشيوعية، ولم يكبتها وإنما أطلقها في حدود لا تتعارض مع خير الفرد والمجتمع، وكان من ثمار هذه الحرية اعتقاداً وفكراً وقولاً الإنجازات العلمية الكبرى في جميع ميادين المعرفة التي تحققت على أيدي المسلمين منذ بزوغ فجر الإسلام.
4- الأخوة:
أن يقوم المجتمع الإسلامي على أساس متين من الأخوة الإنسانية المتمثلة في قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) {1}.
وكذلك من الأخوة الإيمانية المتمثلة في قوله جل شأنه: (إنما المؤمنون إخوة)، ولقد ـقام الإسلام الأخوة على أساس التعاون والالتفاف حول راية القرآن (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)، (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)، (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً {59}.
5- الأخلاق والفضائل:
إن الأخلاق في التصور الإسلامي هي أصل الحياة الإسلامية وشعبها التي تكون صرح المجتمع الإسلامي.(5/68)
يقول جل شأنه: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)، وقال جل شأنه: (غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ {159}.
ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً)، وقد جعل حسن الخلق أكثر مما يدخل الجنة، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: (سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟، قال: (تقوى الله وحسن الخلق)، وحَسَن الخلق يكون من أحب الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكثرهم قرباً منه يوم القيامة، فعن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن من أحبّكم إلى الله وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، وإن من أبغضكم إليّ وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون، قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون، قال المتكبرون).
وهكذا نجد أن الحضارة الإسلامية وصلت إلى ما وصلت إليه من إعجاز فاق جميع الحضارات لأنها قامت على أسس متينة إذ نظر الإسلام إلى الإنسان نظرتين:
- نظرة تكريم أعطاه فيها كل ما حفظ به كرامته، حفظه من كل ظلم وبغي وعنت، وتولى رزقه وعطاء توجيهه وإرشاده، وأطلق حريته واحترم إرادته وأجاب دعوته.
- نظرة تقييم: إن نظر إليه بمعيار خلقه ونفعه وعطائه وإيمانه.
أما المجتمعات فقد نظر إليها
بمنظار ما فيها من قيم، من مساواة وعدالة وحرية وأخوة واتحاد وتعاون وفضائل، فإذا كملت هذه الأوصاف ووجدت هذه النماذج كان الإنسان متحضراً وكان المجتمع كذلك، وإذا فقدت كان المجتمع غير متحضر وكان الإنسان فيه غير حضاري وإن رفل في النعيم ووصل إلى الفضاء لأن الإسلام يبحث عن حضارة الإنسان ورقيه، لا عن زخرفة البناء وعلوه، يبحث أولاً سعادة المكرم لا زخرفة المسخر، لأنه منطقي في نظرته، واقعي في حكمه.
فالحضارة التي تقوم على هذه الأسس هي بلا ريب سيدة الحضارات.
http://altareekh.com المصدر:
===============
دور المسجد في بناء الحضارة
د.وليد فتيحي*
إننا في أمس الحاجة إلى أن نعيد استقراء تاريخنا، وأن ندرس عوامل نجاح أمتنا في قيادة الإنسانية قرابة ألف عام، وبناء حضارة يشهد لها أعداؤها قبل أبنائها.
أي مدرسة وجامعة فكرية وعلمية واجتماعية تلك التي استمرت في إخراج أساتذة للإنسانية في العلوم النقلية والعقلية على حد سواء قرابة ألف عام، من فقهاء ومحدثين، وعلماء في الطب والهندسة، والرياضيات والفلسفة، والفلك والأدب وغيرها من علوم الدين والدنيا، قلما يجتمع مثل هذا الرقم الهائل منهم في حضارة واحدة، دع عنك أن يكونوا جميعاً نتاج مدرسة واحدة.
أما المدرسة التي أقصدها فهي المسجد بمفهومه الشامل المتعمق، وهو مفهوم غائب عن كثير من أبناء أمتنا، المسجد الذي يمثل نقطة التقاء الأمة وتوحيدها، والمظهر العملي لوحدتها، ولذلك كان أول أعمال أستاذ الإنسانية سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - هو بناء مسجد للمسلمين في قباء في أيامه الأولى التي أمضاها في المدينة، وبعد انتقاله من قباء إلى المدينة كان أول أعماله كذلك بناء مسجده - صلى الله عليه وسلم -، وحمل أحجاره بيديه الكريمتين فكان المسجد النبوي مدرسة الدعوة الإسلامية الأولى، ودار الدولة الإسلامية الكبرى، وكان المدرسة والجامعة، ومقر مجلس الشورى، وعقد الرايات، وتجهيز الجيوش، وإدارة شؤون الأمة صغيرها وكبيرها.
إن المسجد في المفهوم الإسلامي الخالص هو مقر إعلان العبودية الخالصة لخالقنا ((وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً ))، وبما أن العبادة في المفهوم الإسلامي شاملة جامعة لحياة الإنسان العابد لله - تعالى-: (( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ))(الأنعام 162-163)، وبما أن العلم في الإسلام شرط أساسي في أداء العبادة الصحيحة بمفهومها الشامل؛ فلابد إذن من أن يقوم المسجد بدور نشر العلوم، بل وأن يصبح منارة ومقصداً علمياً.
وقد قام المسجد بدوره التعليمي منذ أيامه الأولى، وحث رسول الله على هذا الدور العلمي بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيراً أو يعلمه كان كأجر حاج تاماً حجه) أخرجه الطبراني، وهذا المقصد التعليمي أوضحه وبينه - صلى الله عليه وسلم - في حديثه ليفرق بينه وبين البعد الشعائري من إقامة الصلوات في المساجد.
ولم يقتصر الدور التعليمي للمسجد على الرجال بل نافست عليه النساء لما أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قالت النساء للنبي: (غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوماً من نفسك، فوعدهن يوماً لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن)، وفتح المسجد صدره للمرأة تشهد دروس العلم ليتأكد حق المرأة في تحصيل العلم، ومشاركة الرجل في الحياة، وقد أعجبت السيدة عائشة أم المؤمنين بإقبال الانصاريات على العلم فقالت: (نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء من أن يتفقهن في الدين).
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشرف على حلقات العلم التي كانت تنتشر في أرجاء المسجد النبوي الشريف خاصة في بواكير الصباح، حيث حدث عبدالله بن عمرو بن العاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بمجلسين أحدهما فيه دعاء وإقبال على الله، والآخر فيه علم، فأقرهما وقعد في مجلس العلم، وشجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استخدام الوسائل المتاحة آنذاك لتوضيح المعاني والدروس سواء كانت بصرية أو سمعية، ومن أمثلة ذلك ما رواه ابن مسعود بقوله: خط لنا رسول الله خطا بيده ثم قال: (هذا سبيل الله مستقيماً)، وخط عن يمينه وشماله ثم قال: (هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه) ثم قرأ: ((وإن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله))(الأنعام 153).
ولو أن الوسائل التعليمية المتاحة لنا في عصرنا هذا وجدت في عصر رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه - لحثَّ على استعمالها، وكان أول من يستعملها - صلى الله عليه وسلم -.
واستمر المسجد في التطور والنمو جيلاً بعد جيل، ليؤدي مهامه في صناعة الحياة، ليصبح جامعات ومنارات علمية وفكرية رائدة، والأمثلة كثيرة نذكر بعضها مثل: جوامع الألف - وسميت كذلك لأنه مضى على تأسيسها أكثر من ألف عام - مثل: جامع عمرو بن العاص قلب الفسطاط الفكري، ومهد الحركة العلمية في مصر، والذي كان يشهد مئات الزوايا العلمية، والجامع الأموي في دمشق، وجامع المنصور ببغداد، وجامع القرويين في فاس بالمغرب الذي امتاز بالنظام التعليمي الجامعي، وطرق التدريس فيه، فكان له شروط دقيقة للتعيين، ووظائف التدريس، وتخصيص كراسي الأستاذية، والإجازات الفخرية، وكان له مساكن جامعية خاصة للطلبة والأساتذة، ومكتبات متخصصة للدارسين الجامعيين، فقصدها المسلمون وغير المسلمين من شتى أرجاء العالم، أما جامع الزيتونة بتونس فقد أبدع في شتى مجالات العلوم النقلية والعقلية، وضمت مكتبته العامرة ما يزيد عن مائتي ألف مجلد، وكذلك كان حال الجامع الأزهر الذي بدأ كغيره كمسجد لإقامة الشعائر التعبدية وسرعان ما أصبح جامعة يدرس فيها العلوم المختلفة، وتخرج فيها علماء عمالقة في كل مجالات الحياة.(5/69)
واشتركت كل هذه الجامعات العظيمة في تشجيعها لطلبتها على مبدأ المناقشة والمناظرة والتمرس عليها، فأصبح من المألوف أن يخالف الطالب أستاذه في الرأي في إطار الأدب المتعارف عليه، وبهذا أوجدت المدرسة العظيمة التي يطلق عليها بالمسجد - بمفهومه الشامل - أجيالاً ستظل معجزة العالم ومفخرته، ولها فضل على كل علوم الدنيا شرعية أو كونية أو إنسانية، حيث كوَّنت أساس النهضة العلمية والصناعية في الغرب.
وحظي القرنان الخامس والسادس الهجريان بالتوسع في بناء المدارس المنفصلة عن المساجد، مما أدى تدريجياً إلى فقد شمولية التعليم في حلقات المسجد ليقتصر على العلوم الشرعية، وبدأ الضعف العلمي يدب في الأمة، ومما زاد في تسارع الضعف والانهيار حدوث كوارث ثلاث في تاريخ أمة الإسلام على مدى ثلاثة قرون:
أما الأولى فهي حرق مدينة الفسطاط عام 564هـ، وأما الثانية فهي تخريب وحرق التتار لبغداد مركز الحضارة الإسلامية آنذاك في عام 656هـ، أما الكارثة الثالثة فهي سقوط الأندلس عام 897هـ.
وبفقد المسلمين للزعامة العلمية تم فقد قيادة الإسلام للبشرية، وورثت أوروبا التراث العلمي، فحمله أبناؤها وقدروه حق قدره، فرفع قدرهم ليتسلموا من المسلمين الزعامة العلمية وقيادة البشرية، وأصبح المسلمون يتخبطون في الجهل، وضاعت هويتهم الإسلامية، فبدأوا يفصلون بين التعليم الديني والتعليم الدنيوي وهو مفهوم غريب عند جيل عمالقة المسلمين، وانفصل بذلك البعد الروحي والخلقي والتربوي للمسجد عن العلوم الدنيوية، فضعف التحصيل في علوم الدنيا التي فيها قوام الحياة، وعمل الاستعمار على تقليص التعليم الإسلامي الشامل، فعملت بريطانيا على الأزهر، وفرنسا على جامع القرويين في فاس، وكذلك الحال بالنسبة للزيتونة بتونس، ومن وسائل تحجيم وتحييد هذه المساجد الجامعية إضعاف أوقافها، وتخرجت أجيال ممن صبغت بغير صبغة الله وبغير صبغة مدرسة الإسلام، وابتعد المسلمون أكثر فأكثر عن مفهوم الشمولية العلمية، وعمارة الأرض، والأخذ بأسباب كل ما يقيم الحياة ويبنيها، بل وعندما فقدت صبغة المسجد فقد الإخلاص في تلقي العلوم، وسخرت أمم أخرى العلوم بمعزل عن القيم الروحية وما يصلح النفس البشرية.
إن ضعف دور المسجد هو انعكاس لضعف الأمة الإسلامية، ولن تكون الصحوة الإسلامية إلا عندما يقوم المسجد بدوره الشامل، ويرتقي بأساليبه ووسائله التربوية والتعليمية بما يتناسب مع احتياجات العصر ومقتضياته، ليصبح قلب الحياة الإسلامية من جديد، وهو واجب عصري حيث لا يتم واجب تعليم الجيل إلا به.
إن هناك جهوداً حثيثة لإعادة دور المسجد في بناء الحضارة وصناعة الحياة، ومن هذه الجهود ما تقوم به الجمعية الإسلامية في بوسطن من إقامة أضخم مركز حضاري في أمريكا يشمل مسجداً جامعاً ومدرسة ومكتبة تكون مرجعاً للباحثين ومركزاً لدعوة غير المسلمين وقاعات للمحاضرات.
وسيبنى المسجد - إن شاء الله - في موقع متميز بجوار المدينة الطبية والجامعات الكبرى مثل هارفرد وجامعة بوسطن على أرض قدمت للمسلمين بسعر رمزي لأول مرة في تاريخ أمريكا، وسيكون هذا موضوعنا القادم إن شاء الله.
(ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها).
___________________
المرجع: المسجد ودوره التعليمي عبر العصور من خلال الحلق العلمية لعبدالله الوشلي.
* استشاري غدد صماء وسكر، ورئيس برنامج في مركز جوزلن للسكر، وعضو هيئة تدريس كلية طب جامعة هارفرد - بوسطن، وعضو مجلس أمناء الجمعية الإسلامية في بوسطن.
http://saaid.net المصدر:
===============
العمران والحضارة عند ابن خلدون
ناجي بن الحاج الطاهر
لم يعد الحديث عن أزمة العالم محور جدل اليوم، بل صار محور تلاقٍ لمختلف التيارات الفكرية في كل البلاد. كما أن تلك الأزمة بحد ذاتها أصبحت إشكالاً يُمثلُ - للمفارقة - عاملَ توحيد بين مختلف الأمم المتواجدة على الساحة العالمية في هذا العصر.
وفي هذه اللحظة الخانقة من تاريخ البشرية، تُطرح "العالمية" أو "العَولمة" على أنها مشروع لحل أزمة العالم اليوم بمختلف أجناسه وشعوبه. ويتجسد طرح العولمة في صورٍ مختلفة، فهي مرةً "نهاية التاريخ"، وهي مرة أخرى "توحيد الأسعار وفتح الحدود"، ومرة ثالثة هي "الإنترنت"، مرورا بـ "كوكلة" العالم (حيث يشرب العالم كله الكوكاكولا) على حد تعبير الدكتور المسيري. ويغيب عن بال البعض أن تلك العولمة هي في حقيقة الأمر - بشكلها الحالي - تعبيرٌ عن الأزمة أكثر من أن تكون حلاً لها.
إلا أن الشكل الذي تُطرح به العولمة لا يجب أن يحجب عنا المظاهر العديدة التي تجعل منها واقعا مُعاشا. فهناك تداخل العلاقات الدولية إلى حدٍ يستحيل معه أي قرار داخلي دون اعتبار الآخر الخارجي، وهناك سرعة انتقال المعلومات وتجاوزها الطبيعي للحدود الدولية، وهناك عالميةُ مشكلة البيئة، وعالميةُ مسألة الهجرة، وعالمية التجارة كمُعطى وليس كخيار.. والوعي المشترك والمتزايد للبشرية بوحدة مصيرها، ومدى التأثير العالمي على الأحداث الداخلية (راوندا، البوسنة، أفغانستان...). كل هذا وغيره يجعل من الضروري لمن يريد أن يفكر في مصير البشرية اليوم من موقع المسؤولية أن يتفكر في شأن مفهوم العالمية في شكل من الأشكال.
وفوق ذلك، فالعولمة أو العالمية عند المسلمين فكرة ذات مستوى معرفي، وذات بعد ديني في الوقت نفسه، وذلك لارتباطها عندهم بفكرة الخاتمية. الأمر الذي يجعل مسؤولية المسلمين في هذا المجال مزدوجة، ويدعوهم لجعل فكرة الخاتمية تلك ممكنة على صعيد الواقع والنظرية على حد سواء.
من هنا، وسواء طُرح الإسلام كبديلٍ أو كشريكٍ حضاري، فإن من غير الممكن الاستغناء عنه في بناء حضارة عالمية تُمكِّنُ العالم من تجاوز أزمته. إلا أن أي محاولة للإسهام في هذا الأمر من قبل المسلمين كطرفٍ عالمي تتطلب فهما وبحثا معرفيا عميقا لمفهومين أساسيين هما: العمران والحضارة. ذلك أن الموجود إلى الآن في تاريخ المسلمين المعاصر لا يمثل سوى محاولاتٍ لترجمة ما عند (الآخر) من عطاء ثقافي يتعلق بهذين المفهومين.
وقد قصدنا الحديث عن التاريخ المعاصر، لأننا نجد في تاريخ المسلمين ما قبل المعاصر أن عبد الرحمن بن خلدون طرح مسألتي العمران والحضارة كظاهرتين بشريتين بشكل متكامل. فابن خلدون الذي ولد في تونس سنة 1332 للميلاد عاش لحظة أزمة عالمية تتطلب التفكير العميق في التحول الحاصل من جرائها، فهاهو يقول "وإذا تبدلت الأحوال جملةً فكأنما تبدّلَ الخلقُ من أصله وتحول العالم بأسره وكأنه خلقٌ جديد ونشأةٌ مستأنفةٌ وعالَمٌ مُحدَث"1. ولذا تبرز مسؤوليته في إعادة كتابة التاريخ كضرورة، يقول "فاحتاج لهذا العهد من يدون أحوال الخليقة والآفاق والأجيال والعوائد والنِّحل التي تبدلت لأهلها ويقفو مسلك المسعودي لعصره"2.
ومن هنا، يتبين السبب الكامن وراء إعادة قراءتنا للفكر الخلدوني متمثلا في استقلاله عن غيره من المسلمين عند تحديد مفهومي العمران والحضارة من وجهة نظر معرفية إسلامية، وذلك من واقع وعيه بالأزمة من داخلها، وشعوره بالمسؤولية للخروج منها. وربما تُساعد مشاركة ابن خلدون على إقامة حوار تعارف مع الحضارات الأخرى من منطلق انتمائها الحضاري الأصيل، بعكس كثيرٍ من المساهمات التي لا تُمثّلُ سوى الآخر مترجما، ذلك لأن الشريك غير المترجم دائما في حوار الحضارات...
العمران عند ابن خلدون(5/70)
يقدم ابن خلدون الإنسان على أنه كائن اجتماعي لا تصح حياته بدون مجتمع "فالاجتماع ضروري للنوع الإنساني وإلا لم يُتخيل وجودهم وما أراد الله من اعتمار العالم بهم واستخلافه إياهم"3، كما أن الإنسان نفسه مهيأٌ خَلقيا للعيش مع الآخر، وهو يحتاج يده "المهيأة للصنائع"4 وذلك لجعل حياته ممكنة. والملاحظ هنا أن العمران يكتسب معنا معرفيا عميقا حيث يصبح مرتبطا بغاية خلق الإنسان، وتصبح خلافة الإنسان في الأرض مسؤولية كل فرد على تحقيقها في ذاته أولا، بحيث تكون من هذا الوجه مسؤولية فردية، ثم على تحقيقها اجتماعيا داخل العمران الإنساني كمسؤولية جماعية.
وكذلك فإن ابن خلدون يؤكد على أن الإنسان هو صاحب مصيره، وهو المسؤول عنه، على عكس الحيوانات الأخرى، وذلك "لما أراد الله من تكوين الحيوانات فيها وعمرانها بالنوع البشري الذي له الخلافة على سائرها"1. وربما كان من المناسب أن نقف هنا وقفة صغيرة عند إشارة ابن خلدون للحيوانات بـ "التكوين" وإشارته المقابلة للنوع البشري بـ "العمران"، وعلاقة تلك الإشارات بمسألة "الاختيار" و "الحرية" فيما يتعلق بالمصير البشري. فوجود الحيوانات على هذه الأرض ومصيرها فيها إنما هو وجودُ "تكوين" محدد المصير والوجهة والهدف والغاية، ولذلك تضع بعض الحيوانات بيضها في مكان ما ثم تمضي بعيدا في عمق الحياة دون عودة إلى ذلك المكان ودون قلق على مصير الذرية. بينما يبلغ الولد العشرين من العمر في التجربة البشرية وهموم مصيره ومآله ومستقبله تلاحق الأب وتؤرق الأم. لأن الأمرَ أمرُ اختيارٍ للمصير، لا يطمئن الوالدان إلا بعد استيقان صوابه ورشاده وفق مقاييسهما أياً كانت.
أما الخلافة في كلام ابن خلدون فإنها تأخذ شكل الهيمنة، التي وإن كانت تتربع على أعلى موقعٍ في سُلَّم المخلوقات، إلا أنها هيمنةٌ مسؤولةٌ دورها الأساسي هو المحافظة على الحياة أولاً، ثم الوصول إلى أكمل صورة ممكنة لها في هذه الدنيا. ذلك أن من الممكن أن يصل الإنسان إلى نوع من السيادة المطلقة في هذا العالم، ولكن هذه السيادة تكون سيادةَ شرٍ وعدوان واستغلال كما هي الأمثلةُ صارخةٌ على ذلك في هذا العصر.
والأمر الآخر الهام في الطرح الخلدوني هو تأكيده على ضرورة وجود "الوجهة" كأمرٍ لابد منه لكي يوجد العمران ويتحرك ويتكامل. وكلما ارتقى الإنسان في تحديد وتمييز تلك الوجهة، بحيث تكون وجهةً إلى الحق، ازداد تكامل العمران البشري على هذه الأرض. وحيث أنه يقسم العمران إلى درجات، تبدأ بالعمران البدوي الحاجي الأولي، وتنتهي بالعمران الحضاري الكمالي التكاملي، فإن شرط التحول والانتقال من العمران البدوي إلى ما بعده إنما هو وجود تلك "الوجهة" التي تعني الغاية والهدف والطريق الذي يحرك الإنسان في هذه الحياة.
إلا أن ابن خلدون يلفت انتباهنا إلى تأثير نمط الحياة المعين على المآلات المستقبلية "فاختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو اختلافُ نحلتهم من المعاش... فمن كان معاشه في الزراعة مثلا كان المقامُ به أَولى، وهؤلاء سكان القرى والمدن والجبال وهم عامة البربر والأعاجم، ومن كان معاشه من السائحة مثل الغنم والبقر فهم ظُعَّنٌ في الأغلب... وهؤلاء مثل البربر والترك وإخوانهم من التركمان والصقالبة، وأما من كان معاشهم من الإبل فهم أكثر ظعنا وأبعد في القفر مجالا... وهؤلاء هم العرب وفي معناهم ظعون البربر وزنانة بالمغرب والأكراد والتركمان والترك بالمشرق، إلا أن العرب أبعد نجعة وأشد بداوة لأنهم مختصون على القيام بالإبل فقط، وهؤلاء يقومون عليها وعلى الشياه والبقر معها.. "1 وهنا نجد كيف يتحول العمران عند ابن خلدون إلى مصطلح متحرك، يرتبط لزوما بنمط حياة المجموعة البشرية ونمط حركتها على الأرض. فالقيام برعي الإبل - على سبيل المثال - يتطلب التوغل في الصحراء عند العرب، وهذا بدوره يجعل الاجتماع مغلقا غير قابلٍ للاتساع، أي يجعل العمران راكدا حاجيا بسيطا في الإجمال.
ولكي يكتمل الحديث عن الاجتماع والعمران فإن من الضروري الإشارة إلى تعريف ابن خلدون للعصبية. ذلك أن هذه "العصبية" هي ما يجعل الاجتماع البشري ممكنا، بحيث يقود ذلك الاجتماع فيما بعد إلى إمكانية قيام العمران. فالتسلسل عند ابن خلدون يصبح كالتالي:
عصبية ===> اجتماع بشري ===> عمران
ولقد تعددت الأقوال في تحديد رؤية ابن خلدون للعصبية وتعريفه لها عند الباحثين العرب والمسلمين من جهة والغربيين من جهة أخرى، الأمر الذي لا يتسع بحثه في هذا المقام. إلا أن ما لا يمكن تجاوزه هو الإشارة إلى المنهجية التي يجب اتباعها عند محاولتنا تحديد ماهية ذلك المفهوم عند ابن خلدون. والخطوة الأولى في هذا المجال تتمثل في ربط مجمل الأمثلة التي يطرحها بعضها بالبعض الآخر لاستخراج فهمٍ أوليٍ لها، ثم ربط ذلك الفهم الأولي ببقية المصطلحات التي يطرحها مثل العمران والاجتماع الإنساني والغاية والوجهة بقصد تعديل ذلك الفهم الأولي واستخراج فهم أكثر تحديدا للمراد من مفهوم "العصبية".
وباتباع تلك المنهجية نجد أن رؤية ابن خلدون للعصبية تجعله مفهوما متساميا على النسب والولاء والحلف والقرابة، ولكنه في نفس الوقت ليس مستقلا عنها. والمسؤولية الإنسانية المنبثقة من الخلافة هي التي تعطي للعصبية طابعها المعين في زمان معين ومكان معين. فإذا تحققت تلك المسؤولية عند المجموعة البشرية ساهمت العصبية في إقامة العمران، أما إذا غابت فإن دورها لا يصبح محايدا فقط، بل إنها يمكن أن تتحول إلى عامل تدمير وتخريب للعمران.
ويلاحظ ابن خلدون أن العصبية البالغة القوة عند القبائل المتوغلة في الصحراء كانت قاتلةً لكل انفتاح اجتماعي ممكن، بحيث أصبح أصحابها أبعد الناس عن العمران والحضارة. فالقضية هنا ليست قضية غياب العصبية، وإنما في عدم قدرتها على الإبصار. بمعنى أن الاجتماع البشري يصبح خاضعاً لها مُستلَباً أمامها، فاقداً للقدرة على وضعها في موضعها. وفي مثل هذه الحالة بالضبط تبرز بكل وضوح رؤية ابن خلدون لدور الدين من ناحية قدرته على توظيف "العصبية" وإعطائها قوة "الإبصار" بحيث تعود الحركة لتتوجه نحو تكامل العمران. والأمر الذي ينبغي الانتباه إليه أن الدين بهذه الرؤية إنما هو عاملٌ مؤثرٌ في العصبية وموجهٌ لها، وليس أصلا لها كما يُفهم في بعض الأحوال.
أما تحليل ابن خلدون لدور الدين بذلك الشكل فإنه يشرحه بقوله عن العرب "... وأنهم لخلق التوحش الذي فيهم أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض، والأنفة وبُعد الهمة والمنافسة في الرئاسة، فقلَّ ما تجتمع أهواؤهم. فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم وذهب خُلُق الكبر والمنافسة منهم، فسهُل انقيادهم واجتماعهم وذلك بما يشملهم من الدين المُذهب للغلظة والأنفة الوازع عن التحاسد والتنافس"1. وواضحٌ أن المسألة هنا لا تتعلق برفض الهوى ابتداءً، وإنما بالقدرة على التحكم فيه وتوجيهه إلى الحق، أي في وجود "الوجهة" المطلوبة.(5/71)
ولذلك يلاحظ ابن خلدون أن الدعوة الدينية تزيدُ الدولة قوة فوق قوة العصبية التي كانت لها، والسبب في ذلك "أن الصبغة الدينية تذهب بالتنافس والتحاسد الذي في أهل العصبية وتفرِّد الوجهة إلى الحق، فإذا حصل لهم الاستبصار في أمرهم لم يقف لهم شيء لأن الوجهة واحدة والمطلوب متساوٍ عندهم، وهم مستميتون عليه، وأهل الدولة التي هم طالبوها [أي الدولة التي يواجهونها] وإن كانوا أضعافهم فأغراضهم متباينة بالباطل، وتخاذلهم لتقية الموت حاصل، فلا يقاومونهم وإن كانوا أكثر منهم بل يغلبون عليهم ويعالجهم الفناء بما فيهم من الترف والذل"2.
والعصبية التي تلعب ذلك الدور الهائل، والتي تشكل عصب المجموع، تتمثل في ميدان الواقع من خلال التنافس في الخلال الحميدة "وخلال الخير شاهدة بوجود الملك لمن وُجدت له العصبية. فإذا نظرنا في أهل العصبية ومن حصل لهم من الغلب على كثير من النواحي والأمم، فوجدناهم يتنافسون في الخير وخلاله، من الكرم والعفو عن الزلات والاحتمال من غير القادر والقري للضيوف وحملِ الكلِّ وكسب المعدم والصبر على المكاره والوفاء بالعهد وبذل الأموال في صون الأعراض وتعظيم الشريعة وإجلال العلماء والعاملين لها.. والانقياد إلى الحق مع الداعي إليه.. والتدين بالشرائع والعبادات والقيام عليها وعلى أسبابها والتجافي عن الغدر والمكر والخديعة ونقض العهد"1.
وظاهرٌ ما في تلك الصورة من تحقيقٍ للمسؤولية الإنسانية المنبثقة من الخلافة. فالاستخلاف يضع البشر على أعلى رتبة في سلم المخلوقات، بشرط أن يصاحبَ البقاءَ في ذلك الموقع الشعور الدائم بالمسؤولية التي تتطلبها أمانة الاستخلاف.
ثم تأتي عند ابن خلدون مرحلة الدولة كغايةٍ للعصبية، وكضرورةٍ لدخول العمران البشري مرحلة الكمال "فالدولة دون العمران لا تُتصور والعمران دون الدولة والمُلك متعذر"2. وطريق العصبية إلى الدولة سالكٌ عند ابن خلدون ما لم تعترض العصبية في طريقها إلى المُلكِ عوائق مثل: حصول الترف وانغماس القبيل في النعيم، أو المذلة للقبيل والانقياد إلى سواهم.
وكما ينتقل العمران من العمران البدوي إلى العمران الحضري فإن الدولة هي الأخرى تنتقل من البداوة إلى الحضارة "فطور الدولة من أولها بداوة ثم إذا حصل المُلكُ تبعه الرَّفهُ واتساع الأحوال. والحضارة إنما هي تفننٌ في الترف وأحكام الصنائع المستعملة.. "3. وفي هذه المرحلة يلوح خطر طغيان عالم الأشياء. لأن قوة الدولة تزداد وحصول الاستيلاء يتمُّ وعِظَمَ واستفحال المُلكِ يتفاقم "فيدعو إلى الترف ويكثر الإنفاق بسببه، فتعظم نفقات السلطان وأهل الدولة على العموم بل يتعدى ذلك إلى أهل المصر، ويدعو ذلك إلى الزيادة في أعطيات الجند وأرزاق أهل الدولة، ثم يُعظَّم الترف فيكثر الإسراف في النفقات وينتشر ذلك في الرعية"1. ويبدأ الاجتماع البشري في التوجه إلى لحظات أزمةٍ خانقة، لا يحلها على الإطلاق زيادة الإنتاج، بل إن تلك الزيادة تساهم في تعفين الأجواء وتعميق الأزمة.
إن هذه اللحظة هي لحظة الاكتمال الطاغي للعمران الناتج عن لحظة سيادة عالم الأشياء (أي المنتجات والماديات)، وذلك عبر مثلث جهنمي متناقض يتمثل في طغيان توفر الأشياء من جهة، وشدة البحث عنها من جهة أخرى، والضعف المتناهي للتحكم فيها والقدرة على وضعها موضعها من جهة ثالثة. وبدلاً من أن يمتلك الإنسان الأشياء في هذه اللحظة، يصبح هو - عملياً - مُلكاً لها، لأن امتلاكها صار محور حياته وحركته، وصار هو "الوجهة" و"الغاية".
ولذلك تصبح المفارقة في مثل هذا العالم أن موت الإنسان من الجوع - وهو ما يحصل كثيرا، وبشكلٍ يشينُ كل حضارة إنسانية معاصرة - لا يعود مرتبطا بفقدان عالم الأشياء.. وإنما من تحقق عالم الأشياء وتكدسها، وما ينتج عن ذلك التكدس من مناهج في الحياة والتفكير والتعامل بين الإنسان وأخيه الإنسان.
وفي هذه اللحظة تستحيل "الوجهة" التي أنتجت الحضارة عبر تحرك العمران نحو تحقق عالم الأشياء، ثم تفقد "العصبية" القدرة على توحيد الأهواء باتجاه تلك الوجهة وتبدأ هي أيضا في التلاشي، ليكون تلاشي العصبية أخيرا مُفضياً إلى تلاشي الدولة كليا "إلى أن تضمحل كالذبال في السراج إذا فني زيته وطفيء والله مالك الملك ومدبر الأكوان لا إله إلا هو"1.
وهنا ينتهي تجوالنا مع ابن خلدون في تتبّعهِ لرحلة قيام العمران البشري وسقوطه، لننتقل في ختام هذا البحث إلى تحديد واستخلاص بعض المعالم الأساسية التي يمكن أن تُستفاد من هذه التجربة الخلدونية.
وأول ما نلاحظه في هذا الصدد أن ابن خلدون كان - وهو يحاول أن يفهم أزمة حضارته - مضطرا خلال عمليته التنظيرية إلى تأصيل مفاهيم جديدة تتجمع وتتكامل داخل النسق المعرفي الإسلامي، فهو لم يخرج على الدوائر العامة الكبرى للتصور الإسلامي للإنسان والحياة والكون، ولكنه - في الوقت نفسه - لم يجد نفسه مُلزما باستعمال نفس الأدوات والمصطلحات والتعابير، ولا حتى المنهجية الفكرية التي كانت شائعة في العالم الإسلامي في عصره أو ما قبل عصره، حين رأى أن تلك المصطلحات أو المنهجية لن تمكنه من القيام بواجبه، ومن أداء دوره الخاص والمتميز. بل إن هذا الأمر بالذات هو ما مكّنهُ من تقديم عطائه المبدع بشكل جعله بحق أول من حاول بشكل متكامل إيجاد تصورٍ إسلاميٍ معرفيٍ للحضارات وللاجتماع الإنساني وحركته على وجه الإجمال. وفي هذا عبرةٌ بالغة لكل من يحاول اليوم قسر مسيرة الإنتاج العلمي والفكري والبحثي على سلوك المنهجية الفكرية التقليدية، أو على استخدام نفس مصطلحاتها وأدواتها ومواضيع بحثها في كل زمان ومكان...
أما الأمر الآخر الذي يمكن استخلاصه فإنه يتمثل في قيمة العطاء الخلدوني في عملية الحوار والتعارف الحضاري المطلوبة. والجدير بالذكر هنا أننا لم نعمد - قاصدين - في هذا البحث إلى مقارنة المفاهيم الخلدونية كالعمران والحضارة بمفاهيم civilization أو culture الشائعة ليس خوفاً من عدم معاصرة ابن خلدون، وإنما لرأينا بأن قيمة التصور الخلدوني إنما تكمن ابتداءً في أصالته واستقلاله وتكامله. فقيمةُ طرحهِ ليست في اختلافه أو توافقه مع الآخر، وإنما في تحركه كوجودٍ أصلي وفعلي يستطيع أن يقيم علاقة حوار وتعارف مع الآخر. وهذا يختلف جذريا عن الحوار المبني على ترجمة ما عند الآخر، أو بتعبير ثانٍ "الآخر محرَّفاُ". حيث لا يمكن لمثل هذه المشاركة أن تقيم تعارفاً، وإنما تعطي - في أحسن حالاتها - تسامحا. وهو تسامحٌ يكون مُلكا للآخر وهو يتعامل مع من يريد مشاركته عبر ترجمته.
هذا فضلا عن أن أسلوب المقارنات الذي يبحث عن الاتحاد في الآخر وربما الفناء فيه، أو عن نفيه وإلغائه وتغييبه، هو أسلوب قاتلٌ للتعارف، لأن التعارف يستلزم أولا وقبل كل شيء إيمانا بحقيقة التعلم من الآخر، حتى في حالة تعليمه.
والأمر الثالث الذي يجب الانتباه إليه هو أن مفهومي civilization و culture، تماما مثل مفهومي العمران والحضارة، وسواها من المفاهيم، ليست مفصولة بحال عن التجربة التاريخية والرؤية الكونية للأمة التي تُبحث هذه المفاهيم فيها. بحيث تصبح عملية المقارنة عبر الترجمات مدعاةً للتشويه والتشويش، أكثر من كونها مجالَ حوار وتعارف.(5/72)
وأخيرا، فإن المشاركة الخلدونية تستمد قيمتها البالغة اليوم من واقع قدرتها على المساهمة في تحليل الأزمة العالمية المعاصرة، التي تتمثل أيضا أكثر ما تتمثل في طغيان وسيادة عالم الأشياء، الذي انبثق من وصول الحضارة الغربية الغالبة اليوم إلى ما يمكن أن يكون لحظة اكتمالها كتجربةِ اجتماعٍ بشريٍ راهن، شكَّلَ البحثُ عن تَحقُّقِ عالم الأشياء محورَ وجهتها، حيث ارتبط خلاص الإنسان بمفهوم الرفه المادي. وبهذه الرؤية فإن ابن خلدون - الذي تحدث عن هذا الواقع وتنبأ بحدوثه كلما توافرت شروطه - يمكن أن يكون معاصرا أكثر بكثير من بعض مفكري اليوم في الشرق والغرب سواء، ممن لا يمتلكون النفاذ إلى أعماق الأزمة البشرية، وإنما ينحصر عملهم في بحث الظواهر والأعراض الخارجية ومحاولة علاجها...
إن خلاص البشرية عند ابن خلدون لا يمكن أن يكون عبر مزيدٍ من الإنتاج، أو عبر مزيدٍ من التأكيد على الرفه المادي الناتج عن الثورة في عالم الأشياء. وبالتأكيد فإنه لا يمكن أن يتم عبر مزيد من الاستهلاك. والمفارقة أن عدم القدرة على مقاومة الاستهلاك كانت هي ابتداءً - بقدر الله - سبب خروج الإنسان من الجنة، حين ضعف عن مقاومة "مُنتَجٍ" وحيد فقط من كل "المنتجات" الموجودة في الجنة والمُحلَّلةِ له. فكيف يمكن له أن يعود إلى الجنة عبر عملية الاستهلاك نفسها تلك؟؟...
إن أهمية الطرح الخلدوني في هذا الباب تكمن في رؤيته الدقيقة وتمييزه المحدد للعلاقة الحساسة بين العمران والحضارة. ومن المهم أن يركز الإنسان في فهمه لهذه المسألة. فالعمران عنده "يتحرك" دائما، وهو يتحرك وفق "وجهة" معينة. وحين تأخذ "حركة" العمران "وجهة" تحقق عالم الأشياء والرفه المادي كغايةٍ تُمكنُ الإنسان من الخلاص تتحقق لحظة الحضارة. ولذلك يربط ابن خلدون نهاية العمران وخروجه إلى الفساد بلحظة تحقق الحضارة عبر غياب "الوجهة" التي تحرك الاجتماع البشري نحو الحق. وذلك حين تنحصر تلك "الوجهة" منذ اللحظة الأولى وتتحدد في بحثها عن النجاة عبر تحقيق عالم الأشياء، وحين ينسى الإنسان خطورة الاستلاب أمام ذلك العالم، ويغفل عن ضرورة بناء المنظومة الاجتماعية بشكل يتم فيه تنمية الرفض الاجتماعي المتوازن لعالم الأشياء، رغم العمل - في الوقت نفسه - على توفير ذلك العالم وإيجاده. وفي هذا المعنى بالذات يأتي القول العظيم المأثور: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبد، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا.
إن التصور المعرفي الإسلامي لا يحمل عداوةً أساسية وأصيلة لعالم الأشياء. فالدلالات على "الحياة الطيبة" وعلى تسخير الكون لراحة الإنسان في هذه الدنيا، ومعالم الحض على العمل والسعي والإنتاج في الأرض، أكثر من أن تُحصى أو تُعدّ في مصادر التصور الإسلامي. وإنما يتمثل التحدي في كيفية التمكن من تكاملٍ متوازن للعمران، يتحكّمُ في عالم الأشياء ويستعمله لخير الإنسان، دون أن يجعله هو المتحكم في مصير الإنسان من ناحية، ودون أن يلغيه بشكل كامل من ناحية ثانية.
ولا يكون ذلك التكامل إلا عبر الوسطية التي تمثل البديل الوحيد من طرفي النقيض الآخرين أمام الاجتماع البشري، المتمثلين في الرهبانية المطلقة أو المادية المطلقة. وهو ما سنتحدث عنه في مقال قادم بعون الله.
وأخيرا، تتضح من هنا عَظَمةُ وأهمية فكرة "الخاتمية"، من حيث كونها مصدر تلك الوسطية، ومن حيث كونها القادرة - في المستوى الاجتماعي - على تحويل الحضارة إلى شهادةٍ على البشرية، تتحقق عبرها كل المعاني الممكنة في الآية الكريمة {إني أعلم ما لا تعلمون}.
---------------------------------------
1 مقدمة ابن خلدون، ص 36.
2 المقدمة، ص 36.
3 "وهذا هو معنى العمران الذي جعلناه موضوعا لهذا العلم". المقدمة، ص 47.
4 المقدمة، ص 47.
1 المقدمة، ص 45.
1 المقدمة، ص 134.
1 المقدمة، ص 166، 167.
2 المقدمة، ص 174.
1 المقدمة، ص 157.
2 المقدمة، ص 416 - 417.
1 المقدمة، ص 190.
2 المقدمة، ص 328.
1 المقدمة، ص 329.
http://www.alrashad.org المصدر:
===============
الحضارة الإسلامية بين أسباب التدهور وعوامل النهوض
الدكتور إبراهيم غانم
حتى وقت قريب ساد الظن لدى كثيرين من المعنيين بشؤون الفكر والإصلاح الاجتماعي العام أنه قد تم التغلب على مشكلة الاحتلال العسكري الذي جثم على أغلبية البلدان العربية والإسلامية (ولم يبق إلا الاحتلال الاستيطاني الصهيوني)، وأن عبء التحرر من الاستعمار المباشر قد زال إلى غير رجعة، وأن ما تملكه الأمة من طاقات يمكن أن يستثمر من أجل التصدي للمشكلات، وحتى وقت قريب أيضاً ساد الظن بأننا ماضون على طريق التخلص من المشكلات الأخرى التي أعاقت التقدم وعطلت نهضة الأمة منذ قرنين من الزمان تقريباً، ومن ذلك القضايا المتعلقة بالاستبداد السياسي، والظلم الاجتماعي، والحريات العامة، وأوضاع المرأة، والانحطاط الأخلاقي.
ولكن بدلاً من التقدم إلى الأمام إذا بمجتمعاتنا العربية والإسلامية تجد نفسها تتقهقر إلى الخلف، وإذا بالقضية التي ظننا أنها حُلت تعود بشكل أكثر شراسة، ألا وهي قضية الاستعمار في شكله العسكري المباشر، إلى جانب أشكاله الفكرية والثقافية والاقتصادية والتشريعية غير المباشرة الأخرى التي لا تزال تراوح مكانها. إن الأحداث الجارية في الآونة الأخيرة، كلها تشير إلى عودة الشعور بالتبرم بشكل مضاعف مع عودة مشكلة الاحتلال العسكري التي غلب على الظن أنها قد حسمت، وأن حزمة المشكلات قد أعيد إليها ما نقص منها في وقت سابق، بما تحمله هذه العودة غير الحميدة من ضرورة إعادة ترتيب أولويات التصدي لهذه المشكلات؛ وكأنه لم تمر مائتا سنة أو يزيد عندما نهضت قوى الأمة الحية لمواجهة الغزو الغربي ورفعت في وجهه راية الجهاد. ومن ثم فإن من المنطقي أن يعاد طرح السؤال الأكبر الذي تدخل تلك المشكلات كلها تحت عباءته ألا وهو: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم(1)؟
لقد طرح هذا التساؤل، وبهذه الصيغة التي تقارن بين المسلمين وغير المسلمين، لدى رواد الفكر والإصلاح الإسلامي في العصر الحديث؛ أي منذ ما يقرب من مائتي عام، ولم تختلف الإجابات التي قدموها إلا في بعض التفاصيل، أما جوهر الأسباب كلها فقد كان واحداً لديهم وهو أن البعد عن جوهر الإسلام هو سبب الأسباب التي أدت إلى التدهور، وأن التمسك بهذا الجوهر هو سبب الأسباب التي تقود إلى النهضة.
وأياً ما كان الأمر فمثل هذا التساؤل يعدُ تساؤلاً أساسياً وحساساً في آن واحد؛ فهو أساسي لأن الإجابة عنه سوف تعبر عن مدى وكيفية فهم صاحب الإجابة للواقع الذي صار إليه حال المسلمين، ومثل هذا الفهم بدوره أمر ضروري، كمقدمة ومدخل للتعامل مع هذا الواقع ووضع خطة لتغييره إلى ما هو أصلح. وهو تساؤل "حساس" بالنسبة للمسلمين خاصة لأنه في صيغته المقارنة يفتح الباب للمناقشة حول "الإسلام ذاته" وما إذا كان سبباً في انحطاط المسلمين؛ حسبما يزعم البعض.(5/73)
ويبدو لنا أن من اللازم بداية بيان: لماذا نهض المسلمون وازدهرت حضارتهم وسادت الدنيا أول مرة؟ وذلك قبل المضي في بيان أسباب انحطاطهم وأفول نجم حضارتهم، فثمة علاقة وثيقة بين الأمرين كما تقضي بذلك شهادة التاريخ، فقد شهد أنهم يوم تمسكوا بتعاليم الإسلام سادوا وشادوا وعمروا الأرض وأناروا للإنسانية طريق التقدم والرقي، وقدموا حضارة امتدت منافعها إلى كل المجالات. بعد ذلك ابتعدوا عن التعاليم السامية لهذا الدين، وجهلوه وأهملوه، ولبسوه كما يُلبَس الفرو مقلوباً... فوصلوا إلى ما هم فيه، وسيظلون كذلك حتى يعودوا إلى دينهم مرة أخرى عودة صادقة وصحيحة.
وإذا كانت "العلة" في تنكر المسلمين لدينهم كما يرى كثيرون من رواد الإصلاح فإن ما يوقع في الحيرة هو: لماذا إذن تخلى المسلمون عن تعاليم دينهم وأهملوها بعد أن رأوا أنها كانت سبب عزهم ومجدهم؟ ليس ثمة بد من طرح القضية ضمن إطار أشمل يفسر حركة التاريخ والسنن الكونية لصعود وهبوط الحضارات في مسيرة التقدم الإنساني بصفة عامة.
إن قضية النهضة لا تخرج عن كونها سنة من سنن الله في حياة الأمم "فكل أمة بين حالين لا ثالث لهما، يخلف كل منهما الآخر متى توافرت دواعيه وأسبابه، هذان الحالان هما حال القوة وحال الضعف.. فالأمة تقوى إذا حددت غايتها، وعرفت مثلها الأعلى، ورسمت منهاجاً عملياً ينظم حركتها، وصممت على الوصول إلى الغاية وتنفيذ المنهاج ومحاكاة المثل الأعلى مهما كلفها ذلك من تضحيات، وعندما تنسى الغاية وتجهل المثل وتضل المنهاج وتؤثر المنفعة والمتعة على الجهاد، وتنحل الأخلاق، ويكون مظهر ذلك الإغراق في الترف والقعود عن الواجب، حينئذ تأخذ الأمة في الضعف ويدب إليها دبيب السقم الاجتماعي، ولا تزال تضعف حتى تهيئ لنفسها عوامل التجدد فتتجدد أو لا تهيئ لنفسها هذه العوامل فتبيد. فالبشرية تسير قدماً نحو الكمال الذي كتبه الله لها يوم شاء أن يستخلف الإنسان في الكون وسخر له ما في السموات والأرض، وهي في محاولتها هذه أحياناً تستوحي الشعر والخيال وإن كانت بين الخطأ والصواب في استلهامها هذا..
وأحياناً تستوحي الفكر والعقل فيرشدها إلى تجارب في تكوين الأمم وتربية الشعوب كثيراً ما تكون طويلة المدى، وكثيراً ما تنزع بها المعاكسات العاطفية إلى جهة الخطأ فتصبح عقيمة النتائج فاسدة الآثار، لهذا اقتضت حكمة الله ورحمته بالناس أن يشد أزر العقل والقلب بنواميس ونظم إلهية تقرب على الإنسان المدى وترشد البشرية إلى مدارج الكمال الذي كتب لها"(2).
وفي التاريخ شواهد تؤكد ما ذكرنا: فقيادة الدنيا كانت في وقت ما شرقية بحتة، ثم صارت بعد ظهور اليونان والرومان غربية، ثم نقلتها نبوات موسى وعيسى ومحمد عليهم جميعاً الصلاة والسلام إلى الشرق مرة ثانية، ثم غفا الشرق غفوته الكبرى ونهض الغرب نهضته الحديثة، فكانت سنة الله التي لا تتخلف، وورث الغرب القيادة العالمية، وها هو ذا الغرب يظلم ويجور ويطغى ويحار ويتخبط، فلم يبق إلا أن تمتد يد "شرقية" قوية يظلها لواء العدل والمساواة والحرية والرحمة، فإذا بالدنيا تنعم مرة أخرى بالسلام الإسلامي.
_______________________
الهوامش :
1 - صيغة هذا السؤال هي عنوان كتاب للأمير شكيب أرسلان، والكتاب عبارة عن جوابه، الذي يشرح فيه أسباب ارتقاء المسلمين في الماضي، ثم أسباب انحطاطهم مع بيان أسباب تقدم الأوروبيين.
2 - انظر: حسن البنا، دعوتنا في كتاب الله: من وظائف القائد جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية 19ربيع الأول 1355ه -9 يونية 1936م.
نقلا عن : مجلة المجتمع الكويتية ، http://altareekh.com/doc/article.php?sid=699
===============
صانع الحضارة
رقية المحارب
حسن الظن بالناس من أهم صفات صانع الحضارة، ذلك الذي يصغي له الناس، ويجدون في تصرفاته مثلاً حياً لقيم ومبادئ لطالما قرؤا تمجيداً لها وسمعوا حثاً للتخلق بها. صانع الحضارة هو ذلك الإنسان الذي يتبع منهج الإسلام في العقيدة والعبادة والأخلاق والمعاملة وفي كل شؤون حياته . صانع الحضارة هو ذلك الذي تتمثل في أقواله وأعماله مقومات التميز والإبداع، وتصور معي لو أن كل إنسان يعيش على هذه الأرض حاول التمثل بهذه المبادئ كيف سيكون حال العالم؟ بل كيف سيكون طعم الحياة؟ لا شك سيكون عالماً خالياً من الحروب والقلق والظلم والفقر والقهر والجوع، وستكون حياة مليئة بمعالي الأمور، لأن قيم العدالة والتعاون والتكافل والرحمة والتواضع والأمانة وحسن المعاملة وحسن العشرة وحسن الظن وغيرها من منظومة طويلة من هذه الأخلاقيات سوف تكون أنهار عطاء يجد فيها المجتمع سبباً لحياته ومدداً لسعادته.
أعود لحسن الظن بالناس كواحد من هذه القيم الذي أود أن تسود بيننا، فنعيش وقلوبنا نقية تجاه من نجاورهم ونصاحبهم أو من تربطنا بيننا وبينهم روابط القربى. أسمع أحياناً كلمات باعثها حب الخير ولكنها متسرعة في تقديم الشك على اليقين، ومتخذة منهجاً دائماً في اتهام الناس أحياناً بلا بينة واضحة. ليس المقصود هو أن نعيش كالدراويش أو أن ننخدع بحلو الكلام أو أن نبرئ من ثبت انحرافه ولكن الهدف هو أن نقدم حسن الظن بالناس ونعاملهم على ظاهرهم إلا من ظهر فسقه أو أعلن فجوره فهنا نتعبد الله بالبراءة من تصرفه وأيضاً وفق منهج وسط لا إفراط فيه ولا تفريط كما هو منهج العلماء الربانيين، فلا نساوي بين من ظاهره العادلة ومن هو غير ذلك. قد أختلف معك في مسألة معينة ولكن هذا الاختلاف يجب أن يكون في إطاره ولا ينتهي إلى أن تخالفني في كل شئ كما هو الحال عند البعض. ومهما اختلفت معك في مسألة اجتهادية فإن حسن الظن يجب أن يكون حاضراً دائماً سلامةً للقلب وحمايةً للسان من الشطط.
وفي مجتمع النساء تبرز الحاجة ماسة إلى حسن الظن، فالزوجة ينبغي أن تحسن الظن بزوجها باعثة أجواء الثقة في بيتها والرجل كذلك، كما تحسن المرأة الظن بجارتها وزميلتها في العمل والدراسة، بل إن حسن الظن بين المصلحات في المجتمع لهو أشد حاجة لما في ذلك من جمع كلمتهن وقوة صفهن. ولا بد من وقوع الأخطاء بين الزميلات من تصرف متسرع أو كلمات غير مقصودة أو غير ذلك ولكن شيوع الثقة بين أفراد المجتمع من أهم أسباب تماسكه وقلة المنكرات والأخطاء فيه.
أظن أننا بحاجة ماسة إلى تعلم فقه الظن والتأمل في أحكامه ومعرفة متى نحسن الظن ومتى يكون سوء الظن هو المتعين، ومتى يكون حسن الظن واجباً، وأعتقد أننا بحاجة إلى فهم أن سوء الظن أحياناً يوقع في الإثم فلينتبه من همه صلاح قلبه
موقع الإسلام اليوم
================
كتاب عبقرية الحضارة الإسلامية
بقلم أحمد محمد عوف
[تحرير] مقدمة(5/74)
ماجعلني أكتب هذاالبحث أن الكاتب البريطاني (فيدهارد نيبول) الذي مؤخرا جائزة نوبل في الآداب علي رواياته التي هاجم فيها الإسلام وأدعي أنه يجلب التخلف وأنه فصل كل الشعوب الغير عربية عن جذورها الحضارية والثقافية وقال: إن الإسلام وضع حضارة الهند القديمة في منطقة مظلمة . و بعد الكارثة الأمريكية الكبري في سبتمبر نجد أن الإرهاصات الإعلامية قد تدافعت وتلاحقت للنيل من الإسلام ووصمه بالتخلف. لكن هذه الكارثة كانت إحياء للإسلام وتكالبت شعوب أهل الإرض للتعرف عليه . فقرأت عن تعاليمه وتعرفت علي حضارات شعوبه وطالعت عن قيمه الحضارية والإنسانية مما جعل الآلاف يؤمنون به. وهذه الصحوة الإسلامية جعلت المستضعفين والمغلوبين علي أمرهم والضالين والتائهين يجدون في الإسلام ضالتهم المنشودة بين ركام عالم قوضته أحداث سبتمبر وسقوط الشيوعية العقد الماضي .فآمن الآلاف منهم علانية وأعلنوا إسلامهم طواعية وعن يقين بعظمة هذا الدين . فاكتشفوا فيما إكتشفوه أن الإسلام يدعو إلي الحق والعدل والمساواة والإخوة الإسلامية بنظرة إيمانية ثابتة . ولايقر الظلم أو القهرويدعو لنصرة الضعفاء ونجدة المحتاجين وغوث الملهوفين . لأن كلمة الإسلام أن يسلم المرء أمره لله سبحانه وأنه يضفي السلام علي البشر جميعا ، فلا إكراه في دينه . فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. ففيه أن كل نفس بما كسبت رهين . والإسلام نجده ينتشر تلقائيا بدون صخب إعلامي وكلما إستضعف أهله كلما إنتشر . فلقد غزا التتاراللادينيون بغداد وحطموا صروح الحضارة بها وأسقطوا الخلافة العباسية وأقاموا المذابح للمسلمين في كل المشرقين الإسلامي والعربي . ورغم الهوان الذي كان فيه المسلمون وقتها . عاد التتار لبلادهم مسلمين وأقاموا أكبر حضارة في تاريخ الهند وهي الحضارة المغولية الإسلامية في ظلال إمبراطورياتهم التي إمتدت في فارس وأفغانستان وبنجالاديش وباكستان وكانت دلهي العاصمة . وظلت هذه الإمبراطورية قائمة لعدة قرون وآثارها ثبت لم يمح هناك حتي الآن. وقامت حضارات الغزنويين والدارونيين وحضارات ما وراء النهرين. وهذه حضارات أقامت مدن بخاري وسمرقند وغيرها من مدن الهند وكشمير وباكستان وأفغانستان و بلدان آسيا الوسطي حيث ظهرت إمبراطورية تيمور لنك وعاصمتها سمرقند وكانت هذه الإمبراطورية قد حكمت موسكو التي كانت تدفع لها الجزية . وكانت الخلافة الإسلامية العثمانية وعاصمتها الآستانة (إستانبول ) في أوجها ولاسيما في القرنين الخامس والسادس عشر وكانت تضم مصر والشام وإيران والعراق والحجاز وتونس وليبيا والجزائر. وفي شرق أوروبا كانت تضم أجزاء من رومانيا واليونان والصرب ومقدونيا وألبانيا والبوسنة والهرسك والمجر وبلغاريا حتي بلغت فيينا بالنمسا .وكانت القوة الأعظم بلا منازع في العالم وقتها . وقامت الخلافة الأموية الثانية بالأندلس لتضم جنوب غربي أوروبا وفيها بلغت وسط فرنسا وكانت تضم جنوب إيطاليا وجزر صقلية وسردينيا وكورسيكا حتي بلغت القوات البرية والبحرية روما عام 809 م . وكان البحر الأبيض بحيرة إسلامية بما فيها كريت ومالطة ورودس وكورسيكا وجزر البليارد وصقاية وسردينيا وجزر بحر إيجه ولم يبق سوي طرفا الهلال عند القسطنطينية والطرف الآخر عند روما ومابينهما كان يخضع للحكم الإسلامي العادل. والإسلام في كل البلدان التي دالت له وفي كل الشعوب التي دانت به قد أقام حضاراته التي ظلت توابعها تتري علي العالمين بأصالتها وقيمها . ومازالت بصماتها تتري لنا بما لايدعو للتشكيك في عظمتها . لأنها أوابد راسخة في وجدان وثبت التاريخ الإنساني كحضارة متفردة فاقت كل الحضارات . لأنها قامت علي أسس إسلامية لاجدال فيها أو حولها . لأنها أم الحضارات وباعثة نهضة وحاملة مشاعل الفكر والتنوير لهذه الشعوب التي عانت من الفقر والجهل والظلم والعبودية . فكان الإسلام هاديا ومبشرا ومنقذا للعالمين من وهدات التخلف وإرهاصات الفكر السلفي الذي ران فوق العالم قبل ظهور الإسلام. أحمد محمد عوف
[تحرير] في الجاهلية
الألفية الثامنة ق.م. تحولت المناطق الرعوية في شيه الجزيرة العربية لمناطق صحراوية. كان البشر الأوائل قد إرتادوها ودخلوها منذ 5 آلاف سنة من ناحية الغرب . وظهرت المستوطنات في قطر بالشرق حيث عثر علي آلات صوانية وفخار من جنوب بلاد الرافدين . وفي حوالي سنة 3100 ق.م. ظهرت الحبوب والبلح في أبو ظبي وظهرت ثقافات أم النار في في شبه جزيرة عُمان وفي النصف الثاني من الألفية الثالثة ق.م. ظهرت صناعة النحاس علي نطاق واسع . وبنهاية الألفية الثالثة كان الخليج (مادة) علي إتصال بحضارات بلاد الرفدين ووادي الهند وس . ومنذ ينة 8000 ق.م. وحتي سنة 6000 ق.م. كانت الآلات الصوانية التي وجدت شمال ووسط شبه الجزيرة العربية لمجتمعات صيادين وجامعي ثمار. وكانت رؤوس سهام . وكانت الزراعة تمارس أيضا . ومنذ سنة 6000 ق.م. حتي سنة 4500 ق.م. كان الساحل الشرقي قد إسنوطن لأول مرة وكان ينتج به الفخار . وفي هذه الفترة كان قيائل البدو يخيمون حول منطقة الرياض وأكبرها كانت تمامة حبث كانت تعيش قرب وادي نهر موسمي ووجد به كميلت من أشكال الحجر المستدير. وكان فخار من طراز عبيد من بلاد الرافدين مرسوم ، وقد ظهر بطول الساحل الشرقي لشبه الجزيرة العربية حتي عُمان بالجنوب .وكان قد جلبه صائدو الأسماك بالقوارب من جنوب العراق . وكانوا يدهنون القوارب القصبية قرب الظهران بالقار. و كانت تصنع من الغاب (البوص أو القصب) . وفي شرق شبه الجزيرة كانت تربية المواشي والغنم والماعز مابين سنتي 4000ق.م. و3000 ق.م. وكان العراقيون يطلقون علي هذه المنطقة الدلمون . وعثر علي شاطيء الخليج أوان من الخزف مصنوعة محليا وتماثيل صغيرة من الحجر الجيري تشبه ماكان يصنع في بلاد الرافدين ورأس ثور من النحاس وفازات منقوشة في موقع تاروتومصنوعة من مادة الكلوريت. وفي البحرين أكتشفت مواقع دفن بالمئات ترجع لسنتي 2400ق.م. و1700 ق.م. بالعصر البرونزي . وكان الرجال والنساء والأطفال يوسدون فرادي ومعهم أوان خزفية وزيناتهم واسلحة وأكواب نحاسية وأوان حجرية . وخلال سنتي 2200ق.م. 1800 ق.م. إزدهرت التجارة بين بلاد الرافدين والهند عبر الخليج . وكان أهم التجارات أختام العلامات الدائرية ،التي عرفت بالأختام الفارسية الممهرة بالحيوانات وتتسم بالتجريدية. بعضها كان عليه الثور المحدب وكتابات هندية. وكانت مصنوعة من الحجر الناعم وكان لها نتوء مثقوب لتعليقها . ومنذ حوالي سنة 2000 ق.م. إستبدلت الأختام الخليجية الفارسية بأختام دلمون وكان نتوؤها أقل ، ومحززة بثلاثة خطوط متوازية.
[تحرير] أمة كبيرة(5/75)
يشير سفر التكوين بالعهد القديم نصا إلي أمة إسماعيل حيث جاء به: وقال إبراهيم ليت إسماعيل يعيش أمامك . فقال الله بل سارة تلد لك ابنا وتدعوإسمه إسحق .). وجاء أيضا: وأما إسماعيل قد سمعت لك فيه .ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرا جدا . إثني عشر رئيسا يلد . واجعله أمة كبيرة .). ومن هذه البشارة نجد أن الله قد وعد نبيه إبراهيم الخليل بأن ابنه إسماعيل الابن البكر لأمه هاجر سيكون من أعقابه أمة كبيرة في أرض مكة التي هاجرإليها معه ومع أمه هاجر.ولقد بينت سيرة الخليل بلغوا بئر سبع صلي علي ابنه الأكبر إسماعيل وأمته من العرب .و لقد إستجاب الله لإبراهيم عندما دعا ربه قائلا ( لقد أسنت من ريتي بأرض غير ذي زرع عند بيتك المحرم إلي آخره…….(من المصحف) . ويعرف أن عبادة الأصنام كانت شائعة في بلدة إبراهيم (أور) بالعراقوتفشت هذه العبادة الوثنية في عصره وكيف دعا قومه لينصرف أهله عنها . وأيا كان تاريخ إبراهيم وقصته معهم وهجرته وذريته من بعده . فإن هذا التاريخ المروي يشوبه التحريف والتخمين . لكن مانعرفه نصا قرآنيا أن الذبيح كان إسماعيل ابنه الأكبر وقد فداه الله بذبح عظيم . لكن اليهود والنصاري حرفوا هذا الحدث واعتبروا أن الذبيح كان إسحق وليس إسماعيل . . لكن الهدي( الفدي) كان شائعا بمكة وبقية العرب في الجاهلية منذ إسماعيل عندما توارثوه كسنة عنه بعدما فداه ربه بهدي عظيم . فكيف اليهود والنصاري في الهدي والفداء لإسماعيل ينكرون . فإسماعيل الابن البكر وكان وقتها صبيا يعي ما قاله إبوه في رؤياه بأنه يذبحه . وكان رده : يا أبتي إفعل ماتؤمر به .). وهذه التضحية لاتأتي من طفل رضيع لايعي من أمره شيئا . لكنه كان علي بينة من أمره ومن أمر الله سبحانه لأبيه . فكان يعي أن هذا الأمر متبع فعليه ألا يكابر فيه أو ينكص عنه مرضاة لله أولا ولأبيه ثانية . وما يؤكد وقوع هذا الحدث العظيم أن العرب إعتادوا في جاهليتم المجيء للكعبة لإحياء هذه السنة خشية وتقربا لله . ولما وثنوا ظلوا علي عادتهم في ذبح القرابين للأصنام تحت أرجلها ويأكلون منها ويطعمون . وأصل العرب هم بنو إسماعيل بن الخليل الذي عاشوا حول مة وبأجزاء من شمال الجزيرة العربية وفلسطين ومكة والحجاز . والقحطانيون كانو قد عاشوا باليمن حيث أقاموا مملكة سبأ ودولة حمير. وكان الإسماعيليون رعاة وأهل تجارة وكانوا يسعون وراء الماء والكلأ. وظهر من بينهم الهكسوس الرعاة الذين نزحوا من شمال الجزيرة العربية وإستولوا علي الدلتا بشمال مصر عام2000ق.م. وقد تفرع منهم بنو كنعان (العمالقة ) والعمونينون وأهل مدين بسيناء أصهار سيدنا موسي والأدميون . وكان وقتها يطلق علي الحجاز وفلسطين أرض كنعان . وكان الكنعانيون قد منعوا العبرانيين أتباع موسي من دخول أرضهم إبان خروج موسي معهم عندما كان فرعون يطاردهم . فظل معهم في أرض الشتات بسيناء ولم يدخل موسي فلسطين أرض الكنعانيين . وكانت اللغة السائدة في هذه البقعة اللغة الكنعانية وهي لغة العرب والعبرية والفينيقية والسريانية والكلدانية وكلها تنبع من أصل واحد وهو اللغة السامية. وهذه اللغات كانت سائدة بين هذه القبائل البدو الرحل . وفي اليمن نزح عرب اليمن القحطانيين عام 195 م إلي ضفاف نهلر الفرات وأقاموا دولتهم وعاصمتها مدينة الحيرة قرب الكوفة حاليا. وكان ملوكها يقلدون إمبراطوريتي الفرس والروم في عظمتيهما وأبهة الملك . وظلت هذه المملكة قائمة لأكثر من أربعة قرون حتي غزاها الفرس الساسانيين وضموها لهم وظلت تحت حكمهم منذ عام 605م حتي فتحها العرب بعد ظهور الإسلام . وكانت طبوغرافية الجزيرة العربية قد شكلت منعة من أي غزو خارجي .لهذا لم يستطع الفرس غزوها إى بعض المناوشات الإغاراتية التي لاتشل خطرا علي كلا الطرفين . وكانت قبائل الحيرة تفصل الجزيرة عن بلاد فارس ولم تشل خطرا عليها ولاسيما وأن القيائل الغربية علي تخوم العراق كان ولاؤها للفرس . وكانت التجارة تسلك من العراق للشام . وكان في شمال الجزيرة توجد مملكة الغساسنة بجنوب الشام وفلسطين وكان ولاؤها للروم . وكانت تؤمن طرق القوافل التي تعبر ديارهم سواء القوافل اليمنية أو التي تعبر بيثرب. لكن بلاد العراق وفارس والشام ومصر وليبيا وبقية شمال أفريقيا كانت القوافل تغدو يها وتروح خلال رحلات موسمية وهذه الرحلات كان يكتنفها المخاطرولاسيما وأنها تمر بأراض مضر أو حضر . وكنت القبائل الرعوية بالجزيرة ترحل بقطعانها وراء الماء والكلأ ليستقروا. ولم يكونوا يسكنون المدن أو القري التي يصلون . فكانوأ يضربون خيامهم حولها. وهذه الرحلات كانت أشبه بالهجرات الموسمية. لهذا لأن نزوح هذه القبائل كانت بالشمال وبسيناء وكانت القوفل تتجه لمصر عبرها من الشام . لهذا لم تصل موجات هجراتهم للوجه القبلي . لهذا نجد أن القبائل البدوية في صحراء المغرب البري جبلت بنفس ما جبلت عليه القبائل المشرقية من أعراف قبلية وكانت الجزيرة العربية مقسمة إلي ثلاثة أقاليم رئيسية وهي : - بلاد الحجر العربية وتقع بشمال شرق الجزيرة وتقع بين فلسطين و شرق البحر الأحمر وكان يطلق عليها البتراء وهي تقع حاليا في الأردن. - وكانت بلاد العرب السعيدة . ومن قلبها وشرقها تمتد الصحراء العربية الكبري وان بعبش في مفازاتها القبائل العربية . لهذا نجد هذه البلاد السعيدة تضم البادية الكبري بالشام علي حدود سوريا الجنوبية وحتي أعالي الفرات بالعراق شمالا وجنوبا حتي الخليج العربي . - نهم كانوا كثيرا ما يغدرون بهذوالأقليم الثالث يضم بقية شبه الجزبرة العربية حبث الحجاز وبلاد اليمن التي تقع علي البر الأحمر وباب المندب والمحيط الهندي . و ويضم حضرموت وعمان وكلاهما يقع علي المحيط الهندي . في هذا الإقليم نجد أن بلاد الحجاز تضم المناطق الجبليةوالرملية الوعرة وساحل شرق البحر الأحمر إبتداء من جنوب العقبة حتي جدة كما تضم مكة والمدينة . وفي جنوب الحجاز تقع بلاد اليمن وهي أغني مناطق شبه الجزيرة العربية . ويمتد هذا الإقليم إلي سواحل حضرموت والأحساء وعمان علي المحيط الهندي من خليج عدن حتي مخل الخليج الفارسي (العربي(. وفي وسط الجزيرة العربية تقع هضبة نجد الخصبة . وكان العرب سكان شبه الجزيرة العربية قبائل إنتشرت في العصر الجاهلي. وكانت كل قبيلة تتمتع بالحكم الذاتي والإستقلال التام . وكانت غيرموحدة في كيان سياسي أو وجودي جامع . لهذا كان الإسلام هدفه الأول جمع هذه القبائل معا لتكوين أمة الإسلام . وكانت مكة أرض المبعث المحمدي وكان دعوة الإسلام أن جعلت القبلية قد تهاوت واندمجت هذه القبائل المتبدية في الإخوة الإسلامية حيث ذابن هذه القبائل في إطار ديني وهو الجماعة وكانت مكة أرضا بغير ذي زرع عند البيت المحرم . وانت امساه تصلها من ينابيع جبل عرفات . ولم يكن للعرب في الجاهلية تارسخا سياسيا أو ثقافيا أو دينيا سوي عبادتهم للأصنام ، وكانت قريش إبانها أهل تجارة قد أوسر سادتها من ورائها . فكانت عيرهم تنطلق صيفا للشام وفلسطين ومصر . وشتاء كانت هذه القوافل تتجه جنوبا لليمن . وكانت القوافل التجارية الكبري تتجه غادية رائحة . فكانت تمر بأطراف شبه الجزيرة العربية علي ثلاثة محاور رئيسية . فكان هناك طريق القوافل الجنوبي الشمالي حيث كانت تقطعها من جدة بالحجاز إلي الشام وسيناء ومصر . والطريق الثاني يقع في أطراف شرق الجزيرة العربية متجها من الخليج العربي جنوب العراق ليصل لبلاد الرافدين شمالا(5/76)
ليعرج منها للشام الي دمشق لتصل هذه القوافل لبلاد الشام وفلسطين . والطريق الثالث كان يقع بغرب الجزيرة العربية ويمر بحذاء ساحل البحر الأحمر . ويبدأ من اليمن عبر جدةفالمدبنة ليتجه شمالا للشام والبتراء بالأردن . وهذه الرحلات الموسمية صيفل وشتاء ظل عليها العرب مبقيين لأن فيها رزق لهم ولاسيما ون أرضهم لم تكن خصبة لتغنيهم عن غوائل الجوع أو تسد أرماقهم . وكانوا يعتمدون علي المطر ليصيبوا منه نبت الكلأ فيرعون عليه إبلهم وقطعان أغنامهم . وكان بالجزيرة وديان متفرقة لاتشكل عائدا اقتصاديا يمكن أن يثريهم أو يكفيهم مئونتهم عند الحاجة . وكانت ثرواتهم لاتتعدي أعداد أغنامهم أوحجم إبلهم .لهذا كان لهم في تجاراتهم ثروات يحققونها . وكانت السيادة والمكانة تقيم بعدد عيرالشخص بالقافلة المتجهة شرقا أو غربا أو شمالا أو جنوبا . وكانت توجد أحلاف لحماية هذه القوافل أثناء مرورها بمضارب القبائل التي تمر عليها . وقد تغير عليها وتسبي نساءها وتنهب ماتحمله . لهذا ظهرت بين القباءل التي كانت تمر بها القوافل الحروب والمشاحنات وكانت الغلبة للأقوي.فقامت الحروب والثارات بين قبائل الجزيرة العربية الكبيرة . وكانت هذه الحروب مدعاة لفخرها أو معايرتها.فاحتدمت هذه الصراعات القبلية وجعلت القبائل في فرقة فيما بينها . وأوغلت فيها الثارات التي أودت بوحدتهم . وكانت هذه القبائل تعيش في وهم مفاخرها وأيامها . وكان الشعراء في كل قبيلة ينشدون مفاخر قبائلهم . وهذا ماجعلهم يحظون بالمكانة والرفعة ويختلقون الإنتصارات . وكانت أشعارهم يحفطها العرب ويرونها في منتدياتهم . والعرب قبل الإسلام لم يكونوا يعرفون أصول الحكم أو الدستور شأنهم كشأن الروم والفرس وهما القوي الأعظم عند ظهور الإسلام . لأن العرب كانوا بمضاربهم لايعرفون سوي أعرافهم وتقاليدهم التي ألفوا عليها . فلكل قبيلة لها شيخها المطاع والمهاب وكان يتبع أعرافا تسيره وتدبر أمر القبيل ة . وكانت الأحلاف بين العرب إما لرد عدوان أو للمسالمة أو للحفاظ علي الجيرة . إلا أم، هذه العهود كانت كثيرا ما تنتهك . فكانت القبائل تغير علي بعضها وتحرق خيام أعدائها وتسبي نساءهموأطفالهم وشيوخهم ببربرية ووحشية . وكانت هذه القبائل تخلط في أنسابها وتدع لها مفاخر زائفة . ومما روج لهذا الشعراء الذين كانوا يطلقون أشعارهم وينسبون لقبائلهم مفاخر وبطولات زائفة . فالعرب في جاهليتهم كانوا يعيشون في مضاربهم وأحيائهم. فلايشعرون بالأمن أو بل كانو يعيشون في وهم وقائعهم وأيامهم . فزين شعراؤهم لهم البطولات التي خلطوها بأوهامهم . وهذه القبائل العربية في الجاهلية كانت تمارس السطو والسبي مما شغلها عن السلم المفتقد . مما جعلها قبائل شتيمنازلها وضروبها .ولم تكن تتطلع إلي الوحدة السياسية. وكان يصعب تجميعها في نظام الدولة . وكان لوجود البيت الحرام بمكة له قدسية أضفي علي هذه المدينة المقدسة هالات وحرمة . لهذا السبب كان القرشيون محافظين علي هذه المسحة القدسية والمكانة المرموقة لمدينتهم . فكانت تهوي إليهم القبائل في حجهم الجاهلي . فكانوا يطوفون حول إصنامهم . وكانت مكة تشهد موسم حجيجهم . وكان القرشيون وسادتهم يكرمون وفادتهم. وكان هذا فيهم شرفا لايدانيه شرف وقد أصيحت الكعبة فيهم .وكان في موسم الحج يعقدون أسواقهم ومنتدياتهم ويلقي فيها الشعراء يأشعاره التي علقوها فوق ستر الكعبة . وهذه المعلقات كتبوها بماء الذهب. وهي تعتبر وعاء للشعر الجاهلي ينشدها القبائل وتحفظها.وهذه الأشعار تعتبر ثبتا ورثوه وورثوه وهذا كل ماخلفوه من بعدهم من فكر جاهلي . لهذا لما هدمت مكة السيول كان أهلها حريصين علي إعادة بناء البيت وكان شرفا متميزا لايدانيه شرف . وهو أي القبائل تضع الحجر الأسود في مكانه بجدار الكعبة التي كانت مشرفة بينهم ومعظمة عندهم . فأختلفوا فيما اختلفوا فيه حول من ينال هذا الشرف . وقد كادت أن تقوم فتنة لايعرف لها أوار . وظلوا علي جدلهم حتي دخل عليهم الرسول وهم متنازعون . فاحتكم سراتهم إليه . ففرد ثوبه ووضع فوقه الحجر الأسود زطلب منهم مجتمعين لحمله . ولما دنا إلي مكانه حمله ووضعه فيه . وارتضوا هذا الحكم ولم يعارضوه لما كان لمحمد فيهم من مكانة . فأقروه وقبلوه .لأن اغلرسول كان فيهم أرجح عقلا وأكثرهم منطقا وصدقا . فلم ينشقوا عن حكمه ولم يعارضه فيه معارض . فمحمد لم يكن فيهم أيسرهم مالا أو أكثرهم نفوذا ولكنه كان أكثرهم محتدا وأشرفهم نسبا . من هنا نجد أن محمدا قد ظهرت عليه بوادر القيادة وقوة الإقناع وهذه سمات النبوة والزعامة . فقد ولد بينهم يتيما فآواه ربه . ووجدوه عائلا فأغناه ربه . وكان عليه السعي وراء رزقه شأنه كأهل مكة الذين كانوا تجارا . فاشتهر بينهم بالأمانة والصدق ورجاحة العقل وقوة الشخصية . مما أهله لأن يكون فيهم شخصا متميزا بينهم . وهذا ماجعل السيدة خديجة وهي من أغنياء قريش تلقي إليه بأموالها ليتاجر لها فيها . وكانت علي يقين أنها أودعتها لدي الصادق الأمين . فأصاب من تجارتها الربح الوفير وكان خير التاجر الأمين .
[تحرير] عصر نزول القرآن(5/77)
القرآن هو كتاب العربية الأول والأكبر لأنه دستور واساس وجود الأمة الإسلامية سياسيا واجتماعيا ولغويا في كل زمان ومكان . دعا الناس لطاعة الله والخضوع لسلطانه والتفكير في آلائه. وقرر حقوقهم المقدرة فأخذوا بأوامره وحدد واجباتهم المقررة فاجتنبوا نواهيه . ولقد جعل البشر سواسية مهما إختلفت أروماتهم ومشاربهم بلا تفرقة عنصرية أو لغوية أو اجتماعية. وسمي الله القرآن بالذكرالحكيم متوعدا المعرضين عنه او النافرين منه . لأن أفضل عبادة هي قراءة القرآن وتلاوته . وكان القرآن قد نزل علي الرسول بسبعة أحرف (لهجات قريش) ليسهل للقبائل فهمه واستيعابه . وفي سنة 25 هجرية أيام خلافة عثمان وجد أن بعد الفتوحات الإسلامية قد تنازع أهل الشام وأهل العراق بالمدائن بالعراق حول قراءة آيات القرآن لأنه بعدة لهجات وحدث هذا في بعض الأمصار . فكان يكفر بعضهم بعضا .فشكل لجنة من كتبة الوحي أيام الرسول لتجمع القرآن ، وأمرها بنسخ نسخ منه موحدة ومدققة وحسب القراءات الثابتة والمتواترة عن الرسول بعد تثبيت رسم حروف وكلمات المصحف . وكتبت ست نسخ . وأرسل الخليفة عثمان نسخة لأهل البصرة والكوفة والشام والمدية ومكة وأمسك عنده نسخة تخصه . وأطلق علي هذه المنسوخ مصحف عثمان أو المصحف الإمام. وهو المصحف الموحد والمعتمد . بعدها أمرعثمان بحرق كل النسخ السابقة عليه. ولم يبق سوي المصحف الإمام منذ عهده . وهي النسخة التي تطبع حاليا بالرسم العثماني في كل أنحاء العالم الإسلامي حاليا . وحفظ ولو أجزاء من القرآن واجب علي كل مسلم . لأن تلاوة آيات من القرآن واجبة تلاوتها لأداء الصلاة . وكتابة المصحف حتي الآن تخضع للتدقيق كما تخضع لأصول علم رسم المصحف الذي يعني بهجاء الكلمات القرآنية حسب الرسم العثماني وتخضع لعلم ضبط القرآن لتشكيله أو مايعرف بمصطلحات الضبط كالفتح والضم والكسر والسكون والشد والمد لضبط نطق الكلمات مما جعل قراءة القرآن ليس بالسماع والمشافهة كما كانت من قبل . وكانت كتابة المصحف الإمام تخلو من التنقيط اافاء أو القاف أو النون أو الباء أو الياء ..إلخ . ويوجد علم الفواصل للتقيد بعدد آيات القرآن وعدد سوره وأوائل أجزائه الثلاثين وأحزابه الستين وأرباعه وأثمانه .كما أن قراءة القرآن تخضع لعلم التجويد لضمان سلامة النطق للكلمات والتعرف علي مخارج الحروف وأحكام النطق ، وعلم القراءات والتفسير لبيان الوقف والعلامات والسجدات ومواضعها والسكتات الواجبة . وضبط القرآن له مصطلحاته كالصفر المستدير فوق حرف العلة وغيره . وأول هذه السور سورة الفاتحة و تتلي في كل صلاة . والسورة تنقسم لعدة آيات . وكل سورة تفتتح بآية (بسم الله الرحمن الرحيم ) ماعدا سورة( براءة ).والقر’ ن الخط الأول للتصدي لأي فكر ديني محرف أو الفلسفات التي لاتنزه الله عن الشرك به أو ال‘لحاد في وجوده أو لايتوافق مع الشريعة الإسلامية . ففي العصر العباسي ترجمت فلسفات الإغريق والهنود والفرس والسريان للعربية ودار جدل حولها لكن القلاسقة العرب وأهل الكلام أخضعوا هذا الفكر للمفهوم القرآني لها وطوعوها لنصوصه ولاسيما في الميتافيزيقيا(ماوراء الطبيعة ) والإلهيات فظهر علم الكلام الإسلامي كفلسفة إسلامية خالصة لايشوبها شائبة زيغ أو ضلال . لأن القرآن هو الكتاب المنزل من عند الله . لهذا ما ورد به من قصة الإسراء والمعراج المحمدي جعل لهذه المسيرة الخالدة مصداقبة لايماري فيها . كما أن تناول القرآن علوم الكونيات في آياته حيث ذكرها من خلال التعرض للثوابت الفلكية والعلمية و الكونية ومن خلال ذكره لنواميس الكون الثابتة والمؤكدة للتدليل علي الإعجاز العلمي للقرآن وعلي عظمة الخلق والخالق مما يؤكد علي أن القرآن إلهي و من عند الله . فالقرآن هو الكتاب المنزل الذي مازالت نصوصه لم تتبدل ولم تتغير. ولايمكن لبشر الإتيان بمثله في آياته ولغته المتفردة وسياق كلماته والمعاني السامية التي أوردها نصا . وعلوم القرآن هي دراسات لمعاني وكلمات القرآن بما فيها التفسير لها ودراستها لغويا وفقهيا .لأنه المرجع الثابت لدراسة علوم الإلهيات حتي لانزيغ في إيماننا ولا نحيد عن الصراط المستقيم ،ولاسيما بعد إنقطاع الوحي من السماء . فهو آخر رسالاتها للبشر أجمعين .فعظمة القرآن أن لغته العربية حية وسياق آياته لها وقع وجرس فريد ،ويتميز بدقة كلماته التي لها وقعها الذي يبعث في النفس الخضوع لله والخشوع له . مما يجعله يتوافق مع فكر كل زمان ومكان .
[تحرير] إنتشار الإسلام(5/78)
يقول المؤرخ العالمي (جيبون) في حديثه عن قصة البشارة المؤكدة لمجيء محمد صلي الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل من أن ثمة نبيا سيأتي كما تقول البشارة المقدسة التي عرفت بوعد الروح القدس.. ففرح بها موسي وعيسي . وهذه البشارة كما يقول : قد تحققت في شخص محمد نبي الإسلام وأعظم الرسل وخاتمهم . أتي بالإسلام كدعوة عالمية لكل البشر. لهذا كان المسلمون الأوائل منذ أيام الرسول ينشرونه ويحملون لواءه . ففي حياة الرسول (من سنة 570م –632م) كانت محاولات نشره في تخوم الإمبراطرية البيزنطية بإقليم الشام عن طريق الدعاة بين القبائل العربية المتاخمة لبلاد الشام . وبعد عشر سنوات من وفاته صلي الله عليه وسلم فتح المسلمون بلاد الروم البيزنطيين والفرس الساسانيين . ففتحوا الشام ومصر والعراق وفارس . بعدها إزدهرت الحضارة الإسلامية في الدول التي دانت بالإسلام ودالت له طواعية تحت ظلال الخلائف الراشدية والأموية والعباسية .و لقد ظلت الخلافة الراشدية ثلاثين عاما (من سنة 632م – 661م). وكان الخليفة عمر أول من أقيمت المدن الإسلامية في عهده كالكوفة والبصرة بالعراق والفسطاط بمصر . وظلت المدينة المنورة عاصمة الخلافة حتي نقلها الخليفة الرابع علي بن أبي طالب للكوفة، بسبب القلاقل التي نشبت في عهد عثمان .وأدت لإستشهاده. وبعد إستشهاد سيدنا علي تأسست الدولة الأموية( 661 م- 750 م )بدمشق .وحكمت حوالي قرن. وكانت تمتد من غربي الصين لجنوب فرنسا حيث كانت الفتوحات الإسلامية وقتها تمتد من شمال أفريقيا لأسبانيا وجنوب فرنسا بغرب أوروبا ، وبالسند في وسط آسيا وفيما وراء نهري جيحون وسيحون. واقيمت المؤسسات الإسلامية والمساجد والمكتبات ه و كان الأمويون بدمشق قد حاولوا فتح القسطنطينية عام 717م . وإبان حكمهم غتحوا شمال أفريقيا . وكان أول نزول لقوات الفتح الإسلامي بأرض الأندلس بشبه جزيرة إيبريا (أسبانيا والبرتغال).. فكان أول إنتصار للمسلمين هناك ،عام 29هجرية(711ميلادية) في معركة وادي البرباط ،لتبدأ مسيرة الفتوحات الإسلامية بغرب أوروبا بفرنسا وإيطاليا وسويسرا . وخضعت روما للحكم الإسلامي فعلا منذ عام 809 م .ولولا أن البابا ليو الثاني قد أقر بدفع الجزية وبإنتظام لمدة عشرين عاما لأصبح الآذان يرتفع من فوق أبراج الفاتيكان الآن . فلقد بلغ الفتح الإسلامي برنديزي والبندقية بإيطاليا علي بحرالأدرياتيك .مما جعله مع البحر الأبيض المتوسط بحيرتين إسلاميتين تموج فيهما الأساطيل الإسلامية . وخضعت كل جزر البحر الأبيض المتوسط من كريت شرقا حتي كورسيكا غربا للحكم الإسلامي . وكانت الخلافة الأموية الثانية بالأندلس 756م – 1031م عاصمتها قرطبة التي شيدها الأمويون .وكانت أكبر مدينة في أوروبا . وحكمواالأندلس زهاء قرنين . وكانت هذه الخلافة منارة للحضارة في الغرب حتي قسمها الطوائف والبربر والموحدون لدويلات أدت لسقوط الحكم الإسلامي تماما .ولاسيما بعد سقوط مملكة غرناطة آخر معاقل المسلمين عام 1492م علي يد الملك فريناندو والملكة إيزابيلا..و عندما كانت الحضارة الأندلسية في عنفوانها، كانت موقعة بواتييه قرب تولوز بوسط فرنسا قدأوقفت المد الإسلامي الكاسح لشمالها . حيث إنتصر الفرنجة علي عبد الرحمن الغافقي عام 114 هجرية (732م) عندما إستشهد بها في معركة بلاط الشهداء . ويعلق المؤرخ الشهير جيبون علي معركة (بواتييه) قائلا : لو كان العرب قد إنتصروا في بواتييه لأصبحت المساجد في باريس ولندن بدلا من الكاتدرائيات حاليا. ولكان القرآن يتلي في جامعة إكسفورد وبقية الجامعات هناك . ويعلق ديورانت عليها قائلا : لو إنتصر العرب في هذه المعركة الكبري لأصبحت أوروبا الآن جزءا من العالم الإسلامي .لكنهم رغم هذه الهزيمة ، واصلوا فتوحاتهم حتي أصبحت تولوز وليون ونهر اللوار تحت السيادة الإسلامية .وكان الفاتحون قد بلغوا نهر السين وبوردو وجنوب إيطاليا (أطلقوا عليه البر الطويل) حتي بلغوا في فتوحاتهم سويسرا،.وأقاموا هناك ممالك إسلامية .وحرروا الشعوب من العبودية والإقطاع . وظلوا قرنين يحكمون هذه المناطق . ولم يوقف الزحف الإسلامي بأوروبا سوي جبال الألب .ولو إستطاع الفاتحون تخطيتها لعم الإسلام شمال أوروبا. وللتاريخ كانت الخلافة العباسية (750 م – 1258م) ببغداد تتآمر ضد الأمويين بالأندلس بتحالفها مع شارلمان ملك الفرنجة. وهذا سبب ثان لتوقف الفتوحات الإسلامية بغرب أوروبا . . وما بين سنتي 910م و1171م كان ظهور السلاجقة في المشرق والفاطميين بالقاهرة والأيوبيين والمماليك في مصروالشام.وكانت الحملات الصليبية علي الشام وفلسطين ومصر والإستيلاء علي القدس .وفي عام 1187 م استعاد صلاح الدين بيت المقدس من الصليبيين .وكان احراق المغول التتار لبغداد عام 1258م بعدما كانت عاصمة الخلافة العباسية خمسة قرون. بعدها رجعوا لديارهم وكانوا وثنيين. لكنهم أسلموا عند عودتهم.. فكانوا للإسلام داعين ومبشرين له بين قبائلهم . وأقاموا تحت ظلاله الإمبراطوريات والممالك الإسلامية بأفغانستان وباكستان وشبه القارة الهندية وبالملتان والبنغال وآسيا الوسطي وأذربيجان والقوقاز والشيشان وفارس وغيرها من بلدان المشرق الإسلامي. حيث أقاموا الحضارة الإسلامية المغولية والتركية التي مازال أوابدها ماثلة حتي اليوم . وكان تيمورلنك حفيد هولاكو قد أقام الإمبراطورية التيمورية عام( 1379م –1401م ) وكانت العاصمة سمرقند بوسط آسيا . وقد حكم إيران والعراق والشام وحتي الهند. وكانت وقتها طرق القوافل التجارية العالمية تحت سيطرة المسلمين .سواء طريق الحرير الشهير أو تجارة المحيط الهندي بين الشرق الأقصي وشرق أفريقيا .و كان السقوط الأخير للقسطنطينية(عام 1453م)، عاصمةالإمبراطورية البيزنطية(الروم).وكان هذا السقوط علي يد محمد الفاتح العثماني. وأطلق عليها إسلام بول (إستانبول) بعدما جعلها عاصمة للخلافة العثمانية(الإمبراطورية العثمانية)(حكمت من 1350م- 1924 م). وكان لسقوط القسطنطينية صداه في العالم الإسلامي كله حيث أقيمت الزينات بالقاهرة والشام وشمال أفريقيا لأن هذا النصر كان نهاية للكنيسة الشرقية ولاسيما بعد تحويل مقرها إلي جامع أيا صوفيا . وهذا الإنتصار كان بداية الرد الإسلامي علي البابوية بالفاتيكان في أعقاب الحملات الصليبية التي شنتهاعلي فلسطين والشام . و داهمت فيها المشرق العربي . وذبحت أكثر من مليون مسلم و نصراني في فلسطين وبيت المقدس. وكلن الفتح العثماني ردا علي الحرب الإستردادية بالأندلس . حيث كان التنصير القسري للمسلمين وإحراقهم هناك.فبينما كان الهلال ينحسر من الأندلس بغرب أوروبا كان يزحف لأول مرة في التاريخ فوق شرق أوروبا عندما إجتاحه العثمانيون بما فيه رومانيا والصرب والبوسنة والهرسك واليونان والمجر .حتي بلغوا أبواب فيينا بالنمسا .وحشد البابا في الفاتيكان قوات أوروبا لوقف هذا الزحف الإسلامي الكاسح . ولولا توقف العثمانيين عند أبواب فيينا بمؤامرة من الدولة الصفوية بإيران ،لأصبح الآذان يؤذن من فوق أبراج كاتدرائية القديس بطرس كما يقول المعلقون . ومن بعدها كان خبز (الكرواسون ) ومعناه الصليب يصنع علي هيئة الهلال ليأكله الأوربيون في أعيادهم. و الإسلام دخل شرقا وغربا وجنوبا وشمالا عن طريق التجار والقولفل التجارية العربية عبر آسيا الوسطي وشمال وشرق ووسط وجنوب وغرب أفريقياعن طريق الطرق الصوفية في أواسط آسيا وجنوب الصين وإندونيسيا(5/79)
وأفريقيا . وعن طريق الرحلات البحرية التجارية دخل الإسلام الصين وسيلان وبروناي وجزر الفلبين وإندونيسيا وماليزيا ومدغشقر وزنجبار.وللتاريخ كان إحتلال العثمانيين للشام ومصر والعراق والحجاز وليبيا واليمن وتونس لحماية هذه الكيانات الإسلامية السنية من الأخطار التي كانت محدقة ومتربصة بها . فسواحل مصر والشام وشمال أفريقيا كانت مهددة بالأساطيل الفرنسية والأسبانية التي اتت تغير عليها . كما أرادت السلطنة العثمانية حماية الشام ومصر من خطر البرتغاليين المسيحيين بالبحر الأحمر والخليج العربي . وكانت إثيوبيا تعاون البرتغاليين لهذا السبب . و قد نزلوا عام 1496م جدة بالحجاز لينهبوا الأماكن المقدسة بمكة والمدينة . وينقلوا رفات الرسول للبرتغال لتكون زيارة قبره صلي الله عليه وسلم نظير إتاوات. مما دفع المصريين أن يهاجموا الأسطول البرتغالي في معركة (ديو ) الشهيرة قرب سواحل غرب شبه القارة الهندية .وكانت السلطنة المملوكية بمصر والشام تتآمر ضد السلطان سليم مع الدولة الصفوية الشيعية بفارس. مما جعل سليم الأول يتحرك وينسحب بجيوشه من النمسا . لإنقاذ هذه الكتلة السنيةبما فيها مصر والشام والحجاز من الخطر الشيعي الصفوي بإيران والبرتغالي بالبحر الأحمر والمحيط الهندي . ولم يتعاون السلطان الغوري بمصر معه لإنقاذ المسلمين السنة من مذابح الصفويين في فارس والقوقاز وأذربيجان. فأسقط حكم الصفويين واستولي علي العاصمة تبريز . ولو كان الغوري قد أظهر مرونة لما إحتل سليم مصرولا الشام ولا أسقط سلطنته المملوكية عامك 1517م. فالإسلام حكم الأندلس 7قرون . وحكم الهند 10 قرون حتي مجيء الإستعمار البريطاني . وفي ظلال الحكم الإسلامي ظهرت مدن تاريخية كالكوفة والبصرة وبغداد والقاهرة والفسطاط والعسكر والقطائع والقيروان وفاس ومراكش والمهدية والجزائر ودلهي وقرطلة وغيرها . كما خلفت الحضارة الإسلامية مدنا متحفية تعبر عن العمارة الإسلامية كإستانبول بمساجدها والقاهرة بعمائرها الإسلامية وبخاري وسمرقند ودلهي وحيدر أباد وقندهار وبلخ وترمذ وغزنة وبوزجان وطليطلة وقرطبة وإشبيلية ومرسية وسراييفووأصفهان وتبريز ونيقيا وغيرها من المدن الإسلامية . وفي القارة الأفريقية نجد أن 85%من سكانها مسلمون. وفي العالم نجد المسلمين يشكلون حاليا خمس سكان أهل الأرض .
[تحرير] عبقرية الحضارة الإسلامية
قال تعالي:كنتم خير أمة أخرجت للناس. وقوله سبحانه حق. إلا أنه في الآونة الأخيرة أخذ الإعلام الغربي يكيل إفكا للإسلام والمسلمين ويصفهم بأنهم يعانون من عقدة الصراع بين الحضارات . وهذا القول المعلن لا يتصف بالمصداقية أو حسن النوايا. وبعيدا عن الأسباب والمسببات الإستعمارية التي آل إليها العالم الإسلامي المعاصر نجد أن هذا العالم المترامي فوق خريطة الدنيا قد حقق المعجزة الحضارية المتفردة في تاريخ العالم القديم . عندا بزغت هذه الحضارة وسط دياجير الظلام الفكري والعقائدي الذي كان يسود العالم القديم عندما أتي الرسول برسالته السماوية التي حررت البشر من الظلم والقهر والعبودية وحققت العدل والمساواة والحرية . وجعل للإنسان حقوقه المكفولة تحت ظلال الإسلام لأول مرة في التاريخ الإنساني كله.لهذا حقق المسلمون حضارتهم التي أصبحت ثبتا مثبتا في سفر الحضارة الإنسانية .فخمسة قرون من عمر الزمن زهت فيها هذه الحضارة كان المسلمون خلالها القوة الأعظم في العالم القديم بلا منازع. بينما كانت شعوبه قبائل شتي تتسم بالعبودية والقهر والظلم بل والجهل أيضا. . وكان قد عرض كاتبنا المرموق عبد اللطيف فايد كنابا لي بعنوان (صناع الحضارة العلمية في الإسلام) في صفحة كاملة بملحق (الجمهورية) الإسبوعي . وكان هذا العرض التحليلي ردا غير مباشر علي الزخم الإعلامي ضد الإسلام وحضارته وتنويرا لأجيالنا بعظمة هذا الدين وإنجازات علمائه الضخمة في شتي العلوم التجريبية والإنسانية .فأصٌل في عرضه الحضارة الإسلامية وجردها من الزيغ والتضليل الإعلامي المغرض. فكان عرضه أمينا ومنزها بل ومنصفا لها. فالحضارة الإسلامية كان علماؤها يتمتعون بالحرية الفكرية التي أثرَت وأثٌرت في الفكر الإنساني كله بعد ثمانية قرون من أفول الحضارة الإغريقية آخر الحضارات التقليدية القديمة .فلقد ظهر تحت ظلال حضارتنا الإسلامية عباقرة الفكر الإسلامي الثقاة كابن خلدون والبيروني والأدريسي والقزويني وابن ماجد والبتاني والطوسي والخوارزمي وابن الخيام والرازي والدميري والمقدسي وابن ماجه وابن النفيس والفارابي والكندي وابن سينا وابن طفيل وابن العوام وغيرهم من العلماء الذين أصبحوا نجوما زاهرة وزاخرة في سماء المعرفة الإنسانية إبان عصرهم والعصور التي لحقت بهم . وهذه حقيقة لا ننكرها بل يقرها كل مؤرخي العلم ومن بينهم سارتون . فوضعوهم في مصاف كبار الفلاسفة والعلماء الذين حققوا الإنجازات الضخمة في تاريخ مسيرة العلم والحضارات . وإبان مطلع عصر النهضة كان علماء وفلاسفة الغرب ينظرون لهؤلاء نظرة الإجلال بل والتقديس. لأنهم أثروا علي الفكر الغربي وغيروا من نظرتهم للفكر الإغريقي الذي تواري خلف الفكر الإسلامي . لهذا ظلت كتبهم تترجم و تدرس بالعربية زهاء أربعة قرون . وكان كتاب (القانون )في الطب لابن سينا إنجيلا يدرس في الغرب بالعربية و لاسيما بكليات فرنسا ولاسيما في جامعة (مونبلييه) العريقة . وكانت نظريات ابن رشد قد غيرت الفكر والفلسفة المسيحية واليهودية بأوروبا مما جعل مارتن لوثر يعلن تمرده علي البابوية معلنا البروتستانتية بعدما أسقط مقولة صكوك الغفران . وقد إستقي أفكارها من فلسفة ابن رشد التي شاعت بين الأوساط والجمعيات الفلسفية الأوربية وقتها. من هنا كان ظهور حركة الإستشراق الذي تبنته الكنيسة الغربية لتشويه صورة الإسلام وبث المطاعن فيه وكتابة المثالب الإفكية حول رسوله. فالصليبيون لما جاءوا للمشرق العربي وشاهدوا حضارته أصيبوا بالدونية الحضارية . ونقلوا هذه الحضارة لبلدانهم . فأنبهر الغرب بها وحاكاها ونقل تراثها العلمي والفكري. وعكف علماؤه و مفكروه وفلاسفته علي تمحيصه وتحقيقه .فظهرت أعمالهم كصدي فكري لعلوم المسلمين بعدما حررهم الفكر الإسلامي من هيمنة الكنيسة والكهنوت الكنسي وإرهاصاته كما حررهم من أساطير الإغريق.
[تحرير] بناة الحضارة الإسلامية(5/80)
بينما كان العالم الإسلامي يموج حضارة وتمدن خلال عصور الخلائف الراشدية والأموية والعباسية والعثمانية كانت أوروبا تعيش في أتون الجهل والهمجية والبربرية والرق والعبودية . وهذه حقيقة لاننكرها بل نقرها ولا نتغافلها وسط إرهاصات الغرب المفتئت والمفتري عليها . فعلماء المسلمين في كل مشاربهم إبان عصور حضارتنا الإسلامية التي غبرت وغربت عنا . لم يخلفوا لنا سوي أمجادهم وكتبهم وتراثهم الذي نهلت منه كل الروافد المعرفية العالمية . لأنه كان ثبتا لايماري فيه . لأنه اتسم بالمصداقية البحثية مما جعلهم مشاعل التنوير ودعاة الإستنارة ومجددين ومبدعين للعلم . فبنوا حضارة الحضارات وظلت تتري للإنسانية بتوابعها عبر القرون الوسطي حيث كانت الهمجية تسود أوروبا . ومن أعمال عباقرة هذه الحضارة الإسلامية نجد الجاحظ وقد ظهر كعالم للحيوان عندما حدثنا لأول مرة عن هحرات الطيور في رحلتي الصيف والشتاء . ولم يكتشف العلماء هذا إلا القرن 19 .ويعتبر الجاحظ مؤسسا لعلم الجغرافيا البشرية و علم الأجناس حيث قسم البشر وصنفهم لأمم وشعوب وأجناس وأعراق مختلفة وأوعز ألوانهم ولغاتهم وطبائعهم إلي تأثير العوامل الوراثية والبيئة الطبيعية والاجتماعية . وفي الفلك نجد أن البيروني قاس محيط الأرض بواسطة معادلة رياضية وضعها وأكد علي كروية الأرض وبين أن الأجسام تنجذب نحو مركزها. وبين أن توالي الليل والنهار سببه دوران الأرض وليس الشمس أو النجوم والكواكب معها . وبين بدقة إختلافات المواقيت والغروب والشروق حسب مواقع البلدان فوق خريطة الدنيا وبهذا نجده قد سبق كوبرنيق ونيوتن وجالليو .وبين البيروني أن الإنسان أصله قرد وتناول نظرية التطور كما قاله دارون فيما بعد . (حذار من هذا النص، بجب أن يعاد فيه النظر، البيروني يقول هذا الكلام الغريب، إنه لأمر عجيب إن صح. والراجح أنه غير صحيح..إنه دس السم في العسل) وفي الرياضيات نجد الخوارزمي التي مازالت شهرته حتي الآن ولاسيما كمؤسس لعلوم الجبر ولاسيما وهو واضع حساب اللوغريتمات التي يقوم عليها علي الرياضيات الحديثة . وكان أول من إكتشف الصفر ووضعه ضمن الأعداد وفي الحساب .كما جعل الحساب ميسرا بأن جعله طرحا وجمعا وقسمة وضربا . فبهذا علم الناس الطرق الحسابية المبسطة .وهذا ماكتب للخوارزمي الخلود . ويعتبر عمر الخيام عالما في الفلك والرياضيات ويعتبر ثاني إثنين بعد الخوارزمي في علم الجبر فأسس علم الترجمة الرياضية المزدوجة .حيث ترجم مسائل الهندسة للغة الجير وترجم مسائل الجبر للغة الهندسة كما ترجم مسائل من الهندسة الفراغية للغة الجبر . وهي المسائل التي لايمكن رسمها بالمسطرة والفرجار كمسألة تثبيث الزوايا ومسألة الوسطين الجسابين ومسألة المسبع المنتظم .وقد إبتكر حل المعادلات من الدرجة الثانية عن طريق الأقواس المخروطية . وفي الطب نجد أن ابن النفيس قد إكتشف الدورة الدموية قبل هارفي بعدة قرون وابن زهر بالأندلس كان يمارس الجراحة والتخدير . وكان الكندي أبا الحضارة الإسلامية وفيلسوفها الأول .والدميري أول من وضع معجما للحيوانات وصنفها فيه من حيث الشكل والطباع ومرادفات أسمائها والطوسي الفلكي الشهير وابن سينا والرازي وابن رشد . وغيرهم من أساطين العلوم الإسلامية . فخلدت أعمالهم وتصدرت أبحائهم سجل التاريخ المعرفي والعلمي والحضاري للإنسانية بلا منازع . مما أكسبهم تقدير العلماء الذين خلفوهم . فصانوا لهم تراثهم من بعدهم ووعوه في عقولهم وأشادوا به وبهم وظلوا قرونا له حافظين .
[تحرير] ابن طفيل ومنظومة الكون
نظرتنا للكون قديما وحديثا نجدها في فكر عالم سلفي قد حدثنا عن نشوئه وإرتقائه وتحيزه وتقوسه وبدايته ووحدته . و هوالعالم الأندلسي أبوبكر بن طفيل الذي ولد عام 1106م/500هجرية قرب غرناطة بالأندلس.وكان من أ قطاب رموز الحكمة المغربية الأندلسية حيث كان معلما لابن رشد.ويعتبر عالما من العلماء اللواحق في عصر الحضارة الإسلامية . وكان ابن طفيل قد إشتهر بقصته الفلسفية (حي بن يقظان)التي سبق ظهورها عصر النهضة بأوروبا وعصور كوبرنيق وجاليليو ونيوتن وإينشتين وديراك وهبل وغيرهم من أقطاب الفلك الحديث. والقصة رغم دلا ئها الإيمانية التأملية في منظومة الخلق والكون من خلال فكر إنسان كان يعيش متفردا في جزيرة نائية منذ أن ألقي به في اليم وهو رضيع . فاهتدي بفطرته إلي مكنونات الخلق وعظمة الخالق من خلال عقله وبصره وسمعه . كما اهتدي ببصيرته إلي الإيمان. لهذا نجد ابن طفيل يحدثنا في سياق قصته عن( البعد الثالث) بالكون وسماه الأقطار الثلاثة بالسماء وحددها بالطول والعرض والعمق. وكيف يعتقد أنها ممتدة إلي مالانهاية . إلا أنه أكد علي تحيز الكون قائلا: جسما لانهاية له باطل لأن الفلك (الكون) علي شكل كرة .وهذا ما أطلق عليه إينشتين فيما بعد التقوس الكوني وتحيزه حيث إعتبر الكون كتلة متقوسة( سماها ابن طفيل كرة)في فضاء متسع يتمدد فيه وكل مايقاس فيه يتم من داخل وجودنا به ورغم هذا لانري حافته أو حدوده . والعلماء حتي الآن لايعرفون مركز تمدده .إلا أن ابن طفيل نراه يتساءل قائلا: هل السماء ممتدة إلي غير نهاية ؟.أو هي متناهية محدودة بحدود تتقطع عندها ولايمكن أن يكون وراءها شيء من الإمتداد ؟.وكانت نظرية التمدد الكوني ثورة فلكية عندما طالعنا إدوين هبل عام 1920 بها . لأنها قلبت مفهوم العلم عن الكون إلا أن ابن طفيل سبقه فيها منذ ثمانية قرون عندما أشار إليها .فلقد حدثنا عن (التمدد الكوني ) وإنتفاخ الكون قائلا: الأجسام السماوية تتحرك حول الوسط بالمكان( الفضاء)ولو تحركت في الوضع ( المركز) علي نفسها أصبحت كروية الشكل .وحدثنا ابن طفيل فيما حدثنا به عن منظومة (وحدة الكون) قائلا: إن الفلك (الكون) بجملته وما يحتوي عليه من ضروب الأفلاك شيء واحد متصل ببعضه بعض كشخص واحد . كما حدثنا عن( نشوء الكون) قائلا : أن العالم (الكون) لايمكن أن يخرج إلي الوجود بنفسه ولابد له من فاعل (محدث) يخرجه إليه. وكان العدم والوجود من الأمور المثارة في علم الكلام ولاسيما لدي المعتزلة بالعصر العباسي حيث كانوا يبحثون في مسألة الخلق والقدم والحداثة للكون .وفي حديثه عن التناسق الكوني نراه يقول: الكواكب والأفلاك كلها منتظمة الحركات جارية علي تسق. كما حدثنا عن المادة المضادة بمواد الكون قائلا: وأن أكثر هذه الأجسام مختلطة ومركبة من أشياء متضادة ولذلك تؤول إلي الفساد .كما جدثنا عن الجاذبية الكونية والإنتفاخ الكوني والجينات والإنكسار الضوئي والمادة المظلمة بالكون وتكوير الأرض والشمس والقمر بإستفاضة . وإذا كان إينشتين وغيره من العلماء قد ظلوا في (حيص بيص)حول تعريفهم للزمان ككل وقصروه علي زمن عمر الكون منذ الإنفجار الكبير . لكن ابن طفيل نجده يقول عنه : هل هو شيء حدث بعد إن لم يكن وخرج إلي الوجود بعد العدم ؟. أ و كان موجودا فيما سلف ولم يسبقه العدم. وأخيرا .. إذا كان الكون حادثا كما يقول ابن طفيل فلابد له من محدث . والكون في جملته شيء واحد يتصل بعضه ببعض من خلال منظومة قائمة وماثلة لنا . وهذه النظرة تجعلنا نعيد قراءة فكر علمائنا الأوائل من خلال منظور عصري لتأصيل ما كتبوه وأ قروه مما يؤصل تفوق الحضارة الإسلامية ويجعل لها السبق العلمي المتميز . فمقولة أن العالم الإسلامي يعاني حاليا من الصدام بين الحضارات إفتئات طاغ علي الفكر الإنساني كله .
[تحرير] سمات الحضارة الإسلامية(5/81)
[تحرير] مقدمة
الإسلام كدين عالمي يحض علي العلم ويعتبره فريضة علي كل مسلم . لتنهض أممه وشعوبه . ولم يكن في أي وقت مدعاة للتخلف كما يأفك الغرب .فأي علم مقبول إلا لوكان علما يخالف قواعد الإسلام ونواهيه .فالرسول دعا لطلب العلم ولو كان بالصين . والإسلام يكرم العلماء ويحعلهم ورثة الأنبياء ويحضهم علي طلبه من المهد إلي اللحد. وتتميز الحضارة الإسلامية بالتوحيد والتنوع العرقي في الفنون والعلوم والعمارة طالما لاتخرج عن نطاق القواعد الإسلامية . لأن الإسلام لايعرف الكهنوت كما كانت تعرفه أوروبا . لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام . وكانت الفلسفة يخضعها الفلاسفة المسلمون للقواعد الأصولية مما أظهر علم الكلام الذي يعتبر علما في الإ لهيات . فترجمت أعمالها في أوروبا وكان له تأثيره في ظهور الفلسفة الحديثة وتحرير العلم من الهنوت الكنسي فيما بعد . مما حقق لأوروبا ظهور عصر النهضة بها . فالنهضة الإسلامية جعلت من العرب والشعوب الإسلامية المتبدية يحملون المشاعل التنويرية للعالم في العصور الوسطي حتي أصبحوا فيها سادة العالم ومعلميه . فلقد حقق الفرس والمصريون والهنود والأتراك المسلمين حضارات لهم في ظلال الإسلام لم يسبق لهم تحقيقها خلال حضاراتهم التي سبقت الإسلام . فأثروا بعلومهم التي إكتسبوها الحضارة الإسلامية التي إزدهرت وتنوعت وتنامت. لهذا لما دخل الإسلام هذه الشعوب لم يضعها في بيات حضاري ولكنه أخذ بها ووضعها علي المضمار الحضاري لتركض فيه بلا جامح بها أو كابح لها .وكانت مشاعل هذه الحضارة الفتية تبدد ظلمات الجهل وتنير للبشرية طريقها من خلال التمدن الإسلامي . فبينما كانت الحضارة الإسلامية تموج بديار الإسلام من الأندلس غربا لتخوم الصين شرقا ز كانت أوروبا وبقية أنحاء المعمورة تعيش في إظلام حضاري وجهل مطبق . وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع علي الغرب ونطرق أبوابه .فنهل منها معارفه وبهر بها لأصالتها المعرفية والعلمية . مما جعله يشعر بالدونية الحضارية . فثار علي الكهنوت الديني ووصاية الكنيسة وهيمنتها علي الفكر الإسلامي حتي لايشيع . لكن رغم هذا التعتيم زهت الحضارة الإسلامية وشاعت . وانبهر فلاسفة وعلماء أوروبا من هذا الغيث الحضاري الذي فاض عليهم . فثاروا علي الكنيسة وتمردوا عليها وقبضوا علي العلوم الإسلاميية من يقبض علي الجمر خشية هيمنة الكنيسة التي عقدت لهم محاكم التفتيش والإحراق .ولكن الفكر الإسلامي قد تمل منهم وأصبحت الكتب الإسلامية التراثية والتي خلفها عباقرة الحضارة الإسلامية فكرا شائعا ومبهرا . فتغيرت أفكار الغرب وغيرت الكنيسة من فكرها مبادئها المسيحية لتسايرالتأثير الإسلامي علي الفكر الأوربي وللتصدي للعلمانيين الذين تخلوا عن الفكر الكنسي وعارضوه وانتقدوه علا نية . وظهرت المدارس الفلسفية الحديثة في عصر النهضة أو التنوير بأوروبا كصدي لأفكار الفلاسفة العرب . ظهرت مدن تاريخية في ظلال الحكم الإسلامي كالكوفة والبصرة وبغداد و دمشق والقاهرة والفسطاط والعسكر والقطائع والقيروان وفاس ومراكش والمهدية والجزائر وغيرها . كما خلفت الحضارة الإسلامية مدنا متحفية تعبر عن العمارة الإسلامية كإستانبول بمساجدها والقاهرة بعمائرها الإسلامية وبخاري وسمرقند ودلهي وحيدر أباد وقندهار وبلخ وترمذ وغزنة وبوزجان وطليطلة وقرطبة وإشبيلية ومرسية وسراييفو وأصفهان وتبريز ونيقيا وغيرها من المدن الإسلامية.
[تحرير] العلم و الفنون في الحضارة الإسلامية
خلال قرني من وفاة الرسول كانت صناعة الكتب منتشرة في كل أنحاء العالم الإسلامي وكانت الحضارة الإسلامبة تدور حول الكتب .فقد كانت توجد المكتبات الملكية والعامة والخاصة في كل مكان حيث كانت تجارة الكتب ومهنة النساخة رائجة وكان يقتنيها كل طبقات المجتمع الإسلامي الذين كانوا يقبلون عليها إقبالا منقطع النظير .وكان سبب هذا الرواج صناعة الورق ببغداد وسمرقند .وكانت المكتبات تتيح فرص الإستعارة الخارجية .وكانت منتشرة في كل الولايات والمدن الإسلامية بالقاهرة وحلب وإيران ووسط آسيا وبلاد الرافدين والأندلس وشمال أفريقيا .وكانت شبكات المكتبات قد وصلت في كل مكان بالعالم الإسلامي . وكان الكتاب الذي يصدر في يغداد أو دمشق تحمله القوافل التجارية فوق الجمال ليصل لقرطبة بأسبانيا في غضون شهر . وهذا الرواج قد حقق الوحدة الثقافية وإنتشار اللغة العربية . وكانت هي اللغة العلمية والثقاقية في شتي الديار الإسلامية. كما كان يعني بالنسخ والورق والتجليد . مما ماجعل صناعة الكتب صناعة مزدهرة في العالم الإسلامي لإقبال القراء والدارسين عليها وإقتنائها .وكانت هذه الكتب تتناول شتي فروع المعرفة والخط وعلوم القرآن وتفاسيره واللغة العربية والشعروالرحلات والسير والتراث والمصاحف وغيرها من آلاف عناوين الكتب . وهذه النهضة الثقافية كانت كافية لإزدهار الفكر العربي وتميزه وتطوره .وفي غرب أفريقيا في مملكتي مالي وتمبكتو أثناء إزدهارهما في عصريهما الذهبي ، كانت الكتب العربية لها قيمتها . وكان من بينها الكتب النادرة التي كانت تنسخ بالعربية ، وكانت المملكتان قد أقامتا المكتبات العامة مع المكتبات الخاصة.
[تحرير] الترجمة(5/82)
وبدأت في الخلافة العباسية أكبر حركة ترجمة في التاريخ الإنساني كله من شتي لغات أهل الأرض لأمهات الكتب العلمية والفلسفية المعاصرة . ولم يصادر الخلفاء العباسيون أي فكر. وهذه الحرية الفكرية قد أثرت العلوم العربية ونهضت بها . لهذا إعتبر مؤرخو العلم الثقاة أن مرحلة الترجمةالعربية إحدى مفاخر الحضارة الإسلامية لأن الشعوب الأخرى كانت لا تحترم الحضارات السابقة لها ولا تستفيد منها. حيث كان الغزاة والغالبون يدمرون حضارة المغلوب ويحرقون الكتب ويقتلون العلماء ،كما فعل التتار في بغداد وما فعله الأسبان المسيحيون في قرطبة ، عندما أحرقوا التراث الإسلامي ودمروا المكتبات . ويذكر المستشرق الاسباني كونده Conde ، أن الاسبان عندما استولوا على قرطبة أحرقوا في يوم واحد نحو سبعين خزانة ( مكتبة عامة ) للكتب فيها اكثر من مليون وخمسين ألف مجلد. وعندما استولي التتار على بغداد ألقوا بالكتب في نهر دجلة ، وتحولت مياه النهر إلى السواد من الحبر ثلاثة أيام متتالية. ورغم كل هذه الظروف المؤسفة التي تعرضت لها المخطوطات الإسلامية فما يزال في أنحاء العالم اليوم فيض منها في متاحف أوروبا ومتاحف العالم الإسلامي . والكثير منها لم يخرج إلى النور ولم يتم تحقيقه أو تدارس ما فيه من كنوز المعرفة .ويرجع بداية عصر الترجمة الإسلامية للخليفتين العباسيين المنصور العباسي(ت 775م.) الذي شيد مدينة بغداد ،ومن بعده هارون الرشيد (ت807.) ، فقد شجعا المترجمين علي ترجمة علوم الإغريق والنبش عنها في بلاد الروم والشام وفارس والهند ومصر . فمعظمها كانت مندثرة ومعرضة للضياع والإنقراض . وكانت الكتب الإغريقية قد دفنت مع علمائها في مقابرهم . وكان قادة الفتوحات الإسلامية يبادلون الأسري بالكتب . وكانوا يضعون في بنود المعاهدات والصلح بندا ينص علي رفع الجزية في نظيرهدية من الكتب و السماح للمسلمين بالتنقيب عن الكتب الإغريقية. وكانوا يطلبون من البيزنطيين البحث عن كتاب معين جاء ذكره في المخطوطات، ويسألونهم البحث عنه في مقبرة صاحبه . وأنشأالخليفة العباسي المأمون داراً خاصة بالترجمة. وكان المترجمون يؤجرون بسخاء.. وقد يعطى المترجم مثقال وزن الكتاب المترجم ذهباً . وبعد مرحلة الترجمة عكف المسلمون على تلك المخطوطات الثمينة يدرسونها وينقونها مما شابها من الهرطقة والكفر والخرافات . واخضعوها للمفاهيم القرآنية والعقيدة الإسلامية . ويعتبر القرن التاسع م له أهميته في ثبت الحضارة الإسلامية المتنامية . لأن أعمال العلماء المسلمين كانت رائعة وكانوا رجال علم متميزين وكان المأمون الخليفة العباسي العالم المستنير(ت 833) يحثهم علي طلب العلم . وقد أنشأ لهم بيت الحكمة لتكون أكاديمية البحث العلمي ببغداد تحت رعايته الشخصية .وأقام به مرصدا ومكتبة ضخمة . كما أقام مرصدا ثانيا في سهل تدمر بالشام . وجمع المخطوطات من كل الدنيا لتترجم علومها . وكان يشجع الدارسين مهما تنوعت دراستهم . وحقق يهذا التوجه قفزة حضارية غير مسبوقة رغم وجود النهضة العلمية وقتها. وهذا ما لم يحدث بعد إنشاء جامعة ومكتبة الإسكندرية في القرن الثالث ق.م. وقام الفلكيون في تدمر في عهده بتحديد ميل خسوف القمر ووضعوا جداول لحركات الكواكب . وطلب منهم تحديد حجم الأرض ، وقاسوا محيطها ، فوجدوه 20400 ميل ،وقطرها 6500 ميل. وهذا يدل علي أن العرب كانوا علي علم وقتها ،بأن الأرض كروية قبل كويرنيق بخمسة قرون . كما طلب المأمون منهم وضع خريطة للأرض . وفي علم الفلك أثبتوا دورانها. وقياساتهم تقريبا لها تطابق ما قاسه علماء الفلك بالأقمار الصناعية ، وأنهم كانوا يعتقدون خطأ أنها مركز الكون، يدورحولها القمر والشمس والكواكب . وهذا الإعتقاد توارد إليهم من فكر الإغريق . واكتشفوا الكثير من النجوم والمجرات السماوية وسموها بأسمائها العربية التي مازالت تطلق عليها حتي الآن. وكانت كل الأبحاث في الفلك والرياضيات في العصر العباسي قد إنفرد بها العلماء المسلمون وقد نقلوها عن الهنود الذين قد ترجموها عن الصينيين للعربية وقاموا بتطويرها بشكل ملحوظ .
الاسطرلاب
الاسطرلاب
[تحرير] الفلك
كان إبراهيم الفزاري أول من إخترع الإسطرب في الفلك.كما ظهرت عبقرية الخوارزمي في الزيج ( جدول فلكي) الذي صنعه وأطلق عليه اسم "السند هند الصغير،،وقد جمع فيه بين مذهب الهند، ومذهب الفرس، ومذهب بطليموس الإغريقي في الفلك .وصار لهذا الزيج أثر كبير في الشرق والغرب. و ابتكر المسلمون علوماً جديدة لم تكن معروفة قبلهم وسموها بأسمائها العربية كعلم الكيمياء وعلم الجبر وعلم المثلثات . و من مطالعاتنا للتراث العلمي الإسلامي نجد أن علماء المسلمين قد إبتكروا المنهج العلمي في البحث والكتابة.وكان يعتمد علي التجربة والمشاهدة والاستنتاج. و أدخل العلماء المسلمون الرسوم التوضيحية في الكتب العلمية و رسوم الآلات والعمليات الجراحية. و رسم الخرائط الجغرافية والفلكية المفصلة. وقد ابتدع المسلمون الموسوعات و القواميس العلمية حسب الحروف الأبجدية . وكان لاكتشاف صناعة الورق وانتشار حرفة (الوراقة) في العالم الإسلامي فضل في انتشار تأليف المخطوطات ونسخها . وقد تنوعت المخطوطات العربية بين مترجم ومؤلف. أما المترجم فكان منها الهندي والفارسي والإغريقي والمصري (من مكتبات الاسكندرية). ولم تكن المكتبات الإسلامية كما هي في عصرنا مجرد أماكن لحفظ الكتب، بل كان في المكتبة الرئيسية جهاز خاص بالترجمة وآخر خاص بالنسخ والنقل وجهاز بالحفظ والتوزيع. وكان المترجمون من جميع الأجناس الذين كانوا يعرفون العربية مع لغة بلادهم.ثم كلن يراجع عليهم ترجماتهم، علماء العرب لإصلاح الأخطاء اللغوية. أما النقلة والنساخون فكانت مهمتهم إصدار نسخ جديدة من كل كتاب علمي عربي حديث أو قديم. وكانت أضخم المكتبات هي الملحقة بالجامعات والمساجد الكبري . ففي بيت الحكمة ببغداد وفي دار الحكمة في القاهرة وفي جامعة القيروان وقرطبة كانت المخطوطات بهم بالآلاف في كل علم وفرع من فروع العلم . وكانت كلها ميسرة للاطلاع أو الاستعارة. فكان يحق للقارىء أن يستعيرأي كتاب مهما كانت ً قيمته وبدون رهن . لهذا كانت نسبة الأمية في هذا الوقت ، تكاد تكون معدومة. وكان تعلم القرآن كتابة وقراءة إلزامياً. بينما كانت نسبة الأمية في أوروبا فيما بين القرن التاسع وحتي القرن 12م أكثر من 95% .و يقول المستشرق آدم متز في كتابه (الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري )،أن أوروبا وقتها لم يكن بها أكثرمن عدد محدود من المكتبات التابعة للأديرة . ولا يعرف التاريخ أمة اهتمت باقتناء الكتب والاعتزاز بها كما فعل المسلمون في عصور نهضتهم وازدهارهم. فقد كان في كل بيت مكتبة. وكانت الأسر الغنية تتباهي بما لديها من مخطوطات نادرة وثمينة. وكان بعض التجار يسافرون إلى أقصى بقاع الأرض لكي يحصلوا على نسخة من مخطوط نادر أو حديث. وكان الخلفاء والأثرياء يدفعون بسخاء من أجل أي مخطوط جديد.
[تحرير] نهضة علمية(5/83)
مع هذه النهضة العلمية ظهرت الجامعات الإسلامية لأول مرة بالعالم الإسلامي قبل أوروبا بقرنين .وكانت أول جامعة بيت الحكمة أنشئت في بغداد سنة 830 م، ثم تلاها جامعة القرويين سنة 859 م في فاس ثم جامعة الأزهر سنة 970 م في القاهرة. وكانت أول جامعة في أوروبا أنشئت في سالرنو بصقلية سنة 090ا م على عهد ملك صقلية روجر الثاني. وقد أخذ فكرتها عن العرب هناك . ثم تلاها جامعة بادوا بإيطاليا سنة 1222 م. وكانت الكتب العربية تدرس بها وقتها . وكان للجامعات الإسلامية تقاليد متبعة وتنظيم .فكان للطلاب زي موحد خاص بهم وللأساتذة زي خاص. وربما اختلف الزي من بلد إلي بلد ومن عصر إلي عصر. وقد أخذ الأوربيون عن الزي الجامعي الإسلامي الروب الجامعي المعمول به الآن في جامعاتهم . وكان الخلفاء والوزراء إذا أرادوا زيارة الجامعة الإسلامية يخلعون زي الإمارة والوزراة ويلبسون زي الجامعة قبل دخولها .وكانت اعتمادات الجامعات من ايرادات الأوقاف. فكان يصرف للطالب المستجد زي جديد وجراية لطعامه. وأغلبهم كان يتلقى منحة مالية بشكل راتب وهو ما يسمى في عصرنا بالمنحة الدراسيةScholarship .فكان التعليم للجميع بالمجان يستوي فيه العربي والأعجمي والأبيض والأسود. وبالجامعات كان يوجد المدن الجامعية المجانية لسكني الغرباء وكان يطلق عليها الأروقة. والطلبة كان يطلق عليهم المجاورون لسكناهم بجوارها . وكان بالجامعة الواحدة أجناس عديدة من الأمم والشعوب الإسلامية يعيشون في إخاء ومساواة تحت مظلة الإسلام والعلم. فكان من بينهم المغاربة والشوام والأكراد والأتراك وأهل الصين وبخارى وسمرقند. وحتى من مجاهل افريقيا وآسيا وأوروبا . وكان نظام التدريس في حلقات بعضها يعقد داخل الفصول. وأكثرها كان في الخلاء بالساحات أو بجوار النافورات بالمساجد الكبري. وكان لكل حلقة أستاذها يسجل طلابها والحضور والغياب.ولم يكن هناك سن للدارسين بهذه الجامعات المفتوحة . وكان بعض الخلفاء والحكام يحضرون هذه الحلقات.وكانوا يتنافسون في استجلاب العلماء المشهو رين من أنحاء العالم الإسلامي ،ويغرونهم بالرواتب والمناصب، ويقدمون لهم أقصى التسهيلات لأبحاثهم. وكان هذا يساعد على سرعة انتشار العلم وانتقال الحضارة الإسلامية بديار الإسلام . كانت الدولة الإسلامية تعني بالمرافق الخدماتية والعامة بشكل ملحوظ. فكانت تقيم المساجد ويلحق بها المكتبات العامة المزودة بأحدث الإصدارات في عصرها ودواوبن الحكومة والحمامات العامة ومطاعم الفقراء وخانات المسافرين علي الطرق العامة ولاسيما طرق القوافل التجارية العالمية ، وطرق الحج التراثية وإنشاء المدن والخانقاهات والتكايا المجانية للصوفية واليتامي والأرامل والفقراء وأبناء السبيل . واقيمت الأسبلة لتقدم المياه للشرب بالشوارع . وكان إنشاء البيمارستنات (المستشفيات الإسلامية ) سمة متبعة في كل مكان بالدولة الإسلامية يقدم بها الخدمة المجانية من العلاج والدواء والغذاء ومساعدة أسر المرضي الموعزين .وكلمة باريمستان بالفارسيةهو مكان تجمع المرضي ،وكلمة مستشفي معناها بالعربية مكان طلب الشفاء .لهذا كان الهدف من إنشاء هذه المستشفيات غرضا طبيا وعلاجيا . عكس المستشفيات في أوروبا وقتها ،كانت عبارة عن غرف للضيافة ملحقة بالكنائس والأديرة لتقدم الطعام لعابري السبيل أو ملاجيء للعجزة والعميان والمقعدين ولم تكن للتطبيب . وكان يطلقون علي هذه الغرف كلمة مضيفة Hospital ، وهي مشتقة من كلمة ضيافة Hospitality .وأول مستشفي بني بإنجلترا في القرن 14م. بعد إنحسار الحروب الصليبية علي المشرق العربي، بعدما أخذ الصليبيون نظام المستشفيات الإسلامية و الطب العربي عن العرب . وكان أول مستشفي في الإسلام بناه الوليد بن عبد الملك سنة706 م (88 هـ) في دمشق. وكان الخلفاء المسلمون يتابعون إنشاء المستشفيات الإسلامية الخيرية بإهتمام بالغ. ويختارون مواقعها المناسبة من حيث الموقع والبيئة الصالحة للإستشفاء والإتساع المكاني بعيدا عن المناطق السكنية . وأول مستشفى للجذام بناه المسلمون في التاريخ سنة 707 م بدمشق. في حين أن أوروبا كانت تنظر إلى الجذام على إنه غضب من الله يستحق الإنسان عليه العقاب حتى أصدر الملك فيليب أمره سنة 1313 م بحرق جميع المجذومين في النار. وكانت المستشفيات العامة بها أقسام طب المسنين ، بها أجنحة لكبار السن وأمراض الشيخوخة . وكانت توجد المستشفيلت الخاصة. والمستوصفات لكبار الأطباء بالمستشفيلت العامة .. ومن المعروف أن الدولة الإسلامية في عصور ازدهارها كانت تعطي أهمية قصوى لمرافق الخدمات العامة مثل المساجد ودواوين الحكومة والحمامات والمطاعم الشعبية واستراحات المسافرين والحجاج. وبديهي أن تكون أهم هذه المرافق المستشفيات.. فقد كانت تتميز بالاتساع والفخامة والجمال مع البساطة. ومن بين هذه المستشفيات التراثية اليوم مستشفي السلطان قلاوون ومستشفي أحمد بن طولون بالقاهرة والمستشفي السلجوقي بتركيا . وكانت مزودة بالحمامات والصيدايات لتقديم الدواء والأعشاب. والمطابخ الكبيرة لتقديم الطعام الطبي الذي يصفه الأطباء للمرضي حسب مرضهم . لأن الغذاء المناسب للمرض كانوا يعتبرنه جزءا من العلاج . ، ويشتمل المستشفى الكبير( الجامعي ) على قاعة كبيرة للمحاضرات والدرس وامتحان الأطباء الجدد وملحق بها مكتبة طبية ضخمة تشمل على المخطوطات الطبية. والمشاهد لهذه المستشفيات سيجدها أشبه بالقصورالضخمة و المتسعة، بل والمنيفة. وحول المبني الحدائق ومن بينها حديقة تزرع فيها الأعشاب الطبية.ولم يأت منتصف القرن العاشر م. حتى كان في قرطبة بالأندلس وحدها خمسون مستشفي وأكثر منها في دمشق وبغداد والقاهرة والقيروان علاوة المستشفيات المتنقلة والمستشفيات الميدانية لجرحي الحرب ، والمستشفيات التخصصية كمستشفيات الحميات التي كان بها معزل طبي لعزل الأمراض المعدية . وفيها كان يبرد الجو وتلطف الحرارة بنوافير المياه أو بالملاقف الهوائية . ومستشفيات للجراحةالتي كان يشترط فيها الجو الجاف ليساعد على التئام الجروح. لكثرة حروب المسلمين فقد طوروا أساليب معالجة الجروح فابتكروا أسلوب الغيار الجاف المغلق وهو اسلوب نقله عنهم الأسبان وطبقوه لأول مرة في الحرب الاهلية الأسبانية ثم عمم في الحرب العالمية الأولى بنتائج ممتازة. وهم أول من استعمل فتيلة الجرح لمنع التقيح الداخلي وأول من استعمل خيوطا من مصارين الحيوان في الجراحة الداخلية.. ومن أهم وسائل الغيار على الجروح التى أدخلها المسلمون استعمال عسل النحل الذي ثبت حديثا أن له خصائص واسعة في تطهير الجرح ومنع نمو البكتريا فيه..
[تحرير] الطب(5/84)
ولقد طور الأطباء المسلمون أساليب معالجة الجروح فابتكروا أسلوب الغيار الجاف المغلق . وفتائل الجراحة المغموسة في عسل النحل لمنع التقيح الداخلي وهو اسلوب نقله عنهم الأسبان وطبقه الأوربيون في حروبهم . وكان الجراحون المسلمون قد قفزوا بالجراحة قفزة هائلة ونقلوها من مرحلة نزع السهام كما كان عند الإغريق إلي مرحة الجراحة الدقيقة ومما سهل هذا إكتشافهم للتخدير قبل الجراحة، فتوصلوا إلى ما سموه المرقد (البنج عبارة عن اسفنجة تنقع فى محلول من الأعشاب المركبة القنب(الحشيش) والزؤبان والخشخاش (الأفيون ) وست الحسن . وتترك لتجف وقبل العملية توضع الاسفنجة في فم المريض فإذا امتصت الأغشية المخاطية تلك العصارة استسلم للرقاد العميق لا يشعر معه بألم الجراحة .ولم يقتصر أطباء المسلمين على طريقة الاسفنجةالمخدرة فقط ،بل كانوا يستعملونه لبوساً من الشرج أو شراباً من الفم .و عرف المسلمون التخدير بالاستنشاق. وبين ابن سينا أثره بقوله : من استنشق رائحته عرض له سبات عميق من ساعته . وللإفاقة من البنج كان الأطباء العرب يستخدمون أسفنجة أطلقوا عليها الإسفنجة المنبهة المشبعة بالخل لإزالة تأثير المخدر وإفاقة المريض بعد الجراحة .وحدثنا ابن سينا في كتابه( القانون (عن التخديربالتبريد قائلا: ومن جملة ما يخدر ،إلما ء المبرد بالثلج تبريداً بالغاً. ووصف كيفية استعمال التبريد كمخدر موضعيى كما في جراحة الأسنان.. ولقد كان الجراحون قبل ذلك يتهيبون من الجراجة الداخلية، ويكتفون بعمليات البتر. ثم الكي بالنار لإيقاف النزيف الداخلي. لكنهم باكتشاف واختراعالرازي لخيوط الجراحة من أمعاء الحيوان جعل بإمكانهم خياطة أي عضوداخلي بأمان دون الحاجة إلى فتحه من جديد لاخراج أسلاك الجراحة. وكان الجراحون يستعملون في خياطة جراحاتهم الإبر والخيوط من الحريرأو من أمعاء الحيوانات لربط الجروح الداخلية والخارجية أو من خيوط من الذهب لتقويم الأسنان . ومع تطور الجراحة عند المسلمين بعد اكتشافهم للتخدير ،ابتكروا الكثير من آلات الجراحة التى لم تكن معروفة قبلهم ،فمنها آلات من الفضة أو الصلب أوالنحاس. وكانت أسماء الآلات تدل علي مدي توسع الجراحة وتنوعها فهناك المشارط بأنواعها للجراحة الخارجية والداخلية ومنها ذو الحد وذو الحدين و المناشير الكبيرة للبتر والصغيرة لقص العظام الداخلية. و المباضع المختلفة الأشكال فمنها المباضع الشوكية والمعقوفة لقص اللوزتين. والمجادع والمجادر والمبادر والكلاليب. ودست المباضع والمقصات الخاصة بعمليات العيون والجفوت بأحجامها وأشكالها المختلفة، كالجفوت الكبيرة المستعملة في أمراض النساء لاستخراج الجنين أو تسهيل ولادته. أو الجفوت المستعملة في جراحة العظام لاستخراج بقايا العظم أو السلاح داخل الجسم ، أو المستعملة في جراحة الأذن والأنف والعيون. و الصنانير التى تدخل بين الأوعية والعروق والأعصاب و في جراحة الأوعية الداخلية وخياطتها. وفي كسور العظام كان الأطباء يستعملون أنواعا من الجبائر من البوص أو جريد النخل أو من الخشب. وكان المجبرون يعالجون خلع المفاصل وكسر العظام بالطرق اليدوية في خبرة ومهارة دون حاجة إلى الشق بالجراحة وفي كثير من الأحيان يستعملون الشد على المفصل لمنع تكرار الخلع، كما أنهم ابتكروا طريقة الرد الفجائي للخلع . وكان الكي بالمكاوي المختلفة ،قد توارثه العرب عن البدو . . وقد استعمله المعالجون المسلمون لقتل مواطن الألمpain killer للأمراض المزمنة والمستعصية كعرق النساء واللمباجو و الصداع النصفي . وحددوا خرائط لجسم الإنسان حددوا فيها مواضع الكي بالنسبة لكل مرض .وقد يكون الكي في أكثر من موضع للمرض الواحد. وابتكر الأطباء المسلمون أنواعا من المكاوي المحماة ،من بينها الإبر الدقيقة ذات السن الواحد أو شعبتين أو ثلاثة. وصنعوها من الحديد أو النحاس أو الذهب أو الفضة وحددوا درجة الحرارة المناسبة لعلاج كل مرض وحدد العالم ابن سينا في كتابه (القانون (القواعد الرئيسية لجراحة السرطانات. في مراحل ثلاث هي : الاكتشاف المبكر،ثم الجراحة المبكرة، فالاستئصال التام. و ذكر الزهراوي علاج السرطان في كتابه( التصريف (قائلا: متى كان السرطان في موضع يمكن استئصاله كله كالسرطان الذي يكون في الثدي أو في الفخد ونحوهما من الأعضاء المتمكنة لإخراجه بجملته ،إذا كان مبتدءاً صغيراً فافعل. أما متى تقدم فلا ينبغى أن تقربه فاني ما استطعت أن أبرىء منه أحدا. ولا رأيت قبلى غيري وصل إلى ذلك " .ووصف العملية قائلا : ثم تلقى في السرطان الصنانير التى تصلح له ثم تقوره من كل جهة مع الجلد على استقصاء حتى لا يبقى شيء من أصوله واترك الدم يجري ولا تقطعه سريعا بل اعصر المواضع ما أمكنك. وكان الزهراوي يجري عملية إستئصال الغدة الدرقية Thyroid . وهي عملية لم يجرؤ أي جراح في أوروبا على إجرائها إلا في القرن التاسع عشربعد ه بتسعة قرون وقد بين هذه العملية بقوله : هذا الورم يسمى فيلة الحلقوم ويكون ورما عظيما على لون البدن وهو في النساء كثير. وهو على نوعين إما يكون طبيعيا وإما يكون عرضيا. فأما الطبيعي فلا حيلة فيه. وأما العرضي فيكون على ضربين أحدهما شبيه بالسلع الشحمية والنوع الآخر شبيه بالورم الذي يكون من تعقد الشريان وفي شقة خطر فلا تعرض لها بالحديد البتة " كما بين الزهراوي أوضاع المريض في جراحة الأمعاء بوضعه على سرير مائل الزاوية فاذا كانت الجراحة في الجزء السفلي من الأمعاء وجب أن يكون الميل ناحية الرأس. والعكس صحيح والهدف من ذلك الإقلال من النزيف أثناء العملية والتوسعة ليد الجراح (.و نبه علي أهمية تدفئة الامعاء عند خروجها من البطن إذا تعسر ردها بسرعة، وذلك بإلماء الدافىء حتى لا تصاب بالشلل.كما إبتكر (الزراقة) لغسيل المثانة وإدخال الأدوية لعلاجها من الداخل .كما عملية تفتيت حصاة المثانة قبل إخراجها فقال : فإن كانت الحصاة عظيمة جدا فإنه من الجهل أن تشق عليها شقا عظيما لأنه يعرض للمريض أحد أمرين: إما أن يموت أو يحدث له تقطيرفي البول والأفضل أن يتحايل في كسرها بالكلاليب ثم تخرجها قطعا). وفي سنة 836 م أمر الخليفة المعتصم ببناء مشرحة كبيرة على شاطىء نهر دجلة في بغداد وان تزود هذه المشرحة بأنواع من القرود الشبيهة في تركيبها بجسم الإنسان وذلك لكى يتدرب طلبةالطب على تشريحها. ولم يخل كتاب من مؤلفات المسلمين في الطب من باب مستقل عن التشريح توصف فيه الأعضاء المختلفة بالتفصيل وكل عضلة وعرق وعصب باسمه وكان الرازي يقول في كتابه: "يمتحن المتقدم للإجازة الطبية في التشريح أولا.، فإذا لم يعرفه فلا حاجة بك أن تمتحنه على المرضى". وكان المسلمون يعتمدون أول أمرهم على ما كتبه الإغريق في تشريح جسم الإنسان وذلك تجنبا للحرج الدينى.. ولكنهم اكتشفوا عن طريق التشريح المقارن (أي تشريح الحيوانات) الكثير من الأخطاء في معلومات الإغريق فابتدأوا الاعتماد على أنفسهم ". زمن خلال دراستهم للتشريع تعرف ابن النفيس علي الدورة الدموية . واكتشفوا أن الكبد يتكون من فصين وليس من خمسة فصوص كما كان يعتقد الإغريق . واكتشف عبد اللطيف البغدادي المتوفي سنة 1231 م أن الفك السفلي للإنسان يتكون من عظمة واحدة وليس من عظمتين كما ذكر جالينوس بعد أن فحص (2000) جمجمة بشرية . واكتشف أن عظمة العجز sacrum تتكون من قطعة واحدة وليس من ست قطع كما ذكر جالينوس الإغريقي. وكان ابن الهيثم المتوفي سنة(5/85)
1037م قداكتشف تشريح طبقات العين ووظائف كل طبقة؛ كالعدسة والحدقة والشبكية وتر كيب الاعصاب المتصلة من العين إلي المخ. كما اكتشف ابن رشد وظائف شبكية العين . وكان المسلمون يطلقون على طب العيون اسم الكحالة وقد اشتهر عدد من أطبائهم بلقب الكحال.. لبروزهم في هذا الفن.. ولا تقتصر الكحالة على العلاج بالكحل والقطور فحسب "فدرج الكحل " كان يشمل إلى جانب هذه الادوية على الآلات الجراحية المتخصصة، وقد تطورت جراحة العيون فى البلاد التي تكثر فيها هذه الأمراض مثل مصر والأندلس. وفي علم طب الأعشاب اكتشفوا ألوف النباتات التي لم تكن معروفة وبينوا فوائدها. وكانت معظم الأعشاب تجرب على الحيوانات كالقرود أولا. وكان الطبيب المعالج هو الصيدلي أو العشاب في آن واحد. ثم انفصلت التخصصات وأصبح الطبيب يكتب الوصفات وتسمى (الأنعات). وكان يسلمها المريض إلى العشاب أو العطار الذي يركبها له. . وكان العلماء المسلمون يتحايلون على الأدوية المرة التى تعافها نفس المريض بطرق مختلفة. فابن سينا أول من أوصى بتغليف الدواء بأملاح الذهب أو الفضة لهذا السبب. فكان ابن البيطار (شيخ العطارين) يجوب العالم ومعه رسام يرسم له في كتبه النبات بالألوان في شتى أحواله واطواره ونموه. وقد اكتشف وحده 300 نبات طبي جديد شرحها في كتبه واستجلبها معه .وقد ألف كبار العشابين العديد من الكتب والموسوعات العلمية في هذا العلم ومن أهم هؤلاء البيروني صاحب كتاب (الصيدلة (وابن البيطار مؤلف كتاب "مفردات الأدوية. وكان الطب العربي قد عني بطب المسنين Geriatrics وعرف الطب النفسي العضوي Psycho - somatic Diseases كطب المجانين والمسجونين وكان ابن سينا أول من أشار إلى أثر الأحوال النفسية على الجهاز الهضمي وقرحة المعدة وعلى الدورة الدموية وسرعة النبض. وكان الأطباء العرب يتبعون الطب الوقائي و الأمراض المعدية. حبث كانوا يعرفوم العدوى ودورها في نقل الأمراض قبل اكتشاف الميكروسكوب والميكروبات بمئات السنين.. فبينوا أضرارمخالطة المريض بمرض معد أو استعمال آنيته أو ملابسه، ودور البصاق والإفرازات في نقل العدوي . وكان ابن ابن رشد قد إكتشف المناعة التي تتولد لدى المريض بعد إصابته بمرض معد مثل الجدري. وبين أنه لايصاب به مرة أخرى. وكانوا يصنعون نوعا من التطعيم ضد الجدري( إذ يأخذون بعض البثور من مريض ناقه ويطعم به الشخص السليم بأن توضع على راحة اليد وتفرك جيدا أو يحدثون خدشا في مكانها وهي نفس فكرة التطعيم التي نسبت فيما بعد إلي أوروباوغيرها. وكان يوجد قانون تشريعي ينظم مزاولة مهنة الطب) ففي عهد الخليفة المقتدرالعباسي صدر أول قانون في التاريخ للرخص الطبية وبموجبه لا يجوز ممارسة الطب إلا بعد امتحان وشهادة . ووضعت آداب وأخلاقيات للمهنة .وكان كل من يقوم بممارسة مهنة الطب، يؤخذ عليه قسم الطبيب المسلم والذي كان يعتمد على المحافظة على سر المريض وعلاجه دون تمييز وأن يحفظ كرامة المهنة وأسرارها. وكان في سنة 833 م- 8 1 2 هـ (4 1) في عهد الخليفة المأمون قد صدر أول قانون للرخص الصيدلية وبموجبه يجري امتحان للصيدلاني ثم يعطي بموجبه مرسوم يجيز له العمل.وأخضع القانون الصيدليات للحسبة (التفتيش ). وكان الخليفة قد كلف الرازي شيخ الأطباء بتأليف كتاب بعنوان "أخلاق الطبيب " ليدرس للطلبة.. وقد شرح فيه العلاقة الانسانية بين الأطباء والمرضى وبينهم وبين بعضهم كما ضمنه نصائح للمرضى في تعاملهم مع الطبيب...ووضع أيضا كتاب "طب الفقراء" يصف لهم فيه الأدوية الرخيصة للعلاج المنزلي.
[تحرير] البيطرة
وكانت البيطرة قد أصبحت علما له قواعده وأصوله لأن الإسلام عني بالرفق بالحيوان وعلاجه وتغذيته ونهانا عن عدم تحميله ما لاطاقة له به أو تعذيبه ، ومنع قتله إلا لضرورة .وحرم وشمه أو جدع أنفه أو وخزه بآلة حادة . ولكي نعطي القارىء فكرة عن المدى الذي وصل إليه المسلمون من التطور العلمي في ميدان الطب البيطري حيث عني بأمراض الخيل،و المظهر الخارجي والصفات العامة المميزة للفرس والحمار والبغل ووظائف الأعضاء الخارجية و العيوب الوراثية في الخيل . وكانت الخلافة العباسية قداتسعت في مشارق الأرض ومغاربها، وزادت حاجة المسلمين إلى علم جديد من علوم الحساب يساعدهم في معاملات البيع والشراءبين الشعوب مع اختلاف العملات والموازين ونظام العقود. وهذا ما جعل الخليفة إلمأمون يكلف الخوارزمي عالم الرياضيات ببغداد ،بالتفرغ لوضع وسيلة جديدة لحل المعادلات الصعبة التي تواجه المشتغلين بالحساب.فوضع كتابه (الجبر والمقابلة) وبين أغراضه قائلا عند تقديمه: يلزم الناس من الحاجة إليه في مواريثهم ووصاياهم وفي مقاسمتهم وأحكامهم وتجارتهم وفي جميع ما يتعاملون به بينهم من مساحة الأرضين وكرى الأنهار والهندسة وغير ذلك من وجوهه وفنونه .). وتناول الكتاب الحسابات وطرقها ابتداء من حساب محيط فى الكرة الأرضية وقطرها وخطوط الطول والعرض في البلدان إلى مساحات البلدان والمدن والمسافات بينها. ثم مساحات الشوارع والأنهار إلى مساحات الضياع والبيوت .. وحساب الوصايا والمواريث وتقسيم التركات المعقدة. والحسابات الفلكية ، وحساب المعمار . وكلها كانت تواجه مشاكل وصعوبة في حسابها بطرق الأولين. وكان علماء الرياضيات المسلمين قد بحثوا في مختلف جوانب علوم الحساب والهندسة والأعداد جمعا وتفريقا وتضعيفا وضربا وقسمة وتوصلوا لكيفية إخراج الجذور في الأعداد الصحيحة وغير الصحيحة .و بينوا الكسور و صورها وطرق جمعها وتفريقها وضربها وقسمتها واستخراج جذور الكسور التربيعية والتكعيبية والضرب والقسمة باستخدام الهندسة وحلوا مسائل العدد ولبنوا خصائصه وتطبيقاته في المعاملات والصرف وتحويل الدراهم والدنانير والأجرة والربح والخسارة والزكاة والجزية والخراج وحساب الأرزاق والبريد والأعداد المضمرة وغيرها من علوم الحساب.
[تحرير] الرياضيات(5/86)
العرب كانوا قد ابتكروا الرقم (صفر) وهذا بحد ذاته فتح الآفاق الواسعة أمام علم الأرقام والعدد والرياضيات ، كما و الأرقام العربية المستخدمة الآن هي بالأصل أرقام هندية ، بينما الأرقام الإنجليزية المستخدمة دوليا عي أصلا الأرقام العربية التي اكتشفها المسلمون بناء على طريقة الزوايا ، إذ يمثل كل رقم رسما توضيحيا يعتمد على زوايا تقابل ذلك الرقم ، فالعدد (1) يمثل زاوية واحدة ، والعدد (2) يمثل زاويتين ورسمه الأصلي يشبه الحرف Z إلا أنه حرّف إلى شكله الحالي ، والعدد (3) إلى أن نصل إلى العدد تسعة وهو مكون من تسع زوايا كما هو مبين بشكل مواقع الزوايا لكل رقم غباري عربي ، ولم يُستعمل نظام الزوايا بالنسبة للصفر بل استعملت الدائرة لأنها ليست رقما أو عددا وإنما هي مكونة من لا شيء ، والقصد من استعمالها هو للدلالة على موقع الفراغ بالنسبة للأرقام ووضعها في الخانات الصحيحة ، لتفرق بين الخانة الآحادية والعشرية والمئوية. وقد ظهرت الترجمة العربية في عهد أبي جعفر المنصور لكتاب "السند هند" ومن خلاله دخل علم الحساب الهندي بأرقامه المعروفة في العربية بالأرقام الهندية فقد تطور على أثرها علم العدد عند العرب، وأضاف إليها المسلمون نظام الصفر، والذي لولاه لما استطعنا أيضاً أن نحل كثيراً من المعادلات الرياضية من مختلف الدرجات، فقد سهل استعماله جميع أعمال الحساب، وخلص نظام الترقيم من التعقيد، ولقد أدى استعمال الصفر في العمليات الحسابية إلى اكتشاف الكسر العشري الذي إكتشفه العالم الرياضى جمشيد بن محمود غياث الدين الكاشي(ت 840 هـ1436 م)، كما ورد في كتابه (مفتاح الحساب للعالم). وكان هذا مقدمة ا للدراسات والعمليات الحسابية المتناهية في الصغر. لقد كانت الأرقام العربية بصفرها وكسورها العشرية بحق هدية الإسلام إلى أوروبا. هذا الكتاب تضمن الزيج وهو عبارة عن جداول حسابيةً فلكياة تبين مواقع النجوم وحساب حركاتها. ويعتبر إبراهيم الفزاري أول من صنع الاصطرلاب . وهو الآلة الفلكية التي تستخدم لرصد الكواكب. وكان علماء المسلمين يصدرون كتاباًدورياً بإسم المناخ،وهي موسوعات تنبؤية حولية أو فصلية تبين أحوال الجو في كل عام، ومواسمالزراعة للنباتات و الطقس والمطر حسب التوقعات الفلكية. مما كان يساعد الزراع والمسافرين علي التعرف علي الأرصاد الجوية . وقد نقلت أوروبا فكرته . وحاليا مازالت الموسوعة السنوية من المناخ Al) manac) تصدر سنويا في معظم بلدان العالم على الرغم
[تحرير] الميكانيكا(5/87)
وعرف العرب علم الميكانيكا وكانوا يطلقون عليه علم الحيل وقد نقلوه عن الإغريق والرومان والفرس والصينيين وجعلوه علما تطبيقيا بعدما كان علما للتسلية والسحر.لهذا أطلق العلماء العرب عليه علم الحيل النافعة وكان قدماء المصريين قد إستخدموا الميكانيكا في تشييد الأهرامات والمعابد الضخمة من حيث نقل الحجارة ورفعها . والإغريق أخذوها عنهم وجعلوها علما قائما بذاته أطلقوا عليه علم الميكانيكا .ونقل العرب تقنيته عن الإغريق فترجموا كتبه . وطوروه وابتكروا فيه تقنيات جديدة . وكان الهدف من هذا، الإستفادة منه وتوفير القوة البشرية والتوسع في القوة الميكانيكية والإستفادة من المجهود البسيط للحصول علي حهد أكبر من جهد الإنسانوالحيوان . فاعتبره العلماء طاقة بسيطة تعطي جهدا أكبر . فأرادوا من خلاله تحقيق منفعة الإنسان واستعمال الحيلة مكان القوة والعقل مكان العضلات والآلة بدل البدن .والإستغناء عن سخرة العبيد ومجهودهم الجسماني . فلجأوا للطاقة الميكانبكة للإستغناء عن الطاقة الحيوية التي تعتمد على العبيد والحيوانات ، ولاسيما وأن الإسلام منع نظام السخرة في قضاء الأمورالمعيشية التي تحتاج لمجهود جسماني كبير . كما حرم إرهاق الخدم والعبيد والمشقة على الحيوان بعدم تحميلهم فوق ما لا يطيقونه ، لذلك اتجه المسلمون إلى تطوير الآلات لتقومعوضا عنهم بهذه الأعمال الشاقة . و علم الحركة حاليا ، يقوم على ثلاثة قوانين رئيسية ، كان قد وضعها العالم الإنجليزي إسحق نيوتن في أوائل القرن 18،عندما نشرها في كتابه الشهير (الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية. ( وكان نيوتن في هذه القوانين قد قام بتجميع المعلومات العربية القديمة مما كتبه العلماء العرب عن الحركة للأشياء قبل عصره بسبعة قرون . إلا أنه صاغها في قالب معادلات رياضية. وأخذ تعريفاتهم لهذه القوانين الثلاثة ونسبها إليه . ففي القانون الأول عن الحركة قال :أن الجسم يبقى في حالة سكون أو في حالة حركة منتظمة في خط مستقيم مالم تجبره قوى خارجية على تغييرهذه الحالة . ويقول هذا إخوان الصفا، في رسائلهم الشهيرة :الأجسام الكليات كل واحد له موضع مخصوص ويكون واقفاً فيها لا يخرج إلا بقسر قاسر". ويقول ابن سينا المتوفي سنة 1037م. في كتابه (الإشارات وا لتنبيهات) :إنك لتعلم أن الجسم إذا خلى وطباعه ولم يعرض له من الخارج تأثير غريب لم يكن له بد من موضع معين وشكل معين .فإن من طباعه مبدأ استيجاب ذلك .إذا كان شيء ما يحرك جسما ولا ممانعة في ذلك الجسم كان قبوله الأكبر للتحريك مثل قبوله الأصغر، ولا يكون أحدهما أعصى والآخر أطوع حيث لا معاوقة أصلاً". ثم يأتي بعد ابن سينا علماء مسلمون على مر العصور يشرحون قانونه ويجرون عليه التجارب العملية، وفي ذلك يقول فخر الدين الرازي المتوفي سنة 1209م بكتابه (المباخث المشرقية ): "إنكم تقولون طبيعة كل عنصر تقتضي الحركة بشرط الخروج عن الحيز الطبيعي. والسكون بشرط الحصول على الحيز الطبيعي .( وفي كتابه (المباحث الشرقية في علم الإلهيات والطبيعيات) يقول ابن سينا :"وقد بينا أن تجدد مراتب السرعة والبطء بحسب تجدد مراتب المعوقات الخارجية والداخلية" .أما قانون نيوتن الثاني في الحركة ينص:أن تسارع جسم ما أثناء حركته، يتناسب مع القوة التي تؤثر عليه، وفي تطبيق هذا القانون على تساقط الأجسام تحت تأثير جاذبية الأرض تكون النتيجة أنه إذا سقط جسمان من نفس الارتفاع فإنهما يصلان إلي سطح الأرض في نفس اللحظة بصرف النظر عن وزنهما ولو كان أحدهما كتلة حديد والآخر ريشة، ولكن الذي يحدث من اختلاف السرعة مرده إلى اختلاف مقاومة الهواء لهما في حين أن قوة تسارعهما واحدة. ويقول الإمام فخر الدين الرازي في كتابه (المباحث المشرقية) : فإن الجسمين لو اختلفا في قبول الحركة لم يكن ذلك الاختلاف بسبب المتحرك، بل بسبب اختلاف حال القوة المحركة، فإن القوة في الجسم الأكبر ،أكثرمما في الأصغر الذي هو جزؤه لأن ما في الأصغر فهو موجود في الأكبرمع زيادة"، ثم يفسر اختلاف مقاومة الوسط الخارجي كالهواء للأجسام الساقطة فيقول: وأما القوة القسرية فإنها يختلف تحريكها للجسم العظيم والصغير. لا لاختلاف المحرك بل لاختلاف حال المتحرك ، فإن المعاوق في الكبير أكثر منه في الصغير. القانون الثالث لنيوتن ينص على أن لكل فعل رد فعل مساوي له في المقدار ومضاد له في الاتجاه). وأبو البركات هبة الله البغدادي المتوفي سنة 1165 م.في كتابه (المعبر في الحكمة) قال بما يفيد بهذا المعني : إن الحلقة المتجاذبة بين المصارعين لكل واحد من المتجاذبين في جذبها قوة مقاومة لقوة الآخر. وليس إذا غلب أحدهما فجذبها نحوه تكون قد خلت من قوة جذب الآخر،بل تلك القوة موجودة مقهورة، ولولاها لما احتاج الآخر إلى كل ذلك الجذب "، ويقول الإمام فخر الدين الرازي في كتابه ( المباحث المشرقية): " الحلقة التي يجذبها جاذبان متساويان حتى وقفت في الوسط لا شك أن كل واحد منهما فعل فيها فعلاً معوقا ًبفعل الآخر". هذه القوانين الثلاثة للاستقرار والحركة ورد الفعل هي القوانين الأساسية التي ترتكز عليها حاليا كل علوم الآلات والأشياء المتحركة.
[تحرير] الزراعة(5/88)
وفي الدول الإسلامية اتبعوا تقنيات الميكنة الزراعية المتوارثة كالمحراث والساقية والشادوف والنورج. وكان الأندلسيون يسخرون الرياح في إدارة الطواحين ورفع المياه بالسواقي.وأخذت أوروبا عنهم هذه التقمية وغيرها من الأندلس. وهذه التقنيتية أخذها الغرب عن العرب إبان حكم الأندلس وفي بغداد ايام العباسين كانت تدار طواحين بالميله أو الهواء لرفع المياه وإدارة مصنع الورق هناك . وكانت طوتحين الهواء ورفع المياه ومصانع الورق تدار بتروس معشقة وعجلات ضخمة متداخلة . لنظرية الأنابيب المستطرقة في توصيل المياه في شبكة من المواسير إلى البيوت، أو في بناء النوافير داخل وقد أبدع المسلمون في استغلال علم الحيل في صناعة السلاح. فطوروا المنجنيق والدبابات الخشبية وكانوا أول من صنع المدافع والبندقية و مضخة المكبس Piston Cylinder، اللتي اخترعها بديع الزمان الرزاز الجزري (ت سنة 184 ام) . ومضخة، الجزرى عبارة عن آلة من المعدن تدار بقوة الريح أو بواسطة حيوان يدور بحركة دائرية، وكان الهدف منها أن ترفع المياه من الآبار. العميقة إلى اسطح الأرض، وكذلك كانت تستعمل في رفع المياه من منسوب النهر إذا كان منخفضاً إلى الأماكن العليا مثل جبل المقطم في مصر وقد جاء في المراجع أنها تستطيع ضخ إلي ء إلى أن يبلغ ثلاثة وثلاثين قدماً، أي حوالي عشرة أمتار وهو ما يعادل ارتفاع مبنى يتألف من ثلاثة أو أربعة طوابق، وتنصب المضخة فوق سطح إلي ء مباشرة بحيث يكون عمود الشفط مغموراً فيه، وهي تتكون من ماسورتين متقابلتين في كل منهما ذراع يحمل مكبساً اسطوانياً، فإذا كانت إحدى إلي سورتين في حالة كبس (اليسرى) فإن الثانية تكون في حالة شفط، ولتأمين هذه الحركة المتقابلة المضادة في نفس الوقت يوجد قرص دائري مسنن قد ثبت فيه كل من الذراعين بعيداً عن المركز، ويدار هذا القرص بوساطة تروس متصلة بعامود الحركة المركزي وهناك ثلاثة صمامات على كل مضخة تسمح باتجاه المياه من أسفل إلى أعلى ولا تسمح بعودتها في الطريق العكسي. هذا التصميم العبقري لم يكن معروفاً لدى الرومان والاغريق، ولا يزال مبدأ مضخة المكبس مستعملاً حتى الوقت الحاضر في جميع مضخات المكبس التي تعمل باليد لرفع المياه . وهي منتشرة في كثير من القرى في العالم أجمع. وهذه المضخة هي الفكرة الرئيسية التي بنيت عليها جميع المضخات المتطورة في عصرنا الحاضر والمحركات الآلية كلها ابتداء من المحرك البخاري الذي في القطار أو البواخر إلى محرك الاحتراق الداخلي الذي يعمل بالبنزين كما في السيارة ،والطائرة ،والفكرة الرائدة التي أدخلها الجزرى هي استعماله مكبسين واسطوانتين يعملان بشكل متقابل وبصورة متوازية، ثم نقل الحركة الناتجة وتحويلها من حركة خطية إلى حركة دائرية بواسطة نظام يعتمد استعماله التروس المسننة وهو ما يطبق حالياً في جميع المحركات العصرية
[تحرير] الحيل
وفي علم الحيل إشتهر أولاد موسى بن شاكرفي القرن التاسع م ، وقد ألفوا كتاب "الحيل النافعة" وكتاب( القرطسون)( القرطسون ميزان الذهب) وكتاب( وصف الآلة التى تزمر بنفسها صنعة بني موسى بن شاكر) .ومن مختراعاتهم آلة رصد فلكي ضخمة و كانت تعمل في مرصدهم وتدار بقوة دفع الماء وكانت تبين كل النجوم في السماء وتعكسها على مرآة كبيرة واذا ظهر نجم رصد في الآلة وإذا اختفى نجم أو شهاب رصد في الحال وسجل.
[تحرير] الكيمياء(5/89)
في علوم الكيمياء نجد العالم جابر بن حيان الأزدي. قد عاش بعد النصف الثاني من القرن الثامن م حيث له كتابات كثيرة سواء في المركبات الكيميائية التي لم تكن معروفة في ذلك الوقت مثل نترات الفضة المتبلورة وحامض الأزوتيك وحامض الكبريتيك (زيت الزاج) ولاحظ ما يرسب من كلوروز الفضة عند إضافة ملح الطعام ،أو في وصف العمليات الكيميائية كالتقطير والتبخير والترشيح والتبلور والتذويب والتصعيد والتكليس ونحوها. وفي كتبه بين نظرية تكوين المعادن جيولوجيا وبين المعادن الكبريتية الزئبقية ونسب تكوين ستة منها .وبين كيفية تحضير المواد الكيميائية المختلفة ككربونات الرصاص القاعدي وتحضير الزرنيخ والأنتيمون من أملاح الكبريتيدات sulphides . وكيفية تنقية المعادن من الشوائب وتحضير الصلب الذي حضرته أوروبا يعده بحوالي عشرة قرون . وحضر أصباغ الملابس والجلد و الطلاء لطلاء الجديد ووقايته من الصدلأ وملدة تدهن بها المىبس للوقاية من الماء وأدخل ثاني أكسيد المنجنيز في صناعة الزجاج . وقام بتقطير الخل للحصول علي حامض الخليك المركز. وبين أن الجاذبية لاوزن لها . . وكان الكيميائيون العرب يحضرون ملح البارود كيميائياً في المعمل ولاسيما وأن أول من اخترع حامض النيتريك هو جابر بن حيان القلوذى سنة 722 م . وأجري الرازي (ولد سنة 850 م) فأجرى عليه التجارب وصنع منه الأملاح أثناء محاولته لإذابة الذهب وأطلق علي حامض النيتريك الزاج الأخضر.و كان العرب يطلقون على الأملاح المأ خوذة من الطبيعة الحجارة و الأملاح المحضرة كيميائيا في المعمل المستنبطات. وتحضير الكيماويات المستنبطة لم يكن معروفا من قبل عصري ابن حيان والرازي. حتي الصينيون الذين إكتشفوا ملح البارود كانوا يستعملونه من خامات الأملاح الطبيعية وكان يطلق عليه الملح الصيني. وقام الكيميائيون العرب بتنقية ملحه الخام من الشوائب. وكان العمال الزنوج يقومون سنة 869 م بتنقيته بالبصرة . مما جعله يستعمل كبارود للمدافع وكقوة دافعة للقذائف لإشتعاله السريع . وهذه الخاصية موجودة في مادة الكبريت . لهذا كانا يخلطان معا .وكان العرب يصنعون بارود المدفع Gun powder من نترات البوتاسيوم بنسبة 75% والكبريت بنسبة 10% والفحم بنسبة 15%. وكان المدفعجي يحشي هذا المسحوق في فوهة المدفع ثم يضع بها القذيفة (كرة من الحجر أو الحديد) ثم يشعل في المسحوق النار. فيشتغل المسحوق بسرعة مكونا غازات لها قوة ضغط عالية فلتنطلق عليها دفع القديفة للخارج لتنطلق للهدف المراد تدميره . فالعرب أول من صنع بارود المدافع واستعملوه كقوة دافعة تدميرية في الحروب . بينما كان الصينيون يستخدمونالملح الصيني من ملح البارود الخام لخاصية الاشتعال في الألعاب النارية في أعيادهم . وقد نقل العالم بيكون لأوروبا تقنية صناعة البارود بعد 3قرون من إستعمال العرب وإختراعهم له . وفي مخطوط عربي يرجع للقرن العاشر الميلادي تجده يصف هذه التقنية قائلا: تؤخذ عشرة دراهم من ملح البارود ودرهمان من الفحم ودرهم ونصف من الكبريت، وتسحق حتى تصبح كالغبار ويملأ منها ثلث المدفع فقط خوفاً من انفجاره ويصنع الخراط من أجل ذلك مدفعاً من خشب تتناسب فتحته مع جسامة فوهته وتدك الذخيرة بشدة ويضاف إليها البندق ( الحجارة او كرات الحديد ( . ثم يشعل ويكون قياس المدفع مناسباً لثقله وكانت المناجيق تطلق قذائف النيران الحارقة . وكانت القذيقة تتكون من خليط من الكبريت والنفط والحجارة ملفوفة في الكتان، وفي الحروب الصليبية ابتكر المسلمون آلة جديدة أطلقوا عليها الزيار لرمي أعدادا كبيرة من السهام الثقيلة دفعة واحدة . وفي الإسطول العربي كانت الكلاليب التي استعملها المسلمون في ذات الصواري لربط سفنهم بسفن الروم .وكان الأسطول يستخدم النفاطة (مزيج من السوائل الحارقة تطلق من اسطوانة في مقدمة السفينة وتسمى النار الإغريقية وهي خليط من الكبريت والمواد السهلة الاشتعال ومادة الجير الحي التي تتفاعل مع إلما ء فتنتج الحرارة. وكان صلاح الدين الأيوبي في حربه ضد الصليبيين قد إستخدم القنبرة كسلاح الغازات التخديرية الذي كان الحشاشون الإسماعيليون قد إخترعوه في معقلهم بقلعة آلاموت (وكر النسر) حيث كانوا يحرقون الحشيش (القنب) كبخورفيشمون أتباعهم دخانه فيصابون بحالة من التخدير.فكان قوات صلاح الدين تحرق الحشيش في موضع قريب من جيش العدو بحيث يكون اتجاه الريح نحوه . فكان تنتابه حالة من التخدير والنعاس . وهذا التكتيك من أسلوب الحرب الكيماوية مكن صلاح الدين من مباغتة الصليبيين وهزيمتهم . وطور المسلمون هذا الأسلوب فصنعوا قنبلةالغازات المخدرة وأطلقوا عليها القنبرة. وكانت تحتوي على مزيج من البنج الأزرق والأفيون والزرنيخ والكبريت فإذا تفاعل الكبريت والزرنيخ تولدت عنه غازات حارقة وخانقة. وكانوا يقذفونها بالمنجنيق على معسكر العدو وهي مشتعلة. وفي علم السبائك كان صناعة الصلب العربي الذي تصنع منه الأسلحة فقد بلغت هذه الصناعة أوجها في دمشق والقاهرة، وأصبح السيف العربي لا يدانيه سيف، آخر من حيث حدة شفرته وعدم قابليته للصدأ أو الاعوجاج .وكان المسلمون قد طوروا في أسلحتهم فكانوا يستخدمون الأسلحة الثقيلة كالدبابة والمنجنيق لمهاجمةالبيزنطيين(5/90)
[[ملف: == ['''''''[[=== العمارة ===]]'''''''] ==]]وكان المعمار الإسلامي بعتمد علي النواحي التطبيقية لعلم الحيل وهذا يتضح في إقامة المساجد والمآذن والقباب والقناطر والسدود فلقد برع المسلمون في تشييد القباب الضخمة ونجحوا في حساباتها المعقدة التي تقوم علي طرق تحليل الإنشاءات القشرية (SHELLS). فهذه الإنشاءات المعقدة والمتطورة من القباب مثل قبة الصخرة في بيت المقدس وقباب مساجد الأستانة والقاهرة والأندلس والتي تختلف اختلافا جذرياً عن القباب الرومانيةوتعتمد إعتمادا كليا علي الرياضيات المعقدة. فلقد شيد البناؤن المسلمون المآذن العالية والطويلة والتي تختلف عن الأبراج الرومانية . لأن المئذنة قد يصل إرتفاعها لسبغين مترا فوق سطح المسجد .وأقاموا السدود الضخمة أيام العباسيين والفاطنيين والندلسيين فوق الأنهار كسد النهروان وسد الرستن وسد الفرات .كما أقاموا سور مجري العيون بالقاهرة أيام صلاح الدين الأيوبيوكان ينقل الماء من فم الخليج علي النيل إلي القلعة فوق جبل المقطم . وكانت ساقية تدار بالحيوانات ترفع المياه لعشرة أمتار ليتدفق في القناة فوق السور وتسير بطريقة الأواني المستطرقة لتصل القلعة . تتميز الحضارة الإسلامية بالتوحيد والتنوع العرقي في الفنون والعلوم والعمارة طالما لاتخرج عن نطاق القواعد الإسلامية . ففي العمارة بنى أبو جعفر المنصورالخليفة العباسي، على نهر دجلة عاصمته بغداد سنة (145- 149 هـ) على شكل دائري، وهو اتجاه جديد في بناء المدن الإسلامية، لأن معظم المدن الإسلامية، كانت إما مستطيلة كالفسطاط، أو مربعة كالقاهرة، أو بيضاوية كصنعاء. ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أن هذه المدن نشأت بجوار مرتفعات حالت دون استدارتها . ويعتبر تخطيط المدينة المدورة (بغداد)، ظاهرة جديدة في الفن المعماري الإسلامي ولاسيما في المدن الأخرى التي شيدها العباسيون مثل مدينة سامراء وما حوته من مساجد وقصور خلافية فخمة. وظهرت مدن تاريخية في ظلال الحكم الإسلامي كالكوفة والبصرة وبغداد والقاهرة والفسطاط والعسكر والقطائع والقيروان وفاس ومراكش والمهدية والجزائروغيرها . كما خلفت الحضارة الإسلامية مدنا متحفية تعبر عن العمارة الإسلامية كإستانبول بمساجدها والقاهرة بعمائرها الإسلامية وبخاري وسمرقند ودلهي وحيدر أباد وقندهار وبلخ وترمذ وغزنة وبوزجان وطليطلة وقرطبة وإشبيلية ومرسية وسراييفووأصفهان وتبريز ونيقيا والقيروان والحمراء وغيرها من المدن الإسلامية . وكان تخطيط المدن سمة العمران في ظلال الخلافة الإسلامية التي إمتدت من جتوب الصين حتي تخوم جنوب فرنسا عند جبال البرانس. وكانت المدن التاريخية متاحف عمرانية تتسم بالطابع الإسلاني . فكانت المدينة المنورة قد وضع النبي أساسها العمراني والتخطيط حيث جعل مسجده في وسط المدينة ،وألحق به بيته وجعلها قطائع حددلها إتساع شوارعها الرئيسية. وكلها تتحلق حول مسجده. وجعل سوقها قي قلب مدينته . لتكون بلد جنده. وعلي نمط مدينة الرسول أقيمت مد ن الموصل و الكوفة وواسط بالعراق والفسطاط بمصر لتكون اول بلدة إسلامية بأفؤيقيا . وقد أقامها عمرو بن العاص كمدينة جند فجعل مسجده في قلبها وبجواره دوواين الجند ودار الإمارة ، وحولها قطائع سكنية تتحلق بمسجده . وكل قطعة كانت تضم جنود كل قبيلة . وكذلك كانت مدينة القيروان بشمال أفريقيا .وكان التخطيط العمراني له سماته الشرعية حيث تشق الشوارع بالمدينة الإسلامية تحت الريح لمنع التلوث وتقام الورش تحت خارج المدينة لمنع الإقلاق . وكان تمنح تراخيص للبناء بحيث يكون المبني من طابق أو طابقين . والأسواق كانت مسقوفة لمنع تأثير الشمس. وكان يعين لكل سوق محتسب لمراقبة البيع والأسعار وجودة البضائع والتفتيش علي المصانع للتأكد من عدم الغش السلعي والإنتاجي.وبكل مدينة أو بلدة كانت تقام الحمامات العامةلتكون مجانا .وكان لها مواصفات وشروط متفقط متبعة .وكان يتم التفتيش علي النظافة بها واتباع الصحة العامة. حقيقة كانت الحمامات معروفة لدي الإغريق والرومان . لكنها كانت للموسرين. والعرب أدخلوا فيها التدليك كنوع من العلاج الطبيعي. واقاموا بها غرف البخار (السونا).والمسلمون أول من أدخلوا شبكات المياه في مواسير الرصاص أو الزنك إلى البيوت والحمامات والمساجد.. وقد أورد كتاب "صناعات العرب " رسما وخرائط لشبكات المياه في بعض العواصم الإسلامية. ومعروف أن الكيميائيين العرب قد اخترعوا الصابون. وصنعوا منه الملون والمعطر. وكان في كل حمام مدلك مختص. وآخر للعناية باليدين.. والقدمين وبه حلاق للشعر كما كان يلحق به مطعم شعبي. وقد قدر عدد الحمامات في بغداد وحدها في القرن الثالث الهجري (955 م) حوالي عشرة آلاف حمام وفي مدن الأندلس أضعاف هذا العدد.
ويعتبر المسجد بيتا من ييوت الله حيث يؤدي به شعائر الخمس صلوات وصلاة الحمعة التي فرضت علي المسلمين ويقام فيه تحفيظ القرآن . وبكل مسجد قبلة يتوجه كل مسلم في صلاته لشطر الكعبة بيت الله الحرام . وأول مسجد أقيم في الإسلام مسجد الرسول بالمدينة المنورة . وكان ملحقا به بيته . وإنتشرت إقامة المساجد كبيوت لله في كل أنحاء العالم ليرفع من فوق مآذنها الآذان للصلاة . وقد تنوعت في عمارتها حسب طرز العمارة في الدول التي دخلت في الإسلام . لكنها كلها موحدة في الإطار العام ولاسيما في إتجاه محاريب niches القبلة بها لتكون تجاه الكعبة المشرفة . وبكل مسجد يوجد المنبر pulpitلإلقاء خطبة الجمعة من فوقه . وفي بعض المساجد توجد اماكن معزولة مخصصة للسيدات للصلاة بها . وللمسجد مئذنة minaret واحدة أو أكثر ليرفع المؤذن من فوقها الآذان للصلاة وتنوعت طرزها. وبعض المساجد يعلو سقفها قبة Dome متنوعة في طرزها المعمارية .
وفي المساجد نجد المحراب علامة دلالية لتعيين اتجاه القبلة(الكعبة ) . وهذه العلامة على هيئة مسطح أو غائر(مجوف) أو بارز .والمسلمون استعملوا المحاريب المجوفة ذات المسقط المتعامد الأضلاع. أو المسقط النصف دائري . وقداختيرت الهيئة المجوفة للمحراب لغرضين رئيسين هما ، تعيين اتجاه القبلة، وتوظيف التجويف لتضخيم صوت الإمام في الصلاة ليبلغ المصلين خلفه في الصفوف .وكانت تجاويف المحاريب تبطن وتكسي بمواد شديدة التنوع كالجص والرخام والشرائط المزخرفة بالفسيفساء أو المرمر المزخرف.ونري المحاريب التي شيدها المماليك في مصر والشام من أبدع المحاريب الرخامية ، حيث تنتهي تجويفة المحراب بطاقية على شكل نصف قبة مكسوة بأشرطة رخامية متعددة الألوان. و أبرع الفنانون المسلمون في استخدام مختلف أنواع البلاطات الخزفية لتغشية المحاريب أما الخزافون في الشرق، فقد إساخدموا استخداموا بلاطات الخزف ذات البريق المعدني والخزف الملون باللون الأزرق الفيروزي . وقد حفلت المحاريب بالكتابات النسخية التي تضم آيات من القرآن الكريم، بجانب الزخارف النباتية المميزة بالتوريق و الأرابيسك . كما إستخدمت فيها المقرنصات الخزفية لتزيين طواقي المحاريب. وجرت العادة وضع المحراب في منتصف جدار القبلة بالضبط ليكون محوراً لتوزيع فتحات النوافذ على جانبيه بالتوازن.(5/91)
و المئذنة (المنارة) الملحقة ببنايات المساجد لها سماتها المعمارية .و تتكون من كتلة معمارية مرتفعة كالبرج و قد تكون مربعة أو مستديرة أو بها جزء مربع و أعلاها مستدير. و بداخلها سلم حلزوني (دوار) يؤدي إلي شرفة تحيط بالمئذنة ليؤذن من عليها المؤذن و ليصل صوته أبعد مدى ممكن. و المآذن المملوكية تتكون من جزء مربع ثم جزء مثمن ثم جزء مستدير بينهم الدروات و يعلوها جوسق ينتهى بخوذة يثبت بها صوارى تعلق بها ثرايات أو فوانيس. و مئذنة مدرسة لغورى بالقاهرة، أقيم فى طرفها الغربى منار مربع يشتمل على ثلاثة أدوار يعلو الدور الثالث منها أربع خوذ كل خوذة منها فى دور مستقل، و محمولة على أربعة دعائم و بكل خوذة ثلاث صوارى لتعليق القتاديل أو الثريات.
[تحرير] الزخرفة
وتعتبر الزخرفة لغة الفن الإسلامي، حبث تقوم على زخرفة المساجد والقصور والقباب بأشكال هندسية أو نباتية جميلة تبعث في النفس الراحة والهدوء والانشراح. وسمي هذا الفن الزخرفي الإسلامي في أوروبا باسم أرابسك بالفرنسية ARABESQUEوبالأسبانية أتوريك ATAURIQUE) أي التوريق( .وقد إشتهر الفنان المسلم فيه بالفن السريالي التجريدي SURREALISM ABSTRACT من حيث الوحدة الزخرفية النباتية كالورقة أو الزهرة، وكان يجردها من شكلها الطبيعي حتى لا تعطى إحساسا بالذبول والفناء، ويحورها في أشكال هندسية حتى تعطي الشعور بالدوام والبقاء والخلود .و وجد الفنانون المسلمون فى الحروف العربية أساسا لزخارف جميلة. فصار الخط العربي فناً رائعاً، على يد خطاطين مشهورين. فظهر الخط الكوفي الذي يستعمل في الشئون الهامة مثل كتابة المصاحف والنقش على العملة، وعلى المساجد، وشواهد القبور. ومن أبرز من اشتهر بكتابة الخط الكوفي، مبارك المكي في القرن الثالث الهجري، و خط النسخ الذي استخدم في الرسائل والتدوين و نسخ الكتب، لهذا سمي بخط النسخ. وكان الخطاطون والنساخ يهتمون بمظهر الكتاب، ويزينونه بالزخرف الإسلامية. كما كانت تزين المصاحف وتحلى المخطوطات بالآيات القرآنية والأحاديث المناسبة التي كانت تكتب بماء الذهب.
[تحرير] التصوير
وفن التصوير، أي رسم الإنسان والحيوان. فبالرغم من أن بعض علماء المسلمين الأولين، اعتبروه مكروهاً، إلا أنهم لم يفتوا بتحريمه أيام خلفاء بني أمية وبني العباس. فقد ترخصوا في ذلك حيث خلفوا صورا آدمية متقنة على جدران قصورهم التي اكتشفت آثارها في شرق الأردن وسامراء ، أو في الكتب العربية الموضحة بالصور الجميلة التي رسمها المصورون المسلمون كالواسطي وغيره ، في مقامات "الحريري " وكتاب "كليلة ودمنةالتصوير في الفن الإسلاميوفن التصوير إقتصر أول الأمر على رسوم زخرفية لمناظر آدمية وحيوانية رسمت بالألوان على جدران بعض قصور الخلفاء والأمراء كما يري في إطلال قصور قصير عمرو والطوبة وسامراء ونيسابور والحمام الفاطمي بالفسطاط غير أن التصوير في الفنون الإسلامية اكتشف مجاله الحقيقي في تصوير المخطوطات منذ القرن الثالث الهجري - التاسع الميلادي - ومن اقدم المخطوطات المصورة مخطوطة في علم الطب محفوظة بدار الكتب المصرية بالقاهرة وأخرى لكتاب مقامات الحريري ومحفوظة بالمكتبة الأهلية في باريس وهما مزدانتان بالرسوم والصور وتمت كتابتها وتصويرها في بغداد سنة 619 - 1222- وكانت فارس قد تولت ريادة فن التصوير الإسلامي إبان العصر السلجوقي ونهض نهضة كبيرة في عصر المغول في أواخر القرن السابع حتى منتصف القرن الثامن - الثالث عشر والرابع عشر الميلادي - وكان أشهر المخطوطات المصورة (جامع التواريخ) للوزير رشيد الدين في أوائل القرن السابع الهجري والشاهنامة للفردوسي التي ضمت تاريخ ملوك الفرس والأساطير الفارسية والمخطوطات المصورة في بغداد لكتاب كليلة ودمنة .وكان الأسلوب الفني في صور هذه المخطوطات المغولية متأثرا إلى حد كبير بالأسلوب الصيني سواء من حيث واقعية المناظر أو استطالة رسوم الأجسام أو اقتضاب الألوان .وأخذ فن التصوير الإيراني ينال شهرة عالمية في العصر التيموري وبخاصة في القرن التاسع الهجري - الخامس عشر الميلادي - وقد ظهرت فيه نخبة من كبار الفنانين الذين اختصوا بتصوير المخطوطات مثل خليل وأمير شاهي وبهزادويتميز التصوير الإيراني بصياغة المناظر في مجموعات زخرفية كاملة تبدو فيها الأشكال كعناصر تنبت من وحدة زخرفية وتتجمع حولها أو تمتد وتتفرع مع حرص المصورين على ملاحظة الطبيعة ومحاولاتهم محاكاتها والتعبير عن مظاهر الجمال والحركة فيها بسمائها ونجومها وأقمارها وبما تحتويه من جبال ووديان وأشجار وأزهار وبما فيها من رجال ونساء وأطفال وطيور وحيوان . وكانت العلاقة قوية بين الشعر والتصوير حيث كان التصوير نوعا من الموسيقى والمصور أشبه بالملحن لكتاب الشاعر . فكان يضع الشعر المكتوب في أشكال محسوسة ليطبع التفكير والخيال بنوع من الحقيقة والحركات المتنوعة . مما يجعله يعبر في ألوانه عن هذه الروح الموسيقية وتلك الحساسية الشاعرية. فكانت الألوان تمتزج في صوره امتزاجا عجيبا بين الزهاء والهدوء وتنسجم انسجام الألحان في المقطوعة الموسيقية بحيث تختلف الألوان في الصورة الواحدة وتتعدد. كما تختلف فيها درجات اللون الواحد الذي ينبثق من صفاء السماء وينعكس فيه أشعة الشمس الذهبية الصافية . فالتصوير الإيراني كان فنا تعبيريا عن الشاعرية والعاطفة من خلال تسجيل ما في الطبيعة من حقائق جذابة وما في القلوب من خيال أخاذ ونغمات دفينة ..
[تحرير] الملاحة و صناعة السفن
وكانت صناعة السفن في كل أنحاء العالم الاسلامي في ظلال الخلافة الإسلامية الأموية والعباسية .فلقد ظهرت صناعة السفن والأساطيل في موانيء الشام بعكا وصور وطربلس وبيروت وحيفا . وفي المغرب كانت هناك طرابلس وتونس وسوسة وطنجة ووهران والرباط. وفي الأندلس اشتهرت إشبيلية ومالقة ومرسية وفي مصر اشتهرت المقس والاسكندرية ودمياط وعيذاب( علي ساحل البحر الأحمر (.وكانت المراكب النيلية تصنع بالقاهرة .وكانت ترسانات البحرية لصناعة السفن يطلق عليها دور الصناعة . وكان الأسطول يتكون من عدة أنواع من السفن مختلفة الحجم ولكل نوع وظيفة. فالشونة كانت حاملات للجنود ، والأسلحة الثقيلة
وفي علوم الملاحة وعلوم البحار كتب الجغرافيون المسلمون كتبهم . فضمنوها وصفا دقيقا لخطوط الملاحة البحرية، كماوضعوا فيها سرودا تفصيلية لكل المعارك الإسلاميةالبحرية، ثم وصفوا فيها البحار والتيارات إلما ئية والهوائية، ومن أشهر الجغرافيين العرب المسعودي والمقدسي وياقوت الحموي والبكري والشريف الادريسي ومن الرحالة ابن جبير وابن بطوطة. وهناك كتب ابن ماجد في علوم البحار مثل كتاب "الفوائد في أصول علم البحر والقواعد" وأرجوزته بعنوان "حاوية الاختصار في اصول علم البحار" وهناك مخطوط باسم سليمان المهري عنوانه "المنهاج الفاخر في العلم البحري الزاخر: و "العمدة المهرية في ضبط العلوم البحرية .
=============
هل الحضارة ... إسلامية أم عربية أم ماذا ؟ قيّم
التقييم :
( من قبل 8 أعضاء )
زياد
1 - فبراير - 2007
السلام عليكم ...
تساؤل يحيرني منذ فترة طويلة، ماذا نسمي الحضارة التي بناها أجدادنا ووصلت إلى ذروة مجدها في القرن الرابع الهجري؟ هل نسميها حضارة عربية؟ أم حضارة إسلامية؟ أم حضارة عربية إسلامية؟
لو قلنا حضارة عربية، سنجد أن الكثير من أعمدة هذه الحضارة ليسوا من العرب، مثل ابن سينا وسيبويه.(5/92)
ولو قلنا أنها حضارة عربية كون اللغة التي دُوَّنت بها هذه العلوم هي اللغة العربية، لوجدنا أن الكثير من العلماء قد أفرغوا بنات أفكارهم بلغاتهم الأصلية دون العربية، مثل الفارسية والتركية.
ولو قلنا حضارة إسلامية، سنجد الكثير من العلماء غير المسلمين، مثل ثابت بن قرة الصابئ و ابن ميمون.
ولو قلنا ... هي حضارة عربية إسلامية ... فيحق لي أن أتساءل: لماذا قدّمنا العروبة على الإسلام، مع أن الكثير العلماء هم مسلمون وليسوا عرباً؟
وانتهى بي الرأي لتسمية الحضارة بـ ... الحضارة الإسلامية العربية ...
فالإسلام يشمل العرب وغير العرب، والمسلمون هم الأغلبية بين علماء ذلك العصر، وأصلاً الإسلام هو محرك قيام هذه الحضارة كلها. ونسمي الحضارة عربية بعد كلمة إسلامية لأن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للعلم وهي الأكثر رواجاً بين مختلف العلماء، هذا فضلاً عن شرف اللغة العربية على غيرها كونها اللغة التي اختارها الله في رسالته إلى عباده.
في ظل الثقافة الإسلامية ( من قبل 2 أعضاء ) قيّم
هي حضارة إسلامية بالتأكيد , أما بعض الذين ساهموا فيها من غير المسلمين فهم ينتمون رغم ذلك للحضارة الإسلامية وثقافتها , لا فرق في انتماءاتهم الدينية , فهم في ظل الثقافة الإسلامية العامة
*محمد هشام
1 - فبراير - 2007
... الحضارة الاسلامية ( من قبل 3 أعضاء ) قيّم
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
وبعد:
إن ما توصل إليه العرب من حضارة لم يكن ليتوصل إليه لولا الاسلام. فالاسلام هو الذي أخرج العرب من الظلمات إلى النور
وجعلهم يهتمون بالعلوم.
وأهم شيء تحقق للعرب بفضل الاسلام الانفتلح على الأمم الآخرى والاستفادة مما توصلت إليه من علوم. لأن الاسلام لم يكن دينا للعرب فقط، بل دين الناس كافة. وإلى جانب ضرورة الانفتاح فقد حث ( الإسلام) أيضا على طلب العلم والأحاديث والآيات التي تدخل في هذا الباب لا تحصر. وبصفة عامة ومع ضرورة الانفتاح على الحضارات الأخرى. فقد حث الاسلام على ضرورة الخروج من حالة الأمية والجهل إلى حالة العلم والنور. وبالتالي فقد عرف العرب حضارة حقيقية بفضل الاسلام. ومما يؤكد على أن هذه الحضارة لم تكن عربية بل هي إسلامية .كون العديد من العلماء اللذين ساهموا في ازدهار الحضارة الاسلامية لم يكونوا عرب (ابن سينا.سبويه...) فمنهم من كان عربيا ومنهم من كان فارسيا ومنهم من كان أمازغيا...كل هذا وذاك يجعل الحضارة التي تربع على عرشها العرب .لم تكن حضارة عربية بل هي حضارة إسلامية استفاد منها العرب والغرب بعد سقوط الأندلس. لكن العصبية الجاهلية التي تدعو للتعصب للجنس العربي وتلغي قول الله تعالى "كلكم لآدم وآدم من تراب" وقوله أيضا" "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ." (سورة الحجرات 49 الآية 13) . ويرجع سبب التعصب للجنس العربي وإعادة هذه العادة الجاهلية لبني أمية أو الأمويين.
إنها إذن حضارة إسلامية ولا يمكن أن تكون إلا إسلامية.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هل هناك حضارة في هذه الأرض تولدت من عدم ؟ ( من قبل 2 أعضاء ) قيّم
الحضارة ليست حكرا على ديانة أو طائفة أو مذهب أو بلد أو قارة أو غير ذلك، وإنما هي امتداد لحضارات سابقة، فالكل يسير ضمن سلسلة متتابعة ومترابطة الجوانب، والإلغاء للآخر سببه التطرف والتعصب والجمود على إرث الآباء من غير نظر إلى ما قدمه من سبق.
فالحضارة الإسلامية هي امتداد للحضارات السابقة، والحضارة الغربية اليوم هي امتداد للحضارة الإسلامية، وإنما يخضع الكل لقانون إلهي ثابت وهو: (حق على الله أنه ما ارتفع شيء إلا وضعه).
وهل هناك حضارة في هذه الأرض تولدت من عدم ؟
فالأصح أن يقال الحضارة الإنسانية من حيث الجملة بناء على هذه المقدمة.
وإنما جرت العادة بنسبة الحضارة لشيء ما مثل أن يقال: الحضارة الفرعونية، أو الحضارة الرومانية، أو الحضارة الإسلامية، أو الحضارة الغربية، لأن الغلبة في ذلك كان لتلك الحضارة بعينها، فنُسبت إليها على سبيل التغلب وما عداها تابع، كما هو الحال اليوم.
ونسأل الله أن تعود هذه الأمة إلى سابق مجدها حتى تكون متبوعة لا تابعة.
انا أرى الحضارة التي امتدت أركانها لتشمل مشارق الأرض ومغاربها يجب أن تسمى باسم الحضارة الإسلامية ,, وذلك نسبة للدولة التي رعت العلماء والعلم وبنت بنيانه وأعلت صروحه.... إنها الدولة التي شعر فيها المبدع بالأمن على نفسه وعلى إبداعه- وإن تخللتها بعض الخروقات-فأنشد فيها أبداعه على رؤوس الأعلام... إنها الدولة التي هيأت أدوات العلم وأسبابه وجعلت من احترام العالم والمؤدب أحياناً مقدما على كل برتوكولات الخلافة...إنها الدولة التي لم يكن فيها العلم والإبداع حكراً على فئة دون أخرى ...بل كان أبرز قادتها من عظماء العلماء والمفكرين...إنها الدولة التي لم تهضم حق مبدع على أساس الجنس أو الديانة أو الإقليم ..فكما كان فيها العالم الزهراوي العربي المسلم نجد فيها ابن سينا وحنين بن إسحاق ... وكما وُجد العلماء وُجدت العالمات التي تزاحم في مجالسهن الطلبة...
فهل بقي لنا موضع نتساءل فيه عن هوية هذه الحضارة...؟!
نعم ... إنها حضارة إسلامية حقاً
حتى قيادات الجيوش الإسلامية لم تكن حكراً على العرب،
ابتداء من فاتح الأندلس طارق بن زياد البربري،
مروراً بمحرر القدس صلاح الدين الأيوبي الكردي،
وكذلك فاتح القسطنطينية محمد الفاتح التركي ... إلخ والقائمة تطول.
===============
عبقرية الحضارة الاسلامية
بينما كان العالم الإسلامي يموج حضارة وتمدن خلال عصور الخلائف الراشدية والأموية والعباسية والعثمانية كانت أوربا تعيش في أتون الجهل والهمجية والبربرية والرق والعبودية . وهذه حقيقة لاننكرها بل نقرها ولا نتغافلها وسط إرهاصات الغرب المفتئت والمفتري عليها . فعلماء المسلمين في كل مشاربهم إبان عصور حضارتنا الإسلامية التي غبرت وغربت عنا . لم يخلفوا لنا سوي أمجادهم وكتبهم وتراثهم الذي نهلت منه كل الروافد المعرفية العالمية .....
ونستطيع أن ندلل على ذلك بالكثير من الأمثلة الجاحظ وقد ظهر كعالم للحيوان عندما حدثنا لأول مرة عن هحرات الطيور في رحلتي الصيف والشتاء . ولم يكتشف العلماء هذا إلا القرن 19 .ويعتبر الجاحظ مؤسسا لعلم الجغرافيا البشرية و علم الأجناس حيث قسم البشر وصنفهم لأمم وشعوب وأجناس وأعراق مختلفة وأوعز ألوانهم ولغاتهم وطبائعهم إلي تأثير العوامل الوراثية والبيئة الطبيعية والإجتماعية ...... وكانت نظريات إبن رشد قد غيرت الفكر والفلسفة المسيحية واليهودية بأوربا مما جعل مارتن لوثر يعلن تمرده علي البابوية معلنا البروتستانتية بعدما أسقط مقولة صكوك الغفران
وفي الفلك نجد أن البيروني قاس محيط الأرض بواسطة معادلة رياضية وضعها وأكد علي كروية الأرض وبين أن الأجسام تنجذب نحو مركزها. وبين أن توالي الليل والنهار سببه دوران الأرض وليس الشمس أو النجوم والكواكب معها . وبين بدقة إختلافات المواقيت والغروب والشروق حسب مواقع البلدان فوق خريطة الدنيا وبهذا نجده قد سبق كوبرنيق ونيوتن وجالليو .(5/93)
وفي الرياضيات نجد الخوارزمي التي مازالت شهرته حتي الآن ولاسيما كمؤسس لعلوم الجبر ولاسيما وهو واضع حساب اللوغريتمات التي يقوم عليها علي الرياضيات الحديثة . وكان أول من إكتشف الصفر ووضعه ضمن الأعداد وفي الحساب .كما جعل الحساب ميسرا بأن جعله طرحا وجمعا وقسمة وضربا . فبهذا علم الناس الطرق الحسابية المبسطة .وهذا ماكتب للخوارزمي الخلود . ويعتبر عمر الخيام عالما في الفلك والرياضيات ويعتبر ثاني إثنين بعد الخوارزمي في علم الجبر فأسس علم الترجمة الرياضية المزدوجة .حيث ترجم مسائل الهندسة للغة الجير وترجم مسائل الجبر للغة الهندسة كما ترجم مسائل من الهندسة الفراغية للغة الجبر . وهي المسائل التي لايمكن رسمها بالمسطرة والفرجار كمسألة تثبيث الزوايا ومسألة الوسطين الجسابين ومسألة المسبع المنتظم .وقد إبتكر حل المعادلات من الدرجة الثانية عن طريق الأقواس المخروطية .
وفي الطب نجد أن إبن النفيس قد إكتشف الدورة الدموية قبل هارفي بعدة قرون وإبن زهر بالأندلس كان يمارس الجراحة والتخدير . وكان الكندي أبا الحضارة الإسلامية وفيلسوفها الأول .والدميري أول من وضع معجما للحيوانات وصنفها فيه من حيث الشكل والطباع ومرادفات أسمائها والطوسي الفلكي الشهير......وكان كتاب (القانون )في الطب لإبن سينا إنجيلا يدرس في الغرب بالعربية و لاسيما بكليات فرنسا ولاسيما في جامعة (مونبلييه) العريقة .
وأول مستشفي بني بإنجلترا في القرن 14م. بعد إنحسار الحروب الصليبية علي المشرق العربي, بعدما أخذ الصليبيون نظام المستشفيات الإسلامية و الطب العربي عن العرب . وكان أول مستشفي في الإسلام بناه الوليد بن عبد الملك سنة706 م (88 هـ) في دمشق. وكان الخلفاء المسلمون يتابعون إنشاء المستشفيات الإسلامية الخيرية بإهتمام بالغ. ويختارون مواقعها المناسبة من حيث الموقع والبيئة الصالحة للإستشفاء والإتساع المكاني بعيدا عن المناطق السكنية . وأول مستشفى للجذام بناه المسلمون في التاريخ سنة 707 م بدمشق. في حين أن أوربا كانت تنظر إلى الجذام على إنه غضب من الله يستحق الإنسان عليه العقاب حتى أصدر الملك فيليب أمره سنة 1313 م بحرق جميع المجذومين في النار
كما أن المسلمون قد ابتكروا علوماً جديدة لم تكن معروفة قبلهم وسموها بأسمائها العربية كعلم الكيمياء وعلم الجبر وعلم المثلثات . و من مطالعاتنا للتراث العلمي الإسلامي نجد أن علماء المسلمين قد إبتكروا المنهج العلمي في البحث والكتابة. وكان يعتمد علي التجربة والمشاهدة والاستنتاج. و أدخل العلماء المسلمون الرسوم التوضيحية في الكتب العلمية و رسوم الآلات والعمليات الجراحية. و رسم الخرائط الجغرافية والفلكية المفصلة. وقد ابتدع المسلمون الموسوعات و القواميس العلمية حسب الحروف الأبجدية.
ومع هذه النهضة العلمية ظهرت الجامعات الإسلامية لأول مرة بالعالم الإسلامي قبل أوربا بقرنين . وكانت أول جامعة هي بيت الحكمة والتي أنشئت في بغداد(وأين هي بغداد الآن ) سنة 830 م, ثم تلاها جامعة القرويين سنة 859 م في فاس ثم جامعة الأزهر سنة 970 م في القاهرة. وكانت أول جامعة في أوربا أنشئت في سالرنو بصقلية سنة 090ا م على عهد ملك صقلية روجر الثاني. وقد أخذ فكرتها عن العرب هناك . ثم تلاها جامعة بادوا بايطاليا سنة 1222 م. وكانت الكتب العربية تدرس بها وقتها . وكان للجامعات الإسلامية تقاليد متبعة وتنظيم .فكان للطلاب زي موحد خاص بهم وللأساتذة زي خاص. وربما اختلف الزي من بلد إلي بلد ومن عصر إلي عصر. وقد أخذ الأوربيون عن الزي الجامعي الإسلامي الروب الجامعي المعمول به الآن في جامعاتهم
وفي مجال الرياضيات أيضا ...كان العرب كانوا قد ابتكروا الرقم (صفر) وهذا بحد ذاته فتح الآفاق الواسعة أمام علم الأرقام والعدد والرياضيات ، كما و الأرقام العربية المستخدمة الآن هي بالأصل أرقام هندية ، بينما الأرقام الإنجليزية المستخدمة دوليا عي أصلا الأرقام العربية التي اكتشفها المسلمون بناء على طريقة الزوايا ، إذ يمثل كل رقم رسما توضيحيا يعتمد على زوايا تقابل ذلك الرقم ، فالعدد (1) يمثل زاوية واحدة ، والعدد (2) يمثل زاويتين ورسمه الأصلي يشبه الحرف Z إلا أنه حرّف إلى شكله الحالي ، والعدد (3) إلى أن نصل إلى العدد تسعة وهو مكون من تسع زوايا كما هو مبين بشكل مواقع الزوايا لكل رقم غباري عربي ، ولم يُستعمل نظام الزوايا بالنسبة للصفر بل استعملت الدائرة لأنها ليست رقما أو عددا وإنما هي مكونة من لا شيء ، والقصد من استعمالها هو للدلالة على موقع الفراغ بالنسبة للأرقام ووضعها في الخانات الصحيحة ، لتفرق بين الخانة الآحادية والعشرية والمئوية. وقد ظهرت الترجمة العربية في عهد أبي جعفر المنصور لكتاب "السند هند" ومن خلاله دخل علم الحساب الهندي بأرقامه المعروفة في العربية بالأرقام الهندية فقد تطور على أثرها علم العدد عند العرب، وأضاف إليها المسلمون نظام الصفر، والذي لولاه لما استطعنا أيضاً أن نحل كثيراً من المعادلات الرياضية من مختلف الدرجات، فقد سهل استعماله جميع أعمال الحساب، وخلص نظام الترقيم من التعقيد، ولقد أدى استعمال الصفر في العمليات الحسابية إلى اكتشاف الكسر العشري الذي إكتشفه العالم الرياضى جمشيد بن محمود غياث الدين الكاشي، كما ورد في كتابه (مفتاح الحساب للعالم). وكان هذا مقدمة ا للدراسات والعمليات الحسابية المتناهية في الصغر..
وفي الميكانيكا عرف العرب علم الميكانيكا وكانوا يطلقون عليه علم الحيل وقد نقلوه عن الإغريق والرومان والفرس والصينيين وجعلوه علما تطبيقيا بعدما كان علما للتسلية والسحر ( انظر بتوسع موضوع سير أعلام المهندسين)..
وفي مجال الزراعة اتبعوا تقنيات الميكنة الزراعية المتوارثة كالمحراث والساقية والشادوف والنورج. وكان الأندلسيون يسخرون الرياح في إدارة الطواحين ورفع المياه بالسواقي. وأخذت أوربا عنهم هذه التقنية وغيرها من الأندلس. وهذه التقنية أخذها الغرب عن العرب إبان حكم الأندلس وفي بغداد ايام العباسين كانت تدارالطواحين بالمياه أو الهواء لرفع المياه وإدارة مصنع الورق هناك . وكانت طواحين الهواء ورفع المياه ومصانع الورق تدار بتروس معشقة وعجلات ضخمة متداخلة .(5/94)
وكانوا أول من صنع المدافع والبندقية و مضخة المكبس Piston Cylinder، اللتي اخترعها بديع الزمان الرزاز الجزري (ت سنة 184 ام) . ومضخة الجزرى عبارة عن آلة من المعدن تدار بقوة الريح أو بواسطة حيوان يدور بحركة دائرية، وكان الهدف منها أن ترفع المياه من الآبار. العميقة إلى اسطح الأرض، وكذلك كانت تستعمل في رفع المياه من منسوب النهر إذا كان منخفضاً إلى الأماكن العليا مثل جبل المقطم في مصر وقد جاء في المراجع أنها تستطيع ضخ إلي ء إلى أن يبلغ ثلاثة وثلاثين قدماً، أي حوالي عشرة أمتار وهو ما يعادل ارتفاع مبنى يتألف من ثلاثة أو أربعة طوابق، وتنصب المضخة فوق سطح إلي ء مباشرة بحيث يكون عمود الشفط مغموراً فيه، وهي تتكون من ماسورتين متقابلتين في كل منهما ذراع يحمل مكبساً اسطوانياً، فإذا كانت إحدى إلي سورتين في حالة كبس (اليسرى) فإن الثانية تكون في حالة شفط، ولتأمين هذه الحركة المتقابلة المضادة في نفس الوقت يوجد قرص دائري مسنن قد ثبت فيه كل من الذراعين بعيداً عن المركز، ويدار هذا القرص بوساطة تروس متصلة بعامود الحركة المركزي وهناك ثلاثة صمامات على كل مضخة تسمح باتجاه المياه من أسفل إلى أعلى ولا تسمح بعودتها في الطريق العكسي. هذا التصميم العبقري لم يكن معروفاً لدى الرومان والاغريق، ولا يزال مبدأ مضخة المكبس مستعملاً حتى الوقت الحاضر في جميع مضخات المكبس التي تعمل باليد لرفع المياه . وهي منتشرة في كثير من القرى في العالم أجمع. وهذه المضخة هي الفكرة الرئيسية التي بنيت عليها جميع المضخات المتطورة في عصرنا الحاضر والمحركات الآلية كلها ابتداء من المحرك البخاري الذي في القطار أو البواخر إلى محرك الاحتراق الداخلي الذي يعمل بالبنزين كما في السيارة ،والطائرة ،والفكرة الرائدة التي أدخلها الجزرى هي استعماله مكبسين واسطوانتين يعملان بشكل متقابل وبصورة متوازية، ثم نقل الحركة الناتجة وتحويلها من حركة خطية إلى حركة دائرية بواسطة نظام يعتمد استعماله التروس المسننة وهو ما يطبق حالياً في جميع المحركات العصرية.
وفي علوم الكيمياء نجد العالم جابر بن حيان الأزدي. قد عاش بعد النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي حيث له كتابات كثيرة سواء في المركبات الكيميائية التي لم تكن معروفة في ذلك الوقت مثل نترات الفضة المتبلورة وحامض الأزوتيك وحامض الكبريتيك (زيت الزاج) ولاحظ ما يرسب من كلوروز الفضة عند إضافة ملح الطعام ,أو في وصف العمليات الكيميائية كالتقطير والتبخير والترشيح والتبلور والتذويب والتصعيد والتكليس ونحوها. وفي كتبه بين نظرية تكوين المعادن جيولوجيا وبين المعادن الكبريتية الزئبقية ونسب تكوين ستة منها .وبين كيفية تحضير المواد الكيميائية المختلفة ككربونات الرصاص القاعدي وتحضير الزرنيخ والأنتيمون من أملاح الكبريتيدات sulphides . وكيفية تنقية المعادن من الشوائب وتحضير الصلب الذي حضرته أوربا يعده بحوالي عشرة قرون . وحضر أصباغ الملابس والجلد و الطلاء لطلاء الجديد ووقايته من الصدلأ وملدة تدهن بها المىبس للوقاية من الماء وأدخل ثاني أكسيد المنجنيز في صناعة الزجاج . وقام بتقطير الخل للحصول علي حامض الخليك المركز. وبين أن الجاذبية لاوزن لها . . وكان الكيميائيون العرب يحضرون ملح البارود كيميائياً في المعمل ولاسيما وأن أول من اخترع حامض النيتريك هو جابر بن حيان القلوذى سنة 722 م . وجاء الرازي (ولد سنة 850 م) فأجرى عليه التجارب وصنع منه الأملاح أثناء محاولته لإذابة الذهب وأطلق علي حامض النيتريك الزاج الأخضر. و كان العرب يطلقون على الأملاح المأ خوذة من الطبيعة الحجارة و الأملاح المحضرة كيميائيا في المعمل المستنبطات. وتحضير الكيماويات المستنبطة لم يكن معروفا من قبل عصري إبن حيان والرازي. حتي الصينيون الذين إكتشفوا ملح البارود كانوا يستعملونه من خامات الأملاح الطبيعية وكان يطلق عليه الملح الصيني. وقام الكيميائيون العرب بتنقية ملحه الخام من الشوائب. وكان العمال الزنوج يقومون سنة 869 م بتنقيته بالبصرة ... مما جعله يستعمل كبارود للمدافع وكقوة دافعة للقذائف لإشتعاله السريع . وهذه الخاصية موجودة في مادة الكبريت . لهذا كانا يخلطان معا . وكان العرب يصنعون بارود المدفع Gun powder من نترات البوتاسيوم بنسبة 75% والكبريت بنسبة 10% والفحم بنسبة 15%. وكان المدفعجي يحشي هذا المسحوق في فوهة المدفع ثم يضع بها القذيفة (كرة من الحجر أو الحديد) ثم يشعل في المسحوق النار. فيشتغل المسحوق بسرعة مكونا غازات لها قوة ضغط عالية فلتنطلق عليها دفع القديفة للخارج لتنطلق للهدف المراد تدميره . فالعرب أول من صنع بارود المدافع واستعملوه كقوة دافعة تدميرية في الحروب . بينما كان الصينيون يستخدمونالملح الصيني من ملح البارود الخام لخاصية الاشتعال في الألعاب النارية في أعيادهم . وقد نقل العالم بيكون لأوربا تقنية صناعة البارود بعد 3قرون من إستعمال العرب وإختراعهم له . وفي مخطوط عربي يرجع للقرن العاشر الميلادي تجده يصف هذه التقنية قائلا: تؤخذ عشرة دراهم من ملح البارود ودرهمان من الفحم ودرهم ونصف من الكبريت، وتسحق حتى تصبح كالغبار ويملأ منها ثلث المدفع فقط خوفاً من انفجاره ويصنع الخراط من أجل ذلك مدفعاً من خشب تتناسب فتحته مع جسامة فوهته وتدك الذخيرة بشدة ويضاف إليها البندق ( الحجارة او كرات الحديد ( . ثم يشعل ويكون قياس المدفع مناسباً لثقله وكانت المناجيق تطلق قذائف النيران الحارقة . وكانت القذيقة تتكون من خليط من الكبريت والنفط والحجارة ملفوفة في الكتان، وفي الحروب الصليبية ابتكر المسلمون آلة جديدة أطلقوا عليها الزيار لرمي أعدادا كبيرة من السهام الثقيلة دفعة واحدة .(5/95)
وكان المعمار الإسلامي بعتمد علي النواحي التطبيقية لعلم الحيل وهذا يتضح في إقامة المساجد والمآذن والقباب والقناطر والسدود فلقد برع المسلمون في تشييد القباب الضخمة ونجحوا في حساباتها المعقدة التي تقوم علي طرق تحليل الإنشاءات القشرية (SHELLS). فهذه الإنشاءات المعقدة والمتطورة من القباب مثل قبة الصخرة في بيت المقدس وقباب مساجد الأستانة والقاهرة والأندلس والتي تختلف اختلافا جذرياً عن القباب الرومانيةوتعتمد إعتمادا كليا علي الرياضيات المعقدة. فلقد شيد البناؤن المسلمون المآذن العالية والطويلة والتي تختلف عن الأبراج الرومانية . لأن المئذنة قد يصل إرتفاعها لسبغين مترا فوق سطح المسجد .وأقاموا السدود الضخمة أيام العباسيين والفاطنيين والندلسيين فوق الأنهار كسد النهروان وسد الرستن وسد الفرات .كما أقاموا سور مجري العيون بالقاهرة أيام صلاح الدين الأيوبيوكان ينقل الماء من فم الخليج علي النيل إلي القلعة فوق جبل المقطم . وكانت ساقية تدار بالحيوانات ترفع المياه لعشرة أمتار ليتدفق في القناة فوق السور وتسير بطريقة الأواني المستطرقة لتصل القلعة . تتميز الحضارة الإسلامية بالتوحيد والتنوع العرقي في الفنون والعلوم والعمارة طالما لاتخرج عن نطاق القواعد الإسلامية . ففي العمارة بنى أبو جعفر المنصورالخليفة العباسي, على نهر دجلة عاصمته بغداد سنة (145- 149 هـ) على شكل دائري، وهو اتجاه جديد في بناء المدن الإسلامية، لأن معظم المدن الإسلامية، كانت إما مستطيلة كالفسطاط، أو مربعة كالقاهرة، أو بيضاوية كصنعاء. ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أن هذه المدن نشأت بجوار مرتفعات حالت دون استدارتها . ويعتبر تخطيط المدينة المدورة (بغداد)، ظاهرة جديدة في الفن المعماري الإسلامي ولاسيما في المدن الأخرى التي شيدها العباسيون مثل مدينة سامراء وما حوته من مساجد وقصور خلافية فخمة. وظهرت مدن تاريخية في ظلال الحكم الإسلامي كالكوفة والبصرة وبغداد والقاهرة والفسطاط والعسكر والقطائع والقيروان وفاس ومراكش والمهدية والجزائروغيرها . كما خلفت الحضارة الإسلامية مدنا متحفية تعبر عن العمارة الإسلامية كإستانبول بمساجدها والقاهرة بعمائرها الإسلامية وبخاري وسمرقند ودلهي وحيدر أباد وقندهار وبلخ وترمذ وغزنة وبوزجان وطليطلة وقرطبة وإشبيلية ومرسية وسراييفووأصفهان وتبريز ونيقيا والقيروان والحمراء وغيرها من المدن الإسلامية . وكان تخطيط المدن سمة العمران في ظلال الخلافة الإسلامية التي إمتدت من جتوب الصين حتي تخوم جنوب فرنسا عند جبال البرانس. وكانت المدن التاريخية متاحف عمرانية تتسم بالطابع الإسلاني . فكانت المدينة المنورة قد وضع النبي أساسها العمراني والتخطيط حيث جعل مسجده في وسط المدينة ,وألحق به بيته وجعلها قطائع حددلها إتساع شوارعها الرئيسية. وكلها تتحلق حول مسجده. وجعل سوقها قي قلب مدينته . لتكون بلد جنده. وعلي نمط مدينة الرسول أقيمت مد ن الموصل و الكوفة وواسط بالعراق والفسطاط بمصر لتكون اول بلدة إسلامية بأفريقيا..
وفي مجال الملاحة وصناعة السفن
كانت صناعة السفن في كل أنحاء العالم الاسلامي في ظلال الخلافة الإسلامية الأموية والعباسية .فلقد ظهرت صناعة السفن والأساطيل في موانيء الشام بعكا وصور وطربلس وبيروت وحيفا . وفي المغرب كانت هناك طرابلس وتونس وسوسة وطنجة ووهران والرباط. وفي الأندلس اشتهرت إشبيلية ومالقة ومرسية وفي مصر اشتهرت المقس والاسكندرية ودمياط وعيذاب( علي ساحل البحر الأحمر (.وكانت المراكب النيلية تصنع بالقاهرة .وكانت ترسانات البحرية لصناعة السفن يطلق عليها دور الصناعة . وكان الأسطول يتكون من عدة أنواع من السفن مختلفة الحجم ولكل نوع وظيفة. فالشونة كانت حاملات للجنود ، والأسلحة الثقيلة
وفي علوم الملاحة وعلوم البحار كتب الجغرافيون المسلمون كتبهم . فضمنوها وصفا دقيقا لخطوط الملاحة البحرية، كماوضعوا فيها سرودا تفصيلية لكل المعارك الإسلاميةالبحرية، ثم وصفوا فيها البحار والتيارات إلما ئية والهوائية, ومن أشهر الجغرافيين العرب المسعودي والمقدسي وياقوت الحموي والبكري والشريف الادريسي ومن الرحالة ابن جبير وابن بطوطة. وهناك كتب ابن ماجد في علوم البحار مثل كتاب "الفوائد في أصول علم البحر والقواعد" وأرجوزته بعنوان "حاوية الاختصار في اصول علم البحار" وهناك مخطوط باسم سليمان المهري عنوانه "المنهاج الفاخر في العلم البحري الزاخر: و "العمدة المهرية في ضبط العلوم البحرية .
================
روح الحضارة الإسلامية
العدد: 4 (يوليو - سبتمبر) 2006
أ.د. محمد عمارة / قضايا فكرية
... مقالات أخرى للكاتب ... إلى صديق ... طباعة
تمت قراءة هذه المقالة 1300 مرة
لقد كانت الصناعة الثقيلة التي بدأت الدعوة الإسلامية فأقامتها، منذ المرحلة المكية، هي صناعة الصياغة الإسلامية للإنسان الذي تدين بدين الإسلام..
وكانت "دار الأرقم بن أبي الأرقم" في مرحلة سِرّية الدعوة الإسلامية، أي منذ فجر تلك الدعوة هي أولى المؤسسات التربوية التي أقامها رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام.
وقبل فتح المسلمين للمدائن والأمصار والأقطار، وقبل إقامة الدولة، وتغيير الواقع وتطبيق القانون وبلورة العلاقات الدولية كان الفتح الإسلامي للقلوب والعقول بهدي القرآن الكريم. ذلك الذي أصبح خُلق سلوك وممارسات، وسجية للحياة التي يحياها المسلمون، بل إن أولى المدن التي فتحها المسلمون قبل الهجرة النبوية وقبل الدولة الإسلامية -وهي المدينة المنورة- قد فتحها المسلمون بالقرآن الكريم.
وبعد إنجاز الصياغة الإسلامية -بالتربية- للإنسان، جاءت كل الإنجازات والفتوحات، في ميادين الحضارة وعلومها والثقافة وآدابها وفنونها، فكانت تجسيداً لهذا الذي سبق وتم إنجازه في نفس الإنسان.. جاءت جميعها مصاغة بمعايير الإسلام، التي سبق وصاغت نفوس وعقول وقلوب الذين اهتدوا بهدْي الإسلام.
إن الدعوة الدينية في الإسلام لم تقف عند حدود تدين الإنسان، وتحقيق عبوديته لله بالشعائر المعبِّرة عن الإيمان القلبي، والمفصحة عن علاقته بالسماء.. وإنما امتدت هذه الدعوة لتحقق ائتلاف هذا الإنسان بالأمة والمجتمع والكون، فتوحدت في نفس هذا الإنسان عوالم الغيب والشهادة، وائتلفت فيها وتوازنت علاقات الفرد بالمجموع، والخاص بالعام؛ فتدينت الدنيا، مع بقائها دنيا، عندما صاغ الإسلام نفس الإنسان المسلم ووجدانه وعقله تلك الصياغة التي ائتلفت فيها وتوازنت آيات الله في الوحي السماوي بآياته في الأنفس والآفاق.
إن دين الإسلام لا يقوم ولا يقام بالتبتل الفردي والخلاص الذاتي، وإنما لا بد لإقامته وتحقيق كامل فرائضه من أمة ووطن واجتماع ومجتمع، وفروض اجتماعية، يتوجه الخطاب فيها والتكليف بها للأمة. وهذه الفروض الاجتماعية أهم وآكد من الفروض الفردية، بدليل أن إثم التخلف عن الفريضة الفردية يقع على الفرد وحده، بينما إثم التخلف عن الفريضة الاجتماعية يقع على الأمة جمعاء.
وفي دين الإسلام، اقترنت الهجرة في سبيل الله بتأسيس الدولة، وإقامة المجتمع، وتطبيق القانون، وإقامة نسيج اجتماعي بين الرعية يحقق المؤاخاة، لا في الحقوق الدينية المجردة فقط، وإنما في أمور المعاش الدنيوية أيضاً؛ بل لقد امتد هذا النسيج بمعايير المواطنة، وحق الاختلاف حتى في الدين، إلى حيث ضم هذا النسيج غير المسلمين مع المسلمين.(5/96)
فالهجرة إلى الله ليست رهبانية، تخلص فيها وبها الذات، بمعزل عن الحياة والناس.. بل إن رهبانية الأمة الإسلامية هي الجهاد، الذي هو فريضة اجتماعية تستلزم وجود الأمة والوطن والاجتماع.
لقد أحدثت الدعوة الدينية الإسلامية أثراً تكوينياً تربوياً في شخصية الفرد المسلم، أصبح عاملاً نفسانياً، حقق ائتلاف العناصر الفردية في المجتمع الإسلامي، الطبيبعي منها والشرعي، المدني منها والديني، العقلي منها والنقلي، المادي منها والمجرد.. فكان ذلك الائتلاف حضارة إسلامية، أبدعها الإنسان الذي صاغته الدعوة الإسلامية. وتلك خصيصة من خصائص الدين الإسلامي والحضارة الإسلامية؛ فالرسالات الدينية التي سبقت رسالة الإسلام الخاتمة، إما أنها تزامنت مع حضارات غير متدينة، فتعايشت معها، دون أن تغيرها وتصبغها بصبغتها؛ بسبب وقوف تلك الرسالات عند حدود خالص الدين، وإما أن تلك الحضارات السابقة على الحضارة الإسلامية قد عاشت في أزمنة الفترة التي خلت من رسالات الدين..
بينما تميز الإسلام بكونه ديناً فجّر حضارة، وصاغ مدنية، وأثمر اجتماعاً إنسانياً، وألّف في نفس الإنسان -بالمنهاج التربوي الشامل- ذلك الائتلاف المتوازن، الذي جعل هذا الإنسان يبدع الحضارة المصطبغة بصبغة الدين. لقد حقق الدين الإسلامي الائتلاف والتوازن والأمن في نفس الإنسان المسلم، فجاء الإبداع المدني لهذا الإنسان -أي الحضارة الإسلامية- ثمرة مجسدة لهذا الذي أحدثه الدين في نفس هذا الإنسان.. فلما حدث وبعدت هذه الحضارة وثقافتها عن هذه الصبغة كان هذا الخلل الذي نشكو منه، والذي حدث منذ قرون، والذي تطبّ لدائه كل دعوات وحركات الإصلاح في أمة الإسلام.
وإذا كان الإسلام هو سبب تقدم المسلمين، ونهوضهم الحضاري، وازدهارهم الثقافي.. فما سبب التخلف الذي أصاب المسلمين، مع بقاء الإسلام كما هو، على حاله الذي كان عليه عندما فجر ينابيع التقدم في الحياة الإسلامية؟!
إن السبب هو غيبة "الروح" (روح الدين الإسلامي) عن الحضارة (الحضارة الإسلامية)، هو انقطاع الاتصال بين الإسلام وحضارة المسلمين.. هذه الروح التي جعلت الحضارة إسلامية، بل والتي فجرتها وصبغتها بصبغة الإسلام..
لقد جلس الحسن البصري إلى واعظ من الوعاظ، فلم يتأثر قلبه بموعظته، فسأل الحسنُ الواعظ: "يا أخي، أبقلبك مرض أم بقلبي؟". إن انقطاع الاتصال، لغيبة الروح، هو سبب المرض والمأزق الحضاري، الذي تطب له وتبحث عن علاجه مختلف مدارس الإصلاح.
فما هذه الروح التي جعلت الإسلام -دون الديانات الأخرى- يصنع حضارة وثقافة، ولايقف عند مجرد الدين؟! وأين موطن الخلل الذي عطل الفعل الإسلامي في الحضارة والثقافة؛ فتراجعت الحضارة الإسلامية، وضمرت الثقافة الإسلامية، مع بقاء الإسلام "الدين" كما هو، وبقاء الإيمان به والاستمساك بعراه؟!
لقد عرض الشيخ محمد الفاضل بن عاشور لهذه القضية المحورية عندما تحدث عن الأمور التالية:
بناء الحضارة والثقافة
تميز الإسلام "الدين" بإفراز الحضارة، وبناء الثقافة: "فإذا كان الإسلام، باعتباره ديناً، يشترك مع غيره من الأديان في القضايا التي هي موضوع الديانات عامة، فإن للإسلام نواحي ينفرد بها عن تلك الديانات، التي اشترك معها في القضايا الدينية بصفة عامة، إذ تكون له جهات اتصال بالثقافات والحضارات ليست لغيره من الأديان الأخرى.. فهذه التي نسميها الحضارة الإسلامية، أو تلك التي نسميها الثقافة الإسلامية، إنما هي سلاسل من الأحداث والأوضاع والكيفيات الاجتماعية والذهنية، كان الإسلام مبدأ نشأتها وسبب تكوينها. فلم يقف الإسلام عند التعايش مع العلم، وإنما أصبح كل موضوع علمي ذا صلة بالعقيدة الدينية، وصار الارتباط بين الدين والمعرفة العقلية، أو بين علم الطبيعة وعلم ما وراءها ارتباط التفاعل والتمازج. ونشأ من ذلك اتجاه نحو الحياة والسلوك فيها، يدفع به العامل الديني الاعتقادي في كل وجه من وجوهه، وسبيل من سبله؛ فصار الداعي الديني يتجلى فيما يصنع العالم، وما ينتج الأديب، وما يصوغ صاحب الفن. وصارت المعرفة العلمية سنداً لكلام المتكلم، وفقه الفقيه، وتصوف الصوفي، على الصورة التي ربطت عناصر المعرفة، وأخرجت كتب العقيدة الإسلامية جامعة للمعارف الطبيعية والرياضية والإنسانية، مع الحقائق الاعتقادية؛ يتجانس فيها العلم مع الدين، ويتساند العقلي والنقلي. لقد تكوّن المجتمع الإسلامي بإثر دعوة دينية، إنه مجتمع ديني بالمعنى الأخص، كان الدين فيه العامل الأول المباشر. ومن دعوة الدين، والإيمان بها، اكتسب الشعب الذي استجاب لتلك الدعوة وامتاز بذلك الإيمان خلالاً نفسية جديدة. لم يستفد علماً ولا صناعة ولا قوة مادية، ولكن الذين اكتسبه من الخلال طوّع العلم والصناعة والقوة المادية؛ فكانت المدارك الدينية وحدها هي التي فتحت أمام نظر المسلم آفاق الكون للتأمل والاعتبار، والمعرفة والإيمان. فالحقيقة الاعتقادية الإلهية، هي الأساس لكل ما بنت الحضارة الإسلامية من هياكل حسية ومعنوية. وإنسان هذه الحضارة، بالدين فكّر، وبالدين تحضّر، وبالدين أنتج آثار حضارته، وبالدين أقام الدولة الصائنة للمجتمع وحضارته. وكذلك استمرت مظاهر الحضارة متصلة في نفسه بالدين، وعوامل الدين فعالة في مظاهر الحضارة."
التوازن والانسجام
كذلك امتازت هذه الحضارة الإسلامية وثقافتها بالتوازن والانسجام؛ لأنها ثمرة لامتياز الإسلام بتحقيق التكامل والتوازن والانسجام في مصادر المعرفة الإنسانية: "فكل الحقائق، المتصلة بالمادة والمتصلة بما وراءها، هي في متناول الإنسان، يستطيع أن يتوصل إليها بمداركه العديدة المدرّجة، المستند بعضها إلى بعض، في غير تنافر ولا تدابر ولا تناشز. فالمدركات الغريزية، وراءها المدركات الحسية. ثم المدركات الحسية، وراءها المدركات العقلية. ثم المدركات العقلية، تؤدي إلى المقدمات المفضية إلى تلقي المدركات الغيبية، الآتية من طريق الوحي، وإلى التسليم بها، والإذعان لها. وتبقى هذه المدركات كذلك متعاونة متساندة، لا يمكن أن يحصل بطريق واحد منها ما يتناقض مع الحاصل من طريق مدرك آخر، إلا أن بعض ما يقصر عن الإحاطة به أحد هاتيك الطريق، يمكن أن يتصل به طريق آخر منها، حتى تنتهي إلى الإذعان للمدركات الحاصلة بالطريق الخارق للعادة، وهو طريق الوحي. فعقل الإنسان وعقيدته، وحسه المادي، وعواطفه الغريزية، كلها متجانسة متعاونة، لا يخشى بعضها بعضا، ولا يقطع أحد سبيل الآخر. لقد كانت الحضارة الإسلامية من أثر إنسان اكتسب وضعاً منسجماً في ذاته، آمنا إلى نفسه، فصنع على مثال نفسه حضارة أكسبها مما اكتسب، وأفاء عليها مما أفاء الله عليه، حتى فاقت بما فيها من انسجام غيرها من الحضارات."
ما أسباب التخلف؟(5/97)
لكن ما الذي حدث حتى تخلفت الحضارة الإسلامية وتهلهلت ثقافتها، مع بقاء الإسلام -الذي صنعهما وحقق لهما الازدهار الذي دام لعدة قرون، كانا فيه منارة للعالمين- على ما هو عليه؟! "لم يكن المصاب العزيز هو الإسلام، وإنما كان الثقافة الإسلامية والحضارة الإسلامية. وكانتا تتطلعان إلى الإسلام بذاته، تحنان إليه، وترجوان شفاءهما عنده. وكان القريب والبعيد يدركون أن ما نزل بالمجتمع الإسلامي، في حضارته وثقافته، ليس إلا أمراً آتيا من انحراف عن الأصل، وانقلاب في الوضع، وانفلات عن العامل التربوي الأصلي الذي لزم الأصول، وأحكم الأوضاع؛ فلقد أصاب الحضارة والثقافة ما عزلها عن صدق الاستمداد من الإسلام، ومتين الاعتماد عليه، حتى مال عمادها، واضطربت أوتادها.."
فالخلل لم يحدث في ذات الإسلام؛ وإنما في توقف عقيدة الإسلام عن أن تكون روح الحضارة، وانكماش الإرادة الاعتقادية البناءة للحضارة، وغربة الحضاري عن الديني، وتفكيك الدين عن الدنيا: "وإن تبيّن الناحية التي أصابتها العلة من العقيدة، هو الذي يكشف عن الأسباب التي قضت بضعف الحضارة وتهلهلها. إن الذي حدث في العقيدة الدينية، وقضى بتضعضع الحضارة، إنما هو انكماش صدّها عن أن تخلع من روحها على الحضارة، فأصبحت الحضارة خائرة جامدة، لا تتقدم. وما كان ذلك الانكماش إلا أثراً من آثار الضعف، الذي أصاب العقيدة في جوهرها. إن الإرادة الاعتقادية البناءة هي التي خارت وضعفت؛ فأصبحت الأوضاع الاجتماعية، والآثار المدنية تصدر عن غير ما كانت تصدر عنه، فصارت هي في واد والعقيدة الدينية في واد. وبقي المسلم وفيّاً لعقيدته الدينية، غيوراً عليها، من جهة، متقبلاً لحياته العملية، مطمئنّاً إلى واقعها من جهة أخرى. حتى أصبح المبدأ النظري والواقع العملي عنده متباينين، وتولدت من ذلك نظرية تفكيك الدين عن الدنيا، باعتبار أن الدين خيرٌ غير واقع، والدنيا شر واقع، وأن العبد المسلم يحمل بين جنبيه دِيناً لا يؤثر فيه إلا لماماً، ويعيش في دنيا لا يعرف فيها إلا كل ما يبعد به عن الدين. ثم هجمت عليه في حياته العملية مدنيات أجنبية عنه، فيها العلم، وفيها الصناعة، وفيها القوة، وفيها الحكمة؛ فلم يجد من إرادته الدينية ما يتناول به هذه المدنية، كما تناول المدنيات التي احتك بها من قبل، يوم كانت إرادته الدينية قوية سليمة، فوقف أمامها جامداً، واعتبرها من جملة صور الحياة التي كان من قبل آمن بانفكاكها عن الدين..".
ذلك هو موطن الخلل الذي كان ابن خلدون من أفضل من أدركه، وحلله.. "لقد حلل ابن خلدون المشكلة تحليلاً دقيقاً، عندما جعل شؤون السياسة والعمران والصناعة والعلم في الدولة الإسلامية، تبعاً لشأن الدين. وجعل الحقيقة الأولى للدين، التي هي العقيدة الفردية أصلاً وأساساً لذلك كله، فأخذ يدرس مشكلة فساد الدولة، وركود العمران -في عصور الإسلام اللاحقة عن عصوره السابقة- وانتقاص الصنائع، وتلاشى ملكات العلوم، واختلال طرائق التعليم في الأمصار الإسلامية لعهده، جاعلاً ذلك كله راجعاً إلى اختلال الحقيقة الأولى للدين، التي هي أساس العمران الناشئ به، والدولة القائمة عليه، أعني العقيدة الدينية، فردّ ذلك كله إلى صورة تكوّن الفرد تكوّناً إيمانياً، يرتبط من جهة بالدين الإسلامي في عقيدته، ويسري منه إلى كل ما انبثق عن تلك العقيدة من مظاهر عمرانية وصناعية وفكرية. وإذا كان الناس يكتفون بأن يمثلوا ما بدا في حياة المجتمع الإسلامي وحضارته من إخلال، بما يرجع إلى نظم الحكم، وصور الدول، وما شاع من فساد الخلق، وتفكك الروابط الاجتماعية، فإن ابن خلدون يطلب لهذه العلل عللاً، ويرد هذه الأسباب إلى أسباب وراءها. فانقلاب الخلافة إلى ملك ليس العلة، وإنما هو عَرض لعلة تغيّر الوازع الديني إلى مقاصد التغلّب والقهر، والتقلّب في الشهوات والملاذ، وحلول عصبية الدولة محل عصبية الدين. لقد أرجع ابن خلدون الحضارة الإسلامية إلى أصلها وأساسها، أو بالأوضح روحها، وهو العقيدة الدينية".
حجم المشكلة
وإذا كانت هذه هي المشكلة، فما هو حجمها؟ وما هو عمرها؟ إن حجم هذه المشكلة ليس بالهين، وعمرها ليس بالقصير. "وإذا كنا لا ننكر أن الحضارة الإسلامية قد تقاصرت وتراجعت وتخلخلت، وأن الثقافة قد ذوتْ وانكمشت واصفرت، وأوشكت أن تصير حطاماً، فإن ذلك ليس وليد الأمس، ولا أمسه. ولكنه الأدواء التي استفحلت في القرون الأخيرة، حتى أعضلت، وعز دواؤها، ثم لم تزل تنمو وتشتد وتتفاقم آلامها وأخطارها حتى انتهت إلى الوضع المفزع، الذي ضج قرننا الحاضر منه بالشكوى.."
ما هو الحل؟
وأخيراً وبعد تحديد روح الحضارة الإسلامية، وتشخيص موطن الخلل الذي أصاب حضارتنا وثقافتنا؛ فما هو الحل الحقيقي لهذه المشكلة؟ والمخرج من هذا المأزق الذي يأخذ بخناق الأمة؟
إن الحل هو في العودة إلى الروح التي صنعت الحضارة المزدهرة والثقافة المتألقة. إنه عودة الروح الدينية لتصوغ النهضة الحضارية المتميزة والمستقلة. وهذا هو المعنى الحقيقي لمقولة: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. "فلولا التكوّن الفردي المكّي، والتكوّن الاجتماعي المدني، لما كانت آثار الحضارة التي تبدت في عواصم الإسلام. فإذا كان الناس اليوم يحنّون إلى عهود ذهبية، ازدهرت بها تلك العواصم، ويتحرقون إلى إحيائها وتجديدها، فأجدر بهم أن يعودوا إلى العامل الأصلي الذي ولّد تلك العصور الذهبية، والذي بدونه لن تعود زهرة تلك العصور وينعتها، ألا وهو العامل التربوي الإسلامي، الذي كوّن الفرد قبل أن يكوّن المجتمع، ومهد للثقافة طريقها قبل أن يتناول عناصر المعرفة التي ألّفت كيانها".
أما إذا وقفنا عند "استقلال العَلَم والنشيد"، دون حقيقة "الاستقلال الحضاري"، الذي هو ثمرة للصبغة الإسلامية المتميزة، فلن نخرج من هذا المأزق الذي نعيش فيه. "لقد خرج العالم الإسلامي من تحت حكم الغير، واسترجع سيادته الذاتية، لكن هل هو مستطيع أن يعاود حضارته، ليضطلع بأعبائها من جديد، وليمثل للناس صورة جديدة من الثقافة والحضارة، منطبعة بطابع شخصيته الإسلامية، ومنبثقة عن المبادئ الاعتقادية الإسلامية، التي انبثقت عنها الصورة الماضية التي عرفها التاريخ من ثقافة الإسلام وحضارته؟ إن نهضة اليابان ليست بوذية، ولا نهضة الصين نهضة كونفوشية، ولا نهضة اليونان نهضة بيزنطية، ولا أفلاطونية، ولا أرسطوطاليسية، بل ولا هي يونانية على الحقيقة بأي حال من الأحوال. فهل سيكون شأن الإسلام مقصوراً على هذا الوضع؟ أو أن حضارة إسلامية الروح، وثقافة إسلامية الطابع، ستبدوان من بين ذلك القدر المشترك المؤلف بين شعوب الأمة الإسلامية، الناهضة المستقلة؟ إن روح تلك الحضارة هي الموقع الرئيسي للمشكلة".
تلك بعض من قضايا وأفكار ومحاور المعضلة التي حار ويحار فيها المصلحون، روح الحضارة الإسلامية، التي صنعت وميزت الحضارة والثقافة في عصور النشأة والازدهار، وموطن الخلل الذي جعل الحضارة تتراجع، والثقافة تتهلهل. والحل والمخرج من هذا المأزق الحضاري الذي تعيشه أمة الإسلام.
____________
* كاتب ومفكر إسلامي - مصر
=============
الحضارة الإسلامية بين الحضارات
* د. محمد ظفر الله خان(5/98)
تهيمن الحضارة العالمية الحديثة بخيرها و شرها على الأفكار والثقافة والحياة والواقع الاجتماعي حتى كاد الانسان لا يفكر بغيرها أو ينتظر بديلاً عنها أو يتطلع إلى مصحح لعيوبها وانحرافاتها مع أن الإخلاص للإنسانية وللحضارة ذاتها يقتضي معرفة محاسنها ومساوئها، وبما يمكن أن تقوم به حضارة أخرى من دور بناء إيجابي يتسم بمقومات الخلود والثبات والأمن والاستقرار.
ونحن بدورنا كجزء كبير من هذا العالم نستطيع المساهمة في توجيه الحضارة وجهة أسلم وأقوم أو على الأقل محاولة إقامة حضارة ذاتية تتطلبها أمتنا في العصر الحاضر لتتمكن من إثبات ذاتها وتوفير البرهان العملي على مدى صلاح هذه الحضارة وجدارتها بالوجود والتنافس الشريف.
وفي معرض هذا الحديث يمكننا إلقاء الأضواء الكاشفة عن مقومات الحضارة الاسلامية المتميزة بسماتها البارزة وخصائصها الواضحة التي تخلق منها وحدة شخصية تامة ذات معالم مستقلة عن غيرها في أساس الحضارة وغايتها ومبادئها مع التنويه لما يوجد بينها وبين غيرها من قدر مشترك يحتمه الواقع وتدفع إليه الحاجة ويمليه المنطق وتقتضيه المصلحة.
إن أساس حضارة الاسلام ليس هو تمجيد العقل كما هو الشأن عند الإغريق، ولا تمجيد القوة وبسط النفوذ والسلطان كما كان عند الرومان، ولا الاهتمام بالملذات الجسدية والقوة الحربية والسطوة السياسية كما هو الأمر عند الفرس، ولا الاعتداد بالقوة الروحانية كما عند الهنود وبعض الصينيين، ولا الافتتان بالعلوم المادية والاستفادة من ذخائر الكون وبالمادية الطاغية كما هو منهج الحضارة الحديثة المتوارثة عند اليونان والرومان ـ وإنما أساس حضارتنا هو فكري ـ علمي ـ نفسي يشمل جميع شعب الحياة الانسانية وبهذا كانت حضارة الاسلام مستقلة كاملة ذات دستور محدد شامل تختلف به اختلافاً جذرياً عن مبادئ الحضارة الغربية وتصطرع معها كما تصارعت مع الحضارات القديمة فصرعتها بسبب سيطرة الدين على القوى الفكرية والعملية ولقوة روح الجهاد والاجتهاد لأن الاسلام لا يمنع العلم ـ طريق الحضارة ـ وإنما يضع له المنهج الملائم لمبادئه.
وإذا كان التقدم الحضاري الصادق بوسائله المدنية المختلفة ليس مقصوداً لذاته ولا غاية في نفسه، فإن غاية الحضارة الصحيحة تحقيق السعادة النفسية والطمأنينة القلبية والتوصل إلى ما هو خير ونافع والبعد عما هو شر وضار.
لكن الحضارة الحديثة لم تحقق الغاية المنشودة وإنما أدت إلى القلق والاضطراب وطحن الانسان في حمى المادية الطاغية والبعد عن الخلق والفضيلة والدين ونحوها من القيم الانسانية.
وأما الحضارة في تقدير الاسلام فغايتها الأولى تحقيق الطمأنينة والسلام والأمن وإقامة المجتمع الفاضل وإسعاد البشرية بما هو خير ومحاربة كل عوامل الشر.
وبما أن الانسان هو خليفة الله في أرضه فلا يصح أن يتخذ المرء في حياته غاية سوى ابتغاء مرضاة الله مصدر الأمن وهي الغاية السامية التي تتخطى مجرد طلب الملذات الحسية أو الغايات المادية الدنيئة وتحقق الانسجام والتوافق بين الفطرة الانسانية والغاية العقلية كما أنها تهيئ التجاوب والانسجام الشامل في أفكار الانسان وخيالاته وإراداته ونياته وعقائده وأعماله وحركاته... وهذا يعني أن غاية حضارتنا إعداد الانسان للسعادة الأخروية المتوقفة على العمل الصالح في الحياة الحاضرة في نطاق الدين والدنيا معاً. إذ ليس الاسلام ديناً روحانياً بحتاً يعزل أتباعه عن الحياة ولا مادياً صرفاً يوقع الناس في أوحال الدنيا، وإنما هو يعتبر وسيلة ومزرعة للآخرة، ولا تعني الوسيلة أنه دين تقشف فلا يكون دين حضارة، فالتقشف والزهد في الاسلام هدف أخلاقي رفيع يتفاعل مع الحياة ويصرف المرء عن التكالب على متطلبات العيش ويوحي بضرورة التزام مبدأ القناعة الشريف الذي لا يؤدي إلى مصادمة الآخرين وإيقاد نار المنازعات والشرور.
إذن، فالاسلام في حقيقته مصدر الحضارة الانسانية التي شعّ نورها بامتداد الدعوة الاسلامية بعد الاستقرار في المدينة وبناء الدولة فيها عقب اكتمال بناء الفرد في مكة، وذلك لأن الاسلام هو دستور التقدم الانساني بالقرآن العظيم والسنة النبوية الشريفة. فكل ما يعد تقدماً وعمراناً هو من الاسلام، وكل تخلف مضاد للتقدم ليس من الاسلام في شيء. لذا يخطئ الكاتبون سهواً الذين يريدون التوفيق بين الاسلام والحضارة كأنهما أمران متغايران أو ضدان، إذ لا خلاف مطلقاً بين الاسلام والحضارة، فالحضارة نتيجة من نتائج النظام الاسلامي والفلسفة الاسلامية التجريبية العملية.
والاسلام أب الحضارة وراعيها يتقبل منها قديماً وحديثاً كل ما ينفع ويرفض كل ما يضر لأن ((الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها التقطها)) ولأن الانتفاء والاصطفاء عن عقل وتمييز هو من صلب تعاليم الاسلام التي تقر الأعراف الصالحة وتنبذ العادات والتقاليد الفاسدة أو المعارضة لمبادئ التشريع ونصوصه ـ وليس أجل على ذلك من أن الاسلام تبنى ما كان صالحاً من حضارات البلاد التي فتحها في الشام ومصر وبلاد الروم والفرس وضم المسلمون إلى ساحتهم كل مخلفات الحركة العلمية لدى اليونان في مجال العلوم الطبيعية والطبية والرياضية، ثم أضافوا إليها معارف ومكتشفات جديدة صبوها في أبهى قالب في بلاد الأندلس التي كانت مصدر الحضارة الحديثة.
فليس دور المسلمين مجرد تلقي لما عند الآخرين كما زعم المغرضون، وإنما كان لهم مشاركة إيجابية بناءة حققت لهم أرفع معاني العزة والسيادة والسبق الحضاري وهكذا كان المسلمون في كل عصر مصدر إشعاع لكل تقدم وخير وكانوا سباقين للمعالي والقدوة الطيبة للفضائل والمكارم ((كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)) ـ وقادة العلم والتثقيف والتوجيه ((طلب العلم فريضة على كل مسلم))، وفي توجيه آخر للرسول عليه الصلاة والسلام ((مَن خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع)).
والآن، مع الأسف حيث صرنا في حالة ضعف وكلمة الضعيف لا تسمع ولو كانت حقاً وعدلاً وشوهت حضارتنا وزيفت معالمها وسرق محتواها وتشكك الناس في مبادئها فلم يعد أمامنا إلا محاولة استعادة قوتنا المادية، ولكن على أساس صحيح من هدى الاسلام.
ولا شك أن المبادئ هي القيم الخالدة التي توقظ الغافلين وتهدي إلى الطريق المستقيم دون أن تحجبها مظاهر الضعف والتخلف وأحوال الانحطاط التي تتعرض لها الأمم في بعض الأدوار التاريخية ومياديننا الحضارية ما تزال هي المشعل الوضاء التي تدفعنا نحو متابعة الخطى ودوام العمل والكفاح وأعمال الإرادة والفكر.
وأهم مبادئ أو خصائص الحضارة السلامية ما يأتي:
1 ـ مبدأ التوحيد (الألوهية والربوبية): إن أبرز صفة حضارية للاسلام أنه دين توحيد الألوهية والربوبية أي أن الإله المعبود بحق هو الله سبحانه لا شريك له، والناس جميعاً متساوون في الانتماء إليه والاتجاه إلى عظمته من دون واسطة بشرية. وهذا الإله هو الحاكم المطلق الذي يسن للناس التشريعات والقوانين، وما على المسلم إلا أن يتبع أوامر الله وينفذ التشريع المنزل. وفي هذا يشعر الانسان بكرامته الشخصية وأنه لا يستذل لأحد من خلق الله فيعمل ويفكر بحرية ويتجه في عمله وفكره لإرضاء مولاه بفعل الخير وتجنب الشر والتخلص من كل مظاهر الوثنية سواء في صورتها القديمة التي تعني بالتماثيل والأصنام، أم في صورتها الحديثة الموجهة نحو تقديس الدولة الحاكمة وعبادة الأشخاص في أحوال الظلم.(5/99)
2 ـ الصبغة الانسانية العامة: ليست حضارة الاسلام محدودة المكان أو وطنية النزعة أو قومية مغلقة على أهلها أو طبقية محصورة في أسرة معينة، وإنما هي إنسانية عالمية واسعة الأفق تخاطب أي إنسان في أي مكان وتصلح للانتشار في أي بقعة أرضية وتقيم أخوة إنسانية عالمية ((يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم. إن الله عليم خبير)) يعم خيرها الجميع وتفيد كل امرئ بما تقدمه من علم نافع وعمل صالح لأن ((الخلق كلهم عيال الله، وأحب الخلق أنفعهم لعياله)) وهذا المعنى من عظمة الله بدليل أنه يرزق الكافر والمؤمن ويمنح المواهب مَن يشاء وحينئذ تتفتح العبقريات في كل شعب وفي كل زمان ومكان.
وإذا كان العطاء الإلهي عاماً وجب أن يكون النتاج الحضاري عاماً لا حكراً على أناس دون غيرهم لأن رائد الحضارة الأصيل هو إسعاد البشرية جمعاء وصعيدها العدل والحق والخير والكرامة. وهذه هي حقيقة تعاليم الاسلام التي تنفر من كل فكرة استعمارية أو نظرة إقليمية أو قومية ضيقة أو عصبية أو طائفية، باعتبار أن روح الاسلام عالمية لا تعرف متعصب إلا للخير العام وفي سبيل الصالح العام ومن أجل إقرار الحق ((هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله...)) ـ ((ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون)).
3 ـ النظرة الشاملة للانسان والحياة: لقد تبين من تاريخ الحضارة أن كلا من الروحية البحتة أو المادية البحتة وحدها لا تصلح أن تكون سبيلاً لسعادة الانسان، فليس في مسلك الروحية البحت سوى التخلف وتعطيل الإرادة والتفكير وطاقات العمل وقتل آدمية الانسان وخسارة منافع الكون، وكذلك ليس في مسلك المادية البحت سوى الطغيان والظلم والاستعباد والذل والتحكم الغاشم بالأرواح والأموال والأعراض.
أما حضارة الاسلام الخالدة فقامت على أساس الجمع أو التوازن بين المادية والروحية الانسانية فتصبح الروحية المهذبة أساس المادية المهذبة، وعندها ينعم الانسان بالإرادة والحرية والتفكير وثمرة الجهود والعمل في إطار من الإيمان والأخلاق القائمة على العدل والأمن والاستقرار والرحمة والمحبة. وبهذا العنصر الانساني تميزت حضارة الاسلام التي سبقت كل الحضارات القديمة والحديثة كما أنها تميزت بامتداد جذورها إلى جميع نواحي الحياة الجديرة بالإعزاز والمحققة لسعادة الانسانية. قال الله تعالى واضعاً جوهر رسالة النبي (ص): ((وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)) وأما المرتكزات الحضارية المادية من تفكير وإرادة وتضحية وعمل فقد حوتها آية أخرى وهي ((وأتبع فيما أتاك الله الدارة الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض. إن الله لا يحب المفسدين)).
4 ـ رسالة الأخلاق: إن سياج الحضارة الاسلامية هو الدين والأخلاق، فمبادئ الأخلاق تتدخل في كل نظم الحياة وفي مختلف أوجه نشاطها سواء في السلوك الشخصي أم في السلوك الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي. ومن المحال إقامة النظام الصالح أو المجتمع الفاضل من دون أخلاق وقيم شريفة، وهذه القيم ونحوها هي صمام أمان يكفل دوام الحضارة ويمنع انحرافاتها وتعثرها بدليل قيام الحضارة الحديثة عليها في مبدأ الأمر وتعرضها للإفلاس والانهيار في شرخ قوتها عندما طغت عليها الصفة المادية.
5 ـ دور العلم: أقام الاسلام حضارته الرفيعة على منهج العلم والمعرفة والعقل والبحث والتجربة والاستنباط تقديراً منه لحيوية العلوم في بناء الدولة والمجتمع فابتدأ بالقضاء على الجهل والأمية والتنديد بالتقليد الأعمى ثم أشاد بالعلم والعلماء في مختلف الاختصاصات الشاملة لكل إدراك يفيد الانسان في القيام برسالته في الحياة وهي تعمير الأرض والاستفادة من خيراتها وكنوزها كما يرشد إليه إطلاق النصوص القرآنية: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) (وقل ربي زدني علماً) (إنما يخشى الله من عباده العلماء).. وكان حب العلم لذاته هو خلق العلماء القدامى دون التفات لمكسب مادي أو مغنم أدبي رخيص أو بقصد الشهرة وإذاعة الصيت ولم يجعل العلم وسيلة للمعاش إلا في عصور التخلف، وفي أوقات الحاجة المهيمنة الآن إلى كسب الرزق. وما أجدرنا أن يكون الدافع ذاتياً إلى تعلم العلوم الحديثة وأن تهيئ الدولة كل المناخ الملائم لتطبيق النظريات العلمية الحديثة ليطلع فجر الحضارة الاسلامية من جديد وتمتلئ الحياة بالمجالس والمناقشات والأبحاث العلمية والتطبيقية، قال النبي (ص): ((ومَن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً... سهل الله له طريقاً إلى الجنة)).
6 ـ الحفاظ على الشخصية الذاتية: إن الأخذ بأسباب الحضارة الغربية لا يعني ضياع الشخصية الاسلامية وإهدار المقومات الذاتية، فلقد استفاد المسلمون في الماضي من حضارة غيرهم مع طبها بطابعهم الشخصي والمحافظة على القيم الاسلامية أما الإصرار على جعل المدنية الغربية طريقاً وحيداً لإحياء الحضارة الاسلامية فهو تشكيك للنفوس وقتل للمعنويات وإهدار للجهود، ودعم الزعم القائل بعدم كفايتنا وإبقائنا عالة على غيرنا دون أن نستطيع مواجهة الغرب فضلاً عن مناهضته ومغالبته.
7 ـ الاعتصام بالحق والخير: الاسلام دين الحق كما عرفنا وطريق الدعوة إلى الخير وحضارته تقوم على مبدأ مناصرة الحق والعدل ومكافحة الباطل وعمل الخير وقمع الشر.. فلا ظلم ولا هضم للحقوق ولا إنتاج إلا للخير ولا ابتكار لما يضر ولا ينفع. وإحقاق الحق وتثبيته يتطلب تخطيطاً وثباتاً وقوة وتفانياً. والخير الذي يشمل كل أنواع الرقي المادي والمعنوي لا يتوفر بدون تعاون الفرد والجماعة والحاكم والمحكومين، وأما الشر فيمثل كل مظاهر الانحراف والشذوذ والتخلف.
8 ـ الإيمان صمام الأمان: الإيمان في مفهوم الحضارة الاسلامية هو الذي يقيم قواعدها ويميز عناصرها الصالحة من الرديئة، وليس الإيمان مجرد عقيدة قلبية أو ديانة شخصية وإنما معناه الاسلام بكامله.
والاسلام نظام متكامل للأخلاق والمدنية والاجتماع والاقتصاد والسياسة، فهو الذي يوحد الأمة ويحفظ جهودها ويحافظ على وجودها وحضاراتها، وكلما قوي الإيمان قويت الحضارة، وكلما ضعف الإيمان ضعفت الحضارة وبقدر سيطرة تعاليم الاسلام على المجتمع بقدر ما يكون ازدهارها في المجال الحضاري.
وإذا كنا نجد الآن خلاف كل هذا في مجتمعنا تبين لنا بحق سبب تأخر المسلمين وما أصابهم من تقهقر اقتصادي وتمزق سياسي، وإمعاناً في بقاء هذه الحال مع أشد الأسف نرى الاتجاه العام يسير نحو عزل الاسلام عن الحياة والعلم والثقافة سيراً وراء النواعق التي تنعق بأن الاسلام لا يستوعب الحضارة المعاصرة أو جهلاً بحقيقة الاسلام أو مشاركة في الخيانة المفضوحة أو المقنعة لإبقاء حالة الضعف القائمة وتأمين مصالح الرؤوس الكبيرة والدول العظيمة!!
ولكنا ما زلنا نؤمن بأن النصر والمستقبل سيكون لدولة الحق والاسلام المشرق بحضارته الوضاءة، لما نجده في النفوس من بقية طيبة من الإيمان والألفة والعزة والحمية والغيرة ولما نعيشه من واقع مؤلم تتوالى فيه الضربات والطعنات وتدمى منها القلوب والحناجر والصدور وتهتز الأرض من تحت الأرجل وتتهدد العروش والكراسي باحتلال الغاصب وظلم المستعبد ونار المستغل.
ولن يعود مجد الاسلام وحضارته إلا بالثقة بالنفس ودفن العجز واليأس والقنوط وتغيير ما في الصدور (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
==============(5/100)
العدالة البيئية نظرة مقارنة بين الحضارة العربية الإسلامية و الحضارة الغربية
للأستاذة الدكتورة : مشكاة المؤمن
أستاذ زائر مؤسسة القانون البيئي واشنطن
ماجستير إدارة عامة - تخصص قانون بيئي جامعة هارفارد
وزير البيئة السابق - العراق
مقدمة
يقصد بالعدالة البيئية؛ أتخاذ الاجراءات القانونية للحيلولة دون نشؤء بؤر للثلوث البيئي في المناطق التي تسكنها الطبقات الفقيرة او المسحوقة في المجتمع. بحيث تكون المؤسسة البيئية مسؤولة عن ضمان المحورين الآتيين :
- محاربة بؤر التلوث و الحيلولة دون نشوءها من خلال منع تركز النشاطات الملوثة للبيئة في مناطق سكن الطبقات المسحوقة. ذلك ان تركيز النشاطات الملوثة في اماكن عيش الطبقات الفقيرة، او في اماكن عيش شريحة عريقة معينة، بشكل يبدو معه المجتمع- ممثلا بالمؤسسة البيئية- وكأنه يعاقب مجموعة من ابناءه على فقرهم، او انتماءهم لشريحة معينة، او حتى ايمانه بثقافة معينة، من خلال الموافقة على اقامة النشاطات الملوثة للبيئة في هذه المناطق تحديدا، بدلا عن اختيار مواقع بديلة بعيدا عن المناطق السكنية و بغض النظر عن العرق او مستوى دخل السكان. مما يحقق ركن الاستهداف و هو الركن الاول من اركان انعدام العدالة البيئية . بمعنى ان المجتمع - بشكل مباشر او غير مباشر- يستهدف ابناء طبقة معينة او شريحة معنية داخله؛ لتكون النتيجة ان المجتمع لا يبالِ بصحة وسلامة ابناء هذه الشريحة و بشكل يمكن اعتباره تمييزا ضدها[1].
- اعتماد مفهوم الاثر المضاعف للتلوثCumulative Impact Assessment اساسا قانونيا و بيئيا لعملية قياس الاثر البيئي للمشاريع المزمع اقامتها في هذه المناطق. فعندما تعمد المؤسسة البيئية الى منح شهادة تقييم الاثر البيئي لمشروع معين فلا يجب - استنادا لمفهوم العدالة البيئية- قياس الاثر البيئي لهذا المشروع منفردا، بمعنى النظر الى حجم ما يلقيه المشروع لوحده من عوادم وانبعاثات للبيئة، و التي بكل تاكيد سيسعى اصحاب المشروع الى التاكد من تحققها. و لكن يجب النظر الى الاثر المضاعف للتلوث الحاصل من خلال زيادة حجم عوادم و غازات التي تلقى الى بيئة هذه الشرائح. فاذا كانت هذه البيئة هي في الاصل تشكو من ارتفاع نسبة التلوث فيها، مما يضاعف اثر الملوثات و يجعلها اخطر على صحة سكاني هذه المناطق من ابناء الشرائح المستهدفة. مما ينجم عنه انحدار كبير نوعية الهواء مثلا او نوعية المصدر المائي الذي تعتمد المنطقة كليا عليه.
ورغم إن فلسفة العدالة البيئية تبدو منطقية بل بديهية؛ فهي تقوم على حق افراد المجتمع على اختلاف اعراقه أو اجناسه أو دخله بالتمتع بـ بيئة نظفية و صحية. و الحقيقة، ان هذا المفهوم ساهم و الى حد كبير في اعتبار الحق في بيئة نظفية الجيل الثالث لحقوق الانسان بعد الحقوق المدنية والسياسة باعتبارها الجيل الاول لتكون الحقوق الاجتماعية ، الاقتصادية و الثقافية الجيل الثاني.[2]
نشأة مفهوم العدالة البيئية
بدأت نشاة مفهوم العدالة البيئية - بشكلها الحديث- في الولايات المتحدة الامريكية في مطلع الثمانيات [3]. حيث بدأت الجمعيات البيئة تلاحظ ان المصافي و المعامل و غيرها من المنشات التي ينجم عنها القاء عوادم خطرة على صحة الانسان يتم بناءها في المناطق الفقيرة و التي يسكنها اغلبية ساحقة من الافارقة الامريكين. بحيث تنفث هذه المعامل والمحارقها سمومها و تطرح فضلات التصنيع في هذه المناطق بشكل ازدادت معه الاصابات بالتدرن الرئوي والربو و غيرها من الامراض بين افراد هذه الشريحة. لتتكرر هذه المحاولات في المناطق التي تقطنها شريحة المهاجرين ذوي الاصول الاسبانية .
تجدر الاشارة الى بناء و تشيد هذه المعامل كان يتم بشكل اصولي؛ بمعنى، ان المعمل المزمع تشيده ينجح في اجتياز اختبار تقييم الاثر البيئي. ذلك ان قياس الاثر البيئي، كان يتم من خلال اعتماد مبدأ الاثر الفردي للمشروع، بحيث تنظر هئية حماية البيئة الامريكية، الى مقدار العوادم التي يلقها هذا المشروع منفردا الى بيئة هذه المناطق دون ملاحظة الاثر المضاعف للتلوث. مما دفع الجمعيات البيئية الى تحدي اجازة هذه المشاريع امام القضاء، الا ان القليل من هذه القضايا حالفه النجاح. ويرجع السبب في ذلك الى نقص التشريع البيئي الامريكي عن معالجة هذه الحالة. فطبقا للقانون البيئي و التعليمات البيئية المعتمدة تم اجازة هذه المشاريع و حصولها على شهادة تقييم الاثر البيئي التي تتضمن ان انشاءها لا يؤثر سلبا على البيئة لان ما تلقيه من عوادم هو ضمن النطاق السموح به. مما دفع ادارة الرئيس كلتنون عام 1994 الى اصدار مرسوم برقم 12898 يخول هئية حماية البيئة الامريكية اتخاذ الاجراءات القانونية لضمان معاملة عادلة و منصفة لجميع افراد المجتمع بدون تمييز بسبب عرق او لون او جنس للتمتع بـ بيئة صحية و نظفية. و الزامها التاكد من عدم اتخاذ اي اجراء من شانه تاصيل عمل ذو طبيعة تمييزية يحمل افراد المجتمع عبء العيش في مناطق ملوثة بسبب لون او عرق او جنس او ثقافة دون تحول المناطق الى بؤر للتلوث.
ألا ان المشاركين في ورشة عمل العدالة البيئية في ديسمبرعام 2003 في وسط وشرق اوربا في بودابست اضافوا محورين اخرين لمفهوم العدالة البيئية
- التوزيع العادل للموارد الطبيعية بين ابناء المجتمع. بحيث تم التوسع بنطاق الموارد الطبيعية ليشمل عناصر البيئة من ماء وهواء وتربة. وبالتالي؛ يصبح لكل مواطن وبدون تمييز الحق في الحصول على مورد مائي نقي فضلا عن العيش في منطقة هوائها نقي وتربتها صالحة.[4]
- اشراك المواطنين كافة و بدون تمييز في اتخاذ القرار البيئي و اتاحة المعلومات اللازمة امامهم لاتخاذ القرار السليم. ذلك ان كثير من الفقهاء يعزو مشاكل انعدام العدالة البيئية الى عدم مشاركة هذه الطبقات في القرار السياسي مما يسهل استهدافهم.[5]
الجذور التاريخية التي ادت الى انعدام العدالة البيئية في امريكا : نظرة مقارنة مع الحضارة العربية الاسلامية.(5/101)
تعود جذور تحديات العدالة البيئية في الولايات المتحدة الى نشأة الولايات المتحدة الامريكية ذاتها. حيث جرى استيراد الافارقة الامركيين كـ" عبيد" من القارة الافريقية. ليكون شكل المجتمع طبقيا. و يتم تجذير فكرة التمييز بين طبقات المجتمع فلم يكن يسمح قانونا للعبيد العيش في ذات المناطق التي يعيش فيها مخدومهم.[6] و بالنظر لقلة دخلهم فلم يستطيع العبيد الحصول على الخدمات الصحية و التعليمية مما جعل المناطق التي يعيشون فيها تفتقد للخدمات الاساسية و شروط ادارة الموارد البيئية فيها بشكل سليم. حيث تم تطبيق قوانين الفصل العنصري المعروفة باسم قوانين Jim Crow في الولايات المتحدة الامريكية وتحديدا الولايات الجنوبية من عام 1876 و حتى عام1964[7]. و كانت هذه القوانين تمنع الافارقة الامريكين من الوصول الى الموارد الطبيعية و تفرض عليهم العيش في مناطق محددة بعيدا عن مناطق التي يقطنها السكان البيض و كانت مناطقهم تخلو بحكم هذه القوانين من شروط الادارة البيئية السليمة مما ادى الى تحولها الى بؤر تلوث لاحقا ليدفع في النهاية المجتمع ككل في الثمن. لقد ساهمت هذه القوانين في اضعاف البنية الصحية للافارقة الامريكين، لانها كانت تحول بينهم و بين الوصول الى الخدمات الصحية و البيئية السليمة، مما خلق شعورا بينهم بعدم اهمية البيئة، فهم لم يعرفوها يوما فكيف يمكن لهم تقدير أهميتها، فضلا عن ندرة فرص التعليم المتاحة لهم . لقد كانت هذه القوانين تفرض على الافارقة الامريكين الشرب من اماكن مخصصة لهم تفتقر الى ابسط المقومات و الشروط الصحية، ليشرب البيض من اماكن تتميز بتوافر الشروط الصحية و حتى الماء البارد صيفا. بل وصل الامر الى تخصيص مرافق صحية للبيض و اخرى للافارقة، و غني عن البيان ان الاخيرة كانت تفتقر لكل المقومات الصحية . لقد كانت هذه القوانين تتعامل مع الافارقة على انهم عبيد او مواطنون من درجة ثانية، و بالتالي فهم لا يستحقون التمتتع ببيئة صحية وسليمة؛ فلانهم مواطنون من الدرجة الثانية فلا يحق لهم شرب مياه صحية و لايحق لهم استعمال مرافق صحية نظيفة.
لاحظ الفرق بين مستوى الخدمات و بالتالي فقد كانت الموارد المالية والطبيعية من حق البيض فقط
لتستمر معاناتهم حتى بعد الحرب العالمية الثانية؛ حيث كان الجنود الافارقة يأكلون في مطبخ القاعدة العسكرية ليجلس الاسرى الالمان في القاعة المخصصة للطعام. بل كانت الحافلات الخاصة بنقل الركاب لا تسمح بجلوس الافارقة و كانوا ملزميين بترك اماكنهم للركاب البيض. استمر ذلك حتى عام1955 عندما رفضت سيدة افريقية تدعى Rosa Parks مغادرة مكانها في الحافلة لصالح مواطن من عرق ابيض. لتشتعل ثورة المطالبة بالحقوق المدنية والسياسية للافارقة وككان على اثرها قيام مجموعة من المحاميين بالعمل على الغاء قوانين Jim Crow و لم يتحقق ذلك حتى عام 1964 الآ أن حرمانا دام 88 عاما - اي زهاء قرنٍ من الزمن- لابد ان ترك اثار سلبية على صحة الافارقة الامريكين كما رسخ شعورا عاما انهم مواطون من الدرجة الثانية . لتبدء بعدها معاناة من نوع اخر حيث تم بناء كافة المشاريع الصناعية الملوثة للبيئة في مناطقهم حيث استمر الافارقة بالعيش في مناطق خاصة بيهم؛ ذلك انهم لايمتلكون المكنة الاقتصادية اللازمة للعيش في مناطق سكنية تتميز بتوافرالخدمات الصحية و البيئية ذلك ان قوانين Jim Crow كانت تفرض قيودا على تشغيل الافارقة مما جعل دخلهم محدودا للغاية.
ليسود شعور عام لدى المسثمرين ان الافارقة "معتادون" على العيش في هذه المناطق. بعبارة اخرى ؛ معتادون على التلوث. و هكذا، اصبحت مناطقهم بؤرا للتلوث البيئي الناجمة عن بناء مشاريع صناعية اكثرمما تستطيع عناصر البيئة- من ماء وهواء وتربة - في تلك المناطق اسيتعاب ما يلقى اليها من ملوثات دون الاضرار بها. مما انعكس سلبا على صحة السكان لتظهر بينهم اصابات بامراض مزمنة كالربو والتدرن الريؤي و الامراض التي تنتقل عن طريق المياه ايضا.
حجم تلوث الهواء في مناطق الافارقة و الاقليات
مصنع اطارت يلقي بفضلاته الى المياه مباشرة في ذات المناطق
ان هذا التلوث لم يترك اثره فقط على تلك المناطق؛ بل ساهم في خلق بؤر للتلوث في الولايات الامريكية و بالتالي الاضرار بفرص التنمية المستدامة بمعنى اذا لوثت الاجيال الحالية كل او معظم المياه فلن تتبقى مياه صالحة للاجيال القادمة.
و كان ان تصدت المنظمات البيئية و النشاطيين البيئين لهذه الظاهرة مطالبين بتطبيق العدالة البيئية . ليضاف الى العدالة البيئية محورا اخر الا وهو التمييز العنصري البيئي [8]Environmental Racism سواء ان تم عن وعي كامل بالسلوك العنصري؛ حيث يسعى المستثمرون متعمدين الى بناء انشطتهم الملوثة في مناطق الافارقة والاقليات، لان السكان بنظر المستثمرين هم مواطنون من الدرجة الثانية. أو ان المستمرين يعتقدون ان سكان هذه المناطق معتادون على التلوث، فيعمدون الى بناء مشاريعم الملوثة فيها عن غير عمد فهم مواطنون من الدرجة الاولى لكنهم معتادون على التلوث.
بمعنى انه في الحالة الاولى فان المستثمرين يؤمن بقوانين Jim Crow ويسعون لتطبيقها رغم الغاءها اما في الحالة الثانية فان المستثمرين يطبيقونها بدون قصد وا نما اهمالا . الآ انه في كلا الحالتيتن فان هذه القوانين طبقت.
تظهر النقط الصفراء بؤر التلوث في الولايات المتحدة و التي تنتشر في مناطق الافارقة و الاقليات العرقية الاخرى.
ان انعدام الوعي وضعف تمثيل الطبقات المسحوقة، ساهم بشكل كبير في حرمانها من الوصول الى الموارد الطبيعية، و توفير ادارة بيئية سليمة في مناطق سكنهم، حيث كان الظن السائد لدى مجلس المحلي لادارة هذه المناطق، ان المشاريع الصناعية ستجلب الرخاء الاقتصادي الى هذه المناطق. الآ ان الواقع ان حجم التلوث الذي تلقيه الى البيئة، ساهم في خفض قيمية العقارات و هروب الاستثمار فضلا عن تفشي الامراض بين السكان.
بمعنى ان جذور المشكلة، ترجع الى تأصل فكرة التمييز بين افراد المجتمع، و ضرورة ان يعيش افراد معينين من ابناء المجتمع في امكان خاصة بهم. فكل طبقة او شريحة عريقة تستقر وتستوطن في مدنية معينة لتنعكس الاحوال المعيشية و الثقافية و الاقتصادية على ادارة موارد المدنية بيئيا. ليصدر بعد ذلك مرسوم العدالة البيئة المذكور اعلاه ليبدء المجتمع بمعالجة هذه الازمة.(5/102)
و لعل هذا الاستنتاج، يمثل اساس المقارنة بين الحضارة العربية الاسلامية وتوجه هذه الحضارة في احتواء مفهوم العدالة البيئية. ذلك ان المجتمع العربي قبل الحضارة العربية الاسلامية و تحديدا قبل ظهور الاسلام باعتباره مؤسس تلك الحضارة كان مجتمعا طبقيا؛ يقوم على التمييز بين السادة و العبيد، و كان العبيد يعاملون معاملة سيئة و يعيشون ظروفا مزرية. فالعبيد الذين يرعون الغنم يعيشون في اماكن خاصة بيهم مما يعني احتمال تحولها الى بؤر تلوث، اما عبيد الخدمة المنزلية فهم يعيشون مع السادة الا انهم لا يصلون الى الموارد الطبيعية و لا يتمتعون بها. فلا ياكلون مما ياكل السادة و لا يشربون مما يشرب السادة و هم يعملون حتى ياذن لهم السادة بالراحة. فاذا اخذنا بنظر الاعتبار قسوة البيئة الصحراوية فان المجتمع العربي قبل الاسلام كان سيواجه كوارث بيئية ناجمة عن ظهور بؤر التلوث داخله. لقد حاول المجتمع العربي عند ظهور الاسلام قطع الموارد عن المسلمين بهدف القضاء عليهم مما يعدّ تطبيقا قاسيا لحالة من حالات انعدام العدالة البيئية ذلك عندما حوصر الرسول محمد (صلعم) في شعاب مكة حيث حرم المسلمون من الوصول الى الموارد الطبيعية من ماء وغذاء وكان استهدافهم بناءً على ايمانهم بعقيدة معينة. و بالتالي ممارسة اعمال التمييز ضد كل من اتمنى لهذه العقيدة، مما يدل على استعداد المجتمع لممارسة التمييز و الاضطهاد البيئي الذي وصل الى حد حرمانهم من الوصول الى الموارد الطبيعية.
أما توجه الحضارة العربية الاسلامية فكان على النقيض تماما بحيث ارتكزت هذه الحضارة على المساواة في الحقوق والواجبات بين السادة و العبيد مما اتاح الفرصة امام العبيد الى الوصول الى الموارد الطبيعية و بالتالي الحيلولة دون نشوء بور التلوث في بيئة صحراوية قاسية . و هكذا كان الاسلام و تبعا له الحضارة العربية الاسلام مستوعبا لبيئته او ان جاز التعبير ابن بيئته .[9] و لهذا كان الرسول الكريم( صلعم) يقول عن العبيد" انزلوهم حيث نزلتم و اطعموهم مما اكلتم " لقد كان ذلك جحر الزاوية لانقاذ المجتمع العربي من نشوء بؤر للتلوث داخله حيث ان الوصول الى الموارد الطبيعية وبشكل متساوي ومتاح امام الجميع و بدون تمييز هو الاساس في عدم نشوء بؤر التلوث. وهكذا تطورت فكرة العدالة البيئية مع الحضارة الاسلامية ليشهد المجتمع العربي الاسلامي انشار مفهوم الصحة و البيئة العامة واتاحتها امام الجميع، بما في ذلك انشار المرافق الصحية العامة المتاحة للجميع و انتشار طرق وقنوات تصريف المياه في المدن العربية و بعكسه فقد كان مصير المجتمع العربي الى الزوال لانهم كان قائما على حرمان فئة من المجتمع من الوصول الى الموارد الطبيعية . و انعكس ذلك في الفتوحات الاسلامية فلم يعامل المسلمون سكان البلاد الاصلية على انهم عبيد او سبايا بل سعوا الى تعليمهم و تثقيفهم و قبل كل شيئ تسهيل وصولهم الى الموارد الطبيعية و جعل هذه البلاد حواضر اسلامية لا تقل شانا عن مركز الخلافة. في حين ان دول نظام الانتداب او الاستعمار في اعقاب كلا الحربين العالميتين الاولى والثانية، لم تعمل على ذلك لانها اصلا تؤمن بفكرة طبقية المجتمع سواء اكان طبقة نبلاء او برجوازية. فقد تركت الحضارة العربية الاسلامية خلفها الاف المفكرين و المبدعين ممن هم قادرون على ادارة الموارد البيئة ادارة بيئية سليمة. في حين ان فرنسا مثلا عندما غادرت الكونغو لم تترك فيه غير خمسة فقط ممن يحملون شهادة عليا!
كانت الدولة الإسلامية تعني بالمرافق الخدماتية والعامة بشكل ملحوظ. فكانت تقيم المساجد ويلحق بها المكتبات العامة المزودة بأحدث الإصدارات في عصرها بمعنى ان المسجد لم يكن مكانا للعبادة فقط بل كان اصبح مكانا للعلم و الثقافة المجانية و زيادة الوعي لدى المواطنين. بحيث يسهل على الفقراء وذوي الدخل المحدود الوصول الى العلم و الوعي اللازم لمعالجة مشاكلهم، والارتقاء بحالهم الى حال افضل. فالكثير من علماء المسلمين في مجال الطب ،الفلك ،الرضيات، الكيمياء ، الفيزياء و غيرها كانوا فقراء او من اعراق اخرى غير عربية و لم يحل ذلك دون وصولهم الى الموارد الطبيعية، و من ثم مراكز صنع القرار. في حين ان غياب الوعي لدى الكثير من الافارقة الامريكين حال دون وصولهم الى الموارد الطبيعية، و دون تقديرهم لحجم المخاطر البيئية. كما حال دون حصولهم على فرص عمل افضل، تمكنهم من تحسين دخلهم، و بالتالي امكانية انتقالهم للعيش مناطق تتمتع بادراة بيئية سليمة.
كما اهتمت الحضارة الاسلامية بتوفير المرافق الصحية العامة، و التي كانت متاحة امام الجميع و بدون تمييز. فضلا عن مطاعم الفقراء، حيث كانت تتميز بكل الشروط الصحية و البيئية من حيث الموقع و الخدمات، بمعنى؛ ان ذوي الدخل المحدود كانوا يعاملون معاملة افضل، تتمثل بتسهيل حصولهم على احتياجاتهم الاساسية من ماء و طعام وخدمات صحية، و لم يكن المجتمع يمارس اعمال التمييز ضدهم لان دخلهم محدود، بل كان يساعدهم وصولا لتحسين و ضعهم، و الاستفادة منهم كموارد بشرية قادرة على اغناء الحضارة العربية الاسلامية. كما اقيمت الأسبلة لتقدم المياه للشرب بالشوارع، اي ان المياه الصحية الصالحة للشرب كانت متاحة امام الجميع ودون تمييز . وكان إنشاء (المستشفيات الإسلامية ) سمة متبعة في كل مكان بالدولة الإسلامية يقدم بها الخدمة المجانية من العلاج والدواء والغذاء ومساعدة أسر المرضي الموعزين .و كان الهدف من إنشاء هذه المستشفيات غرضا طبيا وعلاجيا بمعنى ان المجتمع لم يكن يمييز ضد ابناءه لانهم من ذوي الدخول المحدودة، أو لانهم ضعاف البنية، من خلال معاملتهم معاملة ادنى، بل كان يدعمهم و يسهل امامهم فرص الوصول الموارد الطبيعية و العيش في بيئة سلمية تسهل امامهم سبل الارتقاء [10]. ان عدم تمييز الحضارة الاسلامية بين الاعراق و الجنسيات التي انظوت تحتها ادى الى عدم خلق بؤر للتلوث تنخرها من الداخل، و تضعف بنية ابناءها و تؤدي بالتالي الى نضوب مواردها[11]. كما اهل هذه الحضارة الى الاستفادة من كل الموارد البشرية المتاحة لها من مفكرين وعلماء و ادباء لاغناء هذه الحضارة.[12]
. وكان الهواء يبرد في المستشفيات بتوفير المياه او بالملاقف الهوائية، بمعنى؛ ان الحضارة الاسلامية كانت تعي اهمية نوعية الهواء، وبالذات للمرضى، لانهم في حالة صحية اضعف من غيرهم، و بالتالي لابد من حصولهم على عناية اكبر. ذلك ان المجتمع العربي الاسلامي، كان يساند الفئات الضعيفة داخله، بتسهيل وصولهم الى الموارد الطبيعية، و تهئية بيئة سلمية امامهم للاستفادة من مواردهم البشرية .
مقتضيات تطبيق العدالة البيئية
تفرض العدالة البيئية جملة من التطبيقات العملية التي تجعل من هذا المفهوم قاعدة قانونية تطبقها المؤسسة البيئية في عملها(5/103)
- معادلة التمييز : فكما ان هذه الشريحة من المجتمع تحملت عبء التلوث لوحدها و حرمت من الموارد الطبيعية، فان العدالة البيئية؛ تقتضي توفير اقصى درجات العناية ممثلة باتخاذ كل ما من شانه وقف التدهور الحاصل في بيئة هذه المناطق. سواء ان تمثلت هذه الاجراءات بمنع و ايقاف التلوث الحاصل في بيئة هذه المناطق؛ وهذا ما يعرف بالنطاق السلبي لمفهوم العدالة البيئية، حيث يسند هذا النطاق في جوهره الى المنع. اما النطاق الايجابي؛ لمفهوم العدالة البيئية فهو اتخاذ كل اجراء يقوم على تحسين حالة البيئة في هذه المناطق سواء اكان اجراء معنويا، كالقيام بحملات توعية وارشاد بيئي تساعد السكان على التعامل مع البيئة المتضررة التي يعشون فيهاز او اجراء ماديا؛ كان تقوم المؤسسة البيئية بترحيل المشاريع الملوثة أ و اغلاقها.
- ضمان التمثيل : فكما ان هذه الشريحة حرمت من المساهمة في صنع القرار البيئي، الذي ادى الى اضطهدهاز فيجب على المؤسسة البيئية،ضمان حسن تمثيل هذه الشريحة عند اتخاذ القرار البيئي الخاص بمناطق عيشها. حيث يجب ات تكون هذه الشريحة ممثلة عند اتخاذ القرار، كما يجب ان تكون ممثلة عند تطبيقه، لتكون اعلى مراحل التمثيل، هي مساهمة هذه الشريحة في تنفيذ القرار البيئي مما ينجم عنه خلق قاعدة شعبية للمؤسسة البيئية تمكنها من تحقيق افضل حماية بيئية ممكنة . ذلك ان حماية البيئة، لا يمكن ان تحقق بدون مساهمة فاعلة من المجتمع، تتمثل في استعاب القرار البيئي و صولا لسلامة تطبيقه. حيث يتمييز القرار البيئي عن غيره من القرار بكونه يخاطب المجتمع – على اختلاف طبقاته- فلو افترضنا مثلا ان المؤسسة قررت عدم السماح باقامة مشروع معين لكونه مخالفا للشروط البيئية، فان المؤسسة البيئية تخاطب المجتمع بان هذه المشروع يؤثر سلبا على صحة المواطنين ككل في حين ان اي قرار اخر لا يتضمن مثل هذا المعنى او المضمون . [13]
و هكذا؛ فكلما تمكن افراد المجتمع من فهم القرار البيئي والتفاعل معه، كلما تمكنت المؤسسة البيئية من تحقيق ادارة افضل للموارد البيئية. ليتوصل المجتمع بعد ذلك الى تنمية موارده بشكل يمكن معه للاجيال القادمة الاستفادة من هذه الموارد و هذا ما يعرف بالتنمية المستدامة.
نتائج و توصيات لاعادة تبني مفهوم العدالة البيئية عربيا
اعتبار مفهوم العدالة البيئية اساسا للنهوض بالمناطق التي تقطنها الغالبية الفقيرة والمسحوقة : من الغني عن البيان ان المجتمع العربي يخلو من اي نظرة تمييزية تجاه ابناءه. الا ان التحدي الاكبر الذي تواجهه الكثير من المؤسسات البيئية العربية هو كيفية ايصال الخطاب البيئي و من ثم النهوض بالبيئية في المناطق التي تقطنها غالبية عظمى ممن يعيشون تحت خط الفقر. حيث يعاني هذه الشريحة من مشاكل مركبة تتمثل في قلة وعيها بالمخاطر البيئية، فضلا عن ضعف ان لم يكن انعدام مواردها المالية التي تمكنها من الارتقاء بوضعها.
في حين ان بقية شرائح المجتمع قادرة على مواجهة مشاكلها البيئية بشكل افضل، لكونها تمتلك المعرفة اللازمة، فضلا عن امتلاكها للمقدرة المالية اللازمة – و ان كان ذلك يتفاوت من شحص لاخر-
الا ان الشريحة التي تعيش تحت خط الفقر، تبدو بموقف ومركز الضعيف تجاه اية مشكلة بيئية خاصة مشاكل تغيير المناخ [14] . فهذه الشريحة لا يملك المعرفة و المكنة اللازمة لمواجهة المشاكل البيئية. ليقع على عاتق المؤسسة البيئية و باعتماد مفهوم العدالة البيئية تقدم اقصى درجات العناية و الدعم لهذه الشريحة؛ بدءا من برامج التوعية والتثقيف البيئي، بشكل يساعد هذه الشريحة على مواجهة مشاكلها البيئية وايجاد حلول لها. حيث تحول المعرفة والتثقيف البيئي دون " توريث " الجهل او عدم الوعي البيئي الى جيل اخر، فاذا كانت الاسرة لا تعِ اهمية و ضرورة الحفاظ على البيئة، فان هذا السلوك سنقل الى الجيل الثاني في هذه العائلة، لينشئ و على المدى الطويل جيلا غير واعي بضرورة وجود مياه صحية و ضرورة اتخاذ الاجراءات اللازمة للحفاظ على مصادر المياه .
لتبدء المؤسسة البيئية بعد ذلك ببرامج النهوض بهذه المدن و و الحيلولة دون تحولها الى بؤر للتلوث تستهلك موارد الدولة الطبيعية من خلال اعتماد المعايير البيئية التي تحدد من الاثر المضاعف للتلوث . فضلا عن جعل هذه المدن في مقدمة خطط التنمية و التحديث .
حيث لا يمكن المباشر بخطط التنمية بمعزل عن تعاون هذه الشريحة و اشراكها في عملية صنع القرار البيئي ووصلا للنهوض ببيئتها وألا فان بؤر التلوث ستغزو البيئة العربية.
[1] Kathryn M Mutz, Gary C Bryner, Douglas S Kenney , Justice and Natrual Resources ; Concepts , Strategies, and Applications, Island Press, 2001, P32
[2] لا يقصد من اعتبار الحق في بيئة نظفية الجيل الثالث لحقوق الانسان ان هذا الخق ادنى منزلة من الحقوق المدنية والسياسية بل يقصد منها ان الحق في بيئة نظفية هو الاكثر حداثة من بين حقوق الانسان ككل. انظر:
Christopher. H. Foreman, The Premise and Peril of Environmental Justice, Brookings Institute Press, Washington DC,1998, P.30.
[3] Rich Anand, International Environmental Justice; A North – South Dimension, Ashgate Publishing, Ltd, 2004, P.9
[4]http://en.wikipedia.org/wiki/Environmental_justice
[5]V H Dale, M R English, Tools to Aid Environmental Decision Making, Springer,1998, P.342
[6] Luke Cole, Sheila Foster, From the Ground Up: Environmental Racism and the Rise of the Environmental Justice Movement, NYC Press, 2000, P.11
[7]http://en.wikipedia.org/wiki/Jim_Crow_laws
انظر ايضا
Michael. J. Klarman, From Jim Crow to Civil Rights: The Supreme Court and the Struggle for Racial equality, Oxford University Press US, 2003, P.59
[8]Bunyan I Bryant, Environmental Justice, issues, policies, and solutions ,Island Press, Washington ,1995, P.5
[9] كان نشوء بؤر التلوث في روما -على عظمتها سببا من اسباب انهيارها حيث كان الاسياد يضطرون الى حمل الازهار و الرياحين و تقريبها من انوفهم هربا من الروائح العفنة التي كانت تنجم عن سؤء الاادارة البيئية لروما و من بينها اضطهاد العبيد و لعل ثورة العبيد من اشهر الحوادث التاريخية في تاريخ روما
[10] كان أول مستشفي في الإسلام بناه الوليد بن عبد الملك سنة706 م (88 هـ) في دمشق. وكان الخلفاء المسلمون يتابعون إنشاء المستشفيات الإسلامية الخيرية بإهتمام بالغ. ويختارون مواقعها المناسبة من حيث الموقع والبيئة الصالحة للإستشفاء والإتساع المكاني بعيدا عن المناطق السكنية . وأول مستشفى للجذام بناه المسلمون في التاريخ سنة 707 م بدمشق.(5/104)
[11] لم تستطع روما على عظمتها ان تصمم نظاما جيدا للتخلص من مياه المجاري مما ادى الى انتشار الملاريا بين السكان في العهد الجمهوري و اللامبرطوري و الحديث. حيث كانت قنوات المجاري تحمل الفضلات و مياه الامطار معا و تخترق المدنية بحيث تمر المجاري الملوثة من بين الاحياء السكنية ليكون السكان على تماس معها لتصب مباشرة في نهر Tiber الذي لم يكن يستعمل للسباحة و الاغتسال فقط بل لاغراض مياه الشرب ايضا. بل كانت مياه نهر Tiber تحتوي على نفايات صلبة و معادن ثقيلة حيث تظهر تقارير رسمية انظر http://penelope.uchicago.edu/Thayer/E/Gazetteer/Places/Europe/Italy/Lazio/Roma/Rome/_Texts/Lanciani/LANARD/3*.html
[12] كانت أوربا تنظر إلى الجذام مثلا ليس على انه مرض ناجم من عدم توافر الشروط الصحية البيئية بل على إنه غضب من الله يستحق الإنسان عليه العقاب حتى أصدر الملك فيليب أمره سنة 1313 م بحرق جميع المجذومين في النار بمعنى ان الفئة الضعيفة كانت "تعاقب" بممارسة اعمال التمميز ضدها بدلا من ان تقدم لها الخدمات اللازمة و الرعاية المطلوبة لتجاوز سبب ضعفها و بالتالي الاستفادة من قدراتها و الحليولة دون هدر الموارد البشرية و ضياعها. انظر http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AD%D8%B6%D8%A7%D8%B1%D8%A9_%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9
[13] رغم ان القاعدة القانونية عامة مطلقة و بالتالي القرار المستند لها عاما مطلقا الا ان القاعدة التي تفرض التجنيد الالزامي مثلا فهي على عموميتها الا انها تنطبق على كل من اكمل الثامنة عشر من الذكور ليستثنى من دائرة الخطاب الطفل ، الحدث ، المرأة ، المسن والمعاق في حين ان لا يمكن استثناء احد من القرار البيئي لان ذلك يعني ترك المستثنى دون حماية من اخطار التلوث او الحيلولة دون وصوله الى الموارد الطبيعية.
[14] انظرالتقرير الرسمي للحكومة البريطانية منشور في http://news.bbc.co.uk/1/hi/sci/tech/4839834.stm
انظر ايضا http://www.peopleandplanet.net/doc.php?id=2553
كما يمكن الاطلاع على برامج المنظمات غير الحكومية الناشطة في هذا المجال منها
============
الحضارة الإسلامية
كانت أول خطوة خطاها الإنسان في اتجاه الحضارة هي اكتشاف الزراعة ، وتدجين الحيوانات وكان ذلك من أسباب الاستقرار مما أدى إلى التطور .
بدأت الحضارة الإسلامية مع بزوغ فجر الإسلام في القرن السابع الميلادي ، وبدأت في الانتشار فامتدت من حدود الصين شرقاً إلى بحر الظلمات (المحيط الأطلسي ) وغرباً حتى أسبانيا وصقلية .
قامت الحضارة الإسلامية على ( الشريعة ) ، وتعني الشريعة لغة الطريق المستقيم ، ويقصد بها ما شرعه الله سبحانه وتعالى لعباده من الأحكام التي جاء بها أنبياء الله عليهم السلام ، وتتناول جوانب العقيدة والعمل - يقول تعالى : { ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها.. }.
أما الفقه الإسلامي فيقصد به مجموعة الأحكام العملية التي شرعها الإسلام مستمدة من المصادر النقلية والعقلية المعتمدة وفق قواعد الاستنباط ومبينه له . ويعني في اللغة الفهم ، والفقيه هو الذي يعلم الأحكام الشرعية القادر على استنباطها من الأدلة التفصيلية .
الشريعة الإسلامية كغيرها من الرسالات السماوية إلهية المنشأ والمصدر وهي خاتمة الرسالات ، ومصدرها القرآن الكريم الذي هو كلام الله و وحيه المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم وقد حفظه الصحابة ، وهو محفوظ بحفظ الله ، والقرآن قطعي الثبوت .
تأتي بعد ذلك السنة النبوية المطهرة ، وهي المصدر البياني للقرآن ، تبين ما أجمله القرآن من أحكام فتقيد المطلق وتخصص العام ، ويؤكد صاحبها عليه أفضل الصلاة والسلام بقوله وفعله جميع الأحكام التي شرعها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم ، يقول عز وجل: { والنجم إذا هوى ، ما ضل صاحبكم وما غوى ، وما ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى ، علمه شديد القوى ، ذو مرة فاستوى ، وهو بالأفق الأعلى ، ثم دنا فتدلى ، فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى }.
مقومات الحضارة الإسلامية
قامت الحضارة الإسلامية على هدي القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ، ويترتب على هذا أنها تتميز بالثبات ولا تتأثر بالعوامل أو الظروف والمؤثرات الاجتماعية والثقافية .
تخاطب الشريعة الإسلامية المكلفين في كل مكان وزمان وتنظم كافة جوانب الحياة البشرية ، ومن هنا كانت حضارة لها ملامحها المميزة ولها خصوصيتها وطابعها .
لم تكن حياة البشرية قبل الإسلام تختلف كثيراً رغم الفرق الهائل في مستوى الرقي الذي بلغته الإنسانية اليوم ، فقد كانت حياة العرب في الفترة التي سبقت ظهور الإسلام والتي عرفت بالجاهلية تتسم بالغلو في الحريات وغلبت عليها الماديات فكان الإنسان سلعة رخيصة يسفك دمه ويهدر عرضه من أجل نزوة عابرة وها نحن اليوم نعيش ذات العصر ولكن بأسلوب علمي متقدم .
جاء الإسلام وهو الخبير بعلل النفس البشرية المدرك لنزعاتها ، البصير بكيفية إعادتها إلى الاتزان والعقلانية فقادها إلى شاطئ الأمان بإحياء الجانب الروحي الذي كان كامناً في أعماقها محاصراً بنوازع الشر ودوافع الغرائز الجامحة .
كما أن الإسلام وازن بين المادة والروح ، فهذب الطباع القاسية ، وطهر القلوب الدنسة ، وارتفع بفكر الإنسان وعقله ، داعياً إلى القيم الفاضلة والمبادئ الراقية العظيمة ، لا إفراط في الحريات وإشباع الرغبات ، ولا رهبانية وانقطاع للعبادة وإهمال للدنيا . يقول تعالى { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس } { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسورا } .
كان الإسلام دعوة إلى وحدة العقيدة ووحدة الأمة { إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون } وكان دعوة إلى السلام النفسي والاجتماعي فكان المجتمع المسلم المترابط المتعاون على البر والتقوى ..... { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } . { وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون } ، المتحاب المتآلف { مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم ، مثل الجسم إذا أشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى }.
الدين الإسلامي ليس مجرد عقيدة وإن كانت هي الأساس الراسخ القوي الذي قام عليه بناء الأمة المسلمة لكنه جوهر الوجود الإنساني الذي يدعو إلى الاعتقاد بوجود الإله الواحد الأحد الذي أبدع كل شيء وخلقه { قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار } ، { ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه }. { لو كان فيهما ءالهة إلا الله لفسدتا } .
جاء الدين الإسلامي دستوراً لحياة المسلم فهو يدعو إلى الحياة الاجتماعية الفاضلة القائمة على الأخوة المطلقة فلا فضل لمسلم على آخر إلا بالتقوى ... { إن ربكم واحد ،وإن أباكم واحد ، كلكم لآدم ، وآدم من تراب ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى }.
حث الإسلام على احترام حياة الإنسان حياً وميتاً وحرم دمه وماله وعرضه ... { إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم ، كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ألا هل بلغت }.(5/105)
أبان الدين الإسلامي الحلال من الحرام { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } . ونظم شئون حياة الفرد وعلاقته بالجماعة وحث على التعليم .
وكان الإسلام بداية تحول حضاري ، وأصبح العرب بفضله أسبق حضارة ، فقد عرفوا النظام الاجتماعي الراقي ، ونظام الحكم الديمقراطي العادل ، فأمنوا واستقروا في وقت كان فيه العالم يعيش في عصور الظلم والإقطاع بكل قسوتها وغلظتها وبشاعتها واستغلالها.
إذا كانت الحضارات هي خلاصة جهود بشرية وتجارب إنسانية واجتهادات فردية فقد نتج عنها تراث روحي وعقلي وخلقي ، وكان هدفها سعادة الإنسان ورفاهيته ، وقد ارتبطت معظم الحضارات بالعنصر الروحي ، ومن أبرز خصائص الحضارة الإسلامية أنها لا ترتبط بالعنصر الروحي فحسب ، بل هي نتيجة له .
أمد الإسلام العالم بالحضارة ومهد له الطريق إلى الوصول إلى ما هو عليه اليوم فما هي مقومات هذه الحضارة الإنسانية الرائدة ؟
1- نظام الحكم :
يقوم نظام الحكم في الحضارة الغربية على الديمقراطية ورغم التطور الهائل الذي طرأ على هذه الممارسة ، فلا زالت تعيش أزمة ،لأن تطبيقها ومفهومها يختلف باختلاف المبدأ الذي يعتنقه صانعوا السياسة - وقد غدا الخروج عن الديمقراطية كأسلوب في الحكم مثار استنكار لأن الديمقراطية أصبحت سمة من سمات الحضارة والرقي .
وإذا كانت الديمقراطية كنظام حكم يخضع للمعتقد السياسي - فإن الإسلام قد ابتدع نظاماً للحكم يرتبط بالعقيدة الإسلامية وهذا ما يميزه بالثبات والاستقرار ويكتب له البقاء ، هذا النظام هو نظام الشورى ، وهو الذي يعطي الفرد حق المشاركة في صناعة القرارات المهمة وهي ليست حقاً فحسب بل فريضة ....
{ فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين } .
ويقول تعالى :{ وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون } ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "إن أمتي لا تجتمع على ضلال" ، بل جعل الإسلام الشورى فلسفة وسياسة المجتمع المسلم ... { إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه } ، { ومن استشاره أخوه المسلم فأشار عليه بغير رشد فقد خانه }.
2- العدل :
العدل أسم من أسماء الله عز وجل، والعدل هو مقصد الشريعة الإسلامية الأول - والعدل هو الحق وتجاوزه هو الظلم - والعدل فريضة { وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} { وقل ءامنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم } والعدل فريضة على الكافة حكاماً ومحكومين ، فبه تستقيم الأمور ، وأمر به الإنسان في أهل بيته ، يقول تعالى { يا أيها الذين ءامنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلو هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون } .
وإذا كان الله سبحانه وتعالى هو العدل المطلق فقد حرم على نفسه الظلم ونهى عنه - يقول تعالى في الحديث القدسي { إني حرمت الظلم على نفسي وعلى عبادي ألا فلا تظالموا } ولقد جاء القرآن الكريم حافلاً بالآيات الناهية عن الظلم .
العدل الإسلامي يشمل الحياة السياسية والاجتماعية والعدل هو العاصم من كل شر وهو ضرورة إنسانية ، وفريضة قرآنية وسنة نبوية ومعيار حضارة اجتماعية ، فأي حضارة قدسته وأي حضارة أعلته ووضعته في هذه المكانة إنها الحضارة الإسلامية .
يقول تعالى : { إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون }.
3- العلم :
العلم ضروري لأي حضارة أو نهضة - وقد أدت الحضارة الإسلامية بفتوحاتها العلمية إلى الازدهار الذي بلغته الإنسانية ، فقد كان للإنجازات العلمية في مختلف فروع العلم والمعرفة أثرها في إضفاء الصبغة العقلانية التي تميزت بها الحضارة الإسلامية .
وأول آية نزلت على نبي هذه الأمة عليه أفضل الصلاة والسلام { اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم ، الذي علم بالقلم ، علم الإنسان مالم يعلم }.
كانت هذه الآيات مثابة إعلان عن تاريخ ميلاد مرحلة من مراحل تطور الإنسان وبداية فتح في مجال العلم وتدل دلالة لا تقبل الشك على وجوب العلم وضرورته للإنسان لما فيه من صلاح حال الدنيا والدين ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم { مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء ، يهتدى بها في ظلمات البر والبحر ، فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضل الهداة } ، ويقول عبدالله بن عمر رضي الله عنه: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجلسين في مسجده ، فقال { كلاهما خير ، وأحدهما أفضل من صاحبه ، أما هؤلاء ( أهل مجلس العبادة و الذكر ) فيدعون الله ويرغبون إليه فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم ، وأما هؤلاء ( أهل مجلس العلم ) فيتعلمون الفقه والعلم ، ويعلمون الجاهل فهم أفضل وإنما بعثت معلماً" ثم جلس بينهم.
جاءت آيات كثيرة في القرآن الكريم تدل على فضل العلم والعلماء ...
{ كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون } ، { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب } والعلم هو سبب الإيمان وسبيل التصديق بالدين ، { إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور } ، قال صلى الله عليه وسلم { من سلك طريقاً يلتمس به علماً سهل الله له طريقاً من طرق الجنة فإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم ، وإن طالب العلم ليستغفر له من في السماء والأرض حتى الحيتان في الماء ، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ، وإن العلماء هم ورثة الأنبياء ، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ، وإنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر }.
العلم في نظر الإسلام ليس فقط علوم الشرع والدين بل يشمل العلوم الدنيوية التي ترقى بالإنسان ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ما كان من أمر دينكم فالي ، وما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به }.
برع المسلمون في شتى أنواع العلوم وتجلت عبقريتهم في علوم الطب والفلك والرياضيات ، والكيمياء والبصريات ، ومن علماء المسلمين الشيخ الرئيس أبو علي ابن سيناء ، وجابر بن حيان ، وأبو بكر محمد الرازي ، وأبو الوليد محمد بن رشد ، وأبو بكر محمد بن الصائغ ( إبن باجة ) ، وعبدالله بن أحمد بن البيطار ، وأبو مروان عبدالله بن زهر وغيرهم .
كان المسلمون رواداً في علم الفلك وكانوا أول من انشأ المراصد الفلكية لمعرفة حركة النجوم ، وقد بنوا في العصور الوسطى عدداً هائلاً من المراصد الفلكية كبيت الحكمة الذي بناه الخليفة المأمون في 218هـ الموافق 833 م ، كما وضعوا معظم المصطلحات الحديثة المستخدمة اليوم في علم الفلك ، ويحتوي متحف تاريخ العلوم في إكسفورد على المعدات الفلكية التي صنعها المسلمون وهي تكشف مدى ما وصلت إليه الخبرة الإسلامية الرفيعة في هذا المجال كما كانوا أول من وضع جداولاً دقيقة عن حركة النجوم - ومن العلماء المشهورين في هذا المجال أبو عبدالله البتاني ولا زالت تحمل أسمه حتى اليوم ( Albategnius ).(5/106)
تطورت العلوم بفضل علماء المسلمين ، وقد ازدهرت العلوم اليوم وبلغ الإنسان مرحلة من العلم في مختلف المجالات حتى وصل الفضاء ، بفضل من الله ووحيه ، ورغم كل ذلك يظل حظه من العلم قليلاً يقول تعالى { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أتيتم العلم إلا قليلا }.............. وسيفتح الله على الإنسان آفاق العلم والمعرفة حتى يرث الله الأرض ومن عليها يقول تعالى : { سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ، ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط }.
ملامح للحضارة: الإسلامية
للحضارة الإسلامية ركائز ودعامات كثيرة ساهمت في بلوغها هذه المرتبة العظيمة ، من بين هذه العوامل حق الفرد في المجتمع المسلم في المساواة ، فلا طبقية في الإسلام كلهم لآدم وآدم من تراب ، ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى والناس سواسية كأسنان المشط - كما أعلى الإسلام من شأن الحرية .
بهذه المبادئ والمثل صنع الإسلام أمة جديدة من العرب وصب أوضاعها الاجتماعية المتردية في قالب سماوي فتحول التفكك ترابطاً ، والغلظة وسوء الخلق رقة وأدبا ، وحلت الفضيلة مكان الرذيلة ، فكانت أمة الخير .... { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } ، بهذه القيم ساد العرب، وبها حرروا العالم وأدخلوه في دين الله الحق وأخرجوه من ظلام الكفر وظلام الجهل .
اهتم الإسلام بالاقتصاد فحرره من الاستغلال وجعله وسيلة تآلف وتوادد وتراحم ، حرم المعاملات الربوية ، والاحتكار وفرض للفقراء نصيباً في أموال الأغنياء وحث على الصدقة والبر وفعل الخيرات . { خذ من أموالهم صدقة تتطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم } ، { وفي أموالهم حق للسائل والمحروم } .
قوم الإسلام الأخلاق وأعطاها حيزاً كبيراً وخصها بقدر كبير من التنظيم حين خلَّق رسول الهدى صلى الله عليه وسلم بالخلق العظيم ....{ ن ، والقلم وما يسطرون ، ما أنت بنعمة ربك بمجنون ، وإن لك لأجراً غير ممنون ، وإنك لعلى خلق عظيم} ، { ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك }. قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق }، ويقول صلى الله عليه وسلم { أحب عباد الله إلى الله أحسنهم خلقاً }.
ومما يدخل في صياغة المجتمع المسلم تربية النشء ، وتنظيم معاملات الأفراد من حق الجار ، وحق المريض ، وحق الطريق، وخروج المرأة وزيها ، وغيرها من قواعد السلوك القويم ، كل هذه القيم وغيرها كانت أساس الحضارة الإسلامية الرائدة .
الصناعات والفنون :
ازدهر الفن الإسلامي كأثر من آثار الحضارة الإسلامية وقد ظهرت عدة صناعات أخذت حظها من الشهرة لروعتها ، وكان الخزف الإسلامي من تلك الفنون التي كانت أساساً للصناعات الغربية في هذا المجال كما برزت صناعة الزجاج في العصر الفاطمي وتقدمت تقدماً كبيراً ، ولا زالت بعض الصناعات موجودة حتى الآن في أوروبا .
ظهرت أيضاً صناعة الحديد وقد أبدع المسلمون في زخرفته ، هذا بالإضافة إلى صناعة النسيج الذي غطت شهرته أوربا في العصور الوسطى حتى أصبحت للمنسوجات أسماء شرقية وأخذت بعضها إسم المدينة التي صنعت فيها ، كما ظهر إبداع المسلمين في صناعة السجاد وقد تعلمه الغرب من المسلمين .
امتدت رقعة الدولة الإسلامية إثر الفتوحات الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين ، فقد دخل المسلمون الشام والعراق وبلاد الأندلس وامتد نفوذ الدولة الإسلامية إلى السند وسمرقند وبخارى وشمال أفريقيا وكان لهذا الفتح أثره فقد تلاحقت الحضارة الإسلامية مع بعض الحضارات التي كانت قائمة ، وبرز أثر ذلك في مجال الفن المعماري .
أزدهر الفن الإسلامي وغدا له طابعاً مميزاً ولا يقتصر الفن على المعمار فقط بل يعتبر الخط العربي فناً رفيعاً ، وقد تنوعت أشكاله وطرق رسمه فمنه الكوفي ، والنسخ ، والرقعة والثلث ، والمغربي ... وتجلى هذا الفن الإسلامي الرفيع في كتابة المصاحف وزان المساجد .
نأى الفن الإسلامي عن التجسيم لحرمته ولهذا اتجه إلى الإبداع في الزخرفة مستفيداً من أشكال الحروف العربية ، وعمد الأشكال الهندسية فخرج للعالم بفن حمل مقومات البقاء واستحق الإعجاب واكتسب شهرة عالمية بروعته وسحره .
العمارة الإسلامية والمسجد :
برزت العمارة الإسلامية باعتبارها فناً متميزاً له طابعه الذي يعبر عن خصوصيته ، وهو يبعث في النفس هدوءاً وسكينة فترتاح العين لرؤيته ويأخذ النفس بعيداً لتسبح في الأجواء الروحية لارتباطه بالعقيدة الإسلامية السمحة .
ويعتبر المسجد محور العمارة الإسلامية وتشهد بذلك معظم المساجد، ومن أروع النماذج قبة الصخرة في بيت المقدس التي ظلت وستظل مصدر إعجاب ورمزاً لروعة الفن المعماري الإسلامي.
مما سبق نجد أن الحضارة الإسلامية هي حضارة روحية مادية متوازية مصدرها إلهي تمثل في القرآن الكريم والسنة النبوية الطاهرة ، وحضارة هذا شأنها كان لا بد وأن تترعرع في كنف المسجد الذي يعتبر مصدر إشعاع علمي ومدرسة أخلاقية تربوية ومكان عبادة .
أدى المسجد دوراً مهماً في حياة المسلمين وهو الذي بعث هذه الأمة وانتشلها من وهدة التخلف والجهل لم يكن للدولة الإسلامية برلمان إلا المسجد فيه تؤدى الصلاة وفيه تدرس العلوم وفي تربى النفوس وتهذب وفيه يقضى بين الناس في حوائجهم وفيه تنظر مظالمهم ، وفيه تتم البيعة للخلفاء وحكام المسلمين ، وفيه تتخذ كل القرارات الخطيرة ، ولهذا فالحضارة الإسلامية هي حضارة المسجد ، ومن هنا نجد أن المسلمين يسارعون في بناء المساجد وإعمارها ، يتسابقون في تزيينها والاهتمام بها لارتباطها بحياة المسلم .
في إطار الاهتمام بتلك الأماكن المقدسة لجأت بعض الدول إلى توثيقها وأصدرت المؤلفات التي توضح أعدادها ، وتبرز الفن الرائع لزخارفها ، ذلك لأن المسجد رمز لحضارة المسلم القائمة على المعتقد المبنية على التوحيد .
لقد كان الإسلام ثورة على المفاهيم والمعتقدات الفاسدة ، حرباً على الهبوط الأخلاقي والاجتماعي تنظيماً للحياة الاقتصادية وتحريراً لها من الاستغلال وتطهيراً من الجشع والطمع ، ضبطاً لشهوات ونزوات الأفراد فكان حضارة رفعت من قدر الإنسان وأعلت من شأن القيم الفاضلة ، كانت شعاعاً في عصور الظلمة والإقطاع ، ونوراً أضاء ظلمات الجهل والضلالة ، وأبعدت الغلو ونبذته ونهت عنه ودعت إلى الوسطية كسلوك ومنهج حياة .
انبثق ذلك النور الإلهي في القرن السابع الميلادي فصان الحقوق ونهى عن الظلم وعن أخذ الناس بالشبهات وساوى بين الطبقات وأمر بالعدل في كل تصرف حتى بين الزوج وزوجه والولد وأبيه - فمتى كانت أول وثيقة عالمية لحقوق الإنسان ، كانت في ديسمبر سنة 1948م ، فمن أسبق حضارة ؟
هذه هي حضارتنا ..
{ وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا}.
بقلم الطالب / إسماعيل الخضراوي
=============(5/107)
خصائص الحضارة الإسلامية
اعتمدت الدولة العباسية- كما أسلفنا- علي شعوب البلاد المفتوحة. وكانت هذه الشعوب عريقة في حضارتها، فهناك الحضارة الساسانية التي سادت العراق وفارس، وكانت تحتفظ بتراث أسيوي خاص ساهمت في تكوينه الحضارتان الصينية والهندية بنصيب وافر. وهناك الحضارة البيزنطية التي سادت في الأقطار المطلة على حوض البحر المتوسط، وهي حضارة ذات أصول يونانية شرقية، لأن البيزنطيين والرومان من قبلهم، كانوا تلاميذ لليونان، وكانت الإسكندرية وحران والرها ونصيبين وإنطاكية من أهم مراكز الثقافة اليونانية الرومانية.
فالعرب، رغم تراثهم العريق القديم الذي تمثل، في حضارات معين وسبأ وحمير في بلاد اليمن، وحضارة الحجاز التي اشتهرت بنشاطها التجاري والديني، إلا أنهم وجدوا في البلاد التي فتحوها حضارات متطورة راقية، لها إدارات حكومية منظمة، ونظم اقتصادية متفوقة في الزراعة وأعمال الري والصناعة، وفي ميادين العلوم العقلية والتجريبية كالرياضيات والفلك والفيزياء، فاغترفوا منها بما يتفق مع تقاليدهم وعقيدتهم.
وهكذا نرى أن الدولة العباسية باعتمادها على هذه الشعوب، عملت على مزجها وصهرها في البوتقة الإسلامية. وهذا الاتحاد هو السر في تلك النهضة العلمية العجيبة التي امتدت من، قيام الدولة العباسية إلى نهاية القرن الرابع الهجري. فان كان للدولة العربية الإسلامية في صدر الإسلام، فضل الفتوح والانتشار والاتصال بالحضارات القديمة مما أدى إلى ظهور المنابت الأولى للحضارة الإسلامية في أواخر عهدها، فإن للدولة العباسية فضل رعاية هذه المنابت الحضارية والعمل على تنميتها وازدهارها. فالمسلمون نقلوا وترجموا وعربوا هذا التراث القديم إلى لغتهم العربية حتى إذا ما استوعبوا ما نقلوه، أخذوا ينتجون ويبدعون ويضيفون، حتى قدموا للعالم ما عرف بالحضارة العربية الإسلامية، وهي الحضارة التي توفرت لها تلك المزايا الثلاث التي لا تتوفر إلا في الحضارات الكبرى وهي: ا لامتياز، والأصالة، والإسهام في تطور البشرية.
لهذا أجمع العلماء علي أن الحضارة الإسلامية تحتل مكانة رفيعة بين الحضارات الكبرى التي ظهرت في تاريخ البشرية، كما أنها من أطول الحضارات العالمية عمراً، وأعظمها أثراً في الحضارة العالمية.
وتبدأ هذه النهضة الحضارية في العراق بعد أن أسس الخليفة العباسي "أبو جعفر المنصور" مدينة بغداد
(145- 149 هـ) وجعلها عاصمة لدولته، ومقراً للخلافة العباسية صاحبة السلطان الشرعي على جميع الأقطار الإسلامية. فهي لم تكن مثل الفسطاط أو دمشق أو قرطبة، عاصمة قطر بعينه، بل كانت عاصمة العالم الإسلامي كله. ولهذا صارت مدينة دولية COSMOPOLITE واكتسبت صفة عالمية، وسكنتها عناصر من مختلف الأجناس، والملل والنحل، إسلامية وغير إسلامية، فهناك الفرس والهنود والسريان والروم والصينيون وغيرهم. وكل هذه العناصر لم تسكن بغداد بأشخاصها فقط، بل بثقافاتها وتجارتها وعلمها وفنها، فعربت ألفاظ يونانية وفارسية وهندية كثيرة. وترجمت عن اليونانية "حكم سقراط وأفلاطون وأرسطو، وظهرت كتب الأدب العربي مثل عيون الأخبار لابن قتيبة، والبيان والتبيين للجاحظ.
وفي خلافة أبي جعفر المنصور (136- 158 هـ) ترجمت بعض أعمال العالم السكندري القديم بطليموس القلوذي CLAUDIUS PTOLOMY (ت. 17 م)، ومن أهمها كتابه المعروف، باسم "المجسطي ". واسم هذا الكتاب في اليونانية " (EMEGAL MATHEMATIKE ، " أي الكتاب الأعظم في الحساب. ويبدو أن المسلمين حولوا لفظ MEGALE في مجال إلى" مجسطي ". والكتاب عبارة عن دائرة معارف في علم الفلك والرياضيات. وقد أفاد منه علماء المسلمين وصححوا بعض معلوماته وأضافوا إليه.
وعن الهندية، ترجمت أعمال كثيرة مثل الكتاب الهندي المشهور في علم الفلك والرياضيات، "براهمسبهطسدهانت " وتختصر بسد هانتاSiddhanta أي " المعرفة والعلم والمذهب ". وقد ظهرت الترجمة العربية في عهد أبي جعفر المنصور بعنوان "السند هند" وهو تحريف للعنوان الأصلي. ومع كتاب "السند هند" دخل علم الحساب الهندي بأرقامه المعروفة في العربية بالأرقام الهندية فقد تطور على أثرها علم العدد عند العرب، وأضاف إليها المسلمون نظام الصفر، والذي لولاه لما فاقت الأرقام العربية غيرها من الأرقام،ولما كان لها أية ميزة، ولما استطعنا أيضاً أن نحل كثيراً من المعادلات الرياضية من مختلف الدرجات، فقد سهل استعماله لجميع أعمال الحساب، وخلص نظام الترقيم من التعقيد، ولقد أدى استعمال الصفر في العمليات الحسابية إلى اكتشاف الكسر العشري الذي ورد في كتاب مفتاح الحساب للعالم الرياضى؟ المسلم، جمشيد بن محمود غياث الدين الكاشي(ت 840 هـ1436 م)، وكان هذا الكشف المقدمة الحقيقية للدراسات والعمليات الحسابية المتناهية في الصغر، لقد كانت الأرقام العربية بصفرها وكسورها العشرية بحق هدية الإسلام إلى أوروبا. ومن هذا الكتاب أيضاً استخرج العالم "إبراهيم الفزاري "- الذي أشرف على ترجمته- جدولاً حسابياً فلكياً يبين مواقع النجوم ويحسب حركاتها وهو ما يعرف باسم "الزيج ". أما الآلة الفلكية التي تستخدم لرصد الكواكب، فكانت تسمى "بالاصطرلاب ". ويعتبر إبراهيم الفزاري أول من صنع الاصطرلاب من المسلمين.
وعن الفارسية، ترجم كتاب "كليلة ودمنة" الذي كان هندياً في الأصل ثم ترجم إلى الفارسية وعنها نقله "عبد الله بن المقفع " إلى العربية في خلافة المنصور أيضاً. هذا إلى جانب ترجمته لعدة كتب أخرى في تاريخ وأدب الفرس ونظمهم وتقاليدهم. ومن المعروف أن الخليفة العباسي المأمون قد أوكل إلى سهل بن هارون، ترجمة الكتب الفارسية. كذلك نذكر كتاب "هزار افسانه " ومعناه ألف خرافة، إذ أن الخرافة بالفارسية يقال لها افسانه، والناس يسمون هذا الكتاب ألف ليلة وليلة وهو خبر الملك والوزير وابنته وجاريتيها وهما شيرازاد ودينازاد، ويبدو أن هذه القصص وصلت إلى المسلمين عن طريق الفرس، ويظهر في بعضها أثر أفكار الهنود في الأرواح وتناسخها، وقد وضعت هذه القصص في قالب عربي إسلامي في العصر العباسي الأول ثم زيد فيها في العصر الفاطمي بحيث لم يتبق من التأثير الفارسي سوى بعض الأسماء الفارسية. والشاهنامة للفردوس التي ترجمها نثرا الفتح بن علي البنداري سنة
697 هـ/1297 م، وهناك أيضا لعبة الشطرنج الهندية الأصل والتي انتقلت عن طريق الفرس إلى المسلمين، وألفت فيها كتب بالعربية وصار لها انتشار كبير في عالم الإسلام.
وفي خلافة المهدي بن المنصور (158- 169 هـ) برز عالم عربي في الكيمياء يدعى جابر بن حيان الأزدي " الذي نسبت إليه كتابات كثيرة في الكيمياء تضم ما وصل إليه هذا العلم من تقدم في هذا الوقت سواء في المركبات الكيميائية التي لم تكن معروفة في ذلك الوقت مثل نترات الفضة المتبلورة وحامض الأزوتيك وحامض الكبريتيك (زيت الزاج) ولاحظ ما يرسب من كلوروز الفضة عند إضافة ملح الطعام أو في وصف العمليات الكيميائية كالتقطير والتبخير والترشيح والتبلور والتذويب والتصعيد والتكليس ونحوها.(5/108)
وفي خلافة هارون الرشيد (170 هـ/ 786،ـ 193هـ / 808 م) أسس في بغداد في بيت الحكمة" لأعمال النقل والترجمة، الذي ازدهر في عهد ولده عبد الله المأمون (198 هـ/813 م- 218 هـ/833 م)، فترجمت فيه أمهات الكتب اليونانية القديمة، وأقيمت فيه المراصد، ورسمت فيه الرسوم (الخرائط) الجغرافية على أحدث ما توصل إليه العلم في الأرصاد وأعمال المساحة. كما تخرج منه مشاهير العلماء أمثال " محمد بن موسى الخوارزمي (ت 232 هـ846 م) " الذي عهد إليه المأمون بوضع كتاب في علم الجبر، فوضع كتابه " المختصر في حساب الجبر والمقابلة"، وهذا الكتاب هو الذي أدى إلى وضع لفظ الجبر وإعطائه مدلوله الحالي. قال ابن خلدون: "علم الجبر والمقابلة (أي المعادلة) من فروع علوم العدد، وهو صناعة يستخرج بها العدد المجهول من العدد المعلوم إذا كان بينهما صلة تقتضي ذلك فيقابل بعضها بعضاً، ويجبر ما فيها من الكسر حتى يصير صحيحاً". فالجبر إذن، علم عربي سماه العرب بلفظ من لغتهم، والخوارزمي هو الذي خلع عليه هذا الاسم الذي انتقل إلى اللغات الأوروبية بلفظه العربي ALGEBRAولقد ترجم كتاب الخوارزمي إلى اللغة اللاتينية في سنة 1135 م بواسطة مستعرب إنجليزي اسمه " رو برت أوف تشستر" ROBERT OF CHESTER " درس وعاش في أسبانيا حيث كان أسقف بامبلونه ، ومن هناك انتقلت ترجمته إلى أوربا حيث ظلت تدرس في جامعاتها حتى القرن السادس عشر الميلادي. كما انتقلت الأرقام العربية إلى أوربا عن طريق مؤلفات "الخوارزمي ". ومن الملاحظ أن اسم "الخوارزمي " استعمل في اللغة اللاتينية على شكل "الجور تمي "ALGORISMO ثم حور في قالب "الجورزمو " ALGORISMO "للدلالة على نظام الأعداد وعلم الحساب والجبر وطريقة حل المسائل الحسابية .
هذا، وتظهر عبقرية "الخوارزمي " في " الزيج " أو الجدول الفلكي الذي صنعه وأطلق عليه اسم "السند هند الصغير،،وقد جامع فيه بين مذهب الهند، ومذهب الفرس، ومذهب بطليموس (اليونان)، فاستحسن أهل زمانه ذلك وانتفعوا به مدة طويلة فذاعت شهرته وصار لهذا الزيج أثر كبير في الشرق والغرب.
وللخوارزمي مأثرة أخرى، وهي أنه رسم أ للمأمون خريطة كبيرة للعالم المعمور على أيامه، كما وضع كتاباً جغرافياً بعنوان "صورة الأرض " اعتمد فيه على كتاب المجسطي لبطليموس مع إضافات وشروح وتعليقات. وقد نشر هذا الكتاب وترجم إلى الألمانية سنة 1926 م.
وفي مجال الطب والعناية بالمرضى أنشأ العباسيون عدداً كبيراً من البيمارستانات (المستشفيات)، ومخازن الأدوية، واستأثرت العاصمة بغداد بالعديد منها، فنسمع عن البيمارستان الذي أنشأه الرشيد في الجانب الغربي من بغداد على يد الطبيب "جبرائيل بن بختيشوع "، والبيمارستان الصاعدي أيام المعتضد في الجانب، الشرقي من بغداد، والبيمارستان المقتدري الذي بناه المقتدر سنة 306 هـ 918م، وبيمارستان السيدة الذي أنشأته أمه في الأعظمية، وبيمارستان ابن الفرات الذي أنشأه وزيره أبو الحسن علي بن الفرات، والبيمارستان العضدي... الخ. وكانت هذه محاولة لإيجاد أماكن تعالج فيها المرضى ويخضعون للملاحظة والتسجيل، وهي أساس المستشفيات الحديثة.
وقد توصل الأطباء المسلمون إلى أراء جديدة في الطب تخالف أراء القدماء في معالجة كثير من الأمراض، واستخدموا في مستشفياتهم الكاويات في الجراحة، ووصفوا صب الماء البارد لقطع النزف أو معالجة الحميات، وعالجوا الأورام الأنفية وخياطة الجروح، وقطع اللوزتين، وشق أوراق الحلق، وقطع الأثداء السرطانية، وإخراج الحصاة من المثانة، وجراحة الفتق وجراحة العيون، وإخراج الجنين بالآلة، وإخراج العظام المكسورة، واستخدام المرقد (البنج) (ويدخل في تركيبه الأفيون والحشيش وست الحسن) كما فرقوا بين الحصبة والجدري... الخ.
وكانت الدولة تراقب الممارسات الطبية والأطباء، فكانوا يمتحنون الأطباء والصيادلة فقد امتحن الصيادلة زمن المأمون والمعتصم، وأمر الخليفة المقتدر الطبيب الكبير سنان بن ثابت بن قرة سنة 316 هـ بمنع سائر المتطببين من التصرف وممارسة مهنتهم إلا بعد إجراء امتحان لهم، فامتحن يومئذ أكثر من ثمانمائة طبيب. وكان كل من يقوم بممارسة مهنة الطب، يؤخذ عليه قسم الطبيب المسلم والذي كان يعتمد على المحافظة على سر المريض وعلاجه دون تمييز وأن يحفظ كرامة المهنة وأسرارها.
وكان المحتسب هو الذي يأخذ عليه هذا القسم، لأن من عمله مراقبة هذه المهنة ونصه " برئت من قابض أنفس الحكماء، ورافع أوج السماء، فاطر الحركات العلوية، إن خبأت نصحا وبدأت ضرا، أو قدمت ما يقل عمله. إذا ما عرفت ما يعظم نفعه، وعليك بحسن الخلق بحيث تسمع الناس واستفرغ لمن ألقى، إليك زمامه ما في وسعك فإن ضيعته، فأنت الضائع والله الشاهد على وعليك والسامع لما تقول، فمن نكث عهده فقد استهدف لقضائه، إلا أن يخرج من أرضه وسمائه ".
ومن مشاهير الأطباء الذين برزوا في العصر العباسي الأول نذكر الطبيب "جورجيوس (جرجس) ابن بختيشوع " الذي استدعاه الخليفة المنصور من "جنديسابور" (شرقي البصرة) لعلاج معدته التي كان يشكو منها. وبعد معالجة قصيرة شفي على يديه، فجعله طبيبه الخاص فكان ذلك أول صلة بين بلاط بغداد وبين أسرة "بختيشوع " التي لعبت بعد ذلك دوراً هاماً في البلاط العباسي وفي الحضارة الإسلامية.
وفي أيام المعتصم وولديه الواثق والمتوكل، برز الطبيب "يحيى بن ماسويه(ت 243 هـ) " الذي تنسب إليه مؤلفات طبية عديدة من أهمها: "كتاب دغل العين) أي ما يضر العين ويؤذيها، وهو أول كتاب عربي في علم الرمد. كذلك يؤثر عن هذا الطبيب أنه كان يدرس التشريح عن طريق تقطيع أجسام القردة، وكان الخليفة المعتصم يعتمد على مشورته، ولهذا كان يحتفظ ببنية قوية. ويعرف " ابن ماسويه " في الغرب باسم "ماسو الكبير" MESUE MAIOR . كذلك نذكر الطبيب اللامع "حنين بن إسحاق (ت 260 هـ ) الذي عرف عند علماء الغرب باسم يوهانيتس YOHANTUS درس "حنين " الطب على أستاذه "يحيى بن ماسويه" ثم واصل دراسته في بلاد الروم والإسكندرية وفارس، والف كتباً كثيرة أهمها كتاب في الرمد باسم "العشر مقالات في العين "، وكتاب " السموم والترياق "، وكتاب في أوجاع المعدة، وكتاب في الحميات، وكتاب في الفم والأسنان. وهذا الكتاب الأخير أعجب به الخليفة الواثق لأنه يصف الفم والأسنان وصفاً دقيقاً. وقد نقل المسعودى في كتابه "مروج الذهب (ج 4 ص 80- 81) " قسماً منه، ذكر فيه أن عدد الأسنان في الفم اثنتان وثلاثون سناً، منها في اللحى (الفك) الأعلى " ستة عشر سناً، وفي اللحى الأسفل كذلك.
وهكذا ازدهرت العلوم العقلية والتجريبية الإسلامية نتيجة لهذه الاستراتيجية العباسية التي قدمت كل تشجيع .
لحركة النقل والترجمة، مما أدى إلى ذيوع الكتب العلمية المنقولة إلى العربية، ومن ثم صارت اللغة العربية لغة علمية بعد أن كانت لغة شعر وأدب فقط.
ومما يجب ملاحظته بهذا الصدد ما تميز به علماء الإسلام من الجمع بين العلوم الفقهية والعلوم الطبيعية، فالكندي مثلاً ت 260 هـ/873 م جمع بين الفلسفة والمنطق والحساب والفلك والهندسة والسياسة والطب والفقه وأصول العقيدة، وابن سينا ت 428 هـ 1036 م جمع بين الطب والفلسفة والرياضيات والعلوم الطبيعية والموسيقى والفلك والحدود والشعر واثبات التنبؤات والقدر، ومثلهما الفارابي والرازي وعمر الخيام وابن النفيس وعبد اللطيف البغدادي وابن رشد وابن الطفيل والسمعاني وغيرهم.(5/109)
لقد عرض هؤلاء العلماء لكبريات المشكلات المنطقية فعالجوها بأصالة المنهج في الملاحظة والتشخيص والكشف عن الأسباب والعلامات، فإن الشيء لا يعلم العلم اليقين إلا من جهة أسباب، ولذلك كان علم الأسباب واجباً، لم يقع العلماء المسلمون فريسة التفريق بين الإلهام الإلهي والنظر الاستنباطي، وإنما جعلوهما يلتقيان على نحو من التكامل، فغاية العلوم الفقهية، تعليم الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورسم نهج الحياة، وغرض العلوم الطبيعية، الوقوف على الحقيقة والتوجه إلى الخير والتحويل عن الشر، فالدرس والتفحص مقرون بالقياس واستخراج الحكمة هي السبل الصحيحة للوصول إلى الحقيقة العلمية، قال الله تعالى:
" أو لم ينظروا في ملكوت السموت والأرض وما خلق الله من شيء " سورة ا لأعراف- آية 185)، وقال تعالى: " فاعتبروا يأولى الأبصر"، (الحشر- أية 2) .فكانت محصلة كل ذلك دراسة العلوم الدنيوية دون أن تؤثر على العقيدة الإسلامية، إذ عملوا على سد الثغرات التي يمكن أن تؤثر على علمهم وذلك بالبحث والدرس. وهذا ما جعلهم يربطون بين ما تلقوه من تعاليم القرآن وتصوراتهم وآرائهم الفلسفية والعلمية بتوازن تام ونسق منهجي باهر، إن أعظم نشاط فكري قام به العلماء المسلمون، يبدو جليا في حقل المعرفة التجريبية ضمن دائرة ملاحظاتهم واختباراتهم، فإنهم كانوا يبدون نشاطاً واجتهاداً عجيبين حين يلاحظون ويمحصون، وحين يجمعون ويرتبون ما تعلموه من التجربة أو أخذوه من الرواية والتقليد، لقد كانت الشمولية المدعمة بالبحث والتفحص أهم ظاهرة تميز بها العلماء المسلمون، حيث أن العالم هو العالم الشامل ولا خطر على العلم من الدين ولا خوف من تأثير العلوم الدنيوية على تعاليم الدين. فجاءت مصنفاتهم وثيقة العرى بالشريعة، موصولة بالعلوم الفقهية.
وإلى جانب هذا الازدهار العلمي التجريبي والعقلاني، اشتهرت بغداد أيضاً بالعلوم النقلية أو الشرعية التي تتصل بالقرآن الكريم والسنة النبوية مثل التفسير. والقراءات والحديث والفقه واللغة والأدب والتاريخ والجغرافيا... الخ. وقد حرص خلفاء بني العباس منذ بداية دولتهم على الاهتمام بهذه العلوم الإسلامية وتشجيع العلماء المشتغلين بها ولا سيما علماء أهل الحجاز الذين كانوا على دراية واختصاص بعلوم القرآن والحديث والسنة. ومثال ذلك الخليفة "أبو جعفر المنصور" الذي حض علماء أهل المدينة على القدوم إلى بغداد ويسر لهدم مكانة مرموقة. وتابعه في هذا الاهتمام ابنه "المهدي " الذي أكرم وفادة القادمين من أهل المدينة وقربهم إليه وأجزل لهم العطاء وأطلق عليهم اسم الأنصار، وصارت لهم في بغداد قطيعة وقنطرة ومسجد ومقابر خاصة بهم، كما كان لهم نقيب خاص. لهذا كان من أوائل قضاة بغداد عدد من أهل الحجاز مثل "يحيى بن سعيد الأنصاري "، و، " سعيد بن عبدا لرحمن الجمحي" . هذا إلى جانب المحدث، "والإخباري المعروف "محمد بن إسحاق بن يسار (ت102 هـ) " الذي رحب المنصور بمقدمه. ويقال أنه لما دخل على الخليفة المنصور وكان بين يديه ابنه المهدي، قال له المنصور: "أتعرف من هذا يا ابن إسحاق؟ "، فقال نعم، هذا ابن أمير المؤمنين. قال. " اذهب وصنف " كتاباً منذ خلق الله تعالى أدم عليه السلام إلى يومك هذا".. فصنف ابن إسحاق كتابه "المغازي والسير وأخبار المبتدأ ". على أن هذا الكتاب للأسف لم يصل إلينا إلا في رواية مختصرة له كتبها"عبد الملك بن هشام (ت 218 هـ) " وتعرف باسم سيرة رسول الله وتعرف عموما بسيرة ابن هشام. غير أنه يلاحظ من الحوار الذي دار بين المنصور وابن إسحاق " أن الكتاب الذي طلبه المنصور لا يقتصر على السيرة النبوية فقط، بل يشمل تاريخاً منذ خلق الله آدم إلى اليوم الذي يعيشه ابن إسحاق، أي أنه يجمع بين ماضي الأمة الإسلامية وحاضرها، وهذا يدل على أن كتاب المغازي لابن إسحاق كان أشمل وأوسع بكثير مما وصل إلينا عن طريق ابن هشام ، وقد يؤيد ذلك أن ابن إسحاق كان موضع مديح العلماء الذين جاءوا بعده، إذ وصفوه بأنه لم ينزع في كتابه إلى تدوين تاريخ النبي فحسب، بل إلى تاريخ النبوة بذاتها. وقال فيه "الإمام الشافعي (ت 204 هـ) "من أراد التبحر في المغازي، فهو عيال على ابن إسحاق".
وعلى أية حال، فإن هذه النقلة التي أقدم، عليها ابن إسحاق من رواية الحديث إلى الاشتغال برواية الأخبار، تعتبر بداية انفصال التاريخ عن الحديث، على اعتبار أن التاريخ كان نوعاً من أنواع الحديث.
وهكذا صار التاريخ علماً مستقلاً، وأخذ يتطور تدريجياً حتى أخذ مظهره الرائع كعلم من أجل علوم المسلمين، وأخذ المؤرخون مكانتهم بين علماء الدولة الإسلامية كرجال لهم خطرهم في الحياة العامة، سياسية كانت أو علمية، بينما تضاءل مدلول لفظ إخباري حتى صار يطلق فقط على من يروي الحكايات والقصص.
ولقد كانت بغداد مركزا لتطور الدراسات التاريخية والحضارية على مستوى عالمي، فلم يعد إنتاجها في هذا الصدد قاصراً على العراق فحسب، بل شمل العالم الإسلامي والحياة الإسلامية. ومثال ذلك تاريخ الرسل والأمم والملوك للطبري (ت 310 هـ)، وكتابا "مروج الذهب "- "والتنبيه والأشراف " للمسعودى (ت 346 هـ)، وكتب المسالك والممالك، وكتاب " الأغاني"لأبي الفرج الأصفهاني(ت 355هـ) "، وقصص "،ألف ليلة وليلة"، كلها صور عامة للحياة الإسلامية بمختلف مظاهرها التاريخية والحضارية.
وما يقال عن التاريخ يقال أيضاً عن علم الفقه الذي يقوم على البحث في الأحكام الشرعية، ومعرفة حكم الدين في القضايا التي تحدث للمسلمين سواء في قضايا دينهم (العبادات) أو في قضايا دنياهم (المعاملات). ومع قيام الدولة العباسية كان المسلمون قد بدأوا في تدوين فقههم واستنبطوا الأحكام والشرائع في القرون الأولى للهجرة، وهو ما لم يتفق لدولة من الدول السابقة، فالقانون الروماني مثلاً لم يستقر أمره إلا زمن الإمبراطور "جستنيان " أي بعد تأسيس الدولة الرومانية بأكثر من عشرة قرون.
وهكذا ظهرت المذاهب الفقهية في عصر الدولة العباسية، واحتلت بغداد مكان الصدارة لهذه الدراسات الفقهية، إذ ظهر فيها الإمام " أبو حنيفة النعمان (ت 150 هـ) " في "خلافة أبي جعفر المنصور، وكان مذهبه يعتمد على الرأي والقياس والاجتهاد، بسبب تعقد الحياة وتطور المدنية في البيئة العراقية لكونها مجمعاً لمختلف الأجناس والملل والنحل مما أدى إلى ظهور قضايا ومشاكل جديدة لا تنطبق عليها نصوص القرآن والسنة، وتحتاج إلى وضعها محل الاجتهاد، والحكم فيها عن طريق الاستنباط العقلي القائم على المنطق الدقيق وهو القياس أو الرأي.
وقد عاصر الإمام أبو حنيفة كلاً من الأئمة "مالك بن أنس في المدينة (ت 79 ا هـ) "، و "الليث بن سعد في الفسطاط (ت 175 هـ) "، وهم جميعاً من أهل الحديث، أي أنهم يتمسكون عند إصدار أحكامهم بنصوص القرآن والحديث، ولا يرضون عما استحدثه الأحناف من أقيسه ذات طابع فلسفي.(5/110)
وفي السنة التي توفى فيها الإمام أبو حنيفة (150 هـ)، ولد الإمام "محمد بن إدريس الشافعي " في غزة، وعاش في الحجاز حيث حفظ موطأ الإمام مالك بن أنس " بالمدينة المنورة وقرأه عليه وهو صبي في العاشرة من عمره، ثم رحل إلى العراق حيث تعلم في بغداد فقه "أبي حنيفة" قبل رحيله واستقراره قي مصر. ومن ثم جاء مذهبه وسطاً بين مذهب " أبي حنيفة" المتوسع في الرأي، ومذهب "مالك بن أنس " المعتمد على الحديث. وتوفي "الشافعي " قي الفسطاط سنة (204 هـ) ومقامه معروف هناك، ومن أشهر مؤلفاته "كتاب الأم " في الفقه، و "رسالة في أصول الفقه "، تعتبر الأولى من نوعها، إذ وضع فيها لأول مرة قواعد الاستنباط في الأحكام الشرعية وهو ما يسمى بأصول الفقه.
وجاء بعده تلميذه الإمام "أحمد بن حنبل الشيباني "، الذي ولد وعاش ومات في بغداد (164- 241 هـ) وكان يرى أن يقوم الفقه على النص من الكتاب أو الحديث، وأنكر على أستاذه " الشافعي " أخذه بالرأي، واعتبر الحديث أفضل من الرأي، فعاد بذلك إلى رأي الإمام مالك. ومن أشهر كتبه "المسند" الذي يعتبر موسوعة لأحاديث الرسول (r ) .
وأخيراً يعتبر الشيعة "الإمامة" ضرورية ومن أساس الدين، والإمام عندهم هو الذي يسير بالأمة إلى الهدف الأعلى ويدفعها إلى السير في الطريق المستقيم، والفقه من اختصاص الإمام وحده فهو المجتهد المطلق، ومن كتبهم كتاب الكافي للكليبي ت 328 هـ/939 م والنهاية في الفقه لمحمد بن الحسن الطوسي ت 460 هـ/1067 م.
وهكذا نرى أن بغداد عرفت من الفقهاء الذين أقاموا أو درسوا فيها، عدة اتجاهات فقهية، فهناك المتمسك بالرأي، كأبي حنيفة"، وهناك المتمسك بالنصوص "كابن حنبل "، وهناك من لاءم بينهما واتخذ مذهباً وسطاً "كالشافعي. والواقع أن كل المذاهب الفقهية الإسلامية تتفق معاً في العمل بكتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة والتابعين، ولكنها تختلف في فهم واستنباط الأحكام الشرعية وتطبيقها.
أما دراسات العلوم اللغوية والنحوية، فقد شهدت العراق فيها ثورة واسعة ضخمة على أيدي علماء البصرة والكوفة الذين حققوا إنجازات وابتكارات علمية في هذا المجال للحفاظ على كلام العرب وتقويم اللسان العربي، بعد أن فشا اللحن في كلام المسلمين، نتيجة لاختلاطهم بالأعاجم في البلاد المفتوحة. لهذا قام هؤلاء العلماء بجمع وتدوين ألفاظ اللغة العربية وأشعارها من منابعها الصافية في نجد بقلب الجزيرة العربية. كذلك وضعوا قواعد نحوية للغة العربية، وابتكروا النقط والشكل على الحروف لمعرفة نطق الكلمات نطقاً سليماً، ولا سيما القرآن الكريم، حتى لا يتعرض للتحريف. هذا إلى جانب تصنيف المعاجم اللغوية، ووضع علم العروض لمعرفة أوزان الشعر وأحكامه وبحوره. ومن أشهر الرواد الذين حققوا هذه الابتكارات العلمية مع بداية العصر العباسي العالم البصري العربي، الخليل بن أحمد الفراهيدي
(ت 175 هـ/ا 79 م) "، وتلميذه وشيخ البصريين بعده العالم الفارسي "أبو بشر عمرو بن عثمان الملقب بسييويه
(ت 177 هـ/793 م) ". ولم تلبث العاصمة بغداد أن شاركت في هذه النهضة العلمية، حيث انتقل إليها عدد من علماء الكوفة والبصرة أمثال " أبي حنيفة" و"، المفضل الضبي " و "الكسائي "الفراء "، و "ابن السكيت "، بحيث صارت بغداد مسرحاً لمناظرات علمية حامية الوطيس بين أشهر علماء العصر.
أما الأدب، فقد تطور هو الآخر في العصر العباسي تطوراً كبيراً، ونهج الشعراء فيه مناهج جديدة في المعاني والموضوعات والأساليب والأخيلة، وغير ذلك من فنون الشعر المختلفة التي تناسب ما انتشر في العصر العباسي من حضارة وترف ولا سيما في رصافة بغداد أو بغداد الشرقية. ومن أشهر هؤلاء الشعراء،، أبو نواس " الذي ذاعت قصائده في الخمر والغزل والصيد.. الخ، و" أبو تمام الطائي " المشهور بنزعته العقلية والفلسفية في الشعر، وتلميذه "أبو عبادة البحتري " صاحب المدائح الخالدة، و "ابن الرومي " المعروف بطول نفسه وغزارة شعره، و" أبو العتاهية" الذي اشتهر بالحكمة والغزل الرقيق، والمتنبي، الذي اشتهر بالفخر ، وأبو العلاء المعري، شاعر الحكمة، وغيرهم كثيرون. ويكفي أن نشير إلى ما قاله الخليفة الشاعر، "عبد الله بن المعتز (ت 296 هـ) " في كتابه "طبقات الشعراء" من أن عدد شعراء الدولة العباسية في أواخر القرن الثالث الهجري فقط بلغ أكثر من مائة وثلاثين شاعراً. هذا إلى جانب الشاعرات والأديبات من النساء اللائى لعبن دوراً هاماً في الحياة الأدبية وفي الأحداث المهمة في المجتمع الإسلامي مثل "رابعة بنت إسماعيل العدوية" التي سلكت طريق الزهد والتصوف والأميرة، علية بنت المهدي " التي وصفها "الحصري " بأنها "تعدل الكثير من أفاضل الرجال في فضل العقل وحسن المقال، ولها شعر رائق وغناء رائع ". ومثل الأميرة "العباسة بنت المهدي " التي لعب الخيال دوراً كبيراً في القصص التي أحاطت بها، إذ تروى لها أشعار تدل على ذكاء وحسن تأت للموضوع الذي تقصد إليه. ومثل "عابدة الجهنية" التي قال "السيوطي " عنها أنها"أديبة شاعرة فصيحة فاضلة كاتبة".
هذا، ويروي "ابن الفوطي " أن الخليفة العباسي "الناصر لدين الله (ت 622 هـ) كانت لديه جارية تركية تسمى "شجرة الدر"، مقربة إليه، وكانت تكتب خطاً جيداً ، وتقرأ له المطالعات الواردة عليه لما تغير نظره، ويملي عليها الأجوبة. وتوفيت سنة 634 هـ 1236 م) ودفنت في تربة الخلاطية ببغداد.
ومن الطريف أن هذه الأديبة العراقية "شجرة الدر"، عاصرت ملكتين مسلمتين في العالم الإسلامي: أولاهما، الملكة ، رضية الدين " سلطانة دلهي بالهند الإسلامية، وهي تعتبر أول ملكة مسلمة جلست على عرش مملكة إسلامية (634- 638 هـ -1236- 0 124 م). والملكة الثانية هي سميتها في الإسم، سلطانة مصر المعروفة "شجرة الدر"، صاحبة الفضل الأول في إخفاق الحملة الصليبية السابعة التي قادها ملك فرنسا لويس ، التاسع عن مصر سنة 647 هـ (1249 م).
وإذا انتقلنا إلى عالم الفنون والعمارة، نجد أن، العباسيين لم يكونوا أقل اهتماما من الأمويين في مجال التشييد والتعمير، ففي العمارة بنى (أبو جعفر المنصور" على نهر دجلة عاصمته" بغداد (145- 149 هـ) على شكل دائري، وهو اتجاه جديد في بناء المدن الإسلامية، لأن معظم المدن الإسلامية، كانت إما مستطيلة كالفسطاط، أو مربعة كالقاهرة، أو بيضاوية كصنعاء. ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أن هذه المدن نشأت بجوار مرتفعات حالت دون استدارتها، ولعل الخليفة "المنصور" تأثر بهندسة بعض العواصم القديمة مثل مدينة الحضر جنوب غرب الموصل ومثل مدينة همذان مثلاً. المهم هنا أن خطة المدينة المدورة بغداد، تعتبر ظاهرة جديدة في الفن المعماري الإسلامي. هذا إلى جانب المدن الأخرى التي شيدها العباسيون مثل مدينة سامراء وما حوته من مساجد وقصور خلافية فخمة.(5/111)
وإلى جانب العمارة وجدت الزخرفة التي وصفت بأنهما لغة الفن الإسلامي، وتقوم على زخرفة المساجد والقصور والقباب بأشكال هندسية أو نباتية جميلة تبعث في النفس الراحة والهدوء والانشراح. وسمي هذا الفن الزخرفي الإسلامي في أوروبا باسم أرابسك بالفرنسية " ARABESQUEوبالأسبانية ( ATAURIQUE) أي التوريق. وقد عرف الفنان المسلم ما يسمى الآن بالفن التجريدي ( SURREALISM ABSTRACT ) لأنه كثيراً ما كان يأخذ الوحدة الزخرفية النباتية كالورقة أو الزهرة، ويجردها من شكلها الطبيعي حتى لا تعطى إحساسا بالذبول والفناء، فيجردها ويحورها في أشكال هندسية حتى تعطي الشعور بالدوام والبقاء والخلود .
كذلك وجد الفنانون المسلمون فى الحروف العربية أساسا لزخارف جميلة، ومن ثم صار الخط العربي فناً رائعاً، على يد خطاطين مشهورين. فهناك الخط الكوفي الذي يستعمل في الشئون الهامة مثل كتابة المصاحف والنقش على العملة، وعلى المساجد، وشواهد القبور. ومن أبرز من اشتهر بكتابة الخط الكوفي، مبارك المكي " في القرن الثالث الهجري في خلافة "المتوكل على الله العباسي "، وهناك خط النسخ الذي استعمله الناس في التراسل والتدوين وفي نسخ الكتب، ولهذا عرف بهذا الاسم، وقد نبغ في كتابته عدد من الخطاطين أمثال "ابن مقلة (ت 328 هـ) " ولابن البواب (ت 13 4 هـ) " وياقوت المستعصمي في القرن السابع الهجري ".
أما فن التصوير، أي رسم الإنسان والحيوان، فبالرغم من أن بعض علماء المسلمين الأولين، اعتبروه مكروهاً، إلا أنهم لم يفتوا بتحريمه. والظاهر أن خلفاء بني أمية وبني العباس قد ترخصوا في ذلك إذ توجد صور آدمية متقنة على جدران قصورهم التي اكتشفت آثارها منذ عهد قريب في شرق الأردن وسامراء،كذلك ورد في كلام المؤرخين أن الخليفة "الأمين " كان لديه قوارب لنزهته في دجلة على هيئة الأسد والنسر والدلفين، وأن قصر "(المقتدر بالله " اشتمل على تماثيل متحركة لفرسان بخيلها تتقدم وتتأخر كما في الحرب. هذا إلى جانب قبة القصر الخلافي في بغداد التي أقيم في أعلاها على عهد "المنصور" تمثال لفارس بيده رمح يتحرك في اتجاه الريح. كذلك وصلت إلينا كتب عربية موضحة بالصور الجميلة التي رسمها المصورون المسلمون مثل " الو اسطي " وغيره في مقامات "الحريري " وكتاب "كليلة ودمنة".
كذلك ازدهرت الموسيقى وتطورت آلاتها ولا سيما في مدينة بغداد التي صار لها مركز الصدارة والشهرة في هذا الفن. ومن أشهر المغنين والمغنيات في العصر العباسي الأول: قمر البغدادية" و" إبراهيم الموصلي "، وابنه "إسحاق " وتلميذه "أبو الحسن علي بن نافع " الملقب "بزرياب " الذي هاجر إلى المغرب والأندلس وحمل معه إلى هناك الموسيقى الشرقية التي ما زال تأثيرها باقيا في الموسيقى التي تعرف إلى اليوم في المغرب والجزائر وتونس باسم "الموسيقى الأندلسية". كذلك برع في دراسة الموسيقى من الناحيتين النظرية والعملية عدد من كبار العلماء وعلية القوم أمثال "الكندي " و!الفارابي " والخليفة "الواثق العباسي ". وكل هذا يدل على أن الحضارة المزدهرة التي اختصت بها بغداد، قد غذت الروح الإسلامية في مختلف الأقطار غذاء تاماً.
ولقد واكب هذه النهضة العلمية نشاط صناعة الورق، ونسخ الكتب وتصحيحها وتجليدها مما ساعد على انتشار الفكر الجديد في مختلف الأمصار،فأصبحت بغداد بذلك المدينة الممتازة في العالم الإسلامي،( CITY PAREXCELLENCE) وهذه الصفة العالمية التي تميزت بها بغداد جعلتها كعبة يحج إليها المسلمون من جميع أنحاء العالم الإسلامي، كما جعلت حضارتها تطغى على جميع الحضارات الإسلامية الأخرى
===============
حضارة عربية إسلامية
من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
اذهب إلى: تصفح, ابحث
جزء من سلسلة
الإسلام
تاريخ الإسلام
العقائد و العبادات
توحيد • الشهادتين
الصلاة • الصوم
الحج • الزكاة
قائمة الشخصيات الإسلامية
محمد بن عبد الله
• صحابة • أنبياء الإسلام
أهل البيت
نصوص و تشريعات
القرآن الكريم • حديث نبوي • الشريعة
فقه إسلامي
فرق إسلامية
السنة • الشيعة
مذاهب إسلامية
الحنفية • المالكية • الشافعية • الحنابلة
علم الكلام و الفلسفة
المعتزلة• الأشاعرة
حضارة الإسلام
الفن • العمارة
التقويم الإسلامي
العلوم • الفلسفة
أئمة السنة • أئمة الشيعة
الإسلام السياسي
مساجد
المسجد الحرام • المسجد النبوي
المسجد الأقصى
مدن إسلامية
مكة المكرمة • المدينة المنورة • القدس
انظر أيضا
مصطلحات إسلامية
قائمة مقالات الإسلام
الإسلام حسب البلد
ع•ن•ت
أهتمت الدولة الإسلامية التي انشأها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واستمرت تحت مسمى الخلافة في الفترات الأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح فامتازت عن غيرها من الحضارات السابقة والتي كانت عبارة عن مجرد أمبراطوريات ليس لها أساس من علم ودين. الإسلام كدين عالمي يحض على العلم ويعتبره فريضة علي كل مسلم. لتنهض أممه وشعوبه. ولم يكن في أي وقت مدعاة للتخلف كما يأفك الغرب. فأي علم مقبول إلا لوكان علما يخالف قواعد الإسلام ونواهيه .والإسلام يكرم العلماء ويحعلهم ورثة الأنبياء. وتتميز الحضارة الإسلامية بالتوحيد والتنوع العرقي في الفنون والعلوم والعمارة طالما لاتخرج عن نطاق القواعد الإسلامية . لأن الإسلام لايعرف الكهنوت كما كانت تعرفه أوروبا. لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام. وكانت الفلسفة يخضعها الفلاسفة المسلمون للقواعد الأصولية مما أظهر علم الكلام الذي يعتبر علما في الإ لهيات. فترجمت أعمالها في أوربا وكان له تأثيره في ظهور الفلسفة الحديثة وتحرير العلم من الهنوت الكنسي فيما بعد. مما حقق لأوربا ظهور عصر النهضة بها. لهذا لما دخل الإسلام هذه الشعوب لم يضعها في بيات حضاري ولكنه أخذ بها ووضعها علي المضمار الحضاري لتركض فيه بلا جامح بها أو كابح لها .وكانت مشاعل هذه الحضارة الفتية تبدد ظلمات الجهل وتنير للبشرية طريقها من خلال التمدن الإسلامي. فبينما كانت الحضارة الإسلامية تموج بديار الإسلام من الأندلس غربا لتخوم الصين شرقا وكانت أوربا وبقية أنحاء المعمورة تعيش في إظلام حضاري وجهل وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع علي الغرب ونطرق أبوابه .فنهل منها معارفه وبهر بها لأصالتها المعرفية والعلمية. مما جعله يشعر بالدونية الحضارية. فثار علي الكهنوت الديني ووصاية الكنيسة وهيمنتها علي الفكر الإسلامي حتي لايشيع . لكن رغم هذا التعتيم زهت الحضارة الإسلامية وشاعت . وانبهر فلاسفة وعلماء أوربا من هذا الغيث الحضاري الذي فاض عليهم . فثاروا علي الكنيسة وتمردوا عليها وقبضوا علي العلوم الإسلامية من يقبض علي الجمر خشية هيمنة الكنيسة التي عقدت لهم محاكم التفتيش والإحراق .ولكن الفكر الإسلامي قد تمل منهم وأصبحت الكتب الإسلامية التراثية والتي خلفها عباقرة الحضارة الإسلامية فكرا شائعا ومبهرا.(5/112)
فتغيرت أفكار الغرب وغيرت الكنيسة من فكرها مبادئها المسيحية لتسايرالتأثير الإسلامي علي الفكر الأوربي وللتصدي للعلمانيين الذين تخلوا عن الفكر الكنسي وعارضوه وانتقدوه علانية. وظهرت المدارس الفلسفية الحديثة في عصر النهضة أو التنوير بأوربا كصدي لأفكار الفلاسفة العرب . ظهرت مدن تاريخية في ظلال الحكم الإسلامي كالكوفة والبصرة وبغداد ودمشق والقاهرة والفسطاط والعسكر والقطائع والقيروان وفاس ومراكش والمهدية والجزائر وغيرها . كما خلفت الحضارة الإسلامية مدنا متحفية تعبر عن العمارة الإسلامية كإستانبول بمساجدها والقاهرة بعمائرها الإسلامية وبخارى وسمرقند ودلهي وحيدر أباد وقندهار وبلخ وترمذ وغزنة وبوزجان وطليطلة وقرطبة وإشبيلية ومرسية وسراييفو وأصفهان وتبريز ونيقيا وغيرها من المدن الإسلامية.
فهرست
[إخفاء]
* 1 الدولة الإسلامية
* 2 العلوم
* 3 العمارة
* 4 الفنون
* 5 الصناعة
o 5.1 صناعة السفن والملاحة
* 6 المصادر
[تحرير] الدولة الإسلامية
[تحرير] العلوم
المقال الرئيسي: علوم إسلامية
ابن رشد
ابن رشد
خلال قرني من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت صناعة الكتب منتشرة في كل أنحاء العالم الإسلامي وكانت الحضارة الإسلامية تدور حول الكتب. فقد كانت توجد المكتبات الملكية والعامة والخاصة في كل مكان حيث كانت تجارة الكتب ومهنة النساخة رائجة وكان يقتنيها كل طبقات المجتمع الإسلامي الذين كانوا يقبلون عليها إقبالا منقطع النظير. وكان سبب هذا الرواج صناعة الورق ببغداد وسمرقند .وكانت المكتبات تتيح فرص الإستعارة الخارجية. وكانت منتشرة في كل الولايات والمدن الإسلامية بالقاهرة وحلب وإيران ووسط آسيا وبلاد الرافدين والأندلس وشمال أفريقيا. وكانت شبكات المكتبات قد وصلت في كل مكان بالعالم الإسلامي. وكان الكتاب الذي يصدر في يغداد أو دمشق تحمله القوافل التجارية فوق الجمال ليصل لقرطبة بأسبانيا في غضون شهر. وهذا الرواج قد حقق الوحدة الثقافية وإنتشار اللغة العربية . وكانت هي اللغة العلمية والثقاقية في شتي الديار الإسلامية. كما كان يعني بالنسخ والورق والتجليد. مما ماجعل صناعة الكتب صناعة مزدهرة في العالم الإسلامي لإقبال القراء والدارسين عليها وإقتنائها. وكانت هذه الكتب تتناول شتي فروع المعرفة والخط وعلوم القرآن وتفاسيره واللغة العربية والشعر والرحلات والسير والتراث والمصاحف وغيرها من آلاف عناوين الكتب. وهذه النهضة الثقافية كانت كافية لإزدهار الفكر العربي وتميزه وتطوره .وفي غرب أفريقيا في مملكتي مالي وتمبكتو أثناء إزدهارهما في عصريهما الذهبي ، كانت الكتب العربية لها قيمتها. وكان من بينها الكتب النادرة التي كانت تنسخ بالعربية، وكانت المملكتان قد أقامتا المكتبات العامة مع المكتبات الخاصة. يعتبر القرن التاسع الميلادي له أهميته في ثبت الحضارة الإسلامية المتنامية. لأن أعمال العلماء المسلمين كانت رائعة وكانوا رجال علم متميزين وكان المأمون الخليفة العباسي العالم المستنير (ت 833) يحثهم علي طلب العلم. وقد أنشأ لهم بيت الحكمة لتكون أكاديمية البحث العلمي ببغداد تحت رعايته الشخصية. وأقام به مرصدا ومكتبة ضخمة. كما أقام مرصدا ثانيا في سهل تدمر بالشام. وجمع المخطوطات من كل الدنيا لتترجم علومها. وكان يشجع الدارسين مهما تنوعت دراستهم. وحقق يهذا التوجه قفزة حضارية غير مسبوقة رغم وجود النهضة العلمية وقتها. وهذا ما لم يحدث بعد إنشاء جامعة ومكتبة الإسكندرية في القرن الثالث ق.م. وقام الفلكيون في تدمر في عهده بتحديد ميل خسوف القمر ووضعوا جداول لحركات الكواكب . وطلب منهم تحديد حجم الأرض ، وقاسوا محيطها ، فوجدوه 20400 ميل ،وقطرها 6500 ميل. وهذا يدل علي أن العرب كانوا علي علم وقتها ،بأن الأرض كروية قبل كويرنيق بخمسة قرون . كما طلب المأمون منهم وضع خريطة للأرض . وفي علم الفلك أثبتوا دورانها. وقياساتهم تقريبا لها تطابق ما قاسه علماء الفلك بالأقمار الصناعية ، وأنهم كانوا يعتقدون خطأ أنها مركز الكون، يدورحولها القمر والشمس والكواكب. وهذا الإعتقاد توارد إليهم من فكر الإغريق . واكتشفوا الكثير من النجوم والمجرات السماوية وسموها بأسمائها العربية التي مازالت تطلق عليها حتي الآن. وكانت كل الأبحاث في الفلك والرياضيات في العصر العباسي قد إنفرد بها العلماء المسلمون وقد نقلوها عن الهنود الذين قد ترجموها عن الصينيين للعربية وقاموا بتطويرها بشكل ملحوظ.
نهضة علمية مع هذه النهضة العلمية ظهرت الجامعات الإسلامية لأول مرة بالعالم الإسلامي قبل أوربا بقرنين .وكانت أول جامعة بيت الحكمة أنشئت في بغداد سنة 830 م، ثم تلاها جامعة القرويين سنة 859 م في فاس ثم جامعة الأزهر سنة 970 م في القاهرة. وكانت أول جامعة في أوربا أنشئت في "سالرنو" بصقلية سنة 1090 م على عهد ملك صقلية روجر الثاني. وقد أخذ فكرتها عن العرب هناك. ثم تلاها جامعة بادوا بايطاليا سنة 1222 م. وكانت الكتب العربية تدرس بها وقتها. وكان للجامعات الإسلامية تقاليد متبعة وتنظيم .فكان للطلاب زي موحد خاص بهم وللأساتذة زي خاص. وربما اختلف الزي من بلد إلي بلد ومن عصر إلي عصر. وقد أخذ الأوربيون عن الزي الجامعي الإسلامي الروب الجامعي المعمول به الآن في جامعاتهم. وكان الخلفاء والوزراء إذا أرادوا زيارة الجامعة الإسلامية يخلعون زي الإمارة والوزراة ويلبسون زي الجامعة قبل دخولها .وكانت اعتمادات الجامعات من ايرادات الأوقاف. فكان يصرف للطالب المستجد زي جديد وجراية لطعامه. وأغلبهم كان يتلقى منحة مالية بشكل راتب وهو ما يسمى في عصرنا بالمنحة الدراسية. فكان التعليم للجميع بالمجان يستوي فيه العربي والأعجمي والأبيض والأسود.
وبالجامعات كان يوجد المدن الجامعية المجانية لسكني الغرباء وكان يطلق عليها الأروقة. والطلبة كان يطلق عليهم المجاورون لسكناهم بجوارها. وكان بالجامعة الواحدة أجناس عديدة من الأمم والشعوب الإسلامية يعيشون في إخاء ومساواة تحت مظلة الإسلام والعلم. فكان من بينهم المغاربة والشوام والأكراد والأتراك وأهل الصين وبخارى وسمرقند. وحتى من مجاهل افريقيا وآسيا وأوروبا . وكان نظام التدريس في حلقات بعضها يعقد داخل الفصول. وأكثرها كان في الخلاء بالساحات أو بجوار النافورات بالمساجد الكبري. وكان لكل حلقة أستاذها يسجل طلابها والحضور والغياب.ولم يكن هناك سن للدارسين بهذه الجامعات المفتوحة . وكان بعض الخلفاء والحكام يحضرون هذه الحلقات.وكانوا يتنافسون في استجلاب العلماء المشهو رين من أنحاء العالم الإسلامي ،ويغرونهم بالرواتب والمناصب، ويقدمون لهم أقصى التسهيلات لأبحاثهم. وكان هذا يساعد على سرعة انتشار العلم وانتقال الحضارة الإسلامية بديار الإسلام.(5/113)
كانت الدولة الإسلامية تعني بالمرافق الخدماتية والعامة بشكل ملحوظ. فكانت تقيم المساجد ويلحق بها المكتبات العامة المزودة بأحدث الإصدارات في عصرها ودواوين الحكومة والحمامات العامة ومطاعم الفقراء وخانات المسافرين علي الطرق العامة ولاسيما طرق القوافل التجارية العالمية، وطرق الحج التراثية وإنشاء المدن والخانقاهات والتكايا المجانية للصوفية واليتامي والأرامل والفقراء وأبناء السبيل. واقيمت الأسبلة لتقدم المياه للشرب بالشوارع . وكان إنشاء البيمارستنات (المستشفيات الإسلامية) سمة متبعة في كل مكان بالدولة الإسلامية يقدم بها الخدمة المجانية من العلاج والدواء والغذاء ومساعدة أسر المرضي الموعزين .وكلمة باريمستان بالفارسيةهو مكان تجمع المرضي ،وكلمة مستشفي معناها بالعربية مكان طلب الشفاء .لهذا كان الهدف من إنشاء هذه المستشفيات غرضا طبيا وعلاجيا. عكس المستشفيات في أوربا وقتها ،كانت عبارة عن غرف للضيافة ملحقة بالكنائس والأديرة لتقدم الطعام لعابري السبيل أو ملاجيء للعجزة والعميان والمقعدين ولم تكن للتطبيب. وكان يطلقون على هذه الغرف كلمة مضيفة، وهي مشتقة من كلمة ضيافة. وأول مستشفي بني بإنجلترا في القرن 14م. بعد إنحسار الحروب الصليبية علي المشرق العربي، بعدما أخذ الصليبيون نظام المستشفيات الإسلامية والطب العربي عن العرب . وكان أول مستشفي في الإسلام بناه الوليد بن عبد الملك سنة 706 م (88 هـ) في دمشق. وكان الخلفاء المسلمون يتابعون إنشاء المستشفيات الإسلامية الخيرية بإهتمام بالغ. ويختارون مواقعها المناسبة من حيث الموقع والبيئة الصالحة للإستشفاء والإتساع المكاني بعيدا عن المناطق السكنية. وأول مستشفى للجذام بناه المسلمون في التاريخ سنة 707 م بدمشق.
في حين أن أوربا كانت تنظر إلى الجذام على إنه غضب من الله يستحق الإنسان عليه العقاب حتى أصدر الملك فيليب أمره سنة 1313 م بحرق جميع المجذومين في النار. وكانت المستشفيات العامة بها أقسام طب المسنين ، بها أجنحة لكبار السن وأمراض الشيخوخة . وكانت توجد المستشفيلت الخاصة. والمستوصفات لكبار الأطباء بالمستشفيلت العامة ..
ومن المعروف أن الدولة الإسلامية في عصور ازدهارها كانت تعطي أهمية قصوى لمرافق الخدمات العامة مثل المساجد ودواوين الحكومة والحمامات والمطاعم الشعبية واستراحات المسافرين والحجاج. وبديهي أن تكون أهم هذه المرافق المستشفيات.. فقد كانت تتميز بالاتساع والفخامة والجمال مع البساطة. ومن بين هذه المستشفيات التراثية اليوم مستشفي السلطان قلاوون ومستشفي أحمد بن طولون بالقاهرة والمستشفي السلجوقي بتركيا . وكانت مزودة بالحمامات والصيدايات لتقديم الدواء والأعشاب. والمطابخ الكبيرة لتقديم الطعام الطبي الذي يصفه الأطباء للمرضي حسب مرضهم . لأن الغذاء المناسب للمرض كانوا يعتبرنه جزءا من العلاج .
ويشتمل المستشفى الكبير (الجامعي) على قاعة كبيرة للمحاضرات والدرس وامتحان الأطباء الجدد وملحق بها مكتبة طبية ضخمة تشمل على المخطوطات الطبية. والمشاهد لهذه المستشفيات سيجدها أشبه بالقصورالضخمة والمتسعة، بل والمنيفة. وحول المبني الحدائق ومن بينها حديقة تزرع فيها الأعشاب الطبية.ولم يأت منتصف القرن العاشر م. حتى كان في قرطبة بالأندلس وحدها خمسون مستشفي وأكثر منها في دمشق وبغداد والقاهرة والقيروان علاوة المستشفيات المتنقلة والمستشفيات الميدانية لجرحي الحرب، والمستشفيات التخصصية كمستشفيات الحميات التي كان بها معزل طبي لعزل الأمراض المعدية.
وفيها كان يبرد الجو وتلطف الحرارة بنوافير المياه أو بالملاقف الهوائية. ومستشفيات للجراحةالتي كان يشترط فيها الجو الجاف ليساعد على التئام الجروح. لكثرة حروب المسلمين فقد طوروا أساليب معالجة الجروح فابتكروا أسلوب الغيار الجاف المغلق وهو اسلوب نقله عنهم الأسبان وطبقوه لأول مرة في الحرب الاهلية الأسبانية ثم عمم في الحرب العالمية الأولى بنتائج ممتازة. وهم أول من استعمل فتيلة الجرح لمنع التقيح الداخلي وأول من استعمل خيوطا من مصارين الحيوان في الجراحة الداخلية.. ومن أهم وسائل الغيار على الجروح التى أدخلها المسلمون استعمال عسل النحل الذي ثبت حديثا أن له خصائص واسعة في تطهير الجرح ومنع نمو البكتريا فيه..
[تحرير] العمارة
المقال الرئيسي: عمارة إسلامية
قصر الحمراء بغرناطة
قصر الحمراء بغرناطة(5/114)
وكان المعمار الإسلامي بعتمد علي النواحي التطبيقية لعلم الحيل وهذا يتضح في إقامة المساجد والمآذن والقباب والقناطر والسدود فلقد برع المسلمون في تشييد القباب الضخمة ونجحوا في حساباتها المعقدة التي تقوم علي طرق تحليل الإنشاءات القشرية. فهذه الإنشاءات المعقدة والمتطورة من القباب مثل قبة الصخرة في بيت المقدس وقباب مساجد الأستانة والقاهرة والأندلس والتي تختلف اختلافا جذرياً عن القباب الرومانيةوتعتمد إعتمادا كليا علي الرياضيات المعقدة. فلقد شيد البناؤن المسلمون المآذن العالية والطويلة والتي تختلف عن الأبراج الرومانية . لأن المئذنة قد يصل إرتفاعها لسبغين مترا فوق سطح المسجد .وأقاموا السدود الضخمة أيام العباسيين والفاطميين والأندلسيين فوق الأنهار كسد النهروان وسد الرستن وسد الفرات. كما أقاموا سور مجري العيون بالقاهرة أيام صلاح الدين الأيوبيوكان ينقل الماء من فم الخليج علي النيل إلي القلعة فوق جبل المقطم. وكانت ساقية تدار بالحيوانات ترفع المياه لعشرة أمتار ليتدفق في القناة فوق السور وتسير بطريقة الأواني المستطرقة لتصل القلعة . تتميز الحضارة الإسلامية بالتوحيد والتنوع العرقي في الفنون والعلوم والعمارة طالما لاتخرج عن نطاق القواعد الإسلامية . ففي العمارة بنى أبو جعفر المنصورالخليفة العباسي، على نهر دجلة عاصمته بغداد سنة (145- 149 هـ) على شكل دائري، وهو اتجاه جديد في بناء المدن الإسلامية، لأن معظم المدن الإسلامية، كانت إما مستطيلة كالفسطاط، أو مربعة كالقاهرة، أو بيضاوية كصنعاء. ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أن هذه المدن نشأت بجوار مرتفعات حالت دون استدارتها. ويعتبر تخطيط المدينة المدورة (بغداد)، ظاهرة جديدة في الفن المعماري الإسلامي ولاسيما في المدن الأخرى التي شيدها العباسيون مثل مدينة سامراء وما حوته من مساجد وقصور خلافية فخمة. وظهرت مدن تاريخية في ظلال الحكم الإسلامي كالكوفة والبصرة وبغداد والقاهرة والفسطاط والعسكر والقطائع والقيروان وفاس ومراكش والمهدية والجزائروغيرها. كما خلفت الحضارة الإسلامية مدنا متحفية تعبر عن العمارة الإسلامية كإستانبول بمساجدها والقاهرة بعمائرها الإسلامية وبخاري وسمرقند ودلهي وحيدر أباد وقندهار وبلخ وترمذ وغزنة وبوزجان وطليطلة وقرطبة وإشبيلية ومرسية وسراييفووأصفهان وتبريز ونيقيا والقيروان والحمراء وغيرها من المدن الإسلامية . وكان تخطيط المدن سمة العمران في ظلال الخلافة الإسلامية التي إمتدت من جتوب الصين حتي تخوم جنوب فرنسا عند جبال البرانس. وكانت المدن التاريخية متاحف عمرانية تتسم بالطابع الإسلاني . فكانت المدينة المنورة قد وضع النبي أساسها العمراني والتخطيط حيث جعل مسجده في وسط المدينة ،وألحق به بيته وجعلها قطائع حددلها إتساع شوارعها الرئيسية. وكلها تتحلق حول مسجده. وجعل سوقها قي قلب مدينته. لتكون بلد جنده. وعلى نمط مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم أقيمت مد ن الموصل والكوفة وواسط بالعراق والفسطاط بمصر لتكون أول بلدة إسلامية بأفريقيا . وقد أقامها عمرو بن العاص كمدينة جند فجعل مسجده في قلبها وبجواره دوواين الجند ودار الإمارة ، وحولها قطائع سكنية تتحلق بمسجده . وكل قطعة كانت تضم جنود كل قبيلة . وكذلك كانت مدينة القيروان بشمال أفريقيا .وكان التخطيط العمراني له سماته الشرعية حيث تشق الشوارع بالمدينة الإسلامية تحت الريح لمنع التلوث وتقام الورش تحت خارج المدينة لمنع الإقلاق . وكان تمنح تراخيص للبناء بحيث يكون المبني من طابق أو طابقين . والأسواق كانت مسقوفة لمنع تأثير الشمس. وكان يعين لكل سوق محتسب لمراقبة البيع والأسعار وجودة البضائع والتفتيش علي المصانع للتأكد من عدم الغش السلعي والإنتاجي.وبكل مدينة أو بلدة كانت تقام الحمامات العامةلتكون مجانا. وكان لها مواصفات وشروط متفقط متبعة .وكان يتم التفتيش علي النظافة بها واتباع الصحة العامة. حقيقة كانت الحمامات معروفة لدي الإغريق والرومان. لكنها كانت للموسرين. والعرب أدخلوا فيها التدليك كنوع من العلاج الطبيعي. واقاموا بها غرف البخار (السونا).والمسلمون أول من أدخلوا شبكات المياه في مواسير الرصاص أو الزنك إلى البيوت والحمامات والمساجد.. وقد أورد كتاب "صناعات العرب" رسما وخرائط لشبكات المياه في بعض العواصم الإسلامية. ومعروف أن الكيميائيين العرب قد اخترعوا الصابون. وصنعوا منه الملون والمعطر. وكان في كل حمام مدلك مختص. وآخر للعناية باليدين.. والقدمين وبه حلاق للشعر كما كان يلحق به مطعم شعبي. وقد قدر عدد الحمامات في بغداد وحدها في القرن الثالث الهجري (955 م) حوالي عشرة آلاف حمام وفي مدن الأندلس أضعاف هذا العدد.
ويعتبر المسجد بيتا من ييوت الله حيث يؤدي به شعائر الخمس صلوات وصلاة الحمعة التي فرضت علي المسلمين ويقام فيه تحفيظ القرآن . وبكل مسجد قبلة يتوجه كل مسلم في صلاته لشطر الكعبة بيت الله الحرام . وأول مسجد أقيم في الإسلام مسجد الرسول بالمدينة المنورة. وكان ملحقا به بيته. وإنتشرت إقامة المساجد كبيوت لله في كل أنحاء العالم ليرفع من فوق مآذنها الآذان للصلاة. وقد تنوعت في عمارتها حسب طرز العمارة في الدول التي دخلت في الإسلام . لكنها كلها موحدة في الإطار العام ولاسيما في إتجاه محاريب القبلة بها لتكون تجاه الكعبة المشرفة . وبكل مسجد يوجد المنبر لإلقاء خطبة الجمعة من فوقه . وفي بعض المساجد توجد اماكن معزولة مخصصة للسيدات للصلاة بها . وللمسجد مئذنة واحدة أو أكثر ليرفع المؤذن من فوقها الآذان للصلاة وتنوعت طرزها. وبعض المساجد يعلو سقفها قبة متنوعة في طرزها المعمارية .
وفي المساجد نجد المحراب علامة دلالية لتعيين اتجاه القبلة (الكعبة). وهذه العلامة على هيئة مسطح أو غائر(مجوف) أو بارز .والمسلمون استعملوا المحاريب المجوفة ذات المسقط المتعامد الأضلاع. أو المسقط النصف دائري . وقداختيرت الهيئة المجوفة للمحراب لغرضين رئيسين هما، تعيين اتجاه القبلة، وتوظيف التجويف لتضخيم صوت الإمام في الصلاة ليبلغ المصلين خلفه في الصفوف. وكانت تجاويف المحاريب تبطن وتكسى بمواد شديدة التنوع كالجص والرخام والشرائط المزخرفة بالفسيفساء أو المرمر المزخرف.ونري المحاريب التي شيدها المماليك في مصر والشام من أبدع المحاريب الرخامية ، حيث تنتهي تجويفة المحراب بطاقية على شكل نصف قبة مكسوة بأشرطة رخامية متعددة الألوان. وأبرع الفنانون المسلمون في استخدام مختلف أنواع البلاطات الخزفية لتغشية المحاريب أما الخزافون في الشرق، فقد إساخدموا استخداموا بلاطات الخزف ذات البريق المعدني والخزف الملون باللون الأزرق الفيروزي. وقد حفلت المحاريب بالكتابات النسخية التي تضم آيات من القرآن الكريم، بجانب الزخارف النباتية المميزة بالتوريق والأرابيسك . كما إستخدمت فيها المقرنصات الخزفية لتزيين طواقي المحاريب. وجرت العادة وضع المحراب في منتصف جدار القبلة بالضبط ليكون محوراً لتوزيع فتحات النوافذ على جانبيه بالتوازن.(5/115)
و المئذنة (المنارة) الملحقة ببنايات المساجد لها سماتها المعمارية .و تتكون من كتلة معمارية مرتفعة كالبرج وقد تكون مربعة أو مستديرة أو بها جزء مربع وأعلاها مستدير. وبداخلها سلم حلزوني (دوار) يؤدي إلي شرفة تحيط بالمئذنة ليؤذن من عليها المؤذن وليصل صوته أبعد مدى ممكن. والمآذن المملوكية تتكون من جزء مربع ثم جزء مثمن ثم جزء مستدير بينهم الدروات ويعلوها جوسق ينتهى بخوذة يثبت بها صوارى تعلق بها ثرايات أو فوانيس. ومئذنة مدرسة لغورى بالقاهرة، أقيم في طرفها الغربى منار مربع يشتمل على ثلاثة أدوار يعلو الدور الثالث منها أربع خوذ كل خوذة منها في دور مستقل، ومحمولة على أربعة دعائم وبكل خوذة ثلاث صوارى لتعليق القتاديل أو الثريات.
[تحرير] الفنون
المقال الرئيسي: فن إسلامي
مخطوط أندلسي للقرآن من القرن الثاني عشر.
مخطوط أندلسي للقرآن من القرن الثاني عشر.
فن التصوير، أي رسم الإنسان والحيوان. فبالرغم من أن بعض علماء المسلمين الأولين، اعتبروه مكروهاً، إلا أنهم لم يفتوا بتحريمه أيام خلفاء بني أمية وبني العباس. فقد ترخصوا في ذلك حيث خلفوا صورا آدمية متقنة على جدران قصورهم التي اكتشفت آثارها في شرق الأردن وسامراء ، أو في الكتب العربية الموضحة بالصور الجميلة التي رسمها المصورون المسلمون كالواسطي وغيره، في مقامات "الحريري " وكتاب "كليلة ودمنةالتصوير في الفن الإسلاميوفن التصوير إقتصر أول الأمر على رسوم زخرفية لمناظر آدمية وحيوانية رسمت بالألوان على جدران بعض قصور الخلفاء والأمراء كما يري في إطلال قصور قصير عمرو والطوبة وسامراء ونيسابور والحمام الفاطمي بالفسطاط غير أن التصوير في الفنون الإسلامية اكتشف مجاله الحقيقي في تصوير المخطوطات منذ القرن الثالث الهجري - التاسع الميلادي - ومن اقدم المخطوطات المصورة مخطوطة في علم الطب محفوظة بدار الكتب المصرية بالقاهرة وأخرى لكتاب مقامات الحريري ومحفوظة بالمكتبة الأهلية في باريس وهما مزدانتان بالرسوم والصور وتمت كتابتها وتصويرها في بغداد سنة 619 - 1222- وكانت فارس قد تولت ريادة فن التصوير الإسلامي إبان العصر السلجوقي ونهض نهضة كبيرة في عصر المغول في أواخر القرن السابع حتى منتصف القرن الثامن -الثالث عشر والرابع عشر الميلادي - وكان أشهر المخطوطات المصورة (جامع التواريخ) للوزير رشيد الدين في أوائل القرن السابع الهجري والشاهنامة للفردوسي التي ضمت تاريخ ملوك الفرس والأساطير الفارسية والمخطوطات المصورة في بغداد لكتاب كليلة ودمنة .وكان الأسلوب الفني في صور هذه المخطوطات المغولية متأثرا إلى حد كبير بالأسلوب الصيني سواء من حيث واقعية المناظر أو استطالة رسوم الأجسام أو اقتضاب الألوان .وأخذ فن التصوير الإيراني ينال شهرة عالمية في العصر التيموري وبخاصة في القرن التاسع الهجري - الخامس عشر الميلادي - وقد ظهرت فيه نخبة من كبار الفنانين الذين اختصوا بتصوير المخطوطات مثل خليل وأمير شاهي وبهزاد ويتميز التصوير الإيراني بصياغة المناظر في مجموعات زخرفية كاملة تبدو فيها الأشكال كعناصر تنبت من وحدة زخرفية وتتجمع حولها أو تمتد وتتفرع مع حرص المصورين على ملاحظة الطبيعة ومحاولاتهم محاكاتها والتعبير عن مظاهر الجمال والحركة فيها بسمائها ونجومها وأقمارها وبما تحتويه من جبال ووديان وأشجار وأزهار وبما فيها من رجال ونساء وأطفال وطيور وحيوان. وكانت العلاقة قوية بين الشعر والتصوير حيث كان التصوير نوعا من الموسيقى والمصور أشبه بالملحن لكتاب الشاعر . فكان يضع الشعر المكتوب في أشكال محسوسة ليطبع التفكير والخيال بنوع من الحقيقة والحركات المتنوعة. مما يجعله يعبر في ألوانه عن هذه الروح الموسيقية وتلك الحساسية الشاعرية. فكانت الألوان تمتزج في صوره امتزاجا عجيبا بين الزهاء والهدوء وتنسجم انسجام الألحان في المقطوعة الموسيقية بحيث تختلف الألوان في الصورة الواحدة وتتعدد. كما تختلف فيها درجات اللون الواحد الذي ينبثق من صفاء السماء وينعكس فيه أشعة الشمس الذهبية الصافية. فالتصوير الإيراني كان فنا تعبيريا عن الشاعرية والعاطفة من خلال تسجيل ما في الطبيعة من حقائق جذابة وما في القلوب من خيال أخاذ ونغمات دفينة ..
الزخرفة
وتعتبر الزخرفة لغة الفن الإسلامي، حيث تقوم على زخرفة المساجد والقصور والقباب بأشكال هندسية أو نباتية جميلة تبعث في النفس الراحة والهدوء والانشراح. وسمي هذا الفن الزخرفي الإسلامي في أوروبا باسم "أرابسك" بالفرنسية وبالأسبانية "أتوريك" أي التوريق. وقد إشتهر الفنان المسلم فيه بالفن السريالي التجريدي من حيث الوحدة الزخرفية النباتية كالورقة أو الزهرة،
توقيع طغرة السلطان عبد الحميد الأول
توقيع طغرة السلطان عبد الحميد الأول
وكان يجردها من شكلها الطبيعي حتى لا تعطى إحساسا بالذبول والفناء، ويحورها في أشكال هندسية حتى تعطي الشعور بالدوام والبقاء والخلود. و وجد الفنانون المسلمون في الحروف العربية أساسا لزخارف جميلة. فصار الخط العربي فناً رائعاً، على يد خطاطين مشهورين. فظهر الخط الكوفي الذي يستعمل في الشئون الهامة مثل كتابة المصاحف والنقش على العملة، وعلى المساجد، وشواهد القبور. ومن أبرز من اشتهر بكتابة الخط الكوفي، مبارك المكي في القرن الثالث الهجري، وخط النسخ الذي استخدم في الرسائل والتدوين ونسخ الكتب، لهذا سمي بخط النسخ. وكان الخطاطون والنساخ يهتمون بمظهر الكتاب، ويزينونه بالزخرف الإسلامية. كما كانت تزين المصاحف وتحلى المخطوطات بالآيات القرآنية والأحاديث المناسبة التي كانت تكتب بماء الذهب.
[تحرير] الصناعة
[تحرير] صناعة السفن والملاحة
وكانت صناعة السفن في كل أنحاء العالم الاسلامي في ظلال الخلافة الإسلامية الأموية والعباسية .فلقد ظهرت صناعة السفن والأساطيل في موانيء الشام بعكا وصور وطربلس وبيروت وحيفا . وفي المغرب كانت هناك طرابلس وتونس وسوسة وطنجة ووهران والرباط. وفي الأندلس اشتهرت إشبيلية ومالقة ومرسية وفي مصر اشتهرت المقس والاسكندرية ودمياط وعيذاب (على ساحل البحر الأحمر).وكانت المراكب النيلية تصنع بالقاهرة .وكانت ترسانات البحرية لصناعة السفن يطلق عليها دور الصناعة . وكان الأسطول يتكون من عدة أنواع من السفن مختلفة الحجم ولكل نوع وظيفة. فالشونة كانت حاملات للجنود، والأسلحة الثقيلة
وفي علوم الملاحة وعلوم البحار كتب الجغرافيون المسلمون كتبهم. فضمنوها وصفا دقيقا لخطوط الملاحة البحرية، كماوضعوا فيها سرودا تفصيلية لكل المعارك الإسلاميةالبحرية، ثم وصفوا فيها البحار والتيارات إلما ئية والهوائية، ومن أشهر الجغرافيين العرب المسعودي والمقدسي وياقوت الحموي والبكري والشريف الادريسي ومن الرحالة ابن جبير وابن بطوطة. وهناك كتب ابن ماجد في علوم البحار مثل كتاب "الفوائد في أصول علم البحر والقواعد" وأرجوزته بعنوان "حاوية الاختصار في اصول علم البحار" وهناك مخطوط باسم سليمان المهري عنوانه "المنهاج الفاخر في العلم البحري الزاخر: و"العمدة المهرية في ضبط العلوم البحرية".
[تحرير] المصادر
... هناك كتاب ، عبقرية الحضارة الإسلامية، في ويكي الكتب.
* الموسوعة العربية
* عبقرية الحضارة الإسلامية لأحمد محمد عوف.
* موسوعة حضارة العالم لأحمد محمد عوف.
================
الحضارة التائهة
صورة للسلطان عبد الحميد الثاني(5/116)
راودتني فكرة هذا المقال منذ عشرين عاماً، فكرت فيها طويلاً، وقرأت عنها كثيراً إلى أن بلورتها وأوجزتها في عنوان هذا المقال.
كنت أعرض فكرتي وأوضحها للناس فيعجبون بها ويؤيدونها ولكنهم لم يحفزونني بالقدر الذي يدفعني للكتابة عنها في مقال مستقل رغم أنني بثثتها في العديد من مقالاتي وبرامجي التي أعدها، إلى أن دعيت إلى لقاء للاستماع إلى المؤرخ الكبير الأستاذ محمد حرب حفظه الله ، مترجم مذكرات السلطات عبد الحميد الثاني رحمه الله، تلك المذكرات التي كانت المحرك الأول لفكرتي والدافع لي لتعرف تاريخ الدولة العلية العثمانية، فقد تعلمت من هذه المذكرات عظمة السلطان العظيم عبد الحميد الثاني رحمه الله، ومن ثم تعرفت تاريخ الدولة العلية العثمانية، وجمعت عنها مئات الكتب، وكتبت عنها عشرات المقالات ولم أترك مناسبة إلا وتكلمت فيها عن الدولة العثمانية والخلافة الإسلامية، ولهذا السبب دعيت الليلة 14/6/2004م للقاء المؤرخ الحبيب الذي أحببته دون أن أراه، وتعلمت منه دون أن أجلس إليه، راودتني فكرة المقال بقوة وعندما عرضتها على الدكتور محمد حرب حفظه الله قال: هذه فكرة متميزة، وهذا الذي جعلني اكتب هذا المقال وأنا مطمئن تماماً لصحة فكرتي وجدواها .
تبدأ قصة هذا المقال بالدولة النبوية الإسلامية الأولى في المدينة المنورة التي أسسها المصطفى صلى الله عليه وسلم ومعه الصحابة رضي الله عنهم بوحي من الله، وبالعمل المخلص الجاد من الصحابة، فكانت تلك الدولة هي الجزيء الوراثي العجيب الذي يحمل في خارطته الوراثية كل خصائص الحضارة الإسلامية القوية موثقة بالوحي وجهود المؤمنين على خيطي الجزيء الوراثي الإسلامي ، القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ، بدأت تلك الدولة ضعيفة مهاجرة من مكة إلى المدينة، وبلغت ذروتها وكملت وحصلت على الوسام الإلهي المعجز { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً } [المائدة : 3] . وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم ، وبدأ المرتدون يهدمون في الدولة الإسلامية، فقام الصحابة رضوان الله عليهم بحمايتها من أعدائها بقتال الصديق للمرتدين ، وبلغ التطبيق العملي ذروته في عهد الفاروق، وبدأت الخلافات في عهد ذي النورين ، ثم وصلت الدولة الراشدة إلى الفتنة الكبرى في عهد أبي الحسن رضي الله عنهم أجمعين، وبدأ الأعداء يتربصون للقضاء على الدولة الإسلامية والحضارة الإسلامية .
وهنا تلقف الأمويون ( 40 - 132 هـ 661 - 750 م ) الحضارة الإسلامية وأنشئوا الدولة الأموية التي ظلت تقوى إلى بلغت قمتها في عهد عمر بن عبد العزيز ( 718 - 720 م ) ثم بدأ الضعف يدب في الدولة إلى أن انهارت الدولة الأموية في عهد مروان بن محمد بن مروان بن الحكم ( 744 - 750م ) .
وهنا تلقف العباسيون في بغداد ( 750م - 1258م ) الدولة الإسلامية والحضارة الإسلامية ثم قويت الدولة إلى بلغت ذروتها في عهد هارون الرشيد ( 786 - 809م ). والمأمون بن هارون الرشيد ( 813 - 833م ) ثم ضعفت ووصلت إلى عهد المستعصم بالله في بغداد ( 1242 - 1258م )، والمتوكل على الله في مصر ( 1515 - 1516م ).
وهنا تلقف المماليك البحرية ( 1250 - 1279 ) ، والمماليك البرجية ( 1279 - 1381م ) ، والمماليك الشراكسة ( 1382 - 1517م ) ، تلقفوا ، الحضارة الإسلامية ليعيدوها من طور الضعف إلى طور القوة والذروة ثم بدأ الضعف يدب في الدولة رويداً رويداً إلى أن ضعفت كما سبق .
وهنا تلقفت الدولة العلية العثمانية ( 1299 - 1924م ) الحضارة الإسلامية والدولة الإسلامية من حالة الضعف لتصل إلى أوج قوتها في عهد سليمان القانوني ( 1520 - 1566م ) وبدأ الضعف يدب في الدولة العثمانية رويدا رويدا إلى أن ضعفت كما ضعفت الدولة الأموية والدولة العباسية ودولة المماليك.
وهنا تطلعت الحضارة الإسلامية إلى من تعودت منهم إنقاذها بضعف الدولة التي تحميها وتحمل رسالتها ، فنادها المسلمون العرب لكي يقيموا دولة الخلافة الإسلامية العربية ، وجاءت الحضارة الإسلامية كعادتها إلى أبنائها في البلاد العربية ، وخاصة في الجزيرة العربية ومكة والمدينة ، ولكن للأسف ولأول مرة في حياتها لم تجد أبناءها في انتظارها، وجدتهم قد تخلوا عنها وخانوها، لم تجدهم كأبنائها من الخلفاء الراشدين، والأمويين، والعباسيين، والمماليك، والعثمانيين، بل وجدتهم قبليين جهلاء طامعين مخدوعين جرفهم الاستعمار إلى أحضانه، وضحك عليهم لورانس العرب بعقاله وشماغه، وضللهم مكماهون وقسمهم سايكس - بيكو، وألهوهم بسراب حكمهم للدولة الإسلامية ومصالحهم الشخصية.
توماس إدوارد لورنس.
جاءت إليهم الحضارة الإسلامية فلم تجدهم في استقبالها ، فتاهت في محطة الوصول العربية وبلد الوصول المفتنة بالفتن والمطامع الجاهلية فتاهت ولم تزل تائهة.
أنها حضارة لن تموت لأن جزيئاتها الوراثية ربانية ، ولكنها تائهة فقط وسيقيض الله لها من أحفادها من بعيدون لها دورتها ، لتصل إلى ذروتها بإذن الله (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة : 32] وهكذا أخوة الإسلام تاهت الحضارة الإسلامية ، فمن منا ينادي عليها ، وينادي على المخلصين من أحفادها ليعيدوها إلى ديارها الإسلامية ، ويعيدوها إلى سابق عهدها وإلى تكملة رسالتها الإنسانية؟ فبغيابها طغت الحضارة المادية اللا أخلاقية التي انتهكت حرمات المسلمين في فلسطين، والبوسنة، والهرسك، والشيشان، والصومال، والسودان، وأفغانستان، والعراق و . . . و . . .
لا تفقدوا الأمل أخوة الإسلام فالمستقبل لهذا الدين، والحقبة التالية من التاريخ هي حقبة المسلمين بإذن الله .
الدكتور : نظمي خليل أبو العطا
مع الصائمين العدد ( 9715 ) الخميس 14 رمضان 1425 هـ - 28 أكتوبر 2004 م
===============
ملامح الوحدة في حضارة العالم الإسلامي
حضارات ما قبل الإسلام
الحضارة الإسلامية، مثل غيرها من الحضارات، لم تنشأ من فراغ ، ولم تظهر من العدم أو من تلقاء نفسها، بل سبقتها حضارات عريقة أخرى في هذه المنطقة من العالم، تواصلت معها وأثرت فيها.
ففي القرن الرابع قبل الميلاد، قام الاسكندر المقدوني (356- 323 ق. م) بأول محاولة لإقامة دولة واحدة تشمل أقاليم من أوروبا وأسيا وأفريقيا، وتمتد من مقدونيا إلى الهند. ولم يكتف الاسكندر بهذا التوحيد السياسي، بل اتخذ وسائل أخرى لتوحيد العناصر البشرية في هذه المنطقة من العالم، مثل احترام جميع أديانها، والصلاة ني مختلف معابدها، وتأسيس عدد كبير من المدن الجديدة التي عرفت باسم "الإسكندريات " نسبة لاسمه، ويقدر عددها بنحو 27 مدينة، بعضها في بلخ وصغديانا ، وفي أسفل القوقاز، وفي مصر... الخ. وكان هدفه من وراء ذلك أن تختلط في هذه المدن عناصر بشرية من السكان الأصليين مع الجاليات اليونانية ، لينشأ من هذا الاختلاط ثقافة جديدة، تستمد أصولها من الحضارات السابقة.
وهكذا صارت "الإسكندريات " بمثابة بوتقات علمية، تنصهر فيها هذه الثقافة الجديدة.
وقد حرص الاسكندر الأكبر على تطبيق هذه المبادرة على نفسه، ليكون قدوة لغيره حين تزوج الأميرة روكسانا الفارسية ، وأمر قواده ان يفعلوا مثله.(5/117)
وعلى الرغم من أن دولة الاسكندر لم تلق نجاحاً بعد وفاته، إذ تفككت إلى ممالك متفرقة بين قواده ، إلا أن الحركة العلمية التي كان ينشدها استمرت وازدهرت من بعده، وهي التي اشتهرت باسم "العصر الهلنستي " ، تمييزاً لها عن العصر الهليني الذي ساد اليونان قبل عصر الاسكندر. ومن أشهر المراكز الهلنستية الجديدة، مدينة الإسكندرية المصرية بمكتبتها ومدرستها العلمية التي كانت مزيجا من كل الحضارات السابقة، وخصوصا الحضارة المصرية القديمة.
وفي شمال الهند في حوض نهر السند ، حاول الملك الهندي أشوكا Ashoka في القرن الثالث قبل الميلاد، أن يجعل من البوذية دينا عالميا، وبشر به ملوك الأرض ولا سيما في بلاد الإغريق والدول الهلنستية ، لإقامة وحدة عالمية. وعلى الرغم من أن عدداً كبيراً من اليونانيين اعتنقوا البوذية، إلا أن محاولته لم تلق الاستمرار والنجاح، وبقيت البوذية قاصرة على أقاليمها في الهند والشرق الآسيوي .
ومحاولة الملك أشوكا في الهند تذكرنا بمحاولة شبيهة رائدة ، سبقتها بوقت طويل على يد فرعون مصر الملك أخناتون في القرن الرابع عشر قبل الميلاد (الأسرة 18)، عندما بشر في نشيده المشهور بإله العالم "أتون " الذي يهتم بكل مظاهر الطبيعة ، إنسانها وحيوانها ونباتها، وكأنما أراد بذلك إقامة وحدة عالمية روحية، تربط على الأقل بين أجزاء مملكته الممتدة من الشام شمالاً إلى النوبة جنوباً .
وما يقال عن مصر والهند واليونان ، يقال أيضاً عن الحضارة الفارسية ذات التراث الآسيوي العريق ، والتقاليد الملكية القديمة ، والنظم الإدارية المتطورة، إلى جانب المراكز الهلينية المنتشرة في أنحائها مثل بلخ ، ومرو ، وجنديسابور... وغيرها. لقد بد أ الإيرانيون حياتهم الدينية مثل كثير من شعوب العالم ، بعبادة قوى الطبيعة ، ثم ظهرت "الزرادشتية" على يد مؤسسمها زرادشت zoroustre في القرن السابع قبل الميلاد ، منادية بأن الوجود قائم على مبدأين أساسيين هما: الخير (أهورا ويسمى يزدان) ، والشر (أهرمن) ، أو النور والظلام. وبما أن النور مصدره الشمس، والشمس من نار، لهذا لعبت النار دوراً هاماً في هذه العقيدة ، باعتبارها مصدر الإشراق والنور والضياء، فقدسوها وعبدوها، وصار لهم كتاب مقدس يعرف "بالأفستا" أي المعرفة. غير أن الزرادشتية لم تلبث مع مرور الزمن بسبب سيطرتها وتعصبها، أن ووجهت بحركات دينية مضادة مثل "المانوية، على يد "ماني Manes" في القرن الثالث الميلاري، وأتباعها لهم نزعة صوفية هدامة، تحض الناس على التقشف وعدم الزواج والإنتاج، ويرون ان الخير في العدم المطلق. ولهذا حوربت وبقيت دعوة سر ية.
وإذا كانت "المانوية" 3 دعت إلى الزهد والبعد عن النساء، فإن ديناً آخر لم يلبث أن ظهر في ايران وهو "المزدكية" على يد صاحبه "مزدك " الذي دعا الناس إلى حل مشكلاتهم ونبذ خلافاتهم بجعل الحق في الأموال والنساء مشاعاً بينهم. وقد نجح سعيه بين العوام والمحرومين، ولكته مات قتيلاً في منتصف القرن السادس الميلادي ، وبقيت دعوته سرية مثل "المانوية" وكل هذا يدل على حالة الاضطراب والفوضى الدينية فى إيران قبيل الإسلام.
وهكذا نرى مما تقدم، أنه كانت هناك في هذه المنطقة من العالم، حضارات عريقة نشأت قبل الإسلام، وسادتها روابط وصلات مختلفة، بل كانت هناك محاولات لتوحيد بعض مكوناتها لم يكتب لها النجاح، ولكنها مع ذلك صبغت هذه المنطقة بروح جديدة وهي الروح الشرقية التي أخضعت الفلسفة اليونانية لما دخلت بلادها، فأسبغت عليها ثوباً من روحانياتها وإلهامها ، وهي الروح التي جعلت علماء التاريخ والاجتماع يدركون خصائص مشتركة بين الشرق، تخالف تلك التي للغرب، روح ورثها الشرقي من أجيال ، وساعدت على تكوينها بيئاتهم الطبيعية والاجتماعية، وجعلتهم يتذوقون غير ما يتذوقه الغربي، ويدركون الأشياء على غير النمط الغربي، كما جعلت لهم مدنيات تحالف من وجوه كثيرة المدنيات الغربية . جاءت الأديان المختلفة من: بوذية وزرادشتية ويهودية ونصرانية، فصبغت هذه الروح صبغة خاصة، صبغة لا مادية، تؤمن بإله فوق العالم، وترجو جنة، وتخاف ناراً، وترى أن وراء هذه السعادة الدنيوية، والشهوات الجسمية، سعادة أخرى روحية.
جاء الإسلام كمنهج حياة ، يرسم الطريق وينير سبل الهداية. منه انبثق الحل العلمي والدائم لمشاكل الإنسانية التي كانت تشكو من الفراغ الديني والفكري والسياسي والثقافي ، فالفكر اليوناني- الإغريقي لم يؤمن إلا بالمحسوس وافتتن بلذائذ الدنيا ومغريات الحياة وغلبت عليه النزعة الإقليمية الضيقة باعتماده على المنهج الاستنباطي أو القياس القائم أساساً على النظر الفلسفي والفكري المادي دون الالتفات لمنهج التجربة فكأن الفكر اليوناني اقتصر على المادية ثقافة وعلماً وفلسفةً وشعراً ودنيا.
والفكر الروماني مجد القوة العسكرية إلى حد العبادة والتقديس، وتميز بالنظرة المادية المحضة إلى الحياة، فكانت محصلته ، غلوا في تقدير الحياة وشكاً في الدين وضعفاً في اليقين واضطراباً في العقيدة ، فتعددت الآلهة، وترتب على ذلك أحداث البغضاء بين الله والإنسان، وما الحياة عندهم إلا فرصة للتمتع، ترف في العيش وانتهاب للذات. والفكر الفارسي قبل الإسلام اعتمد تقوية السلطان والقوة الجسدية وقال بجريان الدم الآلهي في عروق أكاسرته وأشاع بين الناس نظرية التفاوت الطبقي.
وعلى الجانب الآخر من العالم، في الصين والهند، كان الاختلال يبدو واضحا فيما يتصل بالجوانب النظرية أو الجوانب العملية من حياة الإنسان فيطغى أحدهما على الآخر، إذ يغرق أحياناً في الروحانيات أو يطغى في الماديات، فلا توازن ولا انسجام.
وبنزول الإسلام اتضحت معالم الحياة الدنيوية والأخروية تمام الوضوح فبالألوهية والربوبية ، تحققت العدالة والمساواة والكرامة والحرية للإنسانية، فالله سبحانه وتعالى وحده هو المعبود، والمسلم ينقاد ويخضع لأوامر الله سبحانه وتعالى وحده، والله جل جلاله هو مالك كل شيء، ولم يكن الإسلام محدود المكان ولا وطني النزعة ولا مغلقاً على أهله ولا طبقياً، وإنما كان إنسانياً عاماً، واسع الأفق، يخاطب أي إنسان في أي مكان ويقيم أخوة إنسانية عامة .{ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم } (الحجرات ـ آية 13 ) .
وكانت نظرة الإسلام للإنسان والحياة شاملة، فقد أقر الإنسان كجسم وعقل وروح، في الجسم، النوازع والغرائز ، والعقل وسيلة لتحقيق الرغبات والنوازع وتذليل العقبات التي تعترض ذلك، والروح، مركز الأمل والألم والعواطف والشعور، وكان التهذيب هو عامل التوازن بين الروحانية والمادية ، فالروحانية المهذبة هي أساس المادية المهذبة " وابتع فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا " (القصص- أية 77) وفي الأثر، إن لربك عليك حقاً ، إن لجسمك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه.
وفي الإسلام، تظل علاقة الإنسان بخالقه ، علاقة قوامها التنظيم والهيمنة ، فالإنسان المسلم يسلم نفسه لبارئه وخالقه، بلا واسطة، وإنما برقابة ذاتية تنبىء عن شخصية قوية مستقلة للإنسان المسلم عبدت الله سبحانه وتعالى حق عبادته وانكبت إلى دنياها فتمتعت بحقها في الحياة كما أمر الله جل جلاله.(5/118)
فلما جاء الإسلام وننشر نوره عن هذه الممالك الشرقية، زاد هذه الروح وقواها، وعمل على توحيدها بين أفراد الدولة الإسلامية مهما اختلفت أجناسهم وأنواعهم. وهكذا نجح الإسلام بوصفه عقيدة دينية ومنهجاً للحياة وقوة موحدة، في إقامة وحدة بشرية في رحاب الخالق، تقوم على الحرية والمساواة والتسامح، وتعمل على إزالة الحواجز السياسية بين البلاد المختلفة الممتدة في القارات الثلاث، وتعطيها شكلاً موحداً . فكان المسلم يجد نفسه في كل هذه الأماكن: نفس الدين ونفس الصلوات والقوانين، حتى أنه كان يشعر دائمإً بأنه في وطنه خلال رحلاته البعيدة أو أثناء عملياته التجارية خارج بلاده. فالإسلام، كما يقول البعض ، كان بمثابة جواز سفر فوق العادة، يضمن لصاحبه حرية التنقل والمرور، بل وحسن الاستقبال في كل مكان يحل فيه.
ويلاحظ في هذا الصدد أن المجتمع الإسلامي في العصر الوسيط ، لم يكن- كما هو الحال اليوم- ينقسم إلى قوميات، بل كانت هناك طبقات أفقية على طول امتداد عالم الإسلام، فهناك طبقات العلماء والتجار والمتصوفة والجنود... الخ. وكان أفراد كل طبقة يتعاطفون فيما بينهم مهما بعدت المسافات واختلفت الجنسيات. فالرحالة المغربي "ابن بطوطة " يصرح بأنه استطاع بخرقة التصوف أن يجوب بلاد العالم الإسلامي، وأن يجد كل ترحيب ومساعدة في الأماكن التي مر بها. ود هذا يدل على وجود ما يصح أن يسمى أمة واحدة ، لها أدب واحد ، وثقافة واحدة ، وعلم مشترك.
فالعالم الإسلامي إذن يمثل وحدة تاريخية فريدة من نوعها مهما باعدت بين أجزاء هذا العالم المسافات، وفرقت بين أطرافه المذاهب والسياسات، فالفرقة السياسية بين دوله وحكوماته لم تحل دون لقائها على الصعيدين الشعبي والحضاري. ذلكم بأن الإيمان بالإسلام كنظام متكامل للأخلاق والمدنية والاجتماع والاقتصاد والسياسة يظل صمام ا لأمان بين المسلمين أينما كانوا، فهو الذي يقيم قوإعد حضارة الإسلام ويميز عناصر الحضارة الصالحة عن عناصرها الرديئة، يدافع عن نظامه ويجذر أصوله، وعلي هذا الإيمان تتوقف أخلاق الأفراد ووحدة الأمة، وحفظ الوجود الحضاري للامة الإسلامية، فالمبادىء التي طرحها الإسلام قادرة على فرز عناصر قوية تتصدى لجميع الأنظمة السياسية والأفكار الفلسفية التي تحاول النيل من الإسلام. ويصمد أمام زحف النظريات المادية والرأسمالية والشيوعية في حين أن الديانات الأخرى لم تصمد أمام زحف تلك النظريات فشاعت النظريات وانتشرت بين أممها وشعوبها.
===============
ملامح الوحدة في حضارة العالم الإسلامي
ظهور الإسلام وانتشاره
تبدأ قصة الحضارة الإسلامية على يد أشرف المرسلين محمد بن عبد الله (r ) حينما أنزل الله على قلبه القرآن الكريم ، الدستور الخالد للإسلام والمسلمين، ليهتدي به البشر في كل زمان ومكان . { الر كناب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد } (سورة ابراهيم- أية ا) وقد تكفل الله بحفظه باعتباره المصدر الأول للتشريع في قوله تعالى :" إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له حافظون " (سورة الحجر- أية 9).
وبعد القرآن الكريم تأتي سنة الرسول (r) التي منها نستكمل أحكام الدين ونستوضح بعض أركان تعاليمه. فعلى أساس هاتين الدعامتين: القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، تقوم تعاليم الإسلام في الأمور الدينية والدنيوية.
فالإسلام على هذا الأساس: دين أولاً ، ودولة ثانياً ، إلى جانب كونه حضارة وثقافة ورسالة إصلاحية تتمثل فيها ذرى العلوم والمعارف. ومحمد صلوات الله عليه، ما هو إلا رسول كريم، ومصلح كنير له رسالة سامية يراد له تنفيذها. وبطبيعة الحال لقيت هذه الرسالة معارضة كبيرة لأنها تريد من الإنسان ترك عاداته ومعتقداته التي يعتز بها والتي ورثها عن آبائه وأجداده. وحررت رسالة الإسلام الإنسان من عبادة غير الله سبحانه وتعالى، لأن في عبادة الإنسان غيره إلغاء لعقله وكيانه وتعطيلاً لطاقاته المادية والمعنوية، ورفعته على جميع المعتقدات بربطه بجسر روحي ومادى مع خالق الإنسان دون وسيط أو دخيل، في الوقت الذى كانت جميع الأديان السابقة تفصل بين الفرد وخالقه بوساطات وهياكل وطقوس كهنوتية قال تعالى: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } ( التوبة ـ آية 31 ) ، وقال تعالى : { أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً} (الفرقان- آية 43، 44)، ومن هنا كانت معارضة أصحاب الهوى والمصالح لرسالة الإسلام. والإنسان محافظ بطبعه، ولا يندفع إلى التجديد إلا إذا دفع إلى ذلك دفعاً . فالحضارات لم تأت عفواً، وإنما جاءت بعد تضحيات كثيرة. ومن هنا كانت المعارضة لرسالة النبي من جميع نواحيها الدينية والأخلاقية والاجتماعية أمراً طبيعياً.
وقد لجأ أصحاب هذه المعارضة إلى تحدي الرسول(r) والاستهزاء به، واتهامه بشتى الاتهامات، كالجنون، أو السحر والشعوذة، أو حب الرياسة والسلطان، ثم تطورت المسألة إلى الرغبة في التخلص منه.
وهنا يضطر الرسول (r) أن يغادر موطنه العزيز على قلبه، مكة المكرمة، وهو كاره حزين، متجهاً إلى "يثرب ". وفي خلال الطريق في مكان يسمى "الجحفة"، واساه الحق سبحانه وتعالى مبشراً إياه بعود حميد في قوهـ، تعالى : {إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد } (سورة القصص- أية 85).
وبعد مسيرة ثمانية أيام، استقر الرسول في، يثرب " في 16 ربيع الأول (20 سبتمبر سنة 622 م) وهذا ما نسميه بالهجرة، وهو حدث عظيم في تاريخ الإسلام لأنه يعتبر بدء رسوخ الإسلام وتدعيمه، ولهذا جعله عمر بن الخطاب بداية التاريخ عند المسلمين.
وجد الرسول (r) مدينة "يثرب " منقسمة على نفسها انقساماً شديداً، فهناك اليهود من جهة، وعرب الأوس والخزرج من جهة أخرى. واستطاع اليهود أن يوقعوا بين قبيلتي الأوس والخزرج، فقامت بينهما حروب طاحنة أهمها الموقعة المعروفة "بيوم بعاث " قبيل الهجرة بنحو خمس سنوات. وفيها هلك من الفريقين عدد كبير من أكابرهم وأشرافهم، مما أدى إلى ظهور اليهود وسيطرتهم على أراضي ا، يثرب "واقتصادياتها، ورأى المنتصر والمهزوم من عرب، يثرب)، سوء ما صنعوا، وتطلعوا إلى فترة يسودها السلام والهدوء، والدليل على ذلك تلك الأعمال الأولى التي قام بها الرسول هناك في سبيل توحيد الصفوف وتأليف القلوب.
وهنا يبدأ طور جديد من أطوار حياة الرسول لم يسبقه إليه أحد من الأنبياء والرسل، وهو طور سياسي أبدى فيه الرسول من الحنكة والمهارة ما مكنه من أن يصل "بيثرب " وبمجتمع أهل المدينة إلى وحدة سياسية منظمة لم تكن معروفة من قبل في سائر أنحاء الحجاز.
وفيما يلي بيان الأسس التي قامت عليها هذه الجماعة الإسلامية الأولى في المدينة المنورة:
(1) بناء المسجد الجامع ليكون مركزا للعبادة، وقاعدة للدراسة والتشاور في الشئون العامة.
(2) المؤاخاة بين "المهاجرين " من أهل مكة و "الأنصار" من أهل يثرب، أخوة روحية تنص على وجوب التناصر والتعاون والتكافل.
(3) وضع دستور عرف باسم "الكتاب أو الصحيفة"، لتنظيم هذه الجماعة الإسلامية الأولى كأمة واحدة، تسودها الوحدة والترابط، وكذلك تنظيم العلاقة بين المسلمين ويهود يثرب الذين أقرتهم الصحيفة على دينهم وأموالهم ما داموا مع المسلمين .(5/119)
وهكذا استطاع الرسول (r) بقدرته السياسية الفائقة، أن يوحد صفوف هذه الأمة المعقدة بأحزابها وفرقها المختلفة، وأن يحدد شكل الدولة الإسلامية أو المدينة الإسلامية، كدولة ومدينة في أن واحدCity- State . تسكنها جماعة متجانسة من الناس، وتنظم أمورها بنفسها وفق دستور مكتوب.
ثم اتسع نطاق هذه الجماعة الإسلامية أو دولة الرسول بالمدينة على صورة دولة عربية إسلامية، شمل نفوذها الحجاز وتهامة ثم الجزيرة العربية كلها، وتلك كانت حدودها عند وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام في (12 ربيع الأول سنة 11 هـ) (يونيو 633 م).
ولم تلبث هذه الدولة العربية الإسلامية الفتية أن قامت بإنجازات عسكرية وحضارية والسعة النطاق في عهد الخلفاء الراشدين وخلفاء بني أمية ( 11- 132 هـ/633- 749 م) ومن أهمها حركة الفتوحات الكبرى التي زادت في مساحتها.
==============
ملامح الوحدة في حضارة العالم الإسلامي
الفتوحات الكبرى وانتشار ا لإسلام
انتشر الإسلام وازدادت الدولة اتساعاً في طورين أساسيين:
العهد الراشدي: (11 هـ/632 م- 0 4 هـ/1 66 م):
في عهد الخليفتين أبي بكر وعمر وصدر خلافة عثمان، وشمل فتح الشام والعراق ومصر وفارس، وقد حمل العرب إلى تلك الأقطار مبادىء دينهم الحنيف، الذي انتشر فيها، وأقبل أهلها على اعتناقه لسمو مبادئه وذلك طواعية واختيارا ودون إكراه من جانب العرب الفاتحين عملاً بقول القرآن :{ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي } . ( سورة البقرة: 256) وقوله تعالى : { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين } (سورة النحل: 135).
فلما أقبل كثير من أهل البلاد المفتوحة على الإسلام، نشأت الطبقة المعروفة "بطبقة الموالي " في تلك البلاد. ولا شك أن نجاح العرب في فتوحاتهم في هذا الطور الأول يرجع إلى قوة إيمانهم واتحادهم، وإلى نظرتهم العادلة إلى أهل البلاد المفتوحة، فكانوا يكتفون بالجزية من أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، وحتى عندما فتحوا فارس ، أنزلوا المجوس (الزرادشتية) منزلة أهل الكتاب واكتفوا منهم بالجزية.
العهد الأموي: (41 هـ/661 م-132 هـ/751 م):
في عصر الدولة الأموية في أواخر القرن الأول الهجري. ويمتاز هذا الطور عن سابقه، بأن العناصر المحلية أو الموالي الذين دخلوا في الإسلام، وقفوا جنباً إلى جنب مع العرب في فتوحاتهم الجديدة التي شملت أقاليم "خراسان"، "وما وراء النهر (نهرجيحون) "، و"حوض السند"، وبلاد "المغرب والأندلس ". ومن المعروف كذلك أن موالي القبط اشتركوا مع العرب في قتال الروم في البحر في موقعة ذات الصواري سنة 34 هـ/ه 65 م- كما أصبح البربر بعد اعتناقهم الإسلام يشكلون الكثرة الغالبة في الجيوش الإسلامية التي فتحت الأندلس وجنوب فرنسا.
وكان هذا التعاون الوثيق بين العرب وبين العناصر المسلمة الجديدة في ظل الدولة الإسلامية، من أقوى الأسباب في مد نطاق الفتوح الإسلامية في هذا الطور الثاني الذي تضاعفت فيه رقعة الدولة الإسلامية التي امتدت من أواسط آسيا شرقاً، إلى المحيط الأطلسي غرباً، فالوحدة التي شملت جميع العناصر الإسلامية من عرب وفرس ومصريين وبربر وهنود هي السر في امتداد الدولة الإسلامية شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً ويعزى لبني أمية الفضل في توحيد الثقافة في العالم الإسلامي، إذ كانوا قد نجحوا في نشر الإسلام في رقعة واسعة من الأرض تضم شعوباً مختلفة وثقافات متنوعة. تعرضت لتأثيرات يونانية ورومانية، وسريانية وآشورية، كان من الممكن أن تسيطر على الثقافة العربية الإسلامية لولا ما اتصف به خلفاء بني أمية من إحساس عميق بالقيم الفكرية والخلقية للتراث العربي القديم والمعرفة الواسعة بالدين الإسلامي الجديد، والرغبة العارمة في أداء الواجبات الرئيسية لأمير المؤمنين والتي تتمثل في حماية الدين الإسلامي والعمل على نشره، إضافة لصفة التفتح العقلي التي اتصفوا بها، واستعدادهم الطبيعي للإفادة من خبرات الآخرين، ولذا فقد عمل الأمويون على طرح أساليب العمل، وأنشأوا المؤسسات لتتولى عملية تثبيت الإسلام ونشر اللغة العربية بين المجتمعات الإسلامية الجديدة، فأكثر الأمويون من فتح الكتاتيب العربية لتعلم الكتابة، واستدعي أعلام الفكر والأدب لعقد ندواتهم ومناظراتهم بحضور الخلفاء ومن ثم الاهتمام بالمكتبات وتنميتها، والإبقاء على المدارس الأجنبية في نصيبين وحران وعدم التعرض لنشاطها، مما ساعد تلك المد ارس على الاستمرار في أعمال الترجمة، والاستعانة بأهل البلاد المفتوحة من عرب وغيرهم للمساهمة في المجالات الحياتية الجديدة، وأعطى بنو أمية للعلوم النظرية والتطبيقية عناية متميزة، فظهرت علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه والسير والمغازي ، وكانت العناية بتلك العلوم ملحة لتسهم في استقرار البلاد الإسلامية وذلك بغرض تعميق تمسكها بالدين الإسلامي، وإتقانها العربية، لغة القرآن الكريم.
ومن الجدير بالذكر أنه توفرت في الدولة الأموية كل العوامل التي تساعد على قيام مراكز ثقافية تعنى بالنشاط العلمي ، فكانت البصرة والكوفة علاوة على دمشق ، العاصمة، نقاط التقاء الثقافات وتقاطر أهل العلم والمعرفة من مختلف البلدان والأمصار عليها للدراسة.
لقد كانت جهود بني أمية واضحة في انكفائهم لتشجيع العلوم ورعايتهم لحركة الترجمة،- وتمثل ذلك- بجهود خالد بن يزيد، حكيم بني أمية/ الذي اشتغل والراهب ماريانوس في ترجمة العديد من الكتب اليونانية، ومثله فعل ماسرجويه في عهد مروان بن الحكم، 64 هـ/683 م الذي ترجم كتاب أهرن بن أعين الطبي، وسرجون بن منصور، وطبيب الحجاج ثاوذون.
لقد كان للأمويين فضل الريادة في الاتجاه نحو ثقافات الشعوب التي انتشر بينها الإسلام، وعملوا على استيعاب تلك الثقافات، وتعاملوا بمهارة مع المشكلات والعقبات التي اعترضت عملية النقل والتفسير من تلك الثقافات ووضعوا الحلول المناسبة لها ، فما كان على بني العباس، إلا الاستمرار على المنهج والنسق الذي ابتداه الأمويون.
العهد العباسي: 32 1 هـ/0 75 م-656 هـ/258 أم:
وقامت بعد ذلك الدولة العباسية على 2 نقاض الدولة الأموية سنة 132 هـ (750 م)، وامتد حكمها خمسة قرون إلى أن سقطت على أيدي المغول أو التتار بزعامة!هولاكو) حفيد جنكيزخان " سنة 656 هـ (1258 م) . وعلى الرغم من أن الأسرة العباسية الحاكمة كانت أسرة عربية هاشمية، تنحدر من سلالة العباس بن عبد المطلب عم النبي (r) إلا أنها اعتمدت على "الموالي)" أي على الشعوب التي دخلت في الإسلام. ولذلك لهم ينظر العباسيون إلى جنس معين من رعاياهم يتعصبون له على نحو تعصب الأمويين للعرب، بل نظروا إلى الشعوب التي تتألف منها الأمة الإسلامية نظرة واحدة مع اختلاف أجناسهم وألوانهم ، عملاً بمبدأ المساواة الذي ينص عليه ا لإسلام في قوله تعالى " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم " (سورة الحجرات 13). وبهذه السياسة وهذه النظرة إلى الشعوب الإسلامية، تقاربت الأعراق الإسلامية، وتداخلت بالزواج المختلط أو التوليد، ونشأ عن هذا الاختلاط جيل جديد من المولدين، وأصبحت الدولة الإسلامية وكأنها وطن لأمة واحدة لا لشعوب مختلفة، تدين بدين واحد، وتتكلم لغة واحدة .(5/120)
وقد اتجهت سياسة الدولة العباسية- منذ البداية- إلى المشرق، وكان هذا سر نجاحها، فاتخذت من بغداد عاصمة لها بدلا من دمشق، رغم أن هذا التوجه قد أسفر عن ضعف نفوذها في الأطراف الغربية التي أخذت تنسلخ تباعاً، فاستقلت الأندلس على يد "صقر قريش،" عبد الرحمن الداخل الأموي سنة 137 هـ/ 755 م، كما استقل المغرب الأقصى على يد الأدارسة العلويين " سنة 72 1 هـ 788 م، والمغرب الأوسط على يد "بني رستم الخوارج الأباضية" سنة 38 1 هـ/ه 75 م، و اكتفى العباسيون- إزاء هذا- بإقامة دولة حاجزة موالية لههم في المغرب الأدنى هي "دولة الأغالبة". والتي امتد حكمها من سنة 84 اهـ/0 80 م- 296 هـ/09 9 م وقد استطاعت هذه الدولة الأغلبية المجاهدة أن تحقق إنجازاً حربياً كبيراً ، بفتح جزيرة صقلية على يد القائد المسلم الفارسي "أسد بن الفرات "في عهد زيادة الله الأول الأغلبي سنة 3 31 هـ (838 م)، ثم فتح جزيرة مالطة التي تقع بين صقلية وأفريقيا فى عهد!محمد الأغلبي " المدعو بأبي الغرانيق وذلك سنة 356 هـ (870 م).
غير أن نفوذ العباسيين وإن كان قد ضعف وزال في المغرب والأندلس، إلا أنه قوي في المشرق- فابن الأثير فى كتابه الكامل في التاريخ يشير في حوادث سنة 133 هـ إلى أن جيوش أبي مسلم الخراساني ، استطاعت أن تهزم في موقعة نهر طراز الجيوش الصينية التي أخذت تتدخل في بلاد تركستان بأواسط أسيا. ويبدو أن هذا هو أول ذكر للاحتكاك الحربي بين المسلمين والصين في المراجع ا لإسلامية.
ومنذ ذلك الوقت نلاحظ أن الحضارة الإسلامية أخذت تسود بلاد أواسط أسيا بعد أن أزاحت عنها الوجود الصيني. كذلك قامت في الأطراف الشرقية للدولة العباسية، دول إسلامية عريقة عملت على نشر الإسلام هناك باسم الخلافة العباسية
===============
الكيانات الحضارية الإسلامية في آسيا
الدولة السامانية
كانت الدولة السامانية التي حكمت خراسان. وبلاد ما وراء النهر (نهر جيحون) في القرنين الثالث والرابع الهجريين، وعاصمتها "بخاري" من أهم المراكز الحضارية في العالم الإسلامي. إضافة إلى سمرقند وبلخ حيث كان الطلبة يفدون إلى تلك الأماكن لدراسة العلوم، ولقد اشتهرت الدولة " السامانية " بجهادها ضد الترك الوثنيين في وسط أسيا، وحملتهم على الانخراط في جيوشها عن طريق نظام تربوي إسلامي عسكري، طبقته عليهم منذ الصغر. وقد أعطانا الوزير السلجوقي " نظام الملك الطوسي (ت 485 م) " في كتابه "سياسة نامه "، وصفاً دقيقاً باللغة الفارسية لهذا النظام التربوي الذي وضعه السامانيون لمماليكهم الأتراك، ومن ذلك قوله: "إن مماليك السامانيين يرقون تدريجياً بناء على خدماتهم وشجاعتهم وليس اعتماداً على المحسوبية أو الجاه ".
وتمتد فترة تدريب المملوك إلى سبعة أعوام يستحق في نهايتها لقب عريف الدار حيث يرتدي قباء من الحرير، ويضع على رأسه طاقية من الجوخ الأسود ثم يأخذ المملوك في الترقي عاماً بعد عام.
وتزداد حاشيته تدريجياً إلى أن يصل إلى مرتبة صاحب الخيل ثم حاجب الحجاب. ولا يأخذ المملوك لقب أمير ولا يتولى عملاً كبيراً مثل القيام على ولاية من الولايات أو فرقة من الفرق العسكرية إلا بعد أن ينضج. وسن النضوج في العادة هو سن الخامسة والثلاثين ".
----------
الدولة الغزنوية
2- الدولة الغزنوية التركيبة : وهي وليدة الدولة السامانية في منتصف القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) وكان مؤسسيها الأول مملوكاً تركياً من مماليك السامانيين في بخاري، وهو الأميرة "البتكين " الذي ولاه "السامانيون" على "غزنة، بالقرب من " كابل " في أفغانستان شمالي الهند. وهناك استطاع "البتكين " أن يقيم دولة مستقلة عن السامانيين- إلا من ناحية التبعية الاسمية- هي الدولة الغزنوية.
وبعد وفاة البتكين آلت الأمور إلى مملوكه وزوج ابنته "ناصر الدين سبكتكين "، الذي حارب باسم السامانيين في بلاد الهند الشمالية، فاستولى على "بست " ويقصدار" سنة 368 هـ، وهزم جيوش "جيبال " راجا لاهور على حدود البنجاب.
وجاء بعد سبكتكين ابنه "محمود الغزنوي " (388- 421 هـ- 998- 30 10 م) الذي بلغت الدولة الغزنوية في عهده ذروة ازدهارها، فألغى اسم السامانيين من الخطبة في مملكته، وخطب للخليفة العباسي القادر بالله، الذي أنعم عليه بلقب يمين الدولة وأمين الملة، وهو بمثابة تقليد رسمي من الخلافة، كما حصل أيضا على لقب "الغازي " وهو من أوائل الألقاب في الإسلام. هذا إلى جانب لقب سلطان الذي يعتبر "محمود الغزنوي " أول من تلقب به من الغزنويين بعد أن كانوا يتلقبون بلقب أمير.
ويؤثر عن "السلطان محمود الغزنوي " أنه غزا بلاد الهند أكثر من اثني عشرة مرة مدفوعا، في ذلك بعامل الجهاد الديني والرغبة في نشر الإسلام بين الهنود الوثنيين. واستطاع بذلك أن يبسط نفوذه إلى ما وراء كشمير والبنجاب ويحطم أصنامهم، وأن يجعل من إقليم البنجاب ولاية إسلامية قاعدتها مدينة لاهور، ويحكمها ولاة مسلمون من قبل الغزنوية، وهكذا تعتبر الدولة الغزنوية أول دولة إسلامية في الهند.
وتجدر الإشارة إلى أن المسلمين الأوائل في أواخر القرن الأول الهجري، كانوا قد فتحوا إقليم السند في شمال غرب الهند على يد"محمد بن القاسم الثقفي " . وها هو ذا " محمود الغزنوي " في أواخر القرن الرابع الهجري يضيف إلى السند أقاليم البنجاب، والملتان، والبنغال، وهي الأقاليم التي تكون في مجموعها ما يسمى الآن بدولتي باكستان وبنغلاديش الإسلاميتين.
كذلك ظهرت في الهند على عهد "محمود الغزنوي " لغة الأردو (أي المعسكر) وهي مزيج من عدة لغات منها الفارسية والتركية والعربية والسنسكريتية الهندية القديمة. ولم تلبث هذه اللغة الأردية أن صارت لغة الهند وباكستان وبخط عربي.
ولقد عاش في كنف الغزنويين عدد من كبار العلماء والشعراء، نذكر منهم الشاعر الإيراني المشهور " أبا القاسم الفردوسي " الذي أهدى السلطان "محمود الغزنوى" ملحمته الشعرية الفارسية "الشاهنامة" التي يعتبرها الإيرانيون من مفاخرهم الأدبية، لأنها تقص أخبار ملوك الفرس القدماء. وقد منحه السلطان "محمود الغزنوي " ستين ألف مثقال من الفضة على عدد أبياتها. كذلك نذكر المؤرخ " أبا نصر محمد بن عبد الجبار العتبى " الذي كتب تاريخا عن حياة "محمود الغزنوي " وجهاده إلى سنة 409 هـ، وسماه " تاريخ اليميني " نسبة إلى لقبه يمين الدولة. وقد ألف هذا الكتاب باللغة العربية لكي يقرأه أهل العراق. وهناك العالم المؤرخ "أبو الريحان البيروني الخوارزمي (ت 440 هـ) " الذي صحب محمود الغزنوي في بعض غزواته بالهند ثم استقر معه في غزنة متمتعاً بمكانة سامية. وقد ألف "البيروني " عدة كتب بالفارسية والعربية نذكر منها كتاب "القانون المسعودى " الذي أهداه إلى السلطان "مودود بن مسعود"، هذا إلى جانب تاريخه المشهور باسم "الآثار الباقية عن القرون الخالية"، الذي تحدث فيه بالعربية عن الجماعات والطوائف والشعوب القديمة، مع ذكر أعيادها واحتفالاتها الدينية والقومية. وقد نشر هذا الكتاب وترجمه إلى الإنجليزية "أدوار سخاو" في القرن الماضي. وأخيرا نشير إلى المؤرخ الفارسي "أبي الفضل محمد بن حسين البيهقي (ت 470 هـ) " الذي كتب بالفارسية تاريخا " للسلطان مسعود ووالده محمود الغزنوي " عرف "بتاريخ البيهقي ". وقد نقل د. يحيى الخشاب ما تبقى من هذا الكتاب إلي اللغة العربية سنة 1956.(5/121)
وانتهت الدولة الغزنوية في القرن السادس الهجري (12 م) على أيدي قوتين كبيرتين هما: قوة الغوريين الأفغان، وقوة السلاجقة الأتراك.
----------
الغوريون
وهم الذين قضوا على ملك الغزنويين في الهند، واستولوا على قاعدتهم في لاهور، وأقاموا هناك ثاني دولة إسلامية في الهند، وهي الدولة الغورية (543- 612 هـ= 1148- 1215 م) التي سميت باسم مكان نشأتها، وهي جبال الغور بأفغانستان بين هراة وغزنة وتسمى حاليا هزارستان. غير أن سلاطين هذه الدولة الغورية لم يقيموا في الهند دائماً، وإنما كانوا يقيمون في مدينة غزنة عاصمة ملكهم، وصاروا يحكمون الهند عن طريق مماليكهم الأتراك.
وقد أكثر السلطان "محمد الغوري " من شراء المماليك واعتنى بتربيتهم واعدادهم لمهمة الغزو والجهاد. ويؤثر عنه أنه كان كلما ناقشه أحد عن ضرورة الحاجة إلى ابن ذكر يحافظ على ملك أسرته من بعده، أجابه بأن لديه ألوفاً من الأبناء، ألا وهم مماليكه الأتراك.
وقد ارتفع بعض هؤلاء المماليك إلى مناصب الحكم والقيادة، نذكر منهم،" يلدز" حاكم كرمان، و " ناصر الدين قباجة " في السند، و" قطب الدين أيبك " في دلهي وهو أقوى الجميع نفوذاً، وقد زوجه السلطان إحدى بناته. وهكذا استطاع محمد الغوري بفضل جهود مماليكه وعلى رأسهم " أيبك "، أن يملك جميع الأراضي الهندية في شمال جبال فنديا vindha حتى مصبات نهر الكنج، فعم بها الإسلام، وتحولت معابدها الهندوسية إلى مساجد ويدفع راجاتها الجزية.
وفي سنة 603 هـ (1206 م) اغتيل السلطان "محمد الغوري"، على ضفاف السند بيد أحد غلاة الإسماعيلية، وبموته اختفت غزنة والغور من التاريخ، وظهرت مدينة دلهي كعاصمة إسلامية لدولة سلاطين المماليك في الهند.
-------------
دولة المماليك في دلهي
وكان أول سلاطينها " قطب الدين أيبك " بعد موت سيده. وقد اشتهر عنه تمسكه بتعاليم الإسلام، ويظهر ذلك بوضوح في عدائه الشديد لنظام الطبقات الذي كان سائداً في الهند، ومعاملته للناس على أساس المساواة التي ينص عليها الإسلام. وينسب لأيبك في دلهي مسجد عظيم أسماه " قوة إسلام "، ويبلغ ارتفاع مئذنته 250 قدم، وهي تعد أطول منارة في العالم، ولا تزال قائمة إلى اليوم وتعرف باسم " قطب مينار" أي منارة قطب " وتمتاز بنقوشها وزخارفها ذات الطابع العربي والهندي.
وانتهى حكم أيبك على هندستان في سنة 608 هـ (1210م) وذلك على أثر سقوطه من على فرسه. أثناء لعبة الكرة أو البولو- جوكان- فتوفي على الأثر. وخلفه أحد مماليكة البارزين وزوج ابنته " شمس الدين التتم"الذي سار سيرة حسنة في رعيته، واشتد في رد المظالم وأنصاف المظلومين. فيؤثر عنه أنه أمر أن يلبس كل مظلوم ثوباً مصبوغاً. وأهل الهند جميعا يلبسون البياض، فكان إذا قعد للناس أو ركب، فرأى أحداً عليه ثوب مصبوغ نظر في قضيته وأنصفه ممن ظلمه.
وبلغ فوز السلطان، " التتمش " أقصى مداه حينما اعترف به خليفة بغداد المستنصر بالله العباسي، سلطان على الهند، وبعث له بالتقليد والخلع والألوية في سنة 626 هـ (1229 م)، فأصبح (التتمش " بذلك أول ملك في الهند تسلم مثل هذا التقليد. ومنذ ذلك التاريخ ضرب "التتمش "نقودا فضية نقش عليها اسم الخليفة العباسي بجوار اسمه. ويعتبر هذا العمل شيئا جديداً على نظام العملة الهندية، إذ كان الحكام المسلمون قيل ذلك يضربون نقوداً معدنية صغيرة على غرار النقود الوطنية، تنقش عليها أشكال مألوفة لدى الهنود، "كثور سيفا" مثلاً، كما كانت أسماء الفاتحين تكتب بحروف هندية في غالب الأحيان. "فالتتمش " يعتبر إذن أول من ضرب نقودا فضية خالصة في الهند.
وتوفي السلطان "التتمنثى"سنة 634 هـ (1236 م) ولم تكن هناك شخصية صالحة للملك من بعده سوى شخصية ابنته "رضية الدين " التي فضلها أبوها على أخوتها الذكور لذكائها وحسن إسلامها، وقد سماها مؤرخو الهند باسم "ملكة دوران بلقيس جهان " أي فتنة العالم. وقد بذلت هذه السلطانة جهوداً عظيمة في إدارة شئون الدولة، ولكنها اصطدمت في النهاية بمجلس أمراء المماليك الذين حقدوا عليها بسبب زواجها من فارس حبشي، فثاروا ضدها، وانتهى الأمر بقتلها سنة 638 هـ ( 1240 م) بعد حكم دام أربع سنوات، فكانت نهايتها تشبه نهاية السلطانة "شجرة الدر" التي حكمت مصر بعدها بعشر سنوات، وانتهى أمرها بالقتل أيضا سنة 648 هـ (1250 م).
---------------
الأتراك السلاجقة
الأتراك السلاجقة: ويمثلون القوة الإسلامية الجديدة التي حلت محل الغزنويين في خراسان والمشرق الإسلامي، والتي غذت الإسلام، بدماء فتية جديدة، ساعدته على الصمود والانتصار، والانتشار في بلاد الروم. ذلك لأن الخلافة العباسية قبل ذلك الوقت كانت عاجزة عن حماية حدودها بسبب عداوتها مع الخلافة الفاطمية في القاهرة. وقد انتهزت الدولة البيزنطية هذه الفرصة، وأخذت تغير على الحدود الإسلامية المتاخمة لها، وتتوغل في شمال الشام والجزيرة. ولكن من حسن حظ الخلافة العباسية في ذلك الوقت، أن جاءتها من المشرق تلك القوة التركية الفتية المليئة بفتوة البداوة وعنفوانها، فأنقذتها من انهيار محقق. ففي سنة 463 هـ (1071 م) استطاعت جيوش السلاجقة بقيادة سلطانها "ألب أرسلان "، وباسم الخلافة العباسية، أن تحرز انتصاراً حاسماً على الإمبراطور البيزنطي "رومانوس ديوجينيس" " ROMANOS DIOGENES وأن تأخذه أسيراً في موقعة " ملا ذكرد " أو "منزكرد " من أعمال "خلاط " على الفرات الأعلى، شمال بحيرة فانVAN عند أرمينية.
لقد جاء السلاجقة في فترة انحطاط القوى الإسلامية الأخرى من عباسية وفاطمية ونجحوا في توحيد المشرق الإسلامي من جديد، فأعطوا المسلمين الحيوية والنشاط في الجهاد ضد الصليبيين، ويذكر بأن طغرل سلطان السملاجقة كتب إلى الخليفة العباسي القائم بأمر الله مظهراً ولاءه له، مؤكداً حبه لرفع راية الإسلام وإعلاء كلمة الله في نشر الإسلام غرباً، وقد أقره الخليفة العباسي سنة 432 هـ/1040 م سلطاناً على السلاجقة، مما أكسب دولة السلاجقة الفتية صفة الشرعية وأثار حميتها الدينية لمنا جزة البيزنطيين واسترداد البقاع التي كانوا قد احتلوها في أرمينية والأناضول وقد أعطت نتائج هذه الموقعة سمعة إسلامية ضخمة للسلاجقة باعتبارهم المجاهدين والمدافعين عن الإسلام، والعاملين على نشر الدعوة، وإزاء ذلك مهدت الطريق أمام السلاجقة لنشر الدعوة في آسيا الصغر- حيث وجه "ألب أرسلان " ابن عمه " سليمان قتلمش "، إلى الأناضول، وأقام هناك دولة سلاجقة الروم، نسبة إلى بلاد الروم التي قامت فيها. ومنذ ذلك الوقت، عم الإسلام بلاد آسيا الصغرى التي صارت تعرف إلى الآن باسم بلاد الأناضول الإسلامية.
واستحدث السلاجقة- أيضا- بعض الأنظمة والعادات الفارسية والتركية التي جلبوها معهم من المشرق، ولم تكن معروفة من قبل أيام الأمويين والعباسيين والفاطميين. ومن أمثلة ذلك، استخدام "الجاليش " في مقدمة الجيش. و،" الجاليش " عبارة عن خصلة وشعر ذيل الحصان، كانت ترفع في أعلا سنان الراية أمام الجيش. ثم صارت تطلق مجازاً على مقدمة الجيش أو طلائعه باسم " الجاليشية " .(5/122)
ومن "أمثلة ذلك أيضاً حمل "الغاشية " بين يدي السلطان في الأماكن والمناسبات الحافلة كالميادين والأعياد والمواكب ونحوها كشعار للسلطنة. و "الغاشية" عبارة عن سرج من الجلد مخروزة بالذهب حتى يخالها الناظر كلها مصنوعة من الذهب. يحملها ركاب الدار بين يدي السلطان، ويلفتها يميناً وشمالاً. وقد انتقلت هذه العادة إلى مصر والشام على يد صلاح الدين الأيوبي وخلفائه، واستمرت بعد ذلك في أيام سلاطين المماليك كرمز للطاقة والإخلاص للسلطان: "حمل الغاشية بين يديه ".
كذلك استحدث السلاجقة نظام المدارس الدينية، وهي منشآت علمية هدفها بث روح الجهاد بين المسلمين والتصدي للطائفية، مثل المدرسة النظامية التي أسسها الوزير السلجوقي "نظام الملك " في بغداد. وسار على هذه السياسة "نور الدين محمود زنكي " في الشام ثم "صلاح الدين الأيوبي " في مصر. على أنه يلاحظ في هذا الصدد أن مدينة الإسكندرية عرفت نظام المدارس الدينية في أواخر أيام الفاطميين وقبل مجيء صلاح الدين الأيوبي، فأول مدرسة أنشئت فيها هي المدرسة الحافظية التي أسسها "رضوان بن ولخشي " وزير الخليفة "الحافظ الفاطمي سنة 533 هـ "، وأسند التدريس فيها إلى "الفقيه المالكي أبي الطاهر بن عوف "، الذي سبق أن قرأ المذهب المالكي على زوج خالته أبي بكر الطرطوشي المشهور بكتابيه " سراج الملوك"، و "الحوادث والبدع ".
وبعد عشر سنوات أي في سنة 544 هـ بنى "العادل بن السلار"، وزير الخليفة الظافر الفاطمي، مدرسة دينية أخري بالإسكندرية، وأسند التدريس بها إلى "الفقيه الشافي أبي الطاهر أحمد السلفي " صاحب كتاب "معجم السفر". ويمكن القول بأن به الأيوبيين هم الذين اهتموا في الواقع ببناء المدارس في أنحاء مصر والشام متأثرين في ذلك بسياسة السلاجقة.
وقد سار السلاجقة- أيضا- على سنة أسلافهم هم السامانيين المتمثلة في الإكثار من المماليك الأتراك، وتربيتهم منذ الصغر تربية عسكرية إسلامية لاستخدامهم في الجيش والإدارة. وقد شرح هذا النظام وزير السلجوق "نظام الملك الطوسي " في كتابها، سياسة نامة " إرشادا للحكام السلجوقيين. وعلى هذا الأساس غلب الطابع العسكري على الدولة السلجوقية، فصار ولاتها وقادتها من هؤلاء " المماليك كما أصبحت معظم أراضيها في فارس، والجزيرة، والشام، مقسمة إلى إقطاعيات عسكرية يحكمها القادة من هؤلاء المماليك، في مقابل الخدمات العسكرية التي يؤدونها للدولة في وقت الحرب. وسمي هؤلاء المماليك الكبار باسم "الأتابكة". و "الأتابك" لفظ تركي مركب معناه الأب الأمير، ومعناه المربي لابن السلطان، ثم أصبح لقبا تشريفيا يمنح للكبار من القواد بمعنى أبو الجيش أو قائد الجيش أو نائب السلطنة.
وهكذا نرى مما تقدم أن السلاجقة في أيام قوتهم اتخذوا أشخاصاً من كبار مماليكهم أطلقوا عليهم "الأتابكة" ليكونوا مربين لأولادهم القصر، ومنحوهم إقطاعيات كبيرة مقابل قيامهم على شئون هؤلاء الأبناء، وتأديتهم الخدمة العسكرية وقت الحرب. ولكن سرعان ما صار هؤلاء "الأتابكة" أصحاب النفوذ والسلطان في تلك الولايات. ومن مشاهير الأتابكة في أوائل القرن السادس الهجري(13 م)، الأمير "عماد الدين زنكى" مؤسس أتابكية الموصل وحلب، وهو ابن قسيم الدولة اق سنقر الحاجب الذي بدأ حياته مملوكا" للسلطان "ملكشاه المسلجوقي "، وعن طريق "زنكي وابنه نور الدين محمود" كان ظهور قواده "نجم الدين أيوب " وولده"صلاح الدين " الذي تأثر بالنظم السلجوقية، واليه يرجع الفضل في انتقال تلك النظم إلى مصر والشام، حيث بقيت زمان الأيوبيين، ثم بعد ذلك دولة المماليك الأتراك، التي تبلور فيها هذا النظام التربوي العسكري الإسلامي، وصار راسخاً متيناً، ومكنها من صد الزحف المغولي شرقاً، وطرد المستعمر الصليبي من مصر والشمام غرباً. وفي ذلك يقول " القلقشندي " (صبح الأعشى ج 4 ص 6): "ود أبت سلطنة المماليك في مصر على أن تنقل عن كل مملكة سبقتها أحسن ما فيها، فسلكت سبيله، ونسجت على منواله، حتى تهذبت وترتبت أحسن ترتيب، وفاقت سائر الممالك، وفخر ملكها على سائر الممالك " .
---------------
الأيوبيين والمماليك
الأيوبيون والمماليك: وهؤلاء لم يقتصر دورهم، على حماية الإسلام في مصر والشام، والذود عنه ضد المعتدين من الصليبيين والمغول، بل كان لهم فضل كبير أيضاً في العمل على نشره بين أهل النوبة في السودان جنوبا، وبين مغول القفجاق حول البحر الأسود شمالاً.
لقد اهتمت السياسة المصرية بوجه عام بمملكة النوبة في أعالي النيل، وكان النوبيون يدينون بالمسيحية على مذهب الكنيسة المصرية الأرثوذكسية، كما كانوا يدينون بالولاء والطاعة لسلطان مصر منذ اتفاقية البقط pactum التي عقدها معهم القائد العربي"عبد الله بن سعد بن أبي السرح " سنة 30 هـ (650 م). إلا أنهم لم يحافظوا دائماً على هذا العهد، فكثيراً ما شنوا الغارات علي بلاد الصعيد أي جنوب مصر، بالبر والبحر (النيل) وكثر إيذاؤهم. ولذلك اضطر ولاة مصر إلى توجيه الحملات إلى بلاد النوبة تمسكاً منهم بشرط هذا "البقط " أو العقد. وقد شجعت هذه الحملات بعض القبائل العربية على الهجرة إلى النوبة والاستقرار فيها، والاختلاط بأهلها، وخاصة في بمنطقة المريس " شمالي النوبة. ونذكر على سبيل المثال عرب ربيعة الذين تزوجوا بنات رؤساء النوبيين، وأصبحت لهم مصالح مادية لانتفاعهم بنظام الوراثة المعروف هناك، وهو توريث ابن البنت أو ابن الأخت، ونتيجة لذلك، صار لبني ربيعة نفوذ كبير في منطقة أسوان وما يليها جنوباً في أرض المريس .
وتوطدت علاقات حسنة بين "بني ربيعة"و (الدولة الفاطمية)، في مصر، واستعان بهم الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في القبض على الثائر المغربي أبي ركوة عندما لاذ بالفرار من مصر إلى النوبة. ونجح "أبو المكارم أمير ربيعة" في القبض عليه وتسليمه للفاطميين، وقد كافأه الفاطميون على ذلك بمنحه لقب، "كنز الدولة"، وتوارث أبناؤه هذا اللقب وعرف بنو ربيعة ببني كنز، وهم الكنوز الحاليون الذين كانوا يعيشون بين أسوان وكروسكو، قبل أن تغرق أرضهم بمياه بحيرة السد العالي.
ومنذ بداية عصر صلاح الدين الأيوبي، تجددت اعتداءات النوبيين على الأراضي المصرية، واستمرت في أيام دولة المماليك الأولى أو البحرية. وكان الرد على ذلك إرسال حملات تأديبية في عهد كل من "صلاح الدين " و، " الظاهر بيبرس "، و "سيف الدين قلاووق ".
وكانت النتيجة اصطباغ مملكة النوبة بالصبغة العربية الإسلامية، وفقد أنها لطابعها المسيحي تدريجياً نتيجة لاختلاطها بالعرب المهاجرين مع تلك الحملات. ولم يكد ينتصف القرن الثامن الهجري أو الرابع عشر الميلادي، حتى كان النوبيون قد اعتنقوا الإسلام، وانتقل الملك إلى بني كنز، فسقطت عنهم الجزية، لأن بني كنز عرب مسلمون من ربيعة.
-----------------
المغول(5/123)
مغول القفجاق أو القبشاق في شمال البحر الأسود "الأوزبك "، فكانوا أيضا موضع اهتمام وعناية سلاطين دولة المماليك البحرية الذين كان معظمهم في الأصل من أجلاب بلاد القفجاني من الأتراك. وكان يحكم هذه البلاد الممتدة من تركستان شرقاً إلى شمال البحر الأسود غرباً، دولة مغولية إسلامية حديثة تعرف باسم، القبيلة الذهبية" Golden Horde (نسبة إلى لون مخيماتها) أو " مغول القبشاق ". وقد سماها القلقشندي "مملكة توران خوارزم والقبشاق ". وكان اسم زعيمها "بركة خان "، وهو أول من اعتنق الإسلام من أولاد جنكيز خان. وكانت عاصمته مدينة "صراي " أو "سراي " في شمال غرب بحر قزوين، وهي فرضة عظيمة للتجار ورقيق الترك،.وكانت مقصد العلماء والأدباء أمثال، " قطب الدين محمد الرازي "، و " سعد الدين التفتازاني " وغيرهما فيما بعد.
ولقد حرض سلطان مصر الظاهر بيبرس على محالفة هذه الدولة الإسلامية المغولية، فتبادل مع عاهلها "بركة خان" البعوث والهدايا (0 66 هـ/\ 26 أم- 662 هـ/1263 م)، كما تزوج ابنته، وأمر بالدعاء له على منابر القاهرة والقدس ومكة والمدينة. ولا شك أن هذا الحلف كان موجهاً بطبيعة الحال ضد عدوهما المشترك الممثل في " دولة ايلخانات فارس المغولية" التي كان يحكمها "هولاكو" وأولاده، وكانت تشمل فارس والعراق، وعاصمتها " تبريز" أو "مرا غة" أو"بغداد ". فيروي المقريزي أن " بيبرس " أخذ يحرض "بركة خان، على قتال قريبه "هولاكو" ويرغبه في ذلك. يضاف إلى ذلك أن السلطان بيبرس استفاد من هذا التحالف في تقوية جيشه، إذ أنه أكثر من شراء المماليك من بنى جنسه القفجاق إذ مالت الجنسية إلى الجنسية، على قول القلقشندي، ووقعت الرغبة في الاستكثار من "القفجاق " على عهد" بيبرس "، حتى أصبحت مصر بهم أهلة المعالم، محمية الجوانب، منهم زعماء جيوشها، وعظماء أرضها، وحمد الإسلام مواقفهم في حماية الدين حتى أنهم جاهدوا قي الله أهليهم ".
وهكذا نرى أن انتشار الإسلام في دولة مغول القفجاق في القرن السابع الهجري (13م)، قد أدى إلى اتساع رقعة الإسلام في أواسط أسيا (جنوب روسيا والقوقاز) من جهة، وإلى تطعيم الجيوش الإسلامية في مصر والشام بدماء فتية من شعوب تلك المنطقة من جهة أخرى.
على أن موضع الأهمية هنا، هو أن هذا التعاون العسكري بين هاتين الدولتين الإسلاميتين (مصر والقبيلة الذهبية)، ضد دولة مغول فارس والعراق، قد أدى في النهاية إلى غلبة الإسلام على تلك الدولة الوثنية أيضاً، وإلى انتشاره بين أفرادها، ومن ثم أخذت العلاقات تتحسن بين الجانبين منذ أوائل القرن الثامن الهجري (14 م). وانتهت المشكلة بأن عقد سلطان مصر والشام والناصر محمد بن قلاوون " صلحا مع " ايلخان " مغول فارس والعراق أبي سعيد، وانضم إلى هذا الصلح أيضاً زعيم القبيلة الذهبية أو مغول القفجاق الذي كان يدعى في ذلك الوقت "أوزبك خان ".
===============
الكيانات السياسية في الجناح الغربي للعالم الإسلامي
من ناحية أخرى قامت في الجناح الغربي للعالم الإسلامي، منذ القرن الخامس الهجري، حركة إصلاحية وانتفاضة دينية مالكية بين قبائل صنهاجة اللثام في صحراء شنقيط (موريتانيا) في أقصى المغرب، تمخض عنها قيام دولة مجاهدة موالية للعباسيين في بغداد، وهي دولة المرابطين الملثمين الذين استطاعوا القضاء على المارقين والمتنبئين في الجبال المغربية، وقهر مملكة غانة الوثنية في السودان الغربي جنوباً، ونشر الإسلام في تلك الأماكن النائية على يد " الأمير" أبي بكر بن عمر اللمتوني "، كما استطاعوا الانتصار على الأسبان في موقعة الزلاقة بالأندلس شمالاً، على يد "الأمير يوسف بن تاشفين سنة 479 هـ (1086 م) " فأنقذوا الأندلس من سقوط محقق. هذا إلى جانب استيلائهم على مراكز تجارة الذهب في أقصى جنوب المغرب مثل سجلماسة (تافيلالت الحالية) وأود اغشت، فسيطروا يذلك على المسالك الغربية التي تربط بين بلاد المغرب والأندلس من جهة، وبين السودان الغربي من جهة أخرى. ولعل هذا هو السبب الذي جعل للدينار الذهبي المرابطي marabstin تلك الشهرة العالمية والسمعة الاقتصادية الممتازة حتى غدت دول العالم المسيحي والإسلامي أيضاً تتنازع عليه.
وإلى جانب هذه الأعمال الجهادية الكبرى سالفة الذكر، واصل الإسلام مسيرته وانتشاره بقوته الذاتية إلى كثير من الأقطار الأسيوية شرقاً، مثل إندونيسيا والفليبين والملايو والمالديف.. الخ، إلى جانب انتشاره في الأقطار الأفريقية السودانية غرباً، فضلاً عن الأقطار الأوربية والأمريكية كما هو واضح حتى اليوم، وقد لعبت التجارة والتجار في هذا الصدد دوراً إيجابياً هاماً في توحيد عالم الإسلام ونشر دينه ولغته وحضارته فيما وراء حدوده. عن طريق القدوة الحسنة وحسن المعاملة. فإلى هؤلاء التجار وغيرهم من جنود الله المجهولين من الرحالة والصوفية والعلماء يرجع الفضل في امتداد الإسلام إلى كل بقاع العالم، وانتشار جماعاته في كل بلد من بلاد الدنيا.
ومن ناحية أخرى فإن الدولة العثمانية، وخلال قرنين من الزمان مدت جناحها شرقاً وغرباً وجنوباً لتدق أبواب فيينا واليونان وجزر البحر الأبيض المتوسط وأجزاء من إيطاليا والنمسا، لقد كانت الدولة العثمانية الأكثر استقراراً في محيطها الواسع، وكانت إحدى مظاهر التاريخ العالمي، حيث وفرت الاستقرار للمدن الأوروبية التي انتشر الإسلام فيها، فغدت بلغراد مثلاً نموذجاً حضارياً متقدماً لوسط أوروبا باعتبارها بوابة الشرق.
عمل سلاطين بني عثمان على نشر الإسلام والدفاع عن حياضه، وقد برز ذلك واضحاً في استشهاد بايزيد الصاعقة وهو يدافع عن دمشق ضد غزاة المغول بعد نشر الإسلام في ربوع بلغاريا وإيطاليا وهزم التحالف الأوروبي في جهات نيكوبلي على الدانوب، سنة 5 79هـ/1392 م. وعلى أثر فتح القسطنطينية 857 هـ/53 4 1 م غدا الطريق ممهدا لانتشار الإسلام في أوروبا الشرقية، ومنطقة البحر المتوسط، فانتشر الإسلام في شبه جزيرة المورة (اليونان )، وصربيا، والبوسنة والهرسك ( يوغسلافيا )، وفي مناطق الأفلاق والبغدان (القسم الأعظم من رومانيا) ومنطقة بحر ايجة وبلغراد " ورو دس والمجر، وكان للحملات التي قادها سليمان القانوني 927 هـ/1520- 974 هـ 1566 م أبلغ الأثر في استقرار قاعدة الإسلام في أوروبا الشرقية ومنطقة البحر المتوسط، فقد وصل إلى قلعة كونش " koszeg سنة 39 9 هـ / 1532م، ودخلت قواته إلى، نمجة، أو شريا (النمسا الحالية)، وغدت مدينة كراس"graz " المدينة الكبيرة الثانية في النمسا مدينة إسلامية، ولم رأت تاريخ 1 2/1/1532 م، حتى كانت النمسا بكاملها إسلامية، وكان للسلطان حملات إلى إيطاليا (كورفو وبوليا) وإلى مولدا فيا (رومانيا) وبودين (المجر)، واستركون (المجر)،غربي بودين.
ويسجل التاريخ للسلطان سليمان القانوني قيادته للجيش العثماني حتى وهو في أشد حالات مرضه، فقد امتطى صهوة جواده صباح يوم 29 حزيران 1566 م وتفقد القوات العثمانية في صحراء زملن، في الساحل المقابل لبلغراد، وأعطى أوامره بفتح قلعة سيجفوار "sigervar ،، الألمانية، إحدى حصون ولاية بودين وما هي إلا أيام حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى ويتم الجنود فتح القلعة بعد خمس ساعات من وفاته.(5/124)
لقد نجحت الدولة العثمانية في تثبيت الإسلام في المناطق التي وصلها الإسلام، وأقامت عشرات المؤسسات والمنشآت الاجتماعية والثقافية مثل المساجد والجوامع والكليات والمدارس والتكيات والملاجئ والخانات والحمامات، ولا تكاد تخلو مدينة أوروبية من أثر إسلامي ديني ينبئ بالدور الحضاري الذي مثلته الدولة العثمانية المسلمة في تلك البقاع.
==============
اللقاء الحضاري بين الشرق الإسلامي والغرب الأوروبي
لم يقتصر اللقاء الحضاري بين الشرق والغرب على العصر الوسيط فقط، بل كان مستمرأ على ممر العصور والأجيال. ومن أهم مظاهره تلك الهجرات الفينيقية القديمة التي خرجت من سواحل الشام عبر البحر المتوسط إلى سواحل المغرب وأسبانيا حيث أسست مدناً تجارية لا زالت باقية إلى الآن، مثل "طنجة" و "قرطاجة" و "مالقة" و"قادس " و" قرطبة" وغيرها. ومثل حروب طروادة في آسيا الصغرى التي حاصرها اليونان عشر سنوات (1193- 1184 ق. م) وتغنى بمواقعها الشاعر "هوميروس " في الالياذة. ومثل الحروب الفارسية اليونانية التي كانت فتوحات "الاسكئدر" وانجازاته الحضارية من أهم مراحلها. وفي العصر الوسيط تمثل هذا اللقاء في الحروب التي نشبت بين أقوى أمبراطوريتين في ذلك الوقت: الفارسية والبيزنطية. وبعد ظهور الإسلام اتخذ هذا الصراع شكلاً دينياً في مظهره، فصار صراعاً بين المسيحية والإسلام. ثم استمر هذا اللقاء في عصورنا الحديثة وإن كان قد اتخذ أشكالاً وألواناً مختلفة كالاستعمار والإمبريالية والصهيونية..
والذي يهمنا في هذا الموضوع هو ذلك اللقاء بين الشرق الإسلامي والغرب الأوروبي المسيحي في العصر الوسيط، وما نجم عنه من إسهام حضاري متبادل بينهما.
لقد اصطلح المؤرخون على تحديد مراكز هذا اللقاء بالجسور أو المعابر الجغرافية الثلاثة التالية باعتبارها كانت أقوى المناطق التحاماً بين الجانبين، وهى على حسب ترتيب أهميتها: الأندلس، ثم صقلية، ثم الشام.
-----------
الأندلس
المراد بالأندلس هو أسبانيا الإسلامية بشبه جزيرة "أيبيريا" التي فتحت في خلافة "الوليد بن عبد الملك " وعلى يد "موسى بن نصير" ومطارق بن زياد سنة 92 هـ/ ا 71 م،). واستمر الحكم الإسلامي فيها حتى سقوط مملكة "غرناطة" آخر مملكة إسلامية في أسبانيا سنة 897 هـ/493 ا م.
لم يكن الفتح الإسلامي لأسبانيا مجرد احتلال عسكري صعدت فيه الجيوش الإسلامية إلى أقصى الشمال ثم هبطت إلى الجنوب، بل كان حدثاً حضارياً هاماً امتزجت فيه حضارة سابقة!كالرومانية" و "القوطية" مع حضارة جديدة لاحقة وهي الحضارة الإسلامية، ونتج عن هذا المزيج حضارة أندلسية مزدهرة وصلت إلى الفكر الأوروبي المجاور، و أثرت فيه، كما تغلغلت في الحياة الأسبانية وتركت فيها آثارا عميقة ما زالت معالمها واضحة إلى اليوم. ولا شك أن المسلمين حينما دخلوا أسبانيا وجدوا فيها سكاناً مثل "القوط " و "بقايا الرومان "، فاختلطوا بهم، ولم تلبث أن نشأت طبقة اجتماعية جديدة، وهي طبقة المولدين التي هي خليط من دم أهل البلاد الأصليين ودم العرب والبربر الفاتحين. هذا إلى جانب طبقة المستعربينMozarabes) ( وهم الأسبان المسيحيون الذين ظلوا على ديانتهم المسيحية ولكنهم تعربوا بدراسة اللغة العربية وآدابها وثقافتها، واتخاذ الأسماء والأزياء العربية.
وهكذا كانت أسبانيا بعد الفتح الإسلامي مزدحمة بالأجناس المختلفة، وكان من الطبيعي أن تتصل هذه العناصر بعضها ببعض، سواء بالمصاهرة أو الجوار أو الحرب، وأن يأخذ كل منها عن الآخر ويعطيه، مما كان له أثره في مزج هذه العقليات المختلفة والعناصر المتباينة. وما يقال عن تنوع هذه العناصر البشرية التي سكنت الأندلس، يقال أيضاً عن التيارات الثقافية المتنوعة التي تكونت منها حضارتها.
فمن المعروف أن الحضارة الأندلسية- مثل كل الحضارات- لم تنشأ فجأة، بل مرت في أدوار مختلفة وخضعت لمؤثرات حضارية مشرقية - شامية وحجازية ومصرية وعراقية - تربطها بالوطن الإسلامي الأم باعتبارها جزءاً منه. كما خضعت لمؤثرات أفريقية بحكم ارتباطها ببلاد المغرب والسودان الملاصقة لها من الجنوب. هذا إلى جانب المؤثرات المحلية الأوروبية بحكم البيئة التي نشأت فيها.
ولا شك أن وضع الأندلس الجغرافي في الأطراف الغربية البعيدة للعالم الإسلامي، وبجوار الغرب المسيحي في قلب أوروبا، جعلها في مواجهة مستمرة دائمة مع الدول اللاتينية هناك، وهذا جعلها بالتالي من أكثر الدول الإسلامية معرفة وتأثيراً بها. ذلك لأن الحياة الإسلامية في الأندلس لم تعرف الانفصال الجغرافي أو العنصري أو الحضاري بين المسلمين والمسيحيين، بل كانت حياة مشتركة اختلط فيها الفاتحون مع أهالي البلاد الأصليين.
وعلى الرغم من أن ما أخذته الأندلس من أوروبا كان أقل مما أعطته لها من ثقافتها، إلا أن هذا الوضع الجغرافي الأوروبي الذي تميزت به الأندلس، وهذا التداخل المستمر بين الإسلام والمسيحية في شبه جزيرة " أيبيريا"، قد أعطى الأندلس- رغم تعلقها بالوطن الأم- طابعاً فريداً ، وشخصية مستقلة مميزة. فالحضارة الأندلسية على هذا الأساس حضارة إسلامية عربية أسبانية، ولا يمكن أن نسميها إلا بهذه التسميات الثلاث. وعلى هذا النحو يمكن القول بأن حركة الفتع الإسلامية لأسبانيا ، كانت استمراراً لدور سابق، بمعنى أنه لم تعقبها حركة ركود أو توقف حضاري، بل استمرت القافلة تسير بسبب تواصلها مع الحضارة الأسبانية الأوروبية.
-------------
التقسيم الإداري في الأندلس
إن من يدرس جغرافية شبه وجزيرة "أيبيريا"، يجد أن حدودها الطبيعية تصلح تماماً لأن تكون حدوداً سياسية إدارية،فسلاسل الجبال ووديان الأنهار التي تقطعها في خطوط مستعرضة من الشرق إلى الغرب أو العكس، قد قسمتها إلى أقسام طبيعية يمكن تحويلها إلى وحدات إدارية وعسكرية واضحة المعالم. فما كان على المنظم أو الإداري إلا أن يثبت حدود هذه الوحدات ويعين قواعدها، فلا يجد صعوبة في إدارتها وجباية خراجها. وهذا ما فعله الرومان والقوط. ثم جاء المسلمون فاحتفظوا بهذه التقسيمات الإدارية ولكنهم سموها مدناً بدلا من كيفتاس Civtasا ، " وكورا " بمعنى ولايات- بدلاً من بروفنكياس Provingias، وأضافوا إليها عدداً من المنشآت التي تعطيها الطابع الإسلامي المميز لها كالمسجد الجامع، وقصر الإمارة أو الخلافة، والأسواق والقيساريات إلى غير ذلك مما يناسب طبيعة دولتهم الإسلامية. هذا إلى جانب ما أضافوه من مدن جديدة لأن البناء والعمران من مستلزمات التحضر ومثال ذلك:
(1) الجزيرة الخضراءAlceciras التي بناها "طارق بن زياد " بجوار جبل طارق، وكانت تعرف بجزيرة أم حكيم محلى اسم زوجته التي تركها هناك أثناء قيامه بفنج الأندلس.
(2) طريفTarifa، غربي الجزيرة الخضراء، وهي على اسم "طريف بن مالك " أحد قوادا، موسى بن نصير" الذي أغار على هذه المنطقة فسميت البلدة باسمه.
(3) قلعة أيوب Calayud في شمال أسبانيا. بناها "أيوب بن حبيب اللحنمي) الذي ولي الأندلس بعد مقتل ابن عمته "عبد العزيز بن موسى بن نصير".
(4) مدينة سالم Medinaceli في شمال أسبانيا. بناها "سالم بن ورعمال المصمودي " أحد قواد البربر الذين شاركوا في فتح الأندلس.
(5) تطيلة TUDELA على وادي الأبرو في شمال أسبانيا، بناها الأمير!الحكم بن هشام المعروف بالربضي ، وينسب إليها الشاعر "أبو العباس القيسي المعروف بالأعمى التطيلي (ت 532 هـ1127 م) ".(5/125)
(6) مرسيةMURCIA في شرق الأندلس وقد تعني المرساة التي أرسيت قواعدها. بناها الأمير "عبد الرحمن الأوسط الأموي سنة 216 هـ/\ 83 م) " وينسب إليها علماء كثيرون متنل "ابن سيده اللغوي الصنوير (ت 08 4 هـ/065 ام) "صاحب المخصص في اللغة، والعالم "ابن سبعين (ت 669 هـ أ" صاحب الرد العلمي المشهور على الإمبراطور "أفريدريك الثاني "، والفيلسوف الصوفي "محيي الدين بن عربي (ت 638 هـ)،ا صاحب كتاب الفتوحات الملكية.
(7) مجريط MADRID عاصمة أسبانيا الحالية، بناها "الأمير محمد بن عبدا لرحمن الأوسط (338- 373 هـ) "، وينسب إليها
الرياضي الفلكي " مسلمة المجريطي (ت 394 هـ) ".
(8) المريةALMERIA قاعدة الأسطول الأندلسي في شرق أسبانيا، بناها المسلمون الأوائل وازدهرت في عهد الخليفة "عبد الرحمن الناصر،"، وينسب إليها "بنو ميمون " قادة ا لأسطول الأندلسي والمغربي على عهد، المرابطين " و " الموحدين ، والعالم الزاهد "أبو العباس بن العريف (ت 535 هـ) " صاحب كتاب محاسن المجالسة. وقد يكون اسم المرية يعذي المرئية أي التي ترى من بعيد في البحر عن طريق مناراتها.
(9) سهلة بني رزينALBARRACIN في شمال شرق مدريد، نسبة إلى أمراء بني رزين المغاربة الذين حكموا تلك المنطقة. ولا يفوتنا أن نشير إلى اسم البرانس الذي أطلق على بعض جبال أسبانيا الشمالية، وهو اسم قديم لكتلة البربر!البرانس " في المغرب التي تنتمي إليها قبيلة "صنهاجة". هذا إلى جانب المنيات والحصون والقصور والقرى التي ما زالت أسماؤها العربية والمغربية تزخر بها الأراضي الأسبانية.
هذا، ويلاحظ أن كلا من الكور والمدن في الأندلس، كان لها استقلالها الإداري عن العاصمة قرطبة، وهت ا يدل على أن الأندلسيين لم يحرصوا على نظام المركزية في جهازهم الإداري، لأن طبيعة البلاد الجبلية تتنافى مع هذا التركيز سواء في الكور أو المدن. فولاة الكور وقواد المدن كان لهم قسط كبير من النفوذ المحلي وحرية التصرف دون الرجوع إلى الخليفة في "قرطبة". ولكن القول بأن هذه اللامركزية كانت صفة عامة في تاريخ أسبانيا الإسلامية والمسيحية بوجه عام حتى اليوم.
---------------
نظام الحكم والإدارة أو ما يسمى بالخطط
حظيت الأندلس بنظام حكم إداري متطور إلى حد كبير عن مثيله في الشرق الإسلامي أو الغرب المسيحي.
فإذا تناولنا خطة الوزارة فني قرطبة عاصمة الأندلس في عهد الدولة الأموية، وجدنا أنها كانت متعددة المناصب ولها رئيس وزراء يسمى الحاجب، وهو الذي يتصل بالخليفة. وهذا التعدد في مناصب الوزراء لا نجده في نظام الوزارة بالشرق الإسلامي أو الغرب الأوروبي، حيث كانت السلطة مركزة في يد وزير واحد، وقلما وجد وزيران،. أما في الأندلس فكل ناحية من نواحي الإدارة العامة مثل المال والترسيل والمظالم والثغور، لها وزير مختص بها، ثم هناك الرئاسة العامة للوزارة وهي الحجابة التي تختلف عن الشرق، حيث كان الحاجب هو الشخص الذي يقف بباب الخليفة أو السلطان. كذلك وجد في القصر الخلافي بالأندلس بيت خاص لانعقاد مجلس الوزراء فيه. فالوزارة في الأندلس كانت قريبة الشبه بنظم الوزارات الحديثة CABINET OF MINSTERS وهي في هذا تختلف عن نظام الوزارة المعروف في الشرق أو الغرب في العصر الوسيط. ومن الطريف أن وزير المالية في الأندلس كان يسمى في بعض الأحيان بصاحب الأشغال وهي نفس التسمية المستعملة اليوم في أسبانيا، حيث يسمى وزير الماليةMINISTRO DE HACIENDA أي وزير الأشغال وتعني وزير المالية.
وما يقال عن الوزارة يقال أيضا عن خطة القضاء في الأندلس، إذ نلاحظ فرقاً جوهرياً بين منصب قاضي القضاة في الشرق وقاضي الجماعة في الأندلس. فقاضي القضاة في بغداد أو القاهرة هو قاضي الدولة كلها، ومن سواه من القضاة في الأقاليم والأمصار نواب عنه، فهو المتصرف فيهم تعييناً وعزلاً ، ولهذا يلقب بقاضي القضاة فقط أو قاضي بلد كدا. أما قاضي الجماعة في الأندلس فهو قاضي العاصمة قرطبة. والجماعة هنا تفسر بالجماعة الإسلامية التي استقرت في العاصمة الجديدة قرطبة. ولهذا فإن سلطته كانت قاصرة على قرطبة ونواحيها فقط، بمعنى أنه لم يكن له سلطان على بقية القضاة في الكور والمدن الأندلسية الأخرى، فهم مستقلون بأنفسهم وليسوا نواباً عنه، وهو لا يمتاز عنهم إلا من الناحية الأدبية فقط، بحكم كونه قاضياً للعاصمة، ومستشاراً للخليفة، وإماماً للصلاة في أيام الجمعة والأعياد. وهكذا نحد أن نظام القضاء في الشرق اتسم بطابع المركزية بينما اتبع في الأندلس نظام اللامركزية.
هذا وقد كان يوجد في الأندلس حق الاستئناف، فالخصم الذي لا يرضيه حكم القاضي، يستطيع أن يتظلم أمام قاض أخر يسمى صاحب الرد، الذي كان ينظر في القضية مرة ثانية، فإذا وجد فيها مظلمة ردها للقاضي، أو رفعها للسلطان كي يصدر فيها حكمه بعد استشارة مجلس المشورة الذي كان يضم قضاة الفتيا.
ويبدو أن ولاية الرد لم تكن موجودة إلا في المغرب والأندلس إذ أن فقهاء الشرق ولا سيما أبا الحسن الماوردي لم يذكرها في كتابه "الأحكام السلطانية". ويبدو أن صاحب الرد كان يشبه وزير الشكايات الذي ظل يقوم بدور الاستئناف في المغرب إلى عهد قريب. ولقد وجد في المشرق ديوان المظالم، ولكن لم تكن له صفة الثبات والديمومة مثل ولاية الرد. هذا، وتجدر الإشارة هنا إلى أن الغرب الإسلامي بصفة عامة، سار على سياسة تشريعية هامة وهي التمسك بالمذهب الواحد في قضاياه الدينية والدنيوية، ألا وهو المذهب المالكى ، حتى قيل أن أهل المغرب والأندلس لا يعرفون سو ى كتاب الله وموطأ مالك بن أنس " عالم دار الهجرة ت (179 هـ)، ولا شك أن هذه السياسة التي تتفق مع وضع المغرب والأندلس الجغرافي والحربي كثغور إسلامية ، قد جنبت تلك البلاد شرور الفتن والخلافات المذهبية، وحفظت لها سلامتها ووحدتها الروحية، فكانت لذلك درعاً واقياً للإسلام في أقصى الغرب، وهذه الظاهرة لا نجدها في المشرق مثل القاهرة ودمشق وبغداد التي تعددت فيها المذاهب والفرق، واشتدت الخلافات بينها، ومع ذللت كان لا يخشى عليها من هذا التعدد والخلاف المذهبي لأنها تقع في قلب العالم الإسلامي. ومن الطريف أن الممالك المسيحية الأسبانية المتاخمة للمسلمين في الأندلس، قد اتبعت هي الأخرى سياسة المذهب الديني الواحد باعتبارها هي الأخرى ثغراً للمسيحية في هذه المنطقة. فاقتصرت على المذهب الكاثوليكي، وتعصبت له حتى ضرب بها المثل بأنها أكثر تعصباً للكاثوليكية من البابا نفسه MASPAPISTAOUE EL PAPA وهذا الموقف المتشابه بين الجبهتين يدل على التداخل الحضاري بينهما.
بقي أن نشير إلى نقطة هامة وهي أن دخول المذهب المالكي في الأندلس، لم يلبث أن تأثر بعوامل البيئة المحلية، وأصبح له مظهر فقهي أندلسي مالكي مستقل. مثال ذلك أن الأندلسيين رغم اعتناقهم المذهب المالكي، أخذوا ببعض تعاليم إمام أهل الشام ودفين بيروت "أبي عمرو الأوزاعي (ت 157 هـ) "، والإمام المصر ي !الليث بن سعد (ت 75اهـ) " وفي ذلك يقول الفقيه "أبو الحسن النباهي المالقي (القرن 8 هـ) " في كتابه "المرتبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا" ص 149: "ومن المسائل التي خالف أهل الأندلس فيها مذهب مالك بن أنس هي أنهم أجازوا كراء الأرض بالجزء مما يخرج منها (أي الإيجار على الجزء المزروع منها فقط) وهو مذهب "الليث بن سعد "، وأجازوا غرس الأشجار في صحون المساجد وهو مذهب "الأوزاعي ".(5/126)
وقد تابع حكام الأندلس هذا التقليد في مساجد الأندلس ابتداء من "عبدالرحمن الأول " (الداخل) الذي أمر الفقيه "صعصعة بن سلام " صاحب الصلاة بالجامع (ت 193 هـ) بغرس صحن جامع قرطبة بالأشجار البديعة. واستمرت هذه العادة الجميلة منتشرة في مساجد الأندلس إلى يومنا هذا حيث نجد أشجار الليمون والنارنج (أحد أشجار الموالح المزهرة! في صحن المسجد الأموي بقرطبة بل وفي الكنائس أيضاً .
وإلى جانب القاضي في الأندلس، كان يوجد صاحب الشرطة الذي ينظر ويفصل في الجرائم السياسية والمدنية وكل ما يتعلق بحفظ الأمن في البلاد، فهو بمثابة قاضي الجنايات والمخالفات التي لا تدخل في اختصاص القاضي لأنها لا تتقيد أحكامها بأحكام الشرع تماماً، وفي هذا يقول "ابن خلدون ": وقد رؤى من باب السياسة تنزيه القاضي عن هذه السلطة المدنية، ووضعها في يد شخص أخر يكون عادة من كبار القادة وعظماء الخاصة وهو صاحب الشرطة". ويضيف "ابن خلدون " أن خطة الشرطة في الأندلس كانت تنقسم إلى شرطة عليا تنظر في الجرائم التي يرتكبها علية القوم، وشرطة صغرى تنظر إلى الجرائم التي يرتكبها عامة الناس. ولا شك أن هذا النظام الطبقي في المحاكمات يتنافى مع روح الإسلام. إلا أنه يعتبر من الأنظمة التي انفردت بها الأندلس.
وكان يعاون صاحب الشرطة رجال من العسس الذين يطوفون باالليل للحراسة ويعرفون بالدابين، لأن المدينة الأندلسية كانت لها دروب أو أبواب تغلق في أول الليل بواسطة هؤلاء الدابين، وكان كل واحد منهم معه كلب وسلاح وسراج. ومن الطريف أن عادة غلق الأبواب ليلاً بواسطة دابين ما زالت متبعة في أسبانيا منذ السماعة العاشرة ليلاً، وبواسطة درابين يعرفون باسم سيرينوس SERENOS (أي الساهرون)، فكل من يريد الخروج من المنزل أو الدخول فيه أثناء الليل عليه أن ينادي على هذا الحارس الليلي بطريقة التصفيق. وهذا الاستمرار في وظيفة الحراسة الليلية على الطريقة الأندلسية يعتبر إسهاماً حضارياً في هذا المجال.
وإلى جانب الشرطة، كانت هناك خطة الحسبة للإشراف على المعاملات الجارية في الأسواق، ومحاربة المنكرات فيها، إلى جانب الإشراف على الآداب العامة وأخلاق المجتمع في المساجد والمدارس والحمامات والأزقة والطرقات. ويلاحظ أن ولاية المحتسب في بلاد المغرب والأندلس، كانت أكثر تحديداً وضرورة لمقتضيات، الحياة منها في المشرق، ولهذا استمرت فيها بدون انقطاع. ولعل أحسن دليل على أهمية المحتسب من الناحية العملية في الأندلس، أن ملوك أسبانيا المحتسيين كانوا كلما استردوا إقليماً من المسلمين، ابقوا فيه المحتسب. ولهذا دخل لفظ المحتسب في اللغة الأسبانية تحت اسمALMOTACEN، ويطلق على الوالي المكلف بضبط الموازين والمكاييل. أما في المغرب فالأدلة على أهمية وظيفة المحتسب وشدة الحاجة إليها أنها باقية مستمرة حتى اليوم في المدن والبوادي المغربية، بينما زالت من المشرق. ويلاحظ أن اختصاصات المحتسب حالياً في المغرب لا تختلف كثيراً عما كانت عليه في العصر الوسيط.
---------------
الدور الاقتصادي للأندلس
حظيت الأندلس بشهرة اقتصادية كبيرة في ميادين الصناعة والتجارة والزراعة:
فالصناعة ازدهرت في المدن المختلفة، وتكونت معها طوائف حرفية عرفت باسم الأصناف وأرباب الصناع. وصار لكل صنف أو حرفة رئيس أو شيخ منتخب من أصحابها عرف باسم الأمين أو العريف، وكان هذا الأمين مسؤولاً ومدافعاً عن طائفته وأهل حرفته أمام ممثل الحكومة في سوق المدينة وهو المحتسب. فكان يبلغه رأي طائفته حول تكاليف السلعة التي يصنعونها وتحديد ثمن بيعها، . كما يقوم بدور الخبير الفني في الخلافات التي تقع بين أهل حرفته وعملائهم حول سلعة من السلع، ورأيه كان مقبولاً لدى القاضي أو المحتسب. وقد انتقل لفظ الأمين إلى اللغة الأسبانية على شكلAL - ALamin كما استمرت مهمة الأمين موجودة في بعض المدن المغربية وإن كان وجود النقابات العمالية الحديثة قد قللت من قيمة منصبه وأدرجته ضمن أعمالها.
ولقد شبهت الأصناف أو الطوائف الصناعية الإسلامية بنظام نقابات الصناع أو اتحادات العمال التي كانت تسمى في أوروبا Gulids أوCorporations، ولكنها في الواقع كانت تختلف عنها لأنها لم تشارك في إدارة المصالح العامة في المدينة أو تقوم بدور غير دور التحكيم في المشكلات المهنية، في حياة المدينة الاقتصادية، أو تنتزع بعض الامتيازات البلدية تدريجياً ، أو تتخذ لنفسها حامياً أو راعياً دينياً من الأولياء والقديسين كما حدث في العالم المسيحي. ثم أن الأصناف أو النقابات الإسلامية لم تعرف الانقسام الذي ظهر في أوروبا الغربية بين أصحاب العمل والعمال، والذي انتهى إلى نشأة جماعات أصحاب العمل، وجماعات العمال.
وكيفما كان الأمر فإن موضوع التشابه والاختلاف بين الأصناف الإسلامية والنقابات الأوروبية، ما زال موضع نقاش بين ا لمؤرخين.
على أن موضع الأهمية هنا، هو أن هؤلاء الحرفيين والصناع بحكم كونهم من طبقة العامة في المدينة الإسلامية، قد لعبوا دوراً هاماً في حياتها العامة، إذ شاركوا في ثوراتها الشعبية، وفرقها الدينية، واحتفالاتها ومواكبها العامة في المواسم والأعياد، وذلك في وقت لم يكن يوجد فيه على نطاق شعبي ذلك الترويح أو التنفيس الرياضي أو الاجتماعي الموجود حالياً.
ولقد كفلت المدينة الإسلامية لعمالها حرية واسعة في ممارسة أعمالهم، ولم تتدخل إلا في بعض الصناعات المحدودة التي كان يتطلب ممارستها الحصول على إذن خاص، مثل إنشاء الحمامات، وصنع الأسلحة، وسك النقود، وتركيب الأدوية، والعمل في دور الطراز. وهذا راجع بطبيعة الحال إلى أسباب تتعلق بالمصلحة العامة أو أمن الدولة. أما موارد الدولة الاقتصادية فكانت تقوم على ضرائب مشروعة وغير مشروعة تمول بها بيت المال. ومن أمثلة الضرائب المشروعة : الأموال الخارجية التي تجبى من الأراضي الزراعية، وأموال الزكاة والجزية والمواريث الحشرية (أي مال من يموت بدون وريث)، والعشور أو الأعشار وهي المال الذي يجبى من تجار الفرنج الذين يفدون ببضاثعهم إلى الموانىء الأندلسية فيدفعون عشر قيمتها. وقد انتقلت هذه التسمية إلى اللغة الأسبانية على شكل Alixases. ثم ضريبة التعتيب وهي ضريبة جديدة فرضت في الأندلس في عهد المرابطين وكان الغرض منها ترميم الحصون والأسوار التي حول المدن الرئيسية ويقوم بسدادها أهل هذه المدن المنتفعة بها.
وأما الضرائب غير المشروعة والتي كانت تسمى بالمكوس أو المغارم ، فهي ضرائب إضافية نشأت عن حاجات وظروف معينة، اضطرت الدولة إلى فرضها. وكان بعضها يعطى التزاماً ، ويسمى الملتزم في الأندلس بالمستقبل بينما يسمى الالتزام قبالة، ومنه دخل في الأسبانية لفظ Alcabala.
ومن حصيلة هذا الدخل المالي في بيت المال كانت الدولة تقوم بأوجه النفقات المختلفة على الجيوش والشرطة والقصر الخلافي والموظفين والدواوين والمنشآت العامة كالمساجد والمستشفيات والسجون، والعناية بمياه الشرب وإزالة الأوساخ من المسالك والأنابيب . … الخ.(5/127)
غير أن هذه الخدمات الحكومية لم تكن لها صفة الدوام في كثير من الأحيان، مما اضطر بعض المدن الكبيرة إلى الاعتماد على نفسها في سد حاجاتها. ومن هنا ظهر لها مورد مالي آخر لعب دوراً هاماً في اقتصادها، وهو نظام الحبوس الذي يسمى في المشرق بالوقف. وهو نظام إسلامي المراد به هو الأراضي والمؤسسات التي تكون ملكا لشخص حر التصرف في ماله، ثم يتنازل عن حقه في عائدها أو دخلها، ويجعله وقفاً محبساً وبصفة دائمة على المؤسسات الدينية والعلمية والصحية..، إلى غير ذلك من المنافع العامة التي تشبه حالياً خدمات البلديات.
ولقد ارتقت الصناعة في الأندلس بتوالي الأجيال واتصال العمران ووفرة المواد الخام النباتية والمعدنية التي اشتهرت بها أسبانيا. على أنها ظلت مع ذلك في مستوى الصانع اليدوي، كما هو سائد في تلك العصور، وبقيت السلع تصنع في البيوت أو المحال وا لحوانيت.
ولا يتسع المجال لحصر الصناعات التي أنتجتها الأندلس، فهي كثيرة ومتنوعة، ولذا نكتفي بذكر أهمها وهي:
(1) صناعة المنسوجات: كالحرير بأنواعه المختلفة مثل الخز ويصنع من الحرير والصوف أو الوبر، ومثل الإبريسم وهو حرير خالص، والديباج وهو نسيج حريري موشى بخيوط من الذهب أو الفضة. وكان هذا بفضل عناية أهلها بتربية دودة القز ووفرة أشجار التوت التي تتغذى القز على أوراقها. ويشير المؤرخ الأندلسي ، عريب بن سعد (ت 370 هـ) " إلى دور النساء في انتقاء الشرانق ورعاية بيض دودة القز من (شهر فبراير) إلى أن يفقس في (شهر مارس) من كل سنة.
ومن أهم مراكز تربية دودة القز: "غرناطة" و "مالقة" Jaenالتي كان يقال لها جيان الحرير لكثرة اعتنائها بدودة الحرير. وكانت مدينة" المرية"، في شرق الأندلس، من أهم مراكز صناعة المنسوجات الحريرية، ويقدر عدد الأنوال فيها بحوالي 5800 نول. كذلك اشتهرت "أشبيلية" بالحلل الموشاة النفيسة ذات الصور العجيبة والمنتجة برسم الخلفاء فمن دونهم. وبالمثل يقال بالنسبة للثياب الحريرية السرقسطية في شمال أسبانيا. وقد حظيت المنسوجات الأندلسية بشهرة كبيرة في الأوساط الأوروبية الراقية، ونجد ذلك واضحاً في سير الملوك والبابوات والقادة وغيرهم الذين حرصوا على اقتناء هذه الملابس الثمينة. وما زالت هناك قطع عديدة من المنسوجات الأندلسية تحتفظ بها المتاحف الدولية.
كذلك اشتهرت الأندلس بصناعة الأنسجة الصوفية، خصوصاً وان قسوة المناخ في أسبانيا تحتم اهتمامها بمثل هذه الملابس، ولهذا استخدموا فراء السمور ، وفراء القنلية Conejo (الأرنب الجبلي)، والمرعزي المصنوع من شاعر الماعز، إلى جانب الملابس الصوفية. وقد اشتهرت كل من "سرقسطة"، وقونقة Cuenca "وجنجالة"Chinchilla" بعمل ذلك.
أما صناعة السجاد والبسط والحصير، فأهم مراكزها تقع في شرق الأندلس مثل !موسية" و"بسطة Baza ". ولعل كلمة الفومبراALFOMBRA الأسبانية التي تعني سجادة أو بساط جاءت من الكلمة العربية الخمرة أي الحصيرة، أو لعلها من الحمرة، لأن اللون الأحمر كان يلعب دوراً رئيسياً في ألوانها على غرار البسط الفارسية والمصرية في المشرق.
(2) صناعة السكر: لعبت الأندلس دوراً كبيراً في زراعة قصب السكر وعصره وتصنيعه ثم تصديره إلى العالم الخارجي، ومن أهم مراكز إنتاجه وتصنيعه "غرناطة" و "مالقة" و "المنكب " ALMUNECAR" واستمر إنتاج السكر في الأندلس حتى سقوط الحكم الإسلامي بها سنة 493 ا م ، لدرجة أن الأسبان سمحوا لعدد كبير من المورسكيين (المسلمين المعاهدين) المشتغلين بزراعة السكر، بالبقاء في أسبانيا، ولكنهم رفضوا، وقد ترتب على رحيلهم تضاؤل كمية إنتاجه.
(3) ساهمت الأندلس بدور فعال في صناعة الورق الجيد (الكاغد) منذ وقت مبكر سبقت به أوروبا قروناً عديدة، واشتهرت بصناعته كل من "شاطبةJATIBA " و "بلنسيةVALECIA " في شرق الأندلس. كذلك انتشرت الصناعات الجلدية ودبغها على ضفاف الأنهار، واختصت "قرطبة" بشهرة عالمية في هذه الصناعة، حتى نسبت إليها مصطلحات فرنسية بهذا المعنى، فأطلقوا على صانعي الأحذية كلمة "Cordonniero " وعلى الجلد نفسه كلمةCordouan ". أما المصنوعات الزجاجية والخزفية فاشتهرت بها "مالقة" و "المرية" كما اشتهرت !قيجاطة QUESADA " بمصنوعاتها الخشبية. هذا إلى جانب المصنوعات العاجية التي تميزت بدقتها وجمال زخارفها على شكل أشخاص أو حيوانات كانت تطعم بها العلب الصغيرة والأدوات المنزلية. ويقال أن كلمة مارفيل " MARFIL" الأسبانية أي العاج مشتقة من الأصل العربي "ناب فيل ".
التجارة: وما يقال عن شهرة الأندلس في الصناعة يقال أيضاً عن مجال التجارة، ولا سيما أن الأندلس تميزت بسواحلها الطويلة وموانيها العامرة، التي تطل على مياه البحر المتوسط والمحيط الأطلسي شرقاً وغرباً وجنوباً. ولهذا أطلقوا عليها اسم جزيرة الأندلس، لأن العرب لم يستخدموا مصطلح شبه الجزيرة في كتاباتهم.
وتعتبر منطقة شرق الأندلس LEVANTE المطلة على البحر المتوسط، أكثر الأقاليم الأسبانية تعرباً، لأن الإسلام أثر فيها تأثيراً عميقاً ، بدليل أن معظم أسماء الأماكن فيها عربية الأصل، ويرجع ذلك إلى نشاط اليمنيين القضاعيين، الذين أسند إليهم الأمويون حراسة هذه المنطقة وعمارتها، بما لديهم من خبرة ملاحية قديمة في المشرق، ولذا سميت بأرض اليمن أي عطيتهم واقطاعهم. وتعتبر مدينة "المرية" هي القاعدة التجارية الرئيسية لهذا الإقليم، وامتلك تجارها ثروات ضخمة حتى يروى على سبيل المثال أن تاجراً استضاف الحاجب، المنصور بن أبي عامر" وجيشه الذي يقدر بالآلاف مدة أربعة عشر يوماً.
ولقد أفاض الجغرافيون والرحالة في ذكر أهم المنتجات الأندلسية التي كانت تصدر إلى الخارج مثل الملابس المطرزة، والأصواف والأصباغ والحرير واللبود الفاخرة، والورق السميك، والتين الفاخر الجاف، والخزف المذهب، والزعفران، وعصير الكروم، الحلال منه والحرام.
أما الزراعة فتتمثل في المزارع والحدائق والبساتين التي اشتهرت بها الأندلس، والتي كانت تربطها شبكة من القنوات المائية التي ما زالت محتفظة بأسمائها العربية في اللغة الأسبانية، مثل الساقيةACEQUIA بمعنى الجدول الصغير، والناعورةNORIA، والبقاع VEGA ومنها انتقلت إلى أمريكا 5LAS VEGAS كما أطلقوا على القصور الملكية الخلوية ذات الحدائق والرياض اسم المنيات جمع منيةHUERTA، وقد انتشرت هذه المنيات حول "قرطبة" وعلى ضفاف الوادي الكبير، وأشهرها منية الرصافة التي بناها "عبد الرحمن الداخل " وشمال قرطبة" ومنية الزهراء والتي بناها الخليفة" عبد الرحمن الناصر في شمال غرب "قرطبة"، ومنية الزاهرة التي بناها الحاجب "المنصور بن أبي عامر" في شمال شرق وقرطبة". وفي مدينة "بلنسية" بنى الأمير "عبد الله بن عبد الرحمن الداخل)، منية من هذا النوع، أطلق عليها اسم الرصافة ، محاكياً بذلك قصر والده. وقد اشتهرت ضواحي "بلنسية" بأزهارها وورودها، وأشجار البرتقال التي تعطر جوها بأريجها ذكي الرائحة، ولذا عرفت، بلنسية" باسم "مطيب الأندلس " أي معطرها.(5/128)
ومن الطريف أن مدينة " بلنسية" ما زالت تحتفظ إلى اليوم ببعض مظاهر ما تبقى من نظم المسلمين المتعلقة بسقاية هذه البساتين، ألا وهي محكمة المياه TRIBUNAL DELASAGUAS، التي تعقد عند باب الكاتدرائية في الساعة العاشرة ظهراً من كل يوم خميس. وتتألف هيئة المحكمة من خبراء بشئون الري يمثلون نواحي كورة "بلنسية" ويرأسها مندوب من الحكومة. فإذا دقت الساعة الثانية عشرة، قام الحاجب ليعلن افتتاح الجلسة وينادي أصحاب الظلامات. وبعد المناقشة والمداولة يصدر الرئيس الحكم وهو حكم ملزم لا يقبل المناقشة أو الاستئناف . وهذا ما كان يحدث قديماً أيام المسلمين عند باب المسجد الجامع في لنفس موضع الكاتدرائية. ولا يفوتنا أن نشير إلى جنة العريفEL GENERALIFE وهو اسم الحديقة الجميلة التابعة لقصر الحمراء في لغرناطة "LA ALHAMBRA"، ذلك القصر الذي صار نموذجاً يحتذى به في بناء القصور الملكية وغيرها في أنحاء العالم.
وقد حافظ الأسبان على القصر وحدائقه الغناء التي لا نسمع فيها إلا خرير المياه في كل مكان. وقد عبر عن ذلك الشاعر الأسباني جاريثا لوركا بقوله، غرناطة التي تبكيGRANADAQUE ELORAE كناية عن كثرة مياهها.
كذلك اشتهرت الأندلس بزراعة أنواع مختلفة من الخضراوات والفواكه لدرجة أن كثيراً من أسمائها دخلت في اللغة الأسبانية مثل: الباذ نجان BERENJENAS الخرشوف ،ALCARCHOFA 1لسلق ACELGA 1 لزيتون ACEITUNA الزعفرانAZAFRAN، 1لأرز ARROZ السكر AZUCAR النارنج (البرتقال) NARANJA البطيخ السندي SANDIA.. الخ.
بقي أن ننوه بالجهود المثمرة التي بذلها علماء الأندلس في تقدم العلوم الزراعية، فقد صنفوا فيها كتباً علمية وأجروا عليها تجارب تطبيقية أفادت العالم: فمنهم من اعتبر أسماء النباتات والأشجار جزءا من اللغة العربية فدونوها في معاجمهم، كما فعل العالم الأندلسي الضرير "أبو الحسن بن سيده " (ت 458 هـ) في كتابه المخصص. ومنهم من اهتم بالنباتات الطبية التي يستخرج منها الأدوية والعقاقير لفوائدها الصحية، مثل "ضياء الدين بن البيطار المالقي " (ت 646 هـ) صاحب كتاب (الجامع لمفردات الأغذية والأدوية"، ومنهم من كتب عن النبات من حيث زرعه ونموه وتسميده وحصاده أي ما يسمى بالفلاحة، ومن أشهرهم العالم الاشبيلي "أبو زكريا يحيى بن العوام " في كتابه (الفلاحة في الأرضين ".
مما تقدم نرى أن الأندلس قد تميزت بنزعتها الجمالية نحو حب الورود والأزهار والأشجار، نلمسها في أحواش. بيوتها PATIOS المزينة بالنافورات والأزهار، وفي صحون مساجدها المليئة بأشجار اللبمون والبرتقال، وفي قصائد شعرائها في وصف جمال الطبيعة، وفي مؤلفات علمائها عن الفلاحة والأعشاب الطبية، بل وحتى في أصول أحكامها التشريعية والفقهية التي تتمشى مع ميولها الطبيعية ونزعتها الجمالية.
-----------
الدور العلمي للأندلس
حديثه طويل ومتشعب ومادته غزيرة نجدها فيما تبقى لدينا من تراث أندلسي، ولا سيما كتب التراجم والفهارس والرسائل التي تناولت موضع فضائل أهل الأندلس، مثل رسالة "أبي محمد بن حزم " (ت 456 هـ) إلى "الحسن بن الربيب القيرواني "، ورسالة " أبي الوليد الشقندي"(ت 639هـ) إلى "يحيى بن المعلم الطنجي " ورسالة "لسان الدين بن الخطيب " (ت 776 هـ) في مفاخرات " مالقة "وسلا "، ورسائل علي بن سعيد المغربي " (ت 685 هـ) التي أوردها "أحمد المقري " (ت 1041 هـ) في موسوعته نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب.
ولقد أنجبت الأندلس عدد أ كبيراً من العلماء والفقهاء والأدباء والشعراء والمؤرخين والأطباء وغيرهم، ممن أثروا الحركة الفكرية بمؤلفاتهم، ووصلوا إلى العقل الأوروبي وأثروا فيه.
وما أسرده هنا من أسماء إن هو إلا قليل من كثير وحصاة من ثبير كما يقولون :
فهناك الفقيه " أبو محمد على بن حزم القرطبي " (ت 456 هـ/1063 م) الذي تظهر أصالته واعتزازه بنفسه ووطنه في كتاباته التي سبقت عصرنا. نذكر منها كتاب تطوق الحمامة في الألفة والآلاف " الذي يتناول فيه صفة الحب ومعانيه وأسابه وأعراضه. فنجده يعرض عن ذكر ما كتبه الأقدمون من أشعار الغزل وبكاء الأطلال والدمن ويسلك طريقاً مستقلاً يبين نضجه وأصالته.
وقد اهتم الأوروبيون بهذا الكتاب واعتبروه أول دراسة نفسية تحليلية لعاطفة الحب والمحبين، وترجموه إلى لغات عديدة. أما كتابه "الفصل في الملل والأهواء والنحل "، فهو عبارة عن دراسة نقدية للأديان والمذاهب والفرق الدينية المختلفة، ومقارنة بعضها بالبعض الآخر ويلاحظ أن هذا النوع من الدراسة، وهو التاريخ المقارن للأديان، لم يوجد في أوروبا إلا في القرن الماضي، وهذا يرينا أصالة هذا الكتاب واسهامه في الحضارة الإنسانية.
وما يقال عن "ابن بحزم " يقال أيضاً عن معاصره وصديقه "أبي مروان بن حيان القرطبي " (ت 469 هـ077 1 م) الذي يعتبر أعظم مؤرخ أنجبته أسبانيا الإسلامية والمسيحية في العصر الوسيط. فلقد ثبت من الأخبار التي أوردها في كتابيه "المقتبس " والمتين "، أنه ، على دراية واسعة ومعرفة دقيقة بكل ما يتعلق بتاريخ الأندلس وتاريخ الممالك الأسبانية المسيحية، بل وأيضا بعض جوانب من التاريخ الفرنسي فيما وراء جبال البرتات.
والواقع أن كتابات " ابن حيان " بالنسبة للباحثين الحديثين هي بمثابة خزانة علمية لهذا التراث الأسباني العربي بمختلف صوره وأشكاله، ولا يمكن لأي باحث أن يستغني عن قراءتها والرجوع إليها.
ومن أبناء" قرطبة "أيضاً الجراح الشهر"أبو القاسم خلف الزهراوي ،(ت 403 هـ/1013م) الذي ينسب إلى منية الزهراء في ضواحي غرب "قرطبة" وقد اشتهر في أوروبا بأسم (ABULCASIS ) " ويعتبر كتابه "التصريف لمن عجز عن التأليف "، موسوعة طبية مزودة برسوم الآلات الجراحية. ويعتبر "الزهراوي " بهذا العمل أول من جعل الجراحة علماً مستقلاً بذاته، وقائماً على أساس من العلم بالتشريح. وقد ترجم هذا الكتاب من قديم إلى اللاتينية والعبرية، كما نشر في " حيدر أباد" بالهند. كذلك أنجبت "اشبيلية" أسرة " بني زهر" التي كانت لها شهرة وزعامة ومؤلفات في عالم الطب على عهد المرابطين والموحدين، حتى صار اسم "ابن زهر" علماً معروفاً في الأوساط العلمية الأوروبية باسم AVENZOA .
أما في ميدان الفلسفة فحسبنا أن نذكر "أبا الوليد محمد بن رشد القرطبي"(ت 595 هـ/ 1198 م) الذي اشتهر بشروحه لكتب أرسطو وصارت فلسفته تدرس في جامعات أوروبا مثل جامعة " باريس "، وجامعة " بادوا " PADOVA " في إيطاليا. وقد بلغ من حب الأوروبيين لشروحه أن تخيلوا أرسطو بعمامة كما يقولون، وذلك لأن كتاباته امتازت بالعمق في التحليل والقوة في الشرح والأمانة في الترجمة. وقد أطلقوا عليه اسم المعلم الأكبر ويسمونه AVERROES وقد وضعه الشاعر الإيطالي دانتي في ملحمته الشعرية"الكوميديا الإلهية" في منطقة اللمبو LIMBOبين الفردوس والجحيم أي ما يقابل الأعراف في الإسلام، ووضع معه "ابن سينا" و "صلاح الدين " من المشرق، لأنهم من فضلاء الناس وتقديراً لأعمالهم. ولقد ترجم "ميخائيل سكوت " أعمال "ابن رشد" إلى اللاتينية في مدرسة "، طليطلة سنة 1330 م " فكان أول من أدخل فلسفة " ابن رشد" إلى أوروبا.(5/129)
وفى مجال الشعر الشعبي نذكر الشاعر الضرير "مقدم بن معافى القبري "(ت 399 هـ/912 م) نسبة إلى بلدة "قبرة" من أعمال "قرطبة". وهو الذي ابتكر فن الموشحات الذي يعتبر ثورة في الشعر العربي وحركة من حركات التجديد التي حررته من قواعد العروض. وبالمثل يقال بالنسبة للشاعر "أبي بكر محمد بن قزمان القرطبي " (ت 507 هـ/1114 م) الذي ابتكر فن الأزجال، وصار يتغنى به في الأسواق بمساعدة بعض الآلات وجوقة من المنشدين. ويلاحظ أن الموشحة والزجل فن شعري واحد مع فارق أساسي هو أن الموشحة عربية صميمه ما عدا الجزء الأخير منها وهو الخرجة باللغة الأسبانية أو العامية الأندلسية. أما لغة الأزجال فهي كلها باللغة العامية الدارجة الجارية على ألسنة عامة الناس تتخللها كلمات وعبارات من عجمية أهل الأندلس. ويلاحظ أن هذه الأغنية الشعبية الأذدلسية ذات الخرجة الأوروبية وما تطور عنها من زجل بعد ذلك، لم تؤثر في الشعر العربي فحسب بل أثرت أيضاً في الشعر الأوربي الذي أخذ في الظهور في جنوب أوروبا في أواخر القرن الخامس الهجري (11م)، وكان ينشده المغنون الجوالون المعروفون باسم التروبادور TROUBADURES في جنوب فرنسا، والخوجلارس JUGLARESفي شمال أسبانيا. كذلك يقال أن الأغاني التي كان ينشدها الأسبان في أعياد الميلاد باسم ( VILLANCICO) هي زجل أندلسي.
ونختم هذه النخبة القليلة من العلماء الأندلسيين باسم الوزير العالم الغرناطي "لسان الدين بن الخطيب "(ت 776 هـ/1374 م) الذي امتدت كتاباته ومواعظه ونصائحه إلى ملوك عصره من المسلمين والمسيحيين فكان لها تأثير كبير عليهم، وكثيراً ما استجابوا لها، فنجحت بذلك معظم أهدافه السياسية. وحسبنا أن نشير إلى النصائح التي أرسلها إلى ملك " قشتالة " بدرو الأول، والتي أوردها باللغة الإسبانية المؤرخ الإسباني المعاصر، " لويت دي أيالا " في مدونته عن تاريخ ملوك "قشتالة".
ويضيف المؤرخ الإسباني القديم "استبان جاريباي)، في مدونته مختصر تاريخ ممالك أسبانيا "أن القيم الأخلاقية التي اتسمت بها مواعظ هذا المسلم ابن الخطيب تفوق في قيمتها ما كتبه سينكا وغيره من فلاسفة الرواقيين الأقدمين ".
============
حركة النقل والترجمة في أسبانيا بين الأخذ والعطاء
إن التاريخ الأندلسي تاريخ عربي إسلامي يعتد بعروبته وعقيدته، وله شخصيته التي لم تلبث أن فرضت نفسها على المدونات والحوليات و. الملاحم الأسبانية المسيحية المعاصرة، وأثرت فيه بشكل واضح. على أن هذا العطاء الثقافي الأندلسي، كان يقابله أخذ أيضاً من الثقافة المسيحية اللاتينية واليونانية.
وقدت عرف عن الأندلسيين ولعهم الشديد بعلم التاريخ، إلى درجة أنهم كانوا يعتبرونه أنبل علم عندهم على حد قول "ابن سعيد المغربي ". لهذا أقبلوا بدافع الحاسة التاريخية إلى تلمس الأخبار وتقصي الحقائق من مختلف مظانها اللاتينية واليونانية القديمة، لمعرفة تاريخ وحضارة بلدهم الأندلس والأمم المجاورة لهم منذ أقدم العصور. ولهذا يلاحظ بشكل واضح أن الأخبار الدقيقة المفصلة التي أوردها المؤرخون والجغرافيون الأندلسيون عن الممالك المسيحية في شمال أسبانيا وما ورائها، تدل على أنهم أطلعوا على مدونات لاتينية مسيحية قديمة فقد معظمها اليوم، أو أنهم استمدوا هذه الأخبار من أهل الذمة من النصارى واليهود المقيمين في الأندلس، والعارفين بأخبار هذه الممالك المسيحية، وهو في كلتا الحالتين أمر يدل على تأثر مؤرخينا بالثقافة اللاتينية المسيحية، فضلا عن إمكانية معرفتهم باللغة الإسبانية التي كانت شائعة بين معاصريهم من مسلمي الأندلس، كما نص على ذلك صراحة الفقيه "ابن حزم القرطبي ".
ولعل المصدر اللاتيني الأساسي الذي استمد منه المؤرخون والجغرافيون الأندلسيون معلوماتهم عن تاريخ الرومان والأمم التي حكمت أسبانيا قبل الإسلام وعن صفة شبه جزيرة ليبيريا، هو كتاب "التواريخ السبعة في الرد على الوثنيين " للراهب الروماني الأسباني " المولد والنشأة "بولس هروشيش PAULS HOROSIUS الذي عاش في أواخر القرن الرابع وأوائل الخامس الميلادي. ونظراً لأهمية تاريخ "هروشيش "، فقد قام بترجمته إلى العربية في عهد الخليفة، " عبد الرحمن الناصر" (300- 350 هـ)، الفقيه الأندلسي قاسم بهن إصبع البياني "، ـ نسبة إلى بيانه من أعمال "قرطبة"- بالاشتراك مع قاضي النصارى ومترجمهم "الوليد بن الخيزران "، المعروف "بابن مغيث ". وقد استفاد المؤرخون والجغرافيون الأندلسيون من هذه الترجمة العربية.
أما عن أخبار الممالك المسيحية الأسبانية والأوروبية التي عاصرت الحكم الإسلامي في الأندلس، فهي كثيرة ومتعددة في كتابات المؤرخين والجغرافيين الأندلسيين، والتأثير الأسباني واللاتيني واضح فيها، ونجد ذلك بوضوح في روايات "العذري " و " البكري و"الأدريسي " و،" ابن حزم " و "ابن القوطية،" و "ابن حبان " و "ابن الخطيب " وغيرهم. وكل هذا يعبر عن التأثير والتأثر بين هاتين الثقافتين المتجاورتين.
ولم يقتصر الأمر على الثقافة اللاتينية، بل تأثر الأندلسيون أيضاً بالثقافة اليونانية التي كانت معروفة ومألوفة لديهم، فالشاعر الزجال "سعد بن عبد ربه " (ت 341 هـ)، ابن عم صاحب العقد الفريد، كان معنياً بكتابات الإغريق وعلوم الأوائل ويشير " ابن الخطيب " إلى أن حكم اليونان كانت تدرس في الأندلس ولاسيما لأبناء الطبقة الراقية من الملوك والأمراء، وضرب أمثلة على ذلك ببعض أمراء بني الأحمر في مملكة "غرناطة". على أن أهم إنجاز علمي قامت به الأندلس في هذا المجال، هو ترجمة الكتاب اليوناني المشهور "الأدوية المفردة" الملقب بكتاب الحشائش للطبيب اليوناني "ديوسقوريدس DIOSCORIDES الذي عاش في القرن الأول الميلادي. فيروي المؤرخون أن الخليفة الأندلسي "عبد الرحمن الناصر"، عندما تسلم نسخة من هذا الكتاب كهدية من الإمبراطور البيزنطي "قسطنطين السابع "، سنة 337هـ ، شكل لجنة علمية لترجمته إلى العربية. وقد أثار ظهور هذه الترجمة العربية موجة من الحماس بين الأندلسيين الذين أقبلوا على دراسة الطب والنباتات الطبية، متخذين من كتاب " ديوسقوريدس " مصدراً رئيسياً لهم، وكل هذا يدل على تأثير الثقافة الإغريقية في حضارة الأندلس.
على أن الأندلس وإن كانت قد استفادت من الثقافة اللاتينية والإغريقية، إلا أنها في نفس الوقت، أعطت وأثرت في المدونات والحوليات والملاحم الإسبانية منذ وقت مبكر عقب الفتح الإسلامي، مما يدل على أن مؤلفيها أخذوا مادتهم العلمية من مصادر عربية ولا سيما من ص دينة "طليطلة" الإسلامية المجاورة لحدودهم في شمال أسبانيا.(5/130)
ولما سقطت "طليطلة" TOLEDO في يد الأسبان سنة 478 هـ/1085م لم تفقد طابعها العربي قروناً طويلة، إذ استمر العلماء المسلمون، والمستعربون المسيحيون، واليهود يجتمعون في بلاط ملوكها المسيحيين، ويعكفون على ترجمة الكتب العربية إلى اللاتينية. وكانت هذه الكتب إما ترجمات عربية لأصول يونانية وفارسية وهندية، وإما من تأليف علماء المسلمين أنفسهم بما تضمنته من إضافات جديدة إلى الفكر الإنساني. وكلا النوعين كان جديداً بالنسبة لأوروبا التي كان التعليم فيها قاصراً على الأناشيد الكنسية. ولهذا صارت مدرسة المترجمين في "طليطلة" مركزاً ثقافياً كبيراً جذب إليه العلماء والدارسين من مختلف أنحاء أوروبا ولقد برز من كبار العلماء الذين أشرفوا على هذه الحركة العلمية، أسقف مدينة طليطلة "خيمينث دي رادا"، DE RADA " الذي يعرف أيضاً بالطليطلي ( 1170 ـ 1247 م). وكان يتقن عدة لغات من بينها العربية التي ساعدته كثيراً على الإفادة من المصادر العربية، وكتابة القسم الإسلامي من مدونته الكبيرة التي شملت تاريخ الرومان والقوط والعرب، وتسمى بحولية الطليطلي CRONICA DEL TOLEDANO " ولما ولي عرش أسبانيا الملك " ألفونسو العاشر" الملقب بالعالم أو الحكيم EL SABIO في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي (7 هـ)، دفع بمدرسة "طليطلة" إلى الأمام، وعمل على حمايتها ورعاية علمائها، وتشجيعهم على الاستمرار في أعمال النقل والترجمة. بل إنه شارك بنفسه في وضع الخطط التي يسيرون عليها ولقد اتسمت هذه النهضة بظاهرة جديدة تقوم على استخدام اللغة القشتالية (الأسبانية) مكان اللغة اللاتينية في تدوين المصنفات الأدبية والتاريخية والفلسفية. وبهذا الأسلوب استطاعت هذه المدرسة أن تصب كل هذه الأصول العربية واللاتينية واليونانية في قالب قشتالي. ولم يقتصر اهتمام هذا الملك العالم على مدينة "طليطلة" كمركز ثقافي، بل أنشأ إلى جانبها مراكز أخرى في مدينة "مرسية" وفي مدينة "اشبيلية" التي اتخذها قاعدة لملكه.
وتحدثنا كتب التاريخ والتراجم أن عدداً كبيراً من علماء المسلمين كانوا يجيدون اللغة الإسبانية، ويناقشون علماء المسيحية في مختلف المسائل الدينية والدنيوية. ومثال ذلك العالم الغرناطي، "محمد الرقوطي " الذي عهد إليه الملك " الفونسو العالم " تعليم المسيحيين واليهود في مدرسة "مرسية". وهناك العالم الغرناطي "عبد الله بن سهل "، في القرن السابع الهجري أيضاً، الذي كانت له شهرة كبيرة في، العلوم الرياضية لدرجة أن المسيحيين في شتى نواحي أسبانيا، كانوا يرحلون إلى داره في مدينة "بياسة" -BAEZE لمجادلته والاستفادة من علمه. ولا يتسع المجال لحصر الأعمال العلمية التي ترجمت تحت إشراف الملك "ألفونسو العالم "، ولكن يكفي أن نشير إلى شروح أعلام الفكر الإسلامي وآرائهم الفلسفية مثل شروح "ابن رشد" على مؤلفات " أرسطو" ويثروح "ابن باجة" وآراء "محيي الدين بن عربي " الصوفي المرسى، ورسالة "حي بن يقظان " لابن طفيل " والمقامات العربية الأدبية التي خلفت نوعاً من القصص الأسباني المعروف بالقصة البيكارسكية، NOVELA PICARESCA أو أنشودة الجوع EPOPEYA DEL HAMBRE. كذلك ثبت تاريخياً أن إحدى صور المعراج النبوي قد ترجمت من العربية إلى القشتالية والفرنسية واللاتينية بأمر من الملك "ألفونسو العالم " سنة 1264 م . لهذا كانت الفرصة سانحة أمام الشاعر الفلورنسي الإيطالي دانتي اليجييري (1265- 1321 م) لكي يصل إلى إحدى هذه الترجمات للمعراج الإسلامي. وهناك احتمال أن يكون أستاذه برونيتو لاتيني أو غيره ممن كانوا يترددون بين فلورنسا وبلاط ملك قشتالة، قد ساعد دانتي على ذلك بأن حمل له مسودة من الترجمة.
على أن العمل العلمي الكبير الذي أنجز تحت أشراف هذا الملك العالم، هو في الواقع مدونته التاريخية الكبرى المعروفة باسم التاريخ الأول لأسبانيا، primera cronica generalde espana .فهذه المدونة اعتمدت على العديد من المصادر العربية المفقودة مثل تاريخ "أحمد الرازي غازي القرطبي"(ت 344 هـ)، وتاريخ (ابن علقمة البلنسي"(ت 509 هـ)، فحفظت لنا معلومات هامة من هذا التراث الضائع. كذلك تضمنت هذه المدونة عددا من الملاحم الإسبانية التي تتصل أحداثها بتاريخ المسلمين في الأندلس ومن أهمها: ملحمة أبناء لارا السبعه ، Los Infantes de Lara التي تتصل أحداثها بعصر الحاجب "المنصور بن أبي عامر"، وملحمة زايدة المسلمة، Lamora zaidaزوجة المأمون بن المعتمد بن عباد" الذي قتله المرابطون في "قرطبة"، وملحمة الفارس الأسباني المغامر السيد "القمبيطور" أي المبارز El cid campeador الذي أستولي على " بلنسية" في أواخر القرن الخامس الهجري (11 م). وقد لاحظ المؤرخون أن هذه الملاحم Epicas،" تنبض بالعناصر العربية، وأن أحداثها، وإن كانت تتسم بطابع قصصي، إلا أنها تتصل اتصالا وثيقا بحياة المسلمين في الأندلس، كذلك لاحظوا أنها كانت في الأصل تتردد على ألسنة الناس على شكل أشعار باللغة الرومانية أو اللاتينية العامية، فجاء الملك " ألفونسو العالم "ودونها في حوليته في قالب نثري باللغة القنتشالية.
وهكذا نري مما تقدم أن الحولية التاريخية الكبرى للملك "ألفونسو العالم " هي مثل رائع لذلك الدور الذي قامت به الأندلس، كجسر حضاري، امتزجت فيه حضارتا الشرق والغرب.
0-----------
جزيرة صقلية
تعتبر جزيرة صقلية نقطة لقاء ثانية بين الشرق والغرب، ومعبراً آخر امتزجت فيه الحضارة الإسلامية بالحضارة الأوروبية، وذلك بفضل موقعها الجغرافي بين ساحل إيطاليا الجنوبي الذي لا يفصلها عنه سوى مضيق مسيني شمالاً، وبين الساحل التونسي القريب منها جنوباً. لهذا كانت صقلية حلقة اتصال سياسي وحضاري بين أفريقيا وأوروبا.
وتشاء الأقدار أن يتم فتح هذا المركز الحضاري الهام في عهد خليفة عالم وهو "عبد الله المأمون " حكيم بني العباس، وعلى يد قائد عالم وهو قاضي القيروان "أسد بن الفرات بن سنان " الذي أسند إليه الأمير زيادة الله الأول الأغلبي ، حاكم أفريقيا، قيادة الحملة إلى صقلية.
أبحرت(حملة من ميناء سوسة التونسية في أسطول من مائة مركب(سنة 212 هـ/827 م)، واتجهت نحو الساحل الغربي لجزيرة صقلية حيث استولت على مدينة " مازرة" Mazara وغيرها من النواحي المواجهة للساحل التونسي جنوباًَ، ثم اتجه أسد بن الفرات نحو شرق الجزيرة حيث قاتل البيزنطيين قتالاً شديداً حتى هزمهم، واستشهد هناك عند أسوار مدينة "سرقوسة" Syra cuse (213 هـ / 828 م)، بعد أن وطد الحكم الإسلامي في بعض نواحي الجزيرة.
ولقد واصل الأغالبة جهودهم في فتح صقلية بجميع مدنها وقلاعها، واستغرق منهم ذلك وقتاً طويلاً يقرب من ثمانين سنة (293 هـ/3. لم) وهي مدة طويلة إذا قورنت بفتح الأندلس الذي لم يستغرق أكثر من ثلاث سنوات. والسبب في ذلك يرجع إلى أن المسلمين لم يجدوا في أسبانيا سوى جيش محلي مفر، بينما كان وراء صقلية الإمبراطورية البيزنطية، تمدها بالمال والرجال. فضلاً عن قوة حصون الجزيرة ومناعتها. ولما قضى الفاطميون على دولة الأغالبة في المغرب (297 هـ/ 909 م)، ورثوا أسطولها وممتلكاتها. ومن ثم دخلت صقلية في فلك الدولة الفاطمية، وصار يحكمها ولاة من قبل الخلفاء الفاطميين سواء في المهدية أو في القاهرة بعد ذلك. إلا أن هذه التبعية كانت اسمية في غالب الأحيان خصوصاً في عهد أسرة الكلبيين (948- 1052 م) التي تمتعت باستقلال ذاتي في حكم الجزيرة.(5/131)
وكيفما كان الأمر، فإن صقلية حظيت خلال هذين العهدين الأغلبي والفاطمي، بحكم إسلامي مزدهر، وانتشر المسلمون فيها، وانتشرت معهم الحضارة الإسلامية في مدنها المختلفة. وقد أشاد الرحالة والجغرافيون المسلمون بما كان في هذه المدن من مساجد وقصور وحمامات وبيمارستانات وأسواق وأسوار وقلاع ومراسي… الخ. إلى جانب الصناعات التي أدخلوها كصناعة الورق والحرير والسفن والفسيفساء ذات الرخام الملون. كما استخرجوا المعادن المختلفة كالكبريت والنفط والنشادر والرصاص والحديد… الخ وشاركوا في ضروب الزراعة والتجارة، ونشروا لغتهم العربية وعاد اتهم وثقافتهم بين الخاصة والعامة.
غير أن صقلية لم تنعم بالهدوء والاستقرار مدة طويلة خصوصاً بعد انقراض دولة الكلبيين (1052)، إذ دبت فيها النزاعات الداخلية مما أدي إلى قيام فترة شبيهة بفترة ملوك الطوائف بالأندلس ومن ثم كان من السهل على أي فاتح أن بغزو الجزيرة من الشمال أو الجنوب.
وفشل بنوزيري أمراء أفريقيا في تحقيق ذلك من الجنوب، بينما نجح النور مانديون حكام جنوب إيطاليا في الاستيلاء على صقلية من الشمال لخلى يد الكونت "روجار" الأول حاكم قلورية (كلابريا) الذي انتهز فرصة النزاع الذي دب بين أمراء المسلمين في صقلية، وأخذ يتدخل في شئونهم مظهراً تأييده للأمير القادر بالله بن الثمنة صاحب "طرابنش Trapni( شمال غرب الجزيرة) ضد منافسه علي بن الحواس صاحب " اقطانية"، أ+ Catania (شرق الجزيرة). وبعد حروب د امت تسع سنوات، تمكن روجار الأول من بسط نفوذه على الجزيرة كلها (485 هـ/1092 م). ولقد ترتب على هذه الأوضاع السياسية السيئة في صقلية، أن غادرها عدد من كبار علمائها وأدبائها الذين ما لبثوا أن أثبتوا تفوقهم العلمي في البلاد التي استقروا فيها. ومثال ذلك الشاعر الصقلي المعروف "أبو محمد عبد الجبار بن حمديس " (ت 527 هـ / 1132 م ) الذي هاجر إلى بلاط الملك المعتمد بن عباد في " أشبيلية" بالأندلس، ورثى وطنه بأروع ما قيل من شعر في هذا الفن من المراثي.
كذلك نذكر الفقيه والعالم النحوي "أبا القاسم علي بن جعفر المعروف بابن القطاع الصقلي " الذي هاجر إلى مصر في خلافة الآمر الفاطمي واختاره الوزير " الأفضل بن بدر الجمالي " مؤدباً لأولاده. و "لابن القطاع " مؤلفات عديدة في اللغة والنحو والعروض وفي تاريخ صقلية، بعضها مفقود والبعض الآخر موجود. ويذكر الوزير الغرناطي "ابن الخطيب " أن بعض المهاجرين من صقلية إلى المغرب، غيروا انتسابهم إلى صقلية بالقلب (أي بقلب الياء قبل الصاد) فصاروا يعرفون بالصياقلة.
على أن، الملك روجار الأول (1092- 1101 م) وإن كان قد قضى على الحكم الإسلامي في صقلية، إلا أنه لم يتعرض للمسلمين من أهلها بأذ ى، يل عمل على حمايتهم وأقرهم على ديانتهم وشريعتهم، وترك لهم قضاتهم يتحاكمون إليهم، وجند فرقة منهم في جيوشه، كما أباح لهم حرية الاحتفال بأعيادهم علناً.
هذا فضلاً عن أنه امتنع عن الاشتراك في الحروب الصليبية رغم إلحاح البابا عليه في ذلك.
وهكذا كانت صقلية في أيامه مملكة نصف إسلامية في دينها وفي نظامها الإداري والعسكري.
وبعد وفاة روجار الأول خلفه ابنه روجار الثاني (1101- 1154 م) الذي أجمع المؤرخون على أنه قد بالغ في حماية رعاياه المسلمين بنفوذه وقوانينه، فأحبوه ومدحوه في شعرهم لدرجة أن بعضهم كان يعتقد خط أنه كان مسلماً في السر. وقد بلغ من تسامح هذا الملك وحبه للعدل والمساواة أنه كان يضرب نقوده بكل اللغات التي يستعملها رعاياه. فكانت نقود صقلية في عهده منقوشة بالعربية واللاتينية واليونانية. كذلك يؤثر عنه أنه كان يحاكي ملوك المسلمين في أزيائهم الفضفاضة على قدر ما حاكى أزياء قياصرة الروم، وأباطرة الفرنج، كأنما أراد بذلك أن يبين للناس بأن سياسته غير مرتكزة على ترجيح عنصر على آخر. وامتلأ بلاطه في مدينة بلرمو" Palermo" بعدد من، شعراء المسلمين وعلمائهم نذكر على رأسهم الجغرافي المغربي الكبير الشريف "أبا عبد الله محمد السبتي " المعروف بـ"الشريف الإدريسي " لأنه من سلالة الأدارسة، ملوك المغرب، وأحفاد الرسول ( ( r) عن طريق "الحسن بن علي بن أبي طالب ". وكان هذا الرحالة الإدريسي (493 هـ- 548 هـ/ 0 110- 1154 م) ولوعاً بالأسفار والاطلاع على أحوال البلاد وعادات أهلها. فلما زار بعض أقاربه في جزيرة صقلية، استدعاه الملك روجار الثاني إلى بلاطه في بلرمو وبالغ في إكرامه والاحتفال به لكونه من أبناء الملوك، ثم طلب منه وضع رسم جامع للأرض، فلبى الشريف طلبه ورسم له خريطة للعالم المعروف في عصره على دائرة فضية مسطحة planisphere طولها ثلاثة أمتار وعرضها متر ونصف. كذلك ألف له كتاب" نزهة المشتاق في اختراق الآفاق " لوصف هذه الخريطة، ويعرف هذا الكتاب أيضاً بالكتاب الروجاري أو كتاب روجار لأنه هو الذي طلبه منه.
وقد اهتم العلماء والمستشرقين بهذا الكتاب العظيم وعملوا على نشر أجزائه وترجمتها إلى اللغات المختلفة. وحسبنا أن نشير إلى الطبعة العلمية الحديثة التي أخرجها المستشرقون الإيطاليون لهذا الكتاب في سبعة أجزاء.
وهكذا نري، أن الملك روجار الثاني كان، على حد قول العالم الإيطالي ميشيل أماري، سلطاناً عربياً يحمل تاجاً كملوك الإفرنج،وأن تسامحه الديني أدى إلى امتزاج الثقافات العربية واليونانية واللاتينية، فصارت صقلية معبراً من المعابر الأساسية التي عن طريقها انتقل تر1ث الحضارة الإسلامية إلى أوربا مما كان له أثره في قيام حركة النهضة المعروفة باسم حركة الرنيسانس " Renaissance" في أواخر العصور الوسطى.
تم خلف روجار الثاني ابنه وليام الأول (1154- 1166 م) الذي سار على سياسة أبيه وجده في حماية المسلمين وتشجيع الدراسات العربية الإسلامية، وكانت علامته مثل علامة أبيه "الحمد لله وشكراً لنعمته ".
ثم خلفه ابنه وليام الثا ني (1166 ـ 1189 م) الذي على الرغم من مساهمته في الحروب الصليبية حينما أرسل حملته البحرية الفاشلة على مدينة " الإسكندرية (569 هـ/1172 م)، في أوائل عهد صلاح الدين الأيوبي، إلا أنه - كما يقول الرحالة الأندلسي المعاصر " ابن جبير"- تشبه بملوك المسلمين، وأتقن اللغة العربية قراءة وكتابة، واختار من رعاياه المسلمين وزراءه وحراسه وجواريه تاركاً لهم حريتهم الدينية، وكانت علامته "الحمد لله حق حمد ه ".
وبعد وفاة "وليام الثاني " بدون عقب له، حدثت منازعات داخلية حول العرش، أسفرت في النهاية عن تولية،" فردريك الثاني " ابن "هنري السادس " إمبراطور ألمانيا وكونستانسا بنت روجار الثاني. وبهذا صار "فردريك الثاني " إمبراطوراً " .
على ألمانيا وعلى مملكة الصقليتين التي تشمل بلاد نابولي وجزيرة صقلية. وبذلك انتقل الحكم في صقلية من الأسرة المالكة النورماندية إلى أسرة الهوهنشتاوفن الألمانية.
---------------
الإمبراطور فرد يك الثاني (1194- 255 ا م)
تولى الملك وهو صبي، وهذا أتاح له ترك الحكم في يد مستشاريه والتفرغ للدراسة والاستفادة من الثقافات السائدة في عصره وهي العربية واليونانية واللاتينية. ولا شك أن التراث الحضاري الضخم الذي تركه العرب والنورمان في صقلية وجنوب إيطاليا، كان أثر قوي في تكوين شخصية هذا الملك. وقد تجلى ذلك بوضوح في اهتمامه بالثقافة العربية، وترجمة مآثرها العلمية، وجنوحه إلى السلم في حل مشاكله السياسية، واقامة علاقات ودية مع ملوك مصر والشام من الأيوبيين.(5/132)
ونتيجة لهذه السياسة السلمية تعرض فردريك لغضب البابا جريجوري التاسع الذي اعتبره عاصياً ومحروماً من رحمة الكنيسة. واضطر الإمبراطور فردريك- لعلاج هذه المشكلة- أن يخرج بتلك الحملة الصليبية العجيبة- المعروفة بالسادسة- التي كان قوامها ستمائة، جندي، ولم ترق فيها قطرة دماء واحدة، وذلك لأن الإمبراطور فردريك توصل إلى عقد معاهدة مع ملك مصر الأيوبي "محمد الكامل بن العادل " سنة 626 هـ (1229م) استولى بمقتضاها على بيت المقدس بدون قتال.
وفي خلال هذه الزيارة توطدت أواصر الصداقة بين الإمبراطور فردريك وبين الملك الكامل وعدد من الأمراء وكبار رجال الدولة وعلمائها مثل الملك الأشراف موسى أخي الملك الكامل، والأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ قائد الجيش الأيوبي، والقاضي شمس الدين قاضي العسكر الذي صاحب الإمبراطور أثناء إقامته قي الشام.
وبعد عودة الإمبراطور إلى بلاده، أهدى إلى الملك الأشراف موسى (دبا أبيض)، فأرسل له السلطان الكامل جملة من الحيوانات الغريبة من بينها فيل أثار إعجاب الناس. أما الأمير "فخر الدين بن شيخ الشيوخ "، فقد سافر إلى الإمبراطور كرسول للملك الكامل وتوطدت بينهما صداقة متينة. وقد حفظ لنا المؤرخ الحموي "محمد بن نظيف " في كتابه "التاريخ المنصوري " (نشر في موسكو سنة ( 1960 ) عدداً من الرسائل التي تتضمن معلومات هامة عن أخبار الإمبراطور وأخبار دولته.
وكان فردريك الثاني شغوفاً بالعلوم الطبيعية والرياضية والفلسفية، وكثيرا ما كانت تعترضه فيها مشكلات علمية ولايجد من العلماء المحيطين به من يقدم له حلاً شافياً لها. فكان يرسلها إلى أصدقائه من ملوك المسلمين لعرضها على علماء بلادهم والإجابة عنها. من ذلك مثلاً، المسائل الرياضية والفلكية التي أرسلها إلى الملك الكامل والتي أجاب عنها العالم الرياضي المصري علم الدين قيصر الأسفونى (نسبة إلى قرية أسفون بالصعيد) فبعث بها الملك الكامل إليه مع كتاب في علم الفلك على سبيل الهدية. كذلك أرسل فردريك مجموعة من الأسئلة الفلسفية إلى الفيلسوف الصوفي الأندلسي "ابن سبعين "، وهي مسائل عن الكون والنفس والعلم الإلهي.. الخ، أجاب عنها "ابن سبعين "، وقد عرفت باسم "المسائل الصقلية".
ولما ولي الملك الصالح نجم الدين أيوب عرش مصر، سار على سياسة الود والصداقة التي اتبعها والده الكامل نحو صقلية. وتبادل مع الإمبراطور فردريك الثاني السفارات والهدايا، نذكر منها السفارة المصرية التي رأسها الشيخ " سراج الدين الأرموي "، الذي أقام مدة في صقلية، وألف كتاباً في المنطق للإمبراطور فردريك. ويقال أن هذا الإمبراطور أرسل إلى الملك الصالح أيوب رسولاً متنكراً في زي تاجر لينذره بحملة لويس التاسع على مصر.
ثم خلف الإمبراطور فردريك ولده مانفرد " Manfred" الذي لم يكن أقل عناية من أبيه بالثقافة العربية ولا سيما العلوم الرياضية والطبيعية.وقد عاصر هذا الإمبراطور دولة المماليك الأولى في مصر والشام على عهد السلطان الظاهر بيبرس، وتوطدت بينهما أواصر الصداقة والمودة كما كان الحال في عصر الأيوبيين. فيروي المؤرخ"جمال الدين بن واصل " أن السلطان " بيبرس " اختاره على رأس سفارة إلى الإمبراطور مانفرد سنة 659 هـ (1261 م)، وأرسل معه هدية من جملتها عدد من الزراف، وجماعة من أسرى عين جالوت من التتار بخيولهم وعدتهم، فأعجب الإمبراطور بالهدية وأحسن إلى الرسل وأكرمهم. ويصف "ابن واصل " مقابلته للإمبراطور بقوله "فأقمت عنده مكرماً بمدينة من مدائن أبوليا (جنوب إيطاليا) يقال لها برلت " Barletta" واجتمعت ، به، فوجدته متميزاً، محباً للعلوم العقلية، يحفظ من عشر مقالات من كتاب اقليدس في الهندسة.
وبالقرب من البلد التي كنت نازلاً بها مدينة تسمى لو جارة Lucera، أهلها كلهم مسلمون من أصل جزيرة صقلية، وتقام الجمعة فيها، ويعلن فيها بشعائر الإسلام، وهي على هذه الصفة من عهد أبيه الأنبرور (أي الإمبراطور). وكان قد شرع في بناء دار علم بها ليشغل فيها بجميع أنواع العلوم النظرية. وأكثر أصحابه الذين يتولون أموره الخاصة مسلمون، ويعلن في معسكره بالأذان والصلاة". ويضيف الصفدي في ترجمته "لابن واصل "، أن ما نفرد قال "لجمال الدين بن واصل " في مجلسه: "يا قاضي، أنا ما عندي ما أسألك عنه في الفقه والعربية. ثم سأله ثلاثين سؤالا في علم المناظر، فبات تلك الليلة وصبحه بالجواب عنها، فصلب الأنبرور على وجهه وقال" هكذا يكون قسيس المسلمين ". لأن القاضي لم يكن معه كتب في تلك السفرة، وإنما أجابه عن ظهر قلب ". كذلك ألف "ابن واصل" أثناء إقامته في إيطاليا رسالة في المنطق أسماها "الرسالة الأنبرورية" وأهداها إلى مانفرد.
------------
مدرسة بالرمو للترجمة
كانت، مدينة بلرمو عاصمة صقلية وقاعدة ملوكها أيام حكام المسلمين والنورمان والجرمان وتقع على ساحل الجزيرة الشمالي.
ويفهم من كلام الإدريسي أنه كان يوجد بوسط بلرمو مدينة إسلامية قديمة تعرف بالخالصة، كانت مقر السلطان وجنوده أبان الحكم الإسلامي،وكان المسلمون يعرفونها باسم المدينة، والنصارى يعرفونها باسم بلرمو، ثم غلب الاسم القديم بلرمو على المدينة كلها بعد ذلك.
ولقد زارها ووصفها الرحالة والجغرافيون المسلمون أمثال "ابن حوقل البغدادي " (ت 380 هـ)، و "الشريف الإدريس السبتي" (ت حوالي 548 هـ)، ولابن جبير البلنسي الأندلسي " (ت 614 هـ).
وهكذا كانت بلرمو حاضرة صقلية في العصر الوسيط، وقد قامت فيها في القرن الثالث عشر الميلادي (7 هـ) مدرسة للترجمة عن العربية عر، غرار مدرسة طليطلة في شمال أسبانيا. وتوطدت بين المدرستين علاقات ثقافية تبودل فيها الكتب والترجمات فضلاً عن العلماء.
وممن تردد على مدرسة بلرمو العالم الاسكتلندي "مايكل سكوت " M . Scott" أحد تلاميذ مدرسة طليطلة الذي ترجم أعمال أرسطو وشروح ابن رشد عليها. ومن المحتمل أنه تعرف على الإمبراطور فردريك الثاني الذي ازدهرت مدرسة بلرمو في عهده.
هذا، ومن المعروف أن معاني القرآن الكريم ترجمت إلى اللاتينية في النصف الأول من القرن الثاني عشر الميلادي أو السادس الهجري. كذلك، ترجمت قصة الإسراء والمعراج، بأمر من الملك الإسباني الفونسو العالم، إلى اللغات القشتالية والفرنسية واللاتينية، وانتشرت في أسبانيا وإيطاليا منذ القرن الثالث عشر الميلادي (7 هـ) واستفاد منها الشاعر الإيطالي دانتي كما سبق أن أسلفنا، ولم تلبث هذه الترجمات أن انتقلت إلى جامعات باريس ونابولي وبولونيا.
على أنه يلاحظ أن حركة الترجمة في مدرسة بلرمو، اتجهت في معظمها- على غرار مدرسة طليطلة- إلى العلوم الرياضية والفلسفية والطبيعية. وكان من أهم ما ترجم فيها على سبيل المثال كتب ابن سيناء " Avicenne" (ت1037م)(مثل كتاب القانون في الطب، وكتاب الشفاء في الفلسفة، وكتب أبي بكر محمد الرازي " Razes " (ت 932 م) مثل كتاب الحاوي في الطب... الخ.
وكان من، أعلام المترجمين فيها أوجين البلرمي " Eugeniusوليوناردو البيزاني " Leonardo pisano". ولعل من مظاهر هذه النهضة العلمية ، آلاف المخطوطات العربية المحفوظة في مكتبة الفاتيكان بروما إلى الآن.(5/133)
وهذا كانت جزيرة صقلية في العصر الوسيط، هي المعبر الثاني الذي عن طريقه انتقلت الحضارة الإسلامية إلى الفكر"لأوروبي. وينبغي أن نكرر ما قلناه دائماً من أن الباحثين ورجال العلم المسلمين لم يكونوا مجرد نقلة أو مترجمين، ولكنهم عدلوا التراث الكلاسيكي، وأعادوا خلقه وأخرجوا منه ثقافة جديدة عليها طابع الإسلام. وعلى هذه الصورة نقلوها إلى عقول أوروبا التي جاءت تطلب العلم في أسبانيا وصقلية. الشام
كانت بلاد الشام هي منطقة اللقاء الثالث بين الشرق والغرب في العصر الوسيط إبان الحروب الصليبية وإذا ذكرنا الحروب الصلبية، فينبغي أن نذكر في الوقت نفسه أن الرسالات السماوية هي في الأساس رسالات محبة وأخاء وسلام بين البشر جميعاً .
لقد كانت التحولات الدينية في أوروبا سببا رئيسيا لقيام الحروب الصليبية، ذلك أن كنيسة روما بعد اعتناق الفرنجة للنصرانية غدت ندا للكرسي البطريركي في القسطنطينية، واختصت كنيسة روما دون غيرها بلقب البابا، ولعبت البابوية دورا مهما في إقامة دولة الفرنجة الكارو لنجية كمنافسة لإمبراطورية بيزنطة، ومن ثم أخذت البابوية تطمح إلى توحيد كنيستي الشرق والغرب تحت نفوذها،ولا حت الفرصة حين استنجد ميخائيل السابع بارابنيسز " Michael vll parapinaces" ملك بيزنطة 1 7 0 1- 78 0 1 م، بالبابا جريجوري السابع " Gregory vll"73 0 1- 85 0 1 م، يدعوه لإرسال حملة لإنقاذ آسيا الصغرى من الترك، فأسرع جريجوري السابع لتأليب ملوك الكاثوليك وأمرائهم، غير أن عجلة الصراع بين المسلمين والفرنجة قد توقفت بسبب النزاع بين الكنيسة وملوك أوروبا، حتى إذا ما عادت للبابوية قوتها بعد موت هنري الرابع " Henri iv"، تطلعت البابوية إلى تأسيس حكومة في الشرق تجمع بين السلطتين الزمنية والدينية، ولذا كانت الحروب الصليبية من تدبير البابوية، حيث اتخذ البابا أربانوس الثاني " urbanus ll. 1088 م ـ 1099 م ، المعروف بتعصبه ضد المسلمين، عندما كان راهبا لدير كلوني، والذي غذى حرب المسلمين في الأندلس، من شكوى الحجاج إلى بيت المقدس، ذريعة لحرب المسلمين، وكان هذا البابا يرى بأن وظيفة البابوية الأساسية هي القيادة العليا للحرب المقدسة، ثم أن الحروب الصليبية هي بمثابة سياسة البابوية الخارجية، فهي التي تديرها وتتحرك وفقها، والبابوات هم الذين نظموا الحرب ووجهوها.
ولا شك أن هناك عوامل أخرى سياسية واجتماعية واقتصادية، أقوى من العامل الديني، وراء هذه الحركة الصليبية، ولكن الزعماء والقادة عمدوا إخفاءها وراء هذا الستار الديني البراق لإثارة الشعوب وجذب الأنصار.
ثم توالت الحملات الصليبية الأوروبية على الشام ومصر منذ أواخر القرن الخامس الهجري (11 م)، واستطاعت الحملة الأولى أن تنشب أظفارها في الشرق العربي، وتؤسس أربع إمارات صليبية: الأولى في إنطاكية التي تتحكم في شمال الشام، والثانية في الرها التي فصلت العراق عن الشام وهددت بغداد قاعدة الخلافة العباسية، والثالثة في طرابلس المنفذ الاستراتيجي الهام على ساحل البحر المتوسط، والرابعة في مدينة القدس حيث قامت مملكة بيت المقدس سنة 492 هـ/1099 م أقوى الإمارات نفوذاً.
--------------
- الشام
كانت بلاد الشام هي منطقة اللقاء الثالث بين الشرق والغرب في العصر الوسيط إبان الحروب الصليبية وإذا ذكرنا الحروب الصلبية، فينبغي أن نذكر في الوقت نفسه أن الرسالات السماوية هي في الأساس رسالات محبة وأخاء وسلام بين البشر جميعاً .
لقد كانت التحولات الدينية في أوروبا سببا رئيسيا لقيام الحروب الصليبية، ذلك أن كنيسة روما بعد اعتناق الفرنجة للنصرانية غدت ندا للكرسي البطريركي في القسطنطينية، واختصت كنيسة روما دون غيرها بلقب البابا، ولعبت البابوية دورا مهما في إقامة دولة الفرنجة الكارو لنجية كمنافسة لإمبراطورية بيزنطة، ومن ثم أخذت البابوية تطمح إلى توحيد كنيستي الشرق والغرب تحت نفوذها،ولا حت الفرصة حين استنجد ميخائيل السابع بارابنيسز " Michael vll parapinaces" ملك بيزنطة 1 7 0 1- 78 0 1 م، بالبابا جريجوري السابع " Gregory vll"73 0 1- 85 0 1 م، يدعوه لإرسال حملة لإنقاذ آسيا الصغرى من الترك، فأسرع جريجوري السابع لتأليب ملوك الكاثوليك وأمرائهم، غير أن عجلة الصراع بين المسلمين والفرنجة قد توقفت بسبب النزاع بين الكنيسة وملوك أوروبا، حتى إذا ما عادت للبابوية قوتها بعد موت هنري الرابع " Henri iv"، تطلعت البابوية إلى تأسيس حكومة في الشرق تجمع بين السلطتين الزمنية والدينية، ولذا كانت الحروب الصليبية من تدبير البابوية، حيث اتخذ البابا أربانوس الثاني " urbanus ll. 1088 م ـ 1099 م ، المعروف بتعصبه ضد المسلمين، عندما كان راهبا لدير كلوني، والذي غذى حرب المسلمين في الأندلس، من شكوى الحجاج إلى بيت المقدس، ذريعة لحرب المسلمين، وكان هذا البابا يرى بأن وظيفة البابوية الأساسية هي القيادة العليا للحرب المقدسة، ثم أن الحروب الصليبية هي بمثابة سياسة البابوية الخارجية، فهي التي تديرها وتتحرك وفقها، والبابوات هم الذين نظموا الحرب ووجهوها.
ولا شك أن هناك عوامل أخرى سياسية واجتماعية واقتصادية، أقوى من العامل الديني، وراء هذه الحركة الصليبية، ولكن الزعماء والقادة عمدوا إخفاءها وراء هذا الستار الديني البراق لإثارة الشعوب وجذب الأنصار.
ثم توالت الحملات الصليبية الأوروبية على الشام ومصر منذ أواخر القرن الخامس الهجري (11 م)، واستطاعت الحملة الأولى أن تنشب أظفارها في الشرق العربي، وتؤسس أربع إمارات صليبية: الأولى في إنطاكية التي تتحكم في شمال الشام، والثانية في الرها التي فصلت العراق عن الشام وهددت بغداد قاعدة الخلافة العباسية، والثالثة في طرابلس المنفذ الاستراتيجي الهام على ساحل البحر المتوسط، والرابعة في مدينة القدس حيث قامت مملكة بيت المقدس سنة 492 هـ/1099 م أقوى الإمارات نفوذاً.
ولقد اثار هذا الاستعمار الصليبي البغيض غضب المسلمين وأيقظهم من غفوتهم ، فقاموا بزعامة قادة مخلصين منهم لرد هذا العدوان ودخلوا مع الصليبين فى صراع طويل استغرق مايزيد على المائتي عام حتى تمكنوا من طردهم من ديارهم .(5/134)
كانت بداية الصحوة الاسلامية على يد القائد التركي عماد الدين زنكي صاحب الموصل وحلب الذى حرر الرها من براثنهم سنة 538 ÷ت / 1144 م وفتح الطريق بين شمال العراق والشام ثم جاء ابنه نور الدين محمود صاحب حلب ( ت 596 هـ /1174 م ) فعمل على توحيد الجبهة الاسلامية بضم دمشق ومصر فى وحدة شامية - مصرية ، أحاطت بمملكة بيت المقدس من الشمال والجنوب تمهيدا للقضاء عليها . وأخيرا يأتي القائد ومتم الرسالة الملك الناصر يوسف صلاح الدين ( 565 هـ / 589 هـ / = 1169 - 1193 م ) فيحقق هذا الهدف المنشود بالانتصار على الصليبين فى حطين ( 583 هـ /1187 م ) ودخول بيت المقدس فى ليلة الاسراء والمعراج 27 رجب من نفس السنة ولم يحاول صلاح الدين التمثيل باعدائه كما فعلوا هم من قبل بالمسلمين وقت دخلوهم المدينة ، بل اكتفى باعادة المساجد التى حولت الى كنائس ولا سيما المسجد الاقصى كما سمح لهم بمغادرة المدينة بأموالهم وأمتعتهم ، وسمح لنصاري المشرق بالبقاء مع المسلمين ، وكل هذا يدل على ان صلاح الدين لم يحارب الديانة المسيحية بل حارب السياسة الأوربية الاستعمارية لقد كان صلاح الدين ينشد تحقيق السلام الذى عبر عنه فى احدى رسائلة لأخيه تورانشاه باليمن بقوله : " إن بلاد الشام ، لاتسمع فيها لغوا ولا تأثيما الا قيلا سلاما سلاما " ولكن الاستعمار الاوربي لم يشأ أن يحقق السلام الذى ينشده بسبب الانتصارات الى أحرزها على الصليبين ، فجاؤوها هذه المرة بقضهم وقضيضهم بجيوشهم وأساطيلهم يقودهم كبار ملوكهم أمثال فردريك بربروسا أمبراطور المانيا ، وريتشارد قلب الاسد ملك انجلترا ، وفيليب أوجست ملك فرنسا ، فاستولوا على سواحل الشام بغيه الوصول منها الى بيت المقدس .
لقد دامت هذه الحملة المعروفة بالصليبية الثالثة مدة ثلاث سنوات ( 585 - 588 هـ /1198-1192 م ) ولكنها انتهت بالفشل الذريع بعد غرق الامبراطور الالماني ، وعودة الملك الفرنسي ، وفشل الملك الانجليزي فى استعادة بيت المقدس وعودته الى بلاده خائب السعي بعد عقد صلح الرملة مع صلاح الدين .
ثم رأي المستعمر الصليبي ، بعد فشل خطوط سير حملاته عن طريق أسيا الصغري والشام ضرورة تغيير اتجاهها نحو مصر أولا ثم الوصول منها الى بيت المقدس ، اعتقاده منه بأن مصر بقوتها ومواردها هى السبب فى فشل مشاريعة الصليبية ، وانه لابد من حرمان الجبهه الاسلامية من هذه القاعدة الهامة ، فمن يريد قتل الثعبان فليحطم راسه أولا "
وهكذا تحولت الحملات الصليبية الى مصر بقيادة جان دي بريين ( سنة 615 هـ /1218م ) ملك بيت المقدس ثم بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا ( 647 هـ /1246 م ) ولكن الحملتين منيتا بالفشل الذريع بفضل المقاومة الاسلامية من ناحية وبسبب جهل الصليبين بجغرافية البلاد المصرية من ناحية أخرى اذا كان عليهم عبور النيل بفروعة وقنواته المتعددة وقت فيضانه فحاصرتهم مياهه وعاقتهم أوحاله ، فتساقطوا صرعي وأسرى وفى مقدمتهم ملكهم القديس لويس الذى وقع فى الاسر ايضا فكان النيل مقبرة للغزاه . -
وبعد انتهاء دولة الايوبيين ، واصل خلفاؤهم سلاطين المماليك جهاد الصليبين فالسالطان الظاهر بيبرس ( 658 - 676هـ / 126- 1277م ) استولى على عدد كبير من قلاعهم ومدنهم مثل يافا وقيسارية فى الجنوب ، وانطاكية فى الشمال وتبعه السلطان المنصور قلاوون ( 678 - 689 هـ / 1279 -1290 م ) فاستولى على اللاذقية وطرابلس ثم جاء بعده ابنه الاشراف خليل ( 689 - 693 هـ / 190 - 1293 م ) ليقضي على الامارة الباقية من دولتهم فى الشام وهى عكا ( سنة 690 هـ / 1291 م ) .
ولم يكتف المسلمون بطرد الصليبين من الشام بل تعقبوا فلولهم فى جزر البحر المتوسط ، فاستولى السلطان الناصر محمد بن قلاوون على جزيرة أوراد ( سنة 702 هـ / 1302 م ) . كما استولى السلطان الاشراف برسباي على جزيرة قبرص ( سنة 829 هـ / 1426 م ) هذا الى جانب الحملات البحرية التى شنها السلطان سيف الدين جقمق على جزيرة ردوس وغيرها فى شرق حوض البحر المتوسط ( 843 - 847 هـ / 1440-1444 م )
=================
اللقاء الحضاري في الشام خلال الحروب الصليبية
لم يكن الامتزاج الحضاري بين المسيحية والإسلام في الشام من حيث العمق والاستمرار على نفس المستوى الذي كان عليه في الأندلس وصقلية. وقد يرجع ذلك إلى أن المملكة اللاتينية في القدس كانت تفتقر إلى مركز علمي كبير للمعارف الإسلامية التي يستطيع المسيحيون أن يستمدوها منه على غرار طليطلة وبلرمو.
ولكن على الرغم من ذلك فإن بعض العلماء والتجار ومحاربي الحروب الصليبية ، استطاعوا عن طريق المشاهدة العينية والتفاهم والاندماج، أن ينقلوا بعض المعارف عن الزراعة والملاحة والصناعة.. الخ من شرق البحر المتوسط إلى أوروبا.
وأهم ما نلاحظه في هذا الصدد هو أن العلاقات التي سادت عصر الحروب الصليبية لم تكن كلها علاقات عدائية قائمة على الحرب والقتال بين المسلمين والصليبيين، بل قامت بينهم أيضاً علاقات ود وصداقة، ولا سيما في فترات الهدنة والسلام. ومما ساعد على توثيق هذه العلاقات، أن المستعمرات الصليبية في الشام كانت تعيش وسط إمارات إسلامية داخل الشام مثل حلب ودمشق وحمص وحماة إلى جانب القلاع والحصون مثل حصن شيزر الذي ما زالت أطلاله باقية على نهر العاصي في شمال الشام.
لهذا، كان لزاماً، على الصليبيين، لكي يحتفظوا بمستعمراتهم في الشرق العربي، أن يعتمدوا على سكان البلاد الأصليين من المسلمين والمسيحيين في الأعمال المحلية مثل زراعة الأرض وبناء الحصون والكنائس وترميمها، إلى غير ذلك من الأعمال الصناعية والمعاملات التجارية المختلفة.
حقيقة أن هذه الإمارات الصليبية كانت تتلقى من الغرب أموالا ومساعدات مختلفة، إلا أن هذه المساعدات كانت غير كافية ولا تفيدهم كثيراً على مر السنين. لهذا كان يتحتم على الصليبيين الاعتماد على أهالي المنطقة من الصناع والفلاحين وغيرهم. ومن هنا نشأت علاقات سلمية بين المسلمين والمسيحيين وأخذ كل فريق يعمل على فهم الفريق الآخر والتعرف عليه.
وإذا تتبعنا بحض المؤشرات الحضارية التي تأثر بها الفرنج خلال الحروب الصليبية، نجد أنها كثيرة ومتنوعة:-
فمن الناحية الاجتماعية، نجد أن الصليبيين، نظراً لقلة عدد النساء الفرنجيات اللاتي صحبن المقاتلين، أقبلوا على الزواج من المواطنات المسيحيات من الموارنة والأرمن وبعض الأسيرات المسلمات. وقد نشأ عن هذه الزيجات جيل من المولدين عرفوا باسم بولاني Pullani وقد غلب على هؤلاء في طبائعهم وعاداتهم الطابع الشرقي. ولم يتردد الصليبيون مع مرور الزمن في الاستعانة بهؤلاء المولدين في تشكيل فرق من الخيالة الخفيفة عرفت باسم التركبوليTurcopoles. كذلك أخذ الصليبيون يكيفون حياتهم في الشرق حسب مقتضيات الحال والمناخ، فارتدوا الملابس الشرقية الفضفاضة واسعة الأكمام، وأطلقوا لحاهم، وجلسوا: على الزرابي ، وأكلوا الأطعمة الشرقية، وسكنوا القصور والبيوت ذات الطراز الشرقي حيث الأحواش أو الأفنية الداخلية التي تتوسطها النافورات والورود والأزهار، وتحيط بها الغرف والقاعات ذات المشربيات المحلاة بالزخارف المخرمة المفرغة المنوعة. كذلك استخدموا في ولائمهم وحفلاتهم الراقصات والمهرجين كما يفعل المسلمون.(5/135)
أما من الناحية الاقتصادية، فنجد أن الصليبيين، استفادوا من المشرق الإسلامي استفادة كبيرة لدرجة أن بعض المؤرخين اعتبر الحركة الصليبية حروبا اقتصادية. ففي ميدان الزراعة نقل الصليبيون عن المسلمين إلى أوروبا، زراعة بعض أنواع النباتات والثمار والفواكه الني لم يعرفوها من قبل وسموها بأسمائها العربية مثل السكر والأزر والليمون والقطن و لسمسم.. الخ.
وفي ميدان الصناعة، عرفوا كثيرا من المصنوعات الإسلامية ونقلوها إلى بلادهم مثل المنسوجات الحريرية الموشاة التي اشتهرت بها الشام وتعرف باسم البروكار Brocare ، والأقمشة القطنية التي كانت تصنع بدمشق سيميت باسمها "الدمشقيات Damask " وأقمشة الموصل، Musilin ومنسوجات العتابية في بغداد "Taois"، هذا إلى جانب صناعة الورق والصابون والخزف والزجاج والحلي والعقاقير... الخ.
أما التحارة ، فقد انتعشت بين الشرق والغرب بشكل لم يعرف من قبل. فكانت قوافل المسلمين ترد إلى الموانىء الصليبية على ساحل الشاام نحمل سلع الشرق كاللؤلؤ والأحجار الكريمة والعاج والعطور والبهار (SPICES)، وكان على تجار المسلمين عند دخولهم ولقد أثار هذا الاستعمار الصليبي البغيض غضب المسلمين وأيقظهم من غفوتهم، فقاموا بزعامة قادة مخلصين منهم لرد هذا العدوان، ودخلوا مع الصليبيين في صراع طويل استغرق ما يزيد على المائتي عام حتى تمكنوا من طردهم من ديارهم.
كانت بداية الصحوة الإسلامية على يد القائد التركي عماد الدين زنكي صاحب الموصل وحلب الذي حرر الرها من براثنهم سنة 538 هـ/ 1144م وفتح الطريق بين شمال العراق والشام. ثم جاء ابنه نور الدين محمود صاحب حلب (ت 569 هـ/1174 م) فعمل على توحيد الجبهة الإسلامية بضم دمشق ومصر في وحدة شامية- مصرية، أحاطت بمملكة بيت المقدس من الشمال والجنوب تمهيدا للقضاء عليها. وأخيرا يأتي القائد ومتمم الرسالة الملك الناصر يوسف صلاح الدين (565 هـ/589 هـ/- 169 1- 1193 م ) فيحقق هذا الهدف المنشود بالانتصار على الصليبيين في حطين (583 هـ/187 1 م) ودخول ، بيت المقدس في ليلة الإسراء والمعراج 27 (-جب من نفس السنة. ولم يحاول صلاح الدين التمثيل بأعدائه كما فعلو (هم من قبل بالمسلمين وقت دخلوهم المدينة، بل اكتفى بإعادة المساجد التي حولت إلى كنائس ولا سيما المسجد الأقصى، كما سمح لهم بمغادرة المدينة بأموالهم وأمتعتهم ، وسمح لنصارى المشرق بالبقاء مع المسلمين. وكل هذا يدل على أن صلاح الدين لم يحارب الديانة المسيحية بل حارب السياسة الأوروبية الاستعمارية. لقد كان صلاح الدين ينشد تحقيق السلام الذي عبر عنه في إحدى رسائله لأخيه تورا نشاه باليمن بقوله: "إن بلاد الشام، لا تسمع فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما". ولكن الاستعمار الأوروبي لم يشأ أن يحقق له هذا السلام الذي ينشده بسبب الانتصارات ، التي أحرزها على الصليبيين، فجاؤوه هذه المرة بقضهم وقضيضهم، بجيوشهم وأساطيلهم. يقودهم كبار ملوكهم أمثال فردريك بربروسا امبراطور ألمانيا، وريتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا، وفيليب أوجست ملك فرنسا، فاستولوا على سواحل الشام بغية الوصول منها إلى بيت المقدس.
لقد دامت هذه الحملة المعروفة بالصليبية الثالثة مدة ثلاث سنوات (585- 588 هـ/189 1- 1193 م)، ولكنها انتهت بالفشل الذريع بعد غم سق الامبراطور الألماني، وعودة الملك الفرنسي، وفشل الملك الإنجليزي في استعادة بيت المقدس وعودته إلى بلاده خائب السعي بعد عقد صلح الرملة مع صلاح الدين.
ثم رأى المستعمر الصليبي ، بعد فشل خطوط سير حملاته عن طريق آسيا الصغرى والشام ، ضرورة تغيير اتجاهها نحو مصر أولا ثم الوصول منها إلى بيت المقدس، اعتقادا منه بأن مصربقوتها ومواردها هي السبب في فشل مشار يعه الصليبية وأنه لا بد من حرمان الجبهة الإسلامية من هذه القاعدة الهامة، "فمن يريد قتل الثعبان فليحطم رأسه أولاً".
وهكذا تحولت الحملات الصليبية إلى مصر بقيادة جان دي بريين Jean de Brienne (سنة 615 هـ بر 1318 م)، ملك بيت المقدس،ثم بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا (647 هـ/1246 م). ولكن الحملتين منيتا بالفشل الذريع بفضل المقاومة الإسلامية من ناحية، وبسبب جهل الصليبيين بجغرافية البلاد المصرية من ناحية أخرى ، إذ كان عليهم عبور النيل بفروعه وقنواته المتعددة وقت فيضانه فحاصرتهم مياهه، وعاقتهم أوحاله، فتساقطوا صرعى وأسرى، وفي مقدمتهم ملكهم القديس لويس الذي وقع في الأسر أيضا، فكان النيل مقبرة للغزاة.
وبعد انتهاء دولة الأيوبيين، واصل خلفاؤهم سلاطين المماليك جهاد الصليبيين: فالسلطان الظاهر بيبرس (658- 676 هـ/ 0 26 1- 277 1 م) استولى على عدد كبير من قلاعهم ومدنهم مثل يافا وقيسارية في الجنوب، وأنطاكية في الشمال وتبعه السلطان المنصور قلاوون 6781- 689 هـ/ !37 1- 0 29 1 م) فاستولى على اللاذقية وطرابلس. ثم جاء بعده ابنه الأشرف خليل (689- 693 هـ/ 0 139- 1293 م) ليقضي على الإمارة الباقية من دولتهم في الشام وهي عكا (سنة 0 69 هـ/1291 م).
ولم يكتف المسلمون بطرد الصليبيين من الشام بل تعقبوا فلولهم في جزر البحر المتوسط، فاستولى، السلطان التاصرمحمد بن قلاوون على!جزيرة أرواد (سنة 3 70 هـ/2 130 م)، كما استولى السلطان الأشرف برسباي على جزيرة قبرص (سنة 839 هـ/ 1436 م). هذا إلى جانب الحملات البحرية التي شنها السلطان سيف الدين جقمق على جزيرة رودس وغيرها في شرق حوض البحر المتوسط (843-847 هـ/1440-1444 م).
تلك الموانىء أن يدفعوا ضريبة على بضائعهم مقدارها قيراط على كل سلعة ثمنها دينار واحد (الدينار 34 قيراطاً). وكانوا يعاملون في تلك الموانىء معاملة طيبة، ولهم فيها خانات أو فنادق ينزلون فيها ببضائعهم ودوابهم. ومن الطريف في هذا الصدد، أن حركة التجارة بين الجانبين ظلت مستمرة ولم تتوقف حتى في أوقات الحروب بينهم، وقد نص على ذلك الرحالة المعاصر. ابن جبير عند قوله "ختلاف القوافل من مصر إلى دمشق على بلاد الفرنج غير منقطع، وأهل الحرب مشتغلون في حربهم، أما الرعايا والتجار فالأمن لا يفارقهم في جميع الأحول سلماً أو حرباً".
وكان من نتائج ازدياد النشاط التجاري بين الشرق والغرب، أن ظهرت المدن التجارية في أنحاء أوروبا ، وهي ظاهرة جديدة أدت إلى اجتذاب الفلاحين إلى المدن وانهيار النظام الإقطاعي.. كذلك ظهر نظام المصارف في تلك المدن التجارية، وكثيراً ما عاونت هذه البنوك الطبقات الحاكمة بالقروض المالية وتحالفت معها ضد رجال الإقطاع. وقد نتج عن هذه المعاملات المالية إصدار صرف يعرف بالصك أو الشيك وكذلك ، السفاتج جمع بستاجة بمعنى الحوالة، وهي أنظمة مشرقية الأصل.(5/136)
ومن الناحية المعمارية العسكرية، نلاحظ أن العمارة الإسلامية أضافت إلى التراث الفني العالمي نظماً لم تكن معروفة من قبل مما جعل لها في العصور الإسلامية طابعا مميزا. ومن أمثلة ذلك أشكال العقود، وأنظمة المساجد والمدارس والقصور والحمامات والأضرحة. كذلك ابتكر المسلمون المداخل ذات المرافق أو المنعطفات المتعددة في المدن والحصون الإسلامية. والغرض من ذلك التحكم في العدو المهاجم من باب الحصن عبر هذه الممرات الضيقة الطويلة الملتوية. ويلاحظ أن الرومان والبيزنطيين لم يستخدموا هذا الأسلوب في حصونهم، بل استخدموا المدخل المستقيم الذي يؤدي مباشرة إلى فناء الحصن. ومن أمثلة هذه المداخل عند المسلمين مدينة بغداد التي كانت أبواب أسوارها الخارجية لا تقع في سمت واحد مع أبواب أسوارها الداخلية، بل مزورة عنها ويفصل بينهما دهاليز ومنعطفات ملتوية لأغراض دفاعية، ولذا أطلق على بغداد اسم "الزوراء".
وقد طبق هذا الأسلوب الحربي بشكل أفضل في قلعة الجبل (المقطم) بالقاهرة في عهد صلاح الدين الأيوبي، في القرن السادس الهجري، وفي قلعة حلب في القرن السابع الهجري، وفي قلاع المرابطين والموحدين بالمغرب.
ولقد انعكس هذا الأسلوب المعماري العسكري على الحصون والقلاع التي شيدها الصليبيون في الشام أو في أوروبا بعد ذلك. مثال ذلك حصن الأكراد Crac de chevalliero في شمال شرق طرابلس الذي أعاد فرسان الاسبتارية شييد قلعته على مثل هذا النظام الرائع الذي مازالت أثاره باقية إلى اليوم. كذلك ابتكر المسلمون نظام "السقاطة" التي انتقلت إلى الغرب باسم ماتشيكولي Machicoli وهي عبارة عن شرفة صغيرة من الحجارة أو الخشب تبرز من الحائط ولها فتحات من أسفل، وتقام ف حق أسوار الحصن، فيستطيع المدافعون هـ ن خلال هذه الفتحات إلقاء المقذوفات أو السائل الحار أو العذرة على المهاجمين، وقد استعار الصليبيون نظام هذه السقاطات، وطبقوه في قلاعهم في شمال الشام وفي أوروبا. ومن أمثلة ذلك قلعة جابار التي شيدها رييتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا، على نهر الخشن عقب عودته من الأراضي المقدسة.
أما من ناحية التأثير الثقافي، فإنه يبدأ منذ أن أخذ كل فريق يتعرف على الفريق الآخر-، ويحاول أن يكنب عنه حاضره وماضيه. و(قد أنجب عصر الحروب الصليبية نخبة من المؤرخين المعاصرين شرقيين وغربيين، كل يمثل وجهة نظره في تلك الحروب، فتوفرت من هذه الحقبة الصليبية مادة خصبة لم يتوفر مثلها من قبل.
وقد عكف المؤرخون الأوروبيون في العصر الحديث على جمع هذه المادة الوفيرة في موسوعة علمية باسم "مجموعة مؤزخي الحروب الصليبية"RECUEIL DES HISTORIRNS CROISADES (PARIS 1841 - 1906 ) ( 1841 ـ 1906 ) ، وهي تضم ما كتبه المؤرخون المشارقة في خمسة مجلدات تحت عنوان:Historiens Orientaux وما كتبه المؤرخون الغربيون في خمسة مجلدات أيضاً تحت عنوان: Historiens Orientaux ومن بين كتاب المسلمين الذين أمدونا بمعلومات قيمة عن العلاقات بين المسلمين والصليبيين نذكر الرحالة الأندلسي السالف الذكر محمد بن جبير الذي زار الشام في أواخر القرن السادس الهجري (12 م) ووصف التعاون المشترك بين المسلمين والمسيحيين في الامارات الصليبية، وقال. ان حالة المسلمين هناك كانت أحسن من. حالة اخوانهم الذين يعملون قي الإقطاعات الإسلامية، وأن الصليبيين تعمدوا اصطناع المسلمين بحسن المعاملة كي يحببوا لهم العمل معهم. ولا شك أن ابن جرو صادق في كلامه، لأن الصليبيين أدركوا أن استمرار بقائهم في إماراتهم يتوقف على التعاون مع أهالي المنطقة والذوبان فيها وقد مات ابن جبير في مدينة الإسكندرية ودفن بها (613 هـ). ويذهب البعض أن موضع دفنه مقام سيدي جابر الحالي .
وهناك كاتب آخر عاصر ابن جبير وأمدنا بمعلومات هامة عن علاقات المسلمين بالصليبيين بالشام، وهو الأمير الشاعر أسامة بن منقذ (ت 583 هـ/1188م) أحد فرسان بني منقذ أصحاب حصن شيزر الذي لازالت أطلاله باقية باسم سيجر على بعد خمسة عشر أميال إلى الشمال من حماة على الضفة الغربية لنهر العاصي. وبحكم جواره للصليبيين، كان لأسامة معهم مشاكل وحروب وصداقات ونوادر أوردها في كتابه على شكل مذكرات خاصة تحت عنوان "كتاب الاعتبار" وتتضمن صورا مقارنة بين عادات المسلمين والفرنجة، شاهدها أو عاينها بنفسه. لقد كان أسامة موضع إطراء معاصريه وعلى رأسهم صلاح الدين الأيوبي الذي كان معجبا بشجاعته وشعره ويحتفظ بديوان من شعره.
أما المؤرخ الحموي جمال الديون بن واصل (ت 691 هـ/1397 م)، فقد أورد في كتابه "مفرج الكروب في أخبار بني أيوب " بعض المعلومات الهامة عن لويس التاسع ملك فرنسا أثناء حملته على مصر، وعن الامبراطور منفرد بن فردريك الثاني حينما قابله كسفير للسلطان الظاهر بيبرس في مدينة بولتا الإيطالية.
وهناك مؤرخ حموي آخر اسمه محمد بن علي بن نظيف قدم لنا في كتابه "التاريخ المنصوري ، صوراً لبعض الخطابات المرسلة من الامبراطور فردريك الثاني إلى الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ قائد جيوش الدولة الأيوبية يروي له فيها بعض أخبار دولته وما جرى فيها من أحداث عقب رجوعه من حملته في فلسطين (636 هـ/1239 م).
أما المؤرخون الأوروبيون الذين وصفوا حروبهم ني المشرق وكتبوا عن المسلمين وبلادهم فهم عديدون أيضاً نذكر منهم وليم الصوري William of thyre (1130- 184 أم) الذي ولد في بيت المقدس من أبوين فرنسيين وتعلم في فلسطين العربية واليونانية ثم اتصل بالملك عموري الأول وصار مربيا لأولاده، وظل يتدرج في المناصب حتى صار كبيرا لأساقفة صورة. ومن أهم مؤلفاته كتاب قي تاريخ الحروب الصليبية منذ قيامها سنة 1096 م حتى أخر أيامه 1184م بعنوان "تاريخ الأعمال التي تمت في بلاد ما وراء البحر" Histonia reum in partibus transmarinis gestarum، والكتاب يتضمن معلومات مفيدة عن مصر وأحوالها الداخلية في أواخر العصر الفاطمي، وكذلك ط عن تجارتها في البحر الأحمر مع بلاد الهند".
ولا يفوتنا أخيرا أن نشير إلى المؤرخ الفرنسي دي جوانفيلDe joinville (القرن 7 هـ/13 م)، الذي، صحب الملك لويس التاسع في حملته على مصر. وأسر معه فيها ، وكتب عنه كتابا بعنوان، القديس لويس " وأورد فيه معلومات هامة عن مصر والمماليك.
وهكذا نر ى مما تقدم أن الحروب الصليبية، وإن كانت قد سفكت فيها دماء غزيرة، إلا أن هذه التضحيات قد قابلها تعويض في هذا اللقاء الحضاري بين الشرق والغرب، إذ انمحت الصورة القديمة التي كانت في مخيلة الصليبيين عن المسلمين، فلم يعودوا يرونهم جنودا جبناء، أو قساة غلاظ القلوب أو كفرة عباد أوثان، بل شهدوا من حضارتهم الراقية وشجاعتهم في القتال وورعهم في الصلاة، وسماحتهم في معاملة أهل الأديان الأخرى، ما أطلق ألسنتهم بالإعجاب والتقدير. وقد صدق المؤرخ الإنجليزي هرنشو Heamshaw حينما عبر عن هذا الإعجاب بقوله: "فكما أن بلعام خرج ليدعو على بني إسرائيل، فإذا به يدعو لهم، فكذلك الصليبيون خرجوا من ديارهم لقتال السلمين، فإذا هم جلوس عند أقدامهم يأخذون عنهم أفانين العلم والمعرفة. لقد بهت أشباه، الهمج من مقاتلة الصليبيين عندما رأوا المسلمين على حضارة دنيوية ترجح وحضارتهم رجحانا لا تصح معه المقارنة بينهما".(5/137)
وعلى الجانب الآخر من العالم الإسلامي مشرقا، فقد ربطت العلاقات الثقافية والتجارية بين المسلمين وأوروبا، انعكست على التواصل الحضاري بين الحضارتين الإسلامية والغربية، إذ كانت القسطنطينية نقطة الالتقاء والمعبر لذ اك التواصل والتفاعل، فحين كان المسلمون يواصلون ضغطهم على القسطنطينية باعتبارها مفتاح الطريق إلى أوروبا الشرقية، هجر قسم من علماء بيزنطة، المدينة مزودين بكتابهم الكلاسيكية وبحصيلتهم الثقافية نتيجة الاتصالات الثقافية مع العالم الإسلامي، وخاصة" مع الأندلس وبلاد الشام وانساحوا في أوروبا، وعلى الأخص منطقة البحر المتوسط، فأسهموا في التعجيل بالنهضة الأوروبية، وعلى سبيل المثال لا الحصر أن العالم البيزنطيGemston pletton أسس الأكاديمية الأفلاطونية في مدينة فلورنس على النسق الإسلامي، وصنفه كتابي القانون، وفلسفة أفلاطون وأرسطو.
والعالم البيزنطي مانويل خرايسولوراس M. Chreysolaras حاضر في جامعتي فلورنس وملان و بافيا واعتبر أمير الفصاحة والفلسفة اليونا نية، والعالم البيزنطي بيصاريون النيقي وميلانBessarion of Nicaea ، ساهم في النهضة الإيطالية بشعره وبما جمعه من مخطوطات الشرق، شكلت أول مكتبة لمدينة البندقية ثم تحولت فيما بعد نواة لمكتبة القديس مارك.
وحين نجح المسلمون العثمانيون في فتح القسطنطينية، وغدت إسلامبول بؤرة الإسلام انتقل العديد من الصناع والنجارين والبنائين ومهرة عمال البناء والزخرف وخبراء صناعة السجاد والجلود بأنواعها إضافة إلى العديد من العلماء والأدباء والشعراء والتجار إلى المدينة الجديدة، وأبدعوا في العاصمة زخرفة وتنميقا، وأقيمت فيها عشرات المؤسسات العلمية، كالمد ارس والمساجد والجوامع والزوايا والتكايا والبيمارستانات، ومن ثم وفد إليها أبناء الشعوب الأوروبية للدراسة أو الزيإرة أو التجارة، فأفادوا مما تعلموه وما شاهدوه. ونقلوه إلى بلدانهم. ويبدو أن العلاقات التجارية قد أصابها بعض الارتباك بعد سنة 857 هـ/453 ام، على أثر فتح القسطنطينية، وانهارت بعض الطرق البرية والبحرية في آسيا وأوروبا عبر البحر الأسود والمضائق ، ويلاحظ بأن هذا الارتباك كان مقرونا بمدى نجاح العثمانيين في تثبيت الإسلام في مناطقه لجديدة، إذ أن بواعث الفتح واستمرار الأعمال الحربية حالت دون استمرار التجارة ولكن بصورة ؤقتة، غير أن أوروبا عوضت ذلك بزيادة وتقوية اتصالاتها التجارية مع الموانىء المملوكية في مصر النشام، فشهدت علاقات الجمهورية الإيطالية ، جنوة وبيزا والبندقية تقدما ملحوظا، حتى إذا ما استقرت أوضاع الدولة العثمانية عاودت التجارة إلى نشاطها عبر الخط الواصل من الصين والهند والخليج شمالا وغربا إلى حلب وآسيا الصغرى ليلتقي مع القوافل القادمة بر اً من وسط آسيا، ويتحد معها بالقسطنطيتية ثم إلى أوروبا، وكان هذا الطريق يعتبر الطريق الاحتياطي للتجارة الشرقية.
وثمة طريق بري من وسط آسيا والهند عبر جبالها وممراتها إلى نهر الأثيل ، حيث يتقابل مع القوافل الوافدة من الصين، !". ويسيران معا حتى بخاري إلى موانىء البحر الأسود وأوروبا، ومنه فروع جانبية إلى حلب وساحل البحر المتوسط.
لقد حمل تجار الشرق إلى أوروبا الشرقية عبر القسطنطينية وأدرنة ، الأنسجة المطرزة والسجاد والجلود والفراء والحنطة والشموع والأحجار الكريمة والصابون وغيرها، ولما كانت المراكز التجارية هي بالضرورة مراكز حضارية " يتم منها التبادل الثقافي إلى جانب التبادل التجاري، وكانت "اسلامبول " بوابة أوروبا الشرقية على العالم الإسلامي، عملت على نقل العناصر الحضارية تواصلا وتفاعلا وتمازجا وتلاحقا، فأثرت بصورة ملموسة ني تكوين الفكر الأوروبي، ومهدت الطريق لعوامل النهضة الأوروبية.
===============
فضل الحضارة الإسلامية على العلوم الطبية
د . هناء إسماعيل ( مجلة الحج والعمرة )
عندما جاء الإسلام اهتم العرب منذ فجره بشتى ضروب المعرفة والعلوم، وصاحب الانتصارات الحربية الرائعة، تقدم الثقافة وازدهار الفكر على صعيد جميع العلوم والمعارف النظرية التطبيقية بالإضافة إلى مختلف الفنون والصناعات.
وكان الاهتمام الكبير الذي أولته الدولة الإسلامية بالعلم والعلماء عاملاً هيأ الظروف الملائمة لانتشار التعليم، فما لبثت العلوم والطب أن اكتسيا ثوبًا جديدًا، بل نفخت فيهما الروح من جديد. فلقد شجع نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم نفسه دراسة الطب وقال: "تداووا فإن الله تعالى لم يضع داء إلا وضع له دواء غير داء واحد: الهِرَم"[رواه أبو داود].
حافظ العلماء المسلمون على تراث المعرفة الإغريقية فاحترموه وقدروه ونهضوا به وطوروه، وكان ذلك إسهامًا عظيمًا في تقدم الطب، فقد ترجم المسلمون إلى العربية مؤلفات جالين وغيره، ووزعوها على المراكز العلمية في مختلف أنحاء الدولة الإسلامية، فكان لهذا العمل العظيم والجليل فوائده العلمية الكبيرة والجمة.
وقد أسهم ولاة المسلمين كذلك في نهضة علم المعالجة بالعقاقير، بل يعتقد الكثيرون أن الكلمة الإنجليزية Drug المرادفة للعقار الطبي، مشتقة من أصل عربي، كما هو الحال في آلاف المصطلحات الأخرى.
كذلك أنشأ الولاة المسلمون المستشفيات التعليمية الكبيرة والمستوصفات العامة في سائر أنحاء الدولة الإسلامية.
ومن حسن حظ العلوم الطبية أنها حظيت بالنصيب الأوفى بفضل هذا التشجيع المعنوي والمادي من الخلفاء وأولي الأمر والثراء، لاسيما خلال الحقبة الواقعة بين الأعوام 800 - 1200م.
وهذا الازدهار شمل جميع الدول الإسلامية من الشرق في الشام إلى الغرب في الأندلس، وكان لمصر الإسلامية النصيب الأكبر في هذا التقدم الحضاري، فقد أعطت لدنيا العلوم الطبية الكثير، واعتبرت أحد ينابيع الفكر العربي.. فقد أعطت ما لم تعطه الولايات الإسلامية الأخرى حضارة وعلمًا وفنًّا وفكرًا وابتكارًا، فبعد أن من الله عليها بالفتح الإسلامي سنة 21هـ في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، التقت حضارة العرب القادمين من شبه الجزيرة العربية بحضارة الفراعنة التي تسلمها أبناء النيل، وقد عكس المسلمون ضوء الشمس الغاربة للحضارات الفرعونية واليونانية، وكان لهم فضل الحفاظ على العلوم الطبية؛ لأن الرومان لم يحسنوا القيام على هذا التراث، بينما العرب المسلمون تسلموه وأتقنوه وأبدعوا فيه وأضافوا إليه.
كان هذا الالتقاء الحضاري نتيجة مباشرة في دفع عجلة التقدم في شتى ميادين العلوم والمعرفة والصناعات والنظم الإدارية، كما صاحب الفتوح الإسلامية إنشاء المدارس، ومن أروع مظاهر الحضارة الإسلامية مدارس الطب، فمنذ قيام الدولة الإسلامية كانت المساجد معاهد عامة لتعليم الشريعة فضلاً عن أنها دور للعبادة، وكان أول معهد هو الذي أنشأه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في مسجد المدينة، بعد هجرته في السنة الأولى.
وبمرور الزمن أصبحت المساجد كلها جامعات إسلامية، وصار اسم المسجد "جامع"، واليوم نحن نسمي مؤسستنا العلمية الكبيرة الشاملة بمؤنث "جامع" أي "جامعة"، وأصبح يدرس فيها مختلف علوم الدنيا والدين .(5/138)
واشتهر عمر بن منصور البهابري، ومحمد بن عبد الله المصري، بتدريس الطب في الجامع الطولوني الذي أنشاه أحمد بن طولون، مؤسس الدولة الطولونية في مصر في خلال القرن الثالث الهجري، كما اشتهر عبد اللطيف البغدادي الذي كان يدرس الطب في الجامع الأزهر (وقد أنشأ في زمن المعز لدين الله الفاطمي، مؤسس الدولة الفاطمية في مصر، خلال القرن الرابع الهجري).
كما أُنشئت بيوت الحكمة (أي خزائن الكتب) لجمع الكتب من مختلف العلوم لحفظها وترجمتها، وكانت أول دار حكمة هي دار الحكمة القياسية، التي أنشئت في زمن هارون الرشيد (القرن الثاني الهجري)، وجمع له البرامكة كتب الهند القيمة، وكتب فارس، واليونان، ونشطت حركة الترجمة، وفي عصر المأمون في أول القرن الثالث الهجري، فأصبحت دار الحكمة أكاديمية للبحث العلمي في مختلف العلوم، وخصوصًا العلوم الطبية، وأضاف العرب علومهم إلى ما ترجموه من علوم الأمم الأخرى.
ولما انتشرت العلوم وازدادت المؤلفات، وبلغ شغف الناس بالعلوم مبلغًا كبيرًا لم تعد دور الحكمة تفي بالغرض، فأنشئت دور العلوم لتلقى فيها المحاضرات، وأولها دار علم الموصلي (في القرن الثالث الهجري).
ثم ظهرت المدارس التي أنشئت عن طريق الأساتذة والأثرياء، وابتدأت بدار يجتمع فيها الأستاذ مع طلابه، وأقدم مدرسة هي مدرسة أبي بكر بن فورك الأصبهاني (القرن الخامس الهجري) في نيسابور، وكانت تدرس فيها مختلف العلوم، ثم أصبحت تلك المدارس "حكومية"، وأول مدرسة حكومية هي المدرسة النظامية التي أنشأها نظام الملك (في القرن الخامس في بغداد وخراسان).
وهنا تجدر الإشارة إلى أن العرب المسلمين هم أول من جعل التدريس من واجبات الدولة، وأول من عرفوا تأميم الطب والعلاج.
ويعد الرازي واحدًا من أشهر الأطباء المسلمين، فقد ألف في القرن العاشر الهجري أكثر من ثلاثمائة كتاب في الطب، كما وضع موسوعة طبية كاملة، واشتهر كذلك الطبيب المسلم ابن سينا، حتى أصبح كتابه "القانون في الطب" واحدًا من أهم المراجع الدراسية في المدارس الطبية خلال العصور الوسطى، واشتهر طبيب مسلم آخر في قرطبة وهو الزهراوي، الذي كتب في القرن العاشر كتابًا يستعرض فيه بالتفصيل كل المعارف الطبية في زمنه، كما ألف كتابًا مصورًا في الجراحة يعتبر الأول من نوعه في تاريخ الطب، وضمنه صورًا للأدوات التي تستخدم في علوم الجراحة.
ومن أمثلة دور العلم الطبية (دار ابن سينا)، فكان يجتمع فيها طلبة العلم، منهم من يقرأ في كتاب القانون، وآخر يقرأ في طرق الشفاء، وكان التدريس يتم ليلاً لعدم وجود فراغ خلال النهار بسبب خدمة السلطان والأمراء، ومن أهم المدارس الطبية أيضًا المدرسة الدخوارية بالشام، التي أنشأها أبو محمد بن علي بن حامد المعروف بالدخوار، وكان كحالاً (أي طبيبًا للعيون)، وتتلمذ على يديه كثير من أطباء دمشق، وكان أستاذًا ببيمارستان النوري الكبير، ثم بعد وفاته أوقفت داره وجعلت مدرسة للطب، وكذلك المدرسة الدينسرية التي أنشأها عماد الدين الدينسري، ولكن دور العلم والمدارس الطبية لم تف بالغرض المطلوب؛ لأن الطب من العلوم التجريبية التي لا تصلح لها هذه المعاهد، فكان لابد من الدراسة العملية، ولذلك ظلت البيمارستانات هي كليات الطب المفضلة لتدريس المقررات للطالب، حيث إنها مكان تتوافر فيه الحالات المرضية وطرق العلاج.
والبيمارستان هي كلمة فارسية تتكون من شقين "بيمار" بمعنى المرض، و"ستان" بمعنى مكان، أي أن معناها مجتمعة "مكان المرض" ثم حورت في العصور الحديثة إلى كلمة مارستان، أصبحت لفترة طويلة تطلق على دور العلاج العقلي، حتى صارت التعبير العامي لهذا النوع من المستشفيات.
بذلك أنشئت المدارس الطبية العلمية، أو البيمارستانات التعليمية، وأهمها البيمارستان المقتدري في القرن الرابع الهجري في بغداد، وقد هدمه المغول، والبيمارستان النوري الكبير في دمشق (في القرن السادس الهجري) ، والبيمارستان العضدي في بغداد، والمنصوري بالقاهرة، الذي أنشأه المنصور سيف الدين قلاوون، (في القرن السابع الهجري)، وكان يشرف على البيمارستان ويدرس الطب فيه علماء شهد لهم التاريخ؛ ففي البيمارستان العضدي كان ابن بطلان، وابن التلميذ، وسنان بن قرة ، وفي المقتدري كان الواسطي. وفي النوري: ابن الدخوار، وابن النفيس، وابن أبي أصيبعة.
أما بيمارستان قلاوون في القاهرة فكان أعظم مستشفى، وكلية طبية في تاريخ مصر خلال العصور الوسطى، وكان يشرف على رئاسته كبير أطباء، وهو ما يقابل اليوم عندنا "عميد كلية الطب"، وكان يتم اختياره من كبار الأطباء، وأحسنهم سمعة وعلمًا، وكان الإشراف على البيمارستان يعتبر من وظائف الدولة المهمة ولرئيسه حق مقابلة السلطان في أي وقت، كما كان للبيمارستان قسمان: قسم للرجال، وآخر للنساء، وكل قسم من الأقسام الداخلية يشمل تخصصات عدة مثل: طب العيون - الجراحة - الإسهال والحمى - الأمراض العقلية والنفسية...إلخ.
كما كان قسم خارجي يتردد عليه حوالي 4000 مريض يوميًا يصرف لهم أصناف جيدة من العلاج، وكان كل قسم يشرف عليه رئيس، وكان لرئيس الأطباء ورؤساء الفروع فقط الإذن بمزاولة فنون الطب لمن يرونه صالحًا من الطلاب الدارسين بالبيمارستان، وكان يعاون المدرسين أو الأساتذة طوائف المعيدين، فنظام المعيدين هو أصلاً من ابتكار التعليم الإسلامي، وكان للمعبد واجبات منها ما ذكره القلقشندي (إذا ألقى المدرس الدرس وانصرف أعاد الطلبة ما ألقاه المدرس ليفهموه ويحسنوه).
كان الالتحاق بالمدرسة الطبية أو البيمارستان سهلاً، إذ يذهب الطالب إلى حيث يجلس الأستاذ، ويستمع إليه، والطالب حر في اختيار مقررات الدراسة، بل ودراسة ما يرغب فيه وحرية التنقل من أستاذ إلى آخر، حتى تكون الدراسة على هواه، ولا تفرض عليه في هيئة برامج أو مقررات إجبارية، ولم يكن الأمر فوضى كما قد يتبادر إلى الذهن، ولكن كانت هناك كتب أساسية يجب أن يدرسها الطالب، ولا يمكنه الحصول على إجازته إذا لم يتقن هذه الكتب.
ولعل الكثيرين يعلمون أن هذا النظام انتهى من عندنا نحن مبدعيه، وانتقل إلى الدول المتقدمة على رأسها الولايات المتحدة وأوروبا، ومازال قائمًا ويطبق لديهم حتى اليوم، فالطالب الذي يدرس دراسات عليا أو عادية يختار أستاذه والمقررات أو البرامج التي سيدرسها بنفسه وبحرية كاملة، ولا تفرض عليه أو يفرض عليه أستاذه أو مشرفيه. ولكن من يعترف اليوم بهذا الإبداع العظيم للعرب، وفضل الحضارة الإسلامية على العلوم وطرق المناهج والتدريس؟
وتمر ستة قرون كاملة بعد هذا الإبداع الإسلامي، ونجد في عام 1537م طبيبًا بلجيكيًا، بل عالمًا من علماء جامعة لوفان، هو أندريه فيزالوس، يترجم الكتاب التاسع من كتب الرازي إلى اللغات الأوروبية، وما لبث فيزالوس أن عين أستاذًا للتشريح في جامعة بادوا، وفي عهده أدخلت كلية الطب في جامعة بادوا الأساليب الإسلامية الجديدة في ممارسة الطب، التي ما لبثت أن انتشرت في سائر أوروبا وأسهمت إسهامًا كبيرًا في تقدم الطب في أوروبا.
==============
من تطبيقات الهندسة في الحضارة الإسلامية ...
بقلم الدكتور راغب السرجانى ... تاريخ الإضافة : 07/01/06
مقدمة
النهضة الصناعية
الهندسة المعمارية
الهندسة الهيدروليكية!!
وختامًا
مقدمة(5/139)
لم يكن غريبًا على العقل المسلم الذي ربَّاه دينه على إعلاء شأن التفكير والتدبُّر والقياس والتجريب العلمي... لم يكن غريبًا على ذلك العقل الذي تربَّى تلك التربية أن يُعلي شأن النظر إلى علوم الهندسة في عصور حضارته، وأن يبلغ بفروعها ومبادئها آفاقًا لم يُسبق إليها من أرباب الحضارات السابقة.
فنلاحظ أن ابن خلدون - رحمه الله - قد تحدَّث بحفاوة بالغة عن علم الهندسة.. تلك الحفاوة التي إن صدرت عن عالم في وزنه فهي - ولا شكَّ - تعكس نظرة إسلامية أصيلة لهذا الفرع من العلوم.. لقد بدأ حديثه عن الهندسة (جريًا على العادة المنهجية الإسلامية) بتعريف لهذا العلم قائلاً: "هذا العلم هو النظر في المقادير، إما المتصلة: كالخط والسطح والجسم، وإما المنفصلة: كالأعداد... وفيما يعرض لها من العوارض الذاتية.."، وبعد أن يتحدَّث عن أنواعها المختلفة.. نراه يعلِّق - رحمه الله - على منزلة هذا العلم قائلاً: "واعلم أن الهندسة تُفيد صاحبها إضاءةً في عقله، واستقامة في فكره؛ لأن براهينها كلها بَيِّنَةُ الانْتِظَام، جَلِيَّةُ الترتيب، لا يكاد الغلط يدخل أقيستها؛ لترتيبها وانتظامها؛ فيبعد الفكر بممارستها على الخطأ، وينشأ لصاحبها عقل على ذلك المهْيَع (أي: الطريق أو النسق)..." إلى أن يقول: "وكان شيوخنا - رحمهم الله - يقولون: (ممارسة علم الهندسة للفكر بمثابة الصابون للثوب الذي يغسل منه الأقذار وينقِّيه من الأوضار والأدران)؛ وإنما ذلك لما أشرنا إليه من ترتيبه وانتظامه".
فلا عجب - إذًا - في حق الأمة التي ينظر علماؤها إلى الهندسة كنورٍ للعقل، ومُطَهِّر للفكر من أدران العشوائية والفوضى.. أن تبرع في شتَّى التطبيقات الهندسية؛ فلا تقتصر تلك البراعة على ما رأيناه في المقال السابق من روعة علم الحيل النافعة (أو: الهندسة الميكانيكية)، بل تتعدَّى ذلك إلى سائر فروع الهندسة سواء منها ما يتعلَّق بالصناعة أو العمارة أو المياه والريِّ وغيرها...
النهضة الصناعية
فعلى صعيد النهضة الصناعية (والتي لا تخفى صلتها الوثيقة بالتقدُّم الهندسي) تطالعنا شهادات غربية منصفة.. منها ما يؤكده المستشرق الفرنسي "سيديليو" (1777- 1833م) في شأن روَّاد الحضارة الإسلامية من: "أنهم برعوا في جميع الفنون الصناعية، واشتهروا عند الأمم بأنهم دبَّاغون سباكون، جلاَّءون للأسلحة، نساجون أصناف الثياب، ماهرون في أشغال المنقاش والمقراض.. ويؤيد عُلُوَّ كَعْبِهِم في هذه الفنون سيوفُهُم الباترة، ودروعُهُم الخفيفة الصلبة، وبُسُطُهُم ذاتُ الوبر، ومنسوجاتهم من الصوف والحرير والكتان"..
بل إن باحثًا غربيًّا آخر هو (رينو) يقول: "إن العرب لما أغاروا من الأندلس على جنوبي فرنسا، وافتتحوا بقيادة السمح الخولاني وعنبسة الكلبي والحُرِّ الثقفي مدائن أربونة وقرقشونة وأفنيون وليون.. كانوا مُجَهَّزِين بأسلحةٍ لم يكن للإفرنج مثلها!!".
لقد كان المهندسون والتقنيون في الحضارة الإسلامية يتَّبعون المنهج العلمي في كل أعمالهم، ويبدءون - في الحالات الصعبة - برسم مخططات، ثم يصنعون نموذجًا مصغرًا لما ينوون تنفيذه.. وقد أعاد الفنيون المحدثون بناء العديد من التركيبات والآلات تبعا للشروح التي قدمها التقنيون الإسلاميون في مؤلفاتهم.
الهندسة المعمارية
إذا نظرنا إلى جانب الهندسة المعمارية فسنجد أن المسلمين قد برعوا (إبان الفتوحات الإسلامية، وانتشار الإسلام في أرجاء المعمورة) في الاهتمام ببناء المدن الجديدة، وإعمار الأرض، وقد تجلى ذلك في النهضة المعمارية العظيمة التي شهدتها عدد من حواضر العالم الإسلامي، كما تجلى في العديد من المساجد والمباني والقصور والجسور والمستشفيات (البيمارستانات)..
وتُحدِّثنا كتب التاريخ عن بدايات قديمة للنهضة المعمارية الإسلامية.. فها هو الإدريسي في (نزهة المشتاق) يتحدث عن عظمة "قنطرة قرطبة" التي بُنِيت في عهد عمر بن عبد العزيز رحمه الله (بين عامي: 99هـ و 101هـ) أي في أواخر القرن الأول الهجري!! يقول الإدريسي: "ولقرطبة القنطرة التي علت القناطر فخراً في بنائها وإتقانها.. وعدد قِسِيِّها سبع عشرة قوساً.. بين القوس والقوس خمسون شبراً، وسعة القوس مثل ذلك: خمسون شبراً، وسعة ظهرها المعبور عليه: ثلاثون شبراً، ولها ستائر من كل جهة تستر القامة، وارتفاع القنطرة من موضع المشي إلى وجه الماء في أيام جفوف الماء وقلته ثلاثون ذراعاً..."
هذا وقد أضافت العمارة الإسلامية تقنيات لم تكن معروفة من قبل في أنظمة المساجد والمدارس، كما ابتكرت تلك العمارة عناصر فنية كثيرة منها: أشكال العقود والتيجان والقباب والمحاريب والمنارات والمآذن وغيرها...
ولا تكاد رقعة من تاريخ المسلمين أو ديارهم.. تخلو من آيات بينات تدل على تلك العظمة المعمارية.. ويكفينا هنا مثالان من حقبتين تاريخيتين مختلفتين: المثال الأول (جامع قرطبة) الذي بُني في العهد الأموي في الأندلس، والذي يُعَدُّ - عبر العصور - معجزة معمارية بامتياز.. حتى ليصفه صاحب الروض المعطار بقوله: "الجامع المشهور أمره الشائع ذكره من أجل مساجد الدنيا كِبَرَ مساحةٍ وإحكامَ صنعةٍ وجمالَ هيئةٍ وإتقانَ بنيةٍ..."
أما المثال الثاني فهو (جامع السليمانية) بإسطنبول.. وهو ممثل صادق للإبداع المعماري العثماني الذي صبغ الحقبة العثمانية الزاهرة والمجهولة من تاريخ المسلمين، وقد كان من أبرز سمات ذلك الإبداع تلك القباب العالية البديعة.. وقد شُيِّد (جامع السليمانية) عام (964هـ / 1557م).
ويدين علم الصوتيات المعمارية (إكوستيك) بالفضل لعلماء المسلمين في إنشائه وإرساء أصوله المنهجية العلمية؛ إذ أفادوا من تطبيقاته في مجالات حيوية مختلفة؛ فاستفادوا من معرفتهم بأن الصوت ينعكس عن السطوح المقعرة، ويتجمع في بؤرة محددة - كالضوء تمامًا - وأنه إذا أجري حساب دقيق لهندسة السطوح المقعرة فإنه يصبح بالإمكان تسليط الأمواج الصوتية المنعكسة، وتركيزها في اتجاهات معينة بحيث تزيد من وضوح الصوت وشِدَّته.. أما إذا لم تُرَاعَ تلك الحسابات الدقيقة فإن ذلك يؤدي إلى خلخلة في الصوت، وبلبلة في تلقِّيه لدي السامع.
وقد استخدم التقنيون المسلمون خاصية تركيز الصوت في أغراض البناء والعمارة، وخاصةً في المساجد الكبيرة الجامعة؛ لنقل وتقوية صوت الخطيب والإمام أيام الجُمَعِ والأعياد، مثل ما نجده في مسجد "أصفهان" القديم، ومسجد "العادلية" في حلب، وبعض مساجد بغداد القديمة.. حيث كان سقفُ المسجد وجدرانُه تُصَمَّم جميعًا على شكل سطوح مقعرة موزعة في زوايا المسجد وأركانه بطريقة دقيقة، تضمن توزيع الصوت بانتظام على جميع الأرجاء.
ولا شَكَّ أن هذه المآثر الإسلامية الباقية حتى اليوم لهي خير شاهد على ريادة علماء المسلمين في تقنية الصوتيات الهندسية المعمارية، وذلك قبل أن يبدأ العالم الأمريكي المعروف "والاس ك. سابين" في دراسة أسباب سوء الصِفَات الصوتية لقاعة المحاضرات بجامعة "هارفارد" الأمريكية في أوائل القرن العشرين.
الهندسة الهيدروليكية!!
ولم يقتصر إبداع المهندس المسلم على الجانب المعماري وحسب.. بل إن آيات الإبداع تتجلى في فروع هندسية أخرى كثيرة ومنها (الهندسة الهيدروليكية) التي تُعنى بأنظمة الري، وإمداد المياه..(5/140)
ومع أن المهندسين المسلمين لم يكونوا أول من ابتكر علم الهندسة الهيدروليكية (فقد وجدت أنظمة الري حول الموارد المائية - والأنهار خاصة - منذ سكن الإنسان هذه المناطق) إلا أن التاريخ ودراسة الحضارة الإسلامية يؤكدان لنا أن قَدَمَ السَّبْقِ كان للمسلمين في اختراع العديد من الوسائل والطرق المختلفة للإمداد بالمياه، وقد ظهر ذلك جليًا في العديد من حواضر العالم الإسلامي لا سيَّما بغداد والكوفة، وغيرهما من المدن التي انتشرت من حولها الأنهار. بل إن بعض المصادر التاريخية تذكر أن نظم الري قد بلغت ذروة تطورها في الأراضي الشرقية للخلافة الإسلامية في القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين (الرابع والخامس الهجريين)، وظهر وسط العراق واحد من أهم هذه الأنظمة، حيث سجل التاريخ تحولات رئيسية لمجرى كل من "دجلة" و"الفرات"، بالإضافة إلى تغييرات في منطقة المستنقعات والبحيرات الضحلة الواقعة شمالي غرب البصرة.
وبالرغم من وضوح الاهتمام الكبير الذي أولتْهُ الهندسة الإسلامية لنظم الري وإمداد المياه؛ نظرًا لضرورات الزراعة والعمران المتجددة، والتي صاحبت النمو الكَمِّي والكيفي المُطَّرِد للمجتمع الإسلامي.. إلا أن إمداد المياه لأغراض غير زراعية كان أيضًا من القسمات المهمة للحياة الإسلامية؛ فإتاحة المياه لم تكن أمرًا مُسَلَّمًا به في مناطق عديدة من العالم الإسلامي، مقارنةً بوفرتها في مناطق المناخ الممطر.. إلى جانب ما كان للمسلمين من إحساس خاص (نابع من دينهم) بإلحاح الحاجة إلى الماء النظيف.. فضلاً عن الاحتياج الإنساني الفطري للماء العذب الذي تُعَدُّ مصادره ثروة لا تُقَدَّر بثمن في أي مجتمع.
ولم تقتصر تطبيقات هندسة الإمداد بالمياه في الحضارة الإسلامية على جانب الاحتياجات الأساسية الملحَّة.. فقد برع مهندسو المياه المسلمون في توظيف الماء لخدمة مجالات حضارية غير الري والشرب.. لم يكن أغلبها معروفًا قبل الحضارة الإسلامية..
ومن أهم هذه المجالات: الحمامات العامة التي عرفتها المدن الإسلامية بكثافة استرعت انتباه الرحالة والتجار الغربيين الذين ما كانوا يألفون مثل ذلك الاحتفال بالنظافة في بلادهم!!.. بينما كانت أعداد الحمامات في الحواضر الإسلامية (التي كان سكانها يتقرَّبون إلى الله بالطهارة) تزيد أحيانًا على عشرة آلافٍ في المدينة الواحدة!!..
وكانت الحمامات تُصَمَّم هندسيًّا بحيث تتيح للمستحم أن ينتقل تدريجيًّا من الجو الحار إلى الجو البارد حتى لا يصاب بأذى، وكان الحمَّام يُسَخَّن عن طريق إيقاد نار تحت أرضيته، كما كان يشتمل على أنابيب للماء الساخن والبارد داخل جدرانه!!
وإذا كانت الحمَّامات منتشرة لغرض الطهارة المهم دينيًّا وفطريًّا فإن هذا لا يجعلنا ننسى الاستخدامات الجمالية لهندسة المياه (أو الهندسة الهيدروليكية).. فقد عرفت المنشآت المعماريَّة الإسلامية وجود النافورات المائية الجميلة وانتشارها بكثرة في أفنية القصور والمساجد الكبرى؛ لتضفي على المكان جمالاً وبهجة، إلى جانب استخدام بعضها (في المساجد خاصَّةً) لأغراض الوضوء..
كما كانت الهندسة الهيدروليكية تضع بصماتها في الجانب الشكلي والجمالي للحدائق والبساتين؛ فكان يُراعَى شقُّ الجداول والنهيرات الصغيرة.. لا لإنجاز مهمَّة الري وحسب.. بل لتُبهِج النفوس بجمال تدفُّقها.. في مشهد تربَّى الذوق الجمالي الإسلامي على التعلق به من تكرار الوصف القرآني لنعيم (جناتٍ تجري من تحتها الأنهار!).
لا عجب - إذًا - وقد رأينا من تطبيقات الهندسة الهيدروليكية ما سبق.. أن نجد عند الجغرافيين المسلمين (في وصفهم لأي مدينة) اهتمامًا خاصًا ببيان مصادر إمداد المياه للسكان في هذه المدينة.. سواء أكانت ينابيع أو آبارًا أو أنهارًا.. وهنا يتبدى جهد المهندسين المسلمين في الاجتهاد لإمداد المدن بالمياه؛ حيث كانوا يحرصون على التوفيق بين شتى المصالح؛ حتى يتمكنوا من توصيل المياه لكل السكان...
وختامًا
ها هي الحضارة الإسلامية - وكما عوَّدتنا في شتَّى المجالات - لم تدع فرعًا من العلوم إلا وأحسنت الإبداع في سبيل تطويره.. وقد وقفنا في هذه الرحلة الموجزة على أن علم الهندسة لم يتخلَّف في هذا السياق عن غيره من العلوم؛ فقد تناوله عباقرة المسلمين تناولهم الفذ الذي يبرع - كما رأينا - في الجمع بين متطلبات الضرورة وجمال الأداء.. هذا الجمع الذي طبع الحضارة الإسلامية عبر مسيرتها الخالدة بطابعها الإنساني الجميل.
ولا بدَّ أن هذا السبق الحضاري الإسلامي (في ميدان الهندسة الذي نحن بصدده) لم ينشَأ من تلقاء نفسه.. بل دفعه إلى تلك الآفاق علماء أفذاذ.. نسأل الله أن يعيننا - في مقال قادم - على استشراف بعض معالم عظمتهم..
كما نسأله سبحانه أن يُعِزَّ الإسلام والمسلمين
===============
الحضارة الإسلامية 000 إلى أين ؟ !
ألقيت هذه المحاضرة في مجمع النقابات المهنية
يوم الأربعاء 29 من محرم 1421 هـ
الموافق 3 أيار 2000 م
بسم الله الرحمن الرحيم
(( رَبِّ اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي ))
وإذ تجمد المجتمع المكي عن أنْ يفتح عقله وقلبه للدعوة الإسلامية ، فإنَّ رسول الله صلوات الله عليه وسلامه ، والصلاة والسلام على أهل الكساء ، وعلى الطيبين من أهله ، ورضي الله عن الأبرار من صحابته ، وعلى التابعين السائرين الثابتين على الإيمان والشريعة والنهج إلى يومنا هذا وإذ رأى الرسول ذلك سار إلى الطائف ، حيث القبيلة الثانية من مراكز التأثير في العرب بعد قريش فردوه أقبح رد ، فتوجه إلى ربه داعيا ومتألما ، بدعاء الطائف المشهور ، وحال أمتنا اليوم ، وقد أصبح الترويج للأعداء استراتيجية ، فلا بد من الدعاء الذي يشحذ العزيمة ، ويؤكد الإصرار ، ويبلور النية ، على محاولة الوقوف في وجه خطط الأعداء 0 وقد أعيد تشكيل دعاء الطائف باسم الأمة : اللهم إنَّا نشكو إليك ضعف قوتنا ، بسبب تخاذلنا أدَّى إلى هوان أمتنا على نفسها ، وعلى عدوها : الأمريكان ، والغرب ، واليهود ، وقلة حيلتنا لادعائنا عجزا ليس فينا ، يا أرحم الراحمين ! أنت رب المستضعفين ، فارحمنا من تسلط أهل الجبروت علينا ، وأمددنا بعون من عندك على أنفسنا ، لنعود إلى الاستقامة ، لا تكلنا يا الله إلى عدو يملك علينا أمرنا ، وإلى من هم منا من القرابة ، لكنهم قطعوا الوشائج معنا ، أن لم تكن غاضباً علينا فلن نبالي ، نعوذ بنور هدايتك ، الذي يصلح به أمر الإنسان في دنياه وآخرته ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم 0
الشكر للقائمين على هذا النشاط الثقافي السياسي أعضاء اللجنة الثقافية ورئيسها في مجمع النقابات ، ولكل الحضور والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ولا سلام لعدونا بل الحرب الحرب وبعد
أسئلة ؟
تمهيداً لاشتراك الجميع في البحث ، لا بد من الانتباه الشديد للأسئلة التالية :
1. هل الحضارة الإسلامية هي التنزيل، بشقيه : البلاغ والبيان { أي القرآن والسنة } ؟
2. هل الحضارة الإسلامية هي التدين { أي العبادات والهيئات والأخلاق } ؟
3. هل الحضارة الإسلامية هي التشريع خاصة الحدود والعقوبات ؟
4. هل الحضارة هي الدولة الإسلامية { أي تسمية خليفة للمسلمين } ؟
5. هل الحضارة الإسلامية هي المذهب ، الذي تسير عليه الدولة ، أو منهج الفهم المذهبي الذي تتبناه الدولة ؟
6. هل الحضارة الإسلامية هي مجرد ادعاء أنْ الدولة دولة إسلامية ؟ كالترابية مثلاً 0(5/141)
7. هل العودة للإسلام حسب النموذج التاريخي الإسلامي : مثل الراشدي ، أو الأموي ، أو العباسي : الأول ، والثاني ، والثالث ، أو العثماني / مع إلغاء حركة التفكير على أساس الإسلام فيه ، من شأنه أنْ يحدث النهضة ؟ { على اعتبار وجود نهضات وجوداً واقعياً ، قامت على المادية كالشيوعية ، وقامت على الحل الوسط كالرأسمالية الغربية ، أو الرأسمالية مع البقاء وجدانياً على الخصوصية الوثنية كاليابان الحديثة } 0
الإجابات
من الضروري إدراك أنَّ الإجابات تشير ولا تفصل 0
قبل الإجابة على هذه الأسئلة لابد من التسليم بالملاحظات المهمة التالية :
1. أنَّ الأمة تعيش الحضيض الأحط في الهبوط الحضاري ، وهي سائرة في التخلف المادي يوما بعد يوم ، أما التأخر الفكري ، والانحطاط السياسي ، فالحديث عنهما يدمي الفؤاد ، ويبكي العين ، ويثير في الحلق غصةً وشجىً ، وأصبح خطر انقراض هذه الأمة الخيرة ماثلا ، لا ينكره إلاَّ من عميت باصرته وبصيرته معا 0
2. أنَّ التعبير عن هذه الأفكار يتم عبر النظام اللغوي ، والنظام اللغوي هو عبارة عن علاقة تربط بين الدال أي اللغة [ الرمز ] ، وبين المدلول أي المعنى ، والرمز يدل على معناه على سبيل المطابقة ، أو التضمن ، أو الالتزام ، وهذا في حالة الكلمات مفردة ، ويدخل المجاز دخولاً ضرورياً في حالة الجمل ، والمعاني في الفقرات ، وما لم تدرك العلاقة بين الدال والمدلول والأبعاد الثاوية بالنص أو وراءه ، فسيبقى الحديث حديث طرشان ، أو مجرد حالة سجالية في أحسن الأحوال 0
3. يترتب على الملاحظتين السابقتين ، ضرورة الانتباه والعناية بمدلولات الجمل ، من خلال السبر والتقسيم والتحليل ، وإعادة التركيب ، والتركيز على المفهوم من الجمل ، والمسكوت عنه أيضا ، للوصول إلى تصور صحيح للموضوع في حالتيه : حالة وجوده ، وحالة إمكانه 0
• الإجابة عن السؤال الأول : القرآن الكريم ، والمعلوم من الدين بالضرورة أي [ العمل المتواتر ] ، فإنهما محفوظان ، الأول بحفظ الله له مبنى ومعنى ، وحفريات المعرفة أي البحث بالمخطوطات والآثار تؤكد ذلك ، والثاني محفوظ بتواتر العمل به وهو أمرٌ مشاهد ، أمًّا غيرهما فيجد الباحث نصاً ظنياً ، وتراثاً غنياً ، يستخرج منهما موضوعه بغلبة الظن ، ومع هذا فالإجماع منعقد على أنَّ الأمة الإسلامية قعيدةٌ كسيحةٌ ، يفرض عليها عدوها هيمنته ، مما يعني أنًّ الحضارة الإسلامية ليست هي التنزيل ، بل حركة التنزيل في الحياة هي الحضارة، والحضارة الآن غائبة ، رغم حضور التنزيل بكلياته مع التراث ، ومع العناية الفائقة به ، من طباعة للقرآن ، وتعدد مسابقات حفظه وتلاوته ، ومع تلاوته اليومية في إذاعات خاصة به ، وما ينطبق على القرآن ينطبق على السنة بشقيها وعلى التراث 0
• الإجابة عن السؤال الثاني : منذ النكسة سنة 1967 م ، تصاعدت أعداد المحافظين على أداء العبادات ، والملتزمين بالهيئات ـ خاصة في ملابس الرجال والنساء ـ وتشكلت أنماط أخلاقية جديدة ، تمتنع عن الجدل ، وتعظ بالحسنى ، ومع كل ذلك هان أمر الأمة على العدو ومرَّ على الأمة حدثان مهمان : الاجتياح اليهودي الوقح للبنان لتبلغ الذروة في مجزرة صبرا وشاتيلا صيف عام 1982 م ، ليتبعها عام 1991 م اشتراك أكثرية العرب والمسلمين مع عدو الأمة الرئيسي الغرب ، وعلى رأسه الولايات المتحدة ، في إعلان الحرب ضد العراق وأباحتْ الدول المجاورة الأرض والأجواء والمال والرجال ، لإمداد الغرب في عدوانه ، ولا تزال تواصل محاصرته 0
• الإجابة على السؤال الثالث : التشريع مجرد تنظيم للعلاقات ، والحدود والعقوبات هي مجرد ردع للمخالفين ، وليس هناك دولة بدائية أو متقدمة أو مبدأية ، إلا ولها نظام تشريعي ينظم العلاقات ويحدد العقوبات 0 لقد شهد التاريخ الإسلامي القديم والحديث نشوء العديد من الإمارات والدويلات الإسلامية ، مثل دولة الشيخ شامل في الشيشان ، ومثل الدولة السعودية الأولى ، والثانية ، ومثل دولة طالبان الآن ، وغير ذلك ، فلم تكن النتيجة في صالح الإسلام والمسلمين والمواطنين من غير المسلمين 0
• الإجابة على السؤال الرابع : في عام ( 1517 ) م انتصر سليم الأول العثماني على آخر سلطان مملوكي وهو طومان باي الثاني ، وتنازل له عن الخلافة آخر الخلفاء العباسيين في مصر وهو محمد المتوكل على الله بن يعقوب أبو الصبر ، مسلماً الآثار النبوية الشريفة للسلطان سليم السيف والبيرق والبردة ، وتسلَّم مفتاحي الحرمين الشريفين أيضا ، وبقيت الخلافة في العثمانيين إلى 3 آذار 1924 م ، ولكنها كانت فاقدة للقوة الحضارية ، وقد ازداد التخلف الحضاري في تلك الدولة ـ رغم قوتها العسكرية ـ وخاصة في القرنين الأولين من عمرها ، رغم أنَّ قلب العالم الإسلامي مصر وبلاد الشام والعراق والجزيرة العربية من ولاياتها 0
• الإجابة على السؤال الخامس : قامت دولتان على المذهب الإباضي : في المغرب الدولة الرستمية ، وفي المشرق إمامة عمان ومسقط ، وقد انقرضتا ، وقامت الدولة الفاطمية على الإسماعيلية أصولاً ومذهبا ، فانقرضت ، وقامت دولة الموحدين على المذهب المالكي فانقرضت وتحولت الدولتان الزيديتان في الديلم وطبرستان وفي اليمن من المنهج إلى المذهب فانقرضتا ، وها هي الدولة الشيعية الإمامية في إيران على المذهب ، وظاهرٌ عجزُها عن أي إمكان لإحداث النهضة ، فالمذهب لا يقيم دولةً لها صفة الاستمرار ولا يُنهض أمة 0
• الإجابة على السؤال السادس : الحضارة الإسلامية حركة حياة : في الأمة ، والمجتمع ، والدولة ، والعالم ، في شقين ، نشئا عن حقيقة الاستخلاف والتكليف : الشق الأول التفكير والثاني التسخير ترتب على الأول التنظيم ، وترتب على الثاني العلم والاختراع والصناعة والتقانة [ التكنولوجيا ] ، وبهما معا تسير الحياة صُعداً ، في طريق الرقي المستمر ، ومن هنا فإنَّ ما يسمى بالتجارب الإسلامية كالترابية ، لنْ تكون التعبير الحقيقي للسير في مسار حضاري 0
• الإجابة على السؤال السابع : السؤال تضمن الإجابة بالدعوة إلي ضرورة التفكير لإحداث النهضة ، أي إنتاج حركة حضارية تواجه المشاكل والمتغيرات ، وتواكب التقدم ، وإذ مُنع التفكير منذ بداية القرن الخامس الهجري ، عاشت الأمة والدولة والمجتمع مرحلة الهبوط ، التي طال زمنها بأسباب موضوعية ، وها هي اقتباسات ووقائع تؤكد ذلك 0
اقتباسات
الاقتباس الأول
منقول من كتاب التفكير للمرحوم الشيخ النبهاني
ص {173 - 175 }(5/142)
فهذه لمحة موجزة عن موضوع التفكير ، من حيث هو تفكير، نقدمها للأمة الإسلامية ، لعل دراستها توجد التفكير في هذه الأمة ، حتَّى ينقلها هذا التفكير إلى أنْ تعود خير أمة أخرجت للناس 0 لا سيما بعد أنْ مضى على هذه الأمة عشرة قرونٍ وهي بعيدةٌ عن التفكير ، وإنْ حاولت هذا التفكير عدة مرات 0 إنَّ الأمة الإسلامية قد بليت في القرن الرابع الهجري بعلماء عملوا على تعطيل التفكير في الأمة ، ونادوا بخطر التفكير على الأمة ، وضرره على الإسلام والمسلمين ، وذلك حين قام رهط من العلماء مثل العالِم المشهور باسم القفال ، ونادوا بإقفال باب الاجتهاد ، وعملوا على منع الاجتهاد ، وأقنعوا الناس بخطر الاجتهاد ، فَصدَّق المسلمون هذه الدعوة 0 وعملوا بها ، وتحرَّج العلماء من الاجتهاد ، وخاف المفكرون من الاجتهاد ، وكره الناس أنْ يكون هناك مجتهدون 0 وقد تبنى الرأي العام في جميع أقطار الإسلام هذا الرأي ، وبدلك تعطَّل التفكير 0 ووقف الناس عند حد التقليد ، وألغوا عقولهم ، ولم يعودوا يجرؤن على الاجتهاد ، فكان هذا المنع للاجتهاد ، والتفكير أعلاه إنما يكون في الإسلام 0 فأدى ذلك إلى وقف التفكير لدى الناس ، واستمرءوا هذا التعطيل للتفكير ، والإنسان بطبعه حيوان كسول ، لذلك وقفت الأمة عن التفكير حتَّى هذا القرن ، القرن الرابع عشر الهجري ، فسلخت عشرة قرون وهي معطَّلة التفكير ، ولذلك ليس من السهل على أمةٍ سلخت عشرة قرون من عمرها وهي معطَّلة التفكير ، أنْ يتحرك فيها التفكير وأنْ تفهم عن وعي قيمة التفكير ، وقيمة المفكرين 0 ولذلك فإنَّ ملايين الكتب مثل هذا الكتاب ، لا تضمن أنْ تحرك الأمة للتفكير ، وأنْ تسوقها لأنْ تجعل التفكير سجية من سجاياها 0 ولكن الأحداث الموجعة التي تسحق الأمة سحقاً ، وتمعسها معساً ، فإنها صارت تبعث الأمل في أنْ يحد التفكير سبيله للأمة 0 لا سيَّما بعد أنْ وُجد فيها جماعات تفكر ، وجماعات تحاول التفكير ، بعد أنْ تحقق فيها آلاف تجسد لديهم حب التفكير وصاروا مفكرين لا يستمرئون غير التفكير ، حتَّى غدوا تفكيراً يحيا ويتحرك وينموا 0 لذلك فإنَّ ضخامة الأحداث وفظاعتها ، وكون التفكير تجسّد في أشخاص حتَّى غدا تفكيراً يمشي في الأسواق بين الناس ، فإنَّ هذين الأمرين : يوجدان أملاً مشرقاً ، في أنْ ينتقل التفكير من الأفراد إلى الجماعات ، وأنْ يصبحَ تفكيراً جماعياً لا تفكيراً فردياً ، وأنْ يكون تفكير الأمة لا تفكير الأفراد ، فتصبح الأمة الإسلامية أمة مفكرة ، وتعود كما كانت خير أمة أخرجت للناس 0
جرى تحرير كتاب التفكير وهذا النص المقتبس هو نهايته في 8 من صفر سنة 1393 هـ الموافق 12 من آذار ( مايس ) سنة 1973 م
ملاحظات على هذا الاقتباس
• الاقتباس وصفي واستطلاعي ، الوصفي يصف موضوعين : الأول في التأريخ فترة أول القرن الخامس الهجري وما نتج عن ذلك من إغلاق باب التفكير والاجتهاد ، نتج عن ذلك تركز التقليد وإلغاء العقول 0الثاني وصف معاصر وهو دعوى تحقق تجسيد التفكير في آلاف 0
• أما الاستطلاعي : فهو وجود أمل مشرق في عودة التفكير إلى الأمة ، فتتسنم المكان اللائق بها تحت الشمس 0
• كتب المرحوم تقي الدين النبهاني الكتاب ، وختامه هذا الاستطلاع سنة 1973 م ، حملت الأعوام التي تلت الاستطلاع ، زيارة السادات لدولة العدو ن وصلح مصر مع العدو ، وإعلان الحرب من قبل العراق على إيران ، واستمرارها ثمانية أعوام ، واجتياح اليهود الوقح لبنان صيف 1982 م ، إلى زلزال حرب الخليج وقد كشف عن وقاحة الأنظمة القائمة في العالم الإسلامي ، بمشاركتها الغرب في حربه ضد العراق ، ثم حدثت مسارات الصلح المشينة ، إلى الدعوة العلنية للسير مع العولمة ، ظهر من ذلك كله تبلد حس الأمة ، وليس وجود الأمل المشرق 0
• لقد حدث خطأ في تسجيل التأريخ ، إذ لم يتناد العلماء لإقفال باب التفكير والاجتهاد ، وإنما ألغي التفكير والاجتهاد بوثيقة الخليفة القادر ، وقد قُرأت على المفكرين والقضاة والعلماء والفقهاء عام 408 هـ ، وطلب إليهم توقيعها ، وأفهم من يخالفها بإلحاق التنكيل به ، والمقصود بها كما دل منطوقها : المعتزلة بالدرجة الأولى ، والشيعة بفرقها المختلفة بالدرجة الثانية ، وقد كانت الأهمية عند واضعي الوثيقة تصفية المعتزلة ، وواقعياً تحقق لهم ذلك 0 أعيدت قراءة الوثيقة سنة 409 هـ ، وسنة 420 هـ ، ثم في سنة 433هـ ، أي في عهد القائم بعد موت القادر بأحد عشر عاماً ، فخرجت المعتزلة من التاريخ ، وبقيت مع تشويه صورتها في التأريخ 0
الاقتباس الثاني
منقول من كتاب نهاية التاريخ وخاتم البشر
مؤلف الكتاب هو الأمريكي من أصل ياباني فرنسيس فوكوياما
صدر الكتاب بالإنجليزية وترجم للعربية بعد سنة 1991 م
النص منقول من ص [ 56– 57 ]
صحيح أنَّ الإسلام يُشَكِّلُ أيدلوجيا مُتَّسِقَةً ومتماسكةً ، مثل الليبرالية والشيوعية ، وأنَّ له معاييره الأخلاقية الخاصة به ، ونظريته المتصلة بالعدالة السياسية والاجتماعية ، كذلك فإنَّ للإسلام جاذبية يمكن أنْ تكون عالميةً ، داعيا إليه البشر كافة باعتبارهم بشراً ، لا مجرد أعضاء في جماعة عرقية أو قومية معينة ، وقد تمكن الإسلام في الواقع من الانتصار على الديمقراطية الليبرالية في أنحاء كثيرة من العالم الإسلامي ، وشَكَّلَ بذلك خطراً كبيراً على الممارسات الليبرالية حتَّى في الدول التي لم يصل فيها إلى السلطة السياسية بصورة مباشرة ، وقد تلا نهاية الحرب الباردة في أوروبا على الفور تحدي العراق للغرب وهو ما قيل { عن حق أو عن غير حق } أنَّ الإسلام كان أحد عناصره 0
ويستمر فوكوياما قائلاً : غير أنه بالرغم من القوة التي أبداها الإسلام في صحوته الحالية ، فبالإمكان القول أنَّ هذا الدين لا يكاد يكون له جاذبية خارج المناطق التي كانت في الأصل إسلامية الحضارة 0 وقد أنَّ زمن المزيد من التوسع الحضاري الإسلامي قد ولَّى، فإنْ كان بوسع الإسلام أنْ يكسب من جديد ولاء المرتدين عنه 0 فهو لنْ يصادف هوىً في قلوب شباب برلين أو طوكيو أو موسكو أو السويد ، ورغم أنَّ نحو بليون نسمة تدين بالإسلام { أي خمس تعداد سكان العالم } فليس بوسعهم تحدي الديمقراطية الليبرالية في أرضها على المستوى الفكري ، بل قد يبدو أنَّ العالم الإسلامي أشدَّ عرضة للتأثر بالأفكار الليبرالية على المدى الطويل من احتمال أنْ يحدث العكس ، حيث أنَّ مثل هذه الليبرالية قد اجتذبت إلى نفسها أنصاراً ـ عديدين وأقوياء ـ لها من بين المسلمين على مدى القرن ونصف القرن الأخيرين ، والواقع أنَّ أحد أسباب الصحوة الأصولية الراهنة هو قوة الخطر الملموس من جانب القيم الغربية الليبرالية على المجتمعات الإسلامية التقليدية 0
ملاحظات على هذا الاقتباس
• يؤكد فوكوياما من عنوان كتابه ومن موضوعه أنْ لا مكان تحت الشمس لحضارة غير الحضارة الليبرالية فالعولمة هي أعلى مراحل الرأسمالية وما يظهر في الواقع الإسلامي ـ والعربي جزء منه ـ عدم وجود مقاومة جدية لها ، فدعاتها العلنيون ، وقابلوها على استحياء ومقاوموها يسيرون بلا رشد ولا دليل 0
• يصف الإسلام بأنه أيديولوجيا متسقة ومتماسكة ، وهو بهذا يضع الإسلام في النسق الحضاري ، خلافا لرؤى التغريبيين في كل تشكلاتهم : الليبرالية ، والمادية الماركسية ، والعلمانية القومية ملحدة أو غير ملحدة ، وفي محل المخالفة لرؤية الإسلاميين ، الذين فصلوا عن الإسلام الحياة ، وجعلوه مجرد تدين وهيئات نُسكٍ 0(5/143)
• يرى أنًّ الإسلام يتعامل مع الناس باعتبارهم بشراً ، وليسوا بصفتهم عرقاً أو قوماً معينين ولهذا فله جاذبية عالمية ، ويرى أنه رغم ذلك لا يستهوي قلوب شباب الغرب ، ويرى أنَّ المستقبل في الليبرالية الغربية 0
• يفطن إلى ما لا يفطن إليه أحد ، بأن الإسلام هو العامل المحرك للعراق ، وهو هنا يرى البعد الكامن في هذه الأمة ، وهو البعد الحضاري للإسلام 0
• إنًّ السؤال المشروع في هذا المقام هو : كيف يدرك الغرب ببصيرة ثاقبة المعطيات الديناميكية في الحضارة الإسلامية ؟ ولهذا يرسم الخطط ، للحيلولة دون عودة الإسلام للتأثير الحضاري 0
الاقتباس الثالث
من كتاب الفرصة السانحة
للرئيس الجمهوري الأسبق للولايات المتحدة نيكسون
صدر الكتاب بعد انهيار الاتحاد السوفيتي سنة 1990 م
يقول نيكسون في كتابه : لقد سبق العالم الإسلامي العالم المسيحي ، على مدى خمسة قرون من { 700 - 1200 م } ، وتفوق عليه في مستوى المعيشة والتسامح الديني والفلسفة والثقافة والعلوم ، وقد أدت الحروب المتتالية إلى عكس الآية ، فلقد قال أحد المؤرخين : لقد خسر الغرب الحروب الصليبية ، لكنه كسب حرب المعتقدات ، لقد تم طرد كل محارب مسيحي من الأرض المقدسة للمسيحية واليهودية ، ولكن الإسلام وقد أسكره النصر ومزق أوصاله المغول ، سقط في غياهب العصور المظلمة ، من الفقر والنسيان ، بينما الغرب المنهزم ، وقد أنضجته الأهوال نسي هزيمته وتعلم من عدوه وبنى كنائس تصل إلى عنان السماء ، وقاد سفينته في بحار المعرفة وخرج منه الفلاسفة أمثال دانتي وشوسير وفيلون وسر بروح عالية في عصر النهضة 0
ويقول في مكان ثان من كتابه حول إمكانية العودة الإسلامية لقيادة الحياة السياسية :
إنًّ المسلمين منقسمون من ناحية إسلامية إلى ثلاثة فرق كبرى هي : السنة ، والصوفية ، والشيعة ، ويتكلمون بأكثر من [ 150 ] لغة ، ولهذا لا يشكلون أي خطر محتملٍ على الغرب والحضارة الغربية 0 { الكلام الثاني منقول بتصرف مع المحافظة الكاملة على المعنى } 0
ملاحظات على الاقتباس الثالث بشقيه
• كاتب الكتاب أحد رؤساء الولايات المتحدة الجمهوريين ، فالكتاب رؤية سياسي عرك السياسة وعركته ، فهي ليست رؤية باحث في السياسة ، ولا هي كتابه أكاديمية ، وقد تولى الحكم في الولايات المتحدة فترة 1968 - 1972 م 0 شهدت هذه الفترة ظهور الصحوة الإسلامية ، ورغم التباين في تعليل ظهورها ، إلاَّ أنَّ الغرب انتفع فيها أيما انتفاع ، ولكنها أثارت مخاوف الغرب خاصة على المستوى الإعلامي والشعبي ، فهو إذن يكتب خطابا ليطمئنَّ الغربيون ويخبرهم أنَّ الصحوة في محل الاحتواء 0
• يؤكد الاقتباس فكرة سبق الحضارة الإسلامية في قرونها الخمس الأولى لتحدث الغفوة وتنعكس الآية فيتقدم الغرب ، ويرى الغرب نفسه من زاوية المسيحية اليهودية ، كما أعادت تشكيلها روما ، ولذلك يقول وهو يتكلم عن الحروب الصليبية بحملاتها المتعددة ، التي حدثت من 1089 - 1291 بخروج الصليبين من آخر معقل لهم في عكا : لقد تم طرد كل محارب مسيحي من الأرض المقدسة للمسيحية واليهودية 0 مع أنَّ أمريكا لم تكن مكتشفة في فترة الحروب الصليبية ولم تكن الولايات المتحدة ناشئة إذ لم تنشأ إلاَّ بعد عام 1789 م 0
• يكشف الاقتباس أنَّ الأمريكيين ينتمون من حيث العمق التاريخي للغرب والعجب ممن يريد لهذه أنْ تترك عمقها التاريخي ! 0
حقيقة قضية الأمة
• قضية الأمة ليست صراعا بين الدين الإسلامي والحضارة الغربية ، من حيث هو تدين ، وإنما الصراع صراع حضاري بين وجهتي نظرٍ مختلفتين ، في تفسير معنى الوجود ، وفي مهمة الإنسان على سطح هذا الكوكب ، أي صراع بين الإسلام كحضارة عدلية ، والليبرالية الديمقراطية كمشروع استلاب للإنسان ، تحوله إلى مسخ يصل الليل بالنهار للحصول على سلع استهلاكية ، فيتحول أخيرا هو نفسه إلى مادة استهلاكية 0
• يروج الآن لدخول المعركة الحضارية ، باستعمال نفس أدواتها في السياسة والاقتصاد والثقافة والاجتماع ، ومثل هذه الأدوات لنْ تتيح لهذه الأمة أن تتحرر من عدوها ، بل ستكون عامل من عوامل تركيز الربط 0
• القائلون بالدخول إلى عالم العولمة ، مع المحافظة على الهوية والذات ، يقولون بالأمر ونقيضه وهي بالتالي ستوصل إلى ضياع الأمرين معا 0
• ويأتي السؤال الأخير ! هل من درب يوصل لحماية هذه الأمة من كيد عدوها ؟ ويجعلها تستأنف طريقها كرحمة للعالمين ـ هنا من الضروري ملاحظة الذين يجردون الأمة من أي صفة حضارية سابقاً ولاحقاً ، ويرونها حالة تخلف حضاري منذ بدء الإسلام ، يسلطون الأضواء على الزوايا السوداء في حياتها ، لا للاتعاظ بها ، بل لإدانتها ، وعندما ينقلون إلى التاريخ الأسود في حياة الغرب داخليا وخارجيا ، يسوغون له ذلك بدعوى أنه يعمل لذاته ، ويتعامون عمَّا يجري في داخله من مظالم 0
• ويرد عليهم الإسلاميون ، بالدعوة للإيمان التسليمي ، والتوقف عند النموذج التاريخي ، أو الإقتداء بالسلف ، أو قراءة مدونات العلماء ، دون أية قراءة نقدية لها ، وهكذا تتوقف حركة التاريخ عند التأريخ ، ويضيع بينهما الوعي ، وتفقد الأمة إرادتها ، وتعيش مستلبةً بلا سيادة وتسعى إلى مزيد من الاستلاب ! 0
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
===============
المنهج الإسلامي في علاج الهزيمة النفسية ...
بقلم الدكتور راغب السرجانى ... تاريخ الإضافة : 04/10/06 ...
مقدمة
تمر النفس الإنسانية بحالات شديدة التباين خلال مسيرتها في الحياة.. فبينما تشرق أحيانًا، ويملؤها الطموح، ويدفعها الأمل لتحقيق لمعجزات.. تدهمها أمواج البأس ـ في أحيان أخرى ـ فتنهزم أمام المصائب والصعوبات والمخاوف..
ولعل من أخطر ما يهدد سلام النفس الإنسانية، ويقضي على مقدراتها ويشل إمكانياتها استسلامها للإحباط والهزيمة الداخلية.. واستشعارها ألا فائدة، وأن شيئًا مما فسد لا يمكن إصلاحه، وأن الأجدى ـ وقد انسكب اللبن ـ أن نعكف عليه باكين نادمين بدلاً من القيام والبحث عن حل.
ومن خطورة الشعور بالإحباط والهزيمة النفسية أنه يقضي على أي أمل للإصلاح مع أن الأمل لا ينقطع ما بقيت هناك حياة.. إلى جانب أنه ينطوي على راحة لا تخفى.. فبدلاً من الكدّ في سبيل الخروج من الأزمة يكتفي المحبط بالعويل واعتبار نفسه شهيد المصيبة! ومن ثم يعزو كل فشل لاحق إلى مصيبته التي وقع فيها ـ أو أوقع نفسه ـ ومن ثم أيضًا تُسلمه كل مصيبة وهزيمة إلى أختها أو أكبر منها!.
براعة المنهج الإسلامي في علاج انكسار النفس
للإسلام منهج فريد في علاج انكسار النفس أمام متاعب الحياة ومصائبه، وينبع هذا التفرّد من كون الإسلام منهجًا ربّانيًا.. شرعه من سوَّى النفس الإنسانية وأبدع أسراره، وعلم ـ وحده سبحانه ـ مداخلها ومخارجها..
ولا تقتصر روعة المنهج الإسلامي على إحكام تفاصيله ودقة توجيهاته.. بل تتعدى ذلك إلى القالب الذي سيق فيه الدرس؛ فلا يعرض الإسلام أفكارًا نظرية جافة قد يراها البعض صالحة، ويظنها آخرون ضربًا من الخيال.. وإنما يساق الدرس ضمن تجربة عملية واقعية حدثت على الأرض، وخاضها ناس من البشر ـ في عصر الوحي أو فيما قبله ـ أصاب بعضهم في هذه التجربة وأخفق آخرون.. ومن ثنايا سياق التجربة الواقعية يُستخرج الدرس وتستنبط العبرة، فتلصق بوعي الإنسان ويقتنع الناس بإمكانية النسج على منوالها..(5/144)
ومع أن الله يحب عباده المؤمنين وينصرهم ويدافع عنهم.. إلا أنه يقدّر عليهم البلاء ويمتحنهم بالآلام ليقوّي عودهم؛ فيثبتوا في مواجهة الإحباطات، ويأخذ بأيديهم (من خلال هديه) ليدربهم على فن مواجهة الهزيمة النفسية والخروج مها بسلام.. بل بغنائم!!
ظهر هذا الأمر جليًا في يوم أحُد الذي سماه الله تبارك وتعالى في كتابه:(مصيبة) حين قال: [أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا] {آل عمران: 165}
وقد كان يوم أحد مصيبة بحق حين خالف المؤمنون من الرماة - متعمدين - صريح الأمر النبوي بعدم مغادرة أماكنهم خلف المسلمين مهما تكن الظروف، وفقد الجيش من جرّاء هذه المخالفة سبعين من خيار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.. وانكسرت النفوس التي استكانت - منذ عام - للذة النصر يوم بدر، وغزا اليأس القلوب.. وخاصة عندما أشيع مقتل الرسول صلى الله عليه وسلم فقعد الناس عن القتال.. بل ولّى بعضهم الأدبار فرارًا!!.
إننا ـ بالفعل ـ أمام مصيبة حقيقية أصابت المجتمع المسلم بأكمله ولم تكن الخسائر مادية فقط بل تعدتها إلى الخسارة النفسية بهذا الانكسار ووقوع بعض العيوب التي كشفتها المصيبة.
عناصر المنهج الإسلامي في علاج الهزيمة النفسية
ما نريد في هذه الأسطر هو تحليل أحداث المعركة تاريخيًا أو عسكريًا، فليس المقام بمتسع لذلك.. وإنما لابد لنا أن نخرج من هذا الحدث الذي عالجه القرآن في ستين آية متواصلة (من سورة آل عمران) بمنهج واضح للخروج من الأزمات وللتغلب على الهزيمة النفسية؛ فما أكثر ما تتكرر بعض مصائب أحد ـ أو معظمها ـ في حياتنا.. ما أكثر ما نحبط لأزمات تمر بنا أو بأمتنا.. وما أكثر ما يعطلنا حب الدنيا عن كمال الطاعة لله ورسوله فنقصر أو نسوّف الطاعة.. وربما نتورط في بعض ما يغضب الله..
فنحن ـ إذًا ـ محاجون كأفراد وجماعات لتعرّف هذا المهج الرباني للخروج من الأزمات وعلاج الانكسار النفسي..
لهذا المنهج عناصر تستخلصها إذا أحسست تدبر آيات الله التي عالجت (مصيبة أحد)..
1ـ أول هذه العناصر: رفع الروح المعنوية بلفت النظر إلى الجوانب الإيجابية في الفرد والأمة.. خاطب الله عباده المنكسرين نفسيًا فقال لهم: [وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] {آل عمران: 139}
وكان خطابًا واقعيًا ولم يكن تحذيرًا لنفوسهم أو تسكينًا مؤقتًا لآلامهم (تعالى الله عن ذلك)؛ فليس هناك شخص مركب من شر محض.. أو فشل محض أو ضعف محض.. إن بكل إنسان جوانب قوة وجوانب ضعف.. ولابد من لفت نظر الإنسان المنكسر نفسيًا إلى جوانب القوة الحقيقية فيه ليحسن توظيفها في التغلب على جوانب ضعفه..
يخاطب بهذا المعنى كل إنسان فقد مقومًا من مقومّات نجاحه في الحياة..
كمن فقد مالاً أو صحة أو حاسّة.. بل حتى لمن فقد عزيزًا لديه كان يحسبه سنده الوحيد في الحياة ويرى الحياة صفرًا يدونه..
ويخاطب أيضًا بهذا المعنى المجتمع المنكسر لضعفه وقوة عدوه أو غلبة العوائق على طريق تقدمه..
ولسنا في حاجة إلى التأكيد أن هذا العلاج لا يعني أن ينتشي المنكسر والمهزوم نفسيًا فيقعد عن علاج أزماته طالما أنه يحوز إيجابيات عديدة وألا لما شرط الله علوّ المؤمنين في الآية السابقة بالإيمان الذي يقتضي منطقيًا العمل والبذل وعدم القعود دون المنازل العالية..
2ـ من تلك العناصر أيضًا إبراز الجوانب الإيجابية في المصيبة نفسها فالله عز وجل يلفت نظر المؤمنين في أكثر من موطن من كتابه الكريم إلى أن أي مصيبة لابد أن تنطوي على نقاط مضيئة وجوانب إيجابية.. انظر إلى قوله عز وجل: [وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ]{البقرة: 216} وقوله تعلى: [فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا] {النساء: 19}
ولا تخفي عليك دلالات تحملها كلمة (كثيرًا) فالإيجابيات داخل قد تكون متعددة!
ربَّي الله المؤمنين على ذلك من خلال سياق علاجه لمصيبة "أحد" عندما وضعت الآيات أيديهم وأبصارهم على فوائد حصّلوها من الحدث المؤلم ومن الجراح والآلام التي أصابتهم..
ظهر هذا واضحًا في آيات من مثل قله تعالى: [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ . وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا] {آل عمران: 166 - 167} فتميز الصادق من المنفق ثمرة إيجابية تفيد أي مجتمع يكافح من أجل البقاء والنهوض ولولا المصيبة التي وقعت لبقى المنافق جرثومة مستترة جاهزة لنفث سمومها في جسد المجتمع في أي وقت..
ـ وليس معنى هذا أن نسعى في طلب المصائب وتمنيها بل نحن مأمورون بسؤال الله العافية..
إنما المقصود أن المصيبة أو الانكسار والألم كلها ليست نهاية الدنيا.. وليست شرًا محضًا بل في باطنها ـ دومًا ـ خير كثير لا يراه إلا أهل التوفيق..
ورضي اله عن الفاروق إذ يقول: "ما أصبت بمصيبة إلا كان لله عليّ فيها أربع نعم: أنها لم تكن في ديني، وأنها لم تكن اكبر منها، وأنني لم أُحرم الرضا عند نزولها، وأنني أرجو ثواب الله عليها".. فقد رزق من نفاذ البصيرة وإيجابية النفس ما جعله يرى في المصيبة الواحدة أكثر من فائدة..
3ـ من عناصر معالجة الانكسار النفسي أيضًا التي يربينا عليها الإسلام أن المصائب أمر مقدّر.. كتب الله لكل مخلوق حظه منه من قبل أن يوجد بالتأكيد هناك أسباب مادية واقعية تقود إلى المصيبة ولكن هذا لا ينفي ارتباط الأمر ـ من قبل ومن بعد ـ بقضاء الله وقدره.. وإنما يتحرك الإنسان سعيًا لجلب نفع أو دفع ضر لأن الله أمره بالأخذ بالأسباب وهو مأجور على العمل والسعي ما دام موافقًا للشرع.. كما أنه يتحرك لذلك وهو موقن أن الله قادر على تعطيل الأسباب وقادر كذلك على إنفاذها..
فالإنسان وأهل الأرض جميعًا إن اجتمعوا على دفع مصيبة قدّرها الله لن يستطيعوا مهما أوتوا من أسباب.
بهذه الفلسفة لحركة القدر في الحياة يتحرك المؤمن إيجابيًا فاعلاً قويًا أمام المصائب.. سريع القدرة على القيام بعدها وعلاج آثارها..
وهو بذلك عصى على الهزيمة النفسية والانكسار تحت وطأة الحدث مهما كان مريرًا.. لا يعرف معنى للإحباط وتمنّي المستحيل ولا تطول به الأيام والليالي في انتظار معجزة متوهمة تردّ عجلة الزمان إلى الوراء وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم في رسالته التربوية المعجزة التي وجهها لقلب المنكسر وعقله حين قال: احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا.. ولكن قل: قدّر الله وما شاء فعل، فإن ( لو ) تفتح عمل الشيطان
وما عمل الشيطان المقصود هنا سوى ذلك الإحباط الذي يسيطر على النفس أمام فرصة فائتة أو خطب نازل..(5/145)
4 ـ اتخذ القرآن الكريم ـ إلى جانب ما سبق ـ وسيلة أخرى هامة لعلاج المنهزم نفسيًا حين وجّه المسلمين بعد مصيبة أحد إلى إمكانية استئناف المسير وفتح صفحات ناصعة إذا هم أحسنوا التوبة مما وقعوا فيه من أخطاء مهما كانت (وإن كانت ضخمة كالفرار من الزحف أو مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم) نعم.. قد يخطئ الإنسان أخطاء كبيرة أو صغيرة ولكن الحياة لن تنتهي عند حدود الأخطاء التي وقعت طالما أن باب الإصلاح والتوبة مفتوح.. المهم أن يسارع المخطئ إلى تدارك الأمر.. وانظر [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ . الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ . وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ]...{آل عمران: 133 - 135}
فلا شك أن الصفحة البيضاء بل الجنات الواسعة التي يوعد بها المخطئ إن نجح في تعديل المسار.. كل ذلك كفيل أن يفتح أمامه الباب للنهوض والعمل من جديد..
5ـ يجد المحبط المنكسر نفسيًا دواءً جديدًا في هدى رب العالمين إذ يعده ـ ولا أصدق من الله ـ بالقيام من جديد ويغذيه بالأمل في نصر قادم إن أحسن الاستدراك لما فات..
في أوساط خطاب الله تعليقًا على أحداث أحد يقول لعباده المنكسرين نفسيًا: [إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ]{آل عمران: 160}
إن فرص النجاح قائمة حتمًا لمن أتوكل على الله حق التوكل وأحكم الأخذ بالأسباب..
6ـ كما أن القرآن لكريم يسلك سبيلاً آخر حكيمًا إلى النفوس المنكسرة يمسح عنها الأسى حين يلفت أنظارها دائمًا إلى عبرة الماضي المتكررة وهي أن السقوط يعقبه قيام ونصر لمن سار على الدرب يقول الله تبارك وتعالى: [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا] {آل عمران: 146}
وهذا منهج قرآني تكرر في غير هذا الموضع في مواجهة أزمات مرت بالمسلمين واقتربت بهم من دائرة الإحباط.. فتجد أن الله ينزل سورتين متواليتين في العام العاشر من البعثة في أواخر العهد المكي حين ضاق الحال تمامًا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في مكة تكذيبًا وإيذاءً وصدوداً عن لحق فتنزل القرآن بسورة هود وما حوته من قصص لرسل سابقين وكيف صبروا وثبتوا حتى جاءهم نصر الله.. ثم يختتمها الله تعالى بقوله: [وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ]{هود: 120}
فتعرّف أخبار السابقين المشابهة يثبت القلب ويزيل اليأس ويلقي في روع المهموم أن ما أصابك من همّ لم يكن جديدًا اختصصت به دون غيرك بل سبقك إلى ساحة الامتحان آخرون مثلك فنجحوا وعبروا الأحزان..
كما تنزلت بعدها سورة (يوسف).. وليس بخافٍ ما تحفل به من سلوى للمصابين وآمال لليائسين من خلال العديد من المآزق التي تعرض لها يوسف عليه السلام فصبر وثبت حتى نجاه الله منها جميعًا.. إلى جانب الأزمة العنيفة المتصاعدة التي مرت بيعقوب عليه السلام والمتجسد في فقد أحد بنية ثم تزيد بفقد التالي له في المنزلة بعد سنوات من الصبر..
إلا أنه ـ عليه السلام ـ لما وجّه بنية للبحث عن يوسف وأخيه ذيّل كلامه لهم قائلاً: [وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ] {يوسف: 87}
فتتجسد العبرة وينضح الدرس الذي من اجله يسوق الله هذا القصص فكما قال عز وجل في نهاية نفس السورة: [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى]{يوسف: 111}
إنه منهج قرآني معجز نستطيع، نسميه (التربية بالتاريخ)، فأحداث الزمان تتكرر، وسنن الله في الأرض ثابتة لا تتبدل والعاقل من اتعظ بتجارب من سبقوه..
7ـ ويلفت القرآن الكريم أنظار المسلمين تعقيبًا على أحد إلى أن الألم الذي أصابهم قد أصاب عدوّهم مثله، فلم يخرج عدوّهم من المعركة (وإن بدا منتصرًا) سالمًا من الجراح والآلام.. قال لهم الله تعالى: [إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ]{آل عمران: 140} فلم يذهب كفاحكم ضد عدوكم سدى، بل إن جهادكم قد آذاهم مثل ما أصابكم منهم من أذى (قرح مثله) وهي سنة ماضية معركة الحق مع الباطل فصّلها الله في موضع آخر من كتابه حين قال:[إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ] {النساء: 104} ولا ريب أن فرقًا كبيرًا بين من هزم وهو يرى عدوه مكتمل الفوز والانتصار ومن هزم وهو يشعر انه هو أيضًا قد نجح في النيل من عدوه مكتمل الفوز والانتصار ومن هزم وهو يشعر أنه هو أيضًا قد نجح في النيل من عدوه ولو بعض النيل.. شتان بين النفسيتين!! وهو درس بليغ لأمة المسلمين في صراعها مع الباطل في الأرض.. فمهما انتعش الأعداء بغرور قوّتهم إلا أن عين المتأمل لا تخطئ جراحًا تؤلمهم وخسائر بين الحين والآخر تستنزف مواردهم..
8ـ وكما يربي القرآن الكريم المنهزمين نفسيًا على أن الجراح والآلام ليست حكرًا عليهم دون أعدائهم يوجه أبصارهم نحو سنة كونية ثابتة متى استقرت في النفس المحبطة عاودها الأمل من جديد.. تلك السنة هي المتمثلة في قوله تعالى: [وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] {آل عمران: 140} فليس من شأن الأحوال أن تثبت على هيئة واحدة بل من شأن المقاعد أن يتبادلها الجالسون كل حين فلا المهزوم يظل مهزومًا ولا المنتصر يظل منتصرًا..
وكذلك الغني والفقر والصحيح والسقيم..
وإذا فهم المحبط ذلك أيقن بلا شك أن بالإمكان حتمًا أن يتجوز دائرة إحباطه التي تسيطر عليه لأن الأحوال حتمًا تمضي إلى تبدّل، وخير له أن يستثمر هذا التحول لصالح النهوض من كبوته..
9ـ كما أن الإنسان يوم القيامة يحاسب على عمله الذي كسبته يداه ولا يحاسب على النتائج المترتبة على فعله هذا..
والإسلام يرسخ هذا المعنى في نفوس المؤمنين، لأن العامل قد يحسن العمل ثم لا تأتي النتيجة على المستوى المطلوب فيحبط ويشعر بالفشل..
فيربط الإسلام جهودك وخططك بما تستطيع تحقيقه لا بما يتعلق بالغيب والقدر المحض..
ومن ثم يربط القرآن المؤمنين ـ في كفاحهم عبر الحياة ـ بثواب الآخرة المستقر اليقيني المترتب مباشرة على عملهم، فترى الله عز وجل يقول عن المؤمنين المجاهدين في سبيله: [فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ]{آل عمران: 148} فالثواب الحسن حقًا هو ثواب الآخرة.
أما الذين كفروا فحتى لو حققوا انتصارًا (أي: نتيجة حسنة) فيهم من الخاسرين في الآخرة (لسوء عملهم) يقول تعالى: [لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ . مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ]..{آل عمران: 196، 197} ويقول تعالى: [وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا]{آل عمران: 176}(5/146)
10ـ وأخيرًا يلفت الإسلام نظر المنكسر إلى أن طول القعود عقب الهزيمة يوجب العقاب من رب العالمين.. وذلك حتى يعلم الإنسان أن واجبه عقب الانكسار أن يبادر بالنهوض وإصلاح ما فات، فالعمر ضيق لا مجال فيه لطول القعود يأسًا وإحباطًا، والفرص المتاحة قد لا تظل متاحة إلى الأبد يقول تعالى معالجًا أشد ساعات الهزيمة النفسية لدى المؤمنين يوم أحد: [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا]{آل عمران: 144}
فقه هذا المعنى رجلان من الأنصار ـ قبل أن تنزل الآية الكريمة ـ فهذا أنس بن النضر يصيح بأولئك الذين أحبطوا وقعدوا عن القتال لما سمعوا بمقتل النبي صلى الله عليه وسلم: "ما تصنعون بالحياة بعده؟! قوموا فموتوا على ما مات عليه".. ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل..
أما الآخر فكان ثابت بن الدحداح (أو الدحداحة) رضي الله عنه..
يصيح بأصحابه الأنصار يوم أحد بعد الانكسار والهزيمة: "إن كان محمد قد قتل فإن الله حتى لا يموت، فقاتلوا عن دينكم، فإن الله مظهركم وناصركم".. فربط السعي بالله الباقي.. ومن كانت هذه جهة سعيه فلن ييئس لأنها جهة مفتوحة على الدوام..
بهذا المنهج الإسلامي الفريد قاد النبي صلى الله عليه وسلم أصحبه إلى الخروج من أزماتهم كلها ومنها ازمة أحد.. فها هو صلى الله عليه وسلم بعد أحد بيوم واحد .. يتخذ القرار لمطاردة المشركين العائدين إلى مكة بما يشبه الانتصار.. وأصر صلى الله عليه وسلم ألا يأخذ معه في هذا الخروج إلا من اشترك في أحد، وقال: "لا يخرج معنا إلى من شهد القتال"..
برغم أن أولئك الذين شهدوا القتال بالأمس سيخرجون اليوم والجراح تملأ أجسادهم ونفوسهم جميعًا.. إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يداوي هذه النفوس الكسيرة بعمل من شأنه أن يرفع معنوياتهم ويرد إليهم هيبتهم ويضعف من حلاوة النصر لدى قريش إذا اختتم المشهد بمطاردتهم إلى مكة!!
وقد كان هذا القرار النبوي العظيم قرارًا تربويًا من الدرجة الأولى..
فقد تعمد صلى الله عليه وسلم أن يأخذ الذين شاركوا في ( أحد ) فقد، مع ما بهم من جراح وآلام ونفسية سيئة مهزومة، وإنما أراد رسول الله صلى الله عليه ولم ذلك ليقول لهم: إنه يثق بهم تمامًا، وبقدراتهم وكفاءاتهم.. بل وبإيمانهم وعقيدتهم..
وأن ما حدث في ( أحد ) لم يكن إلى حدثًا عابرًا يندر تكراره، وأن الأمل فيهم كبير، والنصر لهم حليف إن شاء الله.. لقد كان هذا التكليف من رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثابة عودة لأجساد الصحابة وعزائمهم، فقاموا مسرعين ملبين برغم أزماتهم الجسدية والنفسية، وبرغم أحزانهم لفقد سبعين من إخوانهم وأحبابهم.. لقد قاموا جميعًا ولم يتخلف واحد.. لقد نجح الجميع في الاختبار وقامت الأمة من كبوتها في أقلا من أربع وعشرين ساعة!!
وخرج المسلمون للقتال في إصرار، وعسكروا في (حمراء الأسد) وهو مكان علي بعد ثمانية أميال من المدينة.. وكان جيش قريش معسكرًا على بعد ستة وثلاثين ميلاً.. فلما سمعوا بمقدم المسلمين ترددوا في قتالهم وأرسلوا إليهم من يخوّفهم من أعداد المشركين وقوّتهم.. ولكن هذا التهديد الآن صادف نفوسًا عادت إليها قوتها وعافيتها، فما تأثرت نفوس المؤمنين قيد أنملة بل على العكس ازداد إصرارهم على القتال، وازدادوا رغبة في الخروج من الأزمة، وإعادة الكرة على الكافرين...
وإزاء هذا الإصرار من قبل المؤمنين فر المشركون وتجنبوا القتال مع كثرة عدهم وقوة عدتهم.. وخرج المسلمون من أزمتهم بنجاح..
وهكذا يصنع الإصرار في نفوس أصحابه وفي نفوس خصومهم..
ومجد الله ـ في آيات بينات ـ أصحاب حمراء الأسد.. مع أنهم هم أهل أُحد الذين وقعوا في أخطاء الأمس، ولكنهم أحسنوا الخروج من آثار أخطائهم..
يقول تعالى: [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ . الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ] {آل عمران 172 - 174}
ولابد أن نتأمل ـ في الختام ـ المقابلة بين سرعة استجابتهم لله والرسول وبين شدة القرح التي أصابتهم لنعلم أن المنهج الإسلامي تنزيل من رب العالمين العليم بأدواء النفوس وبما يعالجها.. ولنتأكد أن أفضل درجات السم النفسي يبلغها الناس بسلاسة ويسر متى عمل هذا المنهج القويم في هذه النفوس....
===============
المسلمون وابتكار المستشفيات ...
بقلم الدكتور راغب السرجانى ... تاريخ الإضافة : 26/01/06
مقدمة
لم تبدأ الحضارة الإسلامية الاهتمام بالطب في القرن الثاني أو الثالث الهجري -كما يعتقد البعض - وإنما بدأ الاهتمام حقيقةً منذ البدايات الأولى لهذا الدين العظيم، وما أكثر الأحاديث والمواقف التي حث فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين على التداوي، وما أكثر الضوابط التي حواها شرعنا الحكيم؛ ليجعل الطب في النهاية علمًا مفيدًا نافعًا أخلاقيًا إنسانيًا، يهدف إلى نفع البشرية وخدمة الإنسانية.
يقول رسولنا - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه: ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاءً.
وإسهامات المسلمين في مجال الطب لا تُحصى.
المسلمون أول من أسس المستشفيات في العالم:
لعل من أجَلِّ هذه الإسهامات وأعظمها أن المسلمين هم أول من أسس المستشفيات في العالم، بل إنهم سبقوا غيرهم في ذلك الأمر بأكثر من تسعة قرون!! فأول مستشفى إسلامي أُسِّس في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، والذي حكم ( من سنة 86 هـ إلى سنة 96 هـ )، وكان هذا المستشفى متخصصًا في الجذام، وأنشئت بعد ذلك المستشفيات العديدة في العالم الإسلامي، وبلغ بعضها شأوًا عظيمًا؛ حتى كانت هذه المستشفيات تُعدّ قلاعًا للعلم والطب، وتُعتبر من أوائل الكليات والجامعات في العالم. بينما أُنشِئ أول مستشفى أوروبي في باريس بعد ذلك بأكثر من تسعة قرون!!
وكانت المستشفيات تُعرف بـ ( البيمارِسْتانات )، وكان منها الثابت ومنها المتنقّل، فالثابت هو الذي يُنشَأ في المدن، وقلَّما تجد مدينة إسلامية - ولو صغيرة - بغير مستشفى، أما المستشفى المتنقل فهو الذي يجوب القرى البعيدة والصحارى والجبال.. وكانت المستشفيات المتنقّلة تُحمَل على مجموعة كبيرة من الجِمال ( وصلت في بعض الأحيان إلى أربعين جملاً!! وذلك في عهد السلطان محمود السلجوقي رحمه الله والذي حكم من سنة 511 هـ إلى سنة 525 هـ ) وكانت هذه القوافل مُزوَّدة بالآلات العلاجية والأدوية، ويرافقها عدد من الأطباء، وكان بمقدورها الوصول إلى كل رقعة في الأمة الإسلامية.
وقد وصلت المستشفيات الثابتة في المدن الكبرى إلى درجة راقية جدًا في المستوى، وكان من أشهرها المستشفى العضُدي ببغداد ( والذي أنشئ في سنة 371 هـ )، والمستشفى النوري بدمشق ( والذي أنشئ في سنة 549 هـ )، والمستشفى المنصوري الكبير بالقاهرة ( والذي أنشئ سنة 683 هـ )، وكان بقرطبة ( وحدها ) أكثر من خمسين مستشفى!!(5/147)
وكانت هذه المستشفيات العملاقة تُقسّم إلى أقسام بحسب التخصص: فهناك أقسام للأمراض الباطنة، وأقسام للجراحة، وأقسام للأمراض الجلدية، وأقسام لأمراض العيون، وأقسام للأمراض النفسية، وأقسام للعظام والكسور...
ولم تكن هذه المستشفيات مجرد دور علاج، بل كانت كلّيات طب حقيقية على أرقى مستوى؛ فكان الطبيب المتخصص ( الأستاذ ) يمرُّ على الحالات في الصباح، ومعه الأطباء الذين هم في أولى مراحلهم الطبية، فيعلمهم، ويدوّن ملاحظاته، ويصف العلاج، وهم يراقبون ويتعلمون، ثم ينتقل الأستاذ بعد ذلك إلى قاعة كبيرة ويجلس حوله الطلاب فيقرأ عليهم الكتب الطبية، ويشرح ويوضّح، ويجيب عن أسئلتهم.. بل إنه يعقد لهم امتحانًا في نهاية كل برنامج تعليمي معين ينتهون من دراسته، ومن ثم يعطيهم إجازة في الفرع الذي تخصصوا فيه.
ليست مستشفيات فحسب:
كانت المستشفيات الإسلامية تضم في داخلها مكتبات ضخمة تحوي عددًا هائلاً من الكتب المتخصصة في الطب والصيدلة وعلم التشريح ووظائف الأعضاء.. إلى جانب علوم الفقه المتعلقة بالطب، وغير ذلك من علوم تهم الطبيب..
ومما يذكر على سبيل المثال - لنعرف ضخامة هذه المكتبات - أن مكتبة مستشفى ابن طولون بالقاهرة كانت تضم بين جنباتها أكثر من مائة ألف كتاب!!
وكانت تُزرَع - إلى جوار المستشفيات - المزارع الضخمة التي تنمو فيها الأعشاب الطبية والنباتات العلاجية؛ وذلك لإمداد المستشفى بما يحتاجه من الأدوية.
أما الإجراءات التي كانت تُتخذ في المستشفيات لتجنب العدوى فكانت متميزة.. بل عجيبة!! فكان المريض إذا دخل المستشفى يُسلّم ملابسه التي دخل بها، ثم يُعطَى ملابس جديدة مجانية لمنع انتقال العدوى عن طريق ملابسه ( التي مرض وهو لابس لها )، ثم يدخل كل مريض في عنبر مختص بمرضه، ولا يُسمح له بدخول العنابر الأخرى لمنع انتقال العدوى أيضًا، وينام كل مريض على سرير خاص به ( بملاءات جديدة وأدوات خاصة )
قارن كل ذلك بالمستشفى الذي أنشئ في باريس بعد هذه المستشفيات الإسلامية بقرون، حيث كان يَُسمح للمرضى بالإقامة في عنبر واحد ( بصرف النظر عن نوعية مرضهم! ) بل ويُسمح بنوم ثلاثة أو أربعة أو أحيانًا خمسة من المرضى على سرير واحد! فتجد مريض الجدري إلى جوار حالات الكسور إلى جوار السيدة التي تلد! كما كان الأطباء والممرضون لا يستطيعون دخول العنابر إلا بوضع كمّامات على الأنف من الرائحة شديدة العفونة في داخل هذه العنابر! بل كان الموتى لا يُنقلون إلى خارج العنابر إلا بعد مرور أربعٍ وعشرين ساعةً على الأقل من الوفاة!! فتخيل مدى خطورة هذا الأمر على بقية المرضى! فالحمد لله الذي شرفنا بالإسلام..
ومن أعظم المستشفيات الإسلامية: المستشفى العضُدي، الذي أنشأه ( عضد الدولة ابن بويه ) عام 371 هـ في بغداد، وكان يقوم بالعلاج فيه عند إنشائه أربعة وعشرون طبيبًا تزايدوا بعد ذلك جدًا، كما كان يضم مكتبة علمية فخمة وصيدلية ومطابخ، وكان يخدم فيه عدد ضخم من الموظفين والفرَّاشين، وكان الأطباء يتناوبون على خدمة المرضى بحيث يكون هناك أطباء بالمستشفى أربعةً وعشرين ساعة يوميًا.
مستشفيات إسلامية عملاقة
من المستشفيات الإسلامية العظمى أيضا: المستشفى النوري الكبير بدمشق، والذي أنشأه السلطان العادل ( نور الدين محمود الشهيد رحمه الله ) وذلك في سنة 549 هـ، وكان من أجَلّ المستشفيات وأعظمها، واستمر في العمل فترة طويلة جدًا من الزمان، حيث بقي يستقبل المرضى حتى سنة 1317 هـ ( 1899 م ) أي قرابة ثمانمائة سنة!!
كذلك من أعظم المستشفيات في تاريخ الإسلام: المستشفى المنصوري الكبير الذي أنشأه ( الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله ) في القاهرة، وذلك سنة 683 هـ وكان آية من آيات الدنيا في الدقة والنظام والنظافة، وكان من الضخامة بحيث إنه كان يعالج في اليوم الواحد أكثر من أربعة آلاف مريض!
ولا ننسى في هذا المضمار مستشفى مراكش الذي أنشأه ( المنصور أبو يوسف يعقوب رحمه الله ) ملك دولة الموحدين بالمغرب الذي حكم من 580 هـ إلى 595 هـ، وكان بناء هذا المستشفى آية من آيات والإتقان والروعة! فقد غُرست فيه جميع أنواع الأشجار والزروع، بل كانت في داخله أربع بحيرات صناعية صغيرة!! وكان على مستوىً عالٍ جدًا من حيث الإمكانيات الطبية والأدوية الحديثة والأطباء المهرة..
لقد كان - بحق - درّة في جبين الأمة الإسلامية...
ليس هذا فقط.. بل كانت هناك المستشفيات المتخصصة، التي لا تعالج إلا نوعًا معينًا من الأمراض: كمستشفيات العيون، ومستشفيات الجذام، ومستشفيات الأمراض العقلية، وغير ذلك...
وأعجب من ذلك وأغرب أنه كانت توجد في بعض المدن الإسلامية الكبرى أحياء طبية متكاملة؛ فقد حدَّث ابن جبير رحمه الله في رحلته ( التي قام بها في سنة 580 هـ تقريبًا ) أنه رأى في بغداد - عاصمة الخلافة العباسية - حيًّّا كاملاً من أحيائها يشبه المدينة الصغيرة، يتوسطه قصر فخم جميل، تحيط به الحدائق والبيوت المتعددة، وكان كل ذلك وقفًا على المرضى، وكان يؤمه الأطباء من مختلف التخصصات ( فضلا عن الصيادلة وطلبة الطب ) وكان النفقة جارية عليهم من الدولة ومن الأوقاف التي يجعلها الأغنياء من الأمة لعلاج الفقراء وغيرهم.
وبعد..
فهذا قليل من كثير، وما أغفلنا ذكره أكثر بكثير مما علّقنا عليه، وليس هذا إلا وجه بسيط من أوجه الحضارة الإسلامية العظيمة..
وللحديث بقية...
وأسأل الله أن يُعزّ الإسلام والمسلمين
==============
البعد الإنساني للطب عند المسلمين ...
بقلم الدكتور راغب السرجانى ... تاريخ الإضافة : 26/04/06
مقدمة
تحدثنا في المقالات السابقة عن عديد من الجوانب المشرقة للحضارة الإسلامية في مجال الطب سواء من ناحية ابتكار المستشفيات, أو الإسهام في تطوير علوم الطب وتخصصاته المختلفة, أو من ناحية الأسلوب الإسلامي الراقي في دراسة الطب.. وكيف أثر ذلك في دفع علم الطب وتطبيقاته خطوات هائلة نحو الأمام في زمن الحضارة الإسلامية.
وفي هذا المقال نلفت النظر إلى بعد رائع جديد تميز به الأداء الطبي عند المسلمين في زمن حضارتهم.. ذلكم هو البعد الإنساني, واحترام الإنسان بصفة عامة, والسعي الحثيث لرفع المعاناة والألم والحرج عنه أيًّا كان هذا الإنسان, وأيًّا كانت معاناته
اهتمام الإسلام بهذا الجانب
لم يكن غريباً على أطباء المسلمين أن يهتموا بالبعد الإنساني في تعاملهم مع المريض، لأن قوانين التشريع الإسلامي تنطق بهذا النهج الأخلاقي الفريد.. فالإسلام ينظر إلى المريض على أنه إنسان في أزمة، ومن ثم يحتاج إلى من يقف إلى جواره، ويأخذ بيده، ويرفع من معنوياته، ويهدّئ من روعه، ويخفف عن آلامه الجسدية، فضلاً عن المعنوية...
لذلك تجد أن التشريع الإسلامي يسعى لرفع الحرج عن المريض عند المرض بكل وسيلة، ويخفف عنه الأعباء إلى أقصى درجة.. فللمريض رخصة ألا يصوم، وإن عاقه اعتلال صحته عن الحج فلا حج عليه، وليس عليه إثم.. كما أن المريض الذي لا يستطيع الصلاة على صورتها الطبيعية يُعطى رخصة الصلاة في أوضاع تناسبه جالساً أو نائماً أو حتى بعينيه! والمريض الذي يضره الماء في الوضوء يتيمم، والذي لا يستطيع الوضوء ولا التيمم لسبب أو آخر يصلي دون أي منهما ويسمى فاقد الطهورين... حتى في أوقات الجهاد في سبيل الله رفع الحرج عن المريض فلا يجاهد ولا إثم عليه، والله يقول: [ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج]...(5/148)
بل إن التشريع الإسلامي لا يكتفي برفع بعض التكليفات، والترخيص في بعض العبادات والفروض، وإنما يحض وبشدة على الوقوف إلى جوار المريض، ورفع روحه المعنوية إلى أقصى درجة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم زيارة المريض وعيادته في بيته أو في المستشفى حقاً له على المسلمين، فقال فيما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: "حق المسلم على المسلم ست .... وذكر منها: "وإذا مرض فعده".. وجعل الجنة نصيباً لمن عاد مريضاً، فقال فيما رواه ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه: "من عاد مريضاً نادى مناد من السماء: طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلاً".
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تذكر الخير عند المريض، وأن ترفع من روحه المعنوية، وتطمعه في الشفاء وفي طول العمر، فقد روى ابن ماجه في سننه من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في الأجل - أي ارفعوا من إحساسه بطول أجله وشفائه من المرض - فإن ذلك لا يرد شيئًا، وهو يطيب نفس المريض"
بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتفع بروح المريض إلى السماء عندما يخبره أن هذا المرض هو كفارة لذنوبه، وهو مدعاة لنجاته في الآخرة إن صبر، فقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه"، ويقول فيما رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه: "إن الله تعالى قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه - أي بعينيه - فصبر، عوضته منهما الجنة"، وهكذا ترتفع معنويات المريض المؤمن إلى السماء، ولا يشعر بأنه أصبح كماً عاجزاً مهملاً في المجتمع، بل إن الجميع يهتم به ويرعاه
النظرة الإنسانية للمريض أيًا كانت ديانته
ولم تكن هذه النظرة الإسلامية الراقية للمرضى المسلمين فقط، بل كانت لأي إنسان مريض مهما كانت ديانته، وذلك انطلاقاً من الآية الكريمة: [ولقد كرمنا بني آدم] ....، فالإنسان بصفة عامة مكرم، ولذلك نهتم برعايته حين مرضه، وبعلاجه إذا اشتكى ولو لم يكن مسلماً.. فقد زار رسول الله صلى الله عليه وسلم غلاماً يهودياً عندما مرض، وأفرد البخاري لذلك باباً خاصاً في صحيحه فقال: باب عيادة المشرك.
هذا البعد الإنساني العميق الذي زرعه فينا الشرع الإسلامي الحنيف جعل الأطباء المسلمين في كل عصور الحضارة الإسلامية يتعاملون مع المريض على أنه إنسان وليس على أنه "شيء لا إحساس له"، ولا على أساس أنه مصدر للرزق عن طريق أخذ الأجر منه، بل كان التعامل معه دائماً على أنه إنسان في أزمة، ويحتاج إلى من يقف إلى جواره، وليست المساعدة طبية فقط، ولكن تتعدى ذلك إلى المساعدة النفسية والاجتماعية والاقتصادية وغير ذلك.
بهذه الروح النبيلة تعامل الأطباء المسلمون مع مرضاهم، فكانت الخدمة الطبية الراقية تقدم للمرضى في الدولة الإسلامية دون تفرقة بين غني أو فقير، ولا عربي أو غير عربي، ولا أبيض أو أسود، ولا حاكم ولا محكوم، ولا مسلم أو غير مسلم.. ففي كثير من الأحيان كان العلاج مجانيًا للجميع.. وكان المرضى ينعمون بنفس المستوى من الخدمة أيًّا كان مستواهم.
نماذج راقية في التعامل مع المرضى
لنطلع سوياً على طرف من نظام المستشفيات الإسلامية، والذي يعطي انطباعاً عن البعد الإنساني الذي نقصده، فبمجرد دخول المريض للمستشفى يُفحص أولاً بالقاعة الخارجية، فإن كان به مرض خفيف يُكتب له العلاج، ويُصرف من صيدلية المستشفى، وإن كانت حالته المرضية تستوجب دخوله المستشفى كان يقيد اسمه، ويُدخل إلى الحمام للاغتسال، وتُخلع عنه ثيابه التي دخل بها فتوضع في مخزن خاص، ثم يعطى ثياباً جديدة خاصة للمستشفى، ويُدخل إلى القاعة المخصصة لأمثاله من المرضى، ويخصَّص له سرير مفروش بأثاث جيد، ولا يسمح بوجود مريض آخر معه في نفس السرير مراعاة لنفسيته، وليس كما يحدث الآن في كثير من مستشفياتنا حيث يوضع المريضان - وأحياناً الثلاثة - على نفس السرير، بل إن هذا كان يحدث في أول مستشفى أوروبي - وكان في فرنسا - والذي أنشئ بعد أول مستشفى إسلامي بحوالي تسعة قرون كاملة! فقد كانوا يضعون على السرير الواحد ثلاثة أو أربعة أو خمسة مرضى! بل كان المرضى ينامون في دهاليز المستشفى، وفي أجواء صحية رديئة..
وبعد دخول المريض للمستشفى الإسلامي يُعطى الدواء الذي يعيّنه الطبيب، كما يوصف له الغذاء الموافق لصحته، وبالمقدار المفروض له.. ولم يكن يضيق أبداً على المرضى في نوع الطعام الذي يأكلونه، بل كان يقدم لهم أطايب الطعام، فقد كان غذاء المرضى يحتوي على لحوم الأغنام والأبقار والطيور والدجاج.. كذلك لا يضيق عليهم أبداً في كميات الطعام، بل كانت من علامات الشفاء أن يأكل المريض رغيفًا كاملاً ودجاجة كاملة في الوجبة الواحدة!
فإذا أصبح المريض في دَور النقاهة أدخل القاعة المخصصة للناقهين، حتى إذا تم شفاؤه أعطي بذلة من الثياب جديدة دون أجر، وليس هذا فقط بل كان يعطى مبلغًا من المال يكفيه إلى أن يصبح قادرا على العمل! وذلك حتى لا يضطر إلى العمل في فترة النقاهة فتحدث له انتكاسة، ولا تسل عن مدى الطمأنينة التي ينعم بها الفقير في المجتمع الإسلامي عندما يعلم أنه إذا مَرِض فسيجد مثل هذا المستوى من الرعاية المجانية دون أن يحتاج إلى إراقة ماء وجهه أو البحث عن وسلطات أو شفاعات لينال ما يستحق من الاهتمام والعلاج.. فضلاً عن مدّ يده متسولاً ليتم علاجه
الرازي يوجّه تلاميذه
ما أروع توجيه (أبي بكر الرازي) كبير أطباء المسلمين في عصره.. إذ كان يوصي تلاميذه أن يكون هدفهم الأول إبراء مرضاهم أكثر من نيل أجورهم منهم، وأن يعالجوا الفقراء بمثل الاهتمام والعناية التي يعالجون بها الأمراء والأغنياء، وأن يوهموا المرضى بالشفاء حتى لو كانوا أنفسهم لا يعتقدون بذلك: (.. فمزاج الجسم تابع لأخلاق النفس).
ولم يكن هذا المستوى العالي من الرعاية الصحية مقصورًا على المدن والحواضر الكبرى, بل حظيت كل بقاع الدولة الإسلامية بذات الاهتمام.. وذلك من خلال المستشفيات المتنقلة التي أشرنا إليها في مقال سابق.. والتي كانت تجوب القرى والنجوع والجبال والمناطق النائية بصفة عامة، والشاهد هنا أنه كان يُنظر إلى رعايا الدولة المسلمة - في مجال الرعاية الطبية - نظرة متساوية بغضّ النظر عن بيئاتهم ومستوياتهم الاجتماعية أو الاقتصادية.
بل إن النظرة الإسلامية الرحيمة للمريض تعدّت كل طبقات المجتمع السوية لتشمل نزلاء السجون ممن أساءوا لمجتمعهم! فهؤلاء أيضًا كانوا يجدون الرعاية الطبية الكافية؛ فهم بَشَرٌ, ومن أبناء المجتمع على أي حال.. وما ينزل بهم من الحبس والعقاب إنما هو لإعادة إصلاحهم لا للقضاء عليهم بالموت البطيء الذي يتعرض له نزلاء كثير من السجون في عالم اليوم.. كتب الوزير علي بن عيسى بن الجراح إلى سنان بن ثابت رئيس أطباء بغداد: ".. فكرت في أمر من في الحبوس (السجون), وأنه لا يخلو مع كثرة عددهم وجفاء أماكنهم أن تنالهم الأمراض، فينبغي أن تفرد لهم أطباء يدخلون إليهم كل يوم, وتُحمل إليهم الأدوية والأشربة, ويطوفون في سائر الحبوس.. ويعالجون فيها المرضى"..(5/149)
وما كان لهذا الفيض الإنساني أن يستمر على مر عصور الحضارة الإسلامية لولا ينابيع العطاء المتدفقة من قلوب أبناء الأمة المسلمة والموازية لدعم الدولة نفسها.. وأقصد هنا نظام الأوقاف الخيرية, وما كان يقوم به من دور في حسن رعاية المرضى وإكرامهم.. فقد كانت مستشفيات راقية بأكملها تعتمد على ريع وقف يرصده أحد المسلمين - بمن فيهم الحاكم نفسه - لتغطية كل احتياجات المستشفى بمرضاه وأطبائه ومفروشاته وأغذيته ونباتاته الطبية وأدويته... إلى حد الإنفاق على طلاب الطب المتدربين في هذا المستشفى!.. ولعل من أشهر الأمثلة على ذلك المستشفى المنصوري الكبير الذي أسسه في القاهرة الملك المنصور سيف الدين قلاوون (عام 683 هـ) وأوقف عليه ما يغطي نفقاته سنويًا...وقد أشرنا في مقال سابق إلى عظمة هذا المستشفى في زمانه وما كان يقدمه من خدمات.
صور غير مسبوقة في التعامل مع نفسية المرضى
وعلى ذكر الأوقاف الخيرية وأثرها في تغطية الجانب الإنساني في الطب عند المسلمين لابد أن نشير هنا إلى بعض الصور المبتكرة وغير المسبوقة في التعامل الإنساني مع نفسية المريض.. فقد كان ريع بعض الأوقاف يُخصص لتوظيف اثنين يمرّان بالمستشفيات يوميًا, فيتحدثان بجانب المرضى حديثًا خافتًا يسمعه المريض دون أن يراهما.. يوحيان إليه من خلال حديثهما بتحسُّن حاله! فيما كان يُعرف "بوقف خداع المريض".. وذلك لترتفع معنوياته، وبالتالي يتماثل للشفاء بصورة أسرع!!
ولم يكن ذلك البعد الإنساني الراقي في التعامل مع المرضى سلوكًا فرديًا يمارسه بعض الأطباء, ولا كان مجرد حب شعبي للخير والرحمة ينبع من قلوب العامة.. بل كان سلوكًا عامًا تتبناه سياسات الدولة, وينتهجه أفراد الأمة حكامًا ومحكومين؛ فكثيرًا ما كان الخليفة أو الأمير يتفقد بنفسه المرضى ويشرف على حسن معاملتهم.. ويُذكر هنا أن المنصور الموحدي (ملك دولة الموحدين بالمغرب) كانت له زيارة أسبوعية للمستشفى (المنصوري) بمراكش بعد صلاة الجمعة من كل أسبوع؛ يطمئن فيها بنفسه على أحوال المرضى.
ومن الجوانب الإنسانية في تعامل الطب الإسلامي مع المرضى ما اشتملت عليه شريعة الإسلام من آداب تحفظ كرامة المريض وتصون حياءه, وتضمن سير مراحل الفحص والعلاج دون انتهاك لخصوصياته؛ فلا يجوز - مثلاً - كشف عورة المريض إلا لضرورة, وبالقدر المطلوب فقط في الفحص أو الجراحة وما إلى ذلك... كما لا يجوز أن يشهد فحص المريض أو المريضة شخص غير ذي صفة - وخاصة إذا كان من جنس مختلف - إلى جانب عدم جواز خلوة الطبيب بمريضة من النساء إلا مع وجود ذي مَحْرم لها, أو وجود امرأة أخرى كالممرضة مثلاً.. كذلك راعت المستشفيات في الحضارة الإسلامية الفصل في أقسامها الداخلية بين الرجال والنساء..
كذلك من الجوانب الإنسانية في تعامل الطب الإسلامي مع المرضى أن راعى الشرع حقوق المريض في العلاج بأن سمح للطبيب الرجل أن يعالج المرأة، والعكس كذلك، وذلك إن لم يوجد البديل الكفء من نفس الجنس والذي يستطيع أن يقوم بالمهمة على الوجه الأكمل، وذلك حتى لا يفوت على المريض - رجلاً كان أو امرأة - فرصة العلاج الصحيح، بل إن الشرع أجاز كذلك أن يبحث المريض المسلم عن العلاج عند الأطباء غير المسلمين إن تعذر وجود من يستطيع علاجه من المسلمين، وذلك حفاظاً على صحة المريض وحياته..
كل هذه وغيرها ضوابط وآداب إسلامية تنقل مبدأ سماويًا كقوله تعالى: [ولقد كرمنا بني آدم] ... من حيز النظريات المجردة إلى التطبيق الواقعي؛ لترتقي حياة الإنسان عن أنماط أخرى للحياة عند سائر الكائنات.. وسبحان الذي أنزل شرعاً بهذا التكامل!
=============
حقوق الحيوان فى الحضارة الإسلامية ...
بقلم الدكتور راغب السرجانى ... تاريخ الإضافة : 15/09/06
مقدمة
تفرَّد الإسلام - كما رأينا في المقال السابق - بنظرة بالغة الرُّقي للحيوان وحقوقه.. وتربَّى المسلمون منذ عهد النبوة على أن الإحسان للحيوان ورحمته والرفق به.. عبادة تُكفِّر الخطايا وترفع الدرجات, كما أن الإضرار بالحيوان وتعذيبه وتحميله فوق طاقته.. جريمة توجب غضب الله وعقاب الآخرة.
وفي هذه السطور نستعرض بعض الجوانب المشرقة من تاريخنا الإسلامي فيما يخصُّ تعامل المسلمين مع الحيوان؛ لنرى كيف كان الرفق والأناة ديدنهم دائمًا، مقتدين في ذلك بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومقتفين أثره ..
وأول ما يلفت الانتباه في هذا الصدد أن كتب الفقه الإسلامي تزخر بالأحكام المتعلقة بالحفاظ على حقوق الحيوان وهي أحكام كثيرة قد لا يتسع المجال لتتبعها جميعًا.. ومن ثّمَّ نكتفي ببعض الأمثلة..
من ذلك مثلاً ما قرره الفقهاء من وجوب القيام على سقي الدابة وإطعامها، وإذا قصر مالك الحيوان في ذلك أجبره القضاء عليه، فإن لم يقم للدابة بما يجب عليه من حسن تغذيتها وسقيها، باعها القاضي ولم يتركها تحت يد صاحبها تقاسي.
يقول القاضي أبو يعلى (شيخ الحنابلة.. من قضاة القرن الرابع الهجري) في كتابه (الأحكام السلطانية): "وإذا كان من أرباب المواشي من يستعملها فيما لا يطيق الدوام عليه أنكره المحتسب (وهو المُعَيَّن للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالشرطي في زماننا) عليه ومنعه منه، فإن ادعى المالك احتمال البهيمة لما يستعملها فيه جاز للمحتسب أن ينظر فيه؛ لأنه - وإن افتقر إلى اجتهاد - عرفي يرجع فيه إلى عرف الناس وعاداتهم ، وليس باجتهاد شرعي والمحتسب لا يمنع من اجتهاد العرف إن امتنع من اجتهاد الشرع.
وفي الفتاوى البزازية (لابن البزاز فقيه الحنفية في القرن التاسع) (6/370) ما نصه: "المختار أن النملة إذا ابتدأت بالأذى لا بأس بقتلها وإلا يكره، وإلقاؤها في الماء يكره مطلقًا"، لأنه تعذيب لا مبرر له، "وقتل القملة لا يكره، وإحراقها وإحراق العقرب بالنار يكره"
فانظر كيف اهتم العلماء ـ رحمهم الله ـ بإيراد هذه التفاصيل الدقيقة الهامة في مصنفاتهم، مما يعكس مدى اهتمامهم بتعليم الناس الرفق بالحيوان ، ومراعاة حقوقه كل الرعاية ، وأن ذلك من الأمور التي يحاسب عليها الأمير ..
إنها روح خلقها الله عز وجل.. تسبح بحمده: "وإن من شيءٍ إلا يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم". فيجب على المسلم مراعاة التعامل معها، والاهتمام بها في الحدود التي لا تضره..
وقال الصنعاني (من علماء اليمن ق 12 هـ) في سبل السلام (1/232) بعد حديث المرأة التي دخلت النار في هرة حبستها: (والحديث دليل على تحريم قتل الهرة.. لأنه لا عذاب إلا على فعل محرّم).
ومثل هذه الأحكام في كتب الفقه الإسلامي لا حصر لها.
هذا وقد بلغ المسلمون في الرفق بالحيوان حدًا لا يكاد يُتصور، حتى إن عدي بن حاتم رضي الله عنه كان يفت الخبز للنمل ويقول: (إنهن جارات ولهن حق!!) كما رواه النووي في تهذيب الأسماء.
وكان الإمام أبو إسحاق الشيرازي (من أئمة الشافعية في القرن الخامس الهجري) يمشي في طريق يرافقه فيه بعض أصحابه، فعرض لهما كلب فزجره رفيق الإمام، فنهاه الإمام وقال: أما علمت أن الطريق بيني وبينه مشترك .
خلفاء المسلمين يوصون بالرفق بالحيوان(5/150)
تذكر لنا كتب التاريخ أن خلفاء المسلمين كانوا ينشرون خطابات عامة على الشعب يوصونهم بالرفق بالحيوان، ومنع الأذى والإضرار به، يروي ابن عبد الحكم في سيرة الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز أنه نهى عن ركض الفرس إلا لحاجة، وأنه كتب إلى صاحب السكك أن لا يحملوا أحدًا بلجام ثقيل، ولا ينخس بمقرعة في أسفلها حديدة، وكتب إلى واليه بمصر: أنه بلغني أن بمصر إبلاً نقالات يحمل علي البعير منها ألف رطل فإذا أتاك كتابي هذا فلا أعرفن أنه يحمل على البعير أكثر من ستمائة رطل ...
وإنما سميت مدينة الفسطاط في مصر القديمة بذلك لأن فسطاط عمرو بن العاص حين الفتح اتخذت من أعلاه حمامة عشاً لها فلم يشأ عمرو أن يهيجها بتقويضه، فتركه، وتتابع العمران من حوله فكانت مدينة الفسطاط.
وقد كان للحيوان نصيب كبير في المؤسسات الاجتماعية الإسلامية، إذ عرفت الحضارة الإسلامية منذ ابن البيطار (من أطباء القرن السابع الهجري)، أوقافًا خاصة لتطبيب الحيوانات المريضة، وأوقافًا لرعي الحيوانات المسنة.. ومن أوقاف دمشق كان هناك وقف للقطط تأكل منه وترعى، وتنام فيه!.. حتى إنه كان يجتمع في دارها المخصصة لها مئات القطط السمينة التي كان يقدَّم لها الطعام، وهي مقيمة لا تتحرك!
وإذا كانت الشريعة الإسلامية تحرص على الحيوان في التعامل معه، وإعطائه حقوقه، إلا أنها جاءت أيضًا بقتل الضار منه، وتحريم ما يؤذي الإنسان أكله؛ فقد روى مسلم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ كُلُّهَا فَوَاسِقُ (أي مؤذية) .. تُقْتَلُ فِي الْحَرَمِ: الْغُرَابُ (خصَّ الفقهاء الغراب المؤذي بنعيبه أو غير ذلك), وَالْحِدَأَةُ, وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ, وَالْعَقْرَبُ, وَالْفَأْرَةُ"
وهذا هو التوازن الذي تسعد به البشرية حقًا .
التعامل مع الحيوان عند غير المسلمين
وبينما كانت الحضارة الإسلامية تنظر للحيوان تلك النظرة الراقية المتوازنة كانت عديد من الأمم غير الإسلامية في العصور القديمة والوسيطة تقرُّ مبدأ مسئولية الحيوان ( أي أنه مسئول ومحاسب على تصرفاته!!). ولاحظ مؤرخو القانون أن انتشار هذا النظام في الأمم المتحضرة كان أوسع كثيراً من انتشاره في غيرها. بل إنهم لم يعثروا عليه في صورة مسئولية جنائية بالمعنى الكامل لهذه الكلمة إلا في مجتمعات تعد من أرقى الشعوب حضارة في عرف الناس!!: كقدماء العبريين واليونان والرومان والفرس والأمم الأوروبية الحديثة فيما بين القرن الثالث عشر إلى أوائل القرن التاسع عشر الميلادي.
فلا نجد في تعاليم هذه الحضارات غير الإسلامية.. ما يحمل على الرفق بالحيوان، أو وجوب الرحمة به، ومن ثم فلا نجد له حقوقًا على صاحبه من نفقة ورعاية.. وليس أدل على ذلك مما يرد في شرائع اليهود (المحرفة) من وجوب "رجم الثور!!" إذا نطح رجلاً فقتله. فقد أقرت أسفار اليهود المقدسة مسئولية الحيوان وعقابه في حالتين، تتعلق إحداهما بتسبب الحيوان في قتل إنسان، فقد نص سفر الخروج على أنه: "إذا نطح ثور رجلا أو امرأة، وأفضى ذلك إلى موت النطيح، وجب رجم الثور، وحرم أكل لحمه" (سفر الخروج إصحاح 21) وهذا النص صريح في اعتبار الثور أهلاً لاحتمال المسئولية الجنائية، وفي اعتبار رجمه جزاءً بالمعنى القانوني الدقيق لكلمة الجزاء، وقد تولدت مسئوليته تلك من جرم أحدثه ووقعت نتائجه عليه وحده .
بل وُجدت محاكمات خاصة للحيوانات في شرائع اليونان القديمة، ذكر فيها أفلاطون في (القوانين) أنه إذا قتل حيوان إنسانًا كان لأسرة القتيل الحق في إقامة دعوى على الحيوان أمام القضاء!!!، وفي حالة ثبوت الجريمة على الحيوان، يجب قتله قصاصًا!!، وبلغ الأمر عند قدماء الفرس غاية الحماقة والعجب!، إذ ورد في أسفار الأبستاق (أو الأفستا: وهي مجموعة الكتب المقدسة المنسوبة لزرادشت, والتي تقوم عليها الديانة الزرادشتية عند قدماء الفرس) أن الكلب المصاب بالكَلِب (داء الكلب) إذا عض خروفا فقتله، أو إنسانا فجرحه قطعت أذنه اليمنى!! فإن تكرر منه ذلك قطعت أذنه اليسرى، وفي المرة الثالثة تقطع رجله اليمنى، وفي الرابعة رجله اليسرى، وفي الخامسة يستأصل ذنبه؛ ويعاقب صاحبه كذلك إن كان قد أهمل في اتخاذ ما ينبغي اتخاذه حيال كلبه من احتياط ورقابة. ولا يخفى ما ينطوي عليه هذا القانون، وتلك العقوبات التي يقررها بصورة تراعى فيها سوابق الجاني.. من تسليم بأهلية الحيوان لاحتمال المسئولية الجنائية وما يترتب عليها من جزاء.
وفي القرون الوسطى كانت فرنسا أول أمة أوروبية نصرانية أخذت في القرن الثالث عشر بمبدأ مسئولية الحيوان ومعاقبته بجرمه أمام محاكم منظمة!!، ثم أخذت بذلك "سردينيا"، ثم بلجيكا في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، وفي هولندا وألمانيا وإيطاليا في منتصف القرن السادس عشر الميلادي!!، وظل العمل به قائمًا عند بعض الشعوب حتى القرن التاسع عشر الميلادي!!
كانت محاكم الحيوان عند الأوروبيين تقوم على ادعاء المجني عليه أو النيابة العامة، ثم يتقدم وكلاء الدفاع عن الحيوان المجرم!! وقد تقضي المحكمة بحبس الحيوان احتياطيًا!، ثم يصدر الحكم بعد ذلك، وينفذ على ملأ من الجمهور، كما كان ينفذ على الإنسان. وقد يكون الحكم بإعدام الحيوان رجمًا، أو بقطع رأسه أو بحرقه، أو بقطع بعض أعضائه قبل إعدامه، ولا يظن أحد أن هذه المحاكمات كانت هزلية للتسلية، بل كانت جدية تمامًا، بدليل ما يرد للأسباب الموجبة للحكم على الحيوان من مثل قولهم: (يُحكم بإعدام الحيوان تحقيقًا للعدالة)، أو(يُقضى عليه بالشنق جزاء لما ارتكبه من جرم وحشي فظيع!!!). وقد أقرت شريعة الألواح الاثني عشر نفسها Lois des XII Tables (وهي أساس تشريع الرومان في عصورهم التاريخية) أقرَّت مسئولية الحيوان في حالتين: إحداهما: إذا تسبب في إتلاف أو ضرر؛ والثانية: إذا رعى عشبا غير مملوك لصاحبه!!. فقد أوجبت في هاتين الحالتين على المالك أن يسلم حيوانه إلى المجني عليه Abandon noxal، أو يدفع الغرم المقرر إن آثر الاحتفاظ بحيوانه. ولم يقصد المشرع من تسليم الحيوان إلى المجني عليه تحقيق عوض مالي له، وإنما قصد تمكينه من المتسبب في ضرره ليتخذ حياله ما يشاء أو يثأر لنفسه منه على الوجه الذي يراه. و يقرر هذا القانون أن ملكية الحيوان إذا انتقلت بعد ارتكاب الحادث بالبيع أو غيره من يد مالكه الأول فإن الدعوى تقام على مالكه الأخير، لا على المالك الذي وقع الحادث في أثناء ملكيته له. ففي هذا دليل قاطع على أن المسئولية تتجه أولا وبالذات إلى الحيوان نفسه وتتعقبه حيثما يكون!!..(5/151)
وليست هذه الممارسات الجائرة مع الحيوانات في تاريخهم القديم والوسيط فقط، بل ما زالت مستمرة إلى الآن في بعض أقطارهم، وليس أدل على ذلك من استمرار المسابقات الوحشية ، المعروفة بـ(مصارعة الثيران ) في أسبانيا و وموزمبيق، واليونان، وإيطاليا، وبولندا.. تلك المسابقات التي يجتهد فيها المصارع أن يقتل الثور تدريجيًا ليذيقه الموت البطيء، وذلك عن طريق رمي السهام في جسده، ورؤية دمائه تتفجر من كل مكان في جسده، لا لشيءٍ إلا لمجرد التسلية والاستمتاع!! و تقام هذه المصارعات في حلبات كبرى يشاهدها الجمهور بكل حماس، وهو سعيد بتعذيب الثور بهذه الطريقة... ويدعون ذلك ضربًا من الحضارة!!.. حتى إن الإحصائيات تشير إلى أن ما يقرب من 35 ألف ثور تُعذَّب وتموت سنويًا في أسبانيا وحدها، ونحو10 آلاف ثور في حلبات أوروبا.
ومن هنا يبدو لنا كم كان ـ ولا يزال ـ الفرق شاسعًا بين الحضارة الإسلامية وغيرها من الحضارات، تلك الحضارة العظيمة التي حرصت على إعطاء الحيوان حقه، والاهتمام به، والرفق في التعامل معه، كما خلت من المحاكمات الجائرة، لأنها جاءت برفع المسئولية الجنائية عن الحيوان، بل حرَّمت مظاهر القسوة والعنف ضده.
فسبحان الذي أنزل هذا الشرع المحكم.. والحمد لله رب العالمين.
===============
لماذا أبدع المسلمون في علم الجغرافيا ...
بقلم الدكتور راغب السرجانى ... تاريخ الإضافة : 15/09/06
مقدمة
تتكوَّن كلمة (جغرافيا) يونانية الأصل من مقطعين هما: جيو (Geo) بمعنى: "أرض".. و: غرافيا (Grophia) التي تعني: "وصف".. ومن ثم جاء التعريف الاصطلاحي لعلم الجغرافيا معبرًا عن مقتضيات "وصف الأرض"؛ فهو: "علم يُتَعَرَّفُ منه أحوال الأقاليم (القارات) السبعة الواقعة في الربع المسكون من كرة الأرض، وعروض البلدان الواقعة فيها، وأطوالها وعدد مدنها وجبالها وبراريها وبحارها وأنهارها... إلى غير ذلك من أحوال الربع المعمور".
وتعتبر كلمة الجغرافيا حديثة بعض الشيء في الاستخدام العربي؛ حيث كان العرب والمسلمون يستعملون بدلاً منها مصطلحات مثل: صورة الأرض، أو قطع الأرض، أو خريطة العالم والأقاليم، أو علم المسالك والممالك، أو علم تقويم البلدان أو علم الطرق.
ومع أن المسلمين لم يكونوا أول من درس علم الجغرافيا إلا أنهم - بلا جدال - كانوا أول من أبدع فيه، وسنتعرض في مقالات قادمة إن شاء الله لحركة تطور علم الجغرافيا وإسهامات المسلمين فيه، كما سنتعرف أيضاً على بعض العلماء الأجلاء الذين أثروا ذلك العلم بما لا يتخيل من إبداعات، وبخاصة عند النظر إلى الإمكانيات الضئيلة التي كانت متاحة لهم في أزمانهم... ولكننا نريد في هذا المقال أن نضع أيدينا على الأهداف التي من أجلها اهتم المسلمون بعلم الجغرافيا إلى هذه الدرجة.
ولم يكن ظهور علم الجغرافيا لدى المسلمين وليد صدفة، وإنما كان هناك عوامل وأسباب عدة أسهمت في ظهوره ونمائه...
انتشار الإسلام:
اقترن الفكر الجغرافي لدى المسلمين بانتشار الإسلام في أنحاء شتى من العالم القديم في قاراته الثلاث، وترتب على ذلك اختلاف خصائص البيئات التي سادها الدين الإسلامي؛ مما أوجد حاجة ماسة لمعرفة وجمع معلومات متخصصة عن تلك البيئات.
التدبر في خلق الله:
حيث جاء القرآن الكريم ببيان كثير من الظواهر التي أودعها الله في الأرض، قال تعالى: "وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ"، وقوله تعالى: "مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ.. بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ"، وقوله تعالى: "أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا" .. وهكذا. ولقد تدبر رواد الجغرافيا المسلمون هذه النصوص المحفزة على النظر في عظمة خلق الأرض ومكوِّناتها؛ مما كان له أكبر الأثر في إثراء الدراسات الجغرافية في الحضارة الإسلامية
المتطلبات الشرعية:
فقد اعتمدت جل أركان الإسلام في أدائها على مواقيت زمنية ومكانية، وبما أن بقاع الأرض تختلف في مواقيتها الزمنية والمكانية فقد كانت هناك ضرورة لأن يهتم علماء كل ولاية إسلامية بتوضيح هذه الأمور لعامة الناس؛ فالصلاة تقام في أوقات زمنية محددة؛ ولذلك وضع علماء المسلمين في كل قطر إسلامي حدودًا زمنية لإقامة الصلاة، وما تزال الأدوات التي تقاس بها مواعيد الصلاة موجودة في بعض المساجد القديمة، وتسمى بالساعات الشمسية، وكان الاعتناء بذلك ناتجًا عن أن دخول الوقت شرط لإقامة الصلاة، كما أن الصلاة تستقبل فيها جهة محددة وهي الكعبة في مكة، ولذلك وجب معرفة الاتجاهات الجغرافية لتحدد قبلة الصلاة في كل مدينة أو قرية.. ولم تختلف الحال كثيرًا في الصيام الذي حُدد أداؤه بحدود شهرية وحدود يومية.. وكذلك ارتبط الحج والعمرة بمواقيت مكانية للإحرام وهي مختلفة في أبعادها من مكة حسب الجهات التي يأتي منها المسلمون لأداء الفريضة، وكان ضروريًا معرفة تلك المواضع التي يتم إحرام الحجاج والمعتمرين منها حتى لا يترتب عند تجاوزها مخالفة شرعية تؤثر على صحة العبادة.. إلى جانب أن الحج يرتبط بميقات زمني محدد: "الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ" وهي التي تتركز حول شهر ذي الحجة؛ لأن الحج مرتبط بالوقوف بعرفة في يوم التاسع من شهر ذي الحجة، فمن فاته الوقوف بعرفة - كما هو معلوم - فقد فاته الحج، وهكذا..
تفسير ما ورد من نصوص شرعية:
أسهمت بعض النصوص الشرعية التي وردت في السنة في تنشيط المعرفة الجغرافية في محاولة لتفسير تلك النصوص، من ذلك ما رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ الْمَالُ وَيَفِيضَ حَتَّى يَخْرُجَ الرَّجُلُ بِزَكَاةِ مَالِهِ فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهَا مِنْهُ وَحَتَّى تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ مُرُوجًا وَأَنْهَارًا".. وقول الرسول صلى الله عليه وسلم الذي رواه مالك في الموطأ: "لا يجتمع في جزيرة العرب دينان"، وقوله الذي رواه البخاري عن ابن عباس: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب"... فتلك النصوص وما شابهها أظهرت حاجة ملحة في بيان المقصود من ذلك؛ لتحقيق ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم، كما أوجدت وجهات نظر جغرافية في التحديد، فالنصوص السابقة مثلا جعلت من تحديد جزيرة العرب محل اختلاف بين العلماء الجغرافيين، حتى إنه ورد فيه أربعة آراء، منها ما هو متسع كتحديد ابن حوقل والإصطخري، ومنها ما هو ضيق كتحديد المقدسي والجيهاني، وظهرت مصنفات هامة مثل (صفة جزيرة العرب) للهمداني، و(بلاد العرب) للحسن بن عبد الله الأصفهاني
الدعوة إلى الله وتعلم أمور الدين:(5/152)
بعد فتح البلاد الإسلامية أصبحت هناك حاجة ملحة لتعلم شرائع الدين، حيث قام عدد من التابعين بالسفر إلى البلاد المفتوحة لتعليم أبنائها أمور الدين والدعوة إليه، وفي الوقت نفسه قام أفراد من سكان تلك البلاد بطلب العلم من المنابع التي ظهر فيها الإسلام سواءً في مكة أو المدينة؛ لما تتمتع به المدينتان من وجود كبار الصحابة والتابعين، وكانت تلك الرحلات الدعوية أو العلمية تستلزم المعرفة بالمسالك المؤدية للمناطق المقصودة، كما أن أساليب الدعوة في بيئة ما لا يمكن أن تصلح في كل بيئة، ومما أسهم في تيسير الاتصال الدعوي الموقع الجغرافي لموطن الرسالة، فقد أثبتت الدراسات الجغرافية الحضارية لمنطقة الشرق العربي أن موقعها الجغرافي كان وما يزال متوسطًا في العلاقات الإقليمية والعالمية، ولذا أسهم بدور الوساطة التجارية من جانب وبدور الدعوة والبلاغ من جانب آخر.
المتطلبات الإدارية والعسكرية:
نمت الدولة الإسلامية وبلغت حدودها من الصين شرقًا حتى الأندلس (أسبانيا) غربًًا في غضون سبعين سنة تقريبًا، وكان هذا النمو حصيلة فتوحات في ثلاث خلافات إسلامية (الخلافة الراشدة، والخلافة الأموية، والخلافة العباسية). ويتطلب التوسع في الدولة مراعاة أمور ترتبط بهذا التوسع.. منها:
الدوافع الاقتصادية:
حقق التبادل التجاري تنشيطًا للمعرفة الجغرافية عند المسلمين قدر ما حققه انتشار الإسلام في أرجاء واسعة من العالم؛ فالتجارة هي الحرفة الرئيسة للمجتمعات العربية حيث ارتبطت مدن الصحراء بالمناطق الزراعية، وكوَّن تجار المسلمين بعد انتشار الإسلام خلفية واسعة عن البلاد المحيطة بهم عبر علاقات تجارية، وجعلت التجارة المعطيات الجغرافية أعظم بكثير مما كانت لدى أسلافهم من الأمم الأخرى، ووضعتها تحت تصرفهم فوسعت أفق الجغرافيِّ؛ مما جعله يكتب عن مناطق لم يرها وإنما سمع عنها فقط من التجار، ولقد تعددت العلاقات التجارية التي كان من أبرزها تلك العلاقات مع الهند وجنوب شرق آسيا والصين وأفريقيا وأوربا، ولهذا العامل تأثير في بناء أساسيات الجغرافية التجارية لدى العلماء المختصين.
==============
المسلمون وإنقاذ علم الجغرافيا ...
بقلم الدكتور راغب السرجانى ... تاريخ الإضافة : 15/09/06
مقدمة
لم يظهر علم الجغرافيا قديمًا كما هو اليوم، وهذا من طبائع كل العلوم؛ فلكل علم إرهاصات.. ثم تأتي البداية المشوشة التي يتداخل فيها مع غيره من العلوم.. إلى أن يأخذ بعد ذلك دوره في التشكل والتكوين، خاصة مع ظهور المتخصصين.
وفي معرض تناول انطلاق النهضة الجغرافية لدى المسلمين يجدر بنا في البداية ذكر الإسهامات التي سبقت الحضارة الإسلامية، والتي قدمها الرحَّالة الهنود أو علماء اليونان الذين استعان المسلمون بمجهوداتهم البحثية التي كانت شرارة لانطلاق ثورتهم الجغرافية المبدعة
استفادة المسلمين من إسهامات من سبقوهم
فقد كان اليونان - على سبيل المثال - يقطنون ضفاف بحر غنيّ بالملاجئ الطبيعية، فنشطوا من خلال تجارتهم وقربهم من البحر، وكان منهم المؤرخ (هيرودوت) الذي قام برحلات كبيرة في برقة ومصر وفينيقية وبلاد بابل، كما زار المستعمرات الإغريقية في ساحل آسيا الصغرى الشمالي، وجزر بحر إيجة وصقلية وجنوب إيطاليا.. ويعتبر كتاب "التاريخ" الذي ألفه مختصَرًا للمعارف الجغرافية لدى الإغريق في أواسط القرن الخامس (ق. م.).. كما قدَّمت مؤلفات "بطليموس" و"مارينوس" البدايات للمسلمين، حيث اعتمد المسلمون في القرن (الثالث الهجري - التاسع الميلادي) لإرساء قواعد علمهم الجغرافي على كتاب "الجغرافيا" لبطليموس، الذي كان اعتمادهم عليه أساسيًّا.. إلى جانب كتاب "مارينوس الصوري" الذي يأتي في درجة تالية من الأهمية.. وكانت تلك المؤلفات القديمة وصفية اهتم فيها هؤلاء العلماء بحساب درجات الطول والعرض وأسَّست لاستخدام الجغرافيا الرياضية في رسم الخرائط.فقد حدَّد بطليموس في كتابه العالَم المعروف لدى الأقدمين، فكان يمتد من جزر الخالدات غرباً إلى الصين شرقا، أما حدوده الشمالية فكانت الجزر الواقعة شمالي بريطانيا، في حين لا تتعدى حدوده الجنوبية منطقة السودان والبحيرات الكبرى، وكان كتاب بطليموس مزودا بـ 27 خارطة، كانت إحداها تمد البحر المتوسط بحوالي 20 درجة شرقا؛ مما أدى بالتالي إلى استطالة الأراضي بشكل مفرط باتجاه الشرق.
ولم تكن استفادة المسلمين في هذا المضمار من اليونانيين فقط، بل حرصوا على الإطلاع على كل الميراث الجغرافي لشعوب العالم..
فقد قام المصريون القدامى في عهد (سينفرو) فرعون مصر برحلات عديدة بغية الاستكشاف، كما أرسلت مصر البعثات لكشف حوض النيل وارتياد الصحراء الشرقية والليبية وشبه جزيرة سيناء، وتيسيرا لنقل التجارة من داخل البلاد إلى البحر الأحمر حفرت قناة سيزوستريس بين النيل وذلك البحر.
أما الكريتيون فهم شعب بحري ضاعت كل معالم تاريخه من الذاكرة، ويظهر أن نشاطهم في مضمار الملاحة كان سابقاً للفينيقيين وهم أقدم من ركب عرض البحر، ولم يتبق من تاريخهم سوى تجارتهم الواسعة مع مصر التي عَرفوا من خلالها سواحل الحوض الشرقي من البحر الأبيض المتوسط كما عرفوا غرباً سواحل صقلية وإيطاليا الجنوبية دون أن يتجشموا مخاطر الابتعاد أكثر من ذلك.
أما الفينيقيون فقد تمت أول حملة اكتشافية على أيديهم، وقد جهزها فرعون مصر (نيخاوس) الذي حكم في النصف الثاني من القرن السابع قبل الميلاد بالسفن والمؤن، واستطاعت هذه الحملة عام665 ق.م أن تدور حول أفريقيا، بعد أن انطلقت من البحر الأحمر وعادت من طريق البحر الأبيض المتوسط واستغرقت هذه الرحلة مدة عامين.
وفي الفترة الواقعة قبل الميلاد بخمسة قرون قام القرطاجيون بإرسال القائد صفون لاكتشاف ساحل أفريقيا الغربية، فانطلق على رأس أسطول من ستين سفينة يركبها ثلاثمائة بحار بالإضافة إلى عدد من المهاجرين وفي الوقت نفسه كان القائد "هيميلكون" يكشف سواحل أوروبا الغربية ويتوغل في بحر الشمال.
كما اتسعت معارف الرومان الجغرافية، إذ إنهم توغلوا في الحبشة بعد دخولهم مصر، ووصلوا إلى مناطق المستنقعات الفسيحة في بحر الغزال، وقاموا ببعض الاستكشافات الجغرافية هناك، كما اكتشفوا جبل كينيا وجبل كليمنجارو أعلى قمم أفريقيا.
حتى جاء حين من الدهر أخذت فيه روح البحث العلمي في هذا المجال في الخمول حينما بدأ رجال الكنيسة من أمثال القديس (امبرواز 330 - 397م) يجهرون بأن دراسة الكون ووضع الأرض لن يفيد الإنسانية في تحقيق أملها في الحياة الآخرة!!.. وأدى ذلك إلى أن بدأ الكثيرون يعزفون عن الرغبة في المعرفة، ويعتبرون هذه الأمور ضربًا من السحر، واستمر الحال هكذا في أوروبا حتى القرن الخامس عشر الميلادي؛ فقد عانى علماء مثل "كوبرنيك" ( 1473ـ 1543) و"جاليليو" (1564ـ 1642م) الكثير من المضايقات من رجال الكنيسة، والتي وصلت إلى حدِّ القتل والإحراق!!!.
المراحل التي مرت بها الجغرافيا عند المسملين
لم يقف المسلمون في تناولهم لعلم الجغرافيا موقف المطلع والمشاهد فقط لمؤلفات "بطليموس" أو "مارينوس الصوري" أو غيرهما، وإنما تعاملوا مع الأمر بخطوات إيجابية، شأن الجغرافيا لديهم شأن باقي العلوم التي اطلعوا على إسهامات السابقين فيها، ومن ثم قدموا ما عندهم من إبداعات واختراعات.. فقد مرت الجغرافيا لدى المسلمين بالمراحل التالية:
1) ظهور الجغرافيا الأدبية:(5/153)
كانت المحاولات الأولى في الجغرافيا عند المسلمين قد ظهرت بشكل متواضع جدًا في مطلع القرن (الثالث الهجري - التاسع الميلادي).. فقد تكوَّن بعدها بنصف قرن ما يُعرف بالجغرافيا الأدبية، وقبل القرن التاسع الميلادي لم تكن هناك مصنفات جغرافية قائمة بمعنى الكلمة، إنما كانت تظهر بين الحين والآخر معلومات جغرافية متفرقة ضمن كتب الأدب.
حتى نشطت الترجمة واطلع المسلمون على أفكار "بطليموس" و"مارينوس الصوري" بدأت سلسلة الجغرافيا العلمية التي سرعان ما تبعتها أنماط متعددة للجغرافيا الوصفية، وفي أواخر القرن الثالث الهجري بدأ ما يُعرَف بالوجيزات الجغرافية في الظهور لمساعدة كتّاب الدواوين، وكان من أهم ما يمثل ذلك الكتاب الذي تصدى لدراسة مشهد الأرض الطبيعي بشكل خاص ويحمل عنوان: "كتاب المسالك والممالك" لابن خردازبة (ت272هـ/ 885م).. وتلا ذلك وجيزات جغرافية أخرى حتى أصبحت في متناول رجال الأدب ومن ثم عامة الناس، وكان منها: "كتاب البلدان" للجاحظ (159هـ/255هـ).
2) ازدهار المؤلفات من النوع المبسط:
وكان التطور التالي في القرن (الرابع الهجري - العاشر الميلادي)، حيث بلغ الأدب الجغرافي ذروته وذلك على أثر ظهور مؤلفات من نوع (المسالك والممالك)، أي بظهور المدرسة التقليدية للجغرافيين العرب التي كانت على صلة وثيقة "بأطلس الإسلام" الذي يمثل قمة علم المصورات عند العرب، أو علم الخُرُط.. كما حظي التبسيط الجغرافي بترحيب الجمهور الذي أقبل عليه بشغف، وتعددت مناهج وصف الرحلات، و يمكن القول إجمالاً: إن القرن (الرابع الهجري - العاشر الميلادي) كان عصر تكامل الأنماط في المصنفات الجغرافية، حيث تعددت الأسفار الاستكشافية مما زاد من اتساع أفق الجغرافيين الوصفيين، وزادت مع ذلك معلوماتهم دقة ووضوحا.
ففي عام (309هـ/921م) أرسل خليفة بغداد (المقتدر) بعثة إلى بلغار الفولغان وعهد إلى "ابن فضلان" بكتابة تقرير عن أخلاق شعوب تلك المنطقة.. وقد ظل هذا الكتيب حتى القرن الثاني عشر الميلادي أفضل مصدر وثائقي يملكه المسلمون عن الروس وعن سكان بحر الخزر (قزوين).
3) التطور الختامي للأنماط الجغرافية:
وكان ذلك في نهاية القرن (السادس الهجري - الثاني عشر الميلادي) والقرون التالية، ففي هذه الفترة ظهرت المعاجم الجغرافية، والمؤلفات الكوزموغرافية (التي تهتم بالكوزموغرافيا أو الجغرافيا الكونية)، والمؤلفات الجغرافية العالمية، واحتلت الموسوعات التاريخية والجغرافية مكانة هامة أيام المماليك في مصر.. وكذلك كثرت أقاصيص الرحالة الجغرافيين.
4) الحقبة العثمانية:
وفيها بدأ الاحتكاك بالجغرافيا الأوروبية الحديثة والاكتشافات الجغرافية الكبرى.
5) النهضة الجغرافية الحديثة:
وقد ابتدأت في مصر مع مطلع العصر الحديث الذي اقترن برحيل الحملة الفرنسية وظهور أسرة محمد علي.. فقد ظهرت عدة مؤلفات في الجغرافيا الرياضية والرحلات، ولاسيما في الشطر الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي ومطلع القرن العشرين.
لقد كانت رحلة علم الجغرافيا في الحضارة الإسلامية رحلة فريدة بكل المقاييس.. ابتدأت بإنقاذ ذلك العلم الهام من الاختناق بيد الكنيسة الأوروبية، والتي حرَّمت البحث فيه كما رأينا قبل قليل.. ثم لم تكتفِ بإنقاذه - وقد كان في طور طفولته - حتى تكفَّلت بتنميته وضخ دماء العافية العلمية في جسده من جديد.. وسنحاول في المقال القادم - بإذن الله - الوقوف أمام بعض الإنجازات الإسلامية المبهرة في علم الجغرافيا..
ونسأل الله عزَّ وجَلَّ أن يُعِزَّ الإسلام والمسلمين
لمراجع
تطور علم الجغرافيا وفضل العرب فيه.... محمد سيد نصر
أعلام الجغرافيين العرب... عبد الرحمن حميدة
===================
الرازي معجزة الطب عند المسلمين ...
بقلم الدكتور راغب السرجانى ... تاريخ الإضافة : 26/04/06
مقدمة
لعل من العجيب أن يُذكر إنسان ما على أنه صورة من صور الحضارة؛ فقد تعودنا على وصف الحضارة على أنها نتاج أعمال كثيرة وأعداد كثر من البشر برعوا سويًا في الإبداع في مجال من مجالات الحياة: كالطب أو الهندسة أو المعمار أو غير ذلك..
ولكن الواقع أن الحضارة الإسلامية صنعت رجالاً ونساءً كانوا بحق صورًا رائعة من صور الحضارة.. بحيث تلتصق بهم كلمة الحضارة.. فإذا ذكروا فهذه هي الحضارة، وإن درست حياتهم فهذه دراسة للحضارة!!
وهذه عظمة الإسلام ولا شك.. الذي نقل البشر نقلة هائلة، حتى جعل بعض أتباعه يمثلون الحضارة بكل أبعادها.. ومن هؤلاء كان الرازي رحمه الله.. فهو لم يكن طبيبًا فحسب، ولا معلمًا فقط.. ولكنه أبدع كذلك في مجالات الأخلاق والقيم والدين.. كما أبدع ـ ولا شك في ذلك ـ في مجال الإنسانية.. حتى أصبح علمًا من أعلام الفضيلة كما كان علمًا من أعلام الطب.. لا شك أن هذا الرجل العظيم من أعظم صور الحضارة الإسلامية
من هو الرازي.. معجزة الطب عبر الأجيال؟!
إنه أبو بكر محمد بن زكريا الرازي.. وقد ولد في مدينة الري, وإليها نُسِب.. ومدينة الري تقع على بعد ستة كيلومترات جنوب شرقي طهران, وكان ميلاده في سنة 250هـ (864م)، وكان منذ طفولته محبًا للعلم والعلماء، فدرس في بلدته الري العلوم الشرعية والطبية والفلسفية، ولكن هذا لم يُشْبع نَهَمَه لطلب العلم؛ فلم تكن مدينة الري ـ على اتساعها وكثرة علمائها ـ بالمدينة التي تحوي علوم الأرض في ذلك الوقت.. ولذلك يمَّم الرازي وجهه شطر عاصمة العلم في العالم في ذلك الوقت, وهي بغداد عاصمة الخلافة العباسية، فذهب إليها في شبه بعثة علمية مكثفة، تعلم فيها علومًا كثيرة، ولكنه ركز اهتمامه في الأساس على الطب، وكان أستاذه الأول في هذا المجال هو علي بن زين الطبري، وهو صاحب أول موسوعة طبية عالمية (فردوس الحكمة)..
كما اهتمَّ أيضًا بالعلوم التي لها علاقة بالطب كعلم الكيمياء والأعشاب، وكذلك علم الفلسفة لكونه يحوي أراء الكثير من الفلاسفة اليونان والذين كانوا يتكلمون في الطب أيضًا.. وكان أستاذه الأول في الفلسفة هو البلخي وهكذا أنفق الرازي رحمه الله عدة سنوات من عمره في تعلم كل ما يقع تحت يديه من أمور الطب، حتى تفوق في هذا المجال تفوقًا ملموسًا.. ثم عاد الرازي رحمه الله بعد هذا التميز إلى الري, فتقلد منصب مدير مستشفى مدينة الري، وكان من المستشفيات المتقدمة في الإسلام، وذاعت شهرته، ونجح في علاج الكثير من الحالات المستعصية في زمانه، وسمع بأمره الكبير والصغير والقريب والبعيد.. حتى سمع به عضد الدولة بن بويه كبير الوزراء في الدولة العباسية, فاستقدمه إلى بغداد ليتولى منصب رئيس الأطباء في المستشفى العضدي، وهو أكبر مستشفى في العالم في ذلك الوقت، وكان يعمل به خمسون طبيبًا.. والحق أنه لم يكن مستشفىً فقط, بل كان جامعة علمية, وكليَّة للطب على أعلى مستوى.. وأصبح الرازي رحمه الله مرجعية علمية لا مثيل لها ليس في بغداد فقط، وإنما في العالم كله.. وليس على مدى سنوات معدودة.. ولكن لقرون متتالية!!
إنه الرازي رحمه الله.. معجزة الطب عبر الأجيال!
كيف وصل إلى هذه الدرجة العالية
لعله من المهم جدًا أن نقف وقفة ونتساءل كيف وصل الرازي رحمه الله إلى هذا المجد.. وإلى هذه المكانة؟
لا بدَّ أن نعلم أن النجاح لا يأتي مصادفة، وأن التفوق لا يكون إلا بجهد وتعب وبذل وتضحية.. كما أن الإبداع لا يكون عشوائيًا أبدًا.. إنما يحتاج إلى تخطيط وتدريب ومهارة.. وهكذا كانت حياة الرازي رحمه الله..(5/154)
لقد بحث الرازي رحمه الله عن العلم في كل مصادره، واجتهد قدر استطاعته في تحصيل كل ما يقع تحت يده من معلومات، ثم أتبع ذلك بتفكير عميق وتجارب متعددة ودراسة متأنية.. حتى بدأ يعدِّل في النظريات التي يقرؤها.. وأخذ ينقد ويحلل.. ثم وصل إلى الاختراع والإبداع..
لقد انتشر في زمان الرازي رحمه الله الطب اليوناني والفارسي والهندي والمصري نتيجة اجتهاد العلماء في ترجمة كتب تلك الأمم، فقرأها الرازي جميعًا، لكنه لم يكتف بالقراءة بل سلك مسلكًا رائعًا من أرقى مسالك العلم وهو لملاحظة والتجربة والاستنتاج..
لقد كان الطب اليوناني هو أهم طب في تلك الفترة، ولكنه كان يعتمد في الأساس على النظريات غير المجرَّبة.. وكان كل أطباء اليونان يعتمدون هذه الطريقة حتى عرفوا بفلاسفة الطب، فهم لم يُخضعوا نظرياتهم لواقع الحياة إلا قليلاً، ولا يُستثنى من ذلك كل أطباء اليونان حتى العمالقة منهم أمثال جالينوس وأبقراط!! ولكن الرازي رحمه الله قال كلمته المشهورة التي تعتبر الآن قانونًا من قوانين العلم بصفة عامة, والطب بصفة خاصة.. قال: عندما تكون الواقعة التي تواجهنا متعارضة والنظرية السائدة يجب قبول الواقعة، حتى وإن أخذ الجميع بالنظرية تأييدًا لمشاهير العلماء.., فهو يذكر أنه ليس لعالم مشهور أو غير مشهور أن يقرر نظرية تتعارض مع المشاهدة الفعلية والتجربة الحقيقية والواقعة الحادثة، بل تُقَدَّم الملاحظة والتجربة؛ وبذلك يُبْنَى الاستنتاج على ضوء الحقائق لا الافتراضات الجدلية..
ما أروعه حقًا من مبدأ، وما أبدعها من طريقة!!..
ولذلك نجد أن الرازي كثيرًا ما انتقد آراء العلماء السابقين نتيجة تجاربه المتكررة، بل إنه ألَّف كتابًا خصِّيصًا للرد على جالينوس أعظم أطباء اليونان وسمَّى الكتاب الشكوك على جالينوس, وذكر في هذا الكتاب الأخطاء التي وقع فيها جالينوس، والتصويب الذي قام هو به لهذه الأخطاء، وكيف وصل إلى هذه النتائج.
الرازي مؤلفًا
من أعظم مؤلفات الرازي رحمه الله كتاب الحاوي في علم التداوي وهو موسوعة طبية شاملة لكافة المعلومات الطبية المعروفة حتى عصر الرازي، وقد جمع فيه رحمه الله كل الخبرات الإكلينيكية التي عرفها، وكل الحالات المستعصية التي عالجها، وتتجلى في هذا الكتاب مهارة الرازي رحمه الله ودقة ملاحظاته وغزارة علمه وقوة استنتاجه..
وقد ترجم هذا الكتاب إلى أكثر من لغة أوروبية، وطُبع لأول مرة في بريشيا بشمال إيطاليا سنة 891هـ (1486م) وهو أضخم كتاب طُبع بعد اختراع المطبعة مباشرة، وكان مطبوعًا في 25 مجلدًا، وقد أعيدت طباعته مرارًا في البندقية بإيطاليا في القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي), ويذكر المؤرخ ماكس مايرهوف أنه في عام 1500 ميلادية كان هناك خمس طبعات لكتاب الحاوي, مع عشرات الطبعات لأجزاء منه..
ومن كتبه أيضًا المنصوري قد سماه بهذا الاسم نسبة إلى المنصور بن إسحاق حاكم خراسان، وقد تناول فيه موضوعات طبية متعددة في الأمراض الباطنية والجراحة والعيون، وقد تعمَّد الرازي الاختصار في هذا الكتاب, فجاء في عشرة أجزاء!! لذلك رغب العلماء الأوروبيون في ترجمته عدة مرات إلى لغات مختلفة منها اللاتينية والإنجليزية والألمانية والعبرية! وقد تم نشره لأول مرة في ميلانو سنة 1481م ، وظل مرجعًا لأطباء أوروبا حتى القرن السابع عشر الميلادي.
ومن أروع كتبه كذلك كتاب الجدري والحصبة وفيه يتبين أن الرازي رحمه الله أول من فرق بين الجدري والحصبة، ودوَّن ملاحظات في غاية الأهمية والدقة للتفرقة بين المرضين، وقد أعيدت طباعة هذا الكتاب في أوروبا أربع مرات بين عامي( 903 : 1283هـ) (1498 : 1869م)..
ومن كتبه أيضًا كتاب الأسرار في الكيمياء والذي بقي مدة طويلة مرجعًا أساسيًّا في الكيمياء في مدارس الشرق والغرب.
ومن كتبه الهامة كذلك كتاب الطب الروحاني الذي ذكر فيه أن غايته من الكتاب هو إصلاح أخلاق النفس.. وحضَّ في كتابه هذا على تكريم العقل، وعلى قمع الهوى, ومخالفة الطباع السيئة, وتدريب النفس على ذلك..
وقد تميز الرازي رحمه الله بالأمانة العلمية التامة في كتاباته؛ فكان لا يذكر أمرًا من الأمور اكتشفه غيره إلا أشار إلى اسم المكتشف الأصلي، ولذلك حفلت كتبه بأسماء جالينوس وأبقراط وأرمانسوس وغيرهم، كما ذكر في كتبه المحدثين من الأطباء أمثال يحيى بن ماسويه وحنين بن إسحاق...
وكان الرازي رحمه الله يحض تلامذته على إتباع نهج الكتابة والتأليف، فكان يقول لهم: إذا جمع الطالب أكبر قدر من الكتب وفهم ما فيها، فإن عليه أن يجعل لنفسه كتابًا يضمنه ما غفلت عنه الكتب التي قرأه.. فهو ينصح كل طلبته أن يسجلوا المعلومات التي يلحظونها في أثناء دراستهم وعلاجهم للمرضى - والتي لم تُذكر في الكتب السابقة - , وبذلك يستفيد اللاحقون بعلمهم وتأليفهم.
الرازي الإنسان
ولم يكن الرازي رحمه الله عالمًا فقط، بل كان إنسانًا خلوقًا من الدرجة الأولى، فقد اشتهر بالكرم والسخاء وكان بارًا بأصدقائه ومعارفه، عطوفًا على الفقراء وبخاصة المرضى، فكان ينفق عليهم من ماله الخاص، ويجري لهم أحيانًا الرواتب الثابتة!!.. وكان يوصي تلامذته أن يكون هدفهم هو إبراء المرضى أكثر من نيل الأجور منهم، ويوصيهم كذلك بأن يكون اهتمامهم بعلاج الفقراء تمامًا كاهتمامهم بعلاج الأمراء والأغنياء.. بل إنه من شدَّة اهتمامه بالفقراء ألف لهم كتابًا خاصًا سماه طب الفقراء، وصف فيه الأمراض المختلفة وأعراضها ثم وصف طرق علاجها عن طريق الأغذية والأعشاب الرخيصة بدلاً من الأدوية مرتفعة الثمن أو التراكيب النادرة..
ومن شدة اهتمامه رحمه الله بالأخلاق الحميدة ألف كتابًا خاصًا بهذا الأمر سماه أخلاق الطبيب يشرح فيه العلاقة الإنسانية بين الطبيب والمريض، وبين الطبيب والطبيب، وضمَّنه كذلك بعض النصائح للمرض في تعاملهم مع الأطباء..
هذا.. وقد اعترف القاصي والداني لأبي بكر الرازي رحمه الله بالفضل والمجد والعظمة والعلم والسبق، ولا نقصد بذلك المسلمين فقط، بل اهتم غير المسلمين أيضًا بإنجازات الرازي وابتكاراته؛ فنجد فضلاً عن ترجمة كتبه إلى اللغات الأوروبية وطبعها أكثر من مرة.. نجد إشارات لطيفة وأحداثًا عظيمة تشير إلى أهمية ذلك العالم الجليل، ومن ذلك أن الملك الفرنسي الشهير لويس الحادي عشر (والذي حكم من عام 1461م إلى 1483 م) قد دفع الذهب الغزير لينسخ له أطباؤه نسخة خاصة من كتاب الحاوي كي يكون مرجعًا لهم إذا أصابه مرض ما، ونجد أن الشاعر الإنجليزي القديم جوفري تشوسر قد ذكر الرازي بالمدح في إحدى قصائده المشهورة في كتابه أقاصيص كونتربري، ولعله من أوجه الفخار أيضًا أنه رغم تطور العلم وتعدد الفنون إلا أن جامعة بريستون الأمريكية ما زالت تطلق اسم الرازي على جناح من أكبر أجنحتها، كما تضع كلية الطب بجامعة باريس نصبًا تذكاريًا للرازي رحمه الله بالإضافة إلى صورته في شارع سان جيرمان بباريس..(5/155)
لقد كان الرازي بحق صورة رائعة من صور الحضارة الإسلامية قلما تتكرر في التاريخ، لقد كان طبيبًا وعالمًا ومعلمًا وإنسانًا.. عاش حياته لخدمة الإسلام والعلم والبشرية، ومات عن عمر بلغ ستين عامًا، وكانت وفاته في شعبان 311هـ / (نوفمبر 923م)، ولكن يصعب أن نقول إنه مات، فالمرء يكتب له الخلود بقدر ما ينفع الناس، وصدق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عندما ذكر في الحديث الذي رواه الترمذي (وقال: حسن صحيح) عن أبي هريرة رضي الله عنه: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث... ذكر منها: ..وعلم ينتفع به..
والحمد لله الذي شرفنا بالإسلام
==============
ما ظننتم أن يخرجوا..!! ...
بقلم الدكتور راغب السرجانى ... تاريخ الإضافة : 08/09/06
ما كان أحد من المسلمين يظن أن تصمد لبنان (مقاومة وشعبًا وحكومة) أمام هذا العدوان الصهيوني غير المسبوق.. وما كان أحد يتوقع أن يطول هذا الصمود شهرًا حتى يتكشَّف الفشل والعجز اليهوديَّان عن تحقيق أي هدف كانوا قد أعلنوا عنه مع بداية العدوان، بدءًا من استرداد الجنديين الأسيرين.. وانتهاءً بسحق القدرة القتاليَّة لحزب الله، وتمهيد الأرض لشرق أوسط جديد (منزوع السلاح والكرامة!).. حتى يُضطر محرِّكو السياسة الدوليَّة أن يستولدوا في لهاث وعجلة قرارًا دوليًّا (لا يعترضه الفيتو هذه المرة!!) لحفظ القطرات الباقية من ماء وجه الصهاينة، وليعيد ستر عورة الجبن اليهودي التي كشفتها صواريخ المقاومة الإسلاميَّة وصمودها.
نعم.. ما كان المسلمون - حتى الصادقون منهم - يظنُّون أن تندحر تلك الهجمة الصهيونية عن لبنان على هذا النحو الذي رفع رأس كل مؤمن شريف، وأعاد إليه نسمات أمل غائب منذ أزمان... بل ما كان اليهود أنفسهم يتوقَّعون مثل هذا الصمود من جنود "حزب الله" الذين لا يعْدون - في نظرهم - مجرد "ميليشيا مسلَّحة".. حتى تتواتر تصريحات الساسة والقادة العسكريين اليهود تُعرب عن هذه الدهشة وذلك الذهول الذي أصابهم إزاء صمود حزب الله!!.. فما يظن اليهود أن يصمد أحد أمام القنبلة الذكيَّة، أو أمام قصف طائرات ال(F16)، وانهمار القنابل العنقوديَّة والقذائف التي تتجاوز الأطنان!!.. وما كانوا يحتسبون أن تتساقط أحجار جدار الأمن المزعوم الذي أوهموا شعبهم الغازي أنه يُحصِّنهم ويحميهم انطلاقًا من التفوُّق العسكري والاستخباراتي الهائل، والذي يميِّز الدولة اليهوديَّة عن سائر دول الجوار على الأقل!..
ما كان أغلب طرفَي الصراع يظن أن يقع ما وقع.. تمامًا كما حكى الله تعالى عن معركة قديمة وقعت بين أهل الحق.. بقيادة سيِّد الخلق صلى الله عليه وسلم وبين أهل الباطل - ممثَّلين في يهود بني النضير -..
فلقد أفصح بنو النضير عن غدرهم في أوائل العام الرابع الهجري (شهر ربيع الأول)مستغلِّين ظروفًا حرجةً، أضعفت - إلى حدٍّ ما - قوة المسلمين وهيبتهم، فما كان منهم (اتباعًا لنهج الغدر الذي لا يتخلَّف عن سلوكهم) إلا أن عزموا على قتل رسول الله r رغم ما بينهم وبينه من العهد والأمان.. ولما أطْلع الله رسوله على غدرهم.. نبذ إليهم عهدهم؛ فلا قيمة لعهد لا يحترمه أطرافه، ولا جدوى من سلام ينتهكه بعض من أبرموه كلما واتتهم الفرصة..
وأعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرب على بني النضير، وأمر المسلمين بحصارهم؛ حفظًا لكرامة الأمة من أن يجترئ عليها عدوُّها حين يظن منها الضعف.. مع أن الفجوة العسكرية والماديَّة بين المسلمين واليهود كانت هائلة لصالح اليهود، وما كانت حقائق هذه الفجوة غائبة عن المسلمين، بل إن الشكوك كانت تساورهم في أن يتمكَّنوا من إخراج بني النضير (وهو الهدف الذي أعلنه رسول الله r لحملته عليهم).. وقد وصفت الآيات الكريمة من أوائل سورة الحشر شكوك المؤمنين في إخراج اليهود.. قال تعالى: "ما ظننتم أن يخرجوا..!!".
على أن هذا الظن الذي ظنَّه المسلمون لم يمنعهم من حسن الأخذ بأسباب النصر، والتي يأتي على رأسها:
حسن الإيمان بالله، وعمق الصلة به.. اللذين تجسَّدا - مثلاً - في طاعة الأمر النبوي بالخروج إلى القتال برغم تفوُّق العدو..
وإلى جانب الإيمان بالله فقد ظهرت وحدة الصف التي تُعدُّ ثاني أدوات القوة بعد الإيمان.. والتي لم يشذَّ عنها إلا المنافقون الذين سنرى - في مقال قادم - كيف ارتموا مباشرة في أحضان العدو، وعاهدوهم على النصرة ضد المسلمين!!..
ويأتي بعد الإيمان ووحدة الصف حُسن الاستعداد والأخذ بالأسباب.. وقد ظهر ذلك في غزوة بني النضير حين استخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم سلاح الحرب النفسيَّة؛ فأمر بتقطيع النخيل الذي يمتلكه اليهود؛ إضعافًا لمعنويَّاتهم، وخزيًا لهم.. وقد وصف رب العالمين أثر ذلك على نفوسهم، وما لحقهم من خزي.. قال تعالى: "مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ".
وكما ظن المؤمنون ألَّن يخرج اليهود، فقد ظنَّ اليهود أيضًا أن قوَّتهم ستحميهم، وأن حصونهم مانعتهم من الله.. وهذا شأن أهل الباطل المنقطعين عن الله والإيمان به.. يحسبون قوَّتهم شيئًا، وما هي إلا كبيت العنكبوت "وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون!!".
اغترَّ اليهود - إذًا - بحصونهم، فجاءهم الله من جهة لم يُحصِّنوها، ولم يَحتسبوا أن يُهزَموا من قِبَلِها.. أتاهم الله من جهة قلوبهم الخربة.. "وقذف في قلوبهم الرعب!!" وانهار "جيش الدفاع اليهودي" في بني النضير!!.. وطلبوا التسليم لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يُؤَمِّن خروجهم من المدينة، وأخذوا "يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ..." تلك البيوت التي حصَّنوها طويلاً؛ حتى ظنُّوها مانعَتَهُم من الله!!..
إن الله ناصرٌ دينه بأسلحته هو - سبحانه -، وبجنوده الذين لا يعلمهم إلا هو.. ومن بين جنود الله "الرعب!!".. الذي نصَر الله به نبيَّه r في مواطن كثيرة، والذي ينصر الله به - وبغيره - كل من سار على نهج نبيِّه r في حسن الصلة بالله، وتوحيد الصفوف، واستكمال العُدَّة "قدر الاستطاعة".
ما شهدته ساحات الجهاد في لبنان وفلسطين في الأسابيع الماضية يؤكد هذا المعنى؛ فمنذ بدء المعارك والشهادات اليهوديَّة تتوالى مؤكِّدة براعة المقاومة الإسلامية، والدهشة البالغة من كفاءتها القتاليَّة.. يشهد بذلك (على سبيل المثال) الجنرال اليهودي "عامي إيالون" الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات (الشاباك)، وقائد البحريَّة السابق، فيعترف بالتفوُّق الذي حققه المجاهدون في عمليَّتَي المقاومة في فلسطين ولبنان، واللتان أسفر عنهما أسر ثلاثة من جنود الصهاينة.. ويقول: إنها من نوع عمليَّات الكوماندوز الخطيرة، وأنه كعسكريٍّ مُخَضْرَم كان سيشعر (بالفخر!!) لو أنه هو الذي قادها!!!...
هذه شهادة مبكِّرة صدرت في أوائل المعارك الضارية، تُظْهِر انقلابًا هائلاً في موازين القوة.. حيث يشهد جنرال في الجيش الذي "لا يُقْهَر!!" بالتفوُّق لجنود جماعات مقاومة محدودة القوة جدًّا، بل ومُحاصرة من جميع الجهات... ولن يتَّسع المقال لعرض كل ما نقلته وسائل الإعلام بعد وقف المعارك في لبنان من هلع جنود اليهود وبكائهم، وتفجُّر الوضع الداخلي في دولة العدو سياسيًّا وعسكريًّا؛ كردِّ فعل للهزيمة التي مُنُوا بها، واعترف بها رؤساؤهم.(5/156)
وعلى الرغم من حجم الدهشة مما أسفرت عنه الحرب الأخيرة إلا أن الله عزَّ وجَلَّ في كتابه - في سياق الحديث عن إجلاء بني النضير - يوضِّح ما تزول به الدهشة.. حين يقول سبحانه: "هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ.." فهو صاحب المعركة، ومُدَبِّر شأنها كلِّه.. وهو على كل شيء قدير.. وبيده قلوب العباد، وجنود السموات والأرض.. وما على المؤمنين الصادقين إلا أن يُحسنوا الإيمان بهذه الحقائق، ويتوكَّلوا على ربِّهم في جهاد عدُوِّهم؛ فقد أثبتت المعركة الأخيرة إمكانيَّة هزيمته.. حين سقط من جنوده وشعبه 156 قتيلاً، ولاذ مليونا شخص بالملاجئ شهرًا كاملاً.. بينما نزح أكثر من ثلاثمائة ألف آخرين من مدنهم الشماليَّة هلعًا من صواريخ حزب الله.. هذا فضلاً عن خسائر المعدَّات من طائرات حربيَّة، وعشرات الدبابات (الميركافا).. إلى جانب ملايين الدولارات التي كان الاقتصاد اليهودي ينزفها يومِيًّا من جرَّاء الحرب!!
وما أحوجنا - في الختام - إلى تدبُّر التعليق القرآني على قصَّة إجلاء بني النضير في ختام الآية التي عرضت هزيمتهم.. حيث يقول رب العالمين سبحانه: "يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ.."
============
هم العدو.. فاحذرهم!! ...
بقلم الدكتور راغب السرجانى ... تاريخ الإضافة : 15/09/06
كما يزداد المعدن نقاءً من شوائبه كلما ازداد انصهارًا بلهب النار.. كذلك يزداد الصف المسلم المواجه لعدوِّه نقاءً من شوائب النفاق كلما اشتد لهيب الأزمات والمحن.. ولا تتوقف التنقية حينئذٍ عند حدِّ انكشاف الهلع وضعف اليقين في نفوس المنافقين.. بل يزداد التمايز وضوحًا عندما يُسارع المنافقون المذعورون - لا إلى الانزواء فقط - بل إلى الارتماء المشين في أحضان العدو صراحة!!.. وتبنِّي مواقفهم، والشفقة على خسائرهم.. فضلاً عن القيام بدور المتحدِّث باسمهم والناصح الأمين لهم...!!
ومع مرارة مواقف أهل النفاق هؤلاء، ومع ما ينتج عادة حيال الخيانة من قلق في الصف المسلم نتيجة فَقْد بعض القوة والنصرة التي كانت تُرجَى من أمثال هؤلاء.. مع كل ذلك إلا أن الخير يظل دائمًا في أن تتبدَّى هذه الخفايا قبل المواجهة الفاصلة، حتى لو فقد المسلمون الآن عدد هؤلاء وطاقاتهم.. فما كانت هذه الطاقات ولا تلك الأعداد بالتي تُغني عن المسلمين شيئًا؛ فما هم إلا كالطبل الأجوف الذي ربما يلفت الأسماع والأبصار إلى صوته الصاخب، دون أن يكون منطويًا على كبير فائدة.. حتى إن الله ليصفهم في آية عجيبة من كتابه بقوله تعالى: [وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ...] فالشكل الخارجي قد يُعجِب، وقد يوحي بالجدوى والقوة.. [وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ!!] فلهم طريقة في الحديث قد تُغْرِي بالإنصات، وقد توهم أن وراءها حكمة وعقلاً.. وما ذاك إلا "لَحْنُ القَوْلِ" الذي يُميِّز حديثهم دائمًا، كما أخبر الله تعالى في آية أخرى..
أما الحقيقة.. أما الوزن وأما القيمة.. فلا شيء!!.. "كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ!!" لا تملك حتى أن تقف بنفسها.. والداخل هواءٌ وجُبْن وهلع: [يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ..] ويخشون في كل لحظة افتضاح كذبهم المستور بغشاء رقيق من النفاق..
ما كان الله ليدع نفوسًا خربة كهذه مستورة بالتظاهر بالإسلام مع كل ما تُشكِّله من مخاطر على سلامة الصف المسلم الذي لا يُرجى له أن يصمد أمام عُدوان الباطل فحسْب.. بل أن يهزم الباطل في عُقر داره ليرفع راية الحق..
إن الله عزَّ وجَلَّ حذَّر المؤمنين من بقاء المنافقين مستترين يوم قال: [لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ..] وكان من رحمته أن تُصِيب المحن الجزئية أمة الإسلام حتى تكون لحظات كاشفة لا يستغني عنها المؤمنون، ولذلك قال تعالى: [مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ].
ولقد كانت محنة لبنان الأخيرة - والتي استعرضنا بعض جوانبها المضيئة في المقال السابق - إحدى هزَّات الزلزلة التي تتساقط معها أوراق النفاق الذابلة من شجرة الإيمان الراسخة.. لقد كانت لحظة كاشفة فعلاً - كعادة سنن الله دائمًا في المحن - رأينا فيها أمثلة كنا نقرأ أشباهها في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، أو في سياق علاج القرآن لأحداث تلك السيرة العطرة؛ فكان العجب يتملَّك القلوب والعقول.. حتى أراد الله أن يُري المؤمنين مِصداق ما حذَّرتهم منه آياته..
رأى المؤمنون ألسِنَةً وأقلامًا من الإعلاميين أو السياسيين أو علماء السلطة، لهم قدرة عجيبة على تجميل المنكر، وتبرير الخيانة، وتزيين الفضيحة.. ويمتلكون مهارات فريدة في التلاعب بالألفاظ؛ فيسمُّون الجبن حكمةً، والقعودَ عن الحق بُعْدَ نَظَرٍ، والخيانةَ ذكاءً.. ويصبح كذلك عندهم الجهادُ تهورًا، والدفاع عن الحقوق إرهابًا، واسترداد الأراضي المحتلة والأسارى المعذَّبين مغامراتٍ غير محسوبة!!!..
وبما لهم من حلاوة لسان وحسن بيان (ولحنٍ في القول!!) يخدعون البسطاء من أبناء الأمة - وما أكثرهم! - فيحسبونهم حكماء عقلاء.. وأذكياء نجباء، وهم أبعد ما يكون عن هذه الصفات الجليلة.. روى أحمد عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.. أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ"..
وتعجَّب المؤمنون من رفض هذه الطائفة للجهاد والبذل برغم كل ما تعرض له لبنان وفلسطين.. والحق أن هؤلاء قد يعيشون في ذلة شديدة وخضوع لكل من هب ودب على وجه الأرض، ومع ذلك فهم لا يأخذون أبدًا قرار الجهاد، ولا قرار الانتقام للدين وللوطن، ولا قرار تحمل المسؤولية.. وقد يثير كل ذلك استغراب المؤمنين، فيقولون: كيف يتحمل هؤلاء هذه المهانة؟!!
والحق أن قرار الجهاد قرار شريف.. لا يأخذه إلا شريف!!
ما تخلَّفت هذه السنَّة قط عن أخلاق المنافقين أمام كل مواجهة مع الباطل، وما توقَّف لُهاثُهُم يومًا في سبيل المسارعة في موالاة الأعداء، وتبنِّي مواقفهم.. أكثر مما يتبنَّونها هم أنفسهم.. وها قد رأينا في أحداث لبنان الأخيرة دهشة قيادات العدو ووسائل إعلامه من ذلك الدعم الذي تلقَّوه ممن كان يُفْتَرَض فيهم نُصْرة لبنان وفلسطين؛ لكونهم من بني جلدتهم وقوميتهم.. فضلاً عن دينهم!!..
على ذات الدرب سار من قبل "عبد الله بن أبيٍّ" ورهط النفاق في عهد النبوَّة.. فقد رأيناهم يوم غزوة بني قينقاع (2هـ) حين أراد الرسول صلى الله عليه وسلَّم إنزال العقاب باليهود جرَّاء خيانتهم للعهد.. فإذا برأس النفاق ينبري مدافعًا عن اليهود، وشافعًا لهم - بسوء أدبه!! - عند النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: "إني امرؤٌ أخشى الدوائر" وسمَّى اليهود: (مواليه!!) أي: أنصاره.. حتى قال الله تعالى في شأنه وشأن من تبعه بإساءة: [فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ.. يَقُولُونَ: نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ!!..](5/157)
ويتكرَّر نفس الموقف في مواجهة أخرى بعد عامين، في غزوة بني النضير (4هـ).. بعد أن هَمَّ اليهود بقتل النبي صلى الله عليه وسلم - وهي الغزوة التي ذكرنا طرفًا منها في المقال السابق - فحاصرهم حصارًا شديدًا، فما أوشكوا على التسليم حتى جاءتهم رسائل النفاق والخيانة من ابن أُبيٍّ وأصحابه: أن اثبتوا!!.. نحن معكم!!.. [لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ، وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا، وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ...]
إنها ذات المواقف!.. بل إن تكرارها يوحي إليك كأن بعض الألفاظ تتكرَّر.. وهي كذلك بالفعل!!.. ليظل التحذير الإلهي ماثلاً لكل أمة مؤمنة تحمل لواء الحق عبر التاريخ.. من أوبئة النفاق وشروره؛ حتى يطارد المؤمنون النفاق في نفوسهم وفي صفوفهم.. كما يجاهدون الباطل من حولهم.. بل أشد!!.. فليست مصادفة أن تتركَّز إشارة العداء في الآية الكريمة على المنافقين بأسلوب القصر، حيث يُعَقِّب ربنا بعد استعراض صفاتهم التي توقفنا أمامها آنفًا.. بقوله سبحانه:
[هُمُ الْعَدُوُّ.. فَاحْذَرْهُمْ!! قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ؟!]
==============
بنو قينقاع وبيت حانون والبون الشاسع!! ...
بقلم الدكتور راغب السرجانى ... تاريخ الإضافة : 10/11/06
كلما رأيت تبجحًا من اليهود، وتطاولًا منهم عادت ذاكرتي بسرعة إلى سيرة الهادي لهذه الأمة، بل الهادي للعالمين رسول الله صلَّى الله عليه وسلم؛ فعند الحيرة في التحليل أو أخذ القرار نعود إلى المواقف المتشابهة في السيرة لنخرج بالرأي الأصوب, والقرار الأحكم...
والآن ونحن نستمع لأخبار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وخاصةً بلدة بيت حانون؛ حيث تجتاح قوات الاحتلال الإسرائيلي البلدة ضمن مخطط لاجتياح أجزاء من قطاع غزة قد تشمل فيما بعد رفح وغيرها؛ وذلك - كما يرى المحللون - بهدف إخضاع الفلسطينيين بقوة السلاح، وإسقاط الحكومة الفلسطينية، إلى جانب الضغط على الفصائل التي تأسر الجندي الإسرائيلي (جلعاد شاليت) من أجل إطلاق سراحه.
أقول: ونحن نستمع لهذه الأخبار الدامية التي تؤذي أسماعنا بأنباء مقتل ما يقارب الثمانين شهيدًا, ومائتي جريحٍ، تعود بنا الذاكرة إلى حدثٍ من أحداث السيرة هو أقل مما يحدث في بيت حانون بعشرات المرات, ولكن سنرى كيف تصرَّف الرسول صلى الله عليه وسلَّم معه، لندرك الفارق بين المفروض الذي يجب أن يحدث والواقع الذي نعيشه الآن، وندرك البون الشاسع الذي يفصلنا عن عصر الرجولة والنخوة.
قبيلة بني قينقاع كانت من القبائل اليهودية القاطنة في المدينة المنورة، والتي ارتبطت بمعاهدة مع الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) والمسلمين. وبعد غزوة بدر، وانتصار المسلمين على قريش بفضل الله ومِنَّته، انفجرت براكين العداوة في صدور يهود بني قينقاع، وجاهروا الرسول بالعداوة، بل وأقدموا على جريمة نكراء حيث راود صائغ يهودي في سوق بني قينقاع امرأةً مسلمةً عن كشف وجهها، أثناء شرائها مصاغٍ منه، فلما أَبَتْ ربط بعضهم طرف ثوبها بخمارها- دون أن تشعر - فلما قامت انكشفت عورتها، فصرخت، فجاء مسلم وقتل التاجر اليهودي؛ فتعاون اليهود على قتل المسلم، وانتهى الأمر بحصار الرسول صلى الله عليه وسلم لهم.
وبدأ الحصار في يوم السبت نصف شوال سنة 2 هـ، بعد أقل من شهر من غزوة بدر الكبرى، وظل صلى الله عليه وسلم محاصرًا لبني قينقاع أسبوعين كاملين، إلى أن ظهر هلال ذي القعدة، وقذف الله عز وجل الرعب في قلوب اليهود، فنزلوا على حكم الرسول صلى الله عليه وسلم وكان حكمه صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت هو قتلهم لهذه المخالفة الشنيعة التي فعلوها، ليس فقط لكشف وجه المرأة المسلمة، ولا لقتل المسلم، لكنها تراكمات طويلة؛ فهم منذ أن دخل الرسول صلى الله عليه وسلم وهم في مخالفات مستمرة وسب علنيٍّ لله ولرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وللصحابة، وإثارة الفتن بين المسلمين، فكان لابد من وقفة معهم.
إن من طبائع اليهود الثابتة التي لا ينفكون عنها بحالٍ من الأحوال؛ التطاول الدائم، واتخاذ المواقف المعادية كلما زاد سكوت المسلمين عن تعدياتهم، وقد رأينا هذا من اليهود قديماً وحديثاً، وسنظل نراه منهم إلى يوم القيامة.
رأينا في العصر الحديث عندما خالف اليهود القوانين الإسلامية، وبدءوا بالهجرة إلى فلسطين مع أن هذا الأمر كان ممنوعاً عليهم، ولكن لأن المسلمين سكتوا عن هذا الأمر تملَّك اليهود الاقتصاد الفلسطيني في داخل فلسطين، ثم جلبوا السلاح الخفيف، ثم الثقيل، وبعدها أنشئوا إسرائيل سنة 1948، ثم حرب 1956، و1967، و1982في لبنان، وأخيراً حرب لبنان2006 كما تابعنا جميعاً؛ فكلما سكت المسلمون-إذن- تعدَّى اليهود تعدِّيًا أكبر وأخطر .
كنا في الماضي نطالب بالعودة إلى حدود التقسيم، ثم بعد ذلك نطالب بالعودة إلى حدود 67، ثم نطالب بالعودة إلى حدود انتفاضة2000، وإذا كان اليهود اليوم يقيمون جداراً عازلاً، فإننا ربما نطالب في المستقبل بالعودة إلى حدود الجدار العازل؛ فهذا التساهل مع اليهود هو الذي أَدَّى إلى ما آلت إليه أحوالنا اليوم، هو ما أدَّى إلى الاعتداءات المتكررة التي أصبحت لا تلفت أنظار أحد من المسلمين، هو ما أدى لتكرار الاجتياحات، وتدمير البنية التحتية الفلسطينية، وأهم من ذلك إراقة دماء آلاف الشهداء المسلمين في فلسطين.
إن أحداث بيت حانون دليل واضح على تخاذل المسلمين الذي بدأ منذ عقود، وهذا التخاذل هو الرابط العكسي بين أحداث بيت حانون، وغزوة بني قينقاع، إذ تجنب رسول الله صلى الله عليه وسلم كل هذه المآسي، وأخذ قراراً سريعاً وحاسماً بحصار بني قينقاع، ومعاقبتهم بالقتل جزاءً وفاقًا لولا ما حدث من تدخل رأس النفاق عبد الله بن أُبَيٍّ بن سلول الذي ألح على النبي صلَّى الله عليه وسلم في أن يهبهم له ويعفو عنهم؛ فوافق الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن أمرهم بالخروج؛ فخرجوا إلى الشام؛ وهلكوا هناك، بينما أدى بنا التخاذل إلى الصمت، بل والمشاركة من البعض بالموافقة وغض الطرف من أجل إسقاط الحكومة الفلسطينية الإسلامية غير المرغوب فيها من هذا البعض.
فأين تحرك المسلمين من هذه المأساة الدامية؟!
إن الإسلام يفرض علينا أن نهب لنصرة إخواننا ضد عدوان غاصب مدمر، يستقوى بأعداء آخرين أشد بطشاً، يمددونه بالسلاح والأموال والتأييد [وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا] {النساء:75}(5/158)
كيف لا نتحرك لوقف العدوان على إخواننا، ونحن نرى القنابل العنقودية وغيرها تدك بيوت الأبرياء العزل، فتحيلها حُطاماً، وتمزق أجسادهم، قد يتكاسل البعض أو يجبن، ثم يعتذر بأن قوة اليهود طاغية وقوة المسلمين ضعيفة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم هاجم اليهود وحاصرهم وأجلاهم بعدما كاد يقتلهم ويفنيهم, وقد كانوا في غاية القوة حتى أنهم قالوا له: "يَا مُحَمَّدُ لَا يَغُرَّنَّكَ مِنْ نَفْسِكَ أَنَّكَ قَتَلْتَ نَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ(يقصدون في بدر) كَانُوا أَغْمَارًا لَا يَعْرِفُونَ الْقِتَالَ، إِنَّكَ لَوْ قَاتَلْتَنَا لَعَرَفْتَ أَنَّا نَحْنُ النَّاسُ، وَأَنَّكَ لَمْ تَلْقَ مِثْلَنَا". لقد جمع صلى الله عليه وسلم الصحابة بعدما بلغه غدر بني قينقاع، وجهَّز جيشًا وانتقل سريعًا إلى حصونهم ، وحاصر صلى الله عليه وسلم الحصون وفي داخلها بنو قينقاع وأصرَّ صلَّى الله عليه وسلم على استكمال الحصار حتى ينزل اليهود على أمره صلى الله عليه وسلم.
وقد حرَّك الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الجيش بكاملة من أجل أن امرأة واحدة كُشفت عورتها، وما يؤلمني كثيرًا ليس فقط ما أرى من كشف عورات المسلمات في بقاع الأرض، ولكن أن تُنتَهَك الحرماتُ إلى درجة القتل، وإلى درجة الاعتداء على المرأة المسلمة، وإلى أمور يستحي الإنسان من ذكرها، يحدث هذا كله وجيوش المسلمين تغط في نومها.
ونلاحظ في موقف النبي صلى الله عليه وسلم مدى عزة وكرامة الدولة الإسلامية، فقد حدث نوع من الامتهان لهذه الكرامة بهذه العملية الفاجرة من اليهود؛ فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بمنتهى الجدّية، وانتقل بجيشه إلى حصار بني قينقاع مع احتمال إسالة دماء كثيرة، نتيجة القتال مع بني قينقاع وهم من أصحاب السلاح والقلاع والحصون والبأس الشديد في الحرب، وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كل هذا-رغم قيمته- ثمن بسيط للغاية في مقابل حفظ كرامة الدولة الإسلامية.
أما في وقتنا الحاضر فما أكثر أبناء سلول الذين يضعون أيديهم في أيدي اليهود، ويريدون منع المسلمين من الثأر والقصاص! فهل نستجيب لهم؟ وهل قد ماتت النخوة فينا؟!!
===============
بعض خصائص الفنون الإسلامية
هيام السيد
الفرق بين فن وفن هو فرق الانتماء والتعبير عن حضارات مختلفة ..فالفن الروماني مثلاً به كل سمات الحضارة الرومانية التي تعتبر حضارة "الساعد" أو القوة الجسدية في المقام الأول.. وفي الفن الإغريقي نلمح الفكر الفلسفي الذي هو عصب تلك الحضارة.. وكذلك الفن الإسلامي يعد من أنقى وأدق صور التعبير عن الحضارة الإسلامية.. وكونه المعبر عن هذه الحضارة هو ما يعطيه هذه الصفة.. صفة "الإسلامية".
فالفن الإسلامي في مصر أو الهند أو العراق هو في النهاية "فن إسلامي" حتى وإن كان الفنان في بعض الأحيان غير مسلم.. لأنه بالإضافة إلى تعبيره عن ذاته وعن بيئته - وهذا ضروري وموجود- فإنه يعبر عن الأصيل والثابت والهام في الحضارة التي ينتمي إليها ..بصرف النظر عن انتمائه العرقي أو الديني أو الجنسي..
وفيما يلي نستعرض بعض أهم الخصائص التي تميز بها هذا الفن الأصيل.
التجريد والموسيقية
وهما من أبرز صفات الفن الإسلامي فالقيمة الجوهرية الكامنة في الفن الإسلامي هي إيقاعه وتجريده وما يصاحب ذلك من إحساس موسيقي رائع لا يجاريه فيه أي فن آخر، ولا شك أن هذا الاتجاه مرده إلى التصور الإسلامي للعالم والإنسان والله ومن أجل ذلك لم تكن وظيفة الفن الإسلامي نقل المرئي بل إظهار ما هو غير مرئي، ومحاولة الإحساس بالقوانين الرياضية التي تحكم هذا الوجود. وقد وصلت قمة الإيقاع الموسيقي في الفنون الإسلامية ذروتها في العمارة الأندلسية المغربية حيث تتجاوب أقواس العقود مع سائر العناصر المعمارية، وأحواض المياه والأشجار والمناظر التي تحيط بالمكان حيث يصبح المبنى وكأنه نبت من الأرض كما ينبت الشجر والنخيل.
كراهية تصوير الكائنات الحية
شاع رسم وتصوير الكائنات الحية في المنطقة العربية قبل الإسلام، ولكنه لم يهتم قط بالمحاكاة الحركية لهذه الكائنات، كما نرى في الفن الإغريقي والفنون التي سارت على هديه.وبالرغم من أن القرآن الكريم لم يرد فيه نص صريح يمنع ممارسة تصوير الكائنات الحية إلا أن البعض يجدون أن رسم الكائنات غير جائز.
ولقد جاء في القرآن الكريم في سورة المائدة - آية 90- "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ " صدق الله العظيم. وهذه الآية الكريمة تعني أن الدين يحرم اتخاذ التماثيل والصور أنصابًا تعبد من دون الله، والحقيقة أن الكثير من المفسرين استقروا على أن الإسلام ليس ضد الصورة ولكنه ضد الوثن ويقول الشيخ محمد عبده في هذا الصدد: "وبالجملة يغلب على ظني أن الشريعة الإسلامية أبعد من أن تحرم وسيلة من أفضل وسائل العلم بعد التحقق أنه لا خطر منه على الدين لا من جهة العقيدة ولا من جهة العمل".
وعلى ذلك فالعقيدة الإسلامية لم تحرم عمل الصور إذا كان الغرض منها الزينة المباحة أو إقرار حقيقة علمية أو شرعية، ويؤكد ذلك ما تركه المسلمون منذ فجر الإسلام إلى الآن من آثار تزخر برسوم الكائنات الحية التي بعدت عن المحاكاة بعدًا واضحًا.
مخالفة الطبيعة
ومخالفة الطبيعة تأكيد لاتجاه الفكر الإسلامي، والفنان المسلم يواجه الطبيعة لكي يتناول عناصرها ويفكها إلى عناصر أولية ويعيد تركيبها من جديد في صياغة عذبة طروب.
وهو لا يفكر في محاكاة الطبيعة لأن هذا هدف لا يسعى إليه ولا يعنيه. ويجمع اليوم الكثير من النقاد على أن الفن يبدأ من حيث يأخذ الفنان في الانصراف عن محاكاة الطبيعة ويفرض عليها وزنا وإيقاعًا من عنده.
تحويل الخسيس إلى نفيس
من المسلمات في العقيدة الإسلامية العزوف عن الإسراف في بهرج الحياة باعتبار ذلك عرضا زائلا وما عند الله خير وأبقى، وإلى جانب ذلك فقد وصل ازدهار الحضارة الإسلامية في كثير من العصور إلى درجة عظيمة كما وصل الثراء إلى حد يفوق كل تصور، وكان في استطاعة المسلمين لو أرادوا أن يزينوا الأجزاء المهمة في المساجد بالأحجار نصف الكريمة واستعمال الذهب والفضة في الحياة اليومية، وهنا نجد ظاهرة إجماعية اقتصادية تحتاج إلى حل يحقق المواءمة والتوافق بين روح العقيدة وسلوك السلف الصالح، بين إمكانيات المجتمع وقدراته الاقتصادية العالية، وهكذا كان على الفنان أن يحقق هذه المواءمة، وأن يبتكر أسلوبا جديدا لحل هذه المعادلة الصعبة، وقد نجح الفنان المسلم في تحقيق هذه الغاية بابتكار الخزف ذي البريق المعدني ( وهو نوع من الخزف لم يُعرف إلا في الفن الإسلامي في ذلك الوقت، ويتيح الحصول على أوانٍ خزفية تصلح بديلا لأواني الذهب والفضة) ويذخر المتحف الإسلامي بمصر بالكثير من نماذج ذلك الخزف ذي البريق المعدني، والذي يعتبر من أرقى أنواع الخزف في العالم، ومن الحلول الابتكارية التي كان للفنان المسلم الفضل في تحقيقها المواءمة بين استيفاء المسجد للعظمة والفخامة، وهو ما تتيحه الثروة المتزايدة في المجتمع وبين ما يتطلبه الفكر الإسلامي في الالتزام بأسلوب السلف الصالح في الحياة البسيطة التي تقوم على صدق الإنسان مع ربه.(5/159)
فاستطاع الفنان المسلم باستعمال أرخص الخامات إطلاقا كالطين والخشب أن يصنع محاريب المساجد من الخزف أو الخشب أو الجص بعد أن أثراها بالزخرفة والنقش، مما جعل هذه المحاريب قمة في الجمال والجلال. ومن أمثلة المحاريب الإسلامية الرائعة محراب السيدة رقية بالمتحف المصري الإسلامي ( العصر الفاطمي - القرن الثاني عشر).
وقد خلَّفت الحضارة الإسلامية نماذج عظيمة القيمة من التحف المعدنية والأثاث وبخاصة من البرونز المكفت والمشغول بالزخارف الدقيقة التي تبلغ حد الإعجاز وقيمة هذه التحف لا تعود إلى الخامات التي صنعت منها ولكن مردها إلى قدرات الفنان في الإنجاز ودقته البالغة في التنفيذ
=============
متحف الفن الإسلامي يدافع عن الحضارة الإسلامية
أخبار أخرى
استطلاع: اغلبية تطالب بانسحاب امريكي من العراق
33 حزبا مغربيا تتنافس في الانتخابات البرلمانية
إطلاق سراح 16 سعوديا من معتقل جوانتنامو
إبراهيم الجارحي
بي بي سي ارابيك دوتكوم - القاهرة
مخطوطة الأعشاب الطبية
في عصر أحد أيام عام 1881 جلس الخديوي إسماعيل إلى مجموعة من أصدقائه، ودار الحوار حول ضرورة إيجاد مكان خاص يضم بقايا العمائر الإسلامية، لحفظها وعرضها على الناس، وتحققت هذه الفكرة في عام 1896، في عهد ابنه الخديوي توفيق.
وانتقل المتحف إلى المبنى الذي صممه وبناه علي باشا مبارك عام 1903، تحت إسم "دار الآثار العربية"، ومع حلول عام 1952 وجد أن المبنى يضم العديد من التحف التي تنتمي إلى دول إسلامية غير عربية، مثل تركيا وإيران وأوزبكستان وأفغانستان، فكان لا بد من إيجاد تسمية أكثر شمولية، وكان الإسم الجديد هو "متحف الفن الإسلامي".
مجسم من النحاس للقبة السماوية موزعة عليها مواقع الأفلاك
واليوم تغطي مبنى المتحف الستائر الخضراء من كل جانب، إيذانا بتطويره قبل احتفاله بمرور مائة عام على إنشائه.
يقول الدكتور رفعت عبد العظيم محمود، مدير متحف الفن الإسلامي: "وصل عدد التحف الموجودة بالمتحف اليوم إلى 102 ألف تحفة، لكنها جميعا قد تم تجميعها في صناديق في يوليو الماضي، للبدء في تطوي المتحف بالكامل، وإعداده للاحتفال بالعيد المئوي لإنشائه"
ويضيف الدكتور رفعت: "متحف الفن الإسلامي هو كنز الحضارة الإسلامية، وأكبر متحف للفن الإسلامي في العالم، لذلك فقد أتى تطويره بشكل يخدم الهدف الأساسي من إنشائه، خاصة في الفترة الحالية التي تواجه فيها الحضارة الإسلامية اتهامات بالتخلف ورعاية الإرهاب"
صورة للكسوف الشمسي
ويضم المتحف العديد من المخطوطات التي تعنى بعلوم كالطب والكيمياء والهندسة والفلك، بالإضافة إلى مئات الأدوات الجراحية والفلكية المعقدة.
"عندما تكلم العلم بالعربية"
وقد قام متحف الفن الإسلامي بتجميع كل هذه الآثار العلمية في ركن خاص يحمل عنوان، "عندما تكلم العلم بالعربية"، ويضم أجزاء الأسطرلاب ومجسمات للكرة الأرضية ورسوم لتشريح الجسم البشري، ورسوم أخرى لخرائط المجموعة الشمسية.
أدوات فلكية وخريطة لبرج الثور النجمي
يقول الدكتور رفعت: "هذا المتحف يدافع عن الحضارة الإسلامية في صورة أثر مادي ملموس لا يقبل الشك كالأدوات العلمية والعملية والمخطوطات، وهي إشارة للفترة التي كانت الحضارة الإسلامية هي التي تصنع الحضارة الإنسانية، وهو ما يدحض الاتهامات بأن الإسلام معاد للعلم والحضارة بطبيعته"
ويسعى المتحف إلى تطوير أساليب العرض لتناسب تقنيات العرض المتحفي الحديثة التي تضمن تقديم المعلومات الصحيحة التي يتأصل من خلالها الموروث الثقافي والحضاري لدى الزائر.
تطوير المتحف
تبدأ عملية التطوير بتحسين الإضاءة على التحف حفاظا على التحف العضوية التي قد تتلف إذا ما تعرضت لإضاءة غير مناسبة، كما سيتضمن التطوير معالجة التحف بأسلوب حديث يضمن حمايتها من العوامل الجوية والبيئية التي تغيرت بسبب الزيادة السكانية الكبيرة، وازدحام المنطقة المحيطة بالمتحف الذي يقع في قلب القاهرة الإسلامية.
وتشترك في عملية تطوير المتحف عدة جهات من بينها جامعة أوكسفورد والمركز الثقافي الفرنسي، إضافة إلى منظمة الأمم المتحدة للعلوم والفنون والثقافة (يونسكو)
مقتنيات المتحف
وعن مقتنيات المتحف يقول الدكتور رفعت عبد العظيم: "لدينا أنواع من الخزف الذي لم يتمكن أحد من التوصل إلى سر صناعته، وهو الخزف المعدني اللامع، كما أن لدينا تحف تمثل الحضارة الإسلامية منذ عهد الخليفة عثمان بن عفان حتى عهد السلطان عبد الحميد"
جزء من آلة الأسطرلاب
يضم المتحف بين جنباته تحفا نادرة من بينها 89 مشكاة لا مثيل لها في العالم، وإبريق مروان بن محمد المصمم بشكل هندسي نادر، إضافة إلى سيوف كل من السلطان سليمان القانوني والسلطان محمد الفاتح وقنصوة الغوري، ويوجد بالمتحف أيضا تابوت الإمام الشافعي ومحاريب مسجدي السيدة رقية والسيدة نفيسة والبورتريه الخاص بالشاه عباس الصفوي، كما يضم المتحف مجموعة هائلة من العملات من بينها دينار مروان بن محمد، الخليفة الأموي الذي كان أول من عرب العملة.
ومن المخطوطات النادرة يضم المتحف كتاب التشريح الذي وضعه المنصوري، ويضم فصلا كاملا لابن سينا وهو يلقي بتعاليمه على تلاميذه، إضافة إلى رسالة في الأعشاب الطبية.
يحميه الله
تم بناء المتحف على شكل ثلاثة أجنحة طويلة، أوسط وشرقي وغربي، وهذه الطريقة في البناء تتيح للمشاهد رؤية واسعة لكل القاعات في نفس الوقت، وتوكد عاملات النظافة بالمتحف أن رعاية الله تحفظ المكان من السرقة والتخريب، فتقول سعدية الإمام إحدى عاملات النظافة: "قطع كثيرة كتب عليها (فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين) وذلك يعني أن الله يحفظ المكان، ونحن كعاملات نظافة نشارك في الحفاظ على التحف، ونمنع الرواد من لمسها، فهذه التحف تستحق الحماية لأنها تحمل كلام الله"
ونظرا للوفرة الفائقة في عدد التحف التي يمتلكها، يقوم متحف الفن الإسلامي بعرض مقتنياته في متاحف مصر، مثل متحف الفنون في مكتبة الإسكندرية، كما يقوم المتحف أيضا بعرض هذه المقتنيات في متاحف العالم، مثل الجناح الخاص الذي ينتوي متحف اللوفر إقامته احتفاءا بالحضارة الإسلامية، وهو ما عده الرئيس شيراك في خطاب له ألقاه في أكتوبر/ تشرين الأول "تكريسا للاعتراف بالآخر الذي يعد احترام ثقافته سبيلا لمستقبل أفضل يسوده السلام".
==============
التحولات الأساسية للحضارة الإسلامية
المقصد الأول: مثال قرآني لمفاهيم الحضارة
الله سبحانه وتعالى جعل في سيرة أحد الصالحين وهو (ذو القرنين) مثالا رائعا للسلوك الحضاري من جهة، ومفاهيم حضارية من جهة أخرى، وأعطانا في سيرته دروساََ وعبرة للحكام والناس عامة، ولفت نظر عباده إلى ركائز الحضارة الربانية التي تقوم على شرع الله وتحكيمه بين العباد، ومن هذه الركائز (الايمان والعدل والعمل الصالح).
تتميز الحضارة الربانية بتكاملها وتوازنها وتناسقها مع الحاجات الجسمية والعقلية والروحية، وتتطلع إلى التنافس الشريف واسعاد البشرية، وتكوين الشخصية الربانية التي تتحمل مسؤليتها الحضارية..
إنّ سيرة ذي القرنين في القرآن في قيادته الحضارية للبشرية وفي زمانه، تعطينا صورة مشرقة للانسان القوي المؤمن العالم، الذي يسخر كل امكانات دولته وجنوده واتباعه وعلومه ووسائله واسبابه لتعزيز شرع الله، وتمكين دينه وخدمة الانسانية وإعلاء كلمة الله.(5/160)
إنّ ذا القرنين ابدع في صناعة الحياة البشرية على أسس عقيدة وأخلاق ربانية، وترك لنا معالم واضحة في التعامل مع نفسية الشعوب وتحريكها بالايمان والعلم والعمل والعدل والاصلاح والتعمير..(1)
[يَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا(83)إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا(84)فَأَتْبَعَ سَبَبًا](2).
المقصد الثاني: التحولات الأساسية للحضارة الإسلامية
تأثير الحضارة الإسلامية كان في أعماق المجتمع وتركيبه العقلي والفكري، وبهذه التحولات شكلت المناخ الملائم للفعل الحضاري:
1- النقلة التصورية الاعتقادية: وهي النقلة المهمة، لأنها بمثابة القاعدة التي بنيت عليها التحولات الاخرى، حيث حررت العقل وكرمته، وحولت التوجه الانساني من أرباب متفرقون إلى رب واحد فرد صمد، ومن عشق الحجارة والاصنام إلى محبة الحق الذي لا تراه العيون ولا تلمسه الأيادي: [ألله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور...](3) وقال تعالى: [ويضع عنهم اصرهم والأغلال التي كانت عليهم..](4).
2- النقلة المعرفية: وهو العمل والتأثير والتغيير في صميم العقل من أجل صياغته، بحيث يتعامل مع الكون والحياة والوجود بشكل صحيح [إقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الانسان من علق، إقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علّم الانسان ما لم يعلم](5)، [خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون](6).
وينزل القرآن لحظة بلحظة ويوما بعد يوم يحرص على تربية المسلمين وإعدادهم فكريا وتصوريا "إقرأ، فكر، تعقل، تدبر، إبصر...".
3- النقلة المنهجية: وهي مرتبط بالنقلتين السابقتين، يعلم الانسان أنّ الحياة لا تسير بدون منهج، التي أتاح للعقل المسلم آفاقا واسعا، أن يتشكل وفق مقولاتها ومعطياتها، وهذا يكون من خلال:
أ- الرؤية السببية للظواهر والأشياء من أجل الوصول إلى معجزة الخلق، وأن يجتاز بالعقل الانساني من النظرة التبسيطية المفككة إلى القدرة على الجمع والمقارنة والقياس..
ب- القانونية التاريخية، باعتبار أن التاريخ البشري لا يتحرك فوضى وعلى غير هدى، وانما تحكمه سنن وقوانين، وإنّ الوقائع والحضارات البشرية لم تخلق صدفة وإنما من خلال جملة من الشروط [قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلكم...](7). [سنة من أرسلنا قبلك من رسلنا ولن تجد لسنتنا تبديلا..](8).
ج- منهج البحث التجريبي: الكسب المعرفي للقيم الذي أحرزه العقل المسلم خصوصا والعقل البشري عموما، يعتبر بالضرورة أهمية لا يستغنى عنه، وهذا ما أكده كتاب الله .. لذلك أعطى للحواس مسؤوليتها الكبيرة، عن كل خطوة يخطوها الانسان المسلم في مجال البحث والنظر والتأمل..(9).
[أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض ..](10)، [قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق](11).
خصائص الحضارة الإسلامية
المقصد الأول: خصائص الحضارة الإسلامية
للحضارة الإسلامية خصائص ومميزات، لا تجدها في الحضارات أخرى، وقد أشرنا إلى بعض منها ومن أبرز هذه الخصائص والمميزات:
1- الربانية: فالحضارة الإسلامية معجونة بالجانب الالهي، امتزجت فكرة الايمان عامة والتوحيد خاصة بالحضارة الإسلامية، جرت فيها مجرى الدم في شعرها ونثرها وأدبها وعلومها وفلسفتها وكافة وجهات الحضارة، وإن كان بها بعض الملاحدة وغير المسلمين فانهم يعتبرون شذوذا.
2- الاخلاقية: للعنصر الاخلاقي مكان رحب، وأثر عميق في الحضارة العربية الإسلامية، فالاسلام عمق معاني الأخلاق وهذب نفوس حامليها، وربط بين الأخلاق والأهداف السامية في الحياة، وربطها بفكرة الالتزام والجزاء وثواب الدنيا والآخرة وحرر الأخلاق من غلو العادات والتقاليد الجاهلية، "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"(12)، فصل ووضح الآداب كلها، المعلم والمتعلم، القاريء والمستمع والباحث والناظر، بل آداب تعامل أفراد المجتمع مع ما حولها حتى آداب المائدة إلى أدب بناء الدولة..
كما أنّ هذه الحضارة لا تؤمن ولا تعترف بالقاعدة الشريرة: "الغاية تبرر الوسيلة"، بل يؤمن بالغايات السامية الجيدة، وتؤمن بالوسائل النبيلة النظيفة لبلوغ المرآم والغايات "إنّ الله طيب لا يقبل إلا طيبا"(13).
3- الانسانية: فيها احترام لمشاعر الانسان ورعاية فطرتها وكرامتها وحقوق الانسان، بل اعتبر أنّ الانسان فوق كل شيء إذا اعرف قدر نفسه، فهو مخلوق مكرم [ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البرّ والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا](14).
إنّ الحضارة الإسلامية تقوم بتكريم الانسان من حيث هو الانسان، بغض النظر إلى لونه وجنسه وانتمائاته العرقية أو طبقته بل بغض النظر عن اعتقاده الديني فهو مكرم بإنسانيته قبل ديانته، وأحسن مثال في هذا المجال ما رواه البخاري عن النبي (صلى الله عليه وسلم): ((أنه قد مرت جنازة ميت وهو جالس، فقام لها، فقيل له: إنها جنازة يهودي، فقال (صلى الله عليه وسلم): أليست نفساً؟ قالوا بلى، فقال (صلى الله عليه وسلم): ولكل نفس في الاسلام حرمة ومكان..).
4- العالمية: وقد عملت الحضارة الإسلامية على التقارب بين بني الانسان، ولهذا اشترك في الحضارة الإسلامية عرب وعجم، بيض وسود، أغنياء وفقراء، ملوك وسوقه، مسلمون ونصارى ومجوس ويهود..
الحضارة الإسلامية وإنْ كتبت بالعربية ولكنها إنطلقت من الاسلام، فالاسلام عالمي الرسالة من أول يوم [ياأيها الناس..](15)، يدعوا إلى [رب العالمين..](16).
5- التسامح: فما وجد الاختلاف، قامت بمشيئة الله وبحكمته [لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم](17).
وهذا التسامح وفر فرصة للأديان والأجناس يعيشون تحت رعايته، مستمتعين بحقوقهم وكرامتهم غير خائفين في عقيدتهم وعباداتهم وشعائرهم، لهم ذمة الله ورسوله وذمة المؤمنين.
ولم يفرض الاسلام عليهم أحكامه وخاصة فيما يتعلق بالعقيدة أو عاداتهم الخاصة، مثل الزواج والطلاق .. شعار المسلمين (اتركوهم وما يدينون..).
الاسلام لا يطبق على غير المسلم، فيما يعتقد أنه حلال أو حرام، أي لم يكن واجبا في دينه، فلا يمنع غير المسلم من أكل لحم الخنزير أو شرب الخمر..
6- التنوع: أنّ الحضارة الإسلامية ليست مكونة من مجرد ثقافة دينية لاهوتية، بل واسعة ومتسعة باتساع الانسانية وأفكارها، فيها الدين بفروعه المتشعبة واللغة والأدب والفلسفة والعلوم الطبيعية والرياضية والعلوم الانسانية والفنون المختلفة..
فيها مدارس الرأي ومدرسة الأثر، وأصول الشافعي، وأدب الجاحظ، ومعجم الخليل ونحو سيبوية وبلاغة عبدالقادر الجرجاني وطب ابن سينا وشعر المتنبي ومقامات الحريري وبصيريات ابن الهيثم ورياضيات البيروني وتصوف الغزالي وفلسفة ابن رشد وتحليل ابن خلدون وخط ابن مقلة وألحان الموصلي، فيها علماء من عراق ومصر وأندلس وايران وخوارزم والهند وتركيا، فيها سلفية وصوفية، فيها ظاهرية ابن حزم ومقاصدية الشاطبي وعقلانية الفلاسفة والتزام الفقهاء فيها إجتهاد المجتهدين وتزمت المقلدين..
7- الوسطية: من أهم مميزات حضارتنا الوسطية والتوازن بين الافراط والتفريط في الأفكار والمعتقدات والالتزامات، وإن كان بها المفرطين والمتشددين ولكن الصيغة العامة، هي الوسطية والمرونة والتوازنية المأخوذة من الاسلام الحنيف [وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس..](18).(5/161)
الموازنة والوسطية بين العقل والوحي وبين المادة والروح وبين الحقوق والواجبات وبين الفردية والجماعية وبين النص والاجتهاد، وبين المثالية والواقعية وبين الاستلهام من الماضي والتطلع إلى المستقبل..
8- التكامل: الحضارة الإسلامية حضارة متكاملة فيما بين بعضها البعض، الجانب الثقافي تخدم الجانب الفكري والعلمي والتوجيهات الدينية والتربوية، تخدم الجوانب الأخلاقية والسلوكية، وكلها تصب في خدمة الغاية الأخيرة وهي الانسانية..
ومثل ذلك أن الحضارة الإسلامية لا تدعي أنها أنشأت كل شيء من عدم، بل بدأت رحلة الحضارة الإسلامية مكملة للحضارات الأخرى، مصممة للمسيرة التي بداخلها بعض التحريف أو الانحراف..
ومقتضى هذا التكامل الذي اتصفت به الحضارة الإسلامية، أنها لا تجد مانعا شرعيا يمنعها من اقتباس الحكمة، والتماس العلم النافع، والعمل الصالح من غيرها، ولو كان خصومها، كما في الحديث الشريف ما رواه الترمذي وابن ماجة "الكلمة الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق الناس بها"(19).
المقصد الثاني: تراجع وتدهور الحضارة الإسلامية
هناك أسباب عديدة مباشرة وغير مباشرة أثرت في تراجع أو تدهور الحضارة الإسلامية، وهذا مما أدى إلى فقدان قيادتها للبشرية مع أنه يخوض مدافعته مع الحضارة الغربية وأهم هذه الاسباب:
1- انحسار الهوى وتضاؤل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
2- غياب مفهوم العقيدة الصحيح في التوحيد وتسلل الشرك والخرافيات إلى عقيدة المسلمين.
3- الاستبداد السياسي من قبل حكام المسلمين وامرائم.
4- الفصام بين القيادة الفكرية والقيادة السياسية.
5- طغيان السلطة القبلية والعرقية والاقليمية على مفهوم الأمة الإسلامية.
6- طغت على حياة المسلمين عامة والأمراء خاصة حياة الترف والتكاثر.
7- التحلل الخلقي وتراجع الأداء السلوكي للمسلمين.
8- وجود فساد اداري واضح وعدم الظبط.
9- التعقب الديني والتمزق المذهبي.
10- الغلو والتشدد في الدين عند البعض والبساطة والتواكل عند الآخرين.
11- انتشار أفكار الصوفية المنحرفة وشطحاتهم وخلق البدع والخرافات.
12- غياب الاجتهاد والابتكارات وسيادة التقليد والاتباع والمكاة.
13-غياب العلم والتعليم وانتشار الجهل والكسل.
14- وهناك عوامل خارجية ومؤامرات يهودية وحملات صليبية وحركات لادينية في بلاد المسلمين(20).
===============
الرياضيات الإسلامية والفلك بين الاهتمام العالمي والإهمال العربي
د. محمود السيد الدغيم
باحث أكاديمي سوري في كلية الدراسات الشرقية والإفريقية
جامعة لندن SOAS
لعل أغرب ما في العرب المعاصرين هو كثرة الكلام الشفوي، وتجنب التطبيق العملي، ومنذ قرون والعرب مستقيلون تماما، ومتكلون على الله الذي يرزقهم دون أن يبذلوا جهداً مثمرا، ولعل بؤساء الأمة هم العلماء والمثقفون والباحثون عن الحقائق، والغريبُ، الغريب !! هو إهمال العرب لتراثهم، وجهلهم به، واهتمام الآخرين بهذا التراث.
وسبب تناولي لهذا الأمر هو اطلاعي منذ ربع قرن على مسيرة تاريخ العلوم، وعندما أُدقِّقُ ببحث باحثٍ عن العلوم باللغة العربية أجده قد تُرجم من لغةٍ ما من اللغات الأجنبية، ولم يتورع المترجم عن نسبة البحث لنفسه مُتكلاً على جهل أبناء الأمة باللغات الأجنبية، وكسلهم عن البحث المقارن، وفي بعض الأحيان أجد الباحث قد اعتمد مصادر ومراجع من لغة يجهلها جهلاً تاماًّ، وجلّ اعتماده على فهارس الذين بحثوا في تلك اللغة التي يجهلها، ولكنه ينسب لنفسه جهود الآخرين.
والإهمال العربي العتيد واسع يشمل بلداننا من الخليج إلى المحيط إذ أن لدينا اتحادات كتاب، واتحادات صحفيين، وزارات ثقافة، ودوائر ودور ثقافة ومراكز ثقافية، ووزارات إعلام، وتربية وتعليم عالي وواطي، ومراكز بحوث علمية حكومية وخاصة، وهنالك مؤسسات داخل البلاد العربية وخارجها، ولها مجالس خبراء، ومافيات وميليشيات شعارها الدائم: نفعني لأنفعك، وذلك جرياً على قول المثل الشعبي: " حُكَّ لي لأحكَّ لك" والناظر في ميزانيات هذه المؤسسات والوزارات يجدها بمئات الملايين من الدولارات، وعندما يتصفح عناوين الكتب المنشورة الصادرة عنها يصاب بالغثيان والقرف لضحالتها، وقلة فائدتها، وعدم توفر أبسط شروط البحث العلمي فيها.
ولا أبالغ إذا قلت: إن مركزا أجنبيا واحدا يتفوق على كل المؤسسات والوزارات والجامعات العربية متحدة، ومثال على ما أقول معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، في إطار جامعة فرانكفورت في جمهورية ألمانيا الإتحادية الذي يشرف عليه البروفسور التركي الأصل فؤاد سزكين الذي أصدر أكثر من ألف مجلد تخصُّ العلوم العربية والإسلامية.
مشكلة منشورات معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، في إطار جامعة فرانكفورت، أنها محدوة الطبعات حيث يطبع من الكتاب عددا قليلاً جداً أقله خمسون نسخة، ومتوسطها مائة نسخة، وأكثرها خمسمائة، وبذلك تبقى هذه المطبوعات متداولة بين خاصة الخاصة، وأسعارها مرتفعة تعجز عن دفعها معظم الجامعات العربية، وبذلك لا يتمكن من شرائها إلا الذين لا يقرؤون، ورغم هذه المشكلات، فإن هذا المعهد قد أتاح لبعض المؤسسات الثرية مالياًّ، والفقيرة ثقافياًّ اقتناء هذه المجموعات الكثيرة من الكتب الخاصة بالعلوم العربية والإسلامية بعدد كبير من اللغات الإنسانية الحية من عربية وفارسية وعثمانية تركية، وفرنسية وإنكليزية وألمانية وإيطالية ولاتينية وإسبانية.
من خلال متابعتي لما يصدره معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، في إطار جامعة فرانكفورت من كتب لاحظت توزع أكثرية الكتب على ثلاثة محاور:
فكان أقدمها وأولها: طبع المخطوطات العلمية بالتصوير طبق الأصل عن المخطوط الأصلي مع مقدمة وفهارس مقتضبة، ومراعاة النواحي الفنية بحيث يشبه الكتابُ المطبوعُ المخطوطةَ الأمّ من حيث الورق، وتجليد الكتب تجليدا تقليدياًّ، ونشرت تلك السلسة تحت عنوان: عيون التراث.
وجاء المحور الثاني على شكل تجميع لدراسات خاصة بعالم من العلماء الأعلام الذين اهتموا بالعلوم العربية والإسلامية، فتم تجميع مقالاتهم وبحوثهم في مجلد خاص، أو عدة مجلدات.
وجاء المحور الثالث على شكل سلاسل عديدة تختص كل سلسلة منها بعلم من العلوم، وتنشر ما كتب فيه من مقالات وبحوث، وما نُشر من كتبه، وقد تجاوزت كتب بعض هذه السلاسل المائة مجلد، وقد اكتمل بعضها، والبعض الآخر ما زال مستمراً، وتجاوز مجموعها الألف مجلد.
سوف استعرض في هذه العُجالة الموجزة بعضا مما نشر في موضوع الرياضيات والفلك، وسبب ذلك بعدما لاحظت أن هنالك عدداً من الدكاترة يسرقون منشورات معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، في إطار جامعة فرانكفورت، ويدعون أنهم يؤلفون، والغريب أنهم يترجمون من لغات يجهلونها، ويعتمدون على مترجمين مجهولين يبيعون بضاعتهم لمن يدفع لهم قوت يومهم، ثم تتصدر أسماء أصحاب المال مؤلفات ضخمة في الرياضيات وغيرها من العلوم لأشباه الكُتاب المتخلفين، وأنصاف المثقفين الذين مات ضميرهم، وقتلتهم الدعايات الفارغة، وثناء الجهلة على أعمالهم المسروقة.(5/162)
نشر معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، في إطار جامعة فرانكفورت في صيف سنة 1999م مجلداً ضخما يعرف بمنشورات المعهد من سنة 1984 حتى سنة 1999م، وشمل العلوم الدينية من أصول فقه وتصوف، وتاريخ، وشعر وفلسفة، وعلوم لغة، وموسوعات وفهرسة، ورياضيات وفلك، وموسيقا وطب وصيدلة وبيزرة وبيطرة، وفيزياء وكيمياء، وفنون وجغرافيا وخرائط وبلدانيات ورحلات، ثم أصدر المعهد فهرسا آخر، وتابع نشر الكتب حتى الآن.
الرياضيات الإسلامية والفلك الإسلامي
سلسلة عيون التراث: من المخطوطات التي نشرها معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، طبق الأصل مخطوطة كتاب في حل شكوك كتاب أقليدس في الأصول ومعانيه، تأليف أبي علي الحسن بن الحسن، المشهور بابن الهيثم، المولود نحو سنة 354 هـ/ 965م، والمتوفى نحو سنة 432 هـ/ 1041م، وتم نشر المخطوط سنة 1405 هـ/ 1985م، وأخذ رقم المجلد 11 في السلسة: ج: عيون التراث، والكتاب المنشورة تصويراً عن مخطوطة مكتبة جامعة إسطنبول، القسم العربي رقم: 800، وهي منسوخة في القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي، وأكمل بقسم من مخطوطة مكتبة جامعة لايدن، رقم: شرقي 516.
ويعتبر هذا الكتاب من أضخم كتب ابن الهيثم المعروفة في علم الرياضيات، ولهذا الكتاب نسخة مخطوطة في مكتبة خراجي أوغلى في بورصة تحت الرقم: 1172، وتمتد من الورقة 83 حتى الورقة 226، وهي منسوخة سنة 477 هـ/1084م، وهنالك نسخة أخرى في مكتبة ملي ملك في طهران رقم: 3433، وتقع في 200 ورقة، وتوجد نسخ في لندن وقازان وبيشاور.
ومن المخطوطات المصورة التي نشرها معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، مخطوطة كتاب الجبر والمقابلة، تأليف أبي كامل، شجاع بن أسلم، الذي عاش في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، وقد أخذت النسخة المطبوعة رقم المجلد: 24 من سلسلة عيون التراث، وطبعت بالتصوير عن مخطوطة مكتبة قره مصطفى باشا، رقم 379، والمحفوظة في مكتبة السلطان أبا يزيد في إسطنبول. ويقع الكتاب في ثلاثة أجزاء، تتألف من 111 ورقة، وقد نسخت سنة 651 هـ/ 1253م، في الجبر والمقابلة، والهندسة، ومعادلات سيالة من الدرجة الأولى والثانية وأنظمتها، وبذلك يمثل مدرسة عربية وإسلامية مبتكرة تفوق ما سبقها في علم الرياضيات بما في ذلك الخوارزمي وديوفانتوس، ولذلك تأثر به من جاء بعده مثل الكرجي (المتوفى بعد سنة 400هـ/ 1010م في كتابه الفخري الذي تُرجم إلى العبرية واللاتينية والألمانية، واقتبس منه كثيراً ليوناردو فيبوناتشي (1170- 1240م) واهتم به الأوربيون في العصر الحديث، ولكن الكتاب لم يحقق ولم ينشر منه باللغة العربية سوى طبعة المعهد المصورة غير المحققة.
المحور الثاني: سلسلة تجميع لدراسات الخاصة بعالم من العلماء الأعلام الذين اهتموا بالعلوم العربية والإسلامية، ونذكر منها سلسة:ب - إعادة طبع فرع الرياضيات، ومنها مجلدان صدرا عن المعهد سنة 1406هـ/ 1986م، وهما يتضمنان دراسات في الرياضيات العربية والإسلامية للمستشرق الألماني فرانتز فوبكه، الذي درس في ألمانيا، وقصد باريس سنة 1850م، ومحتويات المجلدين هي إعادة طبع ما نُشِرَ من بحوثه ما بين سنة 1842 وسنة 1874م، عن الرياضيات العربية والإسلامية، وذلك بعد وفاته سنة 1864م، ومما تضمنته دراساته ملاحظات حول نظرية في الحساب لثابت بن قرّة، وملخص كتاب الفخري في الجبر والمقابلة لأبي بكر محمد بن حسن الكرجي، ومقال حول التعبير الجبري عند العرب، وتلخيص لمجموعة من المسائل الهندسية لأبي الوفاء، وترجمة رسالة لأبي الحسن القلصادي، وترجمة قطعة من مخطوطة في المثلثات لأبي جعفر محمد بن الحسين الخازن، ومدخل إلى الحساب الغباري والهوائي، وثلاث رسائل عربية في البركار التام، وغير ذلك من البحوث والترجمات العلمية التي تجاوزت الأربعين عملاً.
وأصدر المعهد سنة 1408 هـ/ 1988م في أربع مجلدات أعمال المستشرق الألماني كارل شوي، ضمن سلسلة دراسات في تاريخ الرياضيات والفلك عند العرب والمسلمين، وتتضمن المجلدات إعادة طبع لأبحاث كارل شوي التي نشرت ما بين سنة 1911 وسنة 1926م، وقد ولد شوي سنة 1877م، ودرس الجغرافيا الرياضية عند العرب والمسلمين، ومات سنة 1925م، وكتب دراسات عن الساعات الشمسية عند العرب، ومعرفة أوقات العبادات عند المسلمين، ومقالة للحسن بن الهيثم في استخراج ارتفاع القطب على غاية التحقيق، ومقالة لابن الهيثم في استخراج سمت القبلة، ودراسات لنصوص القانون المسعودي للفلكي محمد بن أحمد أبي الريحان البيروني، وترجمة مقالة لابن الهيثم في ماهية الأثر الذي في وجه القمر من اللغة العربية إلى اللغة الألمانية استناداً على مخطوطة في مكتبة الإسكندرية. وغير ذلك كثير من الترجمات، ونقد أخطاء بعض المستشرقين.
وتمت إعادة طباعة مجموعة المقالات التي جمعتها السيدة دروتيا جيركه من مقالات وترجمات وبحوث المستشرق الألماني آيلهارد فيدمان في تاريخ العلوم العربية والإسلامية المنشورة من سنة 1912 حتى سنة 1927م، وصدرت عن المعهد في ثلاثة مجلدات سنة 1404 هـ/ 1984م، وأرفق المجلدان بفهرس تحليلي لمقالات فيدمان التي نشرت في المجلدات الثلاثة التي نشرها المعهد وعددها 153 ما بين دراسة وترجمة.
والمقالات الموجودة في المجلدين اللذين نشرا في إرلانجن سنة 1970م. ووردت في المجلد الأول 9 مقالات نشرت ما بين سنة 1876 وسنة 1882م، وهي في تاريخ العلوم الطبيعية عند العرب، وأولها حول الحجرة المظلمة عند ابن الهيثم، والثانية حول كتاب ميزان الحكمة للخازني، والثالثة حول رسالة ابن الهيثم في الضوء، والرابعة حول القوة المغناطيسية، والخامسة حول المرايا المحرقة عند ابن الهيثم وثابت بن قرة وغيرهما، والسادسة حول بعض مسائل البصريات عند ابن الهيثم إلخ..
وفي سنة 1906م يتحدث حياة ونشاط ابن الهيثم في مجالات الرياضة والفيزياء، والميكانيكا، والفلك والفلسفة والطب، ويترجم ترجمة كاملة لما رواه ابن أصيبعة في كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء، كما يترجم رسالة لابن الهيثم في موضع المجرة في السماء، وفي سنة 1909م يترجم مقالة ابن الهيثم في المرايا المحرقة في الدائرة، ويصف كتاب تنقيح المناظر لذوي الأبصار والبصائر لابن الهيثم اعتمادا على مخطوطة لايدن المتضمنة شرح كمال الدين الفارسي على المناظر، ويترجم الفصول الأولى من المناظر، وغير ذلك كثير مما يخص العلم والعلماء العرب والمسلمين.
وتضمنت مقالات المجلدين اللذين نشرا سنة 1970 في إرلانجن 79 مقالة، فقد وردت في المجلد الأول مقالة من سنة 1902 في تاريخ الكيمياء عند العرب، وفي سنة 1904 توجد دراسة حول تاريخ العلوم الطبيعية عند العرب والمسلمين، في المغناطسية والظواهر الكهربائية، والمشاهدات البصرية، والمرايا المحرقة عند ابن الهيثم، وفي سنة 1909 ينشر قول ابن الهيثم في استخراج مسألة عددية، ويعتمد على مخطوطة في المكتب الهندي في المكتبة البريطانية في لندن، ويبحث في نظرية ابن الهيثم في تعليل قوس قزح في مقالتين سنة 1910م، ومقالة سنة 1914م، ويترجم رسالة ابن الهيثم في صورة الكسوف، وقد خصص دراسات للبيروني، والقزويني، وعبد الجبار الخرقي، وقطب الدين الشيرازي، وغيرهم من العلماء.(5/163)
وتضمنت هذه السلسلة أيضا أبحاث ودراسات المستشرق السويسري هاينرش سوتر الذي ولد سنة 1848م، ومات سنة 1922م، وبدأ تعلم اللغة العربية عندما بلغ سنّ الأربعين، ثم استمر بالكتابة ثلاثين سنة في تاريخ الرياضيات والفلك عند العرب والمسلمين، ونشرت بحوثه ما بين سنة 1892 وسنة 1922م، وقد أعاد طباعتها المعهد في مجلدين سنة 1406هـ/ 1986م، ولهذا المستشرق كتاب بعنوان: الرياضيون والفلكيون العرب وكتبهم، ويتضمن معلومات عن 500 عالم مع ذكر أماكن وجود مخطوطات كتبهم وأرقامها المعروفة، وبعد إصداره بسنتين أصدر له ملحقا، ومازالت كتبه مرجعا للدارسين، ومن ضمن أعماله ترجمة رسالة لابن الهيثم في تربيع الدائرة، وقد شر نصها العربي مع الترجمة الألمانية، مع الرسوم الهندسية، ويقع النص العربي في 7 صفحات، وقد لطش تلك الرسالة أحد الدكاترة العرب، ولم يذكر المترجم الأصلي، وهكذا يفعلون.
المحور الثالث: سلسلة الكتب والدراسات في الرياضيات الإسلامية، والفلك الإسلامي، وتتكون من دراسات، وإعادة طباعة كتب عربية وأجنبية تخص العلوم العربية والإسلامية، ولقد شاهدت مما صدر من هذه السلسلة 113 مجلداً، وكان المجلد الأخير إعادة طباعة طبعة مدريد سنة 1867م، وهو القسم الخامس من كتب معرفة الفلك للملك ألفونصو العاشر القشتالي، الذي ولد في قلعة بورغوس الإسبانية سنة 1221 ومات سنة 1248م في إشبيليا، وقد نشر كتبه وعلق على طبعتها الأصلية مانويل ريكو سِنوبَس، ونشرت مجلداتها ما بين سنتي 1863 و 1867م، وقد طبع المعهد من كل مجلد خمسين نسخة فقط لا غير، والكتب مزدانة بالرسوم، وهي معربة، ومقتبسة من علوم المسلمين التي كانت مزدهرة في ذلك الوقت.
أما المجلد الرقم: 107 من هذه السلسلة الرياضية فهو كتاب: التذكرة بأصول الحساب والفرائض، تأليف علي بن الخضر بن السن العثماني القرشي، الذي ولد سنة 411 هـ/1020م، ولما بلغ السابعة والثلاثين من العمر توفي سنة 459 هـ/ 1067م، وكان من العلماء المحدثين الدمشقيين حسبما يذكر ابن عساكر في تاريخه، ومخطوطة الكتاب الأصلية موجودة في مكتبة عارف حكمت في المدينة المنورة تحت الرقم: 259، فرائض/10، وتقع المخطوطة في 298 صفحة، وتاريخ نسخها يعود إلى سنة 668هـ/ 1269م، وقد ترجم هذا الكتاب ونشره مع الأصل التصويري أولرش ربشتوك سنة 1422 هـ/ 2001م، ويتناول الكتاب عرض أصول الحساب، والعمليات الحسابية التي تفيد في الفقه، والفرائض، وأنظمة التقويم المتنوعة.
ويتضمن المجلد الذي يحمل الرقم: 100 من هذه السلسلة إعادة طباعة كتاب علم الفلك، تاريخه عند العرب في القرون الوسطى، تأليف كَرلو نَلّينو، وقد صدرت طبعته المصورة في مائة نسخة سنة 1419 هـ/ 1999م، ويقع في 370 صفحة، وهو باللغة العربية، ويتضمن ملخص المحاضرات التي ألقاها المؤلف بالجامعة المصرية، وبجامعة بلرم الإيطالية، وصدرت الطبعة الأولى في روما سنة 1911م.
إن ما أنجزه معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، في إطار جامعة فرانكفورت في جمهورية ألمانيا الإتحادية يوضح لنا مدى اهتمام غير العرب بهذا التراث العربي الإسلامي اليتيم، ونظراً للنهضة التكنولوجية في مجالات النشر الإليكتروني، فإننا نتمنى أن تتولى إحدى المؤسسات المعنية نشر كافة المنشورات التي نشرها المعهد بواسطة الأقراص المدمجة (سي دي) وحتى توفيرها للباحثين عبر شبكة الإنترنت العالمية، ولا سيما أن النشرات التي صدرت عن المعهد محدودة الأعداد مما يجعلها نادرة، وفائدتها العظمى تسهيل إنتاجها إليكترونيا بعدما ما تم جمعها خلال العقود الماضية، وهنالك فائدة أخرى وهي كشف المؤلفين العرب الذين يسطون على هذه الأعمال، ويتظاهرون بالعبقرية الفريدة مستغلين عدم اطلاع الآخر
=============
دور العقيدة الإسلامية في بناء الحضارة
د. علي محيي الدين القرة داغي
أستاذ ورئيس قسم الفقه والأصول ـ قطر
تكفل القرآن الكريم والسنة النبوية بشرح العقيدة وما يحتاج إليه المسلم من العلم بعالم الغيب بأدلة وبراهين مقنعة، ثم أمر الإسلام المسلم بأن لا يخوض في عالم ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقيا) بل يشغل عقله وفكره بعالم المادة والطبيعة لإنتاج العمل الصالح وخدمة الإنسان وتعمير الكون في ضوء منهج الصلاح، ولذلك اهتدى المسلمون إلى المنهج التجريي الذي أخذه الغرب فيما بعد وبنى عليه حضارته القوية.
لذلك تمتاز العقيدة الإسلامية بهذه المميزات التالية:
1ـ وضوح الرؤية لكل ما يحتاج إليه الإنسان.
2ـ الطمأنينة والسكينة والقناعة من خلال الإيمان بالقضاء والقدر.
3ـ فهم الأشياء على حقيقتها.
4ـ الصبر والجرأة والشجاعة في مواجهة الشدائد وعدم الانهيار أمام المصائب مهما كانت كبيرة وعدم الطغيان والتجبر والتكبر مهما أقبلت الدنيا على الإنسان كما قال تعالى: (لِكَيْلا تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ) (الحديد 23)، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير إن أصابته سراء فشكر فكان خيرا، وإن أصابته ضراء فصبر فكان خيرا له، وليس ذلك لغير المؤمن).
5ـ الإيمان بالمساواة بين البشر وتحقيق العدل والتكافل الاجتماعي، لأن ربهم واحد فهو خلقهم، من أصل واحد، وأوجب عليهم ما يحقق العدل والخير للجميع.
التصور الشامل للكون
الكون مخلوق لله تعالى وبين القرآن بعض تفاصيل هذا الخلق حيث كان دخانا، ثم ماء، ثم كان شيئا واحداً ففتقه، فقال تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ وَهِىَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ) (فصلت 11) ، وقال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوآ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ) (الأنبياء 30).
هذه المخلوقات خلقت لغاية وهدف دون عبث (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار) (آل عمران 191)، (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ) (الأنبياء 16) ، وقال تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النَّارِ) (ص 27) ، وقال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) (المؤمنون 115).
وقد خلق الكون على تمام الإتقان والنظام ودقة التقدير وشدة الإحكام واهتداء كل شيء قال تعالى: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) (النمل 88)، وقال تعالى: (فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ) (الطارق 5)، وقال: (وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) (الفرقان 2)، وقال: (وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى) (الأعلى 3)، وقوله: (أَعْطَى كُلَّ شَىْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (طه 50).(5/164)
وأن المخلوقات خلقت لنفع الإنسان قال تعالى: (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا) (النحل 30) فهذا التصور الشامل يساعد الإنسان على التعمير والإبداع والإنتاج، لأن العلم والمعرفة هما الأساس للإبداع، ومن جانب آخر فإن الإنسان المسلم لا يحتاج إلى أن يشغل عقله وتفكيره في عالم الغيب، لأن المعلومات حوله كافية، لذلك يسخر كل عقله وطاقاته للتعمير المادي في حين لو انشغل عقله بعالم الغيب لما استطاع أن يبدع في عالم المادة.
قانون السببية في الخلق واحترام السنن:
يقوم الخلق كله على قانون السببية فقال تعالى: (أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَىْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) (الطور 35)، (فَأَتْبَعَ سَبَبًا) (الكهف 85)، وقد أقر الإسلام هذا القانون في إطار متوازن مع الإيمان بقدرة الله تعالى وإرادته دون تعارض ولا تصادم، ولذلك فرق بين التوكل والمطلوب الذي يعني الاعتماد على الله والإيمان بقدرته، ثم الأخذ بجميع الأسباب المتاحة، وبين التواكل المنبوذ الذي يعني التكاسل وإهمال الاخذ بالأسباب وبالتالي الفشل والخسران.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع تصرفاته وحركاته وفتوحاته يعتمد على جميع الأسباب المتاحة بعد التوكل على الله تعالى حيث لم يهمل أي سبب متاح، ففي هجرته خرج بشكل اعتمد فيه على كل وسائل الإخفاء عن قريش بما لا يدع أي مجال للشك في أن الأخذ بالأسباب مطلوب حتى للأنبياء، وكذلك في غزوة بدر حتى استفاد من الشمس حيث جعلها خلفه حتى تطلع متجهة نحو عيون المشركين، وقد لبس في غزوة أحد درعين وتعويدا للاخذ بالأسباب، حيث كانت سيرته العطرة تجسيدًا لهذا التوازن الرائع بين الإيمان بالله والتوكل عليه وبين الأخذ بالأسباب المشروعة المتاحة.
بل إن القرآن الكريم إضافة إلى أمره الأخذ بالأسباب وإعداد القوة ما استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه، فإنه قد حدد النسبة في البداية بواحد من المسلمين إلى عشرة من المشركين، ثم خفف إلى واحد إلى اثنين فقال تعالى: (الآنَ خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئِتَيْنِ) (الأنفال 66) ولم يكلف بأكثر من ذلك، مما يدل على أهمية الكثرة والعدد بجانب القوة المعنوية.
وهذه العقيدة القائمة على الأخذ بالأسباب جعلت المسلمين يبذلون كل جهودهم لتحقيق أسباب القوة والحضارة والتمكين غير معتمدين على الخيال والخرافات، وحتى الكرامات والمعجزات التي إن أتت فهي بفضل الله تعالى، فلم يدخل المسلمون على مر تاريخهم في أية معركة عسكرية أو حضارية معتمدين على المعجزات والكرامات فقط، بل اعتمدوا على الله تعالى ثم على جميع الأسباب الممكنة، ولذلك أراد الله تعالى أن يشهد صحب الرسول صلى الله عليه وسلم هزيمة عسكرية في معركة أحد، حينما خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك الأمر الذي كان يتعلق أيضًا بالأخذ بالأسباب، حيث أمر الرماة أن لا ينزلوا من فوق جبل عينين، لكنهم نزلوا فحدثت المصيبة، فقال تعالى: (أَوَلَمَّآ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ) (آل عمران 165).
ومن هنا استطاع المسلمون أن يحققوا حضارة رائعة خلال أقل من قرنين شهد بتقدمها والابتكارات فيها المنصفون.
قيمة البقاء والفناء
ويعلم المؤمن أنه خالد بروحه وأعماله وإن بليت الأجساد، وأن الدينا مزرعة الآخرة، وأنه يجب عليه أن يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدًا، ولآخرته كأنه يموت غدًا، وبذلك يوازن بين دنياه وآخرته كما أنه يؤمن بأنه لن ينفعه في الآخرة إلا الأعمال الصالحات الباقيات والصدقات الجاريات، ولذلك لن يترك الدنيا إلا وقد ترك أثارًا طبية تبقى بعده من العلم والعمارة لتشهد له في الدنيا والآخرة اقتداء بإبراهيم عليه السلام قدوة الأنبياء حيث دعا ربه فقال: (وَاجْعَل لِّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الآخِرِينَ) (الشعراء 84)، أي ذكرا حسناً، وفقني لأن أترك آثاراً نافعة طيبة يراها الناس من بعدي فيذكروني بالخير حيث بنى الكعبة المشرفة، والمسجد الأقصى فيذكره جميع المؤمنين.
نظرة الإسلام إلى الحضارات
ينظر الإسلام إلى أن الحضارات جميعها تراث إنساني فيه عناصر الخير والشر، والبناء الهدم، والنفع والضرر، وفيه الحسنات والسيئات.
وأن الامة الإسلامية ليست مسؤولة عما جرى لهذه الحضارات الماضية: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (البقرة 134) وإنما الأمة الإسلامية مطالبة بأن تأخذ منها ما هو صالح ونافع وتضيف إليه ما تستطيع إضافته ليكون لها دور وريادة وقدرة على البناء والتمكين.
فالمسلمون مطالبون بأن يأخذوا كل ما هو أحسن من القول والفعل والتراث والعلم، والحضارة (فالحكمة ضالة المؤمن فهو أحق بها أنى وجدها).
وكرر القرآن الكريم (الحكمة) عشرين مرة، فجعل تعليم الحكمة من أهم وظائف الرسول صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: (هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلالٍ مُّبِينٍ) (الجمعة 2)، وقال تعالى: (وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا) (البقرة 269)، وجعل تعليم الحكمة من أكبر النعم على رسوله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: (وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) (النساء 113).
وأمر الله تعالى رسوله، والدعاة أن تكون دعوتهم قائمة على الحكمة فقال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) (النحل 125) قد ربط الله تعالى بين الحكمة وبقاء الملك وشد احكامه وقوته وتطويره فقال تعالى في حق داود عليه السلام: (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَءَاتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ) (ص 20)، بل إن الله تعالى جعل الحكيم من أسمائه وصفاته، وكرر القرآن الكريم هذا الاسم أكثر من مائة مرة.
ومن هذا المنطلق بذل المسلمون جهودًا كبيرة وأموالا طائلة في ترجمة التراث الإغريقي واليوناني والفارسي والهندي إلى اللغة العربية، حتى يحكي أن المأمون كان يوزن المخطوطة بالذهب، فيدفع في سبيلها ووزنها ذهبا، وكان الخلفاء والأمراء يتباهون بكثرة الكتب في مكتباتهم، حتى إن خزانة الكتب بمصر كانت تحوي كتب يزدجرد (ملك الفرس) وأن مكتبة الخليفة عزيز (بمصر عام 386هـ ـ 996م) تحتوي على ستمائة ألف كتاب، وأن الحكم صاحب الأندلس يتكون فهرس مكتبته من أربعة وأربعين جزءا، وأن فهرس كتب الصاحب بن عباد (ت 384 ـ 994م) يقع في عشرة مجلدات ضخام؟، ولم يكن بها إلا أسماء الكتب فقط دون أي تعليق، ويقارن الأستاذ آدم متر هذه الكثرة بقلة الكتب في كنائس الغرب قائلاً: (ولنذكر ما كان في بعض خزائن الكتب في الغرب على سبيل المقارنة: كانت في مكتبة الكانذرائية بمدينة كنستانز في القرن التاسع الميلادي ثلاثمائة وستة وخمسون كتابا، وفي مكتبة دير البندكتيين عام 1032م ما يزيد على المائة بقليل، وفي خزانة كتب الكانذرائية في مدينة بامبرج سنة 1130م ستة وتسعون كتابًا فقط).(5/165)
وقد أمر الله تعالى المؤمنين أن يستفيدوا من حضارات الأمم السابقة، وتأريخهم، وما تركوه، وما آلوا إليه من نتائج، ولذلك ذكر الله تعالى في القرآن الكريم قصصا كثيرة للأمم والشعوب، ثم أمر المسلمين بالعبرة ولاتعاظ وأخذ الدروس والفوائد من كل ما فعلوه (لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِى الأَلْبَابِ) (يوسف111)، بل أمر الله تعالى بالسير في الأرض للنظر في آثار هؤلاء الأقوام فقال تعالى (قُلْ سِيرُواْ فِى الأَرْضِ فَانظُرُواْ..)(النمل 69).
هذا وقد سجل القرآن الكريم كلمات خالدة لأناس حتى ولو لم يكونوا مسلمين، أو مؤمنين بالله تعالى فسجل القرآن الكريم كلمة امرأة عزيز مصر: (إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّى) (يوسف 53). وقول ملكة سبأ (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوآ أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) (النمل 34).
والإسلام لا يكتفي بمجرد الأخذ وإنما بالاتقان والتطوير بناء على أن التوقف هو عين التأخر تنفيذًا لقوله تعالى: (لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) (المدثر 37) ولم يقل (أو يتوقف) لأن التوقف هو عين التأخر.
يضاف إلى ذلك أن الإسلام لا يكتفي بالحسن. بل لابد من الأحسن في كل شيء، الأخذ بأحسن ما يسمع (فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) (الزمر 17، 18)، والجدال بالأحسن (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ) (النحل 125)، والعمل الأحسن (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (الملك 2)، والجزاء بالأحسن (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (النحل 97)، والقول الأحسن (وَقُل لِّعِبَادِى يَقُولُواْ الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ) (الإسراء 53)، والدفع بالتي هي أحسن (ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ) (فصلت 34)، ووجوب اتباع الأحسن (وَاتَّبِعُوآ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ) (الزمر 55)، ووجوب الأخذ بالأحسن (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا) (الأعراف 145).
ومن المعلوم في اللغة العربية أن (أحسن) صيغة تفضيل أي أفضل أنواعه، وأن هذه الصيغة لا تعني الوقف عند حد معين، فما هو الأحسن اليوم قد لا يكون كذلك غداً، لذلك يجب متابعة الأحسن دائمًا، بأن تكون هذه الأمة على أحسن حال في جميع الأمور وهذا يعني أن هذه الأمة لا ينبغي لها إلا أن تكون في مقدمة الأمم والأقوام في كل مجالات الحياة، والإنتاج والإبداع، والخدمات...
والإسلام يؤمن بسياسة التوريث بأن تقوم هذه الأمة بتوريث كل ما عندها إلى الأجيال اللاحقة، كما أنه يفرض على أتباعه أن يجعلوا العلوم بجميع أنواعها للجميع، وأن لا يمنعوه عن أحد كما ورد بذلك أحاديث كثيرة.
وفي الأخير فإن الإسلام ضد الإفساد، ومع الإصلاح فحرم كل العوامل التي تؤدي إلى هدم الحضارات وأوجب الإصلاح، وهذا شعار الأنبياء (إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) (هود 88).
دور الحضارة الإسلامية في الحضارات اللاحقة
لقد أوضح الفيلسوف المعروف جارودي دور الحضارة الإسلامية في الحضارات اللاحقة فذكر أنه عندما رحل الراهب الفرنسي (جربير) للدراسة في جامعة قرطبة قفل راجعًا وقد بلغ من العلم مبلغا صار يتهم بأنه قد فاق الشيطان، ثم أصبح بعدئذ البابا باسم (سلفستر الثاني) وان الحضارة الغربية تدين للعلوم الإسلامية في مجالات الطب والحساب والجبر، والبصريات، والفلسفة، والمنطق، وغيرها، فقد كانت الجامعات الأوروبية في فرنسا وبريطانيا تدرس كتب الرازي، وابن رشد، وابن الهيثم، وغيرهم في القرن السادس عشر في فرنسا، ومنتصف القرن التاسع عشر في انجلترا.
ولم تقف استفادة الغرب من المسلمين عند الجانب النظري بل استفاد من المراصد والخرائط، واكتشاف الأرقام العربية، والصفر والمواد الكيماوية والصيدلة والصناعية ونحوها.
وفي مجال العلوم الإنسانية يتحدث جارودي عن ابن خلدون بأنه مخترع مفهوم علمي عن التأريخ وعن علم الاجتماع، وأن هذه الشخصية لا يمكن أن تظهر من الفراغ، بل تدل على نمو الفكر الإسلامي في عصره في مجال العلوم الاجتماعية.
ويذكر جارودي أن العلوم تجمدت في أوروبا، لأن الكنسية أبدت ريبة تجاه الطبيعة زاعمة أنها تبعد عن الإله، وهكذا استمرت تجارب العلوم عبر تأريخها، بينما انطلق العلم في الإسلام من مبدأ الوحدانية حيث لا مجال للتفريق بين الطبيعة وعلم الكلام والفلسفة والفنون المختلفة، وبين رسالة المسجد والمدرسة، وكانت جامعات القرويين بفاس، والزيتونة بتونس، والأزهر بالقاهرة، وسمرقند، وقرطبة، معالم إشعاع ليست للعالم الإسلامي بل لأوروبا التي تأثرت بها وأسست كليات الطب في سالونيا بايطاليا، ومومباليه بفرنسا على غرار كليات الطب الإسلامية.
وفي مجال الرياضيات كانت مساهمة المسلمين عظيمة في نهضةأورووبا وساعدت على تطوير الحساب والجبر، ولا أدل على ذلك من الأعداد التالية (4444) تكتب على هذا النحو (F I L K S S S M M M M) وكان من الصعوبة بمكان إجراء أية عملية حسابية أو جبرية مع هذه الرموز.
ولم يكن حظ علم الاجتماع أقل شأنا من بقية العلوم، فكان لابن خلدون دور كبير في بلورة الأسس العلمية له، كما تفوق علماء المسلمين على علماء الفلك اليونانيين سواء في مجال الملاحظة أو القياسات. كما عملوا على تطوير الجغرافيا والرياضايات.
===============
صراع الحضارات ومستقبل الدعوة الإسلامية
أ. د. جعفر شيخ إدريس
قُدم هذا البحث لمؤتمر عقدته مجلة البيان بقاعة الصداقة بالخرطوم يوم 17 رجب 1423 هـ الموافق 24سبتمبر سنة 2002
هيمنة الحضارة الغربية
إذا أردنا للحديث عن صراع الحضارات أن يكون حديثا تبنى عليه مواقف فكرية وعملية فيحسن أن لا يكون حديثا عاما، بل يحسن أن نشير فيه إلى وقائع وحالات محددة. لذلك نقول:
ما الحضارات التي يقال إنها تتصارع الآن؟
لكي نجيب عن هذا السؤال يحسن أن نتفق على ما نعنيه بكلمة الحضارة، في بحثنا هذا على الأقل. الحضارة كما نستعملها هنا هي الكلمة العربية المقابلة للكلمة الانجليزية civilization . فالحضارة بحسب ما نراه هنا مكونة من جوهر ومظهر. أما الجوهر فهو معتقداتها وقيمها وأنماط السلوك الشائعة فيها، وأما مظهرها فهو انجازاتها المادية من قوة عسكرية واقتصادية، ونظم سياسية وعمران.
الحضارة بهذا المعنى مفهوم محايد، أعني أنه لا يدل بنفسه على مدح أو ذم، شأنه في ذلك شأن عبارات الأمة، والأئمة، والخُلق والدين وغير ذلك. فالأمة قد توصف بالاستقامة أو الزيغ، والأئمة قد يكونون هداة إلى الحق أو موردين لمتبوعهم إلى النار، والخُلق قد يكون حسناَ وقد يكون سيئاً، والدين قد يكون حقاً وقد يكون باطلاً. وكذلك الحضارة قد توصف بالمادية أو الإيمانية، وبالقوة أو الضعف.
فما الحضارات ـ بهذا المعنى ـ التي تتصارع في عصرنا؟(5/166)
لا نستطيع ـ فيما أرى ـ أن نشير في واقعنا الراهن إلى حضارة ماثلة محددة المعالم إلا حضارة واحدة هي الحضارة الغربية. وذلك أننا حين نتحدث عن الحضارة الغربية نستطيع أن نشير إلى دولٍ قائمة تتمثل فيها هذه الحضارة: فهنالك دول أوربا الغربية، والولايات المتحدة، وكندا، واستراليا ونيوزيلاندا. يجمع بين هذه الدول كونها كلها ذات نظام سياسي واحد هو الديمقراطية الليبرالية العلمانية، وأن بينها علاقات وتعاون، وأن لها تاريخاً واحداً مشتركاً، وأن الديانة النصرانية هي أكثر الديانات انتشاراً بين شعوبها. بل إن هذه الدول لتشترك شعوبها حتى في أزياء رجالها ونسائها، وفي كثير من اذواقها الأدبية والفنية. هذه الدول في مجموعها هي أقوى دول العالم اقتصاداً، وسلاحاً، وتأثيراً إعلامياً. حضارتها هذه هي الحضارة الغالبة المهيمنة على العالم.
هل نستطيع أن نقول مثل هذا عن أية حضارة أخري في واقعنا الراهن؟ كلا. نستطيع أن نشير إلى أقطارٍ أخرى إشارات سلبية بأن نقول إن حضارتها ليست غربية بالمعنى الكامل. فاليابان تشبه دول الحضارة الغربية في نظامها السياسي وفي تقدمها الاقتصادي، وتخالفها في تاريخها، وفي الدين السائد بين أهلها. وهي صديقة للغرب ومتعاونة معه لا مصارعة. وقل مثل ذلك عن الهند.
أما الصين فإنها تشبه الدول الغربية من حيث نموها الاقتصادي، بيد أنها تخالفها في نظامها السياسي والاقتصادي. لكن حتى هذين النظامين ليسا بنابعين من ثقافة صينية أو تاريخ صيني وإنما هما مستوردان من فكر غربي هو الفكر الماركسي.
مجموعة الدول التي كانت تسمى بالاتحاد السوفيتي كانت متشابهة في نظامها السياسي والاقتصادي، وكانت لها قوة عسكرية ورسالة أيدُلوجية ومطامع توسعية، فكانت هي فعلاُ المنافسة للغرب، لكنها حتى في أوج عظمتها لم تكن تمثل حضارة متميزة. أما بعد تفكك اتحادها وسقوط نظامها السياسي والاقتصادي وذهاب بريقها الأيدلوجي، فقد صارت دولاُ ضعيفة تحاول أن تتأسى بدول الحضارة الغربية في أنظمتها، كما تحاول تحسين علاقاتها بتلك الدول، ولا سيما الولايات المتحدة، طمعاً في مالها وجاهها.
ماذا بقي؟ بقيت الدول الإسلامية. هل نستطيع أن نقول إنها تمثل اليوم حضارة بالمعنى الذي وصفنا به الحضارة الغربية؟ نقول آسفين: كلا. فإنه ليس لها نظام سياسي واحد إسلامياً كان أو غير إسلامي، وليست ملتزمة كلها بالإسلام في نظمها الاقتصادية أو التعليمية أو الإعلامية أو غيرها. وليس بينها تعاون حقيقي يذكر رغم انضمامها كلها إلى عضوية المؤتمر الإسلامي.
فليس هنالك إذن حضارة إسلامية قائمة قياماً مادياً يميزها تمييزاً كاملاً عن الحضارة الغربية، ودعك أن تكون في صراع معها. نعم كانت لنا في الماضي حضارة، بل كانت الحضارة الإسلامية هي الحضارة العالمية الوحيدة إلى بداية القرن السابع عشر الميلادي، حضارة اعترف بوجودها وقوتها معاصروها، ويعترف بوجودها المؤرخون والمختصون بالدراسات الإسلامية حتى من الغربيين المعادين.
وعليه فنستطيع أن نقول إنه ليس هنالك في واقع الأمر صراع بين حضارة غربية وأخرى إسلامية، لأنه لا توجد اليوم حضارة إسلامية بالمعنى الذي توجد به حضارة غربية، أو بالمعنى الذي كانت توجد به حضارة إسلامية. فما مشكلتنا مع الحضارة الغربية إذن؟ مشكلتنا أن الحضارة الغربية ليست راضية حتى بهذا القليل الذي تبقى لنا من الحضارة الإسلامية، بل تريد لنا ولغيرنا أن لا نكون عقبة في طريق مصالحها القيمية أو المادية، بل أن نكون تابعين في كل ذلك لها. ومع أنه لا توجد اليوم حضارة إسلامية، إلا أن الحضارة الغربية ذات حساسية بالغة من أية بادرة بعث لتلك الحضارة لسبب تاريخي. إن قادة الفكر الغربي لا ينسون، كما أن كثيرين منا لا ينسون، أن الحضارة الإسلامية كانت كما قلنا هي الحضارة العالمية حتى القرن السابع عشر الميلادي. استمع إلى المستشرق اليهودي برنارد لويس وهو يقول في شيء من شماتة:
ظل الإسلام لقرون طويلة أعظم حضارة على وجه الأرض ــ أغنى حضارة، وأقواها، وأكثرها إبداعا في كل حقل ذي بال من حقول الجهد البشري. عسكرها، أساتذتها وتجارها كانوا يتقدمون في موقع أمامي في آسيا وأفريقيا وأوروبا، ليحملوا ما رأوه الحضارة والدين للكفار البرابرة الذين كانوا يعيشون خارج حدود العالم الإسلامي.
ثم يمضي ليقول:
ثم تغير كل شيء. فالمسلمون بدلا من يغزو الدول المسيحية ويسيطروا عليها، صاروا هم الذين تغزوهم القوى المسيحية وتسيطر عليهم. مشاعر الإحباط والغضب لما عدوه مخالفا للقانون الطبيعي والشرعي ظلت تتنامى لمدة قرون، ووصلا قمتهما في أيامنا.[1]
فقادة الحضارة الغربية يخشون على حضارتهم من كل بادرة إحياء لتلك الحضارة التي كانت سائدة. ومما يزيد من خوفهم قول المختصين منهم في التاريخ الإسلامي، إن للإسلام مقدرة عجيبة على العودة كلما هُزم.
ما الإجراءات التي يجب أن تتخذ لضمان عدم عودته؟ اختلفت الإجراءات في تفاصيلها بحسب الظروف العالمية، وبحسب التكتيكات الوقتية، لكن أمرين استراتيجيين اثنين لم يتغيرا، هما ضمان عدم رجوع الأمة إلى فهم صحيح للقرآن الكريم، وضمان استمرارها ضعيفة محتاجة إلى الغرب، أي ضمان عدم توفر الشرطين اللازمين لتمكين الأمة وبالتالى لحضارتها، وهما الكتاب الهادي والسيف الناصر[2] قال تعالى:
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحديد:25]
في عهد الاحتلال المباشر لبلدان العالم الإسلامي، كان أول ما فعله المستعمرون اقصاء العلم الشرعي عن المدارس والجامعات، وحصره في دوائر ضيقة روعي أن لا يكون لها علاقة بالمجتمع ولا بالعصر. وفي هذا العهد استغلت ثروات البلاد لتغذي مصانع أوربا وتقوي اقتصادها.
بعد انتهاء عصر الاستعمار والدخول في الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي، انشغل الغرب بعدو ماثلٍ أكبر، فلم ير بأساً من التعاون التكتيكي مع بعض حملة هذا الفهم الصحيح كما حدث في أفغانستان. لكن الهدف الاستراتيجي لم يُنس أبدا؛ فقد ظل الغرب الديمقراطي بقيادة الولايات المتحدة هو ـ إلى حد كبيرـ الذي يصنع الحكومات غير الديمقراطية ويدعمها، مراعاة لمصالحه، وخوفاً من أن تكون الديمقراطية ذريعة لوصول الإسلام إلى السلطة.
أمريكا والنظام العالمي الجديد
وبسقوط الاتحاد السوفيتي واستتباب الأمر للحضارة الغربية، دخل العالم مرحلة جديدة، مرحلة القوة العالمية الكبرى الواحدة، التي لا تدانيها من حيث إمكاناتها الاقتصادية والعسكرية والتقنية والإعلامية قوة أخرى. وبدأت تظهر تبعاً لذلك معالمُ نظامٍ عالميٍ جديد، ما تزال تفاصيله محل نقاش كبير في الولايات المتحدة. لكن يمكن تلخيص اتجاهات هذا النقاش في اتجاهين كبيرين: الدعوة إلى الانفرادية، وضرورة الاستمرار في العمل ضمن الأطر العالمية السائدة.
الاتجاه الانفرادي
يرى أصحاب الاتجاه الانفرادي الذي تقوده عصبة ممن يسمون بالمحافظين الجدد، أن تستبد الولايات المتحدة باتخاذ ما تراه من قرارات وسياسات تحقق مصالحها، وتنشر قيمها من غير تقيد بأعراف ولا قوانين دولية، ولا بمؤسسات عالمية كالأمم المتحدة. وهم يعتمدون في تسويغهم لهذا الرأي وتسويقه على أمرين:(5/167)
أولهما: القوة الاقتصادية والعسكرية الهائلة للولايات المتحدة التي لم تعد تدانيها فيها قوة أخرى، هذه القوة التي جعلت الجميع يعترفون بأنه لم تعد توجد الآن إلا قوة عالمية كبرى واحدة. لكن الأعراف الدولية والقوانين العالمية السائدة حتى الآن هي ـ في رأي المحافظين الجدد ـ من مخلفات نظام عالمي قديم، اقتضتها ظروف لم يعد لها الآن وجود. ولذلك فلا جناح على الولايات المتحدة أن لا تلتزم بها مادام الأمر قد استتب لها. إن الولايات المتحدة قد بلغت من القوة شأواً لا تدانيها فيه دولة أخرى. فميزانية وزارة الدفاع هي أكبر من مجموع ميزانيات الدول الاثنتين والعشرين التي تأتي بعدها، ويقولون إنها ستكون بحلول عام خمسة بعد الألفين أكبر من مجموع ميزانيات الدفاع في كل أنحاء العالم! وإذا كانت عادٌ قد قالت فيما مضى "من أشد منا قوة؟" فإن أمريكا تقول اليوم لا أحد أشد منا قوة في الحاضر، ولم يكن أحد أشد منا قوة في الماضي. ولكن كما قال ربنا لعاد، نقول لمن أطغتهم القوة اليوم: "أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة؟"
يقول أصحاب هذا الرأي من المحافظين الجدد: إن على أمريكا أن تكون هي لا المنظمات العالمية، بل ولا حتى حُلفاؤها من الدول الغربية، التي تقرر ما هو حسن وما هو سيء بالنسبة للعالم، وأن تتصرف بحسب حكمها من غير التزام بقرارات يفرضها عليها غيرها. فلسان حالهم يقول "مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَشاد". هذا لا يعني ـ كما يقولون ـ أن لا تستشير الولايات المتحدة غيرها، وأن لا تتعاون مع من يريد التعاون معها، ولكنه يعنى يصورة حاسمة أنه لا أحد له الحق الآن في أن يلزمها بما لا تلزم به نفسها. ولئن لم تفعل هذا فسيكون مثلها كمثل جلفر Gulliver الذي تقيده أقزامُ لليبوت، كما قال أحدهم.
وثانيهما: أن عامة الأمريكان يعتقدون أنهم أصحاب رسالة عالمية. رسالتهم هي رسالة الحرية، فهم لا يرون أنفسهم بأقوى الدول فقط، وإنما هم أخيرها، بل هم خير أمة عرفها التاريخ البشري، فهم بزعمهم أكثر الناس تدينا، وأشدهم استمساكا بالأخلاق الفاضلة. نظامهم السياسي كما يرون أحسن نظام، ودستورهم أحسن وثيقة كتبت في التاريخ، ونظامهم الافتصادي أنجح نظام، وقضاؤهم أعدل قضاء، ونظامهم التعليمي أرشد نظام، ونظامهم الصحي أفيد نظام، بل وسجونهم أكثر السجون إنسانية. أمريكا هي بلد الأحرار وبلد الشجعان وبلد الفرص. وعليه فإن استبدادهم بالأمر سيكون لخير البشرية " لأن الأمريكان كما قال أحد مفكريهم هم "حداة البشرية في سيرها نحو الكمال" لا يملك المرء إلا أن يذكر مرة أخرى مقالة فرعون "مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَشاد".
ولهذا تجد زعماءهم السياسيين يستغلون فيهم هذه النزعة الرسالية وإن شئت فقل الحمية، حمية الجاهلية، فيحرضون شعبهم ـ ولا سيما العسكريين منهم ـ على التضحية من أجل هذه المُثل العليا، لا من أجل المصلحة الوطنية بالمعنى المحدود، لأنهم يعلمون أن الذي يحرك الإنسان هو الاعتقاد في مثل هذه المثل، لا مجرد الدفاع عن أرض أو مصلحة مادية.
وقد ظهر هذا جلياً في الخطاب الذي ألقاه الرئيس جورج بوش لخريجي كلية وست بوينت العسكرية. فمن العبارات التي جاءت في ذلك الخطاب، الذي أنصح بقراءته:
أن أمريكا تدافع عن الحرية، وأن العَلَم الأمريكي حيثما رُفع فلن يكون رمزاً لقوتنا فحسب ولكن للحرية. لقد كانت أهدافنا دائماً أكبر من مجرد الدفاع عن أنفسنا. إننا كلما حاربنا فإنما نحارب من اجل سلام عادل، سلام يختار الحرية الإنسانية. سندافع عن السلام ضد تهديدات الإرهابيين والحكام المستبدين. إننا نريد لغيرنا ما نريد لأنفسنا ــ أمن من العنف، خيرات الحرية، والأمل في حياة أحسن. إن محاربة الإرهاب تحتاج إلى صبر، ولكنها تحتاج أيضا إلى هدف خُلقي. إن أعداءنا اليوم كما كانوا أيام الحرب الباردة شموليون، يؤمنون بمبدأ القوة التي لا مكان فيها للعزة الإنسانية. لقد كان الوضوح الخُلقي ضرورياً في انتصارنا في الحرب الباردة. يرى بعضهم أنه ليس من الدبلوماسية، وربما كان من سوء الأدب، أن نتحدث عن الحق والباطل. لكنني أختلف معهم. نعم إن الظروف المختلفة تقتضي وسائل مختلفة لكنها لا تقتضي أخلاقاً مختلفة. إن الحقيقة الخُلقية واحدة في كل ثقافة وفي كل زمان، وفي كل مكان. إن هنالك صراعاً بين الحق والشر، وستسمى أمريكا الشر باسمه.
لكن الذي يشكو منه كثير من الأمريكان أن هذا الشعور بقيمة أمريكا وتميزها بدأ يضعف جداً في أجيال الشباب الذين هم الآن في المدارس والجامعات. فقد انتشرت بينهم انتشاراً مخيفاً فواحش الإباحية، والشذوذ الجنسي وتعاطي المخدرات، وما استتبعه ذلك من غلبة للاتجاه الفردي والسخرية بالخلق والمثل.
دل استطلاع لبعض المدارس قبل جيل مضى بأن أكبر المشكلات التي يعاني منها الطلاب هي: عدم احترام الممتلكات، والكسل وعدم أداء الواجبات المنزلية، والحديث في الفصل وعدم الانتباه، التراشق بكور الورق المبلول بالبصاق، ترك المنافذ والأبواب مفتوحة. فلما أعيد ذلك الاستطلاع للمدارس نفسها قبل سنوات قليلة، كانت النتيجة أن أكبر المشكلات هي: الخوف من القتل العنيف بالبنادق أو السكاكين في المدرسة، الاغتصاب، المخدرات، الحمل، الإجهاض.[3]
ولهذا صار كثير من الأمريكان لا يرسلون أولادهم إلى المدارس العامة، بل يفضلون لهم التعليم المنزلي
وكثيرا ما يحزن المرء حين يرى مسلما حاز على البطاقة الخضراء فطار بها فرحا إلى أمريكا ليقذف بالبنين والبنات من أطفاله في هذا المستنقع الآسن.
ومع انتشار الثقافة الغربية، وضعف الوازع الديني بدأ هذا الفساد ينتشر في بلدان العالم كله، بما في ذلك بلادنا الإسلامية.
الاتجاه الائتلافي
أما الاتجاه الائتلافي فلا يجادل أصحابه إخوانهم الانفراديين في كون الولايات المتحدة هي القوة العالمية الكبرى الوحيدة، ولا فيما يتميز به الشعب الأمريكي من صفات، لكنهم يرون أن الانفراد غير ممكن عملياً وإن أمكن فليس في مصلحة بلادهم. ومما يذكرونه في هذا الصدد:
• أن ما صار يوصف الآن بالنظام العالمي القديم كان إلى حد كبير من صنع الولايات المتحدة، وقد كان نظاماً ناجحاً حقق لها ما تريد فما الداعي الآن للانقلاب عليه وتقويضه؟
• أن القوة الحربية للولايات المتحدة ذات علاقة وثيقة باقتصادها، واقتصادها ليس أمراً محلياً تستطيع أن تصنع فيه ما تشاء، بل له ارتباط كبير بالأمم الأخري. فالأسلحة لا ينتجها البنتاجون وإنما تنتجها شركات تجارية. لكن هذه الشركات تعتمد في استمرار حياتها على السوق العالمي، بل إن منتجاتها العالية التقانة لها الآن نصيب الأسد في ما يبيعه الاقتصاد الأمريكي في السوق العالمي. على سبيل المثال فإن مبيعات هذه الشركات من الحاسوبات الرفيعة في السوق العالمي تمثل نصف دخلها.
• أن هذا سيؤدي إلى فوضى عالمية. فإذا جاز لنا أن نبدأ بشن حرب وقائية على العراق، فلماذا لا تفعل الصين ذلك بالنسبة لتايوان، أو الهند بالنسبة لباكسان؟
• وإذا أعطينا أنفسنا حق تغيير النظم، فهل سنعطيها حق الإتيان بنظم نرضى عنها؟ ماذا إذا لم يختر الناس من نريد؟ هل نعود لعصر الاحتلال؟
كيف يكون التعامل مع المسلمين، ولا سيما العرب منهم؟(5/168)
حوادث الحادي من سبتمبر أكدت للغرب، وللولايات المتحدة بالذات خطر الإسلام لأنه مهما قيل عن الخطأ الذي ارتكبه من قاموا بتلك العملية إلا أن الحقيقة تبقى أنهم شباب متدينون، وأنهم ابتغوا بعملهم الشهادة، وأنهم فعلوا ما فعلوا انتقاماً للمسلمين من ظلم الحضارة الغربية متمثلة في دولتها الكبرى وقائدتها. لذلك عاد الحديث جذعاً عن المواقف التي ينبغي أن تُتخذ لدرء الخطر الإسلامي. ومن المسائل التي ذكروها في ذلك
المسألة الأولى: محاربة ما أسموه بالفهم الحرفي للإسلام
ما أسموه بالفهم الحرفي للإسلام هو في رأيهم الذي يغذي عداوة المسلمين للحضارة الغربية. ومن هنا كثر الحديث عن الإسلام الراديكالي، وعن الوهابي وعن السلفية . يقولون إنه لا يمكن أن يقال للمسلمين تنكروا لدينكم، ولكن الذي يقال لهم هو أن يفهموه فهماً لا يجعله في صدام مع مقومات الحضارة الغربية. مشكلة المسلمين المتشددين، بحسب هذا الرأي، هي أنهم رافضون للحداثة modernity التي تتطلب ـ فيما تتطلب ـ أن تكون الدولة دولة علمانية تعددية. فالمطلوب من المسلمين إذن أن يفعلوا ما فعله الغرب ليكتمل لدينهم التصالح مع هذه الحداثة كما تم للمسيحية والنصرانية.
كيف يكون ذلك؟ يكون
أولاً: بأن لا يعتقد المسلمون أن نصوص دينهم صالحة لكل زمان ومكان بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة، بل عليهم أن يتذكروا كما فعل الليبراليون من النصارى واليهود، أن هذه النصوص ذكرت في ظروف تاريخية وثقافية معينة، فلا يمكن أن تكون بحرفيتها مناسبة مع ظروف تاريخية وثقافية مختلفة عنها. ما الحل إذن؟ الحل هو أن نعيد تفسير هذه النصوص لتتناسب مع العصر، بأن نقول حتى عما يبدو أنه وصف لواقع كقصة قوم لوط إن هذا إنما كان كلاماً مجازياً. فلم يحدث أن دمر الله تعالى قرى أو عاقب قوما لتوجههم الجنسي. (قال أوريلى مدللا على أن القصة كانت رمزية لا حقيقية: لماذا لم يدمر الله سان فرانسسكو إذن؟)
وثانياً: بأن يفهم المسلمون بأن الحقيقة الدينية حقيقة نسبية، لأنك إذا اعتقدت أن الحق كله معك ـ كما يعتقد المسلمون اليوم ـ فستعتقد أن مخالفيك على باطل ويستحقون لذلك أن يقتلوا، هكذا قال الرئيس السابق كلنتون في محاضرة ألقاها في جامعة جورج تاون بواشنطن بعد أحداث الحادي عشر. وهذا يعنى أن يكون الأفراد داخل الدين الواحد متسامحين مع مخالفيهم في فهم دينهم، لأن لكل إنسان الحق في أن يفهم دينه كيف شاء، وأن يرى الحقيقة من منظاره. وعلى المنتمين إلى الأديان المختلفة أن يكونوا أيضا متسامحين مع مخالفيهم معتقدين بأن كل دين يهدي إلى الحقيقة بطريقته .
وثالثاً: أن يُمنع بالقانون نشر مثل هذا الفكر وتغلق كل المؤسسات التعليمية التي تنشره، وأن يعاقب الذين يروجون له أو يمولون مؤسساته.
ومما يساعد الغرب على تحقيق هذه الأهداف أن الأفكار التي تعتمد عليها قد شاعت منذ زمان بين المثقفين المسلمين، بل بين بعض الإسلاميين منهم . فقد صار الكثيرون منا جزءاً من الحضارة الغربية في فكرهم وقيمهم وطموحاتهم السياسية وعاداتهم وتقاليدهم بل وأزيائهم الرجالية والنسائية، لأنهم صاروا يعتقدون أن الحضارة الغربية هي حضارة العصر التي لا يكون الناس متحضرين إلا بها.
المسألة الثانية: معالجة الأسباب الاجتماعية التي أدت إلى معاداة المسلمين للغرب
يرى بعض المفكرين السياسيين الغربيين أن هنالك أوضاعاً اجتماعية وسياسية بغيضة إلى الناس في العالم العربي بالذات، وأن الغرب ـ ولا سيما الولايات المتحدة ـ هو ـ في نظرهم ـ الذي يقف وراء هذه الأوضاع الظالمة ويدعمها فمن الطبيعي أن يكرهوه. ماذا نفعل إذن؟
يقول بعضهم: إن الحل واضح هو أن نعمل على تحويل أنظمة العالم العربي إلى انظمة ديمقراطية حقيقية يكون الحكم فيها للأغلبية، وتصان فيها الحريات، ويحارب فيها الفساد المالي. يقول الرئيس بوش في خطابه الشهير في كلية وست بوينت:
عندما يأتي الأمر إلى حقوق الناس رجالا ونساء وحاجاتهم فليس هنالك صدام حضارات. إن متطلبات الحرية تصدق على أفريقيا وأمريكا اللاتينية والعالم الإسلامي كله. إن جماهير الناس في الأمم الإسلامية يريدون ويستحقون أن يعطوا كل الحريات والفرص التي للناس في كل أمة. وعلى حكامهم أن يستجيبوا لطموحاتهم.[4]
يقول آخرون: لكن لا تنسوا أن أغلبية الناس في هذه البلاد كارهون لنا، وعليه فإن الحكومات التي يختارونها في النظام الديمقراطي ستكون معادية لنا.
يقول أصحاب الاقتراح أولاً إن هذا الامر ربما يكون كذلك في البداية، ولكن سيظهر لهذه الحكومات أن من مصلحتها ومصلحة شعوبها أن تتعاون مع الغرب وتكون صديقة له. وثانياً إنه ليس من الصعب علينا أن نأتي بحكومات أغلبية حقيقية تكون في الوقت نفسه صديقة لنا. هنالك وسائل كثيرة لتحقيق ذلك.
هذا ما يراه بعض الساسة الأمريكان أما نتنياهو ـ رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق ــ فله نصيحة أخرى للولايات المتحدة. فهو ينصحها بأن تغزو العراق وتغير نظامها من غير اعتبار للأمم المتحدة، وأما بالنسبة لإيران فإنه يقول فض الله فاه
إنه بإمكان الولايات المتحدة أن تُحرض على إحداث ثورة ضد النظام الإسلامي المحافظ في إيران بأن تستغل وجود الآلاف المؤلفة من الأطباق الفضائية فيها لتوجيه برامج أمريكية قذرة كتلك التي تذيعها قناة فوكس يظهر فيها شباب وشابات حسان في حالات مختلفة من حالات العري، يعيشون حياة مادية بهيجة ويمارسون الجنس بطرق إباحية. "هذه مادة هدامة. إن الأولاد في إيران سيحبون أن تكون لهم مثل تلك الملابس الجميلة التي يرونها في تلك الأفلام. سيحبون أن تكون لهم أحواض سباحة وأساليب تلك الحياة الفاتنة[5] [6]
المسألة الثالثة: القضية الفلسطينية
قضية العلاقة مع إسرائيل قضية حساسة بالنسبة لغالبية السياسيين الأمريكيين، لكن هذا لم يمنع بعضهم من أن يقول إن موقف الولايات المتحدة المنحاز لإسرائيل هو من الأسباب الرئيسة لعداوة الشعوب الإسلامية ولا سيما العربية للولايات المتحدة. وأنه ما لم تحل هذه القضية حلا يراه العرب والمسلمون منصفا فإن هذه الكراهية ستستمر ، وسيستمر باستمرارها الإرهاب.
الفكر الأمريكي المعارض
ما ركزنا عليه حتى الآن هو الاتجاهات الشائعة او الغالبة في أمريكا، لكن أمريكا بلد شاسع لا يسود فيه اتجاه واحد سيادة كاملة، بل ما من رأي ديني أو سياسي أو اقتصادي شائع، إلا وله معارضون أشداء قلَّ عددهم أو كثر. وكثيراً ما تكون آراء الفئات المعارضة هذه أقرب إلى الهدي الإسلامي من غيرها. وإليك بعض الأمثلة
• فمنهم من يرى كما نرى أن ما يُسمى بالفهم الحرفي للنصوص الدينية هو الفهم الصحيح الأمين لها. فنحن نوافقهم في المنهج ونستطيع لذلك أن نناقشهم في نصوص كتبهم التي نراها مجانبة للصواب، لكننا لا نستطيع أن ندخل في حوار مثمر مع من كلما ناقشته في صحة نص قال إنه مجازي وأعطاه من المعاني ما يوافق هواه.
• بل إن من هؤلاء من يدعو كما ندعو إلى تطبيق الحدود المذكورة في العهد القديم كرجم الزاني المحصن، وقتل المرتد، حتى قال أحد الصحفيين المعارضين إذا طبقنا هذه القوانين فسنقتل الغالبية العظمى من الشعب الأمريكي!
• ومنهم من يرى أن العلمانية هي العدو الأكبر، ومادام المسلمون يوافقوننا على ذلك فيجب أن نعدهم أصدقاء لا أعداء في مواجهة هذا العدو.(5/169)
• ومن غير المتدينين، بل من العلمانيين من يدرس عيوب المجتمع الأمريكي دراسة علمية ممتازة، ينبغي أن يتعلم منها المسلمون المبهورون بالحياة الغربية، فالعاقل من اتعظ بغيره. من هؤلاء فوكوياما في كتابه الانفراط العظيم.
• وهنالك من ينتقد الممارسة الواقعية للديمقراطية ويرى أنها قد حادت عن المفهوم الصحيح لها. إن الكتب والدراسات في هذا المجال تعد بالمئات إن لم نقل الألوف.
• وهنالك من ينتقد الرأسمالية إما أصلا أو ممارسة.
• وهنالك من لا يداهن في نقده للسياسة الأمريكية الخارجية ولا سيما فيما يتعلق بإسرائيل.
• ثم هنالك إخواننا الدعاة المسلمون الذين يهدي الله تعالى بهم ما يقدر بخمسين شخصا في كل يوم! فإذا كانت الحضارة الغربية قد غزت العالم الإسلامي، فإن الإسلام يدخل الآن قلوب الآلاف المؤلفة ممن هم في أرضها، لأن الناس يجدون فيه ما لا يجدون في حضارته رغم قوة سلطانها المادي ورغم سيطرتها وقوة تأثيرها على بقية بلدان العالم.
البعث الإسلامي الحضاري
إذا لم تكن في الأرض اليوم حضارة إسلامية قائمة فعلاً، فإن فرص بعثها ما زالت متوفرة ومشجعة. إن المسلمين ما زالوا بحمد الله تعالى قادرين على الأوبة إلى الكتاب الهادي، وقادرين على السعي لامتلاك السيف الناصر. وذلك:
أولاً: لأن انحراف الأمة عن دينها لم يكن ـ وما كان له أن يكون ـ ردة كاملة عامة عن الدين الحق. فهذا دين تكفل الله تعالى بحفظ كتابه كما تكفل بحفظ العاملين من علمائه. فإذا كان الله تعالى قد قال، وقوله الحق "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" فإن رسوله صلى الله عليه وسلم قد قال ـ غير ناطق عن هوى ـ لا تزالُ طائفة من أمتي ظَاهرين على الحقِ لا يَضُرُهم من خالَفهم ولا من خَذَلهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون.
ثانياً: لأنه إذا كان جوهر الحضارة ـ أو المدنية ـ وأساسها الذي يُشيَّدُ عليه بنيانها هو رسالتها، هو المعتقدات والقيم التي تستمسك وتعتز بها، فإن الجوهر والأساس الإسلامي ما يزال أقوى من منافسه العلماني الغربي. إن الإسلام يما يزال يبرهن عبر تاريخه الطويل بأنه فعلاً فطرة الله التي فطر الناس عليها. فليس على وجه الأرض دين عبر الحواجز الجغرافية والثقافات المحلية ليبقى بين المستمسكين به ـ في جملته ـ الدين الذي أنزله الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم. فكتابه هو الكتاب الذي أنزل على رسوله، وصلوات الناس هي الصلوات كانت تقام في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وزكاته هي الزكاة، وحجه وصيامه هما كما كانا في أشكالهما ومواقيتهما. وبالرغم مما أضيف إلى هذا الدين من بدع إلا أنه يظل رغم ذلك أكثر الأديان احتفاظاً بحقيقته، وقد كان هذا وحده مما أغرى بعض الباحثين عن الحق بالدخول فيه.
ثالثاً: وما يزال هذا الدين يؤكد هذه الحقيقة بسرعة انتشاره المذهلة حتى في موطن الحضارة الغربية. فهم يقولون إن معدل سرعة انتشاره أكبر من معدل سرعة الزيادة في سكان العالم.
رابعاً: لأنه باعتباره دين الفطرة، ما يزال هو الدين الذي يجد الناس في آيات كتابه عِلماً بالإله الحق الموصوف بكل صفات الكمال المُنَزَّه عن كل صفات النقص من الولد والوالد التي تطفح بها بعض الأديان، وهدياً بأنه هو وحده المستحق للعبادة الهادي إلى أنواعها وكيفياتها. ويجدون في آيات كتابه وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم عِلماً بحقيقة أنبياء الله وما كانوا عليه من كمال بشري أهَّلَهُم لأن يكونوا الأسوة التي يتأسى بها كل سالك طريق إلى الله. لكن الأديان المحرفة تجعل من بعضهم آلهة وأنى للبشر أن يتأسى بالإله؟ وتنسب إلى بعضهم جرائم يستنكف عن ارتكابها عامة عباد الله، فأنى يكونون أسوة لغيرهم؟
خامساً: ولأنه دين الفطرة فلا يجد الناس فيه تصادماً بين مقتضيات العقول التي فطرهم الله عليها، ولا مخالفة لحقائق الخلق التي يشاهدونها ويجربونها. فالعقل فيه نصير الدين لا خصيمه، كما هو حاله في بعض الأديان. والعلم التجريبي يشهد له ولا يشهد عليه كما يفعل مع بعض الأديان.
سادساً: ولأن الناس كما يجدون فيه حاجتهم إلى الإيمان الخالص والعبادة السليمة والأخلاق الحسنة فإنهم يجدون فيه هدياً لتنظيم الحياة الاجتماعية تنظيماً يتوافق مع ذلك الإيمان وتلك العبادة وهاتيك الأخلاق، ويعبر عنها ويؤكدها ويحميها؛ فهو الدين الوحيد الذي لا يحتاج إلى علمانية تكمل نقصه، أو تتصالح معه.
سابعاً: وهو الدين الذي ما يزال يشهد لأحقيته سلوك المهتدين من أبنائه. فهؤلاء هم أكثر أهل الأرض ذكراً وعبادةً لله، وأبعدهم عن مساخط الله، وأكثرهم بذلاً لأنفسهم وأموالهم في سبيل الله، وأكثرهم رحمةً بصغير وتوقيراً لكبير وصلةً لرحم.
وقد اعترف بهذه الحقيقة حتى بعض علماءِ النصارى، ومن أعجبهم بيتر كريفت أستاذ الفلسفة بكلية بوستن، الذي يحث إخوانه النصارى على أن يعدوا المسلمين أصدقاء وأعوانا لهم في حربهم ضد العلمانية التي يرى فيها العدو اللدود للدين والخطر الأكبر على الحياة الاجتماعية. يقول هذا الرجل:
لماذا ينتشر الإسلام بهذه السرعة المذهلة؟ سيسارع علماء الاجتماع وعلماء النفس والمؤرخون والاقتصاديون والديمغرافيون والسياسيون إلى تفسير ذلك النمو تفسيرا دنيويا كل بحسب تخصصه. لكن الإجابة بدهية لكل مسيحي ذي صلة بالكتاب المقدس: إن الله تعالى يفي بوعده، ويبارك أولئك الذين يطيعون أوامره ويخشونه، ويعاقب الذين لا يفعلون ذلك. إن الأمر في غاية من البساطة التي يعسر على الأساتذة الأكاديميين رؤيتها: قارن بين كميات الإجهاض، وزنا المحصنين وغير المحصنين والشذوذ بين المسلمين والنصارى. ثم قارن بين كمية العبادة.[7]
ثامناً: ولأن كثيراً من الناس في الغرب بدؤوا يشعرون بالخطر الذي تسوقهم إليه الحياة العلمانية المجردة عن الدين، خطر تمكينها للاتجاه الفردي في الناس، وإضعافها للوازع الخلقي، وعبادتها للجنس، وتحويلها الحياة إلى جهد لا معنى له ولا غاية. كل هذا يسبب للناس أنواعاً من الشقاء الروحي، فذهب الكثيرون منهم يبحثون عن دين ينقذهم فلم يجد كثير ممن عرف الإسلام منهم أكثر منه إجابة لمطالبهم الروحية والخلقية بالطريقة التي أشرنا إليها سابقاً.
وعليه فإذا كانت الحضارة الغربية قد غزت بلادنا فكرياً وخلقياً وجعلت جزءاً من الصراع بيننا وبينها صراعاً على أرضنا، وبيننا وبين أقوامنا، فإن الإسلام الآن يفعل الشيء نفسه، إنه يغزو أرض الحضارة الغربية ويجعل الصراع بينه وبينها صراعاً على أرضها وبينها وبين من كانوا بالأمس حماتها المدافعين عن حياضها.
تلك بعض فرص الدعوة إلى الإسلام وإلى بعث حضارته، وهنالك وسائل كثيرة لاستغلال هذه الفرص، لكنني لا أريد الآن الدخول في تفاصيلها، ولا في تفاصيل السعي لامتلاك السيف الناصر، فلتفاصيل كل ذلك مجال آخر. وإنما أريد أن أختم هذه المقالة بالتذكير بقواعد للعمل الإسلامي لما أرى من خطورتها ومن عدم الاهتمام الشديد بها. وهي
أولاً: أن أمر العودة للإسلام وحضارته ليس بالحمل الخفيف الذي يمكن أن ينهض به أفراد، أو تقوم به جماعة واحدة أو دولة واحدة، وإنما هو عبءٌ ثقيلٌ يجب أن تتضافر على حمله الجهود. لذلك لا بد أن يقنع كل فرد عامل للإسلام وكل جماعة وكل دولة بأن التعاون بين الساعين لتحقيق هذا الهدف أمر لازم، وأن التشاور فيما بينهم أول خطوات ذلك التعاون، ثم يأتي التنسيق وتوزيع المهام.(5/170)
ثانياً: وإذا كان التعاون أمراً لازماً فيجب أن يكون السعي لبعث الحضارة الإسلامية أبعد شيء عن الحزبية. إن بعض الناس يخلط بين العمل الجماعي المنظم ـ وهو أمر لا بد منه ـ وبين الحزبية التي تحول التنظيم إلى غاية كثيراً ما يُضحى في سبيلها بالغاية التي أُنشئ من أجلها والتي كان في البداية مجرد وسيلة إليها. الحزبية أن تحصر علاقات الأخوة الإسلامية وواجباتها في من دخلوا ضمن إطار التنظيم، وأن لا يعان على عمل خير بل ولا يعترف به إلا إذا كان من منجزات الجماعة المنظمة.
ثالثاً: الالتزام الصارم الشديد بقيم العدل والصدق والأمانة والوفاء حتى في معاملة الأعداء. لأن هذه القيم قيم مطلقة لا تختص بحال دون حال. قال تعالى:
ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا. وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان.
قال المفسر الكبير ابن كثير: إن العدل واجب على كل أحد، مع كل أحد، في كل حال؟
لكن بعض العاملين للإسلام اليوم يحيدون عن هذه القيم لأوهي الأسباب، ويسلكون سلوك السياسيين الميكيافليين. ناسين أن هذه القيم قيم يحبها الله، وأن الالتزام بها ـ حتى مع الأعداء ـ عبادة لله. وأنك لا يمكن أن تنصر دين الله بارتكاب مساخط الله.
رابعاً: على الأفراد وعلى الجماعات غير الحكومية أن تلتزم التزاماً معلناً وصارماً بالطرق السلمية. هذا هو الذي يدل عليه شرع الله، وهو الذي ينتهي إليه كل من اتعظ بالتجارب المريرة للجماعات التي دخلت في صراعات دموية لم تكن لها بكفء. إنك لا تحمل السلاح على من أنت تحت سلطانه، وإنما الذي يشرع لك هو الدعوة مع كف الايدي وإقامة الصلاة، فإذا كانت لك أرض مستقلة وقوة مادية فآنذاك:
أذن للدين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير.
اللَّهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
أستغفر الله، وأصلى وأسلم على خاتم رسل الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[1] For many centuries Islam was the greatest civilization on Earth -- the richest, the most powerful, the most creative in every significant field of human endeavor. Its armies, its teachers and its traders were advancing on every front in Asia, in Africa, in Europe, bringing, as they saw it, civilization and religion to the infidel barbarians who lived beyond the Muslim frontier.
And then everything changed, and Muslims, instead of invading and dominating Christendom, were invaded and dominated by Christian powers. The resulting frustration and anger at what seemed to them a reversal of both natural and divine law have been growing for centuries, and have reached a climax in our own times (The Washington Post, Tuesday, Sept. 10, 2002, p. A15)
[2] لكن هذا لا يعنى أن الحضارة الغربية هي السبب الوحيد لفقدان المسلمين لهذين الشرطين، فمن أسباب ذلك ما قد يكون محليا، بل ما لا بد أن يكون محليا، لأن ضعف الأمة الديني والمادي كان هو السب في هزيمتها. ولما عرف العدو ذلك حرص على استمرار أسباب الضعف وساعدته على ذلك عوامل محلية في الأمة نفسها.
[3] Peter Kreeft, Ecumenical Jihad, Ignatius Press, 1966, San Francisco, pp.61-2.
[4] http://www.whitehouse.gov/news/releases/2002/06/20020601-3.html
[5] http://www.upi.com/view.cfm?StoryID=20020912-034109-6371r
[6] يرى آخرون غيرنتنياهو أن الديمقراطية وجو الحرية الذي بدأ يسود في إيران سيؤدي إلى إنهاء الحكم الإسلامي بطريقة سلمية ديمقراطية.
[7] تصرفت قليلا في بعض الكلمات التي لم أجد لها في العربية مقابلا يفى بغرض الكاتب. لذلك يحسن أن أضع نص حديثه بين يدي من يريدون الاطلاع عليه في لغته الانجليزية:
Why is Islam spreading so spectacularly? Sociologists and psychologists and historians and economists and demographers and politicians are quick to explain this growth with "expert" worldly wisdom from each of their specialties; but to any Christian familiar with the Bible, the answer is obvious: because God keeps His promises and blesses those who obey His laws and fear Him and punishes those who do not. Much too simple for scholars to see. Compare the amounts of abortion, adultery, fornication, and sodomy among Muslims and among Christians. Then compare the amounts of prayer. Ecumenical Jihad, 1996, Ignatius Press, San Francisco, p.38.
===============
الدور الحضاري للمسلم المعاصر
على المسلم أن يضع أمام عينيه عدة حقائق، حتى يكون قد أدى دوره تجاه حضارته الإسلامية، ومن أهمها:
- أن الانتساب للإسلام شرف وعزة، لأن الإسلام هو الدين الذي اختاره الله لخلقه، قال تعالى: (إنَّ الدين عند الله الإسلام) [آل عمران: 19].
- أن العلم وحده ليس أساس الحضارة والتقدم، وإنما لابد من العقيدة الصحيحة والأخلاق القويمة مع الأخذ بأسباب العلم والحضارة، فلا حضارة بلا دين؛ لأن خلق الحضارة الفاسدة قد يكون سببًا في هلاكها وضياعها.
- أن الحكمة ضالة المؤمن إذا وجدها فهو أحق الناس بها، فعليه أن يقتبس من تقدم الغرب أو الشرق الأشياء المفيدة النافعة، التي لا تتعارض مع مبادئ الإسلام
وقواعده.
- أن صلاح هذه الأمة يكون بالالتزام بتعاليم الإسلام، يقول عمر بن الخطاب
-رضي الله عنه-: لقد كنا -نحن العرب- أذلَّ الناس، حتى أعزنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزة في غيره؛ أذلنا الله.
وبعد أن يعلم المسلم هذه الأمور ويعيها، فإن أسئلة كثيرة تدور في ذهنه عن دوره تجاه حضارته، وتأتي الإجابة واضحة جلية، وهي أن دور المسلم يتحدد من ناحيتين:
الأولى: أن يهتم كل مسلم بحضارته ويتعرف عليها، فيعرف عوامل نجاحها وعوامل ضعفها، فيأخذ بعوامل النجاح، ويبتعد عن عوامل الضعف.
الثانية: أن يكون المسلم نفسه مبدعًا ومخترعًا وصانع حضارة، يساهم بما يستطيع في إعادة بناء هذه الحضارة، فالقرآن الكريم أمر المسلمين كثيرًا بالسير في الكون والتفكر في مخلوقات الله، ومعرفة سنن الله في هذا الكون.
دور المؤسسات الدولية في إحياء الحضارة الإسلامية
أولاً: الإعلام:
ينبغي أن تُستغل وسائل الإعلام استغلالاً يخدم مبادئ الحضارة الإسلامية وأهدافها، سواء المرئي منها أو المسموع أو المكتوب، فيعرض فيها جوانب عظمة هذه الحضارة وأسباب تفوقها، وإبداع المسلمين في كل المجالات، والتعريف بعلماء الحضارة الإسلامية في كل الميادين، ونشر أعمالهم، وأن تقدم البرامج التي تتحدث عن ذلك كله، وكيف أن الحضارة الإسلامية كانت هي المنبع الصافي الذي استقى منه الأوربيون، وتعلموا منه في عصور جهلهم، وكيف انتقلت هذه الحضارة إلى أوربا، فتقدمت هذا التقدم الذي تعيشه هذه الأيام.
كما أنه يجب عليه عرض التطورات العلمية العالمية في كل المجالات، حتى يستفيد من ذلك طلاب العلم، ويكون المسلمون على وعي بما وصل إليه العلم، فينطلقون إلى الإبداع والابتكار.
ثانيًا: التعليم:(5/171)
ودور التعليم في إحياء وبعث الحضارة الإسلامية دور خطير ومهم، ولذلك ينبغي أن يتعاون الجميع لإصلاح مناهج التعليم؛ لأنه يجب أن يتعلم الطلاب في كافة مراحل التعليم مبادئ دينهم وحضارتهم، فيجب أن ينتهي الطالب مع انتهائه من مراحل التعليم من حفظ كتاب الله، وأن يدرس في كل مرحلة شيئًا مبسطًا عن قواعد الفقه الإسلامي وعلوم القرآن، والحديث النبوي الشريف، وأن تدرس مادة الحضارة الإسلامية في مرحلة التعليم العالي في الجامعات وفي كل الكليات، لتظهر كيف تفوق المسلمون في كل مجالات الحياة، وكيف أن المسلمين لما التزموا بإسلامهم سبقوا الأوربيين في كثير من الاكتشافات العلمية.
ولابد من العناية بتدريس اللغة العربية لغة الحضارة الإسلامية، تدريسًا ييسر فهمها، ويحببها إلى نفوس الطلاب، كما يجب الاهتمام بتدريس اللغات الأجنبية، وتعريب العلوم التي تدرس باللغات الأجنبية، ويجب متابعة التطورات العلمية في كل المجالات، وترجمتها لنكون على صلة بها، وهذا هو الأسلوب الذي اتبعه الأوربيون في بداية أمرهم، حيث قاموا بترجمة العلوم الإسلامية إلى لغاتهم ودرسوها بلغتهم، وبذلك استطاعوا أن يبدعوا ويبتكروا في كل المجالات.
وقد شهد الأوربيون أنفسهم بفضل علماء الحضارة الإسلامية على أوربا، ومن هؤلاء: الألمانية (سيجريد هونكه) في كتابها الرائع (شمس العرب تَسْطع على الغرب)، حيث قالت في مقدمته: إن هذا الكتاب يرغب في أن يرد للعرب ديْنًا لهم على البشرية استُحِقَّ منذ زمن بعيد، بالإضافة إلى دراسة التاريخ دراسة إسلامية تتفق مع مبادئ الإسلام، وتنقيته من الأخطاء التي علقت به، والاستفادة من عصور القوة التي عاشها المسلمون، ومعرفة أسباب هذه القوة والأخذ بها.
ولا يتحقق كل هذا إلا بالاهتمام بالمعلم الذي يدرِّس العلم لطلابه، فينبغي إعداده إعدادًا علميًّا جيدًا، وتكريمه ماديًّا ومعنويًّا واجتماعيًّا، وتوفير سبل الراحة له، حتى يقوم بالتعليم والتربية لأبناء المسلمين على مبادئ الإسلام وقيمه على أكمل وجه.
ثالثًا: الاقتصاد:
ينبغي إصلاح المؤسسات الاقتصادية في الدول الإسلامية بما يتلاءم مع مبادئ الإسلام وتعليمه، فينبغي أن يلغي نظام الربا، ويكون التعامل بنظام المضاربة الشرعية، وأن تستقي قوانين الاقتصاد من مبادئ الحضارة الإسلامية السامية، ومن مؤلفات علمائها في الاقتصاد، وينبغي أن يكوِّن المسلمون فيما بينهم ما يسمى بالسوق الإسلامية المشتركة لمواجهة تحديات السوق العالمية.
رابعًا: السياسة:
الأخذ بالنظم السياسية الإسلامية المختلفة، والاستفادة بما وضعه علماء الإسلام في هذا المجال من قوانين ومبادئ مستقاة من شريعة الإسلام.
خامسًا: الجانب العسكري:
على المسلمين أن يأخذوا بأسباب القوة العسكرية، وأن يسلحوا جيوشهم بأحدث الأسلحة التي توصَّل إليها العلم، وأن يكون تدريب قواتهم المسلحة على أرقى مستوى، ويدرسوا كيفية التخطيط للحروب الإسلامية، وعوامل انتصار الجيوش الإسلامية على غيرها من جيوش الدول الكبرى في ذلك الوقت، وكيف كان يعامل المسلمون أسراهم، وكيف كانوا يخوضون المعارك، والأحكام الخاصة بالحرب، وأن يربَّي في جنود المسلمين روح الجهاد للدفاع عن الإسلام ضد أي عدوان على الأرض أو العِرض، ومعرفة فضل الجهاد والشهادة في سبيل الله.
كما يجب أن تتحد الجيوش الإسلامية فيما بينها، وتكوِّن قوة عسكرية مشتركة، ويتم تبادل الخبرات في مجال التدريب والتسليح، والتخطيط للحروب، ولابد أن نصنع سلاحنا بأنفسنا ولا نعتمد على غيرنا في استيراد السلاح، ولو تم هذا واتحد المسلمون في مجال الإعداد العسكري بكل جوانبه؛ لأصبح المسلمون مهابين من أعدائهم.
================
الحضارة والثقافة الإسلاميّة(1).
الدكتور عبد العزيز الخياط *
في زحمة الصراع الحضاري العالمي تبرز كلّ أمة حضارتها، وتتمسك بها، وتعمل على نشرها وتثبيتها، وتتقدم بثقافتها المنبثقة عن حضارتها وإن كان لكل خصيصة متميزة لثقافته، تصطرع من أجلها، وتتزاحم بالمناكب في سبيل نشرها والمسلمون اليوم ـ وفي زحمة هذا الصراع الحضاري العالمي ـ لا ينشرون حضارتهم وثقافتهم إلاّ على استحياء، ولا يعملون على تثبيتها وبيانها إلاّ في المناسبات، وفي مؤتمرات قليلة تعقد هنا وهناك، وهو عمل تقوم به هيئات إسلامية أو أفراد، وقلما تشترك الحكومات، إلاّ في حدود ضيقة، أو حين تدعى من جهات غربية، ولا تتبنى في مؤتمراتها وسفاراتها بيان حضارة الإسلام ونشرها، ولعل مرجع ذلك إلى الخمول الذي أصابها، والتفرق على أساس العنصرية الضيقة أو الإقليمية المفرقة، والتعصب لهما على أساس التجزئة التي أصيب بها العالم الإسلامي، فاصبح ولاء كلّ دولة لقطرها، وانتماؤها لبلدها دون الانتماء للحضارة الإسلاميّة الواسعة وثقافتها.
فالحضارة لغة: الإقامة في الحضر، قال القطامي:
ومن تكن الحضارة أعجبته * * * * فأي رجال بادية ترانا
وهي البداوة، وهي لغة كذلك: مرحلة من مراحل التطور الفعلي والانساني والاجتماعي ورقيها.
وقد تعدد معناها في الاصطلاح: فهي بمعناها العام: ثمرة التفاعل بين الإنسان والكون والحياة، أي: ثمرة الجهود المبذولة من قبل الفكر الإنساني للاستفادة من الأجهزة الكونية المتناثرة حولنا (2). أو هي الجانب الآخر غير المادي في حياة الأمة، وهي العلم والتصورات والأفكار والسلوك والآداب، وكل المعاني التي تدخل في الجانب المادي.
وقد عرفها بعضهم بأنها: نمط من الحياة المستقرة ينشئ القرى والأمصار، ويضفي على حياة أصحابه فنوناً منتظمة من العيش، والعمل، والاجتماع، والعلم، والصناعة، وإدارة شؤون الحكم، وترتيب وسائل الراحة وأسباب الرفاهية (3). وهذا تعريف للحضارة وآثارها العامة، وليس تعريفاً دقيقاً يحدد معناها.
ومن العلماء من عرفها بأنها: كلّ ما ينشئه الإنسان في كلّ ما يتصل بمختلف جوانب نشاطه ومعانيه، عقلاً وخلقاً، الفكري والمادي. أو باصطلاح آخر: الروحي والمادي.
وبعض الباحثين يرى: أن الحضارة الحقة هي التي تطلب من الإنسان في مظاهر الحياة كافة أن يتذكر الله، ويتذكر فطرته هو بحيث يستطيع أداء دور خليفة الله، وهو الدور الذي وجد فيه على هذه الأرض(4).
والمودودي يرى: أن الحضارة: مجموعة المبادئ والأفكار والأصول والتربية التي تثمر لوناً من ألوان الحياة الاجتماعية بمقوماتها المختلفة.
وربما كان معناها العام أيضاً: طريقة الإنسان في الحياة، أو مجموعة أفكاره عنها، وأعني بالحياة: الأعمال اليومية التي يمارسها الإنسان في معيشته، ففكرته عنها ونظرته إليها يكيف سلوكه فيها ويحدد طريقة تصرفه في أعماله.
يظهر من هذه التعريفات: أن معنى الحضارة قائم عند المفكرين، لكنهم يختلفون في
سعة معناه أو في ضيقه. وبعبارة أخرى: هو غامض عند البعض غير محدد، فمنهم من جعله يشمل الأفكار والعقائد وما ينتج عنها من نتائج مادية.
فالدكتور يوسف القرضاوي ـ مثلاً ـ يرى: أن الحضارة لها جسم وروح، وجسمها يتمثل في منجزاتها المادية: كالمخترعات والمصانع والطائرات والأسلحة والأبنية وغيرها، وروحها يتمثل في مجموعة العقائد والمفاهيم والقيم والآداب والتقاليد التي تتجسد في سلوك الأفراد والجماعات(5).(5/172)
وهو بهذا يتقارب في المفهوم مع "غوستاف لوبون" الذي يرى: أن الحضارة تشمل العقائد كما تشمل المنجزات العلمية والمادية، ولهذا نجده يعقد باباً ذا فصولٍ ثلاثةٍ يتحدث فيها عن مصادر قوة العرب من رسالة محمّد ـ صلى الله عليه وآله ـ، وفلسفة القرآن وأحكامه، وفتوح العرب وطبيعة هذه الفتوح ثم بعد ذلك يتحدث عن الدين والأخلاق، ويتناول حضارة العرب في شمولها للمعارف واللغة والفلسفة والآداب والتاريخ وعلوم الرياضيات والفلك والجغرافيا والطبيعيات والطب والفنون وغيرها(6).
ويكاد يتفق معنا المستشرق الإنجليزي "أرنولد" الذي يرى: أن مفهوم الحضارة بمعناها المتخصص مقتصر على وجهة نظر الإنسان عن الحياة. وهذا هو الذي ينسجم مع تعريف الحضارة الإسلاميّة التي يمكن ملاحظتها بأنها: (مجموع الأفكار والمفاهيم الإسلاميّة عن الإنسان والحياة والكون)، وهي بهذا تحدد سلوك الإنسان وطريقته في الحياة، ونمط معيشته وتعامله مع الكائنات المحيطة به. ولا تشمل بهذا التحديد ما نتج عنها من أشكال مادية، فهي ثمرة الحضارة إذا كانت غير متعارضة معها فتصوير الأشياء الجامدة وتجسيدها منسجم مع نظرة الإسلام في إباحة رسمها وتصويرها، أما تجسيد الأشياء الحية كالإنسان في تماثيل وأصنام فلا يجيزه الإسلام؛ لأن حضارته قائمة على تحريم التصوير بهذا المعنى.
وهذا يجرنا إلى أن نبين أن الأشكال المادية هي المدنية، وهي تنتج عن الحضارة أو
العلم، فبناء البيوت والقصور شكل من أشكال المدنية الناتجة عن الحضارة، من حيث إنها مع مفهوم أي حضارة، وهو في الحضارة الإسلاميّة لا يتخذ فيه زخرفة الصليب، أو يوضع فيه مكان لشرب الخمر (بار) مثلاً، وقد راعى المسلمون في حضارتهم الإسلاميّة أن توجه البيوت نحو الكعبة التي هي قبلة المسلمين، بينما نجد أن صنع المنتجات الطبية والأثات والسيارات والطائرات والآلآت وبناء المصانع للنسيج واستخراج المعادن وغيرها أشكال مدنية ناتجة عن العلم.
والتبرج ـ مثلاً ـ محرم في الإسلام، فكل شكل مدني من الملابس يظهر فيه التبرج لا يجوز شرعاً، والسينما والتلفاز شكل مدني ناشئ عن العلم، لكن مضمون الفلم الذي يعرض شكل مدني ناشئ عن حضارة فإذا تناقض مع حضارة الإسلام كالأفلام العارية فلا يجوز شرعاً.
والحضارة خاصة، والعلم عام، وقد كان العلم يطلق على كلّ معرفة أياً كان نوعها ولونها، ثم أصبح يفيد المعرفة التي تستفاد من الملاحظة والتجربة والاستنباط: كعلم الهندسة والطب والكيمياء، وهو التحديد الدقيق لكلمة العلم، لكنها قد تطلق على المعارف الشرعية والتاريخ والآداب والفسلفة، وغيرها من باب التجوز والتوسع في معناها.
معنى الثقافة:
وإذا عرفنا معنى الحضارة فلا بد من تحديد معنى الثقافة والثقافة الإسلاميّة.
فالثقافة من لفظة (ثقف) بمعنى: حذق وقوم، وهي بمعناها العام: مجرد المعرفة، أي: معرفة الآداب والفلسفة والتاريخ والفنون والمعارف النظرية، وهي بمعناها الخاص: النتائج التي تستخلص من مجموعة الآداب والفلسفة والتاريخ والمعارف النظرية من وجهة نظر خاصة عن الحياة.
ويقول تايلو: (إنّ الثقافة: هي الكل المركب الذي يتضمن المعارف والعقائد والفنون والأخلاق والقوانين والعادات).
والثقافة الإسلاميّة: هي الثقافة التي بنيت على العقيدة الإسلاميّة، أو كانت أثراً من آثارها أو اكتسبت صبغتها بموجبها.
والفرق يبين العلم والثقافة: أن العلم عام لكل أمة، فهو ليس حكراً على أمة من الأمم، أو مختصاً بأناس دون أناس، فهو للناس كافة، تأخذه أمة عن أمة فالاختراعات العلمية والاكتشافات في الصناعة والأسلحة، والأبحاث العلمية تنقل من بلد إلى آخر، ومن أمة إلى أخرى، فإذا أخضع هذا العلم لوجهة نظر معينة أو لمصلحة أمة أو دولة أصبح ثقافة خاصة لتلك الدولة أو الأمة، لكن الثقافة تبقى خاصة، فلكل أمة أو شعب ثقافته التي يعتزّ بها؛ لأنها متصلة بوجهة نظره في الحياة، ولهذا نرى: أن الجامعات تفتح أبوابها لدراسة العلوم لكل الناس، لكنها تحاول أن تعطيهم ثقافتها الخاصة، فللمسلم ثقافته الإسلاميّة، وللإنجليزي ثقافته، ومثلهما الفرنسي والألماني والروسي وغيرهم، ومن هنا نجد حرص الدول المختلفة على نشر ثقافتها وفتح المعاهد والمراكز الخاصة بها.
وعلى هذا، فالثقافة الإسلاميّة ثقافة خاصة، متميزة المعالم والاتجاهات،فهي المعرفة التي تتضمن العقيدة الإسلاميّة مثل: علم التوحيد، والمبنية على العقيدة مثل: الفقه والتفسير وعلم الحديث والسيرة وأصول الفقه، والمعرفة التي يوجبها الاجتهاد في الإسلام مثل: علوم اللغة العربية.
وقد أحدث عدم التفريق بين العلم والثقافة والحضارة بلبلة في عقول المسلمين، إذ تعددت ثقافاتهم كلّ بحسب ما تلقى في البلدان غير الإسلاميّة.
وكما أدى التباس فهم العلم والثقافة لدى المسلمين اليوم ـ فلم يعرفوا ما يأخذون وما يدعون ـ أدى عدم فهمهم للحضارة والمدنية الناشئة عنها. أو المدنية الناشئة عن العلم والصناعة إلى اضطراب حياتهم، وفوضى مسالكهم إذا انطلقوا في تقليد الغرب وحضارته والاقتباس عنه دون تفريق بين غث ما عنده وسمينه، وبين ما يؤثمهم أو يؤجرهم؛ لأن الحضارة هي مجموع مفاهيم الإنسان عن الحياة، وهي التي تعين طريقته في الحياة؛ ولأن المدنية هي الأشكال المادية المحسوسة التي تستعمل في شؤون الحياة.
والحضارة والثقافة لا تكونان إلاّ خاصتين، والمدنية تكون خاصة وعامة، خاصة إذا كانت ناتجة عن حضارة، وعامة إذا كانت ناتجة عن علم وصناعة؛ لأن العلم والصناعة عالميان. وبحسب رقي الحضارة تكون المدنية الناتجة عنها راقية، وبحسب رقي العلم والصناعة تكون المدنية الناتجة عنهما راقية. أما إذا انحطت الحضارة وضعف العلم كانت المدنية الناتجة عنهما متأخرة.
والمدنية الناجمة عن العلم والصناعة تؤخذ من الغرب اليوم كما أخذها الغرب عن المسلمين فيما مضى، وكما أخذها المسلمون عمن سبقهم من الشعوب حين اتصلوا بهم، ونقلوا عنهم أشكال أبنيتهم وملابسهم وأوانيهم وغيرها، مما ليس فيه شارة الكفر وعلامات دياناتهم، ومما لا يتناقض مع عقيدة الإسلام ومفاهيمه عن الحياة، وأخضعوها لوجهة نظرهم في الحياة.
ذكر: أن خالد بن إبراهيم أحد قواد المسلمين غزا أهل "كثر" من بلاد الصين وأخذ منهم الأواني الصينية المنقوشة ما لم ير مثلها، ومن السروج ومتاع الصين شيئاً كثيراً، فحمل المغنم إلى أبي مسلم الخراساني وهو بسمرقند. كما أخذ المسلمون صناعة الورق من الصين، وزادوا عليها وعمموها حتّى انتشرت مصانع الورق في رقعة العالم الإسلامي: في "بورة" قرب دمياط، وسمرقند وبغداد والأندلس ودمشق وطرابلس وحماه وغيرها، وكان منه أنواع: الفرعوني، والسليماني والجعفري والطلحي والطاهري، وعن المسلمين انتقلت صناعة الورق إلى أوروبا عن طريق إسبانيا والرومانيين والصليبيين، واستقرت في ألمانيا.
وذكر البلاذري في كتابه "فتوح البلدان": (أن القراطيس كانت تدخل بلاد الروم من أرض مصر، وتدخل الدنانير إلى بلاد العرب، وكانت الأقباط تذكر المسيح في رؤوس الطوامير وتضع الصليب، فأمر عبد الملك بن مروان ـ (الخليفة الأموي) ـ أن يكتب في رؤوس الطوامير "قل هو الله أحد" بدل المسيح، فكتب إليه ملك الروم في ذلك وهدده، وطلب إليه أن لا يوضع في الدنانير تعريف للنبي محمّد ـ صلى الله عليه وآله ـ، فكان من أثر ذلك ضرب عبد الملك للنقود.
والحضارة الإسلاميّة تختلف عن الحضارة الغربية اختلافاً بيناً، فالحضارة الغربية تقوم على ما يلي:(5/173)
1 ـ النزعة المادية التي تؤمن بالمادة وحدها، وتفسر بها الكون والإنسان والحياة، وتنكر الغيبيات، ولا تؤمن إلاّ بالمحسوس المنظور.
2 ـ فصل الدين عن الحياة، أي: أن الإيمان بالله والغيبيات شيء لا علاقة له بالممارسات العملية اليومية للإنسان. والعلاقات إنّما تقوم على أساس الفصل.
والذين يفصلون الدين يؤمنون بالتثليث والأقانيم الثلاثة ويتمسحون بالصليب،
وولادة الإله وغيرها، فالدين في الحضارة الغربية عاطفة تظهر عندما تثار، وصلة بين الإنسان وربه تظهر في الصلاة والمعبد، ولذلك يقول "جون جنذر" الصحفي الأمريكي في كتابه "داخل أوروباً" حين صور حياة الإنجليز: (إنّ الإنجليز إنّما يعبدون بنك إنجلترا ستة أيام في الأسبوع، ويتوجهون في اليوم السابع إلى الكنيسة). فالإيمان عندهم مهزوز؛ لأن الفكرة عن الألوهية تحيط بها الأوهام والخرافات، ويظهر هذا جلياً في تصورات الكتاب والمفكرين ورجال الدين الغربيين لله عز وجل.
3 ـ النزعة العلمانية تابعة للنزعة المادية، ومنبثقة عنها؛ لأن نتيجة الإيمان بالمادة: إنكار لوجود الله، أو تحييد للذات الإلهية عن التشريع لحياة الإنسان وممارساته العلمية، وبالتالي يرضخ ذلك الإنسان إلى فصل الدين عن الحياة، وفصل الدين عن العلم، وفصل الدين عن الحكم فصلاً تاماً، والبحث العقلي التجريبي في مظاهر الكون. وظهرت نتيجة لذلك كلمة "العلمانية"، وتعني: إقامة الحياة على غير الدين (7).
وتشعبث العلمانية إلى شعبتين: شعبة متطرفة تضاد الدين كلياً، وشعبة معتدلة لا تعادي الدين، وإنّما تتركه للإنسان في اعتقاده وعبادته، دون التدخل في شؤون الحياة، وأصبحت هذه العلمانية بشعبتيها من أسس الحضارة الغربية.
4 ـ الصراع: وهو صراع البقاء، صراع الشعوب، صراع الإنسان مع الإنسان، وصراع الإنسان مع الطبيعة، ومن هنا كانت الحروب الدموية بين شعوب أوروبا من جهة، وصراع الاستعمار مع شعوب العالم وأممه(8).
5 ـ النزعة التحررية: وتعني: إعفاء الإنسان العادي من قيود الشعائر والطقوس الدينية، أي: التحلل من الالتزام بالتعاليم الدينية، وتصوير الملتزمين بها بـ"الرجعيين"، وسبب التحررية في الغربية هو : أنها طرحت الدين جانباً ، ولما ظهرت الاكتشافات الحديثة والأشكال الاقتصادية الجديدة وسيطرت التكنولوجيا أخذت الحرية معناها الواسع في الانطلاق في الحياة من غير قيود، فكانت التحررية، ولا سيما في الحرية الشخصية، وانتشرت الملذات والشهوات من غير قيدٍ ولا رقيب.
6 ـ الديمقراطية: وتعني: السيادة للشعوب، أي أنها المصدر الحقيقي للتشريع والسلطة معاً، وإرادة الشعب هي إرادة الله الذي تركته الحضارة الغربية، وهو القوة.
ونحن لا ننكر ما للحضارة الغربية من إيجابيات في التقدم العلمي في مختلف الميادين، وتسيير الحياة وتسهيلها بالمخترعات والمكتشفات التي أعانت الإنسان على الحياة الرخية، غير أنها انحطت بإنسانية الإنسان، ونشرت القلق والنزاع والصراع وأفقدته معاني القيم المثلى والطمأنينة والروحانية، وأدارت حياته على المنفعة والمصلحة، وجعلت ثقافته ثقافة خالية من عنصر الأمن والسمو الخلقي والفكري، وأدت بالأسرة إلى الانهيار، وبالجنس إلى الدمار، ودفعت الشباب إلى نيل الشهوات، وتعاطي المخدرات، واكتساب الأمراض والعاهات.
إنّ من سلبيات الحضارة الغربية المادية: أن جعلت العالم مرتعاً للاستغلال:
ألم تناد فرنسا بالحرية والإخاء والمساواة في الوقت الذي كانت القوات الفرنسية تسحق الشعوب في أفريقيا وجنوب آسيا ؟!
ألم تناد أمريكا بالسلام وهي تسحق الشعب الصومالي باسم الإغاثة، وتؤيد الصهيونية في القضاء على الشعب الفلسطيني، وتسكت عن جرائم الصرب والكروات والهنود في البوسنة والهرسك وكشمير؟!
بل إنّ الحضارة الغربية المادية تعمل على طمس الحضارة الإسلاميّة والثقافة الإسلاميّة في العالم الإسلامي والعربي، وتقمع الإسلاميين، في الوقت الذي تنادي فيه بالتعددية والديمقراطية.
ألم تجعل العالم على فوهة بركان متوتر الأعصاب، مقلق النفسية، مرتكزاً على كبسولة القنبلة الذرية وواضعاً يده على مفتاح الصواريخ ؟! بل أدت الحضارة الغربية إلى أحادية الدولة القادرة في النظام العالمي الجديد.
أسس الحضارة الإسلاميّة:
إنّ أسس الحضارة الإسلاميّة هي التعاليم الإسلاميّة القائمة على ما يلي:
1 ـ توحيد الله، وهو الإيمان بأن الله هو الإله الواحد المتصرف في الكون والخلق، وهو الفرد الصمد الكامل القادر الخالق لكل الموجودات ( لا إله إلاّ هو عالم الغيب والشهادة((9) (هو الله ربي ولا أشرك بربي أحداً((10).
2 ـ الإيمان بالمغيبات كلها: الملائكة، والرسل، والأنبياء، والكتب السماوية، والجنة والنار، والقضاء والقدر...
3 ـ الإيمان بالعبادات والقيام بأدائها: من الصلاة وما يتعلق بها، والزكاة والصيام والحج والذبائح والمأكل والمشرب والملبس، والحلال والحرام في سلوك الإنسان وأخلاقه. وكل عمل يقوم به المسلم يبتغي به وجه الله فهو عبادة.
4 ـ التشريع المتعلق بشؤون الحياة كلها: من المعاملات والأسرة والميراث والجهاد وأمثالها.
5 ـ عالمية الإسلام (وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين( (11) (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون((12).
6 ـ التعقل ورفض ما يخالف الحقيقة، ورفض الأوهام والخرافات.
7 ـ السعة واليسر، ورفع الحرج سعة الفكر واليسر في الأحكام، ورفع الحرج عن الناس في التزمت والتعصب (ما جعل عليكم في الدين من حرج((13).
8 ـ التناسق ـ لا الصراع ـ بين عناصر الكون بعضها مع بعض، وبينها وبين الإنسان.
وهي الحضارة التي توافق الفطرة، وتسمو بالإنسان، وترقى بفكره، وتحترم عقله، وتهذب سلوكه، وتنهض بمجتمعه، وترشد مسيرته، وتقود العالم إلى الخير والمحبة والسلام، والى التكامل بين العلم والإيمان، وتسخير الكون مع الإبداع والاختراع في ظل العقيدة الإسلاميّة.
وهي الحضارة التي فهمت المرأة والرجل والعلاقة السوية بينهما، وهي التي تؤمن للناس حقوقهم وكرامتهم وحريتهم وأخوتهم ومودتهم، وتوجب سيادة الشرع والحق والعدل، وتوجد العادات والأعراف الطيبة للأمة كلها، مع الحفاظ على خصوصية كلّ شعب وكل قوم في أي بقعة من البقاع التي تسودها حضارة الإسلام.
فحضارة الإسلام: هي الحضارة التي تتحكم بالأسلحة المدمرة، وتسيطر على التكنولوجيا (التقنية) وتوجه استعمالها لخير البشرية، وهي التي تمنع الإسراف، والمجون، والإنفاق على الملذات غير المشروعة. وهي التي توفر الراحة البدنية والنفسية والسعادة المادية والمعنوية للإنسان أيا كان في ظلالها، مسلماً أو غير مسلم.
الاختلاف بين الحضارتين:(5/174)
والاختلاف البين بين أسس الحضارتين: الإسلاميّة والغربية واضح في رقي العالم الإسلامي يوم تمسك بحضارته، وانحدار الحضارة الغربية المعاصرة التي تمجد المادة، واللذة والجنس، وتسلب الإنسان إنسانيته، وتمرغه في الوحل، بل تسحق إنسانيته حين يعبد المادة، ويحيا في الفجور، ويرتفع في مجتمعه أصحاب الرذيلة، ويكثر فيه الفقر والبطالة والطغيان، والسيطرة على الشعوب الضعيفة واستغلال خيراتها، وسلب حرياتها وأموالها وبترولها وذهبها، وإغراقها بأدوات الترف والرفاهية؛ لاستعبادها بالديون من صندوق النقد الدولي، والمصارف التي تسيطر عليها اليهود الّذين تحكموا من خلال هذه الحضارة الغربية المادية بمقدرات العالم، وأقاموا كيانهم الصهيوني في قلب العالم الإسلاميّ، وسخروا دول الغرب ـ ولا سيما أمريكا ـ لمصالحهم ومآربهم وسيطرتهم.
أهذه حضارة ترقى بالإنسان، أم تجعله عبد المطعم والمشرب، والخداع والغش واللهو والظلم والتحرر والانطلاق في الشهوات ؟ أهذه حضارة وهي التي تنحط بغرائز الإنسان، فيصبح كالحيوان في المراقص والشواطئ والأندية والخمرة والميسر ـ (والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام((14).(أفحسبتم إنّما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلاّ هو رب العرش الكريم( (15).ولا هم للإنسان فيها إلاّ التفاخر بالأسلحة الفتاكة، والتنافس في البنيان والقصور (أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين((16). قال ـ صلى الله عليه وآله ـ: تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة (17).؟
إنّ ما يدعو إليه الإسلام هو: الحضارة الخيرة، والثقافة الموجهة، والمدنية المسعدة، والعلم المؤدي إلى رقي الإنسان وراحته وطمأنينته.
التصور المستقبلي للحضارة والثقافة الإسلاميتين:
يقف المسلمون اليوم أمام حضارة غربية طاغية بتقدمها المدني، أي: بأشكالها المادية وقوتها العسكرية، وسيطرتها المالية، لكنها ـ كما أسلفنا ـ حضارة تحمل في طياتها عوامل انهيارها؛ لأنها تشقي الإنسان ولا تسعده، وتضعه في حمأة الفساد والانحطاط في صورة من البهرجة المادية الزائفة.
فواجبنا: أن ندرك خطورة الاندفاع وراء الحضارة الغربية الحديثة وثقافتها، وأن نفهمها بعمق وتفهم، ولا نقف جامدين أمامها، بل نتعامل معها من خلال حضارتنا، فنأخذ منها ما ينفعنا من العلم والمخترعات، ونتعلم لغات الغرب، ونفهم عقلياتهم وتصوراتهم عن الحياة، ثم نحكم حضارتنا وثقافتنا وتعاليم ديننا فيما نأخذ.
وعلينا: أن نجهر ـ في قوة ووضوح ـ بسمو حضارتنا، وأنها هي المنقذة لما يتخبط فيه العالم، وأن نواجه التحديات الكبيرة، والمؤامرات المستمرة على حضارتنا وثقافتنا..، وقبل هذا وذاك: أن نفهم حضارتنا وثقافتنا، أي: نفهم ديننا وتعاليمه الحقة، وندرك سمو الإسلام وسمو تعاليمه وتشريعاته وأحكامه، وأن ننبذ الفرقة فيما بيننا، وأن نلتقي على مفاهيم الخير وإيجابيات الوفاق، وأن لا تؤثر فينا اختلافات الرأي والأحكام ما دمنا نلتقي على الأسس السليمة لحضارتنا وثقافتنا، وأن نتعاون بالمحبة والمودة في مجالات الأبحاث والعلوم ونشر الثقافة والحضارة، وأن نعمل على إنشاء الجيل المؤمن بربه ودينه وحضارته وثقافته.
وأمامنا مشوار طويل في جهادنا بالكلمة الصادقة الواضحة البينة، حتّى يتبين للعالم الحق من الباطل، والسيء من الحسن وحتى يعود ضعيف الإيمان ليوطد صلته بالله الخالق.
فنحن ما زلنا في صلابة الإيمان، مستعدين للتضحية والصبر والفهم والوحدة والتجمع، لا تخيفنا قوة المواجهة، ولا تحبطنا عوامل الضعف، ولا تبهرنا تقنيات الغرب.
وما زالت ثقافتنا بأصالتها، وحضارتنا بشمولها وقوتها هي الأقوى في ميزان الحجة
والعرض والموازنة، ونحن نرى انهيار المجتمعات الغربية وتفسخها وتآكلها في داخلها، على الرغم من القشرة الصلبة التي تغلفها قوة السياسية والتقدم العلمي..
إنّ من واجبنا: أن نتعامل مع العلم والكون، وأن ندفع أبناءنا إلى العمل في بلادنا، وأن نحول دون هجرة الكفاءات العلمية والثقافية إلى الغرب. وأن نعمل على بناء ذاتنا في داخلنا، فأي محاولة لنشر حضارتنا وثقافتنا في العالم لا يمكن أن تؤتي ثمراتها مالم يكن العالم الإسلامي ـ حكومات وشعوباً ـ علماء ومفكرين، عاملين في داخلنا أوّلاً...
ومن هنا، إذ نبارك الخطوات الطيبة التي تقوم بها بعض الحكومات الإسلاميّة، وفي طليعتها الجمهورية الإسلاميّة في إيران، لتقوية الإيمان والتمسك بالحضارة الإسلاميّة، والثقافة الإسلاميّة وبناء الذات.
ويسرنا أن نقترح على هذا المؤتمر ما يلي:
أوّلاً: إيجاد هيئة دائمة لهذا المؤتمر، تستمر في نشر الحضارة والثقافة الإسلاميتين، وتزوده بالمال والكوادر اللازمة. وتتكون هذه الهيئة من شخصيات إسلامية من داخل إيران ومن العالم الإسلامي، تتابع تحقيق توصيات المؤتمر.
ثانياً: الاتصال المستمر مع الهيئات والمراكز الإسلاميّة للتنسيق فيما بينها والتعاون المستمر.
ثالثاً: تقوم هذه الهيئة بالاتصال بالحكومات في العالم الإسلامي؛ للعمل معها على نشر الحضارة والثقافة الإسلاميتين.
رابعاً: وضع برنامج عملي محدد لعمل هذه الهيئة.
وأخيراً: فنحن نؤمن بالمستقبل لحضارة الإسلام وثقافته أن تسود، ونؤمن بأن الأمة الإسلاميّة ستستعيد صدارة القيادة للعالم، وصدق الله تعالى: (إنّا نحن نزلنا الذكر و إنّا له لحافظون((18) (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتّى يتبين لهم أنّه الحق أو لم يكف بربك أنّه على كلّ شيء شهيد((19).
___________________________
1 ـ بحث ألقي في ندوة الحضارة والثقافة الإسلامية التي عقدت في طهران في الأول من شهر شعبان (1414 هـ).
(*) أستاذ في الفقه والأصول ـ الاردن.
2 ـ الدكتور محمّد سعيد رمضان البوطي في "منهج الحضارة الإسلامية في القرآن": 19.
3 ـ عبد الرحمان بن خلدون في المقدمة: 22، وهو تعريف عام مستخلص من شرحه للحضارة.
4 ـ الدكتور محمّد حسين في "الإسلام والحضارة العربية" 4.
5 ـ الدكتور سيد حسين نصر في بحث "تأملات حول الإنسان ومستقبل الحضارة": 30.
6 ـ كتاب حضارة العرب لغوستاف لوبون، ترجمة عادل زعيتر، طبع دار إحياء الكتب العربية سنة (1954م).
7 ـ سفر بن عبد الرحمان الحوالي في كتاب "العلمانية": 24.
8 ـ الدكتور يوسف القرضاوي في بحث "الإسلام حضارة الغد".
9 ـ الحشر: 22.
10 ـ الكهف: 38.
11 ـ الأنبياء: 107.
12 ـ التوبة: 33.
13 ـ الحج: 78.
14 ـ محمّد ـ صلى الله عليه وآله ـ: 12.
15 ـ المؤمنون: 115.
16 ـ الشعراء: 130.
17 ـ سنن ابن ماجة: 4135.
18 ـ الحجر: 9.
19 ـ فصلت: 53.
=============
المراصد الفلكية في الحضارة الإسلامية
التاريخ: 12-10-1423 هـ
الموضوع: منوعات
إن الاهتمام بالأرصاد الفلكية له في الحضارة الإسلامية أسباب علمية وعملية عدة. لقد عرف العرب جهود علماء الحضارات القديمة في الفلك, وحاولوا تدقيقها وإعادة النظر فيها وتجاوزها إلى مزيد من المعرفة الدقيقة.
وكانت الاهتمامات العلمية ذات طابع ديني أيضا, وذلك لأن تحديد القبلة أمر ضروري لإقامة الصلاة في موعدها بدقة. وأدى هذا المتطلب الديني إلى اهتمام بصناعة المزاول لقياس الوقت, وإلى ظهور ما يسمى باسم علم الميقات.(5/175)
ولكن بحوث العلماء في الحضارة الإسلامية تجاوزت هذه المتطلبات العملية إلى البحوث الفلكية الأساسية, وكان (المرصد) أو (بيت الرصد) أو (الرصدخانة) من أهم المؤسسات العلمية. العلماء المبكرون كانوا يقومون بأرصادهم الفردية, ثم بدأت المراصد تؤسس لتكون مؤسسات علمية للدراسات الفلكية العلمية. وهناك فرق بين علم الفلك Astronomy بوصفه علماً دقيقاً يقوم على الحقائق والقياسات العلمية من جانب, وعلم التنجيم Astrology وما يرتبط به من افتراضات وتصوّرات حول الإنسان ومصيره وعلاقة ذلك بالكواكب وحركتها من الجانب الآخر.
إن الاهتمام بالأرصاد في الحضارة الإسلامية قديم, هناك معلومات عن أرصاد مهمة قام بها علماء كبار في إطار الحضارة الإسلامية, ويبدو أن القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي عرف بداية هذه الجهود في مدينة جنديسابور, تلك المدينة التي كانت مركزاً قديماً مهماً لعلوم اليونان على مدى عدة قرون قبل الإسلام. ولكن الأرصاد التي وصلت إلينا نتائجها كانت في خلافة المأمون الخليفة العباسي على مدى السنوات (208-218هـ). لقد سجلت حركة الشمس والقمر تسجيلاً دقيقاً, والمقارنة كانت في البداية بين موقعين, مع مقارنة ذلك بالملاحظات الواردة في كتاب المجسطي لبطليموس.
وتنسب إلى عدد كبير من علماء القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي أرصاد متعددة, قام بها بنو موسى .
أما القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي فقد عرف عدة أرصاد في منطقة أكبر, استوعبت أيضاً مدن أصفهان والري في إيران والقاهرة في مصر, منها رصد القوهي وأبي الوفاء البوزجاني وعبدالرحمن الصوري والخجندي ثم ابن يونس الذي أنجز بالقاهرة (الزيج الحاكمي) في عهد الحاكم بأمر الله. أما في الأندلس فقد اهتم عدد من العلماء بالأرصاد, ومنهم مسلمة المجريطي . ويتضح أن عناية المشرق الإسلامي بالمراصد كانت كبيرة, كان مرصد أصفهان أول مرصد في وسط آسيا وفي عهد ملكشاه (564/1072-485/1092). وكان عمر الخيام الذي يعرفه العرب برباعياته ويذكره تاريخ العلم ببحوثه الفلكية أحد علمائه. وكان العمل في المرصد طبقاً لخطة محددة, على أساس علمي. لاحظ العلماء أن دورة كوكب زحل تستغرق ثلاثين عاماً, وأنه الأكثر بعداً عن الأرض, فوضعت خطة الأرصاد لمدة ثلاثين عاماً وبدأ العمل بقوة.
مرصد سمرقند هو مرصد (ألغ بك) بدأ تأسيسه سنة (826هـ/1420م-832هـ/1428م) بتمويل من ذلك الحاكم العظيم في وسط آسيا الذي حكم سمرقند (1409-1449م), وهو من أهم حكام الأسرة التيمورية.
ويبدو أن مرصد سمرقند استمر حتى سنة 1500م وكشفت آثار هذا المرصد سنة 1908م وتم ترميم القسم المتبقي منه.
إن التقدم في علم الفلك ارتبط بهذه المراصد في إطار الحضارة الإسلامية. وعندما زار رفاعة الطهطاوي (1801/1872) باريس - انتبه, وهو المسلم الذي عرف أهمية (علم الميقات) , إلى المرصد الوطني الفرنسي بوصفه إحدى المؤسسات العلمية المهمة, وسمّاه (الرصد السلطاني).
================
تجديد منهج العقيدة الإسلامية (1/2)
د. بسطامي محمد خير*
تجديد منهج العقيدة الإسلامية مقدمة
يجد المسلمون أنفسهم في هذا العصر الحاضر أمام ثروة علمية ضخمة في ميدان العقائد موروثة من قرون طويلة ، وأبدعت الحضارة الإسلامية في حفظ أصولها ومقوماتها ، رغم التيارات المتلاحقة والأمواج المتلاطمة من الفتن والأزمات الفكرية والسياسية والاجتماعية التي مرت بها . ويواجه المسلمون المعاصرون أيضا الحضارة الغربية بسلطانها وسطوتها المادية والعلمية والفكرية ، وإلحادها ومذاهبها الفلسفية المناقضة للدين ووصمها له بالخرافة والأساطير ، وبما أثاره المنصرون والمستشرقون من شبه وشكوك حول أصول الإسلام وأسسه . وخلّف ذلك آثاره في العالم الإسلامي من انتشار ردة محدثة وإحياء لانحرافات قديمة وتيارات عقدية جديدة ، واحتدم الجدل واللغط وتشعبت المسائل وتعقدت . وبسبب ذلك كله برزت الحاجة للتساؤل عن كيف يمكن مواجهة هذا الواقع المعاصر ، وهل يمكن لأجيال المسلمين الحاضرة تجديد مناهج الخطاب العقدي الإسلامي بما يلائم ويناسب العصر . هذه الأسئلة وأشباهها هي ما يحاول هذا البحث الموجز النظر فيها والتأمل في الإجابة عليها وصولا للطريقة الأقوام والأمثل .
ومما ينبغي ذكره أن مشكلة المواجهة بين الحضارة الغربية والعالم الإسلامي ، لم تواجه الإسلام وحده ، بل هي قد واجهت الأديان الأخرى ، كما يقرر أحد أساتذة الأديان المعاصرين الذي قال :
"إن كل الأديان الكبرى قد واجهت أزمة منذ ميلاد الحضارة الحديثة ، وكل هذه الأديان قد بذلت بطريقتها الخاصة جهودا كبيرة لحل هذه الأزمة ، ولمواجهة الحياة العصرية والعلمانية المصاحبة لها . إن القرن التاسع عشر والقرن العشرين قد شهدا فترة إبداع عظيمة في هذه الأديان ، وكان ذلك ببساطة بسبب أن هذه الأديان ينبغي أن تتوافق مع العصر الحديث أو تموت."[1]
ولكن ينبغي التفريق بين هذا التوافق الذي حدث بين الدين والعصر الحديث ، في الغرب خاصة وفي بقية العالم تبعا للغرب ، وبين التجديد الذي ينادي به الإسلام ، والذي جاء في البشارة النبوية المعروفة ، ( إن الله يبعث لهذه الأمة علي رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها )[2] . فالتجديد الإسلامي في حقيقته ليس توفيقا ومواءمة ولا مزجا ولا لبسا بين الإسلام ومسلمات الحداثة الغربية المعاصرة ، أو استجابة وركونا إلى ضغوط واقعها وهيمنتها واستعمارها بأشكاله المختلفة. بل التجديد الإسلامي إبقاء وحفظ لأصول الإسلام وثوابته ، وإحياء وبعث لمبادئه السليمة ومناهجه الصحيحة ، ونقد وتنقية لما تلبس بالدين مما ليس منه ، سواء كان ذلك اللبس بسبب عوامل داخلية أو بتأثيرات خارجية[3] . وبما أن أصوات عالية ترتفع اليوم من جهات عديدة تنادي بتجديد العلوم الإسلامية ومنها العقيدة ، فإن من الضروري أن يكون هذا التجديد عن إحاطة وعلم بثوابت هذه العلوم ومتغيراتها ، وعن دراية وبصيرة بالواقع المعاصر خيره وشره وحقه وباطله .
وفي هذا البحث المختصر عن تجديد منهج العقيدة الإسلامية ، تكفي الإشارة إلى ثلاثة معان لعله يتضح منها المقصود بهذا التجديد : الأول التجديد بمعنى التوفيق والمواءمة ، الثاني: التجديد بمعنى التأصيل والتأسيس ، الثالث: التجديد بمعنى النقد والتنقية .
تجديد التوفيق والمواءمة
هناك فئة من الناس ممن ينادي بالتجديد ، سواء كان ذلك عن حسن قصد أو عن سوء نية ، تفهم أن التجديد يعنى أي وجهة نظر في الدين مبنية علي الاعتقاد بأن التقدم العلمي والثقافة المعاصرة ، ستلزمان إعادة تأويل التعاليم الدينية التقليدية ، علي ضوء المفاهيم الفلسفية والعلمية السائدة في هذا العصر . ويطلق بعض الناس على هذه الفئة مصطلح العصرانية ، وهي حركة سعت في الغرب إلي تطويع مبادئ الدين لقيم الحداثة الغربية ومفاهيمها ، وإخضاعه لفلسفتها وتصوراتها ووجهة نظرها في شئون الحياة . يقول أحد الكتاب الغربيين ممن سجلوا هذه الظاهرة:(5/176)
"إن الذين دعوا أنفسهم بالمتدينين الأحرار في كل فرقة دينية ، سواء بين البروتستانت أو اليهود أو حتى الكاثوليك قد ذهبوا إلي القول أنه إذ كان للدين أن يشكل حقيقة حية ، وإذا كان له أن يظل تعبيرا دائما عن الحاجات الدينية للجنس البشري ، فلا بد له أن يتمثل الحقيقة والمعرفة الجديدتين ، وأن يتآلف مع الظروف المتغيرة في العصر الحديث من فكرية واجتماعية . ويقول هؤلاء إن تعديل العقائد في ضوء المعرفة السائدة يجب أن يتم المرة تلو المرة ما دامت معرفة الإنسان تنمو وحياته الاجتماعية تتغير."[4]
وقد ظهر التجديد التوفيقي المعاصر في العالم الإسلامي قبل قرن ونصف من الزمان تقريبا ، وقدم تفسيرات وتأويلات للعقيدة الإسلامية ، "علي أساس اقتباس العلوم العصرية بحذافيرها وعلي علاتها ، وتفسير الإسلام والقرآن تفسيرا يطابقان ما وصلت إليه المدنية والمعلومات الحديثة ، ويطابقان هوي الغربيين وآرائهم وأذواقهم ، والاستهانة بما لا يثبته الحس والتجربة ، ولا تقرره علوم الطبيعة في بادئ النظر من الحقائق الغيبية "[5] . ومن الأمثلة المشهورة المعروفة ، تأويلات سيد خان واقبال في كتابه "تجديد التفكير الدينى" ، وتأويلات محمد أسد في ترجمته وتفسيره للقرآن. ولكن هذه التفسيرات والتأويلات لم تتجاوز دائرة ضيقة من المفكرين ، وظلت حبيسة في بطون الكتب ، ولم تجد رواجا . ولعل هذا التوفيق بين عقائد الإسلام والحداثة الغربية المعاصرة يشابه موقف من أطلق عليهم لقب الفلاسفة المسلمين ، من أمثال الكندي والفارابي وابن سينا ، الذين حاولوا التوفيق بين الفلسفة الاغريقية والدين ، فقد قبل هؤلاء مسلمات الفلسفة اليونانية في عمومها ، إن لم يكن في جزئياتها ، ثم أعملوا عقولهم لإعادة تأويل المعتقدات الإسلامية والنصوص القرآنية والنبوية التي تسندها ، في ضوء مقولات وقواعد زعموا أنها عقلية . ومن المعروف أن شيوع هذا الاتجاه التوفيقي الفلسفي عند المسلمين ، قد تصدى له اتجاه نقدي قوي ، كان من أشهر مفكريه الغزالي وابن تيمية ، مما جعله يتراجع وينزوي إلا عند قلة .
ولعل من صور التجديد التوفيقي الهام في أيامنا هذه ، ما يسعى إليه البعض من إصلاح التعليم الدينى من خلال اقتباس طرق تدريس الدين الرائجة في الغرب . فمن المعروف أن الغرب قد استحدث طرقا عديدة لتعليم العقائد في الجامعات والمدارس العامة ، تنبع من نظرياته وفلسفاته المختلفة لأصل الدين ونشأته[6] . وتقوم نظرة كثير من الغربيين للدين وعقائده على أساس أن الدين نتاج بشري متأثر بالظروف التي نشأ فيها . ولهذا تسعى هذه الطرق لإخضاع الدين للنقد العقلي ، أو ما يسمى بالنقد التاريخي للمنقول ، الذي يقوم أكثر ما يقوم على إثارة الشكوك حول أصول الدين ومسلماته . ومن هذه الطرق أيضا الاهتمام بطقوس الدين ومظاهره الاجتماعية ، دون عناية بلبابه وجوهره . ومنها التوسع في الدراسات الدينية المقارنة ، من يهودية ونصرانية وإسلام وإغريقية ومصرية وهندية وبدائية ، فتختلط المعتقدات وتتشابك ويحكم عليها إما بأنها كلها أساطير ، أو أنها حقائق نسبية لا تقوم على العقل بل على القبول الأعمى والتسليم المطلق .
وقد لا يتبنى التجديد التوفيقي كل هذه الأطروحات الغربية بمثل هذا الوضوح والتطرف ، ولكنه حتى في أخف صورة له ، يعتمد النقد في اتجاه واحد ، إذ أنه لا ينتقد الحداثة الغربية ونظرياتها ، إنما يوجه سهامه ضد عقائد الإسلام بصورة خفية ، بدعوى نقد التراث ، ويروج للنظرة الغربية العلمانية التي تري العقيدة والإيمان أمرا خاصا ، لا ينبغي أن يكون له تأثير في الحياة العامة .
ويقف في الطرف الآخر المخالف للتجديد التوفيقي ، اتجاه يرفض التجديد مطلقا ، باعتباره مشروعا غربيا يناقض الإسلام مناقضة تامة ، وهدفه الأساسي تجفيف منابع العقيدة التي يظن أنها تغذي ثقافة العنف والتطرف . وتنكفئ فئة الرفض هذه على الموروث وتقديسه ، وتتحامل على الحداثة الغربية باعتبارها شرا محضا . ولعل هذا تطرف يقابل تطرفا ، وكلا الطرفين مذموم . ولكن يبقى السؤال ما التجديد الوسط ؟
----------
[1] Blau, Joseph, Modern Varieties in Judaism, p. 26
[2] سنن أبي داود - كتاب الملاحم ج / 4 ص 109
[3] انظر مفهوم تجديد الدين ، بسطامي محمد خير ،
[4] تكوين العقل الحديث - جون راندال - ح/2 ص 217 .
[5] الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرية الغربية - أبو الحسن الندوي ص 71
[6] انظر مثلا Carl Olson, Theory and Methods in the study of Religion, Wadsworth, Belmont, 2003.
===============
علم الثقافة الإسلامية
لفتت الكتاباتُ ذات المنهج الشمولي بعضَ العلماء والمفكرين؛ فبدأت الرؤية تتضح في الحاجة إلى تأسيس علم جديد؛ يقوم بتوعية الأجيال بهويتها الإسلامية، ويُحصِّنها ضد الغزو الفكري والثقافي.. وسمي هذا العلمُ (علم الثقافة الإسلامية)، ويذكر الأستاذ محمد المبارك - رحمه الله - هذه المرحلة وما رافقها من اجتهادات؛ فذكر أن عدة اقتراحات طُرِحت لتسمية هذا العلم الجديد، منها:
• اقْتُرِحَ بأن يسمى: (الإسلام في مقابل النصرانية واليهودية والشيوعية وغيرها من الأديان أو المذاهب الاجتماعية)! ولكنَّ هذا الاقتراحَ رَُّد لطول الاسم، ولأن مصطلح (الإسلام) مصطلح عامٌّ لا يشير إلى المقصود من العلم.
• واقتُرِحَ بأن يسمى (علم الحضارة الإسلامية)، ورُدَّ هذا الاقتراحُ بأن المسمى سيدخل في الدراساتِ التاريخيةِ، وعرضِ الجوانب العلمية والحضارية، وهذا غير مقصودٍ، ومخدومٌ في علومٍ أخرى.
• واقتُرِحَ بأن يسمى (النُّظُم الإسلامية)، ولكن هذا التعبير - بصيغة الجمع - يُفهَم منه الدلالةُ على الأنظمة المختلفة للإسلام؛ كالنظام السياسي، والاقتصادي، والأسري!
• ويرى الأستاذ محمد المبارك بأن يسمى العلم الجديد (نظام الإسلام)، ويبرّر هذه التسمية بقوله: (لأن كلمة "نظام" - بالإفراد - تفيد أن لكل دين أو مذهب طريقةً أو نظاماً يُنظِّم أجزاءَه وأقسامه ومبادئه النظرية والعملية)[6].
• أُدخل هذا العلمُ إلى مناهج جامعة الرياض، التي سميت باسم (جامعة الملك سعود)، كان ذلك عام 1964م، وسميت باسم مادة (الثقافة الإسلامية).
• في عام 1397هـ أُنشئ قسمُ الثقافة الإسلامية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
وبذلك استقر مسمى (الثقافة الإسلامية) لهذا العلم الجديد، وقُرِّر تدريسُ هذه المادة في جميع الجامعات في المملكة العربية السعودية.
المراحل التي مرّت بها الثقافة الإسلامية:
يذكر الأستاذ محمد المبارك في كتابه (الفكر الإسلامي الحديث في مواجهة الأفكار الغربية) أن جيلَه شهدَ حمْلاتِ تشكيكٍ في المُثُلِ والقيم الإسلامية، وشهد انبهاراً بالأفكار الغربية مثل (العلمانية) و(الديمقراطية)، ثم جاءت موجة (الاشتراكية)، ويشير إلى أن هذه (الأيدلوجيات) والأفكار جاءت إلى العالم الإسلامي، والظروفُ مهيّئة لانتشارها، والنفوسُ مستعدّة لقَبولها[7].
ومنذ ذلك الحين أصبحت الثقافة الإسلامية تواجه تحدِّياً كبيراً، وبدأت تتضح مراحل المواجهة مع الثقافة الغربية الغازية، ويمكن أن تقسم هذه المراحل إلى المراحل الآتية:
المرحلة الأولى (مرحلة: الإسلام في قفص الاتهام):(5/177)
في هذه المرحلة كانت الثقافةُ الإسلاميةُ ومُثُلُها وقيمُها ونُظُمُها.. في قفص الاتهام! وأصبح الإسلام مُتَّهماً، وتُثارُ حولَه كثيرٌ من الشُبُهات، وانبرى العلماءُ والمفكرون يدفعون عن الإسلام هذه الاتهامات، ويفنِّدون تلك الشبهات؛ فالإسلام ليس منافياً للرُّقيِّ، ولا مانعاً من التطور، ولا معارضاً للعلم والعقل، وهذا ما يلاحَظ في مؤلفات الشيخ محمد عبده، وفريد وجدي، وأمثالهما[8].
المرحلة الثانية (مرحلة: التوفيق بين الإسلام وغيره من المبادئ الغربية):
وفي هذه المرحلة خرج الإسلام من قفص الاتهام، وأصبح يُقاس بمقاييس غيره، فالإسلام صالح لأنه يتفق مع (الديمقراطية)، وهو متطور لأنه يتفق مع مبادئ الاشتراكية! وسببُ القياسِ على هذه المبادئ أن كثيراً من المثقفين كانوا منبهرين بتلك المبادئ والنظم..
وفي هذه المرحلة أُلبسَت الأفكارُ الغربية أحياناً لباسَ الإسلام؛ ليسهُل مرورُها واجتيازها إلى المجتمع الإسلامي! وأحياناً يُلبَس الإسلامُ لباسَ الأفكار الغربية؛ ليسهل على العقول التي ألفت التفكير الغربي أن تستسيغه وتقبله!! وظهرت كتبٌ في هذه المرحلة، مثل كتاب (ديمقراطية الإسلام!) للعقاد، وكتاب (اشتراكية الإسلام!) لمصطفى السباعي[9].
وكان لهذه المرحلة إيجابياتها وسلبياتها، فكانت سبيلاً للكشف عن كثيرٍ من جوانب عظمة الإسلام، كما كانت - أحياناً - للانحراف والتعسف في تأويل نصوصه، وإلباسِه غيرَ ثوبه، وإقحامِ أفكارٍ غريبة عليه[10].
وكان لهذه المرحلة عدة خصائص، من أبرزها ما يلي:
1- أنها كانت تقوم على أساسٍ نفسي، من الإعجاب بالغرب وإكباره، واستشعارِ النقص والضعفِ الفكري والثقافي.
2- أنها كانت تقوم على الأخذ بالمثل والقيم الغربية، واتخاذها مقاييس لتقويم مبادئ الإسلام ونظمه وقيمه.
3- تأثرُ المسلمين وانخداعُهم ببعض الأفكار والاصطلاحات، مثل: التقدمية، والتطور، والتجديد..
4- نقل المسلمين لمشكلات الغرب التي نشأت في ظروف تاريخية خاصة به، وإقحام تلك المشكلات في داخل المجتمع الإسلامي، على الرغم من اختلاف الظروف والملابسات!! مثل مشكلة الصراع بين الدين والعلم.
المرحلة الثالثة (مرحلة: ذاتية الإسلام وظهور تميزه على المبادئ الغربية):
وفي هذه المرحلة بدأت تتضح صورةُ الإسلام الخاصة به، ومقاييسه الذاتية، وبدأت مرحلة وعي الذات وأنَّ ما تملكه الأمةُ من مبادئَ سامية ونظمٍ صالحةٍ أفضلُ مما هو موجود لدى الغرب، فقد وجد المسلمون بين أيديهم رصيداً ثميناً من المثل والقيم والمبادئ والنظم، واكتشفوا أن ما جاء به الإسلام نظامٌ كامل وشامل للحياة.
وفي هذه المرحلة بدأت تتضح عيوبُ وسلبياتُ النظم الغربية، وأصبحت تُوجَّه الانتقاداتُ إليها، فبدأت تتضح عيوبُ (الاشتراكية) و(العلمانية) و(الديمقراطية)، وأن الشعوب لم تجد في تلك المذاهب والنظريات ما يحقق رُقِيَّها وسعادتَها[11].
المطلب الثاني: تميز علم الثقافة الإسلامية، وأهمية تدريسها في الجامعات:
ويحوي هذا المطلب محورين:
المحور الأول: تميز علم الثقافة الإسلامية على غيره من العلوم:
من المؤسف أن ترى البعض يحمل تصوُّراً خاطئاً عن علم الثقافة الإسلامية، بل يذهب بعضُهم إلى أنه ليس هناك حاجة إلى هذا العلم، وأن العلوم الإسلامية الأخرى تغني عنه! ولذا نحاول أن نشير هنا إلى تميزه عن العلوم الإسلامية الأخرى:
- فمِمَّا يميز علم الثقافة الإسلامية أنه علم يبحث في كُليَّات الإسلام، في نظم الحياة كلها، وهذا يخرِج العلومَ الأخرى، كعلم العقيدة، وعلم الفقه..؛ لأنها علوم تبحث في فروع الإسلام وجزئياته، وليس في كليات الإسلام[12].
- إن علم الثقافة الإسلامية يتسم بالشمول، ويقصد به: التناول الكلي للموضوع باعتباره وحدةً مترابطة، سواء كان الموضوع قِيمةً أو نظاماً أو فكراً، فالإسلام يُتَنَاوَل بوصفه منهجاً للحياة مترابطاً من جميع الجوانب؛ العَقَدية، والعِبادية، ولخلُقية، والاجتماعية، والاقتصادية .. إلخ[13].
- ويتميز علم الثقافة الإسلامية بقيامه على منهجيةِ توجيهِ النقدِ إلى (الأيدلوجيات) والمذاهب الأخرى، ولا سيما في هذا العصر، الذي تتنافس فيه المذهبيات وتتصارع فيه الأفكار، فبواسطة النقد - بحديه الإيجابي والسلبي - يمكن بيانُ الجوانبِ الجيدةِ المتوافقةِ مع الإسلام في الفكر الإنساني، وكذلك بيانُ جوانبِ النقصِ والقُصورِ والانحراف التي تكشف عن حاجته إلى هداية الوحي[14].
- ويتميز علم الثقافة الإسلامية باعتماده على منهج المقارنة، وذلك من أجل كشف كمال الإسلام، وفضله، وحاجة البشرية إليه[15].
المحور الثاني: أهمية تدريس علم الثقافة الإسلامية في الجامعات:
تتجلى أهمية تدريس مادة الثقافة الإسلامية في الجامعات في معرفة أهدافِ تدريسها، وأبرزُ الأهداف لتدريسها ما يلي:
1- إبرازُ النظرةِ الشمولية للإسلام، بوصفه منهجاً شاملاً لجميع جوانب الحياة، أساسُه التوحيد، والتخلصُ من النظرة الجزئية للإسلام، التي تقصره على بعض جوانب الحياة.
2- تعميقُ انتماء الطالب إلى الإسلام، وربطُه بكتاب الله - عز وجل - وسنّة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وتبصيرُه بما في هذين المصدرين الرئيسين من أصول القيم الخلقية والحضارية، وذلك من أجل تحصينه - اعتقاداً وفكراً وسلوكاً - ضد التيارات الفكرية المعارضة للإسلام.
3- تجليةُ مواقف الإسلام من قضايا العصر، خاصة في مجالات العلوم المختلفة، وحركات الفكر، ونظم الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية..، ونقدها من المنظور الإسلامي.
4- بيانُ تفوقِ الإسلام وتميزه على المذاهب الفكرية و(الأيدلوجيات) في كافة شؤون الحياة، وإظهارُ قدرتِه على تحقيق السعادة الإنسانية؛ في مقابل إخفاق تلك المذاهب و(الأيدلوجيات).
5- إعطاء الطالب صورة وافية عما صنعته رسالةُ الإسلام العامَّةُ الشاملةُ في الحياة الإنسانية، من تحريرِها للبشر من الوثنيات والخرافات، وإنقاذِهم من التخلف الفكري، والتفكك الاجتماعي.
6- تشخيصُ حالِ الأمةِ الإسلاميةِ في مجالي الفكرِ والسلوكِ والحركةِ الحضاريةِ، وبيانُ مَواطن الخلل فيها ومنهج العلاج[16].
اهتمام الجامعات بتدريس مادة الثقافة الإسلامية:
يعود الفضل في تدريس المادة إلى الأستاذ محمد المبارك - رحمه الله - حيث سعى بجهوده إلى تحقيق ذلك، وقد ذكر - رحمه الله - الخطوات التي قام بها في هذا المجال، وهي التالية:
* كانت البداية في جامعة دمشق، في كلية الشريعة، عام 1954م، حيث كان الأستاذ المبارك أحدَ أعضاء اللجنة التي وضعت خطةَ المناهج، وقام باقتراح إدخال مادة (نظام الإسلام) في منهج السنة الأولى؛ لإعطاء الطالب صورةً شاملةً للإسلام، وقُبِلَ الاقتراحُ، وقامَ الأستاذُ بتدريس تلك المادة.
* في عام 1961م اشترك الأستاذُ المبارك في لجان تطوير الأزهر، وقام بإدخال تلك المادة في مناهج جميع الكليات.
* ثم أدخلت المادة إلى مناهج الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
* ثم أدخلت المادة في كلية الشريعة بمكة المكرمة.
* ثم أدخلت في جامعة أم دَرْمان الإسلامية بالسودان.
* ثم في جامعة الرياض (جامعة الملك سعود حالياً) عام 1964م[17].
* وكانت المملكة العربية السعودية سبّاقة في هذا المجال، حيث جعلت الثقافة الإسلامية أساساً في التعليم، وجاء في السياسة التعليمية ما يلي: (العلومُ الدينيةُ أساسيةُ في جميع سنوات التعليم: الابتدائي، والمتوسط، والثانوي بفروعه، والثقافةُ الإسلاميةُ أساسيةُ في جميع سنوات التعليم).(5/178)
وبهذا أصبحت مادة الثقافة الإسلامية من المتطلبات العامة لجميع ِالجامعات في المملكة العربية السعودية.
ــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر بحث (مدخل إلى علم الثقافة الإسلامية)، للأستاذ الدكتور عبد الرحمن الزنيدي، المنشور في مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، العدد الثاني، ص:94، المحرم عام 1410هـ.
[2] (الثقافة الإسلامية: تخصصاً ومادة..)، ص:19-20.
[3] (نظام الإسلام: العقيدة والعبادة)، ص:9-10، دار الفكر، بيروت،1405هـ ،1984م.
[4] انظر المرجع السابق، ص:22.
[5] المرجع السابق، ص: 24.
[6] انظر المرجع المذكور، ص:8-11، دار الفكر، بيروت، 1970م.
[7] انظر المرجع السابق، ص:51.
[8] انظر المرجع السابق، ص:15-16و51.
[9] انظر المرجع السابق، ص:16.
[10] انظر المرجع السابق، ص:110-111.
[11] انظر بحث (مدخل إلى علم الثقافة الإسلامية) للزنيدي، ص: 89.
[12] انظر (الثقافة الإسلامية: تخصصاً ومادة..)، ص:21.
[13] انظر المرجع السابق، ص:22.
[14] انظر المرجع السابق، ص:22.
[15] انظر (الثقافة الإسلامية: تخصصاً ومادة..) ص:23-24، و(مقدمات في الثقافة الإسلامية)، د. مفرح سليمان القوسي، ص:42-43، دار الغيث للنشر والتوزيع، 1415هـ.
[16] انظر (نظام الإسلام)، للأستاذ محمد المبارك، ص:24-25.
[17] (سياسة التعليم في المملكة العربية السعودية)، ص:9.
=============
كيف اختلطت النصرانية بالعقائد الشركية ؟
سؤال:
إذا كانت النصرانية الحقة قد جاءت بتوحيد الله تعالى ، وإفراده بالعبادة دون ما سواه من الخلق ، سواء كان عيسى أو غيره ، فكيف اختلطت هذه الديانة بالعقائد الشركية ، فاتخذوا عيسى عليه السلام ، وأمه إلهين من دون الله ؟.
الجواب:
الحمد لله
ليس من شك أن الدعوة إلى توحيد الله تعالى ، وإفراده بالعبادة دون ما سواه من الخلق ، هو أصل الرسالة التي جاء بها نبي الله عيسى ، عليه السلام ، كما أنها أصل الرسالة التي جاء بها سائر الأنبياء ، قال الله تعالى : ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) النحل/36 وقال تعالى أيضا : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ) الانبياء/25
وعلى هذه الدعوة يشهد عيسى عليه السلام على قومه ؛ قال الله تعالى : ( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ(116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(117) ، وأما كيف انحرف أصحاب هذه الديانة بعد ذلك عن التوحيد الخالص إلى العقائد الوثنية ، وعبادة عيسى وأمه من دون الله ، فهي قصة مبكرة في تاريخ النصرانية ، وسوف نورد هنا بعض الشواهد عليها ، من كلام أهلها ، وليسمع من له أذنان :
. . جاء في دائرة المعارف الأمريكية :
( لقد بدأت عقيدة التوحيد - كحركة لاهوتية - بداية مبكرة جدا في التاريخ ، وفي حقيقة الأمر فإنها تسبق عقيدة التثليث بالكثير من عشرات السنين . لقد اشتُقَّت المسيحية من اليهودية ، واليهودية صارمة في عقيدة التوحيد .
إن الطريق الذي سار من أورشليم [ مجمع تلاميذ المسيح الأول ] إلى نيقية [ حيث تقرر مساواة المسيح بالله في الجوهر والأزلية عام 325م ] كان من النادر القول بأنه كان طريقا مستقيما .
إن عقيدة التثليث التي أقرت في القرن الرابع الميلادي لم تعكس بدقة التعليم المسيحي الأول فيما يختص بطبيعة الله ؛ لقد كانت على العكس من ذلك انحرافا عن هذا التعليم ، ولهذا فإنها تطورت ضد التوحيد الخالص ، أو على الأقل يمكن القول بأنها كانت معارضة لما هو ضد التثليث ، كما أن انتصارها لم يكن كاملا . ) [ 27/294 ]
ويمكنك الرجوع إلى بعض آراء من لا يزالون يذهبون إلى التوحيد من المسيحيين ، في المصدر السابق نفسه ، دائرة المعارف [ 27/300-301 ] .
ويقول وول ديورانت :
( لما فتحت المسيحية روما انتقل إلى الدين الجديد [ أي المسيحي ] دماء الدين الوثني القديم : لقب الحبر الأعظم ، وعبادة الأم العظمى ، وعدد لا يحصى من الأرباب التي تبث الراحة والطمأنينة في النفوس ، وتمتاز بوجود كائنات في كل مكان لا تدركها الحواس ، كل هذا انتقل إلى المسيحية كما ينتقل دم الأم إلى ولدها .
وأسلمت الإمبراطورية المحتضرة أزِمَّة الفتح والمهارة الإدارية إلى البابوية القوية ، وشحذت الكلمة بقوة سحرها ما فقده السيف المسلول من قوته . وحل مبشرو الكنيسة محل الدولة .
إن المسيحية لم تقض على الوثنية ، بل ثبتتها ؛ ذلك أن العقل اليوناني عاد إلى الحياة في صورة جديدة ، في لاهوت الكنيسة وطقوسها ، ونقلت الطقوس اليونانية الخفية إلى طقوس القداس الرهيبة ، وجاءت من مصر آراء الثالوث المقدس ، ويوم الحساب ، وأبدية الثواب والعقاب ، وخلود الإنسان في هذا أو ذاك . ومن مصر جاءت عبادة الأم الطفل ، والاتصال الصوفي بالله ؛ ذلك الاتصال الذي أوجد الأفلوطينية واللاأدرية ، وطمس معالم العقيدة المسيحية . ومن بلاد الفرس جاءت عقيدة رجوع المسيح وحكمه الأرض لمدة 1000 ) . [ قصة الحضارة 11/418 ] .
وعلى الرغم من النفثة الإلحادية في كلام ديورانت ، وهو أمر معروف به ، والتي تظهر في زعمه أن أبدية الثواب والعقاب منقولة عن المصرية ، فإن تتبع الأصول الوثنية للنصرانية المحرفة لم يعد بالأمر الخفي ، ولم ينفرد هو ببحثه ؛ ففي كتابه " المسيحية والوثنية " يقرر روبرتسون أن الميثراثية ، وهي ديانة فارسية الأصل ، ازدهرت في بلاد فارس قبل الميلاد بنحو ستة قرون ، قد دخلت إلى روما حوالي عام 70 م ، وانتشرت في بلاد الرومان ، ثم وصلت إلى بريطانيا ، وانتشرت في العديد من مدنها .
وما يعنينا هنا من أمر هذه الديانة أنها تقول :
- إن ميثراس ، الذي تنسب إليه ، كان وسيطا بين الله والناس . { انظر مقابله في النصرانية : أعمال الرسل 4/12 }
- وأن مولده كان في كهف ، أو زاوية من الأرض . { انظر : لوقا 2/7 } .
- وأن مولده كان في يوم 25 ديسمبر . { وهو يوم احتفال النصارى بمولد المسيح }
- كان له اثنا عشر حواريا . { انظر : متى 10/1 }
- مات ليخلص العالم { انظر : كورنثوس الأولى 15/3 }
- دفن ولكنه عاد إلى الحياة { انظر : السابق 15/4 }
- صعد إلى السماء أمام تلاميذه { انظر : أعمال الرسل 1/9}
- كان يدعى مخلصا ومنقذا { انظر : تيطس 2/13}
- من أوصافه أنه حمل وديع { انظر : يوحنا 1/ 29 }
- في ذكراه كل عام يقام العشاء الرباني { انظر : كورنثوس الأولى 11/23-25}
- من شعائره التعميد .
- يوم الأحد مقدس عندهم .(5/179)
بينما يذهب المستشرق الفرنسي ليون جوتيه في كتابه " مقدمة لدراسة الفلسفة الإسلامية " إلى أن أصول التثليث النصراني ينبغي تلمسها في الفلسفة اليونانية ، وتحديدا في أفكار الأفلاطونية المحدثة ، التي تلقت مبادئ فكرة التثليث في النظرة إلى خالق الكون عن أفلاطون ، ثم عمقتها إلى حد كبير ، بحيث اتضح التشابه الكبير بينها وبين النصرانية ؛ فالخالق ، ذو الكمال المطلق ، جعل بينه وبين العالم وسيطين ، صادرين عنه ، وهما أيضا داخلان فيه في نفس الوقت ؛ أي تتضمنهما ذاته ، وهما العقل والروح الإلهية . ثم قال :
( وهكذا كان التزاوج بين العقيدة اليهودية والفلسفة الإغريقية لم ينتج فلسفة فقط ، بل أنتج معها دينا أيضا ، أعني المسيحية التي تشربت كثيرا من الآراء والأفكار الفلسفية عن اليونان ؛ ذلك أن اللاهوت المسيحي مقتبس من نفس المعين الذي كانت فيه الأفلاطونية الحديثة ، ولذا تجد بينهما مشابهات كثيرة ، وإن افترقا أحيانا في بعض التفاصيل ، فإنهما يرتكزان على عقيدة التثليث ، والثلاثة الأقانيم واحدة فيهما . )
وهذا هو ما يشير إليه الكاتب الأمريكي ( درابر) :
( دخلت الوثنية والشرك في النصرانية بتأثير المنافقين الذين تقلدوا وظائف خطيرة ، ومناصب عالية في الدولة الرومية بتظاهرهم بالنصرانية ، ولم يكونوا يحتفلون بأمر الدين ، ولم يخلصوا له يوما من الأيام ، وكذلك كان قسطنطين فقد قضي عمره في الظلم والفجور ، ولم يتقيد بأوامر الكنيسة الدينية ، إلا قليلا في آخر عمره (337م ) .
إن الجماعة النصرانية ، وإن كانت قد بلغت من القوة بحيث ولت قسطنطين الملك ، ولكنها لم تتمكن من أن تقطع دابر الوثنية ، وتقتلع جرثومتها ، وكان نتيجة كفاحها أن اختلطت مبادئها ، ونشأ من ذلك دين جديد تتجلى فيه النصرانية والوثنية سواء بسواء ) .
وهكذا سلك النصارى بدينهم مسلك الذين كفروا من قبلهم ، حذو القذة بالقذة ، كما يشهد كتابهم على أنفسهم وبني قومهم ، وكفى بالله شهيدا ؛ قال الله تعالى : ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) التوبة/30
والله الموفق .
الإسلام سؤال وجواب
===============
كيف يوفق المسلمون بين العمل للآخرة والعمل للدنيا ؟
سؤال:
في هذا العالم إذا كرس المسلمون جميع أوقاتهم وأفعالهم لما ينفع في اليوم الآخر ولم ينخرطوا في أي من الأعمال الدنيوية ، فكيف سيساهمون فيما فيه نفع الحضارة والإنسانية مثل التكنولوجيا والعلم والاختراع ؟.
الجواب:
الحمد لله
دين الإسلام هو خاتم الأديان ، وإن مِن أهم خصائص هذا الدين أنه دين ينظم الحياة كلها , فالإسلام دين الدنيا والآخرة , قال الله سبحانه وتعالى : ( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) الأنعام/162 ، وفي دعاء المسلمين في مواضع متفرقة يقولون : ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) ، فهذا دين الله الكامل والشامل والجامع ، جمع بين حق الله وحق العبد ، وبين أمر الدنيا وأمر الآخرة .
وإن ادِّعاء أن الإسلام جاء بالرهبانية ادعاء باطل ، بل الرهبانية في دين النصارى المحرَّف ، وأخذها عنهم بعض مبتدعة المسلمين كالصوفية ، أما أهل السنة والجماعة الذي أخذوا الدين من نبعه الصافي ، وفهموه على وجهه الصحيح فإنهم يعتقدون أن الدنيا معبر إلى الآخرة ، وأن الإنسان لا ينبغي له أن يتعلق بالدنيا على حساب الآخرة ، فهم جعلوا الآخرة هي محط أنظارهم لأنها الحياة الأبدية الخالدة ، فالعمل ينبغي أن يكون من أجلها لا من أجل حياة قصيرة فانية ، وليس معنى هذا أن لا يعملوا في الدنيا ولا يعمروا الأرض ، بل إن المسلمين بلغوا في مجالات العلم النظرية والعملية أعلى المنازل ، وكانت الحضارات تتبع المسلمين في تقدمهم وعلومهم ، ولا تزال بعض الجامعات الغربية العريقة تعترف بهذا وتدرِّس كتاباً للمسلمين في مناهجهم .
قال الفيلسوف الفرنسي " جوستاف لوبون " في كتابه " حضارة العرب " :
هل يتعين أن نذكر أن العرب - والعرب وحدهم - هم الذين هدونا إلى العالم اليوناني والعالم اللاتيني القديم ، وأن الجامعات الأوربية ومنها جامعة باريس عاشت مدة ستمئة عام على ترجمات كتبهم وجرت على أساليبهم في البحث ، وكانت الحضارة الإسلامية من أعجب ما عرف التاريخ " انتهى .
والمسلمون ليسوا كغيرهم ، فإنهم لما كانوا متمسكين بدينهم كانوا سابقين - أيضاً - في الدنيا ، ولما تركوا دينهم وتخلوا عنه صاروا تبعاً لغيرهم وعالة عليهم ، والنصارى لما كانوا متمسكين بدينهم المحرَّف كانوا متخلفين في دنياهم ، ولما قاموا على كنائسهم حرقاً وعلى رهبانهم قتلاً وفصلوا الدين عن الدنيا تقدموا في دنياهم وعلومها ، فالمسلمون يدفعهم دينهم إلى التقدم ، ويتأخرون بتأخرهم عن دينهم ، والنصارى تخلفوا لما تمسكوا بدينهم المحرَّف ، لأنه لا يمكن لدين حرفه العباد أن يؤدي إلى التقدم ، وتقدموا لما تخلوا عنه ، فأي المنهجين يدعو لعمارة الدنيا ويسعى في تقدمه في العلوم وإسعاد الناس في الدنيا والآخرة ؟
والآيات والأحاديث التي تحث المسلم على عمارة الأرض بالزراعة والصناعة كثيرة ، وقد فهم المسلمون ذلك فسارعوا إلى العمل على هذه العمارة دون أن يؤثر ذلك على عبادتهم وطاعتهم ، ودون أن يروا أن بين الدين والدنيا تضادّاً وتنافراً ، والمحذور في هذه العمارة هو أن ينشغل المسلم بها عن واجبات دينه وطاعة ربه .
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة ) رواه البخاري (2195) ومسلم (1553) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
وفي الحديث : فضل الغرس والزرع والحض على عمارة الأرض , ويستنبط منه اتخاذ الضيعة والقيام عليها ، وفيه فساد قول من أنكر ذلك من المتزهدة ، وحُمل ما ورد من التنفير عن ذلك على ما إذا شغل عن أمر الدين , فمنه حديث ابن مسعود مرفوعا : ( لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا ) الحديث , قال القرطبي : يجمع بينه وبين حديث الباب بحمله على الاستكثار والاشتغال به عن أمر الدين , وحمل حديث الباب على اتخاذها للكفاف أو لنفع المسلمين بها وتحصيل ثوابها .
"فتح الباري" (5/4) .
والحديث الذي ذكره الحافظ ابن حجر : ( لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا ) رواه الترمذي (2328) وحسَّنه .
قال المباركفوري رحمه الله :
(الضيعة) هي : البستان والقرية والمزرعة .
(فترغبوا في الدنيا) أي : فتميلوا إليها عن الأخرى , والمراد : النهي عن الاشتغال بها وبأمثالها مما يكون مانعاً عن القيام بعبادة المولى وعن التوجه كما ينبغي إلى أمور العقبى . وقال الطيبي : المعنى لا تتوغلوا في اتخاذ الضيعة فتلهوا بها عن ذكر الله قال تعالى : ( رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ) .
"تحفة الأحوذي" (6/511) .(5/180)
وقد رأينا إنصاف المسلمين ودينهم من بعض الباحثين الغربيين ، فاعترفوا بسبق المسلمين في مجالات العلوم الدنيوية المختلفة ، وهاهي بعض أقوالهم ليعلم السائل - وغيره - موقع الإسلام من الحضارات الأخرى ، وليعلم منهج الإسلام في حثه أتباعه على النظر والتأمل والعمل والإبداع ، وسنحرص على تنويع بلدان القائلين واختلاف ثقافاتهم .
1. يقول المفكر الفرنسي " جوستاف لوبون " في كتابه المعروف " حضارة العرب " - ترجمة " عادل زعيتر " - :
" لو أن العرب استولوا على فرنسا : إذن لصارت باريس مثل قرطبة في إسبانيا ، مركزاً للحضارة والعلم ؛ حيث كان رجل الشارع فيها يكتب ويقرأ ، بل ويقرض الشعر أحياناً ، في الوقت الذي كان فيه ملوك أوروبا لا يعرفون كتابة أسمائهم " ! .
2. وقالت المستشرقة الألمانية " زيغريد هونكة " - في كتابها المعروف " شمس الله تشرق على الغرب" - انتشار المكتبات في العالم العربي والإسلامي :
" نمت دور الكتب في كل مكان نمو العشب في الأرض الطيبة ، ففي عام 891 م يحصي مسافر عدد دور الكتب العامة في بغداد بأكثر من مئة ، وبدأت كل مدينة تبني لها داراً للكتب يستطيع عمرو وزيد من الناس استعارة ما يشاء منها ، وأن يجلس في قاعات المطالعة ليقرأ ما يريد ، كما يجتمع فيها المترجمون والمؤلفون في قاعات خصصت لهم ، يتجادلون ويتناقشون كما يحدث اليوم في أرقى الأندية العلمية " .
وكتاب " شمس الله تشرق على الغرب " في النص الألماني معناه : نور الإسلام يضيء الحضارة الغربية ، والكتاب مليء بأسماء مبدعين مسلمين عرب وغير عرب .
3. واقرأ هذا الكلام لحكيم روسي وهو يبين أن هذا الدين فيه ما خدم الإنسانية ، وقاد إلى الرقي والمدنية .
وقال تولستوي الحكيم الروسي :
" ومما لا ريب فيه أن النبي محمداً كان من عظام الرجال المصلحين الذين خدموا المجتمع الإنساني خدمة جليلة ، ويكفيه فخراً أنه هدى أمة برمتها إلى نور الحق ، وجعلها تجنح للسكينة والسلام وتؤثر عيشة الزهد ، ومنعها من سفك الدماء وتقديم الضحايا البشرية ، وفتح لها طريق الرقي والمدنية ، وهو عمل عظيم لا يقوم به إلا شخص أوتي قوة ، ورجل مثل هذا جدير بالاحترام والإكرام " .
4. وقال الدكتور النمساوي شبرك :
" إنّ البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد إليها ، إذ إنّه رغم أُمّيته استطاع قبل بضعة عشر قرنًا أنْ يأتي بتشريع ، سنكونُ نحنُ الأوروبيين أسعد ما نكون إذا توصلنا إلى قمّته " .
5. وفي باب الطب والجراحة كان للمسلمين دورٌ لا يُنكر .
يقول الكاتب البريطاني هـ.ج. ويلز في كتابه " معالم تاريخ الإنسانية " :
" وتقدموا في الطب أشواطا بعيدة على الإغريق ، ودرسوا علم وظائف الأعضاء ، وعلم تدبير الصحة ، ... ولا يبرح كثير من طرق العلاج عندهم مستعملا بين ظهرانينا إلى اليوم ، وكان لجراحيهم دراية باستعمال التخدير ، وكانوا يجرون طائفة من أصعب الجراحات المعروفة ، وفي ذات الوقت التي كانت الكنيسة تحرم فيه ممارسة الطب انتظاراً منها لتمام الشفاء بموجب المناسك الدينية التي يتولاها القساوسة : كان لدى العرب علم طبي حق " انتهى .
بل ويقول - أيضاً - :
"كل دين لا يسير مع المدنية فاضرب به عرض الحائط ، ولم أجد ديناً يسير مع المدنية أنَّى سارت سوى دين الإسلام " انتهى .
والشهادات أكثر من أن تحصى ، وأردنا بذكر بعضها التدليل على ما قلناه من كلام غير المسلمين ، وقد اخترنا أناساً لا يمكن تواطؤهم على الكذب ، فهم من دول مختلفة ، ومن ثقافات مختلفة ، بل ومن أديان وحضارات مختلفة ، وفي كل ما ذكرناه عنهم بيان لما كان عليه المسلمون - ويجب أن يبقوا عليه - من تقدم وازدهار في العلوم المدنية ومن السعي في الإنسانية للرقي بحياتها في مختلف المجالات ، وكان المسلمون مع بروزهم في هذه المجالات متقدمين - كذلك - في العلوم الدينية والعبادات والطاعات لربهم عز وجل ، وتاريخ هذا الدين يشهد بالحركة العظيمة في التأليف في المجال الشرعي المتعلق بالقرآن والسنة ، ويشهد بنماذج عالية لعبَّاد وزهَّاد لم تمنعهم عبادتهم ولم يمنعهم زهدهم من أن يكونوا علماء في الشرع أو علماء في علوم دنيوية .
وثمة أسماء لامعة لعلماء مسلمين في مجالات متعددة لا يُنكِر علمَهم وتقدمَهم إلا جاهل أو مكابر ، ومنهم : ابن النفيس والزهراوي في الطب ، وابن الهيثم في الرؤية والضوء ، والخوارزمي في الرياضيات ، وغيرهم كثير كثير .
وفي نهاية الجواب نتمنى أن تطلع على هذه المحاضرة والتي هي بعنوان " عمل الدنيا لا ينافي عمل الآخرة " وستجد فيها المزيد مما تستفيد منه وتفيد غيرك به ، وهي مفرغة تحت هذا الرابط :
http://www.islamdoor.com/k/364.htm
ونسأل الله أن يهدي المسلمين لدينهم ، وأن يوفقهم للعمل بما أمروا به ، وأن يهدي كل باحث عن الحقيقة ساعٍ في طلبها ، راغبٍ في الهداية .
والله الموفق .
الإسلام سؤال وجواب
=============
تريد النصيحة للمسلمات اللاتي يعشن في الغرب
سؤال:
أنا امرأة مسلمة أعيش في دولة أجنبية مع زوجي لطلب العيش ، أرجو أن تذكروا الالتزامات والقواعد والواجبات التي يجب على المرأة المسلمة الالتزام بها وتحافظ عليها ؛ وذلك لكثرة عدد المسلمات في الدول الأجنبية .
الجواب:
الحمد لله
1. أول ما يجب عليكم هو ترك تلك الديار الكافرة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بَرِئ ممن أقام بين أظهر المشركين ، ولذلك فإنه يحرم عليكم البقاء في بلاد الكفر ، وخاصة أنكم فيها من أجل العمل ، وليس هذا من الأعذار الشرعية التي تجيز لكم البقاء فيها .
انظر السؤال (13363) و (27211) عن تحريم الإقامة في بلاد الكفر ، وشروط جواز ذلك في بعض الحالات .
2. وعليكم أن تختاروا من البلاد الإسلامية الأقرب إلى الستر والعفاف والاستقامة على الدين ، ومن المعلوم أن البلاد الإسلامية تتفاوت فيما بينها في هذه الأمور ، وليست كل البلاد يمكنكم الإقامة فيها - للأسف - بل يتبع هذا لجنسيتكم وقوانين البلد .
3. فإن لم يحصل منكم مغادرة لتلك البلاد : فعليكن بتقوى الله تعالى ، والاستقامة على أمره عز وجل في كل شئونكن ، وأول ذلك : الحرص على أسركن من التفكك والضياع في تلك البلاد التي تساهم في هذا ، فيجب عليكن الاهتمام بأولادكن ذكوراً وإناثاً وتربيتهم تربية إسلامية وربطهم بالتاريخ الإسلامي وتعليمهم الأحكام الشرعية ، وتقوية اللغة العربية عندهم .
4. يجب أن يكون مكان سكن الأسر المسلمة بعيداً عن أماكن الفجور والانحلال ، ولا بدَّ من اجتماع الأسر المسلمة المحافظة في مكان واحد من أجل أن يقوِّي أحدهم الآخر ، ويعين بعضهم بعضاً على طاعة الله تعالى ، ويساهمون بالتالي في حسن تربية أنفسهم وأبنائهم .
5. يحرم عليكن ترك الحبل على غاربه في علاقات أولادكم بأولاد الكفار ، ولا يجوز لكم تمكينهم من مشاهدة البرامج والأفلام الهابطة التي تدمر الأخلاق ، كما يجب الاهتمام بقراءاتهم ومراقبتها حتى لا تضل أفكارهم أو يفقدوا دينهم .
6. ينبغي أن يكون لكم في أسرتكم أوقات محددة ولو كانت قصيرة تلتقي فيها الأسرة جميعها لمتابعة بعضهم بعضا ، وللوقوف على مشاكل كل واحد من الأسرة قبل تفاقمها وصعوبة أو استحالة حلها .
7. كما يجب عليكن حسن اختيار الصحبة للأسر التي تختلطون بها ؛ خشية أن يكون لبعضهم تأثير سلبي على أفراد أسرتكم فتضيع جهودكم في التربية والتوجيه .(5/181)
8. عليكن تبغيض هذه الحضارة وأخلاقها في نفوس أولادكم ، وإعلامهم بمخالفتها للشرائع والفطَر السليمة ، وضرب الأمثلة على ذلك ، وربطهم بالحضارة الإسلامية وأخلاقها ، وتنبيههم على أن بقاءكم في تلك الديار لن يطول .
9. وعليكن بكثرة زيارة البلد الله الحرام مكة المكرمة ، فاحرصوا على الحج كل عام ، وعلى العمرة أكثر من مرَّة في العام الواحد إن تيسر تقويةً لإيمانكم وتعليقاً لقلوب أولادكم بالإسلام والمسلمين ، وللأسف نرى تقصيراً واضحاً من الجاليات المسلمة في بلاد الكفر في هذا الجانب .
10. تكوين مكتبة إسلامية من كتب وأشرطة وأقراص إسلامية لربط أفراد الأسرة بدينهم ، وتسهيل الرجوع إلى معرفة الأحكام الشرعية ، وإغلاق طرق التضليل التي تساهم في تجهيلهم وإفسادهم ، وحبذا أن يكون لقناة " المجد " حضور في بيوتكم لما تقدمه من علم نافع ، ولحرصهم أن لا يكون فيها نساء ولا موسيقى ، وكذا ربطهم بالمواقع المفيدة في الإنترنت .
والحقيقة أن النصائح كثيرة ، وكثرتها إنما هو بسبب كثرة ما في تلك الديار الكافرة من ضلال وانحلال وتفسخ وتهتك ، وتحتاج كل جوانب الحياة لنصح وتوجيه وإرشاد ، ولكن ما قلناه أولاً يوفر كثيراً من النصائح وهو الخروج من تلك الديار إلى بلاد الإسلام ، ومن بقي في تلك الديار فليعلم أن الله تعالى سائله عن رعيته يوم القيامة ، فليعد للسؤال جواباً ، ونسأل الله تعالى أن يسهل لكم الخروج من تلك الديار ، وأن يثبتكم على الإسلام والهداية والتوفيق والرشاد ، وأن يصلح لكم ذريتكم ، ويجعلهم دعاة للإسلام .
ونرجو الرجوع إلى السؤال رقم ( 4237 ) : ففيه زيادة بيان حول المحافظة على الأبناء وأفكارهم في الغرب .
والله الموفق .
الإسلام سؤال وجواب
==============
لماذا فتح المسلمون الأندلس ؟
سؤال:
فهم شخص يهودي من آية في القرآن الكريم أن الإسلام ينهى عن اعتراض الناس في ديارهم ، فلماذا في السابق كانت هناك فتوحات إسلامية ؟ خاصة عندما ذهب الفارس الإسلامي طارقُ بن زياد لفتح الأندلس ، مع أن سكانها كانوا في ديارهم ، وقال طارق بن زياد لجنوده : البحر من خلفكم ، والعدو أمامكم . أرجو من فضيلتكم توضيح ذلك ؟
الجواب:
الحمد لله
الأندلس حلقة من حلقات التاريخ الإسلامي العظيم ، بل هي منارة في تاريخ البشرية كلها ، حيث كانت مصدر العلم والمعرفة في الأرض لقرون متطاولة ، تعلمت منها أوروبا كلها دروس الحضارة والمدنية ، وكان فتحها - بلا شك - من أعظم أحداث القرن الهجري الأولى (92هـ الموافق 711م) ، وكان ذلك العهد أزهى وأرقى عهود بلاد الأندلس منذ بدء التاريخ ولعله إلى آخر الزمان .
ولأهمية هذا الموضوع ، كان لا بد من بيان بعض الأمور المهمة المتعلقة بهذا الحدث العظيم:
أولا :
إن أهم مقاصد الجهاد التي شرع من أجلها تبليغ رسالة التوحيد ، بكسر جميع الطواغيت التي تحول بينها وبين الناس ، ودعوة الناس إلى الإسلام من غير إكراه ولا إجبار ، بل عن طواعية واختيار .
يقول الله تعالى : ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ) البقرة/193
قال قتادة رحمه الله : " حتى لا يكون شركٌ ، "ويكون الدين لله" : أن يقال : لا إله إلا الله ، عليها قاتل نبيُّ الله ، وإليها دعا . " تفسير الطبري (3/567) .
ثانيا :
كانت " الأندلس " واسمها القديم " أيبيرية " خاضعةً للإمبراطورية الرومانية ، وفي مطلع القرن الخامس الميلادي - أي حوالي عام 410 م اجتاحتها قبائل " القُوط " الأريوسية المذهب ، وأسسوا فيها دولةً قُوطِيَّة عاصمتها " طليطلة " .
ومن هنا نفهم أن شعوب " الأندلس " الأصلية من الكنعانيين الكاثوليك كانت - قبل الفتح الإسلامي - خاضعة للنفوذ القوطي ، وتكوَّنَ سكانها من طبقات أربعة متناقضة متصارعة : طبقة القوط الحكام المستعمرين ، وطبقة الأعيان الرومانيين ومعهم الإقطاعيون ورجال الدين ، وطبقة اليهود ، وطبقة الشعب العامل من سكان البلاد الأصليين .
فهي بلاد محتلة مضطهدة أصلا ، ولم تكن تحت حكم سكانها الأصليين ، ولم يكن المسلمون هم المبتدئين للاحتلال ، إنما خلصوا البلاد من احتلال ظالم إلى بلد مسلم يختار أهله عقيدة المسلمين ، وينتسبون إلى دولتهم .
ثالثا :
زيادة على الاحتلال الذي فرضته القبائل القوطية الغربية على بلاد الأندلس ، كان التسلط والظلم والاضطراب سمةً بارزة في فترة حكمهم التي امتدت نحو ثلاثة قرون .
يقول حسين مؤنس في كتابه "فجر الأندلس" (ص/8،18-19) :
" لكن سلطانهم لم يستقر في البلاد أول الأمر بسبب ما ثار بينهم وبين أهل البلاد من منازعات دينية ، وبسبب ما شجر بين أمرائهم من خلافات ، ولهذا ظلت البلاد طوال القرن السادس نهبا للحروب الأهلية ، وما ينجم عنها من الفوضى وسوء الحال...- حتى كان آخر حكام القوط - واحد اسمه " رودريكو " ( لذريق )...والظاهر الذي لا تستطيع المناقشة إخفاءه أن الرجل كان يشعر باضطراب الأمر عليه ، وأنه ظل حياته متخوفا من وثبة تكون من أحد أعدائه الكثيرين ؛ لأن هؤلاء الأعداء لم يكونوا أولاد " غيطشة " وحدهم - الذين استولى " لذريق " على ملكهم - بل كانوا في واقع الأمر جلة الشعب الإيبيري الروماني واليهود ، أي معظم أهل البلاد التي اقتحمها القوط عليهم " انتهى باختصار .
وقد حاول كثير من المؤرخين الأسبان أن يدافعوا عن دولة القوط - تعصبا منهم في رفض الوجود الإسلامي في تلك البلاد - إلا أن كتب التاريخ مليئةٌ بالأدلة على ما ذكره الأستاذ حسين مؤنس في شأن رفض أهل البلاد حكم القوطيين ، حتى نقل في (ص/10) عن " رفائيل بالستيروس " المؤرخ الإسباني قوله : إن العرب لو لم يتدخلوا في سنة 711هـ في شؤون الجزيرة ، ويضعوا نهاية لهذا العصر المضطرب ، لَبَلَغَ القوطُ بإسبانيا مبلغا من السوء لا يسهل تصوره .
رابعا :
لما اشتد ظلم حكام القوط في تلك البلاد ، وضاق الشعب بهم ، أرسلوا إلى المسلمين يطلبون منهم تخليصهم والنجاة بهم ، فقد أجمعت المصادر العربية على ذكر إرسال حاكم " سبتة " واسمه " يوليان " أو جوليان " إلى موسى بن نصير يطلب منه دخول البلاد وتخليصهم من شر " لذريق " ، كما تذكر كثير من المصادر إرسال أبناء " غيطشة " إلى موسى بن نصير يستنجدون به على مَن غصبهم ملك أبيهم ، بل إن المصادر التاريخية الغربية تنسب إلى اليهود المضطهدين في " الأندلس " من قبل القوط استنجادَهم بِمَن وراء البحر من " الأفارقة " أو " المسلمين " ليخلصوهم من ظلم " لذريق " وأعوانه ، وهو أمر وإن أنكره بعض المؤرخين ، غير أن المتفق عليه بينهم أن اليهود تعرضوا في تلك الفترة إلى اضطهاد كاد يفنيهم ولا يبقي لهم أثرا . انظر "فجر الأندلس" لحسين مؤنس (ص/14)
وفي النصوص الباقية الموروثة كثير من الأدلة على أن الأندلسيين استقبلوا المسلمين استقبال الفاتحين ، ومن ذلك :
يقول صاحب كتاب "أخبار مجموعة في فتح الأندلس" (ص/24) متحدثاً عن الخدمات التي قدمها بعض الإسبان لموسى بن نصير :
" فلما نزل الجزيرة ، قيل له : اسلك طريقه ، قال : ما كنت لأسلك طريقه . قال له العلوج الأدلاء : نحن ندلك على طريق هو أشرف من طريقه ، ومدائن هي أعظم خطباً من مدائنه ، لم تُفتح بعد ، يفتحها الله عليك إن شاء الله " انتهى .
ويقول أيضاً :(5/182)
" ثم سار إلى مدينة قرمونة ، فقدَّم إليها العلوج الذين معه ، وهي مدينة ليس بالأندلس أحصن منها ، ولا أبعد من أن ترجى بقتال أو حصار ، وقد قيل له حين دنا منها : ليست تُؤخذ إلا باللطف ، فقدَّم إليها علوجاً ممن قد أمنه واستأمن إليه ، مثل " يليان " ، ولعلهم أصحاب " يليان " ، فأتوهم على حال الأفلال ، معهم السلاح ، فأدخلوهم مدينتهم ، فلما دخلوها بعث إليهم الخيل ليلاً ، وفتحوا لهم الباب ، فوثبوا على حراسه ، ودخل المسلمون قرمونة " انتهى.
بل إن بعض أساقفة النصارى شاركوا في مساعدة المسلمين على الفتح ، منهم " أوباس " أسقف " إشبيلية " كما في كتاب "العرب لم يغزوا الأندلس" (ص/187)
وينقل صاحب كتاب "تاريخ النصارى في الأندلس" (ص/45) عن ما جاء في سيرة القديس " سانت ثيودارد" رئيس أساقفة " أربونة " الذي عاش حوالي سنة (266هـ) أنه لما دخل المسلمون لأول مرة إلى " لانجدوك " ، انحاز اليهود إليهم ، وفتحوا لهم أبواب مدينة
" طولوشة " .
والمسلمون يؤمنون بأن نصرة المظلوم وإحقاق العدل والسلم من أعظم مقاصد الجهاد في الشريعة الإسلامية ، دليل ذلك ما وقع في "سيرة النبي صلى الله عليه وسلم " من " حِلف الفضول " ، حيث تعاهدت القبائل على كف الظالم ونصرة المظلوم ولو كان كافرا .
يقول الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه "العلاقات الدولية في الإسلام" (83) :
" الإسلام ينظر إلى الرعايا الذين يُحكَمون بالظلم ويُقيدون في حرياتهم نظرة رحيمة عاطفة ، ينصرهم إذا استنصروه ، ويرفع عنهم نير الطغيان إن هم استعانوا به " انتهى .
وذلك ما شهد به بعض اليهود حين أدركوا عظيم الفضل الذي أسداه المسلمون لهم في توفير حياة كريمة ، وحرية لم يشهدوا لها مثيلا عبر تاريخ وجودهم في أوروبا كلها .
يقول حاييم الزعفراني اليهودي في كتابه "ألف سنة من حياة اليهود في المغرب" (ص/13) :
" لقد عرفت اليهودية الأندلسية في مجموعها حياة أكثر رخاء ، وأكثر اطمئناناً ، كما لم تعرفها في مكان آخر " انتهى .
ويقول نسيم رجوان - رئيس تحرير جريدة اليوم الإسرائيلية - :
" كان اليهود قد عانوا خلال قرون الكثير من الشقاء والبؤس ، حيث كان الملوك الإسبان القساة الغلاظ بعيدين كل البعد عن الشفقة والرحمة . وعندما دخل المسلمون إسبانيا لم يكتفوا بتحرير اليهود من الاضطهاد ، ولكنهم شجَّعوا بينهم نشر حضارة كانت توازي بخصبها وعمقها أشهر الحضارات في مختلف العصور " انتهى نقلا عن كتاب "أهل الكتاب في المجتمع الإسلامي" (ص/49)
سادسا :
ويُتَوَّجُ ما سبق بالقطع واليقين ، حين نستحضر أن فتح تلك البلاد لم يستغرق إلا نحو ثلاثة سنين (92هـ - 95هـ) وصل فيها المسلمون إلى فرنسا ، ولم يشارك فيه إلا بضعة آلاف من الجنود ، مما يقطع لك بأن الأمر لم يكن فتحا عسكريا بالقدر الذي كان فتحا فكريا وعقائديا ، آمن فيه سكان " الأندلس " بعقيدة المسلمين ، واختاروا – عن حب وطواعية – التسليم لهذا الدين الجديد ، والتخلص من طغيان الكنيسة والإقطاع الذي كان سائدا قبل المسلمين ، وقد كتب في ذلك واحد من أشهر المؤرخين الإسبان ، واسمه " اغناسيو أولاغي " كتابا اشتهر في السبعينيات اسمه " الثورة الإسلامية في الغرب " ، ترجمه واختصره الأستاذ المؤرخ المحقق " إسماعيل الأمين " تحت عنوان " العرب لم يغزوا الأندلس " ، طباعة " رياض الريس للكتب والنشر " ، أراد فيه المؤلف بيان أن التحول إلى الإسلام في الأندلس لم يتم إلا عبر حركة الأفكار وتصارعها ، ثم هيمنة ما يسميه المؤلف بالفكرة/القوة ، التي شكلت عصب الحضارة العربية الإسلامية في ثلاثة أرباع العالم يومها ، ورغم ما في الكتاب من مغالاة في نقد كل ما اشتهر في تاريخ الأندلس ، إلا أن الذي يهمنا فيه بعض النصوص التي توحي بأن دخول الإسلام الأندلس لم يكن اعتراضا وقهرا ، بل كان فتحا للقلوب وتنويرا للعقول ، وليتحمل القارئ الكريم طول النص المنقول ، فإنه من أبدع النصوص التي كتبها أعداء الإسلام في أمر يثيره كثير من الحاقدين :
جاء في (ص/55- 66) :
" هكذا يتضاءل الغزو الأجنبي إلى حادث عرضي في حرب أهلية ، فهل يبقى من صلة بين هذا الحدث العسكري من جهة ، وبين اعتناق الأيبيريين الإسلام ، ثم نشوء حضارة إسلامية في أيبيريا من جهة ثانية ؟
في الأبحاث المتعلقة بخرافة الغزو جاءت الأرقام دقيقة ، وصل طارق بسبعة آلاف رجل لهزيمة رودريك ، وجاء موسى بن نصير على رأس ثمانية عشر ألف رجل ليخضع الأيبيريين لسلطانه ، أحدث خمسةٌ وعشرون ألف رجل هذا التحول الهائل في اللاتينية والمسيحية والزواج الأحادي ، في ضربة واحدة بدَّل الأيبيريون أعرافهم وتقاليدهم وديانتهم ، بعد هذا الإنجاز العظيم يبادر العرب دون أي تعزيز لقواتهم ومواقعهم إلى غزو فرنسا !
مع ذلك يبقى من المطلوب تفسير كيف يمكن أن تتم عملية تحويل شعوب أيبيريا المحصَّنة جغرافيا وطبيعيا بهذه السرعة ، ومن قبل حفنة ممن نسبت إليهم المعجزات ، خصوصا أن الأيبيريين والغزاة لم يكونا من أصل مشترك .
من البديهي أن جيشا من هذا النوع كان سيذوب بين الجموع إذا ما خاطر بنفسه وتوغل في عمق البلاد ، هذا فضلا عن أن الأيبيريين خلال تاريخهم الطويل لم يكونوا شعبا مسالما في مواجهة مثل هذا النوع من الأحداث ، ألم يكن من الممكن أن ينظموا حرب "العصابات" التي كانوا قد قدموا وصفتها إلى العالم بأكمله ؟!
ماذا فعل الأيبيريون في هذه الأثناء ؟ بعد سنة 711م لم يحدثنا التاريخ عنهم ، مع هذا فإن عشرة ملايين نسمة – على أقل تقدير – لم يختفوا هكذا بضربة سحرية في تلك الحقبة السعيدة ، لم يكن هناك وسائل إبادة جماعية ، وكان يلزم الفاتحون الكثير من الوقت والعمل لجزر هذا العدد بالسيف ، لا يمكن لأودية "أشتورش" الصغيرة استقبال هذا العدد من اللاجئين ، يكفي هذه الأودية أنها شكلت حصنا للمتمردين القلائل الذي سيشكلون فيما بعد نواة المملكة المسيحية ، هكذا تم إخفاء عشرة ملايين من الأيبيريين من صفحات التاريخ ، فإذا كان اجتياح أرض مسيحية من قبل " الكفار " قد بدا بهذه الضخامة ، بماذا يمكننا إذن أن نصف اعتناق شعبها الإسلام ، وتمثله الحضارة العربية الإسلامية ؟ إما أن يكونوا جميعهم قد قتلوا ، وإما تم استرقاقهم عبيدا ، أو لجؤوا إلى الجبال ، أو ببساطة قد تم تجاهل وجودهم من قبل المؤرخين.
لماذا وكيف اعتنقت الجماعات الإنسانية التي كانت متمركزة في المقاطعات البيزنطية في آسيا ومصر وأفريقيا الشمالية وشبه جزيرة أيبيريا إيمانا جديدا ومفهوما جديدا للوجود ؟
قد يسهل تحويل خرافة الغزوات العربية المستحيلة جغرافيا وتاريخيا إلى حقيقة ، ولكننا لا يمكننا أن ننكر أن حضارةً عربية إسلامية قد امتدت في جميع هذه الأصقاع .
يصاب الباحثون بالدهشة حين يعرفون من خلال الروايات عدد الغزاة : خمسة وعشرون ألف رجل أهلكوا عشرة ملايين !!
في الواقع استمرت عملية اعتناق الدين الإسلامي واكتملت خلال قرنين أو ثلاثة قرون ، فكان اعتناقا كاملا أو نهائيا ، لم يترك سوى بعض الجزر التي بدا وجودها مشكوكا فيه .
كيف إذًا يمكن تفسير هذه العودة عن المسيحية واعتناق الإسلام بقوة السلاح ؟
وماذا كانت نتيجتها ؟
بعض المؤرخين قَبِلَ الإجابة التقليدية الجاهزة عن هذه الأسئلة ، وبعضهم الآخر أصيب بتشوش فكري .(5/183)
لم يتمكن هؤلاء من فهم كيفية خضوع شعوب مصر والمقاطعات البيزنطية لما يسمونه بـ "قوانين البدو" ، لقد أثبت " كزافيي بلان هول " في كتابه " العالم الإسلامي " أن الإسلام كان دائما دين المدن ، مع هذا لنفترض أنهم أُخضعوا بالقوة من قبل جماعات البدو ، فلماذا تنازلوا لهؤلاء البدو عن كامل حضارتهم ؟
كانت المقاطعات البيزنطية تتمتع بحياة مدنية متقدمة ، وكانت المدن المزدهرة كبيرة ، كان عدد سكان أنطاكيا حوالي 300 ألف نسمة ، وكان من بين الأربع مائة أسقفية بيزنطية ثلاث مائة وواحد وسبعون أسقفية موجودة في آسيا ، من هنا تظهر أهمية النصر الإسلامي على المستوى الفكري .
هل يتعين علينا أن نتصور أن أبناء المدن قد فُتنوا بمدنية أولئك المتدفقين من تلك الوحشة الواسعة ؟ يبدو الأمر مستحيلا إذا لم يكن لدى هؤلاء البدو غير السيف .
التعصب الديني وسوء الفهم الناتجان أحيانا عن انعدام الوعي وأحيانا عن الإرادة الواعية والمتعاظمان مع الزمن أخفيا - تحت جملة من الأكاذيب والخرافات - قسما هاما من تاريخ انتشار الإسلام على طول السواحل الشرقية والجنوبية للبحر المتوسط ، وانسجاما مع مفهوم بدائي للتاريخ فسرت التحولات الروحية والاجتماعية والثقافية العملاقة في القرنين السابع والثامن - في عالمي الشرق والبحر المتوسط - كنتيجة لغزوات عسكرية فرضت اللغة والحضارة والدين بالسيف المعقوف !!
الإكراه لا يفسر كل شيء .
في الواقع : إن المؤرخين قد خلطوا بين انتشار الأفكار العبقرية التي تحملها حضارة ما ، وبين القدرات العسكرية التي لا تسمح إلا بنشوء إمبراطوريات وقتية تزول مع الزمن .
لقد خلطوا بين القوة العقلية والقوة المادية .
نستنتج من دراسة الحركات المشابهة أن انتشار الإسلام كان نتيجة الفكرة/القوة ، وليس نتيجة للقدرة على الهجوم العسكري المسلح ، فمثلما سيطرت " الهيلينية " فيما مضى ، ويسيطر الغرب اليوم ، فإن سيطرة الإسلام لا يمكن أن تكون إلا ثمرة لحركات أفكار/قوة.
أما الاستمرار في الاعتقاد بأن شعوبا تزدهم ( أي تغزوهم ) في بلادها حضارة هادمة ، قد تركت معتقداتها وغيرت عاداتها لأن حفنة من الفرسان الميامين قهرتها عسكريا ، فلا يوحي إلا بمفهوم صبياني سخيف للحياة الاجتماعية .
يجب أن يتقلص الجانب العسكري من الأحداث إلى دور ثانوي يتعلق بتفاصيل طرائف الحياة الشخصية . يجب فهم المشكلة في المجال الفكري والثقافي .
لم يكن هناك عدوان عسكري ، بل أزمة ثورية ، ودعوة حملها الفقهاء وليس الجنرالات .
إن العلماء وحدهم يدركون حركة الشعوب ويقدرون على قيادتها ، أما السيادة العسكرية فلا يمكن أن تستمر ثمانية قرون في الأندلس ، وإلى الأبد في مساحات شاسعة من العالم " انتهى باختصار .
( من المراجع التاريخية المستفاد منها : "البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب" لابن عذاري المراكشي (2-9) ، "نفح الطيب" للمقري 1/229-263 وغيرها ) .
وفي موقعنا بعض الإجابات المتعلقة بموضوع الجهاد ، يمكنكم مراجعتها ، وهي :
(21961) ، (26125) ، (34647) ، (43087)
والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب
===============
متى بدأ الإسلام ومن وضع الحضارة الإسلامية
سؤال:
من الذي وضع الحضارة الإسلامية ؟ ومتى بدأ هذا الدين ؟ وما هي أحكام الإسلام , وكيف يدخل الفرد إلى هذا الدين ؟.
الجواب:
الحمد لله
إن كان مقصدك بالحضارة الإسلامية ذات الدين الإسلامي فالجواب في الفقرة الثانية .
1- أما إن كان قصدك ما وصلت إليه الأمة الإسلامية في عصور ازدهارها من رقي في النواحي المادية ، فهذا لم يكن وليد ساعة ، ولكنه بدأ مع بداية الإسلام ، وبالأخص بعد قيام الدولة الإسلامية في وقت النبي عليه الصلاة والسلام ، ثم أخذ في الازدياد والتطور مع اتساع الفتوحات الإسلامية إلى أن وصل إلى ما وصل إليه ، وهذا إن صحت نسبته فإنما تصح للنبي عليه الصلاة والسلام بعد الله تعالى ، وأما من عداه فكل ساهم بما استطاع إلى أن استتم البناء .
2- وأما بداية هذا الدين ، فالظاهر أن المقصود بالدين : دين الإسلام عقيدة وشريعة ، وهذا بدايته ببداية بعثة النبي صلى الله علية وسلم .
وأما أحكام الإسلام فهي كثيرة يصعب ذكرها في هذه العجالة ، لكن أهمها :
شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج بيت الله الحرام .
ويدخل الفرد في هذا الدين بعد أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ثم بعد ذلك يلتزم بالباقي من صلاة وصيام وحج ، وفي هذه الأمور تفصيلات .
ويراجع سؤال رقم 13569
الشيخ سعد الحميد
============
الإسلام والرق
سؤال:
كثيرا ما أسمع من دعاة الدين النصراني ذم الإسلام وتوجيه الاتهامات إليه بسبب أن الإسلام أباح الرق ، وهذا فيه الاعتداء على حرية الإنسان وحقوقه ، فكيف نمكن أن نجيب على هؤلاء ؟
الجواب:
الحمد لله
الخوض في الحديث عن الرق وإثارة الأسئلة حوله من قبل دعاة التنصير والصادين عن دين الإسلام مما يثير حفيظة المتعقل , ومما يشير بأصابع الاتهام نحو الأغراض المستترة وراء هذه التساؤلات .
ذلك أن الرق في اليهودية والنصرانية مقرر ثابت على صور ظالمة , وكتبهم بتفاصيل الحديث عنه والاستحسان له طافحة ، وعليه فإن أول ما يستلفت النظر : كيف يسعى الكنسيون للدعوة إلى التنصير ، والنصرانية تقول بالرق ومشروعيته ؟
وبمعنى آخر : كيف يثيرون أمراً هم غارقون فيه إلى الأذقان ؟
أما أمر الرق في الإسلام فمختلف تماماً إذا ما قورن بين النظرتين , وإذا ما قورن كذلك بما عليه حال الرق حين مجيء الإسلام .
ولذلك لا بد من بسط القول في هذا الموضوع شيئاً ما مع الإشارة إلى ما عند اليهودية والنصرانية والحضارة المعاصرة في هذا الموضوع ( الرق ) ثم نذكر ما في الإسلام .
وقد تعرض الإسلام في هذا لإفك كثير على حين نَجَا مجرمون عريقون في الإجرام لم تشر إليهم - مع الأسف - أصابع الاتهام .
الإسلام والرق :
يقرر الإسلام أن الله عز وجل خلق الإنسان كامل المسئولية وكلفه بالتكاليف الشرعية ورتب عليها الثواب والعقاب على أساس من إرادته واختياره .
ولا يملك أحد من البشر تقييد هذه الإرادة ، أو سلب ذلك الاختيار بغير حق , ومن اجترأ على ذلك فهو ظالم جائر .
هذا مبدأ ظاهر من مبادئ الإسلام في هذا الباب وحينما يثار التساؤل : كيف أباح الإسلام الرق ؟
نقول بكل قوة وبغير استحياء : إن الرق مباح في الإسلام , ولكن نظرة الإنصاف مع التجرد وقصد الحق توجب النظر في دقائق أحكام الرق في الإسلام من حيث مصدره وأسبابه ثم كيفية معاملة الرقيق ومساواته في الحقوق والواجبات للحر وطرق كسب الحرية وكثرة أبوابها في الشريعة ، مع الأخذ في الاعتبار نوع الاسترقاق الجديد في هذا العالم المتدثر بدثار الحضارة والعصرية والتقدمية .
لقد جاء الإسلام وللرق أسباب كثيرة ، منها : الحروب ، المدين إذا عجز عن الدين ، يكون رقيقا ، السطو والخطف ، الفقر والحاجة .
وما انتشر الرق ذلك الانتشار الرهيب في قارات الدنيا إلا عن طريق هذا الاختطاف ، بل كان المصدر الأعظم في أوربا وأمريكا في القرون الأخيرة .
والإسلام يقف بنصوصه من هذا موقفاً حازماً حاسماً ، جاء في حديث قدسي : قال الله تعالى : ( ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ ، ذكر منهم : رَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ) رواه البخاري ( 2227) .(5/184)
ومن الطريف أنك لا تجد في نصوص القرآن والسنة نصاً يأمر بالاسترقاق , بينما تحفل آيات القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم بالعشرات من النصوص الداعية إلى العتق والتحرير.
كانت مصادر الرق ومنابعه كثيرة عند ظهور الإسلام , بينما طرق التحرر ووسائله تكاد تكون معدومة , فقلب الإسلام في تشريعاته النظرة فأكثر من أسباب الحرية ، وسَدَّ مسالك الاسترقاق , ووضع من الوصايا ما يسد تلك المسالك .
فقد حصر الإسلام مصادر الرق التي كانت قبل الرسالة المحمدية في مصدر واحد فقط وهو : رق الحرب الذي يفرض على الأسرى من الكفار وكذا على نسائهم وأولادهم .
قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله : " وسبب الملك بالرق : هو الكفر ، ومحاربة الله ورسوله ، فإذا أقدر اللهُ المسلمينَ المجاهدين الباذلين مُهَجهم وأموالهم وجميع قواهم وما أعطاهم الله لتكون كلمة الله هي العليا على الكفار : جعلهم ملكاً لهم بالسبي إلا إذا اختار الإمام المنَّ أو الفداء لما في ذلك من المصلحة للمسلمين " انتهى من " أضواء البيان " (3/387) .
وقال أيضاً :
فإن قيل : إذا كان الرقيق مسلماً فما وجه ملكه بالرق ؟ مع أن سبب الرق الذي هو الكفر ومحاربة الله ورسله قد زال .
فالجواب : أن القاعدة المعروفة عند العلماء وكافة العقلاء : أن الحق السابق لا يرفعه الحق اللاحق ، والأحقية بالأسبقية ظاهرة لا خفاء بها .
فالمسلمون عندما غنموا الكفار بالسبي : ثبت لهم حق الملكية بتشريع خالق الجميع ، وهو الحكيم الخبير ، فإذا استقر هذا الحق وثبت ، ثم أسلم الرقيق بعد ذلك كان حقه في الخروج من الرق بالإسلام مسبوقاً بحق المجاهد الذي سبقت له الملكية قبل الإسلام ، وليس من العدل والإنصاف رفع الحق السابق بالحق المتأخر عنه كما هو معلوم عند العقلاء .
نعم ، يحسن بالمالك ويجمل به أن يعتقه إذا أسلم ، وقد أمر الشارع بذلك ورغَّب فيه ، وفتح له الأبواب الكثيرة . فسبحان الحكيم الخبير ( وتمَّت كلمة ربِّك صدقاً وعدلا لا مبدِّل لكلماته وهو السميع العليم ) الأنعام/115.
فقوله : ( صدقاً ) أي : في الأخبار ، وقوله : ( عدلاً ) أي : في الأحكام .
ولا شك أن من ذلك العدل : الملك بالرق وغيره من أحكام القرآن .
وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم " انتهى من "أضواء البيان" ( 3 / 389) .
ولقد كان الأسر في الحروب من أظهر مظاهر الاسترقاق , وكل حرب لابد فيها من أسرى , وكان العرف السائد يومئذ أن الأسرى لا حرمة لهم ولا حق ، وهم بين أمرين إما القتل وإما الرق ، ولكن جاء الإسلام ليضيف خيارين آخرين : المن والفداء ، قال الله تعالى : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) محمد/4 .
ففي غزوة بدر أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الفداء من أسرى المشركين وأطلق سراحهم ، وأطلق الرسول صلى الله عليه وسلم كثيراً من الأسرى في غزواته مجاناً ، منَّ عليهم من غير فداء ، وفي فتح مكة قيل لأهل مكة : اذهبوا فأنتم الطلقاء .
وفي غزوة بني المصطلق تزوج الرسول أسيرة من الحي المغلوب ليرفع من مكانتها , حيث كانت ابنة أحد زعمائه , وهي أم المؤمنين جويرة بنت الحارث رضي الله عنها ، فما كان من المسلمين إلا أن أطلقوا سراح جميع هؤلاء الأسرى .
فالإسلام ليس متعطشا لدماء الأسرى ، بل ولا متعطشا حتى لاسترقاقهم .
ومن هذا تدرك الصورة المحدودة والمسالك الضيقة التي يلجأ إليها في الرق , وهو لم يلغه بالكلية , لأن هذا الأسير الكافر المناوئ للحق والعدل كان ظالماً ، أو معيناً على ظلم ، أو أداة في تنفيذه أو إقراره , فكانت حريته فرصة لفشو الطغيان والاستعلاء على الآخرين ، والوقوف في وجه الحق ، ومنعه من الوصول إلى الناس .
إن الحرية حق أصيل للإنسان ، ولا يسلب امرؤ هذا الحق إلا لعارض نزل به , والإسلام - عندما قبل الرق في الحدود التي أوضحناها - فهو قيّد على إنسان استغلَّ حريته أسوأ استغلال .... فإذا سقط أسيراً إثر حرب عدوان انهزم فيها ، فإن إمساكه بمعروف مدة أسره تصرف سليم .
ومع كل هذا فإن فرصة استعادة الحرية لهذا وأمثاله في الإسلام كثيرة وواسعة .
كما أن قواعد معاملة الرقيق في الإسلام تجمع بين العدالة والإحسان والرحمة .
فمن وسائل التحرير : فرض نصيب في الزكاة لتحرير العبيد , وكفارات القتل الخطأ والظهار والأيمان والجماع في نهار رمضان , إضافة إلى مناشدة عامة في إثارة للعواطف من أجل العتق والتحرير ابتغاء وجه الله .
وهذه إشارات سريعة لبعض قواعد المعاملة المطلوبة عدلاً وإحساناً مع هؤلاء :
1- ضمان الغذاء والكساء مثل أوليائهم :
عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( هُمْ إِخْوَانُكُمْ ، جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ , فَمَنْ جَعَلَ اللَّهُ أَخَاهُ تَحْتَ يَدِهِ , فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ , وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ , وَلَا يُكَلِّفُهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا يَغْلِبُهُ فَإِنْ كَلَّفَهُ مَا يَغْلِبُهُ فَلْيُعِنْهُ عَلَيْهِ ) رواه البخاري (6050) .
2- حفظ كرامتهم :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ وَهُوَ بَرِيءٌ مِمَّا قَالَ جُلِدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ ) رواه البخاري (6858) .
وأعتق ابن عمر رضي الله عنهما مملوكاً له ، ثم أخذ من الأرض عوداً أو شيئاً فقال : ما لي فيه من الأجر ما يساوي ! هذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( مَنْ لَطَمَ مَمْلُوكَهُ أَوْ ضَرَبَهُ فَكَفَّارَتُهُ أَنْ يُعْتِقَهُ) رواه مسلم (1657) .
3- العدل مع الرقيق والإحسان إليهم
روى أن عثمان بن عفان رضي الله عنه دَعَك أُذُن عَبْدٍ له على ذنب فعله ، ثم قال له بعد ذلك : تقدم واقرص أذني ، فامتنع العبد فألح عليه ، فبدأ يقرص بخفة ، فقال له : اقرص جيداً ، فإني لا أتحمل عذاب يوم القيامة ، فقال العبد : وكذلك يا سيدي : اليوم الذي تخشاه أنا أخشاه أيضاً .
وكان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه إذا مشى بين عبيده لا يميزه أحد منهم - لأنه لا يتقدمهم ، ولا يلبس إلا من لباسهم .
ومر عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً فرأى العبيد وقوفاً لا يأكلون مع سادتهم ، فغضب ، وقال لمواليهم : ما لقوم يستأثرون على خدامهم ؟ ثم دعا الخدم فأكلوا معهم .
ودخل رجل على سلمان رضي الله عنه فوجده يعجن - وكان أميراً - فقال له : يا أبا عبد الله ما هذا ؟! فقال بعثنا الخادم في شغل فكرهنا أن نجمع عليه عملين !
4- لا مانع أن يتقدم العبد على الحر في بعض الأشياء:
فيما يفضله فيه من شئون الدين والدنيا ، وقد صحت إمامته في الصلاة ، وكان لعائشة أم المؤمنين عبد يؤمها في الصلاة ، بل لقد أمر المسلمون بالسمع والطاعة إذا ملك أمورهم عبد !
5- وله أن يشتري نفسه من سيده ويكون حراً
فإذا حدث لأمر ما أن استرق ثم ظهر أنه أقلع عن غيه ، ونسي ماضيه وأضحى إنساناً بعيد الشر قريب الخير ، فهل يجاب إلى طلبه بإطلاق سراحه ؟ الإسلام يرى إجابته إلى طلبه ، ومن الفقهاء من يوجب ذلك ومنهم من يستحبه !!!(5/185)
وهو ما يسمى عندنا مكاتبة العبد لسيده (بمعنى أن العبد يشتري نفسه من سيده مقابل مال يدفعه له على أقساط ) قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) النور/33 .
هذا عدل الإسلام مع الرقيق وإحسانه إليهم ، ومعاملته لهم .
فكان من نتائج هذه الوصايا : أن أصبح الرقيق صديقا لمالكه في كثير من الأحيان ، بل أحله بعضهم محل الابن، يقول سعد بن هاشم الخالدي في وصف غلام له :
ما هو عبد لكنه ولد * خولنيه المهيمن الصمد
شد أزري بحسن خدمته * فهو يدي والذراع والعضد
وكان من نتيجة معاملة المسلمين للأرقاء هذه المعاملة، اندماج الأرقاء في الأسر الإسلامية إخوة متحابين، حتى كأنهم بعض أفرادها.
يقول جوستاف لوبون في "حضارة العرب" (ص459-460) : "الذي أراه صادقاً هو أن الرق عند المسلمين خير منه عند غيرهم، وأن حال الأرقاء في الشرق أفضل من حال الخدم في أوروبا، وأن الأرقاء في الشرق يكونون جزءاً من الأسرة... وأن الموالي الذين يرغبون في التحرر ينالونه بإبداء رغبتهم.. ومع هذا لا يلجأون إلى استعمال هذا الحق" انتهى .
كيف معاملة غير المسلمين للرقيق ؟
موقف اليهود من الرقيق :
ينقسم البشر عند اليهود إلى قسمين : بنو إسرائيل قسم ، وسائر البشر قسم آخر .
فأما بنو إسرائيل فيجوز استرقاق بعضهم حسب تعاليم معينة نص عليها العهد القديم .
وأما غيرهم ، فهم أجناس منحطة عند اليهود ، يمكن استعبادها عن طريق التسلط والقهر ، لأنهم سلالات كتبت عليها الذلة باسم السماء من قديم ، جاء في الإصحاح الحادي والعشرين من سفر الخروج ( 2- 12 ) ما نصه :
( إذا اشتريت عبداً عبرانياً فست سنين يخدم ، وفي السابعة يخرج حراً مجاناً ، إن دخل وحده ، فوحده يخرج ، إن كان بعل امرأة تخرج امرأته معه , إن أعطاه سيده امرأة وولدت له بنين وبنات فالمرأة وأولادها يكونون للسيد ، وهو يخرج وحده ، ولكن إذا قال العبد : أحب سيدي وامرأتي وأولادي لا أخرج حراً ، يقدمه سيده إلى الله ، ويقربه إلى الباب أو إلى القائمة ، ويثقب سيده أذنه بالمثقب يخدمه إلى الأبد ) .
أما استرقاق غير العبراني فهو بطريق الأسر والتسلط لأنهم يعتقدون أن جنسهم أعلى من جنس غيرهم ، ويلتمسون لهذا الاسترقاق سنداً من توراتهم المحرفة ، فيقولون : إن حام بن نوح – وهو أبو كنعان- كان قد أغضب أباه ، لأن نوحاً سكر يوماً ثم تعرى وهو نائم في خبائه ، فأبصره حام كذلك ، فلما علم نوح بهذا بعد استيقاظه غضب ، ولعن نسله الذين هم كنعان ، وقال – كما في التوراة في "سفر التكوين" إصحاح (9/25- 26) : ( ملعون كنعان عبد العبيد يكون لإخوته ، وقال : مبارك الرب إله سام ، وليكن كنعان عبداً لهم ) . وفي الإصحاح نفسه (27) : ( ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام ، وليكن كنعان عبداً لهم ) .
وفي سفر التثنية الإصحاح العشرون (10-14) : ( حين تقرب من مدينة لكي تحل بها استدعها إلى الصلح ، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك ، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك ، وإن لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها ، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف ، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة ، كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك ) .
موقف النصرانية من الرقيق :
جاءت النصرانية فأقرت الرق الذي أقره اليهود من قبل ، فليس في الإنجيل نص يحرمه أو يستنكره .
والغريب أن المؤرخ ( وليم موير ) يعيب نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بأنه لم يبطل الرق حالاً ، مع تغاضيه عن موقف الإنجيل من الرق ، حيث لم ينقل عن المسيح ، ولا عن الحواريين ولا عن الكنائس شيئاً في هذه الناحية .
بل كان بولس يوصي في رسائله بإخلاص العبيد في خدمة سادتهم ، كما قال في رسالته إلى أهل إفسس.
أمر بولس العبيد بطاعة سادتهم كما يطيعون المسيح ، فقال في رسالته إلى أهل إفسس الإصحاح السادس (5-9) : ( أيها العبيد ، أطيعوا سادتكم حسب الجسد بخوف ورعدة في بساطة قلوبكم كما للمسيح ، لا بخدمة العين كمن يرضى الناس ، بل كعبيد المسيح ، عاملين مشيئة الله من القلب ، خادمين بنية صالحة كما للرب ليس للناس ، عالمين أن مهما عمل كل واحد من الخير فذلك يناله من الرب عبدا كان أو حرا ) .
وفي المعجم الكبير للقرن التاسع عشر ( لاروس ) : " لا يعجب الإنسان من بقاء الرق واستمراره بين المسيحيين إلى اليوم ، فإن نواب الدين الرسميين يقرون صحته ويسلمون بمشروعيته " .
وفيه : " الخلاصة : أن الدين المسيحي ارتضى الاسترقاق تماماً ، إلى يومنا هذا ، ويتعذر على الإنسان أن يثبت أنه سعى في إبطاله " .
وأقر القديسون أن الطبيعة جعلت بعض الناس أرقاء .
فرجال الكنيسة لم يمنعوا الرق ولا عارضوه بل كانوا مؤيدين له ، حتى جاء القديس الفيلسوف توماس الأكويني فضم رأي الفلسفة إلى رأي الرؤساء الدينيين ، فلم يعترض على الرق بل زكاه لأنه - على رأي أستاذه أرسطو - حالة من الحالات التي خلق عليها بعض الناس بالفطرة الطبيعية ، وليس مما يناقض الإيمان أن يقنع الإنسان من الدنيا بأهون نصيب .
"حقائق الإسلام" للعقاد (ص215) .
وجاء في قاموس الكتاب المقدس للدكتور جورج يوسف : "إن المسيحية لم تعترض على العبودية من وجهها السياسي ولا من وجهها الاقتصادي ، ولم تحرض المؤمنين على منابذة جيلهم في آدابهم من جهة العبودية ، حتى ولا المباحثة فيها ، ولم تقل شيئاً ضد حقوق أصحاب العبيد ، ولا حركت العبيد إلى طلب الاستقلال ، ولا بحثت عن مضار العبودية ، ولا عن قساوتها , ولم تأمر بإطلاق العبيد حالاً ، وبالإجماع لم تغير النسبة الشرعية بين المولى والعبد بشيء ، بل بعكس ذلك فقد أثبتت حقوق كل من الفريقين , وواجباته" .
أوربا المعاصرة والرقيق :
من حق القارئ أن يسأل وهو في عصور النهضة والتقدم عن رائدة التقدم في هذه العصور ، وعدد من كانوا يموتون بسبب طرق الاصطياد, وفي الطريق إلى الشواطئ التي ترسو عليها مراكب الشركة الإنجليزية وغيرها , ثم إن الباقين يموتون بسبب تغير الطقس , ويموت نحو 4% أثناء الشحن , و 12 % أثناء الرحلة , فضلاً عمن يموتون في المستعمرات !!!
ومكثت تجارة الرقيق في أيدي شركات إنجليزية حصلت على حق احتكار ذلك بترخيص من الحكومة البريطانية , ثم أطلقت أيدي جميع الرعايا البريطانيين في الاسترقاق , ويقدر بعض الخبراء مجموع ما استولى عليه البريطانيون من الرقيق واستعبدوه في المستعمرات من عام 1680 / 1786م حوالي 2130000 شخصاً .
فعندما اتصلت أوربا بإفريقيا السوداء كان هذا الاتصال مأساة إنسانية , تعرض فيها زنوج هذه القارة لبلاء عظيم طوال خمسة قرون ، لقد نظمت دول أوربا وتفتقت عقليتها عن طرق خبيثة في اختطاف هؤلاء واستجلابهم إلى بلادهم ليكونوا وقود نهضتها , وليكلفوهم من الأعمال مالا يطيقون , وحينما اكتُشِفَتْ أمريكا زاد البلاء , وصاروا يخدمون في قارتين بدلاً من قارة واحدة !!
تقول دائرة المعارف البريطانية (2/779) مادة Slavery : " إن اصطياد الرقيق من قراهم المحاطة بالأدغال كان يتم بإيقاد النار في الهشيم الذي صنعت منه الحظائر المحيطة بالقرية حتى إذا نفر أهل القرية إلى الخلاء تصيدهم الإنجليز بما أعدوا لهم من وسائل " .(5/186)
وتم نقل مليون زنجي أفريقي إلى أمريكا مقابل موت تسعة ملايين أثناء عملية الاصطياد والشحن والنقل ، وذلك في الفترة ما بين عام 1661م إلى عام 1774م ، أي أن عشر الذين كانوا يصطادونهم فقط هم الذين يبقون أحياء ، ويتم نقلهم إلى أمريكا ، لا ليجدوا الراحة واللذة ، بل ليجدوا السخرة والتعذيب !!
وكان لهم في ذلك قوانين يخجل منها العقلاء !
فكان من قوانينهم السوداء في ذلك : من اعتدى على سيده قُتل ، ومن هرب قطعت يداه ورجلاه وكوي بالحديد المحمى , إذا أبق للمرة الثانية قُتل ! وكيف سيهرب وقد قطعت يداه ورجلاه !!
ومن قوانينهم : يحرم التعليم على الرجل الأسود ويحرم على الملونين وظائف البيض .
وفي قوانين أمريكا : إذا تجمع سبعة من العبيد عُدَّ ذلك جريمة ، ويجوز للأبيض إذا مر بهم أن يبصق عليهم ، ويجلدهم عشرين جلدة .
ونص قانون آخر : العبيد لا نفس لهم ولا روح ، وليست لهم فطانة ولا ذكاء ولا إرادة ، وأن الحياة لا توجد إلا في أذرعهم فقط .
والخلاصة في ذلك : أن الرقيق من جهة الواجبات والخدمة والاستخدام عاقل مسئول يعاقب عند التقصير , ومن جهة الحقوق شيء لا روح له ولا كيان بل أذرعة فقط !!
ثم أخيرا وبعد قرون طويلة من الاستعباد والظلم تم تحرير البروتوكول الخاص بمنع الرق والعمل للقضاء عليه ، والمحرر في مقر الأمم المتحدة عام 1953 م .
وهكذا لم تستفق ضمائرهم إلا في هذا القرن الأخير بعد ما بنوا حضارتهم على رفات الأحرار الذين استعبدوهم ظلماً وقهراً ، وأي منصف يقارن بين هذا وبين تعاليم الإسلام -الذي مضى له أكثر من 14 قرناً- يرى أن إقحام الإسلام في هذا الموضوع أحق بالمثل السائر : "رمتني بدائها وانسلت!" .
والله أعلم
انظر كتاب : "شبهات حول الإسلام" لمحمد قطب ، "تلبيس مردود في قضايا خطيرة" للشيخ الدكتور صالح بن حميد إمام الحرم المكي .
الإسلام سؤال وجواب
==============
الحضارة الإسلامية
لفضيلة الشيخ أحمد عبد الرحيم السايح
لفظ الحضارة في مفهومه الحديث، ومفهومه العالمي المعاصر، قد أصبح أكثر اتساعا، مما كان يدل عليه في مفهومه اللغوي التقليدي.. وإذا كان أصل الحضارة: الإقامة في الحضر. فإن المعاجم اللغوية الحديثة، ترى أن الحضارة هي: الرقي العلمي، والفني، والأدبي، والاجتماعي، والاقتصادي في الحضر.. وبعبارة أخرى أكثر شمولا، هي: الحصيلة الشاملة للمدنية، والثقافية، والفكر، ومجموع الحياة، في أنماطها المادية والمعنوية.. ولهذا كانت الحضارة هي: الخطة العريضة -كماً وكيفاً- التي يسير فيها تاريخ كل أمة من الأمم، ومنها الحضارات القديمة، والحضارات الحديثة والمعاصرة.. ومنها الأطوار الحضارية الكبرى، التي تصور انتقال الإنسان أو الجماعات، من مرحلة إلى مرحلة..
ولئن كان الإسلام قد امتاز بأنه دين الحضارة الإنسانية، فإن الواقع يبين للباحث والمفكر، والدارس، أن الحضارة الإسلامية استمدت كل مقوماتها، وعناصر وجودها، وأسباب نمائها وازدهارها، من الإسلام ذاته..
والإسلام كان ولا يزال دين الحضارة والإنسانية، بمعنى أنه كان منذ نزوله دين عبادة، ودين معاملة، وأنه أنشأ لونا من الحضارة، عرف باسمه، وهو الحضارة الإسلامية.. لهذا نجد أن المستشرقين مدفوعين بدوافع شتى، قد ظلموا الحضارة الإسلامية، حينما أطلقوا عليها في مؤلفاتهم وكتاباتهم: الحضارة العربية أو حضارة العرب، وهذا يدل على الجهل والتجاهل، لأن حضارة عربية بدون إسلام لم تقم..
وقد قامت الحضارة الإسلامية، على دعائم أساسية، جعلت منها حضارة عالمية متميزة، وفريدة من تاريخ البشرية.. ومن ذلك..
أولا: أن الإسلام قد انطوى على طاقة روحية، جعلت منه قوة فاعلة، والشيء المهم في هذه القوة الفاعلة. أنها كانت أصلا جذريا يمس كل الأوضاع في حياة الناس.
ثانيا: أن الإسلام كان دين دعوة.. وفكرة الدعوة في الإسلام، قد واتتها ظروف الانتشار في النطاق العالمي، وفي ظلال الدعوة المستمرة، تمكن الإسلام من نشر طابعه الحضاري، كعقيدة للحياة، وأن يصبح في أقل من ربع قرن، مقوما أساسيا من مقومات الحضارة الإنسانية..
ثالثا: كان الإسلام دينا سهلا غير معقد، ولا مركب في عقيدته، وكان في الوقت ذاته، دينا مباشرا، يتصل فيه الإنسان بخالقه دون وساطة: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} ، ولا نجد عقيدة تطلب من الإنسان شهادة أبسط من شهادة الإسلام، على عمقها وعظمتها: ((لا إله إلا الله محمد رسول الله)).. عبارة سهلة رائقة نظيفة، تقف بالعاقل على عتبة الدخول في الإسلام، موقفا سهلاً. والمقوم الأصيل في هذه البساطة، أن القرآن الكريم هو الوعاء الأساسي للعقيدة كلها.
رابعا: كان الإسلام دينا رحبا يدعو إلى سبيل العقل، في حدود أصول العقيدة، كما يدعو إلى سبيل الضمير، والحق.. ومن هنا كانت الدعوة إلى النظر، وإلى المعرفة، أساسا من أسس الدعوة الإسلامية، وكان التفتح البصير مفتاح الدعوة للحضارة..
والإسلام في رحابته الحضارية، استطاع أن يمتص ألوان الحضارات في البلاد التي أوقد فيها قناديل الضياء، وأن يسبغ عليها طابعاً إسلاميا شاملا..
خامسا: البيئة بعواملها المحلية، وموقعها الجغرافي، قد ساعدت على إعطاء الحضارة الإسلامية، ما كان لها من طابع، ومن مكانة.. ولقد كانت الجزيرة العربية ذاتها، منطقة وصل بين أطراف العالم، عند ملتقى القارات الثلاث في العالم القديم ((أسيا وأفريقيا وأوربا)).. ومن شواطئ الجزيرة العربية، تمتد بحار الشمال، بادئة بالبحر الأبيض المتوسط. وبحار الجنوب بادئة بالبحر الأحمر، والخليج الإسلامي [1] .. وقد كان عدم اتصال المياه بين الشمال والجنوب، سببا في أن شبه الجزيرة العربية، كانت نقطة تغيير، في وسائل المواصلات، وفي ظهور الوساطة التي كتب للمسلمين أن يقوموا بها.. ولم يكن الأمر بالطبع مجرد التوسط الجغرافي على أهميته، وإنما كان الأمر أوسع وأعمق، فهو توسط من ناحية الطبيعة البشرية، ومن ناحية السلوك الإنساني، ومن ناحية الاعتدال في كل ما يصل بالمادة وهي أمور كلها اتصلت بطبيعة البيئة العربية. ومن هذه البيئة الوسط، انتشر الإسلام شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا، بالبر والبحر على السواء.. وقد شاء الله سبحانه وتعالى، أن تستيقظ الجزيرة العربية في القرن الرابع عشر الهجري، الموافق القرن العشرين ميلادي، والقرن العشرون يعتبر أزهى قرون الحضارة في الغرب. شاء الله أن تقوم -في الجزيرة العربية
المملكة السعودية، على أساس القرآن الكريم، لا على أنه المادة الأولى أو الثانية من الدستور، كما تفعل كثير من الدول التي يقال عنها، عربية وإسلامية.
ولكن على أساس أنه هو كل شيء، في التعليم، وفي التوجيه، وفي الحكم، وفي السياسة، وفي الثقافة، وفي جميع نواحي الحياة.. وقد قامت في السعودية نهضة علمية وثقافية جبارة، جعلت الجامعات تعمل في إعداد كامل، لمؤتمرات إسلامية جامعة، مثل مؤتمر الفقه الإسلامي ومؤتمر العلم والتكنولوجيا، ومؤتمر الاقتصاد، ومؤتمر الشباب، ومؤتمر الدعاة ومؤتمر المساجد، ومؤتمر المذيعين، وصارت الجامعات والكليات ومعاهد العلم، تصدر صحفا، ومجلات ذات دراسة وعمق، معدة إعدادا يتفق مع ما وصلت إليه الطباعة من تقدم..(5/187)
ولا شك أن هذا كله دعامة من دعامات الحضارة الإسلامية القائمة على الإسلام.. حتى لا يأتي إلينا مخرف من الشرق، أو من الغرب، فيقول إن حضارة الإسلام قد شاخت وهرمت.. شاء الله أن تظل تجربة الحكم بالقرآن الكريم، قائمة في أرض الجزيرة العربية، كما كانت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وعهد الخلفاء الراشدين..
سادسا: الوسطية التي جاء بها الإسلام، والوسطية التي جعلت فيها الأمة الإسلامية وشرفها الله بها.. ليست الوسطية المبتدعة في الفكر المستورد الحديث.
فالوسط المبتدع في الفكر العصري، وسط عفن، قام بين تراكمات عفنة من اليمين واليسار. ولا شك أن اندفاع بعض المجتمعات الإسلامية إلى هذا الوسط العفن، وما جاء حوله من يمين ويسار، يعد عند الدارسين لتطور الشعوب، كارثة فكرية خطيرة، وردة جاهلية وثنية.. والوسطية الإسلامية وسطية عامة شاملة، لا تعترف بتقسيم اليمين والوسط واليسار. بل إنها:
1- في العقيدة تقوم على توحيد الله وإفراده بالعبادة، والتمسك بما شرع من آداب السلوك والمعاملة..
2- وفي التشريع تقوم على أصول رئيسية، مصدرها الأساسي: القرآن الكريم، وسنة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام.
3- وفي الأخلاق تقوم على خلوص النية، ونقاء الضمير، والتمسك بقيم الخير، والحق، والتزام الآداب الفردية والاجتماعية..
4- وفي الاجتماع تقوم على الأسرة المتماسكة القائمة على ركائز المودة، والرحمة، والإخلاص، والاحترام والتعاون..
5- وفي السياسة تقوم على الشورى، واحترام حقوق الإنسان، والتزود بكل أسباب القوة، والدفاع عن العقيدة..
6- وفي الاقتصاد تقوم على تبادل المنافع، واتخاذ المال وسيلة لا غاية واحترام الملكية الفردية..
7- وفي الثقافة تعتمد على طلب المعرفة، واستخدام العقل في كسب المعارف..
8- وفي الفكر تقوم على استنهاض العقول، وحرية الفكر، واستقلال الإرادة..
فأي وسطية أسمى من هذه الوسطية التي ارتضاها الله، وجعلها سمة هذه الأمة الإسلامية، ذات الحقيقة الكبيرة، والوظيفة الضخمة في هذه الأرض، ويقول في ذلك شهيد الأمة الإسلامية سيد قطب: ((إنها الأمة الوسط التي تشهد على الناس جميعا، فتقيم فيهم العدل والقسط، وتضع لهم الموازين والقيم، وتبدي فيهم رأيها.. فيكون هو الرأي المعتمد، وتزن قيمهم، وتصوراتهم وتقاليدهم، وشعاراتهم. فتفصل في أمرها، وتقول: هذا حق منها، وهذا باطل.. لا التي تتلقى من الناس تصوراتها، وقيمها، وموازينها وهي شهيدة على الناس، وفي مقام الحكم العدل بينهم. وبينما هي تشهد على الناس هكذا، فإن الرسول هو الذي يشهد عليها، فيقرر موازينها وقيمها، ويحكم على أعمالها وتقاليدها، ويزن ما يصدر عنها، ويقول فيه الكلمة الأخيرة.. وبهذا تتحقق حقيقة هذه الأمة، ووظيفتها، لتعرف وتشعر بضخامتها ولتقدر دورها حق قدره، وتستعد له استعدادا لائقا.. وإنها للأمة الوسط بكل معاني الوسط. سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد، أو من الوسط بمعناه المادي الحسي.
{أُمَّةً وَسَطا} في التصور والاعتقاد. لا تغلو في التجرد الروحي، ولا في الارتكاس المادي. إنما تتبع الفطرة الممثلة في روح متلبس بجسد. أو جسد تتلبس به روح. وتعطي لهذا الكيان المزدوج الطاقات، حقه المتكامل من كل زاد، وتعمل لترقية الحياة ورفعها، في الوقت الذي تعمل فيه على حفظ الحياة وامتدادها، وتطلق كل نشاط على عالم الأشواق، وعالم النوازع، بلا تفريط ولا إفراط: في قصد، وتناسق، واعتدال..
{أُمَّةً وَسَطا} في التفكير والشعور، لا تجمد على ما علمت، وتغلق منافذ التجربة والمعرفة. ولا تتبع كذلك كل ناعق، وتقلد تقليد القردة المضحك، إنما تستمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول، ثم تنظر في كل نتاج الفكر والتجريب.. وشعارها الدائم: الحكمة ضالة المؤمن أني وجدها أخذها، في تثبت ويقين..
{أُمَّةً وَسَطا} في التنظيم، لا تدع الحياة كلها للمشاعر والضمائر، ولا تدعها كذلك للتشريع والتأديب. إنما ترفع ضمائر البشر بالتوجيه والتهذيب وتكفل نظام المجتمع بالتشريع والتأديب وتزاوج بين هذه وتلك. فلا تكل الناس إلى وسط السلطان، ولا تكلهم كذلك إلى وحي الوجدان، ولكن مزاج من هذا وذاك.
{أُمَّةً وَسَطا} في الارتباطات والعلاقات لا تلغي شخصية الفرد ومقوماته، ولا تتلاشى شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة، ولا تطلقه كذلك فرداً أثراً جشعاً، لا هم له إلا ذاته.. إنما تطلق من الدوافع والطاقات ما يؤدي إلى الحركة والنماء، وتطلق من النوازع والخصائص ما يحقق شخصية الفرد وكيانه، ثم تضع من الكوابح ما يقف دون الغلو، ومن المنشطات ما يثير رغبة الفرد في خدمة الجماعة، وتقرر من التكاليف والواجبات ما يجعل الفرد خادما للجماعة، والجماعة كافلة للفرد، في تناسق، واتساق..
{أُمَّةً وَسَطا} في المكان، في سرة الأرض، وفي أوسط بقاعها، وما تزال هذه الأمة التي غمر أرضها الإسلام، إلى هذه اللحظة.. هي الأمة التي تتوسط أقطار الأرض بين شرق وغرب، وجنوب وشمال، وما تزال بموقعها هذا تشهد الناس جميعا وتشهد على الناس جميعا، وتغطي ما عندها لأهل الأرض قاطبة، وعن طريقها تعبر ثمار الطبيعة، وثمار الروح والفكر، من هنا إلى هناك، وتتحكم في هذه الحركة ماديها ومعنويها على السواء..
{أُمَّةً وَسَطا} في الزمان، تنهي عهد الطفولة البشرية من قبلها، وتحرس عهد الرشد العقلي من بعدها، وتقف في الوسط تنفض عن البشرية ما علق بها من أوهام، وخرافات، في عهد طفولتها، وتصدها عن الفتنة بالعقل والهوى، وتزاوج بين تراثها الروحي من عهود الرسالات، ورصيدها العقلي المستمر في النماء، وتسير بها على الصراط السوي بين هذا وذاك)). فالأمة الإسلامية ليست بحاجة إلى الأحزاب التي أوجدها ورعاها التبشير الصليبي.. وليست في حاجة إلى التقدمية، والثورية، واليمين والوسط واليسار.. وليست في حاجة إلى اشتراكية المنحرفين، من سماسرة الشيوعية، والدجل الفكري، وليست في حاجة إلى تعدد المنابر، واستيراد ما هب ودب.. وليست في حاجة إلى تجارب الأمم. إذن وبدون شك. الأمة الإسلامية في حاجة إلى إسلام، والإسلام فقط..
سابعا: القرآن الكريم ذاته. وذلك أن القرآن كان أعظم ما عرفته الإنسانية في تاريخها الممتد الطويل.. وقد تضمن القواعد الرصينة الكفيلة بقيام المجتمع الإنساني السليم. تشده الإنسانية فتجد فيه مبتغاها من التشريعات الفردية، والعلائق الأسرية، والمعاملات الاقتصادية والحربية، والقوانين المدنية، والأنظمة الدولية، وبعبارة أوجز.. تجد فيه الأمة كل ما تحتاج إليه في حياتها العامة والخاصة، الدين والدنيا..
ثامنا: اللغة العربية نفسها كانت دعامة من دعائم الحضارة الإسلامية، وذلك لأنها أعرق اللغات منبتا، وأعزها جانبا، وأقواها جلادة، وأغزرها مادة، وأدقها تصويرا لما يقع تحت الحس، وتعبيرا عما يجول في النفس..(5/188)
وعندها من المرونة على الاشتقاق، والقبول للتهذيب، وسعة صدرها للتعريب. ما يمكنها من الاستمرار في عطائها، نزل القرآن بلسانها فجعلها أكثر رسوخا، وأشد بنيانا، وأقوى استقرار. وبفضل القرآن، صارت العربية، أبعد اللغات مدىً، وأوسعها أفقا، وأقدرها على النهوض بتبعاتها الحضارية، عبر التطور الدائم الذي تعيشه الإنسانية. واستطاعت العربية في ظل عالمية الإسلام، أن تتسع لتحيط بأبعد انطلاقات الفكر، وترتقي حتى تصل أرقى اختلاجات النفس، وليس هناك معنى من المعاني، ولا فكر من الأفكار، ولا عاطفة من العواطف، ولا نظرية علمية من النظريات، تعجز اللغة العربية عن تصويره بالأحرف والكلمات، وتجسيده داخل الكلمات.
تاسعا: وبجانب هذا وذاك، كانت هناك مقومات تاريخية وبشرية، تتصل بالعصر الذي ظهر فيه الإسلام، ثم بالعنصر البشري، والتكوين السكاني. فأما عن العصر، فقد كان الإسلام ختام الأديان السماوية، وكان الإسلام بذلك رباطا لها من الناحية التاريخية، كما كان في الوقت ذاته تصحيحا لها لما أصابها من تخريف الفلاسفة والوثنيين..
ولقد كان هذا كله، قوة دفع للفكر الإسلامي، وما تصل به من حضارة، ومن هنا انطوى التفاعل الإسلامي على قوة غلبت كل التحديات الجاهلية، فانتشر طابع الحضارة الإسلامية على فعالية، لم يعرف لها مثيل في تاريخ الإنسانية..
عاشرا: ومما يذكر أن ترسيخ معالم الحضارة الإسلامية، قد تضاعف بفعل مقوم إنساني آخر.. وهو تنوع السلالات التي دخلت في الإسلام، ثم هناك ظاهرة أخرى ترتب على كل هذه الجوانب والعوامل، وهي ظاهرة الاتصال والاستمرار الزمني في الحضارة الإسلامية.. ومن وراء كل ذلك هناك الإيمان بالله، فهو القوة الدافعة الموجهة التي تسند الضعيف من أن يسقط، وتمسك القوي من أن يجمح، وتعصم الغالب من أن يطغى، وتمنع المغلوب من أن ييأس..
وقد أثبت التاريخ أن الذين تربوا في مدارس القرآن، هم وحدهم الذين صلحت بهم الحياة، واعتدل في أيديهم ميزان الحق، والعدل..
ولقد كانت المملكة الإسلامية تزدهر بالعلم والحضارة شرقا وغربا، وتنتشر فيها أرقى الصناعات على اختلافها، وما تركه المسلمون من تراث علمي، لأكبر شاهد على ذلك..
ولقد تلمست أوربا الحضارة الإسلامية، فاستقت من روافدها العلوم والمعرفة من الفلك والجبر والهندسة والحساب والكيمياء والطب والزراعة، وسائر أنواع الفنون الحضارية. وبنى رجال أوربا بما تعلموه في معاهد المسلمين بالأندلس، وبما نقلوه من علوم.. بنوا أسس النهضة الحديثة التي ظهرت بوادرها في القرن الثامن عشر، وازدهرت في القرن العشرين..
والإسلام بدعوته إلى العلم هو الذي خرج جهابذة الفكر، ورجال الحضارة، أمثال ابن الهيثم، وابن البيطار، وابن سينا، وابن النفيس، وابن زهر، وابن بطوطة، والكندي، والفارابي، والبيروني، والطوسي، والدينوري، والبغدادي، والرازي، والقزويني، والأنطاكي، والخوارزمي، والإدريسي، والمسعودي، وجابر والحافظ، وغيرهم ممن أفادوا الإنسانية. وهذا ابن الهيثم يبحث في السهول والأودية، ويجول فيها طولا وعرضا، حتى يضع قواعد علم الضوء. وابن الدجيلي، يسهر على قمم الجبال العالية، يحدق في الكواكب والنجوم، ليحد أفلاكها، ويعرف أبعادها، ويقيس محيط الكرة الأرضية. وعبد الله الخوارزمي العالم المسلم الذي ولد في إقليم خوارزم [2] ، أول رجل في العالم يضع أصول علم الجبر، وفي كتابه ((الجبر والمقابلة)) يقسم العلماء إلى ثلاثة أقسام: فمنهم المخترع المبتكر الذي لم يسبق إليه، ومنهم الذي يتناول آراء العلماء قبله بالشرح والتفصيل والتوضيح، ومنهم الذي لم يكلف نفسه أكثر من جمع المتفرق..
وأبو الريحان محمد البيروني الذي ولد في بيرون، وهي مدينة صغيرة تتبع مدينة خوارزم. يساهم في الفلك والرياضيات، بمساهمات فعالة. وابن النفيس العالم الدمشقي، يجري التجارب والاختبارات، حتى يثبت أن الدم ليس سائلا مستقرا في الأوردة والشرايين. بل هو سائل متحرك، يدور في جميع أجزاء الجسم، وذلك قبل أن يكتشف العالم البرتغالي (هارفي) الدورة الدموية بثلاثة قرون..
وابن مسكويه ذلك المفكر الإسلامي الكبير الذي طرق الدراسات الأخلاقية والنفسية، فذلل متونها، وسبق علماء أوربا، فيما وصل إليه من النظريات النفسية والسلوكية.. هذا كله في الوقت الذي كانت فيه أوربا تعيش في ظلمات الجهل والهمجية، ولم ينقذ أوربا من ورطتها التي كانت واقعة فيها إلا نور الإسلام. وما زالت أسماء العلوم والمصطلحات التي أعطاها العلماء المسلمون لغرائب العلم، ما زالت حية في جميع اللغات رغم ما مر عليها من تحريف وتغيير.. ولقد سجل تاريخ الحضارة الإسلامية بإعزاز. وتقول الكاتبة الألمانية الدكتورة سيجريد هونكه، في كتابها ((شمس الله تشرق على الغرب)) تقول: ((إن هذه الطفرة العلمية الجبارة التي نهض بها أبناء الصحراء من العدم، من أعجب النهضات العلمية الحقيقة في تاريخ العقل البشري، فسيادة أبناء الصحراء التي فرضوها على الشعوب ذات الثقافات القديمة، وحيدة في نوعها، وإن الإنسان ليقف حائرا أمام هذه المعجزة العقلية الجبارة))..
وإن من يمعن النظر في أعماق الحضارة الإسلامية، وما حققته للإنسانية من أسباب النمو، وعوامل الازدهار، ويلم بما جاء به الفكر الإسلامي، من مفاهيم تناولت أهم معضلات الحياة. إن من يتعمق في ذلك، يدهشه مدى عمق التفكير الواعي الذي بلغ ذروته علماء الإسلام، وقد يتضاعف إعجاب الباحث، بهذا الفيض الزاخر، من الجهود العلمية التي شرقت بالحضارة وغربت، وملأت الدنيا بإشراقها..
وربما تزداد دهشت الباحث العاقل، والمفكر الناصح، ويتعاظم تمجيده لحركة التحول الخطيرة التي أصابت المجتمع العربي في تلك الفترة القصيرة. ترى أي سر هذا الذي استطاع أن يحول عرب الصحراء، وهذه الشعوب المتفرقة.. إلى أساطين في العلم، ومشاعل في الحضارة، ومنارات في الثقافة؟ وأي قوة رفعت العرب من حال البداوة التي كانوا عليها إلى أبطال وقادة، يفتتحون أعظم الممالك وأوسعها، ويجولون في الأرض غير هيابين ولا وجلين..؟ .. وأي دعوة هذه التي حولت الناس من الجهل والجاهلية والمذاهب الوضعية، إلى النور الذي يخرج الناس من الظلمات إلى النور..؟
ليس من المعقول في نظر المفكر.. ولا من المقبول في نظر الباحث.. ولا من المعروف في نظر الدارس.. أن يطفر الفكر العربي الذي قيدته ظروف الحياة القبلية الآسنة اليبوس.. إلى مثل هذه المرتبة العالية، دون أن تكون هناك الأسباب القوية التي دفعت به إلى الحياة المتحركة دفعا.. فما هي تلك الأسباب التي استقى منها الفكر الإسلامي، مادة حيويته وحركته؟ وما هي الموارد التي نهل منها أسباب تكامله..
إن المنبع الأول والأصيل الذي استقى منه الفكر أسباب تقدمه ونمائه، هو القرآن الكريم، فهو السر الكامن، وهو القوة المحركة، وهو الدعوة القائمة المستمرة.. وذلك أن القرآن لم يكن كتاب دين يحث على العبادة وتوحيد الله فحسب، وإنما كان إلى جانب تأكيد وحدانية الله، وما يتبعها من عقائد وعبادات.. منبعا أصيلا من منابع الحضارة، ولقد كان أول أثر من آثار القرآن في الحضارة الإنسانية، الاهتمام الواسع بالعلم، وذلك أن العلم عنوان التقدم الحضاري.. ولقد كانت عناية القرآن بالعلم، تفوق حد الوصف واستطاعت توجيهات القرآن العلمية أن تكون منهجا علميا سليما، حدد به المسلمون موقفهم من مشاكل الكون والحياة.(5/189)
ومن هنا كان التفكير العلمي في الإسلام، يقوم على الموضوعية، والصدق، ومن الحوادث البالغة الدالة على العقلية الموضوعية، لدى الفكر الإسلامي، ما حدث مصادفة، أن كسفت الشمس يوم مات إبراهيم بن محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم. فقال قوم إنها كسفت لموت إبراهيم.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته". وبهذا قرر الرسول الصادق، مبدأ علميا، يعتمد عليه المسلمون، فيما يتصل بالكون وما فيه)).
وفي حادثة فيضان نهر النيل، بإقليم مصر الإسلامي، موضوعية علمية، تنبئ عن نظافة الفكر الإسلامي.. حيث كان الاعتقاد قبل الفتح الإسلامي، أن النيل لا يفيض بالماء، إلا إذا ألقيت فيه فتاة حسناء، لتموت فيه غرقا. فلما حان وقتذاك. كتب الحاكم عمرو بن العاص، والي أمر مصر، إلى خليفة المسلمون عمر بن الخطاب، في المدينة المنورة، عاصمة الخلافة الإسلامية، يخبره بما تعود عليه المصريون فأجابه عمر بإرسال رسالة، يلقيها في النيل، وكان في الرسالة: ((من عمر أمير المؤمنين إلى النيل إن كنت تجري من عندك فلا حاجة لنا بك، وإن كنت تجري بفضل الله، فاللهم بارك لنا)).
وفي ميدان التطبيق العملي، نجد أن عمر بن الخطاب في خلافته، قد أمر بقطع شجرة الرضوان، لأن بعض الناس قد أسبغ عليها صفات غير موضوعية.. هذا وأمثاله مظهر للتفكير العلمي الموضوعي لدى المسلمين ينبئ لكل عاقل أن الإسلام هو الدين الحق والصراط المستقيم.
ولهذا كانت للمسلمين حضارة، وعلوم، ومخترعات.. كانت هناك تشريعات وفلسفة، وقوانين، وطب، وفلك، ورياضيات، وأدب، واجتماع وتاريخ وجغرافيا، وكيمياء، وآداب للسلوك.. وكان لكل هذه العلوم أساتذة عباقرة، كأئمة الفقه، وعلماء التفسير، ورجال الحديث، الذين خرجوا المسائل والأحكام الفقهية، وضبطوا أساليب النقد، وقعَّدوا قواعد التشريع.. ويذكر لنا التاريخ عشرات المئات من العلماء في كل فن.. أصبح هناك قادة وحكام لم يعرف التاريخ لهم مثيلا.. وهم لم يدخلوا الكليات الحربية، ولم يدرسوا في مدارس عسكرية.. ولكن دخلوا شيئا واحدا، هو كلية القرآن الكريم، ومدرسة الإسلام الحنيف.. وهناك مدن امتلأت بالعلم والعلماء، ومعاهد الحضارة، مثل: القاهرة، وبغداد، ودمشق، وقرطبة، وغرناطة، واشبيلية، وبخارى وغيرها من العواصم التي تزخر بكل ألوان الحضارة.. وكانت هناك دول وممالك، في الشرق والغرب، بسطت نفوذها الإسلامية وعقيدتها، وعبقريتها، وشرقت وغربت حتى نشرت الفكر الصحيح.. وكل هذا بفعل الاتجاهات القرآنية التي غرسها الإسلام، في قلوب الناس، والتي أدت إلى تنمية القوى العقلية في الإنسان المسلم، ففتحت أمامه آفاقا واسعة لا حدود لها)).
واليوم على الغيورين أن يدرسوا حال المسلمين، الذين ابتلوا بالأفكار المستوردة، والأحزاب الحمراء المتنمرة. لنرى هل يمكن أن تعود حضارة المسلمين، وتشرق من جديد، فتنقذ الإنسانية من بلاء الإلحاد. وحضارة المادية العفنة.. وقبل أن نقرر إمكانية عودة الحضارة الإسلامية أضع أمام القارئ الحقائق التالية:
أولا: العالم الإسلامي حباه الله بأعظم النعم، إذ يتربع على كنوز ثمينة ويربض على ثروات معدنية هائلة، ويملك من حقول البترول أجداها نفعا، وأكثرها سخاء وثراء، وأقواها تدفقا وعطاء.
ثانيا: يملك العالم الإسلامي من شواطئ البحار والأنهار، والممرات، والطرق، البرية، والبحرية، والجوية، ما يجعله في مركز القيادة، ويمكنه من المساهمة والإشراف والتحرك الفعال.
ثالثا: مناطق الثقل في العالم الإسلامي بعيدة عن القطبين، ومصونة من الأعاصير، والطوفانات، والثلوج، والمد والجزر، والبراكين وهذا يتيح لها ما تستطيع به العمل والتقدم..
رابعا: العالم الإسلامي غني بالمحاصيل الزراعية، والإنتاج الحيواني، مما يمكن من قيام صناعات متقدمة ومتطورة.
خامسا: يعيش العالم الإسلامي اليوم في يقظة واعية، وصحوة صحية، إذا أحسن توجيهها، أثمرت..
تلك وغيرها أمور تجعل العالم الإسلامي، قوة إيجابية، مرهوبة الجانب مهيأة لإنقاذ الإنسانية من وهدة الضياع..
ولا شك أن الأمور الخمسة المذكورة مع ما سبق ذكره من مقومات الحضارة الإسلامية، هي أسباب قيام حضارة كاملة.. ومن هنا نقول في غير تردد، إن عودة المسلمين إلى إقامة حضارة إسلامية، أمر ممكن، ولا يحتاج منا إلى أن نخرب أنظمة الأمم، ولا أن نتمسك بأحزاب بعثها المخربون، ولا أن نقسم الأمة إلى أنظمة وجبهات، ولا أن نمزق المجتمع الواحد إلى يمين ووسط ويسار، واشتراكيين وأحرار.. وإنما يحتاج إلى أمر واحد فقط هو الإسلام. الإسلام سلوكا وعملا، والإسلام ثقافة وتربية، والإسلام نظاما وحياة، ولن يصلح آخر الأمة إلا بما صلح به أولها. والله الموفق..
------------
[1] التسمية بالخليج الإسلامي هي أفضل طريقة أمام تحديات العصر.
[2] إقليم خوارزم هذا من الأقاليم الإسلامية التي كانت عامرة بالعلم والعلماء، وهو واقع الآن في قبضة الاستعمار الشيوعي الروسي..
===============
التربية الإسلامية
مفومها :
في اللغة تأتي على ثلاثة معاني :
أ - الزيادة والنماء . ب - النشأة والترعرع . ج - الإصلاح .
في الإصطلاح :
مجموعة التصرفات العملية والقولية ، المأخوذة من الكتاب والسنة أو الاجتهاد في ضوئهما ، والتي يمارسها إنسان بإرادته مع إنسان آخر ، بهدف مساعدته في اكتمال جوانب نموه ، وتفتيح استعداداته ، وتوجيه قدراته ، وتنظيم طاقاته ، ليتمكن من ممارسة النشاطات ، وتحقيق الغايات التي يحددها الإسلام .
وهناك نتائج أساسية في فهم التربية :
1- أن المربي الحق على الإطلاق ، هو الله الخالق .
2- أن عمل المربي تالٍ وتابع لخلق الله وإيجاده ، كما أنه تابع لشرع الله ودينه .
3- أن التربية عملية هادفة ، لها أغراضها وأهدافها وغاياتها .
4- أن التربية تقتضي خططاً متدرجة ، تسير فيها الأعمال التربوية والتعليمية ، وفق ترتيب منظم صاعد ، ينتقل مع الناشئ من مرحلة إلى مرحلة
أهدافها وغاياتها
المقصد القريب هو الهدف ، والمقصد البعيد هو الغاية ، والباحثون يختلفون في ذكر الأهداف والغايات ، ويختلفون في تحديد الهدف الأساسي وما يتفرع عنه . والصواب أن غاية التربية هي العبودية الخالصة لله وحده ، قال تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }الذاريات56 والعبودية على مستويات ، كل يختلف عن الآخر ، بحسب ما قام في قلبه للخالق عز وجل . والعبودية المرضية لله ، لها جناحان ، جناح عبادة لله وحده ، وجناح خدمة عباد الله لوجه الله . والأهداف للتربية ينبغي أن تتحقق في ضوء هذه الغاية . ولما كانت الأهداف كثيرة ومتنوعة ، فسوف نقتصر على الأهداف العامة والشاملة والدائمة ، وهي متدرجة ومترابطة ومتكاملة ومتناسقة مع الغاية المنشودة ، وتحت كل هدف عام يندرج تحته عدة أغراض تربوية جزئية ومرحلية ، وهي كالتالي :
الأول / بناء إنسان مسلم متكامل جوانب الشخصية .
الثاني / بناء خير أمة مؤمنة أخرجت للناس .
الثالث / بناء خير حضارة إنسانية إسلامية .
الرابع / البناء العلمي للأفراد والجماعات .
وبناء المسلم أساساً لبناء تلك الأمة ، وبناء تلك الأمة أساساً لبناء تلك الحضارة .
الأول / بناء إنسان مسلم متكامل جوانب الشخصية
وهي جوانب النمو الأساسية مثل :
- تحقيق النمو الصحي / التربية الصحية ، الوقاية ،صحة قوية .(5/190)
- تحقيق النمو العقلي / التربية العقلية ، حماية العقل ، تنميته ، تكوين عقليته .
- تحقيق البناء الاعتقادي / التربية الاعتقادية ، تكون إيمان صحيح ، تنميته ، دفاع عن العقيدة ، النظرة الصحيحة إلى الكون والحياة وما بعد الحياة .
- تحقيق البناء الروحي /التربية الروحية ( الإيمانية ) الإلتزام، العبادة ، السعادة .
- تحقيق البناء الأخلاقي الاجتماعي / التربية الأخلاقية ، الفضائل والرذائل .
- تحقيق النمو الإرادي/ تربية الإرادة لمواجهة الصعاب في الحياة، نفسية، أخرى.
- تحقيق النمو الإبداعي / التربية الإبداعية ، إتقان الخالق لتعظيمه، المخلوق وإتقانه في مجالات :
الإبداع الخَلقي / إبداع الخالق .
الإبداع الجمالي / تحسين كل ما يقوم به الإنسان من أعمال وصنائع .
الإبداع العقلي والفكري / صنع نظريات وحكم ، تحلَّ بها المشكلات الفردية والجماعية .
الإبداع العلمي / الاختراع وكشف الحقائق العلمية التي لم تنشر ولم تكتشف .
الإبداع الأدبي / الابتكار في البيان والبلاغة والمعاني والصور الأدبية .
الإبداع الأخلاقي / ابتكار المشاريع الخيّرة من أجل نهضة الأمة والمجتمع .
الإبداع الفني / الابتكار في المجال الفني من أجل تحقيق أهداف سامية .
شروط نجاح التربية الإبداعية .
- الكشف عن الميول والاستعدادات ثم توجيههم إلى التخصصات والمهن .
- إعداد المعلمين والمربين من ذوي القدرات في المجالات العلمية والمهنية .
- جعل الناشئين يمارسون الابتكارات والمهارات ، وتحقيق كل ما يلزم لذلك .
- إرسال بعثات من ذوي الكفايات إلى الدول المتقدمة بالضوابط الشرعية للوقوف على الأسرار العلمية والتقدمية .
- استقدام أساتذة مهرة في الإبداع ومخلصين في جميع المجالات .
- تنمية روح الإبداع والاهتمام بأساليبها وطرقها .
الثاني / بناء خير أمّة أُخرِجت للناس
- بناء هذه الأمة هدف من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكان خير مثال في حياته صلى الله لعيه وسلم العملية بناء هذه الأمة .
والصفات التي تميز الأمة عن غيرها هي التي يجب تكوينها فيما يلي :
- تكوين العقيدة الإسلامية الصحيحة ، الدافعة إلى السلوك بموجبها .
- تكوين الروح الأخلاقية الإسلامية الخيّرة ، والتي تدفع الناس إلى التنافس .
- تكوين روح الأخوة الحقة ، وبها تزول الفوارق إلا لأهل التقوى .
- تكوين الوعي الكامل بوحدة حياة الأمة ووحدة مصالحها العامة ، كالجسد .
- تكوين روح الخضوع للنظام الإسلامي ، فهو نظام رباني فيه صلاة الأمة .
- تكوين روح التعلق بالأمة الإسلامية ، ومعنى هذا إيثار مصلحة الأمة وترك كل ما من شأنه إظهار للفتن والفرقة التي تمزق الأمة ، والجماعة خير .
- تكوين روح العدالة الاجتماعية ، فهي تحقق المودة والشعور بالمساواة ، والظلم له أثر كبير في خراب العمران وسقوط الدول ، وعامة الاضطرابات والجرائم سببها الظلم .
- تكوين روح التعاطف والتراحم ، حتى تكون الأمة كالجسد .
- تكوين روح التعاون والتناصح والتواصي والأمر والنهي ، فهي كفيلة بالاستمرار .
- تكوين روح الجهاد والكفاح من أجل حماية الأمة ونشر الدعوة .
- تكوين روح الإتقان والتقدم العلمي في جميع المجالات ، ومن ليست كذلك فهو محكوم عليها بالتأخر والتخلف.
الثالث : بناء خير حضارة إنسانية إسلامية
والحضارة الإسلامية هي تقدم المجتمع الإسلامي وتفوّقه من الناحيتين المادية والمعنوية في جميع المجالات ، بروح خيّرة ، ونحوه غاية خيرة في ضوء المبادئ الإسلامية .
وكل تقدّم وتميّز بغير هذه الروح وبغير هذه الغاية لا يعتبر تقدماً حضارياً ولها أهمية بالغة من خلال ثلاثة أمور :
- حفظ الحضارة من الانهيار .
- دفع عجلة التقدم الحضاري .
- توجيه الحضارة نحو هدف أسمى وغاية خيّرة .
والإسلام يقتضي الحضارة ، فالله دعا المسلمين إلى أن يكونوا أعلى من غيرهم بالإيمان والإعداد والعدة {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ}محمد35 {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا}آل عمران139 {وَأَعِدُّواْ}الأنفال60وهناك شروط تربوية لبناء الحضارة الإسلامية .
- يجب توضيح صورة تلك الحضارة وعناصرها وقيمها ووسائلها أمام الناشئين .
- يجب إقناع الجيل بأهمية مثل هذه الحضارة وقيمتها وضرورتها وأنها خير وسيلة لبناء الأمة .
- يجب الإيضاح للناشئين أن إقامة هذه الحضارة تحتاج إلى جهود جبارة وكفاح .
- يجب تنشئة الجيل على التضحية والبذل من أجل بناء هذه الحضارة .
- يجب تنشئة الجيل وتوجيهه للابتكار والتصنيع وإتقان المهارات حسب الاحتياج.
* أسسها
1- الأسس الفكرية 2- الأسس التعبدية 3- الأسس التشريعية
الأسس الفكرية من خلال نظرة الإسلام إلى :
الإنسان ... الكون ... الحياة
حقيقته وأصل خلقته ... مخلوق الله ... مبدأها بجعلها دار اختبار
هو مخلوق مكرم ... خضوعه لسنن الله ... صفاتها في نظر الإسلام
هو مميز مختار ... مسيّر بقدرة الله
قدرته على التعلم ... كانت لله
مسؤليته وجزاؤه ... مسخر للإنسان
مهمته الكبرى ( العبادة )
الأسس التعبدية
الصلاة + الصوم + الزكاة + الحج + سائر العبادات
الأذكار + النسك + الشورى + العدل + العزة + التوبة
- يجب التركيز على هدف الحضارة وأنه هدف إنساني نبيل ، وغايتها غاية دينية عليا ، تخدم الدين ، فهو خير طريق لانتشاره وسيادته .
خصائصها :
1- أنها مرتبطة بنصوص القرآن والسنة ، والاجتهاد في ضوئهما .
2- طرفاها من البشر ، قد يكونان كبيرين ، أو كبير وصغير ، وهذا الأغلب .
3- أنها مقصودة ومرتبة ، ولا يمنع أن تحدث عبر مواقف غير مقصودة .
4- أنها شاملة تتناول جميع جوانب النمو في الفرد العقلي والجسمي والنفسي والاجتماعي والصحي والروحي والخلقي وجميع قدراته وطاقاته .
5- أنها مستمرة مع الإنسان في جميع مراحل نموه ، منذ تكوينه حتى وفاته .
6- أنها هادفة لتمكين الإنسان من القيام بالأنشطة والممارسات المحققة لغايات الإسلام وأهدافه في بناء الفرد والمجتمع والحضارة .
الأسس التشريعية
فالشريعة الإسلامية أساس عظيم من أسس التربية وهي بيان للعقيدة والعبادة ونظم الحياة ، وهي ترسم للمسلم صورة منطقية متكاملة لكل شيء ، وتقدم له قواعد ونظماً سلوكية وأحكام الشريعة لكل العصور والأزمان ، والشارع هو الله في كتابه ، ورسوله صلى الله عليه وسلم في سنته .
فالشريعة ضابط خلقي للفرد ، رقابة ذاتية ، بيع ، نظر ، سماع ، أكل .
وضابط اجتماعي ، فنظم الأمر والنهي والتعاون والتناصح والتواصي
وضابط سياسي ، فنظم الدولة المسلمة ، وجعل لها سياستها ودستورها فتنفذ أحكام الشريعة من إقامة الحدود وإرساء الاحتساب والدعوة إلى الله وإنشاء المحاضن التربوية .
مصادرها :
التربية الإسلامية تختلف عن غيرها من الأنظمة التربوية في مصادرها التي تقوم عليها ، وهي ضربان :
1- الوحي ، المتمثل في نصوص القرآن والسنة .
2- الاجتهاد والبحث العلمي ، في ضوء القرآن والسنة ، ومقاصد الشريعة ، ومنه الإجماع والقياس ويتعلق بالأول ، ومنه الاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع والعرف ، وهو مرتبط بتحقيق مصالح العباد .
فالأول نقل محض ، والثاني رأي محض .
والمراد بالاجتهاد هنا ، بذل العلماء المسلمين جهدهم وطاقتهم وقدراتهم في فهم نصوص القرآن والسنة المتعلقة بالمفاهيم أو التصورات ، أو القضايا المتعلقة بأساسيات التربية الإسلامية ، وأبعاد جوانب النظام التربوي لها .(5/191)
والمراد بالبحث العلمي ، الدراسات العلمية أو التجارب العملية ، أو التطبيقات الميدانية ، مما له صلة بالعملية التربوية التعليمية ، ويسهم في تحقيق أهدافها المرجوة منها ، أو يسهم في رفع مستوى الأداء التعليمي والفعلي ، ويعتبر البحث العلمي من الاجتهاد في ضوء المصالح المرسلة : أحد مصادر التشريع الإسلامي وعامة ما يتوصل إليه من أحكام ونتائج ، لا تعتمد إذا كانت مخالفة لنصوص القرآن والسنة أو معارضة لمقاصد الشريعة وأغراضها ، ولذا لا يجوز باسم البحث العلمي قبول الأنظمة التربوية الوافدة إلى المجتمع الإسلامي ، والمخالفة للقرآن والسنة ومقاصد الشريعة .
ويعد الاجتهاد والبحث العلمي مما كان له أثر كبير في تنمية التربية الإسلامية ، وإثرائها ، وذلك على أيدي بعض علماء المسلمين حيث كتبوا في بعض قضايا التربية والتعليم كابن سحنون والقابسي وابن عبد البر والغزالي والزرنوجي وابن جماعة وابن خلدون والنووي والخطيب البغدادي وابن الجوزي وابن تيمية وابن القيم .
ومن الجوانب التربوية في مجالات الاجتهاد :
- مناقشة بعض القضايا والآراء والمبادئ التربوية .
- التوسع في إقامة المؤسسات التربوية الإسلامية وتنوعها ( المدارس - بيوت العلماء - قصور الخلفاء - دور الكتب - دور الحكمة - الأربطة - الزوايا .
- ظهور المكتبات العلمية ، العامة منها والخاصة .
- التنوع في المواد الدراسية ، كالعلوم اللغوية والمنطق وعلوم الفلك والجغرافيا والتاريخ والهندسة والجبر والطبيعة والطب .
- اختلاف مناهج التدريس ، وذلك تبعاً لاجتهادات المعلمين والقائمين على المؤسسات التعليمية . من البداية والنهاية .
- نمو طرق التدريس وتعددها ، كالمناظرة والمحاضرة والإملاء ، والتجريب في العلوم التجريبية والتطبيقية . وتجدر الإشارة إلى أن الضرب الأول وهما القرآن والسنة ، أنه كان للقرآن أسلوب رائع ومزايا فريدة في التربية ، ولذا « كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن » .
والسنة جاءت لتوضح ما في القرآن {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ}المائدة48
ولتظهر تشريعات وآداب أخرى{ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ }البقرة129 السنة .
ولذا قال صلى الله عليه وسلم : « ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه » .
وبهذا صارت شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم نموذج تربوي كامل للإنسان .
أساليبها :
هي كثيرة ومتنوعة ، ولعل أهمها وأبرزها ما يلي :
1- أسلوب الحوار القرآني والنبوي
بطريقة السؤال والجواب + الإجابة + قسمت الصلاة / تعبدي + الذكر بعد الآيات + ترديد العبارة ، الحاقة + أتدرون ما الغيبة + عاطفي "أفرأيتم الماء" - قصة الرسول صلى الله عليه وسلم مع الأنصار + جدلي/ أول النجم .
2- التربية بالقصص القرآني والنبوي
3- التربية بضرب الأمثال
4- التربية بالقدوة "محمد صلى صلى الله عليه وسلم" ومنه التقليد
5- التربية بالممارسة والعمل ، الوضوء " فعل عثمان" + الصلاة قصّة المسيء+ ذكر النوم ، حديث البراء الاستخارة ( كما يعلمنا السورة ) ترديد المحفوظ + تصحيحه + الأسئلة التطبيقية .
6- التربية بالعبرة والموعظة ، وبينهما فرق
فالعبرة حالة نفسية توصل الإنسان إلى معرفة المغزى كالاعتبار بالقصص ، وبمخلوقات الله ونعمه ، وبالحوادث التاريخية ، والمقصود : أن يصل الإنسان إلى قناعة فكرية بأمر من أمور العقيدة ، وأن يخضع لشرع الله .
والموعظة هي التذكير بما يلين القلب كالنصح وبيان الحق ، والتذكير بالموت والمرض ويوم الحساب .
7- التربية بالترغيب والترهيب :
فالترغيب وعد يصحبه تحبيب وإغراء ، مقابل فعل أو ترك . والترهيب وعيد بعقوبة ، مقابل فعل أو ترك .
وفي التربية الغربيّة يسمونه "الثواب والعقاب"
وتُرّبى عند الناشئة العواطف تلك من خير أو شر ، باعتدال واتزان ، فلا يتمادون في المعاصي مغترّين برحمة الله ، ولا ييأسوا من نصر الله ورحمته بدعوى أن المجتمع كله منغمس في المعاصي
وسائطها :
1- المسجد : وكان أول عمل قام به الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قدم المدينة أن بنى مسجد قباء ثم مسجد المدينة ، فهو الذي يضم شتات المسلمين ، ويتشاورون فيه لتحقيق أهدافهم ، وكان منطلقاً للجيوش ، ومحلاً لتعليم العلم وتعلمه ، وهكذا حين تعصف النكبات بالمسلمين ، فإنه ينطلقون من المساجد . وهو يعتبر من أعظم المؤثرات .
2- الأسرة المسلمة : ونعني بذلك الزوجات ، وينبغي أن يكونا على دين وخلق وأن يهتما بالإنجاب وأن يقيما حدود الله في أسرتهما وأن يكونا على معرفة بالتربية الإسلامية . ثم الاهتمام البالغ بالطفل من الولادة وحتى الممات .
3- المدرسة : ويعتبر المسجد أول مدرسة جماعية منظمة يتعلم فيها الناس في النهار ويأوون إليها في الليل "الصفة" مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفي عهد عمر نشأ في المسجد كتاتيب للأطفال إلا يوم الجمعة فهو راحة أسبوعية استعداداً للصلاة تبدأ من ظهر الخميس وبعد استقلال الدول ظهرت المدارس . وأول من بنى مدرسة في الإسلام أهل نيسابور ، وانتقلت الفكرة تلك من خراسان والعراق إلى بلاد الشام ومصر ، ثم انتشرت .
4- المربِّي المسلم : وإمام المربين هو محمد صلى الله عليه وسلم ، ووظيفته تزكية النفس ، وإبعادها عن الشر ، وتعليم المؤمنين .
5- المجتمع : فيرجع إلى الله ويحكِّم شرعه في تنظيم المجتمع ، ويكون وسطاً صالحاً للنيل منه .
6- النشاط المدرسي :
7- المنهج التربوي الإسلامي : وهو خطة ترسم فيها أهداف التربية ليستفيد منها المدرسة والمدرس .
المراجع والمصادر
1- "أصول التربية الإسلامية" مذكرة دراسية جامعية ص 8
2- "أصول التربية الإسلامية" للنحلاوي ص 12-14
3- " أصول التربية الإسلامية" مذكرة دراسية جامعية ص 117-148
4- "أصول التربية الإسلامية" مذكرة دراسية جامعية ص 8-9
5- "أصول التربية الإسلامية" للنحلاوي ص 28-96
6- "أصول التربية الإسلامية" مذكرة دراسية جامعية ص 10-23
7- "أصول التربية الإسلامية" للنحلاوي ص 20-25
8- "أصول التربية الإسلامية" للنحلاوي ص 184-264
9- "أصول التربية الإسلامية" للنحلاوي ص 119-180
10- "أصول التربية الإسلامية" مذكرة دراسية جامعية ص 40-62ا . هـ
==============
نقد الفكر الليبرالي ( جديد ومزيد ).
الحرب على السلفيّة..!
( نقد الفكر "الليبرالي" السعودي )
فئة ضالة جديدة
المقدمة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فإنّ من المعلوم أنّ هذه الدولة السعوديّة منذ نشأتها على يد الإمامين الجليلين محمّد بن عبد الوهّاب ومحمّد بن سعود ـ رحمهما الله تعالى ـ قد قامت على العقيدة السلفيّة النقيّة التي كان عليها السلف الصالح منذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم.. والإمام محمّد بن عبد الوهّاب رحمه الله لم يأت بجديد فيما دعا إليه، وإنّما جدّد ما اندرس من معالم هذا الدين لا سيّما ما يتعلّق بالتوحيد ونبذ الشرك، فكانت دعوته تحريراً للعقول من الجهل والخرافات والخزعبلات، وجرى على ذلك أتباعه من بعده حكاماً ومحكومين، ولقد تعرّضت هذه الدولة السلفيّة المباركة منذ نشأتها للكثير من الأذى والمواجهات والتحديات من قبل جهات عدّة، لكنّها ـ بفضل الله تعالى ثم بفضل تمسّك أهلها بهذه العقيدة السلفيّة النقية ـ صمدت في وجه أعدائها، وعاودت الظهور كلّما ظنّ أعداؤها أنّها قد زالت إلى الأبد..(5/192)
وفي أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ثمّ الأحداث التي وقعت في هذه البلاد من تفجيرات آثمة، مع ما صاحب ذلك من وفاة كبار أئمّة هذه الدعوة السلفيّة المعاصرين الذين كان لهم كبير الأثر في حمايتها والذود عنها؛ وجد الأعداء فرصتهم في النيل من هذه الدعوة السلفية ممثلّة في أهلها والقائمين عليها، ولم يكن عدوّها الخارجي بأخطر من عدوّها الداخلي المتمثلّ في بعض أبنائها العاقّين الذين تشرّبوا مبادىء وأفكاراً منحرفة، كان منهم طائفة تبنت الفكر الاعتزالي القديم، وراحت تدعو إليه وتنافح عنه، وترى في السلفيّة عدوّاً لدوداً له، وهم بذلك يسعون إلى إعادة فتنة سلفهم القديمة مع إمام أهل السنة في وقته الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، ولكن بوجه عصري جديد يتماشى مع ما يريده العدو الخارجي المتمكن، هذا الوجه يتلخص في اتهام هذه السلفية النقيّة بأنّها هي مصدر الإرهاب ـ الذي لم يتم الاتفاق على تعريفه إلى هذه اللحظة ـ، ومصدّرته، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك فجعلوا السلفية المسكينة هي السبب الرئيس في جميع النكبات التي حلّت بالأمّة من تخلّف وتأخر وتفرّق(!)، وأنّه لا سبيل إلى التقدم والازدهار إلا بنبذ هذه السلفية النقية التي تدعو إلى اتّباع منهج السلف الصالح ابتداء من رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين وأصحابه الكرام رضوان الله عليهم، ومروراً بأئمّة الإسلام العظام كسعيد بن المسيّب وسعيد بن جبير والأئمّة الأربعة وابن تيمية وانتهاء بأئمة السلفية المعاصرين كابن باديس وابن باز وابن عثيمين وغيرهم عليهم جميعاً رحمة الله تعالى، وفي الوقت نفسه راحوا يبشّرون بمشروعهم التغريبي الجديد المتمثّل في إحياء الفكر الاعتزالي العقلاني، بدعوى الإنسانية والتعددية.. وقد رأيت أن أقصر الحديث على هذه الطائفة الاعتزالية دون غيرها لأسباب أهمّها:
1. أنّهم من أبناء جلدتنا اللصيقين، ويتكلّمون بألسنتنا..
2. تمكنهم من بعض وسائل الإعلام المحلية، وإعطاؤهم الضوء الأخضر من قبل القائمين على تلك الوسائل ليقولوا جلّ ما يريدون، وعدم السماح بنشر الردود عليهم إلا بشكل ضئيل جداً.
3. أنّهم يتحدّثون باسم الدين ويلبسّون على الناس بخلط الحقّ بالباطل، وإثارة الشبه القديمة التي أثارها الأعداء من قبل.
4. تمكنهم من بعض المنابر الجامعية في بلادنا، وبلبلة أفكار الطلاب وتشكيكهم في دينهم وعلمائهم بل وفي أقرب الناس إليهم وفي هذا يقول أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرّفاً وبذاءة ـ في مقال له بعنوان: ( نحن والخوارج إلى أين ) الرياض: 13709: " ما أؤكّده لطلابي دائماً، ويقع منهم موقع الغرابة أنّ الفكر الخارجي حالة ليست ببعيدة عنا، الحالة الخارجية لها نسبتها الخاصة، وقد تنمو داخل الفرد ببطء دون أن يشعر، وقد تتسرب إليه من أقرب الأقربين، بل قد يكون أقرب الناس إليه ـ والداه أو إخوته مثلاً ـ من غلاة الخوارج، ولكنه يستبعد أن يكون هذا القريب الذي يطمئن إليه غاية الاطمئنان من الخوارج الغلاة الذين يقرأ عنهم وعن تكفيرهم ووحشيتهم.. لا يكادون يصدقون هذا، مع أنهم يعرفون تمام المعرفة أن الخوارج القدامى خرجوا من صميم المجتمع... "، بهذه الطريقة الماكرة يشكك الأستاذ الجامعي تلاميذه في والدِيهم وإخوانهم، بل العجيب أن يتحوّل مدرس العربية، إلى أستاذ في العقيدة، ليلقنهم درساً في الفِرَق، وهذا الذي طالما استنكروه في صحفهم، وعدّوه من أسباب تدني التعليم عندنا كما يقول أحدهم في مقال له بعنوان: ( دعاة لا معلمون ) الوطن: 921.
ثم يقول الأول في مقاله: إن الطلاب لا يكادون يصدقون ما يقوله..!!، وكيف يصدقون هذا الهراء من كاتب يعلمون خبثه وانحرافه العقدي والفكري، وقد قابلت بعض طلابه فأبدوا استياءهم من فكره المنحرف الذي يبثه في قاعة الدرس..
ولقد كنت منذ زمن أتتبع كتاباتهم التي يسوّدون بها الصحف والمجلات، فجمعت منها كمّاً هائلاً مليئاً بالجهالات والمغالطات والتلبيس والدسّ الرخيص، وتقرير العقائد الباطلة، وغير ذلك من أنواع الباطل، وما فاتني منها ربما أضعاف ما جمعته، مما يصعب معه نقد هذا الفكر نقداً شاملاً دقيقاً، إذ يحتاج ذلك إلى مجلدات ضخمة ربما فني العمر قبل الفراغ منها.. ولا أقول ذلك مبالغة وإنّما هي الحقيقة، لذا سأحاول نقد ما تيسر لي من هذا الفكر بحسب ما يتسع له الوقت، وهو كاف ـ بإذن الله ـ لفضحه وبيان فساده وخطله..
وسيكون الحديث عنهم في النقاط التالية:
أوّلاً: سماتهم الشكلية الظاهرة..
ثانياً: سماتهم الفكرية والثقافية من خلال كتاباتهم المعلنة..
ولن أحرص على ذكر الأسماء، لأنّ الأسماء تتغيّر وتتبدّل، بخلاف السمات فإنّها ثابتة لا تتغير بتغير الزمان إلا قليلاً، وهذا هو منهج القرآن في الحديث عن مثل هذه الطائفة..
هذا؛ ومن الملاحظ من خلال كتاباتهم أنّهم يتبادلون الأدوار، فبعضهم متخصّص في الطعن في السلفية وتشويهها وتنفير الناس منها، وبعض آخر متخصّص في التقليل من خطورة المذاهب المنحرفة، والأفكار الضالة، بل الدعوة إلى بعضها وتلميعها وخصوصاً الفكر الاعتزالي كما سيأتي بإذن الله، وهكذا، وبعض ثالث متخصّص في النيل من حضارتنا الإسلامية، وتشويهها، والثناء المغالي على الحضارة الغربية، وتمجيدها إلى حدّ الهوس، وهلمّ جرّاً..
أمّا مصادرهم التي ينهلون منها، فهي بعض الكتب الفكريّة لبعض الكُتّاب المنحرفين من تلامذة المستشرقين الحاقدين، ومن أصحاب التوجّهات العلمانية المشبوهة، الذين يجيدون بثّ الشبه، والتشكيك في أصول الدين ومصادره، وتاريخ المسلمين، بطريقة ماكرة، وغير منهجية، قد تخفى على كثير من الشباب الغضّ الذي ليس له حظّ وافر من العلم الشرعي، ومن أبرز هؤلاء المفكّرين، وأكثرهم حضوراً في كتاباتهم: المفكّر المغربي محمّد عابد الجابري، ففي الوقت الذي يطعنون فيه بأئمّة السلف وعلماء الأمّة كما سيأتي؛ نجدهم يسبغون أوصاف التعظيم والتبجيل لهذا المفكر وأمثاله، يقول أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرّفاً ـ في مقال له بعنوان: ( إشكالية العنف الفلسطيني الإسرائيلي ) الرياض: 13401: " فلسطين والنهضة العربية، أيّهما الوسيلة، وأيّهما الهدف؟ تاه العربي في هذا السياق وغمّ عليه! وأصبحت الحيرة في هذا من الإشكاليات المزمنة في الوعي العربي ذي البعد الوحدويّ؛ كما يرى ذلك المفكّر المغربيّ الكبير: محمد عابد الجابريّ.. "!!! .
ويقول آخر ـ وهو أكثرهم حديثاً عن العقائد، وتقرير مذهب الاعتزال ـ في مقال له بعنوان ( غرس المفاهيم من خلال الطرح غير العقلاني ) الرياض: 13477: " يرى الدكتور محمد عابد الجابري أنّه لكي يتمّ غرس المفاهيم الحداثية في الذاكرة الجمعية لمجتمع معين مثل مفاهيم الديمقراطية والتسامح وحقوق الإنسان والمجتمع المدني فلا بدّ من تجذيرها تراثياً.. " ويستمر الكاتب في شرح وجهة نظر الجابري، وعلى الرغم من أنّه أبدى شيئاً من التحفظ المؤدب تجاه تلك الوجهة، إلا أنّه يختم مقاله بقوله: " وهذه على الأقلّ تظلّ مجالاً للتساؤلات التي على المفكّرين الكبار من طراز الجابري بالذات أن يولونها ( هكذا ) اهتمامهم.."، وأضع تحت كلمتي ( طراز ) و( بالذات ) عدّة خطوط.
وفي مقال آخر بعنوان ( النظام المعرفي والهوية الثقافية ) الرياض: 13551، يقول الكاتب نفسه: " مفكرون عرب كبار وعلى رأسهم الجابري.. ".
أمّا ترديد أفكار الجابريّ، وحتى ألفاظه ومصطلحاته، فهو كثير في كتاباتهم، ومن ذلك:(5/193)
• ( بنية العقل العربي) من مقال بعنوان: (بائعو الكلام) الرياض: 13490.
• ( الإيبيستيمولوجيا، النظام البياني والعرفاني والبرهاني ) من مقال بعنوان: ( النظام المعرفي والهوية الثقافية ) الرياض: 13551.
• ( التاريخ السياسي المتدثّر برداء الدين، والمحافظ على أيدلوجيته القبليّة، ومكاسبه الغنائميّة.. ) من مقال بعنوان: ( قراءة في بعض فروع العقائد ) الرياض: 13667.
• ( المخيال الجمعي ) من مقال بعنوان: ( مفهوم الحاكمية ) الرياض: 13716، وغيرها من العبارات.
بل إنّ أحد كبرائهم ـ وهو أشدّهم افتتاناً بالحضارة الغربيّة وتمجيدًا لها ـ صرّح في مقال له بعنوان: ( أسباب التباس مفهوم الثقافة ) الرياض: 13789 بمنهجهم في التلقّي، يقول: " أمّا التوغّل الفردي في اكتساب المعرفة المقروءة، والتحليق في آفاق المعارف الإنسانيّة؛ فهو من التغيّرات التي طرأت على الحياة البشريّة، وهو عالميّ المصدر، فرديّ الاهتمام، فهو لا يكون جماعياً، ولا يمثّل سياقاً عامّاً، أو نسقًا سائدًا، وإنّما هو عمل فرديّ يقتصر مداه على صاحبه ومن يتأثّرون به، ويستجيبون له [ يقصد حزبه الليبراليّ ]، وتكون مرجعيّته المعرفيّة من خارج النسق الثقافي المحلّي المغلق(!)، إنّه يعتمد على المصادر المكتوبة الممحصّة(!)، وهي مصادر مجلوبة من خارج الثقافة السائدة "
هذه هي مرجعيّتهم، إنّها مجلوبة من خارج الثقافة السائدة(!) وهي كتب المستشرقين الحاقدين، وأذنابهم من الزنادقة الملحدين، والمفكّرين المنحرفين كما تدلّ على ذلك كتاباتهم!!!.
ثمّ يواصل: " فالفرد المهتّم يكوّن ذاته بذاته منفردًا، ويفتح ذهنه لكلّ المتاح من الإنتاج العالميّ، من الأفكار والمعارف والآداب(!) والفنون حيث يتجاوز الفرد بهذا التحليق(!) الثقافة السائدة تجاوزًا موغلاً(!) معتمدًا في ذلك على التأمّل العميق والاستقصاء الدقيق، والبحث الدائم، والمعايشة المنفردة(!) ".
فهو يرى أنّ مجرّد القراءة الفرديّة، والجهد الفرديّ في التلقّي، ومن مصادر خارج النسق الإسلاميّ المنضبط، هو سرّ التميّز والتثقيف والتقدّم المنشود، وهو إذ يقول ذلك ـ بهذه السذاجة الغريبة ـ لا يخاطب جمعًا من المثقّفين والنخب الذين لديهم التمحيص والتمييز بين الغثّ والسمين، والنافع والضارّ، وإنّما يخاطب الناس جميعًا في صحيفة سيّارة، فكيف يصدر مثل هذا من كاتب يعدّ نفسه من نخبة النخبة(!)، وقد حذّر سلفنا الصالح من هذا النوع من التلقّي، وشاعت بينهم المقولة الشهيرة: ( من كان شيخه كتابه، كثر خطؤه، وقلّ صوابه )، وهي مقولة صحيحة يؤكّدها الواقع القديم والحديث، فإنّك لا تجد رجلاً تفقّه وتعلّم وتتلمذ على الكتب إلا وتجد له من الأخطاء والشذوذ ما يفوق الحصر.
ثمّ إنّ هؤلاء وهم يتّهمون السلفية بالتقليدية، ويلمزونها بذلك، وهي من أشدّ المذاهب حرصاً على اتّباع الدليل، ونبذ التقليد؛ نراهم يقلّدون هذا الجابري وأمثاله، ويردّدون ذات الأفكار، بل ذات الألفاظ التي يردّدونها، والتي صدرت ـ أوّل ما صدرت ـ من المستشرقين الحاقدين، وأخذها عنهم هؤلاء المقلّدون، فعاد الأمر إلى تقليد المستشرقين، وترديد شبههم..، وإذا كان ولا بدّ من التقليد، فتقليد السلف الصالح خير من تقليد المنصّرين، من المستشرقين، وأذنابهم من المفكّرين بعقول غيرهم(!!!).
وبعد، فهذا أوان البدء بالمقصود:
أوّلاً: السمات الظاهرة: فأمّا سماتهم الشكلية الظاهرة ـ التي يتستّرون بها على أفكارهم ـ، فأبرزها إعفاء اللحى مع الأخذ منها، أو على حدّ تعبير أحد مشايخنا الأجلاء ـ اللحى الليبرالية ـ، حتى إنّ أشدّهم تطرّفاً لو رأيت صورته لحسبته من الصالحين، بينما كتاباته تمتليء حقداً وغلاً على الصالحين والمصلحين لا سيما أصحاب المنهج السلفي القويم من الأوّلين والآخرين كما سيأتي.. وليس ذلك خاصّاً بهم، فقد يشترك معهم في ذلك بعض العامّة ممن لا يحمل فكرهم المنحرف..
ومع ذلك، فقد تقتضي مرحلة من المراحل الظهور بغير لحى، فهي ليست ضرورية عندهم..
كما أنّ من سماتهم الظاهرة حضور الجمع والجماعات، مع انتقادهم الشديد ـ غير الموضوعي ـ لأئمّة المساجد واحتقارهم وكراهيتهم، إلى درجة الطعن والتشكيك في دينهم أحياناً، والتأليب عليهم، وأحياناً السخرية منهم والتندّر بهم لا سيما إذا خالفوهم في الأفكار المطروحة.. ويظهر ذلك جليّاً في مواقعهم على الأنترنت، فما لا يقدرون على بثه في صحفهم ومجلاتهم بأسمائهم الصريحة، يبثونه عبر تلك المواقع بأسماء مستعارة.. بل إنّ أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرفاً وبذاءة ـ دعا في مقال له بعنوان: ( نحن والخوارج إلى أين ) الرياض: 13716، إلى فرض الوصاية على الخطباء ـ الذين هم في الغالب من طلاب العلم وأساتذة الجامعات ـ وكتابة الخطب لهم بل حتى الأدعية، فلا يكون لهم دور إلا مجرد قراءة الخطب المكتوبة فقط(!)، هذا مع طنطنة هذا الكاتب وغيره من هذه الفئة على ضرورة رفع الوصاية المفروضة على عامة الناس من قِبل العلماء، والتي تحول بينهم وبين الاقتناع بالأفكار المضللة التي تدعو إليها هذه الفئة الضالة وغيرها، وهذه من أعجب تناقضاتهم كما سيأتي إن شاء الله..
يقول أحدهم ـ وهو من أكثرهم حديثاً عن السياسة والدعوة إلى الفكر الاعتزالي ـ في مقال له تفوح منه رائحة العلمنة بعنوان: ( التجييش الطائفي على المنابر ) الرياض: 13770، ـ وكلّ من يدعو إلى الدين والعقيدة عندهم فهو طائفي ـ، يقول: " أدركتني صلاة الجمعة الماضية مع أحد الخطباء ذي الباع الطويل في التسييس المنبري(!) ومنذ قد غادرت مسجده منذ مدّة ليست بالقصيرة عندما أدركت حينها أنني لا أكاد أسمع وأنا منصت لخطبته إلا تحاليل(!) سياسية رديئة المضمون(!) رائجة السوق لدى الخطاب الديماغوغي(!) القابل للتجييش بطبيعته.. " إلى آخر ما ذكر بأسلوبه الركيك المتهالك، أمّا الخطاب الديماغوغي!!! فهذا الذي لم أفهمه إلى هذه الساعة، ولعلّه مشتق من الدماغ، والله تعالى أعلم، أما (التحاليل)، فذكرتني بالمستشفيات، والدماء المسحوبة للتحليل، ولعله اختار هذا اللفظ لمناسبته للإرهاب وسفك الدماء..
وفي مقال بعنوان: ( نجاحات الأمن قدوة كيف نبرر قتلنا المجاني ) الوطن: 1156، يلمز أحدهم خطيب العيد الذي صلى خلفه، لأنّه ـ كما يقول ـ ذكر أنّ للتطرف وجهين، وجه محسوس وهو الذي يؤدي إلى التفجير والتخريب، والوجه الآخر تطرف فكري وهو تطرف العلمانيين والمنحرفين من كتّاب ومثقفين... وذِكْرُ هذا الوجه الأخير هو الذي أقضّ مضجع هذا الكاتب، واغتاظ منه ( كاد المريب أن يقول خذوني )، فما كان منه إلا أن اتهم الخطيب بالتبرير للإرهاب المحسوس، مع أنّه لم يقل ذلك، لكنه الصيد في الماء العكر، والدفاع عن وجودهم، حيث استغلوا الأحداث الأخيرة لتصفية الحساب مع خصومهم التقليديين.
هذه مجمل سماتهم الظاهرة..
أمّا سماتهم الفكرية العامّة التي ظهرت من خلال كتاباتهم المعلنة، فهي كثيرة جداً، أذكرها أوّلاً بإجمال، ثمّ بتفصيل:
أوّلاً: الإجمال:
1. محاربة السلفية.
2. الخلل العقدي الواضح في كتاباتهم.
3. الشكّ في دينهم، وكثرة الحديث عمّا يسمونه بـ ( امتلاك الحقيقة المطلقة ).
4. العزف على وتر الإنسانية.
5. الدعوة إلى علمنة الحياة، وإقصاء الدين ( وهو لبّ مشروعهم الذين يدعون إليه ).
6. الإعجاب بمن يسمّونه ( الآخر )، ومدحه، وكيل الثناء عليه.
7. الجهل.(5/194)
8. تنزيل الآيات التي جاءت في حقّ الكفرة من المشركين وأهل الكتاب، على خصومهم المؤمنين من العلماء والدعاة وطلبة العلم!!.
9. عدم قبول النصيحة، والسخرية من الناصحين، والتشهير بهم.
10. المزايدة على حبّ الوطن، وهم أشدّ الناس خطرًا على الوطن.
11. الطعن في أئمّة السلف قديمًا وحديثًا، والتقليل من شأنهم، مع إجلال الزنادقة والملحدين والمارقين والمبتدعة.
12. الغرور والكبر واعتقاد امتلاك الصواب..
13. الهجوم الشديد على المؤسسات الدينية والمناشط الدعوية والأشرطة والكتيّبات النافعة.
هذه بعض سماتهم بإجمال، أمّا التفصيل:
السمة الأولى:
محاربة السلفية
وهذه سمة ظاهرة في كتاباتهم، بل هي أبرز سماتهم، يبدونها أحياناً، ويخفونها أحياناً كثيراً، وليس المراد بالسلفية هنا: المدّعاة من قبل بعض النوابت الذين شوّهوا السلفية الحقّة ما بين إفراط أو تفريط، فهؤلاء أمرهم مكشوف لكل ذي بصيرة، بل العجب إنّ بعضهم قد وضعوا أيديهم في أيدي هؤلاء الاعتزاليين المارقين لمحاربة السلفية الحقّة ممثّلة في أهلها العاملين بها.. ومع هذا فإنّ هؤلاء الاعتزاليين يسخرون منهم، ومن سلفيتهم بل من السلفية كلّها أيّاً كانت، يقول أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرفاً ـ بأسلوب ماكر لا يخلو من السخرية في مقال له بعنوان: ( المعاصرة وتقليدية التقليدي ) الرياض: 13366، وعلامات التعجب من عندي: " السلفيات وإن تنوعت، بل وإن وقف بعضها من بعض موقف التضادّ؛ إلا أن الوعي الماضوي(!) يجمعها. إن السباق فيما بينها ليس سباقاً في ميدان الحاضر أو المستقبل، وإنّما هو سباق في ميدان الماضي، والسابق هو الذي يصل ـ بأقصى سرعة ـ إلى الماضي السحيق(!).." إلى أن يقول: " وهكذا نجد أنّ كلّ سلفية ـ أيّاً كان نوعها ودعواها وتمظهرها ـ تدعم الوعي السلفي(!) وترسّخ للماضوية، وتكافح في سبيل التقليد، بدعوى أنّه الحصن المنيع ضدّ الابتداع، وهي بهذا تقف ضدّ أي حراك تقدّمي، تقف ضدّ التقدّم كوعي(!)، وإن تهادنت معه في هذا الموقف أو ذاك. إنّ هذه الهدنة من قبل السلفي فعل تكتيكي لا يرقى إلى الاستراتيجي ولا يقاربه، حتى في مداه النسبي، لأنّ السلفية ـ دائماً(!) ـ في صف الماضي على حساب الحاضر(!) ". والماضي السحيق الذي أشار إليه هذا الكاتب، هو رسول الله r وأصحابه الكرام، إذ إن هذا هو أقصى ما يرجع إليه السلفي المتبع، فهو تعبير آثم يدلّ على شناعة هذا الفكر التغريبي وقبحه، واستهانته بسلف الأمّة.. وأما اتهام السلفية بأنّها في صف الماضي على حساب الحاضر! فهو محض افتراء وكذب، فلا تعارض بين الماضي السحيق ـ على حدّ تعبير الكاتب ـ الذي منتهاه رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وبين الحاضر والمستقبل في الفكر السلفي الصحيح، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها كما دلت على ذلك النصوص الشرعية.
وقبل الحديث عن هذه الحرب القذرة، لا بد من بيان بعض المصطلحات التي تتردد في كتاباتهم، حتى يتفهم القارىء ما يهدفون إليه.
فمن هذه المصطلحات:
• ( السلفية التقليدية ) ويريدون بها المؤسسات الدينية الرسمية في الدولة التي تتمثّل فيها هذه السلفية، كهيئة كبار العلماء، واللجنة الدائمة للإفتاء، وسائر علمائنا الكبار..
• ( الفكر الصحوي ) ويريدون به طلبة العلم والدعاة النشطين، وهو الذي يعدونه ـ كما يقول أحدهم ـ " النشاط الحركي العصري للسلفية التقليدية وأنّ العلاقة بينهما علاقة عضوية يستحيل تمايزها " الرياض:13436.
• ( الإسلام الحركي ) أو ( الحراك المتأسلم!! )، ويريدون به أيضاً الدعاة النشطين في الدعوة... فهم لا يريدون إسلاماً نشطاً متحرّكاً، وإنّما يريدون إسلاماً جامداً خاملاً لا يتحرك، حتى يتمكنوا من تنفيذ مشروعهم التغريبي دون مقاومة تذكر!!!.
• ( الإسلام السياسي ) ويريدون به العلماء والدعاة الذين يشاركون في الشأن العام، لا سيما القضايا السياسية، ولهم دور فاعل فيها... وهم يريدون إسلاماً "دراويشياً" لا يفقه شيئاً في القضايا العامة حتى تخلو لهم الساحة..
• ( التنميط ) ويريدون به تربية الناس على منهج أهل السنة والجماعة، وعقيدة السلف الصالح، وحمايتهم من المذاهب المنحرفة، والعقائد الفاسدة..
• ( الأيديولوجيا )، وهو مصطلح وافد غير عربي يتردد كثيراً في كتاباتهم ـ بل يكاد يكون ترداده سمة لهم ـ ويريدون به المعتقد الديني أو الثقافي الذي يؤمن به الفرد ويترجمه سلوكاً في الواقع المعاش. والأدلجة عندهم فيما يتعلّق بالسلفية: تشبه التنميط، فهي دعوة الناس إلى الدين والمعتقد الصحيح وتربيتهم عليه ليكون واقعاً معاشاً، وهذا هو الذي يقضّ مضاجعهم، ويحول بينهم وبين تحقيق مشروعهم التغريبي.
وقد سلك هؤلاء المارقون في حربهم للسلفية مسالك عدّة، من أبرزها:
1. محاولة تشويه السلفية، والتنفير منها، وتصويرها بصورة مقزّزة لصرف الناس عنها، وذلك للتمهيد لطرح مشروعهم التغريبي العفن المتقنّع بقناع العقلانية والتنوير!! وهم وإن كانوا كلّهم يعملون في هذا السياق؛ إلا أنّ أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرّفاً وأكثرهم بذاءة ـ قد تخصّص في ذلك كما سبق، فلم يترك شتيمة، ولا نقيصة إلا رمى بها هذه السلفية التي يدين بها عامّة أهل هذه البلاد وغيرهم، وكلّ ما تقاطع معها من "الإسلامويين" ـ كما يعبّرون استهزاء ـ ولو من بعيد، وحتى لا أكون متجنّياً، فإنّي سأذكر بعض هذه الشتائم، ليعلم القارىء مدى الإسفاف الذي وصلوا إليه، مع دعواتهم المتكرّرة للتسامح مع "الآخر" واحترامه وتقديره!!!. فمن هذه الشتائم:(5/195)
( السلفية العتيقة ) الرياض: 12953، ( السلفية التقليدية ) الرياض: 13065، (الانغلاق السلفي ) الرياض: 13338، ( قوى التقليد والجمود والظلام ) الرياض: 13485، ( قوى التقليد والظلام والإرهاب ) الرياض: 13331، ( قوى التأسلم ) الرياض: 13359، ( قوى التخلف والتوحش والانغلاق ) الرياض: 13352، ( قوى التطرف ) الرياض: 13331، ( قوى تخلف وتقليد ) الرياض: 13331، ( التقليدية البلهاء ) الرياض: 13065،( التقليدية الميتة ) الرياض: 13331 ، ( الثقافة الميتة ) الرياض: 13072، ( الثقافة التي تصنع الغباء ) الرياض: 13072، ( الثقافة التقليدية البائسة ) الرياض: 13065، ( ثقافة الانغلاق ) الرياض: 13065، ( ثقافة تقتل الوعي ) الرياض: 13065، ( ثقافة التجميع واللا عقل ) الرياض: 13072، ( ثقافة الموت الوعظية الحمقاء ) الرياض: 13072، ( ثقافة كسيحة ) الرياض: 13156، ( الوعي الكسيح ) الرياض: 13002، ( الوعي المتسطّح الكسيح ) الرياض: 13072، ( الوعي المأزوم ) الرياض: 13380، ( وعي غارق في مخلّفات عصور الانحطاط ) الرياض: 13156، ( القراءة التراثية المبعثرة ) الرياض: 13331، ( الطرح المتسطّح ثقافياً ) الرياض: 13163، ( رؤى الانغلاق وتيارات الكره ودعاة النفي ) الرياض: 13128، ( براثن التنميط والمحافظة والتقليد ) الرياض: 13128، ( الاحتيال اللا معرفي وجرثومة الوصاية ) الرياض: 13065، ( الدروشة الوعظية التي تفتقد الحكمة ) الرياض: 13072، ( الإفلاس المعرفي ) الرياض: 13072، ( الاستغفال المعرفي ) الرياض: 13121، ( الترنح المعرفي ) الرياض: 13282، ( تيار الجمود والارتياب ) الرياض: 13282، ( الاختطاف الثقافي والاجتماعي ) الرياض: 13128، ( قصور معرفي حاد ) الرياض: 13163، ( البلاهة السياسية ) الرياض: 13191، ( الغباء السياسي ) الرياض: ، ( ضمور الوعي السياسي ) الرياض: 13380، ( الجماعات المتأسلمة ) الرياض: 13247، ( نمطية بلهاء ) الرياض: 13338، ( المتأسلمون )، ( تيارات التأسلم ) الرياض: 13282، ( فكر الإقصاء والنفي ) الرياض: 13282، ( اللا وعي بالتاريخ ) الرياض: 13002، ( الفهم القاصر ) الرياض: 13002، ( جماهير الغوغاء ) الرياض: 13002، ( المنزل القديم المتداعي بوحشيته المعتمة ) الرياض: 13002، ( سيكولوجية البدائي ) الرياض: 13002، ( خطاب موعظة لا معرفة ) الرياض: 12953 ، ( ألاعيب الحواة ) الرياض: 13436، ( ممارسة خرقاء ) الرياض: 13436، ( الحراك المتأسلم ) الرياض: 13478، ( الخرافة والتقليد والخداع ) الرياض: 13485 ، ( طمر الحقائق ) الرياض: 13485، ( حراك سلبي ) الرياض: 13485، ( الأيدلوجي المنمط ) الرياض: 13499، ( المجتمعات المحافظة الأصولية ) الرياض: 13499، ( حركات الأدلجة ) الرياض: 13499 ، ( الأدلجة الماكرة ) الرياض: 13324 ، ( تجهيل الجماهير ) الرياض: 13499، ( الجماهير البائسة الظامئة ) الرياض: 13506، ( الجماهير الغائبة المغيّبة ) الرياض: 13338، ( الحواشي وحواشي الحواشي ) الرياض: 13506، ( الإسلام الحركي السياسي ) الرياض: 13506، ( المراهقة الصحوية ) الرياض: 13303، ( أوهام التقليدية الميتة ) الرياض: 13065، ( مفرقعات صحوية ) الرياض: 13289، ( شريط الكاسيت الغبي ) الرياض: 13289، ( الهراء الإعلامي والسطحية ) الرياض: 13289، ( المتأسلمون ) الرياض: 13303، ( الحراك الثقافي المتأسلم ) الرياض: 13359، ( دعوى النقاء الأخلاقي المزعوم ) الرياض: 13331..
هذه بعض الشتائم المقذعة التي قمت بإحصائها من مقالات كاتب واحد منهم فقط، ودون استقصاء تام(!) ويلاحظ على هذه الشتائم ما يلي:
أ- كثرتها، حتّى إنّها لتصل إلى الخمس والستّ في المقال الواحد!!!!، وفي هذا دليل واضح على افتقاد الحجّة الصحيحة المقنعة، فإنّ المبطل إذا عجز عن الإقناع بالحجّة؛ لجأ إلى السباب والشتائم للنيل من خصمه.
نعم؛ قد يضطر الإنسان أحياناً إلى توجيه بعض الشتائم إلى خصمه اللدود، لكن أن تكون بهذه الكثرة المفرطة، ومن أناس " أكاديميين" يدّعون الفكر والعقل المستنير؛ فهو أمر يدعو إلى التأمّل والعجب!!.
ب- تضمنّها العديد من التهم ذات العيار الثقيل بلا دليل ولا برهان صحيح، وما أسهل أن يطلق المرء على خصومه التهم جزافاً بلا بيّنة صحيحة، والتي قد يصل بعضها إلى الإخراج من الدين والإسلام، كقولهم: ( المتأسلمون )، ( قوى التأسلم ) ، ( الحراك الثقافي المتأسلم ) ونحوها من الشتائم، فالمتأسلم هو الذي يدعي الإسلام وهو ليس كذلك كما يُفهم من هذا الوصف، ولطالما دندن هؤلاء حول خطورة التكفير، والإخراج من الدين، حتى وإن كان بحقّ، فما بالهم يصفون خصومهم المسلمين بالضد من ذلك !!!.
ج- أنّ هذه الشتائم لم تقتصر على أهل العلم والفكر والدعوة من السلفيين من الأوّلين والآخرين، بل تجاوزت ذلك إلى عامّة الناس المقتنعين بهذه العقيدة، والذين يطلقون عليهم وصف ( الجماهير ): فهم ( الجماهير البائسة الظامئة )، و( جماهير الغوغاء )، و( الجماهير المجهّلة )، و( الجماهير الغائبة المغيّبة )، و(المجتمعات المحافظة الأصولية )، لا لشيء إلا لأنّ هذه الجماهير المسلمة اختارت هذه العقيدة النقية، ولم تستجب لدعواتهم التغريبية المضللة، ولن تستجيب بإذن الله تعالى..
د- أنّ الكثير من هذه الأوصاف ( الشتائم ) هم الأقرب إلى الاتصاف بها، والتخلّق بها لمن تأمل ذلك، لكنهم يقلبون الأمور، ويلبّسون على الناس على قول المثل السائر: ( رمتني بدائها وانسلّت )!!.
ه- أنّ مثل هذه الشتائم لا تصدر إلا من نفس موتورة حاقدة، قد تشبّعت بالشبهات، فاستقرّت فيها وتمكّنت منها، وداء الشبهات أعظم أثراً في النفوس والقلوب من داء الشهوات، فكيف إذا اجتمع الأمران، نسأل الله السلامة والعافية.
والعجيب أنّهم يرون أنّ مثل هذه الشتائم القبيحة التي يسمونها نقداً؛ ضرورية لإيقاظ المجتمع من سباته، وتنويره(!!!)، يقول أحدهم ـ وهو كبيرهم وأشدّهم افتتانناً بالحضارة الغربية ـ في مقال له بعنوان: ( تخصّص في الطب وأبدع في الفكر والمسرح) الرياض: 13502: " وبذلك أدرك ( بريخت ) بأنّ مواجهة الطوفان بالنقد الحادّ، والتهكّم الموجع من أهمّ وسائل إيقاظ المجتمع من سباته، وتنويره للمصير المظلم الذي يساق إليه ". وبريخت هذا مبدع عالمي عند الكاتب ترك تخصصه في الطب(!)، واشتغل بالمسرح(!)، وهو حين يذكر قول هذا المبدع(!) لسان قلمه يقول: إياك أعني واسمعي يا جارة، كما يدل على ذلك باقي المقال، ومقالاته الأخرى. وقد فهم تلميذه السابق الرسالة ـ وبئست التربية ـ، فأطلق تلك الشتائم والتهكّم الموجع بذلك الكمّ الهائل لمواجهة (طوفان) السلفية، وإيقاظ الفتنة النائمة.. وحتماً سيغرقه هذا الطوفان بإذن الله تعالى.(5/196)
وأعجب من ذلك أنّ هذا الكاتب نفسه ـ صاحب الشتائم السابقة ـ حينما تحدّث عن بعض الكُتّاب المنحرفين في مقال له بعنوان ( قراءة الإسلام بين العلمية والإيديولوجيا 2/2 ) الرياض: 14185 وصفه بوصف هو أجدر أن يوصف به فقال: " لا غرابة في أن تصدر هذه الشتائم عن إنسان مريض يعاني من عقد الاضطهاد، وربما مر بمواقف زادت من تأزمه واضطرابه، أو ربما كان خاضعاً لتربية غير سوية، قادته إلى استخدام هذه اللغة السوقية التي لا تجد من يلوكها إلا في الحواري الخلفية، وعند الحشاشين والقوادين، وإنما العجب أن تحتفي بعض الصحف المحترمة، كأخبار الأدب، وأدب ونقد، ودور النشر العلمية.. بمثل هذا العابث، والذي لا يمتلك سوى هذا الكلام الذي يراه صاحبه علماً. الجهالة من ناحيتين، جهالة أولية، وجهالة جراء عدم إدراك مستوى ضحالة الذات معرفياً ".
وهو في مقاله هذا نصّب نفسه مدافعاً عن الإسلام والدين، وهو الذي كان يكيل الشتائم لأهل الدين كما سبق، ويرميهم بكل نقيصة، فلم يسلم منه حتى الأئمّة الكبار كابن القيّم وغيره، ولا فرق بين من يطعن في الدين نفسه، ومن يطعن في حملته وأهله، سوى أنّ الأوّل طعن صريح، والثاني خبث مغلّف بتلميح..
وفي مقال له بعنوان ( متطرفون في الزمن الليبرالي ) الرياض: 14220 دعا فيه صراحة إلى اعتناق الفكر الليبرالي وبشّر فيه بها!!! قال: " والمجتمع الليبرالي مجتمع راشد، يتجاوز هذا السباب الطفولي، وإن اضطر في سياق الخطاب اللاهوتي إلى شيء من ذلك - كحق في التعبير عن الرؤية - فإنه يطرحه في سياق موضوعية صارمة، لا يسمح لها بالإساءة المباشرة إلى أحد ". هذا هو نصّ ما قاله: سباب طفولي في سياق موضوعية صارمة !!! ودون إساءة إلى أحد !! وهل بعد ذلك الكمّ الهائل من الشتائم الطفولية السابقة من إساءة تطال كلّ سلفي موحد في هذه البلاد السلفية ؟. أهذه هي الليبرالية التي يدعون إليها ويبشّرون بها؟..
2. ربط السلفية بالإرهاب ـ الذي لم يُتفق على تعريفه إلى هذه الساعة ـ والاستماتة في ذلك، ونسبة بعض المارقين إليها وهو ما يطلقون عليه: ( السلفيّة الجهادية ).. فكلما خالفهم مخالف، أو حاجّهم محاجّ، أو احتسب عليهم محتسب من أهل الدين والعلم والدعوة رموه بالإرهاب بجرة قلم، والعامة يروون في هذا المقام قصة رمزية طريفة، وهي أن امرأة أراد زوجها أن يتزوج عليها، ففكرت في حيلة لمنعه من الزواج، فما كان منها إلا أن اتصلت برجال الأمن، وذكرت لهم ارتيابها من زوجها، وأن له صلة بـ ( الإرهابيين )، وقبيل ليلة الزواج تم القبض عليه بهذه التهمة، واعتذر أهل الزوجة عن تزويجه، وبهذا نجحت الخطة..
يقول أحدهم ـ وهو مقيم في لندن ـ في مقال له بعنوان: ( الحالة الدينية في السعودية..هل تستمر القاعدة بتجنيد السعوديين ) الوطن: 1139 : " ما هي وضعية الحالة الدينية اليوم في السعودية؟.. لا يمكن القول إنّها متسامحة وعصرية، فالأحداث الإرهابية هي نتاج غلو ديني اشترك بعض أفراد المذهبيّة الدينية السلفية السائدة، والأيديولوجيا الصحوية في صنعها في المقام الأوّل بغض النظر عن المسببات الأخرى التي وضعتها في موضع التنفيذ. ومظاهر التشدد الديني التي تلمس كل يوم في خطب الجوامع وأدعية القنوت، والفتاوى المتشددة، والخطاب الديني بمجمله مغرق في التزمت بعيد كل البعد عن حال التسامح واليسر المنتظرة منه "، وهكذا تطلق التهم جزافاً بلا بيّنة سوى أنّ الذين قاموا بالتفجيرات يستشهدون ببعض أقوال السلف، ولو أننا أخذنا بهذا المنطق المعوج لحكمنا على القرآن نفسه بأنّه سبب الإرهاب، لأنّ الخوارج الأوّلين استدلوا به على مذهبهم، وكذلك سائر الفرق الضالة.
ثم، ومن أجل حلّ هذه الأزمة يرى الكاتب أنّ الحل يكمن في: " تغيير الطريقة التي يتم التعامل بها مع الأفكار والطوائف أو الأديان بوصفها كافرة أو مبتدعة أو علمانية، وينبغي أن ينظر إلى نقد وتقييم المناهج والمؤسسات الدينية، وإصلاحها(!) بالطريقة العصرية، والحدّ(!) من تضخّم الأدلجة الإسلاموية.." وهو كلام في غاية الخطورة والضلال، والغلو المضاد، حيث يدعو الكاتب إلى عدم وصف الأديان ـ ويريد بها بطبيعة الحال أصحابها المتدينين بها اليوم ـ بالوصف الذي وصفها الله به في كتابه الكريم، ووصفها به رسوله الأمين كما في قوله تعالى: { لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ.. }، وقوله: { لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ..}، وقول النبيّ r: " والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة؛ يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار " أخرجه مسلم. ولا خلاف عند أهل الإسلام في كفر اليهود والنصارى وغيرهم من أصحاب الملل الأخرى، فمن لم يكفرهم فهو مكذب للقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة. وكذلك يدعو الكاتب إلى عدم تبديع أهل البدع وأهل العلمنة، وفي ذلك مضادة لقول نبينا r: " كل بدعة ضلالة"، وهذا في نظر الكاتب يعدّ إصلاحاً بالطريقة العصرية، وصدق الله إذ يقول: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ }.
ويقول آخر ـ وهو أشدّهم تطرّفاً ـ في مقال له بعنوان: ( الإنترنت والخطاب الديني) الرياض: 13247: " .. كما أظهر هذا الخطاب [ يعني خطاب التطرّف ] أنّ مرجعيّة التطرّف والغلو، ومن ثم الإرهاب، ليس الفكر القطبي، ولا طرح الجماعات المتأسلمة(!) وإنّما مصدر الاستدلال ـ في الغالب العام ـ: السلفية التقليدية، بمرجعيّاتها المشهورة التي لها اعتبارها في الخطاب السلفي ".
إذن، السلفية بمرجعياتها المشهورة هي مصدر الإرهاب، فيجب محاربتها، والقضاء عليها، هذا ما يهدف إليه الكاتب. والردّ عليه كالرد على الذي قبله.
أمّا المرجعيات المشهورة فيريدون بها: أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن عبد الوهاب رحمهم الله..، وقد صرّح أحدهم بذلك ـ وهو أكثرهم تعالماً، وأشدّهم جهلاً ـ في مقال له بعنوان: ( الإنسان والوطن أهمّ من ابن تيمية) الوطن: (965 )، زعم فيه ـ زوراً وبهتاناً ـ أنّ ابن تيمية هو منظّر الجهاديين، وأنه سبب الإرهاب، معتمداً على نص لابن تيمية مبتور من سياقه، وهو إذ يعيب على من أسماهم بالجهاديين سوء الفهم؛ يقع في الخطأ نفسه وهو لا يشعر.(5/197)
وأخطر من ذلك، ما سطّره الكاتب الأوّل في مقال له بعنوان: ( واحذرهم أن يفتنوك ) الرياض: 13128، يتحدّث فيه عمّا أسماه بالفرادة، يقول منظرّاً لهذه الفرادة: " إنّ الأصل في الكائن الإنساني خاصّة هو الاختلاف والتنوّع والتفرّد، وليس التشابه والتماثل كما يحاول دعاة المحافظة والتقليد ترويجه ـ تطبيقاً ـ في بيئتنا الاجتماعيّة، وإن ادّعوا تنظيراً غير ذلك".. وهذا كلام مجمل يحتاج إلى تفصيل، فالفرادة إن كانت فيما لا يتعارض مع أصل الدين وثوابته، ونصوصه القاطعة، فهي مطلوبة، وإلا فإنّها ابتداع وخروج عن الدين، وحقّها ـ لفظاً ـ أن تكون بالمثنّاة ( قرادة )، لكنّ الكاتب تعمد الإطلاق للوصول إلى ما يهدف إليه، لذا فهو يواصل مقاله قائلاً ـ بعد أن قرّر أنّ إلغاء هذه الفرادة المطلقة جريمة ـ: " ويبقى السؤال الأهم في هذا الطرح: إذا كان إلغاء معالم التفرد في الإنسان جريمة، فهل تمارس هذه الجريمة في محيطنا الثقافي والاجتماعي؟، وإذا كانت تمارس، فهل هي مقصودة أم أنها جزء من الحراك الاجتماعي التلقائي؟، وعلى أية صورة تمارس هذه الجريمة؟، هل هي فردية أم جريمة منظمة؟، وما مدى انتشارها وذيوعها؟ ومن الفاعل؟، وأين؟، ومتى؟. وإذا كان بعض هذه الأسئلة لا يمكن الإجابة عليها تفصيلاً؛ لهذا السبب أو ذاك، فإن الإجابة العامة التي ينطق بها الواقع (الثقافي/ الاجتماعي) لدينا إجابة لا تدعو للتفاؤل، من حيث الوقوع المتعين لهذه الجريمة المعنوية ".
ثم تبدأ معركته مع السلفية، أو على حدّ تعبيره: ( الاتجاه المحافظ التقليدي لدينا)، وهذا هو المقصود، فيقول: " إن ما فعله - ويفعله - الاتجاه المحافظ التقليدي لدينا إنما هو عملية قتل متعمد لكل معالم الفرادة الطبيعية، إنه في الحقيقة (اغتيال للعقل) على نحو تدريجي، وبأساليب قد لا تكون واضحة في كل الأحيان، وفي كل الحالات. لا أستطيع أن أقول: إن عملية المسخ الاختياري (والقسر في بعض الأحيان) التي يمتزج بها الاجتماعي بالديني ( وفق رؤية خاصة يتم تعميمها)، بالثقافي، بالواقعي، وبطريقة لا تبقي أي خيار، لا أظن أن لها مثيلاً على مستوى التجمعات الإنسانية المعاصرة كافة..".
وبعد الطعن في السلفية ـ خصمه اللدود ـ بإجمال، يبدأ في التفصيل، فيستعرض المراحل الدراسية جميعها إلى مرحلة الدراسات العليا، فيقرّر أنّ هذه المراحل كلّها عندنا تقضي على هذه الفرادة المزعومة، والسبب أنّها تلتزم بمذهب أهل السنّة والجماعة وسلف الأّمة، أو على حدّ تعبيره: " نمط التربية المستمد من موروث اجتماعي موغل في القدم يبدأ عمله منذ السنوات الأولى للطفولة؛ لكون القائم على التربية الأولى ابناً باراً لثقافة التقليد والمحافظة في الغالب " أو بتعبير آخر له: " أفكار مغرقة في محافظتها وسلفيتها وتزمتها.. "، أو بتعبير ثالث عن النشاط اللا منهجي: " وفق المنطلقات ذات الزوايا الحادة للمنظومة السلفية التقليدية التي تجتهد في التنميط؛ فضلاً عن أن التنميط كامن في البنية العامة للمناهج "..
ثم يتحدث عن المرحلة الجامعية، فيصفها بأنّها: " أكبر (ورشة) للتنميط، وقتل ما أبقته المراحل الأولى من الفرادة العقلية، وترسيخ قيم المحافظة والتقليد، فتمارس بين أروقة الجامعة أكبر عملية اجترار للتراث، بكل ما يحمله من إيجاب وسلب، وبكل ما تعنيه هذه العملية في ذاتها ( من حيث هي اجترار) من نكوص إلى وعي قد طواه الزمن في مقبرته الأبدية، ولكننا نأبى إلا نبش تلك القبور، والبحث في تلك العظام النخرة عن مصدر للحياة!.. ". وهو يريد بذلك الأقسام الشرعية في الجامعات ذات التوجه السلفي خصمه اللدود، أمّا كليات الطب والهندسة والعلوم وغيرها، فلا يتحدّث عنها.
ثم يتحدّث عن مرحلة الدراسات العليا، فيصفها بأسلوب مسفّ ينم عن حقد دفين على المنهج السلفي القويم، مدعم بالافتراء والكذب وكيل التهم الجائرة فيقول: " إن الدارس لا يمكن أن يقبل في هذه الدراسات ابتداء، ولا يمكن أن يتقبل فيما بعد، ما لم يكن ذا مهارة في النسخ، مع قدر لا يستهان به من عدم الأمانة في النقل والاجتزاء؛ لخدمة الفكرة الموروثة في التيار المندغم فيه، فليست الحقيقة هي الغاية، وإنما الإبقاء على ما يؤيده تيار المحافظة من مخلفات القرون الوسطى هو الغاية، وفي سبيلها فليتم الإجهاز على الحقيقة بسيف العلمية!، وبهذا لا يمكن أن يعترف بالدارس باحثاً علمياً في مؤسسات التقليد ما لم يتنكر لبدهيات البحث العلمي. وهذا هو الشرط الأولي لقبوله (باحثاً!) في المنظومة التقليدية ".. إنّها تهم شنيعة، في غاية البشاعة والشناعة لجامعاتنا الإسلامية العريقة التي خرّجت الكثير من العلماء والدعاة والمفكّرين حتى من غير أبناء هذا البلد، ولكن الحقد الدفين يعمي ويصم..
فعين الرضا عن كلّ عيب كليلة كما أنّ عين السخط تبدي المساويا
ثم يدلل هذا الكاتب الموتور على ما ذهب إليه من حقد دفين وفق طريقته السابقة من الافتراء والكذب والتلبيس والألفاظ النابية فيقول: " ومما يدل على مستوى هيمنة هذا النمط الببغاوي في المؤسسات العلمية التي تهيمن عليها الاتجاهات المحافظة، أن الحكم بموضوعية على شخصيات أو تيارات في القديم أو الحديث، بما يخالف رؤية هذه الاتجاهات، وما يسود في أروقتها من مسلمات يودي بصاحبه، ويعرضه للنفي خارج المؤسسة العلمية، فضلاً عن الإقصاء الديني، يشهد على ذلك أن كل دراسة لشخصية أو فكرة أو تيار، تتم في هذه الأقسام تعرف النتيجة فيها سلفا، بل لا يمكن أن تكون النتيجة إلا ما قررته المنظومة في أدبياتها، فمهما حاول (هذا إذا حاول) الباحث الاستقلال فهو لا يستطيع، وموقفه البحثي في النهاية دفاعي عن الأفكار العامة لمؤسسته العلمية التي تحتويه. هذا هو الواقع، وإلا فدلوني على رسالة واحدة طعن(!) صاحبها في فكرة أو شخصية لها وزنها في المنظومة الفكرية لمؤسسته العلمية، أو أثنى على تيار مخالف أو شخصية ليست محل القبول في هذه المؤسسة، فقبلت المؤسسة المحافظة بذلك ".. إنّ هذا الكاتب يريد من الباحث الملتزم بعقيدة أهل السنّة والجماعة أن يطعن في أئمّة السلف أو مذهب السلف، أو يثني على أهل البدع، والفرق الضالة وخاصة المعتزلة(!) ، ويريد من الجامعات الإسلامية أن تفتح المجال لكلّ من أراد ذلك باسم الاستقلال والفرادة كما يزعم، وإلا فإنّ ذلك ضرب من الإقصاء والنفي والقضاء على الفرادة المزعومة، أمّا أن يبتكر الباحث موضوعاً في تخصّصه ـ مع التزامه بثوابت الأمة ومنهج أهل السنّة ـ فذلك ليس من الفرادة في شيء في مفهوم الكاتب، الفرادة عنده هي الخروج عن مذهب السلف، والطعن فيهم ـ كما يفعل هو مراراً في مقالاته كما سيأتي ـ ، إنّ هذا لهو عين الضلال وانتكاس المفاهيم..
ثمّ إني أوجه سؤالاً لهذا الكاتب ولن يستطيع الإجابة عليه فأقول: هل صحيفتك التي تكتب فيها، وتهاجم مِنْ على منبرها مذهب السلف الصالح تسمح بمثل ما ذكرت من نقد لفكرة أو شخص ينتمي إليها أو إلى الفكر الذي تتبناه ؟؟ الجواب: لا وألف لا، لأني قد جربت ذلك، وجربّه غيري، فلم نجد إلا الإقصاء والنفي والتجاهل إلا في حدود ضيقة، فهل من معتبر..؟(5/198)
ثم يواصل الكاتب بذاءته وافتراءاته وشتائمه المعتادة ـ سأضع تحتها خطاً ـ قائلاً: "بهذا يتضح أن كل مرحلة علمية، وكل تناغم مع المجتمع في تياره المحافظ خاصة، تفقد المرء جزءاً من فرادته، مما يعني أنه كلما قطع مرحلة من ذلك، وظن أنه قد تحقق له شيء من العلم، فإنه لم يزدد بذلك إلا جهلاً. وبمقدار حظه من هذا التنميط والاختطاف الثقافي والاجتماعي يكون حظه من الجهل المركب؛ لأنه بهذا يفقد التفرد في الرؤى والأفكار، بمقدار ما يندغم في تيارات المحافظة، وبقدر ما يتناغم مع المؤسسات العلمية التي تهيمن المحافظة عليها. ويزداد الأمر سوءا ومأساوية، عندما ندرك أن هذا الاغتيال للفرادة، وهنا التنميط الذي يتم في هذه المراحل العمرية لا يجري لصالح رؤى الانفتاح - مع أن اغتيال الفرادة جريمة، أيا كانت مبرراته - وفي سبيل الرقي بالإنسان، وإنما هو لصالح رؤى الانغلاق، وتيارات الكره، ودعاة نفي الآخر، كل ذلك بالإيحاءات الخاصة للسلفية التقليدية التي لا تني عن إنتاج نفسها كلما أشرفت على الهلاك "..
ويختم مقاله بهذا التحذير: " وأخيراً لا يسعني إلا أن أقول لكل قارئ: احذرهم.. احذرهم (وأنت تعرفهم) أن يفتنوك. قد تكون نجوت منهم كليا أو جزئيا، قد تكون ممن هلك بفتنتهم التي ظاهرها الرحمة، لكن أدرك من نفسك ما يمكن إدراكه، مارس إنسانيتك(!) على أكمل وجه، كن ابن نفسك في كل شيء(!)، حاول قدر الاستطاعة، مهما كلفك ذلك، هذا بالنسبة لك، ولكن، تبقى المهمة الصعبة: استنقاذ الأجيال الناشئة من براثن التنميط والمحافظة(!) والتقليد، وهي مهمة لابد أن ينهض بها كل (إنسان) لتحقيق أكبر قدر من الفرادة (من الإنسانية)(!) قبل أن تغتال في مهدها ".. وهكذا تصبح المحافظة على العقيدة السلفية النقيّة ـ حسب رأي هذا الكاتب ـ فتنة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، ويحذّر منها في معقلها ومهدها، فإلى الله المشتكى.
أمّا دندنة الكاتب ـ بل سائر المنتمين إلى هذا الفكر الاعتزالي الليبرالي التغريبي ـ حول ( الإنسانية ) فذلك موضوع آخر سأفرد له سمة مستقلة بإذن الله تعالى.
كما أنّ من الملاحظ أنّ الكاتب(!) جعل عنوان مقالته هذه جزءاً من آية كريمة نزلت في جماعة من اليهود(!)، وهو ها هنا ينزلها على خصومه السلفيين المسلمين المحافظين(!!)، وهذه سمة متكرّرة في مقالات هذا الكاتب وأصحابه، سأفرد لها أيضاً سمة خاصّة بإذن الله تعالى. وهي جريمة نكراء في حقّ كلام الله تعالى، وحقّ إخوانه المسلمين.
وحتى يعرف القاريء حقيقة هذه الفرادة التي تحدث عنها هذه الكاتب وغيره من أصحاب هذا الفكر، وحقيقة موقفهم من عقيدة السلف والعقائد الأخرى المنحرفة وخاصّة المعتزلة؛ أسوق لكم هذه الأقوال لبعضهم:
فهذا أحدهم ـ وهو الكاتب السابق نفسه ـ في مقال له بعنوان ( ثقافة تصنع الغباء ) الرياض: 13072، وهذا العنوان من جملة شتائمه المعتادة للسلفية، يقول عن السلفية التي يسميها تقليدية بأنّها: " لا تعدو كونها تأويلاً خاصّاً للإسلام، محلّه متاحف الفكر، لا الحراك الاجتماعي "، فهل رأيتم إقصاء ونفياً أشدّ من هذا الإقصاء والنفي؟!!!
والغريب أنّ هذا الكاتب نفسه في مقال له بعنوان: ( من التطرف إلى الإرهاب ) الرياض: 12953،يصف بعض الأقسام في بعض جامعاتنا أنّها " ما زالت معاقل للفكر الذي ينفي الآخر، وما زالت تقتات على الترسيخ لثقافة الإقصاء ونفي الآخر، وتروج لها في أطروحاتها "، ويريد بهذه الأقسام التي في جامعاتنا ـ كما هو ظاهر ـ: الأقسام الشرعية، والعقدية على وجه الخصوص، ويريد بثقافة الإقصاء والنفي ثقافتنا الإسلامية السلفية، أمّا الآخر المنفي فهي الفرق الضالة المنحرفة من معتزلة وحرورية ومرجئة وصوفية وغيرها.
ويقول آخر ـ وهو أكثرهم حديثاً عن العقائد وأكثرهم خلطاً بين النصوص ـ في مقال له بعنوان: ( قراءة في بعض فروع العقائد ) الرياض: 13667: " ومما يجدر التنبيه عليه أنّ مصطلح ( العقيدة ) أمر تواضع عليه العلماء الذين تبنوا مجال البحث في مجال الغيبيات فيما بعد الصدر الأوّل، إذ لم يكن لذلك لمصطلح أساس من النصوص الوحييه سواء من القرآن أو السنة، إذ إنّ المصطلح الأساسي الشرعي الذي جاء به القرآن والسنة النبوية هو مصطلح ( الإيمان ).. " وكأنّ مصطلح ( الديمقراطية) و( الليبرالية ) و(الإيبيستيمولوجيا ) و( الأيديولوجيا ) وغيرها من المصطلحات التي يرددونها في مقالاتهم ليل نهار، لها أصل في الكتاب والسنة !!!
ثمّ يمضي الكاتب في تقريره لحقيقة الإيمان ومن هو المؤمن فيقول: " وهو [ أي الإيمان ] عبارة عن مفهوم بسيط ( هكذا ) يرمز إلى ستة أمور، من آمن بها أصبح مسلماً ومؤمناً كامل الإيمان لا يحتاج معه إلى امتحانات قلبية أو مماحكات لفظية، أو حفظ مدونات عقدية لإثبات إيمان المرء ودخوله حظيرة الإسلام "..
وهو كلام خطير يدلّ على جهل فاضح، وانحراف واضح عن المنهج القويم والفهم السليم لدين الإسلام.. فإنّ لفظ الإيمان والإسلام إذا اجتمعا صار لفظ الإيمان مراداً به الاعتقاد الباطن، ولفظ الإسلام العمل الظاهر كالنطق بالشهادتين، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والحج، كما قال الله تعالى عن الأعراب: { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا..} ففرق بين الإيمان والإسلام، وهذا أمر بدهي عند أطفال المسلمين، فمن لم يأت بأركان الإسلام الظاهرة لم يكن مسلماً ولا مؤمناً، حتى وإن ادّعى الإيمان والإسلام، ولهذا قاتل أبو بكر الصديق t مانعي الزكاة، مع أنّهم كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله، ولما أنكر عليه عمر t كما جاء في الصحيح، قال له: والله لأقاتلنّ من فرق بين الصلاة والزكاة.. أمّا الامتحان، فقد قال الله تعالى في سورة الممتحنة: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ..}، وهي تسمى ( آية الامتحان )، وقد سئل ابن عباس t كيف كان امتحان رسول الله r النساء؟ قال: كان يمتحنهنّ: بالله ما خرجت من بغض زوج، وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض، وبالله ما خرجت التماس دنيا، وبالله ما خرجت إلا حباً لله ولرسوله.. وهذا خلاف ما قرره الكاتب، بل إنّ ما قرّره هو مذهب المرجئة القائلين بأنّ الإيمان مجرّد الاعتقاد بالقلب، وأنّ العمل غير داخل في مسمّى الإيمان، وأنّه لا يضر مع الإيمان ذنب.. فكلّ من ادّعى الإيمان ـ حسب زعمهم ـ صار مؤمناً مسلماً.. وقد صدرت عدة فتاوى من اللجنة الدائمة للإفتاء في هذه البلاد في التحذير من هذا الفكر الإرجائي الخطير.(5/199)
ثم يقرر الكاتب مذهبه الفاسد مؤكّداً فيقول: " وبالتالي فليس هناك من الوجهة الشرعية(!) ما يعرف بأصول العقائد مقابل فروعها، بل هو أصل واحد هو الإيمان، وكلّ ما جاء بعد ذلك مما أصطلح عليه أصول العقائد وفروعها، وهي التي ألحقت بالعقائد وفقاً لأيديولوجية الجماعة أو المذهب القائلة بها؛ فهي مما تواضع عليه من امتهنوا ما اصطلح عليه لاحقاً بعلم العقائد، ومن الطبيعي أن يضطر الباحث إلى مسايرة هذه المواضعة عند البحث عن أي من مفرداتها بعد أن أصبحت واقعاً تراثياً في حياة المسلمين ".. ، وفي موضع آخر يصفها الكاتب بأنّها: " مماحكات ومجادلات سفسطائية، أدخلت في العقيدة قسراً بمؤثرات أيديولوجية" الرياض: 13561، وهكذا يلغي الكاتب بجرّة قلم كلّ ما قرره سلفنا الصالح من العقائد والأصول المجمع عليها عند أهل السنة والجماعة، مما هو مستمد من الكتاب والسنة الصحيحة، والتي يتميز بها أهل السنة والجماعة عن أهل البدعة ، ليفتح الباب على مصراعيه لكلّ مبتدع وضال ليكونوا جميعاً على درجة واحدة من الإيمان والاعتقاد الصحيح، ولعمر الله إنّ هذا لهو الضلال المبين.
ويقول هذا الكاتب في مقال له آخر بعنوان: ( الخوف من النقد ) الرياض: 13509، بعد أنّ قرر حق ( الآخر )(!) في الاختلاف من زاوية عدم احتكار الحقيقة من جانب واحد ـ يريد مذهب السلف ـ: " هنا أجد أنّه من المناسب القول بضرورة إعادة النظر في المناهج التعليمية، خاصّة المناهج الجامعية في الأقسام التي تدرّس العقديات والمذاهب بحيث يجعلها تؤسّس لنظرة تسامحية تنطلق من إبراز أهداف ومنطلقات الفرق المخالفة عندما أرست قواعد مذهبها ـ خاصّة الفرق الإسلاميّة الماضية المنظور لها على أنّها مخالفة ـ بدلاً من تكريس وضع منهجي ينظر لها على أنّها ذات أهداف خاصّة لهدم الإسلام وتقويض بنيانه، بحيث تتأسس المخرجات التعليمية البشرية على التعامل مع حقّ وحيد ورأي فريد هو ما تلقنه إياه تلك المناهج كحقّ حصري لمبادىء مذهبه وقواعد مرجعيته " يريد مذهب أهل السنة والجماعة، ثم يذكر المذهب الاعتزالي على وجه الخصوص ويدافع عنه، وهذا هو مربط الفرس عنده، لتقرير مذهب الاعتزال، فيقول: " ومن ثم فإنّ الحاجة ماسّة لتأسيسٍ جديد لأقسام العقيدة والمذاهب في الجامعات لتأسيس طلابها على النظرة المجردة(!) للمذاهب والفرق المخالفة عن طريق وضع مناهج تؤسس هي الأخرى للدراسة التاريخية المجرّدة باستصحاب كامل لتاريخ نشأة تلك الفرق وأهمها الظروف السياسية التي صاحبت نشأتها وتأسيسها مذهبياً، بدل أن تقدّم للطالب باعتبارها فرقاً ضالة هالكة في مقابل فرقة ناجية وحيدة.."، وهكذا يريدون تمييع العقيدة السلفية الصحيحة، باسم التجرّد والفرادة. وتلميع الفرق الضالة المنحرفة، ومن ضمنها المعتزلة والرافضة والخوارج وغيرها من الفرق التي شوهت الدين، وآذى أصحابها عباد الله المؤمنين، ويلاحظ فيما ختم الكاتب مقاله ملاحظتين، إحداهما: التفسير السياسي للتاريخ والأحداث بشكل عام، وسأتحدث عن هذه المسألة بإذن الله في فصل مستقل. والثانية: التعريض بالحديث النبوي الشريف، حديث الفرقة الناجية، والاعتراض عليه(!)، بحجّة أنّه يخالف العقل، وهذا بناء على مذهبهم العقلي الفاسد.
وفي مقال آخر للكاتب نفسه بعنوان: ( أصالة التعدد في الطبيعة البشرية ) الرياض: 13160، يحاول الكاتب تأصيل مبدأ الاختلاف بين الناس ( التعددية ) وأنّها {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ.. }، ويستدل بالآية الكريمة الأخرى: { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم }، واستشهاده بهاتين الآيتين على ما ذهب إليه خطأ فادح يدل على جهل فاضح، فأمّا الآية الأولى فإن من المعلوم ـ بلا خلاف أعلمه ـ أنّ المراد بالفطرة: الإسلام وليس الاختلاف، كما جاء في الحديث الشريف: " كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرّانه أو يمجّسانه..".. وأمّا الآية الثانية فهي في سياق الحديث عن اليهود، ولا علاقة بالاختلاف الذي بين الفرق المنتسبة إلى الإسلام، بل إنّ نصوص الكتاب تدل على عكس ما أراد الكاتب تأصيله، فالله تعالى يقول: { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }، وقوله تعالى: { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ.. }، فجعل الرحمة في مقابل الاختلاف، فدل ذلك على أنّ الاختلاف ليس برحمة، بل هو شرّ ونقمة، وإن كان الله قد أراده كوناً، لا شرعاً، وأنّ الحقّ واحد لا يتعدد، وتأويل الآيات على غير ما جاءت له سمة بارزة من سمات أصحاب هذا الفكر الاعتزالي كما سيأتي في مبحث جهلهم.
ثمّ يواصل الكاتب جهله فيقول مقلداً للجابري: " كان فيروس الضيق قد تحدد سلفاً في الفكر العربي حيث دشّن الخوارج ومباينوهم في الطرف القصيّ من المعادلة ( الأمويون وشيعتهم ) مبدأ ثنائبة القيم الذي يقول عنه المفكر المغربي محمد عابد الجابري إنّه مبدأ (إمّا وإمّا ) ولا مجال لحطّ الركاب بينهما، إمّا مع وإّما ضدّ، إمّا مسلماً وإمّا كافراً، وإمّا ناجياً وإمّا هالكاً، وإمّا مقتفياً وإمّا مبتدعاً.."
إنّ هذه الثنائية التي ذكرها مقلداً الجابري، قد نصّ الله عليها في كتابه الكريم، فقال سبحانه: { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ.. }، وقال سبحانه: { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً }، فهي ذات الثنائية ( إمّا وإمّا ).. والذي أراده الجابري ولم يتفطّن له الكاتب أو تفطّن له ووافق عليه، هو تقرير مذهب الاعتزال القائل بأن مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين ( لا مؤمن ولا كافر )، ولهذا قال: ( ولا مجال لحطّ الركاب بينهما )، وهو تقرير في غاية الخفاء والخبث، ويشبه فعل صاحب تفسير الكشّاف المعتزلي في تقريره لمذهب الاعتزال في تفسيره، حتى قال البلقيني رحمه الله: " استخرجت من الكشّاف اعتزاليات بالمناقيش ".. وهذا يحدث في صحيفة سيّارة تصدر في بلاد التوحيد التي قامت على العقيدة السلفية النقيّة، وفي ظني أنّ ولاة أمرنا ـ وفقهم الله لطاعته ـ لو تنبهوا لذلك لما رضوا به..
ولا يكتفي الكاتب بذلك، بل يختم مقاله بتوجيه بعض الشتائم، والانتقاص لأهل السنة وسلف الأمّة، ويضيف إلى ذلك بعض النصوص الحديثية، بطريقة فاضحة لا تدلّ على مقصوده، وما أقبح الجهل والتعالم إذا اجتمعا..
يقول ـ وتأمّلوا ما تحته خط ـ: " إنّ أكبر مشكلة واجهت الفكر العربي الإسلامي حين مواجهته مشكلة التعددية، وبالذات من النصف الأوّل من القرن الثالث الهجري، وهي ظن أولئك المتحذلقين والمتقوقعين حول فهومهم الخاصّة أنّهم بنفيهم وإقصائهم لخصومهم إنّما هم آخذون بحجزهم عن النار، وهؤلاء المخالفون ما فتئوا يتفلّتون منهم ويقعون فيها في تصنيف حصري لحقّ النجاة لفهوم بعينها دون بقيّة الأفهام المباينة والمقاربة... ".(5/200)
فهو يعدّ تصدي سلفنا الصالح لأصحاب الفرق الضالة، والردّ عليهم، أكبر مشكلة واجهت الفكر العربي الإسلامي، ويخصّ النصف الأّوّل من القرن الثالث الهجري، لأنّه وقت نشوء فرقة المعتزلة التي جنّد نفسه للدفاع عنها، ويلاحظ شتائمه التي وصف بها أهل السنة وسلف الأمّة: ( المتحذلقين المتقوقعين حول فهومهم الخاصّة )، والتهم التي وجهها (النفي والإقصاء للخصوم )، والتعريض بالحديث النبوي الشريف الذي يُشبّه فيه النبي r المتهافتين على الباطل ـ كهذا الكاتب وأمثاله ـ كالفراش المتهافت على النار.. وتعريضٌ آخر بحديث الفرقة الناجية الوحيدة دون سائر فرق الضلال، ويصف ذلك ساخراً بلفظ سوقي فضائي بأنّه: ( تصنيف حصري لحقّ النجاة لفهوم بعينها دون بقية الأفهام.. ) ويريد بذلك فهم السلف الصالح!!!، فما حكم من استهزأ بالنصوص الشرعية ؟!.
ثم يستشهد على ما ذهب إليه من التعددية بقوله: " ومن ثمّ يتساءل الإنسان كيف حاص أولئك [ يعني السلف الصالح ] عن حياض المنهج النبويّ الكريم حين كان r يقرّ أصحابه على تباين أفهامهم لما كان يلقي عليهم من نصوص ( قصّة الصلاة في بني قريظة مثلاً ) وعن مسار الصحابة بعده على هذا المنهج المتفرّد في قراءة النصوص، وامتثال مكنوناتها ( اختلاف عمر بن الخطّاب وأبي بكر حول الكيفية التي ينبغي بواسطتها مجابهة مانعي الزكاة فكلاهما انطلق في تفسيره من ذات النصّ ) .. " ا. هـ واستشهاد الكاتب بهاتين الواقعتين فيه جهل عظيم، وتلبيس واضح، وبعد كبير جداً عما أراد التوصل إليه، وهذه هي طريقة هذا الفكر الاعتزالي في التعامل مع النصوص، فأمّا الحادثة الأولى، فهي اختلاف في مسألة فقهية فرعية لا تعلّق لها بمسألة الاعتقاد والإيمان، لذا أقرّ النبي r الفريقين على اجتهادهما.. ومثل هذا الاختلاف لم يزل موجوداً عند أهل السنة حتى وقتنا الحاضر، وليس فيه تثريب إذا صدر من مؤهل.. وأمّا اختلاف عمر مع الصديق y في قضية مانعي الزكاة، فهو ليس اختلافاً، وإنّما هو إشكال وقع في نفس عمر، فما لبث أن زال بعد ذلك وحصل الاتفاق على ذلك الأصل، والكاتب ـ للتلبيس ـ لم يذكر تمام القصّة، وهو قول عمر بعد أن زال عنه الإشكال: " فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنّه الحقّ "، فأين في هذين الحادثتين ما يدلّ على ما أراد أن يقرره الكاتب من التعددية في أصول الدين والإيمان والاعتقاد ؟!!
ومن قبيل هذا الخلط والتلبيس المتعمّد بين الأصول والفروع، يذكر أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرّفاً وخبثاً ـ في مقال له بعنوان ( المعاصرة وتقليدية التقليدي ) الرياض: 13366، بعد الخلط المتعمّد بين السلفية الحقّة ، والسلفية المدّعاة أنّ " السلف لم يتفقوا إلا على القليل(!)، واختلفوا على الكثير، فعن أيّهم يأخذ ؟ " يعني السلفي، ثم يذكر مسألة واحدة ـ واحدة فقط ـ اختلف فيها السلف، وهي خروج الحسين بن عليّ على الحاكم، ومخالفة بعض الصحابة له في هذا الخروج رضي الله عنهم جميعاً، وهذا الاختلاف ليس في أصل المسألة، وإنّما هو في بعض تطبيقاتها مع ما صاحب تلك الحادثة من ظروف وملابسات خاصّة، والقول بأنّ السلف لم يتفقوا إلا على القليل ـ من مسائل الاعتقاد ـ قول في غاية التجني والجهل بأحوال السلف ومنهجهم وعقيدتهم، وهو من أعظم التلبيس على عامة الناس، بل المعروف عند صغار أهل العلم، أنّ السلف الصالح في مسائل الاعتقاد الكبرى لم يختلفوا إلا في مسألة واحدة أو مسألتين، وبعض العلماء يعدها من قبيل الخلاف اللفظي لا الحقيقي، وإنّما وقع الخلاف بينهم في الفروع.
وفي سياق الحديث عن الفرق الضالة، يتباكى أحدهم على إقصاء تلك الفرق المارقة بل ـ وحتى الإلحادية منها(!) ـ في مقال له بعنوان ( تلاشي الفكر العربي ) الوطن: 980، فيقول: " نحن حتى اليوم(!) لم نقف على قراءة صحيحة للقضايا الكبرى أو حتّى الصغرى(!) في فكرنا، ولا للحركات الدينية التي مارست أشكالاً متعدّدة من حركات النقد للموروث بطريقة أو بأخرى، سواء الحركات الإلحادية أو الصوفية أو المعتزلية أو حتى الحركات الشعرية، فمن التجنّي إقصاء كلّ هذا الموروث وعدم الإفادة منه(!!!).."، ولا أدري ما الذي يريد بالقراءة الصحيحة التي لم نقف عليها حتى اليوم، ووقف عليها هو وأضرابه؟! وليست القضايا الكبرى فقط، بل حتى الصغرى !!!!. كما لا أدري ما الذي سنفيده من الحركات الإلحادية، والصوفية والمعتزلية الضالة ؟!!.
3. الطعن في مذهب السلف، والتندّر به، وكيل التهم له بلا حساب..
ففي مقال بعنوان: ( التاريخ وأزمة الفكر الإسلامي ) الرياض: 13688، كتب أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرّفاً ـ مقالاً تحدّث فيه عن مسألة عقدية، وهي الكف عما شجر بين الأصحاب، وترك الخوض في ذلك، لأن الله U أثنى عليهم جميعاً، فهم ما بين مجتهد مصيب فله أجران، ومجتهد مخطيء فله أجر واحد، وهذا مما اتفق عليه أهل السنة والجماعة، ولذا يذكر في كتب العقائد، وقد عدّ الكاتب هذه العقيدة المتفق عليها عقبة تقف ـ حسب زعمه ـ دون تحقيق الحدّ الأدنى من الموضوعية العلمية(!)، ثم يقول بأسلوب ماكر خفي: " دراسة طبيعة الفكر الديني، وتتبع مراحل تشكله في فتراته الحاسمة تواجه الرفض في مجتمعات تقليدية لا تزال تستعصي على العلمية، وتتماهى مع الأسطرة(!)، بل والخرافة بوعي منها بهذا التماهي وما يتضمنه من مدلولات في الفكر والواقع أو بلا وعي. وهذا الرفض إما أن يكون رفضاً للدراسة ذاتها أي للمراجعة الفاحصة باعتبارها تتناول ميداناً مقدّساً لا يجوز الاقتراب منه، وإما أن يكون رفضاً للآلية ( المنهج النقدي) التي تجري مقاربة الموضوع بواسطتها، وفي أكثر الأحيان يجتمع السببان كمبرر للرفض"، أستاذ اللغة العربية، وصاحب الفكر الاعتزالي المنحرف، الحاقد على منهج السلف، يريد أن يخضع تاريخ الصحابة الأطهار y للفحص والمراجعة!!!، أمّا الآلية التي يريد أن يسلكها فهي آلية شيخه الجابري تلميذ المستشرقين والتي تتلخص في انتقاء بعض الصور القاتمة من بعض المصادر المشبوهة التي لا تميز بين الغث والسمين، وجعلها مناطاً للأحكام والنتائج، هذه هي الموضوعية التي يتحدّث عنها(!).
ثم يقول: " لا شيء يزعج البنى التقليدية الراسخة في الأعماق الوجدانية [ يريد عقيدة أهل السنة ] سوى إعادة فحص الحدث التاريخي، والنظر إليه من خلال أبعاد أخرى(!) غير التي اعتادت التقليدية أن تقدمه بها "، إنه يريد منا أن نسلك منهجاً آخر غير منهج أهل السنة والجماعة في تقرير العقائد، ليفتح الباب على مصراعيه لكل مبتدع وحاقد وموتور ليقرر ما يريد، وتالله ذلك هو الضلال البعيد..
ثم يواصل: " مما يعني أن الأشخاص ( الذوات المقدسة صراحة أو ضمناً ) ستكون على المحك، ولن تبقى كما هي عليه من قبل في تراتبيتها التي تتغيا الفكرة ـ براجماتياً(!) ـ في النهاية "، وهذا هو مربط الفرس عنده: النيل من الصحابة، على حد قول أهل الاعتزال: (هم رجال ونحن رجال ) وشتان بين أولئك الرجال وهؤلاء أشباه الرجال ولا رجال..(5/201)
ثم يضرب مثالاً للذوات التي يصفها بالمقدّسة بالخلفاء الراشدين y ومذهب أهل السنة في ذلك أن التفاضل بينهم على حسب ترتيبهم في الخلافة، لكنّ هذا الكاتب لا يروق له ذلك، ويعده أمراً مبيتاً في الضمائر قبل وجوده(!!!)، يقول: " جرى الحدث التاريخي فيما يخص السلطة على التراتبية المعروفة بالنسبة للخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم أجمعين، ومع أنه ـ أي الترتيب التاريخي للخلفاء ـ كان حدثاً تاريخياً مجرداً إلا أنه قد جرى تحميله معنى دينياً في تراتبية الأفضلية لهؤلاء، وهنا يظهر أثر الحدث التاريخي الواقعي ـ بأقصى حدود الواقعية الصريحة ـ على الفكري، وكيف جرى ضمه إلى مجمل المنظومة العقائدية بوصفه معبراً عن مضمر عقائدي كان موجوداً قبل وجوده المتعين في الواقع "، فهو لجهله ـ أو خبثه ـ يرى أن ترتيب الخلفاء كان حدثاً تاريخياً مجرداً..!! ولم يكن الأمر كذلك، بل إن الصحابة y اجتهدوا في تعيين الأفضل، بدليل أنهم توقفوا طويلاً بعد موت عمر t أيهما الأحق والأفضل عثمان أم علي، وكان عبد الرحمن ابن عوف t يطوف حتى على العذارى في خدورهن يسألهن حتى انتهى الأمر إلى تقديم عثمان t. ولهذا يقول أحد السلف: " من فضل علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار "، فكيف يقال إن ترتيب الخلفاء الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة كان حدثاً تاريخياً مجرداً ؟! لكنه الجهل والهوى، وإذا كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي، فإنهم لم يختلفوا في أبي بكر وعمر.. .
ولا يفوته في مقاله هذا أن يعرج على الصحابي الجليل، وكاتب الوحي معاوية t ويتهمه ببعض التهم الجائرة التي تنال من عدالته ونزاهته بناء على ما قرره سابقاً من الفحص والمراجعة(!)، ثم في نهاية مقاله يتباكى على مذهبه الاعتزالي العقلاني فيقول: " لا شك أن هذا يفسر كيف أن تيار العقلانية لا يظهر في مكان من العالم الإسلامي إلا ريثما يندثر، لا يتم هذا بقرار سلطوي في الغالب، وإنما بإرادة جماهيرية لا تزال تتدثر بلحاف الخرافة الصريحة أو الخرافة التي تؤسس على هذا القول أو ذاك "، وشتم الجماهير سمة بارزة من سماتهم كلما عجزوا عن بث فكرهم المنحرف، وستستمر الجماهير المسلمة التي تتدثر بلحاف أهل السنة والجماعة في رفض هذا الفكر الضال الذي ينال من ثوابتها وعقيدتها الراسخة ورموزها الشامخة ولو كره أدعياء العقلانية والتنوير بل التزوير.
وتقريراً لهذه العقيدة يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في الواسطية: " ومن أصول أهل السنة والجماعة: سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله y كما وصفهم الله في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}[الحشر:10]، وطاعة النبي r في قوله: " لا تسبّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنّ أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه"، ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم .." إلى أن قال: " ويتبرؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل، ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ويقولون إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذب ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغُيّر عن وجهه، والصحيح أنهم معذورون إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون، وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم.. " إلى آخر ما ذكر.
هذا مثال واحد على طعنهم في عقيدة السلف والتشكيك فيها بطريقة ماكرة خفية، لا تخلو من مسلك التقية، مع ما فيها من التصريح ببعض ما تكنه نفوسهم، ومع هذا فهم يشتكون من عدم تمكنهم من قول كل ما يريدون. كفانا الله شرهم.
وفي مقال بعنوان: ( هيمنة الخرافة ) الرياض: 13566، يسخر آخر ـ وكان تكفيرياً فصار مرجئاً(!) ـ من عقيدة من عقائد أهل السنة والجماعة، وهي إثبات كرامات الأولياء، ـ وهي عقيدة ثابتة بالكتاب والسنة ـ، فيعدّها من الخرافة، ثم يقرر(!!) أنّ الخرافة والعقل ضدان لا يجتمعان!! ولا أدري أي عقل يقصد، فعقله يرى أنها خرافة، وعقول أئمة أهل السنة والجماعة بناء على ما جاء في الكتاب والسنة يرون أنها عقيدة ثابتة، فإلى أي عقل نتحاكم ؟ ثم يخلط الكاتب ـ وهذه عادتهم في الخلط والتلبيس ـ بين هذه العقيدة الثابتة وبين بعض الاجتهادات البشرية من بعض المجاهدين أو بعض المنحرفين فكرياً، وهذا الخلط منهج فاسد يدل إما على الجهل الفاضح، وإما على الهوى الواضح، للتوصل إلى أغراض في نفس الكاتب..
وتقريراً لهذه العقيدة يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في الواسطية: " ومن أصول أهل السنة: التصديق بكرامات الأولياء، وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات.. "..
السمة الثانية:
الخلل العقدي الواضح في كتاباتهم
وذلك ناتج عن تلوث المصادر الفكرية التي ينهلون منها، وهل تلد الحيّة إلا الحية!..وقد سبق شيء من انحرافاتهم العقدية، ويضاف إليها:
1. نسبة الإعطاء والمنح والضرب للطبيعة(!)..
يقول أحدهم في مقال له بعنوان: ( الثقافة والإرهاب علاقة تضادّ ) الرياض: 13772، عازفاً على وتر الإرهاب والإنسانية: " والإرهاب تنكّر للبعد الإنساني في الإنسان، ومحاولة جنونية للرجوع إلى ما قبل الفطري والإنساني، أي أنّه محاولة رجعية ليست للقضاء على مكتسبات الأنسنة(!) فحسب، بل وللقضاء على ما منحته الطبيعة فطرياً للإنسان "، وسيأتي الحديث عن موضوع الأنسنة لاحقاً بإذن الله تعالى.
وفي مقال له بعنوان: ( المرأة من الأيديولوجيا إلى الإنسان ) الرياض: 13758، يكرر هذا الخلل العقدي مع عزفه المعتاد على وتر الإنسانية، وشتم السلفية، يقول: " ربّما كان من قدر المرأة لدينا أن تواجه أكثر من سور منيع يحول بينها وبين الحصول على أقلّ القليل من حقوقها الفطرية، تلك الحقوق التي منحتها إياها الطبيعة ابتداء.. "، وهكذا تصبح الطبيعة الجامدة هي المانحة ابتداء(!!!)، أليس هذا هو منطق الإلحاد ؟.
وفي السياق نفسه يقول آخر في مقال له بعنوان: ( إعصار كاترينا وعصارة الكره ) الرياض: 13607، وهو يتحدّث عن الإعصار الذي ضرب أمريكا: " ما ذنب أطفال وشيوخ وعجائز وأبرياء ضربتهم قوى الطبيعة(!) حتى غدوا كأنهم أعجاز نخل خاوية أن نحملهم وزر حكوماتهم في أخف المبررات(!) أو نربط بين ما حل بهم وبين ما مارسوا فيه حقهم المضمون(!) من رب العالمين في اختيار المعتقد الذي يريدونه في أسوأ المبررات.."، فربنا جل وعلا يقول: { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ }[سبأ:17 ]، والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً، والكاتب يقول: لا تسمعوا لكلام الله بل إنّ الضارب والمهلك هي قوى الطبيعة!!!. أمّا الكفر الذي هو ظلم للنفس قبل أن يكون جريمة يستحق صاحبها العذاب، فهو عند الكاتب حق مضمون من رب العالمين لأولئك الكفرة..!! فأي خلل أعظم من هذا الخلل العقدي الصارخ.(5/202)
ثم يضيف إلى هذه الخلل خللاً آخر أطم فيقول: " لماذا لا نجيد إلا التشفّي والتمني بالمزيد بعد أن قصرت بنا الثقافة المنغلقة عن إشاعة ثقافة العون والمساعدة المنبثقة من روح الأخوّة الإنسانية التي تشكل أصلاً من أصول الإنسان العظيم الإسلام في صفائه ونقائه وعزته وإنسانيته قبل أن تختطفه قوى الظلام والكراهية لتجعل منه أيديولوجية ساخطة على العالم كله.." ، والأخوّة الإنسانية التي يتحدث عنها سيأتي الحديث عنها بشكل مفصل بإذن الله، أمّا التشفي فلا أعلم قوماً أشدّ تشفياً من هؤلاء القوم، لا سيما مع خصومهم السلفيين، وقد رأينا قمة هذا التشفي في حادثة حريق الرئاسة، نثراً وشعراً ورسماً، وبكائيات عجيبة لوفاة بضع فتيات من آثار التدافع والهلع، لا بسبب الحريق.. ولم يقتصر الأمر على هذا بل حاولوا الزج بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه القضية زوراً وبهتاناً، وبطريقة قذرة، لولا تصريحات المسؤولين المبرئة للهيئة.. ثم هم ينكرون تشفي (بعض) المسلمين المظلومين الذين فقدوا الكثير من أولادهم وأعزائهم والكثير من أموالهم وممتلكاتهم بسبب الجبروت الأمريكي المدمر في كثير من بلاد المسلمين.. ثم أي أخوّة إنسانية مع قوم يمتهنون المصحف الشريف في سجونهم، ويسخرون من سيد الخلق وخاتم المرسلين عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
2. الدفاع عن القبوريين وأصحاب المذاهب الكفرية..
ففي مقال له بعنوان: ( نحن والخوارج إلى أين ) الرياض: 13716، يقول الكاتب السابق، بعد أن قرر أن مرجعية من وصفهم بالخوارج هي السلفية ( التقليدية ): "إننا نريد أن نعرف من هؤلاء الخوارج القعدة هل نحن أي كدولة ومجتمع في نظرهم مسلمون أم لا؟ "
إلى أن يقول: " أنا هنا لا أقصد موقفهم من عموم المجتمعات الإسلامية، لأنها في تصنيفهم العام غير المفصّل كافرة إمّا لأنها لا تحكم بما أنزل الله أو تسكت عن الحاكم في هذا الأمر وإمّا لأنها بدعية أو مذهبية أو قبورية أو حزبية.. إلخ هذا الهراء وإما لا تنكر كل ذلك "..
والقبوريّون هم عبّاد القبور، المعظّمون لها بالذبح والنذر والسجود وغير ذلك من أنواع الشرك الأكبر، وهؤلاء لا شكّ في كفرهم، والكاتب يجعل ذلك من الهراء، وهذا خلل كبير في الاعتقاد، فإنّه إذا كان تكفير المسلم الموحّد لا يجوز، فكذلك عدم تكفير الكافر هو أيضاً لا يجوز، وهو تطرّف مضادّ للتطرف الأوّل الذي أراد أن يحذّر منه..
وأمّا حديثه عن الدولة والمجتمع، وتمسّحه بذلك، فهو من باب التقيّة التي يشتركون فيها مع الرافضة، وذلك أنّهم أصلاً لا يرون شرعية هذه الدولة السلفيّة (الوهابيّة في نظرهم) لأنّها غير ديموقراطية، أي غير منتخبة من الشعب، وهم يسعون لتحقيق مشروعهم التغريبي الغربي إلى إزاحة هذه الدولة، لإقامة دولتهم ( الإنسانية ) المرتقبة التي لا دين لها ولا مذهب ولا طعم ولا لون ولا رائحة.!!!.
وأمّا المجتمع الذي يزعمون تكفيره من قبل الخوارج القعدة، فهو المجتمع الذي استعصى عليهم ولذا فهم يرمونه ـ على سبيل الشتم ـ بالتجهيل، أو على حدّ تعبيرهم كما سبق: (الجماهير البائسة الظامئة )، و(جماهير الغوغاء )، و( الجماهير المجهّلة )، و(الجماهير الغائبة المغيّبة )، و(المجتمعات المحافظة الأصولية )، وهي الآن بعد هذه الشتائم أصبحت متّهمة بالكفر من قِبَل من يزعمون أنّهم قد اختطفوها، فأيّ تناقض بعد هذا التناقض الحادّ ؟!!.
3. الخلل في مفهوم الولاء والبراء..
وقد كتب أحدهم ـ وهو أكثرهم حديثاً عن العقائد وأشدّهم جهلاً ـ مقالاً بعنوان: ( فلسفة الولاء والبراء في الإسلام ) الرياض: 13546، وقرر مفهوماً غريباً للولاء والبراء، يفرّغه من مضمونه الشرعي الذي أراده الله U ، بل يضادّه ويخالفه، يقول: " وهو يشي بعلاقات سلمية قوامها الصلة والإحسان والبرّ ودعم ممكنات السلام الاجتماعي الذي أتى الإسلام ليجعلها الأصل في حياة الناس قبل أن تختطفها جماعات الإسلام السياسي لتجعل بدلاً منها العنف والقتل والدمار هو الأساس في علاقة الإسلام بغير من الديانات الأخرى افتئاتاً على الله تعالى ورسوله ومكراً للسوء ولا يحيق المكر السيّء إلا بأهله ".. فهو يخلط بجهل فاضح بين عقيدة الولاء والبراء التي قوامها ولبّها وروحها: الحب والبغض وموالاة المسلم أيّاً كان، والتبرّي من الكافر ومعاداته أيّاً كان، وبين معاملة الكفّار والتفريق بين من كان منهم محارباً، ومن كان منهم مسالماً.. وبغض الكافر ومعاداته كما قال الله عن الخليل إبراهيم u: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ }[الممتحنة:4]، فنحن نبغض الكافر ونعاديه بقلوبنا من أجل كفره، لكن ذلك لا يمنعنا من بره إذا كان قريباً مسالماً كالوالدين ونحوهما، وكذلك لا نظلمه بل نقسط إليه، ونحسن معاملته ترغيباً له في ديننا، ومن أجل إنقاذه من الكفر الذي هو فيه، بل إنّ عقيدة الولاء والبراء لا تختص بالكافر، بل تشمل حتى العاصي، فنبغضه لمعصيته، لكن نحبه من وجه آخر لما عنده من الإيمان والإسلام، فمن لم يبغض الكافر لكفره، والعاصي لمعصيته، فلديه خلل في هذه العقيدة العظيمة، وما تأخر المسلمون، ولا تسلط عليهم العدو، إلا لتخليهم عن هذه العقيدة، أو اختلال مفهومها لديهم.
ولم يقف الأمر عند هؤلاء على مجرد الاختلال في المفهوم، بل تجاوزه إلى ما هو أعظم من ذلك، ألا وهو إلغاء هذه العقيدة من أصلها(!)، يقول أحدهم في مقال له بعنوان: ( الخطاب الديني وضرورة التجديد ) الجزيرة: 11595، عن مفهوم الولاء والبراء: "هذا المفهوم كان في الماضي، وفي زمن عدم وجود ( الدولة ) بمعناها وشكلها الحالي، ضرورة احترازية، ودفاعية وقائية مهمة، فقد كان بمثابة آلية عالية الفعالية آنذاك لمنع ما يمكن أن نسميه بلغة اليوم ( منع اختراق مجتمعاتنا من الآخر ) في حقبة كان الصراع والتطاحن فيها بين الأمم والثقافات هو السمة الطاغية على العلاقات الدولية، أما اليوم فقد تغير الوضع حيث أصبح التعاون بين الأمم(!!!) وتكريس كل ما من شأنه إثراء هذا التعاون، هو الثقافة السائدة بين شعوب الدنيا، لهذا فإن التغير النوعي في العلاقات الدولية الذي نعايشه اليوم كان يجب أن يتبعه تغير مواكب في مفهومنا للولاء والبراء بالشكل الذي يحافظ على فعالية هذا المفهوم.."، وقد ذكرني قوله ( ضرورة احترازية ودفاعية وقائية ) بالحرب الاستباقية الوقائية التي دشّنها ( الآخر ) في ظل التعاون الدولي بين الأمم(!) دفاعاً عن نفسه، ولو كان ذلك مبنياً على استخبارات خاطئة أو مبالغ فيها، وهي ليست مجرّد عقيدة في القلب، أو بغض باللسان، وإنما حرب بالأسلحة المدمرة وربما المحرمة دولياً التي لا تفرق بين المحارب والمدني، ويبدو أن مفهوم هذه العقيدة قد انتقل إلى ذلك الآخر في حين غفلة منا، فكان علينا التخلي عنه.. أما التعاون بين الأمم! فصحيح لكنه ضد الإسلام وأهله، كما في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها مما يطمع فيه ( الآخر )..(5/203)
ويستشهد الكاتب المذكور على ما ذهب إليه من تعطيل مفهوم الولاء والبراء، بقول كبيرهم الجابري الذي يقول: " إذا تعارضت المصلحة مع النصّ، روعيت المصلحة(!) باعتبار أنّ المصلحة هي السبب في ورود النصّ، واعتبار المصلحة قد يكون تارة في اتّجاه، وتارة في اتّجاه مخالف(!)".
فتأمّلوا هذا القول العجيب الذي يفترض تعارض المصلحة مع النصّ، ثمّ من الذي يحدّد المصلحة ؟، وكيف يكون اعتبار المصلحة تارة في اتّجاه، وتارة في اتّجاه مخالف؟ فما قيمة الدين حينئذ، إذا كانت ثوابته عرضة للاعتداء والإلغاء بحجّة المصلحة المزعومة ؟.. نعم قد يتخلّى المسلم عن عقيدة الولاء والبراء ظاهراً في حالات استثنائية خاصّة جداً، لكنّها تبقى عقيدة قلبية لا يجوز له أن يتخلّى عنها: { مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }[النحل:106].
4. الثناء على الفرق الضالّة، وخصوصاً المعتزلة ـ التي تتّخذ من السلفية خصماً تقليدياً لها ـ والدفاع عنها، بل الدعوة إليها !!...
ففي مقال بعنوان: ( الخوف من النقد ) الرياض: 13509، كتب أحدهم يستنكر فزع خصومه السلفيين عند شتم مذهب السلف، وكيل التهم للسلفية بلا حساب ولا برهان، والذي يعدّونه من النقد!!. ويقرّر بفهم مغلوط ومنقوص للآية الكريمة: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ }[هود:118]، أنّ الاختلاف بين البشر أمر جبلّي قد فُطر عليه البشر، وليس بمذموم، ولو أتمّ الآية لتبين له خطأ ما ذهب إليه، فإنّ الله قال بعدها: {إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ }[هود:119]، فجعل الله الاختلاف مقابل الرحمة. وقوله: ( ولذلك خلقهم ) قيل للاختلاف. وقيل للرحمة. وقيل للأمرين: فريق في الجنّة وفريق في السعير، وهو الصحيح. ولذا ختم الآية بتوعّد الكافرين من الجنّ والإنس بنار جهنّم، ولم يعذرهم بكفرهم بحجّة أنّ الاختلاف أمر جبلّي فطريّ كما يقول هذا الكاتب الجاهل، ويدلّ على أنّ الأصل هو الاجتماع والاتفاق على التوحيد والإيمان الصحيح قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً..}[البقرة:213]، وقد روي عن ابن عباس t أنّ الناس قبل نوح كانوا على التوحيد عشرة قرون، ثم حدث الاختلاف والتفرق بعد أن زين الشيطان لقوم نوح عبادة الأصنام وتعظيم الصور..فكان نوح u هو أوّل الرسل لمحو الشرك.
ثم يقرر هذا الكاتب " حق الآخر (الكافر)(!) في الاختلاف من زاوية عدم احتكار الحقيقة من جانب واحد!! أياً كان هذا الجانب... "..
ثم يقول مدافعاً عن المذهب الاعتزالي ـ وهذا هو مربط الفرس لديه ـ: " هنا أجد أنّه من المناسب القول بضرورة إعادة النظر في المناهج الجامعية في الأقسام التي تدرس العقديات والمذاهب بحيث يجعلها تؤسس لنظرة تسامحية تنطلق من إبراز أهداف ومنطلقات الفرق المخالفة عندما أرست قواعد مذهبها ـ خاصة الفرق الإسلامية الماضية المنظور لها على أنها مخالفة ـ بدلاً من تكريس وضع منهجي يُنظر لها على أنها ذات أهداف خاصة لهدم الإسلام وتقويض بنيانه بحيث تتأسس المخرجات التعليمية البشرية على التعامل مع حق وحيد ورأي فريد هو ما تلقنه إياه تلك المناهج كحق حصري لمباديء مذهبه وقواعد مرجعيته "، وبعد هذا التلميح غير المليح، ينتقل إلى التصريح فيقول: " المذهب الاعتزالي مثلاً عندما أسس للنظرة العقلية في الإشراقات(!) المبكرة من تألق الحضارة الإسلامية كان له هدف نبيل واضح وهو محاربة الهجمة الشعوبية على الإسلام آنذاك المتخذة من مذهب الشك أساساً لإتيان بنيان الإسلام من قواعده، فكان أن قام المعتزلة بالتأسيس للمذهب العقلي القاضي بتقديم العقل(!!!!) على النقل كسلاح مماثل ووحيد لردّ تلك الهجمة على الإسلام... " إلى آخر ما ذكر من التلبيس وقلب الحقائق، فأما الشك الذي يتحدث عنه فهم أهله والداعون إليه كما سبق من دندنتهم حول أنّ أحداً ما ـ أيّاً كان دينه ومذهبه ـ لا يمتلك الحقيقة المطلقة، فأي شك بعد هذا الشك ؟!، وأما تقديم العقل على النقل فهو الضلال المبين، فكيف تكون السيئة حسنة يُمدح صاحبها ؟!، إن هذا من انقلاب المفاهيم..
ثم يختم مقاله بالتعريض بالحديث الشريف ـ حديث الافتراق والفرقة الناجية ـ، وهو مخالف للعقل عندهم(!)، فيقول: " ومن ثم فإن الحاجة ماسّة لتأسيس جديد لأقسام العقيدة والمذاهب في الجامعات لتأسيس طلابها على النظرة المجرّدة(!) للمذاهب والفرق المخالفة عن طريق وضع مناهج تؤسس هي الأخرى للدراسة التاريخية المجرّدة(!) باستصحاب كامل لتأريخ نشأة تلك الفرق وأهمها الظروف السياسية التي صاحبت نشأتها وتأسيسها مذهبياً بدل أن تقدم للطالب باعتبارها فرقاً ضالة هالكة في مقابل فرقة ناجية وحيدة... "، أما التفسير السياسي للتاريخ والأحداث، واستبعاد الدين والعقيدة كمؤثّر رئيس، فذلك من أبرز سماتهم كما سيأتي، للتوصّل إلى ما يهدفون إليه من العلمنة.
وفي مقال لهذا الكاتب بعنوان: ( العقل قبل ورود السمع ) الرياض: 13688، الذي هو أصل من أصول المعتزلة، يثني الكاتب على هذا الأصل، الذي يعلي من شأن الفلسفة والمنطق وعلم الكلام المذموم، ويصف موقف السلف من ذلك بالركام الظلامي الراكد على ثقافتنا منذ قرون... أمّا تراجع بعض كبار أساطين الفلاسفة عنها، وتسجيل اعترافاتهم في ذمّها، وأنّها لا تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، فيعدّه الكاتب في مقال له ساخر بعنوان: ( التراجعات المذهبية ) الرياض: 13572، مجرّد دعوى لا حقيقة لها، وأنّ ما قالوه، معظمه منحول عليهم، ولا يخفى ما في قوله هذا من اتّهام للسلف بالكذب والافتراء على أولئك المتراجعين، ودفاع عن تلك الفلسفة البائسة العقيمة باعتراف أساطينها.
وفي هذا السياق يقول أحدهم في مقال له بعنوان: ( تعميق التعددية الفكرية... تأسيس لتطور المجتمعات ) الوطن: 2305، مثنياً على مذهب الاعتزال، ولامزاً مذهب السلف: " ويزخر تاريخنا القديم بمدارسَ فكرية متعددة شاركت في زمانها في حراكٍ فكري ثقافي في قضايا فلسفية متعددة كثيرة شغلت تلك المدارس بالتأليف والردود, وأفرز ذلك الحراك الفكري الثقافي مدرسةً فلسفيةً عقلية وهي فكر الاعتزال بيد أننا لم نستفد من تلك المدرسة العقلية التي كانت تُحاكي عقل الإنسان ولم نحاول أن نبرز الأدوات والوسائل التي كانت أساساً لتلك المدرسة, بل قد أُبرزت تلك المدرسة على أنها ضارة وغير نافعة وهذه إشكاليةُ فكرٍ تفردَ بمجتمعٍ فأصبح يملي عليه ما يجوز التفكير فيه وما لا يجوز وساهم في ترسيخ منظور ومنهج واحد تدرسُ من خلاله تلك المدارس الفكرية العقلية التي تزخرُ بالثقافة, فهل سوف تتغير طريقة طرحنا للمدارس الفكرية المتعددة كي نوظفها في خدمة الحراك الفكري الثقافي لكي يمارسه أفراد مجتمعنا ويتفاعلوا معه والذي هو مطلب أساسي للإصلاح والتطوير أم إننا سوف نبني سداً يحول بين عقولنا وآليات تفعيلها كي تبقى على القديم ؟ وكيف سوف نغير طريقة طرحنا؟ ومتى؟".
أنّها دعوة صريحة إلى تبنّي مذهب الاعتزال ، ونبذ منهج السلف الذي يصفه بأنّه ( فكر تفرّد بمجتمع )، فهو لا يفرّق بين الفكر والعقيدة التي لا مجال للمساومة عليها، بل إنّه يعدّ الأخذ بمذهب الاعتزال المنحرف مطلباً أساسياً للإصلاح والتطوير !!!!!..(5/204)
5. الدعوة إلى نقد الثوابت(!) والتشكيك فيها، والتي يعبّرون عنها تارة بالمسلّمات، وتارة بالحتميات، وتارة بالمعرفة الأولى... الخ ..وهي دعوة خطيرة تكشف عن حقيقة ما يطرحونه من فكر..
يقول أحدهم ـ وهو كبيرهم وأشدّهم افتتاناً بالغرب ـ في مقال له بعنوان: (ظهور الفكر النقدي شرارة الانطلاق الحضاري ) الرياض: 14083: " إن إخفاق العرب والمسلمين في تحقيق الإفلات من قبضة التخلف وعجزهم عن إحراز النهوض وعدم القدرة على التفاهم وغياب تبادل الاحترام واستمرار التمركزات المتنافرة بين الأقطاب المختلفة داخل الأمة والاحتكام إلى القوة والعجز عن الاتفاق عند أي اختلاف ان هذه كلها وغيرها من المعضلات المزمنة تعود بشكل أساسي إلى حرمانهم من آليات النقد التي كانت المفتاح الذي اهتدت إليه بعض الأمم وأحسنت استخدامه فحقق لها الوئام المنتظم والتكامل المكتظ والنمو المطرد ومكنها من الازدهار المتجدد.. أجل إن النقد للأفكار والرؤى والأوضاع والأعراف والتقاليد والمواضعات والمسلّمات هو محرك الحضارة وهو صانع التقدم في كل مجالات الفكر والفعل وهو الشرارة التي فجرت طاقات الإنسان وصنعت له أمجاد الفكر والعلم ووفرت له أسباب الازدهار فالأمم التي اعتمدت هذه الآلية الرائعة حققت طموحاتها وأنجزت إثبات ذاتها ووقفت شامخة بين الشعوب في سباقات الفكر والفعل أما الأمم التي أخمدت هذا المحرك الأكبر أو تجهله أو لا تحسن استخدامه فقد بقيت عاجزة عن مبارحة خنادق التخلف بل بقيت رافضة بأن تتجاوز هذه الخنادق لأن حرمانها من النقد والمراجعة حرمها من اكتشاف نقائصها كما حرمها من التعرف على ما في الدنيا من آفاق وبدائل فبقيت تتوهم أنها الأفضل والأرقى وظلت رهينة هذا الوهم .."
فهو قد ساوى بين الأفكار والرؤى والأوضاع والأعراف والتقاليد.. وبين المسلّمات التي هي الثوابت، ولم يستثن من ذلك شيئاً.. فكلّها يجب أن تكون خاضعة للنقد حسب رأيه، وهو يستشهد على ذلك بالحضارة اليونانية ووريثتها الحضارة الغربية حسب تعبيره، فيساوي بين دينهم وثوابتهم المحرّفة الباطلة، وثوابتنا وديننا الصحيح الذي لا يقبل النقد، بل يعدّ هذا التفريق بين الدينين وثوابتهما ضرباً لما أسماه بامتلاك الحقيقة المطلقة، بمعنى أنّك حين تعتقد أيها المسلم بأنّ دين الإسلام هو وحده الحقّ وما سواه باطل، فإنّك حينئذ تدّعي امتلاك الحقيقة المطلقة!!! هذا ما يفهم من إطلاقه حيث يقول: "ولكن لن ندرك عظمة هذا السبق المذهل الا إذا تذكرنا أن أصعب معضلة واجهت الإنسانية وسببت لها الفظائع والشرور وعرقلت مسيرتها الحضارية هي الانغلاق الثقافي الناتج عن توهم الكمال واعتقاد كل طرف من المختلفين أنه هو وحده الذي يملك الحقيقة النهائية المطلقة وأن كل الأطراف الأخرى غارقة في الأباطيل والحماقات والعمى والضلال وانحلال الأخلاق وأن كل المخالفين يستحقون الاقصاء والاستئصال لأنهم في نظره خطر على الحقيقة وعلى الوجود ولأن هذا الوهم يجري من الناس مجرى الدم ومحتجب عن الوعي خصوصاً في الثقافات المغلقة [ ويقصد بها ثقافتنا ] فإنه قد بقي ويبقى محصنا عن أضواء العقل وغير متأثر بفتوحات العلم ومحمياً من عمليات التحليل والفحص والمراجعة فتوهّم الانفراد بامتلاك الحقيقة يؤدي إلى الانغلاق الثقافي ومعاداة كل المغايرين وتوهّم الخطر من أي مخالف . إن ادعاءات كل طرف سواء بين الأمم المختلفة أو بين المذاهب والطوائف والاتجاهات داخل الأمة الواحدة بأنه وحده يملك الحقيقة المطلقة وأن الآخر ليس لديه سوى الضلال والعمى كانت وما زالت من أقوى أسباب البؤس الإنساني والفرقة والاقتتال والعداوات وحجب الحقائق وتزييف الوقائع وإفساد الأخلاق وملء النفوس بالأحقاد وتلويث العقول وإعاقة المعرفة وعرقلة الحضارة ومنع الانسجام الإنساني لذلك كان تأسيس الفكر النقدي وتقويض أوهام الانفراد بامتلاك الحقيقة النهائية المطلقة من أعظم الاختراقات الإنسانية.."
وهذا الكلام تضمن حقّاً وباطلاً، وخلطاً عجيباً يدلّ على غبش في التصور، أو ضلال في الفكر، وسيأتي قريباً إن شاء الله الحديث عما يسمّى بامتلاك الحقيقة المطلقة..
ويقول آخر ـ وهو أشدّهم تطرّفاً وبذاءة ـ في مقال له بعنوان: ( الإرادة الإنسانية.. المستقبل يصنعه الإنسان ) الرياض: 14073، هاجم فيه ما أسماه بالحتميات التي هي الثوابت، يقول: " لا أريد أن أتحيز إلى تهميش الحتميات؛ بقدر ما أريد التأكيد على قدرة الإرادة الإنسانية على تجاوزها، والتحرر منها؛ مع الإقرار بنسبية هذا التحرر. بل إن حضورها الطاغي أحيانا هو ما يبعث روح التحدي إزاءها، ويجعل من التحرر منها تحقيقا لتحرر الإرادة الإنسانية مما سوى الإنساني ".
فهو يرى في مقاله الطويل الذي يكتنفه الغموض أنّ الحتميات التي هي الثوابت ـ ويعني بها ثوابتنا نحن لكنّه لم يجرؤ على تسمية الأشياء بأسمائها ـ هي العائق عن تحقيق التقدّم والإرادة الإنسانية، في الوقت الذي يثني فيه على الإنسان الغربي الذي يمثل في نظره مقدمة الوعي الإنساني، ومثال الإرادة الحرة الواعية بذاتها. لأنّه الإنسان الأقل خضوعا للحتميات، والأشد تحررا من أسرها !!!!!. إنّها قمّة الانهزامية والتبعية والانحراف الفكري، أو بتعبير بعض الفضلاء: ( الأدمغة المفخخة ).
وفي مقال بعنوان: ( ثقافة معاقة )(!) الوطن: 2252 كتبت إحداهنّ داعية إلى الشك في الثوابت، والتشكيك فيها، تقول بكلّ جرأة: " يقال إن الفرد قد حقق هويته عندما تكون سلوكياته العملية في جميع جوانب حياته نتاجاً لمفاهيم وقناعات اختبرت صحتها بعقلية حرة مستقلة ولم تكن نتاج وراثة أو برمجة بطريقة الترديد الببغائي لما يقوله الوالدان والمدرسة ووسائل الإعلام كالمسجد والتلفزيون والكتيبات، وليصل الإنسان لهذا المستوى فلابد أن يمر بمرحلتين الأولى وفيها يتم وضع كل ما تم تلقينه إياه في فترة طفولة الفكر وهي مرحلة الطفولة وحتى نهاية المراهقة موضع الشك والاختبار دون النظر إلى ما يسميه مجتمعه أعرافاً أو ثوابت فيبدأ المراهق بالتساؤل حول مصداقية التعليمات التي جاءت من قبل الكبار وتشكيكه فيها بالبحث والقراءة والاستطلاع بهدف الغربلة والتصحيح فيدخل سن الشباب وقد كوّن فكره المستقل الذي يعكس ما يدل عليه ثم يظهر الالتزام بالمعرفة الجديدة وتطبيقها عملياً كمؤشر ملموس على تحقق الهوية ".
فهي تدعو الشاب الغض بعد سنّ المراهقة أن يختبر قناعاته ـ حتى الثوابت(!) ـ بعقلية حرة مستقلة كما تقول(!!!) وهي لا تعلّم أنّ ثوابتنا لا سيما العقدية لا تخضع للعقل، ولا مدخل للعقل فيها، فهي تعتمد على الإيمان والتسليم المطلق { الذين يؤمنون بالغيب }[ البقرة: 2]، ولو كانت الكاتبة تتحدث عن مجتمع غير مجتمعنا، ثوابته من وضع البشر لكان لكلامها وجاهة، أمّا وهي تتحدّث عن مجتمعنا السلفي المسلم بمناهجه النقية التي تولّى إعدادها علماء أجلاء، فلا وجه لهذه النزعة التشكيكية المتلقّاة من الغرب الكافر الذي لا ثوابت له سوى ما وضعه البشر..
ثم كيف لشاب غضّ في مقتبل العمر أن يختبر تلك القناعات والثوابت التي وضعها له علماؤه ومشايخه، وهي مما اتفق عليه سلف الأمة منذ عهد الصحابة إلى يومنا هذا ؟!!(5/205)
ثم تقول: " وقد يظن أي معاق الهوية أن الأخلاق والقيم والمبادئ غير قابلة للتطور ويجب أن تبقى ثابتة وأننا نعني بهذا المقال التأثير على شبابنا ودفعه للتخلي عن قيمنا وأخلاقنا العظيمة ونقول له بل هي قابلة للتطور والتحسن ويجب أن تعامل بمرونة أكثر وسأعطي مثالاً على نمو المبادئ وتطورها ففي ثقافتنا الإسلامية الجميلة كنا من رواد الدعوة لحقوق العبيد ولتضييق موارد الاستعباد ثم تطور هذا المفهوم الأخلاقي على يد الثقافة الغربية لمستوى أعلى فمنع استعباد الإنسان والاتجار به أساسا ومن هذا المنطلق يمكن حتى أن نطور مفاهيمنا حول حقوق المرأة والطفل ".
وهو كلام خطير يدلّ على جهل فاضح، وانهزامية بائسة، فديننا ولله الحمد قد أكمله الله وأتمّه { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً }[ المائدة: 3] فلسنا بحاجة لنطور ثوابتنا وقيمنا عن طريق أمم لا قيم لها ولا أخلاق أصلاً إلا الأخلاق التجارية إن صحّ التعبير، والمثال الذي ضربته دليل صارخ على جهلها فإنّ إلغاء الرقّ الذي أقرّه الإسلام ليس تطويراً وإنّما هو مضادة لحكم الله وشرعه، فالرق باق ما توفّرت أسبابه، وقولها: ( ثم تطور هذا المفهوم الأخلاقي على يد الثقافة الغربية لمستوى أعلى فمنع استعباد الإنسان والاتجار به أساساً ) كلام خطير حيث جعلت هذا النقض لحكم الله مستوى أعلى مما شرعه الله وأقرّه.. فجعلت حكم الطاغوت أعلى من حكم الله، ولا أظنّها لجهلها تدرك ذلك، فإلى الله المشتكى من جهل هؤلاء وجرأتهم وتعالمهم..
ثم أي استعباد أعظم مما تفعله الدول الكبرى اليوم من استعباد الدول والشعوب وإذلالها والضغط عليها لتنفيذ أجنداتها، والسير في ركابها، والاستيلاء على ثرواتها ومقدّراتها ؟!! ومن يخالف ذلك فإنّ مصيره إلى الإقصاء والإبعاد والاتهام بالإرهاب، وتسليط المرتزقة عليه وغير ذلك من الأساليب الماكرة.
وتختم مقالها بما لا يقل خطورة عما سبق، فتقول: " وأخيرا تحت شعار حماية ثقافتنا خوفا من المتربصين وهذا الخوف الذي ينادي إلى التقهقر ومحاولة إحياء عصر ما قبل ألف سنة بحذافيره وهذا الفكر خلق مجتمعات بأكملها معاقة الهوية وجعل عقولنا راكدة متوقفة عن العطاء نعيش عالة ولا نساهم في أي إضافة للمجتمعات لا تقنيا ولا ثقافيا بالرغم من أننا نشكل خمس سكان العالم ".
فتأملوا قولها: ( إحياء عصر ما قبل ألف سنة ) وهو عصر النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه والتابعين، أي القرون الأولى المفضّلة التي قال عنها النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: (( خير القرون قرني، ثمّ الذين يلونهم، ثمّ الذين يلونهم.. )) وجعلت إحياء مثل هذا العصر المجيد سبباً من أسباب خلق مجتمعات بأكملها معاقة الهوية... ألا يعدّ هذا الكلام من الكفر الصريح، أم أنّ هذه الكاتبة تردّد ببغائية ما لا تدرك معناه ؟!
وفي ذات السياق يقول أحدهم في مقال له بعنوان: ( التفكير في المعرفة الأولى ) الوطن: 2259: "يعتبر كثير من الباحثين في الفكر العلمي، باشلار من أبرزهم، أن المعرفة الناتجة عن التجربة الأولى، أي الاتصال الأول بالموضوع، تعتبر عائقا معرفيا أمام الحصول على معرفة علمية موضوعية. وبالتالي فإن المعرفة العلمية الحقيقية تأتي لتواجه وتتجاوز هذه المعرفة الأولى ".
إلى أن يقول: " هذا المفهوم يمكن توسعته أيضا إلى معارفنا الأولى عن الكون والحياة والأفكار والثقافات وعن أنفسنا ومحيطنا الصغير والكبير. خصوصا أن أغلب معارفنا في هذا الإطار اكتسبناها ونحن صغار في فترات التعلم الأولى. تعلمنا في البيت وفي المدرسة ومن خلال التفاعل الاجتماعي أشياء كثيرة. تعتبر كلها معارف أولى تبقى متأثرة بثقتنا بمن علمنا إياها وبالهالة التي لهم عندنا...."
إلى أن يقول: " يمكن سحب هذا الفهم على المعرفة الأولى التي اكتسبناها في المدرسة من المعلم وتلك التي اكتسبناها من إمام المسجد وتستمر حتى إلى المعرفة الأولى التي تحصلنا عليها من الجامعة أو أي مصدر معرفي آخر ". وهذا هو مربط الفرس عندهم: المعلم، المسجد....
وهكذا تستمر الدعوة إلى التشكيك في ثوابتنا ومسلّماتنا الشرعية بحجّة النقد والتمحيص، وهم يقيسون مجتمعنا المسلم على المجتمعات العلمانية الكافرة التي لا ثوابت لها إلا ما صنعه البشر كما سبق ضاربين بثوابتنا الشرعية عرض الحائط.
ويبدو أنّهم بدأوا في تطبيق ما يدعون إليه، فهذا أحدهم في مقال له بعنوان (الأمن الفكري والركض في الطريق الآخر!! ) الوطن: 2322، يطعن في مذهب أهل السنّة والجماعة، ويقرر الفكر الليبرالي المنحرف فهو يرى أنّ الأمن الفكري هو : " أن يفكر جملة الناس وأفرادهم تفكيرا لا يؤدي إلى إيقاع الخطر بالمجتمع ".
ثم يقرر " إن هناك رؤيتين مختلفتين في تحقيق هذا الهدف. الأولى تقول إن الفكر الآمن هو الفكر "السلمي". بمعنى الفكر الذي يطرح آراءه وأفكاره بطريقة سلمية دون أن يلزم أحد بها أو يفرضها بالقوّة " وهذه هي الرؤية الليبرالية التي يريد أن يقررها .
ويواصل: " الرؤية الثانية ترى أن الفكر الآمن هو الفكر الذي يسير في الطريق المحددة سلفاً. طريقة يرى أصحاب هذه الرؤية أنها هي السليمة قطعا وبالتالي فإن تحقيق الأمن للفكر يكون في السير على هذه الطريقة وكل ما يخرج عنها يعتبر فكرا خطرا ويهدد الأمن الفكري ". وهذه هي الرؤية السلفية الصحيحة، وهي التي يريد أن ينقضها، ولذا يقول: " شتّان بين الرؤيتين فكل منهما تنطلق من أساس فكري ورؤية للإنسان والحياة تختلف عن الأخرى. الرؤية الأولى التي ترى الأمان الفكري يكمن وينبع من التفكير السلمي بدون إضافة أي قيد آخر على هذا التفكير تنطلق من مبدأ حرية التفكير غير المحدودة إلا بكونها سلمية. حرية التفكير التي هي حق أولي للإنسان وشكل من أشكال تحقيق وجوده الحقيقي في الحياة. هذه الحرية هي منطلق وطريق كل الإنجاز البشري وأفكار التقدم والتحرر على مدار التاريخ. كل الفلاسفة والمصلحين على مدى التاريخ انطلقوا من هذا الحق حين كانوا يواجهون بمعارضة شديدة من مجتمعاتهم في البدايات. صحيح أن الكثير منهم انقلب على هذا المبدأ بعد أن استقر لأفكارهم الأمر إلى أن المبدأ الأول كما شملهم يفترض أن يشمل من بعدهم بالتأكيد . الرؤية الثانية تنطلق من أن فكرة أن الحق معروف سلفاً، في جملة آراء جماعة ما " يقصد أهل السنة والجماعة، ثم يواصل: "وبالتالي فإنه لا يسع أحد أن يخرج عن هذا الفكر وإلا اعتبر مباشرة خارجاً عن الحق".
ثم يقول ساخراً: " لا تهتم هذه الرؤية بحرية الفكر، ولا تعتد بها، بل تحاربها بقدر ما تستطيع، وتعتبرها سبباً من أسباب الدمار والبلاء. ولذا فعلى الناس استمرار الاتباع للحق، الذي هو حق محدد عندهم في جملة من الأقوال والآراء وفي ما وافقها فقط "..
وحرية الفكر عند هؤلاء تعني حرية الكفر، والسخرية بالدين وأهله، والتشكيك في الثوابت كما سبق..!! أما الحقّ المحدّد في جملة من الأقوال والآراء ـ حسب وصفه ـ فواضح أنّه يريد به مذهب السلف، وهل هناك حقّ غيره عندنا ؟.
وفي مقال بعنوان ( لا إجحاف ) الوطن: 2322، كتبت إحدى الكاتبات من أصحاب هذا الفكر ـ وهي التي سبق قريباً أنها طالبت بالشكّ في الثوابت ـ تنتقد وبصراحة وقحة بعض الثوابت المتعلّقة بالمرأة، والتي وردت فيها نصوص صحيحة وصريحة، وقد خلطتها مع بعض القضايا الأخرى التي هي محل اجتهاد، ومن هذه الثوابت التي انتقدتها وأنكرتها ـ وسأذكرها بالنصّ الذي ذكرته ـ:(5/206)
" ممنوعة من السفر بدون إذن، ممنوعة من استئجار غرفة بفندق بدون إذن، ممنوعة من إلحاق أبنائها في المدرسة التي تحب بدون إذن، ممنوعة من استخراج جواز سفر بدون إذن، ممنوعة من الخروج من المنزل بدون إذن، ممنوعة من الخروج من الدوام (للمعلمات والطالبات) دون إذن، ممنوعة من الالتحاق بالعمل بدون إذن، ممنوعة من استئجار منزل وحدها بدون إذن، ممنوعة من الاستفادة من البعثات الخارجية بدون إذن، ممنوعة من تزويج نفسها بدون إذن، ممنوعة من التوقف عن الإنجاب بعملية بدون إذن، ممنوعة من الخروج من المستشفى إذا نومت فيه بدون ولي لاستلامها، ممنوعة من دخول الإدارات الحكومية ومقابلة المسؤولين بدون ولي، ممنوعة من الامتناع عن فراش الزوجية بدون عذر، ممنوعة من طلب الطلاق بدون عذر ودفع غرامة، ممنوعة من اللحاق بأطفالها إذا أخذهم طليقها خارج البلاد دون إذن وليها، ممنوعة من تزويج بناتها دون إذن، ممنوعة من الوقوف في محل بيع أو مقهى هي تملكه، ممنوعة من استلام مناصب تنفيذية عليا في القطاع الخاص والحكومي، ممنوعة من لقاء وفد لعقد صفقة عمل، محرم عليها الركوب مع سائق وحدها، محرم عليها العمل في المكان المختلط، محرم عليها إغضاب زوجها، وأخيراً صوتها عورة لا يجب أن يظهر للملأ لتبقى قضيتها طي الكتمان.. ".
ويلاحظ أنّ أغلب ما ذكرته يدور حول أخذ الإذن من الزوج أو الولي في الخروج والسفر ونحوه، والاختلاط والخلوة المحرّمة، وقد وردت في ذلك نصوص شرعية صحيحة، فهذه الكاتبة ـ أصلحها الله ـ تريد من نسائنا أن يخرجن من بيوتهن، بل يسافرن حيث شئن ويتزوجن من شئن دون إذن من أوليائهنّ، ومعلوم شرعاً وعقلاً وذوقاً وأدباً في أي تجمّع، أو مؤسسة، أو إدارة حكومة أو أهلية، أنّ الموظّف لا يخرج من عمله إلا بإذن، وإلا لأصبح الأمر فوضى وتسيب، فكيف بمؤسسة الأسرة التي هي المحضن الأوّل للتربية والتعليم.. فهل تريد هذه الكاتبة من نسائنا أن يكن فوضويات متسيبات بلا رقيب ولا حسيب ؟! وإذا كانت هي ترى نفسها مثقفة وواعية، فهل كل النساء والفتيات كذلك؟!.
أما الاختلاط بين الجنسين ـ وأعني به الاختلاط المقصود ـ فهو أم البلايا ومقدمة الرزايا، فهو المقدمة للخلوة المحرمة المنتهية بالمآسي العظيمة، ولدي قصص مفجعة لضحايا الاختلاط من الجنسين، ولولا خشية الإطالة والخروج عن المقصود من هذه الدراسة، لذكرت شيئاً من ذلك، والعاقل اللبيب ينظر ويتأمل.
والعجيب أنّ بعض نساء الغرب العاقلات أكثر وعياً وإنصافاً للمرأة المسلمة، من هذه الكاتبة المنتسبة إلى الإسلام.. ففي مقابلة أجرتها مجلة الوطن العربي (العدد 314 ) مع امرأة فرنسية متخصصة في الفن الإسلامي قالت: " وجدتُ المرأة العربية ( المسلمة ) محترمة ومقدرة داخل بيتها أكثر من الأوروبية ، وأعتقد أن الزوجة والأم العربيتين تعيشان سعادة تفوق سعادتنا.."
ثم توجه نصحها للمرأة المسلمة قائلة: " لا تأخذي من العائلة الأوروبية مثالاً لك، لأنّ عائلاتنا هي أنموذج رديء لا يصلح مثالاً يحتذى ".
وفي مقابلة أجرتها مجلة صدى الأسبوع مع فتاة إنجليزية أعلنت إسلامها، كان من الأمور التي دفعتها أن تترك النصرانية وتدخل الإسلام: الأسرة المسلمة ومكانة المرأة، قالت: " المرأة المسلمة دائماً في حماية ورعاية، تجد من يعيلها أينما حلت، وهي جزء هام من المجتمع الإسلامي، جو عائلي تفتقده الكثير من الأسر الغربية.." .
والخلاصة أنّ ما تدعو إليه هذه الكاتبة حث نسائنا وبناتنا على التمرّد على أوليائهنّ، وأن يخرجن بلا حسيب ولا رقيب، وينزعن جلباب الحياء بلبس اللباس غير الساتر، ويرفعن أصواتهن في المجامع، ويختلطن بالرجال ليكن فريسة للذئاب البشرية، ولو غضب أولياؤهن، حيث إنّ الكاتبة أباحت لهن ذلك.. هذا ما يُفهم من مقالها، فما الذي بقي من الثوابت في قضايا المرأة ؟ وهل سيقف هؤلاء في نقدهم عند مثل هذه الثوابت الجزئية، أم سيتعدّى الأمر إلى الثوابت الأخرى ؟
السمة الثالثة:
الشكّ في دينهم، وكثرة الحديث عمّا يسمونه بـ ( امتلاك الحقيقة المطلقة )
وأنّ أحداً من الناس ـ كائناً من كان ـ لا يمتلك هذه الحقيقة، وهم لا يفرقون عن عمد بين أمور الاعتقاد ( الثوابت )، وبين غيرها من الأمور الخاضعة للنظر والاجتهاد، بل ظاهر كلامهم ينصرف إلى هذه الثوابت للتوصّل إلى مرادهم، وهو التشكيك في مذهب أهل السنّة والجماعة، أو ما يطلقون عليه: ( السلفية التقليدية )، فلا أحد عندهم يمتلك الحقيقة المطلقة حتى في أصول الدين وأمور الاعتقاد التي أجمع عليها سلف الأمّة منذ فجر الإسلام، وإلى وقتنا الحاضر، فالمسلم الموحد، واليهودي، والنصراني، والمبتدع، كلّهم سواء من ناحية الحقيقة، لا حقّ لأحد منهم ـ حسب زعم هؤلاء ـ في امتلاكها(!) وهذا هو حالهم على الحقيقة، فهم حائرون تائهون مرتابون، أمّا نحن ـ ولله الحمد والمنّة ـ فليس لدينا شك في ديننا وعقيدتنا، فنحن مطمئنون موقنون. إمامنا في ذلك رسولنا الكريم الذي قال الله له: { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ }.
وفيما يلي بعض أقوالهم في هذه القضية التي أقلقتهم، وأقضّت مضاجعهم، وحالت بينهم وبين تحقيق مشروعهم التغريبي:
تقول إحدى الكاتبات في مقال لها بعنوان ( النزعة الإنسانية ) الجزيرة: 11966 " تتميز التوجهات الفكرية المحافظة والمغلقة على نفسها، بالجمود والتشدد وعدم الرغبة في أيّ نوع من أنواع الاتصال مع المغاير أو المختلف، يرافق هذا شعور متأصل بالرعب والتهديد من العالم الخارجي، على اعتبار أنّ هذا العالم هو غابة من الشرّ والفساد والعهر.. حتى تصبح حالة من التيبس داخل طهرانية وأوهام بامتلاك الحقيقة المطلقة دون العالمين.."، ولا أدري عن أي مجتمع محافظ تتحدث ـ وهي بالتأكيد تتحدث مجتمعنا السلفي المسلم المحافظ، لكنها لا تجرؤ على التصريح ـ، فهل يوجد اليوم مجتمع ليس لديه الرغبة في أيّ نوع من أنواع الاتصال مع المغاير والمختلف، يبدو أنّ الكاتبة تتحدث عن بعض مجتمعات مجاهل أفريقيا، أو الواق واق.. أمّا أوهام امتلاك الحقيقة المطلقة دون العالمين فهو الشاهد من هذا النقل التغريبي الواضح.
ويقول آخر في مقال له بعنوان: ( النظام المعرفي والهوية الثقافية ) الرياض: 13551: "..العنف ومن ثم التطرف ينتج غالباً من اعتقاد المجتمع عموماً ( وهو ما يربى أفراده عليه بالطبع ) بأنّه مالك خطام الحقيقة المطلقة في نظرته للناس والكون والحياة، ومن ثم فلا يجد سبيلاً لأداء مهمته في الحياة سوى إجبار الناس المخالفين على عدم إهلاك أنفسهم، وردهم لحياض الحقيقة المطلقة "..
وهكذا ينبغي للناس ـ كما يريد الكاتب ـ ألا تكون لديهم عقيدة ثابتة راسخة يقينية، يربيهم عليها علماؤهم، ليظلوا في ريبهم يترددون.(5/207)
ويوضّح هذا الكاتب ما أجمله في هذا المقال في مقال آخر له بعنوان: ( الخوف من النقد) الرياض: 13509، فيقول: " يعتضد ذلك السلوك المبني على تضعضع الحجّة [ ويقصد به الرعب عند الطعن في الأصول ونقدها ] بانعدام التربية ـ كجزء من الحالة الثقافية المعاشة ـ على مراعاة حقّ الآخر في الاختلاف من زاوية عدم احتكار الحقيقة من جانب واحد، أيّاً كان هذا الجانب، سواء أكان فرداً أو جماعة أو هيئة أو مذهباً أو خلافه.. "، فلا فرق ـ على رأي الكاتب ـ بين مذهب أهل السنة والجماعة، وغيره من المذاهب الأخرى المنحرفة، وكلّ ذلك توطئة وتميداً للتبشير بفكرهم الليبرالي الاعتزالي التغريبي.
ويقول آخر ـ وكان تكفيرياً فصار مرجئاً ـ في مقال له بعنوان: ( أيضاً في الطائفية ) الرياض: 13503، وهو يساوي بين أهل السنة وبين الرافضة: "وكانت تنشأ في الإسلام [ أي الفرقة والاختلاف ] جرّاء صراعات مريرة بين الطوائف والفرق المتصارعة على النصّ الديني، يغذّيها الوهم الزائف بامتلاك الحقيقة.."، وهكذا أصبح التمسك بمذهب أهل السنة والجماعة وهم زائف بامتلاك الحقيقة!!!.
وفي هذا السياق يقول أشدّهم تطرّفاً وبذاءة في مقال له بعنوان: ( التفكير.. وإشكالية الوصاية ) الرياض: 13065: " وإذا عرفنا أنّ ( التفرّد ) في الفكر وفي الممارسة المادية، هو المتعين السلوكي لمعنى الحريّة، وأنّ الحرية هي جوهر المعنى الإنساني، وأنّ كلّ إنسان يولد ـ على الفطرة ـ حرّاً؛ أدركنا حجم الجناية التي ترتكبها الثقافة التقليدية البائسة في سعيها الحثيث لقولبة الأفراد وقسرهم على رؤى متشابهة إلى حد التطابق بإلزامهم بأقوال ختمت ـ زوراً ـ بختم المطلق الإيماني والثابت اليقيني، كي يتنازلوا ـ طائعين ـ عن ( فرديتهم/ إنسانيتهم/ وجودهم ) في سبيل أوهام التقليدية الميتة، وأشباحها الآتية من عصور الظلام والانحطاط ".. والثقافة التقليدية البائسة وأوهامها الميتة وأشباحها الآتية من عصور الظلام والانحطاط يريد بها السلفية التي يسمها بالتقليدية كما صرّح بذلك في المقال نفسه، بل إنّه ضرب مثلاً على ذلك بحادثة قتل الجعد بن درهم الذي أعلن كفره وإلحاده وتكذيبه للقرآن فقتله الوالي آنذاك خالد القسري حداً لردته، فينبري هذا الكاتب مدافعاً عنه، فيقول" ولعلّه ليس من قبيل المصادفة أن يتغنى التقليدي في هذا الزمن الراهن بكل ما شهده ذلك الصراع التاريخي من قمع لمظاهر الاختلاف والمغايرة(!)، ويترحم على القاتل ويلعن المقتول، ويتمنى أمثالها قرابين ترضي مرضه السادي، ولا يزال التقليدي [ يعني السني السلفي ] يطرب كلما سمع أو تذكر قصّة الطاغية الذي ضحى يوم عيد الأضحى بـ ( إنسان ) بدل أضحيته في أوائل القرن الثاني الهجري ".. وهكذا يتحوّل من يقيم حدود الله إلى طاغية، ويتحوّل الطاغية المرتدّ المكذب للقرآن وللرسول r إلى ( إنسان ) مسكين يستحق الشفقة، ويصبح إقامة الحد الشرعي جريمة، وقمع لمظاهر الاختلاف والمغايرة !!!!!! إنّ هذا لعمر الله قلب للحقائق، بل هي ردة يجب أن يستتاب منها هذا الكاتب.
وليته اكتفى بذلك، بل يواصل بذاءته ساخراً من الإمام الرباني ابن القيم رحمه الله وسائر علمائنا السلفيين بعده، وتلامذتهم، واصفاً إياهم جميعاً بالسفهاء(!!) فيقولً: " وأصبحت هذه الجريمة منقبة للقاتل يمتدح بها عبر القرون بحيث لا يخجل أحدهم ـ وكان على علم ـ أن يمتدحه في نونيته التي قالها بعد الجريمة بستة قرون فيقول: (لله درك من أخي قربان )، ويردده من خلفه السفهاء(!) وأشباه السفهاء(!) على مرور الأيام ".. فهل بعد هذا التطرّف من تطرّف، وهل بعد هذا الإرهاب الفكري من إرهاب ؟!!.
والعجيب أنّ أسياده الغربيين وعملاءهم من الباطنية فعلوا مثل ما فعل القسري حين أعدموا صدّام حسين شنقاً في يوم عيد الأضحى ـ مع الاختلاف الشاسع في أسباب الإعدام ودوافعه ـ ومع أنّ الغرب كان هو الداعم الرئيس لمعظم جرائم صدّام، والمبارك لها!! إلا أنّ هذا الكاتب البائس لم يساو بين الجلادَين في الحالتين، وكذلك لم يساو بين الضحيتين في حكمه البائس أيضاً، بل راح يكيل الشتائم لصدّام ويجرّده حتى من الخصال التي اتفق الناس عليها حتى جلادوه، أمّا الجلاد والقاتل الحقيقي فقد عمي عنه هذا الكاتب، ولم يشر إليه ولا مجرّد إشارة، مع الفارق الكبير ـ كما أسلفت ـ بين الحادثتين.. !
السمة الرابعة:
العزف على وتر الإنسانية
وذلك في مقابل الأخوّة الإيمانية، وأخوّة العقيدة، وهذا بناء على ما قرّروه سابقاً من أنّ أحداً لا يمتلك الحقيقة المطلقة ! وقد كتب أحدهم مقالاً بعنوان: ( الإنسانية والطائفية: صراع الأضداد ) الرياض: 13754، يؤصّل فيه هذه النزعة الإنسانية شرعاً(!!) في جرأة متناهية حسب فهمه للنصوص ومقاصدها(!!) ـ وبئسما ما فهم ـ، فيذكر إن الإسلام "جاء أوّلاً لتفكيك العصبية القبلية التي كانت سائدة عند العرب في الجاهلية، وعندما خلخل الأساس المعرفي القيمي التي تقوم عليه العصبية الجاهلية؛ قام بتجذير أساس قيمي جديد قوامه { أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } وهي نقلة نوعية متطورة ـ كما يقول ـ على طريق أنسنة(!) العلاقات في المجتمع العربي على أنقاض العصبية القبلية وما شاكلها من مقومات الطائفية(!)، ولأنّ القرآن كنص مؤسس لاجتماع جديد لا يستطيع وفقاً لقوانين الاجتماع البشري من جهة، ووفقاً لحركته ضمن جدلية التأثر بالواقع والتأثير فيه أن ينقل مجتمعاً غارقاً في قبليته كالمجتمع العربي القديم من أقصى قيمة سلبية ـ كما هي العصبية القبلية ـ إلى أقصى قيمة إيجابية ـ كما هي الإنسانية المطلقة فقد بدأ باستبدال الأخوة التي تقوم على العصبية القبلية بالأخوّة التي تقوم على الرابطة العقدية من جنس { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ }، ومن جنس: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } ولكنها ليست تجسيداً نهائياً لأنموذج العلاقة التي يجب أن تحتذيها المجتمعات، بل إنّها لا تعدو أن تكون خطوة على طريق الأنسنة الشاملة ليس إلا، يؤيّد ذلك قوله تعالى { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } وأيضاً {يا أيها الناس إنا خلقناكم من نفس واحدة }(1) " انتهى كلامه بنصّه، وهو كلام في غاية الخطورة والجهل والجرأة على النصوص الشرعية، حيث جعل النصّ المكيّ المتقدّم ناسخاً للنصّ المدني المتأخّر، وهذا لا يصحّ شرعاً ولا عقلاً، بل هو دليل على غاية الجهل والعبث بالنصوص الشرعية، لتقرير النزعة الإنسانية في مقابل الأخوة الإيمانية والرابطة العقدية التي يصنفها هذا الجاهل بأنّها من ضروب الطائفية(!!!).(5/208)
وفي هذا السياق يقول أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرّفاً وحقداً على السلفية ـ موضحاً ولكن بعبارات تمويهية في مقال له بعنوان: ( ما بعد الكائن النمطي ) الرياض: 13499: " فقدان المشروعية الإنسانية يتم عندما يتقدّم سؤال الهويّة ـ أيّة هويّة ـ على سؤال الإنسان، أي على حساب الإنسان.. عندما يبدأ التنميط بإيديولوجيا الهوية ينتهي الإنسان الفرد المحقق للمعنى الإنساني، ومن ثم ينتهي الإنسان "، فهو يرى أنّ إثبات الهوية، ـ ويؤكد ذلك بقوله: (أية هوية) حتى تشمل الهوية الإسلامية والسلفية على وجه الخصوص كما نص على ذلك في بقية مقاله ـ يكون على حساب الإنسان!! وهذه ـ عنده ـ بداية ما يسميه بالتنميط بإيديولوجيا الهوية، أي أن يكون للمسلم هوية وعقيدة تميّزه عن غيره، فذلك عنده يعني نهاية الإنسان..
ويؤكّد ذلك بقوله: " المجتمعات المحافظة ـ والمنتجة للأصولية بالضرورة ـ مجتمعات نمطية يشكل التنميط جوهر حراكها المعلن وغير المعلن، من حيث كونها ترتكز على وحدة القيم الصادرة عن وحدة الرؤية والمرجعية.. ".. فمن هي يا ترى هذه المجتمعات المحافظة والمنتجة للأصولية بالضرورة؟! وماذا يقصد بالأصولية؟ لا شك أنّه يقصد مجتمعنا السعودي المحافظ، بعقيدته السلفية الأصيلة، ومرجعيته المعتبرة، وقد أوضح ذلك فيما بعد من مقاله هذا بمن وصفهم بـ " رموز التنميط الذين كانت تدور عليهم حراك الأيديولوجيا المحلية " وزعم أن هذه الرموز أصبحت ـ بعد الانفتاح الإعلامي الهائل ـ فضيحة إعلامية بعد أن وضعت على المحكّ في مواجهة رموز المعرفة الحداثية التي واجهها ـ وانتصر عليها في الماضي ـ بالأدلجة وبتجهيل الجماهير لا بالحوار المعرفي الجاد.. وهكذا تصبح رموز الحداثة المارقة رموزاً معرفية(!!)، أمّا الرموز الإسلامية بمرجعيتها الشرعية المعتبرة فهي تنميطية مؤدلِجة مجهلّة للجماهير !!!
وفي مقال آخر له بعنوان: ( تأملات في الغضب الإسلامي ) الرياض: 13744، وذلك في أعقاب استهزاء الدنمارك بالرسول الكريم يقول: " يخيّل إليك ـ أحياناً ـ أنّ بعض أطياف الإسلامويّة(!) مبتهجة بالحدث لما تراه من تقاطع كثير من الأصوات الغاضبة مع شعاراتها، وإذا كنا لا بد أن نغضب ـ مهما استخدم غضبنا لغير ما نأمل ونريد؛ فإننا لا بد أن نكون حذرين غاية الحذر في لغة الإدانة التي نختارها، كيلا نسهم في الحشد والتجييش لفصائل ليست من خياراتنا الحضارية(!)، بل تقف ـ من خلال مجمل مضامينها ـ على الضد من المنحى الإنساني الذي تجتمع عليه قوى التقدّم والتحرّر الإنساني(!) ".. فهو لم ينس خصومه الذي ينعتهم استهزاء بالإسلامويين حتى في هذه النازلة الكارثية التي لم يسبق أن اجتمع المسلمون اليوم جميعا مثل اجتماعهم عليها ، كما لا ينسى أن يبشّر بمشروعهم التغريبي ذي المنحى الإنساني(!) الذي تجتمع عليه قوى التقدّم والتحرر الإنساني، في مقابل قوى التقليد والظلام والإرهاب والتأسلم والتخلف والتوحش والانغلاق والتطرف، وهي الأوصاف الذي أسبغها كما سبق على السلفية وكل ما تقاطع معها من الحركات الإسلامية ولو من بعيد. أمّا قوى التقدّم والتحرّر الإنساني عنده فهي القوى الحاملة للواء الحداثة ـ لا بوصفها منهجاً أدبياً فقط ـ كما يصفها في مقال له بعنوان: (المرأة والحداثة ) الرياض: 13457: فيقول: " نزل خطاب الحداثة إلى الواقع كخطاب نهضة واعدة، نهضة تتمركز حول الإنسان(!)، وتعنى بكل ما تقاطع مع البعد الإنساني، من مساواة(!) وتحرير، وديمقراطية.. الخ، وهذا الإنساني في خطاب الحداثة يعني ـ بالضرورة ـ أنه خطاب مهموم بالمسألة النسوية بوصفها إشكالاً يلازم المجتمعات التقليدية التي تسعى الحداثة لتقويضها(!!!) "، فهو يصرّح بأنّ الحداثة تسعى إلى تقويض المجتمعات التي يصفها بالتقليدية، ويريد بذلك ـ كما تدل عليه سائر مقالاته ـ المجتمعات المسلمة المحافظة، وخاصّة السلفية منها كمجتمعنا، لكن هؤلاء الكتّاب على عادتهم لا يجرؤن على التصريح وتسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية.
وفي مقال له بعنوان: ( إشكالية العنف الفلسطيني الإسرائيلي ) الرياض: 13401، يكثر من العزف على هذا الوتر ـ وتر الإنسانية ـ فهو يقرّر أوّلاً أنّ الصراع بين الطرفين ليس صراعاً عقدياً، ويَسِمُ من يعتقد ذلك بأنّه متطرّف: يقول: " المتطرّفون من هنا (العرب والمسلمون ) ، ومن هناك ( الإسرائيليون ) يفترضون الصراع الدائر الآن صراعاً عقائدياً، لا مجرّد وقائع سياسية تقوم على دعاوى عقائدية ".. ولم يحدثنا الكاتب عن سبب اختيار اليهود لدولة فلسطين ( أرض الميعاد ) دون غيرها من بقاع الأرض، ولا عن هيكل سليمان ـ عليه السلام ـ الذي يراد بناؤه على أنقاض المسجد الأقصى، فكل ذلك في نظره ليس شأناً عقائدياً، والحقيقة أنّ اليهود أنفسهم هم الذين ألقوا في روع المسلمين أنّ هذا الصراع ليس عقائدياً ليأمنوا جيشان العقيدة في نفوس المسلمين، وليعزلوا الفلسطينيين المسلمين عن باقي المسلمين!
ثم يهزأ بالأحاديث الشريفة التي تُحدّث عن نهاية هذا الصراع، ومنها الحديث الذي أخرجه الشيخان عن أبي هريرة t أن رسول الله r قال: ( لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى يقول الحجر وراءه اليهودي: يا مسلم، هذا يهودي ورائي فاقتله ) ولعلّ هذا الحديث لا تقبله عقولهم المريضة لأنّ فيه نطق الحجر، وهذا أمر مخالف للعقل عندهم، فيقول: " إنّهم يرونه صراعاً لا في لحظته الراهنة فحسب، وإنّما هو كذلك منذ البداية وحتى النهاية "..!!
ثم يبدأ العزف على وتر الإنسانية ساخراً ببعض النصوص الأخرى التي تفصّل في هذا الصراع، فيقول: " النهاية عقائدية كما يراها مَن هنا ومَن هناك، وهي ذات ملامح تفصيلية في ضمير الغيب الآتي، ملامح تلتهم إمكانيات الرؤية الواقعية الآنية، وتحدد خيارات الحوار(!) والحراك. إنّها رؤية إيمانية قطعية عند كلا الطرفين ومن ثم يصعب الحلّ تحت هذا السقف أو ذاك، فلا خيار للإنسان.. يتم تصوّر ما هو كائن وما سيكون بواسطة تفكير غيبي يلغي الفاعلية الإنسانية أو يكاد، ويؤطّر ما بقي منها لينتهي في مضمار الإلغاء.."، وهكذا يساوي بين الرؤية الإيمانية القطعية عند الطرفين، فلا فرق عنده بين ما يعتقده المسلمون حسب نصوص الكتاب والسنة التي تكفّل الله بحفظها، وبين ما يعتقده اليهود حسب نصوص توراتهم المحرّفة، ثم هو لا يفرّق أيضاً بين الفلسطيني المسلم صاحب الحقّ والأرض المغتصبة، وبين اليهودي الكافر المحتلّ الذي يمارس أبشع أنواع الإرهاب ضدّ الفلسطيني المسلم الأعزل، بل يرى أن لا ثوابت في هذه القضية أصلاً في ميدان الفعل السياسي، فيقول: " إنّ لدى الفلسطيني ثوابت! كما أنّ لدى الإسرائيلي ثوابت. وثوابت هذا تتناقض ـ واقعياً ـ مع ثوابت ذاك، لكنها ثوابت في التصور لا في الواقع، لأن الواقع ـ وهو ميدان الفعل السياسي ـ لا ثوابت له، ومن هنا فأية جراحة فكرية إنسانية لبنية التصور، كفيلة بأن تمهد للحل السلمي ، ليس الواقع صلداً كما يتصوّره كثير منا، أو كما يريدونه أن يكون، بل هو مفتوح على كافة الاحتمالات، شرط أن تتفتح لها الأذهان!!! ".(5/209)
وبعد أن ساوى بين الطرفين، أخذ يتباكى على ضحايا هذا الصراع، ولو كانوا من اليهود الغاصبين المحتلين، ويصفهم بالأبرياء عازفاً على وتر الإنسانية، مع أنّ الشعب اليهودي كلّه مجند ضد الفلسطيني المسلم صاحب الأرض، يقول: " للأسف نحن لم ننظر إلى العنف نظرة محايدة، بوصفه ظاهرة لا إنسانية، تطال الإنسان، أيّاً كان هذا الإنسان، سواء كان فلسطينياً أو إسرائيلياً. ضحايا العنف في معظم الأحيان من الأبرياء(!!!) وحتى ما سوى ذلك، فإنه يبقي خلفه مآسي تطال أبرياء لا محالة. يجب ألا يغيب عن الوعي أن لهؤلاء وهؤلاء أمهات وأبناء وأزواج وأحباب تكاد قلوبهم تتفطر حزناً وألماً بعد كل مشهد من مشاهد العنف، تلك المشاهد التي ليست مقصورة على طرف دون آخر. هل انغرس في وعينا أن الإنسان هو الإنسان على هذا الطرف من أطراف الصراع أو ذاك، مهما حاول أحدهما قصر الإنساني عليه ؟! ما لم يكن هناك إحساس عميق ومشترك بالمأساة التي تطال الإنسان من كلا الطرفين؛ فستبقى دائرة العنف اللا إنسانية تدور رحاها دون توقف ".
ولم يفته في هذا المقام أن يعرض بحركات المقاومة الإسلامية في فلسطين ـ على عادته في لمز كل ما هو إسلامي ـ، فيقول: " لا شك أن الأيديولوجيا حاضرة بقوة في هذا العنف المتبادل(!)، بدليل أن العنف في طرفي الصراع يصدر بالدرجة الأولى من المحاضن الأيديولوجية، وكلما تضخمت الأيديولوجيا زادت حدة العنف، زادت فعلاً وتهديداً "..
ثم ينكر على المثقفين على امتداد العالم العربي والإسلامي الوقوف مع المقاومة الفلسطينية وتأييدها فيقول: " تزداد المسألة قتامة حين نرى الطلائع الثقافية والفكرية على امتداد العالم العربي والإسلامي تبارك هذا العنف(!) بل وتهتف له، إلا فيما ندر مما يعدّ نشازاً في سياق العنف الذي تباركه جماعات اليقين(!) ، بل أصبح هذا الصوت النادر ـ المنطوي على تصورات إنسانية ـ موضع اتهام وتخوين ".. وصدق من قال: كاد المريب أن يقول خذوني!! أمّا جماعات اليقين التي يسخر منها فهي الواثقة بوعد الله بقتل اليهود ونطق الحجر والشجر لصالح المسلمين كما صحّت بذلك الأخبار، وليسمّ الكاتب ذلك ما يسميه، فإن وعد الله آت لا مرية فيه... هذا وإنّ مما يلاحظ في مقال هذا الكاتب ـ مع طوله ـ أنّه لم يصف المحتل بالوصف الشرعي الذي وصفه الله به وهو اليهودي، وإنّما يصفه بالإسرائيلي، ولذلك دلالته العقدية التي تدل على فكر هذا الكاتب، ونظرته العلمانية ( الإنسانية ) لهذا الصراع التي أفصح عن شيء منها في هذا المقال.
بل إنّ هذا الكاتب نفسه كتب مقالاً بعنوان: ( المستقبل لهذا الإنسان ) الرياض: 13779، وهو يريد بهذا العنوان ـ عن خبث وإلحاد ـ معارضة كتاب سيّد قطب ـ رحمه الله ـ ( المستقبل لهذا الدين )، فانظر كيف جعل الإنسان بدلاً من الدين، بناء على ما قرّروه من تقديم الأخوّة الإنسانيّة على الأخوّة الإيمانية الدينية، وقد انتهى في هذا المقال إلى أنّ الإيمان بالإنسان ـ لا بالدين والعقيدة ـ هو المنتصر دائمًا(!!!).
وأخطر ممّا سبق وأشدّ وضوحاً ما سطّره أحدهم ـ وكان تكفيرياً ثم تحوّل بمقدار 180درجة إلى مرجيء غالٍ ـ في مقال له بعنوان: ( كثيراً من الإنسانية قليلاً من الرهبانية ) الرياض: 12928: يقول وهو يقرر مذهب الإرجاء: " إنّ الله يكفيه منّا أن نحمل الشعلة في قلوبنا، أن نكون دائماً على أهبّة الاستعداد للعكوف بمحرابه لنقدّم شيئاً ( لعياله ) لعباده، فهو غنيّ عن عبادتنا(!)".. فهو يزعم ـ مفترياً على الله ـ أنّ مجرّد حمل الإيمان في القلب كاف عند الله، دون الإتيان بالشعائر التعبدية المعروفة من صلاة وصيام وحج.. الخ
ويؤكّد ذلك فيقول: " الرسول r يذكر أنّ رجلاً دخل الجنّة لم يعمل خيراً ولا حسنة في حياته، وارتكب الكثير من الذنوب، ومع ذلك دخل الجنّة، لأنّهم وجدوا له بطاقة يعلن فيها صادقاً مخلصاً عن حبّه له وإيمان به: ( لا إله إلا الله ) ".. هذه هو فهمه لكلمة ( لا إله إلا الله )، وتالله لقد كان أبو جهل ومشركو قريش أعلم منه بهذه الكلمة، فلو أنّ مجرّد الإيمان بها في القلب كاف في دخول الجنّة، لما وقفت قريش بخيلها ورجلها في وجه رسول الله r، ولقالتها وظلت على شركها وطقوسها، ثم كيف يكون المرء صادقاً مخلصاً وهو لم يعمل بمقتضى هذه الكلمة، إلا أن يكون قد منعه مانع، أو حال بينه وبين العمل حائل، كمن أسلم ثم مات قبل أن يعمل ونحو ذلك، وعلى هذا يحمل الحديث المذكور، أمّا أن يطلق هذا الحكم، فهو أمر في غاية الخطورة، إذ فيه ترغيب للناس على ترك فرائض الإسلام من صلاة وصيام والاكتفاء بمجرد ترديد هذه الكلمة دون عمل، وهذا هو مذهب الإرجاء..
ثم يختم حديثه ـ وهذا هو الشاهد ـ فيقول: " لتعلموا أنّ ديناً لا يسعى لسعادة الإنسان لحفظ مصالحه الحقيقية، ليس إلا وبالاً، وتذكروا قول النبيّ محمّد r: (إنّ هدم الكعبة أهون عند الله من سفك دم مؤمن) كلّ المؤمنين من كلّ الأديان: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً..}، الإيمان عندي هو كثير من الإنسانية، قليل من الرهبانية، ربما يكون لحياتنا طعم آخر ".. ولا شكّ أنّ الدين الذي لا يسعى لسعادة الإنسان فهو وبال، ولكن ما الحل إذا رفض الإنسان هذا الدين، وأصرّ على دين باطل منسوخ محرّف يسعى لشقائه؟ ويبدو أنّ عدوى التحريف قد انتقلت إلى الكاتب نفسه فحرّف الحديث الشريف، كما حرّف معنى الآية الكريمة.. فأمّا الحديث فلفظه الصحيح: ".. أهون عند الله من سفك دم مسلم "، والكاتب حرّفها إلى ( مؤمن ) لتشمل جميع المؤمنين بزعمه من الأديان الأخرى ممّن أدرك النبيّ الخاتم، ثمّ راح يؤكّد تحريفه مستشهداً بالآية الشريفة التي لم يفهم معناها الصحيح، فإنّ المقصود بها من آمن بالله من الطوائف المذكورة في زمن نبيّهم قبل بعثة نبينا r،وليس بعد البعثة، وسبب نزول الآية يبيّن معناها، فقد نزلت في أصحاب سلمان الفارسي t، فإنّه لما قدم على رسول الله r جعل يخبر عن عبادة أصحابه واجتهادهم وقال: يا رسول الله، كانوا يصلون ويصومون ويؤمنون بك ويشهدون أنّك تبعث نبياً، فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم قال رسول الله r: " يا سلمان، هم من أهل النار "، فأنزل الله: {إنّ الذين آمنوا والذين هادوا..} وتلا إلى قوله: { ولا هم يحزنون }. (أسباب النزول للواحدي ص 13 )، فتبين من سبب النزول أنّ الآية نزلت في قوم من أهل الكتاب قبل مبعث النبيّ، كانوا يؤمنون بمبعثه، ويشهدون أنّه رسول من عند الله، لكنّهم لم يدركوه، فأين هؤلاء من قوم أدركوا بعثته، بل راحوا يسخرون منه r، ويصورونه في رسوم ساخرة بأنّه إرهابي، أو امرأة، ويتواطئون على ذلك غير مبالين بمشاعر الملايين من أتباعه؟!!!
أمّا مرجعيّة هذه الإنسانية عندهم، فيبيّنها أحدهم ـ وهو مقيم في لندن(!) ـ في مقال له بعنوان تفوح منه رائحة العلمنة والسخرية وهو: ( الإسلام السياسي وتجديد الأحكام السلطانية ) الوطن: 1188، يقول: " إنّ الأخذ بالمفاهيم الإنسانيّة يجب أن يكون على أساس عقلي في المقام الأوّل، بعيداً عن كلّ الاعتبارات المتعلّقة بالنصوص(!) " وليس هذا التأصيل بغريب عليهم إذا كانوا يطمحون إلى إحلال الإنسانية محلّ الرابطة الدينية، وتحطيم عقيدة الولاء والبراء.
السمة الخامسة
ـ وهي لب مشروعهم الذي يبشرون به ـ:
الدعوة إلى علمنة الحياة(5/210)
وإقصاء الدين بحيث لا يكون له أي سلطان على مناحي الحياة المختلفة، ومن هذا المنطلق فإنّهم يهزؤون من فكرة أسلمة العلوم ـ أي صبغها بالصبغة الإسلامية بعد تنقيتها من الشوائب الكفرية والإلحادية ـ، ويقللون جداً من شأن الإعجاز العلمي في الكتاب والسنّة، ويرفضون أن يكون ( الإسلام هو الحلّ )، ويحاربون كل من يرفع هذا الشعار، بل ويفسّرون التاريخ والأحداث بشكل عامّ تفسيراً سياسياً بمعزل عن الدين، وفيما يلي شواهد من أقوالهم على كلّ ما سبق:
يقول أحدهم في مقال له تفوح منه رائحة العلمانية بعنوان: ( ممارسة السياسة شأن مدني خالص ) الرياض: 13756: " من نافلة القول أنّ مثل هذه الشمولية لا تختصّ بها قومية معينة، أو دين بعينه، ولكنّ العبرة تكمن في النهاية في قدرة المجتمع من خلال تجاوز مرحلة تزييف وعيه، ومن ثم عبور ذلك الوهم الأيديولوجي عبر الإيمان المطلق بنسبيّة السياسة ووضعيتها، ومن ثم تعرضها للتغير والتبدل وفقاً لقوانين الاجتماع البشري وليس ثباتها المتوهم وفقاً لما يعرف بمفهوم الحقّ الإلهي في الحكم.." فالكاتب هنا يشير أوّلاً إلى ضرورة إقصاء الدين عن السياسة، وأنّ هذا الإقصاء لا يختصّ بدين بعينه، فيشمل حتى الإسلام، فلا يحقّ لأحد كائناً من كان أن يزعم أنّ ديناً بعينه هو الحلّ(!)، أمّا مفهوم الحقّ الإلهي في الحكم، فيريد به قول الله تعالى: { إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ..} فيرى أنّه وهم لا بدّ من تجاوزه(!)، أو على حدّ تعبيره في المقال نفسه: " إنزالها [ إي السياسة ] من السماء إلى الأرض "..
ثم لا يفوته في آخر المقال أن يعرّج على بعض خصومه التقليديين من الإسلاميين، الذين يرفعون شعار ( الإسلام هو الحلّ ) فيسخر منهم بحجج واهية لا تخلو من مغالطات وجهالات، ثم يختم المقال بطامّة كبرى من طاماته فيقول: "ويبقى القول بأنّه لا خيار في مجال السياسة الإسلاميّة إلا استخدام المنطق الذي أعلنه الرسول r في وجه مؤسلمي السياسة عندما أعلنها مدويّة بقوله ( أنتم أعلم بشؤون دنياكم ) وهو منطق مدني على أيّة حال.. " إنّه ـ لعمر الله ـ عبث بالنصوص، واعتداء على حرمة الدين، ومقام سيد المرسلين، فهل ترك النبيّ r السياسة لغيره واعتكف في مسجده، أم أنّه أقام دولة الإسلام، وجيّش الجيوش، وفتح الفتوح، وساس الأمة، أم أنّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كما صوّره الكاتب يقول خلاف ما يفعل ؟!!، وهل قوله r " أنتم أعلم بأمور دنياكم " مراد به أمور السياسة وشؤون الأمّة، أم المراد قضية عين في أمر دنيوي خالص لا علاقة له بالسياسة العامّة كما يدل على ذلك سبب الحديث؟.. إنّها مهزلة يجب إيقافها ومحاسبة أصحابها احتراماً لديننا وعقيدتنا..
أمّا المجتمع المدني الذي يدندنون حوله كثيراً، ويعدونه النموذج الأمثل للدولة الحديثة، فيصفه أحدهم ـ وهو متخصّص في الكتابة السياسية ـ في مقال له بعنوان: ( الخطاب الديني هل يستمرّ كعائق في الحرب على الإرهاب ) الوطن: 1160، بأنّه: " مجتمع مدني رحب، ليس هناك مساحة لأوصاف من قبيل: ( كافر )، أو ( مبتدع )، أو ( علماني )، أو غير ذلك(!).."، هذا هو المجتمع المدني الذي يريدونه، والذي لا يقوم إلا على أنقاض التوحيد، وعقيدة الولاء والبراء التي وصفها النبيّ r بأنّها أوثق عرى الإيمان، وكأنّهم لم يقرأوا قوله الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ }، ولكنّ هؤلاء القوم لا يعقلون، وإن كانوا يدّعون العقلانية.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله عند تفسير هذه الآية 1/398: " قيل لعمر بن الخطاب t إن ههنا غلاماً من أهل الحيرة ( أي نصراني ) حافظ كاتب فلو اتخذته كاتباً، فقال: قد اتخذتُ إذاً بطانة من دون المؤمنين.." قال ابن كثير رحمه الله: " ففي هذا الأثر مع هذه الآية دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين واطّلاع على دواخل أمورهم التي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب ".. هذه في مجرد الكتابة، فكيف بغيرها من شؤون الدولة ؟!! وهو أيضاً في الذمي الذي يدفع الجزية وهو صاغر، فكيف بمن يرى أنّه مساو لك في جميع الحقوق والواجبات في ظل مجتمعهم المدني المزعوم.
وفي سياق العلمنة يقول الكاتب نفسه في مقال له بعنوان: ( الحالة الدينية في السعودية.. ) الوطن: 1139: وهو يتحدث عن التفجيرات الأخيرة " هل كان هذا بسبب ذنوبنا حسبما يخبرنا رجال الدين(!) نعم، ولكن الذنب هذه المرة هو التطرّف الديني والغلو المتضخم(!) في ثقافة المجتمع. الذنب هو في القبول بصبغ الحياة الاجتماعية كلّها بصبغة الأيديولوجيا الإسلامية، والإصرار على إقحام الدين في شؤون الدنيا لإعاقة الحداثة "، إنّ إقحام الدين ـ حسب تعبيره ـ في شؤون الدنيا لإعاقة الحداثة المارقة ذنب عند هذا الكاتب، وهكذا تصبح العلمنة وإقصاء الدين عن شؤون الحياة حسنة يُدعى إليها.
ويقول آخر ـ وهو أشدّهم تطرّفاً وبذاءة ـ في مقال له بعنوان: ( الإرهاب من الفكر الخارجي إلى السلوك القرمطي ) الرياض: 13436: " ليس صحيحاً ما يروّج له الإسلامويّ(!) من أنّ الزجّ بالدين في كلّ صغيرة وكبيرة هو عنوان التدين الحقيقي، أو أنّ ممارسه والمتحمّس له من أفراد المجتمع هو الأكثر تديّناً من غيره ".. إلى أن يقول: " تحييد الديني في الوقائع المدنية(!) التي ليس فيها حكم شرعي صريح، أمر ضروري لئلا تمنح القداسة إلا للديني الخالص الذي نصّ عليه الشرع الحنيف..".. أنّها علمنة خفية، تتدثر بلباس العلمية، ولو أنّا أخذنا بقول هذا الكاتب، واقتصرنا على ما فيه نصّ صريح، لما بقي لنا من ديننا إلا القليل، وهذا ما يريده أهل العلمنة.. وإنّ من المعروف لدى صغار طلبة العلم، أنّ الشريعة جاءت بكليات تندرج تحتها جميع الجزئيات، فلم ينصّ الله تعالى على كل جزئية بعينها، إذ إنّ ذلك يطول ولا يكاد ينتهي، مع ما يستجدّ من الجزئيات التي لم تكن قد وجدت عند نزول النصّ، ومهمة العالم أن يرجع هذه الجزئيات إلى كلياتها، ليبين حكمها، وما من قضية ولا مسألة إلا وفي كتاب الله وسنة رسوله r بيان لها، إمّا بالنصّ الصريح، وإمّا بالتلميح من خلال الكليات المذكورة، قال تعالى : { ما فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ }، وقال تعالى { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً }.(5/211)
ويقول الكاتب نفسه في مقال له بعنوان: ( ما بعد الأيديولوجيا.. العقد الاجتماعي ) الرياض: 13702 بعد أن شتم السلفيّة أو ما أسماه بالوعي السلفي(!): " لا بدّ من التأكيد على مدنية حراكنا الاجتماعي، وأنّ العقد الذي يجب الالتفاف حوله هو العقد الاجتماعي المدني الذي يضمن التساوي في الحقوق والواجبات، لا طائفية، ولا مذهبية ولا مناطقية ولا جنسوية... لا بدّ أن ينغرس في أعماق كل مواطن أن الجميع متساوون جميعاً دون تعنصر من أي نوع، ولكل بعد ذلك خصوصياته التي يراها ويختارها، دون فرضها على الآخرين، ودون الإخلال بمبدأ المساواة المقدّس ".. فالكاتب يريد مجتمعاً بلا هوية ولا دين، يريد دولة لا دين لها، ولا فرق فيها بين المسلم والكافر ـ كما صرح بذلك غيره من أصحاب هذا الفكر ـ، ولا فرق فيها بين الموحّد والمشرك، وصاحب السنة وصاحب البدعة، بل لا فرق فيها بين الرجل والمرأة كما صرّح بذلك بقوله: " وخاصة التمييز الجنسي ضد المرأة في أي صورة كان ". ويضيف إلى ذلك ( المناطقية ) ليعزف على وتر حسّاس يثير الطائفية التي يحذر منها..
ثم يقول بعد ذلك: " لأجل ذلك؛ يجب أن تكون الخصوصية ـ أيّاً كان نوعها ـ بعد ذلك المقدّس وليس قبله، وإلا بقينا رهن صراع لا ينتهي.. لا بد أن يدرك المؤدلج أنّ العقد الاجتماعي المدني لا يمنحه أكثر من حريّة إبداء الرأي ( المؤدّب ) في سلوك الآخر، وبعد ذلك فليس على أحد بمسيطر ".. فالمقدس لديه هو هذا العقد الاجتماعي العلماني المزعوم، أمّا الدين والتوحيد فليس ذلك بمقدّس عنده، وإنّما هو مجرّد خصوصية تخص كل فرد على حدة، وليته يخبرنا ما الذي جعل رسول الهدى r يعاني في مكة وأصحابه ثلاثة عشر عاماً، ويصبرون على البطش والأذى والتعذيب والتشريد، وقد عرضت قريش عليه كلّ ما يريد مقابل تخلّيه عن دينه وعقيدته ودعوته، والتعايش السلمي معهم، مع الكف عن عيب آلهتهم، فيأبى حتى يقيم دولة الإسلام والتوحيد في المدينة، ومن ثم يعلن الجهاد على المشركين لرفع راية التوحيد خفّاقة، وإزالة كل مظهر من مظاهر الشرك، ولم يكتف بذلك بل يجهّز قبل وفاته جيشاً ضخماً لمحاربة الروم في الشام، وإخضاعهم لدين الله الحقّ ؟!.. سيقول هذا الكاتب وأمثاله: إنّ الزمن تغيّر، ولم يعد دين الرسول الكريم صالحاً لهذا الزمن، وهذه هي الطامة الكبرى والفجيعة العظمى التي حلّت ببعض أبنائنا، ليعتنقوا هذا الفكر المنحرف..
أمّا قوله: ( حرية إبداء الرأي المؤدب(!))، فذلك واضح جداً في أدبه الجم مع خصومه السلفيين والسلفية خاصة، فهو لم يترك شتيمة إلا رماها بها كما سبق ( انظر ص 14 )، فإذا كان هذا هو الأدب الذي يدعو إليه، فعلى الأدب السلام..
وفي هذا السياق نراهم يدافعون عن العلمنة، ويغضبون من ذكرها على سبيل الاتهام، مع أنّهم لا يتورعون عن كيل التهم جزافاً لخصومهم التقليديين ( السلفيين خاصّة والإسلاميين بشكل عام )..
يقول أحدهم في مقال له بعنوان: ( العلمانية تهمة جاهزة لكل من اختلف معهم ) الجزيرة: 12022: " لا أدافع عن العلمانية، لأنني أعتقد اعتقاداً جازماً بأنّ العلمانية على اعتبار أنّها ( فصل الدين عن السياسة ) مصطلح ( وافد ) إلينا من الخارج، وله دلالات فكرية وحمولات تاريخية تجعل من تطبيقه على غير المجتمعات ( المسيحية ) أمر لا بد من التوقف عنده، والتعامل معه بحذر.."، هكذا ينفي التهمة عن نفسه، وعن زملائه الذين يقررون كثيراً في كتاباتهم ـ كما سبق شيء من ذلك قريباً ـ ضرورة تحييد الديني عن المدني كما يقولون، وهو بهذا التعميم ينطبق عليه المثل القائل ( كاد المريب أن يقول خذوني).
ويقول آخر في مقال له بعنوان: ( الإسلاميون والمشاركة السياسية.. الحزب المسيحي الديمقراطي الألماني ) الوطن: : " أثناء وجودي في ألمانيا الشهر الماضي كان على مقربة من جامعة أيرلنجن حيث أتردد: مكتب حزبي للاتحاد المسيحي الديمقراطي الألماني. لقد ترددت بعض الشيء في دخول المقرّ سذاجة مني لتوهمي أنّه يشبه تلك التجمعات الإسلامويّة المتشددة الموجودة في بعض البلاد العربية، المليئة بالكتيبات والأشرطة الصوتية الصاخبة التي تتحدث عن الحكم بغير ما أنزل الله، وعفن العلمانية التي يتبارى نوابها في المطالبة بإيقاف الكاتب فلان، أو محاكمة السياسي علان، أو حتى في أوقات الاستراحة السياسية يتم التصعيد في البرلمان ضد راقصة أو مغنية بحجّة حماية الأخلاق ومراقبة الذوق العام.." ثم راح بعد ذلك يكيل الثناء لذلك الحزب النصراني الكافر، ويصفه بالحزب الناجح، ويدافع عن تسميته بالحزب المسيحي ( نسبة إلى المسيح u ) في دولة تدعي العلمانية ...!!!! إلى آخر ما ذكر.. ويلاحظ في ما نقلته من هذا المقال سخريته من إخوانه المسلمين المحتسبين الذين يتحدثون عن قضايا شرعية كالحكم بغير ما أنزل الله، وعفن العلمانية، والمطالبة بإيقاف الكتّاب المنحرفين ومحاكمتهم، ومحاربة العفن الفني من رقص وغناء ماجن.. كلّ ذلك يسخر منه الكاتب، ويعدّه تشدداً، فهذا هو مفهوم التشدد عندهم، في الوقت الذي يثني فيه على حزب نصراني زاره للمرّة الأولى، فراح يكيل له عبارات الثناء.. إنّها قلوب مريضة، غطتها ظلمات الشهوات والشبهات، فلم تعد ترى الأشياء على حقيقتها، نعوذ بالله من الخذلان.
أمّا تفسير الأحداث التاريخية والصراعات العقدية تفسيراً سياسياً ( علمانياً ) فهو ديدنهم للتقليل من شأن الدين والعقيدة، وقد كتب أحدهم مقالاً بعنوان: ( خدعوك فقالوا نجد والشرك !! ) الرياض: 1423، قرر فيه بصفاقة عجيبة أنّ دعوة الشيخ الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله إنما كانت صراعاً مريراً حول السلطة والسياسة، وليست ضد الدين. حيث كانت الحالة الأمنية قبل قيام الدولة السعودية ـ كما يزعم ـ تعيش في تأزم وتناحر وتصارع وقد وحُدت بحمده تعالى تحت كيان واحد. بينما كانت الحالة الدينية على مذهب أهل السنة والجماعة ولم يدخل نجداً ما ذكر عنها ابن غنام وغيره من وجود الخرافات والشركيات المنتشرة في جنباتها..!!! هذا ملخّص ما ذكره.وهكذا بجرّة قلم يبطل هذا الأفّاك الأثيم كلّ جهود الشيخ في محاربة الشرك ومظاهره التي كانت منتشرة في نجد، ورسائل الشيخ تنضح بالكثير من هذه الجهود التي يراها الأعمى قبل البصير، لكن هؤلاء عميت بصائرهم، مع سلامة أبصارهم إلا إذا كان يتهم الشيخ بالكذب فتلك طامة آخرى أعظم وأطم.. ثم إنّ السياسة جزء لا يتجزأ من الدين كما سبق، فالفصل بينهما كالفصل بين الروح والجسد، لكنّ هؤلاء المتعلمنين لا يفقهون.
ولم يسلم من هذا التفسير العلماني السقيم حتى إئمّة السلف، فبمثل هذا التفسير فسّروا فتنة خلق القرآن التي تعرّض لها أئمّة السلف وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، حيث ذكروا أنّ الأمر لا يعدوا أن يكون صراعاً سياسياً محضاً بين أهل الحديث وأهل الاعتزال على السلطة، وليس للدين ولا للعقيدة شأن بهذا الصراع إلا من باب ذرّ الرماد في العيون كما يزعمون.. المهم عندهم ألا يكون للدين ولا للعقيدة سلطان على الحياة، لأنّ ذلك يزعجهم كثيراً، وهذا هو الذي يسعى إليه أعداء الإسلام من اليهود والنصارى لإخماد جذوة الإيمان والعقيدة في نفوس المسلمين، ومن ثم يسهل التغلّب عليهم واختراقهم، وما هذه الفئة المارقة إلا بمثابة الطابور الخامس لهؤلاء الأعداء كما سبق، كفانا الله شرّهم.(5/212)
وأختم الحديث عن هذه السمة بطامة أخرى أتى بها أحدهم ـ وهو كاتب له روايات أفتى عدد من علمائنا بكفر ما في بعضها ـ، يقرر هذا الكاتب في مقال له بعنوان: ( من خطاب التدمير إلى خطاب التعمير ) الشرق الأوسط: 8952 ، أنّ: " منطق الدولة الحديثة متناقض مع منطق الدين " ثم يوضح ذلك قائلاً: " منطق الدولة محدود ومحدد، ومنطق الدين هو المطلق ذاته، وتأتي الكارثة للدولة والدين معاً حين محاولة الدمج بين منطقين لا يلتقيان، وهنا تكمن معضلة الإسلامويّة(!) المعاصرة وجوداً لا عقلاً .."..
وعلى الرغم من العلمنة الواضحة فيما ذكر، مع الجهل الفاضح بدين الإسلام وحقيقته؛ إلا أنّه يحاول أن ينفي هذه التهمة عن نفسه على طريقة ( كاد المريب أن يقول خذوني ) فيقول: " قد يقول قائل هنا: إذن فهي دعوة للعلمانية!، والحقيقة أنّ القضية لا علاقة لها بعلمانية أو أصوليّة إذا كانت الغاية هي البحث عن جواب يخرجنا من المأزق أو المآزق التي نحن فيها .." وهكذا بكل بساطة ينفي التهمة الساطعة كالشمس عن نفسه إذ الغاية عنده تبرر الوسيلة، ولو كانت هذه الوسيلة هي الإساءة إلى ديننا وانتقاصه، والافتراء على نبينا r ليرضى عنّا أعداؤنا !!.
السمة السادسة:
الإعجاب بمن يسمّونه ( الآخر )
وحبّه، وكيل الثناء عليه بغير حساب، والدعوة إلى احتذائه حتى في ثقافته وأخلاقه، ويريدون بالآخر في الغالب: الغربي الكافر صاحب الحضارة الماديّة، والعقل الفلسفي، وهذا الإعجاب نتاج طبعي للهزيمة النفسيّة، والصدمة الحضارية التي أصابتهم، وعقدة النقص التي تلازم قلوبهم المظلمة الممتلئة بالشهوات والشبهات، ونحن لسنا ضدّ الاستفادة من علوم الآخرين فيما لا يتعارض مع ديننا وعقيدتنا، لكنّ هؤلاء فهموا الحضارة فهماً ناقصاً مغلوطاً، فاختزلوها في صناعة طائرة أو سيارة أو صاروخ، أو أيّ آله من الآلات الحديثة، أو في بناء ناطحات سحاب، أو تقدم طبي أو تقني، وكلّها أمور مادية يمكن لأيّ أمّة وأيّ شعب اللحاق بها والوصول إليها إذا تهيأت له الظروف المناسبة، وسلم من هيمنة هذا الآخر وجبروته وكيده..
إنّ الحضارة الحقيقية هي التي تجمع بين التقدّم المادي التقني، والسمو الروحي والأخلاقي، وهذا الأخير هو ما تفتقده الحضارة الغربية المعاصرة التي بلغت الحضيض في تردّي الأخلاق وموت الروح، فهي كما وصفها سيد قطب رحمه الله: كطائر ضخم، أحد جناحيه كبير يرفرف في السماء، والآخر مهيض كسير لا يكاد يقوى على الحركة، فماذا سيكون حاله سوى التخبط وإيذاء من حوله، وهذا هو حال الحضارة الغربية اليوم حيث إنّها ـ مع ما فيها من الجوانب الإيجابية المضيئة ـ نشرت الخراب والدمار، ونشرت معه أسوأ الأخلاق من تفسخ وعري وفساد أخلاقي.
وليس الغرب ملوماً في إقصاء الدين عن الحياة، فقد كان الدين الذي يدينون به محرّفاً، يحارب التقدّم المادي النافع، ويقتل المبدعين والنابغين في العلوم الطبيعية التي لا تتعارض مع ثوابت الدين الصحيح، ولذا فإنّه لا خلاص للبشرية اليوم، ولا سبيل لها إلى الوصول إلى الحضارة الحقّة المكتملة التي تجمع بين التقدّم المادي التقني، والسمو الأخلاقي والروحي إلا بأن تعتنق هذا الدين الحقّ ( الإسلام ) الذي تكفّل الله بحفظ مصادره، وجعله الدين الوحيد الذي لا يُقبل سواه، قال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }[ آل عمران: 85].(5/213)
وفي هذا السياق يحاول أحدهم بجهل فاضح أن يؤصّل لهذه المسألة تأصيلاً شرعياً(!!)، فيزعم في مقال له بعنوان ( المقاومة الفكرية للإرهاب ) الرياض: 13561، أنّ الأصل في الولاء والبراء " موالاة ( الكافر ) المسالم الموادع مهما كانت ديانته"، وفي مقال آخر له بعنوان: ( فلسفة الولاء والبراء في الإسلام ) الرياض: 13546، أتى بما هو أطم، فيقول: " والرسول r عندما أرسل صحابته الأول إبان الفترة المكية إلى الحبشة اتقاء لشر قريش قال لهم إنّ فيها ـ يعني الحبشة ـ ملكاً لا يظلم عنده أحد، ولم يبرر إرساله لصحابته بإسلام المجتمع الحبشي بدليل أن ذلك المجتمع ظل حتى وفاة النجاشي نصرانياً خالصاً مما يؤكد(!) أن الولاء حين ينصب على العلاقة مع الآخر فهو يدشن لموالاة المسالم والبراءة من المعتدي بغض النظر عما يدين الله به وهذه العلاقة السلمية ـ الأهلية منها والدولية ـ المبنية على الولاء للمسالم والبراء من المعتدي منظمة بشكل واضح لا لبس فيه في القرآن الكريم إذ يقول تعالى في الآية الثامنة من سورة الممتحنة: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }[الممتحنة:8]، وهي إشارة إلى موالاة الآخر(!) المسالم الملتزم بشروط العلاقة السلمية ببرّه والقسط إليه.. " إلى أن يقول: " هذا هو المسار الصحيح(!) لمفهوم الولاء والبراء المتكيف مع أصول الإسلام وغاياته العظام(!) " إلى آخر ما ذكر، وأنا أتحدّى هذا الكاتب وغيره أن يأتي بنص واحد من كتاب الله أو سنة رسوله r يدعو إلى موالاة الكفار أياً كانوا، بل إن نصوص الكتاب والسنة تحذر من موالاة الكفار بإطلاق كما في قوله تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ }[آل عمران:28]، وقوله في سياق الحديث عن المنافقين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً }[النساء:144]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }[المائدة:51]، بل في السورة نفسها التي استشهد الكاتب بآية منها قال الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ }[الممتحنة:4]، والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً، وذلك أنّ مقتضى الموالاة: المحبة والنصرة، وذلك لا يصدر من مؤمن لكافر على الإطلاق، وإنّما الذي أذن الله فيه تجاه الكافر المسالم: البر والعدل كما قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }[الممتحنة:8]، ويوضح معنى الآية سبب نزولها، فقد أخرج البخاري عن أسماء بنت أبي بكر y، قالت: أتتني أمي راغبة، فسألت النبيّ r : أأصلها؟ قال: " نعم " فأنزل الله فيها: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ }. فإذا كان للمسلم أب كافر أو قريب أو جار ونحو ذلك، ولم يكن محارباً، فلا حرج على المسلم أن يحسن إليه ويبره ولا يظلمه، لكن أن يحبه وينصره أو يفضله على إخوانه المسلمين مهما كانوا عاصين، فذلك خلل عقدي عظيم، وهذا هو حال هذه الفئة الضالة، كما سبق قريباً من تفضيل أحدهم الحزب المسيحي الديموقراطي الألماني على من أسماهم تهكماً بـ (الإسلامويين ) المتشددين الذين يتحدثون عن عفن العلمانية، ويطالبون بمحاكمة الكتّاب المنحرفين فكرياً !!!.
ثم هل الكافر الذي ( يوالونه ) الآن مسالم حقّاً، أم أنّّه يقتل المسلمين بالأسلحة المحرمة دولياً، ويسخر من نبي الإسلام في رسوم سخيفة ماجنة ؟؟؟؟؟، بل ويهين المصحف في معتقلات غير شرعية ولا قانونية.. فأين عقول هؤلاء؟!!!.
وبمناسبة ذكر الآخر ( الكافر ) يلاحظ في مقال هذا الكاتب الذي امتد من أعلى الصفحة إلى أسفلها بما يزيد عن نصف المتر أنّه لم يذكر لفظ ( الكافر ) بتاتاً بناء على مذهبهم في ضرورة التخلي عن هذا المصطلح الشرعي الأصيل الذي امتلأ به القرآن والسنة، والعدول عنه إلى ألفاظ مثل: ( الآخر )، و ( غير المسلم )، وما شابه ذلك حتى لا يغضب هذا الآخر، بل بعضهم (يتوّرع ) عن اعتقاد كفر اليهود والنصارى، ويعدهم مؤمنين و(إخوة) لنا في الإنسانية(!)، كما مر سابقاً.
أمّا قضية النجاشي، والهجرة إلى الحبشة، فلا علاقة لها بموضوع الولاء والبراء. وذكرها في هذا المقام من الخلط العجيب، فإنّ المسلم إذا لم يتمكن من إظهار دينه في بلد فله أن يهاجر إلى بلد آخر يتمكن فيه من إظهار دينه، وهذا قبل أن تقوم للإسلام دولة تحكم بشرع الله، فإذا قامت الدولة فلا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، كما قال الصادق المصدوق r، فما علاقة ذلك بالولاء والبراء ؟!!.
ويقول آخر ـ وهو من أصحاب التحولات الإنفراجية ـ في مقال له في غاية السذاجة بعنوان: ( نحن وأمريكا والديموقراطية ) الشرق الأوسط: 9212 مدافعاً عن الآخر الكافر: ".. الغرب حينما يدعم الديموقراطية، ويفكر في وضع هذا الجزء من العالم، فليس ذلك من قبيل التبشير أو الاهتداء بروح الأم تيريزا، قدر أنها مصلحة غربية جوهرية تكمن في إنقاذ الشرق الأوسط المتعثر(!!!) "، وعلى الرغم من أن الآخر النصراني ممثلاً في زعيمه صرّح بأنّ الحرب على العالم الإسلامي حرب صليبية، إلا أنّ هؤلاء ( العقلانيين ) لا يزالون أشدّ إخلاصاً للآخر من الآخر نفسه، حيث يعدونه في سذاجة واضحة (جبهة إنقاذ) للشرق المتعثر!!!!.
ولم يكتف هذا الكاتب بالثناء على ( الآخر ) وديمقراطيته المزعومة، بل راح ينتقص دينه الحق ( الإسلام ) ومبدأ الشورى المذكور في القرآن، يقول: " طُرحت فكرة الشورى كبديل أصيل عن الديموقراطية، ولكن اتّضح(!) أنها تختلف اختلافاً فلسفياً ومفارقاً للديموقراطية، فرفضت من الإسلاميين الأصلاء(!)، والليبراليين الخلصاء(!)، أمّا الأخيرون فبحجة أنّ الشورى أبعد ما تكون عن العقد الاجتماعي والمشاركة الشعبية الواسعة، فهي ليست إلا تدبير أهل الحلّ والعقد، وهم طبقة ضيقة من كبار القوم والملأ.." إلى آخر ما ذكر.
السمة السابعة
الجهل(5/214)
فعلى الرغم من أنّهم أشدّ الناس تعالماً وادّعاءً لفهم النصوص ومقاصد الشريعة، ورميهم العلماء وطلاب العلم السلفيين بالضدّ من ذلك!!؛ إلا أنّهم أكثر الناس جهلاً بالنصوص وبالمقاصد وبالناسخ والمنسوخ والعام والخاصّ والمطلق والمقيّد من نصوص الشريعة، كما تشهد بذلك كتاباتهم، والسر في ذلك أنّ معظمهم ليسوا من أهل التخصّص الشرعي، فإذا انضاف إلى ذلك الهوى وتمكن الشبهات من قلوبهم؛ كانت الطامة أكبر، وفيما يلي بعض الأمثلة على جهلهم بالنصوص الشرعيّة:
1. في مقال لأحدهم بعنوان: ( الذين يجلدون المختلفين معهم في الرأي بإطلاق التهم) الرياض: 13698، يقول: " أُعطي الرسول r جوامع الكلم، وهي ميزة خصّه الله تعالى بها من بين سائر الأنبياء والمرسلين u، فهو r يقول الكلمة أو اللفظة الواحدة لتكون جامعة لمعاني ومتطلبات موضوع بأكمله، ومن بين ما أخبر به r في ألفاظ قصيرة، لكنّها حملت معاني عظاماً، قوله r : ( الدين المعاملة ).. ".. ثمّ بنى مقاله على ما زعم أنّه حديث، وجزم بنسبته إلى رسول الله r !! وهو ليس بحديث، وإن اشتهر على ألسنة العامّة، بل إنّ معناه في غاية البطلان لمن تأمّله بعقل منضبط بالشرع، لا بعقل منفلت كعقول هؤلاء الزاعمين بأنّهم عقلانيون، فإنّ مقتضى هذا الحديث المزعوم أنّ الكافر إذا كان حسن المعاملة فهو مسلم ومتدين، والمسلم إذا كان سيء المعاملة ليس بمسلم، لأنّ المقصود بالدين هنا هو الإسلام كما قال تعالى: { إن ّالدين عند الله الإسلام }، وقد ثبت في صحيح مسلم في كتاب الإيمان، عن عائشة t قالت: قلت: يا رسول الله، ابن جدعان؛ كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذاك نافعه ؟ قال: " لا ينفعه. إنّه لم يقل يوماً: ربّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين ". فلم ينفعه حسن خلقه، وإحسانه للناس مع كفره.
2. وفي مقال آخر بعنوان فضائي: ( الحوار الوطني: سيرة وانفتحت ) الرياض: 13702، يقول الكاتب نفسه: " من غير المجدي وفقاً لمعطيات العمران البشري أن تقسر شخصاً على رؤية معينة، لمجرّد أنّك تعتقد بصوابها، فهذا الآخر الذي تودّ قسره على رؤيتك يملك من الأدلّة والطرائق الحكمية(!) ما يستطيع بها نفي صوابية ما تعتقده حتى وإن كنت لا تؤمن بمرجعيته الدلالية بنفس الوقت الذي لا يعترف فيه هو أيضاً بمرجعيتك في استنباط أدلة تصويبك لرؤيتك، وإذا كان الله تعالى يأمر نبيّه الكريم بأن يعتزل مقام مشركي قريش حين يخوضون في آيات الله تعالى حتى يصرفوا حديثهم إلى جانب آخر، ولم يأمره بحربهم أو قسرهم على رؤيته ممثلاً بقوله تعالى: { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره... } أفلا نترك نحن غيرنا أحراراً ...".. فاستدلاله بهذه الآية في غاية البطلان، ودليل على جهله الفاضح ـ أو تجاهله ـ لنصوص الشريعة، والمراحل التي مرّت بها الدعوة، فماذا يصنع هذا الكاتب بمثل قوله تعالى في سورة التوبة: { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كلّ مرصد.. }، وقوله في السورة نفسها: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ }، وقوله r :" أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله.. " الحديث، وقوله: " لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحقّ أطراً " أي تقسروهم عليه قسراً، يعني العصاة، فضلاً عن المبتدعة.. وليس في دين الله تعارض، ولكنّ الواجب أن تنزل النصوص منازلها، فاعتزال المشركين كان في العهد المكي، وأما آيات القتال والأطر على الحقّ ففي العهد المدني، وبهذا يتبين جهل هؤلاء بمدلولات النصوص مجتمعة، فكيف يؤتمنون على توجيه الناس في صحف سيّارة !!!!!.
3. وفي مقال بعنوان: ( هل الحضارة الإسلامية حضارة شاملة ؟) الجزيرة: 11980، كتب أحدهم ـ وهو وللأسف الشديد من سلالة الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله !!! ـ مقللاً من شأن الحضارة الإسلامية يقول: " الثقافة الإسلامية ثقافة فقه ولغة، وليست ثقافة كشف واختراع وابتكار على مستوى المنجزات الدنيوية.." إلى أن يقول: " وهذا ما نلحظه بوضوح من خلال القراءة لكبار العلماء الدينيين المسلمين، فالإمام ابن تيمية رحمه الله ـ مثلاً ـ اتّخذ موقفاً مناهضاً بشدّة لعلم الكيمياء.." إلى آخر ما ذكر، وهو دليل على جهل فاضح، لأنّه ظن أنّ الكيمياء التي ذكرها ابن تيمية رحمه الله هي الكيمياء المعروفة اليوم، وليس الأمر كذلك، فالكيمياء التي ذكرها شيخ الإسلام نوع من الغشّ، وصناعة ذهب مغشوش يشبه الذهب الذي خلقه الله، وبيعه على الناس على أنّه ذهب خالص، ولذا قال الشيخ رحمه الله: " وأهل الكيمياء من أعظم الناس غشاً، ولهذا لا يُظهرون للناس إذا عاملوهم أنّ هذا من الكيمياء، ولو أظهروا للناس ذلك لم يشتروه منهم.. " إلى آخر ما ذكره رحمه الله.
4. وفي مقال بعنوان: ( فلا يلومنّ إلا نفسه.. فلسفة جديدة ) الوطن: 1173، كتب أحدهم ـ وهو طبيب يكثر من الحديث عن الدين والعبث بالآيات ـ كتب بعد أن ساق الحديث القدسي ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي) يقول: " وما يدفعني إلى سرد هذا الحديث فكرة التمعت في ذهني أن أفعل ما فعله النووي، فهذا الرجل جمع أربعين حديثاً اشتهرت باسمه، وهي رياض الصالحين..".. وهذا جهل فاضح، فهو يظن لجهله أنّ كتيب الأربعين النووية الصغير، هو نفسه كتاب رياض الصالحين المجلّد الضخم، وكلاهما للإمام النووي رحمه الله، وصغار طلاب العلم يعرفون الفرق بينهما.
5. وفي مقال بعنوان ( ذكريات غير صحوية وحديث عن الثبات والتحوّل ) الرياض: 12722، كتب أحدهم منظرّاً ـ وكان من هواة التكفير والتفجير ثم أصبح من غلاة المرجئة ـ يقول: " وقد نسمع أحياناً وصف الآخرين بالفسق أيضاً. وفي القرآن الكريم لم يأت وصف الفسق إلا في حقّ الكفّار والمشركين كما في سورة السجدة، غير أنها في فترة متأخّرة جرى التوسّع في استخدام لفظ الفاسق على المسلم الذي يأتي بعض المخالفات الشرعية..".. وهذا جهل فاضح، وجرأة على كلام الله تعالى، وقد يعجب هذا الكاتب إذا علم أنّ وصف الفسق جاء في القرآن الكريم في حقّ أحد أصحاب رسول الله r وهو الوليد بن عقبة t، كما في قوله تعالى في سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }، وذلك باتّفاق المفسّرين. ولكنّ الجهل داء لا دواء له.
6. وفي نفس المقال يقول هذا الكاتب: " لبس جوارب اليدين أصبح اليوم دلالة على عفّة المرأة، وشدّة تديّنها، في وقت سابق لم تكن النساء تعرف ذلك.. " وهذا من جهله، فقد كان هذا معروفاً في زمن النبوّة، فقد صحّ عنه r أنّه قال: " لا تنتقب المحرمة، ولا تلبس القفازين "، ففيه دليل بيّن على أنّ الصحابيات كن يلبسن القفازين لكمال الستر، وإنّما نهين عن ذلك وقت الإحرام.
هذا غيض من فيض من جهلهم بالنصوص الشرعيّة، وكيفية تعاملهم معها، ومع كلام الأئمة، ولو ذهبت أستقصي جهلهم، من خلال كتاباتهم لطال بي الأمر..(5/215)
والعجيب أنّهم على الرغم من جهلهم الواضح الذي سبق الكثير منه؛ إلا أنّهم يزعمون أنّهم أكثر فهماً للإسلام ممّن شابت لحاهم في تعلّم العلم الشرعي، ومزاحمة العلماء بالركب، بل أكثر فهماً للإسلام حتى من العلماء الكبار، مع أنّ جلّ أصحاب هذا الفكر قد عاشوا ردحاً من الزمن في بلاد الغرب لتعلّم تخصّصات غير شرعية قد تكون مفيدة في مجالها لكنها لا تؤهل صاحبها للحديث عن الأمور الشرعية الدقيقة.. وفي هذا السياق كتب أحدهم ـ وهو رئيس تحرير إحدى صحفهم ـ في مقال له بعنوان: ( الأسهم تقول إنّهم أقليّة محدودة ) الرياض: 13770 يقول: " نحن جميعاً مسلمون.. بل إنّ معظم الليبراليين هم أكثر فهماً للإسلام وسعياً لحلّ مشاكله وتقديمه بصورته الحضارية للعالم الأجنبي..!! " قال ذلك في أعقاب تصدي بعض العلماء له في محاضرة أقيمت في فعاليات معرض الكتاب الدولي بالرياض.. والليبراليون يعني بهم نفسه وزمرته.
بل إنّ أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرّفاً ـ كتب مقالاً بعنوان: ( الجهل كخطاب: مقاربة أولية لنماذج وصور واقعية !! ) الرياض: 14136، رمى فيه جامعاتنا الإسلامية بأنّها معاقل لتفريخ الجهل وإنتاجه، يقول: " إن هذا يتم في نطاق المؤسسات العلمية، أو التي تدعي ذلك، حيث يتم استيراد آليات البحث العلمي، بل أحدثها، ووضعها في خدمة خطاب الجهل. وجراء ذلك، تعتمد الأطروحات، وتناقش في أجواء تشي بالعلمية، بينما هي تستخدم في تعزيز مستوى أعلى وأشد تعقيداً من الجهل الذي لا بد من تفكيكه من زوايا كثيرة، ليس أقلها كشف زيف ادعاء العلمية )!!! ".
وكان سبب هذا الهجوم وهذا التجهيل الجماعي لمؤسساتنا العلمية، أنّ بعض الأساتذة الغيورين حذّر من بعض الكتب المنحرفة فكرياً، وطالب بمنعها في معرض الكتاب وغيره، حيث يقول الكاتب: " لم نستطع أن نفهم كيف ينادي أستاذ جامعي، قضى عقوداً من عمره في القراءة، بضرورة منع هذا الكتاب أو ذاك. لن نستطيع أن نفهم؛ كيف يسمح له ضميره (العلمي!) بمصادرة حق الآخرين في الاختيار القرائي، ما لم نع أن بنيته الذهنية - رغم جامعيتها وقرائيتها - تكونت عبر خطاب الجهل. يحدث هذا، بينما رجل الشارع الذي ليس لديه أدنى اهتمام قرائي، يفتح فاه متعجبا، كيف يكون الكتاب محظوراً، وكيف تكون المعرفة محرمة!. وهذا دليل على أن رجل الشارع أقل جهلاً من ذلك المشتبك منذ عقود مع خطاب الجهل )!!! " وهكذا يجعل رجل الشارع مقياساً للحكم، ولا أدري كيف يصنع بحديث عمر الخطّاب ـ رضي الله عنه ـ لمّا رأى معه النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ كتاباً أصابه من بعض أهل الكتاب، قال له مغضباً: "أمتهوّكون فيها يا ابن الخطّاب ؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية.. "، أخرجه أحمد وغيره وهو حسن بشواهده، فإذا كان هذا مع عمر الفاروق الذي أجرى الله الحقّ على لسانه؛ فكيف بغيره من الشباب والمراهقين ومن ليس عنده حصانة شرعية كافية!! .
وسيأتي المزيد حول هذه المسألة في مبحث خاص بإذن الله تعالى.
السمة الثامنة:
تنزيل الآيات التي جاءت في حقّ الكفرة من المشركين وأهل الكتاب والمنافقين، على خصومهم المؤمنين من العلماء والدعاة وطلبة العلم:
وقد سلك هذا المسلك أشدّهم تطرّفاً وحقداً على السلفية، ففي مقال له بعنوان: (التفكير وإشكالية الوصاية ) الرياض: 13065، شتم فيه السلفية عدة شتائم، يقول: " إنّ ما نراه في الخطاب التقليدي ـ السائد ثقافياً على المستوى الشعبوي(!) خاصّة ـ من محاولة التقليدية البلهاء ـ المتلبّسة بصيانة الأعراف والتقاليد و.. الخ ـ فرض الوصاية على أعين الناس، وعلى آذانهم، وألسنتهم وأقلامهم ليس بدعاً في سلوك المنظومة التقليدية أياً كانت طبيعتها، فهي ـ دائماً ـ تسعى لتعطيل هذه الحواس التي هي نوافذ العقل، ومنها يستمد العقل مادته وتجتهد في لتقنيتها في أتباعها بفرض الوصاية عليها ليصبح الناس ـ إذا تعطلت لديهم فاعلية هذه الحواس ومن ثم تعطل العقل ـ كالأنعام بل هم أضل وهذه الحال شعر الأيديولوجي التقليدي أو لم يشعر منتهى الأماني لديه ". فهو يرى أن تحصين الناس من الأفكار المضللة، وحمايتهم منها، ضرب من ضروب الوصاية، ويرى أن ترك الناس بلا تحصين كافٍ ليعتنقوا مثل أفكاره المنحرفة التي يدعو إليها، ويدافع عنها، لذا فهو يرى أنّ : " مفردات من نوع ( الإرشاد/ التوجيه/ الرعاية الفكرية/ الأمن الفكري/ التحصين ضد الأفكار الهدامة/ مروجي الشبهات/ التغريب/ البرامج الهابطة/ العهر الفضائي ) " مفردات تستخدمها الثقافة التقليدية ( السلفية ) في وقوفها ضد الفكر الحديث ( يعني فكره العفن ) وصدق والله، فهو تحصين ضد الأفكار الهدامة ومروجي الشبهات من أمثاله، وهذا هو سر عدائه للسلفية..
والشاهد هنا من مقاله تنزيل الآية التي وردت في الكفار وهي قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ }[الأعراف:179]، وقد أنزلها في الناس السلفيين الذين يفرض عليهم السلفي ( التقليدي ) ـ كما يزعم هذا الكاتب ـ وصايته، وسيأتي المزيد من الحديث عن الوصاية لاحقاً بإذن الله تعالى..
وفي مقال له بعنوان: ( واحذرهم أن يفتنوك ) الرياض: 13128، وهو جزء من آية في سورة المائدة، نزلت في اليهود وأذنابهم من المنافقين، وقد أنزلها في خصومه السلفيين، في مقال شتم فيه السلفية على عادته، وقد سبق الحديث عن هذا المقال..
وفي مقال له بعنوان: ( من صور التطرف والاعتدال ) الرياض: 13282، سخر فيه من بعض مناصحيه من السلفيين، إضافة إلى شتم السلفية، والثناء على رموز التغريب؛ لم يكتف بآية واحدة، بل ثنّى بآيتين، إحداهما قوله تعالى: {اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }[البقرة:15]، اقتصر على آخرها، وقد أنزلها في ما يراه ضحايا للمدرسة السلفية، وأطلق عليهم ( الأبرياء المذنبون ) حيث يجري توظيفهم من حيث لا يشعرون(!)، يقول: " في الغالب لا يكون التوظيف مباشراً ومقصوداً، بل تفعل المنظومة التي يجري الترويج لها فعلها بقوة الدفع الذاتي فيها، دون أن يشعر بنوها أنهم في طغيانهم يعمهون "(!).
ثم يختم مقاله باتهام الناصح له بالتكفير فضلاً عن بذيء السباب(!)، على الرغم من أنه في هذا المقال يصف الصحوة الإسلامية بالمتأسلمة أو ما أسماه بـ ( تيارات التأسلم ) و(تيار الجمود والارتياب )، وهي تهمة تعني عدم الإسلام الحقيقي.
أما السباب؛ فقد ضمّن مقاله هذا عدداً لا بأس به من الشتائم للسلفية، إضافة إلى تهم الإرهاب وغيره، فضلاً عما في سائر مقالاته من السباب البذيء ليس للأشخاص فحسب، بل للمذهب والمعتقد، وبعد أن اتهم ناصحه بالتكفير والإرهاب(!) راح ينزل عليه آية نزلت في المنافقين، يقول: " أَتَذَكّر كل هذا وأقول: صدق الله العظيم القائل: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ }[التوبة:57 ] "، وهكذا يرمي كل من اختلف معه تارة بالآيات التي نزلت في الكفار، وتارة بالآيات التي نزلت في المنافقين، ثم يرميهم بتهم التكفير والإرهاب(!!!!)، فأي إرهاب فكري أعظم من هذا الإرهاب.(5/216)
وفي مقال له بعنوان: ( ما بعد المعركة الخاسرة ) الرياض: 13303، شتم فيه السلفية على عادته، وتشفّى مما حدث في الفلّوجة من قتل ودمار، وسبب هذا التشفّي أنّ الفلّوجة تعدّ معقل السلفيّة في العراق، ثمّ أنزل عليهم آية نزلت في المنافقين بأسلوب تهكّمي ساخر، يقول: " انتهت معركة الفلّوجة، معركة خاسرة بلا ريب، انتهت معركة. ومعارك أخرى غيرها على صورتها ( صورة طبق الأصل ) في الانتظار ما دامت بيانات الحماس الديني والقومي تشعل أوارها، ومؤتمرات الأحزاب الحالمة تنفخ فيها بالكثير من غبائها التاريخي المجيد!. الإسلاموي(!) والقومي كلاهما نسي التاريخ خاصّة إذا ما كان تاريخ هزائم وعبر، مع أنّه تاريخ ليس بالبعيد، إنهم يفتنون في كلّ عام مرّة أو مرّتين ثمّ لا يتوبون ولا هم يذكّرون "(!!)، وهذه آية من سورة التوبة نزلت في المنافقين.
وفي مقال له بعنوان: ( الاتصال والانفصال بين الديني والمدني ) الرياض: 13324، تفوح منه رائحة العلمنة، يذكر فيه إشكالية العلاقة بين الديني والمدني عنده هو، وعلى عادته في شتم خصومه وتنزيل الآيات التي في الكفار عليهم، يقول: " حلُّ الإشكال يتمّ من خلال الوعي بدرجة تعقيده، لا بتبسيطه أو تجاهله في سبيل الأدلجة الماكرة بأصحابها قبل أن تمكر بغيرهم، وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " وهذه آية من سورة إبراهيم نزلت في المشركين !!!.
وفي مقال له بعنوان: ( المرأة من الأيديولوجيا إلى الإنسان ) الرياض: 13758، وعلى عادته قام بشتم السلفية، وعدّها ( الخصم الأيديولوجي الشرس ) للمرأة، ثمّ أنزل عليها آية نزلت في حقّ الكفار، يقول: " قبل استفحال الأيديولوجيا المتأسلمة ( ويعني بها الصحوة الإسلامية المباركة ) كانت المجتمعات على براءتها الأولى ( يعني الجهل والغفلة ) صحيح أنها كانت محكومة بأعراف وتقاليد تحدّ من حريّة الإنسان، وترسم له كثيراً من الخطوط التي قد لا يرضاها، لكنّها ـ على كلّ حال ـ كانت بريئة من الارتياب الذي يقود إلى التزمّت(!) وإلى خلق مسارات للمجتمع ما أنزل الله بها من سلطان [ ليته ذكر بعض هذه المسارات ] وليست إلا من اتباع الظنّ، والظنّ لا يغني عن الحقّ شيئاً "..
وهكذا يشبّه هذه الصحوة المباركة التي قامت برعاية علمائنا الكبار من أمثال الإمام عبد العزيز ابن باز والعلامة محمّد العثيمين وغيرهما من الأموات والأحياء؛ بحال المشركين الذين قال الله فيهم:{إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنثَى * وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً }[ النجم: 27، 28 ]، ألا يعدّ هذا ضرباً من ضروب التكفير، أو في أقل الأحوال: التضليل الذي ينهون عنه من أجل إقامة مجتمعهم المدني المزعوم؟!!!.
والعجيب أنّ أحدهم كتب مقالاً في الجريدة نفسها بعنوان: ( الشيخ السعدي وميتافيزقيا اللغة ) الرياض: 13058، اتهم فيه الشيخ العلامة المفسّر عبد الرحمن ابن ناصر السعديّ ـ رحمه الله ـ بإنزال الآيات الواردة في أذى المشركين والكفار للمؤمنين الصالحين، على قومه الذين ثاروا عليه وآذوه، وعدّ الكاتب ذلك معضلة، وأنّ الشيخ ـ رحمه الله ـ أخطأ طريق الإصلاح(!!!).. أمّا عنوان كتاب الشيخ السعديّ الذي انتقده هذا الكاتب النكرة فهو: ( الإيضاحات السلفية لبعض المنكرات والخرافات الوثنية المنتشرة في قضاء الظفير )، ويلاحظ من خلال هذا العنوان أنّ القوم الذين أنزل الشيخ السعدي عليهم الآيات ذوو خرافات وثنية، أي أنّهم أهل شرك وخرافة، ولو أنّ هذا الكاتب بدلاً من التنقيب في كتب الأئمّة الأعلام، واتّهامهم بما هم منه براء؛ نظر إلى كتابات زميله في الصحيفة الذي نقلتُ بعض مقالاته آنفاً، وهو يقوم في القرن الحادي والعشرين بتنزيل الآيات التي نزلت في الكفّار والمنافقين على المختلفين معه من أصحاب العقيدة السلفية؛ لو أنّه نظر إلى هذه الكتابات، لوجد فيها ضالّته التي أراد إنكارها، إن كان هذا هو مراده حقّاً، لكنّه عمي عن الجذع في عينه وعين زميله البذيء، وأبصر الذرة في عين غيره، بل أبصر الوهم، فيا لله العجب كيف يفكّر هؤلاء، وكيف يحكمون !!.
والأعجب من ذلك أنّ الكاتب الأوّل نفسه في مقال له بعنوان ( الوحدة الاستراتيجية في التحالف الإرهابي ) الرياض: 13856، اتّهم بعض علمائنا الأجلاء بأنّهم ينزلون الآيات التي نزلت في المنافقين على أناس يعترفون بأنّهم أبناء مجتمعنا(!!) ثمّ يقول: " نسمع ونقرأ مثل هذا، ثمّ نسأل من أين يأتي التكفير.."، وهو الذي ما فتىء في مقالات كثيرة ينزل الآيات التي نزلت في المشركين واليهود على هؤلاء العلماء الأجلاء وغيرهم من عامّة السلفيين، فالحمد لله الذي جعله يحكم على نفسه بأنّه تكفيريّ جلد، بل خارجيّ كما ذكر في مقال له بعنوان ( بيانات التطرّف وبيان الاعتدال ) الرياض: 13863، بأنّ هذه الصفة من صفات الخوارج المارقين، ولا شكّ بأنّ هذه الفئة الليبرالية الاعتزالية الضالّة، خارجة مارقة عن جماعة المسلمين في هذا البلد السلفي الأمين.
السمة التاسعة:
عدم قبول النصيحة، والسخرية من الناصحين، وبغضهم، والتشهير بهم
بل وصلت الوقاحة بأحدهم ـ وهو أشدّهم تطرّفاً ـ إلى التندّر بأشكالهم وخَلْقهم الذي هو خلق الله ـ عزّ وجلّ ـ!!
ففي مقال له بعنوان: ( من صور التطرّف والاعتدال ) الرياض: 13282 ذكر فيه صورًا عدّة لمن ناصحوه، فسخر في إحداها من رجل فاضل حذّره من عميل الفكر الغربيّ طه حسين ( أعمى البصر والبصيرة ). وفي صورة أخرى سخر فيها من قريب له ناصحه(!) ـ وهو شيخ فاضل وأستاذ في العقيدة ـ بل أظهر الرحمة والشفقة عليه(!) لأنّه كما يقول: " ضحيّة ثلاثين عامًا من الاشتغال على الصراع العقديّ ". وهكذا يصبح المشتغل بتصحيح العقيدة، وكشف فرق الضلال ضحيّة، ولا أدري ضحيّة ماذا؟!! ثمّ واصل سخريته باتّهام شيخ العقيدة بالتكفير، وبذيء السباب، وهو الذي ما فتىء يسب ويشتم السلفية وأئمّة السلف في صحيفة سيّارة!!
ثمّ يواصل في الجزء الثاني من مقاله ( من صور التطرّف والاعتدال ) الرياض: 13289 السخرية من الناصحين فيذكر قصّته مع أستاذ العقيدة في جامعته الذي زاره في البيت لمناصحته، وأطال عنده الجلوس، وهو لم يقرأ كتاباته ـ الرواية من طرف واحد ـ، إلى أن قال: " ولولا رقّة في أخلاقه، وسماحة تندى بها ملامحه ( لم تكن سماحة، وإنّما كانت بلادة وبلهًا وخمولاً ) لطردته غير آبه.. "، بهذه البذاءة يصف علنًا من جاء يناصحه سرًا ويحذّره من كتاباته البذيئة، وأفكاره المنحرفة.
ولم يكتف بذلك، بل واصل سخريته واستهزاءه ذاكرًا أنّ اللقاء استمرّ ساعات طويلة، وصف ما تمّ فيها بأنّه " من الهراء الميّت الذي لا طعم ولا رائحة له، ولم يكن للكلام من دور فيها إلا تحسين العلاقات الثنائية بين الطرفين عاطفيّاً لا فكريًا..".
ثمّ يضيف ساخرًا ـ وما أقبحها من سخرية ـ: " وكنت في تلك الأثناء وأنا أنظر إليه، لا أستمع إليه، بقدر ما أتأمّل مقدار ما تحمله تلك العيون الخاملة، والأهداب الذابلة، والجفون المسترخية، من معاني الغباء والبلادة والخمول التي تكاد لكثافتها أن تمتدّ بعدواها إلى متأمّلها، بل والجماد حولها "!!!! فهل ثمّة بذاءة ووقاحة أعظم من هذه البذاءة والوقاحة، وفي صحيفة سيّارة؟ لا أظنّ.(5/217)
ثمّ ختم هذه الصورة باتّهام هذا الأستاذ الناصح بالتكفير، وهي تهمة جاهزة لكلّ من أقدم على نصح هذا الكاتب، وتحذيره من مغبّة ما يكتب، ومن أمن العقوبة، أساء الأدب.
وفي مقال ساخر لأحدهم بعنوان ( حرّاس الله !! ) الوطن: 293، ـ والسخرية بادية من العنوان ـ سخر فيه من أحد مناصحيه، بعد أن نشر هذا الكاتب النصيحة على الملأ، ثمّ عقّب على هذه النصيحة قائلاً بسخرية سمجة سخيفة: " يا رب ليس لنا إلا أنت، نحتمي بك سبحانك من ( حرّاسك )..".
وعلى عادتهم في قلب الحقائق والتلبيس على الناس وإلقاء التهم جزافاً، فقد اتّهم مناصحه بالحكم على نواياه وما في قلبه قائلاً: " ولكنّ ( حرّاسك ) يؤذون قلوبنا حين يدّعون معرفة ما فيها، وكأنّهم أنت والعياذ بالله ممّا يصفون.. "، مع العلم بأنّ هذا الكاتب قد كتب عدّة مقالات تهجّم فيها على المحاكم الشرعيّة، وسخر فيها من الحجاب!! والناس ليس لهم إلا الظاهر، أمّا ما في القلوب فعلمه عند الله تعالى.
وفي مقال لأحدهم بعنوان: ( الفرق بين العادة والعبادة ) الرياض: 13883، سخر فيه من شابّ ناصحه، يقول هذا الكاتب: " بينما كنت أيمّم وجهي شطر باب المسجد هامًّا بالخروج منه بعد انقضاء إحدى الصلوات؛ اندفع إليّ شابّ حدث لا يكاد يتجاوز الثامنة عشرة من عمره، وبدأ في إبداء نصائحه لي تجاه ما يراه أخطاء وقعت بها أثناء قضاء ما فاتني من الصلاة، وهي في الحقيقة لم تكن أخطاء بقدر ما صوّرت له ذهنيته الآحاديّة أنّها كذلك..". وهكذا نجد أنّ التهم عند هؤلاء جاهزة لإلصاقها بالناصحين، فبدلاً من تقبّل النصيحة بصدر رحب، وشكر الناصحين عليها، نراهم يسخرون منهم علنًا في صحف سيّارة، ويرمونهم بالتهم الجائرة. وحتى لو كان هذا الناصح مخطئاً أو مستعجلاً، كان الواجب تشجيعه على هذه الروح الناصحة، المشفقة على الغير، وتعليمه الطريقة المثلى للنصح، بدلاً من السخرية به، وكيل التهم له، انتصارًا للنفس.
السمة العاشرة:
التناقض الصارخ فيما يأمرون به وينهون عنه
وهو نتاج طبعي للتخبط، واختلال المنهج، والبعد عن منهج الحقّ، فكلمّا كان المرء قريباً من منهج الحقّ؛ كان أقلّ تناقضاً في أقواله وأفعاله، والعكس صحيح: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً }[ النساء: 82].
ومن ذلك:
1. أنّهم ينهون عن التضليل والتبديع والتفسيق، وهم يفعلون ذلك، فيبدّعون العلماء والدعاة وطلاب العلم الذين هم على منهج السلف، وقد كتب أحدهم مقالاً نشره في أحد مواقع الأنترنت المشبوهة، وتواطأت الصحف المحليّة على نشره، وكان عنوان المقال (الصحوية والصحويون!! ) الجزيرة: 12318، شكّك فيه بالصحوة الإسلامية المباركة، وضمّنه الكثير من المغالطات والافتراءات والتهم والنقولات المبتسرة، وفاحت منه رائحة العلمنة، خلص فيه إلى ما نصّه: " ممّا تقدّم يتّضح لنا بجلاء أنّ الصحوة هي التي فجّرت منابع الإرهاب، وأنّ أدلجة المذهب السنّي أدلجة سياسية محضة هي قلب الصحوة النابض، وأنّ فكرة التنظيم - الكهنوت هو الوسيلة، وهو أسّ البلاد، وأنّ استثمار قضايا المرأة السعوديّة هو استثمار سياسي بحت، وأنّ مذهب أهل السنّة والجماعة شيء، والصحوة في جوهرها وأهدافها شيء آخر ".
وهكذا بجرّة قلم يحكم الكاتب الصحفيّ(!) على قطاع كبير من مجتمعنا يمثّل الأغلبيّة من العلماء والدعاة والصالحين ومن يثق بهم من سائر أبناء مجتمعنا، وهم عامّة الناس، بل على مجموعات كبيرة في العالم أجمع تفتخر بانتمائها إلى هذه الصحوة ولله الحمد، يحكم عليهم بأنّهم ليسوا على مذهب أهل السنّة والجماعة، وإنّما هم شيء آخر، أي ضلاّل مبتدعة، ولعمر الله إنّ هذا لشيء عجيب، وقلب واضح للحقائق المبينة، فالذين ينافحون عن مذهب أهل السنّة والجماعة وسلف الأمّة أصبحوا اليوم ليسوا من أهل السنّة والجماعة، أمّا الذين يطعنون في مذهب أهل السّنّة والجماعة وسلف الأمّة كابن تيمية الذي قال عنه هذا الكاتب ـ كذباً وزوراً ـ إنّه يحرّم الكيمياء المعروفة اليوم(!) والذين يبالغون في الثناء على الغرب، فهم الهداة المهتدون، وهم أهل السنّة عند هذا الكاتب، فأيّ تناقض بعد هذا التناقض.
2.
البحث لما يكتمل.....
(1) صواب الآية: ( يا أيها الناس اتقوا ربّكم الذي خلقكم من نفس واحدة.. ) [ النساء: 1 ].
=============
برنارد لويس: حملاتنا الصليبية ضرورة لوقف انتشار الإسلام
شبكة نور الإسلام
أكد الكاتب والمحلل السياسي الإنجليزي الأصل الأمريكي الجنسية "برنارد لويس" أن الحملات الصليبية قديماً وحتى بعد أحداث 11 سبتمبر كانت ضرورة ملحة لوقف موجات الإسلام من أن تنتشر في مناطق كثيرة من العالم وبالأخص مناطق أوروبا، ووصف الحملات الصليبية الغربية والأمريكية علي منطقة الشرق الأوسط بالمتأخرة.
ونشرت صحيفة "وول ستريت جورنال" مقالاً قالت فيه: إن "برنارد لويس"(90 عاماً) المؤرخ البارز للشرق الأوسط قد وفر الكثير من الذخيرة الأيديولوجية لإدارة بوش في قضايا الشرق الأوسط والحرب على الإرهاب، حتى أنه يُعتبر بحق منظرا لسياسة التدخل والهيمنة الأمريكية في المنطقة.
قالت الصحيفة إن "لويس" وصف هجرة المسلمين إلى أوروبا بأنها هجوم إسلامي على الغرب، ودافع عن الحملات الصليبية معتبرا أنها تقليد متأخر ومحدود و ناجح للقضاء علي الجهاد' أدت إلى منع نشر الإسلام في كثير من مناطق العالم.
أضافت الصحيفة: إن لويس قدم تأييدا واضحا للحملات الصليبية الفاشلة وأوضح أن الحملات الصليبية، على بشاعتها، كانت رغم ذلك ردا مفهوما على الهجوم الإسلامي خلال القرون السابقة، وأنه من السخف الاعتذار عنها.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يشير فيها "لويس" إلى الحملات الصليبية باعتبارها ضرورة، بل محاولة ناجحة للحد من نفوذ الحضارة الإسلامية.
فبعد وقت قصير من هجمات 11 سبتمبر كتب "لويس" يقول: إن الحملات الصليبية يمكن وصفها بشكل أكثر دقة باعتبارها ردا محدودا ومتأخرا، وفي التحليل الأخير غير فعال، للرد على الجهاد.
ويؤكد البعض أن تكون كتب لويس المشتبكة مع تاريخ الشرق الأوسط والسياسة قد دعمت السياسة الخارجية الكارثية لإدارة بوش في الشرق الأوسط.
ومن بين التحليلات المهمة للوجود السياسي لبرنارد لويس في فترة ما بعد 11 سبتمبر ما كتبه "إيان بوروما" في مقال بعنوان "فُقد في الترجمة" والذي نُشر في صحيفة "نيو يوركر" في 2004، وقد وصف "بوروما" في مقاله هذا "لويس" بأنه صديق للعديد من رؤساء الوزراء الإسرائيليين، كما قال "بوروما": إن البعض سعى إليه بعد 11 سبتمبر، حيث دعاه "كارل روف" للحديث في الشرق الأوسط، كما أن ديك تشيني من بين المعجبين به، مضيفا: أن "لويس" ساند صديقه أحمد الجلبي من أجل القيام بدور رئيسي في العراق.
كما انتقد "مايكل هيرش" المحرر الكبير في" نيوزويك" برنارد لويس بحدة في مجلة "واشنطن منثلي" قائلا: إن سوء قراءة أمريكا للعالم العربي -ومصيبتنا في العراق- ربما تكون قد بدأت في 1950".
وطرح لويس في زيارته إلى تركيا تصور نصراني غربي مفاده "ديمقراطية عربية مُعلمَنة ترمي بقيود الإسلام التي تعود إلى القرون الوسطى وتدخل المدنية أخيرا".(5/218)
وأشار هيرش إلى أن المنطق الأساسي للإدارة في احتلالها للعراق، بعد الفشل في العثور على أسلحة دمار شامل، كان هو ما أطلقت عليه وول ستريت جورنال "عقيدة لويس"، ولكن بدلا من أن ينتج عن هذا "حكومة غربية، يتم تشكيلها وفرضها من أعلى مثل تركيا الكمالية، تكون حصنا لأمن أمريكا ونموذجا للمنطقة" أشار هيرش إلى أن ما يُسمى بعقيدة لويس، التي تم تطبيقها في العراق من خلال الاحتلال، "انتقلت من (مجتمع) علماني إلى مجتمع يتزايد تشددا وأسلمةً".
ورغم أن قليلا من المراقبين وثيقي الصلة بالشرق الأوسط يقولون إن فكرة إيجاد شرق أوسط علماني وديمقراطي أمر مرغوب، فإن منتقدين يشيرون إلى أن ظروف تفكك الإمبراطورية العثمانية كانت مثالا فريدا في تركيا، وأن ثمة عوامل أدت إلى تعقيد التطور السياسي للشرق الأوسط بشكل كبير، مثل إنشاء الكيان الصهيوني والاحتلال الأجنبي للشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية (وخاصة فيما يتعلق بالنفط)، وسياسة الحرب الباردة، وسقوط الحكومات المنادية بالقومية في الشرق الأوسط.
ورغم أن مصطلح "صدام الحضارات" يرتبط عادة بالمفكر المحافظ صمويل هنتنجتون، فإن لويس كان هو من قدم التعبير أولا إلى الخطاب العام، ففي كتاب هنتنجتون الصادر في 1996، يشير المؤلف إلى فقرة رئيسية في مقال كتبه لويس في 1990 بعنوان "جذور الغضب الإسلامي" قال فيها: هذا ليس أقل من صراع بين الحضارات، ربما تكون غير منطقية، لكنها بالتأكيد رد فعل تاريخي على منافس قديم لتراثنا اليهودي المسيحي، وحاصرنا العلماني، والتوسع العالمي لكليهما.
وقد طور لويس روابطه الوثيقة بالمعسكر السياسي للمحافظين الجدد في الولايات المتحدة منذ سبعينيات القرن العشرين؛ حيث يشير جريشت، من معهد العمل الأمريكي، إلى أن لويس ظل طوال سنوات "رجل الشئون العامة"، كما كان مستشارا لإداراتي بوش الأب والابن.
وفي 1 مايو 2006 ألقى تشيني خطابا يكرم فيه لويس في مجلس الشئون العالمية في فيلادلفيا؛ حيث تذكر تشيني أن لويس كان قد جاء إلى واشنطن ليكون مستشارا لوزير الدفاع في ذلك الوقت بشأن الشرق الأوسط بعد غزو العراق للكويت.
وقال تشيني: "لقد قررت في ذلك اليوم أن هذا رجل أريد أن أكون على اتصال به، وأنه ينبغي أن أتابع عمله بدقة في السنوات القادمة"، وفي 1998 وقع لويس خطابا أرسلته لجنة السلام والأمن في الشرق الأوسط إلى الرئيس بيل كلينتون يطالب بـ"إستراتيجية سياسية وعسكرية شاملة لإسقاط صدام ونظام حكمه".
ومن بين الموقعين على هذا الخطاب صقور البيت الأبيض، منهم ريتشارد بيرل وجون بولتون ودونالد رامسفيلد وفرانك جافني وبول وولفيتز وويليام كريستول وروبرت كاجان وإليوت أبرامز ودوجلاس فيث وزلماي خليل زاد.
يُشار إلى أن لويس، وهو أستاذ متقاعد في جامعة برنستون، ألف 20 كتابا في الشرق الأوسط، من بينها "العرب في التاريخ" و"صعود تركيا الحديثة" و"اكتشاف المسلمين لأمريكا" و"الصدام بين الإسلام والحداثة في الشرق الأوسط الحديث" و"أزمة الإسلام: حرب مقدسة وإرهاب غير مقدس".
==============
ماذا قدم الإسلام للمرأة ؟
أخواتي الكريمات: حديثنا اليوم إليكن حديث قديم جديد مألوف متكرر أنه مساحة للحوار وفرصة للتشاجي والتشاكي حول قضية من أصخم القضايا المطروحة على الساحة الفكرية، ألا وهي المرأة. خاض فيها من خاض وبحث فيها من بحث وقال فيها من قال بحق حينا وبباطل أحياناً أخرى وادعى إنصاف المرأة وتباكى على حقوقها الضائعة المسلوبة زعموا بدموع التماسيح طائفة من الأقلام تطوعوا للدفاع عن قضيتها أعني المرأة تطوع الفضولي الذي لم يفوض وإن شت قلت كتيبة من الكتاب المجندين من عملاء الفساد والتخريب {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ}. والجميل هذه المرة والرائع في هذا البحث والحوار أن الذي يناقش قضية المرأة هي المرأة نفسها، هي تعرب عما في نفسها وتتحدث عما في خاطرها دون وصي أو ولي فتعالين: نتعرف على البداية وما هي قضية هذه المعركة! هكذا صورت معركة هي حقا معركة سلاحها الأقلام والأفهام ووقودها النساء والمداد وساحتها جبهة عريضة من وسائل الإعلام بشتى صورها وأنماطها وإن كان هذا الاستعراض غير مطلوب مني وقد يتداخل في المساحة المقررة لأخريات ولكنها مقدمة لا بد منها فلتحتملنها ولو على مضض.
أولاً وقبل كل شيء: لنعرف أن الحضارة التي يدعى إليها في هذا العصر حضارة غربية وإن شئت قلت حضارة إباحية كافرة، حضارة أجنبية يهودية ونصرانية شاء ما شاء وأبى من أبى حقا إن الحضارة الآن تكتب من الشمال كما يقولون. ومع ذلك الانفجار العلمي والتقني الهائل الذي بهر العقول بمنجزاته وصناعاته والذي يحمل الماركة الغربية التي شع منها شعاع الحضارة المادي المعاصر، مع ذلك كله طفح على الساحة فيض من الأفكار المنجرفة المنحرفة والتي أرادت أن تتعامل مع الإنسان ومنه المرأة كما تتعامل مع الآلة تماما وأرادت أن تخضع قيمة وأخلاقه بل وعقائده للتجارب كما تخضع عناصر المادة لذلك في المعامل والمختبرات ومع استيراد الآلات والمصانع من الغرب للشرق وردت أو استوردت أخلاق غريبة عجيبة في الإنسان والكون والحياة بهر الشرق بها كما بهر بالمنجزات الغربية واعتبرت مسلمات ثبوتية لا تقبل النقاش ويكفي لكثير من الناس في الشرق المهزوم مبرراً لصحتها إنها وردت من الغرب وهبت معها رياح التغيير. ولئن كان للتمرد على الدين والقيم في الغرب إبان التحول من القرون الوسطى وعصور الظلمات إلى العصر الصناعي والثورة العلمية ما يفسره ولا يبرره أقول يفسره ولا يبرره، فهل يوجد في شريعة الإسلام وبلاد المسلمين مثل ذلك اليوم.
أخواتي الكريمات:(5/219)
إن الكنيسة الغربية النصرانية خرجت على الناس في العصور الوسطى بنظريات أبعد ما تكون عن روح الشريعة ونقاء العقيدة في الكون والحياة والإنسان نظريات في الوجود تصادم الحقائق العلمية الثابتة ونظريات في الكون تصادم المحسوس والملموس ونظريات في الإنسان والمرأة بالذات تعارض الفطرة والدين مثل الأساقفة والكرادلة والبابوات والأباطرة هل المرأة لها روح أم لا؟ هل هي كائن شيطاني أم إنساني؟ هل وهل؟؟ إلى غير ذلك من النظريات التي أصيخت بها الأسماع وشغلت بها الساحات الفكرية وامتحنت بها العقول على طريقة الجدل البيزنطي المشهور. هل الدجاجة من البيضة أم البيضة من الدجاجة، وأيهما كان أولاً، والويل كل الويل لمن كذب أو يرتاب فصكوك الحرمان والمقاصل جاهزة معدة وكلها تحت رواق الكنيسة رمز الدين والإيمان ومع إشراقة شمس الحضارة الإسلامية على العالم ومنه على أوروبا الغارقة في ذلك الوقت في غياهب الجهل والخرافة والتزمت استيقظت أوروبا وكان العالم في الظهيرة وحان في ذلك تنفس عظيم لمجموعات البحث والكشف العلمي المضطهدة والتي كنت تتململ في قمقمها وأكتشف الناس كذب وزيف هذه النظريات بانبلاج شمس الحضارة (وشمس الحقيقة تحرق المغالطات). فثار الناس في أوروبا على الكنيسة والبابوات والأباطرة المتواطئين معهم لتقاطع المصالح وتلافيها بينهم، ثاروا ثورة عارمة على الدين كله فكانت (العلمانية) فصل الدين عن الدولة في المدنية الحديثة، ثاروا على الكنيسة التي حرمت العلم الصحيح والتفكير السليم التي ظلمت المرأة وتتبعتها بالحرب والإبادة بحجة أنها عنصر شرير فاسد.
أقول مجدداً: أخواتي الكريمات إن كان لهذه المعركة في قضية الكون والحياة والوجود ما يفسرها في عالم الغرب فهل يوجد هذا في عالم الشرق إن كان لهذه الثورة على الكنيسة ما يعلله فهل يوجد لحرب المسجد من مبرر إن كان لإعلان الثورة على النصرانية أسباب فهل يوجد سبب واحد لإعلان الحرب على دين الإسلام. أخواتي: هكذا أردت أن أرجع بكن إلى الوراء لتتبع فلول القضية وجمع شتاتها حتى لا تفهم مبتورة مجردة أنها قضية ضخمة كبيرة خطيرة ليست قضية خاصة بالمرأة وحدها.
فأولاً أقول: ينبغي تقرير مسألة أحسبها فاصلة في القضية وهي: أن أحداً أو محوراً قد يتفوق في جانب الحياة دون جانب ولا يعني تفوقه في جانب تفوقه في كل الجوانب. نقترب من الحقيقة أكثر: لنفترض أن الغرب حاز السبق في الصناعة والتقنية وسجل إنجازاً واضحاً فهل يعني ذلك أن جميع ما جاء منه من نظريات ودراسات اجتماعية ومدنية وأخلاقية حق لا يقبل النقاش؟ وهكذا حلا للبعض أن يصور لكن نظرة إلى واقع الغرب ونظره إلى منهج الإسلام تنسف كل هذا الفهم المغلوط من القواعد. نظرة إلى الأسرة الغربية وما تعيشه من جحيم التفكك والتمزق والقطيعة والنظرة إلى المجتمعات الغربية وما تحياه من أثرة وجشع وأنانية يسحق العجزة والضعفاء والأيتام والمعلقات والمطلقات والمعوقات تحت جنازير الحياة الرأسمالية البائسة التافهة الحقيرة، مثلها أو قريب منها في الشرق الاشتراكي. ونظرة إلى شباب الغرب وما يعيشه من مخدرات وعلاقات وصداقات محرمة. ونظرة إلى المرأة وما تعيشه من بؤس وشقاء واستضعاف إلى درجة الاستبعاد وإقحام لها في مجالات الرجال بحجة المساواة حتى زاحمن الرجال في سفلتة الطرق وقيادة الشاحنات وقطع الصخور وحتى قطعت يديها الآلات والمكائن وشحب لون وجهها وأذهب أنوثتها دخان المصانع وغبار الطرق ناهيك عما تعيشه من وضع أخلاقي مدمر، ومعذرة مرة أخرى على تجاوز الموضوع المقرر ولكنها مقدمة ضرورية أقول نظرة إلى هذا كله ثم كرة أخرى إلى شريعة الله الطاهرة المطهرة كما هي في القرآن والسنة تكذب ذلك الفهم المنكنوس والفكر المنحوس وتدحضه وتدفعه فإذا هو زاهق فلكم الويل مما تصفون. نظرة الإسلام للمرأة والآن إلى نظرة الإسلام للمرأة أقدمها باجتهاد شخصي ونظرة قاصرة فإن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن الشيطان والله ورسوله منه بريئان.
أخواتي العزيزات: ينبغي أن نفهم أولا وقبل كل شيء: أنها مسألة دينية إلهية لا بد فيها من استسلام العبد والأمة إلى الإله المعبود والتحاكم إلى شرعه والإسلام يعني الاستسلام على منهج الخليل: إذ قال له ربه { أَسْلِمْ َ } قال {إأَسْلَمْتُ}ولا تثبت قدم الإسلام على ظهر التسليم والاستسلام، ومن شغب على الشريعة وعاند الله في شرعه وضاد الخالق في حكمه فذلك خارج عن الإسلام ملحد بالله العظيم، والله يقول {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} أي الطائعين لله المستسلمين لحكمه ويقول المولى أيضاً: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُسْتَقِيمٍ} فالمنازعة مرفوضة، والمعاندة مردودة ومن نازع في حكم الله ورسوله في المرأة فهو كمن ينازع في عدد الصلوات والركعات وانصبة الزكوات. إذ تقرر هذا فإن الإسلام حدد نظرته للمرأة من خلال المعالم والسمات التالية:
أولاً: إن المرأة شقيقة الرجال، قال رسول الله صلى الله عليه ونسلم : "إنما النساء شقائق الرجال" {صحيح أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي عن عائشة وأخرجه البزار من حديث انس نحوه بلفظ مقارب}. وهي مخلوقة من عنصر الرجل ومادته لا فرق بينهما في أصل الخلق {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً}. {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا}.وبهذا يفهم البون الشاسع والبحر الواسع بين الإسلام والنصرانية المحرفة التي تشكك هل المرأة عنصر طاهر أم رجس أم نجس؟ وهل هي كائن شيطاني أو إنساني؟ وهل لها روح أم لا ؟ الخ….(5/220)
ثانياً: الله سبحانه وتعالى فرق ين تكوين المرأة والرجل نفسياً وعقلياً ومزاجياً ووظيفيا وجعل بينهما فرقا كبيراً بين تكوني الليل إذ يغشى النهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى إن سعيكم لشتى فشتان بين الرجل بصلابته وجلده وشدته وقوته وبين المرأة وأنوثتها وضعفها وسرعة انفعالها وتأثرها وحيضها ونفاسها، وهذه ليست عيوبا ولكنها أمور خلقت في المرأة وبهذا يعلم بأن لكل عمله المناسب ووظيفته اللائقة والمداخلة بينهما ظلم وجور وإجحاف صارخ وإذا أردتن فهم المسألة فأقلبنها وبضدها تتبين الأشياء. ولن أتكلف البحث عن الأدلة الشرعية على ضعف المرأة عقليا وبدنيا ونفسيا وهي موجودة ومفورة لكن اكتفى بالنظرة إلى الواقع والتاريخ والحياة وأعنى هنا الأغلب والحكم للأغلب وإلا فرب امرأة خير من ألف رجل ثم إن هذا الضعف ليس نقصاً ولا عيباً فيها ولكن فطرة الله سبحانه وتعالى له الحكم عديدة لا يحيط بها حصر أو وصف. أقول كم عدد المخترعات من النساء وما نسبة المؤلفات منهن إلى الرجال، وهل عرف منهن قائدات جيوش؟ وصانعات حروب وفاتحات مدن؟ إلا النزر اليسير وما نسبة السياسيات البارعات ورئيسات الدول حتى لدى الدول التي صدرت لنا منها هذه الأفكار الجانحة في أمريكا مثلاً، هل أعتلي عرش الجمهورية رئيسة واحدة منذ عهد (إبراهام لنكولن) و(جورج واشنطن) إلى اليوم. فلماذا يا أمريكا عدم الثقة بالنساء أم أنه نداء الفطرة الغالبة القاهرة.
ثالثاً: ساوى الإسلام بين الرجل والمرأة تماما في التكاليف الشرعية وذلك من حيث الثواب والعقاب والخير والشر فلا تحمل نفس جريمة غيرها ولا تزر وزارة وزر أخرى يتبين هذا من خلال حشد هائل من نصوص المصدرين مثال لذلك: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}. {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً}.{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}. غير أن هاهنا نقطة تسجل لإسلامنا العظيم وشريعته الغراء وهي: أنه أعفى المرأة اعترافاً بضعفها من المهام الشاقة والوظائف الصعبة التي كلف بها الرجل من ذلك الجهاد، صلاة الجماعة والجمع والعمل والقوامة مثلاً، ومع ذلك فلها أجر الجهاد كاملاً غير منقوص، قالت عائشة رضي الله عنها : يا رسول الله نرى الجهاد أفضل الأعمال أفلا نجاهد قال: "لكن أفضل من الجهاد حج مبرور" وفي رواية قالت: هل على النساء جهاد؟ قال: "عليهن جهاد لا قتال فيه، الحج والعمر"، ثم أن هناك أمور أعفيت منها المرأة صيانة لها وحفاظا علهيا كالأذان والإقامة فإنهما لا يشرعان للنساء. فما أروع شريعتنا وديننا إذا راعت الحال للجنسين وكلفت بمقتضاها، تنزيل من حكيم حميد {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}، تصورون يا أخواتي لو كان الجهاد علينا فرض كالرجال، من التي تسل سلاحها، من التي ترد رماحها، إنها لا تستطيع ملازمة ساحة المعركة ولا تنطح العدو ولا تطيق من ذي تطيق نطاحها الحرب باشباحها ومخاوفها وصياحها ولهذا أراحها الله وأباحها إن أقبلت أشباحها، أو أزهقت أرواحها، أو ودعت أفراحها.
رابعاً: أن الإسلام كرة المرأة وأعزها بحق وحقيقة بما لم تظفر به في شريعة ما قديماً وحاضراً وحظيت بمكان ومكانة عظيمة في شريعة الله الخالدة وانتشلها الإسلام من وضع جهنمي مأساوي كانت تعيشه قبل تكريم الإسلام لها ولنضرب من الواقع أمثلة يتضح بها سمو مكانة المرأة في الإسلام. ففي شريعة حمورابي الملك الأشوري لا يسمح للمرأة بالخروج من بيتها إلا مع زوجها أو إلى قبرها، وفي شريعة الرومان كما سبقت الإشارة إليه واليهود يعاملونها على أنها رجس من عمل الشيطان وإذا حاضت لا تخالط ولا تؤاكل ولا تعاشر، فقال عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: "خالفوا اليهود واصنعوا كل شيء إلا النكاح" ولدى النصرانية يعتبرون المرأة أصل الخطيئة وأنها أغوت آدم حتى أكل من الشجرة وفي أسفارهم المكذوبة على الله في التوراة والإنجيل إن الله عاقبها على ذلك بآلام الحيض والنفاس والوضع والولادة. وفي الجاهلية العربية يعدونها من سقط المتاع لا يملك بل تملك كسائر المتاع فإذا مات زوجها تسابق الورثة عليها فمن ألقى رداءه عليها أولا ملكها ولا تعطى من الإرث شيئاً يقولون كيف نعطي من لا يركب فرساً ولا يحمي عشيرة ولا ينكأ عدوا ولا يحمل سيفاً! وإذا بشر أحدهم بظل وجه مسودا وهو كظيم وربما وأدها حية في التراب ولهم في ذلك أخبار بشعة، فجاء الإسلام حاميا لها بتعاليمه التي أحدثت ثورة عارمة على وضع مأساوي تعيشه المرأة فأعطاها الحق في الميراث {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً}. وحماها بعد الولادة وندد بأفعال الجاهلين في وأدها وأعتبرها جريمة كبيرة وعظيمة وسيسألون عنها: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيم * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} ، {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ}.(5/221)
خامساً: ثم أوصى بها وصاية متنوعة: قوله عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه أوصى بحفظ حقها بوجه عام من ذلك: "إني أحرج حق الضعيفين المرأة واليتيم"، وقال: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي"، وقال: "استوصوا بالنساء خيراً" والتمس لها العذر في ضعفها فلا تؤاخذ بكرهها وطلاقها، وقال: "لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها آخر" وقال: "الدنيا متاع المرأة الصالحة"…ألخ. وأوصى بها أماً: فإن أعظم حق بعد حق الله ورسوله صلى الله عليه وسلم حق المرأة الأم: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}. ولما سأله الصحابة من أحق الناس بحسن صحابتي قال: "أمك، ثلاثاً قال ثم من قال أبوك". وأوصى بها بنتاً: فهي البنت التي من عالها وأحسن إليها كانت له ستراً من النار وحجاباً منها. وأقف هنا لأتذاكر معك أختي العزيزة كيف يحسن الوالدان إلى البنت ما الإحسان الذي يشير إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم هنا ويحث عليه، أهو بشراء الجديد وأكل الحلوى المتنوعة والتسكع مع البنات في مراكز التسويق؟ هل هو يتنميق الملبس وتعدده؟ هل هو بإلقاء الحبل لها على الغارب تيم حيث شاءت دون حسيب أو رقيب؟ لا إن هذه أمور ليست مراده وإن أنزلق في بعضها كثير من الأباء والأمهات فضاعوا وأضاعوا بين التفريط والإفراط. إن الإحسان المطلوب شرعاً للبنت هو صيانتها وحفظها كما تحفظ الجوهرة الثمينة، وتصان مشاعرها فلا تعنف ولا تجرح بل تكرم وتربى تربية إسلامية صحيحة على العقيدة السليمة وعلى دأب نساء خير الأمة. كما أوصى بها زوجة: فهي الزوجة التي أوصى بها الرسول صلى الله عنه وسلم في أحاديث سلف بعضها فماذا تريدين أختاه بعد هذا والجنة تحت أقدامك ورضا الله من رضاك وسخطه من سخطك – الله أكبر – ولو كره الكافرون.
رغم الشقي أخو الجهالة ... المفتري إفكاً لدين محمد
الزاعم الكذب الجزاف بأنه ... قدر النساء بها كقدر الأبعد
حاشا وكلا والذي فلق ... بل حظها حظ العزيز الأسعد
أم لها عدد الحقوق ثلاثة ... بنت حجاب جهنم إن ترشد
وهي العقلية كم أتت من ... يوصى بها خيراً بسنة أحمد
أخت العقيدة تلك شرعة ... عضي عليها بالنواجذ واليد
سادساً: أوصى بها أن تستأذن فيما يخصها ويعنيها في النكاح والمبايعات ونحوها واعتبر الإسلام رضاها في النكاح عكس ما كانت الجاهلية تفعل، واعتبر لها الملكية كالرجل لا تنازع ولا يحجر عليها إلا لسفه أو فلس كالرجل ولها حقها في المهر والنفقة والكسوة والمسكن وأحب الرجال إلى الله وأكرمهم من أسخاهم بذلك نفسهاً، وسجل لنساء كمواقف محمودة مشهودة: (كمل من النساء أربع)، ورفرف لهن في سماه المجد رايات خالدة وسجل الإسلام والتاريخ مشاهد فاضلة كامرأة فرعون، ومريم ابنة عمران، وأم موسى، وسارة، وهاجرة، ومريم، وخديجة، وعائشة، ألخ… رضي الله عنهن. وأعطاها الحق في التعامل بالبيع والشراء والهبة والإجارة والصلح، والشركة والوقف كالرجل وغير ذلك من عقود المعارضة والإرفاق. وحماها نفسياً وعاطفياً أن تضار بولدها في الرضاع والنفقة وأن تخرج من بيتها إن طلقت رجعيا: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنّ}وغير ذلك من أحكام وليس المقام مقام حصر والمطلوب تدبر القرآن ومراجعة دواوين السنة الحافلة بالأحكام الرائعة ولسنا بذلك نحاكم الإسلام أو نضعه في قفص الاتهام أو حتى ندافع عنه معاذ الله فهو شريعة الله الباقية ودستوره الصالح بل المصلح لكل زمان ومكان.
أخواتي الفاضلات: أعذرنني إن أطلت وحتى يأخذ موضوعنا شكله المتكامل لا بد أن نجيب على تساؤلات تطرح شغبا وكيداً وربما أوحدت لدى البعض شبها من المناسب إيضاحها وكشفها، من ذلك:
1- لماذا جعل الإسلام العصمة بيد الرجل؟
والجواب : لأن المجرب المعروف بالطبع أن المرأة أسرع انفعالا وأقل تفكيراً في العواقب، فتصور لو كانت العصمة بيدها ما الذي كان قد يحدث وهناك قصة طريفة، يحكى أن رجلاً أراد أن يداعب زوجته فاتاها يوما وتظاهر بالحزن ولما سألته قال: قيل لنا إن العصمة نقلت اليوم إليكن وأخشى أن تطلقيني فطفقت تحلف له الأيمان وتؤكدها وتوثقها أنها لا تفعل أبدا لو عاش معها قرونا كثيرة، غير أنه لم تغب شمس ذلك اليوم حتى نشب خلاف عادي بينهما فانتهي إلى أن طلقته مائة طلقة، وهناك كشف لها الحقيقة.
2- لماذا جعلت المرأة على النصف من الرجل في الشهادة، شهادة المرأة بنصف شهادة الرجل وكذلك في الميراث والعقيقة والدية؟
الجواب: أما الشهادة فينبغي أن يعلم هذا في الأمور المالية فقط قال تعالى في آية الدين في سورة البقرة: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَان} ذلك أن الرجل أكثر ممارسة للبيع من المرأة وأكثر ضبطاً، ولذا فإنه في بعض الأحكام الأخرى تقبل شهادة امرأة واحدة عدله ولا يسقطها أو يعادلها شهادة ألف رجل كأمور النساء في بكارة ورضاعة وعيوب تحت الثياب وغير ذلك. إذن المسألة تخصص لا غير. وأما الدية فلأن الخسارة الواقعة أو المتوقعة بفقد الرجل أفدح من المرأة إن يكسب وينفق على أهله فهي خسارة واقعة وإن كان صغيراً فهي متوقعة عكس النساء اللاتي كفين مؤونة النفقة والسكن والمشاركة في تحمل ديات قتل الخطأ وشبه العمد من العصبة، وذلك في الغالب هو جواب الميراث والعقيقة. بل فيه فوارق كان يحسن ذكرها.
3- لماذا القوامة والولاية في النكاح والمحرم في السفر؟
الجواب: إن ذلك ليس لإهانة المرأة بل لصيانتها من التكسب في القوامة ومعاشرة الرجال وصيانتها من مباشرة العقد في النكاح المشعر بتوقانها إلى النكاح وهو ما تأنفه الطباع وتستحي منه المرأة ولأنها كثيراً ما تخدع بالمظاهر ويغرها الظاهر. وهكذا المحرم في السفر لحفظها وصيانتها وما أكثر أخطار السفر.
4- لماذا القرار في المنزل؟ الجواب: إن هذا أمر إلهي {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُن} وذلك لتتفرغ لأشرف وظيفة وأنبل رسالة لا يطيقها غيرها، ولا يقواها ويحسنها الرجال كالحمل والولادة والإرضاع والتربية ومن هنا يعلم كذب من قال نصف المجتمع معطل وه لخرج العلماء والدعاة والهداة والساسة والعباقرة والقادة إلا من حجور بنات حواء..!
5- لماذا الحجاب وكيف توصت المرأة بالفتنة ويحذر منها الرجال؟ هل هي شبح؟
الجواب: إن ذلك لتكريمها أيضاً وأن الأشياء الثمينة تحفظ كالجواهر والأطياب، وهل هناك أثمن من المحارم وأشرف ولأن وجودها خارج المنزل حالة طارئة والأصل قرارها في البيت وعند النساء فلتحجب حتى تعود لأصل مكانها. وأما التحذير مناه وأنها فتنة، ألخ..، فليس لأنها شيطان أو عفريت من الجن وإن صورها الشطيان في أعين الرجال كذلك فتنة وإغراء، ويذكر أن امرأة سألت أحد الدعاة عن هذه المسألة فقال يا أخيتي: أليس المال والبنون فتنة كما ذكر الله فقالت: بلى، فقال: هل تكرهين المال والبنين لأنها فتنة، قالت: لا، قال: نحن كذلك لا نكره المرأة بل نحبها كالمال والبنين وإن كانت المرأة فتنة. إذن هذه الضوابط وغيرها لا تزيل التكريم بل تزيده وعندما استدركت النساء في زمن النبوة واعترضن على بعض الأمور كان هنا الاعتراض متسما بسمات:
1- إنهن اعترضن على أمور تتعلق بالوضع الديني حرصا منهن على المسابقة في الخيرات.(5/222)
روى البخاري في كتاب العلم من صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري قال: قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم : "غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوما من نفسك فوعدهن يوما لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن فكان فيما يقال لهن ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجاباً من النار… الحديث".
2- كان ثنائيا بينهن وبين من يملك إنصافهن بأمر ربه لم ينشرن هذه الشبه التي ترددت في خواطرهن بين الملأ والنساء مع أن القلوب صالحة آنذاك والإسلام عزيز.
3- لم تتمن المرأة المسلمة أمراً تعلم أن الله قد فضل به الرجال إذ لم تنازع في القوامة، الحجاب…. بل أرادت أمراً هو من أجل دينها فقط، هذا أدب النبوة وتربية المصطفى لهم قال تعالى: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً}. وروى الإمام أحمد قال: حدثنا سفيان الثوري عن أبي نجيح عن مجاهد قال: قالت أم سلمة يا رسول الله: "يغزوا الرجال ولا نغزو ولنا نصف الميراث فأنزل الله ولا تتمنوا ما فضل الله…". ورواه الترمذي عن أبي عمر عن سفيان به نحوه ورواه الحاكم وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه بلفظ (لا نقاتل فنستشهد ولا نقطع الميراث).
4- إن للطلب والاعتراض حدود نتعلمها من قصة أسماء بنت السكن خطيبة النساء رضي الله عنها تلك المرأة التي سألت أمور تتعلق بالدين مبتغية الأجر والثواب من ربها حتى أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على مقالتها قائلاً: "هل رأيتهم مقالة امرأة أحسن من مقالة هذه في دينا؟".
وثمة توصيات أبعث بها لمن يريد أن يتكلم بلسان المرأة المسلمة أو يخوض في قضاياها:
1- تقوى الله ووزن القضايا بميزان صحيح فلا يجعل من الأمور الهامشية التافهة مشكلة يرتفع صوته طالبا الحل لها.
2- لا يحق لمن لا ينتمي للإسلام أن يعتبر نفسه وصياً على المرأة وكيلاً على ما يتعلق بها.
3- عند معالجة ما يتعلق بالمرأة تراعي محدودية النقاش فلا ينشر الخواطر والتساؤلات على صفحات المجلات والصحف بل تبحث بحثا جاداً مع من يملك إقامة الحل.
4- من يعطي رأيا في تحديد الأمور المتعلقة بالمرأة لا بد أن يكون ملتزما منصفا ذا إدراك للواقع والعواقب والنفسيات.
هذا والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
============
أهمية التربية
تعتبر التربية العملية الإنسانية الكبرى في حياة المجتمعات البشرية،التي يمكن من خلالها تحقيق الآمال والطموحات المجتمعية.المختلفة.وتنبع هذه الأهمية الكبرى للتربية من مسماها الذي ينبثق من كلمة( الرب) الذي خلق الإنسان وجعله خليفة في الأرض ليحي فيها وعليها وليعمرها وينميها .
كما أننا لو تتبعنا مسيرة تربية الإنسان من خلال متساسة ماضوية تذهب بنا عبر الزمن منذ خلق آدم عليه السلام وسألنا أنفسنا من الذي ربى أول الخلق عليه السلام؟!لعلمنا أن الله سبحانه وتعالى هو الذي تكفل بتربيته وتعليمه قال تعالى (وعلم آدم الأسماء كلها) صدق الله العظيم.
وإذ كانت لأول عملية تربوية تعليمية قد تشرفت بكفالة الله سبحانه وتعالى لها،فإن ذلك يوضح لنا مدى عظمة وأهمية وخطورة التربية في حياة البشر،لكون الإنسان هو موضوع التربية،ولكون الإنسان هو خليفة في الأرض منوط به عمارتها وتهيئتها لتكون مناسبة لحياة الإنسان الذي كرمه المولى عز وجل وأوكل إليه القيام بعملية التربية،وهو شرف رفيع،يوضح لنا مدى الأهمية الكبرى لهذه العملية الحياتية الدقيقة.وإذا كانت التربية تكتسب أهميتها الكبرى والبالغة من كون الإنسان هو موضوعها،فإن ذلك يعزي إلى كون هذا الإنسان هو ركيزة الحياة والعمل والتنمية،ومن ثم إحداث التقدم وبناء الحضارة الإنسانية وذلك من خلال عمل تربوي جاد وهادف يستند إلى فكر مجتمعي وفكر تربوي واضح وأصيل،تتم في إطاره عملية إكساب أفراد المجتمع القيم والأعراف الاتجاهات والمعارف والمهارات اللازمة لبناء إنسان قوي قادر على إحداث النهضة المجتمعية المنشودة.
ولو عدنا مرة أخرى عبر الزمن لوجدنا أن الدولة الإسلامية فيما مضى كانت قد أدركت حقيقة ما تقدم وحققت من خلاله الحضارة الإسلامية التي سادت العالم لسنوات طويلة.وفي نفس الإطار فقد أدركت المجتمعات المتقدمة في العصر الحديث هذا الأمر فحققت من خلاله التقدم المذهل الذي نراه الآن ولنأخذ دولة اليابان كمثال للتدليل على ذلك حيث حققت هذه الدولة من خلال استثمار رأس المال البشري في إطار عمل تربوي وتعليمي،يستند إلى فكر مجتمعي وتربوي واضح وأصيل،نهضة مجتمعية أذهلت العالم ولا تزال،وكانت التربية هي العصا السحرية التي أحدثت تلك النهضة عليها مدى قرابة نصف قرن من الزمان أو يزيد قليلاً،حيث خرجت اليابان من الحرب العالمية الثانية دولة محطمة،ولم يكن أمامها إلا استثمار ما لديها من طاقات بشرية أدخلتها في منظومة تربوية وتعليمية أفرزت أفرادا على درجة من القدرة الفائقة على إحداث التقدم والنهضة المجتمعية الهائلة التي نراها الآن.
وبناء على ما تقدم فإننا نرى أن التربية عملية حياتية على درجة كبيرة من الأهمية في حياة البشر،حيث تكتسب هذه الأهمية من مسماها وموضوعها وأثرها في حياة الأفراد والمجتمعات،إلا أنه يتبقى الحديث عن مدى فاعليتها وتأثيرها،واضعين في الاعتبار أن التربية قوة ذات تأثير بالغ ،إذا ما توافرت لها على أرض الواقع عوامل وقوى متباينة ومتعددة من أهمها:
1ـ تبني المجتمع لفلسفة مجتمعية واضحة وأصيلة بمعنى أنها ذات جذور ضاربة في أعماق وكيان هذا المجتمع ،كما أنها واضحة بلا غموض أو صياغات تجردية يصعب فهمها أو تفسيرها والعمل بها.
2 _تبني المجتمع لفلسفة تربوية واضحة وأصيلة،تنبثق من فلسفة المجتمع الأصلية،
وكذلك تبني فلسفة تعليمية واضحة وأصيلة تشتق من فلسفة المجتمع التربوية،وهذا على اعتبار أن التعليم جزء مهم من العمل التربوي.
3 _تبني أهداف تربوية وأهداف تعليمية واضحة وأصيلة يتم اشتقاقها من الفلسفات المجتمعية والتربوية والتعليمية مع مراعاة متغيرات وظروف العصر ومتطلبات التنمية في شتى مجالات الحياة،وظروف المجتمع المحلية والإقليمية والدولية،وأن تكون الأهداف إجرائية واقعية بعيدة عن الخيال والتجردية.
4 _تبني مفاهيم تربوية وتعليمية تتسم بالأصالة والمعاصرة والمرونة،بعيدا عن الجمود الفكري والحساسية المفرطة وأحادية التفكير،بحيث تكون هناك إمكانية للتغيير والتعديل للتخلص من مفاهيم خاطئة أو قديمة،مع تغليب الصالح العام على المصالح الخاصة ،والأخذ في الاعتبار ما جاءت به الشريعة الإسلامية التي يسير عليها المجتمع.
5 _توافر الإمكانات المادية والبشرية اللازمة لإمكانية نجاح العمل التربوي والتعليمي.
والجدير بالذكر أنه مع توافر كل ما سبق ذكره من العوامل اللازمة لنجاح العمل التربوي والتعليمي في المجتمع،إلا أنه يتبقى أمران مهمان :
أولها :يتعلق بمدى قناعة المسئولين عن الدولة بأهمية التربية في إحدث النهضة والتقدم من خلال أفراد أحسنت تربيتهم وتعليمهم .(5/223)
والأمر الثاني : هو عدم الخلط بين المفاهيم التربوية وعلى وجه الخصوص الخلط بين مفهومي التربية والتعليم واعتبارهم شيئا واحدا،وهذا خطأ فادح أدى إلى تحمل مؤسسات التعليم وحدها المسؤولية التربوية كاملة،كما ترتب على ذلك أيضا الخلط بين مفاهيم أخرى مرتبطة بهذين المفهومين مثل التخطيط والإدارة والأهداف والنظام بحيث أصبحت كلها تعني شيئا واحد دون تمييز وتدقيق في المعنى والمحتوى والتوجيه .
==============
خواطر فكرية مبعثرة
الحلقة الأولى (1)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، أمّا بعد:
فهذه خواطر مبعثرة، في موضوعات شتّى، ليس بينها رابط يربطها سوى أنّها جالت في الذهن يومًا ما، ولا تحتمل مقالة كاملة فضلاً عن كتاب، فرأيت أن أبعثرها هنا نصحًا للأمّة، فما كان منها من صواب فهو من الله وحده لا شريك له، وما كان منها من خطأ فهو من نفسي ومن الشيطان، والله المستعان.
* ما يسمّى بـ (زواج الفرند) وإن كان مقصود من اقترحه صحيحاً شرعاً، إلا أنّ تسميته بهذا الاسم - في نظري - خطأ من وجهين:
- أحدهما: أنّ كلمة الفرند ـ بغض النظر عن معناها ـ كلمة أجنبية. وفي لغتنا العربية ما يغني عن مثل هذه الكلمات الأجنبية.
- والوجه الثاني: أنّ هذه التسمية موهمة، قد يفسّرها بعض الناس بالزواج العرفي، أو غيره من الأنكحة الباطلة المحرّمة، وقد نهى الشارع عن مثل هذه العبارات الموهمة.
* أقترح على دار الإفتاء، أو وزارة الشؤون الإسلامية، أو الحسبة تفريغ باحثين أَكْفَاء لمتابعة ما ينشر في الصحف المحلية وغيرها من وسائل الإعلام المختلفة، لشكر من يستحقّ الشكر، وتفنيد ما يحتاج إلى تفنيد، فالجهود الفردية وحدها في هذا المجال لا تكفي.
* يحتجّ بعض الناس على إباحة بعض الأمور بأنّ تحريمها لم يرد نصّاً في القرآن الكريم، وهذه حجّة باطلة لا تصدر إلا من جاهل، أو ملبّس، فإنّ من المعلوم أنّ القرآن الكريم لم يرد فيه تحريم كلّ محرّم بعينه، وإنّما تضمّن القرآن كليّات كبرى يندرج تحتها جزئيات كثيرة لا تحصى، بعضها وقع وبعضها ربّما لم يقع إلى هذه الساعة، ومهمّة العلماء الراسخين ردّ هذه الجزئيات إلى قواعدها الكليّة.
* الذين يجعلون الدولة الدينية في مقابل ما يسمّى بالدولة المدنية هم لا يعرفون حقيقة الإسلام، فدين الإسلام دين شامل مهيمن على جميع نواحي الحياة ولو كره أهل العلمنة، فإذا كانت الدولة المدنية تعني إقصاء الدين، والمساواة بين الكافر والمسلم، والسنّي والمبتدع، فهي دولة علمانية مارقة، أمّا إن كانت تخضع للدين وتأتمر بأمره ـ وهذا هو الواجب ـ، فهي لا تعدو أن تكون دينية، وإن اعتنت بمصالح الناس الدنيوية.
* الفئة التي تسمّي نفسها ( ليبرالية ) لا تجيد إلا النقد والجدل، إن بحقّ ـ وهو قليل ـ وإن بباطل، مع تعالم سمج ظاهر، حتى إنّك لو كتبت آيات محكمات من القرآن على غير ما هي عليه في المصحف، وعرضتها على أحدهم دون أن يدري أنّها من المصحف؛ لراح ينتقدها ويجادلك في زيفها بزعمه، وصدق نبينا ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: "ما ضلّ قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل "..
* يقول بعض المفتونين: إنّ الاختلاط بين الجنسين يهذّب الغرائز، ويكبح جماح الشهوة، ويرشّدها!! والحقّ أنّه يقضي على الشهوة أو يضعفها، فيجعل الرجال أشباه رجال ولا رجال، لا يجيدون سوى التحرّش الظاهر، فلا يجدون ما يجده المسلم المحافظ البعيد عن مخالطة النساء الأجنبيات من القوّة والمتعة مع أزواجهم، وهذا أمر مجرّب، وما أحسن ما قيل: ( كثرة الإمساس تميت الإحساس ).
* إنّ ممّا يحتجّ به المنهزمون فكريّاً من أبناء جلدتنا للتقليل من شأن حضارتنا الإسلامية المجيدة وإعلاء شأن الحظيرة الغربية: قولهم إنّ المبرّزين من العلماء في الطب وغيره في الحضارة الإسلامية كابن سيناء وغيره قد حُكم عليهم بالكفر والزندقة والمروق من الدين، فهي حضارة دينية.. والجواب عن ذلك من وجوه:
- أحدها: أنّ هذا ليس على إطلاقه، فهناك علماء أجلاء في الطب والرياضيات ـ وهم كثر ـ لا يُذكرون إلا بالخير، وهؤلاء الذين حُكم عليهم بالزندقة هم قليل من أولئك الكثير.
- الثاني: أنّ هؤلاء الذين حُكم عليهم بالزندقة لم يُحكم عليهم بذلك لبروزهم في العلوم الطبيعية، وإنّما حُكم عليهم لإلحادهم وانحرافهم العقدي، ولا تلازم بين الأمرين.
- الثالث: أنّ الفضل في بروز هؤلاء ليس لهم على الحضارة الإسلامية، بل للحضارة الإسلامية عليهم، فهي التي أبرزتهم، ولو عاشوا في بلاد الغرب المتخلّفة آنذاك لكانوا نسياً منسياً، ولم يكن لهم شأن يُذكر.
- الرابع: أنّ الحضارة الإسلامية - مع حكمها على هؤلاء بالزندقة - استفادت من علومهم الطبيعية التي توصّلوا إليها، وبنت عليها علوماً أخرى، مع نبذها لعلومهم العقدية المنحرفة، وهذه قمّة العدل والإنصاف.
* من الحجج التي يحتجّ بها دعاة التغريب والمفتونين بالحظيرة الغربية: قولهم إذا كنتم تكرهون الغرب فاستغنوا عن منتجاته التقنية!! وهي حجّة سمجة سخيفة، والجواب عنها من وجوه:
- أحدها: أنّ ما وصل إليه الغرب اليوم من التقدّم التقني المادّي ليس نتاجه وحده، وإنّما هو نتاج جهود تراكمية للحضارات السابقة، ومنها الحضارة الإسلامية، وعلى سبيل المثال: الطيران، كان صاحب فكرته الأولى: العربي المسلم المشهور عبّاس بن فرناس، وقس على ذلك مخترعات أخرى.
- الثاني : أنّ دول الغرب لم تنفرد بهذا التقدّم التقني، بل شاركها دول أخرى وثنية وإسلامية، وباتت تنافسها تنافساً محموماً، بل تفوقها في كثير من الأمور، ويمكننا الاستغناء بهذه الدول عن الغرب.
- الثالث: أننا لو استغنينا عن منتجات الغرب المادية - ونحن قادرون - فإنّ المتضرّر الوحيد هو الغرب نفسه إذ جلّ اقتصاده إنّما يقوم على تسويق هذه المنتجات، ونحن لو استخدمنا هذا السلاح - سلاح المقاطعة - لتمكنّا من تركيع الغرب المتغطرس لإرادتنا، وهزيمته بلا أسلحة ولا حروب مدمّرة.
* في العشر الأواخر من رمضان، وفي صلاة التهجّد، يقلّ المصلّين في المساجد، وتعلو أصوات الأئمّة في هدأة الليل وتتشابك! لذا أقترح على الجهات المعنيّة قصر صلاة التهجّد على الجوامع فقط دون سائر المساجد، وفي ذلك عدّة مصالح، فمنها:
- تكثير الجماعات في الجوامع بدلاً من تفرّقهم في جميع المساجد.
- التقليل من أصوات الأئمّة المنطلقة من مكبّرات الصوت، فبدلاً من انطلاقها من كل مسجد، يقتصر على الجوامع فقط.
- التخفيف على أئمّة المساجد، فبدلاً من قيام كلّ إمام وحده بصلاة التهجّد، مع ما في ذلك من المشقّة؛ يتعاون عدد من الأئمّة في مسجد واحد، مع ما في ذلك أيضاً من إزالة السآمة من الاستماع إلى صوت إمام واحد.
* الاقتصاد في الكهرباء في تلك الليالي الشريفة، فبدلاً من تشغيل طاقات جميع المساجد من المكيفات والإضاءة، يُقتصر على الجوامع فقط.
=============
ضلالات طبيب القصيم: خالص جلبي
الحمد لله , والصلاة والسلام على رسول الله , وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهداه .
أما بعد : فقد روى الإمام مسلم أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال : ((الدينُ النصيحة , قُلنا : لِمَنْ ، قال صلَّى الله عليه وسلَّم : لله , ولكتابه , ولرسوله , ولأئمةِ المسلمينَ , وعامَّتهم)).(5/224)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : (وكذلك بيانُ مَن غلط في رأي رآه في أمر الدين من المسائل العلمية والعملية فهذا إذا تكلَّم فيه الإنسانُ بعلم وعدل وقصدَ النصيحة فالله تعالى يُثيبه على ذلك , لا سيِّما إذا كان المتكلَّمُ فيه داعياً إلى بدعة فهذا يجبُ بيان أمره للناس , فإنَّ دفعَ شرِّه عنهم أعظم من دفع شرِّ قاطع الطريق) منهاج السنة ج5/146 .
وفي هذه الرسالة المختصرة أذكر بعض ما خالفَ فيه طبيب مستشفى الملك فهد بالقصيم الدكتور خالص مجيب جلبي كتابَ الله تعالى وسنةَ رسوله صلى الله عليه وسلم , وذلك عبر النقاط التالية مع عدم التعليق عليها إلاَّ نادراً لمعرفة بطلانها من الدين .
* قوله بعدم الاستغناء بالكتاب والسنة : قال : ( فالأمرُ هنا هو السير في الأرض , وليس السير في الكتاب , أي قراءة الواقع , وليس قراءة النصوص , والظن بأنَّ الاستغناء بالكتاب عن الواقع هو الذي قاد العالم الإسلامي إلى كارثة ثقافية مروعة) جريدة الرياض عدد 10188في 28/12/1416هـ .
* تمجيده ودفاعه عن مُدَّعي النبوة : قال مُدافعاً عن الحلاج الذي يقول بحلول الله في خلقه , وادَّعى النبوة , ثم ادَّعى الألوهية : ( وباسم الشعب في بغداد حُكم على الحلاج بضربه بألف سوط , ثم قُطع لسانه , وأطرافه قطعة قطعة ) (ج الشرق ع 8002 في 27/7/1421هـ) .
ويقول عن محمود طه الذي ادَّعى النبوة بالسودان : ( وفي عام 1971م أُعدم محمود طه في السودان بيد الطغمة العسكرية بتهمة الردة , وكان الرجل مُجدِّداً , ولم يكفر ولم يرتد ) ج الشرق ع 8324 في 24/6/1422هـ .
وقال : ( ومات الحلاج صلباً في بغداد بكلمة اختُلقت ضده بعد جلده ألفاً وقطعت أطرافه .. وأنهى المفكر السوداني محمود طه حياته وهو يتأرجح على حبل المشنقة بتهمة الردة , ماتوا جميعاً لا لذنبٍ فعلوه , بل من أجل أفكارهم ونشاطهم ) (ج الشرق ع 8212 في 1/3/1422هـ) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( الحلاج قُتل على الزندقة التي ثبتت عليه مما يُوجب قتله باتفاق المسلمين , ومَن قال إنه قُتل بغير حق فهو إمَّا منافق ملحد , وإما جاهل ضال ) (مجموع الفتاوى ج35/108).
* استهتاره بآيات القرآن الدالة على عظمة الله تعالى : قال : (إذا كان الحاكم ينفخ في الصور فيقول للعباد ما علمتُ لكم من إله غيري , فإنَّ الزوج في البيت يُعلن أنه الأعلى, لا مُعقِّبَ لحكمه وهو سريع الحساب .. واحتكار فهم النصوص بيد طبقة الكهنوت, وخنق التعبير تحت دعوى الخيانة أو الردة , والطغيان يتأسَّس من العائلة ليظهر في النهاية على شكل تنيِّن سياسي يقذف باللهب على عُبَّاد يرتعشون وجلاً خاشعة أبصارهم من الذل.. فإذا أنتجت العائلة الإنسان الأخرس الخائف هيَّأت الجو الاجتماعي للخرس الجماعي المطبق، وخشعت الأصوات للحاكم فلا تسمع إلاَّ همساً) (جريدة الشرق 8177 في 25/1/1422هـ).
* كذبه على الله تعالى: ومن ذلك قوله عن الله تعالى: ( والله غير متحيِّز للمسلمين , وقانونه يسري على الجميع ) (ج الشرق عدد 8695 في 12/7/1423هـ) .
((اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )) (البقرة: 257) .
* دعوته لمناقشة الأصول المسلَّمة في الإسلام علانية ووصفه للكتاب والسنة بالعقل الميِّت : قال : (المواطن العربي اليوم مُحاصر في مثلَّث من المحرمات : بين الدين والسياسة والجنس , كل ضلع فيه يُمثِّل حاجزاً شاهقاً لا يستطيع أفضل حصان عربي رشيق أن يقفز فوقه إلاَّ بالقفز إلى الإعدام , فأمام حائط الدين يُطلُّ مفهوم الردة , وأمام جدار السياسة يبرز مصطلح الخيانة , وعند حافة الجنس تشع كل ألوان الحرام والعيب , فالعقل مُصادر ومؤمم وملغى حتى إشعار آخر ... لا بدَّ من تدريب عقولنا على النقاش والجدل , وذلك يفتح طرقاً عصبية رائدة , فالعقل النقدي حي , والعقل النقلي ميِّت ... ولم يكن للعلم أن يتطوَّر لولا نزع غطاء السرية عنه .. ومناقشة أي شيء علَناً دون الخوف من الاتهام بالزندقة ) (ج الشرق ع 7728 في 19/10/1420هـ).
* دعوته للتقريب بين الأديان وذلك بإقامة الدولة العالمية : قال : (إنَّ وجود دولة عالمية تحتكر العنف من الدول سيحقق الأمن عالمياً ، فندخل العصر الذي تتوقف فيه الحروب) ويقول : (الأمل أن تُتحقق الدولة العالمية الواحدة في مدى القرنين القادمين أو ربما أسرع .. عندها تنتهي لعبة الحروب نهائياً) سيكولوجية العنف ص158 .
ويقول في موضع آخر : ( الطريق ما زال طويلاً لإقامة الدولة العالمية التي ستحتكر السلاح والخبز ، فتُلغي الحروب بين الدول، وتُنهي عصر المجاعات) سيكولوجية العنف ص218 .
ويقول : ( إنَّ مؤشرات التقدُّم العلمي كلها تُشير باتجاه تحطيم الجغرافيا , وزحف عارم للإنترنت , وتجاوز العنصرية والدولة القطرية , ودخول الإنسان أفق العالمية الثقافية المشتركة) (ج الرياض ع 10671 في 10/5/1418هـ) .
* سخريته بالحديث عن الجنة والآخرة وعن قصص القرآن الكريم , ودعوته لنقد ولاة الأمر على المنابر , وتهييج الجماهير : قال : ( كل يوم جمعة يجتمع المؤمنون للصلاة وسماع الخطبة , ويستنفر نصف جيش من المخابرات لتسجيل الكلام ورفع التقارير ، فلعل فيروساً خطيراً مرَّ من أقنية الكلام .. وفي معظم الأحيان يكتشف الجمهور أن صوته مصادر في هذا الاجتماع لحساب وُعَّاظ السلاطين .. ويعيد نفس الدعاء للسلطان بالحفظ والصون , ويتلقَّى الموجة جمهور أخرس , أتقنَ الصمت بختم على الفم أكبر من ختم الحبل السري على البطن، ليسمع حديث واعظ في قضايا لا تستحق الاجتماع ، فلا يزيد الحديث فيها عن فواكه الجنة في الوقت الذي لا يجد فيه المواطن رزق عياله ، وعن الآخرة في الوقت الذي يحتضر فيه المواطن كل يوم مرتين , وعن فرعون ذي الأوتاد في الوقت الذي طغى فيه الحاكم في البلاد فأكثر فيها الفساد ) ج الشرق ع 8611 في 16/4/1423هـ .
* تسميته الدعاء على الكافرين بالدعاء العدواني : ومن ذلك قوله عن أحد الخطباء : (فلم يزد الحديث عن مواعظ عثمانية , وأدعية عدوانية بأن يُدمِّر الله الكافرين جميعاً وعائلاتهم) (ج الشرق ع 8611 في 16/4/1423هـ) .
* القول بانتهاء النبوة وإحلال البدائل العقلية : قال : ( ويُبدع الفيلسوف محمد إقبال , عندما يعتبر أنَّ فكرة ختم النبوة تعني إلغاء الامتيازات , فإبطال الإسلام للرهبنة ووراثة الملك , ومناشدة القرآن للعقل والتجربة على الدوام , وإصراره على أنَّ النظر في الكون والوقوف على أخبار الأولين من مصادر المعرفة الإنسانية , كل ذلك صور مختلفة لفكرة انتهاء النبوة ) ويتساءل جلبي : ما معنى ختم النبوة ؟! فيجيب : ( إنها فكرة عملاقة تعني نهاية مرحلة توجيه الإنسان ليقوم بنفسه , فالنبوة تحولت هكذا من نموذج قديم إلى نموذج جديد , يعتمد زخم العقل والعلم , وآيات الله في الآفاق والأنفس , والكشف عن مصادر الطبيعة والتاريخ ... مع هذه الفكرة ينتهي عصر الخوارق والتفوق والامتيازات , فلا نبيَّ بعد ولا خوارق تدشن ... والعلم هو الذي سيحتل الساحة من خلال الكشف عن القانون وتسخيره في كلِّ مستوى ) (جريدة الرياض عدد 11035 في 19/5/1419هـ) .(5/225)
* قوله بحرية العقيدة : قال : ( إنَّ الأديان السماوية أُنزلت من أجل أن يُؤمن بها الناس ... ولم يُرسَل الأنبياء كي يُصادروا آراء الناس ويفرضوا عليهم القوة المسلَّحة) ملحق الرسالة بجريدة المدينة 24/9/1423هـ .
ويقول : ( المجتمع الإسلامي هو المكان الوحيد المسموح فيه بممارسة كل الأفكار , والتقاء كل الثقافات بالتعايش والتعبير) سيكولوجية العنف ص234 .
* قوله بأنَّ سبب فشل الشيوعية هو إكراه الناس على دين واحد , وأنَّ سبب فلاح الدول الأوربية هو استيعابهم لجميع الأديان في بلد واحد : قال : ( لا يوجد جغرافيا واضحة لأوروبا ، وهذا يعني بكلمة ثانية : أنَّ هذه التجربة - الاتحاد الأوربي - ستبلغ ما بلغ الليل والنهار , ولن يطول ذلك الوقت الذي تزحف فيه هذه الوحدة شرقاً ، فتلتهم كل دول الحوض المتوسط في أحشائها , وإذ كانت قد تصدَّعت وتشظت الإمبراطورية الشيوعية عندما أرادت جمع الناس بالقوة تحت مبدأ الإكراه في الدين ، فإنَّ الناس يجمعهم اليوم سقف أوروبي واحد ) (ج الشرق الأوسط ع 8450 في 3/11/1422هـ) .
* قوله بأنَّ أوروبا لم تستقر حتى رَفَضَت الكنيسة : قال : ( لم تخرج أوربا من مستنقع الطائفية بسهولة ، ولم يكسر احتكار الكنيسة للنصوص الدينية إلا بشق الأنفس ) جريدة الشرق الأوسط ع 8436 في 18/10/1422هـ .
* سخريته بالقضاء والقدر , وقوله بأنَّ التحاكم إلى القرآن لا يحلُّ المشكلات: قال : ( لنتذكر معركة صفين حيث رُفعت المصاحف على رؤوس الرماح , دليلاً على الرغبة في التحاكم إلى النصوص ... فلم يحل التحاكم إلى النصوص المشكلة , إن لم يكن قد زادها تعقيداً ) سيكولوجية العنف ص24 .
وقال : ( إنَّ النصوص لم تحل مشكلة في يوم من الأيام , وإنَّ القرآن بذاته تم توظيفه لحياكة أكبر خدعة سياسية في التاريخ , فرُفع على رؤوس الرماح في كلمة حق يُراد بها باطل , وإن ما حكم تاريخنا كان الغدر والسيف , ومن سخرية الأقدار أن نرى في النهاية أنَّ من حلَّ المشكلة لم يكن النصوص) (ج الشرق ع 8009 في 4/8/1421هـ ).
* احتاجه بالقدر على الكفر والفسوق : قال : (ما الذي يُفرِّق صاحب المذاهب عن السلفي بغير مذهب ؟ وما الذي يُفرِّق السني عن الشيعي في الدين الواحد ؟ ثم قفز السؤال عتبة جديدة : ما الذي يفرق المسلم عن المسيحي واليهودي والبوذي عن الديانات الأخرى ؟ بل ما الذي يفرق المؤمن عن الملحد ,.. روت لي سيدة كانت تعالج في مشفى كَنَسي في دمشق , وهي طفلة وصادف ذلك أيام أعياد الميلاد , فقَرَأَت في وجه الراهبات الخشوع , ورأت من لطف الراهبات في العناية بها ما جعلها تطرح السؤال التالي : لقد علَّمونا أنَّ ديننا هو الأفضل , ولعلَّهم يظنون بأنفسهم كما نظن بأنفسنا , وهو نفس السؤال الذي طرحته أم مالك بن نبي الذي استمرَّ طبيب فرنسي يُعالجها لفترة طويلة في بيتها , كانت العائلة تُردِّد نفس السؤال عن مصير هذا الكافر ؟ ) ج الشرق ع 8436 في 18/10/1422هـ .
* قوله بأنَّ الجهاد شُرع لحماية ديانات الكفار داخل ديار المسلمين : قال : (الجهاد ليس لنشر الإسلام ، بل لحماية الرأي الآخر ، ولتطبيق مبدأ ((لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)) أي دين , أو مذهب , أو عقيدة ، تركاً أو اعتناقاً ، فالجهاد هو لحماية التعددية داخل المجتمع الإسلامي) سيكولوجية العنف ص12-13 .
* تعطيل النصوص الشرعية بالتحريف والتأويل : ومن ذلك محاولاته الكثيرة لتأويل القرآن لإلغاء الجهاد في سبيل الله , قال : ( بقدر نمو الوعي والتراكم المعرفي ، والسمو الأخلاقي ، تتراجع وتضمر مؤسسة العنف ، حتى يتخلَّص الجنس البشري من العنف كلية ((حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا)) (محمد : 4) سيكولوجية العنف ص120 .
الله أكبر : قال ابن عباس رضي الله عنهما : ((حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا)) : حتى لا يبقى أحد من المشركين ) (زاد المسير ج7/397 ) .
* قوله بأنه إذا التقى المسلم مع الكافر بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار : قال مُعلِّقاً على قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين : ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)) قال جلبي : (يظنُّ بعض الناس أنَّ هذا الحديث يخصُّ المسلمين باعتبار أنه قال : (( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار )) في محاولة لفهم عنصري مغلق ) سيكولوجية العنف ص172 .
وينتقص الصحابة رضي الله عنهم فيقول : ( وفي الحديث معنى انقلابي خفي وعميق , إذ يُسوِّي تماماً بين الطرفين , وبسبب بسيط « لأنه كان حريصاً على قتل صاحبه » وهذا فهم رائع مدهش لجوهر النزاعات البشرية وآلياتها النفسية العميقة , والصحابة رضي الله عنهم لم يفهموا المعنى الخفي والعميق خلف دلالة كلمات الحديث ) سيكولوجية العنف ص198 , وجريدة الرياض عدد 10594 في 20/2/1418هـ .
* استهزاؤه بدعاء الله تعالى : سُئل : لماذا الآخرة غير حاضرة في مشروعك ؟ أجاب : ( أستطيع أن أرثي لكم فقط , لأنَّ المسلمين مشكلتهم دنيوية أرضية واقعية , وأنت تبحث في الميتافيزيقيا , مثل مريض السل الذي تُريد معالجته هذه الأيام بالدعاء , وهي كارثة عقلية ) ملحق الرسالة بجريدة المدينة 24/9/1423هـ .
* تأليه الطبيعة أو الكون والواقع : قال : ( لقد اعتبر القرآن التاريخ مصدراً للمعرفة تماماً مثل الطبيعة ... فهذه الحقول الأولية هي كلمات الله الأساسية , والنسخة الأصلية من كتاب الله التي لا تقبل التزوير والتحريف والتفسير اللاعقلاني , فصخرة أو جبل أو شجرة أو نهر , هرم فرعوني أم سور الصين , نقش مسماري أم هيكل عظمي , أدل على نفسه بنفسه من أيِّ نص كتب عنه مهما كان مصدره ) (جريدة الرياض عدد 10447 في 22/9/1417هـ ).
إنَّ كلام جلبي هذا كلام خطير في تأليه الطبيعة أو الكون والواقع , فقد جعل الصخرة المخلوقة أولى من كلام الله الذي خلقها ؟! .
* تقديمه للواقع الذي يراه على كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم : قال : ( الواقع أكبر من النصوص لأنه يشكل المصدر الذي يراه البشر جميعاً , لأنَّ الواقع هو النصّ مجسداً , في حين أنَّ النصوص تتعلَّق بالخلفية الثقافية التي حملها البشر , والتي بموجبها يفهمون النصوص ويتعاملون معها ويختلفون , بل ويفتك بعضهم بعض من أجل الخلافات في وجهات النظر وهم يُواجهون النصوص) سيكولوجية العنف ص42 .
* تقديمه للتاريخ البشري على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم : قال : ( لا يوجد مثل القرآن ... ولا توجد أمة لم تستفد من كل هذه الثروة العقلية كما فعل متأخرو المسلمين في استعصاء عقلي عنيد , غير مفهوم وغير مبرر ولا عقلاني , حرَّكها من خانة دول المقدمة العظمى إلى خانة دول التخلُّف والإتباع , في لغز يحتاج فك طلاسمه إلى بحث تاريخي عقلاني موسع لاكتشاف بدايات الخلل , والتاريخ يتحرَّك وفق قوانين نوعية , وهو مصدر للمعرفة , وفيها محطَّات كبرى عقلية تأسيسية للمعرفة ) (جريدة الرياض عدد 10447 في 22/9/1417هـ ) .
* تطاوله على مقام النبوة والأنبياء : قال عندما سُئل عن العلم : ( كنتُ قد طرحت أنَّ العلم حقَّق للجنس البشري ما لم يستطع تحقيقه الأنبياء على مدى العصور) ملحق الرسالة بجريدة المدينة الحلقة الثالثة في 10/9/1422هـ .(5/226)
ويقول : ( إنَّ الجنس البشري بلغ من النضج ما جعله يُحقِّق الحلم النبوي القديم في إلغاء مؤسسة العنف جملة وتفصيلاً .. والمؤسسات الدولية اليوم هي نطف بدائية لأفكار عظيمة نادى بها الأنبياء ) سيكولوجية العنف ص151 .
* تطاوله على نبي الله نوح عليه السلام : قال : ( لقد فشلَ نوح عليه السلام في عملية التغيير الاجتماعية , أمامنا إذن إمكانية الفشل في تغيير المجتمع وتولِّي قيادته كما حدث لنوح مع أنه دعا فيه ما يزيد على تسعة قرون , فقصة نوح تُمثِّل مرحلة بدائية من التاريخ البشري ) النقد الذاتي ص77-78 .
* تطاوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال : ( فحين فشلَ في اختراق مجتمع مكة والطائف , نجح في نشر دعوته في أهل يثرب , حتى تفشَّى الإسلام في مجتمع المدينة , لكنه لم يذهب إليهم على ظهر المدافع والدبابات ) سيكولوجية العنف ص125 .
* سبُّه لبعض الصحابة رضي الله عنهم : قال : ( وشخصيات هامشية في الثورة الإسلامية الأولى من طراز عمرو بن العاص ومعاوية حرَّفت مسيرة الخلافة الراشدة ) جريدة الرياض عدد 10481 في 22/10/1417هـ .
وقال : ( وفي معركة صفين تواجه فريقان : مَن قضى عمره في بناء الإسلام , ومن أنفق عمره في حرب الإسلام , ولكن مَن ربح لم يكن أنزه الطرفين , ورُفع المصحف على رؤوس الرماح كي يُعطَّل المصحف ) الزلزال العراقي ص131 .
* طعنه في الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم : قال : ( فالصحابة فشلوا وبوقت مُبكِّر في المحافظة على المجتمع الإسلامي الذي بناه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد كل تعب وعناء ) سيكولوجية العنف ص34 .
* تكفيره للصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه , وتكفيره لدولة بني أمية : قال : ( عندما يقلب معاوية الوضع الراشدي لبناء دولة بيزنطية , ومسخ الخلافة الراشدة بالتآمر الأُموي ) سيكولوجية العنف ص157.
* إنكاره لحدِّ الرِّدة وتجويزه لارتداد المسلم عن دينه : قال : ( الخطأ يحق له أن يعيش ، ولا يُقتل الإنسان من أجل آرائه مهما كانت ) سيكولوجية العنف ص148 .
ويقول : ( في المجتمع الإسلامي مجتمع اللا إكراه لا يُقتل الإنسان من أجل آرائه أياً كانت الأفكار ، سواءً تركاً أو اعتناقاً … وهذا يُفنِّد الاتجاه العام للمفهوم السائد بقتل المرتد , لأنَّ المرتد هو الذي يعتنق مبدأ ثم يتركه ، فكيف تسمح الحرية الفكرية لاعتناق مبدأ ثم تحبسه فيه , إنه لا حرية فكرية مع هذا الحجر ، فهذه المقولة تدشن العصبية الفكرية باتجاه واحد ) المرجع السابق ص126-127 .
* سخريته من جهاد النبيِّ صلى الله عليه وسلم : قال : ( فحينَ فشلَ في اختراق مجتمع مكة والطائف ، نجحَ في نشر دعوته في أهل يثرب .. فلم يذهب إليهم على ظهر الدبابات بانقلاب عسكري ) سيكولوجية العنف ص125 .
ويقول : ( وهذه كتب السيرة سجَّلت أحداثها على أساس مسلسل مُتتابع من الغزوات , كأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلَّم كان لا ينام إلاَّ على غزوة ولا يستيقظ إلاَّ على معركة , كما كُتبت مضمَّخة بعبق الأجواء السحرية , فكلها سلسلة من المعجزات ) سيكولوجية العنف ص48 .
الله أكبر : لقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( مَن ماتَ ولم يغزو ولم يُحدِّث نفسه بالغزو ماتَ على شعبةٍ من نفاق )) وروى البخاري عن أبي هريرةَ أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال : (( والذي نفسي بيده : وددت أني أُقاتلُ في سبيل الله فأُقتل ُ , ثم أُحيا ثم أُقتلُ , ثم أُحيا ثم أُقتل , ثم أُحيا )) فكان أبو هريرة يقولُهن ثلاثاً أشهدُ بالله .
* إلغاؤه للجهاد في سبيل الله تعالى : قال مستدلاً بقصة ابني آدم عليه السلام في غير مكانها : ( الذي حدث بين الدول أنها لم تتبنَّ موقف ابن آدم المقتول , فنشبت الحروب ولم تتوقف إلاَّ بتطوُّر السلاح النووي ودخول العصر الذري , حينما أدركت الدول أنَّ خوض الحروب غير رابح إطلاقاً ) (ج الرياض ع 10895 في 26/12/1418هـ) .
* دعوته لإقامة حلف عالمي جهادي لرفع الظلم عن الناس مُسلِمهم وكافرهم : قال : ( إنَّ الجهاد المسلَّح شُرع لحماية المخالف وضد الظالم , وهي أداة مسخَّرة ضد المسلم عندما يكون ظالماً , وليست ضد الكافر طالما كان عادلاً , والجهاد تحرير مهم كونه دعوة لإقامة حلف عالمي لرفع الظلم عن الإنسان أيَّاً كان ) وقال : ( وبذلك فإذا رأينا أنَّ الوثنيين يُضطهدون ويُعذَّبون ويُطردون من ديارهم بالقوة المسلَّحة في أقصى جزر الأرض على يد المسلمين , فيجب نصر الوثنيين المظلومين ضد المسلمين الظالمين , لأنَّ علَّة الجهاد هي لردِّ الظلم من أي مصدر جاء ) سيكولوجية العنف ص128 , ص164 .
* تأييده لحرب أمريكا على العراق وأنه نوعٌ من الجهاد : قال : ( ما عملته أمريكا مع سلوبودان يُمكن أن يكون نوعاً من الجهاد ... كذلك فإنَّ نفس الأمر ينطبق على صدام حسين , فيجب على صدام أن ينشئ تعددية حزبية , وعليه أن يستقيل فهو قد انتهى , إذا كانت أمريكا تريد فعلاً عمل نظام ديمقراطي في العراق فأنا مع أمريكا) ملحق الرسالة 3/9/1423هـ .
* اتهامه بأنَّ الجهاد كان لأجل الغنائم : قال : ( كانت الحروب قديماً تُؤدِّي دوراً من الغنائم والأسلاب والرقيق , واليوم فات وقتها , والعالم في طريقه لإلغاء مؤسسة الحرب ) سيكولوجية العنف ص143 .
* تسميته لجهاد الدفع تخلُّف : قال : ( غدت الحرب موضة قديمة يُمارسها المتخلِّفون , فكل بؤر النزاع والحروب في العالم اليوم هي في معظمها مناطق المتخلِّفين , وعندما نتأملها نراها في أفغانستان والصومال وزائير , فكلها كما ترى مناطق المتخلِّفين ) سيكولوجية العنف ص164 .
* وصفه للشعب اليهودي بما وصفَ الله به الصحابة ويصفُ الشعب العربي بما وصفَ الله به اليهود : قال : (ويجب أن نعترف بحقيقة أنَّ المجتمع الإسرائيلي من داخله ديمقراطي , فهم رحماء فيما بينهم , وهم في الخارج أشداء على العرب وأهالي فلسطين , أمَّا نحن (( تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى)) (الحشر :14) (ج الشرق في 26/2/1423هـ ).
* إيمانه بنظرية دارون : وهذه النظرية تتنكَّر للأديان السماوية , لأنها تعتمد على ( أنَّ أصل الحياة خلية كانت في مستنقع أو بحر قبل ملايين السنين , ثمَّ تطوَّرت هذه الخلية , ومرَّت بمراحل عديدة منها : مرحلة القرد الذي تطوَّر ليكون منه هذا الإنسان , وهذه العملية كلّها من فعل الطبيعة , ويَعتبر دارون أنَّ الطبيعة تخلق كل شيء , ولا حدَّ لقدرتها على الخلق .. ) يُنظر : مذاهب فكرية معاصرة لمحمد قطب ص96-98 .
قال جلبي : ( لقد فتح دارون الطريق لمعرفة سر الحياة , وأصل الإنسان بشكل عام , وهذا بدوره شقَّ الطريق إلى مجموعات جديدة من فضاءات المعرفة ... لقد تركت الدارونية بصماتها على الفكر الإنساني من خلال علم الاجتماع على الشكل الذي طوَّره البريطاني سبنسر ) جريدة الرياض , عدد 10405 تاريخ 9/8/1417هـ .
* دعوته للديمقراطية وهي حكم الشعب بالشعب , وأنَّ من لم يقل بها فهو مُخرِّب ومجرم : قال : (الديمقراطية انقلاب عقلي قبل كلِّ شيء , وتربية طويلة , وما لم نفطن إلى طبيعة الأشياء فسوف نبقى مُخرِّبين ومجرمين) سيكولوجية العنف ص130 .
ويقول في ص157 : (الديمقراطية الشورية سوف تعم العالم , فهي قَدَرٌ لا مفرَّ منه مثل الموت ) .(5/227)
* زعمه بأنَّ الفلاسفة هم بناة الحضارة : قال : ( فالتاريخ رأى في الفلاسفة والمفكرين أنهم البُناة النظريون للحضارة الإنسانية , إنهم مفجِّرو الثورات , إنهم منشئو الحركات , إنهم مغيِّرو مجرى التاريخ) النقد الذاتي ص74 .
* تكفيره للعرب : قال : ( قد يكون العالم العربي في بعض جوانبه ارتدَّ وانتكس , فالجنس البشري ليس وقفاً على حالة العالم العربي وأمراضه وظلامه السياسي وإغلاقه الفكري ) ج الرياض ع 10496 في 12/11/1417هـ .
* قوله بوجوب الحزن لحزن أمريكا : قال : ( يجبُ أن نحزن لحزن أمريكا , لأنَّ فشلها فشل لكلِّ الجنس البشري , ولأنها تُمثِّل طليعة الجنس البشري ) ج الاقتصادية ع 3403 في 3/12/1423هـ .
* دعوته للعُريِّ والاختلاط : قال : (عند سكان استراليا الأصليين تتدلَّى أثداء النساء بدون أن تُثير الفتنة , وفي كهوف الفلبين يعيش الناس رجالاً ونساءً مع أطفالهم في حالة عُريٍّ كامل , فلا يصيح واعظهم أنَّ هذا مخلٌ بالأخلاق , وبالمقابل : فإنَّ كشف يد امرأة متلفِّعة بالسواد من مفرق رأسها حتى أخمص القدم في بعض المناطق من العالم العربي يُثير الشهوة عند رجال يعيشون في حالة هلوسة جنسية عن عالم المرأة ) ج الشرق الأوسط في 23/4/1423هـ .
* زعمه بأنَّ الحج فُرض لإيقاف الحروب : قال : (جُعل الحج تظاهرة لإيقاف تقديم القرابين البشرية وتدشين السلام العالمي ) سيكولوجية العنف ص210 .
* دعوته لتمديد الأشهر الحرم لتشمل السنة كلَّها , وتوسيع حدود الحرم ليشمل الكرة الأرضية : قال : ( بعد أن تأمَّلت ظاهرة الحج رأيتُ أنها رمزية في تحويل البيت الحرام إلى أقطار الأرض جميعاً كهدف إبراهيمي قديم , فيكبَّر البيت الحرام ليستوعب بسلامه الكرة الأرضية كلَّها من خلال تجربة صمدت عبر أربعة آلاف سنة , ومدّ الأشهر الأربعة لتعم السنة , أي امتداد السلام إلى العالم في مستوى الزمان والمكان ) سيكولوجية العنف ص161 .
* زعمه بأنَّ الأضحية شُرعت لإيقاف الحروب : قال : ( وكانت التضحية بالحيوان ترميزاً لإحياء ذكرى الإعلان الإبراهيمي قبل أربعة آلاف سنة بالتوقف عن تقديم القرابين البشرية , وتوديع عقلية العالم القديم في حل المشاكل بالعنف ) جريدة الرياض عدد 10531 في 17/2/1417هـ .
* زعمه بأنَّ الصوم شُرع من أجل إيقاف الحروب : قال : ( لماذا نصوم ؟ ... كان الصيام إحدى أدوات التحرير الكبرى في الهند أيام غاندي , وأهم ما في التحرير : تحرير النفس من كراهية الانجليز قبل رحيلهم , لأنَّ العنف شجرة خبيثة , جذورها الكراهية , وثمرتها الخوف في علاقة جدلية ) جريدة الرياض عدد 10790 .
* تمجيده للفلاسفة من الكفار : قال : ( ومشى في هذا الدرب الأنبياء والآمرون بالقسط من الناس , وكان سقراط واحداً منهم ، فلم يقتل ولم يهرب من الموت , كان سقراط فلتة عقلية ، وبالتعبير الطبي طفرة , والطفرة هي قفزة نوعية في الخلق , مع هذا فقد حكمت أثينا الديمقراطية بإعدام سقراط عام 399 ق. م ) ج الشرق 9460 في 9/9/1425هـ .
* دعوته لنزع السلاح من جيوش البلاد الإسلامية , واستسلامها بدون قيد ولا شرط , ومَن لم يفعل ذلك فهو مغفَّل : قال : ( إنَّ الدول الكبرى أدركت عقم مفهوم القوة .. فهم يعلمون أنَّ أكبر خطر يُهدِّد امتيازاتهم هو انتباه واستيقاظ المغفَّلين على هذه الحقيقة , فنكفُّ عن شراء الأسلحة , ونفعل كما فعلت اليابان وألمانيا اللتين استسلمتا دون قيد ولا شرط في الحرب العالمية الثانية , فكانت النتيجة أن ارتفعتا إلى قمة العالم دون سلاح ) سيكولوجية العنف ص168 .
* قوله بأنَّ الاستسلام للعدو هو السلاح الوحيد لكي يعتذر عن قتله للمسلمين : قال عن مجزرة ما يُسمَّى بالحرم الإبراهيمي وقتل الناس وهم في صلاتهم : ( إنَّ هذه المذبحة جعلت اليهود ليس في إسرائيل وحدها بل حتَّى في كندا يمشون مطأطئي الرؤوس خجلاً وهم يحملون الشموع والقناديل والدموع عن أولئك الذين قُتلوا صبراً ظلماً عُزَّلاً مُصلِّين ) سيكولوجية العنف ص90 , وقال عن مجزرة صبرا وشاتيلا : ( لقد حرَّكت هذه المذبحة الضمير العالمي كله , بل وحرَّكت المظاهرات داخل إسرائيل نفسها حزناً عليهم , بسبب موتهم بغير دفاع , خلافاً للقتل المتبادل في الحرب الأهلية , والقاتل سوف يندم في النهاية فكان من النادمين والندم هو التوبة ) سيكولوجية العنف ص91 .
* تسميته للفسلطينين الذين يدافعون عن دينهم وأنفسهم ووطنهم إرهابيون : قال : ( إنَّ إسرائيل تُراهن في العالم على تشويه صورة العربي الذي يقوم بالعمليات الإرهابية الانتحارية , ولكن أسلوب مقاومتها بالطريقة السلمية يُوقظ الضمير الإسرائيلي ) سيكولوجية العنف ص215 .
* دعوته للشعوبية : وهي تفضيل العجم على العرب : ومن ذلك قوله : ( وهنالك حزمة أمراض ثقافية تبلغ العشرة منها : أنَّ العالم العربي ما زال يحكم بسيف معاوية بعد انطفاء الوهج الراشدي ... وأنَّ الثقافة العربية تستحم بالعنف منذ المصادرة الأُموية , وتوديع حياة الرشد , واعتناق حياة الغي , وتفشِّي روح الغدر والقتل والانقلابات والتآمر , فليس بعد الرشد إلاَّ الغي ) ج الرياض ع 10692 في 1/6/1418هـ .
* حُزنه على فتح القسطنطينية : قال : ( يفرح المسلمون بسقوط القسطنطينية 1453م ولكن هناك مَن يذكرها مع الدموع , فهل كان فتحها إسلامياً ؟ ثم ما هي النتائج المدمِّرة على العالم الإسلامي من وراء هذا الفتح المبين ؟ إنَّ المشكلة هي أن ما يفعله المرء يراه عين الصواب ، ولا يخطر في بالنا أنَّ تاريخنا قد يكون في بعض صفحاته مرباداً أسود كالكوز مُجخِّياً ) ج الشرق ع 8310 في 10/6/1422هـ .
* شتمه لأهل السنة والجماعة : قال : ( إنَّ جذور الاستعمار تضرب في تربة الثقافة , وأنَّ هذا المرض يعسُّ في مفاصل الثقافة العربية , مثل الروماتيزم الخبيث , منذ الانقلاب الأموي , وقُتل العقل على يد تيار ما سُمِّي أهل السنة والجماعة , ولم يكن بسنة ولا جماعة ) كتاب الزلزال العراقي ص124 .
* دعوته لمذهب الخوارج في الخروج على الأُسر الحاكمة : قال : ( لماذا استوردنا سيارات ولم نستورد الديموقراطية ؟ ولماذا نُبايع الزعيم السياسي مثل شيخ الطريقة الصوفية إلى الأبد ) ج الشرق ع 8695 في 12/7/1423هـ .
* طعنه وسخريته بالحضارة الإسلامية : قال : (وإحدى الحضارات المتبقية التي تترنح اليوم , وتبدو كشبح مجتمع هي الحضارة الإسلامية , مجتمع منطفئ الفعالية , عاجز عن حل مشكلاته الميدانية ) جريدة الرياض عدد 10335 في 28/5/1417هـ .
* مدحه لحضارة الكفار : ومن ذلك دفاعه عن مذبحة وقعت بين طلاب مدرسة أمريكية : ( فقصة مجزرة المدرسة الأمريكية , يجب أن لا تُحرِّض فينا منعكس البحث عن العورات , فمن كان بيته من زجاج عليه ألاَّ يضرب الآخرين بالحجارة , بل يجب علينا أن نتأمل مظاهر الصحة والقوة عندهم , نُلقِّحُ بها مجتمعاتنا العاجزة ) جريدة الرياض عدد 10874 في 5/12/1418هـ.
* المخرج من الكارثة التي أصابت الشرق الأوسط : قال : ( وفي قناعتي أنَّ كارثة أصابت الشرق بعدم تطوير الفن , ويجب أن نُطوِّر فرقاً موسيقية , كما فعل الإيرانيون ) مقابلته في ملحق الرسالة 28/8/1422هـ .
هذا غيض من فيض من ضلالات خالص جلبي , هداه الله على أيدي العلماء والولاة إنه سميع مجيب .(5/228)
نسأل الله تعالى أن يكفينا شرَّ المنافقين والمنافقات , وأن يجعل كيدهم في نحورهم , وأن يُعيذنا من شرورهم , وأن يفضحهم في عقر دارهم , آمين , وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه وسلم .
=================
أيصبح العدو اللدود صديقاً حميماً!
اشتق لفظ التطبيع ( Normalizaion) (من الكلمة الإنكليزية) Normal) ) بمعنى العادي أو المعتاد أو المتعارف عليه ، وفي مختار الصحاح (الطبع هو السجية جبل عليها الإنسان)، وفي المعجم الوسيط (تطبع بكذا أي تخلّق به ، وطبّعه على كذا أي عوّده إياه) ، ولا توجد مادة تطبيع في المعاجم العربية لأنها محدثة ، فالمعنى الحالي مأخوذ من ترجمة هذه الكلمة عن لفظة إنكليزية تم تداولها أخيراً خاصةً بعد اتفاقيات كامب ديفيد، لكن يمكن تصور المعنى من كلمة التطبيع من حيث المبدأ أنه (هو العودة بالأشياء إلى سابق عهدها وطبيعتها).
حقيقة التطبيع مع اليهود : " أنه يشمل ( كل اتفاق رسمي أو غير رسمي أو تبادل تجاري أو ثقافي أو تعاون اقتصادي مع إسرائيليين رسميين أو غير رسميين ) ويهدف إلى ( إعادة صياغة العقل والوعي العربي والإسلامي بحيث يتم تجريده من عقيدته وتاريخه ومحو ذاكرته خاصة فيما يتعلق باليهود، وإعادة صياغتها بشكل يقبل ويرضى بما يفرضه اليهود ) ومآله: الاستسلام غير المشروط للأمر الواقع والاعتراف بالكيان الصهيوني الغاصب للأرض كدولة ذات شرعية، وتحويل علاقات الصراع بينها وبين البلدان العربية والإسلامية إلى علاقات طبيعية وتحويل آليات الصراع إلى آليات تطبيع " (ورقة لحسين عبيدات ألقيت في المؤتمر العام العاشر للصحفيين العرب عام 2004 م ) .
وبذلك يتضح أن المقصود بالتطبيع هو سلام دائم وليس عبارة عن هدنة مؤقتة ومسالمة يركن إليها المسلمون لضعفهم في زمن معين - كما يعتقد بعض من يقولون بجواز التطبيع - باعتبار أنه صُلحٌ أو سِلمٌ جنح له العدو، ولا يخفى أن هناك فرقأً شاسعاً بين اتفاقيات التطبيع وبين أحكام الهدنة والصلح التي ذكرها العلماء، وأهون ما يمكن أن يقال عن هذه الاتفاقيات أنها صلح دائم مع عدو محتل لأرض المسلمين غاصب لمقدساتهم وهذا محرم باتفاق المسلمين ، وقد قال جمع من علماء المسلمين أن الصلح الدائم مع اليهود لا يجوز شرعاً لما فيه من إقرار الغاصب على الاستمرار في غصبه والاعتراف بحقية يده على ما أغتصبه وتمكين المعتدي من البقاء على عدوانه ، وقد أكدت الفتوى الصادرة من رابطة علماء فلسطين عدم جواز التطبيع مع دولة الاحتلال الصهيوني، موضحة أنه 'إذا استوطن أحد من الأعداء أرض المسلمين، فلا يجوز أن يقره على هذا الاستيطان أحد من المسلمين، وأن التطبيع بمثابة إقرار من المسلم المطبع لعدوان العدو واحتلاله،وجاء في فتوى الرابطة أن 'الواجب الديني على كل مسلم نصرة إخوانه ومعاونتهم على إخراج الأعداء من أرضهم، وعدم التطبيع مع الأعداء أبداً؛ لأن التطبيع مع الغاصب خذلان لأصحاب الحقوق وضرر بالغ بهم، فأين التعاون بين المسلمين على الأعداء إذا طبع المسلم مع عدو أخيه ومغتصب أرضه وقاتل بنيه' ( موقع حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين على شبكة الإنترنت ).
وأخطر ما في التطبيع الذي يراد إقراره هو أنه في حقيقته صورة من صور الولاء ، الذي يمكن أن ينتهي إلى التولي ، والولاء والتولي لا يجوز إلا للمسلم، قال الله تعالى ـ: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ)) ( لممتحنة:1).
ولعلنا نتأمل أقوال بعض زعماء الصهاينة ونظرتهم إلى العلاقة التي يرغبون بإقامتها مع المسلمين ، " يقول اليهودي هركابي ( الأب الروحي لرابين) : لابد من إدماج العرب في المشروع الصهيوني وتوظيفهم لخدمته، وهذا ممكن من خلال التعامل السياسي (وليس العسكري) مع العرب، لأنهم قوم لا يتحلون بالمثابرة والصبر والدأب وسرعان ما يدب فيهم الملل والضجر والاختلاف ، ويسلمون أمورهم حتى لأعدائهم في سبيل الغلبة في معاركهم وخلافاتهم الداخلية كتاب (لا للتطبيع د. عبدالله النفيسي )، ويقول شيمون بيريز : إن البقاء مستحيل لدينين لن يلتقيا ولن يتصالحا، وأنه لا يمكن أن يتحقق السلام في المنطقة ما دام الإسلام شاهراً سيفه ولن نطمئن على مستقبلنا حتى يغمد الإسلام سيفه إلى الأبد ، وفي مؤتمر التسامح الذي عقد قبل عدة سنوات في المغرب العربي قال ديفيد ليفي وزير خارجية العدو حينها( إنه من أجل أن يقوم التسامح بيننا وبين العرب والمسلمين ، فلا بد من استئصال جذور الإرهاب , وإن من جذور الإرهاب سورة البقرة من القران ) .
ثانياً :إستراتيجية اليهود وخططهم في التطبيع
هناك بعض المعالم التي تبين سياسة الكيان الصهيوني للوصول إلى رحلة التطبيع :-
1- القضم ثم الهضم هي إستراتيجية الكيان الصهيوني ، ففي السنين الماضية احتلت أجزاء من بلاد المسلمين فتحتاج إلى وقت لهضمها وخلال هذا الوقت يتم الاستعداد لجولة أخرى يتم فيها التهام جزء آخر من بلاد الإسلام .
2- أصبح من المعتاد أن تبدأ الاتصالات سرية أولا بين المندوبين والوسطاء ، ثم تنتقل إلى المسئولين فالزعماء للترتيب لإعلان بداية المفاوضات العلنية للتضليل ، وهي قد انتهت سراً قبل الإعلان ، وما جرى قبل زيارة السادات لفلسطين من اتصالات سرية بدأت في 9/1977م ، وما كشفه موشي ديان في كتابه " أيبقى السيف الحكم " ، وكشفته العديد من الكتب والمذكرات لزعماء يهود ومنها كتاب (تواطؤ عبر الأردن : ليوسي ميلمان ودان رفيف ) من حقائق كثيرة لهو دليل واضح على ذلك .
3- تكوين رابطة الشرق أوسطية التي تربط بين دول المنطقة أجمع باسم الشرق الأوسط وتنبذ الانتماء للإسلام أو العروبة وهذا مشروع اليهودي (شيمون بيريز) الذي طرحه في كتابه " الشرق الأوسط الجديد " عام 1993 م ، ثم طور خطابه في عام 1995 م فذكر بأن الشرق الأوسط بحاجة إلى تبني مواقف ليندمج مع العالم الجديد ، ونصح العرب بتطبيق سياسة اقتصاد السوق علماً بأن الكيان الصهيوني يقيد سياسة السوق ، ومن المعلوم أن اقتصاد السوق الذي ينادي به بيريز هو الطريق اليسير لسيطرة الكيان الصهيوني والصهيونية العالمية ورؤؤس الأموال الأمريكية على الاقتصاديات العربية ، ثم اسُتنسخ هذا الطرح مع بعض الإضافات والتعديلات في المشروع الأمريكي المسمى ( الشرق الأوسط الكبير ) الذي من أبرز عناصره :
- إقامة أمن إقليمي جديد بدلا من الأمن القومي العربي ويتضمن ذلك إقامة مناورات مشتركة عربية - غربية - إسرائيلية لضمان تطبيع العلاقات وكسر التعبئة النفسية وإضعاف روح الاستعداد المعنوي للمواجهة.
- طبيعة هذا المشروع سياسية في الأصل لكنه يعرض بقالب اقتصادي حيث يوصف بأنه مشروع اقتصادي أو كما يجري اختزاله أحياناً بـ " سوق شرق أوسطية.
4- التطبيع وسيلة فاعلة لليهود تهييء لهم الفرصة لدعم المنافقين والمفسدين لأداء دورهم داخل مجتمعاتهم بشكل يدفع كثيراً من المسلمين إلى الهزيمة النفسية والشعور باليأس من الإصلاح .(5/229)