وقال عزوجل: [وإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ مَالَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَاَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الاَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَلاَ تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ مَنْ ءَامَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ * وإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِنْكُمْ ءَامَنُوا بِالَّذِي اُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُالْحَاكِمِينَ](1) (الأعراف/ 85-87).
وجاء في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام: (اعرفوا الله بالله و الرسول بالرسالة)(2).
3- الآيات
ويعرف الرسول بالآيات البينات التي يحكم العقل السليم بأنها ليست من صنع البشر، وذلك مثل ناقة صالح (ع) وتحول النار بردا وسلاما على إبراهيم (ع) وعصى موسى التي إلتقفت حبال السحرة ثم ردها الله إلى سيرتها الأولى، وما كان يشع من يده من نور وانفلاق البحر له اثني عشر قسما، وتكلم عيسى في المهد صبيا واحياؤه الموتى وابراؤه الاكمه والابرص ـ بإذن الله ـ وما أشبه ذلك من الآيات.
4- الفطرة
جاء في الحديث عن الامام علي عليه السلام: (ان على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نورا)(3). والواقع لا يحتاج الفرد إلى ذكاء خارق حتى يعرف مدى صدق دعوة اصلاحية معينة. ان ذات كل دعوة من هذا القبيل شاهدة على صدقها، فإن مقاومة الظلم والجريمة ، ومحاربة السلبية والميوعة ، ونصرة المعدمين والضعفاء، هي دلائل صدق الدعوة ، وهي أمور تعرفها فطرة كل إنسان التي لا تشك في أن مثل هذه الدعوة صادقة.
فالفطرة تثبت صدق الرسول في دعوته لأنها تنسجم مع معطيات الفطرة ذاتها.
وتزداد هنا المعرفة وضوحا وعمقا كلما ازداد الفرد تفاعلا معها وممارسة عملية لها إذ يبدأ آنذاك، بملامسة الواقع بصورة مباشرة.
5- شهادة أمته:
وتأتي شهادة أمته أكبر حقيقة يشعر بها المؤمنون المخلصون برسالة الرسول.. ولا تنحصر شهادة أمته في بعث الآيات التي تدعم رسالة النبي (ع) ولا تنحصر أيضا في صدق نبؤات الرسول واستجابة دعواته، وانتصاره الخارق على أعدائه، بل تعم أكثر من ذلك حتى تشمل نوعا من الإلهام الشخصي الذي يمن به الله سبحانه على كل فرد حسب أهليته وبطريقة مناسبة له .
-----------------
محمد رسول الله..
كيف يمكن ان نثبت رسالة رسول الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم؟
ان طريقة إثبات رسالة الرسول متشابهة مع طرق إثبات سائر الرسالات التي سبقت الإشارة إليها، ولكن بالإضافة إلى دليل آخر هو ما بشر به الأنبياء السابقون أممهم(4).
1- الرسالة
ان رسالة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم نفسها شاهدة على انها من عند الله، ذلك لأن الرسالة المحمدية لا تفي بكل الحاجات البشرية فقط، بل انها أيضا أكمل الرسالات وفاء بها. أليس الإسلام يذكّر بنور العقل(5)؟ أو لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يهدي الناس إلى ربهم ويذكرهم بما له من نعماء ثم يبين لهم ما يرضيه وما يسخطه من عقيدة وعمل وخلق؟
أو لم يكن يبين لهم الحكمة ويبين لهم ما يصلحهم وما يضرهم، ويزكي الناس ويربيهم على مكارم الأخلاق(6)؟
هذه رسالة محمد بن عبد الله التي نزلت عليه من ربه. أليست تكفي البشر من كل النواحي التي يعجز الإنسان نفسه عن تأمينها، ويرشد العقل إلى وجوب إبتعاث النبي بها؟ وقد جاء الرسول بها كاملة من عند الله ونحن نعلم انه لا يملك ان يأتي أحد برسالة من نفسه تكفي الناس من كل الوجوه السابقة مهما كان عظيم الفكر واسع المعرفة.
فحيث جاء الرسول بها وقال أنها من عند الله تعالى، عرفنا صدقه فيها، وهكذا نجد في القرآن الكريم استدلالا على صدق الرسول بحقيقة رسالته:
يقول الله سبحانه: [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ](إبراهيم 1). [هَذَا بَلاَغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ اُوْلُواْ الأَلْبَابِ](إبراهيم 52). [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ(7)](النحل 89).
__________
(1) - هذه الآية المباركة نموذج خارجي لواقع دعوة الأنبياء (ع) ذلك لأن شعيبا (ع) أمر قومه بما ينظم جميع نواحي حياتهم فأمرهم أولا بعبادة الله الواحد ثم أمرهم بالعدل الاجتماعي وما يستتبعه من ضبط المكيال والميزان والوفاء بالحقوق والإنتهاء من كل فساد وعدم التآمر على الدولة الحقة لسرقة الحكم ظلما ثم أمرهم بالتذكر والاعتبار وهما توجيهان إلى العقل ثم أمرهم بالصبر وهو تزكية للنفس. هذه هي الخطوط الرئيسية التي سار عليها كل الأنبياء وهي بالذات ما سبق وان قلنا انها وجوه الحاجة إلى الرسالة والرسول.
(2) - بحار الانوار ، ج3، ص270 ،ح2 .
(3) - بحار الانوار ، ج2 ، ص 165 ، ح 25 .
(4) - سيأتي شرح ذلك فيما يلي من الفصول.
(5) - قال الله تعالى: [أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الاَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور](الحج 46).
وفي الحديث: (تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة). ومن الممكن ان نجعل تذكرة الإسلام بنور العقل دليلا كافيا على ان الإسلام هو الدين الحق، ذلك لأننا نعلم ان أنصار الباطل يحاولون ابعاد الناس عن التعقل لكي يضعوهم في معزل عن التدبر في الكون تدبرا منهجيا عقلانيا لأنه سيقضي على باطلهم بينما يحاول المحقون تنشيط عقول الناس حتى يبصروا الواقع بأنفسهم.
(6) - قال الله تعالى في صفة الرسول: [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ](الجمعة2).
(7) - هذه الآيات وان كانت في الظاهر تبيانا للحقيقة فقط ولكنها في الواقع دليل عليها أيضا إذ انها تشرح واقع رسالة الرسول (ص). فهي قد أوحيت على شكل كتاب منزل من عند الله يهدي الناس من الظلمات إلى النور وهو بلاغ ونذير للبشر وتذكر بالله وإثارة لدفائن العقول وتوجيه للفكر وانهاء للخلافات البشرية وتبيان لكل شيء يحتاج إليه الإنسان في الحياة ثم هو هدى للمؤمنين وبشرى للمسلمين بصفة عامة لا طائفة دون أخرى وشعب دون آخر بل لمن اتصف بالإيمان والاسلام من كان وانّي كان. ومن الواضح ان هذه هي الصفات التي يهدينا العقل إلى ضرورة توفرها في الرسالة أية رسالة ولا يمكن ان تتوفر في غيرها. فرسالة الرسول رسالة حقة ما دامت تنطوي على هذه الحقائق جميعا فالآيات شاهدة على صدق الرسالة عن طريق بيان ما توفرت فيها.(2/50)
فهذه هي الخطوط العامة لكل رسالة وهي بالتالي الحاجات الضرورية للبشر. وقد اعترف المستشرق (ليتن) برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم عن طريق شهادة محتوياتها فقال (انني لأجرؤ بكل أدب ان أقول: ان الله الذي هو مصدر الخير والبركات كلها لو كان يوحي إلى عباده، فدين محمد صلى الله عليه وسلم هو دين الوحي. ولو كانت آيات الإيثار والأمانة والاعتقاد الراسخ القوي ووسائل التمييز بين الخير والشر ودفع الباطل هي الشاهدة على الإلهام فرسالة محمد صلى الله عليه وسلم هي هذا الإلهام(1) .
2- الرسول
من خلال سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم منذ ان كان يافعا يعزف عن اللهو أو كان فتى يرعى تجارة خديجة فيلتزم بالصدق والأمانة أو كان رجلا يتميز بين أترابه بأنه يقبل الغريب ويرحم الضعيف ويأوي المسكين وإلى ان بعث نبيا يحمل بين كفيه النور والهدى إلى العالم كله وحتى أصبح سيد العرب جميعا من خلال سيرته في سني عمره وأطوار حياته، لم يعهد منه معاصروه الكذب والخيانة فسموه (الصادق الأمين) فلم يستطيعوا نعته بالكذب حتى بعد أن بعث بالرسالة وسفه أحلام قريش وقاد الحروب ضدها. رأوا فيه إنسانا يزهد في الدنيا ويرغب في الآخرة ويتجنب الرذائل ويتحلى بالفضائل. هذا محمد بن عبد الله الذي أعجب به من عاصره – العدو والصديق - وأعجب به من جاء بعده - من عدو وصديق - . هذا الإنسان ادعى النبوة وكان يعرف أبعاد دعواه وهي ان من يدعو إلى النبوة فهو يدعو إلى الله ويدعي الاتصال به والبعثة من لدنه إلى الناس جميعا في كل العصور(2).
كما كان يعرف بكل دقة ان الذي يدعي النبوة كذبا فإنما هو أخبث الناس وأظلمهم لنفسه وللناس جميعا، لأنه يغر الناس ويخدعهم ويبعدهم عن الصراط المستقيم(3)، ذلك لأنه ينسب الكذب إلى الله رب العالمين ويتسلم قيادة الناس جميعا وفي كل العصور، فإن كان غير كفؤ لها جرهم إلى الردى ليس في عصره فقط بل على مر العصور حيث ان اتباع هذا الرسول لا يقتصر على زمان حياته بل قد يدوم إلى الأبد، كما هي الحال في رسالة النبي محمد (ص). فمعنى كذب مدعي الرسالة اضلال الملايين عن السعادة. ان هذا الظلم ما أعظمه وما أكبره.. ولا يقدم على هذا الظلم الا أخبث الناس الذي انسلخ عن كل قيمة إنسانية، فكيف يدعيه محمد بن عبد الله صلى الله عليه و آله الذي عرفناه بالصدق والأمانة؟
ان دعوى الرسول –هذا الصادق الأمين- لا تحتاج الىحجة تدعم صحتها بل انها شاهدة بذاتها على انها الحق الواضح. ذلك ان محمدا صادق وأمين، والصادق يصدق في كل أمر كما ان الأمين أمين مع كل أحد. وليس بصادق من يصدق مرة ويكذب مرة، وليس بأمين من وفى مرة وخان أخرى، وحيث نُعِتَ الرسول بالأمانة والصدق فلابد ان المجتمع كان قد رأى فيه تجسيداً لهذه من الصفات الحسنة ، فكيف يكون كاذبا في هذا الأمر الذي هو أهم الأمور جميعا؟ ولقد كان أهل مكة يأتمنون النبي محمدا على أموالهم حتى بعدما كفروا برسالته.. فبعد ان اضطروه إلى الهجرة إلى المدينة كانت لديه أمانات أمر وصيه الامام عليا عليه السلام بردها لأصحابها.
ولقد كانت قريش أعدى أعدائه وكانت تعترف له بصفة الأمانة. فهذا النضر بن الحارث وقد كان من سادة قريش وأكبر المعارضين للنبي ـ ص ـ وكان يعد من المحنكين في مكة، ألقى يوما خطابا في جمع من الكفار وقال:
(يا معشر قريش انه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد، كان محمد فيكم غلاما حدثا أرضاكم خلقا وأصدقكم حديثا وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاء بما جاءكم به قلتم ساحر. لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم. وقلتم كاهن، لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهنة وتخالجهم وسمعنا سجعهم. وقلتم شاعر، لا والله ما هو بشاعر، لقد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها هزجه ورجزه. وقلتم مجنون، لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه. يا معشر قريش فانظروا في شأنكم فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم(4).
ولم يدع أحد من قريش على النبي محمد ـ صلى الله عليه و آله ـ الكذب والخيانة الا وهو متردد بالرغم من انهم قالوا فيه أعظم من ذلك وأكبر، وكان السبب لتحرزهم عن إتهامه بالكذب أو الخيانة انها كانت تهمة لا تنسجم أبدا مع المشهور من حياة النبي قبل الرسالة. فلنسمع إلى حوار جرى بين هرقل ملك الروم وبعض كفار قريش ـ بعدما تسلم هرقل رسالة من النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه فيها إلى الإسلام ـ فسأل عمن يعرفه من أهل وطنه فجيء إليه ببعض، التجار فسألهم هرقل عمن هو أقربهم نسبا بالرسول.
فقال هرقل: (هل انتم كنتم تتهمونه بالكذب قبل ان يقول ما قال؟).
أبو سفيان: لا.
هرقل: هل يغدر؟
أبو سفيان: لا ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها.
هرقل: قد أعرف انه لم يكن يذر الكذب على الناس ويكذب على الله. وأبو سفيان هذا كان من أبرز المعارضين للرسول الذي قاد حروبا ضارية ضده وألب عليه العرب جميعا ولكنه يقول فيه انه لم يكن كاذبا ويبرر قولته بعدئذ بأنه (والله لولا الحياء من ان يأثروا علي كذبا لكذبت عليه). ان هذا المبرر شاهد على السمعة الطيبة التي أحاطت بالنبي ـ صلى الله عليه و آله ـ وجعلت أعداءه يعترفون ـ رغما منهم ـ بصدقه وأمانته.
وبهذا الدليل يكتشف البروفيسور بورسورت سميت شخصية النبي ـ ص ـ البالغة البهاء والروعة فيقول:
(عندما ألقي نظرة إجمالية استعرض فيها صفاته وبطولاته، ما كان منها في بدء نبوته وما حدث منها فيما بعد، وعندما أرى أصحابه الذين نفخ فيهم روح الحياة وكم من البطولات المعجزة أحدثوا، أجده أقدس الناس وأعلاهم مرتبة حتى ان الإنسانية لم تعرف له مثيلا).
__________
(1) - (الإسلام يتحدى، ص 176).
(2) - كان النبي (ص) يقول عن الله سبحانه: [يَآ أيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُم مَوْعِظَةٌ مِن رَبِّكُمْ]( يونس57). [قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ]( الفرقان 6)، [وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( النجم 3و4) .. هذه هي دعوة الرسول التي هتف بها منذ البداية وهي تدل ـ فيما تدل ـ على ان الرسول كان على يقين بما يدعو إليه وما فيه من ضخامة المسؤولية.
(3) - قال الرسول (ص) عن الله: [قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ](يونس 69و70) تدل هذه الحكمة على ان الرسول كان يعرف بكل تأكيد ان الكذب على الله ظلم عظيم وخطيئة كبيرة جزاءها عذاب أليم.
(4) - سيرة بن هشام، ج1،ص319.(2/51)
ولقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قادرا على إحراز أكبر قدر من السيادة والثروة والرفاهية لأنه كان يتمتع بمركز اجتماعي فريد في قومه بسبب انه من قريش ومن بني هاشم ساداتها التقليديين. وقريش كانت سيدة العرب بسبب حكمها على مكة عاصمة الجزيرة العربية ، وأما الثروة فقد كان يتصرف في أموال زوجته البرة خديجة (ع) التي كانت من أغنى الناس في مكة. وأما من ناحية الرفاهية فقد كان يملك الوداعة والأمن والعيش المناسب لعصره، وفجأة دعى الناس إلى الرسالة الجديدة بعد الأربعين من عمره، و بالضبط حين يذهب عن النفس البشرية طيشها وغرروها ويبدأ المرء يتعقل، وحين كانت التقاليد تقضي لصاحب الأربعين بالتفوق والكمال.. في هذا الحين بالضبط عرض نفسه لأكبر الأخطار وأعظمها إبتداءً من افتقاده سمعته كسيد قريش في المستقبل و تحوله في الاعلام المعادي إلى ساحر ومجنون و.. و..؟ والى ضرب الحصار الاقتصادي عليه في شعب أبي طالب وإلى ان ذهب إلى الطائف فعامله سادتها أسوأ معاملة وقال أحدهم في وجهه مستهزءا: (سوف أمزق ثياب كعبة ان كان الله قد أرسلك نبيا علينا). وقال الآخر: (أما وجد الله أحدا يرسله غيرك). وقال الثالث: (والله لا أكلمك أبدا لئن كنت رسولا من الله كما تقول، لأنت أعظم خطرا من ان أرد عليك، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي ان أكلمك) ثم أغروا به سفهاءهم فرموه بالحجارة حتى سقط على صخرة مثخنا بجروح بليغة فلم يدعوه يستريح حتى تابعوه بالحجارة والسب فتابع رحلته إلى خارج الطائف وناجى ربه قائلا: (لك العتبى لك العتبى حتى ترضى) دون ان يبالي بكل ذلك.
أقول لم يكن للرسول أية دوافع شخصية ولا دوافع اجتماعية أو اقتصادية ان يعرض نفسه ومركزه للخطر مبتدءا بافتقاده مركزه الاجتماعي ومرورا بمصائبه الكبيرة في مكة وإنتهاءً بالحروب التي شنت ضده في المدينة. ولم يكن كل ذلك من مثل محمد صلى الله عليه وسلم الا شاهدا كبيرا على صدقه في دعوته وشدة يقينه برسالته. وهكذا نقول بكل تأكيد ان الرسول ذاته دليل رسالته.
ثم ما الذي يدعوه إلى الكذب والخيانة؟ أهو المال؟ وهو الذي رفض العرض المغري الذي قدمه إليه سادة قريش والذي احتوى على أكثر أموال العرب مقابل تنازل الرسول عن دعوته الرسالية. أم هو الجاه؟ وقد عرض عليه ان يسود على العرب جميعا بشرط ان يترك رسالته فرفض. أم كان العيش الرغد؟ وهو الذي اكتفى بأزهد نصيب بين المسلمين وحَمَّل نفسه أشق الأعمال ولم تختلف به الحال منذ ان كان يتيما في حضن عمه والى ان أصبح سيد العرب المطاع، بل زاد رغبة عن الدنيا وزهدا.
وكلمة الخلاصة ان تحليل شخصية الرسول ـ ص ـ يهدي إلى واقع رسالته، فإن طهارة النفس ونقاءها لا تجتمع مع الكذب والخيانة في أمور بسيطة فكيف بالخيانة العظمى المتمثلة في دعوى الرسالة كذبا، ان هذه الرسالة التي يدعيها انما هي من الله إلى البشر جميعا. هذا من ناحية شخصية الرسول التي تدل على صدق رسالته، و هو :
1- رجل واحد يتحدى التاريخ كله والبشر كلهم، ويبعث الإنسان بعثا جديدا في تصوره وسلوكه وأخلاقه، ويكوِّن شخصيات نموذجية لا مثيل لها(1). ان هذا لم يقع ولن يقع لغير الرسول الصادق المؤيد بالغيب حيث لم يشهد التاريخ إنسانا استطاع توحيد القبائل المتناحرة في وحدة تجعلهم كأنهم بنيان مرصوص، ثم قام ببعثهم إلى العالم حاملين رسالة العدل والحق والسلام إلى كل إنسان في الأرض.
2- إنسان أمي لم يتعلم عند أي فرد ولم يدرس الكتب ولا خط بيديه شيئا. هذا الإنسان ينقلب ـ بعد البعثة مباشرة ـ إلى بحر زاخر من المعارف التي عجزت البشرية عن سبر غورها حتى يوم الناس هذا. هل يكون ذلك الا رسولا صادقا؟
3- ودليل آخر نلمسه في إنقطاعه المديد إلى الله ـ سبحانه ـ وعبادته التي لم يكن لها مثيل، وإلتزامه قبل كل أحد بشريعته التي انزلت عليه ، بل إيجابه على نفسه من فروضها أكثر من أمته ـ كصلاة الليل والتهجد بها ـ وان في ذلك دليلا قويا على صدق دعوته، ولم يكن ليقول ما يقول الا باعتقاد جازم وقناعة شخصية تامة، ذلك مهما استطاع المرء ان يخدع الناس فإنه لا يتمكن من ان يخدع نفسه خداعا يحملها على الأعمال الصعبة دون عقيدة راسخة واخلاص تام.
قال الله سبحانه: [وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطَّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ](العنكبوت 48)، [قُل لوْ شَآءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلآ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ](2) (يونس 16) .
3- المعاجز الخارقة
ما هي المعجزة، وهل يمكن عقلا حدوثها؟
في الكون سنن فطرية تجري وفقها كل الأحداث، فالنار تبعث الحرارة والحرارة تولد الامتداد والامتداد يتسبب في التبخر و.. و.. طائفة من هذه السنن معروفة للإنسان ويستخدمها في صالحه، بيد ان طائفة أخرى منها غير معروفة وهي كبرى الطائفتين، ولا يمكن لذلك استخدامها كما لا يمكن رفضها سلفا.
والمعجزة قد تعني خرق السنن المعروفة بسنن أخرى غير معروفة للبشرية بعد، ويكمن اعجاز المعجزة آنئذ في ان رجلا ساذجا (وأميا في بعض الأحيان) كيف استطاع ان يعرف السنن التي لا يعرف أحد من العلماء شيئا منها. وهذا النوع واقع في حياة الأنبياء عليهم السلام وأبرز الأمثلة عليها بساط سليمان، فإن ركوب الريح سنة فطرية بالرغم من أنها لم تكن معروفة في عهد سليمان عليه السلام. والمثل الآخر معراج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي يعتقد البعض انه كان نوعا من المركبات الفضائية التي لم تعرف حتى اليوم خصائصها.
في مثل هذين النموذجين من المعاجز، ان الله سبحانه لا يغير سنن الكون انما يهدي نبيه اليها بشكل معجز ومن دون وسائل مادية.. وقد تعني المعجزة اختراق كافة السنن الفطرية وذلك مثل القرآن الذي لم يوح به بمقتضى سنة فطرية بل خرقا لكافة السنن.. والسؤال هنا هل يمكن حدوث المعجزة؟
لدينا شهادتان على إمكان حدوث المعجزة:
__________
(1) - والى هذا الدليل ترجع الكلمة الشهيرة التي تقول: ان علي بن ابي طالب (ع) من معاجز الرسول. والواقع ان بناء شخصية مثالية كعلي (ع) لدليل واضح على صدق رسالة النبي محمد (ص).
(2) - في هذه الآية تصريح بأن النبي (ص) كان أميا، ومن الواضح انه ان لم يكن كذلك لكذبه أعداؤه الذين لم يفتروا يراقبون جميع حركاته لعلهم يجدون مهمزا يشنون من خلاله حملات دعائية ضده، فلو لم يكن أميا بالفعل لم يكن يصرح بذلك ليعطي مادة نقد دسمة بيد أعدائه وهم قد عاشروه خلال أربعين سنة.(2/52)
الشهادة الأولى: شهادة الوقوع؛ ذلك اننا لم نعرف إمكانية وقوع أية حادثة الا بعد ان وقعت تلك الحادثة فعلا. فمثلا: إمكانية وقوع أبسط الحقائق وأوضحها وهي نمو البذرة بعد دفنها في التراب، لم نعرفها الا بعد ان عرفنا وقوعها فعلا. فالقول بعدم إمكانيتها غير وارد أصلا. ذلك لأن المعارضة الوحيدة لهذه الإمكانية تأتي من قبل العادة التي تعودنا عليها بالنسبة إلى سائر الحالات، ولكن تلك العادة لم تكتشف واقعيتها الا بتكرار وقوعها فليكن تعودنا على المعجزة سببا من أسباب العادة أيضا.. بل ان تحليل معارفنا يشهد بأن الإنسان لا يزال يعرف قدرا ضئيلا من السنن الكونية ولعله لدى تطور العقلية البشرية من واقعها الضحل إلى مستوى أرفع يتبين أن سنناً أخرى تحكم الحياة جنبا إلى جنب مع السنن المعروفة. فمثلا: نحن ننكر إمكانية المعراج لأنه ينافي معارفنا حول الجاذبية، ولا ننكر إمكانية الصعود إلى القمر لأننا عرفنا ان استخدام الصواريخ والوقاية الكافية و.. و.. يجعل المركبة الفضائية تتحكم بالجاذبية فلا يجري آنئذ قانون الجاذبية في هذه الحالة المعينة ولعله لو تقدم العلم اكتشفنا طريقة أبسط وأسهل للتحكم بالجاذبية التي تجعلنا نطير حول الفضاء دون الإستعانة بالمركبة الموجودة.
وهنالك نعرف ان نسبة معارفنا اليوم إلى معارفنا ذلك اليوم كنسبة معارف القرون الوسطى إلى معارف القرن العشرين، وعندئذ يمكننا التصديق بالمعراج حتى بدون مركبة فضائية.
فالمعجزة ظاهرة تعيش إلى جانب الظواهر الواقعة يوميا. وكما لا يسعنا إزاء هذه الظواهر الا البحث عن سنتها بموضوعية دون ردها سلفا، فكذلك لا يسعنا أمام المعجزة الا البحث عن واقعها دون إنكارها اعتمادا على سائر الظواهر المعروفة.
الشهادة الثانية: وهي تأتي من الإيمان بالقدرة اللامتناهية لخالق الكون سبحانه، الذي لم يعجز عن خلقه بأية صورة شاء، بل جعل الاختلاف في مظاهر القدرة دليلا بارزا على احاطة قدرته لكافة المحتملات. وقد سبق الحديث منا حول ان قدرة الله غير متناهية وان من مظاهر قدرته: إجراء السنن وانه لولا هذا الاجراء لما كان هناك أي تسلسل بين خط الأسباب وخط المسببات.
فهاتان شهادتان دلتانا على إمكانية حدوث المعجزة. بعد هذا نقول: من الشواهد الواضحة على نبوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الآيات التي أظهرها الله على يديه. وقد ثبت لنا بالنقل المتواتر الذي لا يحتمل الكذب(1) حيث ان المسلمين باختلاف فرقهم وتشتت مذاهبهم أنبأوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم انه جاء بمئات من المعاجز التي تدل بصفة قاطعة على وجود طائفة منها قطعا.
هذا بالإضافة إلى بعض القرائن الأخرى التي تؤكد ظهور المعجزة على يد الرسول صلى الله عليه وسلم وهي الأمور التالية:
1- ان الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقص على المسلمين معاجز الأنبياء السابقين وكان يقول ان على النبي صلى الله عليه وسلم ان يأتي بآية بينة لقومه حتى يصدقوه فلو لم يكن يأتي هو لهم بمعاجز كان مكذبا لنفسه إذ كان لقومه ان يقولوا له إذا كنت قد نبأت فعلا وتزعم ان النبي يأتي قومه بالمعاجز فلماذا لم تأتنا بها(2)؟
2- ان القرآن نقل للناس طائفة من معاجز الرسول (ص)؛ مثل محاربة الملائكة معه يوم بدر، وإخباره بالغيب كفتح مكة، والتغلب على ملك الفرس والروم وما أشبه.. ولو كان كاذبا في نقله إذا لكذبه الكفار فورا(3)
__________
(1) - يعتمد الإنسان في كل شؤونه على النقل المتواتر، وهو نقل طائفة كبيرة من الناس يضمن الإنسان معهم عدم الكذب. فمثلا: يثبت الإنسان وجود البلاد البعيدة بالنقل المتواتر كما يثبت وجود الأمم البالية -كعاد وثمود- بالتواتر. وكذلك ثبت ان للنبي محمدا (ص) معاجز بينات؛ ثبت بالنقل المتواتر حيث لم نر أحدا من المؤرخين المعاصرين للنبي (ص) يبدي أية معارضة لها، مع انها لو كانت كذبا إذاً كان يعارضها طائفة كما أثبتها طائفة، لاسيما مع وجود معارضة قوية للرسول (ص) متمثلة في المشركين اليهود والمنافقين الذين لم يؤمنوا بالرسول ولا بصحة معاجزه الا انهم لم يسعهم انكارها بل نسبوا السحر إليه حيث زعموا: ان المعاجز نوع من السحر. والى هذه الحقيقة ترشدنا الرواية التالية:
في الحديث عن الرسول (ص) انه قال لأبي جهل حينما انكر الآيات المنقولة له بطريق متواتر: (يا ابا جهل فإن كان لا يلزمك تصديق هؤلاء على كثرتهم وشدة تحصيلهم فكيف تصدق بمآثر آبائك وأجدادك ومساوئ اسلاف اعدائك؟ وكيف تصدق عن الصين والعراق والشام إذا حدثت عنها، وهل المخبرون عن ذلك الا دون هؤلاء المخبرين لك عن هذه الآيات مع سائر ما شاهدها منهم من الجمع الكثيف الذين لا يجتمعون على باطل يتخرَّصونه الا كان بازائهم من يكذبهم ويخبر بضد إخبارهم)(بحار الانوار،ج17،ص244).
وفي حديث احتجاجي بين الامام الرضا (ع) وبين علماء اليهود، قال (ع): فما يمنعك من الاقرار بعيسى بن مريم (ع) وقد كان يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والابرص ويخلق من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله؟
قال رئيس علماء اليهود المدعو بـ(رأس الجالوت): يقال انه فعل ذلك ولم نشهده.
قال الرضا (ع): أرأيت ما جاء به موسى من الآيات، شاهدته؟ أليس انما جاءت الأخبار من ثقات أصحاب موسى عليه السلام أنه فعل ذلك؟
قال (رأس الجالوت): بلى.
قال الرضا (ع): فكذلك أيضا أتتكم الأخبار المتواترة بما فعل عيسى ابن مريم (ع) فكيف صدقتم بموسى ولم تصدقوا بعيسى؟ (فلم يحر جوابا).
فقال (ع): وكذلك أمر محمد وما جاء به وأمر كل نبي بعثه الله. ( بحار الانوار ،ج10،ص309 )
والواقع ان المعجزة لا تعدو ان تكون كأية حادثة تاريخية أخرى لابد ان نبحث عنها بصورة موضوعية مجردين تماما عن الاستبعاد الذي يكتنف الموضوع لانه بعيد عما باشرناه من السنن الكونية.. بلى؛ لو لم نستطع ان نؤمن فلسفيا بإمكان المعجزة إمكانا عقليا، إذاً امكننا نبذ الأنباء المتواترة منها وغير المتواترة لأن العقل أمتن ثقة من النقل. بيد انه ثبت لنا فلسفيا امكان بل وضرورة المعجزة فلا يسعنا الا قبول الأخبار الموثوقة بها على صحتها.
(2) - في القرآن آيات كثيرة تدل على ظهور المعاجز على أيدي الأنبياء السابقين وإليك بعضها.. قال الله سبحانه: [وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] (سبا10-11).. وقال: [وإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ مَا لَكُمْ مِن إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ ءَايَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ](الأعراف 73).
(3) - قال الله تعالى، وهو يبين بعض آيات الله التي ظهرت على يد الرسول الخارقة:
[سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الاَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ](الأسراء 1). وقال [ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ](آل عمران 44). وقال [فَاَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا](التوبة40).(2/53)
.
3- المعهود من أقوال الكفار المعاصرين للرسول صلى الله عليه وسلم انهم كانوا ينسبونه إلى السحر، وقد قص لنا القرآن ذلك نقلا عنهم فقال: [وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِاَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ](الأنعام 7) ولابد انهم شاهدوا منه ما يتشابه والسحر في اعينهم فنسبوه إليه، جهلا منهم بواقع السحر والفرق بينه وبين المعجزة.. في حين ان الفارق بين السحر والمعجزة كبير ويكمن في ثلاثة أمور:
الأول: ان السحر يحتاج إلى تعلم والمعجزة تأتي موهبة من عند الله، ولذلك فإن الساحر لا يكون ساحرا الا بعد سنين من الدراسة المرهقة، أما الرسول فإنه تصدر منه المعجزة بغير تعلم. والساحر لا يعرف الا نوعا خاصا من السحر بعد ان يتقن معرفته في حين يتمكن النبي صلى الله عليه وسلم من القيام بعدة معاجز مختلفة نوعا في وقت واحد؛ فمن شق القمر إلى تسبيح الحصى إلى انقلاب الجذع نخلة باسقة.
الثاني: ان السحر يأتي باختيار الساحر وإرادته بينما لا يأتي الاعجاز الا بإرادة الله سبحانه، ولذلك فإن السحر قد يأتي مؤيدا للحق وقد يأتي مخالفا له، أما المعجز فلا يقع إلا موافقا للحق، وللحكمة التي ترشد إليها الرؤية الصائبة وفي سبيل الاصلاح.
وبكلمة: ان السحر يستخدم في المطامع والاهواء بعكس المعجزة، التي لا يمكن استخدامها الا في سبيل الخير ولا يؤتى بها الا بإرادة الله. ومن هنا كان الكفار يطالبون الأنبياء (ع) بالمعجزة في بعض الأحيان، ولا يستجيب لهم الأنبياء (ع) قائلين: ان ليس لهم من الأمر شيء بل ان يشاء الله نزل عليهم آياته في حين كان هوى النبي صلى الله عليه وآله وسلم موافقا مع إبداء الآية ـ بحسب الظاهر ـ ولكن حيث ان الحكمة لم تكن مع ابدائها لم يكن الله تعالى يبعثها. وأوضح شاهد على ذلك قصة موسى (ع) مع السحرة إذ لم ياذن الله لموسى بالقاء عصاه الا بعد ان امتلأ رعبا وخاف ان لا يؤمن الكفار وكان في ذلك دليل على ان موسى عليه السلام لم يكن بذاته قادرا على إحداث الخارقة بل بإذن الله، حيث ان السحر يؤثر في إطار محدود بينما المعجزة لا تتحدد بإطار. فالساحر ـ مثلا ـ لا يتمكن من احياء الميت وإبراء الأكمه والأبرص أو قلب العصى الصغيرة إلى ثعبان مبين يلقف الحبال ثم يرجع إلى اصله وكأن شيئا لم يكن، أو خلق طوفان يملأ الأرض ماء، إن الساحر لا يفعل مثل هذه وقد فعلها الأنبياء عليهم السلام.
الثالث: بل لعل السحر لا يتمكن من البناء بل على الهدم فقط بينما يستطيع النبي ان يبني كما يستطيع ان يهدم بالمعجزة . فالساحر قد يتمكن من ان يجعل شجرة باسقة أعوادا يابسة ولكنه لا يجعل العود اليابس شجرة باسقة. واما المعجزة فإنها التي تجعل من الجذعة الذابلة نخلة تساقط رطبا جنيا. الساحر يمكن ان يجعل الناس فرقا شيعا ولكن لا يستطيع ان يؤلف قلوبهم كانهم بنيان مرصوص ويبعثهم أمة وسطا. السحر قد يجعل الأمة القوية شعبا مستضعفاً ولكنه لا يتمكن من ان يفعل خلاف ذلك – كما تفعل المعجزة- فتبدل الشعب المستضعف امة قوية. السحر قد يجعل من النظام فوضى ولكن لا يخلق من الفوضى نظاما يبهر العقول.
إذا فهناك فروق أساسية بين السحر والمعجزة نابعة من مصدر السحر الذي لا يعدو ان يكون استخدام بعض السنن الخفية بعد دراستها واتقانها. ثم يكون استخدام الساحر الذي يتأثر بالضعف البشري فيستخدم ذلك في الغالب فيما يضر الناس دون ما ينفعهم. وعلى ذلك نعرف ان انكار الكفار المعاصرين للرسول صلى الله عليه وسلم معجزاته واتهامه بالسحر لم يكن الا خلطا ساذجا بين معطيات السحر والمعجزة، لجهلهم أو استكبارهم عن الحق.. فإذا عرفنا نحن ان ما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن من السحر علمنا انه كان معجزة فكان كلام الكفار دليلا على صدق نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم وثبوت المعجزة له.
الكتاب المعجزة
القرآن هي المعجزة التي تبقى دليلا واضحا على رسالة النبي صلى الله عليه وسلم مدى الدهر.. رجل أمي -عرفه معاصروه انه لا يقرأ ولا يكتب - يأتي بكتاب مفصل فيه علم كل شيء، بلغ في الفصاحة والبلاغة الذروة، وضرب في الأسلوب والمحتوى أرقى رقم يقاس، ثم يتحدى به العالم كله ويقول لهم – بأعلى صوت- [وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِن مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَآءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ](البقرة 23).. ثم يقول: [... لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً](الأسراء 88).
القرآن يتحدى العالم..
ان مجرد التحدي من رجل أمي في الجزيرة العربية لشهادة كبيرة على ان صاحبه ليس برجل عادي، لاسيما وأن هذا التحدي لازم الرسول صلى الله عليه وسلم حتى نهاية حياته حيث لاحظ حضارات البشرية عن كثب وعرف أبعاد ما فيها، وقد عجزت البشرية رغم تكاثر الأعداء الألداء، عجزت حتى عن محاولة التحدي المضاد.
وفي بداية البعثة، زعم بعض العرب المغرورين بفصاحتهم؛ انهم قادرون على التحدي المضاد، الا انهم سرعان ما اكتشفوا ضلالهم البعيد.
فالشاعر العربي (بشير) الشهير ببلاغته قال أبياتا زعم أنها أفصح من القرآن فعلقها على الكعبة، ولم يكن يعلق عليها الا شعر أفصح العرب، ولما رأى المسلمون اعجاب (بشير) بأشعاره كتبوا بعض آيات القرآن وعلقوها إلى جنب أشعار بشير، فلما مر بها بشير أبهرته قوة البلاغة في القرآن وهتف قائلا: والله ما هذا بقول بشر وأنا من المسلمين.
وبعد قرن من بزوغ الإسلام زعم بعض المنافقين ان الوقت حان للإجابة على تحدي القرآن فاتصل بالأديب العربي الشهير (بن المقفع) الذي أغرته ثقافته الفارسية الفلسفية الواسعة فقبل الدعوة إلى التحدي المضاد ولكنه اشترط على صاحبه المقترح ان يتكفل له بما يحتاج إليه خلال سنة، وهي المدة التي زعم انه قادر على انجاز مهمته فيها، ولما مضى نصف عام عاد إليه صاحبه ليعرف مراحل العمل في مواجهة تحدي القرآن فوجده جالسا والقلم يرتعش بين أصابعه وقصاصات الورق تتناثر من حوله، فاعترف بأنه قد أصيب بفشل ذريع في محاولته هذه رغم ما بذله من جهود جبارة إذ انه لم يستطع ان يأتي بآية واحدة من طراز القرآن..
ولسنا بحاجة إلى ذكر المزيد من القصص التاريخية بعد ان اعترف بعظمة القرآن كل من تدبر فيه. ولم يظهر حتى الآن من نجح في صياغة آية واحدة ـ ولو بصورة تقليدية ـ كآيات القرآن الحكيمة، وان أغمضنا النظر عن تحدي القرآن فإن ذاته يدل على صدق هذا الكتاب الذي ظاهره أنيق وباطنه عميق، ظاهره حكم وباطنه علم، قيم لا عوج فيه، حق لا باطل معه، لا تختلف أحكامه ولا تتناقض مبادؤه ولا تتعارض أصوله وفروعه ومفاهيمه وأحكامه.
هذا الكتاب الذي بهر البلغاء فرفعت اعلام الاستسلام واستهوى العالم كله، فظل يستلهم منه طيلة أربعة عشر قرنا فلم تبل عجائبه ولم تخلق نضارته بل جاء كل جيل فاقتبس من نوره واهتدى بهداه وذهب ليستخلفه الجيل الثاني في ذلك دون ان يؤثر تطور الحياة وتقدم العلوم واختلاف الزمن شيئا في عظمته وأهميته. هذا الكتاب يأتيه رجل أمي محض، أليس في هذا معجزة دونها معاجز الأنبياء عليهم السلام.
أين معجزة القرآن؟(2/54)
القرآن معجزة لاشك في ذلك، إذ لو لم يكن معجزة إذا لاستطاع البشر ان يأتوا بمثله وقد تحداهم جميعا من أول يوم وإذا كان يشبه كتب البشر في شيء واحد بينما يختلف عنها في كل شيء فلا يكون الا معجزة ولكن أين من القرآن المعجزة؟ في أية ميزة منه اختبأت المعجزة؟ في الجواب نقول:
أ- قد احتوت آياته على علوم لم يعهدها البشر ذلك اليوم واكتشفها عصر النور.. فبالرغم من ان رموز القرآن لم تحل بصورة دقيقة نظرا لضحالة معارف الإنسان، فإن آيات قرآنية كثيرة اشارت إلى حقائق علمية لم تعرف الا منذ زمن قريب. وان مقارنة القرآن في هذا الحقل بأي كتاب تاريخي يظهر لنا بوضوح مدى الفرق بين كتاب البشر وكتاب الخالق الأبدي الذي لا يمكن ان يتجاوزه الزمن، أنى سارع في مسيرته. بل انه يبقى أبدا أمام الاكتشافات، فيعود الإنسان إليه كلما عرف سرا ليجد به إشارة بارزة إليه حتى انه يعتقد بيقين ان القرآن يحتوي على العلم كله.. ونحن إذ نذكر بضعة أمثلة فإنها ليست سوى طليعة الشواهد العلمية التي تتلاحق لتكشف عن إعجاز القرآن:
1- لقد اكتشف العلم ان المادة كانت جامدة وساكنة وحدث فيها انفجار هائل قبل خمسة ملايين مليون سنة فبدأت المادة تتمدد حتى ان دائرة المادة كانت ألف مليون سنة ضوئية وأصبحت الآن عشرة أمثال ذلك. وهكذا تتوسع المادة الا انها كلما توسعت كلما كثر بداخلها الفضاء الخالي حتى انه لو طوينا الكون بحيث لم يبق فيه فضاء خال تضاءل الكون حتى أصبح كحجم الشمس بضعة عشرة مرة. أليست تدل هذه الكشوف العلمية تدل على بضع رموز الآيتين الكريمتين:
أ- [أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا](الأنبياء 30).
هل هناك تعبير أفصح من تعبير الرتق والفتق تكشف عن هذه الحائق؟
ب- [يَوْمَ نَطْوِي السَّمآءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ](الأنبياء 104).
أليس الطي أصدق تعبير لاخلاء المادة عن الفضاء؟.
2- من المفهوم لدى العلماء اليوم ان المادة الخفيفة وزنا ارتفعت على سطح الأرض وكانت الجبال، وبقيت المادة الثقيلة مكانها فكانت البحار، واستطاع ارتفاع مكان وانخفاض آخر ان يحافظ على توازن الأرض والا لمادت بأهلها. هذه الحقيقة، الا ترى دلت عليها الآية التالية بأبلغ تعبير: [وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ](لقمان 10).
3- وتتفق نظريات علماء الجغرافيا والنبات وغيرهم على ان الأرض كانت متمركزة في البدء ثم انتشرت. وهذه تتفق تماما مع كلمة (دحو) التي استعملتها آية قرآنية عند بيان بداية الأرض، ذلك لأن (الدحو) تعني التسوية في الانتشار من مكان تتجمع فيه المادة.
قال الله تعالى: [وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَآ * أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا](النازعات 30/31).
وكفى بهذه الأدلة دليلا على مدى الانسجام بين آيات الكتاب وكشوفات العلم الحديث وهي مقتبسة من موضوع تكون المادة فقط.. وفي سائر المواضيع شواهد أكبر وأكثر.
ب- والقرآن ليس فيه اختلاف بين المبدأ والشريعة والأخلاق الذي نجده في المبادئ الأخرى. فالقرآن مثلا يقر مبدأ التوحيد ثم لا يشذ عنه في صغير أو كبير، بل يصدر عنه كل شيء، بعكس المبدأ الماركسي – مثلا – فإنه يتبنى مبدأ في الفلسفة يناقضه في التشريع أو في الأخلاق.
ج- وهو أفصح ما عهده العرب وأبلغ ما عهده الإنسان من ألفاظ وتراكيب، ولذلك أنزلت العرب معلقاتها العشرة الفصيحة عندما نزلت بعض الآيات، قائلين انها سوف تفضحنا لأنها من قبيل وضع الحصى في عرض الأحجار الكريمة.
د- وأعتقد ان أهم ما في القرآن هي معارفه التي حلت للناس كل مشاكلهم الفكرية والتي عجزت عن حلها البشرية جميعا. والقرآن نفسه يذكر ان سر عظمته بالدرجة الأولى هي معارفه فيقول: [يَآ أيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُم مَوْعِظَةٌ مِن رَبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ](يونس 57).. يظهر من هذه الآية ان شفاء ما في الصدور والهدى هي السمه الكبرى الموجودة في القرآن وهي مرتبطة بظاهرة كشف الحقائق في القرآن. ومن هنا فقد تحدى القرآن بتلك المعارف البشر جميعا، لا العرب وحدهم.
تبشير الكتب المنزلة
وحجة أخرى على صدق رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بشارة الكتب السماوية به. يمكننا معرفة هذه البشارة بطرق ثلاثة:
الأول: لقد ذكر القرآن في عدة آيات ان الأنبياء السابقين قد بشروا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقال سبحانه [الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الاُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّورَاةِ وَالإِنْجِيلِ](الأعراف 157) .. ولعن الأحبار والقسيسين الذين كتموا الحق بالبشارة به صلى الله عليه وآله وسلم فقال: [إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ اُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ](البقرة 159) وقال في سياق الحديث عن رسالة النبي عيسى(ع) انه كان يبشر بنبي يأتي من بعده فلو لم يكن الرسول صادقا في قوله انه قد بشرت به الكتب السماوية السابقة، إذن لكان يكذبه اليهود والنصارى مع انا لا نعهد منهم ذلك أبدا. بل كل ما في الأمر انهم قالوا -استكبارا عن الحق- ان الرسول الذي وصف في الكتاب انما يأتي بعد قرن من تاريخ بعثة الرسول وأظهرت الأيام كذبهم؛ ولم يكن ذلك الا من بعضهم، اما الآخرون فإنهم آمنوا به اعتمادا على الأوصاف التي اعتقدوا بأنها ظاهرة في الرسول صلى الله عليه وسلم بالضبط.
والخلاصة: ان الرسول ادعى انه المبشر الموعود في الكتب السابقة، وحيث لم ينكر ذلك أحد من معاصريه عرفنا انه كان صادقا في هذه الدعوى.
الثاني: القدر الموجود بأيدينا من الكتب السماوية تتضمن، على الرغم من كثرة التحريف فيها بأيدي المعاندين للرسالة الجديدة الذين هددت الرسالة مصالحهم الشخصية؛ على الرغم من كل ذلك فإن الكتب السماوية الموجودة لا تزال تحتوي على بشائر كثيرة بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم وإليك طائفة منها:
1- في انجيل برنابا؛ الفصل الثاني بعد الأربعين: (ولا أحسب نفسي كالذي تتحدثون عنه، ذلك لأني لا أليق أن أحل سير رسول الله الذين تسمونه (مسبأ) الذي خلق قبلي وسيبعث قريبا وسيأتي بكلام الحق والذي ليس لدينه نهاية).
2- (وذلك لأن الله قد وعد إبراهيم ان يبعث من ذريته من يبارك به جميع قبائل الأرض وكما حطمت الأصنام فسوف يحطم ابنك جميع الأصنام).
3- وفي التوراة - السفر الأول، الباب الرابع عشر، الآية 20-: (وفي خصوص اسماعيل أجبت على دعوتك وباركت في نسله ويظهر منه اثني عشر رئيسا وسوف يأتي من قبله شعب عظيم).
4- وفي نفس الفصل ذكر ما نذكر فيما يلي نصه وترجمته: وهمفريتي اتو = (واجعله محظوظا وفيرا)، وهريتي اتو = (وأجعله كثيرا)، بمئد بمئد = (بسبب محمد)، شنم عاسار = (اثني عشر)، نسئيم بوليد = (إماما يولده)، وانشتيوا لفهي كادول = (وأجعله أمة كبيرة)(1).
5- وفي التوارة، السفر الخامس، الباب الثامن، الآية 18-: (وقال لي الرب ما قيل لك حسنا سأبعث لهم نبيا من أخوتهم بني اسماعيل) ولم يدع منهم النبوة أحد سوى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فهو إذا المقصود بهذا النص.
__________
(1) - هذه العبارة منقولة من التوراة بترجمة بعض المختصين باللغة.(2/55)
6- وفي التوراة أيضا - السفر الخامس، الباب الثالث والثلاثين، الآية 21: (وهذه هي البركة التي بارك بها موسى بني إسرائيل قبل وفاته قال: جاء يهوى عن سيناء - وهو الوادي الذي بعث به موسى عليه السلام - وطلع لهم من ساعير - وهو مبعث عيسى عليه السلام - واستنار من جبل فاران - وهي مكة المكرمة-) .. والواضح انه لم يبعث من جبال مكة الا النبي محمد (ص).
وهناك طائفة كبيرة أخرى من النصوص التبشيرية نتركها للإيجاز.
الثالث: المناظرات؛ وثالث ما نستكشف به البشارات الموجودة في الكتب السابقة ببعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو ما ذكرت في المناظرات التي جرت بين علماء المسلمين وبين علماء اليهود والنصارى.. وبما إننا عرفنا من الرواة الناقلين لهذه المناظرات الصدق والضبط بطرق فنية دقيقة فإن هذه المناظرات معتمدة لدينا كما هي معتمدة لدى جميع العقلاء على أصلهم الثابت من الاعتماد على كل ما يفيد ثقة واطمئنانا نفسيا. ونحن فيما يلي نستعرض مناظرة واحدة فقط اختصارا للحديث، وهي المناظرة التي جرت بين الإمام الرضا (ع) وبين كبير علماء اليهود والنصارى.
قال عليه السلام لجاثليق - كبير علماء النصارى- : ( فأقسمت عليك هل نطق الانجيل ان يوحنا قال: ان المسيح عليه السلام اخبرني بدين محمد العربي (ص)، وبشرني به انه يكون من بعده فبشرت به الحواريين فآمنوا به؟
قال جاثليق: قد ذكر ذلك يوحنا عن المسيح (ع) و بشر بنبوة رجل وبأهل بيته ووصيه ولم يخص متى يكون ذلك ولم يسم لنا القوم فنعرفهم.
قال عليه السلام: فإن جئناك بمن يقرء الانجيل فتلى عليك ذكر محمد وأهل بيته وأمته أتؤمن به؟
قال جاثليق: سديدا (أي نعم بالتأكيد).
قال الرضا (ع): لنسطاس الرومي: كيف حفظك للسفر الثالث من الانجيل؟
قال: ما أحفظني له.
ثم التفت الرضا (ع) إلى رأس الجالوت، وكان عالما يهوديا: ألست تقرأ الانجيل؟
قال راس الجالوت: بلى لعمري.
قال عليه السلام: فخذ عليَّ السفر الثالث (فقرأ الإمام فقرات منه حتى إذا بلغ ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وقف ثم قال): يا نصراني اني أسالك بحق المسيح وأمه أتعلم إني عالم بالإنجيل؟
قال: نعم.
ثم تلا عليه ذكر محمد وأهل بيته وأمته.. ثم قال: ما تقول يا نصراني؟ هذا قول عيسى بن مريم (ع) فإن كذبت ما ينطق به الإنجيل فقد كذبتَ موسى وعيسى(1)؟
ثم إلتفت الرضا عليه السلام إلى رأس الجالوت اليهودي فقال: يا يهودي أقبل علي أسألك بالعشر الآيات التي انزلت على موسى بن عمران، هل تجد في التوراة مكتوبا نبأ محمد صلى الله عليه وسلم وأمته: (إذا جاءت الأمة الأخيرة أتباع راكب البعير يسبحون الرب جدا جدا تسبيحا جديدا في الكنائس الجدد فليفزع بنوا إسرائيل اليهم وإلى ملكهم لتطمئن قلوبهم فإن بأيديهم سيوفا ينتقمون بها من الأمم الكافرة في أقطار الأرض) أهكذا هو في التوراة مكتوب؟
قال رأس الجالوت: نعم انا لنجده كذلك(2).
ان هذه الحادثة التاريخية التي أثبتتها كتب الحديث المضبوطة تدل على ان علماء أهل الكتاب لم يكن يمنعهم انكار البشارة بالرسول، حتى في أواسط القرن الثاني من الهجرة، والواقع ان علماء بني إسرائيل كانوا يقولون ان البشارة موجودة ولكنها تختص بمن يأتي بعد قرن من بعثة الرسول ولكنه لم يأت.
شهادة الله
لقد تحدى النبي صلى الله عليه وسلم كل البشر بما لهم من مبادئ وأفكار وبما ينتحلون من شرائع وأديان، تحداهم في أكثر من آية وأكثر من مشهد بأن الله شهيد بيني وبينكم.. قال الله في كتابه العزيز: [قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ](الأنعام 19)… [وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ](الرعد 43)..
ما هي هذه الشهادة وكيف يشهد الله على صدق نبوة محمد (ص)؟ ان الله يشهد من عدة طرق:
1- استجابة الدعاء لكل من توسل إلى الله بالنبي وآله صلى الله عليه وسلم مما يدل على إخلاصهم لله..
2- ونصرة الله لمن يؤمن بشريعة الرسول ويتمسك بها تماما.
3- مضافا إلى هاتين الشهادتين هناك نوع آخر من الشهادة هي: ان من يؤمن بالله إيمانا حقيقيا يجد نفسه أمام أسلوب جديد للتفكير، ومنهج جديد للسلوك، وقيم جديدة للأخلاق، ثم يجد نفس ذلك الأسلوب والمنهج والقيم موجودة في شريعة الرسول فيعلم انها من عند الله وإليك مثلا لذلك: من عرف الله بقلبه صدقا وعدلا، يعرف ان الأشياء تأتي من الله وإلى الله تعود، وان خير الأعمال هي التي تقربه إلى الله زلفى، وخير الأخلاق ما تطهره من الهوى والغضب، ويشهد على هذه الحقائق وجدان كل من باشر بقلبه حقيقة الإيمان. فإذا وجد في الإسلام وفي شخص الرسول نفس هذا الاتجاه وهذا الأسلوب عرف انه من عند الله تعالى يقينا.. ثم ان من آمن بشريعة الرسول واستشعر قلبه التقوى دنى إلى الله أكثر فأكثر حتى انه يرى الله بنور الإيمان، فيعرف ان دعوة الرسول كانت صادقة ويكون مثل الدين بالنسبة إليه مثل من هُدي إلى طريق وقيل له انه يبلغ بالفرد إلى بلد معين، ثم سلكه فوصل إليه فعلا. فلا تبقى لديه أية ريبة بالنسبة إلى صدق الهادي.
=======================
البحث الثالث عن: الولاية(3)
(1)
الحاجة إلى الإمام
كما لا تكمل الرسالة بدون الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك لا تتم الشريعة بدون إمام. ذلك لأن طبيعة البشر تهوي به إلى أسفل ولا يكفيها وجود شريعة محفوظة في الأسفار، بل لابد من تجسيد تلك الشريعة في إنسان يتمتع بتفوق تشريعي يعطيه صلاحية تطبيق الشريعة على الناس، إذ لابد لكل قانون من مطبق نافذ الكلمة والا عاد القانون حبرا على ورق.
__________
(1) - بحار الانوار ،ج10 ،ص302 .
(2) - المصدر ،ص305 .
(3) -قلت : هذا المبحث مبني على أصلين :
الأول - حاجة الناس للإمامة وهذا أمر مجمع عليه بين العقلاء مسلمين وغير مسلمين
الثاني - هل الولاية باختيارمن الناس أم بتعيين من الله والرسول ؟
الصواب أنها اختيار من قبل أهل الحل والعقد لأصلحهم ، وليست تعيينا كما يدعي الشيعة ، فكل ما ساقه المؤلف عن الإمامة وأنها تعيين كلام إما غير صحيح
أو أنه صحيح غير صريح ، وقد رد علماؤنا الأفاضل من قبل على هذا الزعم وأهم ذلك كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله منهاج السنة النبوية في الرد على الشيعة والقدرية
وهم أنفسهم تحت وطأة الواقع تراجعوا عن هذه المزاعم واخترعوا فكرة ولا ية الفقيه ، فسقطت نظريتهم من الوجود لأنه لم يستلم الخلافة سوى اثنين من أئمتمهم والباقي لم يستلم شيئا أصلا ، وبهذا تسقط فكرة التعيين من أساسها ( علي )(2/56)
ولقد شاء الله تبارك وتعالى ان يسعد الإنسان في الحياة بدون ان يضطره إلى ذلك فيسلبه كرامته وحريته، إذ أنهما أعز على الإنسان حتى من السعادة ذاتها. وهكذا كان ينبغي عليه ان يوفر له كل وسائل السعادة حتى إذا شاء أخذ بها، فشرع له الشرائع وعبَّد له المناهج، ثم بعث رسولا يبين له وينذره ويبشره ويدعوه إلى تطبيق ذلك ويشرف على تنفيذه، وكان عليه لهذه الناحية ان لا يترك الخلق فوضى دون منفذ للشريعة بعد الرسول (ص)، بل كان ينبغي ان يعين لهم أئمة يتمتعون بما يتمتع به الرسول من صلاحيات، ويقومون بما يقوم به الرسول من مهمات. كل ذلك إتماما للنعمة وتحقيقا للحكمة وتوفيرا لوسائل السعادة التي هي الهدف النهائي لحياة الإنسان. ولكن كما لم يشأ الله ان يُكرِه الناس على الهدى في عهد الرسول إبقاءا لهم على النعمة الكبرى الموهوبة لهم، وهي نعمة الحرية؛ فكذلك لم يشأ ان يجبرهم على اتباع الإمام جبرا. وهكذا أبقى على الإمام الأخير صاحب الزمان (عجل الله فرجه) إتماما لحجته على خلقه وتوفيرا لمنتهى ما يمكنهم ان يبلغوه من سعادة الدنيا والآخرة. غير ان الحكام شردوا الأئمة عليهم السلام وقتلوهم وأزالوهم عن مراتبهم ولم يستفيدوا من علومهم وكفاءاتهم، فكان مثل الأئمة بينهم كمثل سراج يطفئه طاغية فلا يستفيد منه الناس.
هذا موجز الحديث عن فلسفة الإمامة عند الشيعة وان من يستوعبها يتمكن من رد الشبهات التي تلوكها ألسنة البسطاء والتي تتلخص في الأمور التالية:
يقولون: ألم يكف الناس كتاب الله وفيه علم كل شيء؟
نقول: إذاً فماذا كان السبب في ان يبعث الله أنبياء ان كان يكفي الناس نزول الكتاب في قرطاس؟ ان الحاجة إلى وجود مبلغ للرسالة هي الحاجة إلى وجود منفذ للشريعة وهو الإمام.
يقولون: إذا فلماذا لم ينصر الله الأئمة بالغيب؟
نقول: لأنه شاء ان يجعل الدنيا دار بلاء يعمل الناس فيها بحريتهم تماما كما ان كثيرا من الأنبياء ـ عليهم السلام ـ لم يرد الله إجبار أممهم على اتباعهم!
يقولون: فما هي فائدة إمام غائب؟
نقول: مثله مثل طبيب لا يدعوه الناس إلى مرضاهم، الذنب ذنب الحكام الطغاة الذين تسببوا في غيبته. اما الله فقد اتم نعمته باصطفائه الإمام. وان هناك ظهورا ينتظره القدر حيث يعود الإمام (عج) إلى المسرح لكي يطبق أحكام الله جميعا وهي فائدة كبيرة.. ونظرا لأهمية الحديث يجب ان نفصل وجوه الحاجة إلى الإمام ضمن بضعة نقاط، وقبل التفصيل لابد ان نعلم ان الحاجات تنبعث من منطلق واحد هو ان الله خلق في الإنسان الكفاءة التامة لبلوغ أسمى درجات الفلاح في الدنيا والآخرة، وانجاز هذه الكفاءة يتوقف على وجود الحجة الذي يأخذ بيد من يشاء ويبلغه الفلاح المتوخى فلو لم يجعل الله حجة لخلقه إذاً لكانت هذه الكفاءة لغوا تعالى الله عنه.
1- الولاية لله:
ان الله هو الحاكم المطلق الذي لا يحق لأحد ان يشرع للخلق من دونه في قليل أو كثير. وبما انه أجل من أن يباشر الخلق بالهداية والتشريع فإنه يبعث أنبياء يهدونهم ويبلغونهم رسالاته. وبما ان من الواضح ان المسلمين لم يبلغوا بعد عهد الرسول صلى الله عليه وسلم درجة من النضج الفكري والرشد الاجتماعي، وأخيراً لم يتقمصوا الشريعة الإسلامية بصورة كاملة لا علما ولا عملا، لما دل على ذلك من اختلافهم الواسع في الأحكام والمعارف الإسلامية، لزم ان يكون لهم امام معصوم من بعد الرسول يقوم ببيان الأحكام وشرح المعارف حتى يكتمل نضج طائفة طليعية في الأمة تستمر بها الأمة مدى الدهر محتفظة بالروح الإسلامية الكاملة. هذا من جانب ومن جانب آخر لزم ان يكون لهم من يُجري عليهم الأحكام حتى لا تضيع الرسالة في زحمة الأهواء المادية. والحديث التالي يشير إلى هذه الحقيقة إذ يقول الإمام الرضا (ع): (فإن قال قائل: فلم جعل أولي الأمر وأمر بطاعتهم؟ قيل لعلل كثيرة منها: ان الخلق لما وقفوا على حد محدود وأمروا أن لا يتعدوا ذلك الحد لما فيه من فسادهم لم يكن يثبت ذلك ولا يقوم الا بان يجعل عليهم فيه أمينا، يأخذهم بالوقف عندما أبيح لهم، ويمنعهم من التعدي والدخول فيما خطر عليهم، لأنه لو لم يكن ذلك كذلك لكان أحد لا يترك لذته ومنفعته لفساد غيره، فجعل عليهم قيما يمنعهم من الفساد ويقيم فيهم الحدود والأحكام)(1).
القيادة ضرورة أبدا
هل الأمة بحاجة إلى قيادة ؟
لأن كانت هذه الحقيقة موضوع نقاش حينما قالت طائفة الخوارج بعدم حاجة المجتمع إلى قيادة، أو عندما قالت الفوضوية بذلك، فإنها غير واردة أبدا اليوم، إذ لم يعد هناك أي إنسان يشك في ضرورة القيادة للإنسان، والتاريخ لم يهدنا إلى مثال واحد استغنى فيه المجتمع عن القيادة.. ومن هنا وجب على الإسلام أيضا ان يعين القيادة الصالحة.
وبما ان الدين الإسلامي أتم الشرائع، كان لابد ان تكون قيادته بمستواه، وهل يتحقق ذلك في غير الإمام المعصوم وهو أعلم أهل عصره وأتقاهم؟
والخلاصة: ان المجتمع بحاجة إلى القيادة، وخير القادة المعصوم العالم المؤيد من قبل الله تعالى، فكان من حكمة الله ورحمته ان يعين للمسلمين هذه القيادة التي تتمثل في الإمام عليه السلام.
الحديث التالي عن الفضل بن شاذان يوضح هذه النقطة: (انا لا نجد فرقة من الفرق ولا ملة من الملل بقوا وعاشوا الا بقيم ورئيس لما لابد لهم منه في أمر الدين والدنيا، فلم يجز في حكمة الحكيم ان يترك الخلق مما يعلم انه لابد لهم منه ولا قوام لهم الا به فيقاتلون به عدوهم ويقيمون به فيئهم ويقيم لهم جمعتهم وجماعتهم ويمنع ظالمهم من مظلومهم)(2).
الإسلام رسالة خالدة
علم الله من خلقه انهم لو تركوا وشأنهم لبدلوا السنن وأظهروا البدع ولم يدعوا للأجيال القادمة فرصة السعادة بالدين المبين، فلزم ان يجعل لهم من يحفظ السنة ويمحق البدعة. وإذ كان الإسلام رسالة خالدة فكان لابد ان يوفر الله الوسائل الممكنة لبقائها عبر الأجيال نقية صافية.
قال الإمام الرضا عليه السلام: انه لو لم يجعل لهم (أي للخلق) إماما قيما حافظا مستودعا، لدُرست الملة وذهب الدين، وغُيرت السنة والأحكام، ولزاد فيه المبتدعون، ونقص منه الملحدون، وشبَّهوا ذلك على المسلمين، لأنا قد وجدنا الخلق منقوصين محتاجين غير كاملين، مع اختلافهم واختلاف أهوائهم وتشتت أنحائهم، فلو لم يجعل لهم قيما حافظا لما جاء به الرسول لفسدوا على نحو ما بينا، وغيرت الشرائع والسنن والأحكام والإيمان وكان في ذلك فساد الخلقُ أجمعين(3).
لكي تتبين الشرائع
هناك طائفة كبيرة من الشرائع والأحكام تُبيَّن في الكتاب والسنة، أما الكتاب فبسبب احتوائه على المتشابهات وعدم وجود تفسير صحيح لها. وأما السنة فلعدم وجود كل ما يحتاج إليه الناس فيها، ولبعد الناس عنها، وقلة الثقاة، وكثرة المحرفين ذوي الميول والأهواء المختلفة، كل هذا مضافا إلى كثرة الاشتباه في الموضوعات الخارجية وتطبيق الأحكام العامة عليها. ولذا احتاج الناس إلى إمام عالم معصوم لبيان الأحكام وتوضيح المتشابهات، قال الإمام الصادق (ع): (لم يترك الله الأرض بغير عالم يحتاج الناس إليه ولا يحتاج اليهم.. يعلم الحلال والحرام)(4).
التذكرة بالآخرة
__________
(1) - بحار الانوار ،ج23 ، ص32، ح52 .
(2) - بحار الانوار ،ج6 ، ص60 .
(3) - المصدر .
(4) - بحار الانوار ،ج23 ،ص40 ، ح74 .(2/57)
الدنيا قريبة إلى حواس الناس بينما الآخرة بعيدة عنها، وأكثر الناس تغرهم الدنيا فينسون ذكر ربهم ويغفلون عن الآخرة.. اذاً فلابد لهم من داع يذكرهم بها، ذلك لأن الآخرة حق وفي نسيانها الشقاء العظيم!
جاء في الحديث عن الامام الرضا عليه السلام: (ان الإمامة زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا وعز المؤمنين. ان الامامة رأس الإسلام النامي، وفرعه السامي. بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، وتوفير الفيء والصدقات، وإمضاء الحدود والأحكام، ومنع الثغور والأطراف. والإمام يحلل حلال الله، ويحرم حرام الله، ويقيم حدود الله ويذب عن دين الله، ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البالغة. ثم يضيف الامام في مقطع آخر من نفس الرواية: ( عالم بالسياسة، مفروض الطاعة، قائم بأمر الله، ناصح لعباد الله، حافظ لدين الله)(1).
مرجع الأمة
لابد للناس من مرجع ينتهي إليه كل خلاف.. ذلك ان الناس لا يزالون مختلفين في كل الأمور وهذا الخلاف يؤدي بهم إلى الشقاء الدائم. فلولا ان الله يصطفي من عباده من يحسم لهم الخلاف، فقد كان يقتضي سلب الناس سعادتهم بدوام الخلاف بينهم واقتضى ذلك ان يقض غرضه الذي خلق لأجله الناس وهو الفلاح، وتعالى الله الحكيم ان يفعل شيئا لغاية محددة ثم لا يوفر الوسائل التي تحققها؛ أعجزا ام جهلا ام ظلما؟ سبحانه و تعالى عن ذلك.
جاء في حوار بين أحد أصحاب الإمام الصادق (ع) وكان يدعى بهشام، ورجل شامي وذلك في حضور الإمام (ع):
قال هشام: فبعد رسول الله من؟
قال الشامي: الكتاب والسنة.
قال هشام: فهل نفعنا اليوم الكتاب والسنة فيما اختلفنا فيه حتى رفع عنا الاختلاف و مكّننا من الاتفاق؟.
قال الشامي: نعم.
قال هشام: فلم اختلفنا نحن وأنت وصرت إلينا من الشام في مخالفتنا؟
فسكت الشامي.
فقال أبو عبد الله (ع) للشامي: مالك لا تتكلم؟
قال الشامي: ان قلت إنا ما اختلفنا كابرتُ، وان قلت ان الكتاب والسنة يرفعان عنا الاختلاف أبطلت لأنهما يحتملان الوجه. وان قلت قد اختلفنا وكل واحد منا يدعي الحق فلم ينفعنا إذاً الكتاب والسنة.. ولكن لي عليه مثل ذلك.
فقال ابو عبد الله (ع): سله تجده مليا(2).
فقال الشامي لهشام: من أنظر للخلق، ربهم ام أنفسهم؟
فقال هشام: بل ربهم أنظر لهم.
فقال الشامي: فهل أقام لهم من يجمع كلمتهم و يرفع اختلافهم ، و يبيِّن لهم حقهم من باطلهم؟
قال هشام:نعم.
قال الشامي: من هو؟
قال هشام: أما في ابتداء الشريعة فرسول الله صلى الله عليه و آله وسلم، و أما بعد النبي فغيره.
قال الشامي: من هو غير النبي القائم مقامه في حجّته؟
قال هشام: في وقتنا هذا أم قبله؟
قال الشامي: بل في وقتنا هذا.
قال هشام: هذا الجالس (يعني أبا عبد الله عليه السلام) الذي نشد إليه الرحال ويخبرنا بأخبار السماء وراثة عن أب عن جد.
قال الشامي: فكيف لي ان أعلم ذلك؟
قال هشام: سله عما بدا لك.
قال الشامي: قطعت عذري(3).
الإمامة ضرورة حضارية
ان أبسط تعريف للإنسان وأشمله هو: ان الإنسان خلق حضاريا. وهذا يعني امتلاكه لمؤهلات الحضارة.. وليست الحضارة سوى القدرة على التحكم في الذات.
ولا ريب في ان كل إنسان يجد أمامه آفاقا واسعة يستطيع الانطلاق فيها إلى أسمى مراتب الضبط الذاتي.. ولو فتشنا التاريخ لوجدنا ان قفزاته التقدمية كانت نتيجة البطولات السامية التي تتمتع بها فئة قليلة من بني آدم، ولم يكن الآخرون الا مجرد اتباع اقتفوا آثار البطولات تلك.. فلولا تلك البطولات إذاً لكان يلف التاريخ ظلام كثيف. وأحداث التاريخ تدل على ان أعظم أولئك الرجال هم المؤيدون بالغيب. فلم يشهد التاريخ من استطاع ان يزكي الناس ويربيهم بسيرته المشرقة سوى الأنبياء ومن إتبعهم.
وهكذا كان مقتضى النظام الكوني الذي يتمتع بالدقة المتناهية ألاّ يدع مدبرها الإنسان الذي جُعِلت فيه مؤهلات التقدم الحضاري يعيش الهمجية دون ان يبعث إليه المزيد من هؤلاء الرجال الافذاذ الذين يعلمون الناس بسيرتهم الشخصية كيف يمكن لهم ان يبلغوا المجد الرفيع، وهذا التعليم العملي يُدعى في منطق الشريعة بالحجة، إذ ان هؤلاء سيكونون دليلا واقعيا على إمكانية التقدم الحضاري.
والخلاصة: لابد للناس ممن يربيهم على الضبط الذاتي والأخلاق الحضارية، ولابد ان يتفوق هذا الرجل علما وعملا ويبلغ في ذلك المنتهى، ولا يكون ذلك الا لمن عصمه الله. فلزم ان يبعث الله من خلقه مِن يربيهم، فبعث الأنبياء في حينه وجعل من بعدهم حججا يمثلونهم وهم الأئمة المعصومون (ع) ويحتج الله يوم القيامة بهم على خلقه. فإن قال أحد منهم لم أتمكن، قال له: كيف استطاع هذا الرجل وهو بشر مثلكم ان يقوم بما هو أهم من هذا؟ إذاً فإن وجود نموذج بشري يمثل قمة الحياة الحضارية السامية ضرورة إنسانية لا يمكن ان يتخلف عنها نظام الخلق الدقيق الحكيم!
قال الإمام الصادق (ع): يا هشام يحتج الله تعالى على خلقه بحجة لا يكون عنده كل ما يحتاجون اليه(4)؟! (أي لا يمكن ذلك أبدا بل يجب ان يكون الحجة قمة الفضيلة والمعرفة.. ).
الإمام من يعينه؟
هل يعين الله الإمام أم الناس أنفسهم؟
من الواضح ان الذي يُعين لتنفيذ النظام ينبغي ان يكون عالما به مطبقا له، وان الذي يُبعث لكي يربي الإنسان حضاريا وخلقيا، يجب ان يكون زكي النفس طاهر القلب وأسمى حضاريا من كل الناس.. وان الذي يُصطفى ليكون مرجعا لخلافات البشر في أمور الدين والدنيا، يجب ان يتفوق عليهم بالعلم والتقوى لكي لا يُختلف فيه بدلا عن أن يُختلف إليه. وان الذي يعلم الناس المعارف ويذكرهم بربهم والدار الآخرة وينشر العدالة بينهم، يجب ان يكون أعلم الناس وأتقاهم وأعبدهم وأكثرهم ذكرا لله. وان الذي يقود أمة الإسلام في جمعتهم وجماعتهم وسياستهم الخارجية والداخلية، يجب ان يكون أعدل الأمة وأعلمها.
وبصورة موجزة ان الذي يقوم بتغطية حاجات المجتمع المسلم، يجب ان يكون بحيث يستطيع ان يسوق الإنسان إلى السعادة التي خلق من أجلها البشر، ولا يمكن للبشر أنفسهم ان يصطفوا هكذا إنسان لعدة أسباب:
1- لأنهم لا يستطيعون معرفة هكذا إنسان، بل قد يخيل اليهم أن رجلا أعلم واتقى وهو بالتالي أحرى بالإمامة، ثم لا يكون فيه أدنى جدارة.
2- ولو عرفوه لما قاموا باصطفائه و اختياره، لأن الناس ينظرون إلى الزعماء من زواياهم الخاصة وحسب شهواتهم ومصالحهم فلذلك يختلفون في اخيتارهم له.
3- وأخيرا.. لأن الأهداف التي يجب ان يحققها الإمام تشترك مع الأهداف التي ينبغي ان يحققها الرسول (ص). وكما ان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن ان يعين من قبل الناس أنفسهم لأنه وسيلة متصلة بين الله والانسان فإن الإمام لا يمكن ان يعين الا من قبل الله أيضا.
__________
(1) - بحار الانوار ،ج25 ،ص123-126
(2) - أي واسع المعرفة.
(3) - بحار الانوار ،ج23،ص11-13 .
(4) - الامالي للطوسي ،ص46 ، المجلس الثاني .(2/58)
وبتعبير آخر: ان الإمام ينبغي ان يكون مؤيَّداً بالغيب، عارفا بالله ودينه معارفه بعيدا، عن تأثرات المادة، وبعيدا عن ظروفها الضيقة. ولا يؤيد الله من يختاره الناس بل من يصطفيه هو سبحانه، وليس للناس الخيرة إذا قضى الله أمرا، ذلك لأنهم عباد مربوبون يجب ان يسلموا بالحاكمية المطلقة لله في كل الشؤون.. والواقع ان من عجيب الرأي ما يقوله بعض البسطاء من ان على الإنسان التسليم لله في كل مناحي الحياة سوى القيادة، في الوقت الذي تعتبر القيادة أعظم ما يجب اصلاحها. أليست السياسة ان صَلُحَت صَلُحَت الحياة وان فَسَدَت ساد الأرض الفساد والفوضى؟. فلماذا يجب ان نخضع لله في شرائعه كلها ما سوى القيادة؟ ام كيف نعتقد بأن على الله ان ينزل اليهم الدين وليس عليه ان يختار من ينفذه؟
قال الله سبحانه مخاطباً النبي ابراهيم: [قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَتِي قَالَ لاَ يَنالُ عَهدِي الظَّالِمِينَ]( البقرة 124). وقال تعالى: [يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ](ص 26). وقال: [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الاَرْضِ خَلِيفَةً]( البقرة 30). من هذه الآيات يظهر بوضوح ان الخلافة والإمامة – اللذين هما تعبيران عن واقع واحد- ليستا من حق أحد وإنما هما لله وحده لا شريك له.
وجاء عن الامام الرضا عليه السلام:
(ان الله تبارك وتعالى لم يقبض نبيه حتى أكمل له الدين، وأنزل عليه القرآن فيه تفصيل كل شيء، بين فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام وجميع ما يحتاج إليه الناس كملأ. فقال عزوجل: [مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ](الانعام 38). وأنزل في حجة الوداع وهي آخر حجة حجها رسول الله وكان في أواخر أيامه [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً]( المائدة 3). فأمر الإمامة من تمام الدين، ولم يمض رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بَيَّن لأمته معالم دينه، وأوضح لهم سبله، وتركهم على قصد الحق، وأقام لهم عليا علما وإماما، و ما ترك شيئا تحتاج إليه الأمة الا بينه.
فمن زعم ان الله عز وجل لم يكمل دينه فقد رد كتاب الله عز وجل، ومن رد كتاب الله عز وجل فهو كافر. هل يعرفون قدر الإمامة ومحلها من الأمة فيجوز فيها اختيارهم؟ ان الإمامة أجل قدرا وأعظم شأنا وأعلى مكانا وأمنع جانبا وأبعد غورا من ان يبلغها الناس بعقولهم أو ينالوها بآرائهم فيقيموا إماما باختيارهم.
ان الإمامة خص الله عز وجل بها إبراهيم الخليل (ع) بعد النبوة والخله مرتبة ثالثة وفضيلة شرّفه بها و أشاد بها ذكره فقال عز وجل: (اني جاعلك للناس إماماً) فقال – الخليل سرورا بها- ومن ذريتي. قال – عز وجل -: (لا ينال عهدي الظالمين) فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة وصارت في الصفوة.
ثم أكرمه الله عز وجل بأن جعل في ذريته أهل الصفوة والطهارة، فقال عز وجل: [وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ وَإِيتَآءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ](الانبياء 72-73). فلم تزل في ذريته يرثها بعض عن بعض قرنا فقرنا حتى ورثها النبي صلى الله عليه وسلم فقال الله جل جلاله: [إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ](آل عمران68) فكانت له خاصة فقلدها النبي صلى الله عليه وسلم عليا بأمر الله عز وجل على رسم ما فرض الله، فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والإيمان بقوله عز وجل: [وَقَالَ الَّذِينَ اُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ](الروم 56) ، فهي في ولد علي خاصة إلى يوم القيامة، إذ لا نبي بعد محمد (ص)، فمن أين يختار هؤلاء الجهال؟
ان الإمامة منزلة الأنبياء وارث الأوصياء. ان الإمامة خلافة الله عز وجل وخلافة الرسول ومقام أمير المؤمنين وميراث الحسن والحسين (ع).
ان الإمامة زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعز المؤمنين.
الإمام المطهر من الذنوب المبرأ من العيوب مخصوص بالعلم موسوم بالحلم.
الإمام واحد في دهره لا يدانيه أحد، لا يعادله عدل، ولا يوجد له بديل، ولا له مثيل ولا نظير، مخصوص بالفضل كله من غير طلب منه له ولا اكتساب، بل اختصاص من الله المتفضل الوهاب. فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام ويمكنه اختياره؟
هيهات! هيهات! ضلت العقول وتاهت الحلوم وحارت الألباب! فأين الاختيار من هذا؟
أظنوا ان ذلك، يوجد في غير آل الرسول عليهم السلام؟ كذّبتهم – والله- أنفسهم، ومنّتهم الأباطيل فارتقوا مرتقا صعبا دحضا تزل عنه إلى الحضيض أقدامهم. راموا إقامة الإمام بعقول بائرة ناقصة..
رغبوا عن اختيار الله واختيار رسوله إلى اختيارهم. والقرآن يناديهم [وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ](القصص68). وقال عز وجل [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ](الاحزاب 36). وقال عز وجل [مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ * سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ * أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَآئِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ](1)(القلم36-41).
ان الأنبياء والأئمة يوفقهم الله ويؤتيهم من مخزون علمه وحكمه ما لا يؤتيه غيرهم فيكون علمهم فوق علم أهل زمانهم في قوله عز وجل: [وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ اُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً]( البقرة 296). وقوله عز وجل في طالوت: [إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ وَاللّه ُوَاسِعٌ عَلِيمٌ](البقرة 247). وقال عز وجل لنبيه [وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً](النساء 112). وقال عز وجل في الأئمة من أهل بيته وعترته وذريته: [أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ ءَاتَيْنَآ ءَالَ إِبرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَاهُم مُلْكاً عَظِيماً * فَمِنْهُم مَنْ ءَامَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً](النساء 54-55).
__________
(1) - ان النص يستشهد ببعض الآيات التي تذكر الإنسان بحقيقة الألوهية الكاملة والسيادة المطلقة التي يختص بها الخالق الرزاق المدبر:
ويقول ما دام الله هو الذي خلق فهو الذي يختار وإذا اختار فليس لأحد ان يرد اختياره ان كان من المؤمنين. وما دام الله يقضي فإن قضاءه هو النافذ دون المؤمنين الذين ليس لهم من أمرهم الخيرة. وإذا كان الأمر كله لله ومن ضمنه قيادة الناس فإن أي اقتراح آخر سيكون انكارا لهذه الحقيقة وسببا من أسباب الشرك. وهكذا نفت الآية الأخيرة وجود شركاء لله وتساءلت ايهم يضمن وجود هؤلاء الشركاء؟(2/59)
وان العبد إذا اختاره الله عز وجل لأمور عباده شرح صدره لذلك وأودع قلبه ينابيع الحكمة وألهمه العلم إلهاما فلم يعي بعده بجواب ولا يحير فيه عن صواب وهو معصوم مؤيد موفق مسدد قد أمن الخطايا والزلل والعثار، وخصه الله بذلك ليكون حجته على عباده وشاهده على خلقه وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. فهل يقدرون على مثل هذا فيختارونه بهذه الصفة فيقدمونه؟؟، تعدوا -وبيت الله- الحق، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، فإنهم لا يعلمون. وفي كتاب الله الهدى والشفاء فنبذوه واتبعوا أهواءهم فذمهم الله ولعنهم، فقال عز وجل [وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ](القصص 50). وقال عز وجل [فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ]( محمد 8) . وقال عز وجل [كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ ءَامَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (1)](غافر 35).
--------------------
(2)
كيف نعرف الإمام؟
كيف نهتدي إلى الإمام ؟
بما ان الإمامة بمثابة النبوة، فإن هناك وسائل مشتركة بينهما في التعرف عليهما.. ومن الطبيعي إذاً ان يكون العقل هنا – كما في الرسالة – هو الرائد الوحيد الذي يهدينا إلى الحق.. ولقد سبق منا القول المفصل في آيات النبوة. ولذلك فلا ينبغي هنا الا الإشارة اليها ونوعية تطبيقها على واقع الإمامة بإيجاز كثير!
نعرف الإمام:
1- بالإمامة.
2- بالإمام نفسه.
3- بالمعجزة.
4- بالنص.
5- بشهادة الله.
1- الإمامة:
لقد سبق الحديث عن حاجة الإنسان إلى الإمام، وهي حاجة متشابهة تماما مع حاجتهم إلى الرسول. فلو رأينا من اكتملت فيه شروط الاستجابة لحاجة البشر من هذه الناحية فكان مذكرا بالله، وبما أودع في الإنسان من العقل والمعرفة الفطرية، مبينا لما يرضي الرب وما يسخطه، دالاًّ على مصالح البشر ومفاسدهم، ولديه علم يرفع به كل خلاف بين البشرية، ويذكرهم بربهم وبمصيرهم، ويعلمهم الفضائل ويربيهم عليها، ويهديهم سبيل الوصول ألى ربهم.. وكان يدعي ان ليس له من الأمر شيء بل كل ذلك من الله بسبب الرسول، فعند ذلك فقط نعرف انه صادق وبأنه الإمام الحق. وهذا الأمر لم يتحقق الا بالأئمة الاثني عشر عليهم السلام فقط. فمن أظهر غيرهم فلسفة الإسلام المستوحاة من الكتاب والسنة ودعمها بالحجج والبراهين الوجدانية؟ ومن سواهم أرشد الناس إلى واقع العقل وبَيَّن ما يحجبه وكشف عن النفس ما يرديها؟ ، من غيرهم كان دأبه التذكرة بالله وباليوم الآخرة؟ ثم كان يدعي إمامة الخلق جميعا ؟
إن الذي ادعى الخلافة، ابتداءً من أول شخص وانتهاءً إلى آخر خلفاء العثمانيين، لم يدع بأنه قائم بكل ما يرشد العقل إلى لزوم توفره في الامام.. والذي ادعى العلم في الأمة لم يدع الولاية على الرقاب والأموال.. فمن هو جامع العلم والولاية؟ من الذي يقول: سلوني قبل ان تفقدوني؟ ثم يقول: لم أزل مظلوما منذ قُبِض رسول الله – إشارة إلى زحزحة الخلافة عنه- من يقول ذلك غير أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السلام؟
ان منصب الإمامة بالمعنى الذي سبق لم يدعه أحد غير الأئمة الاثني عشر، ولم يسجل التاريخ رجلا كان لديه من مواهبها ما كانت فيهم. ان الإمامة هي الشهادة الحقة على صدق الأئمة عليهم السلام، ونظرة واحدة إلى أقوالهم وسيرتهم ونظرتهم إلى أنفسهم تدلنا على هذه الحقيقة.
2- الإمام:
والإمام نفسه دليل إمامته لما يتميز به من تفوق علمي وخلقي من دون ان يتعلم علومه من أحد، فهو لا يحتاج إلى اكتساب علم في حين يحتاج إليه الناس أجمعون. أرأيت ابن تسع سنين كالإمام الجواد (ع) يجيب على ثلاثين ألف مسألة علمية؟ أم هل سمعت مثل الإمام الصادق (ع) من يعلم تلاميذه كل العلوم ولم يدرس عند أحد شيئا؟. ان العلم لا يأتي الا بالاكتساب أو الوحي والإلهام فإذا علمنا من تاريخ الائمة انهم لم يكتسبوا العلم من أحد، أيقنا ان علمهم كان من الله، فهم الأئمة صدقا وعدلا.
أما الأخلاق: فإذا عرفنا من أحد الصدق والأمانة والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة والكرم والطهارة. وبكلمة: رأيناه مثلا لكل الفضائل ثم رأيناه أعبد الناس وأتقاهم وأخشى الناس من الله.. كان هذا هو الإمام حقا، ذلك لأن حكمة الله تقتضي أمر الناس بطاعة هذا دون غيره.. أيأمر الحكيم العالم باتباع الجاهل، أو يأمر الله الورع باتباع الفاسق وهو يقول: [أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَ يَسْتَوُونَ](السجدة 18) ويقول [هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ] ( الانعام 50) ويقول [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَيَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ اُولُواْ الاَلْبَابِ] (الزمر 9).
وبما ان التاريخ لم يهدنا إلى أفضل من الأئمة عليهم السلام علما وتقى فإنهم لا غيرهم الصالحون لقيادة الخلق(2).
3- المعجزة:
وأظهر معاجز الائمة عليهم السلام علومهم التي لم يسبقهم فيها أحد من البشر والتي ثبتت بالعلم الحديث صدقها. وقد كان الرأي السائد ذلك اليوم بخلافها، كأقوالهم في العوالم الأخرى وفي حجم الأرض وفي بعد الشمس وفي جسم الإنسان وكثير من أمثال ذلك.. فإذا أضفنا إلى ذلك بأنهم لم يكونوا قد تعلموا عند أحد عرفنا ان علومهم من الله بالمباشرة والإلهام أو بالوراثة. وهناك طائفة من المعاجز التي ثبتت بالنقل الصحيح والمتواتر أو اعترف بها أعداؤهم.
ومن الواضح؛ ان الحكيم لا يضل الناس بإعطاء الكذاب المعاجز الباهرة التي تغري الناس وتلحد بهم عن الصراط السوي، فعلم انهم أئمة حق لا ريب فيه(3).
4- النص:
والنص ها هنا بمثابة البشارة للرسول، والنصوص الشرعية الشاهدة على إمامة المعصومين على ثلاثة أقسام:
أ- الآيات القرآنية.
وهي كثيرة نذكر منها نبذة يسيرة.
1- [قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَتِي قَالَ لاَ يَنالُ عَهدِي الظَّالِمِينَ](البقرة 124).
بنص هذه الآية لا يكون الإمام والخليفة ظالما باجماع المسلمين ولم يدع أحد العصمة الا الأئمة الطاهرون.
2- [يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الاَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً]( النساء 59).
حيث ان الآية وردت في المعصومين فقط،. ذلك لأن غيرهم قد يأمر بخلاف الشرع ووجوب طاعته يعني التناقض في الدين.
3- [إِنَّآ انزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلآَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِن كُلِّ أَمْرٍ * سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ] (سورة القدر).
على من تنزل الروح - الذي هو جبرائيل أو ملك أعظم منه- في ليلة القدر؟ على ولاة الأمر من ملوك الأمويين أو العباسيين ام على العالم المعصوم من آل محمد (ص)؟
__________
(1) - للمزيد من التفاصيل راجع كتاب (الاحتجاج) للشيخ الطبرسي.
(2) - يراجع لمعرفة ذلك كتب التاريخ كلها، بالإضافة إلى أقوال الرسول (ص) الشاهدة على فضائلهم. والرسول كما نعرف لا ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى.
(3) - راجع مجلدات البحار حول الأئمة الاثني عشر (ع).(2/60)
4- [اِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً](الاحزاب 33). ان رجس الشيطان أخبث رجس، والمعروف انه لم يدع أحد ارتفاع رجس الشيطان - الذي هو الذنب - عن أحد سوى الشيعة في أهل بيت الرسول (ص)
إننا لم نعتمد في استنباط ولاية الأئمة من الآيات على التفسير ولا على الأحاديث فإن هناك بضع مئات من الآيات صرح مفسروا الفريقين وكما صرحت رواياتهم عن الرسول انها نزلت في أهل البيت (ع) وهي أما تدل على ولايتهم أو تدل على فضائلهم، والأول صريح والثاني يدل دلالة ضمنية على ولايتهم، ذلك لأنه لو ثبت أنهم أفضل الخلق بنص الآيات، فهل من المعقول ان يجعل الله عهده في المفضول ويترك الأفضل؟ تعالى الله الحكيم العليم عن ذلك وهو يقول: (الله أعلم حيث يجعل رسالته).
ب- أحاديث الفضيلة.
طائفة كبيرة من الأحاديث جاءت من الرسول تؤكد ان أهل بيته لهم الفضائل الجمة التي دونها فضائل الآخرين، وهذه النصوص –التي تواتر نقلها لدى الفريقين- تدل دلالة ضمنية على أمامة أهل البيت، إذ مع العلم بأن الله حكيم يصطفي الأفضل، لا يبقى مجال للشك في أنه اصطفى أهل البيت، لأنهم أفضل من غيرهم بنص الرسول صلى الله عليه وسلم وتواتر النقل عنه. ونحن إذ نذكر حديثا واحدا من مئات الأحاديث الواردة في هذا الموضوع، نرشد القارئ إلى الكتب المطولة مثل (الغدير) و(الصواعق المحرقة) و(فضائل آل الرسول) و(المراجعات) من تأليف كبار الباحثين من الفريقين.
قال ابن أبي الحديد -وهو من علماء السنة-: (ونحن نذكر ما استفاض من الروايات عند مناشدته أصحاب الشورى وتعديده فضائله وخصائصه التي بان(1) بها منهم ومن غيرهم، قد روى الناس ذلك فأكثروا، والذي صح عندي انه لم يكن الأمر كلما روى من تلك التعديدات الطويلة، ولكنه قال لهم بعد ان بايع عبد الرحمن والحاضرون عثمان وتلكأ هو – أي علي - عليه السلام عن البيعة، قال بعد كلام: أنشدكم الله أفيكم أحد آخى رسول الله بينه وبين نفسه حين آخى بين بعض المسلمين وبعض، غيري؟ فقالوا: لا. قال: أفيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم من كنت مولاه فهذا مولاه، غيري؟ فقالوا: لا.. قال: أفيكم أحد قال فيه رسول الله أنت مني بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبي بعدي، غيري؟ قالوا: لا.. قال أفيكم من أؤتمن على سورة البراءة وقال له رسول الله أنه لا يؤدي عني الا أنا أو رجل مني، غيري؟ قالوا: لا.. قال: الا تعلمون ان أصحاب رسول الله فروا عنه في الحرب في غير موطن وما فررت قط؟ قالوا: بلى.. قال: ألا تعلمون اني أول الناس إسلاما؟ قالوا: بلى.. قال: فأينا أقرب إلى رسول الله نسبا؟ قالوا: أنت..)(2).
ج- أحاديث الولاية.
وهي التي تدل دلالة صريحة على انهم الائمة المصطفون من قبل الله.. ورغم ان السلطة السياسية في عهد الرسول صلى الله عليه وآله كانت تعارض بشدة نقل مثل هذه الأحاديث فقد تواتر النقل إلينا بطريق الفريقين مما دعانا إلى القطع بصحتها كما نقطع بصحة نقل الخبر عن وجود البلاد النائية والأمم الخالية بالخبر المتواتر.. وإليك جزءا يسيرا منها:
نقل بسند متواتر عن طرق السنة (أنظر الصحاح الست مثلا) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال:
1- (سيملك بعدي اثنى عشر أميرا كلهم من قريش(3).
أترى من كان هؤلاء الأمراء؟ أمية أم بنو العباس؟ وقد كانوا أكثر من اثني عشر.. أم الراشدون ـ كما يعبرون ـ وهم أقل عددا منهم؟ أليس الحديث ينطبق على الأئمة الاثني عشر فقط؟
2- (من كنت مولاه فهذا علي مولاه..(4)
لقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الكلمة بعد ان قال للمسلمين: (ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم(5) فكانت كلمة تشير إلى تلك الولاية وهي صريحة نصا، ومقبولة عقلا، ومقطوعة سندا فما بالنا لا نأخذ بها؟
3- قول الرسول (ص): (ستفترق أمتي على ثلاثة وسبعين فرقة فرقة، في الجنة، والباقون في النار(6). وقوله لعلي (ع): (وإن شيعتك على منابر من نور مبيضة وجوههم حولي(7). وقوله: (علي مع الحق والحق مع علي يدور حيثما دار(8)، أترى من هي الفرقة الناجية وما هي الفرق الهالكة؟ أيعقل ان تكون الفرقة التي مع علي هي الهالكة مع هذا الحديث؟ كلا
4- روي عن ابن عباس قال: خرجت مع عمر إلى الشام في احدى خرجاته فانفرد يوما يسير على بعيره فاتبعته، فقال لي: يا بن عباس أشكو اليك ابن عمك - أي الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام - سألته ان يخرج معي فلم يفعل ولا أزال أراه واجدا فما تظن موجدته؟ قلت: يا أمير المؤمنين انك لتعلم. قال: أظنه لا يزال كئيبا لفوت الخلافة. قلت: هو ذلك، انه يزعم ان رسول الله أراد الأمر له. قال: يا بن عباس وأراد رسول الله الأمر فكان، ماذا إذا لم يرد الله تعالى ذلك. ان رسول الله أراد أمرا وأراد الله غيره فنفذ مراد الله ولم ينفذ مراد رسول الله. أو كلما أراد رسول الله كان؟ إنه أراد اسلام عمه ولم يرد الله فلم يسلم)(9).
كانت تعتلج في قلب عمر شبهة الجبر و هكذا تهرَّب من المسؤولية، والا فكيف أراد الله شيئا وأراد الرسول غيره وهو القائل: (وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى) الا ان نقول ان المذنبين غير مقصرين لأن الله أراد شيئا فكان كما أراد الله..
5-وعن إبراهيم بن محمد الحمويني – و هو من علماء السنة – مسندا عن سليم بن قيس في حديث طويل ذكر فيه بضع عشرة من فضائل علي (ع) إلى ان قال الإمام - والجمع بين المهاجرين والأنصار شاهدون - :
__________
(1) - أي تفوق بها عليهم.
(2) - بحار الانوار ، ج40 ، ص88 (نقلا عن: شرح النهج لابن ابي الحديد، ج2،ص96) .
(3) - و هناك روايات مماثلة رويت عن طرق أهل البيت عليهم السلام ، انظر بحار الانوار، ج36، باب41، نصوص الرسول عليهم .
(4) - نقلته أكثر كتب الحديث لدى الخاصة و العامة.
(5) - بحار الانوار ،ج28،ص98 .
(6) - هناك العديد من الروايات بهذا المضمون مع اختلاف العبارات ، راجع: بحار الانوار، ج28 ،ص2 ،باب1 ، افتراق الامة بعد النبي (ص) .
(7) - بحار الانوار،ج37، ص 272 .
(8) - هذا الحديث رواه العامة و الخاصة و تلقوه بالقبول و ذكروه في مصادرهم ، راجع بحار الانوار،ج10 .
(9) -بحار الانوار ،ج30، ص554، عن: شرح نهج البلاغة، لابن ابي الحديد،ج12، ص78-79/ص432.(2/61)
.. فنصبني للناس بغدير خم، ثم خطب فقال: أيها الناس ان الله أرسلني برسالة ضاق بها صدري فظننت ان الناس مكذبوني فأوعدني لأبلغها أو ليعذبني – أي ان الله هدده صلى الله عليه وسلم ان يبلغها والا عذبه وذلك في قوله تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس). - ثم أمر فنودي بالصلاة جامعة، ثم خطب فقال: أيها الناس! أتعلمون ان الله عز وجل مولاي وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم؟ قالوا: بلى يا رسول الله.. قال: قم يا علي، فقمت. فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من ولاه وعاد من عاداه. فقام سلمان فقال: يا رسول الله ولاء كماذا؟ فقال: ولاء كولائي، من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه! فأنزل الله تعالى ذكره [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً] (المائدة 3). فكبر رسول الله وقال: الله أكبر، تمام نبوتي وتمام دين الله ولاية علي بعدي. فقام ابو بكر وعمر فقالا: يا رسول الله هذه الآيات خاصة في علي؟ قال: بلى، فيه وفي أوصيائي إلى يوم القيامة. قالا: يا رسول الله بينهم لنا. قال: علي أخي ووزيري ووارثي ووصيي وخليفتي في أمتي وولي كل مؤمن من بعدي، ثم ابني الحسن ثم ابني الحسين ثم تسعة من ولد الحسين(1) واحدا بعد واحد، القرآن معهم وهم مع القرآن لا يفارقونه ولا يفارقهم حتى يردوا علي الحوض.. فقال الحاضرون – وهم أكثر من مائتي رجل من الصحابة- : قد سمعنا ذلك وشهدنا كما قلت سواء(2).
ان هذا الحديث يشهد على ولاية الأئمة (ع) جميعا كما يشهد على ان الثاني عشر منهم سيبقى إلى يوم القيامة، حيث قال الرسول: وفي أوصيائي إلى يوم القيامة.
وهنا دليل آخر وهو: ان الإمامة كما حددناها سابقا منصب إلهي ليس لأحد الحق في انتحاله من دون أمر الله، والشيعة فقط يحددون الإمامة هذا التحديد فهم فقط يعتمدون على النص وليس أحدا من السنة ادعى ان النبي صلى الله عليه وسلم نص على غير أهل البيت (ع) فهم مجمعون على عدم النص في غير أهل البيت، وقد عرفنا بالدليل السابق ان الإمام لابد ان ينتخب من قبل الله.. إذاً فلابد من النص، فلو فرض اننا لم نعثر على نص موجود، فلابد ان نقول انه كان موجودا ولكن السلطات الجائرة حذفته من التاريخ اثباتا لسلطانها الظالم.. وبكلمة موجزة:
من اعتقد ان الإمامة من الله، لا يمكنه الا ان يعتقد ان أهل البيت هم الأئمة، إذ لم يدع أحد ان غيرهم قد انتخب من قبل الله.
5- شهادة الله:
والله تبارك و تعالى يشهد بصدق الأئمة بنفس الأسلوب الذي يشهد بصدق الأنبياء وهو:
1- بإستجابة الدعاء، إذا توسل الفرد بهم، وبالشفاء بتربة الإمام الحسين مثلا وما شابه.
2- بنصر من آمن بهم وهدايته في الدنيا والآخرة.
3- بشهادة المؤمن على صدق الإمامة عندما يصفو من كل كدر.
4- بالوصول إلى الحقيقة مع سلوك منهج الإمامة(3).
كيف نثبت الإمام؟
ولابد لنا ان نشير هاهنا إلى الحقيقة التي سبق وان أشرنا اليها عندما تحدثنا عن كيفية إثبات وجود الله وهي:
ان المهم في اقناع الناس في القضايا المبدئية تذليل أنفسهم المستكبرة لقبول الحق عن طريق الترهيب والترغيب بما في الدنيا والآخرة من أجر للمحق ومن عذاب للمبطل. والأسلوب القرآني الناجح يستخدم قوة الترهيب بعذاب الله في الآخرة ونقماته في الدنيا أكثر من الترغيب بثواب الله الجزيل في الآخرة والفلاح الدائم في الدنيا. ومن هنا فلابد:
أولا: ان نشرح للذي نبتغي هدايته للحق – في الامامة- ان المبطل يلقى جزاءه الرئيسي في الدنيا والآخرة ولا يجني الإنسان من معارضة الحق الا الخزي والويل.. وان الامامة لو كانت على بينة من الله فما يزيد جاحدها غير تخسير لنفسه، وان التقليد واتباع الهوى والخوض مع المبطل كيفما يخوض كل ذلك ويل وشر عريض، ولابد من دعم هذه الحقيقة بآيات قرآنية وأمثال من الأمم الماضية، كيف خسرت نفسها عندما عارضت الحق.
ثانيا: ثم يأتي دور شرح معنى الإمامة، والحاجة إلى الامام عقلا بصورة مفصلة.
ثالثا: بعرض صفات الأئمة (ع) ومآثرهم وكيف ظُلِموا في سبيل الحق.
رابعا: وأخيرا ببيان النصوص المتفقة بين الفريقين ونسف الشبهات التي تختلج في قلوب بعض البسطاء من العامة والتي يجب ان نشير إليها هاهنا ونردها بالحجج الدامغة.
شبهات مردودة..
1- يقولون: لو كان الإمام علي – كما تزعمون – صاحب الحق الشرعي للخلافة بعد الرسول فلماذا بايع أبا بكر وعمر وعثمان وهو الرجل الشجاع؟
نقول في الجواب: السبب نعرفه من خطبة ارتجلها الامام في الكوفة ومن كلمات له أخرى نوجزها فيما يلي:
أ- لأن الإمام لم يجد أنصارا يحارب بهم الأعداء، ولقد صرح مرة بأنه لو كنتُ قد وجدت أربعين شخصا لدافعت عن حقي.
ب- ان الإمام -ع- كان يعلم ان الأمة الإسلامية لم تبلغ النضج الفكري الذي يؤهلها لتصحيح أخطائها بالحرب المسلحة.. فإذا كان الإمام يقاوم أعداءه بالسلاح كان يعرض الأمة لما لا تطيق، فكانت تسبب الردة، ولذلك فقد آثر الإمام الإغماض عن حقه في سبيل الإبقاء على الإسلام حتى يأتي ذلك اليوم الذي ينشر الحق بالتبليغ.
ج- ان بيعة الإمام (ع) لأبي بكر وعمر وعثمان كانت بالإكراه.. حيث كان مهددا بالقتل في كل الحالات. والحديث التالي أكبر شاهد على هذه الحقائق الثلاثة في كتاب سليم بن قيس المعاصر للإمام (ع):
قال قائل – ولعله أشعث بن قيس- يا بن أبي طالب: ما منعك حين بويع أخو بني تميم بن مرة (أبو بكر) وأخو بني عدي (عمر) وأخو بني أمية (عثمان) بعدهما ان تقاتل و تضرب بسيفك وأنت لم تخطبنا خطبة منذ قدمت العراق الا قلت فيها (والله اني أولى الناس بالناس وما زلت مظلوما مُذ قبض رسول الله)، فما يمنعك ان تضرب بسيفك دون مظلمتك؟.
قال عليه السلام: يابن قيس! اسمع الجواب؛ لم يمنعني من ذلك الجبن ولا كراهة للقاء ربي وأن لا أكون أعلم بأن ما عند الله خير لي من الدنيا والبقاء فيها ولكن منعني من ذلك أمر رسول الله وعهده الي. أخبرني رسول الله بما الأمة صانعة بعده إلى ان قال: قال صلى الله عليه وسلم ان وجدت أعوانا فإنبذ إليهم وجاهدهم وان لم تجد أعوانا فكف يدك وأحقن دمك.. إلى ان قال: ثم حملت فاطمة وأخذت بيد الحسن والحسين فلم أدع أحدا من أهل بدر وأهل السابقة من المهاجرين والأنصار الا ناشدتهم..)(4)
وقال الإمام الصادق (ع) في جواب سؤال وجهه إليه بعض أصحابه قائلا: (ما منع أمير المؤمنين (ع) ان يدعو الناس إلى نفسه ويجرد في عدوه سيفه؟ فقال: الخوف من ان يرتدوا فلا يشهدوا ان محمدا رسول الله)(5) .
ويقولون: لو كان الله يريد لعلي الخلافة بعد الرسول فلماذا لم يعلن ذلك في الكتاب المجيد؟
ونقول:
__________
(1) - وهم؛ الإمام زين العابدين علي بن الحسين، والإمام محمد بن علي الباقر، والإمام جعفر الصادق، والإمام موسى بن جعفر، والإمام علي بن موسى الرضا، والإمام محمد بن علي الجواد، والإمام علي بن محمد الهادي، والإمام الحسن العسكري، والإمام الحجة بن الحسن المهدي صلوات الله عليهم أجمعين.
(2) - بحار الانوار ،ج31، ص410-412 .
(3) - راجع دليل (شهادة الله) في البحث السابق عن نبوة رسول الله محمد صلى الله عليه وآله .
(4) - بحار الانوار ،ج29 ،ص466-469 .
(5) - المصدر ،ص445 .(2/62)
1- أولا يجب ان نعلم ان القرآن لم يكن كتاب دستور للتنظيم بقدر ما هو كتاب تربية وتذكير للبشر، ولذلك فهو خال من طائفة كبيرة من الأحكام بينتها السنة.
2- ان في القرآن آيات كثيرة هي كالنص القاطع على خلافة الإمام، وعلى أهم نقطة في الخلافة وهي أنها لله وليس لأحد ان يتصرف فيها من قبل نفسه، وهذا هو المبدأ الأساسي الذي يرتكز عليه أمر الخلافة.
3- لو كان في القرآن نص صريح على خلافة علي إذا لحرفته السلطات التي قامت بجمع وتأليف القرآن.. وكانت سواء عندها آية القرآن وسنة الرسول في امتداد يد الخيانة إليهما.
3- ويقولون: ما هو الدليل على وجود الإمام الثاني عشر؟
ونقول:
هناك دليل عقلي – وقد أشرنا إليه- وهو لزوم وجود حجة بالغة بين الله وبين الخلق.. ومن المعلوم عدم وجود حجة غير الإمام المنتظر..
وأما الدليل اللفظي، فهي الأحاديث المتواترة التي جاءت على لسان النبي صلى الله عليه وسلم والأئمة المعصومين.
4- و يقولون: كيف يمكن ان يبقى إنسان – له مثل ما للآخرين من قوى وإمكانيات – هذه المدة المديدة بأكثر من ألف وثلاثمائة سنة؟
ونقول: من المعروف ان عقيدة الشيعة في الإمامة تعتمد على مبدأ المعجزة واذا ثبت ان الله قد يفعل بقدرته اللامحدودة أشياء على غير مجرى السنن الطبيعية، فكل شبهة حول عمر الإمام الطويل تغتدي تافهة، ذلك لأن علم الإمام بدون اكتساب أحرى بالشبهة، ولكن من يعترف بقدرة الله الواسعة لا صعوبة عنده في ذلك.
5- ويقولون: ما هي المصالح العامة التي نغتنمها من وجود الإمام الحجة عليه السلام وهو مستور غائب عن أبصارنا؟
ونقول: هناك عدة مصالح سوف نشير إليها، ولكن يجب ان نعرف أولا ان الله تبارك وتعالى قد أتم حجته على الخلق إذ جعل من لدنه حجة وأعطاه كل ما يحتاج إليه الناس، ولكن الناس أبوا الا التواثب عليه لقتله فأغابه الله عن أبصارهم حفاظا عليه. والآن إذا رجع الناس إلى الحق وسلموا أمورهم إلى الإمام صدقا وعدلا، يظهر الله إمامهم لهم.
ففي الحديث إذا بلغت عدة الصادقين ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا يظهر الله الإمام الحجة (عج).
ان الله أتم حجته على الخلق ببعث الرسل واصطفاء الحجج – لكي لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل – ولكن الله ليس مسؤولا عن رجوع الناس إليهم أو نكوصهم عنهم. فالله لا يكره الخلق على الهدى، وقد فعل ذلك بالنسبة إلى الإمام المنتظر (عج) إذ اصطفاه وجعله حجة حاضرة فإن أرادوا أخذوا به والا فعليهم إجرامهم.. ان الله يوفر للمرضى الطبيب فإن أرادوا تداووا عنده والا فليموتوا!
بعد هذا لنعرف:
1- ان مثل الإمام الحجة (عج) كمثل الشمس وقد وارتها السحب ولكنها لا تمنع عن العالم دفئها وضوءها ومنافعها العديدة. فإن الإمام يؤيد وهو تحت ستار غليظ من الغيبة أنصار الحق أنى كانوا ولنا نحن الشيعة شواهد تاريخية جمة على ذلك.
2- كما ان الإمام هو ملاذ الناس لدى هجوم الدواهي عليهم، فكم من مشكلة تم حلها بالتوسل إليه، ولكل فرد تجربته الخاصة في ذلك.
3- في الوقت الذي لا نستبعد – بل هو كائن فعلا- وجود علاقات سرية بين الامام (ع) وبين مراجع الشيعة من حيث يشعرون أو من حيث لا يشعرون بالمباشرة أو بواسطة بعض وكلاء الامام، وهذا هو السر العظيم.
----------------
(3)
ما هي مسؤولية الناس تجاه الإمام؟
ماذا يجب على الناس تجاه الإمام؟
هذا السؤال يفرض نفسه على من اعتقد ان الامام شخص ينتخبه الله تعالى، وجواب هذا السؤال لابد ان يأتي من قبل الأئمة أنفسهم – بعد الإيمان بهم مجملا- وهناك عدة وظائف مفروضة على الناس بالنسبة إلى الإمام نشير إلى عشر منها، ونذكر الدليل الشرعي القائم عليها:
1- معرفة الإمام بشخصه.
والدليل على ذلك قول ابي عبد الله الصادق عليه السلام، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال: (من مات ولا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية) (قال الراوي سألته) : جاهلية جهلاء أو جاهلية لا يعرف إمامه. قال: جاهلية كفر ونفاق وضلال(1).
2- ان يعتقد بولايتهم.
والحجة على ذلك قول الصادق (ع): (ان أول ما يسأل العبد عنه إذا وقف بين يدي الله جل جلاله؛ عن الصلوات المفروضات وعن الزكاة المفروضة وعن الصيام المفروض وعن الحج وعن ولايتنا أهل البيت، فمن أقر بولايتنا ثم مات عليها قبلت منه صلاته وصومه وزكاته و حجه وإن لم يقر بولايتنا بين يدي الله جل جلاله لم يقبل الله عزوجل شأنه شيئا من أعماله)(2).
3- أن يسلم لهم ولا يرد عملا من أعمالهم.
والبرهان على ذلك قول علي بن الحسين (ع): (ان دين الله لا يصاب بالعقول الناقصة والآراء الباطلة والمقاييس الفاسدة، ولا يصاب الا بالتسليم، فمن سَلَّم لنا سَلِمَ، ومن اهتدى بنا هُدي، ومن دان بالقياس والرأي هلك، ومن وجد في نفسه شيئا مما نقوله أو نقضي به حرجا كفر بالذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم، وهو لا يعلم)(3).
4- ان يطيعه في كل ما يقول.
قال أبو جعفر الباقر (ع): (ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضا الرحمن تعالى، الطاعة للإمام بعد معرفته. ثم قال: ان الله تعالى يقول [مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً](4) ( النساء 80).
5- ان يرد أمر المشاكل إليه.
(انما كلف الناس ثلاثة: معرفة الأئمة، والتسليم لهم فيما ورد عليهم، والرد اليهم فيما اختلفوا فيه(5).
6- ان يتعلم منه الأحكام والعلوم والأخلاق.
قال رسول الله (ص): (ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، فرقة منها ناجية والباقون هالكون، والناجون الذين يتمسكون بولايتكم ويقتبسون من علمكم ولا يعملون برأيهم فأولئك ما عليهم من سبيل)(6).
7- ان يرجع في تفسير القرآن وتأوليه إليه.
قال الإمام الباقر (ع): قال الله تعالى: (وما يعلم تأويله الا الله والراسخون في العلم) ونحن نعلمه(7)..
8- أن يفزع إليه في الدواهي.
قال الإمام الرضا (ع): (الإمام، الأمين الرفيق، والوالد الرقيق، والأخ الشفيق ومفزع العباد في الداهية)(8).
9- ان يعرض على الإمام النصرة متى شاء.
قال الإمام الباقر (ع): ( إنما أمروا ان يطوفوا بها (أي الكعبة)، ثم ينفروا الينا فيعلمونا ولايتهم ومودتهم ويعرضوا علينا نصرتهم. )(9)
10- أن يؤمن به وبحقانيته.
قال الإمام الباقر (ع) في تفسير الآية الكريمة [فَأَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ](التغابن 8): النور والله الأئمة من آل محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة(10).
هذه هي الوظائف العامة التي تلزمنا تجاه الإمام في كل عصر.. ولكن هناك عدة مسؤوليات ضخمة مفروضة علينا اليوم بصورة خاصة بالنسبة إلى الأئمة (ع) وهي:
1- ان نفهم معارف الأئمة التي هي بحق المعارف الإسلامية؛ نفهمها بعيدا عن التيارات الدخيلة التي تلصصت في المناخ الفكري الإسلامي وهي ثلاثة:
__________
(1) - وسائل الشيعة ،ج18،أبواب حد المرتد، باب10 ،ص567 ،ح47.
(2) - مستدرك الوسائل ،مقدمة العبادات ، الباب 27 ،ح11 .
(3) - مستدرك الوسائل، كتاب القضاء ، ابواب صفات القاضي، الباب 6 ،ح25 .
(4) - بحار الانوار، ج23 ، ص294 ،ح33 .
(5) - وسائل الشيعة، ج18 ، ابواب صفات القاضي ،باب 7،ص45،ح14 .
(6) - المصدر، باب 6، ص31 ، ح30 .
(7) - بحار الانوار، ج23، ص197، ح27 .
(8) - بحار الانوار، ج25 ،ص123 .
(9) - الكافي، ج1، ص392،ح1 .
(10) - بحار الانوار، ج23، ص308،ح5 .(2/63)
أ- التيار الفلسفي؛ الذي دخل العالم الإسلامي في بداية القرن الثاني ولبس ثوبا إسلاميا في حين ان جوهره أغريقي مادي.
ب- التيار الأجنبي؛ الذي لا يزال يتغلغل في اعماقنا عن طريق الكتب التي تحتوي على سموم بالغة من حيث: البناء والإيحاء والاتجاه .
ج- التيار الجاهلي؛ الذي نبع عن ابتعاد الشيعة عن مصادر الأئمة (ع) فذهبوا إلى ما أوحت اليهم أهواؤهم وآراؤهم.
والتحاشي عن هذه التيارات انما يمكن بالتوجه إلى المنابع الأولية للمعارف الإسلامية ، وهي الروايات دون ان نستعين في فهمها أو تأويلها إلى كتب مؤلفة ، بل نعتمد على فهمنا الشخصي لظواهر الأحاديث كما لو كنا نحن المخاطبين بها.
2- ان نكيف حياتنا العملية والفكرية مع توجيهات الأئمة عليهم السلام دون ان ندع حرفا واحدا منها غير مطبق تطبيقا كاملا.
3- ان ننشر معارف الأئمة (عليهم السلام) في الأوساط العامة وبمختلف المستويات، ونضحي في سبيل ذلك بالوقت والمال والجهود.
نسأل الله ان يوفقنا لذلك حتى نحظى بسعادة الدنيا والآخرة.
----------------------
البحث الرابع- الحياة بعد الموت
الدليل على البعث
إن نظرة واعية إلى ما يجري حولنا من أحداث في هذه الدنيا الواسعة، تدعونا إلى الاعتراف بالبعث بعد الموت:
1- فهناك طائفة كبيرة يعيشون معنا يحيون ويموتون طيبين -أعمالا وقلوبا- لا يبرحون عن إسداء الخدمات الإنسانية إلى بني نوعهم دون أن يريدوا منهم جزاءا أو شكورا.. انهم يعبدون ربهم ويظلون يذكرونه بالعشي والأبكار، ولكن مع ذلك لا يظلون مظلومين مقهورين، منكدة عيشتهم، طويلة أحزانهم، متوالية نكباتهم وويلاتهم، إلى جنب هذه الطائفة هناك أناس يتمتعون بالعدة والثروة والجاه العريض وبعكس ما قد يُتصور لا يزالون قاسطين.. هناك بغاة يهتكون الحرمات، ويرتكبون الخطيئات، وكثير منهم يموت على ما هو دون ان يلقى جزاءه في الدنيا.
وان كثيرا من أولئك الطيبين يبلغون في مكارمهم القمة، كالأنبياء والصالحين والمتمسكين بالحق وهم الألوف الألوف.
وان كثيرا من هؤلاء المجرمين يهبطون في أعمالهم إلى الحضيض ويقتلون الملايين ويقترفون الجرائم بحق البشرية جمعاء.
والله الحكيم الذي نرى آثار حكمته في السماء والأرض لم يخلق شيئا عبثا ولا كان بحاجة إلى اللعب واللهو تعالى عن ذلك.. الله القادر الذي نجد في ذات أنفسنا، وفي كل ما حولنامن أشياء ، آيات قدرته العظيمة التي لا تحد.. كيف لا يعطي جزاء هؤلاء وهؤلاء؟
أعبثا خلقهم؟ أم خلقهم ليظلم قويهم ضعيفهم بغير سبب؟ أم أراد بذلك ان يؤذي غير المؤذي؟ أم عجز عن ان يجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته؟
سبحانه الحكيم الغني ان يخلق الخلق عبثا ، ولا حاجة له إلى العبث، وسبحانه أن يعجز عن ان يجازيهم، أو أن يعجز عن خلقهم مرة أخرى وهو الذي أنشأهم أول مرة.
2- كل دلائل الكون تهدينا إلى أن ما فيه قد سخر لنا (أو قد خلق لأجلنا)، كل ما فيه من شمس وقمر ونجوم تعمل ليل نهار لتبقى الحياة مستمرة. وكل ما فيها مسخر لنا، بما أوتينا من موهبة العقل والقدرة والحرية. وإذا كان كل شيء لنا، فنحن لماذا؟
هل خلقنا لكي نتمتع في الدنيا؟ ومن منا استطاع ان يتمتع بها سعادة وافية؟ أكبيرنا أم صغيرنا؟ سيدنا أم مملوكنا؟ رئيسنا أم مرؤوسنا؟ ليس هناك من استطاع ان يستريح بما في الكلمة من معنى، فلماذا إذاً خلقنا؟
هناك جوابان على ذلك لا ثالث لهما:
أ: ان الله سبحانه أراد ان يلعب ويعبث فخلقنا ليضحك علينا. وهذا بعيد عن دلائل حكمته التي نراها في الكون، وعما يهدينا إليه العقل من كمال ربنا، انه قدوس ليس فيه نقص.
ب: انه خلقنا لعالم آخر.. وجعل ما في هذه الدنيا من خير، دليلا على أفضل منه وأكمل منه يوجد في الآخرة، وما هنا من شر، دليلا على أسوأ منه وأطول منه يوجد في الآخرة.. وأذاقنا من هذا حينا ومن هذا حينا، ثم بين لنا عن طريق رسله كيف نتجنب الشر ونقترب إلى الخير.
وهذا هو التفسير الصحيح لظواهر الكون كلها.
3- وإلى هذا تشير النصوص الشرعية التي سوف نلم بنبذة يسيرة منها والتي تعتبر بذاتها دليلا مستقلا على الحياة الآخرة لما ثبت بالأدلة العقلية ان لنا إلها كاملا وانه بعث رسلا صادقين ونقلوا عنه ان من عمل سوءا جوزي به، وانه من صلح عملا اثيت عليه.. علما بأن وراءنا جزاءً وثوابا قال الله في كتابه الكريم:
[وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الأَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ * أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَآءِي رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ](الروم 6-8).
قال سبحانه: [أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ]( المؤمنون 115).
شبهات وردود
أما الشبهات التي أثيرت حول إمكانية البعث فهي كالتالي:
1- إمكانية البعث.
وهذه الشبهة هي من أكبر الشبهات تفاعلا في ضمير المنكرين مع سائر العوامل ولذلك فقد خصص الأنبياء (عليهم السلام) كثيرا من الأدلة لدحض هذه الشبهة وتسفيه القائل بها. وأساس هذه الشبهة هو كيف يحيي الله الموتى بعد ان تحولوا إلى العناصر الأولى.. وتبدلوا إلى أجزاء في الأرض والهواء والماء ، وكما نقل عنهم الله سبحانه في الكتاب وأوضح الشبهة بلسان عربي مبين حيث قال: [وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ](يس 78)، ولكن أصل الشبهة نشأ من عدم الإيمان بالله وبقدرته، والا فأي عقل لا يهتدي إلى قدرة الله الواسعة؟ ان الذي قدر على خلق الكون وإخراجه من ظلمات العدم إلى نور الوجود قادر على أن يعيده مرة أخرى؛ وهل الاعادة أصعب أم الإبداع؟
وقال الله سبحانه في الرد على هذه الشبهة: [قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَاَهآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ](يس 79-82).
بهذه الكلمة الفاصلة مزق القرآن الشبهة القائمة على عدم إمكانية البعث. والواقع ان العقل حينما هدانا إلى ان الله قادر على كل شيء وانه لا حدود لقدارته الواسعة، فمن السفه ان نفكر بعد ذلك انه كيف يعيد الخلق مرة أخرى.
وفي الحوار الذي كان بين الإمام الصادق عليه السلام وبين منكر للمعاد توضيح وشرح لهذه الحقيقة:
قال الزنديق: أفيتلاشى الروح بعد خروجه عن قالبه أم هو باق؟
قال (ع): بل هو باقٍ إلى وقت ينفخ في الصور، فعند ذلك تبطل الأشياء وتفنى فلا حس ولا محسوس، ثم أعيدت الاشياء كما بدأها مدبرها، وذلك أربعمائة سنة يسبت فيها الخلق وذلك بين النفختين.
قال: وأنىّ له بالبعث والبدن قد بلى والأعضاء قد تفرقت، فعضو ببلدة يأكلها سباعها، وعضو بأخرى تمزقه هوامها، وعضو قد صار ترابا بُنيَ به مع الطين حائط..
قال (ع): ان الذي أنشأه من غير شيء وصوره على غير مثال كان سبق إليه، قادر أن يعيده كما بدأه.
قال: أوضح لي ذلك..(2/64)
قال (ع): ان الروح مقيمة في مكانها، روح المحسن في ضياء وفسحة، وروح المسيء في ضيق وظلمة والبدن يصير ترابا كما منه خلق، وما تقذف به السباع والهوام من أجوافها مما أكلته ومزقته كل ذلك في التراب محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرة في ظلمات الأرض ويعلم عدد الأشياء وأوزانها. وان تراب الروحانيين بمنزلة الذهب في التراب فإذا كان حين البعث مطرت الأرض مطر النشور، فتربو الأرض ثم تمخض مخض السقاء فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غسل بالماء، والزبد من اللبن إذا مخض، فيجتمع تراب كل قالب إلى قالبه فينتقل بإذن الله القادر إلى حيث الروح، فتعود الصور بإذن المصور كهيئتها، وتلج الروح فيها، فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئا(1).
2- أي الأبدان تحشر؟
منذ ان يتكون الجنين والى ان يموت ـ وبعد سبعين عاما مثلا ـ يتبدل جسم الإنسان أكثر من مرة، ففي كل سبع سنوات تتغير كل خلايا الجسم، فإذا اعتقدنا بعودة الأجسام، فأي الأبدان، وأي الخلايا تعود مع الروح؟ كلها ؟ فيكون جسم الإنسان أكبر من وضعه الفعلي عدة مرات عند الحشر، أو بعضها؟ وأي بعض؟ أم يحشر الإنسان في جسم جديد؟
في الافتراض الأول -عودة كل الخلايا التي أصبحت في يوم ما جزءاً للإنسان - يلزم ان تكون الخلايا الكونية تعذب حينا وتستريح حينا آخر، ذلك لأن المحتمل ان تصبح الخلية الواحدة بجسم كافر ثم تصبح جزء لجسم مسلم فيكون بعض جسم الكافر في الجنة وبعض جسم المسلم في النار، وهذا لا يكون.
وبعضهم صاغ الشبهة صياغة أخرى فقال: لو فرضنا ان الطغاة قتلوا مسلما ثم أكلوه ولم يبقوا منه شيئا فماذا سوف يحدث؟ هل يذهب هذا المسلم المأكول إلى الجنة، ومعناه أن يذهب الطغاة إلى الجنة، أو يذهب إلى النار؟ وكيف يعذب الله جسم المسلم وقد أكل ظلما؟
وفي الافتراض الثاني: يلزم ان يعذب أو يتنعم بعض الأبدان دون بعض بغير سبب معقول.
أما الافتراض الثالث فإنه يؤدي إلى ان يعذب أو يتنعم جسم جديد لا علاقة له بالعمل الخاطئ أو الصالح، وكل هذا بعيد عن حكمة الله وعدله.
الجواب:
هناك إجابة إجمالية عن الشبهة هي: ان هناك جامعا مشتركا - لدى العقل والعقلاء- بين أطوار كل شخص منذ ان كان جنينا والى ان يموت، جامعا مشتركا يرى العرف بموجبه انه بعينه في كل الأطوار. فهو الجاني الذي يؤخذ بجريمة اقترفها قبل عشر سنوات، وهو المثاب بعمل صالح أسداه قبل عشرين سنة.. فهو هو يرى نفسه كذلك، ويراه الناس كذلك. وبتعبير أولى وأهدى: ان الإنسان الجنين هو الإنسان عند السبعين –عند العقل والعقلاء- وان الزيادة والنقصان عندهما بمثابة الهواء الذي يدخل الرئتين ثم يلفظ خارجا. وان الله يعذب أو ينعم نفس هذا الإنسان الجامع المشترك، بعمله ويعيد نفس هذا الجسم الذي لم يتغير منه بزيادة شيء عليه أو بدون زيادة.
وهناك خلاف فلسفي واسع حول ان الذي يحس بالألم أو بالنعم ما هو؟ الجسم المادي أو النفس أو الروح؟ أو هما معا؟ أو الجسم بالروح أو الروح بالجسم؟
النظريتان الأخيرتان تتفقان في ان أحدهما وسيلة للآخر، والجسم في النظرية الأولى هو الذي يحس بالألم، ولكن لسبب وجود الروح فيه كما ان المصباح الكهربائي هو الذي يشع ولكن بسبب جريان التيار فيه. كما ان الروح في النظرية الثانية هي التي تشعر بالألم أو بالنعم، ولكنها تتوسل بوسيلة المادة – الجسم- لكي تتمكن من هذا الإحساس. وقد ذهب إلى هذه النظرية الأخيرة طائفة كبيرة من الفلاسفة غير انهم لم يكونوا عالمين بالعلوم الحديثة التي أثبتت تأثر الجسم بالألم واللذة بسبب الأعصاب.
والإسلام يقدر ان الجسم والروح كلاهما يلتذان أو يتألمان مستدلا على ذلك بالوجدان. فكل فرد منا يرى ان جسمه هو الذي يتألم ويلتذ بالإضافة إلى روحه الحساسة.. وعلى هذا فلابد ان يجازي الله كلا الجزءين: الروح والجسم معا لأن الاكتفاء بمجازاة أحدهما دون الآخر مخالف لحكمة الله تعالى.. ولهذا فقد أوضحت الأديان إلى جانب العقول ان المعاد لا يقتصر على الأرواح بل يشمل الأجسام. ولابد ان يكون المُعاد نفس الجسم المتألم والمتنعم.
إذا ليس من الصحيح ان نقول ان الله يعذب أو ينعم روح البشر في أجسام جديدة ، كما قال به بعض من كتب حول المعاد.
ثم ان الإسلام يقدر حقيقة في أصل الخلق كما يكتشفها العلم الحديث فيقول: ان الله خلق الناس جميعا أولا وبدفعة واحدة من دون ان يخرج بعضهم من أصلاب أو أرحام بعض، خلقهم من الأرض بصورة أجسام صغيرة للغاية ، عبرت عنها الأحاديث بالذر ولذلك سمي العالم الذي كانت تعيش فيه بعالم الذر، ثم أدرجت الأبدان الصغار في أصلاب الآباء وحولها الآباء إلى أرحام الأمهات وجعل كل من شاء في صلب كل من اختار.
وان تلك الأجسام الصغار تنمو في الأرحام بجمع مواد جديدة إلى نفسها تصبح كثيرة من دون ان تتغير من موادها الأصلية شيئا وانما التبدلات التي تحدث في خلايا الجسم فإنها لا تشمل المواد الأصلية وإنما تقتصر على المواد الإضافية التي تعتبر بمنزلة الهواء في الرئة والغذاء في المعدة. تكشف لنا هذه الحقيقة ظواهر كثيرة من جملتها: بقاء جميع الخواص في الجسم منذ ان كان جنينا إلى ان يموت.. وشعور الإنسان بأن جسمه لم يتبدل رغم علمه ومعرفته بتبدل أجزائه كلها.
بعد توضيح هذه الحقيقة نقول:
ان الذي يعود من جسم الإنسان هو ذلك البدن الذري الناعم الصغير الذي كان يتألم ويلتذ منذ ان كان جنينا إلى ان مات وقبر، وان هذا البدن لا يعد من أجزاء بدن آخر الا في وقت محدود ثم يخرج ليعود في التراب أو في الهواء أو في أي مكان آخر، ثم يجمعه الله سبحانه مرة أخرى وقد يخرجه في يوم البعث بإضافة أجزاء جديدة عليه ليكون إنسانا عاديا. وقد لا يفعل ذلك، بل يخرجه بنفس الحجم الأصلي فيكون نوعا من العذاب، كما جاء في الأحاديث ان المتكبر يخرج يوم الحشر بصورة الذرة ، ولكن كيف ينميه الله مرة أخرى؟ هل يتم ذلك ضمن أرحام جديدة مثل ما نماه في هذه الدنيا في أرحام الأمهات؟
تجيب بعض الأحاديث على ذلك بقولها: ان الله يجعل الارض بمنزلة الرحم فيهطل عليها وابل من السماء ويوفر للبدن الذري وسائل التنمية الجديدة فيخرج كالنبات من الأرض إخراجا.. أفليس الله الذي خلق الرحم ووفر فيه وسائل نمو الجنين بقادر على ان يجعل الأرض كذلك؟ ولهذا فإن الإنسان يوم القيامة يكون ابن الأرض وليس ابن امه ولا ابن أبيه، ومن هنا جاء في الآية الكريمة: [فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلآ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسآءَلُونَ]( المؤمنون 101).
المعاد في السنّة..
1- قال الإمام الصادق عليه السلام: ( إذا أراد الله أن يبعث الخلق أمطر السماء أربعين صباحا فاجتمعت الأوصال ونبتت اللحوم.
2- قال الإمام العسكري عليه السلام: (أما [الاحياء] في الدنيا فيتلاقى ماء الرجل ماء المرأة فيحيي الله الذي كان في الأصلاب والأرحام حيا. وأما في الآخرة فإن الله ينزل بين نفختي الصور بعد ما ينفخ النفخة الأولى من دوين السماء الدنيا من البحر المسجور الذي قال الله تعالى فيه (والبحر المسجور) وهي من مني كمني الرجال فيمطر ذلك على الأرض فيلقى الماء المني مع الأموات البالية فينبتون من الأرض ويحيون(2).
هذان الحديثان اللذان يكشفان النقاب عن حقائق هامة تنتظر الإنسان على أبواب الآخرة يستدعي شرحهما إلى بعض التوضيح فنقول:
__________
(1) -بحار الانوار ،ج10،ص185-186 .
(2) - بحار الانوار،ج13 ،ص273 .(2/65)
ان الله خلق الأرواح قبل الأبدان بألفي عام ، وكانت حية شاعرة ثم خلق الأبدان بصورة الذرة ثم أسكنها الأصلاب، فإنتقلت من صلب إلى آخر حتى استقر كل ذر في رحم أمه، وأدخل في كل بدن بعد ان بلغ أربعة أشهر في الرحم روحه الخاصة به بسبب حكيم، وأخرجه إلى الدنيا ثم أماته فانتقلت الروح إلى مكانها معذبة أو منعمة حتى تعاد إليه مرة أخرى.. والفترة التي تمتد بعد الموت إلى حين البعث تعتبر فترة الهجعة والرقدة ذلك لأن الروح في الوقت التي تنفصل عن الجسم تبقى ذات علاقة به، تشبه علاقة الشمس بالأرض، تبعث إليها بالنور من دون ان تدخل فيها.
هنا تنكشف عدة أمور:
1- ان الأرواح كان لها وجود مستقل وسيبقى لها ذلك بعد انفصالها عن الأبدان ولها أعمال خاصة بها قبل وبعد ورودها في الجسم. وهذا يعني انها محدودة وبإمكانها القيام بأعمال مستقلة ، وقد كانت الفلسفة اليونانية تعتقد ان الروح مجردة عن المادة وليس لها مكان ولا زمان ولا حد ، ولكن الإسلام سفه هذه الفكرة وبين أن الأرواح مادية(1) تتشكل من أجزاء لطيفة وان لها حدودا وأعمالا.. فبالإضافة إلى وجدان كل منا بأن نفسه ليست مطلقة وإنما هي محدودة ضمن المكان والزمان فتكون هنا ولا تكون هناك.. وبالإضافة إلى شعور كل واحد منا بأن نفسه لم تكن ثم كانت، بالإضافة إلى هذا الوجدان فإن هناك دليلا واضحا على محدودية الأرواح ومحدودية إمكانياتها العملية بعد إنفصالها عن الجسم، وهو ما كشفت عنه الإتصالات التي جرت بطريق أو بآخر مع الأرواح بأساليب حديثة وسئلت عن إمكانياتها وخصائصها مما علم منها ان كل روح محدودة بحدود خاصة ولها أعمال خاصة منفصلة عن الجسم.
ومن هذا الواقع نعرف الرد على شبهة فلسفية حول المعاد تقول: ان الروح تبقى – على القول بالمعاد – معطلة، فلابد لها من الحلول في جسم جديد لكي لا تبقى معطلة.. ورد هذه الشبهة ان الأرواح تتمكن من القيام بأعمال مستقلة فإذا خرجت من الأجسام بدأت نشاطاتها الخاصة ولم تبق معطلة كما يقول صاحب الشبهة.
2- ان الأرواح قد تتذكر من عالمها السابق أشياء، فقد ثبت علميا ان الإنسان قد يعلم كثيرا من الأشياء بدون معلم. مثلا: يذهب إلى مدينة لأول مرة في عمره ثم هو يهتدي إلى أسواقها ومعالمها وشوارعها ويتذكر انه سبق له ان رأى هذه المدينة بكل تأكيد. وأغرب من هذا انه قد يتفق ان يرى الواحد منا رجلا لأول مرة في عمره ويحس بأنه صديق منذ الأزل بما يكن له من حب ومعرفة سابقة. ولا يكون هذا دليلا على أن الارواح كانت تعيش في أبدان سابقة ثم انتقلت إلى أبدانها الجديدة كما زعم القائلون بالتناسخ حديثا، وانما هو دليل على وجود مسبق للروح على الجسم.
3- ان حياة الجسم بالروح، وإن واقع الموت لا يعني سوى انفصال الروح عن الجسم وهو أشبه شيء بالنوم الذي تنفصل فيه الروح عن الجسم قليلا.. وكما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و آله: ( و الذي بعثني بالحق لتموتنّ كما تنامون، و لتبعثنّ كما تستيقظون.)(2) كما جاء في حديث آخر عن الامام الباقر عليه السلام: ( كان فيما وعظ به لقمان إبنه أن قال... و إنما النوم بمنزلة الموت، و إنما اليقظة بعد النوم بمنزلة البعث بعد الموت.)(3) وكما تعذب الروح في حالة النوم بالأحلام المزعجة ويتأثر البدن بذلك إيلاما وتنعم بالأحلام الطيبة فتنعكس آثارها على الجسم أيضا كذلك يكون بعد الموت..
---------------------
الجبر والاختيار..
يتحدث الناس عما إذا كانوا مختارين في أعمالهم أم مجبورين من قبل الله عز وجل ومن قبل قوى الكون. وهناك موضوع آخر سيأتي تحت عنوان (القضاء والقدر) حيث يجري الحديث حول انه ما معنى ان الله قدر هكذا، أو قضى هكذا؟ أيمكن أن يكون معناه انه سبحانه يجبر الناس ويضطرهم على ما هم عاملون، أم له معنى آخر؟
ولابد لنا في الموضوع الأول ان نقول:
ان الوجدان الشخصي الذي هو أكبر شاهد على الحقيقة، يشهد بأن الإنسان عندما يقوم بأعماله العادية ، يكون متمتعاً بحرية تامة في الاختيار، ومعنى ذلك انه يجد نفسه حينذاك غير مكره على اختيار أحد الطرفين، وان له استطاعة تامة في ان يقدم أو لا يقدم، يعمل أو يترك، يختار هذا الطريق أو ذاك.. ألست ترى نفسك حينما تنتقل من وإلى البيت انك تخطو باختيارك، ولك ان ترجع؟ وحينما تقرأ كتاباً انك تقرأ بحريتك ولك ان لا تقرأ؟ ولكن هاهنا واقع يجب ان لا ننساه وهو ان هذه القدرة التامة على الفعل والترك بنسبة واحدة ليست من ذات الإنسان. هذه السلطة والإرادة الحرة، قوة يهبها الله للإنسان حينما يتردد بين الفعل والترك. فهي تماما مثل موهبة العقل وموهبة العلم، فبإستطاعة الله ان لا يعطي عبده هذه القدرة فيصبح لا إراديا أو مجنونا، ولذلك فإن العبد في الوقت الذي هو مختار بكل معنى الكلمة في ان يترك وان يعمل، فهو تحت سلطان الله المطلق، لأن اختياره هذا وقدرته هذه مستمدة وموهوبة من الله. فهو مختار في حدود صلاحياته الموهوبة له لذاته، لذلك فإن الله إذا أراد ان يمنعه من الحرية سلبه هذا الاختيار. وهذا جوهر كلام الإمام الصادق عليه السلام: (لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين)(4) ذلك لأن الجبر يعني ان الإنسان لا إرادة له ولا رأي مستقل، بل انه مضطر ومجبور من قبل الله أو بسبب القوى الطبيعية. وهذا يسلب الفرد تكاليفه ومسؤولياته تجاه أعماله ذلك لأن المجبور لا تكاليف له ولا عقاب عليه.
والنصوص التالية تشرح هذا الواقع وتشهد له:
1- عن الإمام الرضا عليه السلام، قال أحد أصحابه: سألته فقلت: الله فوض الأمر إلى العباد؟
قال (ع): الله اعز من ذلك، قلت: فأجبرهم على المعاصي؟ قال: الله أعدل و أحكم من ذلك. ثم قال: قال الله عزوجل يا بن آدم انا أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني، عملت المعاصي بقوتي التي جعلتها فيك(5).
ومثال بسيط يكفي معنى هذا الحديث فلو وهبت لصديقك وهو رجل عاقل دينارا فذهب واشترى به متاعا حسنا فمن الذي ينسب إليه شراء المتاع، انت ام هو؟. طبعا أنت لأنه لولا أنك اعطيته الدينار لم يستطع من شراء المتاع.. ولو انه اشترى به مسدسا وقتل به نفسه فمن المسؤول، أنت أم هو؟. طبعا هو لأنك أقدرته على المال ولم تجبره على شراء المسدس أو قتل نفسه.. وهكذا الله حينما أعطانا القدرة على اختيار الحسنات كان أولى بها، وحينما اخترنا –بتلك القدرة- السيئات كنا أولى بها.
2- عن الإمام الصادق عليه السلام: (الناس في القدر على ثلاثة أوجه: رجل زعم ان الله عز وجل أجبر الناس على المعاصي، فهذا قد ظلم الله عزوجل في حكمه وهو كافر. ورجل يزعم ان الأمر مفوض إليهم فهذا وَهَّنَ الله في سلطانه فهو كافر، و رجل يقول: إن الله عزوجل كلّف العباد ما يطيقون، ولم يكلفهم مالا يطيقون، فإذا احسن حمد الله، و إذا اساء استغفر الله، فهذا مسلم بالغ)(6).
شبهات وردود
__________
(1) - حين نقول (مادية) لا نقصد بها انها مثل المواد المحسوسة، ولكن نقصد انها مخلوقة ومحدودة وذات كثافة من نوع مختلف عن كثافة ما نراه من المواد.
(2) - بحار الانوار، ج7،ص47 ،ح31 .
(3) - المصدر ،ص42،ح13 .
(4) - بحار الانوار، ج5 ،ص11 ،ح18 .
(5) - المصدر، ص 15 ،ح20 .
(6) - المصدر ،ص9 ،ح14 .(2/66)
هناك بعض الشبهات انتحلها بعض المنكرين، ممن قالوا بالجبر، لابد من التعرض لها. ولكن قبل ذلك يجب ان نعلم انه حين عرفنا بوجداننا ان لنا كامل الحرية بأن نترك أو نعمل أي شيء، بعد هذا لا بد ان نتحقق عن واقع الاستطاعة هذه. الإسلام يقرر ان كل عمل اختياري لابد له من عامل، ولابد لهذا العامل من ان يملك القدرة التي يرجح بها أحد الطرفين على الآخر.. وهذه القدرة هبة من الله للنفس التي تريد أن ترجح، وهي لا تتأثر بأية دوافع خارجية.. وبكلمة أخرى فإن الاستطاعة عند الإسلام نور يفيضه الله على النفس حين العمل فتصبح كل العوامل متساوية بالنسبة اليها وتفقد كل قوتها أمام تلك الومضة الإلهية التي تعطي النفس القوة الكاملة على الفعل والترك. هكذا يقرر الإسلام واقع الاستطاعة، وعليه فالقوة الإرادية تأتي من الله حين العمل، فبمشيئة الله وقوته يستطيع العبد ان يختار هذا الجانب أو ذاك.. وهذا ينافي التفويض، إذ التفويض يعني ان العبد يختار بعيدا عن مشيئة الله. إذاً فلا جبر، إذ الجبر يعني ان تختار للنفس أحد الجانبين قوة خارجة عن ذات الإنسان. ولا تفويض لان ذلك يعني امتلاك الإرادة بصورة ذاتية وهذا مما يخالفه الإسلام. ولنعرج على الشبهات للرد عليها وبيان تفاهتها:
1- إن الإنسان مفطور على حب ذاته وحب مصلحته الخاصة، فهو يسير بصورة طبيعية وراء ما ينفعه. والمصالح المختلفة هي التي تحددا تجاهه في الواقع وفقا لملابسات نفسه فهي إذاً الرائدة للإنسان نحو ما تقتضيه من اتجاه.. ومن هنا ظهرت الجبرية الاقتصادية والاجتماعية والنفسية التي قال بها كل من: ماركس، دركهايم، فرويد.
والجواب: صحيح ان النفس تهوى ذاتها بصورة طبيعية، وان الإنسان يحاول دائما ان يجلب إلى نفسه النفع ويدفع الضرر، ولكن هذا لا يعني ان النفس مجبورة على اتباع هذا الهوى وهذا الحب.. ان النفس تملك - بإذن الله - قوة فوق قوة الحب وهي قوة الرأي وقوة الإرادة، فتختار حينا ما تحب النفس فتتبع بذلك هوى النفس، وتختار حينا آخر ما تكره النفس وخلافا لما تحب. وبعبارة شاملة: ان هناك فرقا واضحا بين ان تكون حركة الإنسان وراء مصالحه حركة لا إرادية وجبرية - كحركة الشمس حول الأرض - وان تكون إرادية بمعنى ان بإستطاعة البشر ان يتوقف عن السير ولا يستمر في جلب المنافع، لا يأكل ولا يكتسب ولا ينكح تماما كما يفعل الزهاد وبعض الثائرين..
والوجدان شاهد على ان للبشر مقدرة كافية في مخالفة النفس بالسير في اتجاه آخر، وهذا هو الشرف الإنساني الذي يتميز به عن كل حي آخر. كما ان باستطاعة الإنسان ان يخالف تقاليد الاجتماع وان سبب له ذلك ضررا كبيرا وان يغلب حالته النفسية بإتجاه معاكس.
2- و يقولون: أليس الله يعلم ان عباده يذنبون علما سابقا على وجود ذنبهم؟ ثم أليس الله عليم ولا يجهل ولا يمكن ان يخطأ؟ إذاً فلو علم الله اني أكذب فإني لا اقدر على أن لا أكذب، إذ لو لم أكذب إذاً لزم ان يكون علم الله جهلا؟
الجواب: بالرغم من ان هذه الشبهة تعتبر قوية في الأوساط الفلسفية فإن جوابها واضح وبسيط يُعرف بعد ان نفهم واقع العلم، ولنأت له بمثل:
انك تعلم ان أخاك سوف يموت بعد مئة سنة علما يقينا فماذا يعني هذا العلم ، و ما هو تأثيره في الحدث؟ ان يعني الواقع الخارجي الذي يحدث بعد مئة سنة قد انكشف لك بصورة واضحة، وهل هناك شيء آخر يؤثر في الواقع؟ طبعا لا، حيث ان علمك لا يؤثر في الواقع الخارجي فلست انت الذي تقتل أخاك، بل ان لموته سببا خاصا، و أنت فقط تعلم انه سيموت. فالعلم ليس الا معرفة الواقع كما هو وليس سببا في صنع الواقع.. وإليك مثلا آخر:
تعلم ان زيدا سوف ينتحر غدا بصورة إرادية واختيارية، فهل يعني هذا: أنك قتلته؟ أبداً، ذلك لأنه انما انتحر بإرادته الخاصة ووفقا لدواعي مخصوصة، ولست أنت الا عالما بما سوف يجري. فالعلم لا يؤثر في صنع الأمر والواقع، بل في كشفه. ولدى مقايسه العلم بالمستقبل بالعلم بالماضي يصبح الأمر أكثر وضوحا، لو انك علمت بأن زيدا مات أمس فهل يعني هذا ان لعلمك تأثيرا في هذا الموت؟ وبما ان حقيقة العلم واحدة في الماضي والمستقبل فليس هناك مجال للقول بتأثير العلم في الواقع، وعلم الله بالأشياء لا يعني انه هو الذي يفعلها مباشرة. فإنه يعلم مثلا ان زيدا سوف يختار الكفر بحريته وإرادته على الإيمان، وليس معنى هذا انه تعالى يجبره على ذلك.
وبتعبير آخر: ان زيدا يختار بين الكفر والإيمان، ولابد انه يختار بحريته التامة، فأيا منهما يختاره؟ انا لا أدري. ولكن الله يعلم بأنه سوف يختار – بكل حرية وإرادة- الكفر لا الإيمان. وهذا لا يعني سوى انه يعلم بنتيجة الاختيار لا انه هو الذي أجبر عليها صاحبها. أترى لو أنك عرفت ان لو خيرت إبنك بين دينار وبين متاع جميل قيمته نصف دينار، وعلمت بأنه سوف يختار المتاع – بكل حرية- فهل معناه انك أجبرته على اختيار المتاع؟ طبعا لا. انما أنت عالم فقط.
3- و يقولون: ان طينة كل فرد قد خلقت بشكل خاص.. فالشقي شقي في بطن أمه، والسعيد سعيد في بطن أمه.. وولد الزنا لا ينجب إلى سبعة بطون.. ومن انعقدت نطفته في حرام لا ينجب.. وهكذا الجينات الوراثية تؤثر على تعيين سلوك الفرد فهو مضطر إلى اتخاذ نوع خاص من السلوك فهو إذاً مجبور وليس بمختار كما يزعمون.
الجواب: ان الطينة (متخذة من لفظ الطين باعتبار ان أول الخلق كان طينا لازبا)؛ تعني خلق جوهر النفس. وهذا الجوهر قد يكون صالحا يرغب في الصالحات، وقد يكون طالحا فيهوى الخطيئات.. الناس بطبعهم الأولي على قسمين: فريق يحب الخير بذاته، وفريق يهوى الشر بذاته (كل يعمل على شاكلته) و(كل حزب بما لديهم فرحون).. بيد ان هناك شيئا آخر يثبته الإسلام غير حب النفس وغير هواها، ذلك هو الرأي. تلك هي القدرة التي توهب للإنسان وتجعل الفعل والترك سواء عندها، تلك القدرة التي نطلق عليها اسم (الإرادة).. وأنها ليست مخلوقة مع النفس حتى تتأثر بالطينة، بل انها كالعلم موهبة إلهية. فولد الزنا مثلا يحب الشر بذاته ولكن حينما يعمل الشر لا يعمله لأنه يحبه بل لأنه أراد ذلك بحيث لو انه كان يريد خلافه – وان كان صعبا عليه – كان يستطيع ان يأتي به أيضا.
مثال ذلك: من تعود على التدخين يحب هذا العمل كثيرا، ويصعب عليه تركه ولكن لا يعني هذا انه مجبور على ذلك، بل بإمكانه التغلب على هذه الصعوبة وترك التدخين.. فالطينة والعادة وأكل مال الحرام وما أشبه تحدث حالات نفسية تهوى جانبا من جانبين، ومن الصعب مخالفته باختيار الجانب الآخر. ولكن بما ان الإرادة ليست من النفس فإنها حاكمة على هذا الحب والهوى وباستطاعة الإنسان بها ان يختار الجانب الآخر. وبعبارة وجيزة: الطينة تسبب الحب والهوى، وللنفس فوق الحب إرادة ترجح ما تحب النفس وقد ترجح ما تكره.
--------------------
القضاء والقدر
1- كلمة القدر (المتخذة من مادة قدر – يقدر – تقديرا) تعني: التحديد والتنظيم والتدبير.. فالله قدر كل شيء تقديرا. فالشمس مقدرة ، فلا تقترب ولا تبتعد عن الأرض أكثر من المدار المقرر لها ولا تبعث الضوء خارجا عن المنطقة المحدودة له ، وهكذا القمر مقدر بمداره ، ومقدار نوره ، وكل شيء مقدر بتحديد وتدبير.(2/67)
وكلمة القضاء (متخذة من مادة قضى – يقضي- قضاءً) تعني إمضاء التدبير. فبعد أن قَدّرَ الله الأشياء أجرى هذا التقدير في عالم الكون. فمثلا يقدر الله ويحدد إعطاء ولد لزيد ثم يقضي بذلك بأن يعطيه الولد فعلا ، فهنا يكون قدر وقضاء حيث قدر الله ذلك أولا ثم قضى ما قدره ، وهذا المعنى للقدر والقضاء معترف به دينيا وعقليا الا انه لا ينافي حرية الإنسان إذ انه هو في حدود الاقدار المقضية.
وهناك معنى آخر للقدر وهو العلم، فقدر الله يعني: علم الله بالأشياء كيف تقع منذ الأزل. وقد سبق ان علم الله بالأمور لا يؤثر أيضا في اختيار العبد لها وقدرته على تركها وفعلها جميعا بنسبة متساوية ، وفي الحديث المروي عن حمدان بن سليمان قال: كتبت إلى الإمام الرضا عليه السلام أسئله عن أفعال العباد مخلوقة ام غير مخلوقة؟ فكتب (ع): (أفعال العباد مقدرة في علم الله عز وجل قبل خلق العباد بألفي عام(1).
2- أما القضاء والقدر بمعناهما الاصطلاحي فيعني ان كل عمل للعباد مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ الذي ينظر إليه الأنبياء والملائكة والصالحون فيعرفون ما سوف يجري في المستقبل. ولكن ما كتب في هذا اللوح يتبدل بإرادة الله حيث قال: [يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ اُمُّ الْكِتَابِ](الرعد 39).
3- ان كل عمل يجري من العبد – فهو انما يقدر من قبل الله ، أي بما أعطاه الله من قوة وبما وفر له من ظروف مواتية.. وجاء في الحديث عن البيزنطي قال: قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام: ان أصحابنا بعضهم يقولون بالجبر وبعضهم يقولون بالاستطاعة؟. فقال عليه السلام: (أكتب: قال الله تبارك وتعالى: يا بني آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء ما تشاء، وبقوتي أديت الي فرائضي، وبنعمتي قويت على معصيتي، جعلتك سميعا بصيرا قويا، ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك، وذلك أني أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك. وذلك أني لا اُسئل عما أعمل وهم يسألون(2).
وفي حديث آخر عن الحسين بن علي عليهما السلام: سمعت أبي علي ابن ابي طالب عليه السلام يقول: (الأعمال على ثلاثة أحوال: فرائض، وفضائل، ومعاصي. فأما الفرائض فبأمر الله تعالى وبرضا الله وبقضائه وتقديره ومشيئته وعلمه. وأما الفضائل فليست بأمر الله ولكن برضى الله وبقضاء الله وبقدر الله وبمشيئة الله وبعلم الله. وأما المعاصي فليست بأمر الله ولكن بقضاء وبقدر الله وبمشيئة الله وبعلمه، ثم يعاقب عليها(3).
(تقدير الله يعني: تحديده للأشياء.. وقضائه: تهيئة الوجود للأشياء.. ومشيئة الله .. نعمته بهذا الاعطاء أولا.. وعلم الله: انه كان يعلم منذ الأزل) هذا وان واحدا من هذه لا يخالف الاختيار إذ ان الله شاء ان يكون العبد مختارا ثم قدر، وقضى ذلك بإعطائه الاستطاعة فكان صدور الفعل منه بالاختيار وبقضاء من الله يعني: ان الله لم يمنعه بل اذن له في ذلك. فلو انه كان يسلب القدرة في اللحظة الأخيرة لم يتمكن من الفعل أبدا ولكنه لم يفعل.
وبصورة موجزة ان للقدر ثلاثة معانٍ:
1- ان الله عالم من الأزل بما هو كائن.
2- ان الله كتب ما يجري في اللوح المحفوظ وله تبديله متى شاء وهو المعبر عنه (بالبداء).
3- ان كل شيء يقع في الأرض أو السماء، فإنه يقع تحت سلطان الله، وبما يعطي الله العباد من القوة والقدرة لحظة بعد أخرى.
ومن الواضح ان أيا من هذه لا تؤثر في اختيار العبد، إذ ان العلم تابع لما يقع، وان اللوح –وهو نوع آخر من العلم - فيه البداء. وأما ان كل شيء من الله فلا يؤثر في ان يكون العبد مختارا بتلك القدرة الموهوبة التي أعطاها الله له.
--------------------
الغاية من الخلق
ما هي الغاية من الخلق؟
سؤال يفرض نفسه على الإنسان ليوفق مسيره طبقا للغاية التي جاء من أجلها.. الغاية ليست اللعب والعبث تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا . أيلعب أو يعبث الحكيم الذي ملأت آثار حكمته السموات والأرض؟ وليست الغاية حاجته إلينا ليدفع ضرا أو يجلب نفعا، وهو القادر القاهر الغني المتعال. والواقع انه بتواتر النعم وتوالي الآلاء، وما سخر لنا من الشمس والقمر والنجم والشجر، وما كرمنا به من العقل والقدرة ، وما فضلنا به على كثير ممن خلق تفضيلا، بذلك كله نعرف: ان الغاية من خلقنا هي الرحمة بنا ، بيد انه لما نرى ان النعمة في الدار الدنيا تمتزج بالنقمة، وان الراحة يعقبها التعب، وان في العالم ظلما فاحشا وفسادا ظاهرا، نهتدي بذلك الى ان الله لم يجعل هذه الدار التي نعيش فيها دار الرحمة التي لأجلها خلقنا، وان كان قد اسبغ علينا فيها بالنعم والآلاء.. فلا بد إذاً ان نبحث عن مكان آخر غير الدنيا فيه الراحة الكاملة التي تناسب وكمال الله سبحانه فما هو ذلك المكان؟ انه الآخرة التي وعدنا بها، فالغاية من الخلق السعادة في الآخرة . هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لا ريب في ان الدنيا تنطوي على خير وشر، ولا يمكن ان يكون الشر فيها نعمة أيضا، وبما ان الله متعال عن الشر الذي ينافي الرحمة الواسعة التي لا حدود لها، فلابد من القول بأن الله تعالى انما جعل الخير والشر في الدنيا ليختبرنا بهما، إذ انه كلفنا بأن نختار بحرية أحدهما. والى هذه الحقائق تشير الآيات التالية:
1- [وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ] ( الدخان 38) ، [مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ] ( الدخان 39).
2- [أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ]( المؤمنون115).
3- [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( الذاريات 56).
4- [.. وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ..] (أي للرحمة).(هود 118-119).
5- [وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ لِيَبْلُوَكُمْ اَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً](هود7).
من الآية الأولى يظهر ان الله لم يخلق الخلق لعبا بل خلق السماوات و الارض بالحق ، ويظهر من الآية الثانية انه لم يخلقهم عبثا. فلماذا خلقهم؟ لكي يعبدوه (كما في الآية الثالثة). ولماذا يعبدوه؟ يظهر من الآية الرابعة انها لكي يرحمهم؛ أي ان العبادة انما فرضت لتكون وسيلة لرحمة الله تعالى. وأين يرحمهم؟ ليس في الدنيا لأنهم جاؤوا هنا ليبلوهم أيهم أحسن عملا، (كما في الآية الأخيرة) بل يرحمهم في الآخرة.
وجاء في السنة الشريفة:
قال الراوي سألت الصادق عليه السلام فقلت: له لم خلق الله الخلق؟ فقال(ع): (ان الله تبارك وتعالى لم يخلق خلقه عبثا ولم يتركهم سدى بل خلقهم:
1- لإظهار قدرته.
2- وليكلفهم طاعته فيستوجبوا بذلك رضوانه.
وما خلقهم ليجلب منهم منفعة ولا ليدفع بهم مضرة، بل خلقهم لينفعهم ويوصلهم إلى نعيم الأبد)(4).
وعن الإمام الحسين عليه السلام قال: (أيها الناس! ان الله جل ذكره ما خلق العباد إلاّ ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة ما سواه(5).
وسأل أحد الكفار الإمام الصادق (ع) فقال: لأي علة خلق الخلق وهو غير محتاج اليهم ولا مضطر إلى خلقهم ولا يليق به العبث بنا؟
__________
(1) - بحار الانوار ،ج5،ص29،ح35 .
(2) - فقه الرضا، ص349 ،ب93 ، القدر و المنزلة بين المنزلتين .
(3) - بحار الانوار ، ج5 ، ص29، ح36 .
(4) - بحار الانوار ،ج5،ص313،ح2 .
(5) - المصدر ،ص312،ح1 .(2/68)
قال (ع): (خلقهم لإظهار حكمته وإنفاذ علمه وإمضاء تدبيره(1).
أقوال وردود..
ولدى معرفة هذه الغاية تتوضح لنا طائفة من الحقائق التي يسبب الجهل بها الوقوع في سلسلة من الشبهات، وهي شبهات بناها الماديون لتبرير إنكارهم لوجود الله سبحانه. ونحن إذ نشير إلى هذه الشبهات وردودها نعتمد في التوضيح على وعي القارئ لما سبق من الحديث المفصل:
1- يقولون: لو كان الله موجودا، وكان قديرا حكيما، فلماذا -إذاً- هذه النكبات وهذه الويلات التي تلف الناس من حين لآخر؟
الجواب: ان الله القدير الحكيم لم يخلق الدنيا الا ليعلم من يصمد أمام نكباتها ومن ينهار.. إذاً فالويلات ضرورية إلى حد ما لفلسفة هذا الكون، ذلك لأن للويلات غايات عديدة وأسباب مختلفة نشير إلى بعضها اختصارا وهي:
ألف: ان الويلات تسبب رجوع الناس إلى ربهم ومعرفتهم به واقترابهم إليه. قال الله تعالى: [فَاَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ]( الانعام 42).
وليس من ريب في ان العودة إلى الله توجب خيرا كثيرا.
باء: انها تكفِّر عنهم بعض ذنوبهم، أو تكون معاقبة من الله على تلك الذنوب، ذلك لأن طائفة من المعاصي يلقى فاعلها العقاب العاجل، ومن هذا النوع كان العذاب الذي لف قوم عاد وثمود وأصحاب الأيكة وما أشبه.
جيم: ان الله بها يرفع درجات الصالحين من عباده.
ففي الحديث: ان للحسين (ع) درجة لم يكن ينالها الا بالشهادة.
دال: ان الكوارث تعمل على التمييز بين المؤمن والكافر.
قال سبحانه: [الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ]( العنكبوت 1-3 ).
2- ويقولون: قد نرى في حوادث الكون انها تصيب أناسا لا يستحقون أي جزاء سيء، فما سبب ذلك؟
الجواب: ان هؤلاء الناس سوف يضاعف لهم الأجر في الآخرة، فإن الله ليس بظلام للعبيد.
3- ويقولون: ان هناك طائفة من الجبابرة والطغاة يسلطون على رقاب الناس ويهلكون الحرث والنسل فلماذا لا يعذبهم الله؟
الجواب: في الوقت الذي قد يكون تسلط هؤلاء بسبب أعمال الناس أنفسهم كما ورد في الحديث: [كما تكونون يُولّى عليكم(2)].. في الوقت ذاته فإن سبب بقاء هؤلاء ليس لكي يزدادوا ثوابا إذ لا ثواب لهم بل يزدادوا إثما ويزداد المظلومون أجرا في يوم القيامة.
4- ويقولون: لماذا لا يهدي الله الناس جميعا؟ ولماذا ترك بعض الناس يفسدون ويقترفون المعاصي الكبيرة؟ فهل يعني ذلك ان الله راض بالمعاصي أو هو عاجز عن هدايتهم؟
الجواب: تعالى الرب الحكيم عن ان يرضى بالقبيح أو يعجز عن ردعه، وانما الله أراد ان يجعل الدنيا دار بلاء وامتحان وقد ترك الناس يختارون ما يشاؤون حتى يختاروا طريقهم بأنفسهم ويحصلوا على الجزاء المناسب، ومجرد هذا الاختيار المخول إليهم كرامة لا تقدر.
5- و يقولون: لماذا نرى المؤمنين الصادقين أكثر الناس بلاء وأضيقهم عيشا وأشدهم عناء مع أنهم متصلون بالرب العظيم وهو قادر رحيم فلماذا لا يراعيهم؟
الجواب: ان الله لم يجعل الدنيا للمؤمنين الا مزرعة مباركة للآخرة، ولذلك فإن نفوسهم رغبت عنها وزهدت فيها، وليسوا -كما زُعِمَ- أضيق الناس عيشا بل العكس صحيح.
وبصورة مجملة: الشبهة نابعة من اعتبار الدنيا دار راحة ومنزلة قرار بينما هي دار بلاء وامتحان وانها مجرد جسر نحو الآخرة.
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : (الدنيا مزرعة الآخرة)(3).
فطوبى لمن فهم ذلك.. واتخذها طريقا.. ولم يتخذها قرارا..
------------------------
القسم الثالث: الإنسان والمجتمع
البحث الاول:النظريات المادية و الانسان و المجتمع
كلمة في البدء
بعد ما طفنا حول الفكر الإسلامي ابتداء من نظرته إلى العقل والعلم، ومرورا بالفلسفة العامة، وانتهاء بالعقائد الإسلامية كان لابد من حديث موجز عن الإنسان والمجتمع في الفكر الإسلامي.. لكي نحصل على النظرة الإسلامية الشاملة في الحضارة الإنسانية، ولكي نطلع على مدى الانسجام بين الركائز الفكرية والتشريعات العملية في البناء الحضاري للإسلام.
ونبدأ الحديث باستعراض الحلول العامة التي وضعت حتى الآن للمشكلة الاجتماعية، ثم نقوم ببحث النظريات المادية، الواحدة تلو الأخرى، وما تنطوي عليه تلك النظريات من أخطاء ثم نستعرض الخطوط العامة للفكر الإسلامي. ونختم الحديث ببيان مقتضب حول ميزات التشريع الإسلامي، والله المسدد.
ماذا تعني المشكلة الاجتماعية؟
لقد خلق الإنسان حضاريا يتطلع إلى آفاق أبعد من إشباع الحاجات الضرورية كما في سائر الاحياء.. وقد اكتشف ان تحقيق تطلعه البعيد لا يمكن بدون تشكيل مجتمع يسوده التعاون.
ونبعت المشكلة من هنا. فما هو المجتمع المتعاون؟.. ليس من شك في ان الظلم عقبة تعترض طريق التعاون، ولكن كيف يمكن القضاء على الظلم الاجتماعي وكيف يحل العدل مكانه؟
للإجابة على هذا السؤال كان لابد ان يحدد بدقة: ما هو الظلم؟ بل ما هو العدل؟.. فجاء الجواب: العدل اعطاء الحقوق وافية ولكن استمر الغموض أيضا، وجاء سؤال آخر: ما هي الحقوق وكيف يمكن الوفاء بها؟ ما هو حق الفرد على المجتمع؟ وما هو حق المجتمع على الفرد؟ وبأي الحقين نضحي لدى تعارضهما؟ وما هي الدولة الصالحة التي تقوم باداء الحقوق؟
وكان من الطبيعي ان يتصل الموضوع مباشرة بمعرفة واقع الحق ثم بمعرفة واقع صاحب الحق. فمن هو الانسان؟ ما هي حقيقته؟ ما هي حاجاته؟ ما هي حقوقه؟
وما هو المجتمع؟ ما هي حقيقته، فحاجاته، فحقوقه؟
والنظرية الفكرية التي تجيب على هذه الأسئلة بدليل علمي أو فلسفي تسمى بالفلسفة الاجتماعية أو الفلسفة العملية.. أما الإجابات الجانبية التي تقوم على أساسها فإنها تسمى بالنظام الاجتماعي.
وجملة المسائل الغامضة التي تشكل مواضيع هذه الاجابات هي المشكلة الاجتماعية.إذاً:
1- الفلسفة العملية= نظريات حول حقيقة الإنسان والمجتمع.
2- النظام الاجتماعي= الأحكام الواضحة التي تستنبط من تلك النظرية.
3- المشكلة الاجتماعية= البحث عن إجابة صحيحة لهذا السؤال: كيف يمكن ان يصنع الإنسان حضارته؟
فالمشكلة الاجتماعية تعتبر الموضوع الأول للفلسفة العملية ثم يأتي دور النظام الاجتماعي. إذ نحن - في البدء - نطرح السؤال عن الطريقة التي يمكن ان يصنع الإنسان بها حضارته؟ وفي الإجابة عن هذا السؤال نحاول أولا: وضع نظام اجتماعي. إلا ان المحاولة تبوء بالفشل لعلاقة الموضوع بالبحث عن حقيقة الإنسان والمجتمع فنضطر أخيرا إلى معرفة الفلسفة العملية التي تعالج حقيقة الإنسان والمجتمع.
النظام الاجتماعي
بعد ان طاف البشر تطوافا مرهقا حول النظام الأصلح للمجتمع انتهى إلى نظامين رئيسيين نابعين من مفهومين متعاكسين:
1- التسليم لله، وتقبل تشريعه كاملا. وهذا هو النظام الإسلامي في صيغته الأخيرة المتمثلة في دين النبي محمد (ص).
2- الاستبداد بوضع النظام لنفسه، وهو ينقسم تبعا لافتقاد البشر المقياس الدقيق لمعرفة الصحيح عن الباطل، ينقسم إلى نوعين:
أ- النظام الفردي الرأسمالي.
ب- النظام الجماعي الشيوعي.
__________
(1) - المصدر ،ص317،ح14 .
(2) - كنز العمال. الخبر 14979 .
(3) - عوالي اللآلي،ج1 ،ص267 .(2/69)
وبالرغم من ان الإنسان اضطر إلى تعديل كلا النظامين المتطرفين ذات اليمين وذات اليسار، تعديلا جعلهما يقتربان نوعا ما إلى النظام الإسلامي.. فإن الإنسان العصري لا يزال يسرح خياله في متاهة الجهل، ويعتقد بأن الشيوعية أو الرأسمالية المتطرفة أصلح الأنظمة التي تسير بحضارة الإنسان قدما إلى الكمال.
ومن هنا فإنه لا تزال توجد فكرة تنادي بسلب حقوق الفرد بصورة تامة ودفع المجتمع إلى مستوى الإله المعبود.. وتقابلها فكرة متطرفة تنادي بوجوب إعطاء الفرد كامل حريته وجعله إلاها من دون المجتمع.
ونحن إذ نتحدث عن النظريتين المتقابلتين نحاول تجريدهما عن التعديلات العملية التي طرأت عليهما اضطراراً وبعد ان فشلا في حقل التطبيق الخارجي.
النظام الرأسمالي
يرتكز هذا النظام على فلسفة عامة تقول: ان تصارع الأفكار والمصالح يظهر على المسرح أفضل ما ينتجه الإنسان!
ويلزم على النظام الاجتماعي ان يهيء ظروف هذا التصارع كأفضل ما يكون، وذلك بفسح المجال لأكبر قدر ممكن من الحريات الفردية لتكون وسيلة مشجعة للإنسان تبعثه لإبداع أفضل الأفكار والقيام بأحسن الأعمال.
والحريات تتلخص في أربعة أقسام هي: السياسية والاقتصادية والفكرية والشخصية.
فالحرية السياسية تعني إفساح المجال لكل فرد على ان يقرر مصيره السياسي بنفسه عن طريق اعطائه حق التصويت والمحافظة على هذا الحق.. وينشأ من هذا الحق: التنافس الحر على السلطة، ويكون أقدر الناس على السياسة هو المنتخب النهائي للمجتمع.
والحرية الاقتصادية تدفع بكل فرد إلى خوض صراع حر على العمل، وينشأ من هذا ان كل فرد يضع كل طاقاته الممكنة في المعركة، وبهذا يحصل المجتمع على أكبر قدر ممكن من طاقات أفراده الانتاجية.
هذا من ناحية التنمية الاقتصادية. وأما من ناحية الاقتصاد السياسي فإن الحرية تحفز بكل فرد إلى اختيار مصالحه الخاصة، وهذا الحافز يحفظ التوازن الاقتصادي للبلاد؛ فمثلا: تبقى هناك نسبة معينة بين دخل الفرد ومستوى معيشته، إذ مجرد ان ينخفض دخل الفرد أو يرتفع مستوى معيشته حتى يطالب بازدياد الأجور وهو بدوره يقضي بتعديل الأسعار.
والحرية الفكرية تعني ان لكل شخص حقا في التمسك بعقائد وآراء معينة تروق له ولا يحق لغيره منعه من الالتزام بتلك الآراء. ومن الحرية الفكرية تنبثق الحرية الدينية وهي تقضي بتعديل الأفكار التي تنتشر في المجتمع بسبب التصارع بينها واختيار الجمهور لها.
والحرية الشخصية، تعطي لكل فرد الحق في التزام سلوك يختاره دون ان يكون لأحد الحق في منعه عنه.. وهذه الحرية تعين أيضا أفضل أقسام السلوك عن طريق اختيار أكثرية الناس له؛ فمثلا: الزي المناسب الجميل يختاره المجتمع بعد تقارن الأزياء المختلفة التي تختارها كل فئة فتستقر الأكثرية على أنواع معينة من الزي.
نقد الرأسمالية
ان الرأسمالية لم تعد اليوم تلك الجنة التي وعد بها البشر منذ قرون طوال، إذ منيت بنكبات مريرة، والتي كان من أهمها تمخض الشيوعية عنها كرد فعل عنيف لنظام النفاق والتنافس المرهق. وتتلخص نقاط ضعف الرأسمالية فيما يلي:
1- انها نظام مادي ينطلق من مبدأ الاستبداد بالحكم من دون الله وهو لذلك ينطوي على أخطاء ضخمة لا يمكنه التملص منها، لأن البشر مهما أوتي من علم وقدرة وأخلاق فإنه لن يبلغ مستوى دين الله الذي يشع علما وقداسة وقوة.
وقد تقدم في فلسفة الرسالة، ما يدعونا إلى الأخذ بالإسلام جملة وتفصيلا.
2- الرأسمالية مادية لأنها تجعل القيمة التامة للمصلحة، وتقيِّم الحقائق الأخرى من دين وأخلاق وفق ما تنطوي عليها من تلك القيمة؛ قيمة المصلحة الذاتية. وهذا التقييم المطلق للمصلحةالذاتية يشكل جذر الأخطاء في النظام الرأسمالي.
3- كانت الرأسمالية مادية مرة ثالثة حين شرعت نظمها بعيداً عن التفكير في الحياة بعد الموت، تلك الحياة التي لو كانت واقعية وهي كذلك، لكانت أسمى من هذه الحياة. فينبغي ان يجند الإنسان بعض طاقاته لا أقل لتلك الحياة ويعمل وفق معطياتها. هكذا تنطلق الرأسمالية من منطلق مادي سواء آمنت بذلك أو رفضت الاعتراف به كسبا للمزيد من الأنصار.
4- بانطلاق الرأسمالية من العقلية النفعية وتأليهها المصلحة الذاتية، قضت على أية قيمة للأخلاق، ذلك لأن من انحصر تفكيره ضمن نطاق ضيق من المصلحة لا يستشرف ليرى جمال القيم الخلقية وروعتها. ولذلك نلاحظ ان الرجل الرأسمالي يعيش بعيداً كل البعد عن المناقبية السلوكية ولا ينظر إلى الحياة الا من زاوية المصالح الخاصة. وفي تاريخ الاستعمار والعنصرية نقرأ ألف مأساة ومأساة استلهمت من الذاتية الغربية.
وبالرغم من ان الوعي الشديد بسبل الانتفاع يهدي الإنسان إلى تعديل سلوكه وفرض بضعة قيم خلقية على نفسه، فإنها لا تعدو ان تكون متواضعة ومجتثة الجذور. ذلك ان صاحب المصلحة قليلا ما ينظر بعيدا ، ولئن نظر فقليلا ما يعتقد ان في مصلحته الالتزام بالأخلاق ولأن التزم فسرعان ما يتركها حينما تعارض مصالحه.
5- الرأسمالية إذ تنطلق من المصلحة في كل مناحي الحياة ، فإنها تعطي الحق للأكثرية في وضع النظم الصالحة لها وان كانت تضار مصالح الأقلية. فالمصلحة انما هي مصلحة الأكثرية، أما الأقلية فإنها ستعيش طبيعيا تحت رحمة الحكم ما دامت لا تملك ضمانا من الأكثرية برعاية شؤونها.
ولقد كانت الشريعة الإسلامية واعية لمأساة الأقلية فلم تجعل المصلحة ولا مصلحة الأكثرية هي القيمة النهائية للنظام، بل الحق والحق وحده كانت القيمة الأساس.
6- القضية المأساوية العظمى التي تورط فيها النظام الرأسمالي كانت عودة الأكثرية أقلية حاكمة، إذ ما أن أطلقت الحرية الاقتصادية حتى تكتلت الأدمغة البشرية الواعية ومضت قدما في تحقيق مصالحها الذاتية، وأحرزت لنفسها ثروة طائلة. والثروة كل شيء بالنسبة إلى أمة المصالح التي تسودها العقلية النفعية بصورة كاملة. ولهذا فقد أمست الثروة الطائلة التي كدستها الأقلية هي سيدة الموقف تماما.. إذ قامت الأقلية الثرية اعتمادا على ثروتها الطائلة وحفاظا عليها، قامت بضرب مواقع القوة التي كانت تهدد مصالحها. فالقوى السياسية لم تكن قادرة على الصمود بعيدا عن الثروة. وهكذا غزيت الأحزاب السياسية في عقر دارها، بإشتراء ضمائر سادتها وكذلك تنازلت السياسة للاقتصاد بصورة كاملة. وتنازل الاقتصاد للصفوة الثرية، فكانت هي دون الأكثرية، الحاكمة المطلقة الا انها غطت حاكميتها تحت غطاء واسع من الدعاية. فإذا بالناس يختارون ما توافق مصلحة الأقلية وهم يحسبون انها مصالحهم أنفسهم.
ولقد تسلحت الأقلية هذه باليقظة التامة بحيث كانت تتصدى لكل من أراد ان ينفلت من قبضتها و تقضي عليه قضاء تاما، ولكن بعد ان مزجت السم بالعسل والموت بالأحلام.
ولسنا بحاجة إلى القول بأن العقلية الاستعمارية وما أعقبت من مآسٍ وويلات وبلبلة وثورات كانت نتيجة حتمية للعقلية النفعية الرأسمالية.
ذلك لان الترابط بين العقليتين انما هو ترابط بين سبب ونتيجة وعلة ومعلول.. ذلك لأن تلك العقلية التي توحي باستثمار الأكثرية في بلدها هي التي تتطلع إلى استغلال البلاد الأخرى. هكذا كانت الرأسمالية جحيم الشعوب في الوقت الذي كانت تدعي انها الجنة الوارفة.
النظام الشيوعي(2/70)
لقد أحدثت الرأسمالية أزمة حادة في صفوف تلك الأكثرية المحرومة، فبدأت تشعر بالسم في العسل، والموت في الأحلام، فتسلحت بنظرية الصراع الطبقي والتفسير الديالكتيكي لأحداث التاريخ وصاغت نظرية (الشيوعية العلمية) التي انبثقت منها كمقدمة وتمهيد، الاشتراكية العلمية.
وانطلقت الشيوعية ووليدتها الاشتراكية من هذا المنطلق.
ما دامت الأقلية الثرية تشكل بؤرة الفساد، فلابد من القضاء عليها، بل لابد من القضاء على تلك الأجواء المساعدة لنموها.
وبحثت عن البديل فجاء الجواب في البداية بتشكيل حزب يمثل الطبقة المحرومة فيقودها إلى الحرب الباردة فالساخنة ضد الأقلية المستبدة وتبني دولة العمال.. وتستلم الدولة مقاليد الحكم من أولئك المستغلين ريثما تنضج العقلية الشيوعية في المجتمع. فلا حاجة آنئذ إلى الدولة أيضا فيمكن التخلص نهائيا من الدور السلبي للثروة.. وكانت خطوط الشيوعية تتلخص فيما يلي:
1- تحديد الملكية الفردية لحساب توسيع الملكية الجماعية وتأميم وسائل الانتاج والتوزيع كخطوة أولية لإلغاء الملكية الفردية نهائيا.
2- توزيع الدولة للسلع المنتجة حسب القانون الشيوعي العام (من كلٍ حسب قدرته ولكلٍ حسب حاجاته).
3- تخطيط الدولة لمناهج الاقتصاد العامة.
وينطوي النظام الشيوعي وما يتبعه على خطأ جذري هو: النظرة السطحية إلى مشكلة الثروة.
فمشكلة الثروة ليست مشكلة أناس بأسمائهم وصفاتهم ، وليست مشكلة أشخاص بمؤسساتهم، انما هي أعمق من ذلك وأشمل. المشكلة هي ان البشرية حينما نظرت إلى نفسها نظرة مادية ضيقة تورطت في سلسلة لا تنتهي من المشاكل. فما دامت الحياة المادية هي كل شيء، فعلى كل فرد ان يحصل فيها على أكبر قدر ممكن من المتع الذاتية.
ولذلك فإن أي فرد يعطى له الحق في التصرف بدون رقابة خارجية فإنه سوف يقيم مصالحه على حساب المصالح الاجتماعية بصورة طبيعية.. ولا فرق بين ان يكون إسم هذا الشخص زيد وتكون صفته رئيس شركة كبيرة، أو يكون اسمه عمر وتكون صفته رئيس دولة كبيرة. وحتى لو افترضنا جدلا انه يبتغي الاصلاح وتقديم المصلحة العامة فإنه لا يستطيع ان يراعي الا مصلحة طائفة معينة هي طائفته التي كانت وراء سيادته، كالحزب في دولة العمال ومصالح الرأسماليين في الدولة الرأسمالية. فلو لاحظ رئيس الدولة ان الحزب أصبح بيوقراطيا وجائرا فليس من المعقول ان يتمكن من ضربه أو تحديده. إذ هو الذي يسيره ويدعمه، وضربه يعني الانتحار. وهكذا لا تتمكن الدولة الرأسمالية من تحديد الرأسمالي لانه هو الذي يدعمها وينصرها. فما دامت المشكلة قائمة وهي نابعة من نظرة الشخص المادية إلى الحياة، فإن الخطأ موجود. والفرق ان الأكثرية كانت خاضعة في الرأسمالية لحكم الأقلية المستغلة بأسماء مستعارة وبطرق ملتوية، وكانت تلك ترائي لها انها حامية مصالحها، وتمزج السم بالعسل.. ولكن الأكثرية في الشيوعية تخضع للأقلية الحاكمة تحت اسم معين وبطريق مباشر ولا تحتاج هذه الأقلية إلى تبرير حكمها بدليل ولا خسارة بضعة دنانير في العسل لتمزج به السم ذلك لأنها ستُجبر الأكثرية على اجتراع السم قهرا.
ان تجربة أكثر من نصف قرن من قيادة الحزب الشيوعي لطائفة من دول العالم أظهرت بوضوح عدم قدرة الشيوعية على كشف جذر الخطأ، وهو الذي يتلخص في المفهوم المادي للحياة.
ومن هنا فإن النظام الإسلامي استطاع ان يقضي على الاستغلال، ليس بتبديل شخص المستغل من زيد إلى عمر، ولا تبديل صفته من رئيس شركة إلى رئيس دولة أو رئيس حزب، بل بتبديل النظرة المادية إلى نظرة معنوية. وحين بنت الفلسفة الإسلامية بناءها على أساس معنوي - مناقبي واستطاعت بناء طليعة مناقبية تفضل مصالح المجتمع على مصالحها الذاتية، أوحت إلى الناس ان اتبعوا هؤلاء، وأعطت بيدهم القدرة على تحديد نشاط الأثرياء ومنعهم عن الاستغلال وعن الفساد ثم أعطت للناس كلهم الحرية الكاملة.. هذه هي خطوط النظام الإسلامي والتي تتلخص في نقاط:
1- الإسلام يغير الإنسان المادي إلى الإنسان المعنوي بفلسفته العامة والصائبة عن الكون.
2- الإسلام يبدل مقياس الانتخاب والقيادة من مقياس راعي المصالح الطبيعية إلى راعي الحق والعدالة الاجتماعية بالنسبة إلى كل إنسان يعيش على الكوكب.
3- حينما يقوم أساس الدين على النظرة المعنوية و الروحية فإن فريقا من الناس ينمون في هذا الحقل فيكونون هم طليعة الأمة وقادتها.
4- يحدد الإسلام المصالح الشخصية بالحق والعدل ثم يطلق الحريات.
هذه هي الخطوط العامة للنظم الاجتماعية الثلاثة، وهي تعتمد على الآراء الفلسفية المتفاوتة في حقل الإنسان والمجتمع وهذا ما نود بيانه فيما يلي بإذن الله.
------------------------
آراء وملاحظات
الحديث عن واقع الإنسان والمجتمع يتناول أعمال الإنسان الاختيارية.. كيف يجب ان تكون لكي تضمن له السعادة والرفاه؟ كما يتناول البحث في جوانب مختلفة من حياة البشر، هي:
1 - الاجتماع؛ ويبحث عما يرتبط بالمعاشرة مع الآخرين والذي ينبثق منه (علم الاجتماع).
2- الأخلاق؛ ويبحث عما هو أفضل أنواع السلوك.
3- الاقتصاد؛ ويبحث عن وسائل العيش وكيف يوفر الإنسان لنفسه حاجياته بصورة أفضل وجهد أقل.
4- السياسة؛ وتبحث عن الحقوق والواجبات وانه كيف يحفظ الناس أنفسهم من تعدي بعضهم على بعض، وهي تكون بين أفراد أمة واحدة وتسمى بـ(بالحقوق المدنية)، وقد تكون بين أمم مختلفة وتسمى بـ(الحقوق الدولية).
ونحن نتعرض هنا للآراء والنظريات التي قدمها فلاسفة قدماء ومحدثون، ونكشف عن نقاط الضعف فيها، تمهيدا للبحث عن موجز فلسفة الإسلام حول الإنسان والمجتمع.
أرسطو(1)
(322-384 ق.م.)
1- الاجتماع:
الإنسان مدني بطبيعته، ولابد لأفراد البشر من العيش معا حتى يتعاون بعضهم مع بعض، ويتقاسموا الأعمال بينهم فينالوا السعادة التي هي الغاية المتوخاة من الحياة. وتندلع الثورات الاجتماعية (عند أرسطو) عندما ينعدم التساوي بين الناس في الحقوق، ولا تراعى الكفاءة في توزيع الأعمال والثروات والوظائف مما يحمل على إشاعة السخط بين المقهورين فيثورون على الأوضاع. ولذلك فلابد من تشريع قوانين ونظم تحفظ للناس حقوقهم حسب كفاءاتهم وأعمالهم.
2- الاقتصاد:
يعتقد أرسطو انه لابد من تقرير الملكية الفردية، ذلك لأنها ان ألغيت وبدلت بالاشتراكية، سوف يحسب كل فرد انه يعمل أكثر من غيره ويحصل على ثروة أقل فيسخط على الوضع ويثور!
3- الاخلاق:
ولابد لتقرير الصلاح النهائي للمجتمع من تحسين التربية العامة، ولابد من الأسرة لتنشئة الفرد الطيب الذي يتعلم من أبويه (المجربين الرشيدين) تعاليم الحياة.
ويعتقد ان للنفس الإنسانية جانبين: عقلي ونباتي. ولابد للوصول إلى السعادة من توجيه النباتي بالعقلي، واكتساب الفضائل بذلك.
والفضيلة هي مراعاة التعادل في الأمور، فمثلا: الشجاعة هي الوسط بين التهور والجبن، والتواضع هو الوسط بين التكبر والتملق، وهكذا.
4- السياسة:
تتنوع الحكومات – عند أرسطو – بثلاثة أنواع:
__________
(1) - ان كان للفيلسوف رأي في أحد أقسام الفلسفة العملية الأربع أثبتناه.. والا تركنا التعرض لذلك القسم رأسا. وغير خاف على القارئ ان تقسيم آراء الفلاسفة إلى آراء اجتماعية واقتصادية وأخلاقية وسياسية، لم يكن بالعملية السهلة نظرا لعدم وجود هذا التقسيم في أقوالهم. بيد ان هذا التقسيم يسهل على القارئ، ولاشك، فهم النظرية ومقارنتها مع الإسلام.(2/71)
أ- الحكومة العامة (الجمهورية الديموقراطية) وفيها يشترك الجميع في الرأي، ويفصلون النزاع بإتخاذ رأي الأكثرية، ولابد فيها من تقرير العدالة والمساواة بين جميع الأفراد.
ب- حكومة الأعيان (الارستقراطية) حيث يتغلب على الحكم طائفة من الأقوياء النبهاء وينتحلون لأنفسهم الرتب المفتعلة.
3- الحكومة الوراثية (الملكية): حيث يتسلط على الناس رجل قوي ثم يجعل الملك إرثا في عقبه.
ولا يفرق أرسطو بين هذه الأوضاع ولا يرى وجود ضمان في أحدها مفتقد في الآخر، بل يقول: ان هذه الأقسام الثلاثة ان عملت على الاصلاح والكفاءة والمسؤولية ورعاية القانون كانت صالحة. أما إذا كانت تتبع الأهواء والمصالح فإنها تكون فاسدة. ويقول – في بيان نقطة الضعف في هذه الأقسام -: ان الظلم والاستبداد يسودان المجتمع في القسمين الأخيرين بينما يشيع المكر وتغرير الجماهير في القسم الأول.
الملاحظات:
نظريات أرسطو التي كانت سائدة أكثر من ألفي عام على الأوساط العلمية في العالم، قريبة نوعا ما إلى الحقيقة ولكنها تتميز بالضعف من جهتين:
الأولى: انها لم تذكر الا الكليات العامة والمشكلة انما هي في تفاصيلها.
الثانية: انها في حين سكتت عن الحكومة التي تضمن سعادة الناس، لم تحدد الملكية الفردية ولم تبين مَن سوف يكون المشرع الذي لا يتبع أهواءه ولا يضل بجهالته وكيف نضمن ذلك؟
لوك
(1632 – 1704 م )
1- الاجتماع:
يعتقد جون لوك ان الحالة الطبيعية للإنسان ليست العداوة والبغضاء والحقد والحسد (كما يزعم بعض الناس) بل ان حالته الأولية تقتضي سيطرة كل فرد على نفسه، ذلك لأن أفراد البشر كلهم أحرار مختارون ومتساوون.. إذاً فليس لأحد الا السيطرة على نفسه والسيطرة على ماله ناشئة من حقه هذا.
2- الاقتصاد:
بما ان المال من عمل الإنسان فله الحق في التصرف فيه بحريته (الملكية الفردية)، وحق الحياة ناشىء من العمل أيضا كما ان حق التصرف في المال هو الآخر ناشىء من هذا الحق ولكنه مشروط بأمرين:
الأول: ان لا يدع المالك ماله عاطلا.
الثاني: ان لا يحرم الآخرين من حقوقهم ولا يعتدي على ممتلكاتهم، ولابد أن يحفظ في ذلك، طريق الاعتدال.
3- الأخلاق:
وليس لجون لوك آراء تذكر في الأخلاق.
4- السياسة:
يعتقد لوك: ان سيطرة الدولة على الشعب ليست الا من جهة التباني والمواضعة؛ يعني ان الناس كانوا – أول الأمر- أحرارا ، وبما ان حرية بعضهم كانت تزاحم حريات الآخرين وتسلب منهم الراحة والأمن، تنازل كل منهم عن بعض حريته في مقابل تنازل الآخرين له عن بعض حرياتهم.
ومن هنا نشأت السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، ويقول في كتابه (الحكومة المدنية): ان وظيفة القوة المدنية والسياسية إقرار العدالة، إذ ان الإنسان يدخل الحياة ليعيش بحرية، وأما الملك (أو أية سلطة سياسية أخرى) فإنه يكسب قوته من الشعب وليس الا وكيلا عنه، فإذا استغل الملك تلك القوة التي أعطاها ليحيد عن الصالح العام، فللشعب الحق في الثورة عليه وخلع طاعته عن نفسه.
الملاحظات:
مع ان آراء لوك تحتل الصدارة في الفلسفة الأوروبية، وكانت هي السائدة في القرن الثامن عشر فإنها لا تخلو من نقاط ضعف نشير إلى بعضها:
1- انها ناقصة من جهات شتى.
2- ان النزوع إلى الشر أمر طبيعي في الإنسان بجانب حبه للخير، كما سيأتي الحديث عنه.
3- ان الحكومة لا يمكن ان تكون مواضعة من قبل كل الناس. إذ ان المخالف للحكومة وان كان غير راض فإنه لا يسمح له الخروج على القانون. ولذلك نعرف ان النزعة الفردية التي تبدو ظاهرة في فلسفة لوك تشكل بؤرة الأخطاء، وسوف يأتي التفصيل في ذلك.
منتسكيو
(1689 – 1755 م )
لم يكن منتسكيو يرى الثورة المفاجئة بصالحة للحياة، بل كان يعتقد ان الاصلاح لابد ان يكون بالتدرج.
1- الاجتماع:
ان الإنسان خلق مدنيا ولابد له من التعايش مع نظرائه في الخلق، ولابد له لكي يسعد في تعايشه هذا من ان يكون حرا مطمئنا، فلا مناص من ان يشرع قانونا في تنظيم العلاقات التي تربط الناس بعضهم ببعض بحيث انه لو عاش قوم بدون قانون ينفذ عليهم لسلبت عنهم الحرية والأمن والطمأنينة.
فأهم الأشياء للإنسان هو القانون وأحسن القوانين ما يضمن للناس أوسع ما تجيزه المصلحة العامة من الحرية.
ويعتقد: ان هناك قوانين طبيعية لابد ان نتعرف عليها ثم نستعمل عقولنا في تعيين الظروف الملائمة لتطبيقها.. ويقول: العدل حسن والظلم قبيح، الحرية خير من العبودية والعلم أفضل من الجهل. ولكن هذه أمور عامة وليست بقوانين، إذ لابد في وضع القوانين من مراعاة الظروف من جهة القومية والمناخ والأخلاق والآداب والتقاليد والعقائد والاستعداد الطبيعي لكل بلد.
فلابد إذاً في وضع القوانين من مراعاة الأصول العامة إلى جنب الظروف الخاصة.
2- الاقتصاد:
يرى منتسكيو في الاقتصاد: لابد ان يُعطي كل فرد قدرا من ماله (ضريبة) ليحفظ له سائر أمواله، ولابد ان تراعي الدولة حاجاتها الحقيقية، ولا تضع الضرائب حسب الأهواء.. وعلى الدولة ان تهيء فرص العمل للشعب كافة..
3- السياسة:
الحكومات في نظر منتسكيو على ثلاثة أقسام:
1- الحكومة الجمهورية؛ التي تعطي لكل الأمة أو بعضها الحق في السلطة.
2- الحكومة الملكية الدستورية؛ وفيها يحكم البلد الملك بعد ان يستشير نواب الشعب.
3- الحكومة الملكية غير الدستورية؛ حيث يعمل الملك وفق أهوائه الخاصة.
في الحكومة الجمهورية؛ ان كانت تحكم من قبل كل الشعب كانت ديمقراطية وان كانت تدار من قبل بعض الشعب كانت ارستقراطية (حكومة الاشراف).
على الحكومة وظائف ثلاث:
تشريع النظم (القوة المقننة)، وتطبيقها على الموارد الخاصة (القوة القضائية)، وإجرائها (القوة التنفيذية).
ولابد ان تنفصل هذه القوى بعضها عن بعض حتى تتمكن من اتقان عملها باخلاص.
ولابد في الحكومة الجمهورية من ان يكون أفراد الشعب مخلصين لوطنهم والموظفون لمسؤولياتهم، وإلا ساد الفساد الحكم.
ولابد في الحكومة الارستقراطية، ان لا يستغل الأعيان نفوذهم في سبيل مصالحهم الخاصة.
ولابد للملك ان يتبع القانون.. أما إذا استبد برأيه فالحكومة فاسدة من رأس.
الملاحظات:
لم يجعل منتسكيو ضمانا لعدم تسرب الفساد إلى هذه الحكومات من جهة - شأنها شأن حكومة ارسطو وغيره من الحكماء - ومن جهة ثانية لم يعين ضمانا كافيا لصلاح القوانين المشرعة من قبل هيئة التقنين.. في حين ان علمها بقوانين الطبيعة كلها لا ولن يمكن أبدا، إذ قد اعترف العلم الحديث انه لا يمكن ان يحيط أحد اليوم بكل جوانب الإنسان(1). وبعد ان يعلم فرضا، فما هو الضمان لعدم انحرافه إلى أهوائه أو اهواء سادته؟ (ومن الواضح ان قوانين الدول اليوم تجري طبقا لاهواء الرؤساء).. وما قلناه في السياسة نقوله في الاقتصاد. إذ ان منتسكيو لم يذكر لنا حدا للضرائب، ومن هو الأمين الذي يوكل إليه أمر تعيين قدرها بحيث لا يجحف ولا يعمل بأهوائه الخاصة.
روسو
(1712 – 1778 م )
1- الاجتماع:
يعتقد روسو ان جميع المشاكل ناشئة من اجتماع الناس، وان الراحة كل الراحة في الانعزال.
ولكن اعترافا بالأمر الواقع لابد لنا ان نضع قوانين للتقليل من مفاسد الاجتماع.
2- الأخلاق:
أساس الفلسفة عند روسو، حب الطبيعة. ويقول: ان القلب لا يخطئ، وكل مفسدة تنشأ فهي من جهة ان الإنسان لا يستعمل عقله في الأمور الداخلية (أي في توجيه نفسه).
__________
(1) - (انظر كتاب الإنسان ذلك المجهول)(2/72)
ويعتقد ان حرية الإنسان جاءت من جهة انه يملك إلى جانب شهوات نفسه عقلا موجها يستطيع بتوجيهه ان يعرف خيره. والسعادة الحقيقية للإنسان تكمن في عدم الظلم وان يكون برا بالناس وهذا يكفيه في حقل الأخلاق.
3- السياسة:
وبعد ان اجتمع الناس بعضهم إلى بعض (وان كان في ذلك ضررهم)، فلابد ان تقلل من مفاسد الاجتماع بأمرين:
الأول: التربية.
الثاني: الحكومة، التي يجب ان لا تتجاوز إطار بلد واحد. وبما ان الناس كلهم لا يعرفون تشريع القوانين فلابد من تعيين من يشرع لهم من الخبراء، والناس أحرار من حيث المجموع، وان وجب على كل فرد منهم ان يتبع القانون ولا يخرج عليه.
هابر(1)
(1588 – 1679 م )
1- الاجتماع:
يعتقد هابر ان ما يقوله البعض من أن الإنسان مدني بالطبع خطأ فاضح لأن الإنسان بطبعه عدو الإنسان! وقد اثر عنه قوله (الإنسان للإنسان ذئب).
لا يريد الإنسان شيئا الا لنفسه وهو يحارب الآخرين أبدا.
2- الأخلاق:
وعلى هذا فليس هناك محل للأخلاق في قلب الإنسان بل الأخلاق تابع للمنافع فقط.
3- السياسة:
وأساس الحكم هو الاستبداد والحكم عن طريق القوة وذلك لأن الناس حيث يحارب بعضهم بعضا، لا يستطيعون العيش بسعادة فلابد من تقرير الأمن الذي يعتبر من أهم الضرورات له.
وتقرير الأمن انما يمكن بأن يتنازل الكل عن حرياتهم ويسلموها بيد رجل واحد يحكمهم بالقوة.. ولا يجوز ان يوضع لهذا الواحد أي قانون ولا يحدد بأي قيد.
نيتشه
(1844 – 1900 م )
1- الاجتماع:
الإنسان جاء إلى الحياة ليتمتع بما فيها، وكل ما يهيء له طريق التمتع فهو خير (وافق الحق أو خالفه) ، وما يقال عن تساوي الخلق بعضهم مع بعض خطأ، بل الحق ان في الناس سادة وعبيدا، وعلى العبيد ان يهيئوا وسائل الراحة للسادة.
إذن فالمجتمع الطبقي في أسوء حالاته هو المجتمع الطبيعي الأمثل عند نيتشه.
2- الاقتصاد:
لابد ان يستثمر القوي الضعفاء بأقل ما يمكن، وأن يحاول كل مكار خداع السيطرة على الآخرين في هذا المجال.
3- الأخلاق:
والأخلاق من الضعف؛ ان الجزء الأعظم من فطرة الإنسان التعدي والظلم، وان الجزء الأقل هو العقل والعاطفة، والجزء الأعظم هو الذي يجب ان يتبع.
ولابد ان يمارس الإنسان كل نوع من أنواع الإجرام ليعيش في رفاه وسعادة.
4- السياسة:
وعلى هذا الأساس فالسياسة تقوم على خدمة الأقوياء وسحق الضعفاء وكل ما هناك من الدين والأخلاق فإنما هو وسيلة للسيطرة على المستضعفين.
الملاحظات:
حقا ان لم يكن هناك رب، ولم يكن جزاء، ولم يكن العقل أكثر من محصول أعلى للمادة، ولم يكن هناك حق وباطل وخير وشر أبديين (كما يقول الماديون) كان ما رأى نيتشه هو الحق. (وهذا بالفعل هو الذي تراه الدول الكبرى – عملا – بالنسبة إلى الدول الصغرى).
وليس ما يفعله فريق من الماديين من التظاهر بالعدالة الاجتماعية والمساواة وإعانة الضعفاء الا خداع ومكر.
ان أرادت البشرية ان تعيش في ظل القيم السامية والعدالة و الحرية والمساواة و حفظ حقوق الضعفاء، وان كانت تريد السعادة الحقة فلا بد لها ان تلوذ إلى حمى الدين والمذهب الحق.
ويستخدم الإيمان بالله واليوم الآخر وسيلة لتطبيق هذه المثل والا فليس من المعقول ان ينتظر من القاعدة المادية الا البناء المادي المصلحي، الذي لا يرى الفرد بموجبه الا نفسه فقط.
والواقع: ان الخلق الرفيع والعقيدة بالمذهب الحق توأمان لا ينفصلان وكلاهما من نتائج الوجدان النقي.. أليس كل منا يشعر في واقعه انه يحب العدل والمساواة وينزجر من الظلم والتفاوت؟
أجل ، حتى هابر ونيتشه ، حينما ينزلون من برج خرافاتهم إلى ساحة الواقع لابد لهم من الاعتراف بأن الذي يرحم الضعفاء ويلتزم بالوفاء والصدق والطهارة أفضل من غيره ألف مرة ومرة.
آراء إشتراكية..
خلال القرن التاسع عشر ظهر في أوروبا بعض من سموا بالحكماء والفلاسفة من دون ان يكون لديهم ما يستحقون به هذه التسمية.. نادوا بالاصلاح عن طريق الاشتراكية ويذكر من بينهم (فوريه(2) (وسن سيمون(3) و(يرودن(4).
بيد أن نظرياتهم لم تلق رواجا إذ انها لم تكن الامثاليات تافهة تعيش في عالم الخيال ولا يمكن تطبيقها أبدا.
ماركس
(1818 – 1883 م )
يعتقد ماركس: ان من الضروري على عمال العالم قبل كل شيء ان يتحدوا ليشكلوا جبهة قوية تحارب رأس المال والرأسماليين في العالم، ويجب ان ينزع العمال الحكم من الرأسماليين عن طريق العنف الثوري.. ويؤسسوا دولة العمال الأممية.
تعتقد الماركسية انها لم تتجاوز أبدا الأصول العلمية ولذلك فهي أحسن من سائر المذاهب الاشتراكية(5) ، وسمت نفسها الاشتراكية العلمية(6).
والماركسية اليوم هي الفهم اللينيني لأفكار ماركس.
كما انها مبنية على المنطق الديالكتيكي (والنظرة المادية) والتي تعتبر روح الاشتراكية العلمية. ولهذا يقول جورج فوليستر – أستاذ في جامعة باريس -: (لا يمكن تفكيك الماركسية واللينينية والمادية الديالكتيكية(7)..).
* وأهم المباني العلمية التي تنادي بها الماركسية ثلاثة:
1- التفسير المادي للتاريخ.
2- المادية التي تنكر الدين والأخلاق.
3- ديالكتيك المجتمع.
ولابد لنا ان نشرح هذه القواعد الفكرية لماركس ونذكر عندها النقد الفكري الموجه إليها:
1- المادية:
هي انكار الروح والخالق واليوم الآخر والقيم.. (ولا نعود لننتقد هذه الخرافة بعد ان أشبعنا الكلام حولها في الفلسفة النظرية والعقائد).
2- التفسير المادي للتاريخ:
__________
(1) - هناك حكماء آخرون أمثال اكوست كنت وسبنسر ولكن نظرياتهم تشبه إلى حد كبيرما سبقت من نظريات الفلاسفة السابقين وليس لديهم جديد، غير ان كانت يعتقد ان للإنسان عاطفتين: عاطفة (حب الذات) وأخرى (حب الغير) وهذه الأخيرة: هي التي سببت تكوين المجتمع من أسرة فعشيرة فأقوام، كما أنها أصبحت مبدأ الأخلاق كالصدق والتعاون والوفاء.
ويزعم سبنسر ان المجتمعات البشرية قسمان: مجتمع صناعي ومجتمع حربي، والمجتمع الحربي متقدم زمنا على المجتمع الصناعي، ويعتقد ان الناس لا يزالون في دور الحرب ولابد لهم من الانتقال إلى دور الصناعة، ويعتقد ان الثورة الاشتراكية انما هي من ظواهر المجتمع الحربي.
(2) - كان يرى لزوم تجمع الناس في كوادر صغيرة (عدد أفرادها 1300 شخصا) ويختار كل فرد منهم ما يناسبه من العمل بحريته الشخصية.
(3) - كان يرى لزوم ابطال الثورات والالتزام بتعيين الدولة العمل للأفراد بمقتضى كفاءاتهم، وتعين لهم مقدار معاشهم.
(4) - كان يعتقد: ان على الناس ان يجتمعوا بحريتهم في مكان ليقسموا بين أنفسهم العمل، ويكون التبادل بالحاجات وليس بالنقد، ولم يكن يرى حاجة إلى الدولة.
(5) - تقول بعض المذاهب الاشتراكية: لابد ان توزع الثروة حسب كفاءة الأفراد. ويقول بعضها: ان المقياس في التوزيع هو حاجة الفرد لا عمله ولا كفاءاته. ويقول آخر: كل بحسب كفاءته (يستخدم) ولكل بحسب عمله (يؤجر).
(6) - يقول ماركس: ان الاشتراكية لابد لها من يوم تطبق فيه، فإن وافقت البرجوازية على ذلك طبقت الاشتراكية سلما وبسرعة وسهولة والا طبقت بطرق حربية صعبة طويلة.
(7) - فوليستر: ان تأسيس منطق الديالكتيك أعطى سلاحا جبارا بيد العامل ليستخدمه ضد المستغلين.
ويقول: ان المادية كانت بمثابة سلاح قوي في يد الحزب الشيوعي الروسي لم يكونوا يستطيعون دحر البرجوازية بدونها..
كما ان التفسير المادي للتاريخ يكشف في عقيدة فوليستر عن نوعية التحولات الاجتماعية وينبأ الإنسان بمستقبله في الحياة.(2/73)
يقول ماركس: ان علة العلل لكل حوادث التاريخ هو العامل الاقتصادي، ولذلك فإن كل اتجاهات البشر تتبع طريقة الانتاج، ويستدل ماركس على ذلك بالرغم من انه لم يكن مؤرخا ولم يكن عنده علم بالماضي، بأن الإنسان تابع لحاجاته، إذ ليس له روح أو قيم أو دين أو وجدان أدبي، فليس هو إلاّ آلة جميلة تحتاج إلى وقود، إذن فهو تابع لمصلحته.
الملاحظات:
ونحن نستطيع ان نرده من طريقين:
1- اثبات ان الإنسان يملك روحا وعقلا وشعورا بالأخلاق والدين، وان انبثاق الأديان انما كان لحقانيتها. كل ذلك سبق الحديث عنه لدى البحث عن الفلسفة والعقائد.
2- ظواهر كثيرة في التاريخ القديم والجديد.. ونكتفي في ذلك بذكر ثلاثة أمثلة:
أ- في العهد اليوناني نجد ظروفا اجتماعية واحدة انتجت أفكارا متناقضة. مثلا: في القرن السادس قبل الميلاد كان( طالس الملطي) ماديا وكان(فيثاغورس) ميتافيزيقياً. وفي القرن الخامس كان (هرقليط) ديالكتيكيا وكان( كينوقانوس) ميتافيزيقياً.. وفي كل عهد وفي كل البيئات الأغريقية، كان يوجد المتناقض من الأفكار!
ب- الدين الإسلامي جاء في مجتمع بدوي حيث ظهر في مكة المجدبة (ولم يظهر في اليمن الحضاري) وساعد الفقراء، وأكد الملكية الفردية.. فكيف يمكن تفسيره بنزاع الطبقات؟ وان كان جاء دعما للفقراء فكيف أكد الملكية الفردية؟ وان كان في صالح الأغنياء فكيف ساعد الفقراء وساعدوه، وعارض الأثرياء وعارضوه؟ وان كان من نتائج المناخ فكيف جاء في الحجاز البدوي ولم يأت في اليمن أو الشام الحضاريتين؟
ج- لماذا تراجع الاتحاد السوفياتي عن الاشتراكية؟ ولماذا اختلف مع الصين؟ ولماذا تقدمت بعض الدول في الصناعة فلم يحدث فيها انقلاب اشتراكي، وتأخر بعض فحدث فيها؟. ولماذا انقلبت اندونيسيا والمجر وتشيكوسلوفاكيا عن الاشتراكية؟ ، ولماذا كانت حالة العمال في ألمانيا الغربية أفضل من حالهم في ألمانيا الشرقية؟ كل هذه الظواهر تناقض –لدى التدبّر- التفسير الجبري والمادي للتاريخ، وهو خلاف كل ما تنبأ به ماركس. والأفضل ان نريح أنفسنا بما قاله الدكتور إقبال في تاريخه (بما ان ماركس لم يكن مؤرخا فإنه لم يستطع ان يكتشف أسباب تقدم الأمم وتأخرها).
3- ديالكتيك المجتمع..
يعتقد ماركس ان ديالكتيك الفكر يأتي بعينه في المجتمع. فالجماعة كالفكر تخضع للقوانين الأربع للديالكتيك بالشرح التالي:
1- أصل التغير والتطور – ليس في العالم ثابت-.
بما ان المجتمع البرجوازي لابد ان يتغير، فهو ينقلب بالضرورة إلى مجتمع اشتراكي(1).
2- أصل التفاعل (كل شيء يؤثر في كل شيء).
والمجتمع يأتي نتيجة للأوضاع التي سبقته. فالمجتمع الاشتراكي وليد المجتمع البرجوازي، وثورة العمال على رأس المال.
3- أصل التناقض (كل شيء يحمل نقيضه في داخله).
فالرأسمالية تحمل في داخلها قوة مضادة، هي الاشتراكية. ذلك لأنها تتركب من (أصحاب الأموال) وهم يشكلون القوة المتسلطة و(العمال) وهم القوة المضادة.
ويقول ماركس: ان تقدم العالم ينشأ من تطاحن القوتين؛ قوة الرأسمال وقوة العمال.
ويقول: (ان نزاع الطبقات ليس وليد المجتمعات المعاصرة انما هو نزاع ازلي منذ فجر التاريخ الإنساني وحتى اليوم المعاصر).
بيد ان هذا النزاع القائم اليوم بين طبقتي البرجوازية والعمال سيكون الأخير، ذلك لأن الاشتراكية سوف تتغلب على البرجوازية فتزول الطبقات رأسا، وبمحوها سيزول منشأ الخلاف والنزاع.
4- التغيير الفجائي؛ (ان التغيير الكمي سوف ينقلب إلى تغيير كيفي كتغير الماء الحار إلى بخار).
والمجتمع تتفاعل فيه القوى المتعارضة وفجأة تشتعل الحرب، وعن طريق استخدام القوة العنيفة سوف تزول قوى البرجوازية ويستبد العمال بالحكم، (وهذا هو ما يقصد به من الاشتراكية الثورية).
الملاحظات:
هذه الأصول الأربعة قد سبق وأن نقدنا بعضها في الفلسفة النظرية ولكن تحميلها عمليا على واقع المجتمع خطأة كبيرة لابد من نقدها، ذلك:
1- لأن العلم الحديث قد اثبت صفات ثابتة للفرد والمجتمع لم تتغير منذ وجوده وحتى اليوم، ولا يمكن تغييرها أبدا (ما دام يبقى الإنسان إنسانا).. ومن جملة الصفات النفسية للفرد: حب الشر، وحب الخير، العاطفة، الحرية الشخصية..
ومن صفات المجتمع التي لا تتغير: تفاعل بعض الأفراد مع بعض (علما بأن اثبات صفة واحدة لا تقبل التغيير يكفي لنسف الفكرة التي تزعم ان كل شيء يتغير).. وإذا ثبتت صفات نفسية لا تتغير في الفرد، والمفروض ان المجتمع ليس الا تجمعا للأفراد، فإن هذه الصفات تثبت بحجم أضخم للمجتمع.
فالمجتمع؛ مركب من أفراد يحبون الخير ويحبون الشر ولهم عقل وهوى(2) ، وطائفة من هؤلاء الأفراد يغلب فيهم الخير على الشر، وطائفة يغلب الشر فيهم على الخير، فتنقسم الجماعة إلى طائفتين: طائفة تؤيد الخير وأخرى تؤيد الشر وهكذا تقوم الحرب الباردة أو الحارة بينهما. وهذا الأمر هو الثابت الذي لم يتغير على طول التاريخ وتدل عليه كافة الظواهر التاريخية.
أما ما قاله ماركس من تطور المجتمع من رأسمالية إلى اشتراكية، فهو عين الخطأ الذي لا يذهب إليه من له أدنى معرفة بالتاريخ. ومن حقنا ان نتساءل: هل كانت جهود الحزب الشيوعي، ام حتمية التاريخ هي التي انتجت انقلاب روسيا؟ انهم يعرفون ان جهودهم هي التي أثمرت الانقلاب ليس غير.. ثم نتساءل: لماذا تغيرت الإشتراكية الأولى في الزمن الأول إلى دور العبادة؟ وكيف انقلبت اندونيسيا إلى رأسمالية بعد ان كانت اشتراكية؟ ثم ان ماركس لم يستند إلى دليل فيما قاله.
2- والتفاعل؛ كلمة حق يريد بها ماركس أمرا باطلا، ذلك لأن حتمية الاشتراكية بعد البرجوازية لا دليل عليها. إذن أفكار الناس تؤثر بعضها في بعض ولكن تأثير أفكار الاشتراكيين دون أفكار الرأسماليين لا دليل عليه إطلاقا.
في حين انا نلاحظ بالوجدان ان من كانت له دعاية واسعة وحزب قوي كانت أفكاره هي السائدة في العالم سواء كانت موافقة للإشتراكية ام لا.. ولذلك فإن الحزب الشيوعي يتقدم في أية منطقة تكون دعايته فيها قوية، ولا يتقدم في منطقة تكون فيها الدعاية الرأسمالية هي القوية.
3- أما التناقض الطبقي فليس هناك دليل يبرر تعميمه على المجتمع، ذلك لأن العمال (الطبقة الضعيفة) ان رضيت بشروط العيش (كما هي الحال في أوروبا) فهي لن تعارض الطبقة القوية أبدا. ورضاها وليد تحسين ظروف العمل ومراعاة حقوق العامل. نعم هناك تناقض(3) بين أفراد المجتمع من جهة اختلاف نزعاتهم الفكرية والسياسية، فترى فريقا من العمال ينضمون إلى حزب المحافظين (في بريطانيا مثلا) وفريقا من أصحاب الأعمال يدخلون في حزب العمال..
والتناقض كما سبق ليس الا من جهة ان الناس فريقان أهل حق وأهل باطل.
والتغيير الفجائي باطل من أصله كما بينا ذلك في الفلسفة النظرية، إذ لا يمكن ان يحدث بدون علة خصوصا في المجتمع. إذ من المعلوم ان كل حركة سياسية أو إصلاحية تسبقها جهود جبارة من بعض الأفراد وتساعدها عوامل كثيرة. أما إذا جهل ماركس وأتباعه تلك العوامل فما هو ذنب الواقع؟
-------------------------
__________
(1) - يقولون ان التغير في العالم قد تناول المجتمع في حالات أربع: 1- الشيوعية الأولى 2- العبودية والاقطاع 3- الملوك والطوائف، 4- الرأسمالية 5- وأخيرا انتهى إلى نهاية الرأسمالية.
(2) - سوف نثبت بإذن الله هذا الواقع عندما نتحدث عن علم النفس والأخلاق الإسلاميين.
(3) - التناقض عند الأوروبيين مطلق التعادي، وليس بمعنى مقابلة الوجود والعدم (كما كان مشهورا عن المنطقيين قديما).(2/74)
البحث الثاني - الإسلام والإنسان والمجتمع
كلمة في البدء
ينبغي ان نبدأ الحديث بعرض موجز لنظرة الإسلام إلى الإنسان والمجتمع، ثم تفصيلها كاملة ؛ فالاسلام يعتقد بما يلي:
1- ان معرفة واقع البشر وواقع خلقه ومبدأه ومنتهاه ، هي التي تخط طريقه في الحياة. والإنسان - عند الإسلام - مركب من روح وجسم، ولابد من توفير السعادة لهما. ولكن الجسم لابد ان يضمن له السعادة عن طريق توجيه الروح. وفي روح الإنسان طاقتان: طاقة ذاتية هي الجهل وطاقة موهوبة له هي العقل. وأهم ما في الجهل: هوى النفس (حب الذات) وافتقاد العلم. كما ان أفضل معطيات العقل هو: العلم والحكمة (وهي: تمييز الشر عن الخير) وللبشر فوق ذلك: الإرادة التي بها يرجح إحدى الطاقتين (الجهل أو العقل) على الأخرى.
2- ان حب الذات يؤدي - ان لم يوجه بالعقل - إلى حب الدنيا وعبادة المادة، ومن حب الدنيا تنشأ الشهوات وهي تسبب الرذائل.
كما ان الحكمة - ان اتبعت - تجعل الفرد يتبع الحق، وباتباع الحق يتحلى الفرد بالفضائل، وهي تتلخص في مراعاة حقوق الآخرين واتباع الحق.
3- لابد ان تسخر كل قوى الحياة في تطبيق الحق، إذ به يتمكن الناس من ان يؤدوا الحقوق، وبسببه يلتزم كل فرد بواجباته تجاه نفسه وتجاه الآخرين.
4- حقوق البشر تنشأ من أحد أمرين: العمل والحاجة. فمن عمل استحق الأجر بقدر ما أحسن، ومن احتاج كان له ـ بقدر حاجته ـ الحق على القادرين.
5- ان البشر خلقوا شعوباً وقبائل مختلفة لكي يتعاونوا في سبيل تحقيق سعادتهم، وهي استثمار الطاقات الموجودة في أنفسهم وفي الآفاق. ذلك لأن الأرض والسماء انما هي مخلوقة للبشر ومسخرة من أجلهم.
6- ان اتباع الحق هو السبيل الوحيد إلى استثمار هذه الطاقات، أما الحق فهو مطابقة العمل للواقع المفروض، والذي يعين هذا الواقع المفروض هو الله، عن طريق الرسل أو العقل السليم بتذكرة الأنبياء (ع).
7- تعاون الناس في هذا السبيل ينشأ من خضوعهم جميعا لتوجيه عقولهم وتسليمهم لنظام واحد وهو الإسلام، وتتمثل قيادته في إنسان تتوفر فيه شروط القيادة، يتعرف عليه الناس بالتجربة الشخصية ومتى فسق أو جهل بطل تمثيله للأمة. وكذلك فيما إذا عجز عن مواجهة المشاكل والأزمات وحلها.
8- الناس باتباعهم لإرشادات عقولهم، يضمنون لأنفسهم الحريات الأربع وهي: حرية الفكر بالارتفاع عن الخضوع للشهوات أو التعصب والتقليد . وحرية السياسة، باتباع من يمثل الدين وعدم الاستسلام لأي طاغوت آخر. وحرية الاقتصاد، فلكل فرد ان يكتسب كما يشاء شريطة ألا يسبب شقاء لنفسه أو شقاء للناس. وحرية الشؤون الشخصية، بأن يعمل بما شاء وكيف شاء، وضمنها حرية السفر والإقامة.
9- وبما ان الفرد له عقل وإرادة فهو مسؤول عن أعماله وعن تغيير الفاسد من واقعه وواقع الناس بمقدار استطاعته، ولكنه من جهة أخرى يعتبر فردا في العائلة البشرية. فهو غير مالك لنفسه بصورة مطلقة، إذ ان البشر مخلوقون لله صائرون إليه، فليس له ان يضر نفسه - لأنه ليس مالك نفسه - ولا بغيره. وبما ان البشر عائلة واحدة فعليهم ان يكفلوا من عجز منهم عن إدراك الحق في فكره، بأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وتوجيهه إلى الحق. أو عجز عن تحقيق الصحة والكرامة و.. و.. في جسمه، بتوفير الضمانات المحققة لحاجته جميعا.. وعلى هذا الأساس تنشأ بعض التحديدات كحرمة التجارة بالمحرمات وبعض الضرائب كالخمس والزكاة والضرائب الأخرى على الصعيد العام. كما تنشأ لزوم النفقة على المضطر في الصعيد العائلي الخاص.
10- وان القوة التنفيذية لهذه الأحكام هي: الإيمان القلبي بالله الذي خلق البشر وملكهم، وباليوم الآخر الذي يجزي فيه كل صالح بثواب ويجزي كل طالح بعقاب.
11- وان التسليم للدين ناشىء من إيمان الفرد بأنه لا حق لأحد في التشريع غير الله أو التشريع من خلال القواعد والقوانين العامة التي وضعها الله لأنه فقط مالك الناس وهو الحكيم العليم.
هذا موجز القول في نظرة الإسلام إلى الإنسان والمجتمع.
---------------
المجتمع الإسلامي
يقرر الإسلام ان كل فرد مسؤول عن أعماله مكلف بواجباته، وله حقوقه في التمتع باللذائذ الفكرية والجسمية في حدود خدماته أو حاجاته ويقول: [فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً
يَرَهُ]( الزلزلة 7-8).
* وتنشأ هذه الفكرة في الإسلام - والتي تبدو فيها النزعة الفردية بادئ الامر - من تقرير الإسلام ان كل فرد عاقل حر في إتخاذ أي قرار في الحياة. وبما انه حر فهو مالك لنفسه وليس لأحد عليه حق العبودية (لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا)(1).
* وإذا كان كل فرد مالك نفسه فهو أملك لعمله وتصرفه من أي فرد آخر [كُلُّ امْرِئِ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ]( الطور 21)..
وعلى هذا الأساس المتين يشرع الدين أحكاما خاصة بالفرد (ليس للمجتمع فيها دخل) كأفعال القلب - العقيدة والإيمان - والعبادات وكثير من الأحكام الأخرى.. وقد جاء في القرآن تقرير لهذه الحقيقة حيث صرح:
[عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ]( المائدة 105).
ولكن هذه الفكرة - الناشئة من حرية كل فرد ومسؤوليته - لا تنافي فكرة أخرى تبدو فيها جماعية الاتجاه هي: ان الإنسان عبد الله، وان امتلاكه لنفسه ناشئ من تمليك الله له ذلك. وبما انه عبد فهو مسير بأمر الله وفي صراطه [وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ](الصافات 96).
وكما خلق الله هذا الفرد خلق الآخرين، فهما متساويان أمام الله، متكافئان في الحقوق والواجبات، كل منهما عبد لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا من دون الله.. فليس لأحد أن يطغى على الآخر، ولا أن يشبع هو بينما يجوع جاره، ولا أن يعتزل عن الناس باتباع الرهبانية وباستغلال حق حريته استغلالا غير صالح بالنسبة إلى الآخرين.. وعلى هذا الأساس فلا يصح ان يمحق الفرد حقوق الجماعة ولا أن تهضم الجماعة حقوق الفرد.
* وبما ان الدين يعترف بالفرد كوحدة مستقلة في المجموع يؤكد على الجماعة ألا تغلب على الناس نزعتهم الفردية بحيث تطغى على علاقة بعضهم مع بعض. ولذلك فهو يقرر عدة نظم في سبيل ربط الفرد بالجماعة هي.
1- ان الفرد إنما هو محاط بحلقات متداخلة هي بالترتيب:
__________
(1) - نهج البلاغة ، في وصية الامام لولده الحسن عليه السلام .(2/75)
عائلته(1)، أسرته(2)، عشيرته(3)، جيرانه(4)، أساتذته وتلاميذه(5) وكل من يمت إليه بصلة كالصاحب في السفر والصديق في الحضر وهكذا..
2- ويقرر ـ بعد ذلك ـ ربط الفرد بالجماعة، فيرسم واقع العلاقة بينهما في أصل الخلق فيعتبر أن أفراد (المجتمع المؤمن) أخوة فيجب ان يقوموا بإصلاح بعضهم البعض [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَاَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( الحجرات 10).
وتارة يقول: ان أفراد الأمة المسلمة كأعضاء جسم واحد.. (المؤمنون في تبارهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى).
3- وأما حق الأمة فإنه يقرر هكذا (وأما حق أهل ملتك عامة (أي أهل دينك) فإضمار السلامة ونشر جناح الرحمة لهم والرفق بمسيئهم، وتآلفهم واستصلاحهم وشكر محسنهم وكف الأذى عن مسيئهم، وان تحب لهم ما تحب لنفسك وتكره لهم ما تكره لنفسك، وان يكون شيوخهم بمنزلة أبيك وشبابهم بمنزلة أخوتك وعجائزهم بمنزلة أمك والصغار منهم بمنزلة أولادك..)(6).
4- أما أفضل الناس في المجتمع الإسلامي فهم :
التقي(7) العالم، يقول الله سبحانه: [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( الحجرات 13) ويقول: [يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ اُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ]( المجادلة 11)
المجاهد في سبيل الله.. يقول الله سبحانه: [وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرَاً عَظِيماً](النساء 95)
السابق إلى الدين.. قال الله تعالى: [وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ]( الواقعة 10-11) ولكن كل هذه المزايا لا تبرر تكبر هؤلاء على الناس أو تطاولهم على حقوق الآخرين..
5- كما ان من أفضل الناس عند الله هو الذي ينفع الناس أكثر من غيره قال النبي صلى الله عليه وسلم (خير الناس من انتفع به الناس(8) و قال: (خصلتان ليس فوقهما خير منهما: الإيمان بالله والنفع لعباد الله.. وخصلتان ليس فوقهما شر: الشرك بالله والاضرار لعباد الله)(9)
6- المؤمنون في منطق الإسلام وعلى لسان الامام الصادق (ع) خدم بعضهم لبعض (قيل له وكيف يكون خدم بعضهم لبعض)؟ قال: (يفيد بعضهم بعضا)(10).
7- لابد لأفراد المجتمع من أن يتراحموا ويتباروا.. يقول الامام الصادق عليه السلام: (تواصلوا وتباذلوا وتباروا وتراحموا وكونوا اخواناً أبرارا كما أمركم الله عز وجل)(11) وقال النبي (ص): (عليكم بالتواصل و التباذل وإياكم والتقاطع والتحاسد والتدابر)(12).
ويقول الرسول (ص): (ألا ان في التباغض الحالقة لا أعني حالقة الشعر ولكن حالقة الدين)(13).. ويقول (ص): (لينصح الرجل منكم أخاه كنصيحته لنفسه)(14).. ويقول الإمام الباقر عليه السلام: (إذا احتجت فاسله (أي أخاك المؤمن) وإذا سألك فأعطه، ولا تدخر عنه خيرا، فإنه لا يدخر عنك. كن له ظهرا فإنه لك ظهر، ان غاب فاحفظه في غيبته، وان شهد فزره، وأجلّه وأكرمه فإنه منك وأنت منه)(15).
8- لابد لكل فرد في المجتمع المسلم ان يراقب الأمور العامة ويهتم بها فإذا وجد فيها فسادا سارع إلى إصلاحه. يقول الإمام الصادق (ع): (من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم)(16).
9- أما التمايز الطبقي أو العنصري أو القومي، فإن الإسلام يتبرأ منه ويتبرأ من كل من ينادي به، ويضع كل تعاليمه على أساس المساواة والعدالة الشاملة، يقول الله سبحانه:
[يَآ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَاُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( الحجرات 13).
ان هذه الآية لا تقدم وصية خلقية وتربوية إلى المسلمين ولكنها توضح فلسفة تشريعية يبني عليها الدين كل أسسه، وهي تقرر ثلاثة حقائق أساسية في بناء الحقوق الدولية والوطنية هي:
ألف: ان الناس مخلوقون فلا يملكون الا ما وهب لهم الله تعالى.
باء: ان أصل خلقهم ذكر وأنثى فهم اخوة في الأصل، وما طرأ عليهم من الاختلاف فهو عرض يجب الا يعتنى به.
جيم: ان هناك شعوبا متمايزة وقبائل مختلفة، ولكن كل هذه لا بد أن تستغل في سبيل التعارف والتعاون، فالقوميات لابد ان تستغل للصالح العام لا للتباغض والتحارب.
10- والإسلام يقرر العدالة الاجتماعية على الصعيدين: الحكومي والفردي. ويقول:
[يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيرَاً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا وإِن تَلْوُو أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً]( النساء 135).
هذه الآية تنسف خرافة القرابة أو الصداقة أو الغنى نسفا وتجعل الميزان هو العدل والحق فقط.
11- أما الحروب فإنها – حسب الرؤية الاسلامية - تنشأ في المجتمعات بأحد سببين:
__________
(1) - يقول الإسلام في توثيق علاقة الإنسان بأسرته: (رضى الله مع رضى الوالدين وسخط الله مع سخط الوالدين) (رسول الله ـ ص ـ؛ بحار الأنوار، ج71 ، ص80) ويقول: (نظر الولد إلى والديه حبا لهما عبادة) (المصدر نفسه).
(2) - ويقول في الأسرة: (صلة الأرحام وحسن الجوار زيادة في الأموال والأعمار) ويقول على لسان أمير المؤمنين (ع) في قوله تعالى: (اتقوا الله الذي تسائلون به والأرحام) قال: (هي أرحام الناس، ان الله أمر بصلتها وعظمها الا ترى انه جعلها منه) (بحار الانوار ،ج71،ص97،ح35).
(3) - يقول الإسلام (على لسان الامام علي عليه السلام): (وصل أمرء عشيرته فإنهم أولى ببره وذات يده ووصلت العشيرة أخاها ان عثر به دهر وأدبرت عنه دنيا) (بحار، ج71، ص105).
(4) - يقول الإسلام (على لسان النبي (ص)): (من اذى جاره حرم الله عليه ريح الجنة ومأواه جهنم وبئس المصير، ومن ضيع حق جاره فليس منا وما زال جبرئيل يوصني بالجار حتى ظننت انه سيورثه) (بحار، ج71، ص150).
(5) - يقول الإسلام على لسان الإمام علي بن الحسين (ع): (وأما حق سائسك بالعلم فالتعظيم له والتوقير لمجلسه وحسن الاستماع إليه والاقبال عليه. وأما حق رعيتك بالعلم فأن تعلم ان الله قد جعلك قيما لهم فيما آتاك من العلم ، فإن أحسنت فيما ولاك الله من ذلك كنت له أملا معتقدا) (بحار، ج71، ص14).
(6) - بحار الانوار ،ج71،ص9 .
(7) - الإسلام يقرر ان الحياة سواء ما يرتبط منها بالدنيا أو ما يرتبط منها بالآخرة انما هي مبنية على العمل ولا قيمة للعمل بدون اخلاص ولا اخلاص دون ان يكون العمل ناشئا من وعي وإرادة، وكلمة التقوى تجمع هذه كلها إذ تعني الخوف من الله الموجب للاخلاص في العمل الصالح المستمر.
(8) - بحار الانوار ،ج72،ص23،ح1 .
(9) - مستدرك الوسائل ،كتاب الامر بالمعروف ، أبواب فعل المعروف ، الباب 22، ح10 .
(10) - وسائل الشيعة ،ج18 ، كتاب القضاء ، ابواب صفات القاضي،باب 8 ، ص61 ،ح37 .
(11) - مستدرك الوسائل ،كتاب الحج، ابواب العشرة ، الباب 107 ، ح2 .
(12) - المصدر ، الباب 105 ، ح24 .
(13) - المصدر ، الباب 96، ح1 .
(14) - وسائل الشيعة ،ج11، ابواب فعل المعروف ، الباب 35 ، ص595 ، ح4 .
(15) - بحار الانوار ،ج71، ص222 ، ح5 .
(16) - المصدر ،ص338 ،ح119 .(2/76)
الأول: ان الناس يصبحون أمام الدعوات الخيرة إلى فريقين: مهتد وضال. ويحاول الضالون ان يقضوا على المهتدين لكي يصفو لهم الجو.. ولابد من هذه الحرب حتى تصبح كلمة الحق هي العليا شريطة الا تستغل هذه الحرب للمصالح المادية.
الثاني: ان بعض الطبقات تريد ان تستغل طبقة أخرى فتقوم الحرب، ولابد من القضاء على هذا النوع من الحرب، بالقضاء على جرثومتها وهي الاستغلال.
أما الاستغلال فإن سببه: حرص الإنسان على المادة. وعلاجه هو: توجيه الناس إلى الحق ومعاقبة المستغلين معاقبة صارمة. ويقرر الدين: ان رأس المال حيث يستغل العمال، وان الحزب حيث يستغل الشعب فإنما هو لأمر في قلب المستغِل وأمر في قلب المستغَل.. أما الأول فلأنه: جعل المادة إلهه المعبود.. وأما الثاني فلأنه سكت على الظلم وخضع للنظام الباطل وكان عليه أن يثور ضده.
12- والإسلام يوفر (بالنظام السابق) ما تحلم به الرأسمالية من حرية الشعب وما تدعو إليه الاشتراكية من الضمان الاجتماعي للفقراء دون ان يجر إلى العالم الدمار الذي جرته هاتان الآفتان. أما الحرية فحيث يقرر ان كل فرد مختار في أعماله، فهو حر فيما يعمله وله كلما ينتجه.. وأما الضمان فحيث يقول: ان الناس عباد الله فلهم جميعا حق البقاء وكذلك فعلى كل مسلم ان يوفر ـ حسب امكاناته ـ ضرورات الحياة لكل إنسان مسلما كان أو كافرا.
وكلمة الخلاصة: ان الإسلام يمزج مبدأين في الاجتماع مزجا معتدلا، وهما:
ألف: ان كل فرد حر ومسؤول، له مثل ما عليه من الحقوق والواجبات وأن لكل فرد ما ينتج، ولكل امرئ حسب كفاءته.
باء: ان الناس عباد لله ومتساوون في الحقوق العامة فلكل حسب حاجته.
وعلى هذين الأساسين يبني الدين صرحه الشامخ في المجتمع الصاعد من دون ان ينزلق في أخطاء النظم المادية المعاصرة.
------------------
الاقتصاد الإسلامي..
في حقل الاقتصاد يرى الإسلام: ان الله خلق الأرض والسماء وجعلها مسخرة للبشر، وجعل فيها متاعا إلى حين(1) وان ما جعل لهم يكفي لكل البشر(2)، ويقول في ذلك [هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً](البقرة29).
ويرى: ان للإنسان صلاحية استخراج الرزق من الأرض بإذن الله.. فيقول: [وَلَقَدْ مَكَّنّاكُمْ فِي الاَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَاتَشْكُرُونَ](الأعراف 10).
ويرى: ان على الناس ان يسعوا في سبيل تحصيل المعاش من الأرض، فيقول: [وَمِن رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( القصص 73) ويرفض ان يكسل الإنسان عن تحصيل رزقه أو يضعف.. ويقول على لسان الامام الصادق عليه السلام: (ان الله عزوجل يبغض كثرة النوم وكثرة الفراغ(3) وان الكسل يمنع حظ الدنيا والآخرة، ويقول في ذلك: (إياك والكسل والضجر فإنهما يمنعانك حظك من الدنيا والآخرة)(4).
ويرى: انه لابد للمسلم ان يكون نشيطا في طلب الرزق ساعيا، كي لا يكون متأخرا أو يكون كلا على غيره.. ذلك لان من ألقى كله على الناس فهو ملعون. ويقول على لسان الإمام الصادق (ع): (عليكم بالجد والاجتهاد، وإذا صليتم الصبح فانصرفتم فبكروا في طلب الرزق واطلبوا الحلال فإن الله سيرزقكم ويعينكم عليه).
ويرى: ان البلد المسلم لابد له من زراعة وتجارة وصناعة(5).. وقد كان الأئمة عليهم السلام – وهم قادة الدين- يزرعون ويفلحون فيقول أحدهم (اني اشتهي ان يراني الله عز وجل أعمل بيدي وأطلب الحلال في أذى نفسي)(6).
كما يرى الإسلام: ان التجارة خير ويأمر بها ويرغب في ان يبكر الفرد اليها وان يتحمل المشاق في سبيلها ولقد كان الرسول والإمام الصادق –عليهما صلوات الله- يزاولان التجارة شخصيا.
أما الصناعة فيشجع الدين عليها ويذهب في تشجيعه بعيدا حيث يرى انه حتى لو كانت الصناعة تُستغل من قبل بعض المستهلكين في وجوه الحرام، فإن الانتاج ذاته لا يكون حراما ذلك لأن في انتاجها منافع للناس (حسب ما جاء في نص إسلامي)(7).
وإضافة إلى هذه التعاليم، فإن الدين يضع مناهج خاصة للتنمية الاقتصادية وإليك طائفة منها:
1- ان الإسلام يُمَّلِك الأرض للذي يعمرها، ويقول: (من أحيى أرضا مواتاً فهي له)(8).
2- و يُمَّلِك المعادن وموارد الثروة الطبيعية لمن استخرجها.
3- ويسهل للناس المعاملات ويكتفي بمجرد المعاطاة فيها، بينما تفرض الشرائع الأخرى قيودا أخرى كالكتابة والاشهاد وما شابه ذلك.
4- ويضع نظام القرض ويشجع عليه ويعتبر الدرهم في القرض خيرا من عشرة دراهم في الصدقة، كما يجعل من الزكاة حصة لأداء دين العاجز فيأمر الناس بأن يقترضوا فإن عجزوا عن الأداء أخذوا من أموال الدولة.
5- ويجعل في أموال الدولة سهما يصرف في الاعمار والتنمية.
6- ويقر نظام المضاربة في حين يحرم الربا، ليشترك كلٌ من صاحب المال والعامل بقدم المساواة في الربح والخسارة، وبذلك يشجعهما على العمل.
7- ويحرم البطالة والإشتغال بالمحرمات ولعب القمار وكثير من أقسام اللهو.
8- ويمنع التبذير ويحجز أموال السفيه (الذي يصرف المال في غير أوجه الصلاح) وبذلك يوفر للأمة مالا كثيرا.
9- ويربي الناس على الجد وملأ الفراغ وضبط المواعيد والوفاء بالعهود والتعاون وتعلم الصناعة وما أشبه مما يساعد على التنمية الاقتصادية.
10- ويسهل على الناس التبادل حينما يقول لهم على لسان الامام علي عليه السلام: (يا معشر التجار اتقوا الله.. وتناهوا عن اليمين، وجانبوا الكذب، وتجافوا عن الظلم، وأنصفوا المظلومين، ولا تقربوا الربا، وأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين(9) وبهذا تشيع الثقة بين الناس فيسهل التبادل.
11- وأخيرا يطلق جميع الحريات المشروعة التي تنمي التجارة والصناعة(10).
مشكلة الثروة..
__________
(1) - حينما نقول ـ تبعا للتعبير القرآني ـ إلى حين، فلان هناك غاية وراء هذا التركيز وهي: ان الحياة الدنيا ليست غاية السعادة البشرية وان من يأمل فيها ذلك فإنه يأمل باطلا سرعان ما يصطدم بالواقع ويشقى ويشقي الآخرين.
(2) - خلافا لبعض النظريات المادية التي تعتقد ان ما في الأرض لا يكفي الناس جميعا فلابد ان يتصارعوا لكي يفلح الأقوى بالعيش ويفنى الضعيف.
(3) - بحار الانوار ج73، ص180،باب 38، ح10 .
(4) - الكافي ،ج5،ص85،باب كراهية الكسل، ح2 .
(5) - هناك نظم كاملة في هذه الشؤون الثلاثة تتعرض لها كتب الفقه الحديث فراجع للتوسع..
(6) - وسائل الشيعة ،ج12،كتاب التجارة ، ابواب مقدماتها ، الباب 9 ، ص24 ، ح10 .
(7) - راجع: تحف العقول ،باب ما روي عن الامام الصادق عليه السلام ، جوابه عن جهات معائش العباد .
(8) - الحديث مروي عن الرسول صلى الله عليه و آله وسلم، ( وسائل الشيعة ،ج17،كتاب احياء الموات، الباب 1،ح5 ) .
(9) - وسائل الشيعة ، ج12،كتاب التجارة ، ابواب آداب التجارة ، الباب 2 ، ص283 ح1 .
(10) - وبهذه الأسباب وما أشبهها أحرز المسلمون الأوائل ذلك التقدم الاقتصادي الباهر. أما الغرب اليوم فإن تقدمه انما هو على حساب الشعوب الكادحة.. (انظر كتابي)؛ (التنمية الاقتصادية في الإسلام) و(تشريح جثة الاستعمار).(2/77)
ويمكن تحدي هذه المشكلة بالإجابة على السؤال التالي: هل يمنح الناس الحرية التامة في جمع المال، حتى تتضخم الثروة في جانب وتنحسر عن جانب؟ هل ينبغي ان يمنح الناس هذه الحرية المطلقة لكي تكون مشجعة لهم وداعية إلى المزيد من النشاط والحركة؟ ام يُستعبد الناس للدولة ليأخذ كلٌ حسب كفاءته ويُعطي لكلٍ حسب حاجته فيكون في ذلك توجيه صحيح للاقتصاد، ام نوزع الثروة ونتفادى في النهاية مشكلة التضخم ولكن على حساب كبت حريات الانسان؟
أي طريق من هذين، هو الطريق القويم؟ هل الطريق الأول الذي سلكه الاقتصاد الحر ، أم الثاني الذي انتهجه الاقتصاد الشيوعي؟
ان الإسلام يبدأ أولا بتحليل المشكلة، ويبين أسبابها، ويقول: ان الإنسان خلق حرا مختارا ، وكل وجدان يشعر بذلك، وعليه فمن حق كل إنسان ان يسترشد بعقله ويستخدم حريته كيف شاء من دون ان يكون لأي شخص آخر ان يحدد حريته.. وما دام الإنسان خلق حرا وعاقلا فإنه لا تمييز بين بني الإنسان، ويقول على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم : (إن الناس من آدم إلى يومنا هذا مثل أسنان المشط ، لا فضل للعربي علىالعجمي، ولا للأحمر على الأسود الا بالتقوى(1) . فما دام الناس عباد الله فهم سواء، وليس لأحد ان يظلم أو يطغى على أحد ويقول: (من ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده(2).
وحرية الإنسان هي التي تثبت ملكيته الخاصة، ذلك لأن الملكية تجسيد للعمل، والعمل جزء من الإنسان، فإذا كان الإنسان حرا كان مالكا لعمله ولما يؤدي إليه عمله.. ولهذا يقول الإسلام: (سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر وأكل لحمه (غيبته) معصية وحرمة ماله كحرمة دمه(3).
وما دام البشر كلهم يملكون انفسهم وأموالهم: (إن الناس مسلطون على أموالهم(4)، فليس لأحد ان يثري على حساب أحد، كأن يسخره أو يخدعه أو يغصبه أو يأكل ماله بالباطل. يقول الإسلام: (لا يحل مال أمرء مسلم الا بطيب من نفسه(5). ومن ذلك العمل بالمحرمات التي تضر المجتمع.. وهكذا عرفنا كيف ولماذا تحدد حرية كل شخص إذا عارضت حرية الآخرين؟
وإذا كان الناس أحرارا فمنهم من يعمل كثيرا ومنهم من يعمل قليلا ومنهم ذكي ومنهم غبي(6). وليس لنا ان نقول لهم كونوا متساوين إذ لا حق لنا في ذلك ماداموا أحرارا.. وحينذاك فهل نمنع أجر الأفضل والأكثر عملا؟ فنمنعه حقه ونمنعه حريته (مع انه سوف يكسل عن العمل الأفضل فيتضرر الجميع) ام الأفضل – كما يقول الإسلام- ان نطلق حريته لكي ينشط ويتفنن ويتقن عمله اتقانا، ولكن بشرط ان لا تكون حريته سببا لسلب الآخرين حريتهم.. وفي حدود القانون.
ومن ناحية ثانية: فإن الغني الذي يكتسب المال في ظل دولة توفر له الاطمئنان والأمن ، من الطبيعي ان يكون بعض ماله من حق تلك الدولة (كالذي يكتسب المال في متجر غيره) فلابد إذا ان يؤدي حق هذه الدولة لتحفظ أمواله ونفسه وأمنه.. ومن هنا ينشأ الخمس والزكاة..
ومن جهة ثالثة: فإن الإنسان الحريص على المال لابد وأن يغفل حينا - ولو كان مسلما تقيا - ويسلب مال الناس من حيث لا يشعرون(7) ، فلابد أن يرجعه إليهم، ومن هنا ينشأ رد المظالم.
ومن جهة رابعة: فإن الناس كلهم – لاسيما في النظام الإسلامي – يشتركون في تنمية ثروة هذا الشخص الثري بتعاونهم وحفظهم للأمن وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وأمثال ذلك.. فلابد ان يكون لهم سهم في أمواله، وهنا تنشأ سائر الضرائب.
وأخيرا فإن الإسلام – بوحي من الله العليم البصير – وضع مناهج دقيقة ومضبوطة لاستخراج اسهم الدولة والناس الواقعية من ثروة الغني، ففرض عدة أنواع من الضرائب، تسبب التقليل من تضخيم الثروة، وهذه الضرائب تكفي ـ لدى التدبير ـ لسد حاجات الضعفاء والحاجات العامة..
وهذا هو الخط العريض والدقيق لفرض ضرائب عامة، وقد رأينا كيف انه يوافق أدق أحكام الفطرة والوجدان.
ولكن هذا لا يعني ان الإسلام لا يتوسل بوسائل أخرى في سبيل تحديد الثروة، لكن حتى تلك الأمور تسير باتجاه صحيح على ضوء الفلسفة الإسلامية العامة(8) وهي:
1- ان الإسلام يرى الإنسان في رحلة طويلة، وان ما يقدمه لنفسه من خير يوفاه في الحياة الأخرى، ولذلك فهو يأمر بالصدقات وهي زيادة في إعطاء المال للفقراء والمشاريع الخيرية.
2- وعلى هذا الأساس يأمر الناس الا يحرصوا في طلب الدنيا(9).
3- وقانون الإرث يحد نوعا ما من تضخم الثروة في يد واحدة.
4- حكم عام بلزوم الانفاق في ضرورات الحياة للفقراء ( وقد مرت فلسفته في فصل سابق).
5- وإذا أضيفت هذه الأحكام إلى الحقوق المشار إليها سابقا وهي: الزكاة و الخمس و الخراج و الكفارات و النذور، كانت الضرائب الإسلامية خمسة.
وخلاصة الحديث:
ان الإسلام يحل مشكلة التضخم في الثروة عن طريقين عادلين:
الأول: منع ظلم الناس بعضهم لبعض وتحريم السخرة والاستغلال، علما بأن التضخم ناشئ عن طرق غير شرعية في كسب المال كالربا والحكرة والاقطاع والإجحاف والغش والتزوير وما إلى ذلك مما هو معروف في دوائر الرأسماليين(10).
الثاني: توزيع الثروات وتحديدها عن طريق فرض الضرائب المناسبة (كالخمس والزكاة) والترغيب عن الدنيا، وفرض قانون الإرث والإلتزام بالنفقة على المضطرين والترغيب على إعطاء الصدقات(11).
------------------
الأخلاق الإسلامية
__________
(1) - بحار الانوار ،ج22،ص348 ، ح64 .
(2) - نهج البلاغة ,قسم الرسائل ، رقم 53 ، من كتاب به كتبه للأشتر النخعي لما ولاّه على مصر .
(3) - الكافي ، ج2، ص359 ، باب السباب ،ح2 .
(4) - بحار الانوار ،ج2، ص272، ح7 ( عن النبي صلى الله عليه و آله ) .
(5) - عوالي اللآلي ، ج1،ص222 ،الفصل التاسع .
(6) - من الواضح ان الناس مختلفون اختلافا طبيعيا بفعل العوامل الوراثية أو التربوية. هذا الاختلاف نعمة من الله كي يتخذ كل فرد مكانه من العمل. إذ من المعلوم ان الأعمال متفاوتة فإذا كان الناس متساوين اختار كلهم خير الأمور، فينشأ النزاع. قال الله سبحانه: (ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا) ( الزخرف 32 ) .
(7) - ان تضخم الثروة أكثر ما يكون من الاجحاف والتسعير الغالي والأرباح غير العادلة. وهذا وان كان غير محرم ، إن كان عن غفلة ولكن فيه أثر الحرام، وهو ان المال لابد ان يرجع إلى أهله.
(8) - في الإسلام نوعان من التكاليف؛ الأول: الواجبات، وهي تحدد المسيرة اللازمة لترقية المسلم في الحياة.. الثاني: المستحبات، وهي ما يزيد الحياة رفاهية وسعادة.. وفي مجال الحد من تضخم الثروة للإسلام نوعان من التكاليف:
الضرائب اللازمة والضرائب المندوبة (وهي ما وراء الواجب). قال الله سبحانه: [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ] ( النحل 90).
وفي الحديث المفسر للآية: (العدل: الانصاف، والاحسان: التفضل).
(9) - الإسلام ينهى عن الكسل في حين يأمر بعدم الحرص، وليست هناك منافاة بينهما، ذلك لان العمل مرغوب فيه ولكن تضخم الثروة غير مرغوب فيه فيمكن ان يعمل ويعطي للفقراء كما كان من دأب قادة الإسلام (النبي والأئمة).
(10) - والى هذه الحقيقة يشير الحديث الشريف: (ما رأيت نعمة موفورة الا وبجانبها حق مضيع).
(11) - سيأتي في فصل الأخلاق شرح وتوضيح مدى تأثير الترغيب عن الدنيا في الاحتفاظ بتعادل الثروة وحل مشكلة تضخمها.(2/78)
دعنا نجري في العنوان على عادة الفلاسفة القدماء ونطلق على الموضوع عنوان (الأخلاق) وان كان الاجدى ان يسمى الموضوع بـ(معرفة النفس) مثلما يسميه الإسلام. أو (علم النفس) مثلما يسميه العلم الحديث، ذلك لأن الموضوع أشمل من الأخلاق بكثير إذ ان معرفة النفس قاعدة أصلية تبنى عليها كثير من البحوث في الإسلام.. ففي القرآن الحكيم (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم).. في الحديث: (من عرف نفسه فقد عرف ربه) وفيه.. (اتزعم انك جسم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر) من هذا يظهرأن معرفة الله ومعرفة العالم انما تكون عن طريق معرفة النفس ومع ان البشرية قد احرزت تقدما باهرا في كل المجالات فإنها لا تزال عاجزة عن معرفة النفس البشرية وما فيها من طاقات(1).
وأهمية الموضوع تفرض توسعا بالإجابة على الأسئلة التالية:
ما هي حقيقة النفس؟
ما هو واقع القوى المختبئة في النفس؟
هل للمُثُل أصالة في النفس؟
كيف يمكن اصلاح الناس اصلاحا شاملا؟
ما هي المؤثرات في النفس وكيف يستغلها الإسلام في الاصلاح؟
1- حقيقة النفس
حقيقة النفس (الروح، القلب) أنها مادة(2) لطيفة محددة تحيا إذا أوتيت الحياة وتموت إذا افتقدتها. وتعرف إذا اوتيت المعرفة وتجهل إذا فقدتها.. وهي غير البدن وبإمكانها ان تعيش خارج الجسم – بعد الموت – دون ان تدخل في جسم آخر.
والدليل على كل هذه:
أولا: الوجدان الإنساني.. ألسنا نحس بانا نعلم ونقدر ونحيا، ولكن العلم والقدرة والحياة ليست من ذاتنا (انا حي، أي انا أملك الحياة ولكن لست نفس جوهر الحياة) ، ذلك لأننا لم نكن عالمين ثم علمنا. إذاً فالعلم ليس من ذاتنا الذي لا ينفصل عنه.
ثانيا: تجارب احضار الأرواح المفصلة في كتبهم التي تبلغ المئات في الغرب والشرق.
ثالثا: الآيات والأحاديث التالية:
1- [وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَي لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً](النحل 70) . وواضح ان المجرد لا يمكن ان يصبح جاهلا، فحيث ان النفس تعود جاهلة بعد العلم فهي غير مجردة بنص هذه الآية.
2- في الحديث عن الامام الصادق عليه السلام في حوار طويل مع أحد الزنادقة: (والروح جسم رقيق قد ألبس قالبا كثيفا. ) ثم قال: ( الروح بمنزلة الريح في الزق، إذا نفخت فيه امتلأ الزق منها فلا يزيد في وزن الزق ولو جها فيه، ولا ينقصها خروجها منه، كذلك الروح ليس لها ثقل ولا وزن(3).
2- قوى النفس..
كل عمل يعمله البشر فإنما تعمله روحه بسبب جسمه، فالجسم آلة للروح(4) (والأرواح القوية كأرواح السحرة والمرتاضين تعمل بدون الجسم أيضا).. كما ان كل صفة يمتلكها البشر فإنما هي صفة نفسه لا صفة جسمه.
وفي النفس قوتان متعارضتان: قوة تجرّها إلى الأرض، وأخرى ترفعها إلى السماء.. وهما:
أ- الجهل، وهو من طبيعة النفس وذاتها وتنسب إليه الجاهلية. وهو منبت كل رذيلة كالشرك والكذب والكفر وعدم العلم وعدم الإرادة(5).
ب- العقل، وهو من الله سبحانه وهو أصل كل صفة حسنة كالعلم والحكمة ومعرفة الخير والشر والإرادة وبه يدرك الإنسان كلما يريد.
وأبسط دليل على ذلك: ان كل فرد يشعر في نفسه ان قوتين تتغالبان في ذاته: قوة تريد مصلحته الخاصة وقوة تريد الحق. وقبل كل عمل ـ فيه مصلحة الإنسان من جانب وضرر الآخرين من جانب ثان ـ يجد الفرد نفسه في معركة داخلية. ومن الممكن ان تغلب إحدى القوتين على الأخرى فيقوم الفرد بفعل ما فيه مصلحته مثلا دون أن يشعر بقوة أخرى تمنعه عنه، ولكن سرعان ما يجد في نفسه بعد إتمام العمل قوة تلومه وتوبخه وهي القوة الثانية التي إستترت حين العمل بعض الوقت وخرجت بعده توبخ وتلوم(6).
ودليل آخر على ذلك: إنا نجد أن بعض الناس يعملون من الصالحات ما ليس لهم فيه مصلحة أبدا، بل يقومون به لمجرد إنه عمل خيري، ولربما نكون نحن(وفي بعض الأوقات) قد عملنا أعمالا لم تكن فيها مصالحنا أبدا.
والاسلام يقول: انه نتيجة لتغالب العقل والجهل في البشر، فهو أكثر ما يواجه إزدواجية المشاعر، فهو دائما يجد نفسه حرة في ان تختار الحق أو الباطل، ويجد ان لكل منهما في داخل قلبه قوة ورصيدا.
وللبشر قوة تسمى بالإرادة الحرة تستطيع ان تتجه نحو العقل فتختاره أو نحو الجهل فترجمه. وتلك الإرادة هي التي تقرر المصير كما أنها تحقق حرية البشر ومسؤوليته تجاه عمله السيء وإستحقاقه للثواب تجاه العمل الصالح. وليس أدل على هذه الحرية من أن كل فرد يشعر بأنه حر.
ومن هنا نعلم ان قوى النفس ثلاثة:
1- العقل ؛ وهو منبع كل صفة خيرة كالعلم والصفات الحسنة والحكمة.
2- الجهل ؛ وهو منبع كل صفة سيئة كالرذائل وحب الذات.
3- الإرادة ؛ وهي قوة يختار بها الفرد الخير أو الشر وهي أصل حريته.
والدليل على وجود هذه القوى:
ألف: الوجدان وهو شعور كل فرد بعد التدبر في واقع نفسه انه يريد الخير ويريد الشر، وشعوره بالمعركة الحامية التي تقع في أعماق نفسه بين قوى الخير وقوى الشر، وشعوره بحريته في اختيار جانب أي من القوتين يشاء.
باء: وجود أعمال لا تفسر الا بأنها عملت لأجل الحق.
جيم: الدليل النقلي من القرآن والحديث.
3- المُثُل
ان الإسلام يرى ان المثل الخلقية تجتمع كلها في اتباع هدى العقل، ذلك لأن العقل يدعو الفرد – من داخله – إلى الحق والخير بصورة مستمرة ويدعم هذا الواقع بدليلين:
__________
(1) - راجع كتاب: (الإنسان ذلك المجهول) للدكتور الكسيس كاريل.
(2) - حينما نقول مادة لا نقصد انها جسم، فالتيار الكهربائي من المادة أيضا مع العلم انه ليس بجسم. وليست كل مادة تحس وتلمس بالحواس الظاهرية. بل المقصود بالمادة ان الروح محدودة الجوانب متقلبة الطبائع تغدو وتروح. وليست المعرفة والقدرة والحياء جزء من كيانها الذاتي، بل انها أشياء خارجية ركبت من قبل الله سبحانه وتعالى خلافا لما قاله فلاسفة الاغريق وتبعهم غيرهم من ان نفس الإنسان مجردة غير محدودة، عالمة حية بذاتها، وبتعبير أخر: انها تحمل صفات الله ـ سبحانه وتعالى عما يصفون ـ وما أبعد ما بين هذا الرأي وبين ما زعمته المادية ان النفس غير موجودة رأسا. وهكذا يتجاذب التطرف من هنا والتعدي من هناك كل الذين ابتعدوا عن هدى الله واتبعوا أهواءهم بغير علم.
(3) - بحار الانوار ،ج10 ، ص185 .
(4) - في الحديث عن الامام الصادق عليه السلام، انه قال: (الروح مسكنها في الدماغ، وشعاعها منبثّ في الجسد بمنزلة الشمس دارتها (عينها) في السماء وشعاعها منبسط على الأرض، فإذا غابت الدارة فلا شمس، واذا قطعت الرأس فلا روح) (بحار الانوار ،ج6، ص111 ،ح6).
(5) - يمكننا ان نعرف ببساطة: لماذا تكون الرذائل من طبيعة النفس وذاتها، وذلك لأن كل ما يقترفه الإنسان من صفة نفسية سيئة كالكذب وما شابه ذلك فإنه انما يرتكب ذلك فلأن فيه هواه – أي انه يحب ذلك لأنه يتلذذ به أو بنتيجته – فنعرف من ذلك: ان هوى النفس وميلها مع الرذيلة. وإلى هذه الحقيقة يشير الإمام أمير المؤمنين (ع) بقوله (أعوذ بالله من شرور أنفسنا).
(6) - قال الله سبحانه: [والنفس اللوامة] (أي قسما بتلك الروح التي توبخ الإنسان على أعماله السيئة).(2/79)
1- اننا نرى بطبيعة فطرتنا، ان الصدق والوفاء وحب الآخرين وخدمتهم والعفو والحلم عن المكروه والإيثار بالخير والتضحية في سبيل الاصلاح. نرى هذه الصفات حسنة مرغوبة مئة بالمئة، ونجد إلى جانبها الكذب والخيانة والغدر وبغض الناس والاضرار بهم والحقد والغضب والحسد والاستغلال والجبن.. هذه الصفات نراها مذمومة بذاتها و قبيحة، لا نحب ان ننعت بها ونحب أولئك الذين يتحلون بالنوع الأول منها ونبغض أولئك الذين يتخلقون بالنوع الثاني منها.
2- أينما ذهبت من هذا العالم، ومن صادقت فيه من بني آدم رأيته يمدح الصفات الحسنة ويبغض الصفات السيئة فيرى الظلم والتعدي مثلا أمورا قبيحة بذاتها، ويرى العدل والاستقامة حسنة بذاتها.. وحتى أولئك الذين يعيشون في الغابات بإفريقيا، وأولئك الذين يهيمون في الصحاري والادغال في استراليا (من الهنود الحمر) يرون ذلك ويجعلونه مقياسا يعرفون به الصالح من السيء في الناس. وحتى أولئك الذين ينكرون وجود العدل والخير الأزليين ويزعمون ان المادة هي كل شيء وان كل شيء نسبي ـ كالشيوعيين ـ عندما يريدون ان يمدحوا أحدا يقولون انه يضحي، انه يؤثر المصلحة العامة، انه لا يظلم أحدا، انه يراعي حقوق العامل والفلاح. وهكذا كما انهم إذا أرادوا ذم أحد نعتوه بالظلم والاستغلال.. واذا قلت لأحدهم أنت ظالم أنت معتدي قال لك: كلا.. وجاء بألف تعليل وعذر حتى ينفي عن نفسه الظلم والتعدي.
ان هذا دليل صارخ على وجود أصالة للمثل.
والإسلام يقول: ان وجود العقل والجهل في النفس ليست على صفة الدوام، إذ ان من الممكن ان يضمحل أحدهما في مقابل الآخر إلى غير رجعة أو إلى حين.
أما قوة أحدهما فإنما هي بالممارسة، يعني ان الذي يرجح الجهل على العقل باستمرار ولا يتبع عقله أبدا لابد ، وان يفقد عقله أخيرا فلا يعود يشعر بحب الخير والحق(1).. أما الذي يتبع عقله باستمرار فإن الجهل سوف يذهب عنه نهائيا بحيث يصبح قدوة الآخرين في الفضيلة. ان هذا الفرد لا يحس بحب لنفسه، إذا خالف الحق، ولا يرى تعبا في اتباع الحق والتضحية له.
كما ان العقل والجهل يتأثران بالتربية والتوجيه وبالوراثة والتغذية، ولذلك فإن الدين يستخدم كل ذلك للإصلاح.
4- الاصلاح.
يرى الإسلام ان اصلاح الناس اصلاحا شاملا انما يكون باتباع هدى العقل، ونبذ تسويلات الجهل، ذلك لأن العقل لا يميز الخير للناس عن الشر فقط ، بل يدفع الفرد إلى العمل بالخير ونبذ الشر.. وإذا اتبع الناس عقولهم ، أدوا حقوق بعضهم البعض وزادوا بالإحسان إلى بعضهم البعض. وهل ترى سعادة خيرا من هذا؟
أما إذا غلب على الناس الجهل فانكب كلٌ على عبادة ذاته والعمل لمصالحه الخاصة وتطرف كلٌ في جلب الملاذ لها، فهناك يعم الظلم والطغيان والفوضى والحسد والحقد واستعباد الآخرين.
أما سن القوانين، المدعمة بالعقوبات والتنظيمات، فهو لا يؤثر في اصلاح الناس أبدا، لأن المجتمع الذي يتبع الهوى ويتصف بحب متطرف للمادة، هذا المجتمع لا يسن قانونا الا متأثرا بهذا الحب ولا يطبقه الا كذلك. ومن هنا فسوف يكون القانون والتنظيم وسيلة إلى تحقيق شهواته. أليس الإنسان هو الذي يسن القانون ويقر النظام، أترى انه لا يمكنه الخروج عليه إذا أراد أو إذا خالف شهواته(2).
ولنفرض: ان الإنسان قد نجح في تشريعه وتنظيمه وقلع جذور الجريمة، فهل ينجح في اصلاح نفسه وتطهيرها من الحسد والحقد والقلق والاضطراب؟ فأية وسيلة يتبعها لذلك ما دام قد نبذ العقل واتبع الهوى؟
5- المؤثرات.
ان الإسلام يهدف بتوجيهاته أمرين؛ الأول: زيادة العقل، الثاني: تربية النفس(3) ،أي أن تجعل النفس بحيث لا تهوى الشر كثيرا.
وبالنسبة إلى الأمر الأول يستخدم الإسلام الأساليب التالية:
1- الترغيب في ثواب الآخرة والترهيب عن عقابها.. قال الله سبحانه: [إذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِاَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ](سورة الزلزال).
2- بيان ان السعادة تكمن في اتباع الحق، كما ان الشقاء يكمن في مخالفته. قال الله سبحانه: [وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً](4) (طه 124).
3- إلفات نظر الإنسان بأن له عقلا وفكرا لابد من استخدامهما، ولهذا يكرر في القرآن كلمات مثل (أفلا يعقلون.. أفلا يتدبرون) وأمثالها.
وبالنسبة إلى الأمر الثاني يتخذ الإسلام عدة إجراءات نذكر منها ما يلي:
1- يحرم الزنا، والجماع في حالة الطمث، ويدعو إلى المواظبة على عدم التغذية المحرمة حالة الحمل، والإرضاع. فهذه التعاليم من شأنها ان تمنع من تأثيرات العوامل السلبية في نفس الإنسان.
2- التربية الصالحة للطفل التي أوصى بها الدين الحنيف ابتغاء ان تتعود نفس الطفل منذ البداية على الصلاح فيسهل عليها عمل الخير فيما بعد. والتربية الصالحة تعني: الاعتدال في إظهار الحب للولد ومصاحبته منذ ان يولد بالذكر كالآذان والإقامة عند الولادة ، وتغذيته بالإيمان وتعليمه الواجبات وتأديبه بالآداب الحسنة والفضائل كما هو مشروح مفصلا في كتب الفقه والتربية الإسلامية.
__________
(1) - قال الله سبحانه في صفة هؤلاء: [سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ](البقرة6-7).
(2) - عندما نعرض ميزات الإسلام التشريعية سوف نبين ان تشريعات الناس لن تنفع في قلع جذور الشر والفساد.
(3) - ان هناك فرقاً بين الأمرين في: ان زيادة العقل تؤثر على الإنسان، وإن لم تكن تربيته النفسية مساعدة للصلاح، فالفرد الموجه بالإيمان والإرادة والعقل يتمكن من تحقيق المعاجز في مغالبة نفسه وقهرها على الفضائل، ولو كانت نفسه تتوق إلى الشر بسبب من التربية الفاسدة أو المحيط المائع أو ما أشبه. ومن هنا فإن الإسلام يهتم بهذا الأمر كثيرا، في حين ان التربية النفسية لا تفيد الا بالنسبة إلى من ربي في المجتمع المسلم وروعيت جميع أعماله بدقة متناهية.. ومثل زيادة العقل كمثل زيادة قوة الجسم وحصانته عن الميكروبات، كما ان مثل تربية النفس كمثل حفظ الجسم عن دخول الميكروب إليه أو قتل الميكروب بعد ان يدخل؛ فالجسم القوي لا يبالي بالمكروب وكذلك صاحب العقل الحاكم لا يخاف من المحيط أو التربية.. ولكن الجسم الضعيف يراقب الميكروب حتى لا يدخل فيه.
(4) - ومن هذا النوع: ما ورد في القرآن من قصص الأمم الماضية التي عتت عن أمر ربها فأتبعها بعضها بعضا ودمر قراها وجعلها أحاديث.(2/80)
3- توفير البيئة الصالحة التي تساعد على نمو نفس الإنسان نقية صالحة، وذلك بتطهير البيئة من الرذائل والمنكرات ، حتى ان أهل الذمة لا يمكنهم التجاهر بالمنكرات، وإيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(1) ، ومعاقبة وملاحقة المرجفين الذين يشيعون الأفكار الباطلة في المجتمع.. قال الله سبحانه [إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ ءَامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ](النور 19).
4- تقرير العقوبات الرادعة عن الجريمة كالقصاص والحدود والديات؛ وهذه العقوبات تقضي على الجريمة من الخارج في حين ان الإجراءات السابقة تقضي عليها من الداخل.. وهذا لا يعني ان لا أهمية لهذه العقوبات بل الواقع ان بعض النفوس لا ترتدع الا بالعقوبات الحاسمة(2). هكذا يأتي الإسلام النفس البشرية من جميع جوانبها ويحيط بها من كل أطرافها، فيقضي على الجريمة والرذيلة من الداخل ومن الخارج معا وبكل الوسائل الممكنة، مستفيدا من كافة القوى التي لها تأثير على النفس. وبهذه الوسيلة يخلق المجتمع الفاضل الذي عجزت كل الحكومات وكل النظريات ان تخلقه حتى الآن.
ولا يملك الإنسان عندما يتدبر هذه الإجراءات ، وتلك التجارب التاريخية التي شيدها الاسلام خلال أربعة عشر قرنا ، الا ان يبدي إعجابه الشديد بها، ويصرخ: ما أشد التعاسة التي تحكم الناس نتيجة تركهم مناهج الدين واستبدالها بنظريات تافهة مائعة لا تغني عن الحق شيئا.
علم النفس..
ولابد ان نتطرق إلى علم النفس الإسلامي، لنشير إلى بعض خطوطه العريضة. إذ ان معرفة النفس ضرورية لاستكمال الموضوع.
ولابد ان نشير إلى ان للإسلام مذهبا خاصا في علم النفس ناشيء من تعريفه للنفس، وهذا المذهب يتناول تارة المرض وأخرى العلاج. فالمرض النفسي في الإسلام ناشيء من تزاوج عاملين:
1- ضعف العقل.
2- قوة الهوى.
فمثلا: القلق ناشئ من شيئين: الأول: فقدان الإرادة التي تضبط النفس وتقيمها في الطريق المستقيم.. والثاني: وجود نقص في الشؤون الدنيوية كخسارة تجارة وما شابه ذلك.. وهذا النقص لا يؤثر في النفس لولا حب الدنيا، وحب الدنيا ناشئ من حب الذات..
وعلاج هذا المرض يتم بأمرين:
1- بالتوجيه إلى نور العقل.
2- وبالتقليل من أهمية الدنيا في نفس الإنسان القَلِق.
كما ان الإسلام يعتبر الكفر والجحود والنفاق وكل الرذائل الأخرى أمراضاً نفسية أولا وبالذات ولابد من علاجها هناك في داخل النفس.
فالكفر – عند الإسلام – ناشئ من الاستكبار وعدم التسليم للحق.. والاستكبار ناشئ من هوى النفس والمبالغة في تقديرها.
اما الايمان فهو تماما ضد الكفر وهو: التسليم للحق.. اما كيف يمكن علاج الاستكبار وإقرار التسليم في قلب الإنسان فهو يتم بما سبق ان قلناه في بيان كيفية اصلاح النفس.
--------------------
السياسة الإسلامية
1- الإسلام يقرر ان المشرع الوحيد هو الله سبحانه، ذلك لانه فقط مالك الناس.. والناس لا يملكون حتى انفسهم تجاه الله، في حين ان الله اعرف بحالهم وما يصلحهم ويفسدهم في الدنيا والاخرة.
قال الله سبحانه: [إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ ..](يوسف 40).
وقال تعالى: [يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ اِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ](ص 26).
اما السيطرة التي يمارسها القادة في الدولة الإسلامية الشرعية، فإنها ناشئة من هذا الأمر، فحيث ان الله هو المالك الحاكم، فلابد ان يعين من يُتَّبَع في الارض.. وليس لاحد من العباد ان يفرض سلطانه على الناس الا بسلطان من الله.
2- ان الإسلام لا يعترف بسيادة الإنسان على نفسه من دون ان يقررها له الله ربه وخالقه ومالك اموره ومن إليه مصيره، ولذلك فهو يضع أول قواعد السياسة على اساس معتدل فيرتفع البناء باعتدال، في حين ان فلاسفة البشر( أمثال لوك وروسو) يقررون حق السلطة للبشر فينحرف بهم السير من المنطلق حتى النهاية، ذلك لانه:
ألف: إذا كان حق السلطة للبشر، كان لكل منهم الخروج عليها متى شاء، إذ ليست السلطة أكثر من شيء اراده الفرد في زمن، فإذا ما اراد يوماً رفضه، فلماذا لايجوز له ذلك؟ لماذا نأخذ بكلامه الأول دون الثاني؟
باء: ثم ان الناس لا يتفقون دائما في وضع شكل خاص للسلطة، أو فرد معين لممارستها، فيكون مبعث خلافات لا تنتهي (كما هي موجودة الان) وهي تسبب شقاء البشرية.
جيم: ان الإنسان حين يكون معرضا للخطأ في كل أطواره ، ومعرضا للتأثر بالدعاية والتأثر بالنزعات والتأثر بالشهوات وما اشبه من انواع المؤثرات في النفس، فلابد ان يأتي تعيينه لنوع الحكومة والحاكم خطأ على الاغلب (كما نجده اليوم وقبل اليوم ، حيث نواجه كل يوم نظرية جديدة وشخصا جديدا وليس الثاني بأحسن من الأول و ان عارضه وخالفه).
دال: إن سلطة الشعب على نفسه تمنى في احسن الفروض بهذه المساوئ. اما إذا جاء الاستغلال- وهو آت قطعا- واما إذا استبد الرئيس بالحكم وزوَّر الانتخابات، واما إذا اطاح الإنقلاب العسكري بالحكم وحلت الاحزاب فهنالك شقاء ليس وراءه شقاء.
ولهذه النواحي وغيرها فقد قرر الدين ان حق الحكم انما هو لله فقط ولله أيضا حق انتخاب الرئيس وليس للناس أن يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله.
والرسول مبعوث الله وخليفته في الأرض. يقول القرآن: [وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بإِذْنِ اللّهِ](النساء 64). والإمام خليفة الرسول لقول الله سبحانه [يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ](النساء 59).
أما بعد الإمام فيتولى شؤون المسلمين الفقيه التقي لأنه ممثل عام للإمام عليه السلام بنص صريح منه وهو قول الامام العسكري عن الامام الصادق عليهم السلام: (فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه، مخالفاه على هواه ، مطيعا لأمر مولاه فللعوام ان يقلدوه(3) وفي حديث آخر (فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليكم(4) وفي حديث ثالث (فليرضوا به حكما فإني قد جعلته عليكم حاكماً)(5).
__________
(1) - قال الله سبحانه: [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَولِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ] (التوبة/71).. ويقول الرسول (ص): (لا يحل لعين مؤمنة ترى الله يعصى فتطرف حتى تغيره) (وسائل الشيعة، ج11 ، ص399 ، ح25)، وقال: (إذا أمتي تواكلت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليأذنوا بوقاع (وهي النازلة الشديدة) من الله تعالى) ( وسائل الشيعة، ج11 ، ص394 ، ح5 ).
(2) - قال الله سبحانه: [ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب] (البقرة 179).. وقال النبي (ص): (اقامة حد خير من مطر أربعين صباحا) (وسائل الشيعة، ج18 ، ص308 ، ح4 ) .
(3) - بحار الانوار ، ج2، ص88 .
(4) - بحار الانوار ،ج53 ، ص180 ، باب 31 ، ح10 .
(5) - كلمة الجعل التي نجدها في القرآن وفي هذا الحديث عند بيان سلطة النبي والفقيه توحي بأمر هام هو: ان سلطة النبي وكذلك سلطة الفقيه ليست ذاتية وانما هي مجعولة اعتبارية مستمدة من سلطة الله سبحانه.. انها سلطة طارئة، سلطة عارضة. – الكافي ،ج1 ، ص67 ، باب اختلاف الحديث ، ح 0 .(2/81)
3- ويرى الإسلام ان السلطة لابد ان تعطى بيد من فيه الكفاءة (وهي: الفقه) والأمانة (وهي: التقوى)، ولا ينظر إلى نسبه ووطنه وحسبه ولا أي شيء آخر من الشؤون المادية أبدا.. ذلك لأن المهم في الرئيس اتقان ما عهد إليه بدون ضعف أو عجز أو خيانة، وهو يتوفر في الفقيه العادل سواء كان من هذا الوطن أو ذاك، هاشمياً أو لا، إذ لا قيمة للملاكات المادية في هذا المجال.
ولو ان الدين كان يشترط أمرا ماديا(1) – خارجا عن قدرة الناس- ، فقد ظلم ذوي المواهب الذين يقدرون على نيل السلطة، وظلم الناس بمنعهم عن مواهب أولئك.
4- كما انه يعتبر الدولة دولة دستورية يحكم عليها القانون الإسلامي، وليس لأحد من أبنائها ، ومنهم الرئيس، ان يبدل حكم الله(2) أبدا، ويجعل لذلك ضمانات نشير إليها بإجمال:
أ- من شروط الرئيس ان يكون تقيا. ومعنى التقوى: العمل بالدين، ومن عطل أحكام الله فليس فاسقا أو ظالما فقط بل هو كافر أيضا لقوله تعالى (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)، ويعزل عن الرئاسة فورا.
ب- ان الرئيس يعزل بمجرد ان يعمل بالمعاصي أو بمجرد ان لم يحكم بما أنزل الله، ويجري عزله ببساطة جدا ، حيث يجب على الذي عرف منه المعصية ان يتراجع عن متابعته ويرجع عن تقليده.
ج- ان المجتمع المسلم مجتمع واع يعرف أحكام الله ويراقب الرئيس فيها، فمتى انحرف الرئيس قومه ولو بالسيف(3).
د- في الحكومة الإسلامية ليس للرئيس قوة الا بالدين – كما سيأتي – فمتى انحرف عن الدين خارت قوته وخر صريعا.
5- يرى الإسلام انه لابد ان تكون سلطة الرئيس مستمدة أبدا من الشعب(4).. ويقرر ذلك بما يلي:
أ- ان نظام الجيش في الإسلام يختلف عن الأنظمة الأخرى، ذلك لأن الجيش في الإسلام داخل في الشعب، بل هو الشعب كله. إذا احتاج المسلمون إلى الدفاع عن أنفسهم أو الهجوم على أعدائهم، هب الناس كلهم لذلك. ويجب على المسلمين جميعا ان يكونوا قادرين على حمل السلاح كما هو مفصل في كتب الفقه.
ومن هنا فليس من الممكن في الإسلام استخدام الجيش ضد الشعب ـ كما هو الحال في الدول الحديثة ـ بل الجيش يقف دائما مع الشعب لأنه ليس جهازا من غيره.
ب- ان الإسلام يشترط في كافة أجهزة الدولة ان يكونوا كفوئين أمناء ويفرض على الناس مراقبتهم. فلا يمكن للرئيس ان ينصب واليا غير كفوء أو غير أمين.. وإذا انحرفت أجهزة الدولة فليس من الممكن ان تستخدم – بسبب وجود رقابة الناس - للأغراض أو المصالح الخاصة.
ج- ان الدين يقاطع سلاطين الجور ويأمر الناس بمقاطعتهم، ولذلك فإن الرئيس الخائن لا يمكنه ان يعيش في مجتمع مسلم.
وهذه الضمانات الثلاثة وضمانات أخرى يقدمها الإسلام كلها نابعة من فلسفة الإسلام في الحكم، حيث يرفض بكل شدة ان يكون هناك قطاعان: حاكم ومحكوم، شعب وحكومة، بل يمزجهما أبدا ويجعلهما كيانا موحدا.
6- وبعد ان يوفر الإسلام كافة الضمانات في شخص الرئيس يجعل منه القوة الأولى والمركز الأعلى في البلد ويجعل جميع أجهزة الدولة تابعة له، ولا يجعل لهم كيانا مستقلا عنه.. وبهذا يضمن صلاحهم أيضا فتصبح الحكومة الإسلامية أمثل الحكومات جميعا برئاستها وبأجهزتها..
7- ويقر الإسلام التنافس الحر الذي يدع للشعب الخيار في انتخاب أقرب الناس إلى الصواب، وليس معنى هذا ان الإسلام يقر الأحزاب المتحاربة التي تفسد البلاد، بل معناه: ان الدين يقول: على الناس ان يطيعوا كل من توفرت فيه شروط خاصة- كالفقه والعدالة - دون ان يعيّن شخصا خاصا. ويبقى على الناس ان يختاروا بعقولهم لا باهوائهم احسن الفقهاء دينا وأشدهم ورعا، ولهم بعد ذلك ان يرجعوا عن فقيه إلى آخر متى شاؤوا، وليس للفقيه ان يمنعهم عن ذلك.
ومتى توفرت هذه الشروط فلابد ان يرشح كل من يجد في نفسه الكفاءة للرئاسة، اما الناس فإن رأوا فيه ذلك اتبعوه. ولذلك فلا يزال في البلاد الإسلامية فقهاء متعددون لكل منهم رئاسته الخاصة.. فإذا وجد الناس اقل انحراف من الفقيه رجعوا فورا إلى غيره، واذا علم الفقيه ذلك فليس من المعقول ان يتعمد الانحراف (وكل هذه الامور مجربة في العالم الإسلامي حتى اليوم).
8- وبعد كل هذا فإن الدين يحفظ الناس- لاسيما الفقهاء- عن الانحراف بتطهير قلوبهم عن الاهواء والشهوات - وقد مر تفصيل ذلك عند بيان اصلاح الناس- .
9- ويرى الإسلام ان الصفات التي تجعل القائد مثاليا هي:
أ- التقارب بينه وبين الناس. يقول ضرار في صفة الامام علي عليه السلام: (كان والله فينا كأحدنا يدنينا إذا أتيناه ، ويجيبنا إذا سألناه(5).
ب- ان لا يتخذ لنفسه حجابا ووسائط من دون الناس.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم في وظائف الوالي: (ولم يغلق بابه دونهم(6).
ويقول الامام علي عليه السلام مخاطباً بعض كبار المسؤولين في الحكومة: (لا تتخذُن حجابا ولا تحجبُن أحداً عن حاجته حتى ينهيها اليكم(7).
ج- عدم التعدي على حقوق الاخرين، وان كان له السيطرة التامة عليهم ، وإجراء العدل بينهم.. قال الله سبحانه [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ](النساء 58).
د- ان يكون برا رحيما بالناس. قال الإمام السجاد (ع): (أما حق رعيتك بالسلطان فأن تعلم انهم صاروا رعيتك لضعفهم وقوتك فيجب ان تعدل فيهم وتكون لهم كالوالد الرحيم(8).
هـ- ان يستشير في أمور البلد أهله ولا يستبد برأيه الخاص. قال الله سبحانه: [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] آل عمران 159).. وقال: [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ] (الشورى 38).
و- التواضع للناس.. قال الله سبحانه: [وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ] (الحجر 88).. وقال الإمام علي عليه السلام لواليه على مصر (فاخفض لهم جناحك وألن لهم جانبك وأبسط لهم وجهك(9).
__________
(1) - خلافا للفارابي الذي اشترط في الرئيس ان يكون قوي الجسم.
(2) - قال الله سبحانه: [يَآ أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً](الأحزاب/ 1-2) على عكس أكثر التشريعات البشرية التي جعلت للرئيس الحق في تغيير القانون في كثير من الظروف..
(3) - قال عمر للناس ذات مرة: كيف بكم إذا ملت؟ فقام أحدهم وهز سيفه وقال: إذن لقومناك بهذا.. وأشار إلى سيفه!
(4) - تعتقد بعض الدول المسماة بالديموقراطية ان سلطتها مستمدة من الشعب في حين انها لو كانت صادقة كانت سيادتها أول الأمر تابعة لإرادة الشعب. أما استمرارها فإنما هو لدعم أجهزة الدولة لها.. إذا فالإسلام يفترق عن هذه النظم مع افتراض صحة ادعائها في ان هذه الأخيرة تبتدأ بإرادة الشعب وتستمر بقوة الأجهزة (الجيش والشرطة والأمن والاستخبارات والدوائر) بينما الإسلام يجعل كلا من الابتداء والاستمرار بإرادة الشعب وتحت رحمته فيبتدأ حكمه بالشعب ويستمر بإرادة الشعب أيضا.
(5) - بحار الانوار ، ج41 ، ص14 ، باب 101 ، ح6 .
(6) - بحار الانوار ،ج22، ص495 ، ح41 .
(7) - بحار الانوار ، ج72، ص354 ، ح70
(8) - من لا يحضره الفقيه ، ج2، ص621 ،باب الحقوق .
(9) - نهج البلاغة ، قسم الرسائل ،رقم 27 ، من عهده الى محمد بن ابي بكر .(2/82)
ز- المساواة بينهم في كل شيء حتى في مثل النظر واللحظة. قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لواليه (وآس بينهم في اللحظة والنظرة، حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم - أي ظلمك الناس لصالح العظماء - ولا ييأس الضعفاء من عدلك عليهم(1).
ح- أن يعيش مثل أضعف من تحت سلطته.. كتب الإمام علي عليه السلام إلى عثمان بن حنيف الأنصاري عامله على البصرة، وقد بلغه انه دعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى اليها.. كتب إليه يقول: (أما بعد يا بن حنيف، فقد بلغني أن رجلا من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت اليها.. وأضاف بعد توبيخه على ذلك: ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفّى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز (الحرير) ولكن هيهات ان يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخير الاطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى (جائعة) وأكباد حرى (عطاشى) ، أو أكون كما قال القائل: (وحسبك داء ان تبيت ببطنة وحولك أكباد تحن إلى القد.)؟ أأقنع من نفسي بأن يقال هذا: أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في خشونة العيش(2).
ط- ان يلتزم بعهوده ومواثيقه التي يقدمها لشعبه أو للشعوب الأخرى، قال الله سبحانه: [إلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَاَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ](التوبة 4).
وليس معنى هذا ان على الرئيس ان يستسلم لشروط مجحفة وعهود ظالمة تفرضها الدول الأخرى، بل على العكس يجب على الرئيس ان يحرض الناس على القتال في سبيل الله، ويستعد دائما للدفاع عن بلاده.. قال الله تعالى: [يَآ أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِنكُمْ مِاْئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَيَفْقَهُونَ](الانفال 65) .
وقال تعلى أيضاً: [وَأَعِدُّوا لَهُم مَااسْتَطَعْتُم مِن قُوَّةٍ وَمِن رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ](الانفال 60).. وإنما المقصود ان عليه ان يفي بعهوده التي هي في صالح المسلمين.
10- ويرى الإسلام ان للحكومة وظائف أربعة فقط اليوم:
أ- استنباط الأحكام من مصادرها الشرعية (السلطة التشريعية).
ب- تطبيق الأحكام على الموارد الخاصة (السلطة القضائية).
ج- تنفيذ الأحكام بإجراء الحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونشر العقائد الدينية وما أشبه مستفيدا في ذلك من كافة الوسائل الإعلامية والتربوية الجماعية.
د- تنظيم حياة الناس بتحديد الثروات وتوجيه التجار وجباية الضرائب وبناء المشاريع العامة كالمساجد والطرق والجسور والسدود، وكل ما هو في صالح المجتمع والتي نسميها اليوم بالخدمات الاجتماعية.
أما سائر ما تبنته الدول اليوم، فالإسلام لا يأمر بها.. ذلك:
1- لان الجيش ـ مثلا ـ تابع في كافة شؤونه للشعب، والحكومة هي التي توجه الشعب إلى ما يجب عليهم القيام به.
2- والتربية والتعليم والتثقيف العام (الصحف، الإذاعة، التلفزيون، دور النشر) مؤسسات اجتماعية يجب ان يقوم بها الناس أنفسهم بتوجيه من الحكومة، فإذا عجزوا قامت بها الدولة.
3- وتصنيع البلد أمر يناط بالناس أنفسهم تحت إشراف الدولة ولا تنتج من ذلك المضاعفات التي نتجت في الدول الرأسمالية، ذلك لأن الإسلام يحدد الثروات ويمنع الاحتكار، ويفرض الضرائب كما سبق الحديث في ذلك.
4- والتجارة الخارجية والداخلية أيضا من حق الشعب أنفسهم بعد ان تنظمها الدولة وفقا للمصالح العامة.
5- والزراعة كالتجارة ترتبط بالشعب، ومنها استغلال الثروات المعدنية.
وبصورة موجزة:
ان الدولة في الإسلام منظمة لأمور الناس وحافظة على توازنها، وليست غاصبة لحقوقهم مستقلة بشؤونهم.. نعم، إذا عجز الناس عن إدارة شؤونهم تتدخل الدولة وذلك إما بالاستقلال بها أو بإنشاء تعاونيات شعبية أو شركات عامة.. علما بأن أوامر الدولة في الإسلام مطاعة من قبل الناس.
فإتباع الجيش لأوامر القيادة ليس ذلك رغما على أنفه، بل وفقا لحريته، وخضوعا لما اتبعوه من تعاليم دينهم.
وفلسفة الإسلام في حصر مسؤولية الدولة في الأمور السابقة، يتلخص في ان تدخُّل الدولة في الشؤون الاجتماعية يوجب تحديد المجتمع وسلب حريته وخنق روح الابداع فيه، وأخيرا لا ينتج منه الا الضعف والعجز، كما انه يوجب تضخم مسؤوليات أجهزة الدولة، وتعقد علاقاتها، مما يسبب عدم قيامها بواجباتها الضرورية الهامة، كما نرى ذلك في أكثر الدول القائمة اليوم.
-----------------------
البحث الثالث - ميزات النظام الإسلامي
كلمة البدء
لقد بحثنا في فصل سابق الفلسفة العملية في الإسلام، وعرضنا الخطوط العريضة لأحكام الدين، وكان طبيعيا ان يشمل ذلك العرض شيئا من ميزات الإسلام، بيد انه لم يكن كافيا لفهم أدق وأوسع لأنه كان يفقد نوعا ما عنصر المقارنة. والآن، وبعد ان كملت جوانب الفلسفة العملية في المنهجين الإلهي والبشري، نود ان نعرض ميزات الإسلام عرضا موجزا وشاملا، بمقدار ما تسمح به صفحات هذا الكتاب لأن الموضوع يستدعي أسفارا ضخمة.
والميزات الرئيسية في الإسلام هي: ان الإسلام احق، وأجدر بالإنسان ان يتبعه، وانه منهج الله رب العالمين، وانه شامل لجميع نواحي البشر، وشامل لكل أفراد البشر، وشامل لكل أدواره ومراحل تطوره، وانه ينفذ احكامه وتعاليمه في حين لا يمكن غيره من تنفيذها، ينفذها بالإيمان والضغط الاجتماعي وقانون العقوبات وما أشبه.. وانه مجرب قد أوسع فهما ودرسا.
الحق
في الفلسفة النظرية حصلنا على تعريف دقيق للحق وهو: ان الحق هو (ما يطابق الواقع) وفي الفلسفة العملية عرفنا ان الإسلام، بما له من معارف تطابق فطرة الإنسان وتنسجم مع سنن الكون، هو الحق.. دون سواه.
وهذه ميزة للنظم الإسلامية.. لأن الحق يجب ان يتبع ومن يعارض الحق تكون عاقبة أمره خُسرا. وهذا أمر وجداني نذكر به عبر أمثلة.
1- الحق يقول: ان الله خالقنا الكريم أعرف بحالنا منا وأولى ان يتبع أمره وتنفذ شرائعه، والذي يخالف هذا الحق ماذا سوف يكون مصيره؟ أليس انه يتبع منهجا يضعه هو؟ منهجا ضحلا خاطئا يرديه ويحل عليه كل يوم قارعة جديدة؟
2- الحق يقول: ان نفس البشر تهوى الشر، ومن إتبع نفسه جرته إلى الفساد، وان عقله يهديه إلى الرشد ، ومن اتبعه بلغ السعادة، ومن خالف هذا الحق واتبع نفسه وأعرض عن عقله كانت عاقبته خسرا.
3- الحق يقول: ان الأخلاق الفاضلة وتحقيق الحرية البشرية يخلقان المجتمع الكريم، ومن خالف هذا الحق أبتلي بالمجتمع الفاسد.
4- الحق يقول: ان تيار الكهرباء مضيء، وان القنبلة الذرية تدمر. فمن اتبع هذا الحق استنار بالكهرباء وحذر من استعمال القنبلة الذرية، ومن أعرض عنه (فأعرض عن الكهرباء واستعمل القنبلة الذرية) أليس يخسر نفسه بغير جدوى؟
يقول الله سبحانه [أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمْ مَن لاَّ يَهِدِّي إِلآَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ] ؟ (يونس 35) .
--------------------
يوم الدين
__________
(1) - المصدر .
(2) - نهج البلاغة ، قسم الرسائل ،رقم 45 ، من كتاب له الى عثمان بن حنيف .(2/83)
عرفنا في فصل العقائد ان بعد الموت حياة باقية يثاب فيها المحسن ويعاقب المسيء ؛ [يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ](الزلزال 6-8) .
ولنقارن إذن بين الدنيا والآخرة. ان حياتنا الدنيا لا تتجاوز في أحسن الفروض السبعين عاما: نصفها نوم وطفولة ومرض وأعمال ضرورية لا نملك الا فعلها، والباقي (35) عاما.. ولنفرض اننا نستطيع ان نتمتع فيها بكامل التمتع بعيدين عن منهج الله سبحانه (وهو مستحيل طبعا)(1). فماذا يحدث؟
نخسر الآخرة التي ليس لها إنتهاء وانها حياة خالدة لا يمكن ان تحدد حتى بكلمة مليون ومليار أو ما شابه ذلك. (خالدين فيها أبدا).
وإذا خيرنا بينهما: فأي عاقل يبيع أكثر من مليون ومليار عاما وأكثر في سبيل 35 عاما فقط؟!
دع عنك ان عمر الدنيا كلها لا تساوي ساعة من متعة الآخرة ؛ انها متعة لا تقاس بالدنيا.. (فيها ما لا عين رأت ولا اُذن سمعت ولا خطر بقلب بشر)..
يقول الفيلسوف البريطاني برتراند رسل: (أنا لا اعتقد بالآخرة، ولكن حق على الذي يعتقد بها ان يصرف كل عمره في سبيل تحصيلها. ذلك لأن تسعين سنة لا قيمة لها ازاء حياة خالدة)(2). أليس من الأفضل ان نتبع الإسلام لنحرز حياة خالدة في الآخرة تطفح بالنعيم والآلاء؟
ولو فرضنا ان الإسلام يسبب لنا شقاء طويلا في الدنيا (وهو فرض غير واقعي طبعا)، أليس من الخير لنا ان نتحمل هذا الشقاء مثلما نتحمل متاعب ليالي الامتحان لنحظى بنعيم الأبد، كما نحظى بنجاح السنة؟
قال الله سبحانه: [إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَآئِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً * وَكَأْساً دِهَاقاً * لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ كِذَّابًا * جَزَآءً مِن رَبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً]( النبأ 31-36).
ان نسبة السبعين إلى ما لا نهاية، أقل من نسبة ساعة واحدة إلى عمر الأرض كلها.. فلو قيل لك: انك لو تعبت في هذه الساعة عشت مدى العمر سعيدا ، وبصورة عكسية لو تمتعت فيها شقيت مدى العمر.. ماذا سوف يكون اختيار العاقل الحكيم؟ ان الذين يتبعون أهواءهم من الماديين يخالفون ولا شك عقولهم التي تلومهم على ترك الحق والتعرض لعذاب الله الاليم.. ولكن هل ينفعهم الإنكار؟ هل ينقذهم من عذاب الله؟ ام يستطيعون خلودا في الدنيا وتمتعا بها؟
[قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوْا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ](الزمر15).
---------------
لكل مناحي الحياة
للبشر جوانب مختلفة: فله عقل وجهل، وله جسم وروح، وله حاجات ورغبات وتطلعات وغايات، وله فوق ذلك أطوار؛ فهو جنين في رحم أمه، وصبي في المهد، ويافع وشاب، وله علاقات بعائلته، وأهل بلدته، وأهل مهنته، وله مئات من الشؤون الأخرى..
والغريب ان كل ناحية من نواحي الإنسان ترتبط ارتباطا وثيقا بسائر نواحيه. فلجسمه تأثير على روحه وبالعكس لروحه تأثير على جسمه كما ان لعقله تأثيراً في هواه وبالعكس. والفرد يؤثر في المجتمع والمجتمع يؤثر في الفرد، وهكذا(3).
وليس في العالم نظام شامل لجميع هذه النواحي، ليس هذا ادعاء بل لم يأت نظام واحد يدعي انه يضع تعاليم للروح وتوجيهات للنفس وقوانين للمجتمع وأحكاماً للفرد و..و..و..
فالنظام الرأسمالي مثلا، لا يدعي انه شامل لتعاليم صحية أو خلقية أو بيتية أو ما اشبه؛ والنظام الاشتراكي وان ادعى الشمولية الا انه جعل أكثر أحكامه مستوحاة من ارادة الرؤساء المرتجلة القائمة على انكار وجود الروح والاخلاق السامية للانسان ولقد اثبتنا سابقا وجودهما ولم يبق الا الإسلام، الذي هو منهج للتفكير، وفلسفة للكون، وأحكام للجماعة، وتعاليم للفرد منذ ان يكون جنينا وإلى ان يصير ميتا، وتصحيح للسلوك وتهذيب للنفس و.. و..
وفي كل فصل يتعرض الدين لكل ما يمكن ان يقع من احتمالات وفروض(4).
وفي هذا عدة فوائد:
1- انه يبعث قوة في النظام الإسلامي حيث يغني الفرد من تجشم متاعب نظام آخر.
2- انه يجعل بناء حياته متكاملا وعلى نسق واحد ولا يكون أمره فرطا يناقض بعضه بعضا، كما نجده في الرأسمالية. مثلا: يؤمن بالله بينما لا يؤمن بشرائعه، ويؤمن بالإنسان بينما ينسى نظامه بعيدا عنه.. وهكذا..
3- وأخيرا انه يجعل النظام قويا يمسك بعضه بعضا. فمثلا: الإسلام يقول في فصل المعرفة: ان الخطأ في التفكير ناشئ من اتباع الهوى، وانه لابد لمن يريد الحق ان يخالف هواه.. وهو يقول في فصل الأخلاق: لابد من اتباع العقل بدل اتباع الهوى، ويضع كل المناهج الخلقية على أساس هذه الفكرة.. وفي فصل السياسة يقول: لابد ان يكون الرئيس تابعا لعقله وليس لهواه، ولابد ان يكون انتخابه من الناس في هدى عقولهم لا في ظلمات أهوائهم. وفي فصل العبادات: يجعل الصلاة والصوم والحج وما أشبه، وسيلة لدعم عقول الناس وطمس أهوائهم. وهكذا ان مثل الإسلام كمثل شجرة طيبة أصلها ثابت تتفرع وتتوسع وترتفع حتى تشمل العالم كله.
وكل حكم منه يرتبط بكل شؤون البشر، والأحكام الأخرى ترتبط بهذا الحكم.
----------------
لكل أفراد البشر
1- لا يصلح أي نظام في العالم ان يسود البشرية جميعا.. ذلك لأن النظام الرأسمالي انما هو منبثق من اهواء طبقة الأغنياء، وكل ما فيه موضوع لحمايتهم فقط. انه نظام الأغنياء ويضطر الفقراء إلى اتباعهم.
والنظام الاشتراكي منبثق من اهواء طبقة الفقراء (كما يقولون) ولا يخدم الا مصلحتهم فقط.. ولابد عندهم من سحق سائر الطبقات. ونظم الأرض كلها تميز طائفة على أخرى، سواء على أساس طبقي أو قومي أو إقليمي أو ما شابه.
2- ولا يمكن ان يأتي نظام يشرعه بشر ثم يكون شاملا لهم جميعا وذلك للأسباب التالية:
أ- ان الإنسان يتأثر بمحيطه وبيئته مهما حاول الترفع عنهما فإن اختياره لابد ان يتأثر بذلك ولهذا نرى ان المشرعين والفلاسفة في العالم ينطبع كل منهم بطابع محيطه و بيئته.
ب- ان الإنسان يتبع هواه، فهو ان كان يحب بلده رفعه في النظام درجة وان كان يهوى طبقة معينة مال إليها ميلة. وهكذا.. ومن هنا نجد طابع القومية أو الطبقية باديا على كل نظم الأرض.
ج- ان الفرد الواحد لا يمكنه ان يحصل على المقاييس الدقيقة التي تخضع لها الجزئيات الصغيرة في كل بلد، ولذلك فهو يضع حكما شاملا دون مراعاة حالات الاستثناء.. فيسبب ذلك شقاء طويلا.
__________
(1) - قال الله سبحانه: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا. راجع فصل (الإيمان بالله) في العقائد لتعرف ذلك جيدا.
(2) - راجع كتاب (في التربية) تأليف راسل.
(3) - وكان هذا سببا رئيسيا لغموض الإنسان؛ ذلك لأن التفاعل الموجود بين نواحي الإنسان المختلفة بعضها مع بعض لا يدع الفرد يختص ببحث ناحية معزولة عن سائر النواحي. وإذا أراد فرد واحد ان يعرف شؤون كل واحد من جميع النواحي حتى يكون طبيبا ومهندسا وقانونيا و.. و.. في وقت واحد، كان ذلك مستحيلا. راجع للتوسع كتاب (الإنسان ذلك المجهول) تأليف الكسيس كاريل.
(4) - في الإسلام: (واجبه ومندوبه) تعاليم للزواج وللنكاح وللحمل وللولادة وللرضاعة وللتربية وللتعليم وللتجارة وللعلاقات العامة.(2/84)
د- ان أنظمة البشر مادية تستوحي كل واقعها من المادة، وبما ان للمادة في كل منطقة وفي كل يوم شكلاً جديداً وصيرورة خاصة، فإن الأنظمة تتأثر في كل مكان بما لها من ملامح.. فمثلا: لا تعترف نظم الأرض بالعقل.. ولذلك فإنها تضع كل أحكامها على أساس المصلحة. والمصلحة تابعة لنوعية وسائل المعاش التي تختلف باختلاف الأماكن فيختلف النظام.
والإسلام يعترف بالعقل، ويستوحي منه كل أحكامه. و واضح ان العقل واحد في كل مكان ولا يخضع لببيئة دون أخرى، ولا لحالة دون حالة.. فحينما يقول النظام الغربي للكاذب: أصدق! لا يقوله الا بعد ان يرى مصلحته في هذا ولا تكون مصلحته في ذلك الا في أحوال خاصة. بينما النظام الإسلامي يقول للناس كلهم: أصدقوا وفي كل الأحوال، ويتوسل لذلك بعقولهم لا بمصالحهم المختلفة.. وهكذا.
والإسلام شريعة الله الخالق لكل العباد الذي لا يخضع في ظله شعب لشعب ولا طبقة لطبقة، مما يؤدي إلى اختلال التوازن ونشوب الأزمات.
الاسلام شريعة الله الذي لا يفضل أحدا ولا شعبا، ولا طبقة على غيرها.
شريعة الله الذي لا يتأثر بمحيط وبيئة.
شريعة الله العالم بكل المقاييس التي تخضع لها حياة البشر ولذلك فهي صالحة لأن تطبق على كل البشر على نحو مساو ودون قلاقل.
-------------
تطور الإنسان!
في واقع البشر جوانب ثابتة، وجوانب متطورة. فما يتعلق بروحه وعقله ورغباته وحاجاته وتصوراته وأخلاقه ووجدانياته فإنه لا يتغير.. أما ما يرتبط بكيفية بروز الرغبات وسد الحاجات وامتداد التصورات فهو الذي يتطور.
جوهر الإنسان والمقاييس العامة التي يخضع لها لا تتغير، فلا يمكن ان يكون هناك إنسان لا يحب نفسه أو لا يحب الخير أو لا يعرف ان الصدق والوفاء والايثار أمور حسنة.
وما سوى هذا الجوهر خاضع للتطور، ذلك لأن جوهر الإنسان ونظامه لا يرتبط بالمادة فلا يتغير. أما سوى ذلك فهو أمر مربوط بالمادة ولذلك يتطور بتطورها.
والنظم البشرية، تلاحظ مادية الإنسان، ولذلك فهي خاضعة للتطور والتغيير. أما أحكام الإسلام فهي موضوعة وفقا لجوهر الإنسان ومقاييسه الروحية ولذلك فهي لا تتغير.. وكما يصرح علماء القانون البشري - سواء الغربي أو الشرقي- ان نظمهم مستوحاة (على أفضل وجه) من ظروف البلد الذي يسن له القانون، فإذا تغيرت تغير القانون. أما الدين فيقول: (حلال محمد حلال أبداً إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة(1).
---------------
تنفيذ الأحكام
ويمكن ان يكون في النظام الغربي أو الشرقي (الجاهليين) قبسات ضوء أو ومضات خير، ولكنها لا تطبق الا في حالات نادرة. وماذا تغني لائحة حقوق الإنسان في مكتبة الأمم المتحدة، إذا ساد الشقاء، وعم العداء كل أرجاء العالم؟
المهم تطبيق النظام، والمهم ان يملك النظام ضمانا للتنفيذ وان تكون فيه صلاحية ذلك.
والسبب في عدم تطبيق نظم الأرض هي ثلاثة أمور:
1- إنها من صنع البشر أنفسهم وما صنعته يد البشر تنقضه يده أيضا.
2- انها لا تصلح في كثير من فروعها للتطبيق.
3- انها لا تملك قوة كافية للتطبيق ذلك لأنها في الواقع تعتمد على قانون العقوبات، الذي ان كان صحيحا - وهو غير صحيح - ، فهو غير كاف لما سيأتي.
أما النظام الاسلامي:
أ- فهو ليس من صنع البشر حتى يملك البشر نقضه. فليس هناك قوة في الأرض - ومنها قوة السلطة - تملك تغيير حكم الله. فالبشر يشعرون بالتضاؤل أمام قانون الله لأنه قد وضع من لدن حكيم عليم.
ب- أضف الى ذلك أنه صالح للتطبيق، وقد طبق في التاريخ مرات كثيرة. وقد استمد صلاحيته هذه من عدة أسباب:
1- انه يلائم فطرة الإنسان، فإذا هي تنسجم مع طبيعته إنسجاما عجيبا.. فهو مثلا: يحكم بما يهوى إليه العقل، ويشبع رغبة النفس ويسد حاجات الجسم.
2- انه ميسور باعتبار ملاحظته للضعف البشري وليس أدل على ذلك من ان الحكم مرفوع في الدين عن المكره والمضطر والمجنون والصبي والنائم والجاهل، وكل حكم فيه ضرر أو عسر أو حرج أو اختلال نظام فهو مرفوع.
3- انه مبسط ويستطيع أقل المسلمين فهما ان يطلع على ما يحتاجه من أحكام في عمره خلال أشهر معدودة.
ج- إن النظام الاسلامي يملك قوى كثيرة للتطبيق، ولابد ان نشير قبل بيان تلك القوى إلى ان النظام مهما كان شاملا فإنه يحتاج إلى قوة إجرائية أكبر من النظام نفسه.. والإسلام بما هو نظام كامل شامل وفيه مئات الآلاف من الأحكام فإن تنفيذه يدل على ان قواه الإجرائية أكبر وأعظم من كل نظام آخر.
والقوى الإجرائية في الإسلام هي:
1- الإيمان.
2- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
3- التربية.
4- الحدود والقصاص والديات.
ولابد ان نعرض كلا منها بشيء من التفصيل
1- الإيمان.
والإيمان بالله - المحيط علما وقدرة - وباليوم الآخر الذي يجازي فيه بالخير خيرا وبالشر شرا قوة لا مثيل لها في دفع الفرد إلى عمل الخير وتتميز عن غيرها بأنها:
1- تستطيع ان تهذب النفس من الداخل وتنظم مشاعر الإنسان وتحفظه من الحسد والحقد والجبن والقلق وما أشبه.
2- تتمكن من حفظ الفرد عن الخروج عن أحكام الله حيث لا مراقب ولا دولة ولا جزاء.
3- ان عمل الخير الصادر عن النفس المؤمنة يكون عملا متقنا باعتباره صادرا عن إرادة الفرد ورغبته وليس مكرهاً عليه.
وبصورة معكوسة تماما نجد القوانين البشرية (الجاهلية):
1- لا تتمكن من تهذيب النفس من الداخل، ولذلك يشيع القلق النفسي في الدول الغربية وتطفح النفوس بالعقد الجنسية والحضارية.
2- وهي لا تستطيع ان تنظم سلوك الفرد الداخلي فلا تستطيع مكافحة الاجرام الذي كثيرا ما يرتكب سرا.
ومن هنا فإن البشر عاجز عن توفير حياة طاهرة عن الإجرام لنفسه وان صرف المبالغ الطائلة.
3- وحيث ان الفرد يريد من الداخل الشر ويجبر على عدم فعله من الخارج، فإنه يعيش أزمة داخلية بإستمرار أو ينمو فيه بغض متزايد للشعب والقانون وينتهي بالعصيان والتمرد اللذين نجد نماذج منها في دول العالم الراقية اليوم.
2- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
صفة الحياء صفة فطرية في الإنسان. ومن هنا فالفرد تابع لمجتمعه وقليلا ما يخرج عن عاداته التي يعاب من خرج عليها.. والدين يستخدم هذه الصفة حيث يجعل العمل بأحكام الدين صبغة اجتماعية يعاب من تركها، وتبرز هذه السمة حينما يوصي الدين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويفرض على كل مسلم: ان يراقب الناس جميعا فإذا رأى مروقا أو خروجا على حكم ديني أو أخلاقي سارع إلى انكاره، أرأيت كيف يكون حال مجتمع كل أهله رجال أمن وشرطة؟.. ومن الطريف ان الآمر بالمعروف قد يكون مأمورا به غدا من قبل نفس الذي يأمره اليوم.. ذلك لأن المسؤولية في هذا الصدد تجري على الكل بصفة متساوية.. فالمؤمنون يتواصون بالخير.. وهذه القوة لا تبلغ في حجمها القوة الإيمانية ولكنها في نفسها قوة كبيرة إذ ان مراقبة الجماهير أقوى بكثير من مراقبة طائفة خاصة (كرجال الأمن والشرطة) في القانون البشري في حين انه لا يكلف الشعب مالا ووقتا ولا أي شيء آخر.
3- التربية.
والتربية (التي سبق الحديث حولها في فصل اصلاح الناس(2) عامل آخر مساعد لإجراء أحكام الدين..
__________
(1) - الكافي ،ج1، ص58 ، باب البدع و الرأي ، ح19 .
(2) - وهي: مجموعة تعاليم من شأنها تزكية النفس وتطهيرها عن الرذائل.(2/85)
ومع ان سائر النظم قد استخدمت هذه القوة الا ان ترابط نظم الدين وتفاعلها مع النفس الإنسانية لا مثيل لهما في النظم الأخرى. ولذلك فإن التربية في سائر النظم لا تستطيع خدمة النظم مثلما تفعله في الإسلام، بالإضافة إلى ان التربية الإسلامية تتميز بعدة سمات تجعلها أقوى من غيرها:
1- استخدام كافة الطاقات الكامنة في جوهر الإنسان كالعاطفة والعقل وحب الذات وحب الأقرباء وهكذا..
2- تقوية أواصر الأسرة والقرابة مما تؤثر في انطباع الفرد بخلقهم.
3- تنقية الجو المحيط بالأطفال بحيث يجعل الطفل لا يفكر مجرد تفكير في الجريمة. وقد لا نستطيع ان نعرف مدى تأثير التربية في تطهير نفس المؤمن وعمله من الرذيلة والجريمة، ولكن الواضح ان لها تأثيرا بالغا جدا.
4- العقوبة.
والعقوبة المفروضة في الإسلام.. ليست فقط تكميلا لنواقص الإنسان بل انها حصن منيع للمجتمع عن الجريمة أيضا.
والعقوبات الإسلامية التي تشمل كلا من الحدود والقصاص والديات تتميز بالسمات التالية:
1- انها لا تثبت بشبهة أو سوء ظن، بل تدرأ بالشبهات(1).
2- وبعد ان تثبت الجريمة ويثبت ان مرتكبها قد ارتدع عنها طوعياً، فللإمام ان يعفو عن صاحبها، فتحا لباب التوبة أمام المجرمين.
3- ولكن ان لم يثبت انه قد تاب، فمن المستحيل قبول الشفاعة فيه أبدا.
4- بما ان الجريمة يجب ان تحسم مادتها بعزم وإصرار فإن الإسلام يضع عقوبات مناسبة لكل جريمة دون ان يرحم المجرم.. ومن هنا كان قطع اليد والاعدام والقصاص في النفس والأطراف مشروعا في الإسلام. وقد ثبت ان وضع هذه القوانين الحاسمة هو العلاج الوحيد لقطع دابر الجريمة، وان تماهل القوانين الأخرى حول الجريمة هي التي سببت ازدياد نسبة الجريمة في كل بلاد العالم.
في حين ان انحسار مادة الجريمة عن المجتمع الإسلامي كان الى حدٍ ما بفضل هذه العقوبات.
--------------------
كلمة الختام
هذا هو الإسلام .. وهذه هي مزايا، أفلا يدعونا العقل و إيماننا بالحق إلى العمل على تطبيقه في واقع الحياة ؟
وحينما يقول القرآن الكريم: (اهدنا الصراط المستقيم) يشير إلى حقيقة هامة ،هي ان الإسلام فقط يمثل الطريق الوسط الذي لا تطرف فيه ولا انحراف، يجمع فيه كل محاسن اليمين واليسار ويرفض كل مساوئهما.. وهذه أمثلة في ذلك:
1- في مجال الفلسفة؛ لم يتطرف الإسلام إلى جانب الروح فينكر الجسد ولا إلى جانب الجسد فينكر الروح، بل قال بهما. كما لم يقل ان الإنسان خير محض ولم يقل انه شر محض (كما تطرف آخرون) بل قال بهما معاً.
2- وفي الاجتماع؛ كان التأكيد على التعاون وتحقيق نظامه ميزة من تطرف إلى جانب الجماعة ونسي الفرد. وكان تحمل المسؤولية والنشاط والابداع ميزة من تطرف إلى جانب الفرد ونسي الجماعة. وكان لتطرفهما مساوئ ولكن الإسلام جمع بين الميزتين، وقال: ان الفرد مسؤول في حين انه يجب عليه التعاون أيضا.
3- وفي الاقتصاد؛ توجد في الرأسمالية حرية ولا ضمان للفقراء ، وفي الاشتراكية ضمان بلا حرية، فجمعهما الدين وقال بالحرية والضمان معا.
4- وفي السياسة؛ كانت قوة التنظيم وشدة الانسجام وإطاعة الأوامر كلها من ميزات حكومة الحزب الواحد والديكتاتورية ؛ وكان البعد عن الخطأ واجتماع العقول والرضا والحرية من ميزات الديموقراطية، فجمعهما الدين وقال: لابد من إطاعة الرئيس وعلى الرئيس أن يستشير، وقال [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ]( آل عمران 159) . فهناك عزم من جهة ومشورة من جهة ثانية. ثم هناك حرية إذ ان الناس يتبعون قرار الرئيس بمحض إرادتهم التي اختاروا بها هذا الدين.
5- والإسلام لا يتطرف إلى جانب الدنيا فينسى الآخرة كما صنعته اليهودية ولا يعكس كما صنعته المسيحية في الرهبنة بل قال: (إعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لأخرتك كأنك تموت غدا(2).
وإذ نأتي على آخر ما ذكرنا من مزايا الإسلام فلا يعني اننا قد بلغنا فيها المنتهى، بل لا ندعي الا اننا قد عرضنا شيئا يسيرا منها.
نسأل الله ان يوفق العالم إلى تطبيق هذا الدين الذي ينقذهم من شقاء الدنيا وعذاب الآخرة.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
كربلاء المقدسة - العراق
25-6-1389 هجرية
====================
الفهرس العام
الفكر الإسلامي ... 1
مواجهة حضارية ... 1
كلمة في البدء ... 2
مقدمة الطبعة الرابعة ... 8
القسم الأول عن العلم والفلسفة ... 25
البحث الأول عن:المعرفة بين الإسلام والتصورات البشرية ... 25
العقل وتقييم الأفكار.. ... 29
العقل ومصادر الفكرة ... 37
البحث الثاني- نقد التصورات البشرية ... 66
أ- آراء في المعرفة ... 66
آراء في قيمة المعرفة ... 73
كانت والنسبية الذاتية ... 82
النسبية التطورية ... 87
البحث الثالث - العالم بين الرؤية الإسلامية والتصورات البشرية ... 100
المدخل ... 100
الديالكتيك فلسفة عامة ... 102
الفلسفة الميكانيكية ... 115
الإسلام وفلسفة النور ... 123
تعاريف لابد منها ... 128
القسم الثاني- العقيدة والإيمان ... 133
البحث الأول عن: الدليل إلى الله ... 133
كلمات في البدء ... 133
أي رب ندعو إليه ؟ ... 136
الدليل إلى الله ... 143
التذكر بالله ... 155
الإيمان بالله ... 173
معطيات الإيمان ... 178
البحث الثاني -الرسالة ... 190
الرسالة والرسول ... 190
بماذا يعرف الرسول ؟ ... 207
محمد رسول الله.. ... 210
شهادة الله ... 232
البحث الثالث عن: الولاية ... 234
(1) ... 234
الحاجة إلى الإمام ... 234
كيف نعرف الإمام؟ ... 247
ما هي مسؤولية الناس تجاه الإمام؟ ... 261
البحث الرابع- الحياة بعد الموت ... 265
الدليل على البعث ... 265
الجبر والاختيار.. ... 275
شبهات وردود ... 277
القضاء والقدر ... 281
الغاية من الخلق ... 283
القسم الثالث: الإنسان والمجتمع ... 288
البحث الاول:النظريات المادية و الانسان و المجتمع ... 288
كلمة في البدء ... 288
النظام الاجتماعي ... 290
آراء وملاحظات ... 297
أرسطو ... 298
البحث الثاني - الإسلام والإنسان والمجتمع ... 314
كلمة في البدء ... 314
المجتمع الإسلامي ... 316
الاقتصاد الإسلامي.. ... 323
الأخلاق الإسلامية ... 330
السياسة الإسلامية ... 339
البحث الثالث - ميزات النظام الإسلامي ... 348
كلمة البدء ... 349
يوم الدين ... 350
لكل مناحي الحياة ... 352
لكل أفراد البشر ... 354
تطور الإنسان! ... 355
تنفيذ الأحكام ... 356
كلمة الختام ... 361
__________
(1) - قال الرسول (ص): (تدرء الحدود بالشبهات).
(2) - وسائل الشيعة ، ج12 ، كتاب التجارة ، ابواب مقدماتها ، الباب 28 ، ص49 ،ح2 .(2/86)
الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال المستقبل
(3)
الباب الثالث
الحضارة الإسلامية آفاق وتطلعات
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الباب الثالث
الحضارة الإسلامية آفاق وتطلعات
المؤلف: سماحة آية الله السيد محمد تقي المدرسي
المقدمة
ما أن يخطر ذكر الحضارة على أذهاننا حتى تهفو قلوبنا، إلى ظلها الوارف، وتحن أرواحنا إلى أجوائها المفعمة بالتقدم والتطور، وتميل نفوسنا إلى ذكرها الطيب لما ترفل به من النعم والخيرات.. غير أن الحضارة بما فيها من روعة وجاذبية،لا تعني شيئاً من دون أن تكون واقعاً ملموساً.
هذا ما دفع البشرية منذ نشأتها إلى تحقيق هذا الطموح السامي، ولأجل ذلك بذلت جهود مضنية، حتى تمكنت من ذلك مرات ومرات.
وما شهدته البشرية على طول تاريخها من حضارات، بقيت آثار كثير منها شامخة إلى يومنا هذا، وهي تحكي لنا قصتهايوم سادت كما تحكي لنا قصتها يوم بادت.
وإليها انشدت العيون ترنو معالمها، وتقرأ قصتها دون أي ملل يذكر.
ومن بين كل تلك الحضارات التي عاصرتها البشرية في حقب تاريخية متباينة، كان للحضارة الإسلامية شأن علا كل شأن، وفضل فاق كل فضل.. حيث فاضت على الناس بالقيم السامية، والأخلاق الفاضلة، والعلوم والفنون الرائعة..واستمرت على هذا المنوال سنينن وسنين حتى جاء أجلها لما ابتعد المسلمون عن مناهج الوحي وهدى الشريعة،وتمادوا في حب الدنيا، والانغماس في شهواتها.. عند ذاك حلت بهم الانتكاسة، فخسروا ما كانوا فيه ينعمون.
فبعد ذاك العز عاشت الأمة الهوان، وبعد ذاك الشموخ عاشت الأمة الانحطاط، وبعد ذاك التقدم عاشت الأمة القهقري..
وراحت السنوات تطوي أيامها، والأمة على هذا الحال لم تستطع أن ترفع رأسها مرة ثانية. وإذا بأصوات رقيقةأخذت تخرج من حلقوم الأمة تنادي بأمجادها، معترضة على ما ألم بها من تخلف. وما برحت هذه الأصوات أن ترتفع وترتفع لتسمعها كل أذن، معلنة أن لا نجاة من المآسي والويلات، والفقر والحرمان، والظلم والاضطهاد.. إلا بالعودة إلى حضارة الإسلام.
وبالرغم من عمق التخلف وشدة الانحطاط اللذين لم يسمحا للأمة بالنهوض من جديد على وجه السرعة، مع ذلك لم ييأس المؤمنون بالعودة إلى الحضارة الإسلامية من أن يستمروا في إثارة العزم والارادة والنشاط في أبناء الأمة،ويدفعون بهم باتجاه الحضارة المنشودة عبر خطاباتهم وكتاباتهم ومشاريعهم.. دون أن يثنيهم شي ء عن هدفهم هذا. إذلابد لليل أن ينقضي، وينبلج الصباح بضياء حضارة الإسلام.
وفي هذا الاتجاه تحدث سماحة آية اللَّه السيد محمد تقي المدرسي كثيراً عن معالم الحضارة الإسلامية ونشأتها وظروفها،كما تحدث أيضاً عن أسباب انتكاستها وانحطاطها، بالاضافة إلى أنه قارنها بغيرها من الحضارات والمدنيات.. ولما رأيناجمعها في كتاب يخدم الأمة في مسيرتها الحضارية، بادرنا إلى ذلك، مستمدين العون من اللَّه تعالى، واللَّه هو ولي التوفيق.
القسم الثقافي في مكتب
سماحة آية اللَّه السيد محمد تقي المدرسي
طهران- 20/ ذي الحجة/ 1423ه
=============
الفصل الأول -رؤى قرآنية في الحضارة
العلاقة بين الدين والحضارة
من البحوث المثيرة للجدل والنقاش؛ البحث عن العلاقة بين الدين والحضارة، وفي هذا المجال فجّر (ماكس فيبر) قبل عدة عقود من الزمن قنبلة صوتية متأثراً بالأجواء العلمانية السائدة في فرنسا والتي كانت الدافع له في بحوثه الاجتماعية، فادعى أن الدين عائق دون التقدم البشري، والتطوّر الحضاري. وحاول أن يستدل على صحةفكرته هذه ببيان أن أوروبا لم تستطع التخلص من التخلف إلا بعد أن تحررت من هذا العائق، وأن المسلمين الأكثرالتزاماً بدينهم هم الأكثر تخلفاً وبعداً عن الحضارة.
ولكنّ البحوث التي أسهمت في تطويرها مجموعة كبيرة من علماء الاجتماع دلّت بما لا يقبل الشك أن الدين ليس معوّقاًللتقدم الحضاري، بل إننا نجد في أكثر الديانات حوافز وبواعث تدعو إلى التطوّر الحضاري.
الدين ليس معوّقاً
وكمقدّمة لبحث معالم الحضارة الربانية، نريد إلقاء بعض الضوء على هذا الموضوع الشائك. فلا ريب أن هناك بعض المعوّقات في بعض الديانات، ولكننا عندما نعود إلى جذور هذه الديانات نجد أنها في الأغلب نقية من تلك المعوقات،وأن الأفكار المنحرفة تحوّلت إلى جزءٍ من تلك الديانات بفعل مرور الزمن، وهذه الظاهرة لا تقتصر على الديانات؛ بل تنسحب أيضاً على المذاهب الفلسفية التي يعتقد بها البعض، الأمر الذي يطرح تساؤلاً؛ وهو: لماذا نجد أن الدين في بدايةانطلاقه وانبعاثه يوصي بالسعي، والتحرك، والحماس، والإيثار، ولكن هذا الدين ذاته يتحوّل شيئاً فشيئاً في ذهن معتنقيه إلى سبب للتخلف، وعامل للجمود والسكون؟
الإسلام فجرّ طاقات التقدم
ومن أجل الإجابة على هذا التساؤل لا بأس أن نضرب مثلاً من واقعنا -نحن المسلمين- فنحن نعلم -كما يشهد بذلك العالم بأسره- أن الإسلام فجرّ في ضمير الإنسانية طاقات التقدم، والتطور، وأعطى البشرية شحنات حضارية قوية ماتزال أمواجها تنير الدرب أمام كل من يريد التقدم، واليوم لم يعد هناك أحد في هذا العالم سواء كان غربياً أم شرقياً،مؤمناً أم ملحداً، مسلماً أم غير مسلم، ينكر هذه الحقيقة، لأنها فرضت نفسها على التاريخ.
صحيح أن الكنيسة من جهة، والمستشرقين والملحدين والعلمانيين من جهة أخرى حاولوا أن يلصقوا بالإسلام تهماًمعينة، وأن يغمطوا حقه؛ بل إن بعضهم حاول أن يسند التقدم الذي حدث لدى المسلمين إلى بعض العوامل الجغرافيةوالتاريخية، كفكرة الدورات الحضارية وما إلى ذلك، ولكننا عندما نقرأ اليوم كتاباً لأحد المستشرقين أو عندما نطالع نصوصاً لعلماء كبار في المسيحية، أو حتى عندما نقرأ توصيات وقرارات المجامع المسيحية الكبرى مثل الفاتيكان نجد أن تلك التهم قد ذابت ولم يعد لها صيت.
مفارقة فهم القرآن
وبناءً على ذلك؛ فإن الدور الذي لعبه الدين الإسلامي في تقدم المسلمين يعدّ حقيقة تاريخية لا يشك فيها اثنان ممّن أوتيا نصيباً من العلم، ولكن البعض هنا وهناك يتخذون من الإسلام وسيلة لتبرير جمودهم وتقاعسهم، وتبريراًلكسلهم وتفرّقهم وبالتالي تخلّفهم، فلماذا هذه المفارقة؟
فالقرآن هو نفسه القرآن الذي كانت الآية منه تفجر وتحرّك طاقات الملايين من البشر في اتجاه العمران والتقدم، ولكن هذه الآية القرآنية نفسها عندما تتلى عليّ فإني استوحي منها حالة الجمود، والركود، والتقاعس، فكيف نستيطع أن نحلّ هذه المفارقة؟
عندما نطرح هذا السؤال على القرآن الكريم نفسه، نجد الإجابة الواضحة والصريحة عليه، ونكتشف أن هذه الإجابةمطابقة لما تحكم به عقولنا؛ ففي بعض الأحيان عندما تطرح على الآخرين لغزاً فإنهم يحتارون في كيفية حلّه، ولكنك عندما تقدم لهم حلّ هذا اللغز فإن الجميع سوف يؤيدونك، لأنهم سيدركون أن هذا الحلّ هو الحل المتناسب مع ماتقتضيه عقولهم، فكيف نستطيع حلّ اللغز المشار إليه؟
إن الجواب نجده في القرآن الكريم، وخصوصاً في الآية التالية التي جاءت بعد بيان التوجه الإيماني عند جيل من الأجيال.
(فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً)(مريم/59)(3/1)
ولا بأس أن نذكر في هذا المجال آيات أخرى تحل مشكلة أساسية ليس في حقل العلم والمعرفة فحسب؛ وإنما في الحقل الاجتماعي، والتبريري والشخصي. ففي سورة مريم يقول القرآن الكريم بعد ذكر مجموعة من الأنبياء ابتداءً من إبراهيم،ثم يعقوب، وإسحاق، وموسى، وهارون، وإسماعيل، وإدريس عليهم السلام: (اُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وإِِسْرَآئِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً)(مريم/58).
وفي آية أخرى نقرؤها في سورة الحديد، يقول تعالى: (لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ )(الحديد/10)، ويقول عز وجل موجّهاً خطابه للمؤمنين: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِ )(الحديد/16).
وهذا هو النصف الأول من الآية، أما النصف الثاني فهو: (وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ اُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ).
هبوط روح الحضارة عند اتباع الأديان
وهذه الفكرة نجدها في مجموعة أخرى من الآيات وخصوصاً في قصة بني إسرائيل والتدرّج الحضاري الذي سلكوه،ومن هذه الآيات نستنتج أن الإنسان في بدء نزول القرآن عليه أن يتلقى الوحي من قبل مجموعة إيمانية مخلصة ونزيهة،وهؤلاء يتلقون الوحي بفطرتهم، ويتفاعلون معه بهذه الفطرة النقية، ولكن الروح الحضارة لا تلبث أن تخبو فيهم شيئاًفشيئاً بسبب طول الأمد، وبسبب خشيتهم من الجهاد في سبيل اللَّه تعالى وركونهم إلى الدنيا.
ومن هذا المنطلق؛ فإن هناك الكثير منا يبدؤون بتفسير الآيات القرآنية تفسيراً مختلفاً، ويغيّرون الكلم عن مواضعه؛فهم لا يغيّرون الآيات نفسها، وإنما يغيّرون تفسيرها، ويؤوّلونها تأويلات متطابقة مع أهوائهم وميولهم، ويحاولون أن يفتشوا عن آيات متشابهة يتبعونها، ويتركون الآيات المحكمة الصريحة.
والأدهى من ذلك أن ظاهرة أخرى أكثر خطورة تنتشر بينهم، وهي أنهم يتوارثون بعض أفكارهم المتخلّفة، ثم يضفون عليها القداسة، كأن يخلطوا الدين بالتراث، في حين أن الدين يمثل برنامجاً واضحاً، فكل ما يوصي به يسمى ديناً، وأماما يطبّقه الإنسان من سيرة السلف والأولين فهو ليس بدين، بل هو تطبيق ديني لفترة معيّنة من التاريخ. وبناءً على هذا فإن علينا أن لا نجمد على سلوكهم، ونستنبط من هذا السلوك الأحكام الشرعية، لأن هذا العمل يمثل خلطاً بين الدين والتراث.
وقد جاءت الكثير من الآيات القرآنية لتحارب هذه الرؤية المتحجّرة، كقوله تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ )(الاعراف/ 32)، وقوله: (أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاًوَلاَيَهْتَدُونَ )(البقرة/170).. فلماذا -إذن- نتبع آباءنا، ونجمد على سلوكهم وسيرتهم والقرآن يقول:(تِلْكَ اُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ )(البقرة/141)؟ فتلك أمة ونحن أمة، وذلك جيل ونحن جيل آخر، (والناس - كما يقول الإمام علي عليه السلام- بزمانهم أشبه منهم بآبائهم )(1).
إننا -للأسف الشديد- لم نأخذ الدين من مصادره الحقيقية المتمثلة في القرآن، والأحاديث الشريفة، بل ورثناه وراثة،في حين أن الإسلام يحرّم علينا التقليد في أصول الدين، ويأمرنا بتحكيم عقولنا في هذه الأصول، وأن نحذر من أن نخلطبين الدين والتراث، ونفسر هذا الدين تفسيراً خاطئاً حسب الهوى لتقسوا قلوبنا بعد ذلك، ويطول عليها الأمد.
وإذا ما عدنا إلى التاريخ؛ سنجد أن الآية القرآنية عندما كانت تنزل في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فإن هذه الآية كانت تفجّر في نفوس المسلمين ينابيع الحنان، والخوف، والخشية، فتحرّك فيهم كل المشاعر الخيّرة، وتبعث فيهم الحوافز الإيمانية، أمانحن فإننا نسمع أو نقرأ نفس الآية دون أن نبالي بها وكأن اللَّه تعالى عنى بها غيرنا ولم يقصدنا!
قسوة القلب
لقد ابتلينا بحالة قسوة القلب، كما يشير إلى ذلك القرآن الكريم في قوله: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً)(البقرة/74)، موجهاً خطابه إلى بني إسرائيل الذين كانوا قبل ذلك مفضلين على العالمين بشهادة قوله عز من قائل: (يَا بَنِي إِسْرآئِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ )(البقرة/47). ولكن نفس هؤلاء القوم قست قلوبهم بعد ذلك فإذا هي (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ)(البقرة/74). نعوذ باللَّه من قسوة القلب.
ونحن إذا أردنا أن نرى ونلمس التخلف والجاهلية والركود بصورة مركّزة، فإن بإمكاننا أن نراه في قسوة القلب؛ فعندمايقسو القلب، يتوقّف الزمن، ويتخلّف الإنسان، ويتوغّل في الجهل والجاهلية.
وعندما ترين القسوة على القلب يصاب الإنسان بحالة سلبية أخرى هي حالة (التأويل )، فيعد إلى تأويل الآيات التي تتنافى مع مصالحه ورغباته وأهوائه، كآيات الجهاد، وآيات وصف العذاب الشديد في الآخرة، أما آيات المغفرة والرحمة فتراه يتشبث بها؛ فهو يؤمن ببعض الكتاب، ويكفر ببعضه الآخر كما يقول تعالى: (الَّذِينَ جَعَلُواالقرآن عِضِينَ * فَوَرَبِّكَ لَنَسْاَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ )(الحجر/92-91)، ويقول: (أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَتَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ )(البقرة/87). فالرسول الذي يعجبهم يأخذون بمنهجه، والرسول الذي لا تهواه أنفسهم يستكبرون عليه، بل ويقتلونه.
وهناك ظاهرة أخرى من ظواهر عدم فهم الدين، والجمود على سيرة الأولين، ألا وهي الإضافات والبدع التي يشيرإليها تعالى في قوله: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ )(الحديد/27)، فهذه الحالة البشرية التي أضيفت إلى الثقافة الإلهية هي المعوق، لأنّ التاريخ في حالة تغيّر مستمر، وإذا ما التزمنا بنفس الثقافة التي كانت سائدةقبل ألف سنة فإنها ستتحول إلى أكبر معوق لحركة التاريخ.
متى يعوّق الدين التقدّم؟
إن النتائج التي توصّل إليها (ماكس فيبر) صحيحة من جهة، وعلى سبيل المثال فإن الديانة المسيحية في القرن السادس عشر كانت كتلة من الأفكار المتخلّفة، ونحن نعلم جميعاً ما فعلته محاكم التفتيش في أسبانيا، وكيف أنهاكانت تعاقب بالقتل والحرق من كان يقول أن الأرض كروية أو أن الشمس هي مركز منظومتنا لا الأرض وما إلى ذلك، وكمثال آخر فإن المنطق الكلاسيكي؛ أي المنطق الأرسطي كان يعدّ جزءاً من الدين المقدس، فإن تجرأ أحد وقال:إن هذا المنطق ليس صحيحاً بادروا إلى قتله وحرقه.
وبالطبع فإن مثل هذا الدين يعتبر عائقاً لحركة التقدم، ولكن هل كان هذا الدين ديناً إلهياً، أم كان عبارة عن مجموعةمن الأفكار المتخلّفة الرجعية سمّيت باسم الدين، وأضفيت عليها القداسة بالباطل؟
الجوانب المشرقة من الدين(3/2)
أما علماء الاجتماع الآخرون الذين رأوا أن الدين ليس معوّقاً فحسب، وإنما هو محفز وباعث إلى الحضارة فقد نظروا إلى الجوانب المشرقة من الدين، وهنا لا بأس من أن أبيّن فكرتين:
1/ ماذا نعني بقولنا (الجوانب المشرقة من الدين )؟
الجواب: إننا إذا راجعنا آيات الاجتهاد والسعي والتحرّك والحيوية والتعاون والتنظيم والعقلانية.. فإننا سنجد أن هذه الآيات هي كتلة من الحضارة، وأنها ينبوع التقدم.إن علماء الاجتماع الذين نفذوا إلى أعماق الدين وجدوا فيه ذلك الجوهر النقي، فقرروا على ضوء ذلك أن الدين يعد أكبر محفّز للإنسان على العمل، والنشاط والسعي والتحرّك من أجل بناء الحضارة.
2/ الفكرة الثانية تتمثل في كلام أورده المفكر الغربي المعروف (هاملتون جيب ) الذي يعتبر مرجعاً في فهم المجتمعات الإسلامية اليوم، وهو أن علماء الدين في العالم الإسلامي هم الوحيدون القادرون على بعث الحضارةالإسلامية وتجديد المجتمع في البلدان المسلمة. ويستدل على ذلك بدليل يستحق الاهتمام والملاحظة، وهو أن الدين عندما يكون باعثاً فإنه سيكون عاملاً إيجابياً، وإلا فسوف يكون باعثاً سلبياً يقف أمام تقدم المجتمعات.
ولا شك أن علماء الدين قادرون على أن يحركوا البواعث الكامنة في النفوس من جهة، وأن يبينوا للناس ذلك الدين الحقيقي الذي يبعث على التطوير من جهة اخرى.
الثورة في النفوس
وهنا تحضرني كلمة لأحد علماء الحضارة، ذات حدين ويرى بموجبها ضرورة إحداث ثورة في عمق الدين، أي الثورةفي الدين نفسه، أو بتعبير آخر؛ إحداث تغيير في الجانب النظري من الدين. وبالطبع فإني لا أؤيد هذا العالم في أن التغييريجب أن يكون منصباً على الجانب النظري من الدين، لأني أرى أن النظرية الدينية هي نظرية متكاملة لا تحتاج إلى ثورة، بل إننا نحن من يحتاج إلى القيام بثورة في نفوسنا لنفهم الدين من جديد، وهذا هو الفرق، لأن هذا العالم يقرّر ذلك بصفته شخصاً علمانياً، في حين أن الدين لا يحتاج إلى ثورة، فالقرآن يبقى نفس القرآن ولكننا بحاجة إلى أن نرتفع إلى مستوى فهمه.
مسؤولية الدفاع عن الحضارة
البند الآخر من بنود الحضارة يتمثل -كما نستوحي ذلك من سورة المائدة- هو ضرورة أن يتحمل الإنسان مسؤوليةالدفاع عن الحضارة، فإذا دهمك خطر ما فإن أمامك أحد أمرين؛ فإما أن تهرب من هذا الخطر، وإما أن تقف في مواجهته، وتدافع عن نفسك. وننظر في هذا المجال إلى الآيات القرآنية التي تضرب لنا الأمثال، وتبين لنا حقائق غامضةعنا، بلغة فطرية مفهومة من خلال إيراد قصة تاريخية هي قصة بني إسرائيل: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَآءُ اللّهِ وَأَحِبَّآؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم )(المائدة/18).
والآية السابقة تقرر فكرة المسؤولية، فلا يوجد إنسان يقول إنه ليس مسؤولاً عن أعماله، لأنه مسؤول مهما كانت انتماءاته الدينية؛ وفي هذا يقول عز من قائل: (بَلْ أَنْتُم بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَلِلّهِ مُلْكُ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)(المائدة/18)
ولكن هذه المسؤولية بحاجة إلى أن تتكرّس ضمن أسس للدفاع عن النفس، كما يشير إلى ذلك سبحانه في قوله:(يَآ أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُوا مَا جَآءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْجَآءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ * وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُم مُلُوكاً وَءَاتاكُم مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ )(المائدة/20-19)
وهذه هي الحضارة التي أنعم اللَّه جل وعلا بها على بني إسرائيل، ولكنها كانت بحاجة إلى الدفاع، ولذلك قال لهم تعالى على لسان النبي موسى عليه السلام: (يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ )(المائدة/21)، ولكنهم تخاذلوا عن الدفاع قائلين: (قَالُوا يَا مُوسى إِنَّ فِيهَا قَوْماًجَبَّارِينَ وإِنَّا لَن نَدْخُلَهُا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنْتُم مُؤْمِنِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَدْخُلَهَآ أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلآ إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ *قَالَ رَبِّ إِنِّي لآ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ )(المائدة/25-22)
والنتيجة الطبيعية لهذا السلوك المتخاذل هي أن الذي لا يستعد للدفاع عن حضارته، ومواجهة التحديات، لابد أن يعيش في التخلّف (التيه ) كما يشير إلى ذلك تعالى في قوله: (قَالَ فإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةًيَتِيهُونَ فِي الأرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ )(المائدة/26).
الدين حافز على التطوير
وعلى هذا فالدين حافز على التطوير، وإذا ما رأينا أن الدين يتحوّل عند البعض إلى معوّق؛ فإن فهمه لهذا الدين لابدوأن يكون قد اختلط بالمفردات التالية:
1- التراث
2- تحريف الدين
3- تأويل القرآن بالرأي وقسوة القلب.
ونحن إذا أردنا أن نتطوّر، فلابد أن نقوم بثورة في فهمنا للدين، لا في الدين نفسه، ومن أبرز معالم الدين المسؤولية؛ فكل واحد منا مسؤول عن عمله ومحاسبٌ عليه، صغيراً كان أم كبيراً، مسلماً كان أم غير مسلم.
وعلينا أن لا ننسى في هذا المجال أن نتخذ من مبدأ (الشك ) منهاجاً في التعامل مع نظرتنا إلى الدين، فالواحدمنا ينبغي أن يسأل نفسه دائماً: من يقول إن الأفكار التي أحملها عن الدين صحيحة كلها، فلعلّي اتبع التراث وأقلدالآخرين تقليداً جاهلاً في صياغة هذه الأفكار؟
ولذلك؛ كان لزاماً علينا -إذن- أن نعود إلى القرآن الكريم، والسنة الشريفة وإرشادات الفقهاء عودةً واعيةً، ونحذر من أن نتبع مجموعة من المكررات والمرتكزات التقليدية الموروثة التي قد لا تكون صحيحة، وقد تكون مختلطة بأفكارمتخلفة منحرفة وأفكار رجعية لا تتناسب مع متطلبات ومقتضيات عصرنا التي تختلف بالتأكيد عن تلك التي كانت سائدة في العصور السابقة.
==============
الإيمان والبواعث الحضارية
(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ *أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ )(التين/8-1)
ما هي العلاقة المثلى بين الدنيا والآخرة؟ وكيف يجب على الإنسان المؤمن أن يجعل إيمانه بالآخرة متصلاً بحركته بالدنيا ،وحركته بالدنيا مرتبطة بإيمانه بالآخرة ؟(3/3)
إن الناس حيال هذا الأمر على عدة أقسام؛ ففريق منهم يفصل بين الأمرين؛ بين حياته في الدنيا وحقيقة الآخرة، فتراه-مثلاً- حينما يدخل المسجد يجد نفسه في روضة من رياض الجنة وفي رحاب الآخرة، فهو يتعبد ويذكر اللَّه كثيراًويلجأ الى اللَّه ليخلصه من عذاب نار جهنم، إلا أنه سرعان ما تتغير سلوكياته وتوجهاته القلبية بخروجه من المسجدوهو يذهب إلى خضم الحياة.. إلى السوق.. المعمل.. المدرسة ..، فيتحول -نعوذ باللَّه- إلى إنسان ماكر وكائد، يلهث وراء زخرف الحياة الدنيا، ناسياً حينها أحكام الشريعة وقيم السماء السامية.. إنه يدخل إلى الحياة الدنيا دون أن يلزم نفسه برادع أو كابح .
وفريق آخر من الناس ، تجده يترك الدنيا ويتجه إلى الآخرة، ويزعم أنه لو وجد صومعة في أعلى جبل وترهبن فيهاذاكراً وصائماً، قائماً وقاعداً، متوجهاً إلى البارئ تعالى، فإن هذا العمل سوف يقربه إلى اللَّه سبحانه ويحصل على السعادةالحقيقية.
والفريق الثالث تلحظه تاركاً الآخرة مطلقاً، فهو لا يرى حتى باب المسجد، وقد وضع القيم وآيات الكتاب المجيد وراءظهره، فيهرب من ( قيود) قيم السماء كهروبه من الأسد.
إن هذه الفرق والأقسام الثلاثة من الناس كلهم سوف يكونون إدام النار وحطب نار جهنم؛ فالذي يترك أهله ومجتمعه جائعين ويدع أمته عرضة لصولات وجولات العدو المستكبر، ويلتجئ إلى كهف أو صومعة أو.. مثل هذا الإنسان يكون أقرب إلى عدم التقيد والالتزام بحقائق القيم السماوية وإن تمسك وتنسّك بظاهرها وقشورها.
إن اللَّه سبحانه فرض على الناس واجبات وفرائض، كالجهاد والكد على العيال، كما أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. وهذه الفرائض هي من صميم القيم الإلهية التي سنّها سبحانه لتحقيق سعادة الناس في الدنيا والآخرة معاً.
وفي هذا المجال يروى أن الإمام الحسين عليه السلام لدى خروجه إلى كربلاء دعا بعض أهل المدينة للحاق به والوقوف أمام ظلم وفساد يزيد وبني أمية، فأجابه قائلاً: إن صلاة ركعتين في مسجد النبي أثوب عندي من أن أخرج معك!؟.. إن هذإ؛ّّالكلام بعيد عن روح الدين وحقائق الواقع، لأن هذه الأماكن المقدسة كمسجد النبي والكعبة المشرفة، لم تسلم أيضاً من جرائم وبطش يزيد وزبانيته حينما اعتدت جيوش يزيد على الكعبة المشرفة ورشقوها بالمنجنيق فأخذ الدم يسيل في داخل المسجد الحرام، وانتهكت أعراض المؤمنين والمؤمنات في مدينة الرسول، حتى لم تسلم بنت في هذه المدينة حينهامن الاعتداء الجنسي!
إن هذا الشخص وأمثاله يتصورون أن مجرد الانصراف لأداء بعض الركعات سوف يضفي قدسيةً على الدين وقيمه، إنه وأمثاله ترك حمل السلاح وجعل فريضة الجهاد وراء ظهره متصوراً أن ذلك سوف ينجيه من نار جهنم.
التدافع سنة إلهية
إن اللَّه سبحانه وتعالى يؤكد في كتابه الكريم على حقيقة (التدافع ) كسنة إلهية، فيقول: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَ اللَّهَ لَقَويٌ عَزِيزٌ)(الحج/40). إن المساجد بحاجة الى رجال يدافعون عن حريمها وحرمتها، فاللجوء الى قمةجبل والانشغال بالعبادة وترك المجتمع يتضور جوعاً ويتعرض الى الجهل والاستعباد، إن هذا العمل ليس له قيمة عنداللَّه سبحانه.
وقد روي أنه لما توفي ابنٌ لعثمان بن مظعون فاشتد حزنه عليه حتى اتخذ من داره مسجداً يتعبد فيه، فبلغ ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم فأتاه فقال له: (يا عثمان؛ ان اللَّه تبارك وتعالى لم يكتب علينا الرهبانية، إنما رهبانة أمتي الجهاد في سبيل اللَّه..)(2) وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (سياحة أمتي الجهاد)(3)، فالدين الذين لا يتدخل في الشؤون الاجتماعية والسياسية للمجتمع لا يمكن أن يحقق أهدافه المرجوة، حتى النبي عيسى عليه السلام لم يكن ديدنه - كمايتصور البعض خطأ - الرهبنة وترك الدنيا ، بل إنها (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا)(الحديد/27).
إن الرهبانية التي يراها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم هي التوكل على اللَّه والدفاع المستميت عن قيم السماء، عبر الجهاد في سبيل اللَّه ومقاومة الظلم ومحاربة الأعداء. وهذا هو المعنى الحقيقي للرهبنة التي يقول فيها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (رهبانيةأمتي الجهاد).. أي أن قيمة التسامي والتقرب إلى اللَّه تكمن في جوهر التصدي لقيم الزيف والزيغ والباطل؛ بل حتى سياحة الإنسان المؤمن وفرحه واُنسه تكمن في الذود عن حريم الرسالة والدفاع عن حقوق المقهورين والمضطهدين.
ممارسات قشرية
إن هذا الفريق الذي يترك الدنيا ويتعبد بقشور الدين هارباً من لباب الدين وجوهره ومغزاه، هو أبعد ما يكون عن منهجية وسيرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وأهل بيته الأطهار الذين كانت حياتهم كلها تحدٍّ وتصدٍّ لأسباب الظلم والتعسف ،حتى نالوا جميعاً وسام الشهادة، فتقربوا واختصروا الطريق الى اللَّه سبحانه وتعالى.
أما الفريق الثاني الذي يفصل بين الدنيا والآخرة؛ فهو شعاره (ما للَّه للَّه، وما لقيصر لقيصر) و (ماللمسجد للمسجد، وما للسوق للسوق ) هذا التوجه وطريقة التفكير تصنع من المرء رجلاً ازدواجياً ومصلحياًيلهث وراء شهواته ليلتهمها، ثم يلجأ الى المسجد وأداء بعض قشور العبادات ليغطي على سوءاته، إنه يقول لك: انظر في المسجد ماذا يقول لك الخطيب، انظر الى إمام الجماعة كيف يركع ويسجد ويقوم، افعل كما يفعل الإمام، ولكن في السوق انظر ماذا تقول لك (البورصة)، وما الذي ينفعك فادخل فيه، ولا شأن لك بغير ذلك. إنه لا يهمه من صفقته التجارية فيما لو أضرّت باقتصاد البلد والمجتمع، إنه يتصور كأن السوق لا يحكمه قانون اللَّه.
إن اللَّه سبحانه لا يتقبل صلاة هذا الفريق فكيف بسوقه وتجارته، فالذي يصلي في المسجد ونيته الخروج منه لزرع الفساد والظلم في الأرض، هذا من الذين لا تقبل أعمالهم العبادية الظاهرية، لأن اللَّه سبحانه يقول: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ )(الماعون/7-4)فصلاة هذا الفريق لا قيمة لها، لأنها لا تنهى عن الفحشاء والمنكر.
أما الفريق الثالث الذي يخوض في الدنيا مع الخائضين ولا يهتم بالمسجد ولا بالأحكام والقيم الشرعية والإلهية؛ فهوالآخر سوف يؤول مصيره إلى نار جهنم، لأنه لا يهتم في الدنيا إلاّ بما يرضي شهواته وغرائزه الحيوانية الزائلة.(3/4)
يبقى الفريق الرابع من الناس، وهو الفريق الذي ينجو من نار جهنم ويضمن سعادة الدارين، هو ذلك الذي يجعل الدنيامزرعة لآخرته، وتصبح الآخرة هدف الدنيا بالنسبة له؛ بل يرى الحياة كلها بأبعادها وجوانبها المختلفة والمتعددة في محضر اللَّه سبحانه.. (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )(الانعام/162).. إنه لايفرق في كل حركة يقدم عليها بين الدنيا والآخرة، فهو يتحرك في الدنيا ببواعث الآخرة، وهذا الفريق من الناس هوالذي يسلك الطريق السليم والقويم الذي يشير إليه سبحانه في سورة (التين )، والتي تصور هذه السورةالمباركة معالم الحضارة الإلهية التي يبعث فيها الإنسان روح التحرك والفاعلية.. (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِسِينِينَ ) إنه سبحانه وتعالى يشير إلى المادة الحيوية والغذائية التي تنفع جسم الإنسان وتغذّيه وتطعمه ليتمكن بسببها من بناء معالم الحضارة الإلهية على الأرض. فالتين فهو من الفواكه الطيبة التي تقضي على كثير من الأمراض،كداء (النقرص ) أو يصطلح عليه ب ( داء الملوك ) والذي أصبح اليوم داء شائع بين الناس، فهوينظم حركة الدم في جسم الإنسان. وكذلك (الزيتون ) والذي يعتبر غذاءً وإداماً مقوياً لجسم الإنسان، وإن زيته مفيد للجسم دون إحداث مضاعفات، فزيت الزيتون لا يضر بكبد الإنسان، كما تضر الدهونات الأخرى، فلذاينصح الأطباء المرضى أو المصابين بارتفاع في نسبة (الكلسترول ) في الدم إلى تناول زيت الزيتون.
معالم الحضارة الالهية
إذاً، فالتين دواء والزيتون غذاء .. (وَطُورِ سِينِينَ ) أي ذلك الجبل المتوسط الذي انتشرت على روابيه أشجارالزيتون، لتشكل هذا المنظر الجميل الذي يوحي إلى اعتدال الهواء فيه ، لأن الزيتون لا ينمو إلاّ في المناخ المعتدل ..(وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ ) .. هو ذلك التجمع الإنساني الحضاري المتكامل الذي يكتنفه عنصر الأمن.
إن الأمن من العناصر الحياتية الضرورية التي تحتاجه كافة الكائنات الحية وبالذات الحياة البشرية ، فلو كانت لناحضارة متقدمة وراقية ولكن ليس فيها أمن، فما فائدة تلك الحضارة وصرحها الشامخ ؟ فلو قالوا لك مثلاً؛ هناك قصرمنيف جداً ولكن فيه (جن )، فحتى لو باعوه لك مجاناً، فهل على استعداد لتسكن فيه؟!
نتذكر أن أيام القصف الصدامي على عاصمة الجمهورية الإسلامية وبسبب توالي الصواريخ كان الناس يخرجون من المدينة ويتركون وراء ظهورهم البيوت الكبيرة والقصور والشوارع و.. ويلجؤون إلى القرى والفيافي بحثاً عن الأمان!
إذن، فاللَّه سبحانه هيأ للإنسان الفاكهة وهيأ له الإدام المناسب، ووفر له الموقع الحصين والجميل والرابية الخضراء(وَطُورِ سِينِينَ ) ومنحه الأمن والتعاون.. فكل هذه هي آلاء ونعم إلهية يقسم اللَّه تعالى بها بعد أن وفرهاجميعاً لمصلحة الإنسان.. (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ )، هذا الإنسان الذي يستطيع أن يحرث الأرض ويستنبتها ويطعم نفسه بالتين والزيتون الذي يحافظ على أمنه وأمانه من أسباب الخوف والرعب كالزلازل والحروب؛ إن هذا الإنسان خلقه سبحانه وتعالى خلقة قويمة ومتكاملة لا يعتريها نقص ولا يشوبها عوز، لقد منح بالعقل الذي هو قوام التطور والانطلاق لتشييد صرح حضارته البشرية، فهو يمتاز عن كافة الكائنات الحية الأخرى بالقدرة على التفكير وتطوير الأساليب والوسائل العملية والتعاون مع الآخرين لبناء مدنيته، وهذا مالم ولن تقدر عليه الحيوانات.
بين قوام الإنسان وتسافله
ولكن نفس هذا الإنسان القويم والمتكامل، بإمكانه - بين عشية وضحاها - أن ينزل إلى مستوى حتى دون مستوى الوحوش الكاسرة، فتراه يختلف مع زميله فيتراشق وإياه بالكلمات والاتهامات، فيتحول إلى نزاع، ثم إلى معركةيستنجد بها كل طرف بقبيلته أو جماعته، فتشتعل الحرب الضارية بين الطرفين، فتحيل الحضارة والمدنية التي شيدها إلى أنقاض ورماد. هذا الإنسان هو الذي يخرب بيته بيده فيتسافل بعد أن خلقه اللَّه سبحانه وتعالى عظيم الشأن والمنزلةإلى مرتبة أدنى من مرتبة ومقام الحيوانات، لأن الحيوانات قد تأكل بعضها بعضاً بحثاً عن رزقها وطعامها الضروري والحياتي، إلا أنها لا تنهش كياناتها وتجمعاتها، غير أن هذا الإنسان يتسافل في حيوانيته لينهش لحم أخيه ويدمروجوده وحضارته .. (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) .. ما هو العمل الصالح؟ فالبعض يفسره بأداء الصلاة أو الصوم أو الحج وباقي الفروع العبادية، إلاّ أنني اعتقد أن هذا إيمان وليس عملاًصالحاً، إنما العمل الصالح هو الذي له منفعة ومصلحة للأمة وللمجتمع. فالكاسب والكادّ على عياله الذي يذهب إلى السوق ويحترف التجارة ويحصل على المال الحلال فإنه يعمل عملاً صالحاً، فكسب المال إذاً كان الهدف منه إشباع العيال وخدمة المجتمع، فهو عمل صالح ويؤجر المرء عليه لما يقدم خدمة للمجتمع وللآخرين.
وقد روي عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: (من سعادة المرء المسلم الزوجة الصالحة، والمسكن الواسع،والمركب البهي، والولد الصالح )(4).
ومن كلام لأمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام بالبصرة، وقد دخل على العلاء بن زياد الحارثي -وهو من أصحابه- يعوده،فلما رأى سعة داره، قال: (ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا، وأنت إليها في الآخرة كنت أحوج؟وبلى إن شئت بلغت بها الآخرة، تقري فيها الضيف، وتصل فيها الرحم، وتُطلع منها الحقوق مطالعها، فإذاأنت قد بلغت بها الآخرة)(5).
وأتذكر في أخريات حياة المرحوم والدي رحمه الله كان يجتهد في بناء بيت لأحد الأقارب، وكان يهتم كثيراً بهذا الأمر وهوكبير السن قد تجاوز الثمانين، فقلت له: سيدنا! كيف تتعب نفسك وأنت في هذا العمر؟ فقال -رحمه اللَّه-: إنه ليس لي أجرفي الدنيا من ورائه، ولكن أريد أن يجلس الأقارب فيه ثم يترحّمون عليَّ بعد وفاتي.
إن الحياة التي ألفها المؤمنون سابقاً كانت مشفوعة بالتعاون والتواصل، فكان الناس ينظفون طرقهم بأيديهم - ولم تكن في السابق مديرية البلدية - وكان يضع كل منزل مشكاةً ومصباحاً فوق داره ليضي ء الدار وطريق المارة، وكانوايتسابقون في إماطة الأذى عن طريق الناس .. (وَلا تُفْسِدُوا فِي الاَرْضِ بَعْدَ اِصْلاَحِهَا)(الاعراف/56)
إنك ترى في بعض بلداننا كراسي حافلات نقل الركاب ملوثة وأعقاب السجائر مرمية هنا وهناك، وكأن الناس قدنسوا الحديث الشريف الذي قاله الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم: (النظافة من الايمان )(6).
الحضارة الالهية ؛ قمة الرقي المعنوي والمادي
إن بلادنا الإسلامية ينبغي أن تكون أرقى بلدان العالم على كافة النواحي والأصعدة كافة، سواء في مجال الصناعةوالزراعة والتكنولوجيا؛ بل يجب أن نحوز على الرقم القياسي في هذا المجال، وذلك لأن المؤمن هو الذي يعمر دنياه ببواعث الآخرة، لأن الدنيا في رؤيته مزرعة الآخرة، ولهذا نحن عندما نراجع مصارف الزكاة في سبيل اللَّه في الكتب الفقهية - ككتاب شرائع الإسلام للمحقق الحلي - نرى أنواع المصارف المتعددة لهذه الفريضة، كبناء القناطر والجسوروالطرقات والمدارس والمساجد. فالمسجد أو الجسر لا يختلف ثواب بنائه عن الآخر.
فإذا كان الإنسان الكافر والمشرك يعمر ويبني دنياه بدوافع مادية بحتة، فالمؤمن يعمر الدنيا بدوافع أخروية إلهية أيضاً.(3/5)
إن آباءنا وأجدادنا السابقين تمكنوا من أن يشيدوا مدنيتهم المادية بدوافع معنوية كبيرة، حتى ذهلت منها عقول العلماءالمعاصرين، فكانت كلها بدوافع إيمانية نبيلة، فتلحظ فيها كافة صور الإبداع والخلاقية، فتتعجب من دقة العمل وذوق التفنن، فترى الجسور التي بنيت على نهر اصفهان والمعروفة ب (33 جسراً) قد فاقت في إبداعها الجسورالحديثة رغم مرور مئات السنين على بنائها، بل قد ترى بعض الجسور الحديثة سرعان ما تتهدم لمجرد تعرضها لعارض بسيط.
من هنا، يجدر بنا في نهضتنا الحضارية أن لا نألوا جهداً في التزود الإيماني، مضافاً إلى الحصول على علوم الحياة.
وربنا سبحانه وتعالى يقول: (إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) يعني أن أجرهم لاينقطع، لأنه مبارك، وتستمر بركته إلى الأبد.. ( فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ )، إن عملك الصالح يجزيك اللَّه ازاءه خير الدنيا والآخرة.
==============
أسس الحضارة في القرآن الكريم
(وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوْا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّآ أُوتُواوَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَآ إِنَّكَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ* أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَروا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ اُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ اُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لاَيَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ )(الحشر/12-9)
في هذه الآيات الكريمة صورتان متقابلتان ومتناقضتان عن الإيمان والنفاق، ففي حين تشعّ صورة الإيمان في حدث تأريخي هام هو إيثار الأنصار للمهاجرين على أنفسهم بكلّ ما يملكون، وخروجهم من شحّ ذواتهم إلى رحاب القيم والمبادئ، تتجلى الصورة الثانية في حالة النفاق، والغلّ، والكذب، والدجل، التي كانت قائمة بين الكفّار من أهل الكتاب والمشركين أو المنافقين الذين وعدوهم بالنصرة ثم خذلوهم، وخانوهم.
إن في هاتين الواقعتين التاريخيتين؛ واقعة إيثار الأنصار وحادثة دجل المنافقين وكذبهم على أهل الكتاب من اليهود،ألفَ عبرة وعبرة لنا.
وفي الواقع؛ فإن الآيات القرآنية تحدثنا عن قضية معينة، ولكن من خلال أفق أوسع بحيث إننا لو استندنا إلى آية قرآنيةواحدة لاستطعنا من خلال منظارها أن نرى العالم كله. فعلى الرغم من أن الآية الواحدة تبين لنا حقيقة خاصة إلا أنهاتضمنت أيماءً وإشارة إلى سائر الحقائق الكونية، وهذا من معاجز القرآن الكريم.
والآيات التي أوردناها في مقدّمة هذا البحث يمكننا أن نستوحي منها القواعد التي لابد أن ننطلق منها لبناء صرح الحضارة الإسلامية الشامخ؛ بمعنى أننا لو استلهمنا من هذه الآيات كل معانيها السامية لاستطعنا أن نحوّلها إلى برامج عملية لقهر التخلّف الحضاري الذي نعاني منه.
ما هي الحضارة الحقيقية؟
والحضارة هي: حضور الإنسان عند الإنسان، وتعاونه، وتفاعله معه، ابتداءً من الحضور المادي وانتهاءً بالتفاعل المعنوي، ومروراً بالتعاون العملي، وهذه البنود هي التي تشكل قواعد الحضارة.
والقرآن الكريم لا يريد لنا أن نكون صوريين قشريين نتحدث فقط عن الإنجازات والمكاسب والبنى الفوقيةللحضارة، أو عن القشور الخارجية للتقدم، بل يريد منا أن نكون موضوعييّن، واقعيين، من ذوي الألباب؛ فإن تحدثناعن شي ء تحدثنا عن خلفيّاته، وعن أول نشأته، وعن طريقة نموّه وتكامله، ولا نكتفي بالحديث عندما انتهى إليه.
والقرآن عندما يحدثنا عن المجتمع الإسلامي الفاضل الذي بناه، وشيّد صرحه رسول الإسلام سيدنا محمدصلى الله عليه وآله وسلم في المدينة المنورة فإنه لا يحدثنا عن طبيعة البيوت، وطريقة تعبيد الطرق، ولا عن أسلوب بيعهم وشرائهم، بل يحدثنا عن أمر آخر؛ عن قواعد الحضارة، وتلك الروح الكبيرة التي استطاعت أن تستوعب شتات القبائل العربية المتناحرة التي كان شعارها الخوف، ودثارها السيف، والتي كانت تعيش في وضع متأزم، ويهدد الفناء حياتها، وكانت طعمة للغزاة.
ومع كل ذلك فقد حوّلهم رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم برسالة الإسلام، وبالقرآن الكريم الذي بين أيدينا إلى ذلك المجتمع الفاضل الذي يضرب به المثل في التقدم المعنوي والمادي.
قواعد الحضارة
ترى ما هي أسس وقواعد الحضارة التي يحدثنا عنها الخالق عز وجل في الآيات السابقة؟ أنها كما يلي:
1/ حبّ الآخرين
الأساس الأول هو حبّ الآخرين: (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ )، فعلى الرغم من أن الإنسان مفطور على الحسد، وحبّ الذات، وكره الآخرين، ولكن أولئك الأنصار كانوا يستقبلون المهاجرين بالحبّ قبل كل شي ء، وذلك عندما كانت وفود المهاجرين تتقاطر عليهم تاركة بلدها، وأموالها، وإمكاناتها الاجتماعية، وقادمة صفر اليدين، لايملكون من مال الدنيا شيئاً.
إن بإمكان الإنسان أن يصطنع الحبّ في قلبه، وبإمكانه أن يداهن، ويجامل الآخرين دون أن يكنّ الحبّ الحقيقي لهم. أمّاالحبّ النابع من أعماق القلب فهو شي ء آخر، إنه يدلّ على تحول في أعمق أعماق الإنسان ولذلك قال تعالى عنهم:(يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّآ أُوتُوا)؛ أي أنّ حبّ هؤلاء يسمو على كل علاقاتهم؛ فما قيمة الدار، وما قيمة الأثاث والمتاع، وما قيمة العلائق المادية الأخرى؟
2/ السموّ على الأمور المادية
إن الإيمان هو القيمة الأسمى، فنفوسهم كانت تسمو على الأمور المادية، وعندما كانوا يدفعون مقداراً من المال، أويتنازل الواحد منهم للمهاجرين عن الأرض والدار، أو عن زوجته الثانية من خلال تطليقها ليتزوّجها المهاجر، فإنه مع ذلك لا يستعظم ما قدّمه، ولا يرى قيمة له، فلا يلحق بما قدم مَنّاً ولا أدىً.
3/ الإيثار على النفس
الصفة الثالثة تتمثل في قوله تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)، وهذا هو منتهى العطاءوالجود في سبيل اللَّه تعالى.
4/ إيقاء النفس من الشح
وتلك الصفات الثلاث تجمعها صفة واحدة أساسية يعبّر عنها القرآن الكريم بقوله: (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ). وكلمة (من ) جاءت بحيث تحتمل الجمع، وتحتمل الأفراد في نفس الوقت، ولكنّ الكلمةالثانية (يوق ) توحي بالمفرد، لأن الإنسان عندما يوقى شحّ نفسه، ويخرج من زنزانة ذاته، فحينئذ سوف لايكون إنساناً واحداً، بل سيكون في رحاب الجمع، ولا يلبث أن يصبح مجتمعاً، ويتحول إلى حضارة.(3/6)
إن الإنسان الذي يوقى شحّ نفسه، ويتحرّر من ذاتيته وأنانيته فإنه سيلحق بتجمّع الرساليين عبر التاريخ؛ وينضمّ إلى صفوف شخصيّات عظيمة مثل آدم، وإدريس، ونوح، وإبراهيم الخليل، وموسى بن عمران، وعيسى بن مريم، ونبينامحمدصلى الله عليه وآله وسلم والأئمة الأطهارعليهم السلام وسيلتحق بركب الحضارة التاريخية، ولذلك قال تعالى: (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )، وهذه هي الصفة الأساسية التي تتفرّع منها سائر الصفات.
إننا إذا أردنا أن نعرف أنفسنا، وهل نحن في عداد هؤلاء الأشخاص الرساليين، فإن مقياسنا في ذلك هو الصفات الفرعية، فإن كان الواحد منا محباً للمهاجرين، ولايجد في صدره حاجة مما أوتي، وكان مؤثراً على نفسه ولو كان به خصاصة، فحينئذ سيكون ممّن قال عنهم عز وجل: (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ).
الوحدة منطلق تأسيس الحضارة
إننا قد لا نعيش أزمة حضارية، وقد لا نمر بالغليان الثوري الذي يهزّ المجتمع من الأعماق فنحتاج إلى الإيثار، ولكننانعيش -لا ريب- في حالة نحتاج فيها إلى الوحدة، ولذلك يقول اللَّه تعالى: (وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا). فبداية تأسيس الحضارة، ومنطلق الوحدة اعتراف الإنسان بالذنب، واعترافه باحتمال أن يصدرالخطأ منه برحابة صدر، وإلا فإن أرضية الوحدة لا يمكن أن تتهيأ أبداً.
إن هذه الأرضية تتطلّب مني أن اعترف بخطأي، واستغفر اللَّه، قبل أن أشير إلى أخطاء الآخرين، واستغفر لهم. وإلى هذاالمعنى يشير قوله تبارك وتعالى: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ ). والغل يعني أن تضمر في نفسك السوء للآخرين، فإن كان هذا السوء يعني أن تحبّ لنفسك ما لا تحب لهم، وتكره لها ما لا تكرهه لهم، فإن هذامعناه أنك تحب أن يرتكبوا خطأ، وينزلقوا، ويتوقفوا عن التحرك إلى الإمام. فالغل هو أي سوء تضمره في نفسك للآخرين، ولذلك يقول عز وجل محذّراً من هذه الصفة: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَآ إِنَّكَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ ).
والملاحظ هنا أن اللَّه سبحانه استخدم صفة الرأفة والرحمة عندما تحدث عن ضرورة أن يكن المؤمنون الحبّ لبعضهم البعض. وهذا معناه أننا عندما نريد أن نتحدث عن التعاون، والوحدة بين الأصدقاء، فإن علينا أن لا نتحدث معهم بلغةالجبار، ولغة عذاب اللَّه، بل بلغة رحمة اللَّه ورأفته.
إن على الإنسان أن يتخلّق بأخلاق ربه، فعندما تريد أن تتعاون مع الآخرين فلا تحصِ أخطاءهم. فاللَّه سبحانه وتعالى هو الذي يتولى المحاسبة والمراقبة، وهو الذي من أجله نعمل، وهو الغفور الرحيم.
إن هذه هي الصورة الحقيقية للحضارة كما يرسمها لنا القرآن الكريم، فهي ليست مجرّد كلمات وشعارات، أو إنجازات مادية، بل هي مكاسب معنوية قبل كل شي ء، وهي تعاون ينطلق من حالة الإيثار.
ثمّ يصوّر لنا القرآن الكريم الجانب المخالف للحضارة، فيقول: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَروا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ اُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ اُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَيُنصَرُونَ ).
ترى من أي فريق نريد أن نكون؟
إننا يجب أن نجتهد اليوم من أجل أن نكون من الفريق الأول، وللأسف فإن الكثير منّا يرفع شعار الوحدة، ولكنه عندمإ؛
ّّيواجه الواقع العملي سرعان ما ينهار، فتزلّ قدمه بما يرفع من شعار.
إننا نعلم أن هناك خلافات، وأن هناك وجهات نظر مختلفة، وأسباباً تدعو إلى الشقاق، ولكن لابد أن نتمتّع بتلك النفسيةالرحبة التي تستطيع أن تستوعب الجميع، ولابد من أن نصمد أمام الخلافات، فلا نستسلم لأي إنسان يثيرنا بصورة أوبأخرى بحيث تشتعل حرب لا تبقي ولا تذر بسبب أمور ثانوية تافهة.
أن من العار علينا أن ندخل في صراع مع بعضنا البعض، فالأعداء يتربصون بنا الدوائر، والقرآن الكريم يأمر أن نكون أشداء على الكافرين، أذلّة مع المؤمنين الذين يتمثلون اليوم في التجمعات الإسلامية، والمؤسسات الدينية. صحيح إن هناك الكثير من النفوس الطيبة، ولكن ينبغي أن لا نغفل عن أن الشيطان قد تكون له بعض الخطوط في هذه التجمعات والمؤسسات، وقد يستطيع النفوذ إلى مواقع قريبة من القيادة، ويمرّر إليها بعض الأوراق الصفراء المليئة بالتهم ضد هذاوذاك، فإن لم تكن هذه القيادة متصفة بصفة الإيمان الحق، والحكمة، والرشاد، والتريّث في الأمور فإنها ستقع لا محالة في تلك المزالق الشيطانية.
إن الشيطان قد لا يخدعك -كقائد- بشكل مباشر، ولكنه يخدع من وراءك، كصديقك ومن يعمل معك، أو يخدع الطفيليين الذين يدورون حولك، ويجعلك تنخدع من خلالهم. فلتعلم القيادات أنّها -هي الأخرى- قد تكون طعمةسائغة للدوائر الاستعمارية، لأن وحدتنا تهددهم، وتشكل الخطر الرئيسي عليهم، ولتتذكر قياداتنا إن شياطين الإنس لهم طرق خفية ، فلا تنس هذه القيادات أن مواقعها خطيرة، وعليها أن لا تتورّط في الصراعات، ولا تنسى أن بعض من يحوم حولها قد يثير الخلاف باسمها، وفي هذه الحالة سيضطرّ القائد إلى خوض الصراع بسبب عدم انتباهه وحذره.
وبالطبع؛ فإنه لا بأس أن يعتمد القائد على مجموعة أو أجهزة معينة، ولكنّ القرار النهائي يجب أن يكون بيده، كما يقول عز وجل: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ )(آل عمران/159).
فالحذر الحذر من أن يتدخّل الآخرون سلبياً في قرارات القائد، وخصوصاً في قضايا الصراع، فإنهم في هذه الحالةسيشعلون نار هذا الصراع، ويتركون القائد يحترق في نارها دون أن يشعر.
إن من الواجب على الأمة الإسلامية أن تنصح القيادة، وربّما يكون من أبرز معاني النصيحة أن تقول لها الحق، ولاتحاول التأثير على قراراتها من خلال التقارير الكاذبة. وهذه هي من أهم واجبات من يحيط بالقيادات في المؤسسات الدينية، أو التجمعات الإسلامية.
وقد يصبح الواحد منّا قائداً في المستقبل، وأنا أوجّه تحذيراتي هذه بالدرجة الأولى إلى الشباب الرسالي، وإلى طلاب العلم الذين من الممكن أن يتصدّوا لمراكز قيادية في المستقبل، فالفتيا لا تنحصر في مسائل الدماء والطهارة وما إلى ذلك من أبواب الفقه، بل إن المواقف هي فتاوى بحدّ ذاتها، فلنتخذ مواقفنا هذه بوعي وعمق، ولنفكّر ونجيل النظر فيها قبل أن نتخذها. فالفقيه من الممكن أن ينفق عشرات الأيام من أجل أن يعرف حكم مسألة شرعية قد لا يبتلي بها إلا القلةمن الناس، أما بالنسبة إلى المواقف فيبغي أن ننفق عليها أضعافاً مضاعفة من الأيام لكي لا نقع في أخطاء فادحة تسبب الضرر إلى الأمة كلها.
وكل ذلك من الممكن أن نتفاداه من خلال تطبيق الأسس الحضارية التي أشارت إليها الآيات القرآنية السابقة، والتي تعتمد بالدرجة الأولى على الأساس الأكبر المتمثل في سيادة روح المحبة، والتآلف والتعاون بين صفوف المؤمنين.
==============
بصائر الحضارة في سورة المائدة(3/7)
الحديث عن علاقة الدين بالحضارة حديث ذو شجون، وقد أسهب في تفصيلها وشرحها الكثير من المؤلفين والباحثين.
وخلاصة رؤيتنا فيها؛ إن الحضارة والدين يشتركان في الطريق، ولكن الحضارة البشرية -وأعني بها الجوانب الإيجابيةمن مدنية الإنسان- تتوقف عند الحياة الدنيا، بينما يستمر الدين في تنظيم حياة الإنسان في الآخرة أيضاً .
وفي هذا أود أن أتحدث عمّا توصلت إليه من خلال التدبر في سورة المائدة التي نستطيع أن نقول: إنها تحدثنا عن حضارةالمسلمين.
والمعروف عن هذه السورة أنها آخر سورة نزلت على قلب النبي الأمين صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها آية إكمال الدين حيث يقول تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً)(المائدة/3).
ونحن نجد في هذه السورة أيضاً الملامح الخاصة بشخصية الأمة الإسلامية، التي تميّزها عن شخصية المعتنقين للديانات السماوية الأخرى وخصوصاً اليهودية والنصرانية.
مقياس تسمية السورة القرآنية
وقبل أن نتحدث عن البرنامج الحضاري الذي نستخلصه من هذه السورة المباركة، نود أن نقف قليلاً عند كلمة(المائدة) التي سميت السورة بها، بل لماذا سميت السور القرآنية -أساساً- بالأسماء المعروفة عنها؟
إن اللَّه تبارك وتعالى ينتزع أسماء السور من الواقع، وبالذات من أكثر الحقائق والظواهر إثارةً في هذا الواقع؛ فعندمايحدثنا القرآن الكريم في سورة (البقرة) عن التقوى، ودورها في بناء شخصية الفرد والمجتمع، فإنه على الرغم من ذلك يطلق عليها اسم (البقرة) لأن قصة أصحاب البقرة قصة مثيرة، وهي تتكرر في حياة المجتمعات،حيث أن أغلب الناس يزعمون أنهم متدينون، وأنهم ليسوا منافقين بالمعنى المعروف عن النفاق، ولكنهم - في نفس الوقت - ليسوا مؤمنين بالمعنى الحقيقي للإيمان، وإنما هم عناصر تحب أن تكون مؤمنة، إلا أنهم -في ذات الوقت-يحاولون الالتفاف حول الدين، والقيم، والأحكام، وخصوصاً تلك التي تبدو صادقه وحاسمة وشديدة الوقع عليهم.ولذلك فقد أطلق اسم (البقرة) على هذه السورة المباركة استناداً إلى الفكرة المستوحاة في قصة بني إسرائيل المعروفة.
وهناك سورة مباركة أخرى تحدثنا عن القيادة الإسلامية التي تمنح المسلمين الانسجام والتكامل والتفاعل، وقد أطلق على هذه السورة (آل عمران )، لأن وجود القيادة النزيهة الطاهرة المختارة من قبل اللَّه جل وعلا هو ركيزةوحدة الأمة، ولذلك سميت هذه السورة ب (آل عمران ).
أمّا السورة التي تحدثنا عن المجتمع الإنساني وخصوصاً المجتمع الإسلامي فتحمل اسم (النساء)، ذلك لأن الموقف من المرأة هو سمة أساسية في حضارة المجتمعات، وفي تقدمها، أو تخلّفها.
التوجيهات الحضارية في سورة المائدة
والسورة التي نحن بصددها -أعني سورة المائدة- فإنها سميت باسم المائدة التي نزلت على بني إسرائيل في عهد النبي عيسى عليه السلام.
والمائدة -هنا- لا تعني الخوان الذي ينضد عليه أنواع الطعام والشراب، بل إنها تعني -بمفهوم أشمل- ما يسترزق الإنسان به، أو ما يستريح له من طعام وشراب، أو ما يسبّب الرفاه له.
في الآيات الأولى من هذه السورة المباركة تطالعنا فكرتان:
1/ نموّ التعاون.
2/ النهي عن مجموعة من المحرمات؛ كأكل الميتة، والمتاجرة بالقمار، وأنواع السحت.
ترى ما هي العلاقة بين هاتين الفكرتين من جهة، وبين بناء الحضارة الإنسانية المتطوّرة من جهة أخرى؟
الجواب؛ إن الحضارة هي الحضور؛ أي تفاعل الإنسان، وتعاونه مع نظيره الإنسان، وهذا التفاعل والتعاون قائمان على أساس قانون؛ إذا التزم به الجميع فإن التعاون سيسير بانتظام وتصاعد؛ أما إذا لم يلتزموا به، فإن التعاون لا يلبث أن يتحوّل إلى فوضى.
وقد تضمنت سورة المائدة جملة بنود للحضارة، ونذكرها كما يلي:
1/الالتزام بالقانون
ولذلك نجد في الآية الأولى من سورة المائدة أن اللَّه تقدست أسماؤه أمر بالالتزام بالقانون في قوله: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(المائدة/1). وهذا هو البند الأول من البرنامج الذي سبقت الإشارة إليه، فعلى الجميع أن يلتزموا بالقانون، ويفوا بالعقود التي تمثل القوانين والالتزامات التي يضعها الإنسان في مجال التعامل مع غيره، أياًكان نوعها.
وهناك من العقود ما هو تجاري، وما هو اجتماعي، ونحن جميعاً سمعنا بنظرية العقد الاجتماعي التي تحاول أن تصوغ النظام السياسي للمجتمعات، فهي قائمة على فكرة أن الإنسان حرّ ولكنه قادر على أن يربط نفسه بعقد، فيكون ملتزماًبه ولا يجوز له أن يتحلل منه، وتقرّر هذه النظرية أن السلطة السياسية تقوم على هذا الأساس؛ أي على أساس أن العلاقة بين أفراد المجتمع والسلطة الحاكمة تقوم من خلال عقد سياسي.
وبناءً على ذلك، فإن الركيزة الأولى للمجتمع المتحضّر هي الالتزام بالعقود والمعاهدات كما يقول تعالى: (يآ أَيُّهَاالَّذِينَ ءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).
2/ اجتناب المحرّمات
وأما عن البند الثاني يقول القرآن الكريم: (أحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُم ).
وبعد ذلك يذكر لنا القرآن مجموعة من المحرمات، وهنا علينا أن نلاحظ نوع هذه المحرمات، فهي من النوع الذي لابد من تثبيته لتصفية الحضارة من الطفيليات. فهناك من المجتمعات من هو مبتلى بالطفيليات كما هو الحال بالنسبة إلى الإنسان؛بمعنى أن هناك بعضاً من أفراد المجتمع يعملون، ولكن هناك مجموعة منه تعيش عالة على غيرها، مثل الإنسان المرابي الذي يجلس في بيته وفي نهاية الشهر أو السنة تأتيه الأرباح والفوائد دون أن يبذل أي جهد، وفي الحقيقة فإن هذه الأرباح مبتزّة من جهد سائر أفراد المجتمع.
والنموذج الآخر من المحرمات التي نهى عنها الإسلام هو الأطعمة الخبيثة التي يشير إليها تعالى في قوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ اُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّمَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُب ).
إن هذه المجموعة من المحرمات هي من نوع آخر فهي ليست من الطفيليات، بل هي من أنواع المحرمات التي لو شاعت في المجتمع فإن روح التكاسل ، والتقاعس سوف تنتشر فيها. فالإسلام يطلب من الإنسان القادر الذي يمتلك النشاطوالقوة أن يعمل، كأن يزرع الأرض، أو يصطاد الحيوانات الحيّة المحلّلة، وينهاه بشدة عن أكل الميتة، أو ما يتبقى من لحوم الحيوانات بعد أن تأكلها الحيوانات المفترسة، أو الحيوانات الميتة نتيجة تعرضها لحادثة من الحوادث كالسقوط والنطح والقتل.. كل ذلك لكي ينمي في الإنسان روح العمل والنشاط وعدم الاتكال على الغير. فالحضارة التي تقوم على أساس تلك الصفات السلبية هي حضارة منهارة لا محالة ، بينما الحضارة المثلى لابد من أن تقوم على أساس النشاطوالاجتهاد والسعي.
ونحن نستطيع من خلال ذلك التحريم أن نستوحي بصيرة ورؤية خاصة بطبيعة الاقتصاد في المجتمع الإسلامي، تقوم على أساس لغو كل نوع من أنواع العمل الكاذب. ونحن إذا درسنا تأريخ الحضارات الناجحة رأينا أن تلك الحضارات لم تكن لتقوم وتزدهر لو كان فيها مجموعة من تلك الأعمال الكاذبة، فكلما استطعنا أن نحذف الوسائط ونلغيها كلّمااستطعنا أن نقترب من المفهوم الحقيقي للحضارة.
3/ الإقبال على الطيّبات(3/8)
البند الثالث يشير إليه سبحانه في قوله: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا اُحِلَّ لَهُمْ قُلْ اُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ )(المائدة/4).هذا هو شعار المجتمع الإسلامي، والحضارة الربانية، وتفسير ذلك أن النفس البشرية تعتريها حالتان هما؛ حالةالانغلاق، وحالة الانبساط. فحالة الانغلاق تساوي حالة التخلّف، أما حالة الانبساط فتعادل حالة التحضّر.
ونحن نعلم أن الغالبية العظمى من البشر تسودهم حالة الرهبة والخوف من بعض الأشياء والظواهر المحيطة بهم؛ أي أنهم يمتلكون نظرة تشاؤمية تجاه ما حولهم، وإذا ما درسنا تأريخ الشعوب البدائية وجدنا أنها كانت تعبد الظواهر الطبيعةالمخيفة الموجودة في بيئتها كالبحار والأنهار، والأصوات الغريبة، والصواعق.. لأنهم كانوا يخافون منها، ومن أجل أن يأمنوا شرها -حسب زعمهم- فقد كانوا يعبدونها.
وعلى هذا الأساس؛ فإن الإنسان عندما يكون بدائياً متخلّفاً فإننا نراه يهاب ويخاف كل شي ء، ونراه يعمد إلى تحريم كثير من الطيبات والأرزاق على نفسه، بل إن الأصل عنده هو الحرمة، أما الحلّية فإنها استثناء بالنسبة إليه، ولذلك فإن الناس في ذلك العصر سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قائلين: (ماذا أحل لهم ) ولم يقولوا: (ماذا حرّم عليهم )لأنهم يعتقدون أن كل شي ء حرام باستثناء أشياء معدودة.
أما القرآن الكريم؛ فقد أعطاهم القاعدة العامة في ذلك، فقال: (قُلْ اُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ )، وقدّم لهم قاعدة :(كل شي ء حلال حتى تعلم أنه حرام )، شريطة أن تكون (الطيبات ) هي المدار في الحلّية،ذلك لأن الإنسان إذا اندفع معتقداً بأن كل شي ء حلال فعله يعمّم اعتقاده هذا حتى على الخبائث، وهذا مما لا يجوز،وعليه في هذه الحالة أن يعود إلى عقله وضميره ووجدانه.
وعليه؛ فإن الإقبال على الطيّبات وتجنب المحرمات هما بند أساسي من بنود الحضارة التي أشار إليها تعالى في قوله:(اُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ )؛ أي الاستغلال الصحيح للطبيعة وما فيها، والقرآن الكريم يفتح لنا الآفاق الواسعة في هذا المجال.
4/ النظرة الإيجابية إلى المتعة الجنسية
بعد أن يقرر اللَّه سبحانه وتعالى أصل الحلّية في الاستفادة من نعمه، يصل بنا إلى بند آخر هو بند النظرة الإيجابية إلى المتعة الجنسية. فالإنسان المتحضّر من المفروض فيه أن ينظر نظرة إيجابية إلى متعة الجنس في حدودها الشرعيةوالطبيعية، في حين نرى أن الإنسان البدائي المنغلق على نفسه يتصور خطأً أن التمتّع مع الجنس الآخر هو جزء من الحرام إلا في حالة الاضطرار، ونحن نرى هذه الظاهرة لدى بعض الديانات إذ تحرّم على رجال الدين ممارسة العلاقة الجنسية.
أما الإسلام؛ فيفتح أمام الإنسان الأفق في هذا المجال موضحاً أن العلاقة الجنسية في حدودها الشرعية لا ضير منها؛ بل إنها تعتبر واجبة في بعض الأحيان كان يشعر الإنسان بأنه سيندفع إلى ارتكاب المحرّم في حالة عدم زواجه.
وبناءً على ذلك؛ فإن ممارسة العلاقة الجنسية تعد أمراً طبيعياً من وجهة النظر الإسلامية إذا ما تمت على ضوء أحكام الشريعة الإلهية، وأن ليس هناك من داعٍ إلى أن يشعر الإنسان بتأنيب الضمير والكآبة بعد ممارستها، فقد أثبت علم النفس والتربية الحديث أن شعور الإنسان بالندم والكآبة بعد ممارسته للجنس يعد حالة غير طبيعية ناجمة عن عوامل تربوية خاطئة.
وقد أشار سبحانه إلى هذا البند المهم من بنود الحضارة في قوله بعد أن يوضح أن طعام أهل الكتاب حلّ للمسلمين وبالعكس: (...وَالُْمحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالُْمحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ اُوْتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَ اُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الاَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين )(المائدة/5)
ونحن نستوحي من هذه الآية الكريمة أن التعامل مع الجنس يتم خلال مرحلتين؛ المرحلة الأولى باعتباره ضرورة،والمرحلة الثانية بوصفه أكثر من ضرورة. وحسب ما يبدو لي فإن الآية تحدّثنا عن هذا الجانب، فهي لا تقرّر أن الجنس هو ضرورة اجتماعية فحسب، بل يجب أن يتحول إلى متعة بريئة طاهرة، فيكون هناك عقد، ويكون هناك دفع للأجور،وأن يكون بريئاً من السفاح واتخاذ الأخدان. ونحن إذا درسنا تأريخ الحضارات، فأننا سندرك أن هذا البند يمثل نوعاًمن التقدم فيها.
5/ الالتزام بالنظافة
إن النظافة هي من أصول الحضارة الإسلامية، فعلى الواحد منا أن لا يتصور أنه يقوم بعمل دوني وضيع عندما يعمد إلى تنظيف الوسط الذي يعيش فيه، بل إن هذا العمل هو من صميم دورنا في الحياة، والقرآن الكريم يرفع مستوى التنظيف إلى درجة بحيث يجعله في بعض الأحيان من الواجبات المقدسة كما يشير إلى ذلك تعالى في قوله بعد أن يأمر بالتوضؤقبل الصلاة: (مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِنْ حَرَجٍ وَلكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )(المائدة/6)
الحضارة مجموعة من القيم السامية أولاً
وفي نهاية هذا البحث لابد أن نذكّر بأن الحضارة ليست مجرد تقنية، وتكنولوجيا، وتوفير للوسائل الترفيهية، بل هي قبل كل شي ء مجموعة من القيم الرفيعة السامية التي يلتزم بها الإنسان، ومن هذه القيم؛ القيم الجمالية، فالإنسان الذي لايستطيع أن يتذوق مظاهر الجمال في الحياة ليس جديراً بأن يكون متحضراً. فنحن إذا أردنا أن نصل إلى مستوىً حضاريّ رفيع، فلابد من أن نهتم بالجوانب الجمالية كما نهتم بالجوانب الأساسية في حياتنا، وأن لا نقصر اهتمامنا على الجوانب المادية من الحضارة فحسب، فنتصوّر إن الحضارة هي التقدم في الجانب التكنولوجي والعلمي فقط، بل علينا-بالإضافة إلى ذلك- أن نهتم بالمظهر، وأن نحرص على تكريس المظاهر الجمالية في حياتنا، كالاهتمام بالنظافة، والسعي من أجل أن نكون منضبطين ومنظمين في جميع أمورنا، لأن النظام بحد ذاته- مظهر من مظاهر الجمال التي من شأنها أن تجعل حياتنا جميلة مشرقة في ظاهرها وفي باطنها، علماً إن الإسلام قد وجّه اهتمامنا إلى هذه الناحية في نصوص كثيرةفي نفس الوقت الذي لفت أذهاننا فيه إلى ضرورة تحقيق التقدم في المحتوى والمضمون.
==============
الإسلام ضمانة الحضارة المنشودة
الحضارة الفضلى الرفيعة التي تصبو إليها الإنسانية المعذبة، والتي وعد بها الإسلام، وبشّرت بها رسالات اللَّه سبحانه وتعالى، هذه الحضارة ترتسم لنا تباشيرها في سورة المائدة الكريمة، وهي خاتمة السور القرآنيّة التي نزلت على قلب نبيّنا محمدصلى الله عليه وآله وسلم.
وإذا ما أمعنّا النظر وتدبّرنا في المعنى العميق لكلمة (المائدة) لوجدنا أنها تجسّد لنا معاني السعادة الإنسانية،والأمن، والاستقرار، وراحة النفس والروح، ذلك لأنّ ظلالها وامتداداتها أوسع وأكبر من مصطلح الحضارة، ومفهوم (المدنيّة)، حيث أنّ لهذين المصطلحين آثاراً بعيدة عن الصحة والصواب في أطر المفاهيم المادية السائدة،والرؤى السطحية للحياة المعاصرة.
الإسلام روح الحضارة(3/9)
إنّ الحضارة الحقّة التي تفي بمعنى تلك الكلمة، هي التي تجلّت تباشيرها في رسالة السماء الخاتمة، كما تجلّت من قبل في الرسالات السابقة، والتي تجعل من الإنسان وتكامله محور حركتها؛ فهي تعتمد هذا المخلوق الناطق الذي كرّمه اللَّه تبارك وتعالى على كل مخلوق، فلا تلغي دوره أو تهمل جانباً من حياته، بل هي حضارة عدم الإفراط والتفريط في جميع جوانب الحياة الإنسانيّة، وفي أي بعد من أبعادها؛ وهي الحضارة ذات البناء المتكامل، وهي في داخل الإنسان حضارة الروح والنفس والعقل والجسم، وهي في الحساب الزمني حضارة العصر الحاضر، والزمن الماضي، والمستقبل الآتي. ثم إنّها حضارة المعنويات السامية، والمعاني النبيلة، والقيم والمفاهيم الرفيعة، وحضارة الإصلاح والإحسان والازدهار والتقدم، وهي الحلقة الرابطة بين الدنيا والآخرة، بل هي مقدمة الحضارة الأخروية ، والمبشرة بها.
والحضارة التي ترسمها لنا رسالات السماء وخصوصاً الإسلام في هذه الدنيا هي بمثابة المدرسة التي تصنع الإنسان وتصوغه، فيتخرّج منها البشر الصلحاء الذين يصبحون أهلاً لحضارة الآخرة.
الدعوة السامية إلى البناء الحضاري
ومن بين ثنايا السورة المباركة نفهم وندرك الدعوة السامية إلى البناء الحضاري القائم على الركائز والأسس الإلهية التي تضمّنتها كل رسالات السماء؛ فلو كان الذين اتبعوا النبي عيسى بن مريم عليه السلام قد أخلصوا في اتباعهم ومناصرتهم له، ولوأنّهم أخذوا بالإنجيل طبقاً لما هو في الأصل، وطبّقوه في حياتهم وانتهجوا خطوطه في مسالكهم، ولو أنّ الذين سبقوهم-أعني اتباع النبي موسى عليه السلام- أخذوا بالتوراة كما أنزلها اللَّه سبحانه وتعالى، بلا تحريف ، ولا إضافة، ولا تزييف، ولوكانوا قد تجنّبوا الداء الذي مزّق شمل ووحدة الإنسانية في أطر الأفكار الضيقة والأطروحات الاستعلائية الجاهلية.. لوأنّهم فعلوا كل ذلك لاعتُرف بهم من وجهة النظر الإسلامية والمنظار القرآني شريطة أن يطهّروا عباداتهم وتشريعاتهم من تلك الأفكار والمفاهيم الدخيلة التي تشربت ونفذت إلى معتقداتهم، كفكرة الحلول والخلوص في المسيحية، وفكرةالعنصرية التي دخلت في اليهودية.
ونحن نلحظ ونلمس في الآيات القرآنية إشارات واضحة وعديدة إلى هذه الحقيقة، وهي أن الإسلام زرع لنا بذورالأمل والبشرى بقيام حضارة الإنسان المتكامل، ومن تلك الإشارات الواضحة قوله عز من قائل: (إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ ءَامَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ )(المائدة/69)
وفي آية أخرى من سورة آل عمران يقول سبحانه وتعالى: (قُلْ يَآ أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَاوَبَيْنَكُمْ اَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَيَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّواْ فَقُولُوا اشْهَدُواْ بِاَنَّامُسْلِمُونَ )(آل عمران/64)
هل تحققت الحضارة التكامليّة؟
وقد يعترض معترض في هذا المجال فيقول: إنّ شيئاً بمعنى (الحضارة التكاملية) لم يتحقق على يد الرسل والأنبياء على امتداد التأريخ الطويل، ولم نلمسه نحن حتى الآن، علماً أن ألفاً وأربعمائة عام أو يزيد قد انطوت على عمرالرسالة الخاتمة. ولكنني أقول جواباً على هذه الشبهة إن هذه المدّة ليست بالزمن الذي يذكر عندما نقارنه بالآلاف المؤلّفة من السنين في عمر الرسالات المديد، وعمر الإنسانية على هذه البسيطة. فالإنسان ربما عاش على هذه الأرض كما يرى ذلك علماء الجيولوجيا والتاريخ- منذ أربعة ملايين عام- على تقدير البعض، وربمّا يستمرّ في بقائه عليها إلى ملايين أخرى... ولكن نظرتنا السطحية واستعجالنا للأمور، سببهما أعمارنا الضئيلة قياساً بتلك المدة المتطاولة.
ونحن لنا رؤية أعمق وأوضح في هذا المجال تختلف عن الرؤى الأخرى، فعمر الإنسان وحياته على هذه الأرض أطول بكثير مما قيل، ودليلنا على ذلك قول الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام: (وقروناً بين ذلك كثي)ر(7) ثم إن مايدعم نظرتنا واعتقادنا هذين، هو ما تم اكتشافه في بعض الحفريات والآثار، حيث قدّر فريق من العلماء أن وجودالإنسان على كوكب الأرض يعود إلى ما قبل مليون عام!!
ولو نظرنا إلى تاريخ البشرية على الأرض منذ أهبط اللَّه تعالى آدم عليها ثم المضيّ نحو المستقبل الممتد البعيد، فافترضنا-جدلاً- أن كل هذا التاريخ هو بمثابة يوم واحد، لوجدنا أن هناك طفرات هائلة في مقاطع متقاربة جداً ومتداخلة من هذه المسيرة. وبعبارة أخرى؛ لرأينا أنّ مسيرة التقدم الحضاري تتصاعد بشكل متسارع، فلو أردنا قياس عمر هذاالتطوّر الإنساني وافترضناه يوماً واحداً فسوف يتضح لنا هذا التقدّم بالشكل التالي: في الساعات الأولى لم يكن الإنسان يعرف شيئاً، وكان طبعه كطبع الحيوانات الوحشية، ثم في الساعة الخامسة من هذا اليوم اكتشف الإنسان النار،وبعدها بساعة اكتشف الزراعة، ثم بعدها بساعة أو ساعتين ظهرت الحياة الاجتماعية، وأقيمت المدن والقرى، وبعدبضعة دقائق من تلك الساعة أقيمت الحضارات، ثم اخترعت الماكنات والآلات، وقامت الثورة الصناعية، وبعد بضع ثوان صنعت المركبات الفضائية، وتم غزو القمر... وهذه هي حركة التقدم البشري، فهي بصورة متوالية هندسيةمعكوسة بالنسبة إلى العمر الزمني؛ أي إنّ الإنسان استغرق سنين طوالاً ربما كانت قروناً حتى اكتشف النار، ولكن المسافة الزمنية بين اختراع الماكنة البخاريّة واكتشاف الذرة لم تكن إلاّ قرنين، ثم ما هي إلاّ عشرات من السنين حتى وطأت قدماه أرض القمر.. وهذه هي مسيرة البشرية، وانطلاقها السريع نحو الأمام.
ونحن لو أمعنّا النظر مرة أخرى في الفترة الزمنية الأخيرة التي شهدت هذا التقدم الهائل والقفزات السريعة لوجدناهاأنها إنّما حدثت بعد أن بُعث النبي عيسى عليه السلام، ثم نشطت بزخم أقوى بعد بعثة خاتم الأنبياء والمرسلين النبي محمدصلى الله عليه وآله وسلم،وهذا إن دلّ على شي ء فإنّما يدل على أنّ رسالة الإسلام، والمؤمنين الحقيقيين بها هم أصحاب البشارة الحقيقة، والقفزات الكبرى المترقبة.
==============
الحوار بين الحضارات الإلهية
(إِذْ قَالَ الْحَوارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِنَ السَّمآءِ قَالَ اتَّقُوا اللّهَ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَن نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللّهُمَّ رَبَّنَآ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِنَ السَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وءَاخِرِنَا وءَايَةً مِنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُالرَّازِقِينَ * قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي اُعَذِّبُهُ عَذَاباً لآ اُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ )(المائدة/115-112)
كانت الحياة خلية واحدة ثم نمت وتكاثرت وتنوعت. هكذا يقول علماء التاريخ.(3/10)
فالحضاري في البدء كانت كلمة طيبة ثم أخذت بالنمو حتى أصبحت شجرة وارفة الظلال كثيرة الثمار عظيمة الفوائد.وهذه الحضارات الكبرى التي تضرب بها الأمثال عبر التأريخ لم تكن سوى كلمات طيبة في صدور أولي الذكر، ثم تطورت وتنامت وازدهرت فأصبحت حضارة يشار إليها بالبنان.
وكما كان أصل الحياة من اللَّه الخالق المبدع سبحانه وتعالى الذي يخرج الحي من الميت، كذلك كانت الكلمة الطيبة جذرالحضارة البشرية.
وقد تتفاوت مفردات التعبير عن هذا الاصطلاح، حيث يحلو للبعض من علماء التاريخ أن يعبروا عن أساس وجذرالحضارة بكلمة الفكرة الحية ويعادلون بها كلمة (الخلية الحية) حيث تتكاثر وتتنوع حتى تصبح حياةبأنواعها، كذلك الفكرة الحية تتكاثر وتتنوع فتصبح حضارة.
ولكنني أفضل الاستفادة من التعبير القرآني الأدق والأصح وهو (الكلمة الطيبة) استيناساً بقوله سبحانه وتعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ)(إبراهيم/24). وإذا أردنا تعبيراً مناسباً لفكرة الحضارة، فأظن أن أرجح تعبير عن ذلك هو كلمة(المائدة السماوية).
ولعل الأسباب الكامنة وراء اختيار هذه التسمية هي:
1/ إن مفردة الحضارة مستمدة من الحضور، بمعنى أن يكون هناك أناس حاضرين إلى آخرين حاضرين. وبعضهم يسميها بالمدينة، إذ المجموع يجتمع في مدينة واحدة. وكان العرب من قبل يميزون بين الحضارة وغيرها على هذاالأساس، حتى قال شاعرهم:
ومن تكن الحضارة أعجبته
فأي رجال بادية ترانا
نظراً إلى أن البدو في الصحراء القاحلة لا يجتمعون على شي ء، خلافاً للحاضرين في المدينة. وعلى هذا الأساس فإن الحضارة والمدنية شي ء واحد، باعتبار أن المدنيين يجتمعون إلى بعضهم، فلا حضارة دون مدينة، ولا مدينة دون حضارة.
2/ لما كان الحضور والاجتماع هو الأساس، فهل يمكن تصور حضور واجتماع دون محور مشترك أو داع مقنع؟
والجواب هو النفي قطعاً، إذ الناس لا يجتمعون ولا يحضرون في مكان واحد صدفة؛ فقد يكون الماء - الذي هو وجه الحياة - أو التجارة أو الفكرة أو المسجد أو.. أساس حضورهم. وحينما ندرس تاريخ المدن نكتشف بأن كل مدينة قدتأسست بسبب محور ما؛ فمثلاً كانت الجزيرة العربية قليلة المياه، وكان الناس يجتمعون حول الماء أينما وجدوه، ثم يتكاثر الجمع حتى يشيدوا مدينة وحضارة.. ولم تكن مدينة مكة المكرمة استثناء عن هذه القاعدة، حيث شيدت على أساس بئر زمزم التي تفجرت تحت قدمي النبي اسماعيل عليه السلام، ثم تكرست مدنية الجمع بعد أن شيد النبي إبراهيم عليه السلام بيت اللَّه الحرام، فأصبحت مدينة مكة المكرمة محوراً حضارياً لكافة المدن في الجزيرة العربية آنذاك.
الحضارة روح وجسد
وبعد كل ذلك علينا الإجابة عن هذا السؤال المهم، والخطير جداً، وهو: ماذا يحدث لو اختلف أفراد الحضارة إختلافاًمعنوياً؟
إن ما يضمن استمرار المدنية هو القيم والمقدسات الصالحة لا غير، وقد جاء في الحديث النبوي المروي عن الإمام الباقرعليه السلام، يقول: (وإنَّ اليمين الكاذبة وقطيعة الرحم لتذران الديار بلاقع من أهلها)(8) بمعنى أن البلاد التي تنعدم فيها القيم والقوانين ستتحول بمرور الزمن إلى أرض خاوية، فكان لابد من فكرة وقانون ونظام ورؤية وإيمان تحول دون التفكك وتحفظ للمجتمع ذمته واحترامه وأمنه واستمراره في الحياة؛ أي إن الناس إذا اجتمعواوحضروا لمجرد وجود الماء دون إطار قانوني أو محتوى فكري، فإن اجتماعهم هذا سرعان ما ينتهي إلى الاختلاف والتناحر والتفرق والخراب، فتصبح البلاد بلقعاً.
ومن هذه الفكرة استمد علماء التاريخ والحضارة كابن خلدون وتوينبي وآخرون مقولة إن الحضارة أساسها فكرة قبل أن تكون مصلحة مادية، أو إن المصلحة المادية تحتل مرتبة متأخرة عن الأساس الفكري للحضارة.
ونحن نقول: إن الحضارة كلمة طيبة مصدرها اللَّه تبارك وتعالى، لأن اللَّه هو الطيب وهو الخير، وهو الذي يخلق الخيروالجمال، أما الإنسان فهو ربيب الدنيا والشهوة والمصلحة إذ منع على نفسه الخير والجمال.
إذن؛ فالكلمة الطيبة من اللَّه سبحانه وتعالى، واجتماع الناس لابد أن يكون حول شي ء ينزل من السماء ليسمو بهم إلى الأعلى، ونسمي ذلك بالمائدة السماوية التي لا تعني مجرد الأكل والشرب، حيث قد يتحققان بمجرد تناول قرص رغيف وجرعة ماء.. بل المائدة المقصودة سفرة ممدودة وخوان متسع يجتمع الناس حوله ليأكلوا ويشبعوا من طيبه السماوي المقدس.
مائدة من السماء
ولذلك نجد أن سورة قرآنية كاملة، وهي آخر سور القرآن الكريم التي نزلت على صدر نبينا محمدصلى الله عليه وآله وسلم، وهي التي تنسخ سائر السور ولا ينسخها شي ء، قد سميت باسم سورة المائدة، وذلك لقصة تأريخية محورها نبي اللَّه عيسى بن مريم عليهما السلام والحواريون الذين نصروا نبيهم وكانوا بيضاً في ظاهرهم وباطنهم، حيث اجتمعوا حول نبيهم قائلين له:(هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِنَ السَّمآء). وهذه المقولة رمز لتلكم الفكرة الجميلة التي تتنزل من السماء فيجتمع الناس حولها.
ولا تفوتنا الإشارة هنا إلى أن تساؤل الحواريين بقولهم هل يستطيع ربك لا يعني تشكيكهم أو كفرهم بقدرة اللَّه سبحانه وتعالى، بقدر رغبتهم في معرفة هل أن ما يطلبونه مناسب إلى اللَّه...
وكان أول شي ء واجههم به النبي عيسى عليه السلام هو قوله: (اتَّقُوا اللّهَ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ ) أي أنكم إذا كنتم تريدون مائدة من السماء فعليكم بالتمحور حول مبدأ وثقافة التقوى التي هي أفضل مائدة وأطيب كلمة.
ولم يكن أمام الحواريين الذين تربوا في ظل الرعاية النبوية إلاّ التسليم لهذه الحقيقة الربانية، ولكنهم في الوقت نفسه تمادوا في الاستكثار من الطلب، حيث طلبوا إلى نبيهم أن يسأل اللَّه لأن ينبئهم بقبول تقواهم وعبادتهم فينزل عليهم المائدة لكي تتجسد التقوى في شي ء ملموس يرونه، فكان أن قالوا:
1/ (نُرِيدُ أَن نَأْكُلَ مِنْهَا) ومن الطبيعي أنهم لم يكونوا جياعاً حتى يطلبوا أكلاً لمجرد إشباع بطونهم، بل إن الأكل من المائدة السماوية الإلهية ليتجسد لديهم رمز المحبة بينهم وبين اللَّه. وبعبارة أخرى؛ إنهم طلبوا من النبي عيسى عليه السلام أن يحملهم إلى ضيافة اللَّه بشكل مباشر وملموس، تماماً كما يستضيف اللَّه أمة نبيه محمدصلى الله عليه وآله وسلم في شهر رمضان الكريم، حيث يضاعف اللَّه على المسلمين بركاته ونعمه ورحماته في شهر الصيام.
2/ والأهم من الأكل الظاهري هو أنهم قالوا: (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا) إذ نحن - الحواريون - مؤمنون بأنك روح اللَّه وكلمته وأن الكتاب والحكمة قد أنزلها اللَّه عليك، ولكننا نريد تكريس هذا الإيمان. فأن يسعى المرء إلى حقيقةيطمئن إليها قلبه، فإنه في واقع الأمر يسعى إلى هدف مقدس.
3/ وبعد اطمئنان القلب؛ قلب الحوارين لنبيهم (قَالُوا نُرِيدُ أَن نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَاوَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ )(المائدة/113) فإنك - يا نبي اللَّه - حينما بشرتنا بالجنة، نريد أن نرى شيئاً منهاعلى هذه الأرض، وهذه كلها رموز لها مصاديقها، تماماً كما بشر رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم المؤمنين بالجنة وبشرهم أيضاً بأنهم سيكونون ملوكاً في الأرض أيضاً، وقد تحقق لهم ذلك، فصدقهم الرسول.(3/11)
4/ وحينما يطمئن القلب، ويتضاعف الإيمان بمزيد من العلم، وتشبع البطن، ويقوى الجسم، هنالك يتوجب على المرءأكثر من أي وقت مضى أن يقوم بدوره التأريخي، فيكرس كل جهده ليرفع راية كلمة السماء الطيبة، فيشهد لها بين الناس ويحثهم على اتخاذها محوراً في حياتهم.
5/ وحينما اطمأن النبي عيسى عليه السلام إلى عهدهم دعا ربه بقوله: (اللّهُمَّ رَبَّنَآ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِنَ السَّمَآءِ تَكُونُ لَنَاعِيداً لأَوَّلِنَا وءَاخِرِنَا وءَايَةً مِنكَ ) نظراً إلى أن إطمئنان القلب وتضاعف الإيمان وقوة الجسم يعني تجدد الحياة،وهذا هو معنى العيد والعودة إلى ممارسة الواجبات وتحقيق المسؤوليات. وها هم المسلمون حينما يلتزمون بواجبات شهر الصيام ويستوعبون القدر الممكن من حكمته فإنهم يحتفلون بالعيد، ليس لانتهاء أيام هذا الشهر الكريم، وإنمإ؛ّّلأنهم تزودوا منه بخير الزاد، فتراهم يعودون إلى تحقيق وتطبيق ما تعلموه من مفاهيم ربانية طيلة الشهور القادمة حتى يحل عليهم شهر رمضان آخر فيعيدون الكرة من جديد...
ولم يكن طلب النبي عيسى عليه السلام - الناطق باسم الحواريين - من ربه مجرد طلباً مؤقتاً، بقدر كونه طلبه أبدياً يعم أول المؤمنين كما يعم آخرهم إلى يوم القيامة، حيث تكون قصة نزول المائدة مبعثاً للأجيال لأن يتذاكرونها فيزداد ايمانهم وحيويتهم.
6/ (قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي اُعَذِّبُهُ عَذَاباً لآ اُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ )(المائدة/115) وهذا قانون سماوي صارم لا يقبل التغيير والتبديل مطلقاً.
بعد هذه الاطلالة القرآنية على ما دار بين النبي عيسى عليه السلام وحواريه، لابد أن نقول: إن النبي عيسى عليه السلام وقصته ليس للمسيحيين فقط، كما أن النبي موسى عليه السلام وسيرته ليسا حكراً على اليهود؛ بل وحتى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم ليس للمسلمين فقط، وإنما هو رحمة للعالمين.
إن أساس الحكمة الربانية من بعثة النبي عيسى خصوصاً والديانة المسيحية عموماً إنما يكمن في التبشير بخاتم الأنبياءوالرسل محمدصلى الله عليه وآله وسلم، وقد قال اللَّه تعالى في ذلك: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَآئِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرَاً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَآءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌمُبِينٌ )(الصف/6). فكان دوره الأول البشارة ودوره الأخير هو البشارة أيضاً، حيث سيأتي يوم ينزل اللَّه فيه النبي عيسى عليه السلام من جديد ليبشر الناس بظهور الإمام الحجة المهدي عجل اللَّه فرجه الشريف، وهذه هي حكمةخلقة وبعثة النبي عيسى عليه السلام.
وعليه فإن الديانة المسيحية ليست إلاّ تمهيداً للديانة الإسلامية؛ أي ان الديانة المسيحية كلما توسعت كلما تضاعفت فرص انتشار الدين الإسلامي، لذلك تجد القرآن الكريم يذكرنا بأن أقرب الناس إلى المسلمين هم. (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّالنَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ ءَامَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَوَدَّةً لِلَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارى ذلِكَ بِاَنَ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُون )(المائدة/82) لأن فيهم قسيسين يقرأون الكتاب ويصبحون من ذوي العلاقة بالإسلام.
الحضارة الحقيقية
إن الحضارة الحقيقة هي الحضارة الإلهية، ولم يتبق من نماذج هذه الحضارة سوى حضارتين، وهي المسيحيةوالإسلامية، وقد أثبتت حقب التاريخ أن ما لم يتصل بالسماء مصيره إلى الفناء الحتمي، وقد قال غورباتشوف -آخررئيس سوفياتي- لدى انهيار الاتحاد السوفياتي: إن سبب هذا الإنهيار هو أن الإتحاد السوفياتي لم يكن يؤمن باللَّه.والمهم هو أن هذا الكيان السوفياتي قد عاد مرة أخرى إلى الإسلام والمسيحية، وقد سبق أن قلنا بأن المسيحية مقدمةلانتشار الإسلام.
من هنا أدعو إلى حوار الحضارتين المسيحية والإسلامية دون غيرهما، لأنهما هما المسيطرتان على الفكر البشري، كماأدعو إلى أن يكون جوهر هذا الحوار حول السعي نحو اقناع المسيحيين بفكرة أنهم مبشرون للإسلام؛ فالإسلامي هوالدين الناسخ لكل الديانات، لأنه الخاتم، ولأنه الأحدث، ولأنه الديانة الوحيدة التي أمنت من التحريف بفضل اللَّه ورحمته.
اقول: لما كان من الخطأ على المسلم أن يطلق تسمية الحضارة على الوجودات التاريخية غير القائمة على أفكار السماء،فإنه من الخطأ أيضاً أن يطلق على حواره معها تسمية حوار الحضارات، فهل الحضارة هي إهرامات مصر، أم قلاع بعلبك، أم بقايا آثار بابل وسومر وجدار الصين؟
كلا؛ فهذه مجموعة من نماذج البناء البشري الذي سرعان ما تهدم... وتهدم لأنه لم يقم على أساس الفكر الإلهي، وإنما قام على أساس ظلال وآثار ذلك الفكر المقتبس من الآخرين.
فأية حضارة هذه التي تعتمد عبادة البقر في الهند؟
وأية حضارة هذه القائمة على مبدأ العنصرية كما في اليونان؟
وأية حضارة هذه القائمة على أساس استغلال الضعفاء والفقراء كما حصل في الصين القديمة؟
وأية حضارة هذه ا لتي تجبر الناس على عبادة الملك من دون اللَّه كما كان شأن مصر الفرعونية؟
فإذن؛ العقل البشري لا يسمح مطلقاً بأن يسمي صفحات التاريخ المليئة بالظلم والطغيان والقتل والاستعباد والعنصريةبالحضارة والمدينة.
==============
الفصل الثاني -في السلوك الحضاري
التعارف منطلق الحضارة الإيمانية
(يَآ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَاُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ * قَالَتِ الاَعْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُم مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )(الحجرات/14-13)
لا شك أن الإنسان بحاجة ماسة إلى هزة عنيفة، أو إلى هزات عنيفة متواصلة لئلا يصاب بداء الخلود إلى الأرض؛الأرض ذات الجذب الشديد، بما فيها من الرغبات الجامحة إلى إبقاء ما كان على ما كان، واستصحاب التراث،واستصعاب التغيير والتحول والتطور، والبقاء على ما هو عليه.. تبعاً إلى أن حقيقة التغيير والتطور بحاجة إلى ثمن مناسب، عادةً ما يبخل المرء في بذله..
ولعل الفرق الأساسي بين الإنسان من جهة، والحيوانات والنباتات والجمادات من جهة أخرى يكمن في أن ابن آدم ذوقابلية وقدرة على التطور، بل وذو فطرة تدفعه إلى التحول.. ولكن انجذابه إلى الأرض هو الذي يؤثر فيه ويحاول قمع تلك الفطرة النزيهة. ولكن المخلوقات الأخرى المشار إليها مجبولة على الثبات والبقاء والمراوحة في مكانها؛ فالجماد -كماهو واضح ومعروف- يبقى في مكانه ما شاء اللَّه، حتى يأتي من يحركه ويزحزحه عن مكانه الذي هو قابع فيه.
إن الإنسان السويَّ الأصيل معابٌ عليه أن يبقى على حاله، لأن رأس ماله الوحيد هو عمره وأيام حياته في الدنيا، فإذالم يحصل على الفائدة المرجوة -التي لا تتحقق أبداً دون تغيير وتطور- والمغنم الجديد، سيكون كمن قدّم ما لديه دون قبضه شيئاً وثمناً لذلك أبداً.(3/12)
لقد ورد في الرواية الكريمة عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: (من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخريومه شرهما فهو ملعون، ومن لم يعرف الزيادة في نفسه كان إلى النقصان أقرب، ومن كان إلى النقصان أقرب فالموت خير له من الحياة)(9). فالعمر يتجه إلى الانقضاء، ولا توقف - أبداً - في هذا التوجه والمسيرة،في حين أن ابن آدم قد يصرف عمره ولا يحصل على ما ينفعه، وهو إن لم يحقق التطور والتغيير والتحول في كيانه وفيماحوله، فإن حياته ستكون إلى غبن وخسران وهباءٍ..
واستناداً إلى هذا المنطلق وهذه الاستراتيجية السامية نلاحظ أن القرآن الكريم حينما يحدّث الإنسان كأكرم مخلوق - أوهكذا يفترض فيه-، يبعث في ضميره صاعقةً تجري في دمه كما التيار الكهربائي القوي، ليوقظه من غفلته، ولينفض عنه غبار الكسل والجمود.
وقد أخذ القرآن الكريم عيّنة مثيرة وجديرة بالتوجه لإثبات هذه الحقيقة، وهي قصة الأعراب الذين قالوا آمنا ولم يكن الإيمان قد دخل إلى قلوبهم بعد .. نظراً لأنهم يعيشون في الصحراء ويتنقلون بين منازلها، بحثاً عن الماء والكلأ، فلايجدون فرصة لتحصيل العلم والمطالعة والتثقف.. حتى أن اللَّه سبحانه وتعالى قال عنهم في كتابه: (الاَعْرَابُ أَشَدُّكُفْراً وَنِفَاقاً)(التوبة/97)، ولعلهم كانوا من بني سليم الذين نزلوا المدينة فوجدوا أهل المدينة أناساً متثقفين بثقافة الإسلام على يد رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، ويقرؤون القرآن ويتداولون الأحاديث النبوية الشريفة.. فظنوا جهلاً أن القضية قضية يسيرة؛ لا تعب ولا نصَب فيها.. ف (قَالَتِ الاَعْرَابُ ءَامَنَّا). فقال لهم اللَّه عز وجل: (قُل لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُم مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ). إذ الإيمان أمر بحاجة لئن تستوعبه الأفئدة وتمارسه الجوارح.
ففي هذه القصّة والعيّنة القرآنية أوضح اللَّه تبارك أسمه مجموعة حقائق تمثل محور الإسلام ونظرته إلى ما ينبغي أن يكون عليها الإنسان، وأكد القرآن عبر ذلك أن للإيمان شروط ثلاثة:
1- القول وتلفظ الشهادتين، كمدخل إلى الإيمان، في حين أن الأعراب اكتفت -جهلاً- بهذا المقدار.
2- العقد بالقلب، وهذا هو أصل الإيمان وجوهره.
3- العمل، وأشار إلى ذلك قوله سبحانه: (لاَ يَلِتْكُم مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً). فقولٌ بلا قلبٍ، وقلبٌ بلا عملٍ، لايعني شيئاً أبداً، إذ الكل جزءٌ لا يتجزأ مهما تقلبت الأحوال واختلفت الظروف.. (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ *وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ )(الزلزلةِ/8-7)، و(وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَاسَعَى )(النجم/39)، وكفى بالعمل شعاراً رفعه الإسلام على مدى التاريخ.. العمل الذي يقف خلفه قلب نظيف.
وهذه هي الهزة العنيفة والصعقة التوحيدية التي نزل بها الوحي المقدس على قلب الإنسان ليحرك فيه فطرته، ويبعث فيه روح التطور والتحول إلى الأحسن.
يقول اللَّه تقدست أسماؤه: (يَآ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَاُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوا...)فاللَّه لم يخلق الناس بجنسيات أو ضمن حدود جغرافية معينة. فالأرض كانت كلها لآدم وحواء عليهما السلام دون حدود أو تمايز أو حواجز، وكان دم الإنسان واحداً وتركيبته واحدة. ثم إن اللَّه سبحانه قسم الناس تقسيماً كانت الحاجةإليه ضرورية لإحراز التكامل الإنساني وبنائه، فجعلهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا فيما بينهم ويعترفوا بالعوامل المكمّلةلبعضهم البعض.
أقول: إن المادة الإنسانية الأولى كانت واحدة، ولكن التقسيمات جاءت على أساس ضروري وعادل لحكمة أخرى.
إن التعارف هو الاعتراف، فضلاً عن المعرفة والتعرف. فيعترف البعض بحقوق الآخرين ويسلّم بوجودهم، فلا يسخرقوم من قوم، ولا يحتقر بعض بعضاً، حتى يكون الجميع على صعيد واحد، ينظرون إلى الحياة على أنها ميدان للتكامل من جهة، وللتسابق إلى الكمال والسمو من جهة أخرى.
وهذا يعني امتناع الأغنياء عن احتقار الفقراء، وامتناع الأقوياء عن مصادرة حقوق الضعفاء..
إن الإنسان المسلم لا يعترف بحق المسلمين فحسب، بل هو مأمور وملزم بالاعتراف بحقوق كل إنسان.. والحديث الشريف المروي عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم يؤكد بهذا الصدد: (لكل كبدٍ حرّا أج)ر؛(10) أي أن المسلم إذا صادف كافراً مشرفاً على الهلاك عطشاً في صحراء - مثلاً - عليه أن يسقيه الماء، ليحصل على الثواب والأجر. وهكذا عمل أمير المؤمنين عليه السلام في معركة صفين، حيث أباح الماء لجيش معاوية الذين جاؤوا لقتاله، وهو الجيش نفسه الذي كان قدمنع على أصحابه الماء بادئ الأمر، رغم أن علياًعليه السلام كان بإمكانه منع جيش معاوية من الماء كردّ المثل بالمثل. وهكذاأيضاً قام الإمام الحسين عليه السلام بسقي الذين خرجوا لحربه الماء، رغم علمه بأنهم قاتلِوه لا محالة، ورغم أنه يعلم ويعي حقيقة أن الخارج على إمام زمانه محكوم بالكفر، ولكنه سقاهم - حتى بيديه الكريمتين مباشرةً - ليؤكد لهم وللتاريخ الأصل الإسلامي الأصيل القائل بضرورة احترام حقوق الإنسان كإنسان. وقد قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في معرض عهده لمالك الأشتر النخعي حينما بعثه إلى مصر والياً: (فإنهم (الناس ) صنفان؛ إما أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق )(11). وهذا لعمري إقرار تام وصريح ومطلق بحرمة الإنسان، وهو دعوة مباشرةللاعتراف بحقوق الإنسان في المبدأ والعيش .
إن من الواجب الصريح على كل إنسان أن يسعى جهده ليسد أبواب الظلم والبغي والاعتداء والخداع، وليفتح باباًواحدة هي باب التنافس الشريف والمسابقة إلى الخير. فكل منّا ليس له الحق في مصادرة حق جاره أو صديقه، بل على الجميع أن يبحثوا عن طريق لاستصلاح الأرض والاستفادة من الإمكانات الواسعة والطائلة في هذه الأرض،فيحصلوا على رزقهم، دون المساس برزق الآخرين عن طريق الغزو والاعتداء والتطاول. وقد قال تبارك وتعالى:(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ). فابن آدم في غناً مطلقٍ عن حطام الدنيا والتشاجر من أجله عبر الحروب وافتعال الأزمات التي يقع ضحيتها الفقير والضعيف.
ها هو كتاب اللَّه؛ خالق الخلق جميعاً، يخاطبهم بقوله المبارك: (يَآ أَيُّهَا النَّاسُ )، ويدعوهم إلى التعارف، لأن التعارف والاعتراف ينتجان المحبة والتفاهم، ولذلك كان من الأمور الهامة في الإسلام هو التعرف إلى الناس والسير في الأرض. وقد كان من الفوائد الجمة لفريضة الحج هو أن يشهد الناس منافع لهم، لأن الجميع يجب عليهم أن يقصدوا بيت اللَّه الحرام ومجمل البقاع المقدسة هناك ليتعارفوا فيما بينهم.
إننا كمسلمين وموالين لأهل البيت عليهم الصلاة والسلام ملزمون بالتعايش السلمي فيما بيننا، وملزمون بأن ندعوالآخرين إلى ذلك، فنعترف ببعضنا، ونتنافس تنافساً شريفاً وكريماً قائماً على أساس التقوى، وليس على أساس العدوان. فإذا كانت دعوتنا إلى الناس هي التعايش والتنافس، فيكون من الأحرى بنا أن ندعو أنفسنا قبل ذلك بهذه الدعوة.(3/13)
لقد أضحى من المؤسف جداً أن القاعدة التي تقوم عليها مجتمعاتنا قاعدة هشة مضطربة، إذ ما أن تحدث مشكلة ما، أويقع اختلاف بين مجموعتين أو شخصين مشتركين في العمل، حتى تراهما يفترقان في خضم جوٍ من تبادل التهم والافتراءات.. وهذا الواقع المؤسف ليس هو الذي حرضنا عليه ربنا وشريعتنا في الحياة!!
فإلى مَ نعيش مثل هذه الأجواء الموجودة؟ ومتى نحاسب أنفسنا ونقودها باتجاه ما أوصى به القرآن وما دعانا إليه النبي وأهل بيته عليهم السلام؟
وقد قال الشاعر:
الأممُ الأخلاقُ، ما بقيت بقوا
وإنْ هُمُ ذهبتْ أخلاقُهم ذهبوا
أما الحديث الشريف المروي عن الإمام محمد الباقرعليه السلام، يقول: (وإنَّ اليمين الكاذبة وقطيعة الرحم لتذران الديار بلاقع من أهلها)(12). فترى ما هي العلاقة بين اليمين الكاذبة وبين انهدام المجتمع وتلاشي الحضارة وخراب البلاد؟!
والجواب؛ إن ما يجمع الناس هو الثقة، وأن أساس الحضارة هو الثقة المتبادلة بين أفرادها، فإذا تبخرت الثقة تبخرت معها الحضارة وتهدمت وتلاشت. واليمين الكاذبة لا تعني إلا محاولة قائلها استغفال الآخرين لاستغلالهم، وحينما تتفشى ثقافة الاستغلال هذه تذهب الحرمات. ولا شك أنه لا حضارة دون قوانين وحرمات، والالتزام بالقوانين ورعايةللحرمات..
وبهذا الصدد يقول الكاتب الجزائري مالك بن نبي كلمة جميلة - رغم تحفظنا عليها من وجهة النظر التاريخيةوالعقائدية-: لقد ارتفعت الأمة الإسلامية وسمت يوم آخى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم بين الأنصار والمهاجرين.. ولكن العدالعكسي لهذا الارتفاع سرعان ما بدأ حينما اقتتل المسلمون في حرب صفين، فأصبح مجتمعاً بلا أُخوّة.
ورغم ذلك أقول: نحن لدينا - بتوفيق اللَّه - بقايا من آثار الوحي، وبقايا من أخلاق أجدادنا وآبائنا، ولدينا بقايا من تعاليم ديننا.. ولكن هذه البقايا لم تعد تكفي لبناء حضارة، والأمر الملحّ هنا هو تعميقها وتكريسها وتوسيعها ووضعهاعلى أسس واضحة.. فلا يكون أكبرُ همِّ أحدنا التفكير بنفسه، بل لابد من التفكير بالآخرين ومطالبهم واحتياجاتهم وحقوقهم وحرماتهم. ومن طريف ما يذكر نتيجة الإحصائية التي أجريت في الولايات المتحدة الأميركية، حيث علم أن معظم الكلمات المتبادلة عبر الهاتف هي كلمة (أنا) مما يعني تصاعد حدة الأنانية في هذا البلد ذي المظهرالقوي..
نعلم وتعلمون أن الحضارة تعني التقدم والازدهار، ولكن هذا التقدم والازدهار ليس له أن يحدث في ظل السعي الفردي البحث، إذ اليد الواحدة عاجزة على التصفيق..
فتعالوا إلى البدء بالضد من ذلك، فنفكر بالفقراء في مقابل كل مرة نفكر بأنفسنا، ولنسعَ إلى نجدة المحتاجين إزاء ما نوفرلأنفسنا المستلزمات، ولننظر إلى من هو أدنى منا، كما نتمنى مواقع من هم أعلى منّا.. وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم:(من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم )(13). فإن كنا عاجزين عن تقديم خدمات إلى الناس، فلنهتم بهم ونتعاطف معهم على الأقل، لأن ذلك ينتهي إلى أن ننصفهم من أنفسنا من جهة، وإلى أن اللَّه سبحانه وتعالى حينما يرانا نهتم بالآخرين، فإنه سينزل علينا رزقه الكريم ويفتح علينا أبواب رحمته إن شاء اللَّه تعالى.
==============
التوكّل وقود الحضارة
هناك نظريات عديدة تقول: إنّ أمام المجتمعات دورات عديدة يجب أن تمرّ بها قبل أن تصل إلى ذروة الحضارة، فكما أن الإنسان لابد أن يمرّ بدورات حتى يصل إلى مرحلة الكمال في النموّ، فكذلك الحال بالنسبة إلى المجتمعات فإنها تعيش هي الأخرى ضمن دورات حياتية؛ فتترعرع كما يترعرع الأطفال ثم تنمو حتى تدخل مرحلة المراهقة، ثم تنمو أكثرلتعلن عن حضارتها، ثم لا تلبث بعد ذلك أن تعيش في حالة الكهولة، ثم الشيخوخة، ثم لتزول بعد ذلك وتنهار.
وهناك البعض يرى أن تحديات معيّنة تعيشها الشعوب، تبعث فيها الحضارة، وإذا كانت هذه التحديات عنيفة غايةالعنف فإنها تتسبب في إلحاق الهزيمة النفسية بهذه الشعوب، وخصوصاً إذا كانت ضعيفة خائرة الهمّة.
أما إذا كانت التحديات بقدر همة الإنسان فلا هي ضعيفة، ولا قوية، فحينئذ ستبدأ الحضارة. والقائلون بهذا الرأي يضربون أمثلة تاريخية عديدة على نظريّتهم هذه.
فيتامين الحضارة
وفي الفترة الأخيرة اكتشف بعض العلماء والباحثين ما أطلقوا عليه اسم (فيروس التقدم )، وأنا شخصياً لايروق لي هذا المصطلح كثيراً، لإن كلمة (الفيروس ) تستخدم عادة في الجوانب السلبية، فهي كلمة تسبب في أذهاننا تداعياً إلى حكمة المرض، ولذلك فإني سأحاول أن أغيّر هذا المصطلح لاستعيض عنه بمصطلح (فيتامين التطوّر أو الحضارة).
إنّ أولئك العلماء والباحثين يقولون: إنهم عندما درسوا تاريخ اليونانيين القدماء رأوا أن ثقافتهم كانت في بداية نهضتهم مليئة بهذا الفيتامين، ثم قلّت نسبة هذا الفيتامين بالتدرج مع هبوط مستوى الحضارة في اليونان حتى انعدم تقريباً من ثقافتهم.
ثم إن هؤلاء الباحثين أخضعوا بعض العيّنات التاريخية الأخرى للدراسة، فبحثوا في تاريخ الحضارة البريطانية أوالمجتمع البريطاني خلال أربعمائة عام، ثم بدؤوا يقيسون نسبة وجود هذا الفيتامين، فلاحظوا أنه كلّما كانت نسبته تزدادفي أفكار وثقافة وأدبيّات المجتمع البريطاني، فإن ازدهاراً في الاقتصاد كان يحدث؛ والعكس صحيح.
ثم بحث هؤلاء العلماء في مختلف الحضارات البشرية، حتى أنهم درسوا حياة بعض الشعوب البطيئة، فقد كانت هناك -على سبيل المثال- قبيلتان؛ إحداهما متحفزة دوماً للتقدم، ولديها من القوانين السياسية والاقتصادية والاجتماعية ماهو أفضل من القبيلة الأخرى، وعندما بحثوا في ثقافة القبيلة الأولى وجدوها غنية بفيتامين الحضارة، في حين أن نسبةهذا الفيتامين كانت معدومة تقريباً لدى ثقافة وآداب القبيلة الثانية.
على أن الباحثين لم يكتفوا عند هذا الحدّ من الدراسات والتجارب، فاختاروا عيّنة من الأشخاص من مدينة هندّيةتسمى (كاكينادا)، وأجروا على هؤلاء الأشخاص تجارب عملية، فزوّدهم بهذا الفيتامين ضمن دورةمركّزة خلال عشرة أيام، ثم درسوا حياتهم بعد سنتين، فلاحظوا أن تطوّراً حضارياً كبيراً حدث في حياتهم بسبب وجود هذا الفيتامين.
حقيقة هذا الفيتامين ومواصفاته
ولعل سائلاً يسأل، ترى ما هي حقيقة هذا الفيتامين، وما هي مواصفاته؟
ولم يكن هذا الفيتامين إلا الشعور بالحاجة إلى النشاط، والتحرّك، والانبعاث، فهذا الشعور عندما يكون سائداً في آداب بلد من البلدان، أو شعب من الشعوب فإننا سنرى فيه حالة من النهضة المتصاعدة.
وفي المقابل؛ فإن هناك ظاهرة أخرى تمثل السبب الرئيسي في التخلّف والجهل ألا وهي ظاهرة التردّد، والإحجام،وعدم المبادرة؛ فهناك شعوب تقول عندما تريد أن تقوم على عمل ما: (دعنا ننتظر ونبحث ونستسف)ر كماكان الحال بالنسبة إلى بني إسرائيل بعد أن أمرهم اللَّه جل وعلا أن يقتلوا أنفسهم بعد حادثة العجل المعروفة لكي يطهّروا أنفسهم، فما كان منهم إلا أن نفذوا الأمر الإلهي، وبعد فترة خرج بنو إسرائيل من التيه، وسكنوا منطقة أخرى بعد أن فقدوا تلك الحالة من الحيوية، المبادرة إلى تنفيذ الأوامر، فوصلوا إلى حالة جديدة، هي حالة التساؤلات والاستفهامات عندما أمرهم اللَّه سبحانه أن يذبحوا بقرة، فما كان منهم إلا أن انهالوا على نبيهم موسى عليه السلام السيل من الأسئلة والاستفسارات العديمة الجدوى حول نوع تلك البقرة، ولونها، وعمرها...(3/14)
وللأسف؛ فإن أكثر الناس يعيشون اليوم حالة أصحاب البقرة، فبمجرد أن يطلب منهم القائد أن يفعلوا شيئاً فإنهم يبدؤون بطرح الأسئلة والاستفسارات عليه حول فلسفة هذا الشي ء، والحكمة من ورائها ، وما إلى ذلك، فتراهم يفتقرون إلى (الفيتامين ) الذي سبقت الإشارة إليه.
مصدر فيتامين التقدّم
وهنا يتبادر إلى الأذهان السؤال المهم التالي: ما هو مصدر هذا الفيتامين، وأين نجده؟ ولماذا نجد أنّ أمة من الأمم تحتوي على كميّة هائلة منه وتبدأ على ضوء ذلك انطلاقتها الحضارية في حين نجد أن أمة أخرى تفتقر إليه فتبقى متخلفة؟
لا يغيب عنا أن الحضارة هي - أساساً- فطرة الإنسان؛ أي أن فطرة الإنسان الأولية تدعوه إلى التحرك، والنهضة،والانبعاث، والتكامل؛ في حين أن الأغلال الاجتماعية، والأصر الثقافية، والمثبطات والمعوّقات هي التي تجعل الإنسان يخلد إلى الأرض، وإلا فإن الإنسان هو في الأصل كائن متحضّر. وهنا قد ينبري إلى الأذهان السؤال التالي: أين الإسلام من هذا (الفيتامين )، ولماذا يوجد في أمة من الأمم لفترة من الفترات ثم ينعدم في فترة أخرى؟؟
ومن أجل أن نجيب إجابة مفصلة عن هذه التساؤلات، فإننا نذكر النقاط التالية:
1/ إن الفكرة الحضارية المتمثلة في شعار (دعنا نبدأ) إنما تنبعث من ضمير الإنسان بسبب الثقافة الدينية.
2/ إن هذه الفكرة قد تنبعث في ضمير شعب عبر انتقال الثقافة الدينية إليه؛ أي قد يوجد شعب يتحضّر بالثقافة الدينية،كالمسلمين الذين نقلوا هذه الفكرة إلى الأوروبيين بواسطة الأندلس، فأخذ الأوربيون هذه الفكرة، وبدؤوا حضارتهم بها.
3/ قد تواجه أمة من الأمم التحديات، ولكي تعرف كيف تتعامل مع هذه التحديات فإنها تتوصل بالثقافات الحضارية الأصيلة، وتتمسك بها وتبدأ حضارتها على هذا الأساس، وأنا - هنا - أوافق (آرنولد تويمبى ) في بعض أبعاد نظريته ليس كلّها.
4/ والأهم من كل ما سبق أن الإنسان عندما يحمل قضية، وهدفاً، ورسالة، فإن فكره وثقافته سيفرزان بشكل طبيعي فكرة (دعنا نبدأ). فالإنسان إنما يبقى ويحيى وينمو بقضيته، أما الذي لا قضية له فإنه يعيش في الفراغ بدون أي أساس يستند إليه، ولذلك نجد أن أصحاب المبادئ والثوريين هم أكثر نشاطاً من غيرهم، لأنهم أكثر تمسّكاً بفكرة(دعنا نبدأ العمل ).
5/ فكرة التوكّل على اللَّه جل وعلا، فالتطلّع والهمة والطموح، هذه الشعلة الأبدية المتوقدة في ضمير الإنسان، والتي تدعوه أبداً إلى التسامي والتكامل والعروج هي غريزة فطرية موجودة في داخل كل إنسان.
وفي المقابل؛ فإن هناك فيروساً مضاداً للتطلع والأمل والطموح ألا وهو اليأس. فهناك من الناس من يمتلكون التطلع ولكنّ حاجز اليأس بحجبهم في نفس الوقت، علماً أن اليأس هو من الأسلحة الفاعلة الفتاكة التي يستخدمها الشيطان في قتل روح الحياة والنشاط في الإنسان.
التوكّل سبيل مقاومة اليأس
وبناءً على ذلك؛ فإن حاجز اليأس هو الذي يحول دون أن نحقق تطلّعاتنا، فكيف نستطيع أن نقاوم حاجز اليأس هذا؟
الجواب: إن السلاح الفاعل الذي نستطيع بواسطته القضاء على اليأس هو التوكّل على اللَّه تبارك وتعالى، ولذلك؛ فإن التوكل يتمثل أعظم فضيلة من الممكن أن يمتلكها الإنسان.
وإليك نموذجاً بارزاً في باب التوكل على اللَّه عز وجل، ذكره اللَّه تعالى لنا في سورة الأنفال، إذ قال: (يَسْاَلُونَكَ عَنِ الاَنْفَالِ قُلِ الاَنْفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ * إِنَّمَاالْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ )(الأنفال/2-1).
فالقرآن الكريم يصرّح في الآيات السابقة بأن من صفات المؤمنين المتوكلين أنهم إذا تليت عليهم آيات اللَّه زادتهم خشوعاً ، ثم يذكر بعد ذلك قصة تاريخية هي خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة لقتال المشركين، ولكن عناصر من المسلمين عارضت هذا الخروج واعتقدوا أنه سيؤدي إلى حدوث مذبحة، أوحرب إبادة، فما كان من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن استشارأصحابه، فأشار عليه بعضهم بعدم الخروج لعدم امتلاكهم للإمكانيات اللازمة للقتال، ولكن الأمر الإلهي نزل صريحاًبضرورة الخروج لمحاربة الكفار والمشركين، فما كان من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن خرج متوكلاً على اللَّه جل وعلا، وبالفعل فقدحقق الانتصار في معركة بدر.
والقرآن الكريم لا يكتفي بنقل هذا المقطع؛ بل يبين لنا جانباً آخر من التوكل. فعندما خرج المسلمون قبل معركة بدر،فإنهم كانوا يستهدفون السيطرة على قافلة تجارية، وكانوا يمنون أنفسهم بالحصول على الغنائم. ولكن اللَّه سبحانه ابتلاهم وجعلهم يواجهون جيشاً قوامه ألف مسلح جاؤوا للدفاع عن القافلة التجارية وعن مصالح قريش، وهذا مايشير إليه قوله عز من قائل: (وإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّآئِفَتَيْنِ اَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ اَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ )(الأنفال/7).
فقد أنبأهم اللَّه تعالى بأنهم سيحصلون على شي ءٍ، في حين أنهم فكروا بأنهم سيحصلون على الغنائم، وقد كانوا مؤمنين بأن اللَّه قد صدقهم وعده، ولكنهم كانوا يرغبون في الحصول على غنائم سائغة يحصلون عليهم من القافلة التجارية، ولوكانوا حصلوا بالفعل على القافلة التجارية لما استطاعوا أن يحققوا نصراً خدم الرسالة الإسلامية كل الخدمة وأعظمها،ولكن اللَّه تعالى ساقهم في اتجاه استطاعوا فيه أن يكسروا شوكة الجاهلية ، فانتصر الإسلام في بدر، وانتهت المعركة في يوم بدر لمصلحة المسلمين إلى الأبد. وبعبارة أخرى؛ فإن الخالق تعالى أراد لهم أن يحققوا انتصاراً حضارياً، في حين أنهم كانوا يريدون أن يحصلوا على الغنائم، والمتع الزائلة.
ترى لماذا ابتلى اللَّه تقدست أسماؤه المسلمين الأوائل بهذا البلاء؟
الجواب نجده في الآيات السابقة نفسها حيث يقول عز شأنه: (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الُْمجْرِمُونَ )(الأنفال/8)، فإذا ما حصل الإنسان على مغنم بسهولة فإن إيمانه وتوكله لا يمكن أن يزداد، ولكن اللَّه جل وعلا كان يريد لهم أن يواجهوا قوة عسكرية هائلة لينتصروا عليها فيتضاعف توكلهم على الخالق، وترتفع ثقتهم به. وبالفعل فإن المسلمين حصلوا على معنويات عالية في بدر أكثر مما حصلوا على مغانم.
التوكل في الأحاديث
وعلى هذا الأساس؛ فإننا بحاجة إلى روح التوكل، لأنها أعظم من المكاسب المادية ومن الأمور التافهة الأخرى،والإسلام يؤكد كثيراً على موضوع التوكل، والأحاديث في هذا المجال غزيرة، نذكر منها على سبيل المثال ما روي عن الإمام موسى الكاظم عليه السلام إذ قال: (إن الغنى والعزّ يجولان، فإذا ظفرا بمواضع التوكل أوطنا)(14).
وقال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: (أيما عبد أقبل قِبَلَ ما يحبُّ اللَّه عز وجل أقبل اللَّه قِبَل ما يحبُّ، ومن اعتصم باللَّه عصمه اللَّه، ومن أقْبَل اللَّه قبله وعصمه لم يبال لو سقطت السماء على الأرض، أو كانت نازلةنزلت على أهل الأرض فشملتهم بليّة كان في حزب اللَّه بالتقوى من كل بليّة، أليس اللَّه عز وجل يقول:(إن المتقين في مقام أمين ))(15).(3/15)
وقال عليه السلام: (من أُعطي ثلاثاً لم يمنع ثلاثاً؛ من أعطي الدعاء أعطي الإجابة، ومن أعطي الشكر أعطي الزيادة، ومن أعطي التوكل أعطي الكفاية)(16).
وروي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنه قرأ في بعض الكتب أن اللَّه تبارك وتعالى يقول: (وعزتي وجلالي ومجدي وارتفاعي على عرشي لأقطعن أمل كل مؤمل من الناس أمّل غيري باليأس، ولأكسونّه ثوب المذلةعند الناس، ولأنحيّنه من قربي، ولأُبعدنه من وصلي. أيؤمّل غيري في الشدائد والشدائد بيدي، ويرجوغيري، ويقرع بالفكر باب غيري، وبيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلقة، وبابي مفتوح لمن دعاني؟ فمن ذاالذي أمّلني بنوائبه فقطعته دونها، ومن ذا الذي رجاني لعظمة فقطعت رجاءه مني؟ جعلت آمال عبادي عندي محفوظة فلم يرضوا بحفظي، وملأت سماواتي ممّن لا يمّل من تسبيحي وأمرتهم أن لا يغلقواالأبواب بيني وبين عبادي فلم يثقوا بقولي، ألم يعلم من طرقته نائبة من نوائبي أنه لا يملك كشفها أحدغيري إلاّ من بعد أذني، فمالي أراه لاهياً عني؟ أعطيته بجودي ما لم يسألني، ثم انتزعته عنه فلم يسألني ردّه، وسأل غيري. أفيراني أبدأ بالعطايا قبل المسألة، ثم أُسأل فلا أجيب سائلي؟ أبخيل أنا فيبخلني عبدي، أو ليس الجود والكرم لي، أوليس العفو والرحمة بيدي، أولست محل الآمال فمن يقطعها دوني، أفلايخشى المؤملون أن يؤملوا غيري؟؟ فلو أن أهل سماواتي ، وأهل أرضي أملوا جميعاً ثم أعطيت كل واحدمنهم مثل ما أمل الجميع، ما نقص من ملكي مثل عضو ذرّة ، وكيف ينتقص ملك أنا قيّمه؟! فيا بؤساًللقانطين من رحمتي، ويا بؤساً لمن عصاني ولم يراقبني )(17).
==============
التحدي مصنع الحضارة
ربما يسأل سائل: لماذا أُوتينا السمع والبصر وسائر الحواس؟ وهنا يأتي الجواب مباشرة: لكي نكيّف حياتنا مع الطبيعةالمحيطة بنا؛ فلولا البصر لتعثّر الإنسان في كل يوم ألف عثرة وعثرة، ولسقط في كل حفرة، وارتطم بكل جدار، ولولاالسمع لما استطاع الإنسان أن يفهم ما يريده الآخرون منه، وأما حاسة الذوق فمن خلالها نتذوق الأشياء، ونميز بين ماهو لذيذ وغيره، وبين الضار والنافع. وكذلك الحال بالنسبة إلى الخلايا الحسيّة في الجلد؛ فهي التي تشعرنا بالبرد والحر،ولولاها لمات الإنسان لأنه في هذه الحالة سوف لا يشعر بهما، وبالتالي فإنه سوف لا يبادر إلى التوقّي منهما.
عدم التكيف يعني الانقراض
إن هذه الحواس التي منحها اللَّه تعالى إيّانا إنما هي من أجل أقلمة وتكييف أنفسنا مع الطبيعة من حولنا، وفي حالة عدم استخدام الإنسان وتجاهله لهذه الحواس فإن حاله سيكون سواء مع الجماد. فالإنسان الذي يمتلك عينين بصيرتين ثم يمشي ولا ينظر إلى سبيله، فعند سقوطه في حفرة فإنه سيكون أشدّ عمىً من أي أعمى، وكذلك الذي أوتي السمع ثم يتجاهل الخطر الآتي بالصوت والسماع فإنه أكثر صمماً من الأصم. وهكذا الحال عندما يسمع ما فيه خير وهدىً له ثم يسدّ أذنيه فإن حاله سيكون كحال أي جماد أو نبات، بل هو أكثر ضلالاً وبعداً عن الهدى من الأصمّ. فكلّما كانت قابليةالتكيف، والقدرة على التأقلم لدى الإنسان مع الطبيعة والحياة أكثر، كلّما استطاع هذا الإنسان أن يحفظ نفسه، ويقيهاالأخطار، ويدفع عنها المشاكل والصعاب.
ومن هذه الحقيقة الموضوعية تنبثق الحضارات، وتنطلق في مسيرها نحو التقدم لدى جماعة من الناس، بينما ينهارآخرون ويضمحلّون أمام الأخطار، وبكلمة بسيطة فإن حضارة الإنسان إنما هي وليدة قابليته وقدرته على التكيف مع الظروف المحيطة به.
مثال من التاريخ
ولنضرب مثلاً على ذلك من واقع التاريخ؛ ففي الهلال الخصيب (بلاد الرافدين والشام ) كان الإنسان يعتمدفي زراعته على الديم؛ أي الأمطار. فالأرض خصبة، ومياه الأمطار متوفّرة، ولكن وبمرور الزمن حدثت تغيرات جوية سببت موسمية الأمطار، وانحسار كمياتها، فلم يكن أمام المزارع في هذه الأرض سوى طريقين، عليه أن يختارأحدهما؛ إما أن يجلس في بيته ويستسلم لخطر الجفاف الذي يهدد حياته، وإما أن يستمرّ في ممارسة الزراعة، ويتحدى بذلك الأخطار الطبيعية. ولكن ابن هذه الأرض اختار السبيل الثاني، فراح يعتمد طريقة الإرواء، وتنظيم قنوات المياه، ولعلّ الحضارة الأولى التي أقيمت في الكرة الأرضية كانت في هذه المنطقة كما يستشف من المعلومات والآثاروالاكتشافات التاريخية، فإنسان بلاد الرافدين استطاع بهذا الأسلوب أن يتحدى أخطار الطبيعة، ويبني الحضارةوالوجود الإنساني.
مثال من الحاضر
واليوم تواجه بعض بلدان أفريقيا مشكلة تهدد الوجود الإنساني فيها، ألا وهي مشكلة الجفاف أو ما يسمى ب(التصحّر)؛ فقد غدت هذه الظاهرة شبحاً لا يقّل خطراً عن الآفات الزراعية التي تقضي على المحاصيل والنباتات، فقد راح هذا الأخطبوط يزحف نحو الأراضي والمقاطعات الزراعية، حيث تشير الإحصائيات إلى أن عشرات الكيلو مترات المربّعة من الأراضي الخصبة تتعرّض للجفاف سنوياً.
ترى كيف تُعالج هذه المشكلة؟
إن بعضاً من بلدان أفريقيا تحدّى هذا الخطر بأن قام بإنشاء غابات اصطناعية يمكنها أن تتصدّى لظاهرة التصحّروزحف الكثبان الرملية المتحركة نحو المناطق المستغلّة زراعياً، وقد نجحت في ذلك بالفعل. وفي المقابل نرى أن البعض من هذه البلدان - وربما بسبب أنظمتها التي لا تهتم بشعوبها، وتعمل على إبقائها استهلاكية غير إنتاجية - يستسلم لمخاطر الجفاف والتصحّر، الأمر الذي يؤدّي إلى حدوث المجاعات وسوء التغذية.
والمستفاد من هذه الحقائق المعاشية أن اللَّه سبحانه وتعالى منح الإنسان عقلاً، وزوّده بالحواس، ويبقى عليه - أي على الإنسان- أن يعرف كيف يستغلّ هذه النعمة في مواجهة وتحدي الأخطار المحدقة به.
وفي هذا المجال يحدثنا التاريخ بأن كائنات تتمتع بالوعي والإحساس كانت تعيش على هذه الأرض قبل هبوطالإنسان عليها، وقد كانت هذه المخلوقات تشبه البشر، وتتمتع بالحواس كما هو الحال لدى الإنسان، ولكن كانت لهم ملامح خاصة به، وكان عيبهم أنهم لم يكونوا قادرين على مقاومة الأخطار ولذلك تعرضوا للانقراض .
والتاريخ العلمي يضرب لنا مثلاً على هذه المخلوقات فيقول: إنهم لم يكونوا يفكرون ببناء بيت، أو يتوجّهوا نحو الكهوف عند نزول المطر، بل كانوا يحفرون حفراً في الأرض، ويدخلونها، وبسبب برودة الجو فيها، وانعدام وسائل التدفئة فإنهم كانوا يموتون فيها، وبذلك انقرض هذا النوع من الكائنات، ولعل السبب في انقراض هذه الأحياء وغيرها من الحيوانات كالديناصورات يعود إلى ضعف التحدي لديهم. من هذا المجال يقول تاريخ الأحياء: إن الدايناصورات والأنواع المنقرضة الأخرى كانت قوة إبداء ردود الفعل لديها ضعيفة.
لا خير فيمن لا يتحدى
وهنا نعود لنتحدث عن الإنسان الذي يقول عنه رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: (إن اللَّه حرم الجنة على كل فاحش بذي،قليل الحياء، لا يبالي ما قال ولا ما قيل له، فإنك إن فتشته لم تجده إلا لغية أو شرك شيطان )(18)، فمثل هذاالإنسان لا قيمة له، لأنه لا يفكر، ولا يظهر رد فعل إزاء ما يقال فيه، فلابد لابن آدم من غيرة وهمّة، وإلا فما هي ميزته عن الحيوان؟
وفي الحقيقة فإن هذا النموذج من البشر متواجد في كل المجتمعات، فعندما تُشْتَم مقدساته ويُساء إليها تراه ضعيف الإرادة خائر العزيمة، لا أبالياً، سرعان ما يتراجع ويستسلم ويدخل في نفق التبريرات.(3/16)
وإذا ما دققنا النظر فإننا سنلمس حقيقة أن حالة الإنسان النفسية والروحية إذا انعدمت فيها تلك الخصال الحميدة،وهي الغيرة وروح التحدي، ومقاومة الأخطار المداهمة، فلا جدوى بعد ذلك من التضحيات والمزيد من العطاءوالدمار. أما إذا توفّرت فيه تلك الخصال، فإنه ومن خلال مبادرته إلى التحدي سيكون بمقدوره منذ أول مرة أن يبعدالعدو ويجنّب نفسه المخاطر دون أن تكون هناك حاجة لأن يبذل المزيد من التضحيات والعطاء.
التحدي سبيل الحضارة
إن العامل الذي يغير وجه حياة الإنسان ويرتقي به إلى الحضارة، هو التحدي والإرادة، والثقة بالنفس. وفي هذا الإطاريذكر التاريخ أنه في عهد آل عثمان قام وفد تركي بزيارة إلى فينا، وكان هذا الوفد يتألف من خمسين خبيراً اطلعوا على ما يجري هناك من تقدم، ورأوا بأم أعينهم عظمة ذاك التقدم، ولكنهم كانوا فاقدين للغيرة والحمية، فرجعوا إلى بلادهم ميتي الإرادة، عديمي الثقة بالنفس، ولم يعملوا على تغيير واقعهم المرير، واستمروا على ذلك الحال الذي يرثى له، ولذلك استطاع الأوروبيون غزو الإمبراطورية العثمانية المترامية الأطراف، فتقاسموها فيما بينهم، وسبّبوا تلك المآسي التي مازلنا نعاني من آثارها إلى اليوم.
إن السبب الحقيقي في هزيمتنا لا يعود إلى قوّة الغرب وتقدمه فحسب، بل ربّما يكون النصيب الأوفر منه عائداً إلينا نحن؛فالكل له نصيب في التقصير، وما نعانيه اليوم ونقاسيه ما هو إلا حصيلة التقاعس وانعدام الإرادة والاهتمام، فالجميع قدقصّر بحق هذه الأمة المطعونة من كل جانب.
ترى بماذا نختلف عن اليابانيين الذين كانوا هم أيضاً متخلفين وجاهلين بأنواع العلوم والتكنولوجيا؟ إن السر يكمن في أنهم اتصلوا بالغرب، واطّلعوا على الاكتشافات العلمية التي توصّل إليها، فأخذوا هذه التكنولوجيا، والمعرفة العلميةالمتقدمة، حتى أصبحت اليابان اليوم المنافس الأول للبلدان الغربية، بل وربما فاقتها بالتقدم العلمي والتقني، إذ استطاع اليابانيون أن يصنعوا عقولاً إلكترونية بإمكانها إجراء مائتي مليون عملية حسابية خلال ثانية واحدة.
فياترى ماذا ينقصنا نحن الذين نستورد من الغرب حتى إبرة الخياطة، ولم كل هذا التخلف والانهزام؟ فاليابانيوين لم يصلوا إلى تلك الدرجة من التقدم والحضارة عبر البترول.
حاجتنا إلى التحدي والتصدي
إن السبب الحقيقي هو الإرادة والتحدي لا غير، وهذه الصفة هي التي تنفعنا، وبسبب عدم وجودها فينا، حشرنا في زاوية المتخلّفين. فنحن بحاجة إلى تلك الإرادة، وذلك التحدي والهمّة والغيرة التي كان أسلافنا يتمتعون بها في العصورالسابقة، وأما أحرى بنا أن نقرأ قول الإمام علي عليه السلام ونستوعبه عندما يقول في خطبته الجهادية المعروفة:(واغزوهم قبل أن يغزوكم، فو اللَّه ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا)(19).
فكيف يمكن للإنسان أن يركن إلى الجلوس في بيته تاركاً العدو يغزوه، ويدخل عليه بلاده، أو ليس هذا العدو سيدخل البيت بعد أن يدخل البلاد؟
إن روح الإسلام هي روح التحدي، وعلى سبيل المثال، كان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم يأمر السرية بأن تهاجم قافلة قريش خلف مكة، والمسافة آنذاك بين مكة والمدينة كانت شاسعة قياساً بوسائط النقل آنذاك، ومع ذلك لم يترددوا من تنفيذهذه المهمة، فراحوا يداهمون قوافل قريش التجارية، كخطوة لفرض لحصار الاقتصادي على المشركين، ومن ثم عادواإلى المدينة المنورة مع الغنائم!
إن هذا هو إحساس التحدي والعطاء، والشعور بالمبادرة، والغيرة، والنظرة الى المستقبل البعيد.. إن أعداءنا يزعمون الآن أن بإمكانهم بدء الهجوم المضاد علينا حسب تحليلهم ونظرتهم إلى أوضاعنا؛ فالمستكبرون كانوا قد أصيبوابالهزيمة النفسية بالإضافة إلى الهزيمة السياسية من خلال التراجع أمام المدّ الإسلامي عند انطلاقته، ولكنهم بدؤوا اليوم بوضع حسابات جديدة وفق تصوّر وتحليل تبلورا في أذهانهم.
ونحن علينا أن نتحدى ونقاوم كل هذه الحسابات والمخططات الجديدة من خلال الإمساك بزمام المبادرة، وعدم الاستلام والضعف والهزيمة وخوار الهمة، لأن استسلامنا يعني - بالتأكيد- موتنا، واندثار قيمنا ومبادئنا وحضارتنا،وهذه سنة إلهية لا تغيير ولا تبديل فيها.
===============
الرؤية الشاملة في الحضارة
لكي نستفيد أكثر فأكثر من تعاليم ديننا الحنيف لابد أن نكوّن في أذهاننا تصوّراً شاملاً لهذا الدين، وتلك التعاليم، ونحن إذا ما حصلنا على هذه النظرة الشمولية إلى الإسلام، وهذه البصيرة التفاعلية إلى مجموع الدين، فإننا سوف نتقيّدبتعاليمه تقيداً أكثر، لأننا نعلم أن المجموع سيظل ناقصاً بفقدان أي جزء منه.
وبناء على ذلك؛ فإن خللاً بسيطاً في أي عمل من أعمالنا العبادية من الممكن أن يؤدي إلى انهيار عباداتنا كلها، وعدم قبولها من قبل الخالق تبارك وتعالى، فكلمة غيبة واحدة من الممكن أن تذهب بصومك فلا تحصل من هذا الصيام سوى على الجوع والعطش. فعلينا أن لا نستهين بهذه الكلمة إذ مثلها كمثل قطرة دم سقطت في حوض ماء الورد فجعلته نجساًمهما كان حجمه كبيراً.
فقد روي عن جابر، عن أبي جعفر (الإمام محمد الباقر)عليه السلام قال: أتاه رجل فقال: وقعت فارة في خابية فيهاسمن أو زيت فماترى في أكله؟ قال: فقال له أبو جعفرعليه السلام: لا تأكله. فقال له الرجل: الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي من أجلها. قال: فقال له أبو جعفرعليه السلام:(إنّك لم تستخّف بالفأرة، وإنما استخففت بدينك )(20).
وهكذا؛ قد يؤدي ذنب صغير كالعجب، والكبر، والاستهزاء بالناس، وإفشاء أسرار الآخرين إلى ضياع عمر من العمل الصالح. وعلى العكس من ذلك فقد تؤدّي كلمة طيبة، أو نصيحة مخلصة، أو عمل صادق، وبالتالي الاهتمام بالجانب الديني إلى محو صحيفة سوداء من الأعمال السيئة.
وروي في هذا المجال عن الحسن ابن الجهم، قال: سمعت أبا الحسن عليه السلام يقول: إنّ رجلاً في بني اسرائيل عبد اللَّه أربعين سنة، ثم قرّب قرباناً فلم يقبل منه، فقال لنفسه: وما اُوتيت إلاّ منك، وما الذنب إلاّ لك. قال: فأوحى اللَّه تبارك وتعالى إليه: ذمّك لنفسك أفضل من عبادتك أربعين سنة(21).
العبادات بأهدافها
إن المطلوب منا لدى صلاتنا هو إيجاد حالة الخضوع في أنفسنا، أما الصلاة التي لا تزيدني خشوعاً، والصوم الذي لاينمّي ملكة التقوى في نفسي، والحج الذي لا يزيد من انسجامي مع سائر المسلمين ولا يجعلني أتبرّأ من الكفار، والجهادالذي لا يؤدي إلى إعلاء كلمة الدين.. كل ذلك لا نفعَ من ورائه.
ومن هنا؛ فإن علينا أن ندرس الدين دراسة جديدة، وأن ندرس تعاليمه من خلال الحكم، والأهداف، والغايات المرجوّة منها؛ والتي جعلت لكل واحدة من فرائض الدين، ولكل تعليم من تعاليمه، وأن ننظر إليه ككلّ ومجموع. فنحن إنما نريد من الدين الإسلامي أن يحملنا إلى المجد في الدنيا، والعظمة، والرقيّ والتطور، ونريد منه في الآخرة أن يكون جسراً للوصول بنا إلى الجنة.
سورة الحضارة
ونحن إذا نظرنا مثل هذه النظرة الشمولية إلى التعالم الاجتماعية في الإسلام، فإننا سوف نحصل على المفهوم الصحيح للحضارة؛ هذا المفهوم الذي يمكننا أن نستقيه من القرآن الكريم، وخصوصاً سورة المائدة التي هي أساساً سورةالحضارة الإسلامية، والحكم الإسلامي، وهي السورة التي تبيّن لنا بوضوح الأسس المتكاملة للمدنية الإلهية في الأرض، كما تبيّن من جهة أخرى صفات الجاهلية بكل أبعادها.(3/17)
ولو تدبّرنا في هذه السورة الكريمة فإننا سنحصل بالتأكيد على آفاق جديدة من المعرفة وعلم الحضارات.
ولقد قمت سابقاً بتفسير هذه السورة، وأشرت إلى أنها تحدثنا عن معالم المجتمع الإسلامي، ولكنني لم أتوصل إلى الخيطالذي يربط بين مختلف تعاليمها؛ أي التصور الشمولي لهذه السورة. وهذا يعني أننا لم نصل بعد إلى مثل هذا التصورالشمولي فيما يتعلق بالمجتمع الإسلامي، فنحن لا نعرف بالضبط لماذا حرّم الإسلام الغيبة والتهمة والنميمة، ولماذا فرض علينا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولماذا أمرنا بالتواصي والتحابب، وقول الكلمة الطيبة، والتشجيع على عمل الخير. لأننا ننظر إلى كل واحدة من هذه المفردات الأخلاقية والتبريرية لوحدها؛ دون أن نحاول الربط بينها بخيطواحد لكي نرى صورة المجتمع الإسلامي المتكامل فنحصل من خلال ذلك على مجموعة من القوانين والسنن الإلهية التي يجب أن تتحكم في المجتمع.
وهذه الظاهرة هي مشكلة المسلمين في جميع المجالات؛ أي مشكلة الفكر المتخلّف الذي لا يصل بين مفردة وأخرى،والذي لم يستطع بعد أن يتوصّل إلى الأسلوب الأمثل لفهم الآيات القرآنية. فنحن نقرأ كلّ آية لوحدها دون أن نطرح على أنفسنا السؤال التالي وهو: ما هي صلة هذه الآية بما سبقها من الآيات، وبماذا تهتم هذه السورة، وما هو إطارهاالعام؟ إلى درجة أن بعض العلماء ما يزالون يطرحون التساؤل التالي: هل هناك ارتباط وعلاقة بين الآيات القرآنية في السورة الواحدة؟
وتوجد في الفقه نفس هذه المشكلة؛ فمن المعروف عند الفقهاء أن هناك مجموعة كبيرة من التعاليم التي تصبّ كلّها في خانةواحدة هي خانة الصلاة، وبناء على ذلك فإن القبلة، والوضوء، والتطهّر، والمكان المباح، والنيّة ، والأذكار وما إلى ذلك من واجبات وأركان تشكّل كلّها وحدة واحدة نطلق عليها اسم الصلاة. ولكن هل نعلم أنه ما ذكرت الصلاة في القرآن إلا وذكرت معها الزكاة، فلماذا - إذن - نربط بين قراءة سورة الحمد في الصلاة والركوع، ولا نربط بين الصلاة والزكاة،مع أن القرآن ذكرهما معاً؟
وعلى هذا؛ فلابد من أن نكوّن في أذهاننا تصوّراً شاملاً للصلاة والزكاة معاً ولجميع العبادات بشكل عام، وكذلك الحال بالنسبة إلى الجانب التربوي، والاجتماعي، والاقتصادي.
أهداف التعاليم الاجتماعية في الإسلام
وإذا ما تعمّقنا في التعاليم الخاصة بالمجتمع الإسلامي نجد أن هذه المجموعة من التعاليم يُتوقّع تحقيق أهداف كثيرة؛ منها أن يكون المجتمع الإسلامي متماسكاً أكثر فأكثر، فهناك العديد من الفرائض والتعاليم والمستحبات تشكل كلها وحدةواحدة تدعونا إلى المزيد من التماسك في المجتمع الإسلامي، وفيما يلي سأبيّن هذه التعاليم بشكل مختصر.
إن القرآن الكريم يأمرنا ببناء الأسرة، لأنها تمثل الوحدة الاجتماعية الأولى في صرح المجتمع الإسلامي، وبعد الأسرةيأمرنا بصلة الرحم، والاهتمام بالجار، والفقراء، والمستضعفين، والأيتام، ويأمرنا باحترام الذين نتعلّم منهم، والتواضع لمن نعلّمهم، وبالتالي فإنّه يأمرنا بمجموعة من التعاليم يجمعها الإمام زين العابدين عليه السلام في رسالته المعروفةب(رسالة الحقوق ).
وجميع هذه الأوامر تؤدي إلى نتيجة واحدة؛ هي إيجاد مزيد من التماسك في المجتمع الإسلامي، ومن جهة أخرى، فإن الإسلام يريد أن ينشئ مجتمعاً متماسكاً حيوياً؛ أي أن يكون من خصائص هذا المجتمع بذل المزيد من الحركة والنشاطكما كانت حالة هذا المجتمع في العصر الإسلامي الأول، وإذا ما أردنا أن نعقد مقارنة بين مجتمعنا الآن وبين ذلك المجتمع لوجدنا أن الفرق بينهما هائل يشبه إلى حد كبير الفرق بين المدينة الأثرية القديمة، والمدنية الجديدة المتطوّرة!!
وبناء على ذلك فإننا لسنا بحاجة إلى عملية ترميم فحسب، بل نحن بحاجة إلى بناء صرحٍ جديد في كل الحقول والمجالات. فتعاليم الإسلام موجودة اليوم بيننا، وكذلك في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن شتّان بين تطبيقنا لهذه التعاليم وبين تطبيق أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لها.
لقد قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدنية المنوّرة التي كانت لحين مجيئه قرية موبوأة متخلّفة، يسيطر عليها التخلّف والجمود، وما أن وطأت قدماه المباركتان هذه المدينة حتى دبّ فيها النشاط والحركة، وإذا بمجتمعها يصبح حيوياً، وإذا بالزراعة وحركةالتجارة والاقتصاد تحيى، وفي خلال سنين معدودة تحوّلت إلى مدينة حيويّة متطوّرة تُشع الحضارة إلى جميع أرجاءالعالم، وحتى اليوم فإننا نقتبس نور الحضارة من هذه المدينة التي بناها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بيديه المباركتين.
الكلمة الطيّبة من دوافع الحضارة
إن الإسلام هو دين النشاط والحيوية، ومن أهم تعاليمه في هذا المجال نشر الكلمة الطيبة، فإن رأى الواحد منا صاحبه يقوم بعمل حسن فعليه من خلال الكلمة الطيبة أن يشجّعه، لأن هذه الكلمة - رغم بساطتها - من شأنها أن تترك تأثيراً بالغاً في نفسيّة هذا الإنسان إلى درجة تجعله يندفع إلى العمل بصورة غريبة.
أما المجتمع المتخلّف؛ فعلى العكس من ذلك تماماً، فترى الكلمات السلبية المثبّطة منتشرة فيه؛ فإذا ألفَ أحد ما كتاباًونشره، قالوا له: إنك نشرته رياءً، وإن صعد الخطيب المنبر تراهم يبحثون في كلماته عن النقائص والعيوب لينشروهابين الآخرين. ففي بعض الأحيان لا يرى أحدنا الفضيلة، والخير، والعمل الصالح الذي يقوم به طرف من الأطراف، بل تراه ينظر إلى السلبيات والأخطاء فحسب، وهذه الظاهرة ناجمة عن جلوس أولئك المثيرين للسلبيات في زاوية من الزوايا ليكتفوا بالحديث ضد العاملين في سبيل اللَّه سبحانه وتعالى. فهم لم يعملوا لكي يفهموا معنى العمل، ولكي يعرفواكيف يواجه العاملون التحديات والصعوبات، والظروف المعاكسة، بل إن قصارى جهدهم أن يسلّطوا الأضواء على الأخطاء والسلبيّات - إن وجدت -، وبسبب هذه الروح التثبيطية نرى أن عدد العاملين ينقص يوماً بعد آخر.
هذا في حين أن القرآن الكريم يقول: (اَلَم تَرَ كَيفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَافِي السَّمَآءِ)(إبراهيم/24). فالإسلام يوصينا بنشر الكلمة الطيبة، ويأمرنا بالتواصي بعمل الخير، وإشاعةالحسنة، وينهانا عن إشاعة الفاحشة.. وكل ذلك ليكون المجتمع حيوياً ومتفاعلاً، ولكي يتحوّل إلى مجتمع حضاري يبني صرح الحضارة الشامخ من خلال التحلّي بأخلاقيات المجتمع المتحضّر التي تقف في مقدّمتها النظرة الشمولية إلى الدين الإسلامي الحنيف، واجتناب النظرة التجزيئية الضيّقة التي تعتبر سبباً رئيسياً من أسباب الجهل والتخلف، والتي كانت وما زالت السبب الكامن وراء عدم فهمنا الصحيح للمفاهيم والتعاليم والأحكام الإسلامية، وخصوصاً تلك المرتبطةببناء المجتمع المتحضر، الذي تسوده روح التضامن والتكافل والتعاون..
==============
الحس الجمالي في الحضارة
لا ريب أن الحسّ الجمالي يشكّل جانباً مهمّاً من جوانب الحضارة، وهذا الحسّ يتجلّى - أول ما يتجلّى - في الطهروالنقاء والنظافة، ولكنّه يمتلك بالإضافة إلى ذلك أبعاداً أخرى.(3/18)
إن في الإسلام تشجيعاً مستمرّاً ومتواصلاً على الجمال وما يؤدّي إليه؛ وعلى سبيل المثال فإن من المستحب في الإسلام أن ينظر الإنسان إلى نفسه في المرآة لكي يهندم نفسه، ويضفي مسحة من الجمال عليها، كما أنّ من المكروه أن يهمل هذاالإنسان شعر رأسه ويتركه دون حلاقة إلا إذا تعهّده بالنظافة المستمرّ،، ومن المستحب أيضاً أن يمشّط الإنسان شعررأسه ولحيته بشكل متواصل، حتى أنه روي عن أبى بصير عن أبي عبد اللَّه (الإمام جعفر الصادق عليه السلام )، قال:سألته عن قوله تعالى: (خُذُوا زِينَتَكُم عِندَ كُلُ مَسجِد)(الأعراف/31) قال: (هو المشط عند كل صلاة فريضة ونافلة)(22).
الجمال من سمات الحضارة؟
إن علينا أن نسأل أنفسنا في هذا المجال: ترى لماذا هذا التأكيد المستمر والمتواصل على يكون الإنسان ذا مظهر حسن وجميل، ولماذا هذه المجموعة الكبيرة من التعاليم الإسلامية حول النظافة والأمور الجمالية.؟
الجواب على ذلك: لأن تلك التعاليم هي من سمات الحضارة التي هي تكامل في وعي الإنسان، وفي نفسه. ومن المعلوم أن من الأبعاد الحقيقية لوعي الإنسان هو الحس الجمالي، فالإنسان المتكامل هو الذي يتحسّس ويتذوّق، وهو الذي يبحث عن الجمال ويتلذّذ به.
وفي هذا المجال يقول تبارك وتعالى: (يَا بَنِي ءَادَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لايُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ )(الأعراف/31). وهذه الآية تعني أن على الإنسان المسلم أن يكون متزيناً بأفضل الثياب،وأن يكون في حالة عالية من الطهر والجمال عندما يريد أن يدخل المسجد لأداء الصلاة.
وبالإضافة إلى ذلك؛ فإن من المستحب في الإسلام التطيّب، لأن الطيب يمثل جانباً من الحسّ الجمالي لدى الإنسان إلى درجة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال في حديثه المعروف: (أحب من دنياكم ثلاثاً؛ الطيب، والنساء، وقرّة عيني الصلاة)(23). ملخّصاً جميع أبعاد الجمال النفسي والروحي في هذه الكلمة القصيرة.
من هنا يجب تنمية الحس الجمالي في أنفسنا، وفي وعينا، وأن نكون ممن قال عنهم الإمام علي عليه السلام: (إنّ اللَّه عزّوجلّ جميل يحبّ الجمال )(24)، وأن نعمّم الجمال على جميع جوانب حياتنا؛ فتكون بيوتنا جميلة، وكذلك الحال بالنسبة إلى مساجدنا، وثيابنا، ووجوهنا، والمدينة التي نعيش فيها... وبالتالي يجب أن يكون لدينا الحسّ الجمالي،والبحث الدائم عن الجمال، لأننا عندما نزرع الجمال في كلّ بقعة من بقاع بيوتنا أو مدينتنا، فإنّ قلوبنا - أيضاً - ستكون جميلة، وحينئذ سنعرف معنى الصدق والوفاء وحبّ الآخرين، لانّ قلوبنا ستتألق - في هذه الحالة - بالجمال، فقد تربّت ونمت، وتكاملت من قبل بالجمال.
جمال الكلمة والتعبير
والجمال قد يتجسّد في جانب آخر غير الطهر والنظافة، هو جانب الكلمة. فعندما تجد أمامك مجموعة من المفردات،فحاول أن تبحث عن أفضلها، وأروعها، وأكثرها تأثيراً من الناحية الجماليّة في الطرف الآخر، وأن تحترز من اختيارالكلمات النابية الثقيلة على السمع، بل عليك أن تختار الكلمات الجميلة الحسنة الوقع على الآذان والنفوس، كما يقول عزّمن قائل: (وَقُل لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ )(الإسراء/53). أي إنّ على الإنسان أن يبحث دوماً عن الأحسن لا الأفضل، فحتّى لو كانت هناك كلمتان أحدهما حسنة والأخرى أحسن، فإنّ علينا أن نختار الثانية على الأولى.
إنّ هذا الإحساس الجمالي ينمّي في ذاتنا روح الجمال؛ فالكلمة الطيّبة والخلق الحسن هما انعكاس لجمال الروح، وجمال الروح يفرزه الجمال الظاهري. فعندما يكون الإنسان في جو مشبع بالطهارة والنظافة والجمال، فإن روحه ستكون أيضاًجميلة، كما إن أخلاقه التي هي انعكاس لروحه التي تكون هي الأخرى ذات أخلاق جذابة وجميلة، ولذلك يقول رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: (اطلبوا الخير عند حسان الوجوه )(25) لأن ذوي الوجوه الحسنة هم - عادة- أبناء النعمةوالجمال، وبناء على ذلك، فإن الخير منهم مأمول، والشر مأمون.
القرآن آية الجمال الكبرى
وفي الآيات القرآنية هناك الكثير من المفردات والأساليب الجمالية، التي لا أريد أن أتوسّع فيها كثيراً، ولكنني اكتفي بالإشارة إلى أن البيان القرآني مبني أساساً على جمال التعبير، والتصوير إلى درجة أنه يقع في أعلى مستويات الحسن والجمال. وهذه الظاهرة دليل على أننا كجيل قرآني، وكأناس نتبع القرآن يجب أن نختار في أحاديثنا مثل تلك الكلمات والتعابير الرائعة والجذابة التي من شأنها أن تزيد الطرف الآخر بهاءً وإشراقاً، بل أكاد أن أقول: إن المفترض فينا أن نحاول تعويد ألسنتنا على الطريقة الجميلة في أداء الألفاظ.
فإذا كان الواحد منا ذا أدب رفيع، ومستعملاً للكلمات الجميلة الطيبة، حارصاً على أن يختارها اختياراً سواء في بيته أومع الذين يتعامل معهم في المجتمع، فإنه سرعان ما سيتعود على تلك الأساليب والتعبيرات الجميلة حتى تكون منسجمةمع عاداته وسلوكياته. وكذلك الحال عندما يريد الواحد منّا أن يؤلف كتاباً، فإن هذا الكتاب سوف يعكس هو الآخرروحه الجمالية، والأدب الرفيع الذي يتحلى به.
أما إذا أراد الإنسان أن يقسّم ويوّزع شخصيته؛ كأن يتكلم فوق المنبر بطريقة، وحين الكتابة بطريقة أخرى، ويتكلم مع أهله بأسلوب، ومع أصدقائه وزملائه بأسلوب آخر، فإن كلامه سوف يتحول إلى تكلّف وتعسّف حتى في التعبيروفي كيفية أداء الألفاظ.
وبكلمة؛ لكي نتمتع بحضارة سامية، لا بد لنا من أن نتحلى بالحس الجمالي في كل مجالات؛ الشخصية والاجتماعية.
===============
الحضارة وفن الحياة
لا ريب في أن الجزء الأكبر من آيات الذكر الحكيم ينير بصيرة الإنسان ويعلّمه فنّ الحياة، ولكنّ هناك حقائق كبرى ينحسر عادة عنها وعي الناس العادييّن، وإنما يرتفع إلى وعيها أولئك الرجال الذين تسامى علمهم، وتعالت روحهم وإرادتهم.
ومما لا شك فيه أن استيعاب هذه الحقائق الكبرى هو الذي يمنح الإنسان القدرة على التعامل مع الطبيعة تعاملاً سليماً،وتسخير ما في الكون من أجل مصلحته ومصلحة سائر أبناء البشر.
الطريق الخاطئ مشكلة الإنسان
وكثيراً ما يسلك الإنسان طريقاً خاطئاً، ولكننا نراه دائماً يفتش عن أفضل السبل لقطع المسافات، ولكن ماذا ينفعه هذاالتفتيش والاجتهاد إذا كان طريقه لا يوصل إلى هدف؟ فالإنسان إنما يستطيع الاستفادة من تعبيد الطريق، ومن البحث عن الوسيلة المناسبة للسير فيه إذا كان هذا الطريق سليماً مؤدّياً إلى هدفه.
إن غالبيّة الناس مثلهم كمثل الإنسان الذي تراه يفتش عن أصغر الأمور، وأدقها ليدقق فيها موظفاً ما يتمتع به من وعي وعقل وذكاء، ولكنه لا يكلّف نفسه عناء اكتشاف هل أن الطريق الذي يسير فيه مغلوط أساساً أم لا؟
إن هذه الظاهرة تمثل إحدى المشاكل الكبرى التي يعاني منها الإنسان في حضارته؛ فهو يهتم بالحقائق الجزئية الصغيرةدون الاهتمام بالحقائق الكبرى.
والقرآن الكريم يحدثنا عن هذه الحقائق الكبرى التي لو عرفها الإنسان لنجح في حياته، ومن هذه الحقائق حقيقةالصراع الأبدي بين أهل الحق والباطل، ولكننا للأسف الشديد وعلى الرغم من قراءتنا المتكررة للقرآن لم نستطع أن نعي أن هناك صراعاً أبدياً بين أهل الحق وأهل الباطل، وأن العاقبة ستكون للمتقين.
إن هذه الحقيقة البسيطة يطرحها القرآن الكريم المرّة بعد الأخرى.
بين الدين والحضارة(3/19)
وقبل أن نتحدث عن علاقة الدين بالحضارة، نذكّر أولاً ببصيرتين أساسيتين؛
الأولى: تتمثل في أن مشكلة الحضارة تتلخص في أنها مبتورة إذا ما قيست بالدين، فالدين يتحرك مع الحضارة لمسافةمعيّنة، ولكنّ هذه الحضارة سرعان ما تتوقف.
والثانية: إن الدين يمضي قدماً إلى النهاية السعيدة، إذ الحضارة تحدثنا عن الوسيلة، بينما الدين يحدثنا عن الهدف بعد أن يشير إلى الوسيلة أيضاً؛ والحضارة تبين لنا الجزئيات، بينما الدين يقولب هذه الجزئيات ضمن إطار عام؛ والحضارةتزودنا العلم، بينما الدين يمنحنا فقهاً؛ والحضارة تعلّمنا ما هي الحياة، والدين يعلّمنا كيف ننتفع منها ، ولماذا كانت الحياة،وكيف ينبغي أن تكون..
معرفة فن الحياة
إننا -كمسلمين- لابد أن ينصب جلّ اهتمامنا على المسائل الحياتية، أو بتعبير آخر؛ على معرفة فنّ الحياة، مستلهمين ذلك من كتاب ربّنا تعالى ومن منهجه في فهم الحياة. أما أن نبقى نبحث في الجزئيات - سواء كانت هذه الجزئيات مرتبطة بالدين أم بالحياة - ونلغي النظر في الكليات، فإن هذه الحالة سوف تؤدّي إلى إصابتنا بهزائم متلاحقة.
إن من مشاكل كل أمة متخلفة أنها تبحث عن الجزئيات دون أن تربط بينها وتحوّلها إلى إطار واحد مشترك، فالغالبيةالعظمى من الناس تكون تصوراتهم عن الحياة تصورات تجزيئية؛ أي تصوّر الأشياء دون ربطها ببعضها.
ومشكلتنا نحن - المسلمين- تتمثل في أن معرفتنا بالقضايا السياسية والاجتماعية والدينية وما إلى ذلك، هي معرفةمتنافرة غير مجتمعة ضمن إطار واحد، ولذلك فإن هذه المعرفة لا تعيننا على فهم الحياة.
ومما لا ريب فيه أننا نمتلك كوادر وأصحاب اختصاصات في مختلف العلوم، ولكن أكثرهم علماء، أمّا الذين أوتواالحكمة، وفنّ معرفة الحياة، ومعرفة الخطوط العريضة فيها؛ فإنهم لا يشكلون إلا أقلية هي أقل من القليل، أما الغالبيةالعظمى فإنهم لم يحوّلوا معلوماتهم إلى رؤية وبصيرة، وهذه هي المشكلة الرئيسية التي نعاني منها نحن المسلمين.
وبكلمة؛ إن القرآن الكريم يعلّمنا فنّ الحياة الحرّة الكريمة، وكيف نتعامل مع الأحداث المختلفة المحيطة بنا، لذا يجدر بنا أن نتدبّر في آياته الكريمة ، ونتعمق فيها، ونتدارسها لكي نستوحي منها برنامجاً ومنهاجاً متكاملين نستطيع من خلالهما أن نحصل على البرنامج الأفضل والأمثل في الحياة لكي نتمكن من الوصول إلى أهدافنا الحضارية المنشودة من أقصرالسبل وأكثرها استقامة وصحّة، ولكي لا نتيه ونضيع في متاهات الطرق الأخرى التي لا تزيدنا عن أهدافنا إلا بعداًوانحرافاً وضلالاً كما ابتليت بذلك الأمم والشعوب الأخرى، ولم تعرف السبيل الأفضل في الحياة، والطريق الأمثل لتحقيق الأهداف بسبب ابتعادها عن بصائر الرسالات الإلهية.
==============
أصالة الحضارة
عندما اجتمع الكفار واستشكلوا على أهلية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للرسالة متذرعين بأنه يتيم الأبوين، ولا يمتلك من الأموال والثروة ما يؤهّله لقيادة العرب، أنزل اللَّه سبحانه وتعالى آيات بينات تؤكد على أن الرب الجليل هو مقسم الرزق بين العباد، وأن الثروة ليست مقياساً للحق والباطل أو المجد والضعة، وبالتالي فإنه لا يحق لأي إنسان أن يقرر على من يجب أن تهبط الرسالة، لأن الرسالة أعظم مجد من الممكن أن يحظى به الإنسان، وهي عطاء اللَّه تبارك وتعالى لخيرة عباده.
لقد قال الكفار في هذا المجال كما جاء في القرآن الكريم: (وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ )(الزخرف/31)؛ أي على رجل عظيم من مكة أو الطائف، فأجابهم اللَّه تعالى قائلاً: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاًسُخْرِيّاً)(الزخرف/ 32).
التفاوت ليس مقياس الأفضلية
إن الدرجات التي يتفاوت بها الناس ما بين فقير وذي ثروة طائلة، وأسير ومأمور، وصحيح الجسم وسقيم... كل ذلك ليس دليلاً على أن اللَّه سبحانه وتعالى يفضلّ بعض الناس على بعض دون سبب، بل هي تدبيرات إلهية لتنظيم حياةالبشر. فاللَّه تبارك وتعالى وزّع المعادن فوق كوكبنا بحيث تمتلك بعض المناطق معادن لا توجد في المناطق الأخرى،والحكمة في ذلك أن يحتاج الناس إلى بعضهم البعض، وأن تتشابك مصالحهم، ويتعاونوا في الحياة الدنيا.
ومع ذلك فإن رحمة اللَّه، ورسالاته وقيمه خير من حطام الدنيا الذي يتكالب عليه أبناء البشر، كما يشير إلى ذلك قوله عز من قائل: (وَلَوْلآ أَن يَكُونَ النَّاسُ اُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَايَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرراً عَلَيْهَا يتَّكِئُونَ )(الزخرف/34-33).
فلولا أن اللَّه يعلم أن حيازة الكفّار لمباهج الدنيا وزخرفها تؤثر في الناس، وتجمعهم في ملّة الكفر، لخصّهم بهذه النعم الزائلة، كما يقول رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: (لو كانت الدنيا عنده (عند اللَّه ) تعدل جناح بعوضة لماسقى كافراً به مخالفاً له شربة ماء)(26).
التطوّر لا يعني تفوق المذهب
إن تلك الآيات والأحاديث تؤكد قضية هامة ترتبط بالتقدم والتخلف، فهناك الكثير من الناس عندما يرون التقدم التكنولوجي والعملي، وتكدّس الثروات، وتراكم الإمكانات في الغرب ينبهرون وينهارون أمامها، فيقولون مستندين إلى تصوّراتهم الخاطئة هذه: مادام اللَّه قد أعطى اليابانيين - مثلاً - هذه الأدمغة الممتازة التي صنعوا بها المخترعات الإلكترونية، ومادام الأمريكيون يمتلكون قوّة هائلة، ويبعثون بمركباتهم الفضائية إلى الكواكب البعيدة، ومادام الروس يتمتعون بقوة عسكرية هائلة يستطيعون بها تدمير الكوكب الذي نعيش عليه... فإن دينهم لابد أن يكون هو الأفضل،وأخلاقياتهم وسلوكياتهم هي المثلى، وعليه؛ فلا مناص لنا من أن نخضع لمناهجهم ونتبعها!
إن هؤلاء يتجاهلون التشريعات الإلهية التي تقول أن التقدم المادي ليس دليلاً على سلامة المذهب والمنهج لسببين:
التقدم ليس محكوماً بالإرادة دائماً
1/ إن تقدم أمة ما ليس محكوماً بإرادتها فحسب؛ فالهنود الحمر - مثلاً - لو لم يقعوا لسبب من الأسباب فريسةلمجموعة من العوامل الطبيعية والحضارية المختلفة لكانوا أكثر تقدماً من الشعب الأمريكي، إلا أن الأخير وبسبب توفرالعوامل الخارجية والذاتية فيه، وبسبب هجرة العقول إلى تلك المنطقة، وانعدام الضمير لدى المهاجرين الأوائل إلى أميركا استطاع أن يقطع أشواطاً طويلة من التقدم على حساب تخلف السكان الأصليين، ولو كانت تلك العوامل قدتوفرت لهؤلاء السكان لكان التقدم من نصيبهم.
وقد قرر علماء الحضارات أن شعوباً كانت أكثر ذكاءً، وهمّة، وسعياً، وخلقاً فاضلاً، وتعاوناً فيما بينها، ولكنها مع ذلك لم تستطع أن تتقدم لعدم اكتمال أسباب وعوامل الحضارة عندها مثل انعدام الخصوبة في الأرض وما إلى ذلك، في حين توفّرت عوامل التقدم لشعوب أخرى.
فالإنسان الذي يولد في بلد نفطي تُهيّأ له أسباب المعيشة الرغيدة، ويذرع بطائرته الخاصة عواصم العالم، ثم ينسى رغم كل ذلك أن اللَّه جل جلاله هو الذي فجّر في أرضه الآبار البترولية، فإنه لا يؤدي في الحقيقة واجب شكر هذه النعمة التي تستلزم التقدم في سائر المجالات، واستثمارها في تقدم العالم الإسلامي.
التقدم ليس خيراً دائماً(3/20)
2/ ليس من الضروري أن يكون تقدم مجموعة ما خيراً لها، فقدرتها على الوصول إلى القمر، وتمكنها من صنع أكثرالأجهزة تعقيداً، فكل ذلك قد لا يكون في صالحها بقدر ما هو ضرر لها. فقد تكون هذه الوسائل سبباً لدمار الإنسان وضياعه، ودافعاً لابتعاده عن قيمه وذاته، وبالتالي قد تكون معبراً لفساد ضميره، فما قيمة إنسان بلا إنسانية؟ إن من ينسى اللَّه سبحانه وتعالى ينسيه نفسه فيصبح كالأنعام؛ لا يبحث في حياته إلا عن سراب وخيالات حتى تنتهي فترةبقائه فيعود إلى بارئه صفر اليدين، كما يؤكد على ذلك تعالى في قوله: (نَسُوا اللَّهَ فَاَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ اُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ )(الحشر/19).
وعندما ينبهر الإنسان بأصحاب الثروات، والمسيطرين على الإمكانيات المادية، ويركز جهده على الدنيا وما فيها،فحينئذ تتهيأ نفسه لضلالات الشيطان كما يقول عز من قائل: (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَلَهُ قَرِينٌ )(الزخرف/36). وكلمة (يعشو) تعني تعامي الإنسان، فمع أن عينه سليمة إلا أنه يتعامى بمحض إرادته عن الرؤية. وإذا نسي القلب ذكر الرب، وغفل عن المنعم، وابتعد عن خلقه، فحينئذ ستكون نفسه مسرحاًً وميداناً لعمل الشيطان الذي يكون له قريناً في الدنيا والآخرة.
وبمعنى آخر؛ فإن أراد الإنسان الابتعاد عن آثار الإعلام والدعايات التضليلية، فلابد أن يكون قلبه متصلاً بذكر اللَّه أبداً.
لنحذر التضليل الإعلامي
ومن المعلوم أننا الآن خاضعون لموجة هائلة من التضليل الإعلامي، فينبغي أن ننتبه لذلك حتى لا نقع ضحية الإعلام الاستكباري، وذلك من خلال الاتصال قلبياً باللَّه تقدست أسماؤه دائماً وأبداً، لأن الشيطان محدق بالإنسان، فبمجرد أن يبتعد الأخير عن ذكر اللَّه ويغفل، فإن الوساوس الشيطانية سوف تقبل عليه، لتعشعش في نفسه، وتبعده عن سواءالسبيل، وتوحي له بأنه على طريق الهدى كما يقول تعالى: (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُهْتَدُونَ )(الزخرف/37).
وفي أيامنا هذه نستطيع أن ندرك خبث الإعلام وطبيعة مكائده، فقديماً كان أعداء الإسلام في الشرق والغرب يشيعون أن الإسلام ضعيف، وأنه قد انتهى، ولم يعد بإمكانه أن ينظم مجتمعاً ويدير شؤونه أو أن يخلق واقعاً سياسياً، ولا يمكن أن يكون فاعلاً في الساحة.
وعلى ضوء ذلك؛ برزت في المجتمع الإسلامي تكتلات شرقية وغربية؛ فالمتأثرون بالإعلام الشرقي كانوا يبثون ادعاءات تفيد أن الأفكار الإسلامية رجعية، وداعية إلى التخلّف، فدعوا الناس إلى الانتماء إلى أحزاب الكادحين والبروليتاريا لزعمهم أنها قادرة على ضمان التقدم للعالم!
أما المتأثرون بالإعلام الغربي؛ فكانوا يوحون بأن الأفكار الإسلامية إنما هي أفكار بالية قد أكل الدهر عليها وشرب،وإن كان لابد من الإسلام فلنأخذ منه بعض الشعائر والطقوس ثم نكون بعد ذلك أحراراً في اقتصادنا وتجارتنا لنكون في مستوى العصر!
إذا أردنا أن نتحوّل إلى مسلمين حقيقيين علينا أن ننبذ هذه الأطروحات والمشاريع التي تستهدف القضاء على الإسلام، وحسر تأثيره في النفوس، وأن نعود إلى ينابيعه الصافية المتمثلة في القرآن والسنة الشريفة، وبذلك نستطيع اللحاق بركب الحضارة، وإذ ذاك سنتحوّل إلى أمة فاعلة تمارس التأثير الأكبر في مسيرة الحضارة البشرية، كما كان ذلك ديدننا في العصور السالفة عندما كانت الشريعة الإسلامية في جانبيها العقيدي والتشريعي هي التي تدفع المسلمين إلى أداء دورهم في الحياة. وبالفعل فقد أدوا دورهم كأحسن ما يكون الأداء، وإن المطلوب منّا الآن أن نحيي هذا الدور،وأن نعود خير أمة أخرجت إلى الناس.
==============
الفصل الثالث -في البناء الحضاري
عوامل النهوض الحضاري
إنّ التدبّر في حياة الشعوب يعطينا المزيد من القدرة على صنع مستقبلنا، وفهم واقعنا، والعوامل المسهمة في ضعفنا،وتلك المساعدة على نهوضنا. ومن جملة وقائع التأريخ المهمة نهوض الحضارة الإسلامية، هذا الحدث الذي اريد أن استنبط منه ثلاث قيم صعدت من خلالها الحضارة الإسلامية، وعليها قامت، وبسبب انعدامها هوت وتلاشت، وهذه القيم هي:
1/ القيم الاخلاقية والروحيّة
إنّ هذه الحضارة كانت مبنية على أساس القيم الأخلاقية والروحيّة، لا على المقاييس المادية. فكانت قيمة (عبادةاللَّه ) هي السائدة في هذه الحضارة، لا قيمة الخضوع للجبت والطاغوت؛ وعلى قيمة الأخوة وانعدام التفاضل إلاّبالتقوى، لا على العنصريات والعصبيات. فلقد قاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أناساً ينتمون إلى قبائل مختلفة في شبه الجزيرة العربية،فكان القرشيّ إلى جانب الخزرجي، وهذا إلى جانب الأوسيّ وهكذا.. فكانت الافضليّات والأولويات العشائريةمعدومة، بل والأكثر من ذلك إنّ مجموعات أخرى كانت تجاهد جنباً إلى جنب مع العرب ممن تنتمي إلى عناصر أخرى كاليهود الذين منّ اللَّه تعالى عليهم بالإسلام؛ والروم، والفرس بعد ذلك.
وهكذا فإنّ الجميع كانوا يُحكمون بعلاقة واحدة، هي علاقة الإيمان وتوحيد اللَّه عز وجل، لا علاقة الدم أو اللغة أوالأرض وما إلى ذلك من علائق طارئة، ولذلك فإنّ العمل الصالح كان ينمو في هذا المجتمع. في حين إذا كانت ورائي عشيرة تساعدني وتحميني، سواء كنت خاطئاً أم على حقّ، أو كنت عالماً أم جاهلاً، وعادلاً أم ظالماً.. عندما أعرف أن العشيرة ستحميني في كلّ الأوقات والظروف، فحينئذ لا فرق بالنسبة لي بين أن أعمل صالحاً أو طالحاً، ولذلك فإنّ الإنسان سيختار في هذه الحالة العمل الطالح، والكسل والجهل، والتقاعس عن العمل الصالح على الهمّة والنشاط والعلم والفضيلة.. أمّا عندما أدرك أنّ عملي الصالح هو الذي سيحميني فحينئذ سأتحرّك باتجاه العلم، والعمل، والعدالة.. ومن الطبيعيّ إن هذا المجتمع الذي يتسابق فيه الناس نحو الفضيلة والعلم والعمل الصالح سينمو، ويتحرك.
2/ التكامل في الحقّ والعدالة
إنّ هذا المجتمع كان مجتمع التكامل في الحقّ والعدالة، قبل أن يكون مجتمع التنابز والتناقض. فقد كان الجميع فيه يشعرون أنّ تقدّم أيّ واحد منهم يعني تقدّمهم، ورفعة أيّ واحد منهم تعني رفعتهم. لذلك كانوا يعملون ليس من أجل أن يرتفعوإ؛77ّّفقط، وإنّما من أجل أن يرتفع الآخرون أيضاً. فكان هذا الشعور هو السائد الذي جعل هذا المجتمع مجتمعاً متكاملاًمنسجماً، يشعر الفرد فيه بانتمائه إلى المجتمع أكثر من شعوره بالأنانيّة والفرديّة.
3/ استبعاد المصالح الشخصية
كانت الدعوة في هذا المجتمع مقصورة على العمل الصالح، لا على المصالح والمنافع الشخصية. فكان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صبغة هذا المجتمع؛ فلم يكونوا يكتفون بأن يقولوا خيراً للآخرين، ويقدّمون النصائح اللفظية لهم، بل كانوا يدفعونهم إلى المعروف دفعاً، ويسحبونهم من طريق المنكر سحباً. فكانت الجادّة أمام هذا المجتمع مستقيمةواضحة يعرفها الجميع، ويتواصون بها.
هذه هي الميزات الثلاث في المجتمع الرساليّ، وهي - كما أتصوّر - ملازمة لكلّ مجتمع حين تقدّمه، ونهوضه؛ فلا تستطيع أيّ حضارة أن تنمو، وتتقدّم إلاّ بها، وفي حالة انعدامها (أي انعدام هذه المزايا) فانّ مصير هذه الحضارات سيؤول إلى الدمار والانقراض.(3/21)
وقبل أن تدمّر هذه الحضارات يبعث إليها الرسل والأنبياء والمصلحون؛ أي عندما تجنح تلك المجتمعات نحو الانحدارليوقفوا هذا التدهور والهبوط سواء نجحوا في هذه المهمّة أم لم ينجحوا فيها. ولذلك فانّ القرآن الكريم يركّز على هذه المراحل الزمنيّة الهامّة والخطيرة، ويطلب منّا أن نعتبر بها. فالقرآن الكريم عندما يتحدّث عن مجتمع قوم نوح فانّه لايحدّثنا عن مرحلة تقدّم هذا المجتمع، بل عن مرحلة تدهوره وطغيانه، وهكذا الحال بالنسبة إلى قوم لوط، وعاد، وثمود،ومدين...
حضارة سادت ثمّ بادت
سنتحدّث عن مجتمع مدين الذي يقول عنه القرآن الكريم: (وإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً)(الأعراف/85).وكانت الكلمة الأولى التي وجّهها هذا النبيّ إلى قومه أن قال لهم: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ مَالَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ )(الاعراف/85). وهذه الكلمة تعني إزالة القيم الاسطوريّة الجاهليّة المتخلّفة، واستبدالها بقيمة واحدةهي قيمة (عبادة اللَّه )، والاتّصال به وحده. فنحن عندما نعبد اللَّه تعالى فانّنا سوف نعزف عن عبادة القيم الأخرى من مثل الشرف القبليّ، والعنصريّة، والأرض، والدم، والقومية.. من المفترض بنا أن ننبذ هذه الأساطيروالأصنام والأسماء والخرافات، لنعبد اللَّه وحده.
ونلاحظ هنا أن شعيباًعليه السلام يذكّر قومه بالميزة الأولى التي تحدّثنا عنها كواحدة من مزايا مجتمع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كان الأنبياء جميعاً يبدؤون دعوتهم بهذه الكلمة التي هي الأساس لتغيير القيم الجاهليّة. كما كان الأنبياءعليهم السلام يستهدفون أوّلاًوقبل كل شي ء إزالة السلطة السياسيّة الفاسدة من المجتمع، وإقامة سلطة سياسية إلهية محلّها، ولذلك يقول تعالى بعدذلك: (مَالَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ).
وبعد أن طالب النبي شعيب عليه السلام بنسف السلطة السياسيّة، بدء يشير إلى النظام الاقتصادي بما يرتبط بالميزة الثانية في المجتمع الحضاري الرسالي، ألا وهي ميزة (التكامل ) التي تتطلّب من كلّ واحد من أفراد المجتمع الرساليّ دفع الآخرين إلى النهوض، والتقدّم، والرفعة، والعزّة.. وعلى ضوء ذلك قال النبي شعيب عليه السلام لقومه: (فَاَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الاَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا)(الأعراف/85). وهذه الأمورالثلاثة تدلّ كلّها على التكامل.
وأمّا بالنسبة إلى أمر (الإصلاح ) فإنّ هناك علاقة متينة بين الإنسان والإنسان، وبينه وبين الطبيعة، ألا وهي علاقة الإصلاح. فالمجتمع الرساليّ هو المجتمع الذي تكون فيه علاقته ببعض، وعلاقته بالطبيعة هي علاقة التربيةوالتنمية والتقدّم والنهوض.. في حين أنّ علاقة المجتمع المتخلّف تكون علاقة الإفساد والاستهلاك والإسراف والترف.
الإصلاح ميزة المجتمع الرسالي
وهكذا فإنّ هذه الميزة (الإصلاح ) هي ميزة المجتمعات الرساليّة، أمّا الإفساد فيمثّل ميزة المجتمعات الجاهلية المتخلّفة، وقد قال النبي شعيب عليه السلام لقومه: (فَاَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ )؛ أي ليحاول كلّ واحد منكم أداء حقوق الآخرين، بل ليحاول إعطاءهم أكثر من حقّهم.
ثم يقول بعد ذلك: (وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ )؛ أي ليعترف كلّ واحد منكم بحقوق الآخرين، ومزاياهم،وليحاول الاستفادة من هذه المزايا من خلال الاعتراف بهم. فهذا ما يجعل المجتمع يتكامل ويتعاون ويتبادل المنفعة.وقال أيضاً: (وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الاَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا)؛ أي لتكن علاقتك بالآخرين، وعلاقة الآخرين بك علاقة التكامل.
ويا ليت شعوبنا الإسلامية تعي المداليل العظيمة لهذه الآية: (وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الاَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا)، إذن لعرفت أن هذا الاستهلاك المستمر للموارد الطبيعية، واستهلاك الصناعات والمنتوجات الأجنبيّة، إنّما هو مسامير في نعش هذه الأمة. فالأمة الرساليّة يجب أن تنتج، لا أن تستهلك، وأن لا تُستثمر؛ بل أن تتكامل مع الآخرين. فيجب أن لا يكون همّ الواحد منّا أن يركب سيارة حديثة مستوردة من الخارج وما شاكل ذلك، بل يجب أن تكون جهودنامنصبّة على الصنع لا الاستهلاك، والابتكار لا التقليد..
إنّ هذه الميزة (ميزة الإصلاح ) كانت موجودة في مجتمع النبي شعيب عليه السلام، ولكنّها انتهت وتلاشت، ولذلك فإنّ شعيباًعليه السلام قام بتذكيرهم بهذه الميزة.
أمّا الميزة الثالثة التي كان يتمتّع بها مجتمع النبي شعيب عليه السلام ثم فقدها، فهي ميزة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث انعكست هذه الميزة في قوم النبي شعيب؛ فأخذوا يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، بل ويضعون العقبات أمام الذين يريدون أن يعملوا المعروف ويأمروا به.
وللأسف فإن مجتمعاتنا الإسلامية انتهت إلى نفس هذا المصير، فالمصلحون في هذا المجتمعات مطاردون وكذلك الأحراروالمفكّرون، أمّا المفسدون الضالّون فهم الذين أمسكوا بزمام الأمور في هذه المجتمعات، والقرآن الكريم يشير إلى هذه الحالة السلبيّة الشّاذة بقوله على لسان النبي شعيب عليه السلام: (وَلاَ تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ مَنْ ءَامَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُالْمُفْسِدِينَ )(الأعراف/86).
انّ القرآن الكريم يصرّح في معرض حديثه عن مجتمع النبي شعيب عليه السلام؛ أنّ هذا المجتمع بلغ مرحلة من الفساد والكفردفعته إلى أن يصدّ ويعارض من يريد أن يشيع الخير والمعروف والفضيلة. وهذه هي نفس الحالة التي تسود مجتمعاتنا؛فكلّ الطرق مسدودة على المصلحين، فاذا أرادوا أن يصدروا صحيفة تشيع القيم والأخلاق الفاضلة منعوهم، كما وأنّهم لا يفسحون لهم المجال لكي يتحدّثوا في وسائل الاعلام الأخرى، في حين أن هذه الوسائل هي ملكه لا ملك أولئك الفاسدين، وإذا أراد الواحد من هؤلاء المصلحين أن يخطب في الملأ العام منعوه كذلك، وإذا أراد أن يصدر نشرة اعتقلوه وقدّموه إلى المحاكمة... وباختصار فانّهم لا يفسحون المجال، ويسدّون جميع سبل انتشار المعروف، والخير.
ومن الطبيعي إن مثل هذا المجتمع هو مجتمع فاسد، وأنّ عاقبته الدمار، كما كانت عاقبة قوم النبي شعيب، هذه العاقبة التي يحدّثنا القرآن الكريم عنها قائلاً: (فَاَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَاَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَن لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ )(الأعراف/92-91).
فلنعد إلى هذه القيم، ولنربّها في أنفسنا، ونربّي الآخرين عليها، ولنحاول تكريس تلك المزايا الثلاث في نفوسنا لكي نستطيع بناء مجتمع حضاري بإذن اللَّه.
==============
كيف نخلق البيئة الحضارية؟
هناك ظاهرة برزت في عالمنا الإسلامي في العقود الأخيرة، ألا وهي ظاهرة هجرة الأدمغة من البلدان الإسلامية إلى البلدان الأكثر تطوّراً؛ فالإحصائيات تشير في هذا المجال إلى أن عدد الخبراء في مختلف الحقول الذين هاجروا من البلدان الإسلامية إلى الغرب قد بلغ خلال عقد الثمانينات فقط مليوني خبير، في حين بلغت خسائر الدول النامية بسبب نزيف الأدمغة هذا ما يقرب من ستين ألف مليون دولار خلال عام واحد.
سبب ظاهرة هجرة الأدمغة(3/22)
إن بعض الخبراء يفسرون هذه الظاهرة بالشلل الإداري السائد في البلدان النامية؛ فالإنسان المتعلّم إنما بذل الجهودالمتواصلة في الدراسة والتخصّص بهدف إفادة بلده وشعبه، ولكنه عندما يتخرّج من الجامعة تراه يُزجّ في دائرة من الدوائر، ليجلس وراء المكتب، ويقبض مرتبه، ولكنه في قرارة نفسه يشعر بعدم الارتياح لعلمه بأنه لا يؤدّي خدمة في المجال الذي تخصّص فيه، ولأن التخلّف الإداري سدّ أبواب العمل في وجهه، أضف إلى ذلك أن وجود الديكتاتوريةوالاستبداد والضغط الفكري شأنه أن يمنع المتوقد الوهّاج من أن يقدّم خدمة إلى بلده، فتراه يعيش حالة من التناقض والانفصام، فيتمزّق داخلياً، ويحاول أن يستغّل أيّة فرصة للهروب والخلاص من بلده إلى البلدان المتقدمة، حيث لايتمتع بوضع معاشي أفضل فحسب، وإنما الفرص متاحة هناك أكثر لتقديم خدماته، والتعبير عن إرادته وأفكاره،وثقافته.
إن هذه الظاهرة هي -في الحقيقة- جزء من مشكلة أكبر، هي مشكلة عدم وجود بيئة للتطوّر في بلداننا.
وعلى سبيل المثال؛ فإن ما أنفقته البلدان العربية خلال عقد من الزمن على المشاريع الإنمائية يفوق أربعمائة وخمسين ألف مليون دولار، ولكن أياً من هذه البلدان لا يمكننا أن نصفه بأنه بلد متطوّر ومتقدم، وهذه مشكلة لا أطرحها أنافحسب، فهناك الكثير من الخبراء والباحثين مشغولون بمناقشة هذه المشكلة، للعثور على حلٍ لها، فتشكلت أثر ذلك الاجتماعات المكثفة، وعقدت المعاهدات الاستراتيجية للقضاء على هذه المشكلة.
والسبب - ببساطة - هو أن الجو العام السائد في البلدان الإسلامية غير مهيّأ للتنمية الاقتصادية، فعندما ندرس الثورةالصناعية في بريطانيا ونتساءل عن سبب وقوع هذه الثورة في بريطانيا وفي ذلك العصر بالذات، نجد أن الظروف كانت مهيأة لذلك. فنحن عندما نريد أن ننمّي الاقتصاد في بلد ما، فإننا بحاجة إلى وقود رخيص، وأيدٍ عاملة،واختصاصات في المجالات الفنية والتكنولوجية المختلفة، ونحن أيضاً بحاجة إلى الخبرة المكثفة، والنظام الإداري المتطور، والنظام التسويقي المناسب، والتمويل الكافي، وإلى العشرات من الظروف والعوامل المساعدة لكي ينمو البلد اقتصادياً، وإذإ؛؛؛ّّفقدنا شرطاً واحداً من تلك الشروط المتعددة، فإن الاقتصاد لا يمكن أن ينمو، بل إن الاستثمار في مجال من المجالات سيعدُّ نوعاً من الحماقة والسفه.
وعلى سبيل المثال؛ ففي السودان بعض المناطق الزراعية النائية التي تسودها حالة الوفرة والغزارة في المحاصيل، ولكن هذه المحاصيل - على وفرتها - منعدمة القيمة بسبب انعدام الطرق التي توصل هذه المنطقة بغيرها من المناطق التي تعيش حالة المجاعة والعوز؛ وهكذا فإن الاستثمار في تلك المنطقة، يعدّ أمراً لا جدوى منه.
الحاجة إلى خلق البيئة المناسبة
وبناءً على ذلك؛ فإننا بحاجة إلى أن نرجع إلى قضية هامة في التطوير الحضاري لبلادنا، ألا وهي البيئة المناسبة للنموالحضاري في مختلف الأصعدة والمجالات. ولا يمكن تحقيق ذلك إلاّ أن نخلق في المجتمع الروح الإيجابية، ومن ثم إيجادحالة التعاون كما يقول تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ )(المائدة/2).
وهنا لابد من القول: إن هذه التجمعات المباركة المنتشرة هنا وهناك هي نواة الحضارة، فعلينا أن نبدأ بأنفسنا، ونشرع بالعمل الجدّي من خلال خلق الروح الجماعية في أنفسنا في جميع الأعمال التي نؤديها، فنبادر مثلاً إلى إنشاء لجانٍ ومؤسسات للتأليف، ومراكز دراسات وأبحاث، وتشكيل فرق العمل العلمي كأن تتخصص كل مجموعة في جانب مابعد أن تعيّن مشرفاً عليها ينسّق بينها وبين مجموعات العمل الأخرى.
وهذا النوع من العمل الجماعي نحن بحاجة إلى ممارسته في جميع المجالات العملية، كالفقه والتفسير والأصول، والفروع الأكاديمية في الجامعات.. ليتوسّع إلى أن يتحول إلى نواة للحضارة، وهذه الحضارة إنما تبدأ منّا، وتنطلق من نفوسنا،وتستند إلى مبادرتنا.
والإسلام يأمرنا بالتعاون، لأنّه أرضية الحضارة، فمن المستحيل إن يبني شخص من الأشخاص حضارة أو عملاً كبيراًبمفرده، وعلينا في هذا المجال أن نتأمل حياة الشعوب المتطوّرة التي استطاعت أن تحقق نجاحات باهرة في مجال التقدم التكنولوجي، لكي نستفيد من تجاربها وخبراتها في هذا المجال.
ففي فرنسا - على سبيل المثال- كانت واسطة النقل الوحيدة في باريس هي (المترو)، وكانت أكثر تطوّراً من وسائط النقل الأخرى، ومع ذلك فقد اجتمع الخبراء ليخترعوا واسطة نقل أخرى أكثر سرعة، فصنعوا(مترو) آخر تحت المترو السابق، وأطلقوا عليه اسم الخط السريع الذي يقطع المسافة بين أقصى نقطة في باريس إلى أقصى نقطة خلال دقائق معدودة.
السبيل إلى البيئة الحضارية
إن شعوب العالم المتقدمة تحسب حساب الثواني واللحظات، في حين إننا مازلنا نضيّع الساعات الطويلة في الأمورالتافهة التي لا جدوى منها، والسبب في ذلك أن بيئة التطوّر لدينا غير مهيأة، فكيف السبيل إلى تهيئة هذه البيئة، وكيف نصنع البيئة المتحفّزة، والإنسان الحضاري؟؟؟
إن علينا - من أجل الوصول إلى هذا الهدف - أن لا يمنع بعضنا البعض الآخر من التحرّك السريع، وبذل النشاط،والمبادرة إلى تبيّن مشاريع التطوير. فلابد من أن نتخذ مقياساً جديداً في تجمّعنا، وهو مقياس التحرّك، لكي نسرع جميعاً في تحرّكنا، فإذا ما أسرعنا معاً، وخلقنا بيئة وظروفاً مناسبة للسرعة فإن هذه السرعة سوف تنفعنا، لأن البيئةكلها غدت متلائمة مع السرعة.
وللأسف؛ فإن أكثر ظواهر تضييع الوقت السائدة بيننا سببها أن علاقاتنا الاجتماعية غير قائمة على الأسس الصحيحة،وفيما يلي سنذكر بعضاً من الظواهر السلبية التي يفرّط من خلالها أبناء مجتمعاتنا بأوقاتهم.
1/ مجالس البطالة التي تقام أساساً لتضييع الوقت، في حين أن الحديث الشريف المروي عن الإمام الحسين عليه السلام يقول:(يابن آدم إنما أنت أيام كلما مضى يوم ذهب بعضك )(27)، فالوقت هو جزء من طبيعة الإنسان، وهوخطانا نحو الموت كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام: (نفس المرء خطاه إلى أجله )(28).
فلنلغِ -إذن- مجالس البطالة لأن هذه المجالس تسهم بشكل فاعل في تأخرنا عن مسيرة التقدم في الحياة، والتي ستكون سبب حسرتنا يوم القيامة، لأننا أهدرنا أوقاتنا فيما لا طائل من ورائه، وإذا ما اضطررنا بسبب الظروف المختلفة أن نشترك في مثل هذه المجال فلنمرّ عليها مرّ الكرام، أو لنحاول أن نبدّل وجهة الحديث فيه من خلال طرح بعض الأفكاروالمقترحات، وإثارة جو النقاش في القضايا المهمة والساخنة والمصيرية...(3/23)
2/ المواعيد غير المنتظمة والدقيقة، فإنها مضيعة للوقت، كأن تواعد أحد أصدقائك بأن تأتيه إلى المكان الفلاني في الساعة الخامسة - مثلاً- ثم يأتي صديقك حسب الموعد أما أنت فتسوّف في هذا الموعد فلا تأتي إلاّ في الساعةالسادسة، أو قد ينعكس الأمر، فيكون المتأخّر هو صديقك، وهذه الظاهرة في تضييع للوقت تنتهي بالإضرار بكلاالطرفين، في حين أن القرآن يؤكد علينا في أن نكون دقيقين ومنضبطين في مواعيدنا، وقد قال اللَّه سبحانه وتعالى بشأن النبي إسماعيل عليه السلام: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ)(مريم/54)، وعن سبب نزول هذه الآية يقول المفسرون: إن هذا النبي العظيم انتظر رجلاً سنة كاملة في نفس المكان الذي وعده فيه لكي يثبت للآخرين أهمية وقدسيّة الوعد الذي يقطعه الإنسان على نفسه بالنسبة إلى الآخرين، والمثل المعروف يقول في هذاالمجال: (وعد الحرّ دين ) أي إن الوعد هو بالنسبة إلى الإنسان الحر دين عليه أن يؤدّيه.
وبناءً على ذلك فإذا أردنا أن نصوغ المجتمع المستعد للتطور الحضاري وإذا أردنا أن نهيئ أرضية التقدم والتحضّر فيه،فلابد من الالتزم بجميع القيم والعناصر والتعاليم الحضارية التي ذكرتها نصوصنا ومصادرنا الدينية، والتي كان المسلمون الأوائل ملتزمين بها أشد الالتزام.
==============
العمل طريقنا إلى بناء الحضارة
من السهل على الإنسان أن يحمل هدفاً ورسالة، أما أن يحقق ذلك الهدف وتلك الرسالة فإنه أمر شاق للغاية، كما يؤكدعلى ذلك الحديث الشريف المروي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: (إن أمرنا لصعب مستصعب لا يحتمله إلاملك مقرب، أو نبيٌّ مرسل، أو مؤمن أمتحن اللَّه قلبه للإيمان )(29).
وفي هذا الصدد تثار أسئلة عديدة تفرض نفسها، وتطالب بالجواب عليها بإلحاح وهي:
1/ ما هي المسافة بين العمل ونجاحه؟
2/ ما هي المسافة بين الهدف والرسالة وتحقيقها؟
3/ كيف يمكن لنا أن نقطع هذه المسافة؟
الاعتقاد وحدة لا يكفي
وفي إطار الإجابة على التساؤلات السابقة نقول: إن الكثير منا يزعم أن مجرد اعتقاده بالحق وإيمانه بقيم الرسالة يكفيانه في تقديم إجابات مقنعة على تلك الأسئلة، غافلاً عن خطأ هذا التصوّر، فقد جاء عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:(إن على كل حق حقيقة، وعلى كل صواب نوراً)(30)؛ أي إن الإيمان الذي لا يتحول إلى عمل، والعقيدةالتي لا تفرز واقعاً حضارياً حياً، لا قيمة لهما.
ونحن الذين نؤمن بالإسلام؛ رغم أن إيماننا هذا هو إيمان لفظي، ولكننا عندما نراجع أوضاع المسلمين نجد أنهم يمثلون أكثر شعوب العالم تبعية وتمزقاً، وقد تفشى فيهم الفقر، والمرض، وسائر الظواهر الدالة على التخلف والانحطاط.فالإنسان، والقيم، والعدالة، والحرية، والكرامة.. كل ذلك بات من أرخص القضايا في البلدان الإسلامية.
أما في الأنحاء الأخرى من العالم؛ فإننا عندما نراهم يتحدثون عن الطفولة - مثلاً- وعن ضرورة الاهتمام بالطفل، نجدأن أطفالهم مكرّمون ومحترمون بالفعل، ففي بلدان العالم نجد منظمات عديدة تهتم بالطفولة، ومن أبرز هذه المنظمات منظمة (اليونيسيف ) التي تولت مؤتمراتها وبحوثها في العقود الأخيرة ضرورة الاهتمام بالطفل، حتى خصصواله عاماً هو عام الطفل.
انعدام الكرامة
إن كل ما حدث ويحدث في بلداننا من انتهاك لحقوق الإنسان، وهدر لكرامته، وعدم إعطائه مكانته الإنسانية اللائقةبه؛ كل ذلك سببه الكرامة التي نزعت عن الأمة، لأن الأمة المفرغة من القوة والوحدة والحرية.. التي لا وجود حضاري لها في هذا العالم، هذه الأمة لا كرامة لها. فالطفل، والرجل، والمرأة - والإنسان بصورة عامة - ليسوا مكرمين فيها،وبالتالي فإن الإنسان والقيم أصبحا رخيصين فيها، بل إن كل شي ء فيها أضحى تافهاً لا أهمية له.
ترى هل هدانا اللَّه عز وجل للدين الإسلامي لكي نكون على هذه الشاكلة، وهل يعني الإسلام التمرق والتخلّف والتبعية والكبت والدكتاتورية؟
كلاّ؛ ليس هذا هو الإسلام الذي أراده الخالق سبحانه وتعالى لعبادة؛ فهو لا يطلب لنا سوى الرحمة والكرامة، وقد جاءبالإسلام ليسعدنا ويرحمنا ويكرمنا به، وليرزقنا الفلاح في الدارين بواسطته، وبناءً على ذلك فإن المسلمين هم المسؤولون - دون غيرهم - عما يعيشونه من تردد وتخلّف وتراجع.
أساس البناء الحضاري
إن الكسل لا يفرز إلا الفشل ، والأنانية لا تفرز غير التبعية، والجهل لا يولد سوى التخلف.. وهذه الصفات السلبيةوغيرها لا يمكن أن تعطينا سوى التمزق، والتباغض، فلا يسعها أن تفرز وحدة أو حضارة، أو تهب للمجتمع التقدم والرقي.
فالإنسان لا يستطيع تغيير وحلحلة الوضع المتخلّف الذي يعيشه إلا بسعيه ومثابرته، لا بالكسل والأنانية والجهل والجبن، كما يؤكد ربنا عز وجل ذلك في قوله: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَابِأنفُسِهِمْ )(الرعد/11)، وقوله سبحانه: (وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى )(النجم/39).
فالدين الإسلامي يؤكد على أساس البناء الحضاري للأمة، والقرآن الكريم صريح في ذلك، فهو - على سبيل المثال-يقول بصراحة فيما يتعلق بالإيثار: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)، وفي قضية العلم يوجدفي القرآن ما يقرب من ثلاثمائة آية تتحدث حول العلم كقوله تعالى:(وَقُل رَبي زِدْني عِلما)(الكهف/20). وهكذا الحال بالنسبة إلى العمل الصالح، حيث يأمرنا القرآن الكريم في مائة وعشرين آية بضرورة القيام بالعمل الصالح وربطه بالإيمان:(الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ). وكذلك يدفعنا هذاالكتاب العظيم إلى التوكل على اللَّه، كما يدفعنا إلى التسلح بسائر الصفات الحميدة والرفيعة كقوله:(وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ).
وعلى هذا؛ فإننا لا نجد في القرآن ما يحثنا على الكسل ، والجبن، والتبعية، والعجز... بل إن الأمر على العكس من ذلك تماماً، حيث تأمرنا آياته المباركة بالاستقلال، والطموح، والعمل الجاد، والتطلّع نحو الأفضل.
ولما كان القرآن داعياً إلى انتهاج النهج السليم، والاتصاف بالصفات المثلى بهذا الوضوح والصدق، بات حتماً على المسلمين - بعد اتضاح هذه الحقائق - أن يلقوا باللائمة على أنفسهم، وعلى الطريقة الخاطئة التي فهموا القرآن من خلالها؛ فهم لم يدركوا من القرآن ولم يفهموا منه إلا حروفاً ورسماً، فتركوا معانيه وحقائقه وبصائره؛ فهم لا يؤمنون إلابالقرآن الذي يتلى بصوت حسن جميل في المناسبات، ولعلّهم يفخرون عندما يقرؤون عشر آيات منه في كل صباح!
وهنا أتساءل: هل إننا نقرأ القرآن بصفته برنامج عمل يوميّ، وهل نقرأه من أجل تغيير أنفسنا، أم إننا نتلوه لكي نفسره حسب أهوائنا وآرائنا، فنعمد إلى الآية التي تحثنا على العطاء، وتدفعنا إلى العمل، فنحرّفها إلى آية للكسل والتقاعس؟
فالآية القرآنية التي تقول:(وَأَنْفِقُوْا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِاَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(البقرة/195)، تأمرنابالعطاء والإنفاق، ولكننا نجد البعض يفسرها بالجبن والتخاذل، ليبرر هزيمته، غافلاً عن أن القرآن لا يبرر الهزيمة، ولايدعو إليها، بل يأمرنا بالصمود والاستقامة والتحدي.
القرآن تعاليم حياتية(3/24)
إن القرآن عبارة عن مجموعة تعاليم حياتية وقيم رفيعة؛ تعلّمنا كيفية العيش بكرامة وسعادة في هذه الدنيا، وكيف ينبغي لنا أن نحيى لنسعد في الدنيا والآخرة معاً. وهذه هي خلاصة محتوى القرآن ورسالته.
وهكذا، وبعد أن علمنا أن الفهم الخاطئ للقرآن هو السبب الرئيس الكامن وراء تخلف المسلمين وانحطاطهم وتبعيتهم أصبح لزاماً علينا أن نحذر من تكرّر هذه الحالة التي ستؤدي بنا - إن استمرّت- إلى ما لا يحمد عقباه.
إننا لو أخذنا الجانب الاقتصادي لوجدنا أن القرآن يأمرنا بأن نسلك مسلكاً سليماً لا تبذير فيه ولا إسراف، بل يدعوفيه إلى الاقتصاد والإنفاق المعتدل، كما تشير إلى ذلك الآية: (وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً)(الفرقان/67). فلا إفراط ولا تفريط ولكننا إذا نظرنا إلى طريقة تعاملنا الاقتصادي في حياتنالوجدنا أن حياتنا بعيدة كل البعد عمّا اختطّه الإسلام، وأراده القرآن لنا، فهي حياة تبذير وإسراف، إذ أن حياةالاقتصاد والإنفاق المعتدل تعني - على سبل المثال- أن لو كان مرتبك الشهري خمسين دولاراً فإن عليك أن تنفق خمسة وعشرين دولاراً منه لاحتياجاتك، وتهب عشر دولارات منه للفقراء والمساكين، وتدّخر الباقي ليوم الحاجة،أما إذا أخذت مرتبك وأنفقته بأكمله، واستقرضت بالإضافة إلى ذلك مبلغاً آخر ولم يكن ذلك من أجل الإنفاق في سبيل اللَّه، وإنما في سبيل الاستهلاك، فحينئذ ستكون حياتك حياة إسراف وتبذير.
وللأسف فإننا - بصورة عامة- مستهلكون أكثر منا منتجون، في حين أن القرآن يأمرنا أن نعطي أكثر مما نأخذ، وأن ننتج أكثر مما نستهلك، كما تشعر بذلك الآية التي تقول: (وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاًوَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِنَ الُْمحْسِنِينَ )(الأعراف/56). فحياتنا العملية قائمة على أساس الإسراف والتبذير، ولعل طريقة تعاملنا مع الماء الذي نتوضأ به، والطعام الذي نأكله، والملابس التي نرتديها، وسائر الأدوات والأمتعة التي نقتنيها ونستعملها، ليست طريقة إصلاح؛ بل هي طريقة إفساد. وبمعنى آخر؛ فإن حياتنا استهلاكية رغم إننا ندّعي بأننا دعاة إلى اللَّه سبحانه، وأدلاء إلى سبيله، ومبلّغون لرسالاته، فما بالك بالأشخاص العاديين!
أهمية معرفة لغة القرآن
إننا نحمل اليوم رسالات أنبياء اللَّه على عواتقنا، وما علينا سوى أن نصوغ شخصياتنا بهذه الرسالات المقدسة قبل أن نصوغ شخصيات الآخرين بها، وأهم أمر في صياغة أنفسنا أن نبدأ من تعرّفنا على لغة القرآن العميقة، وكيفية تطبيقهاعلى أنفسنا؛ فعندما تخاطبنا آيات الذكر تذكّرنا بأن أي عمل يقوم به الإنسان يُجزَ به، وإن كان مثقال ذرة: (وَمَن يَعْمَل مِثْقالَ ذَرَّة خَيراً يَره، ومَن يَعْمَل مِثْقَالَ ذَرَّة شَراً يَرَه )(الزلزلة/8-7).
فما الذي يريد أن يقوله لنا القرآن، ويوصله إلى أذهاننا عبر هذه الآية؟
إن القرآن الكريم يريد أن يوجد فينا عبر لغته الراقية والدقيقة حبّ العمل الصالح، والوله به. فآيات القرآن واضحة في هذا المضمار، وهي تبعث دوماً على النشاط، والعمل، والجهاد، ولكنّ هناك من لا يفهم لغة القرآن، فيعمد في البدء إلى تنفيذ العمل الملقى عليه برغبة منه أو دون رغبة، إجباراً أو اندفاعاً، وفي المرة الثانية تراه يتردد قائلاً: ألا يوجد أحدغيري يقوم بهذا العمل؟، أما في المرّة الثالثة؛ فإنه يهرب نهائياً من العمل!!
وفي هذه الحالة يهاجم الشيطان الإنسان بالتبريرات الجاهزة، ليقعده عن القيام بالعمل الصالح، ويلقي بالأعذار في ذهنه من قبيل التذرّع بالتعب، أو عدم جدوى القيام بهذا العمل... في حين أن الإنسان الذي يعمل وهو مرغم، أو لا يعمل أساساً لأنه يقدم جملة من التبريرات سلفاً، فإنه لا يمكن أن ينجح في الحياة، ولا يكن أن تنجح رسالته التي يحملها، لأنه ليس مخلصاً ومتفانياً في سبيل تحقيق أهدافه.
أما المؤمنون الحقيقيون؛ فإنهم يعشقون العمل الصالح، ويعلمون أن لكل شي ء حسابه الخاص به في يوم القيامة، ولذلك فهم يجتهدون ويتنافسون في أعمال الخير، لأنهم عرفوا ووعوا منذ البداية لغة القرآن، ومعانيه العميقة الواسعة.
ونحن جميعاً ينبغي أن نعمل، لأننا نؤمن بيوم الحساب، ونعلم بأن الدار الآخرة هي دار حساب ولا عمل، والدنيا دارعمل ولا حساب، وأن العمل الصالح هو الشي ء الوحيد الذي يجب أن نتسابق إليه، ونتنافس فيه قبل حلول الأجل وفوات الفرصة.
الأهداف لا تتحقق بالشعارات
وعليه؛ فإن الأهداف العظيمة التي نحملها لا يمكن تحقيقها بالشعارات والهتافات، لأنها - أي الأهداف- بحاجة إلى تربية ذاتية، تغيّر من خلالها الشخصية تغييراً كاملاً. فالتراخي والتوالي والأنانية هي أمور لا يمكن أن تصنع حضارة أوتحقق تقدماً وازدهاراً؛ وأن الشي ء الوحيد الذي تحتاج إليه شخصية الإنسان هو الاجتهاد؛ أي بذل المزيد من الجهدوالعطاء.
ونحن عندما ننظر إلى ما أنجزه الغربيون من التقدم، علينا أن نتأكد بأنهم لم يسبقونا ويتفوّقوا علينا بالكلام والشعارات،بل كان سر تفوقهم هو العمل والمساعي العلمية والاقتصادية.
وكما أسلفنا؛ فإن السعي والعمل يتّمان عبر تربية النفس على حب العمل الصالح، وأن نقرأ القرآن لنقاوم به ضعف أنفسنا،وجبننا، وكسلنا، وأنانيتنا، وفشلنا، وجميع المظاهر السلبية في حياتنا لنصنع - بالتالي- جيلاً قرآنياً يزرع النجاح والأمل والتفاؤل في كل مكان.
===============
السبيل إلى الإصلاح الحضاري
من أين بدأت بإصلاح المجتمع أو إصلاح الحياة، فإنك لابد أن تصل إلى سائر الأبعاد، لأن في الحياة عوامل متكاملة متفاعلة وذات تأثير متقابل.
ترى من أين نبدأ عملية الإصلاح الحضاري في الأمة؛ من الفرد لإصلاح المجتمع، أم من المجتمع لإصلاح الفرد، وهل نبدأمن المجال الاقتصادي أم السياسي أم الاجتماعي؟
للجواب على ذلك نقول: إنّه ليس المهمّ تحديد نقطة الانطلاق في عمليّة الإصلاح الحضاري، فجميع مساعينا في هذاالمجال تصبّ في قناة واحدة؛ فإن أصلحنا الفرد فإنّه سيكون الّلبنة الأولى لبناء صرح المجتمع، وسيبث روحاً جديداً فيه.وإذا بدأنا بإصلاح المجتمع فإن قوانين هذا المجتمع وديناميكية نظامه ستؤثّران بشكل مباشر في إصلاح الفرد أيضاً، وإذاأصلحنا الاقتصاد فإن السياسة هي الأخرى سينعكس عليها الإصلاح، وإذا أصلحنا الأخلاق أثّر هذا الإصلاح مباشرة على الثقافة.
وبناءً على ذلك؛ فإننا نستطيع من خلال بيان هذه الحقيقة أن نحسم الجدال الذي استهلك جهود وأوقات الكثير من الخبراء والعلماء حول تعيين منطلق عملية الإصلاح الحضاري، بل إنّ هذا الجدال جعل البعض منهم يعيش ضمن دائرةمفرغة لا يعلم من أين يدخل فيها، ومن أين يخرج منها، فالمهمّ ليس معرفة هذا البعد أو ذاك بقدر ما هو الانطلاق والمبادرة .
ونحن -كمسلمين- نصاب في بعض الأحيان بشلل الإرادة ، وقد ينعكس هذا الشلل في تأخير اتخاذ القرار؛ متذرّعين بأنّنا لا نعرف من أين نبدأ عملنا، وكيف نتحرك، ومن الذي سيساعدنا.. في حين أنّ من الواجب علينا أن نتوكّل في هذاالمجال على اللَّه تقدّست أسماؤه، الذي يقول: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)(العنكبوت/69).
وثمة سؤال لا يصح التغافل عنه؛ ما هو السبيل إلى إنشاء مؤسسات اجتماعية حضارية فاعلة، وكيف نحوّل مساجدنا إلى جامعات، ومنتديات علمية ومراكز اجتماعية وخدماتية..؟(3/25)
من أجل أن نقوم بكلّ ذلك وغيره، علينا أن نتّبع الخطوات التالية:
إسقاط الحواجز
1/ لابد أن نسقط الحواجز بيننا كأفراد؛ فنحن نعيش فيما بيننا سواء في الأسرة، أم في المسجد أو حتى في التنظيمات السياسية، ولكن هذا التعايش هو تعايش مادّي بحت، أمّا الأرواح فإنها متنافرة، فكل واحد منّا يعيش في وادٍ،والآخرون في وادٍ آخر.
ترى كيف السبيل إلى إسقاط هذه الحجب، وتجاوز هذه الحواجز والعقبات؟ من أجل العثور على إجابة شافية على هذاالسؤال، لابد أن نعود إلى كلمة نبينا الأعظم محمدصلى الله عليه وآله وسلم التي يقول فيها: (إنما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق )(31)، إلا أننا عادة لا ننظر إلى التعاليم الأخلاقية باعتبارها قضايا أساسية. فنحن قليلاً ما نتأثّر بالنصائح والمواعظ الأخلاقية، فالكثير منّا عندما يجلس في مجالس الوعظ والإرشاد فإنّه يسمع المواعظ والإرشادات بإذن ليخرجها من الأذن الأخرى، فترى كل واحد ينظر إلى ساعته ليرى متى ينتهي المجلس، في حين أن هذه الدقائق محسوبة عليه، وهذه المجالس نحن مسؤولون عنها يوم القيامة، فلعلّ حديثاً نسمعه في هذا المجلس أو ذاك من شأنه -إذا لم نطبّقه- أن يقف أمامنا يوم القيامة ليمنعنا من دخول الجنّة، فهذا الحديث يعتبر بالنسبة إلينا نذيراً وبشيراً. صحيح أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ليس بيننا، ولكن كلامه ما يزال بيننا، فالخطيب إنما يتحدث إليك بالنيابة عن القرآن وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم،وعندما لا يترك فيك هذا الحديث الأثر المطلوب فإن هذا يعني أنك لم تأت لكي ترتفع، وتحدث تحوّلاً حقيقياً في نفسك، وتتغيّر تغيراً جذرياً، ولذلك فإن الحديث سوف لا ينفعك، ولا ينفذ إلى أعماقك لأنك لم تكن مستعداً له من الناحية الذهنية والنفسية.
إن التربية الأخلاقية تمثّل عملية متطورة، وهي بإمكانها أن تحدث قفزة هائلة في حياتنا، ونحن إذا أردنا أن نتمسك بتعاليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام الخلقية، فإننا نحتاج إلى عزيمة تشبه عزيمة الإنسان الذي يريد أن يقتلع جبال الهملايامن جذورها، والسبب في ذلك أن نفس الإنسان بتجبّره متكبرة، طاغية، كما أن الوساوس الشيطانية، والثقافةالجاهلية، وغفلة الإنسان وشهواته تزيد من تلك الصفات السلبية في النفس.
إن الحواجز التي تفصلنا عن بعضنا لابد وأن نهدّمها لكي نبني المجتمع الحضاري من خلال تصوّر أن هذه الحواجزستمنعنا أولاً من دخول الجنة لقول الإمام موسى الكاظم عليه السلام في وصيته لهشام بن الحكم في إطار بيانه للأثر الذي سيتركه في يوم القيامة حاجز من تلك الحواجز: (وهل يكبّ الناس على مناخرهم في نار جهنم إلا حصائدألسنتهم )(32)، فالكلمة الواحدة من الممكن أن تهوي بالإنسان في نار جهنم سبعين خريفاً، ولكننا - للأسف الشديد- ترانا نجلس لنخوض مع الخائضين، ولنوزّع التثبيطات يميننا وشمالاً، في حين أن الكلمات المثبطة التي نتفوّه بهامن الممكن أن تصبح بالنسبة إلى الطرف المقابل بمثابة فرامل توقف مسيرته. فقد تكون هناك عشرات البرامج في ذهن هذا الإنسان يريد أن يطبّقها، ولكنّ تلك الكلمات أوقفتها.
هذا في حين أننا مسؤولون عن الكلمات التي ننطبق بها، وسوف نحاسب عليها يوم القيامة حساباً عسيراً؛ فالغيبة،والتهمة، والنميمة... كل ذلك نحن مسؤولون عنه، وفي القرآن الكريم آيات عجيبة تتوفر على معالجة أمراض النفس شريطة أن يعي الإنسان هذا العلاج، كقوله تعالى: (وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ )(الأنعام/120). ففي بعض الأحيان قد لا يغتاب الواحد منّا إنساناً آخر بشكل مباشر، وقد يرتكب ذنوباً لفظية أخرى فتترك آثارهاالضارة والسلبية على الآخرين دون دخولنا الجنة، وتمنعنا بذلك من الوصول إلى أفضل ما نصبو إليه.
الصفات السلبية سبب المأساة
2/ لنتصوّر أن هذه المآسي التي تحلّ بنا - نحن المسلمين- بما فيها من فظاعة وآلام قد كان السبب فيها تلك الأخلاقيات السيئة التي نعاني منها، فاللَّه سبحانه وتعالى لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم.
ترى ما هي هذه الصفات السلبية التي تكّرست فينا وسبّبت هذه المآسي والأزمات؟ لابد أن هناك أنواعاً أخرى من الذنوب، ألا وهي الذنوب التي نستهين بها ونستصغرها والتي تعتبر أخطر الذنوب على الإطلاق، لأن الذنب الذي يستصغره الإنسان لا يمكن أن يغفره اللَّه جل وعلا؛ فكلّ واحد منّا يتصوّر امتيازه عن الآخرين ببراءة خاصة، فيقرّرأن جميع الناس كفار، ومنافقون، وأن عليه أن يحطّمهم.. ومثل هذا الإنسان سوف يعذبه اللَّه تعالى مرتين؛ مرّة لأنه ارتكب ذنباً، ومرّة ثانية لأنه استحلّ حرمة إنسان مؤمن.
وأنا أرى في هذا المجال أن الذنوب التي تنزل نقمات الرب، وتحول بيننا وبين معالجة وإصلاح أوضاعنا، هي نوع من الذنوب الخفيّة؛ مثل سوء الظنّ، والتكبّر، والتفاخر، والاستهزاء بالآخرين، والحط من شأنهم.
فلنقرأ - مثلاً- سورة الحجرات، ولنطبّقها على أنفسنا، ولنتدبر في هذه الآية: (يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِن نِسَآءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَ )(الحجرات/11). فكيف يحق لنا أن نقرّر أن جماعتنا هي أفضل من تلك الجماعة، وكيف استطعنا أن نضمن خلاصنا من نار جهنم لكي ندخل الآخرين فيها؟
إن هذه الصفات السلبيّة المذمومة هي حواجز بيننا كأفراد، وهذه الحواجز تمنعنا من التعاون، وعندما ينعدم التعاون سيوجد الذل والفقر وسائر الصفات السلبية الأخرى.
وللأسف؛ فإنّني قد أرى اثنين من الإخوان المؤمنين الملتزمين بالتعاليم الدينية لا يستطيعان أن ينسجما مع بعضهما في مشروع واحد، رغم أن هذا المشروع هو مشروع دينيّ ليس من ورائه مصلحة شخصية، في حين أن الأعمال الحضاريةهي - عادة- أعمال جماعية، ومثل هذه الروحية لم تنمُ فينا بعد، لأنّنا نعاني من تلك الأخلاقيات السلبية، وقد يكون الواحد منا اكتسب هذه الأخلاقيات منذ الطفولة.
توظيف الاختلاف في التكامل
إن القرآن الكريم يقول صراحة: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى )(المائدة/2)، ولكن الواحد منّا لا يريدأن يعمل مع الآخرين بحجّة أنه لا ينسجم معهم! في حين أن القضية ليست قضية هوى نفس، فالأيادي لابد أن تتلاحم مع بعضها، والتجارب والخبرات لابد أن تتجمّع مع بعضها. صحيح أن اللَّه تقدست أسماؤه قد خلق كل إنسان على شاكلة معيّنة، وأن الاختلاف من طبيعة كل إنسان، ولكنّ هذا الاختلاف يجب أن يُوظّف لمصلحة التكامل، من أجل أن نشكل به المجتمع الواحد المكتفي من خلال ذلك الاختلاف اكتفاء ذاتياً. فاللَّه تبارك وتعالى لم يخلقنا مختلفين لكي نتنافرونتصارع مع بعضنا، فهو يقول: (يَآ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَاُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ )(الحجرات/13).
وعلى هذا فإن الحكمة من الاختلاف هو الوحدة، والتكامل، والتفاعل. أما أن نتمسك بالاختلاف الذي بين نفوسناوطبائعنا، وأن يبغي كل واحد منا أن تكون له مؤسسة خاصة به لا يدخل فيها عليه أحد، فإن هذه الظواهر هي من صفات المنافقين الذين يعصون من فوقهم، ويظلمون من تحتهم، فلا يستطيعون التوحّد والانسجام مع من هو أعلى منهم، ولا مع من هو أصغر منهم.(3/26)
إن علينا أن ننتزع هذه الصفات السلبية من نفوسنا، وعندما نتخلّص منها فإننا سنستطيع أن نبدأ مسيرة الحضارة.
وكذلك الحال بالنسبة إلينا فإن من الواجب لكي نصل إلى تلك المستويات الرفيعة أن نلتزم بجميع الأخلاقيات الإيجابية، وأن لا ندّعي أننا مبرّؤون من الآثام والذنوب؛ وعلى سبيل المثال فإن هناك بعضاً من الذنوب تصدر من العقل الباطن، ومن بعض المؤثرات غير الشعورية دون أن نحس بها، ومثل هذه الذنوب يجب أن نتخلص منها وأن لاندّعي إننا منزّهون عنها.
حسن الخلق في الروايات
وفيما يلي سأنقل للقراء الكرام بعض الروايات التي تتحدّث عن فضيلة حسن الخلق، هذه الفضيلة التي تقود إلى أعلى المستويات الحضارية:
- قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: (ما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حسن الخلق )(33).
- وقال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: (أربع من كنَّ فيه كمل إيمانه، وإن كان من قرنه إلى قدمه ذنوب لم ينقصه ذلك وهي: الصدق، وأداء الأمانة، والحياء، وحسن الخلق )(34).
- وقال عليه السلام: (ما يقدم المؤمن على اللَّه عز وجل بعمل بعد الفرائض أحبُ إلى اللَّه تعالى من أن يسع الناس بخلقه )(35).
- وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: (إن صاحب الخلق الحسن له مثل أجر الصائم القائم )(36).
- وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (.. وأكثر ما يدخل به الجنة، تقوى اللَّه، وحسن الخلق )(37).
- وقال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: (إن الخلق الحسن يميث الخطيئة كما تميث الشمس الجليد)(38).
- وقال عليه السلام: (إن اللَّه تبارك وتعالى ليعطي العبد من الثواب على حسن الخلق كما يعطى المجاهد في سبيل اللَّه يغدو عليه ويروح )(39).
- وقال عليه السلام: (إذا خالطت الناس فإن استطعت أن لا تخالط أحداً من الناس إلا كانت يدك عليه العليافأفعل، فإن العبد يكون فيه بعض التقصير من العبادة، ويكون له خلق حسن، فيبلّغه اللَّه بخلقه، درجةالصائم القائم )(40).
وهذا يعني إن الأخلاق الحسنة تسدّ، وتكمل النواقص الموجودة في أعمال الإنسان.
فالتمسك بالأخلاق الحسنة، وطرد الأخلاق السيئة، وخصوصاً الاجتماعية منها، من شأنه أن يرفع ويحطّم الحواجز بيننا،تلك الحواجز والعقبات النفسية التي تحول دون سيادة حالة التكافل والتعاون والانسجام والحضور الضرورية لتشييدصرح الحضارة الشامخ. فمن دون أن نتسلح بالأخلاقيات الحضارية التي تقف الروح الجماعية في مقدمتها سنظل نرسف في أغلال الجهل، والتخلّف، والانحطاط، وسنبقى تابعين لغيرنا.
=============
الثقافة منطلق المسيرة الحضارية
مما يؤلم كل ضمير حيّ في هذه الأمة، ويحز فيه هو حالة التخلف والجهل والفقر التي تعيشها أمتنا الإسلامية منذ أمدطويل وإلى حد الآن، فالواحد منا ينام ليله وهو يحلم في رغيف الغد كيف سيحصل عليه، ويأتي به إلى أطفاله لكي يسدبه رمقهم ورمقه. فإلى متى -يا ترى- سنظل نعيش حضيض التخلف، في حين أن العالم الآخر يخطو خطوات واسعة،ويقفز قفزات عملاقة في دنيا التكنولوجيا المتطورة، والاقتصاد المزدهر؟
بين البلدان المتخلفة والبلدان المتطوّرة
في بعض البلدان الفقيرة قد لا يمر العام الأول على الأطفال فيموتون خلال أشهرهم الأولى ولم يحتفلوا بعد بعيد ميلادهم الأول، في حين توقد الشموع لأطفال أوروبا وأميركا واليابان كل عام حتى يهرموا، وإذا افترضنا أن أولادنا قد كتبت لهم الحياة فإنهم سينمون نحيفين أو مشوّهين لأنهم لم يزودوا في صغرهم بلقاح بسيط لا تتعدى كلفته الدولار الواحد،فيكونون عندئذ ضحايا الشلل، أو الجدري وغير ذلك من الأوبئة والأمراض، بينما توضع برامج التغذية الخاصة لأطفال العالم الصناعي بالإضافة إلى الدواء والعلاج الذي قد لا يحتاجونه، لأن الأمراض والأوبئة قد رحلت من بين أوساطهم منذ زمن ليس بالقصير.
ترى لماذا تعصف ببلداننا أمواج الفقر والكوارث، فيموت أبناؤها ضحايا الأمراض والجفاف والجوع الذي يسحق الألوف المؤلفة؟
منذ مئات السنين والعيش الرغيد الهني ء حسرة على كثير من الشعوب المسلمة وقلوب أطفالهم، ولو كان هناك جهدمن الإنسان الغني في هذه المنطقة الإسلامية أو تلك لما وصل الفقر إلى هذه الدرجة المتأزمة الحادة التي عليها الآن،ولكن الصبغة العامة - للأسف- ليست هي صبغة الغنا والرفاهية والازدهار، بل هي صبغة التخلف والفقر والهوان والذل والتبعية، وما إلى ذلك من الظواهر السلبية المقيتة.
ترى هل خُلقنا لكي نعاني ونتألم... أم لأننا مسلمون فكان قدرنا هذا الواقع المرير، أم أننا زهدنا في الدنيا وابتغيناالآخرة ورجوناها، فكان الازدهار والتقدم والنعيم في هذه الدنيا من نصيب الآخرين؟
كلا؛ فحاشى للَّه تبارك وتعالى أن يكون قد قدّر لنا كل ذلك، بل لابد أن نفتش عن أسباب وجذور واقعنا المظلم المتخلف، فإذا أردنا معالجة أوضاعنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المتردية علاجاً آنياً وموقتاً دون البحث في العمق، ودون دراسة خلفيات وجذور هذه الأوضاع وما يسفر عنها من نتائج، فإن بحثاً وعلاجاً كهذين إنما هما عبث في عبث.
لابد من علاج جذري
إن مثل التخلف في أوضاعنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية كمثل جبل الثلج الذي يطفو فوق البحر، فلا يظهر إلاجزء يسير من حجمه فوق سطح المياه لا يتجاوز المعشار، أما النسبة الباقية فهي غائصة لا تبدو للعيان. وهكذا الحال بالنسبة إلى أوضاعنا، وخصوصاً الاقتصادية منها، فإن النسبة الأعظم منها غائصة في بحر التخلّف.
لقد بلغ التخلف والتردي في أوضاعنا الاقتصادية والسياسية درجة بات لا ينفع معها العلاج الموقّت، لأن العلة ستبقى متأصلة تكبر وتستشري بمرور الزمن، فلابد - والحالة هذه- من المعالجة الجذرية ما دامت العلل والأسباب متأصلةوجذرية هي الأخرى.
وقد يعلّل البعض تخلّفنا وتقهقرنا بأنهما قدر إلهي كتب علينا، وحاشا للَّه -جلت قدرته- أن يجعل ذلك قدراً يقدره دون سبب، فهو تعالى ينفي ذلك عن ذاته المقدسة بشدة في قوله: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ)(فصلت/46)،فكيف يكتب الفقر على عباده وقد خلق كل ما في الوجود مسخراً لهم، ولأجل منفعتهم، وقد خلق هذه الأرض وماعليها من خيرات وما في جوفها من كنوز وثروات، والسهول، والجبال، والبحار والأنهار، والحقول والمراعي،والطيور والثروات الحيوانية.. وغيرها من النعم التي لا تعد ولا تحصى؟
نحن أغنياء ولكن...!
إن بلداننا الطويلة العريضة ما من واحد منها إلا وتجده غنياً مليئاً بالكثير من الموارد والثروات الطبيعية المختلفة؛ من نفط، وغاز، وحديد، ونحاس، وذهب ، ومياه عذبة، وتربة خصبة، وغابات .. ولعل هذه الموارد نجدها تتركز عادة في المناطق الإسلامية كما هو الحال في الاتحاد السوفياتي والصين فضلاً عن البلدان الإسلامية نفسها.
إن اللَّه تقدست أسماؤه لم يكن ليقدّر لنا -نحن المسلمين- أن نعيش فقراء معوزين محتاجين إلى غيرنا، وكيف يقدّر لناالفقر وفي بلدان الخليج وحدها خمسون بالمائة من احتياطي النفط العالمي؟
وفي الوقت الذي لم يجعل اللَّه تعالى الفقر قدرنا وقضاءنا، فإنه لم يأمرنا أن نركن إلى زوايا بيوتنا لنقعد، وننتظر أن يرفدنابكل ما نحتاجه من المعاجز والإمدادات الغيبية، بل إنه تعالى أمرنا بالانطلاق في رحاب هذه الأرض، والابتغاء من فضله ونعمه.
فما هو - إذن- سبب فقرنا وتخلفنا بعد أن اتضح لنا أن الفقر ليس من اللَّه جل جلاله، وأين تكمن علّة الفقر؟(3/27)
للجواب على ذلك: إن السبب هو القيود والأغلال التي كُبّلت بها أيدينا، فلم تعد قادرة على الاستثمار، والإنتاج،والإبداع، وانعدام الحرية الاقتصادية. فعلى الرغم مما تزخر به بلداننا من كنوز وثروات، ولكن استثمارها والانتفاع منها ممنوعان على أهلها وأصحابها؛ وعلى سبيل المثال فإن هناك أراضي خصبة بكراً تملأ الآفاق، وهناك مياه عذبةغزيرة من شأنها أن تجعل من تلك الأراضي جناناً خضراً تحمل لنا ثماراً طيبة عبر استصلاحها، وحرثها، وزراعتها،ولكنك عندما تعزم على تعزم على تنفيذ مشروعك لابد أن تصطدم بألف قانون وقانون يحول بينك وبين تحقيق هذاالهدف الاستثماري.
نعم؛ إن القوانين التي من الأحرى أن نسميّها بالموانع والعراقيل تظل تلاحق آمالنا وأحلامنا، ونحن لو أمعنا النظر في هذه القوانين لوجدنا أنها ليست إلا تركة استعمارية مقيتة.
التخلّف في المجال الزراعي
وللأسف فإن الزراعة في معظم بلداننا التي كانت في يوم من الأيام تتمتع بالاكتفاء في هذا المجال، شبه ميتة؛ فأراضيهايقتلها البوار، والمياه العذبة تذهب إلى البحار هدراً دون استغلال صحيح لها، حتى بتنا نستجدي ونطلب الصدقات من أميركا وأوروبا لتزودنا بشي ء من القمح واللحم والبطاطس بعد أن نهبوا نفطنا، وثرواتنا المعدنية، فأضحى اقتصادناأسيراً للعملات الأجنبية.
ترى أين نحن اليوم من أمسنا؟ فأرض العراق التي كانت تسمى (أرض السواد)، حيث لم تكن بقعة منهاتخلو من الزراعة والخضرة، أصبح أبناؤها اليوم يموتون جوعاً، كما أن هذه الأرض كانت في يوم ما ملجأ لكل جياع العالم عندما يصيبهم القحط، في حين نرى الآن أن مخزون القمح فيها لا يكفي إلا لمدة أسبوعين، وإذا ما بحثنا عن السبب؛حدثنا عنه التاريخ؛ فالبريطانيون عندما جاؤوا إلى مصر منعوا وحاربوا زراعة القمح واستبدلوها بزراعة القطن ليزودوا به مصانعهم في بريطانيا، حيث بلغت الثروة الصناعية أوجها، وكانت المصانع في أمسّ الحاجة إلى المواد الخام ومن ضمنها القطن الذي يعتبر المادّة الأولية الأساسية في صناعة النسيج.
إن معظم القوانين الاستعمارية المستوردة التي يُعْمَل بها في بلداننا الإسلامية إنما وفدت علينا في إطار مؤامرة غربيةلتدمير اقتصاد المسلمين، وعرقلة عملية نموّهم وتطوّرهم؛ بل ومن أجل تجويع شعوبنا، وهدم البنى التحتية لاقتصادها؛فأماتوا زراعتنا، وزودونا بالمكائن والآلات غير الأساسية لنضيّع أوقاتنا في صناعات التجميع.
وفي الحقيقة؛ فإننا لو نظرنا إلى البلدان المتقدمة صناعياً نجد أن تقدمها هذا لم يحدث إلا من خلال التطوّر الزراعي،وزيادة الإنتاج. فالأولى بكل بلد نامٍ - إذن- أن يطوّر زراعته أولاً، ويؤمن إنتاجه، ثم ينتقل بعد ذلك إلى المجال الصناعي. ولعل من الأسباب التي فجّرت الثورة الصناعية في عالم الغرب - وخصوصاً بريطانيا، وكما يرى ذلك بعض المؤرّخين - هو الفائض في الإنتاج الزراعي الذي شهدته بريطانيا، والدول الأوروبية الأخرى آنذاك.
ومن أجل علاج تلك المعضلات لعلنا نقول: حسناً؛ لنعط الزراعة حقها، فهذه الأرض مفتوحة لمن أراد أن يستثمرها،وبالإضافة إلى ذلك لنعط الحرية في الصناعة، ولنشيّد المعامل، وننتج.
غير إن هذا وحد لا يكفي؛ فالحرية بدون ضوابط وتنظيم لا تكفي، بل إنها ستتحول بهذا الشكل العشوائي إلى طبقيةمقيتة؛ فالبعض يستخدمون دهاءهم ولا يتورّعون عن ارتكاب أية جريمة، وإذا بهم يشكلون كتلاً وتجمعات اقتصاديةخاصة، ويمتصون من خلال هذه التشكيلات دماء الغالبية المسحوقة من أبناء شعوبنا، فيزدادون - بالتالي- ثراءًوترفاً، بينما يظل المسحوقون في فقرهم وفاقتهم، وتضحى الحركة الاقتصادية عبارة عن سيطرة مجاميع من البرجوازيةالكبيرة والصغيرة، والرأسمالية، والكارتلات على مقدراتنا.
الحرية الاقتصادية والسياسية معاً
وخلاصة القول؛ إننا نسلّم بحاجتنا الماسة إلى الحرية الاقتصادية، ولكن هذه الحرية لا تكفي لوحدها، إذ لابد من حريةسياسية تؤازر الحرية الاقتصادية وتوجهها، لأن الحرية الاقتصادية وحدها ومن دون خلفية سياسية تكون بمثابةضابط وموجه لها، لا تلبث أن تتحول إلى ذئب ضارٍ ينهش في جسد الأمة، ويمتص دماءها. فالضوابط والتنظيم والإدارة الحازمة التي تتولاها القوة السياسية في البلاد تعني الحيلولة دون انتشار المفاسد الاقتصادية، كالاستغلال والاحتكار والجشع والغلاء والرشوة والاختلاس. فما أهمية القانون وما معناه إذا شاعت الرشوة في البلاد أو استفحل الاستغلال والاحتكار؛ فهذه العوامل التي تشلّ اقتصاد البلد تتحوّل إلى مجموعة كارتلات تسيطر، وتخطط، وتنفذ.
وفيما يتعلق بالحرية السياسية نتساءل: هل أن هذه الحرية ينتهي عندها كل شي ء، فتسير الأمور في مجراها الطبيعي؟
هنا نقول: إن الحرية السياسية لا تكفي - هي الأخرى- لوحدها، وليست قادرة على منع انتشار عوامل الفسادالاقتصادي، ذلك لأن للحرية السياسية منافعها ومضارها، فمن ضمن منافعها أنها تجعل الواحد منا حراً في أن يبوح ويعبّر عما يريد ويمارس ما يرغب، ومن مضارّها أيضاً إفساد الرأي العام من خلال حدوث الانشقاق بين الأفراد،فإذا بكل واحد يبغي إسقاط الآخر؛ فيتكلم عنه بما فيه، وما ليس فيه. وهذا هو الجذر الأساسي للمشاكل التي نعاني منها، وهو الذي يجب علينا أن نسعى جاهدين لاجتثاثه من خلال نشر ثقافة رسالية إيمانية وتعامل أخلاقي فاضل.
الثقافة الرسالية؛ إطار الحرية
وإذا ما أُطرت الحرية السياسية بإطار إيماني، وأخلاق إسلامية فاضلة ، فإننا سنكون أهلاً لضبط وتوجيه الحريةالاقتصادية التي هي من جملة الأسباب الرئيسية للنمو والازدهار والتقدم.
إن الثقافة الرسالية هي التي تصنع الإنسان المتقي الورع الذي يكون أهلاً لإبداء الآراء، والبحث على صعيد الاجتماع؛فلا يقول شيئاً، ولا يرى رأياً إلا بعد تمحيص ودراسة ودراية، ولا يفعل فعلاً إلا بعد إحاطة بالنتائج، فيصدر كل ذلك منه في إطار مخافة اللَّه سبحانه وتعالى وتقواه، فلا يقول ولا يعمل شيئاً من باب العبث.
وهكذا فلابد من ثقافة رسالية توجه التيار السياسي في هذه الأمة، وإذا ما انتشرت في أوساط الأمة ثقافة رساليةصادقة، وعرف الناس حقوقهم وواجباتهم، وأحسنوا التعامل معها، فحينئذ ستكون الحرية السياسية مجدية ونافعة،وستؤتي الحرية الاقتصادية بعد ذاك ثمارها، وتزدهر الأمة، وتمضي قدماً في مسيرة التقدم.
ولذلك نجد القرآن الكريم يؤكد على محور الثقافة الرسالية باعتبارها العنصر الأهم في عملية التقدم؛ فلابد -أولاً- من أن يزكى عقل الإنسان، وينمو ويتفتح، وإلى هذه الحقيقة يشير السياق القرآني في قوله: (أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِن رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ )(الزمر/22).
فالإنسان المؤمن عندما يفتح قلبه، ويجعله منشرحاً للإيمان، فإن اللَّه سبحانه يغدق على قلبه فيضاً من نوره السرمدي،وعندئذ سيدرك صاحب هذا القلب ماله وما عليه في هذه الحياة سواء إزاء نفسه، أو أمام أسرته، ومجتمعه، وأمته.(3/28)
والإمام السجادعليه السلام يبيّن في رسالته المعروفة ب(رسالة الحقوق ) أن علينا في هذه الدنيا حقوقاً، وعلى سبيل المثال؛ فإن لنفس الإنسان وجسمه ولكل جوارحه حقوقاً لابد من أن يوفيها، وإذا ما خرج هذا الإنسان من إطار ذاته لاقته حقوق أخرى؛ كحقوق الوالدين، والأولاد، والزوجة، والجار، ثم تتعدى إلى الأصدقاء والأقرباء والمجتمع حتى تشمل الأمة كلها. وإذا ما حافظ الإنسان على هذه الحقوق والواجبات وعمل بها، فإنه سوف لا يحتاج إلى قانون خارجي يؤطر حركته ويوجهها في الحياة، ذلك لأن القانون قد وجد - مسبقاً- في ذاته وضميره؛ أي أن وازعاً داخلياًهو الذي سيحرّكه.
أما الذين قست قلوبهم، ومات الضمير والوجدان فيهم، فإن هؤلاء لا تنفع معهم جميع القوانين، مهما تعدّدت وتفرعت بنودها، مادام ذكر اللَّه جل وعلا لا يدخل إلى أعماقهم ولا يتغلغل إلى قلوبهم الميتة القاسية. ثم يمضي السياق القرآني الكريم مؤكداً على هذه الحقيقة قائلاً: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشآءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)(الزمر/ 23).
وعلى هذا الأساس؛ فإننا بحاجة إلى هدى اللَّه، ومجتمعاتنا بحاجة - هي الأخرى- إلى أن تقتلع جذور التبعية والتخلّف والتمزق وجميع الأمراض المستعصية المعششة في مجتمعاتنا الإسلامية، مادام القرآن بين أيدينا.
فلنتلُ القرآن الكريم حق تلاوته، ولننشر مبادئه، وتعاليمه بين أفراد المجتمع، ولندعُهم إلى أن يكونوا قرآنيين. وإذا ماوصلنا إلى هذا المستوى، فحينئذ سوف تحلّ جميع مشاكلنا. ففهم القرآن، وتدبّره يعنيان أننا قد عالجنا مشكلتنا الثقافية؛أي تزودنا بزاد الثقافة الرسالية التي هي مفتاح علاج مشاكلنا، ومعضلاتنا السياسية، ومن ثم الاقتصادية، وبذلك سوف نبني أمة خلاقة، مبدعة تحب العمل المؤطر بالإخلاص، وترغب في التحرك والنشاط.
فلابد - إذن- من أن نتسلّح بسلاح الثقافة الرسالية، وندع الجمود، والخمول، وروح الاتكال جانباً، ولابد لنا من ان نتشبع بالثقافة القرآنية، ونعيها وعياً تاماً، ونبثها في مجتمعاتنا لكي نخطو الخطوات الأولى في معالجة مشاكلنا، وتغييرواقعنا المتردي نحو الأفضل والأحسن، وبالتالي نسير بأمتنا إلى مستقبل حضاري مشرق ومزدهر.
=================
بناء المؤسسات ضرورة حضارية
إذا كانت هناك ميزة يتميز بها عصرنا الحديث، فإنها -ولا ريب- ميزة (المؤسسات ). فجميع البحوث والدراسات التي تبحث في تطوير المجتمعات وتحضيرها، لابد أن تؤدي إلى هذا المحور وهو: كيف نتجاوز عصر الفردإلى عصر المؤسسة، والحالة الفردية إلى الحالة الاجتماعية؟
الحضارة هي الحضور
إن كلمة (الحضارة) و(المدنية) وما يراد منها من مصطلحات وتعابير تؤدي كلها معنى حضورالإنسان واجتماعه وتفاعله معه، بل إننا عندما نريد أن نعرّف الإنسان تعريفاً يميزه عن سائر الأحياء، فلا مناص لنا من القول بأنه كائن اجتماعي سياسي، وقد ظهر هذا التعريف مؤخراً في مؤلفات المفكرين والعلماء.
البيان والعلم ميزة الإنسان
وعندما بيّن القرآن الكريم الصفة الأساسية للإنسان، فإنه ركز على صفة البيان والعلم، وذلك في الآية الكريمة التي كانت باكورة وحي اللَّه تعالى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأََكْرَمُ *الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ )(العلق/5-1).
وفي سورة الرحمان التي تتجلى فيها رحمة اللَّه عز وجل نقرأ قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْءَانَ * خَلَقَ الإِنسَانَ )(الرحمن/3-1)، وفي سورة القلم تطالعنا الآيات الكريمة القائلة: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ *مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ )(القلم/2-1)، فلماذا كان القلم أداة العلم، والبيان وسيلته، ولماذا كان العلم والبيان ميزة الإنسان؟
الجواب: لأن العلم والبيان يتولان مسؤولية نقل الخبرة من إنسان إلى آخر، ومن جيل إلى جيل، في حين إن هذه القدرةمعدومة تماماً لدى سائر الكائنات الحيّة، ولذلك فإنها متوقفة عند حد معين من الفهم والمعرفة.
فالبيان وسيلة لنقل التجربة من إنسان إلى آخر، السمة الأساسية له هي سمة الحضور، فالإنسان كائن حيّ متحضّر،اجتماعي، مبيّن ناطق، ولكن الناس مع ذلك يختلفون في مستويات تحضّرهم، فهناك بعض الحضارات متقدمة، وهناك حضارات متوسطة في التقدم، في حين أن هناك حضارات بدائية متخلّفة.
مقياس التحضّر
إن القيمة التي نقيس بها الحضارة ونحكم على ضوئها بأنها متقدمة، أو متوسطة، أو متخلفة، هي مدى (الحضور) فيها؛ فنحن قد نحضر عند بعضنا حضوراً مادياً بحتاً كما تجتمع أعواد الثقاب إلى بعضها في العلبة،ولكن ترى هل هناك تفاعل بيننا في هذه الحالة؟ الجواب بالنفي طبعاً، ولذلك فإننا لا نستطيع أن نسمّي علبة أعوادالثقاب بحضارة الثقاب، لأن الحضور في هذه الحالة هو حضور فيزيائي صرف وليس حضوراً معنوياً.
والآن فإن من الوسائل التي يستطيع بها العلماء معرفة مدى تحضّر شعب ما هي مفردات اللغة التي يتعامل بها، فهناك بعض الشعوب البدائية لا تمتلك مفردات لغوية كثيرة، فالجمل عندها بسيطة التركيب، لأن أفرادها لا يتمتعون بخبرةكبيرة لكي يحتاجوا إلى نقلها إلى بعضهم البعض، فنقل الخبرة بحاجة إلى البيان، والبيان بحاجة إلى تطوير للفهم، ولذلك نجد أن معلوماتهم بسيطة، وحضارتهم محدودة رغم أنهم يعيشون سوية.
إن الحضارة روح، وتفاعل معنوي يؤدي إلى التعاون، ونحن إذا أردنا أن نبني الحضارة الإسلامية فعلينا أن نعود إلى الجذور، وإلى الفكرة الأساسية في الحضارة، وإلى المحتوى فيها، ونفكر في الطريقة التي نجعل بها حضورنا إلى بعضناالبعض حضوراً معنوياً فاعلاً وقادراً على صنع الواقع المتقدم، وإيجاد الأرضية المشتركة للعمل.
إن علينا -نحن المسلمين- أن نعود إلى حضارتنا، أي أن نجعل حضورنا عند بعضنا البعض حضوراً حيوياً فاعلاً لكي نصل إلى الحقيقة، ولكننا - للأسف الشديد - ترى كل واحد منا يعيش في زنزانة نفسه، فإذا أراد أحدنا أن يدرس أويعمل، فإنه يخطط لنفسه، ويبرمج وينفذ لها فقط، فكل تفكيرنا منصب على أنفسنا كأفراد.
حياة المؤسسات لا الأشخاص
إننا عاجزون عن أن نتقدم بوصة واحدة إن لم نخرج من زنزانة أنفسنا كأفراد لندخل في رحاب التجمعات، ونعيش حياة المؤسسات لا حياة الأشخاص، وأن نحذر من أن تكون قياداتنا شخصية مستندة إلى أفراد معينين فإن ذهبت،فإن علينا أن نبنيها من جديد من ألفها إلى يائها.
وعلى سبيل المثال؛ فإن المؤسسة المرجعية التي تمتلك تاريخاً عريقاً يمتد إلى أكثر من ألف سنة، هي المؤسسة الشرعيةالوحيدة التي تستطيع أن تنوب عن الإمام الحجة عجل اللَّه فرجه في عصر الغيبة، ورغم ذلك فإني -حسب معلوماتي-لم أجد حتى الآن كتاباً ألف حول تجربة المؤسسة المرجعية خلال ألف عام من الخبرات والجهات، والعطاء العلمي والحضاري في مختلف الأمور.(3/29)
إن السبب في ذلك أن المؤسسات لم يكن لها وجود في ذلك العصر، ولذلك فإن التاريخ لم يكتب، ولم تنتقل الخبرات والتجارب إلا من خلال الألسن والأفواه... وفي مثل هذه الحالة تسود جميع مجالات حياتنا. فنحن نعيش أفراداً ولم نستطع بعد أن نعي ضرورة ظهور المؤسسات في حياتنا.
إن الإسلام عندما قال لنا: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى )(المائدة/2) فإنه لم يأمرنا أن نرفع الأذى عن طريق المسلمين فحسب، بل إن اللَّه تعالى أعطانا بذلك الأستراتيجية العامة في حياتنا؛ أي أن حركتنا لابد أن تكون حركة تعاونية، وفكرنا يجب أن يكون فكر التشاور وتبادل الآراء والخبرات كما يقول تعالى: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوالِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ )(الشورى/38)، كما أن خططنا يجب أن تكون خططاً مشتركة،وأن تسود حالة التعاون حياتنا.
مجتمع الجمع والحضارة
والسؤال المهم المطروح في هذا المجال هو: كيف نحوّل مجتمعنا من مجتمع الآحاد إلى مجتمع الجمع والحضارة؟
للإجابة على هذا السؤال المهم هنا أفكار كثيرة تتزاحم عليّ لبيانها، ولكنّي أريد أن أخصص حديثي للتطرّق إلى جانب واحد، وهو أننا نمتلك مؤسسات اجتماعية غير فاعلة لابد أن نبعث فيها الروح والحيوية والنشاط لكي تصبح بذلك مؤسسات فاعلة. ونحن في هذا المجال بحاجة إلى مؤسسات جديدة تستطيع أن تجاري العصر الذي نعيشه، ومن أجل تحقيق هذا الهدف علينا أن نقوم بوظيفتين؛ الأولى هي بعث الروح في المؤسسات القائمة، والثانية بناء مؤسسات جديدةحسب مقتضيات العصر.
الأسرة هي المؤسسة الأولى
ومن أولى وأهم المؤسسات التي يجب أن نعمل على إحيائها، وبعث الروح فيها هي مؤسسة (الأسرة).فللأسف الشديد فإن التفاعل والحضور غير قائمين في أسرنا، فهناك الكثير من الحواجز والاختلافات بين أفراد الأسرةالواحدة؛ فالصراحة، والتعاون، والروح الجماعية المشتركة... كلها صفات تفتقر إليها الغالبية العظمى من أسرنا، وهذه حالات سلبية يجب أن نبادر إلى معالجتها.
فمن الظواهر المشهودة في هذا المجال هي أن الأبناء يعملون -وبمجرد وفاة أبيهم- على هدم الشركة التي تعب الأب وبذل الجهود المضنية من أجل إنشائها، في حين أنهم في الحقيقة يجمعهم مصير مشترك، وحياة واحدة.. وهذه الظاهرةإن دلّت على شي ء، فإنما تدل على أن الروح الجماعية مفقودة تماماً في أسرنا.
إننا -كمسلمين- مكلّفون بإعادة الروح إلى أسرنا، لكي تعود الروح إلى المؤسسات والكيانات الأخرى في المجتمع.
مؤسسة المسجد
ومن المؤسسات الاجتماعية الأخرى التي يجب أن نصبّ اهتمامنا عليها هي مؤسسة (المسجد). فالتجمع الذي يحضر في مسجد من المساجد ينبغي أن يكون لمجيئهم فائدة، وأن يعرف كل الواحد منهم السبب الذي جاء من أجله إلى المسجد، وأن يتعرّف على روّاد المسجد، وينشئ علاقات اجتماعية معهم، ويسعى من أجل أن يشترك مع الآخرين في تأسيس صندوق مشترك للتعاون، والقيام بالأنشطة الاجتماعية والسياسية.
إن المسجد هو -بعد الأسرة- اللبنة الحضارية الأولى في الأمة الإسلامية، فلابد من الاعتناء به؛ فهو ليس محلاً لأداءالعبادات فحسب، بل هو مكان من الممكن أن تمارس فيه الكثير من الأنشطة في مختلف مجالات الحياة.
وعلى هذا؛ فلابد من أن نعيد الروح إلى مؤسسة المسجد، فإن كانت لدينا بعض المشاكل فلا بأس من أن نطرحها في المسجد مع الآخرين أو مع إمام هذا المسجد، لكي يتعاون الجميع من أجل حلّها كما كان يحدث ذلك في عصرالرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فكثيراً ما كان عقد الزواج -مثلاً- يتمّ في المسجد، وقد وردت روايات كثيرة في هذا المجال نستنتج منهاأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحل مع أصحابه الكثير من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والجهادية في المسجد.
مؤسسة الحيّ
المؤسسة الاجتماعية الثالثة التي ينبغي الاهتمام بها هي مؤسسة (الحىّ )، فالإسلام يأمرنا بأن نهتم بجيرانناليكوّن الواحد منا هو وجيرانه مؤسسة اجتماعية فاعلة ونشطة، كأن تقام الاجتماعات والجلسات الدورية بين سكان الحيّ الواحد، أو أن يكون لهم تنظيم بلدي لإدارة شؤون محلّتهم لكي لا يضطرّوا إلى ترقّب القوانين الإدارية حتى تحل مشاكلهم، فمن المفروض أن نكون نحن المبادرين إلى القيام بهذه الأعمال، فعلى أهل الحارة الواحدة أن يجتمعوا فيما بينهم ليحدّدوا احتياجات حارتهم، مثل بناء مسجد، أو تأسيس مستوصف، أو صندوق للقرض الحسن..
إن هذا هو المعنى الحقيقي للجيرة التي يربطها مع بعضها عمل مشترك، ومصير واحد، وهناك مؤسسات أخرى أمرالإسلام بإقامتها، وقد ذكرت تلك الأمثلة البسيطة من أجل بيان أن المؤسسات التي أمر الإسلام بها، وبرمج التعاون من خلالها يجب أن نبعث فيها روحها الأصيلة؛ وعلى سبيل المثال، فإن اللَّه تبارك وتعالى قد أمرنا بالتعاون فقال:(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ )(المائدة/2)، فقد بيّن لنا هنا قنوات التعاون مثل الأسرة، والجيران، والمسجد.
مؤسسات حسب الظروف
أما بالنسبة إلى المؤسسات الحضارية؛ فإننا لا نستطيع أن نكتفي بالمؤسسات الموجودة، بل لابد من أن نشكل مؤسسات حسب الظروف المتطوّرة، فنحن -مثلاً- بحاجة إلى حزب سياسي، وإلى مؤسسة تهتم بأمر البيئة.. وعلى سبيل المثال فإذا كان يوجد في منطقتنا حمّام يسهم في تلويث البيئة من خلال الدخان المتصاعد منه، فلنفكر حتى نعثر على الطريقةالتي نتخلّص بها من هذا الدخان، وإذا كانت هناك أرض متروكة قد تحوّلت إلى مكان لتجتمع النفايات ومرتع خصب للجراثيم فعلينا أن نحثّ مالكها لكي يضع لها الحلّ المناسب، ذلك لأننا جميعاً مشتركون في الهواء الذي نتنفس منه،وليس لأي واحد منا الحق في أن يفسد هذا الهواء ويلوّثه، كما تشير إلى ذلك الآية الكريمة: (وَلا تُفْسِدُوا فِي الاَرْضِ بَعْدَ اِصْلاَحِهَا)(الاعراف/56). فهذه الآية توحي إلينا بضرورة المحافظة على البيئة، كما أن هناك قاعدة شرعية تقول: (لا ضرر ولا ضرا).
إن هذه الأنشطة من السهل علينا القيام بها حسب مقتضيات الظروف المحيطة بنا، وحسب احتياجاتنا، وذلك من خلال التغلّب على الحواجز والعقبات النفسية التي تمنعنا من أداء تلك الأعمال من مثل الفرديات، والأنانيات، والتفكيرفي المصالح الشخصية.
=============
من معالم الحضارة الإسلامية
من معالم الحضارة الإسلامية -كما رسمها لنا ربنا تعالى في سورة المائدة- الطاعة والتسليم، فالطاعة للَّه ورسوله وأولي الأمر الشرعيين الذين اختارهم اللَّه، وأوصى بهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والوفاء بذلك الميثاق الذي أخذه الخالق جل وعلاعلى الإنسان، واعترف به الإنسان نفسه، والتسليم يكون للحق.
الفصل العملي بين الحق والباطل
إن معرفة هذه الحقيقة، وهي أن هناك حقاً وباطلاً، تبدأ في بادئ الأمر قضية بسيطة وواضحة؛ فالجميع يعترف بوجودالحق، ويقرّ بأن الباطل -بدوره- موجود، وأن من الواجب اجتنابه، ولكن المشكلة لا تكمن هنا؛ أي في الاعتراف الفطري بوجود الخط الفاصل بين الحق والباطل، بل في الاعتراف العملي، والتمييز بين هاتين الجبهتين؛ الحق والباطل.
والسبب في ذلك أن النفس البشرية تميل إلى خلط الأوراق وعدم الوضوح، ذلك لأن الوضوح يضع الإنسان وجهاًلوجه أمام مسؤوليته، ويجعله أمام ضميره، وأمام حقائق الحياة، في حين أن الغموض يتيح له فرصة الالتفاف حول الحق والتبرير.(3/30)
ولذلك؛ فإن من أهم وأعظم ما تقدّمه لنا رسالات اللَّه، هو إيجاد هذا الفصل في داخل نفس الإنسان بين الحق والباطل،ولذلك نقرأ في الدعاء: (وأرني الحق حقاً فأتبعه، والباطل باطلاً فاجتنبه، ولا تجعله عليَّ متشابهاًفأتبع هواي بغير هدى منك )(41).
إن هذه الفكرة؛ أي وجود حق وباطل، وأن هناك فاصلاً بينهما، وأنه لا يمكن أن يختلطا، هي فكرة حضارية أساسية في رسالات اللَّه تبارك وتعالى، لأن هذه الفكرة تفرز فكرة أخرى وراءها وهي: أن الحق مادام حقاً فإنه سوف يكون ثابتاً، وأن اللَّه هو الذي يضمن تطبيقه، وهو الذي يقف وراءه بكل قوته وعظمته.
ضرورة البحث عن الحق وأصحابه
إن على الإنسان أن يبحث عن الحق، فترى كيف يجده، وما هو المنهج السليم للوصول إليه، ومن هم أصحابه؟
فالذي لا يعترف بأن هناك حقاً وباطلاً، وأنهما مختلفان ولا يمكن أن يختلطا، لا يبحث عن الحق، ولا يتعب نفسه في التفكير به، أو البحث عنه، وسيعجز عن أن يميز بين أهل الحق وأهل الباطل، وسوف ينظر إلى الناس نظرة واحدة، لأن هؤلاء الناس سواء في ظاهر الخلق، فلماذا -إذن- يتعب الإنسان نفسه في البحث عن أصحاب الحق، وأين يجدهم؟إنهم قد يكونون مجموعة ضعيفة، وقد يمثلون فئة تتناقض مصالحهم مع مصالحه، بل إن التفكير أساساً عملية صعبة،فالغالبية العظمى من الناس يهربون منه، ويفضّلون أن ينساقوا في تيار الأحداث كما هي، وأن يخوضوا مع الخائضين.
ولولا وجود بواعث شديدة تدفع الإنسان إلى التفكير والبحث والتنقيب، فإنه يحجم عن التفكير، ولذلك قيل:(الحاجة أم الاختراع ) فإذا كان هناك شخص محتاج فلماذا لا يبادر إلى الابتكار والاختراع؟
وفي مجال الطاعة التي سبقت الإشارة إليها، يقول عز من قائل: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)(المائدة/7) ، فالطاعة لصاحب الحق، ولمن يحمل رايته، ويبحث عنه.
أدوات البحث عن الحق
والإنسان عندما يريد أن يبحث عن الحق، فإنه يفكر أولاً في أدوات هذا البحث؛ وعقل الإنسان هو أحد هذه الأدوات، فكيف نستثير هذا العقل ونستغلّه ونستضي ء بنوره، وكيف نتجنّب الهوى؟
إن بداية الطريق إلى ذلك هي أن ننطلق مستندين إلى المنطق السليم، لأننا نهدف الوصول إلى الحق، وطريقنا إلى الحق هو عقلنا، والعقل يجب أن يبحث عن الطريق المناسب الذي يوصلنا إلى الحق، وهذه هي المرحلة الأولى.
أما المرحلة الثانية من استخدام أدوات البحث عن الحق، فهي التحرّك. فنحن إذا لذنا بالصمت والسكون فإنّنا لا يمكن أن نصل إلى نتيجة، إذ عندما نريد التعرف إلى أصحاب الحق، علينا أن نتحرّك، ونسأل عنهم، ونتحقق في صفاتهم؛وبالتالي فإن الإنسان لابد أن يحمل مشعلاً يستطيع بواسطته العثور على أهل الحق، وذلك بأن يتحرّك، ويسير في الأرض كما يحثنا على ذلك القرآن الكريم في قوله: (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الاَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ)(العنكبوت/20)
فالقرآن يبيّن لنا بوضوح أن طريقنا إلى الحق طريق شاق يستدعي التحرّك، والسير، والبحث.
الحضارات تشترك في العقلانية
وهناك فكرة يطرحها المؤرخون وعلماء الحضارة، وهي أن الحضارات تختلف عن بعضها؛ فهناك حضارات جمالية،وأخرى قانونية، وثالثة علمية أو تقنية.. ولكن هذه الحضارات جميعها تشترك مع بعضها في خصوصية واحدة هي (العقلانية)؛ فأي حضارة لابد أن تبحث عن العقل، وتعمل بالعلم والمعرفة، وتولي لهما الاحترام والتقدير،فمثلاً؛ كان الاغريق القدماء يتمتعون بحضارة راقية تميّزت بتقديس العقل والعلم والعمل ومنهجية التفكير، وكذلك الحال بالنسبة إلى الحضارة العربية الإسلامية في عصورها الذهبية فقد كانت تتميّز هي الأخرى بالعقلانية والعلمية،ونفس الشي ء يمكن أن يقال عن الحضارة الغربية الحديثة.
أمّا الإسلام؛ فعندما يأمرنا بالحق والطاعة له ولأهله، فإنه في الواقع يرسي الحجر الأساس لبناء الحضارة، والقرآن الكريم هو الذي يبيّن لنا برنامج اتباع الحق وطاعته، فعلينا -إذن- أن نولي الاحترام الأكبر لهذا الكتاب العظيم لأننا إذاكنا نمتلك شيئاً من العلم فهو من القرآن الكريم، وكلّما زاد احترامنا له كلّما اتّسعت واتضحت آفاقه أمامنا، فعلينا أن نصغي له عند تلاوته لأننا في هذه الحالة نتبادل الحديث مع ربنا.
العدالة من صميم الحق
إن الحق قد ينطلق مما يربط بينك وبين الطبيعة، وقد يتصل فيما يربط بينك وبين الناس، وحينئذ يسمّى ب(العدل ). والفرق بين العدل والحق هو أن الحق أكثر شمولاً، فقد يكون الشي ء بينك وبين اللَّه تبارك وتعالى حقّاً،ولكن قد لا يكون بالمصطلح الدقيق هو العدل. أمّا الحق الذي بينك وبين الناس فإنه هو الذي يسمى ب(العدل ). وفي هذا المجال يقول تبارك وتعالى: (يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِوَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى اَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَاتَعْمَلُونَ )(المائدة/8).
ومن معالم الحضارة الإسلامية والمدنية الربانية؛ العدالة. والعدالة تمثل مطلباً يسعى كل إنسان وخصوصاً إذا كان في مصلحته، ولكن من الذي يطبق العدالة؟ إن الحضارة ليست الدعوة إلى العدالة وطلبها لنفسك بقدر ما هي حمل رايةالعدل، وأن أنت قواماً به، وأن تطلب المزيد من القيام بالحق بالمعنيين التاليين:
1/ الكثرة الكمّية؛ أي أن تقوم بالدعوة إلى الحق وتكرّس لهذه المهمة جميع أوقاتك، وتوجّه الآخرين للعمل في سبيل اللَّه والحق. وبالطبع فإن هذه المهمة صعبة للغاية؛ فالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر يجعلانك في مواجهة الآخرين،ويضطرانك إلى أن تتخذ موقفاً اجتماعياً.
2/ النوعية؛ ففي بعض الأحيان قد نأمر شخصاً أن يترك الغيبة، ونأمر شخصاً آخر باجتناب البهتان، ونطلب من ثالث أن يؤدي صلاة الليل، أو يدفع الصدقة، وما إلى ذلك.. وفي أحيان أخرى نحمل راية العدالة الاجتماعية في مقابل طاغوت، وفي هذه الحالة سنعتبر قوّامين بالعدل، لأن محاربة الطاغوت لا يمكن أن تتم بمجرد كلمة، وبمجرد الأمربالمعروف والنهي عن المنكر، بل إننا نحتاج في هذه الحالة إلى أن نصنع حركة حضارية تعمل لفترة طويلة حتى نستطيع إسقاط الطاغوت بأنفسنا أو نمهد الطريق للأجيال القادمة لأن تسقطه، والذي يقوم بهذه المهمة يطلق عليه أسم (القوّام ) كما جاء في قوله تعالى: (يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ).
وفي هذه الآية إشارة صريحة إلى ضرورة أن يكون القيام للَّه؛ أي إن علينا أن نبتعد عن المصالح الشخصية والحزبيةوالفئوية، وأن نشهد بالقسط، وعندما يكون المجتمع على هذه الشاكلة سيكون مجتمعاً نشيطاً متحفزاً يحاول دائماً أن يقتحم الصراع. فالإنسان المتحضر هو الإنسان الذي يمتلك رغبة خوض الصراع، والتدخل في القضايا والعلاقات الاجتماعية، لأن انحراف أو صلاح الأفراد الآخرين في المجتمع يمثلان مفردة تعنيه.
أزمة العدالة والقسط(3/31)
والقرآن الكريم يمثل كلاماً حقيقياً يتوفّر على معالجة المشاكل بواقعية.. وأزمة العدالة هي عدم تطبيق الإنسان لها،ومشكلة القسط هي عدم الشهود. فالظالم عندما يظلم فإنه يبرّر ظلمه للناس، ويحاول أن يقنع نفسه بالظلم وأن يختلق التبريرات لنفسه، ثم يعمل على نشر هذه التبريرات بعد أن يتأكد من أن قابلية تقبّل هذه التبريرات موجودة في المجتمع،ويعرف أن هناك أشخاصاً يلوذون بالصمت والسكوت. أما إذا ارتكب الإنسان الظالم الظلم وهو يعلم أن المجتمع مجتمع شاهد بالحق، فقبل أن يردعه العقاب الرسمي، تردعه ملامة أفراد المجتمع.
وهناك نقطة أخرى يؤكد عليها القرآن الكريم، وهي أن أكثر الناس يظلمون، ويبررون ظلمهم للآخرين بأن هؤلاءالآخرين يظلمونهم، ولكنّ القرآن الكريم ينهى عن هذا السلوك في قوله: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى اَلاَّتَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى )، وقوله على لسان (هابيل ) الذي حاول أن يرد إساءة أخيه بالحسنى:(لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لاََقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَ الْعَالَمِينَ )(المائدة/28)
التحلّي بروح العدالة أبداً
ولكي نكرّس العدالة في المجتمع لابد أن نتحلّى بروحها حتى أمام الظالمين، فمن أجل أن نصنع واقعاً حضارياً في أمتنإ؛پپّّفإننا بحاجة إلى العدالة، والعدالة بحاجة إلى أن يلتزم الإنسان بها حتى في مقابل من يبغضه ويعاديه، وهذا -بدوره-بحاجة إلى القيام للَّه بشكل متواصل، ومن خلال نوعيّات وكيفيات معينة.
إن علينا في مجال ضمان تطبيق العدالة أن نلتزم بالتسلسل التالي:
1- القيام للَّه
2- الشهادة بالقسط
3- الالتزام بالعدالة، حتى مع العدو
4- العدالة التي هي أقرب إلى التقوى.
وفي الختام؛ ينبغي لنا توطين أنفسنا على تطبيق البنود السابقة، فالمآسي التي تتوالى علينا إنما سببها عدم تطبيقنا للآيات القرآنية، فلنحوّل شخصيتنا التي ورثناها من المجتمع المتخلف إلى شخصية نصوغها -بأنفسنا- وفق البصائروالتوجيهات القرآنية.
==============
من أجل حضارة إسلامية
يختلف الإنسان عن سائر الكائنات الحية أنه أوتي نزعة في داخله تدعوه إلى السمو والتقدم والتكامل، وهذه النزعة لانجدها في جميع المخلوقات؛ فالماء - مثلاً - لا يتحرك إلى الأعلى، بل هو أبداً ينجذب إلى الأسفل باحثاً عن منحدر ثم عن حفرة ليستقر فيها، بينما الإنسان يبحث عن القمم والتقدم والرقي ، إنه يهدف إلى أن يكون يومه خيراً من أمسه،وغده خيراً من يومه، وهو يطمح أن يكون أكثر مالاً وأكثر علماً وأكثر شهرة. ولولا هذه النزعة المتأصلة في ذاته لكان واقعه يشبه واقع الأحياء الأخرى؛ كما القرود والقطط والأسود ... وغيرها مما يعيش ضمن واقع راكد ومتخلف وبدائي.
لكن الإنسان يفكر ويحاول ويسعى فيتقدم ، وهذا هو الذي دفع به إلى أن يطور مراحله التاريخية، فتكون التالية أتقن وأرقى من التي سبقتها. فهو ينتقل من العصر الحجري إلى عصر اكتشاف النار ثم الزراعة ثم البخار ثم الماكنة ثم إلى عصر اكتشاف الذرة؛ حيث يغزو فيه الفضاء ويرسل الصواريخ والأقمار الصناعية والسفن الفضائية بحثاً عمّا يجري في المريخ والمشتري، حتى وصل به الأمر إلى استطلاع الكواكب وأخبارها وهو جالس على مقعده في مركزه الأرضي هنا.
إن هذه النزعة وهذا الطموح هو الدافع للبشرية في الاستمرار ضمن عملية التنافس، ونجد في التنافس صفة عميقةالجذور في النفس الإنسانية.
شي ء من تأريخ الإسلام
ففي يوم من الأيام وعهد من العهود كانت فيه الأمة الإسلامية تمثل القمة والتألق بالنسبة للحركة العالمية ولسائرالشعوب والدول والحضارات ، إذ كانت تجد في الحضارة المدنية الإسلامية كعبتها وقدوتها. فالعالم كله كان شديدالفضول والتطلع إلى الكشف عن تفاصيل حياة المسلمين ؛ كيف يفكرون وكيف يتعاملون وكيف يتقدمون وكيف وكيف... وسبب ذلك كله كان المسلمون القمة في التشريعات والتطبيقات؛ في الحركة والتعاون، في المال والاقتصاد، في القوةوالحرية. وليس عجباً أن نرى المؤرخين يؤكدون روعة التقدم الحضاري للمسلمين، ويصورون أجمل الصور وأروعهاعن طبيعة حياتهم، حتى أن أحد المؤرخين لم يغفل عن إحصاء عدد الحمامات في بغداد، حيث وصل إلى زهاء الألف،وكذا المساجد والمدارس والمستشفيات والحوزات العلمية، وكانت أهمها الحوزة التي يشرف على إدارتها زعيم الشيعةونقيب الطالبيين والأشراف السيد الشريف المرتضى الملقب ب( علم الهدى ) ومن بعده شيخ الطائفة أبوجعفر الطوسي، اللذان كانا يهتمان كل الاهتمام بالطلبة والدارسين ، وكان من أمر علم الهدى أن صنع لكل واحد من طلابه مفتاحاً خاصاً به لأخذ ما يحتاجه - من دون حرج - من بيت المال الخاص بالحوزة العلمية المشار إليها آنفاً،حيث تجمع فيها المخصصات والنذورات والهدايا والحقوق الشرعية ، وما كان أحد من طلابه يأخذ أكثر من حاجته اليومية. ولعمري إن في ذلك المصداق الأكبر في الأمانة من جهة، والاهتمام بالتطور العلمي، وما ذاك إلاّ صورة مصغرةللغاية عن عظمة ما وصلت إليه العقلية الإسلامية المخلصة والطامحة للتطور، وسبق الأمم الأخرى من جهة ثانية.
لقد كان العالم يجهل حياة وطبيعة المسلمين، ولكن الأمر قد انعكس تماماً في الزمن الحاضر، وإذا الحضارة والقوةوالقدرة قد انتقلت إلى مناطق أخرى، فالمسلم أينما يولي وجهه فهو يسمع خبراً علمياً صادراً من أوروبا أو أميركا أواليابان، فاليوم تم اكتشاف علاج مرض السل، وخبر آخر يشير إلى غزو الفضاء، وآخر يتحدث عن التطور الصناعي و .. و ..
بلى؛ إن تطور وتقدم المسلمين آنذاك كانت له أسبابه، واضمحلالهم - فيما بعد - كانت له أسباب أيضاً. وكذلك العالم الغربي محكوم بنفس القانون ، فإذا كانت القوة والقدرة والرقي موجوداً اليوم في الحضارة المدنية الغربية؛ فإن ذلك كله قديتلاشى - وهو في طريقه إلى التلاشي - لمجرد ظهور أسبابه .
هزيمة المجتمع الغربي
وحيث كانت أطماع وأنانية معظم من حكموا بلاد المسلمين أحد أهم أسباب التراجع والنكسة والهزيمة التي حلت بالمجتمع الإسلامي، فإن الخواء الروحي يعد في طليعة أهم عوامل الانحدار الغربي. وللأسف الشديد فإن غالبية الشباب المسلم في مجتمعاتنا لا يتصورون الغرب إلا عالماً متماسكاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إذ يعتقدون فيه قمةالتطور الإنساني أو نهاية التاريخ وحافته! متغافلين عن أن الغرب فيه ما فيه من المساوئ ما يندى لها الجبين؛ على الأقل لو تم فضحها في الوسائل الإعلامية والخبرية؛ فضلاً عما لو أخذت ونوقشت مناقشة منطقية أو فلسفية تأريخية.
فمصادقة معظم برلمانات أوروبا الغربية على قانون إباحة الشذوذ الجنسي، أو بنسبة فوز الرئيس الأميركي بيل كلينتون بعد حصوله على أصوات الشاذين وسماحه لهم بالانخراط في صفوف الجيش، أو المصادقة في معظم الولايات الأميركيةعلى قانون حرية الإجهاض وقتل النفس المحترمة.. فهذه مجرد عيّنة مصغرة من طبيعة الانحدار الخلقي وتآكل البنيةالتحتية للمجتمعات الغربية، ولعل السر في بقاء أنظمة هذه الدول في الحياة، يكمن في عدم نهضة الشعوب الأخرى لإبادة هذا التفسخ، لا غير ..(3/32)
ثم إن هذه الفوضى الإعلامية التي ملأت أسماع وأنظار العالم برمته بداعي مصرع زوجة ولي عهد إنكلترا المطلّقة تعددليلاً دامغاً آخر على تفاهة العقلية - إن كان ثم عقل - الغربية ، فالقتيلة توفيت وهي ملاحقة من قبل الإعلاميين الذين كانوا يتحينون فرصة التقاط صور فاضحة مع عشيقها الجديد المليونير المصري ، وكأنهم - الإعلاميين - لم يكتفوا بالمغامرات العديدة السابقة للأميرة، فهي وزوجها ولي العهد ليسا إلاّ رمزاً تافهاً للتفكك العائلي والانحطاطالخلقي والمغامرات غير الشريفة. ومن فداحة الخطب أن القارئ المسلم والشاب الشرقي المتطلع يواجه يومياً ولمرات لاحصر لها بأنباء هذا الحادث التافه، وهذا بالذات ما يثير الشكوك تلو الشكوك حول ما إذا كانت هناك ثمة مؤامرةومخطط صهيوني - تبعاً لما يمتلك اليهود من سيطرة شبه مطلقة على الصحافة العالمية - لتحويل الأميرة القتيلة إلى رمزللحرية والانطلاق المزعومين لزوجة كان من المقرر أن تكون ملكة لبريطانيا، اختارت عدم التقيد بالأخلاق - التي تصورها أبواق الدعاية والفضائح - على أنها من مخلفات الماضي ورجعية الإنسان القديم.
وإذا كانت العقلية والسلوك الغربيان الحاليان وليدَي نوع من الاستهتار بالقيم والأخلاق ومتطلبات الروح، فإن الجيل الأوروبي والأميركي في المرحلة الراهنة يعاني وسيعاني أكثر بكثير مما عاناه سلفه؛ فالطفل يعيش التمزق بما تعنيه الكلمة، هذا الطفل الذي خلق اللَّه فيه غريزة الحب والحنين لأمه وأبيه أضحى كدمية ملقاة في زاوية غرفة خربةمتروكة، فهو لا يعرف أباه أو أمه ولم يشاهدهم منذ لحظة ولادته نتيجة الطلاق والتشرد..
وهذا الواقع بالذات ما دعا البابا إلى الحديث عنه لدى إحدى زيارته لباريس، حيث تناول في خطابه قضية حقوق الإنسان والكرامة الإنسانية المهدورة في العالم الغربي، وعن مسألة الإجهاض، وعن التماسك العائلي المفقود ..
إننا في مجتمعنا المسلم إذا سمعنا نبأ طلاق حدث بين زوج وزوجته في منطقتنا أو محلتنا فإن الأفواه ستفغر، والاستياء أوالاستنكار سيكون محور ردود أفعالنا وأحاديثنا، مهما كان السبب لذلك الطلاق أو الانفصال. أما في المجتمع الغربي فإن الانفصال هو رد الفعل الأول، أو يكون هو الفعل بذاته لدى حدوث أي اختلاف في وجهات النظر على أبعد احتمال.
تفعيل الجانب الحضاري
والسؤال الذي يطرح نفسه بكل قوة في المرحلة الراهنة هو : كيف نقلب الصورة والواقع ونعود بالمجد والتقدم إلى مجتمعنا المسلم؟ أو على الأقل كيف نجعل الأحداث الدائرة في وطننا الإسلامي الأولى من حيث الصدارة لدى الرأي العام العالمي؟ ولماذا نسمع دوماً أنباء الاكتشافات من أميركا وأوروبا وليس من بلداننا، فهل التقدم العلمي والصناعي محرَّم على المسلمين، أم أن اللَّه سبحانه وتعالى قد خلق الفكر والعقل والتقدم لأناس دون غيرهم - والعياذ باللَّه - ؟!فأين يكمن السر؟ وكيف نغير المعادلة الظالمة هذه؟
إن الواقع يشير إلى أن السر الحقيقي يكمن في أننا - نحن المسلمين - قد أهملنا جانباً أساسياً من الدين؛ وهو الجانب الحياتي منه، أهملناه واقتصرنا على مجموعة صغيرة من التعاليم المرتبطة بالعلاقة بين الإنسان وبين اللَّه سبحانه وتعالى.لقد أهملنا تعاليم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل اللَّه، وإرشاد الجاهل، والاهتمام بالمحرومين،وعشرات الأحكام الشرعية قد ألغيت من قاموسنا، حتى أن الكثير من الكتب الفقهية الصادرة عن كبار العلماء لا تعالج سوى أحكام النجاسات والطهارات والصلاة والصوم وكيفية دخول دورة المياه، أما الحديث عن كيفية بناء المجتمع،وتحقيق الكرامة للمسلمين، والدفاع عن حقوقهم فهي بحكم المعدوم في الكتابات الفقهية.
ولو أننا عدنا إلى تفعيل الجانب الاجتماعي والحضاري للدين الإسلامي لأخذنا بزمام المبادرة التأريخية من جديد دون أدنى شك. فالمسلمون إذا ما اهتموا بقاعدة التعاون والتكافل والعمل الجدي، فإنهم سوف يتقدمون على غيرهم من الأمم.
الإيثار وحب الآخرين
إن التعاون والاتحاد أمران ليسا بحاجة إلى استدلال، فهما يمثلان البنية التحتية لأي تطور؛ والآن فإننا نسمع في نشرات الأخبار الاقتصادية والمالية عن اندماج شركة من الشركات مع نظيرة لها ، أو أن البنك الفلاني أعلن عن اتحاده مع بنك آخر، وليس بالضرورة أن يكون هذا الاندماج أو ذاك الاتحاد نابعاً عن عجز في الميزانية أو حدوث فضيحة مالية، بل قد يكون العكس في كثير من الأحيان هو الصحيح؛ إذ أن الغالب في عالم الاقتصاد المعاصر هو أن الشركات الكبرى تتجنب احتمال حدوث العجز في ميزانيتها وموازنتها بواسطة الاندماج بشركات أخرى؛ أضخم أو أضأل منها، فهي تتحد مع شركة أخرى من أجل مواجهة التحديات الجديدة المحتملة.
ولكننا لم نؤمن بالشركات أو التعاونيات أو اندماجهما، بل اقتصرنا على تشكيل هيئات لبناء مساجد أو حسينيات ضمن عمل خيري مؤقت تشوبه الكثير من نماذج التمزق وعدم التسامح وعدم الاهتمام بأخلاقيات التعاون والعمل المشترك، من قبيل الصبر وسعة الصدر والاستقامة وروح التفاهم؛ علماً أننا نعرف بفضل القواعد والرؤى الدينيةلشريعتنا، إن الناس يتفاوتون في تربيتهم وأخلاقهم وطبائعهم وألوانهم وألسنتهم وبصماتهم؛ ونعرف أيضاً أن الدين قدبيّن لنا ضرورة التوليف بين أمثلة التفاوت هذه، ليتكرس النصر والتقدم؛ وليكون الأجر جزيلاً عند اللَّه سبحانه وتعالى.
فمن الضروري جداً أن يعي الإنسان المسلم أهمية الاعتراف بوجود وشخصية أخيه المسلم ، تبعاً لمنطوق ومفهوم الآيةالقرآنية الكريمة القائلة: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(الحجرات/ 13). وهذا الاعتراف والإيمان يستدعي في نهاية المطاف مزيداً من الحب والاحترام،والاستفادة من القدرات والطاقات والإمكانات.
واللَّه تبارك وتعالى قد بيّن أهم صفة من صفات المؤمنين في سورة الحشر، وهي صفة الإيثار وحب الآخرين النابع من الاعتراف بهم.
فلقد استطاع الرسول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أن يخلق مجتمعاً جديداً في المدينة المنورة بعيد هجرته الشريفة من بين الأنصاروالمهاجرين، وفيهم العرب والعجم والروم والأحباش، إذ صبّ أخلاقهم الدينية الجديدة في بوتقة واحدة لصالح الدين ولصالح تفوقهم - كمسلمين مؤمنين - على بقية الأمم. ولعل النماذج في هذا الإطار عديدة وكثيرة، حيث طلق الأنصاري إحدى زوجاته وأعتق بعض عبيده وتنازل عن جملة من ماله أو أرضه أو مواشيه لصالح أخيه المسلم المهاجر؛ من أجل أن تتكافأ فرص العمل، وليكون التقدم والتفوق أمراً مضموناً، وذلك ضمن عملية المؤاخاة العظيمةبين أصحاب البلاد الأصليين والمهاجرين الجدد الذين قدموا مع الرسول المصطفى. وهي العملية التي لم يتمكن أي قائدعلى مرّ التأريخ من تنفيذها بين أتباعه، فضلاً عن مستوى نجاحها المنقطع النظير، فلقد كان الأنصاري يحرم نفسه من الطعام الذي قد لا يكون يملك سواه لإشباع أخيه المهاجر. وبهذه الأخلاق الحسنة والمصداقية الفائقة كان لهم أن يوصفوا بقول اللَّه تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )(الحشر/9). فالفلاح في الدنيا رهين بممارسة هذه الأخلاقيات والاتصاف بهذه الصفات المثلى.(3/33)
والأرقى من ذلك أن الأنصار قد بنوا أساساً متيناً من النجاح لأجيالهم القادمين ، حتى أنها - الأجيال - لم تكن تذكرأسلافها إلاّ بما هو خير (وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَابِالإِيمَان )(الحشر/10) على العكس مما عليه نحن المسلمين في هذا الزمن، حيث ندفع في مرحلتنا الراهنةالغالي والنفيس ثمناً لتراجع وانهيار وهزيمة رجال المرحلة السابقة لمرحلتنا.
أما القرآن الكريم فإنه يريد منا - كمسلمين - أن نصنع التأريخ ونصوّره كوحدة واحدة متكاملة مضمونها الخيروالصلاح والتقدم نحو الأفضل، على الضد من تلكم الصورة التي تلعن فيها الأمةُ الأمةَ التي سبقتها.
فالإيمان إذاً هو تربية الذات والارتقاء بالمجتمع وصناعة التأريخ. أما النفاق؛ فهو ما امتاز أتباعه بالفرقة والتشرذم والفرار من الحقيقة.
يقول ربنا تبارك وتعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَروا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ اُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ )(الحشر/11).ومن خلال هذا الاستعراض الرائع ؛ يبين اللَّه تعالى حقيقة النفاق والمنافقين، فبنيتهم قائمة على التشرذم والكذب والغدر، تبعاً إلى أنهم يفتقرون بشكل مطلق إلى أساس يرتكزون عليه. وعلى ضوء ذلك؛ فإن أي إنسان يفتقر إلى قاعدة تربوية صالحة وتنعدم فيه سلوكيات الإيمان محكوم بانتمائه إلى جبهة النفاق والمنافقين؛ وإن كان كثيراً ما يرفع عقيرته ويدعي الإسلام والإيمان. وبعد ذلك؛ فلا عجب أن يحل بأمتنا ما حلّ بها من ويلات وهزائم، إذ الواقع المسيطرعليها - إلى نسبة كبيرة - هو واقع النفاق وصفاته والابتعاد عن الإيمان وصفاته المسلّم بها قرآنياً.
==============
الفصل الرابع -حضارتان متقابلتان
بين الحضارة الإسلامية والمدنية الغربية
إذا كان الإسلام قد رفع شعاراً، وجعل منه هدفاً يطمح إلى تحقيقه في المجتمع الإسلامي المتكامل، وهو أن الناس سواسيةكأسنان المشط، وأن لا يكون التفاضل بينهم إلا بالتقوى، وأنهم من آدم وآدم من تراب وأنه لافضلَ لعربي منهم على أعجمي إلا بالتقوى، وإذا كان الإسلام ينظر إلى بني آدم هذه النظرة فلماذا - يا ترى- كان الرق، وما الحكمة من استمراره رغم تلك الدعوة المبدئية الواضحة؟
الرق ظاهرة شاذة
هذا ما يدور في خلد البعض من تساؤلات تبحث عن إجابة، فالرق -كما يبدو- هو ظاهرة اجتماعية شاذة ظهرت في ظروف استثنائية خاصة؛ أبرزها وقوع الحروب التي تمثل حالات غير طبيعية، وإن كانت مستمرة؛ فبعد أن أهبط اللَّه سبحانه وتعالى آدم وزوجه إلى الأرض إثر النداء الإلهي: (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ)(البقرة/36)، وما أن تكوّن أول تجمع بشري فوق هذا الكوكب حتى نشبت الحروب والصراعات،حيث قتل قابيل أخاه هابيل رغم أنهما من أبوين واحدين، ثم تطوّرت من بعد ذلك النزاعات والحروب فصارت الكتل والجماعات، وكانت القوة الغالبة الظاهرة لا تستعبد فقط أولئك الذين جاؤوا إلى ميادين القتال، وساهموا فيها ثم وقعوا في الأسر بل كل الذين هُزموا، وخضعوا للغالب القوي؛ وعلى سبيل المثال فإن اليونانيين عندما كانوا يهاجمون بلداً ما، ويقاتلون أهله، ثم ينتصرون عليهم، فإنهم كانوا يستعبدون النساء والأطفال ويحوّلونهم إلى غلمان وإماءبالإضافة إلى أسر الرجل واستعبادهم إن لم يقتلوهم.
وعندما أشرق الإسلام في سماء هذه الدنيا لم يعمل على تقليص وتحديد ظاهرة الاستعباد والاسترقاق فحسب، بل راح يرفع من قيمة العبيد في بعض الأحيان حتى أن قيمة العبيد كانت تفوق قيمة الأحرار في بعض الموارد الفقهية، فالمعروف في الفقه - مثلاً- أن المرأة الحرّة لا تحل لزوجها إذا ما طلقت ثلاثاً حتى تنكح زوجاً آخر بصريح الآية الكريمة:(فإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ )(البقرة/230)، أما بالنسبة إلى الأمة فإن الطلاق مرتان، وبذلك نجد أن حكم هذه الأمة أهم، ونفعها أعظم، وحقها أكبر من حق الحرة.
الحكمة من استمرار الرق
ويبقى السؤال: لماذا الرق، وما الحكمة من استمراره في الإسلام؟ يجرّنا هذا إلى التفكير بالحرب، والقوة، وأبعاد هذه القوة عبر التاريخ،وبدافع هذا التفكير ننتبه إلى حقيقة مرّة، وهي أن العبودية قد ألغيت في ظاهر الأمر في عالم اليوم كماتنصّ على ذلك وثيقة الأمم المتحدة بهذا الصدد، ولعل بدايات هذا الإلغاء كانت على يد الزعيم الأمريكي (ابراهام لنكولن )، ولكن واقع الأمر أن هذا الاسترقاق قد انتقل من الطور الفردي إلى الطور الجماعي،فبدلاً من أن يعمد الاستعمار إلى استرقاق الأفراد مضى يسترق الشعوب، حتى غدت شعوب الأرض مستعبدة من قبل دولة واحدة تفرض حكمها ورأيها على الجميع.
الرق الجديد
وأنا أذكر في هذا المجال أن هناك وثيقة صدرت عن البنتاغون تتحدث عن النفوذ الأمريكي ومصيره بعد فترة ما بعدالحرب الباردة، وسقوط الشرق، وكان عنوان هذه الوثيقة على شكل استفهام يقول: كيف تحافظ أميركا على مركز القوةالعظمى في العالم كله؟! وتتألف هذه الوثيقة من خمس وأربعين صفحة، خلاصتها أن أميركا لابد من أن تحافظ على قوتهاوجبروتها كي تبقى شرطيّ العالم كلّه، وتتحكم بمصائر ومقدرات شعوبه وبلدانه، ولا تسمح لأية دولة - مهما كانت وفي أي منطقة من مناطق العالم- بالنمو والتقدم إلى الدرجة التي تجعلها قادرة على منافسة المارد الأمريكي. ثم تتطرق الوثيقة إلى الحديث عن السبيل الذي يجب على أميركا أن تسلكه من أجل أن تمنع أوروبا من أن تتحول إلى قوة عالمية،وأخيراً السبيل للحيلولة دون تنامي وتطور القوة الإسلامية بحيث تصبح قوة عالمية منافسة.
والحديث في هذه الوثيقة البنتاغونية جاء بالتحديد حول منطقة الشرق الأوسط، حيث تقع بلدان العالم الإسلامي، وقدجاء في هذا المجال أن على الولايات المتحدة الأمريكية أن تسعى من أجل أن لا يقفز إلى سدة الحكم من تسمّيهم الوثيقة ب(الأصوليين ). وعلى هذا فإن الذي يستشف من هذه الوثيقة أن هناك قراراً أمريكياً واضحاً لالبس فيه بأن لا تظهر إلى الوجود حكومة إسلامية ثورية في أي بلد من بلدان العالم الإسلامي، ولذلك لابد أن تكون كل مخططات البنتاغون سائدة في منحى منع (الأصوليين ) من الوصول إلى الحكم.
والسّر في هذا الحرص الأمريكي الشديد على الوقوف في وجه الإسلاميين ومنعهم من الوصول إلى السلطة، هو أن بلدان العالم الإسلامي متجاورة مع بعضها، فإذا ما شكلت حكومة إسلامية في بلد منه فإن هذا يعني تبلور القوةالإسلامية العظمى التي يحسب لهما الغرب ألف حساب، ولذلك فإن أميركا تخشى بروز هذه القوة الجبارة التي ستضحى خطراً عظيماً يهدد الحضارة الغربية الجاهلية!!
الهلع الأمريكي من الشرق الأوسط
وهناك وثيقة أخرى حول نزع السلاح عن منطقة الشرق الأوسط، ويدور موضوع هذه الوثيقة حول السبل الكفيلةبمنع دول الشرق الأوسط من امتلاك الأسلحة الاستراتيجية، ومما جاء فيها أن هناك جهوداً أمريكية جبارة بذلت من أجل منع بلدان الشرق الأوسط - عدا إسرائيل- من امتلاك أسلحة التدمير الشامل، وقد عبّرت الوثيقة عن المنع هذإ؛ج جّ ّب(الضبط) أي بحث الطرق والوسائل التي تدفع هذه البلدان إلى الانضباط ضمن أطر سياساتهم التسليحية.(3/34)
وقد عملت أميركا في هذا المجال على دعوة الدول الخمس العظمى في العالم التي تتولى عملية تصدير الأسلحة إلى سائربلدان العالم، وهي روسيا، والصين، وفرنسا، وبريطانيا بالإضافة إلى أميركا نفسها إلى الاجتماع والتشاور فيما بينها، وقدأسفر هذا الاجتماع عن تشكيل لجنة يشرف عليها وزير الخارجية الأمريكي نفسه، وقرر المجتمعون في هذه اللجنة العمل من أجل الحيلولة دون أن تتسلح دول العالم الأخرى بالأسلحة الذرية، أو الكيمياوية، أو الصواريخ البالستية؛ بل وقرروا أيضاً العمل على تدمير الأسلحة الإضافية الموجودة في منطقة الشرق الأوسط المتأزمة، والتي تهدد الاستقرار- على حد تعبيرهم- علماً أننا لا نعرف ما هو هذا الاستقرار الذي يريدونه، أهو استقرار أميركا، أم روسيا، أم أوروبا؟!
ومن المعلوم أنهم عندما يتحدّثون عن منطقة الشرق الأوسط فإنهم يستثنون من ذلك (إسرائيل ) التي باتت اليوم تمتلك قنابل نووية بالإضافة إلى عشرات الرؤوس النووية ومئات الصواريخ الاستراتيجية، كما أنهم يريدون من المناطق المتأزمة بلداننا الإسلامية.
حقيقة الهلع الاستعماري
ترى ما السر في هذه القائمة على الهلع، وانعدام الثقة، ولماذا لا يخشون - مثلاً- من امتلاك الصين، أو روسيا، أوإسرائيل، أو جنوب أفريقيا للأسلحة النووية، بينما يتهيّبون من أن امتلاك المسلمين ولو لجزء ضئيل منها؟
إن السر في ذلك هو أن الدول الغربية قد استرقتنا ، واعتبر الغربيون أنفسهم سادة، واعتبرونا نحن المسلمين عبيداً لهم،فهم يعتبرون أنفسهم أوصياء علينا، إذ أيقنوا وعرفوا أن الأمة الوحيدة التي من الممكن أن تتحول في يوم من الأيام إلى قوة عالمية عظمى تجرف كياناتهم، وتدمّر بنيانهم هي الأمة الإسلامية بما تمتلكه من خلفية حضارية وتاريخية مجيدةوعريقة، وما تستند إليه من قيم حضارية مشرقة بفضل كتابها المقدّس، القرآن الكريم، ولما لها من القابلية على التوسّع والامتداد إلى آفاق الأرض، واستيعاب البشرية مهما كانت جنسياتها وألوانها ولغاتها. وهذا هو سر إمكانية تحولها إلى قوة عالمية جبارة، وبعد ذلك كلّه ما تملكه هذه الأمة من قيم جهادية وتضحوية تفتقر إليها سائر الأمم، علماً أن هذه القيم هي سر بقائها وعزتها ورفعتها.
وعلى هذا؛ فإن ما يخشاه الأمريكيون ومن يدور في فلكهم من الغربيين هو بروز القوة الإسلامية العظمى في منطقةالشرق الأوسط.
الوجه الآخر للحضارة الغربية
والحقيقة التي هي على غاية من الأهمية والدقة، والتي يجدر بنا أن ندركها نحن العاملين في الساحة، ونرتفع إلى مستواها،هي أن الحضارة الغربية رغم كونها حضارة متطورة، ولها من السبق التقني، والمنهجية العقلية الراقية ما لا تمتلكه الأمم المعاصرة الأخرى، إلا أن هناك مجموعة من العادات، والتقاليد، والممارسات الجاهلية التي يندى لها جبين التأريخ الإنساني تتكرس في كيان هذه الحضارة؛ على الرغم من تلك النقاط المشعة التي تتميّز بها الحضارة الأميريكية والغربيةمن تطور تكنولوجي وصناعي متفوق، وأن لديهم من القيم الحضارية الراقية ما يزيد تلك النقاط إشعاعاً لتعاونهم،وانسجامهم، واجتهادهم في العمل، وإخلاصهم... إلا أن رائحة الجاهلية المقيتة تفوح من عقليتهم، وتفكيرهم، حيث ينطلقون في تعاملهم مع سائر الأمم من منطلق تلك القيم الجاهلية التي تستحوذ على عقلياتهم.
فطموحات السيطرة والاستغلال والنهب في الحروب يجعلهم يدوسون كل قيمة إنسانية نبيلة تحت أقدامهم، والدليل على ذلك ما فعلوه وارتكبوه هم وأذنابهم بحق الكثير من شعوب الأرض التي رزحت لفترات طويلة تحت نيرتسلّطهم، أليس هم الذين ذبحوا الآلاف المؤلفة من أبناء الشعب الفيتنامي، وارتكبوا المجازر الجماعية ضدهم بكل صلافة ووقاحة، وأليس هم الذين أبادوا ثلاثة ملايين إنسان في كمبوديا، ثم أليس من جاهليتهم أنهم ينافقون في تعاملهم، ويخونون ويكذبون ويغدرون؟؟ وكل هذه الصفات الرذيلة يعتبرونها من أسباب قوتهم، وتسلطهم على الآخرين.
تأثيرات الحضارة الإسلامية
وإذا ما وجدنا لديهم بعض القيم الحضارية السامية التي يتعاملون بها فيما بينهم، كالصدق، والتعاون، والإخلاص،والتفاني، فإن ذلك إنما استوحوه من المسلمين، وقرآنهم، وحضارتهم الرسالية العريقة بشهادة مؤرخيهم، وفلاسفتهم،ومفكّريهم؛ ولا أحد يستطيع في هذا المجال إنكار حقيقة أن مذهب الرفض المسيحي (البروتستانتية) الذي أسسه وتزعمه (مارتن لوثر) قد تأثر إلى حد كبير بموجة المعارف والقيم والآداب الإسلامية الرفيعة، حيث يؤكد الجميع على أن هذا المذهب يشبه إلى حدّ كبير المذهب الشيعي في إطار المذاهب الإسلامية. فهو مذهب توحيدي،استوحى أفكاره وقيمه ومنهجيته من روح الإسلام؛ صحيح أنه مذهب مسيحي، ولكنه- في واقعه- يمثل حركةإصلاحية في المسيحية، فهو يرفض مبدأ (التثليث ) في العبادة، ويدعو إلى الوحدانية.
هذه حقيقة تاريخية لا يمكن أن تنكر، وهناك حقيقة تاريخية أخرى تكمل الأولى، وهي أن الحضارة الغربية نشأت من بعد ظهور الحركة الإصلاحية البروتستانتية التي تفجرت في أوروبا، والتي هي بدورها وليدة الحضارة الإسلامية.
وعلى هذا الأساس؛ فإن كل ما لدى الغرب من قيم فاضلة نبيلة وحضارة وتقدم وازدهار إنما هو مستوحى - في الأصل- ومكتسب من الانبعاث الإسلامي، وإشراقة أشعته على ربوعهم، وحضارة الأندلس الإسلامية هي خيرشاهد ودليل على ذلك، وقد كان مذهب الرفض المسيحي هو السبب والوسيلة التي نقلت إلى الغربيين القيم الإسلامية،والروح القرآنية الناهضة.
والشعب الأميريكي يدين في مسيحيته بالمذهب البروتستاني، ويلزم أن يكون رئيس الجمهورية من اتباع هذاالمذهب لا من اتباع المذاهب المسيحية الأخرى كالكاثوليكية، والارثوذوكسية، وسائر المذاهب الأخرى.
التأثيرات السلبية للحضارة اليونانية
وما نجده اليوم من قيم جاهلية فضة، وأفكار عدوانية، وظلم وعنصرية، وبعض المعتقدات اليهودية، كالاعتقاد بأنهم شعب اللَّه المختار وما إلى ذلك من أفكار خرافية، فإن كل ذلك من آثار الفلسفة اليونانية التي كانوا يعتقدون بها، والتي عكّرت صفو مذهبهم؛ حيث خلطوا السم بالعسل، فامتزجت قيمهم الحضارية الرفيعة برواسب جاهليتهم اليونانيةالقديمة، فأضحوا يعيشون الازدواجية في تعاملهم. ولذلك لم يكن غريباً أن تصدر السلوكيات الهمجية الجاهلية منهم في تعاملهم مع الأمم الأخرى في نفس الوقت الذي تسود فيه بينهم روح المدنية المتحضرة والديموقراطية، حتى راحوايدافعون عن حقوق (الحيوان ) ويؤسسون الهيئات والمنظمات التي تدافع لذلك.
إن الإنسان الأميريكي والغربي عموماً يعيشان سلوكين؛ سلوكاً مظلماً قاتماً، مصدره قيم الحضارة اليونانية، وسلوكاًمضيئاً أخذ نوره من شمس الإسلام التي أشرقت على أوروبا في عصورها الوسطى. والحضارة اليونانية - كما هومعروف- هي حضارة الغاب، وحضارة الوثنية والعنصرية التي ولدت في بيئة قادة عسكريين قساة كانوا يجهزون الحملات، ويشنّون الهجمات على البلدان الأخرى المجاورة لهم فيحطموها؛ ومثال ذلك الإسكندر المقدوني الذي كان يغير على البلدان المختلفة بجيوشه، فيقتل، ويذبح، ويدمر، ثم يصفق له شعبه تأييداً وموالاةً!(3/35)
هذا في حين لا توجد في الإسلام أية شائبة من هذا القبيل، فالإسلام ما رفع سيفاً إلا دفاعاً عن الحق، ونصرةً للمظلوم،وإعلاءً كلمة الإسلام، وكان آخر ما يفكّر فيه هو السيف والقتال حيث لا يجد سبيلاً آخر. فالحضارة الإسلامية نابعةمن منهل القرآن العذب النقي، فهي حضارة مهذبة من كل أثر جاهلي.
ترى لماذا لا نبادر نحن إلى استثمار الجيد الذي نمتلكه، ولم نخلطه بالردي ء الذي كان عندنا أيام الجاهلية الأولى، أو بمانراه الآن عند الغرب من فساد وانحطاط حضاري، لنشيّد حضارة عالمية جديدة نقية من كل جوانبها؟ بالطبع إن هذاشي ءٌ مطلوب للغاية، فلقد استطاع أسلافنا بالأمس القريب أن يشيّدوا تلك الحضارة الرفيعة التي انتشرت في أقاصي آسيا، وأعماق أفريقيا، وأطراف أوروبا، فهيمنوا على العالم بقيمهم ومبادئهم الإنسانية.
حضارة الرحمة
إن الغربيين يدركون جيداً أن المسلمين لو انتفضوا ونهضوا من أجل بناء حضارتهم من جديد وملكوا أسرار العلم،والتقنية، فإن العالم سوف يتوجه صوبهم، ويضرب بالحضارة الغربية الهمجية عرض الحائط. فحضارة الإسلام هي حضارة رسالية تعمل على تحرير الإنسان، وإنقاذه من آلامه، ومعاناته، ولعل أفضل ما يمكن أن نصف به هذه الحضارةهو أنها حضارة الرحمة للعالمين؛ فهي الحضارة الرحيمة والعطوفة على كل إنسان مهما كان لونه، ولغته، ودمه؛ بل وحتى عقيدته ومبادئه. فالإسلام كان رحيماً حتى بأعدائه.
ترى أين حضارتنا من حضارتهم الخاوية، وأين الأصيل النقي من الشائب الهجين؟ إن حضارتنا هي حضارة الرحمةكما يقول تعالى: (وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ )(الأنبياءِ/107)، وهي حضارة الحب والسلام والرأفةوالمودّة والإخاء والنخوة، حضارة تتعامل مع الأمم الأخرى انطلاقاً من مبدأ الرحمة الإلهية، هذا المبدأ الذي خطه لنارسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله الشريف: (ما آمن باللَّه واليوم الآخر من بات شبعاناً وجاره جايع )(42)، في حين أن حضارة الغرب المهيمنة على العالم لا يستشم منها سوى النفاق والخداع والأنانية وتقديم المصالح والمنافع على القيم والمبادئ؛ بل وجعل القيم والمبادئ الإنسانية الخيرة تحت الأقدام عندما تقتضي ذلك المصالح والمنافع المادية؛ فهي حضارة القتل والدمار والفساد والإفساد والظلم والقسوة والعنصرية البغيضة.
لابد من استعادة مجدنا
وتأسيساً على ما سبق؛ لابد لنا - نحن المسلمين- من أن نستعيد مجدنا، وحضارتنا الرسالية الأصيلة القائمة على أسس العدل والتقوى، وعلى ركائز القسط والإحسان. ويوم نغدو كذلك، فسنكون - حينئذ- أهلاً للغلبة والنصر ودحرحضارة الغرب وهدم بنائها الفاسد. فحريّ بنا - إذن- أن نعمل جهد إمكاننا ووسعنا لاستعادة ذلك المجد الغابر، ولنعلم أن خير ذلك سوف يعود علينا، وعلى غيرنا من سائر أبناء البشرية.
فلابد من استنهاض العملاق الإسلامي الحضاري ليقف في وجه الغول الحضاري الغربي - إن صح التعبير- الذي بات يهدد مصير البشرية، والحياة على الأرض، وعلى المسلمين أن يواصلوا نهضتهم، وبالفعل فإننا نقف على مشارف قيام الحضارة الإسلامية الجديدة، فالإسلام يكاد ينهض في كل بقعة تتشرف به.
ومن خلال التوكل على اللَّه وحده، والثقة به، والاعتماد على قوته وحوله نستطيع أن نهزم أكبر قوة في الأرض. أما إذاأصبحنا اتكاليين، نلقي بالمسؤولية على بعضنا البعض، أو نترك العمل وننتظر من الغربيين أن يفعلوا لنا شيئاً، فإن ذلك وهم وسراب علينا أن ننبذهما جانباً، وأن نعتمد بدلاً من ذلك على اللَّه جل وعلا من أجل تحرير بلداننا، مادمنا نحمل راية الإسلام التي هي راية العدل والحق والحرية، مادامت دعوتنا هي دعوة الصدق والخير والإحسان.
=============
الجاهلية الحديثة والحاجة إلى المعنويات
(مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ * يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِاَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الاَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ *يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَآءَكُمْ فَالَْتمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَمِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ *أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَانَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ اُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الاَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ )(الحديد/16-11)
البشرية اليوم أشبه ما تكون بجسم عملاق رُكّب عليه رأس صغير! إنك لو رأيت رجلاً ضخماً ؛ صدره عريض ويداه طويلتان ورجلاه أطول ، ولكن رأسه رأس طفل صغير ، فلا شك أنك ستقول بأن خللاً كبيراً حاكم على خلقته منذالولادة.
إننا اليوم نملك قدرات هائلة، حتى استطاع الإنسان أن يفلق الذرة ويتحكم بالجنين ويهندس الوراثة ويجوب الفضاء،وأصبحت الأرض التي كانت في يوم من الأيام عالماً مغلقاً أمام البشر؛ أصبحت تمسح بالأقمار الصناعية مسحاًجيولوجياً ليكتشف ما في أعماقها من معادن وآثار وأحواض مائية ونفطية وتيارات هوائية عالية التأثير قد تتسبب في وقوع الزلازل والبراكين.. وإنسان اليوم يستطيع التحكم حتى بالنباتات، حيث أخذ هذا التحكم وما يقف وراءه من تقنية علمية بتوفير مواد غذائية جديدة ، واستطاع العلماء تحسين نطف الحيوانات، فركّبوا بعضها على بعض ... وهاهو العلم الحاضر يسعى إلى زرع خلايا الدماغ، ويتجه إلى صنع أعضاء احتياطية حية لجسم الإنسان عبر الاستعانةبتحسين جينات الحيوانات الذكية.
وهذا التطور العلمي الحاصل لا يعني أن الإنسان قد وصل الذروة ، بل العكس هو الصحيح ، وفي ذلك إشارة واضحةومباشرة إلى أن البشرية قد ضيعت مميزات أبلغ أهمية من التطور العلمي الذي حصلت عليه.
إن باستطاعة إنسان اليوم أن يجلس مستريحاً في بيته مطلق الاستراحة بفضل الخدمات التي ينفذها له الإنسان الآلي،ويستطيع أيضاً تشييد مصنع معقد للسيارات المتطورة، والتفرج على العقول الالكترونية وهي تعمل على قدم وساق لإ؛چ چّ ّيعوزها نقص؛ واحتمال ارتكاب الخطأ فيها واحد إلى المليون .. فالإنسان الآلي المبرمج من قبل الإنسان الطبيعي ينجزمسؤوليات صانعه بإتقان أشد. ولكن هذا التطور وهذا الإنجاز قد كلف البشرية الكثير الكثير من مصداقيتهاوقابلياتها وروحياتها ومستقبلها.(3/36)
إننا؛ ومن منطلق مفاهيم ديننا الإسلامي لا نقول بأن السبب في تراجع البشرية هو التطور العلمي والاستفادة من طاقات الأرض والكون، بل العكس هو الأصح تماماً. فالنصوص الدينية الواردة فيها من التحريض على استثمارالطبيعة مالم يأت لها شبيه في دين أو عقيدة أخرى ؛ لا كماً ولا نوعاً. إن نظرتنا الدينية تؤكد بأن العلة فيما وصلت إليه البشرية من جاهلية وعدم تناسب، هو التفكير المادي المتحكم في التعامل مع الامكانات النهضوية.
فمن الملاحظ أن سجلات وأروقة الهيئات والمنظمات الدولية والإقليمية والمحلية تزدحم بتسجيل براءات الاختراع والاكتشاف، وكل يوم تطالعنا الصحافة العالمية بعشرات؛ بل بمئات الاختراعات العلمية الحديثة الغريبة بحق. ولكن كل هذا وذاك لا يعني توفر السعادة للبشرية، بل العكس هو الصحيح تماماً. إذ الجسم البشري أصبح كتلةً مشوهة لاتناسب فيها مطلقاً ، فالتفاوت كبير للغاية بين التطور العلمي وبين درجات كبح هذا التطور. وهناك اختلاف شاسع بين الإمكانات الطبيعية للبشرية وبين مستوى الاستقلال الذاتي لأصحاب هذه الإمكانات والموارد الحقيقيين، فالواقع الملموس يشير إلى أن الغني يتضاعف غناه والقوي تتضاعف قوته، فيما الفقير يزداد فقراً والضعيف يتكرس ضعفه باستمرار. وأن التطور العلمي والاكتشافات الحديثة لم تساعد في حل هذه المشكلة، إن لم نقل إنها سبب رئيسي في وجودها واستفحالها. فلقد أصبح مَثل الجسم البشري مَثل الشاحنة المتطور تقنياً ولكن تعوزها الكوابح، فالعالم اليوم تعوزه القيادة الحكيمة والحازمة لضبط هذه الحركة هائلة السرعة لتتحكم بها وتوصلها الى شاطئ الأمن والسلام.
إن البشرية اليوم تتسابق مع الزمن لمجرد السباق ، إذ هي تفتقر كل الافتقار الى وجود غاية تسير باتجاهها وإليها؛ بمعنى أن حركة البشرية أضحت كحركة كرة الثلج الهابطة من قمة الجبل ، فهي كلما هوت الى الأسفل كلما تضاعفت سرعتهاوكبر حجمها ، ولكنها لا تعي مصيرها ، فالوعي هنا سالب بانتفاء الحياة والروح لديها.
فقد تقدم الإنسان في العصر الراهن تقدماً هائلاً في عالم الماديات، ولكنه تضاءل وتراجع في عالم الروحانيات. ومما لايخفى أن الروح هي الضابط الأوحد للمادة، وهذه الروح إن لم تؤدي وظيفتها على الشكل الصحيح فإن المادة تكون ذات مردود سلبي على الإنسان. والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول بهذا الخصوص: (إن العقل عِقال من الجهل )(43)؛ أي إن الإنسان لا يعدو كونه كتلة من الجهل ما لم يستعن بسلاح العقل الذي يمنعه من الاندفاع نحو الخطأ، ويقول صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: (والنفس مثل أخبث الدواب، فإن لم تُعقل حارت )(44)؛ بمعنى أن النفس البشرية حيوان هائج،والعقل والروح والحكمة هو ما يدبّر أمورها.
بينما اليوم نجد الأسلحة الفتاكة التي تصرف لها الأموال الطائلة وتهدر لها الطاقات العلمية الجبارة يطول عنها الحديث ويطول حتى ليحس المتحدث والمستمع والكاتب والقارئ بالاشمئزاز منها . فالعلم الحديث استطاع أن يسخر الجراثيم لقتل وإبادة الناس ، وهذا السلاح بطبيعة الحال ليس سلاحاً دفاعياً أو رادعاً كما يحلو للبعض أن يقدّم تبريراته الكاذبةفي إطار صناعة ونشر واستخدام الاسلحة الذرية، حيث ضحكت الدول المالكة لهذا السلاح على بعضها البعض وعلى بقية الدول طيلة ما كان يسمى الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي ، حيث كانوا ولا يزالون يعتصرون جذوة الجهود البشرية والإمكانات الطبيعية المتاحة في سبيل إحكام سيطرتهم على مقدرات هذا العالم. هذه هي الحياةالتي نعيشها في الحقبة الراهنة مع بالغ الأسف والحسرة!.
والسؤال الهام جداً هنا، هو: كيف نقاوم هذا التوجه ؟ وكيف نستطيع أن نوجّه العالم ونقوده الى الأمن والسلام؟
والجواب يكمن في مسألة واحدة ، وهي العودة إلى الروح وتنمية المعنويات لدى الإنسان. فالمعادلة الطبيعية واليسيرةلدى الإنسان تقول بلزوم الحفاظ على الحالة المعنوية العالية لتتم السيطرة على الجسم والمادة فيه. ولا ريب أن الشريعةالإسلامية مليئة بالوصفات الروحية التي تؤدي دورها في هذا الإطار، من قبيل الصوم والصلاة المستحبين ودفع الصدقات ومساعدة المساكين والفقراء.. وبالأخص في أشهر رجب وشعبان ورمضان؛ الأشهر التي جعلها اللَّه بمثابةالفرصة المثالية والهدية للناس.
وهناك أمر على غاية في الأهمية، ألا وهو ضرورة الانتباه إلى الطريقة التي نؤدي بها عباداتنا ؛ بمعنى أننا لابد وأن نسعى إلى ممارسة العبادات على الوجه الصحيح والكامل.
إن الدين الإسلامي يرشدنا - في هذا المجال - إلى طريقة ذكية جداً ، تتمثل في أن ننظر في تأدية العمل والعبادة إلى من هو فوقنا في ممارسته للعبادة، ليكون بذلك تحريضاً على عزمنا ورغبتنا في الأعمال الصالحة التي من جملتها العبادة ، وأن ننظر إلى من هو دوننا من حيث الإمكانات المادية لتتأصل فينا القناعة والرضا بما قسم الرب جل وعلا.
ثم إن الإسلام يقول كما جاء عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: (من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم )(45) ويقول أيضاً كما جاء عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: (ما آمن باللَّه واليوم الآخر من بات شبعاناًوجاره جايع )(46)، بمعنى أن الشريعة الإلهية تحرضنا وتوجب علينا متابعة ما يجري من حولنا من تطورات، ومن ثم نمارس اهتمامنا ونقدم يد المساعدة للمحتاجين. وفي هذا الزمن بالذات، حيث المسلمون أحوج الناس من الجانب المادي والمعنوي، فان ثقل المسؤولية يتضاعف ويتضاعف حتى نؤدي ما علينا من توفير الروح المعنوية في الناس ونضمن انتفاء انحرافهم، بالإضافة إلى ما نقدم لهم من يد مساعدة مادية منتظمة وهادفة لاستئصال الجوع والفقر من بينهم.
إن في الآيات الشريفة السالفة الذكر تصور لنا حالة من حالات ما بعد دخول المؤمنين الجنة، ودخول الكافرين والمنافقين النار؛ حيث تتحول أعمال المؤمنين إلى نور يسعى بين أيديهم، يتنعمون في جنات تجري من تحتها الأنهارخالدين فيها، مبشرين من الملائكة برضوان اللَّه الذي هو أكبر وأشرف من الجنان وما فيها. أما الكفار والمنافقون فتتحول أعمالهم الدنيوية إلى عقد نفسية وظلمات، حتى ليستغيثوا بالمؤمنين ليتزودوا من نورهم، ولكن هيهات أن يكون لهم ذلك، فالملائكة تواجههم بأشد التقريع، فيقال لهم تعجيزاً: ارجعوا إلى ورائكم - دنياكم - لعلكم تلتمسون نوراً . وحين يعترف المنافقون والكفار بالعجز عن ذلك يضرب بينهم وبين المؤمنين حجاب؛ جهة منه فيه الرحمة لأهل الجنة، وأخرى فيها العذاب لأهل النار.
إن اللَّه سبحانه وتعالى يستعرض في هذه الآيات جملة من الأعمال التي أدت بالمنافقين الى النار، وهي: فتنة النفس،والريبة بالحقائق، والغرور بالأماني، والتعويل على المادة، وعدم الإيمان والتصديق بالغيب، وقسوة القلب، والفسق في الممارسات والمعتقدات، والتسويف بالتوبة مع معرفة الحق.
وعلى هذا الأساس؛ فإن المنافقين سيعيشون - فوق ما يعيشونه ويعانونه من عذاب النار - حالة من العزلة والاحتقارحتى لتكون النار مولىً لهم؛ أي ملجأً يلجؤون منها إليها؛ بمعنى أنهم يدورون في حلقة متكاملة من العذاب الإلهي الدائم والشديد. وقد أصابهم هذا كله بداعي رفضهم للروح واكتفائهم بالمادة؛ المادة التي ما أن يستغنى بها عن الروح حتى تضيّع الإنسان وتكتب على مصيره العقاب ..
==============
حضارة الروح تتحدى طغاة المال والقوة(3/37)
(إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وءَاتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ اُوْلِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَآ ءَاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الاَخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَآأَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الاَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَآ اُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الُْمجْرِمُونَ )(القصص/78-76)
هل للثروة والقوة والسلطة قيمة ذاتية مجردة تستحق أن يسعى الإنسان من أجلها أو يوقف حياته للوصول إليها؟
إنك لو سألت طفلاً عن القيمة الذاتية للدرهم أو السكين، لأجابك بكل براءة أن السكين التي تستخدمها أمه في المطبخ،أو تلك التي قد يضطر إلى استعمالها في الدفاع عن نفسه ضد حيوان ما، وكذلك المال الذي يشتري به ملابس المدرسة أوطعاماً يتغذى به، مثل هذه السكين وهذا المال لهما قيمتهما الجيدة، أما السكين التي تجرحه والمال الذي قد يشتري به أبوه المخدرات أو الخمرة، فإنهما غير جيدين بالمرّة.
إذن؛ فحسن الثروة والقوة يتحدد بنوعية الهدف الذي من أجله يستخدمان، باعتبار أنهما لا قيمة ذاتية لهما.
وهنا بالذات كانت مشكلة البشرية عبر التاريخ تكمن في تحول الثروة والقوة والسلطة من كونها وسيلة إلى هدف وقيمةذاتية، الأمر الذي أدى بها إلى التصارع والارتطام على أعلى المستويات.. فكان الإنسان يدخل السوق وهدفه الأول والأخير أن يصبح ثرياً، ساحقاً كل القيم، متجاوزاً المقدسات والمعايير الإنسانية وأصول التعامل.. فأكل أموال الناس والتهام حقوقهم وتعامل بالربا ودفع الرشوة وغش المبتاعين.. وذلك لمجرد اقتناص الدينار والدرهم. وأكثر من ذلك،كنت ترى مثل هذا الإنسان يتجاوز حتى عواطفه ويضيق على أهله من الأبناء والزوجة، بل وعلى نفسه أيضاً، بداعي علاقته بالثروة التي تعمقت ووصلت إلى حد العبادة.
وكم من رجل جمع مالاً، ولكنه تركه لغيره؛ وكم كان من الناس من عبد القدرة والسلطة، تاركين المقدسات وراءأظهرهم..
هذا ما كان على المستوى الفردي، أما على مستوى الحضارات، فقد عرفنا أن الكثير من المدنيات قد قامت على أساس هذا النوع من التوجه والاهتمام، وهي الآن في عالم العدم - إن صح التعبير - إذ لا أثر لها إلاّ ما جمعته المتاحف أو حوته الكتب في اُحدوثاتها، لأنها بدلاً من أن تستخدم الثروة والقوة كوسيلة لما هو سامٍ من الأهداف، اعتبرتها هدفاً ذا قيمةذاتية، فضاعت واندثرت أثناء سعيها وراء مثل هذا السراب المخادع، فامتلكتهم الأموال وتسلطت عليهم القوة، عوضاًعن أن يمتلكوها أو يمسكوا بأعنتها.
ولقد حوى التأريخ أمثلة كثيرة جداً بالنسبة للأفراد أو الحضارات التي درستها الثروة وأصبحت وبالاً عليها.
أما المثال الذي خلده القرآن الكريم في أكثر من موقع؛ فهو مثال قارون ومثال صاحب الجنتين..
.. كان قارون رجلاً بسيطاً من قوم النبي موسى عليه السلام، أنعم اللَّه عليه، فنسي نفسه، معتمداً التآمر حتى ضد الرسالة الإلهية.
يقول تبارك اسمه: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وءَاتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِاُوْلِي الْقُوَّةِ)، وهي أشبه ما تكون بالصندوق الأسود الذي يحمله الوفد المرافق للرئيس الأميركي ويحرسه أينمايذهب، ولو إلى سرير النوم!!
فنصحه المؤمنون العارفون من قومه، إذ قالوا له: (لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَ آءَاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الاَخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الاَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُ الْمُفْسِدِينَ ).
أي إن الفرح والاستعلاء والاستهتار ينتهي إلى الفساد في الأرض، واللَّه لا يحب المفسدين؛ لأن ذلك لا يمر في طريق وعقيدة اعتبار الثروة مجرد وسيلة إلى إحراز الفوز بالدار الآخرة، كما أنه يشوش الصورة الحقيقية للدنيا التي أوجدهااللَّه سبحانه وتعالى كمحطة في طريق الدار الآخرة، بالإضافة إلى أن مجرد اتخاذ اكتساب الثروة هدفاً ذاتياً يؤدي بصاحبه إلى الطغيان، فينسى أصل الإحسان؛ هذا الأصل الإنساني الكفيل بتحقيق التكافؤ الاجتماعي والتضامن بين أفراد الأمة.
ولكن قارون ترجم طغيانه واستعلائه بعبارات لا تنم إلاّ عن الجهل وانعدام التصور الحق، فقال لهم.. (إِنَّمَآ اُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي ). أي أنه نفى حقيقة أن الرزق والإمكانات بيد اللَّه يؤتيهما من يشاء ويمنعهما من يشاء لحكمةوإرادة خاصتين به دون سواه. فقارون لم يكلف نفسه مجرد التفكير في محدوديته، وأن علمه وأسلوبه ومجهوده في سبيل جمع الثروة، هو نعمة من اللَّه أيضاً، وأن من دون هذه النعمة الربانية يبقى الإنسان بلا حول ولا قوة.
ثم بدأ يتغافل عن نهاية ومصير كل إنسان، وهو الموت والهلاك، وتناسى كل صفحات التاريخ البشري، وخادع نفسه بالبقاء إلى أبد الآبدين.. وقد وصف القرآن الكريم واقعه المؤسف هذا بالقول الشريف: (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْأَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الُْمجْرِمُونَ ).
تُرى هل غاب عن ذاكرة قارون مصير الأثرياء والملوك والدول والحضارات التي سبقت زمنه؟!
أما صاحب الجنتين، فيقول اللَّه تعالى عنه: (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً * وَمَآأَظُنُّ السَّاعَةَ قَآئِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لاَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لَكِنَّ هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلآ اُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً * وَلَوْلآ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً *فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَآءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً * أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً * وَاُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَاَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ اُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً)(الكهف/42-35).
لقد تملّكه الطغيان، وتملكته الغفلة عن القيمة الحقيقية لما أنعم اللَّه عليه، فأصبح من النادمين على ما أشرك بربه، إذ تفرق عنه أعوانه وحلفاؤه الذين كان قد طغى بهم..
إن السنة الإلهية بهذا الصدد تؤكد أن المالك الحقيقي لكل شي ء هو اللَّه عز وجل، وهو صاحب الولاية الأصلية على المخلوقات وما في أيديهم، وهم لا يذهبون إلاّ باطلاً في تصورهم بأنهم أصحاب ثروة أو قوة أو سلطة.. فالغرض من كل نعمة ينعمها اللَّه على عبد من عبيده، هو الامتحان والابتلاء.(3/38)
أما بالنسبة الى تاريخ الحضارات فأقول: إن الحضارة الإسلامية التي قامت على أساس القيم والأخلاق ووعي السنن الإلهية التي وضعت للتأريخ - رغم أن كثيراً من الحكام المسلمين كانوا حكاماً ظالمين وطغاة - رغم ذلك، فإن الحضارةالإسلامية خلّفت وراءها الأخلاق والتطور والعمران لجميع الشعوب والبلدان التي لاقتها أو دخلتها. أما الحضارات القائمة على أساس الاستغلال والطغيان، وآخرها الحضارة الغربية، فصفحات التأريخ البشري الخاصة بها تشير إلى أن مثل تلك الحضارات لم تخلف سوى الجهل والتفرقة والاستغلال والدمار في الشعوب التي استولت عليها، وأوضح دليل على ذلك هو ما تعانيه الشعوب الأفريقية أو الآسيوية التي أصبحت مسرحاً لفصول الاستعمار الغربي منذ قرون، وهذاكله لم يكن له أن يحدث لو لم تكن الحضارة الغربية قائمة على أساس المادة، ومبنية على أصل اعتبار المال والقوة هدفاًيسعى إليه.. ومثل الحضارة الغربية كانت الحضارة البابلية والمصرية وغيرهما.
لقد عدَّ المؤرخون ك(تويمبى ) و (ابن خلدون ) وغيرهما أكثر من عشرين حضارة عبر التأريخ،كما بينوا عوامل تفوقها وأفولها. وقبلهم كانت آيات القرآن الحكيم وروايات النبي وأهل البيت عليهم السلام قد بينت جميع السنن الإلهية الثابتة في نهاية وسقوط الحضارات.. وكانت كلها قد أجمعت الرأي على أن الحضارات القائمة على أساس الطغيان والاستعلاء وعبادة المال والقوة، محكومة بالفشل مسبقاً؛ إلاّ أن الأمر الذي أطال عمر بعضها دون بعض هو مستوى الظلم والكبت الذي كانت تمارسه ضد شعوبها، ولكن الأصل في ذلك هو تحقق فشلها الذريع وانكشاف الحقيقة ولو إلى حين.
ولتوضيح هذه الحقيقة القرآنية والتأريخ أضرب مثلاً بهذا الصدد فأقول: إن حركة التنمية الاقتصادية لأية حضارةكانت، بمثابة حركة القطار الذي تسيره عربة القيادة، وتجر عدداً من المقطورات. فقد تكون قاطرة ذات تكنولوجيامتقدمة، ولكن في الوقت ذاته تعود بالضرر على الركاب، مما يعني أنهم قد لا يصلون إلى النقطة المرجوّة بداعي تسرعهم، وقد تكون القاطرة - عربة القيادة - بمحركات ذات ضجيج مرتفع جداً، إذ لا يصل الركاب إلى هدفهم إلاّبعد فقدهم لأعصابهم. وثمة قاطرة متفاوتة، فهي تتصف بالاتزان والتعادل في الحركة والسلامة في نوعية الوقود أوالحمولة، مع احتمال تأخرها في الوصول.
فقاطرة التقدم الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي أو التأريخي الأفضل والأرقى بحق هي تلك القاطرة التي تقودالناس وتسير بهم بوقود الإيمان والتقوى لتصل بهم إلى الاستقرار والاطمئنان..
إن المدنية الأميركية - مثلاً - قامت على أساس اغتصاب الأرض وقتل وإبادة أصحابها من الهنود الحمر بلذة عارمة،كما أنها قامت على أكتاف مئات الملايين من الأفارقة الذين سرقوا من قارتهم لأداء مراسم العبودية والخدمة، فكانت هذه المدنية قائمة على الاستغلال والجشع وعبادة المال والقوة واحتكار الحريات السياسية في حزبين فقط، وهما الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي، تحت مظلة الدعاية والإعلام الذي لا يعرض للعالم إلاّ ما يخدعهم ويصور لهم أن جنةالأرض هي الولايات المتحدة، خافياً وراءها كل الجرائم والفساد والكبت والتدمير والنية في القضاء على طموحات الشعوب الأخرى وتطلعاتها ومعتقداتها، وكان آخر عمليات الإخفاء هذه، هي محاولات الاستتار وراء إنشاء القريةالعالمية الواحدة، لتتم السيطرة على مقدرات العالم كله.
ولكن تبقى المشكلة نفسها، وهي أن منظري الاستراتيجية الأميركية التي تمثل إلى حدود واسعة طبيعة الفكرالاستعماري الغربي عموماً، هؤلاء يحاولون تجاوز الحقائق التاريخية الثابتة والسنن الإلهية غير القابلة للتبديل أوالتحويل والتحريف، مثل قوله سبحانه وتعالى: (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً)، الذي يشير بوضوح إلى أن المال والقوة وما يحتويه هذان العاملان محكومان بالفناء وعدم الخلود، وأن الخالد فقط هو المعتقد والعمل الصالحين والقائمين على أساس الحق والإنسانية النزيهة.
وأبرز مصداق على ذلك قصة أصحاب الفيل الذين تركهم اللَّه كعصف مأكول قرب صحراء مكة، رغم ما جمعوه من الفيلة وعوامل القوة الأخرى التي كانت تفوق كل قوة في ذلك الوقت..
إنني لا أريد تشبيه دمار أصحاب الفيل بحادثة الحادي عشر من أيلول - سبتمبر، التي أطاحت ببرجي التجارة العالميةفي مدينة نيويورك، لأن من قام بهذه العملية الأخيرة غير محترم من قبلنا، كما أن هذا العمل لم يكن شريفاً؛ ولكن بالإمكان القول بأن لكل حضارة علامة على اُفولها، كما كانت لها علامة الطلوع والظهور.. وقد تأكد العالم بأن انهيارالاتحاد السوفياتي السابق كان له علامته، وهي تفجر المفاعل النووي العملاق الموسوم ب(تشرنوبيل )أواخر عقد الثمانيّات، رغم أن السياسة السوفياتية بذلت مساعيها للتكتم على هذه الحادثة التأريخية. وها هم خبراءالتأريخ يرسمون نفس الخط البياني ليؤكدوا أن تدمير برجي التجارة العالمية في نيويورك علامة انهيار النظام الرأسمالي الأميركي.
إن الحضارة التي أسلمت زمام قيادتها للثروة والقوة محكومة بالانتهاء والاُفول، ذلك لأن قانون السماء قد جعل الموت في صميم الحياة، إلا أن الموت والحياة يتصلان بإرادة اللَّه وتوقيته الحكيم. ولكن يبدو أن طبيعة النظام الغربي الحاكم في أميركا يستعجل الفناء، بعدم قراءته التأريخ وعدم تصديقه للسنن الإلهية الثابتة في الحياة.
كما أود - ختاماً - لفت انتباه أنظار الشباب العربي والمسلم عموماً بألاّ ينخدعوا بمظاهر القوة من طائرات عسكرية أوسفن عملاقة أو أسلحة ذرية أميركية.. فهذه كلها عوامل فناء الصرح الأميركي نفسه، فالحق والإنسانية هما الأمران الوحيدان اللذان كتب اللَّه لهما البقاء والخلود، فلا ينبغي أن نرهب بشي ء فانٍ أبداً، بل علينا تكريس توكلنا على اللَّه الباق، وأن نثق بديننا ونتطلع الى ذلك اليوم الذي تتسلم الحضارة الإسلامية العادلة زمام قيادة الأرض على أسس القيم المثلى، وليس على أساس الثروة أو القوة أو الطغيان والاستعلاء، وسبحان اللَّه الذي يأبى أن تبقى البشرية تحت وطأة الأغنياء وأقوياء المادة الزائلة..
=============(3/39)
الحضارات بين الشكر وكفران النعم
(وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِوَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ *وَلِسُلَيَْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ *يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا ءَالَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ * فَلَمَّاقَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلآَّ دَآبَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَالَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ * لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ ءَايَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ *فَأَعْرَضُوا فَاَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْ ءٍ مِن سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي اِلاَّ الْكَفُورَ)(سبأ/17-10)
يضرب لنا اللَّه جل وعلا في الآيات المتقدمة مثلين من حضارتين عاشتا ثم بادتا، إلا أن أحدهما عاشت عيشة طيبةواستمرت في حياتها حتى قضت أجلها المسمّى لها، فانتهى بذلك وجودها انتهاء طبيعياً. أما الحضارة الأخرى فقددمّرها الخالق سبحانه شرّ تدمير، وأنهى وجودها بشكل مأساوي على الرغم من تمتعها بكافة وسائل العيش الرغيدالتي وفّرها اللَّه سبحانه لها.
الحضارات الإلهية
لقد تمثلت الحضارة الأولى في حضارة بني إسرائيل وخصوصاً في عهد النبي داود وابنه سليمان عليهما السلام، فأما النبي داود فقدشملت حضارته الصناعات، حيث ألان له الرب الحديد، وسخّر له الجبال، فلفظت الأرض ما في جوفها من المعادن التي كان الحديد من جملتها، فصنع داودعليه السلام من هذا الحديد اللين الدروع المعروفة بالدروع الداودية.
أما النبي سليمان عليه السلام؛ فقد اتسعت حضارته، وترامت أطرافها، حيث أنعم اللَّه عز وجل عليه باستجابة الدعاء وجعل له ملكاً عظيماً لم ولن يؤتيه لأحد من قبل، ولا من بعد؛ فقد كان عليه السلام يمتطي الريح ببساطه المعروف، ومعه مئات الألوف من الجنود المجندة، وكانت حركة هذا البساط بالاستناد إلى مقاييسنا الحديثة ما يقرب من ستمائة كيلو متر في النصف الأول من النهار، ومثل ذلك عصراً، كما يشعر بذلك قوله تعالى: (غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ)(سبأ/12)؛ أي أن الريح كانت تحمل النبي سليمان عليه السلام وجنوده مسافة شهر كامل خلال نصف يوم، ثم لا تلبث أن تعود هذه المركبة بهم قاطعة نفس المسافة خلال نصف نهار أيضاً! ومما تذكره كتب التاريخ أن سليمان عليه السلام كان يصبح في بعلبك، ثم يكون في بغداد عند الظهيرة، وفي خاوران عند العصر، ثم يعود إلى قصره في بعلبك!
إن الحضارة الرفيعة التي كانت لنبّي اللَّه سليمان عليه السلام لم يستطيع البشر أن يصلوا إلى مستواها حتى اليوم، على الرغم مماحققه الإنسان من تقدم علمي.
وعلى سبيل المثال؛ فإن استخدام الطير لإنجاز بعض المهام ما هو إلا استخدام محدود لدينا، في حين أن النبي سليمان عليه السلام أوتي منطق الطير كما تشير إلى ذلك بوضوح قصة الهدهد المعروفة. كما أن البشر لم يستطع الوصول إلى مستوى استخدام القوى الغيبية العاملة كالجن، في حين أن النبي سليمان عليه السلام كان بإمكانه أن يستخدمها لتقدم له مختلف أنواع الخدمات،ومن جملة هذه الخدمات -كما يذكر القرآن- صناعة القدور الراسية، والجفان الكبيرة الحجم.
انتهاء العمر الطبيعي للحضارة
ومع ذلك فإن هؤلاء الجنّ لم يستطيعوا أن يتبينوا موت النبي سليمان عليه السلام إلا من خلال (الأرضة) التي أكلت منسأته. ففي رواية عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، أنه قال: إن سليمان بن داودعليه السلام قال ذات يوم لأصحابه: إن اللَّه تبارك وتعالى قد وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي، سخّر لي الريح والإنس والجن والطير والوحوش، وعلمني منطق الطير، وآتاني من كل شي ء. ومع جميع ما أوتيت من الملك ما تمّ لي سرور يوم إلى الليل، وقد أحببت أن أدخل قصري في غد فأصعد أعلاه وأنظر إلى ممالكي، فلا تأذنوا لأحد عليّ لئلاّ يرد عليَّ ما ينغص علي يومي. قالوا: نعم.
فلما كان من الغد أخذ عصاه بيده وصعد إلى أعلى موضع من قصره، ووقف متكئاً على عصاه ينظر إلى ممالكه مسروراًبما اُوتي فرحاً بما اُعطي، إذ نظر إلى شابّ حسن الوجه واللباس قد خرج عليه من بعض زوايا قصره، فلما بصر به سليمان عليه السلام قال له: من أدخلك إلى هذا القصر، وقد أردت أن أخلو فيه اليوم؟ فبإذن من دخلت؟
فقال الشاب: أدخلني هذا القصر ربه، وبإذنه دخلت.
فقال: ربه أحق به مني، فمن أنت؟!
قال: أنا ملك الموت.
قال: وفيما جئت؟
قال: جئت لأقبض روحك
قال: امض لما اُمرت به، فهذا يوم سروري، وأبى اللَّه عز وجل أن يكون لي سرور دون لقائه.
فقبض ملك الموت روحه، وهو متكى ء على عصاه، فبقي سليمان عليه السلام متكئاً على عصاه وهو ميت ما شاء اللَّه )(47).
ولعل النبي سليمان عليه السلام ظلّ سنة كاملة على هذه الحالة، والجن ينظرون إليه ، فحسب بعض السذج والبسطاء أن النبي سليمان هو الإله، لا من البشر الذي يتعب، ولا يستطيع الوقوف كل هذه المدة، إذ الإنسان بحاجة إلى الأكل والشرب والنوم، في حين أن سليمان عليه السلام ظل واقفاً لمدة عام كامل وهو مشرف على جيشه ومملكته، فهو إله إذن!
وكان ذلك امتحاناً لرعاياه، وعندما انتهى وقت الامتحان أمر اللَّه تقدست أسماؤه الأرضة أن تنخر منسأة النبي سليمان،فانهارت هذه المنسأة، وأنهار معها سليمان عليه السلام، وخرّ إلى الأرض، وحينئذ أدرك الجن أنهم كانوا على خطأ عظيم.
لقد استمرت هذه الحضارة لفترة طويلة حتى بعد وفاة صاحبها بعام، ففي هذه السنة كان وصي سليمان عليه السلام، آصف بن برخيا هو الذي يقود المملكة، ويدير شؤونها، وقد استمرت هذه الحضارة بصورة طبيعية كما ابتدأت.
الحضارة التي دُمّرت
وفي المقابل ذكر القرآن الكريم قصة حضارة أخرى كانت على عكس الأولى تماماً، ألا وهي حضارة (سبأ)التي كانت تمثل قبائل جنوب الجزيرة العربية في منطقة اليمن، وقد استطاعت هذه الأمة أن تشيّد سد مأرب الذي ماتزال معالمه موجودة إلى الآن. ففي ذلك الوقت الذي يتحدث عنه القرآن الكريم والذي شُيّدت فيه الحضارة السبئيةآتى اللَّه سبحانه العرب الحكمة، فبنوا سدّاً في تلك المنطقة حفظوا فيه المياه، ثم شقوا القنوات إلى مناطق شاسعة من بلادهم، فغمرت بذلك الأرض واستصلحت، حتى أن الرجل كان يكفيه أن يحمل سلّة فارغة ويمرّ تحت الأشجار المختلفةثم يعود إلى بيته وقد امتلأت سلّته تلك بأنواع الفواكه دون أن يكلّف نفسه عناء قطفها!(3/40)
واتسعت حضارة سبأ، ولكن أصحابها كفروا بأنعم اللَّه، فأباد عز وجل حضارتهم، حيث سلّط على ذلك السد الفئران فهدمته، فانطلق السيل العرم إلى المناطق الزراعية، وأغرقها مع أهلها، فهلك منهم من هلك، ونجا منهم من هرب إلى شمال ووسط الجزيرة العربية.
وقد حدّثنا القرآن الكريم عن هذه الحضارة بقوله: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ ءَايَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوامِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَاَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْ ءٍ مِن سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي اِلاَّالْكَفُور)(سبأ/17-15)
فالقرآن يشير هنا بوضوح إلى أنهم لم يستحقوا العذاب والغرق والفناء إلا لأنهم أعرضوا وكفروا، فكانت نهايةمأساوية لحضارة لو كانت شكرت أنعم ربها لدامت مئات السنين، إلا أن الكفر هو الذي أدى إلى انقراضها وهي في أوج قوتها وعنفوانها.
التاريخ يعيد نفسه
والقرآن الكريم يضرب لنا هذه الأمثلة وغيرها ليبين لنا أن التاريخ يعيد نفسه دوماً، لأنه ليس إلا تطبيقاً وتجسيداً لسنن اللَّه سبحانه في الأرض، فهو عبارة عن تطبيقات للأنظمة والقوانين التي وضعها البارئ لهذا الكوكب؛ فالقوانين لا يمكن أن تتبدل، كقانون الجاذبية الذي كان ولا يزال يجذب الأشياء إلى الأرض، كما أن الحر والبرد يمثلان حقائق وقوانين لم تتغيّر منذ الأزل.
وهكذا الحال بالنسبة إلى قانون الحضارات، فإنه هو الآخر ثابت لا يتغيّر؛ فعندما يكفر الإنسان بربّه، ولا يشكر أنعمه فإن حضارته لابد أن تنتهي وتزول شر زوال، حتى لو كانت هذه الحضارة في عنفوان شبابها. أما إذا شكر الإنسان ربه،فإن حضارته سوف تدوم وتستمرّ حتى ينقضي عمرها الطبيعي. فكما أن الإنسان يطول عمره إذا اتبع المناهج الصحيةالسليمة ومن ثم يموت موتاً طبيعياً، وكما أن الإنسان الذي يرتكب الفواحش يصاب بالأمراض والشيخوخة المبكرةوالانهيار العصبي وعشرات الأمراض الأخرى، فإن نفس هذه القاعدة تنطبق على الحضارات أيضاً.
إن قانون الحضارات هو قانون يتكرّر ويتجسّد اليوم في واقع الأمة الإسلامية وفي كل مكان، فنحن لو شكرنا اللَّه سبحانه وتعالى لدامت نعمه علينا كما يقول عز وجل: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)(إبراهيم/7). فهذا إعلان إلهي بأن الشكر يؤدّي إلى دوام النعمة، بل وزيادتها.
الشكر وأسلوبه
والسؤال المطروح هنا هو: ما هو الشكر، وكيف يكون؟
الجواب: إن الشكر هو شكر كل نعمة من خلال الفيض بها على الآخرين؛ فشكر نعمة المال يكون ببذله، وشكر نعمةالعلم بنشره، وشكر نعمة الجاه باستغلاله في سبيل خدمة الآخرين، وشكر نعمة الهدى يتجسّد في الاستقامة.. فلكل نعمة شكر يلائمها، ولكننا عندما أحجمنا عن الشكر فإن حضارتنا انتهت؛ فأصحاب المال بخلوا، وأصحاب العلم جبنوا، والعاملين تكاسلوا... وبالتالي فإن الجميع قد انهار، وانهارت الحضارة بانهيارهم. والسبيل الوحيد لنهوضنا،وإعادة أمجادنا السابقة، والحصول على استقلالنا، هو الاعتبار بما جرى للأمم السابقة التي كفرت بأنعم ربها وتنكّرت لها، وغفلت عن ذكر اللَّه، فكانت النتيجة أن انهارت حضاراتها، وانقرضت، وتحوّلت إلى خبر يذكر.
ومن أجل أن نحول دون تورّطنا في هذا المصير؛ فإن علينا أن نؤدي فريضة الشكر إلى الخالق تعالى بالمعنى الذي ذكرناه سالفاً، وأن نعرف قدر نعمه، ولا يصيبنا البطر والطغيان والغرور، لأن شكر النعمة موجب لدوامها وثباتها؛ بل وزيادتها. وهذه سنة إلهية ثابتة لا يمكن أن تتغير، ولن تجد لسنّة اللَّه تبديلاً.
==============
حضارة في بيت العنكبوت
(وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَد تَبَيَّنَ لَكُم مِن مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ *وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَآءَهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الاَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ * فَكُلاًّأَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُم مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الاَرْضَ وَمِنْهُم مَنْ أَغْرَقْنَاوَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا انفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ *مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْكَانُوا يَعْلَمُونَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْ ءٍ وَهُوَالْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَتِلْكَ الاَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ الْعَالِمُونَ )(العنكبوت/38-27)
الشرف العظيم والقوة الكبرى والركن الشديد أن يؤمن الإنسان باللَّه وحده، ويعتمد عليه وحده، ويتوكل عليه وحده.فالتوحيد أعظم شرف يتشرف به ابن آدم، وأقوى ركن يعتمد عليه، وأفضل وسيلة يتوسل بها. أما الشرك؛ فهو ضعف وذل وهوان.
وعلينا - ونحن نتلو آيات القرآن المجيد- أن نتبصّر ذلك النور الفياض منها؛ ابتداءً من باء (بسم اللَّه )،وانتهاءً بسين (والناس ).
ولعلّ من أعظم أنوار القرآن؛ نور الهداية إلى اللَّه سبحانه وتعالى. وقد ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: (لقدتجلى اللَّه لخلقه في كلامه، ولكنهم لا يبصرون )(48).
فإذا كنّا لا نبصر ولا نسمع ولا نعقل، فلماذا وهبنا اللَّه تبارك وتعالى السمع والبصر والفؤاد؟
إنّ القرآن الكريم كتاب التوحيد، ومفتاح فهم هذا الكتاب هو معرفة اللَّه عزّ وجل، ومن ضلّ عن ربّه فقد ضلّ ضلالاًبعيداً، ومن لم يجعل اللَّه له نوراً فما له من نور. والشرك هو الضلالة الكبرى والتيه الأكبر..
ومن أجل توضيح هذه الفكرة التي استوحيها من آيات مباركات من سورة العنكبوت، لابد أنّ أضرب لكم مثلاً في ذلك، لأن الأمثال تقرب الحقائق، فأقول؛ من يقصد منطقة معينة فيركب صهوة حصان هائج، لن يصل إلى مقصوده،ولن يفلح راكب سيارة ذات فرامل ضعيفة في الوصول بسلام، ولن ينجو الغريق إذا ما توسّل بقشّة..
وكذلك الإنسان إذا ما اعتمد على غير اللَّه، فإنه سيتأكد في نهاية المطاف أنّ (هذا الغير) ليس لن ينفعه فقط،وإنّما سيضره أيضاً. فهذا الغير سيتحول إلى وسيلة هدم لحياته.
فلقد اعتمد فرعون على قدرته الاقتصادية والزراعية وثروته المائية، حتى قال: (وَهَذِهِ الاَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي )(الزخرف/51) إشارة إلى تسلطه المطلق على نهر النيل، وأنّه يسيره كيف شاء. لكن هذا النهر هو الذي غرق فيه فرعون وأصبح بذلك آية للعالمين.
وتلك عادٌ الأولى التي كانت قبيلة قوية، ذات شوكة وبطش وجبروت، كانت تقطن في الطرف الشمالي للجزيرة العربية،متشبّثة ببيوتها وصخورها، إذ نحتت من الجبال بيوتاً، فأرست قواعد حضارتها، إلاّ أنها لفرط اعتمادها على صخورهاوحصونها دمّرها اللَّه بذات الصخور.(3/41)
إذن؛ قانون وسنّة إلهية، مفادها ضرورة فتح الإنسان لعينيه وأذنه وعقله ليرى حقيقة التأريخ، وأنّ من يحجم عن ذلك ويريد ابتداع سنّة كونية من عند نفسه، أو يهدف محاربة السنن الإلهية في الكون ، فإن عقاب اللَّه سيقف له بالمرصاد،حيث سيدمّر ويمحق بذات الشي ء الذي اعتمد عليه من دون اللَّه.
أتعلمون أن أبا مسلم الخراساني هو الذي أقام حكومة أبي العباس السفاح والمنصور العباسي، ولكنّهما هما اللذان قتلاه.والبرامكة على عظمة صيتهم رفعوا هارون العباسي إلى سلطان الهيبة والاقتدار، فما كان منه إلاّ أن بدأ بهم فقتلهم شرَّقتلة. ذلك لأنهم وأمثالهم ممن يعينون الطغاة، يتغافلون عن الحقيقة الإلهية القائلة: بأنّ من اعتمد على غير اللَّه ذلّ. ولعل في صعود وأفول نجم الحضارات البشرية عبر التأريخ أمثلة ومصاديق لذلك.
والمثل الجديد الذي أرغب في إيضاحه لكم هو مَثل الثورة المعلوماتية الجديدة التي تعتمدها الحضارة البشرية الراهنة،وكيف أن هذه الحضارة التي لا تتخذ من الحق والعدل والحرية وكرامة الإنسان مرتكزاً لها، سيكون مصيرها نفس مصير ما سبقها من حضارات، وكيف أنّها تعيد عجلة التأريخ على نفسها وكأنّها غير معنيّة بما سبق للبشرية أن ذاقته من عذاب إلهي شديد...
أتحدّث معكم ونحن في مطلع القرن الواحد والعشرين، حيث مرت علينا سنة الألفين، وعاش فيها العالم أزمةالكومبيوترات الكبرى، المبني نظامها أساساً على رقمين هما واحد وصفر أو صفر وصفر؛ أي صفران. ولما كانت سنةألفين تحوي ثلاث أصفار، فإنّ أجهزة الكومبيوتر الحاوية لمليارات المليارات من المعلومات، والتي أضحت القائدوالموجّه لمعظم الأجهزة التكنولوجية في العالم عموماً والغرب على الخصوص؛ وما فيها من صواريخ وطائرات ومطارات وقطارات وبنوك وبورصات وأقمار صناعية وغير ذلك، كلّها عانت الرعب أن تصاب بالعطل، لو لم يعثرعلى حلّ مجدٍ لتلك الأزمة الكبرى.
إن هذا الغلط البسيط كان له أن يتسبّب بحدوث كارثة عظمى، حسب ما أكد رئيس لجنة كارثة الألفين في مجلس الشيوخ الأميركي. إذ أكد أنه بعد سنة ألفين ستتوقف القطارات، لأنّها تعتمد على الكومبيوتر، وكان متوقعاً في أول يوم من هذه السنة أن تتعطل الأقمار الصناعية وأنظمة الاتصال ومحطات الوقود والطائرات وكل الكومبيوترات مركّبةبطريقة غير صحيحة.
ولقد انكبّ العلماء والمتخصّصون على اكتشاف حلٍّ لهذه المعضلة التأريخية.
ولكنّ العالم المهدّد بسبب بسيط، وهو عدم قدرة الكومبيوتر على التجانس مع قراءة رقم ألفين وما بعده، هذا العالم من الممكن جداً أن يتعرض لمشكلة وكارثة أكبر وأخطر إذا ما توقفت كل الأجهزة المعلوماتية وأجهزة الاتصال، لأنّه يعتمد على نظام شركي، قوامه الأوّل الأمواج التي تثير الأجهزة وتحركها وتمنحها مزيداً من الدقة في الفعل وردّ الفعل.فهذه الصواريخ كلها تتوجّه وتعمل عبر الأمواج، وإذا ما أمكن تعطيل حركة الأمواج، فإنها - الصواريخ- ستنتهي إلى احتمالين؛ إمّا التصويب غير الدقيق، وهذا يعني نهاية العالم. واحتمال آخر هو التوقّف عن العمل أساساً.
إنّ عجز الكومبيوتر ليس بالشي ء الغريب أبداً، فإن لدينا من القصص والتجارب العديدة ما يؤيد ويسهل هضم هذه الحقيقة الملموسة. فهذا العالم الفيزيائي الشهير (البرت انشتاين ) الذي يقال إن حجم دماغه كان أكبر من الأحجام المعتادة بنسبة ثلاثين بالمائة من الأدمغة الطبيعية للناس.. وكان ذا قدرة عجيبة على التحليل واكتشاف القوانين والنظريات، وآخرها نظرية النسبية المعروفة. هذا الرجل - على عظمة قدرته الرياضية - كثيراً ما كان يفشل في كتابة أو قراءة الرقم (2)، مما كان يتسبب في وقوعه في المشاكل والإزعاجات اليومية. ولما كانت قدرةالعقل البشري المتوسط يفوق بمليارات المرات قدرة أدق وأحدث كومبيوتر مخترع، فما بالك بالفارق الذي لا يوصف والذي يميّز عقل أنشتاين عن جهاز الكومبيوتر المشار إليه؟
وما أريد تأكيده هنا، هو القول بأنّ احتمال أو توقع حصول خطأ تكنولوجي في الاختراع أو طريقة الاختراع من قبل المخترعين أمر في غاية الصحّة، وأنّ القول بحصول كارثة بشرية تأريخية قول لا يجانب الصواب أبداً، بل القول المعاكس هو الخطأ تماماً. وما كانت البشرية لتصل إلى هذا الواقع المرير من القلق والرعب والانفعال، لو كانت اعتمدت على أسس أفضل ومعتمدات أرقى. فهي تعمّدت ظلم نفسها باعتمادها على المادة المجردة، وتناسيها آيات خالق المادة. وعلى هذا فإن جزاءها العادل، هو استمرار الرعب والقلق والانفعال الشيطاني، ثم حدوث الكارثة فضلاً عمّا ينتظرها من عذاب في يوم القيامة، يوم الحساب العادل.
إنّ اللَّه عزّ وجلّ يؤكد سنّته الثابتة بقوله المجيد: (فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ )؛ أي إنّ اللَّه يعاقب كل فرد وكل مجتمع وكل حضارة بعقوبة تتجانس والشي ء الذي حاولت عبره تحدّيه. وها هي آيات اللَّه العجيبة تترى علينا كل يوم ونراها بأمّ أعيننا، فضلاً عمّا قص علينا القرآن الكريم من قصص المدنيات القديمة التي أصيبت بذات السلاح الذي اتخذته لنفسها حامياً ودرعاً.
وها هو (فورد) مخترع السيارة الحديثة وصاحب الثروة والنفوذ، ورجل الاقتصاد الأميركي الكبيريواجهه الموت بين دولاراته وصكوكه في صندوق ادّخاره الحديدي، حيث أقفله على نفسه غافلاً عن أن المفتاح في الخارج، ولم ينفعه صياحه واستغاثاته.. تماماً كما قضى اللَّه عزّ وجل على قارون الذي كان يتفاخر على قومه بثروته وأراضيه الواسعة، فقبره اللَّه في عمق الأرض ليكون عبرة لمن تسول له نفسه وتوسوس له.
إن طغاة المعلومات اليوم يظنون بأنهم توصلوا إلى قمة العلم، وأنه من الصعب التطور أبعد من ذلك. وهذا ما يطلقون عليه بنظرية حافّة التأريخ فيما يخص الصراع البشري وتطور البشرية، غافلين عن قول اللَّه تعالى: (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ )، ومتغافلين أيضاً عن أنهم ما يظلمون إلاّ أنفسهم بنظريتهم هذه.
إنّ هؤلاء الذين اتخذوا من العلم ولياً من دون اللَّه، إنما كيانهم ككيان العنكبوت المعرض للزوال بأدنى ريحٍ وحركة.
وها هي سنّة اللَّه الثابتة نراها تتكرر يومياً وبين لحظة وأخرى؛ إذ من يعتمد على القوّة يهزم بالقوة، ومن يعتمد على مؤسسات الأمن والمخابرات تنقلب عليه هذه المؤسسات فتبيده، ومن يعتمد على الإمكانات المادية ينسحق بها.
أمّا الإنسان المؤمن، فإن من شأنه توحيد اللَّه والاعتماد عليه، لأن اللَّه لا يهدي إلاّ الى الخير؛ بل ذلك قانون كتبه اللَّه على نفسه، فقال سبحانه: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) سواء كان حاكماً أم محكوماً ، جاهلاً أم مجتهداً..
بلى؛ إن من الممكن أن يتخذ المرء أغراض الدنيا وإمكاناتها وسيلة إلى الكمال والتقرب إلى صاحب الكمال المطلق، وهواللَّه جل وعلا، دون أن تتحول هذه الوسيلة إلى مركز ثقل واعتماد. فالذكاء والخبرة والمادة والجنود كلّها ينبغي أن تكون مجرد وسيلة نحو الإقرار بوحدانية اللَّه وقدرته وجبروته وتحكمه بمجريات الأمور.
=============(3/42)
العولمة ومستقبل الحضارة الإسلامية
(وإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ ءَامِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الاَصْنَامَ *رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثيراً مِنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ *رَبَّنَآ إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَبَيْتِكَ الُْمحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِنَ الَّثمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ )(إبراهيم/37-35)
ها هو العالم يندفع بقوة نحو القرية العالمية الواحدة، وسنشهد بإذن اللَّه تعالى يوماً نجد فيه العلاقة بين إنسان وإنسان في أقصى العالم أوثق وأمتن بكثير ممّا هي عليه اليوم؛ علاقات الجيرة وزمالة المدرسة والدرب والعمل... فيا ترى ماذا أعدّالمسلمون لذلك اليوم؟ هل سيبقون حيث هم بانتظار أن تسحقهم عجلات الاندماج العالمي؟ أم سيصبّون اهتماماتهم ليكونوا أمّة قائدة لهذا التفاعل والاندماج، أو مشاركين؛ على الأقلّ؟
قبل سنين معدودة، كانت المحطات الفضائية العالمية حلماً، وكان الانترنيت نوعاً من الخيال، وكانت الصحافة القاريةنوعاً من التفكير غير العلمي.. ولكنّ ذلك كله قد تحقّق كلّه، بل وأصبح إنجازاً قابلاً للتطوير الواسع. وها هو النظام المدرسي أخذ يخطو خطوات واسعة باتجاه إلغاء البناء المدرسي واكتفاء الطالب بتلقي دروسه عبر أجهزة التلفاز أوالحاسوب، وهكذا الأمر بالنسبة إلى الإدارات أو الشركات والمعامل، وذلك كله لتجاوز حاجز المكان واختصار الزمن وتوفير أكبر قدر ممكن من التفاهم. أمّا فيما يخصّ القطاع الاقتصادي فهو الآخر سيأخذ الصيغة العالمية ليحلّ محل الاقتصاد المحلي المحدود، ومن جملة بوادر تكريس هذا الاتجاه الإعلان عن منظمة التجارة العالمية، حيث سيتم عبرمقرراتها وأساليبها سحق مختلف أنواع العقبات في هذا الإطار.
نعم؛ لقد كنّا نقرأ بالأمس في كتاب (صدمة المستقبل ) أو كتاب (الموجة الثالثة) أشياء نعتبرهاأحلاماً أو خرافات علمية.. ولكنّها تحقّقت، إذ نلمس ونرى حركة عالمية نحو الاندماج والاندكاك، فماذا أعددنا؟ وهل سنكون ضيوفاً على العالم الجديد، علماً أن الضيف فيه لن يكون مكرّماً معزّزاً؛ بل سيكون ذليلاً تابعاً مهاناً محكوماًبالعبودية، شاء أم أبى، فأين نحن من هذا السيل العرم؟!
الإسلام ومبدأ العولمة
إن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم رفع راية العولمة والعالمية من قبل، انطلاقاً من قوله تعالى: (وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ اِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاس بَشيراًوَنَذيراًِ)(الأحزاب/45)، أو قوله سبحانه: (تَبارَك الَّذي نَزلَ الفرْقَانَ عَلَى عَبْده لِيكونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً)(الفرقان/1).
إذن؛ فراية العولمة كان قد حملها الرسول الأكرم وبشر بها من بعده الأئمة من أهل بيته عليهم أفضل الصلاة والسلام،ومنذ ذلك اليوم وحتّى هذه اللحظة، حيث يمر ما يزيد على ألف وأربع مائة سنة، تُرى هل فكرنا - نحن المسلمين- في حقيقة هذه العولمة، وكيفيّة التخطيط لها، وهل أنّ موقعنا منها موقع الضيوف أم المساهمين والمشاركين، أم القادة لها؟...
وفي إطار الإجابة على كل هذه التساؤلات أقول: إن هناك ثلاث نظريات في هذا الإطار.
النظرية الأولى: تواجه هذه الحقيقة بالتكذيب التام والعناد لكل ما يطرح ويدعم العولمة - من المنظور الإسلامي- من أدلّة واضحة وضوح الشمس، بل ويفضل هؤلاء المكذبون الانطواء على أنفسهم، ليكونوا مصداقاً لقول الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: (وذلك ميّت الأحياء)(49).
أماّ النظرية الثانية: فهي التي يلفها اليأس والقنوط دون التطلع إلى التطور، وذلك بداعي الرهبة ممّا وصل إليه العالم وحققه من قفزات علمية هائلة. ومن الطبيعي أن كان هذا الواقع قد سلبهم الثقة بالنفس ومقوّمات الشخصية الكريمة،حتى لم يبق من تعاليم الدين لدى أصحاب هذه النظرية سوى رسوم وأسماء، ذلك لأنّ روح الرسالة الإلهية تتناقض تناقضاً كلياً مع اليأس والإحباط وعدم التوكلّ والتشكيك بقدرة اللَّه العلي العظيم على الأخذ بيد المؤمنين بهم وتسليمهم زمام المبادرة الإنسانية والحركة التاريخية عموماً.
ولكن النظرية الثالثة تملؤها الحياة والتفاؤل؛ إذ تنظر إلى التاريخ على أنه محكوم بسنن إلهية، وأنّ اللَّه سبحانه وتعالى قدأخذ على نفسه أن يتيح الفرصة لمخلوقاته في هذه الحياة لتأخذ دورها وفق ما تبذل من مساعٍ وجهود لإثبات وجودهاوجدارتها في العيش والكدح والتقدم.
فإذا كان الأوربيون - في يوم من الأيام- عبارة عن مجموعة قبائل متناحرة، إلاّ أنّهم بعد ذلك تمكنوا من قيادة العالم،وأصبحت الشعوب والدول مجرّد تابع لها.
وتلك ألمانيا التي كادت أن تسيطر على العالم قد تفككت في ظل قوانين وقرارات الحلفاء، ولكنها عادت مرّةً أخرى لتصبح دولة موحدة مسيطرة على مساحة شاسعة من موازنات الاقتصاد العالمي، ولها كلمتها المسموعة في أوربا.
واليابانيون الذين خرجوا من الحرب العالمية الثانية منهاري القوى والإمكانات، تحكمهم العزلة الدولية، ها هم اليوم قد تحوّلوا إلى رمز التطور ونموذج الإبداع التكنولوجي والمتانة الاقتصادية والتجارية، وتحاول مختلف الشعوب والدول التقرب إليهم والاستفادة من تجاربهم.
وليس هذا وذاك - في حقيقة الأمر- إلا مصداقاً لقول اللَّه سبحانه وتعالى: (إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) وكذلك قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِاَنفُسِهِمْ ). فالمسلمون الذين يمتلكون هذه المنطلقات الطيبة وأمثالها، كان من المفترض بهم التقدم على غيرهم، وهم إذا ما وجدوا أنفسهم متأخرين عن غيرهم بفعل أخطاء التطبيق وظلم الظلمة وتكالب الأعداد.. فليس من الجدير بهم النكوص والتراجع واليأس،لأنهم بذلك يكونون قد خرجوا عن حدود الدائرة الدينية، والعياذ باللَّه، إذ أنّ التكذيب أمر باطل، واليأس من روح اللَّه هو داء الكافرين باللَّه. بينما الإقبال على الحياة بإيمان وشجاعة وثقة بالنفس وتوكّل على اللَّه القائل: (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) هو الكفيل بإعادة الروح إلى جسد الأمة الإسلامية، وهو الكفيل أيضاًبتقدم المسلمين على غيرهم، وما دون ذلك يعني التراجع والذل واستعباد الآخرين لهم، كما هو حاصل بالفعل، ويشعربه المسلمون في كل لحظة وفي كلّ مكان.
عالمية النبي إبراهيم عليه السلام(3/43)
لقد أضفى اللَّه سبحانه وتعالى بإرادته القادرة على رسالة وشخصية النبي إبراهيم عليه السلام الصفة العالمية، وذلك لعمق الشمولية الحاصلة في تفاصيل هذه الرسالة المباركة، بالإضافة إلى كونه قد أصبح بحكمة اللَّه أباً للأنبياء من بعده في منطقةالجزيرة العربية وما حولها، وقد تجلت هذه الحقيقة بصورة أكبر حينما رفع قواعد البيت الحرام ليكون قبلة الناس إلى اللَّه ضمن عملية توحيد القلوب إلى خالقها؛ بل وأبعد من ذلك حينما دعا هذا النبي العظيم ربّه سبحانه وتعالى بأن يجعل أفئدة من الناس تهوي إلى من خلّفه من ذرية في وادي مكّة المقفر، وذلك في إيحاء مباشر إلى الفكر البشري عموماً، بأنّ التوجه إلى القبلة إنمّا هو وسيلة إلى التمحور والولاء لذرية النبي إبراهيم من الأنبياء والأئمةعليهم السلام، وذلك لأنهم يجسدون نهج اللَّه الناطق بين الناس، على اعتبار أنّ مهمة النبي إبراهيم والجهد الحثيث الذي بذله في هذا الإطار ليس من أجل أن يعاني الحجاج لقصد مجموعة من الأحجار وسط صحراء قاحلة، بل إن ذرية هذا النبي كان مقدّراً لها إقامة الدين، وهذه الذرية التي تضمّ رجال اللَّه تدعو إلى ربها بالحكمة؛ أي وفق خطط ومناهج مرسومة من قبل اللَّه نفسه.
ولمّا كان هؤلاء الرجال امتداداً طيباً لرسالة أبيهم إبراهيم عليه السلام؛ الرسالة التي من أولى خصائصها العالمية، فقد كان جديراًباتباع هذه الرسالة واتباع أولئك الرجال أن يقتدوا بها وبهم، فيكون نوع تفكيرهم تفكيراً أممياً لا يخضع للوساوس الشيطانية والدوافع المصلحية أو العنصرية أو القومية أو الطائفية أو الطبقية. وإنّه لمن المنطقي جداً أن تكون ممارسات ووسائل التطبيق لمثل هذا المنهج وهذا التفكير عالمية على مستواه.
المسلمون والثورة الحضارية
حينما أمرنا اللَّه عزّ وجل بالدعوة إلى دينه بين الناس كافّة، كان قد أمرنا بالضمن إيجاد المقدمات والوسائل لإنجاز هذه المهمة الكبيرة، وذلك كله لا يغيب عن عناية اللَّه ولطفه ونصره.
فاليوم أصبح من الصعب علينا تصور الاكتفاء بمنبر واحد يدعى فيه إلى اللَّه عز وجل، في وقت يستفيد فيه الأعداء من كل وسيلة تقنية كالمحطات الفضائية - مثلاً- لنشر أفكارهم الشيطانية المنحرفة.
بل لقد أصبح من غير المعقول الاقتصار على طريقة الدعوة إلى الإسلام نفسها التي كانت قبل مئات السنين - مثلاً-لاسيما وأنّ قضايا عديدة مستجدة تتطلب أشكالاً أخرى من المعالجة، كما يتبع ذلك توفير الوسائل اللازمة المناسبةللموضوع المراد طرحه وبحثه، والمناسبة لشكل وطبيعة ذهنية المراد توجيهه.
ولنا في هذا المجال التساؤل عن أنّ الأعداء إذا كانوا بصدد توسيع أفق تفكيرهم واستغلال ما يمكن استغلاله من وسائل لكسب تأييد وموافقة أكبر كمية من العقول أو الأهواء، بما في ذلك استغلال العولمة وتحويل العالم إلى قرية صغيرة لضمان تحقيق المصالح والنفوذ المباشر، إذا كان كلّ ذلك مفروغاً منه وفق تصريحات الأعداء أنفسهم، فلماذا يمتنع المسلمون الاستفادة ممّا أحلّ اللَّه لهم لنشر دين اللَّه بين خلق اللَّه؟! أو لنقل: لماذا يتعمّد البعض تحجيم تفكيرهم ويكتفون بالاهتمامات الضيقة رغم الإمكانات الكبيرة التي من الممكن توفيرها؟ فإذا كان توسيع الاهتمامات وتطويرالإمكانات، واستغلال الفرص، والتفكير على مستوى هموم العالم والتاريخ؛ إذا كان كل ذلك حراماً، فما هو الدليل؟!وإذا كان كل ذلك حلالاً أو واجباً، فلماذا هذا الإحجام والتكاسل والتناسي؟!!
أقول: لماذا لا نساهم في بناء حضارة في الثورة المعرفية، وهي الثورة الجديدة لهذا العصر؟ وما هو فعلنا أو ردّ فعلنا -على الأقل- تجاه ثورة المعلومات التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية؟ خصوصاً وأن في السيرة النبوية كثيراً من الأحاديث والوقائع تشير إلى ضرورة سعي المسلمين نحو التقدم التقني، وعلى كافة الأصعدة؛ بل إنّ الآيات القرآنيةالخاصّة بصياغة شخصية الإنسان المؤمن، كلّها تدعوه إلى النظر إلى الحياة على أنها محطة للآخرة، وأن من المفترض الاستفادة من وسائل هذه المحطة لنيل أكبر قدر من الثواب والحسنات.
فنحن المسلمين مطالبون إذن بالقيام بثورة حضارية جديدة كبرى، فننطلق منها ونشارك ونساهم بكل وعي وشجاعةبناءً على ما تمليه علينا مصالح واستراتيجيات ديننا الحنيف، وألاّ نركن إلى التأثر بالجاهليات، وألاّ نبدي خلال ذلك مايحلو لنا من معاذير واهية. فمشكلة تأخرنا وهزائمنا هي مشكلتنا نحن دون غيرنا، ونحن الذين سندفع ثمنها في الدنيا وكذلك في الآخرة.
==============
الهوامش
1) خصائص الأئمة للشريف الرضي، ص 115.
2) بحار الأنوار، ج 8، ص 170.
3) المصدر، ج 40، ص 328.
4) بحار الأنوار، ج 73، ص 155.
5) نهج البلاغة، خطبة رقم 209.
6) بحار الأنوار، ج 59، ص 291.
7) بحار الأنوار، ج 6، ص 134.
8) بحار الأنوار، ج 71، ص 135.
9) بحار الأنوار، ج 68، ص 173.
10) بحار الأنوار، ج 71، ص 370.
11) بحار الأنوار، ج 74، ص 241.
12) بحار الأنوار، ج 71، ص 135.
13) بحار الأنوار، ج 71، ص 337.
14) بحار الأنوار، ج 68، ص 143.
15) بحار الأنوار، ج 68، ص 127.
16) بحار الأنوار، ج 68، ص 129.
17) بحار الأنوار، ج 68، ص 131.
18) بحار الأنوار، ج 60، ص 207.
19) نهج البلاغة، خطبة رقم 27.
20) وسائل الشيعة، ج 1، ص 149.
21) بحار الأنوار، ج 14، ص 500.
22) بحار الأنوار، ج 81، ص 329.
23) بحار الأنوار، ج 73، ص 141.
24) بحار الأنوار، ج 10، ص 92.
25) بحار الأنوار،ج 67، ص 9.
26) بحار الأنوار، ج 9، ص 273.
27) نهج السعادة للشيخ المحمودي، ج 7، ص 398.
28) بحار الأنوار، ج 70، ص 128.
29) بحار الأنوار، ج 2، ص 71.
30) بحار الأنوار، ج 96، ص 262.
31) بحار الأنوار، ج 16، ص 199.
32) بحار الأنوار، ج 1، ص 150.
33) بحار الأنوار، ج 7، ص 249.
34) بحار الأنوار، ج 64، ص 295.
35) بحار الأنوار، ج 68، ص 375.
36) بحار الأنوار، ج 68، ص 375.
37) بحار الأنوار، ج 67، ص 288.
38) بحار الأنوار، ج 68، ص 375.
39) بحار الأنوار، ج 68، ص 377.
40) بحار الأنوار، ج 68، ص 395-394.
41) بحار الأنوار، ج 99، ص 77.
42) بحار الأنوار، ج 74، ص 191.
43) بحار الأنوار، ج 1، ص 117.
44) المصدر السابق.
45) بحار الأنوار، ج 71، ص 338.
46) بحار الأنوار، ج 74، ص 191.
47) بحار الأنوار، ج 14، ص 136.
48) بحار الأنوار، ج 89، ص 107.
49) بحار الأنوار، ج 2، ص 57.
==================
الفهرس العام
الباب الثالث ... 1
الحضارة الإسلامية آفاق وتطلعات ... 1
المقدمة ... 1
الفصل الأول -رؤى قرآنية في الحضارة ... 2
الإيمان والبواعث الحضارية ... 10
أسس الحضارة في القرآن الكريم ... 18
بصائر الحضارة في سورة المائدة ... 24
الإسلام ضمانة الحضارة المنشودة ... 31
الحوار بين الحضارات الإلهية ... 34
الفصل الثاني -في السلوك الحضاري ... 40
التعارف منطلق الحضارة الإيمانية ... 40
التوكّل وقود الحضارة ... 46
التحدي مصنع الحضارة ... 52
الرؤية الشاملة في الحضارة ... 57
الحس الجمالي في الحضارة ... 62
الحضارة وفن الحياة ... 65
أصالة الحضارة ... 67
الفصل الثالث -في البناء الحضاري ... 71
عوامل النهوض الحضاري ... 71
كيف نخلق البيئة الحضارية؟ ... 76
العمل طريقنا إلى بناء الحضارة ... 80
السبيل إلى الإصلاح الحضاري ... 85
الثقافة منطلق المسيرة الحضارية ... 91
بناء المؤسسات ضرورة حضارية ... 98(3/44)
من معالم الحضارة الإسلامية ... 104
من أجل حضارة إسلامية ... 109
الفصل الرابع -حضارتان متقابلتان ... 116
بين الحضارة الإسلامية والمدنية الغربية ... 116
الجاهلية الحديثة والحاجة إلى المعنويات ... 123
حضارة الروح تتحدى طغاة المال والقوة ... 128
الحضارات بين الشكر وكفران النعم ... 134
حضارة في بيت العنكبوت ... 139
العولمة ومستقبل الحضارة الإسلامية ... 144
الهوامش ... 149(3/45)
الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال المستقبل
(4)
الباب الرابع
كيف نبني حضارتنا الإسلامية؟
الباب الخامس
قيم التقدم في المجتمع الإسلامي
الباب السادس
حقيقة الحضارة الإسلامية
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الباب الرابع
كيف نبني حضارتنا الإسلامية؟
المرجع الديني
آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي
الاستباق في الخيرات
- عز وجل - المحور الأساسي في الحياة الإسلامية هو: العمل الصالح النابع عن الإيمان الحق .
- عز وجل - ينبغي أن يكون التنافس في المجتمع الإسلامي حول الإيمان والعمل الصالح (أي حول محور التقوى)
للتنافس والإستباق إلى الخيرات، والمسارعة إلى الجنة، دور حاسمٌ وأساسي في دفع المجتمع إلى الامام وفي المحافظة على خطه العام. ويضع الإسلام، باعتباره الرسالة التي اُنزلت بعلم الله المحيط بكل شيء، يضع مناهجه الحياتية على أساسين:
الأول: الشعور الذاتي الفطري.
الثاني: الأنظمة الاجتماعية.
وتتوافق الأنظمة الاجتماعية في الإسلام مع ذلك الشعور النابع من أعماق الفطرة البشرية. فالإسلام، من جهة، يبعث فيك الاحساس بالتنافس والشعور بالاستباق، وبالتالي يريدك أن تنظر إلى الآخرين وتتخذ من عملهم مقياساً لحجم عملك، ومن جهة ثانية يدفعك إلى ذات القيم التي تدفعك إليها فطرتك وقلبك وعقلك.
وهكذا فإن النصوص التي تؤكّد على ضرورة العمل، ليست بعيدة عن تلك التي تؤكد على التنافس والمسارعة إلى الخيرات، فالنصوص التي تدعونا إلى التنافس، من أجل أن يكون أحدنا أقرب إلى الله من الآخرين، إنّما تبلور فينا تلك الفطرة القائمة فعلاً.
والشعور بالتنافس جزء من النزعة الإجتماعية في المجتمع، وهي تشبه الروح في الإنسان، والإسلام حين ينمّي هذه النزعة ويطهّرها، فإنّما يضرب على الوتر الحساس.
يقول تعالى:
?إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ ءَامَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ? البقرة،62
محور التقوى
يوحي هذا النص إِن التنافس يجب أن يكون حول الايمان والعمل الصالح أي حول محور التقوى، وأن ما عدا ذلك من القيم والاسماء والانتماءات لا تعني شيئاً بل إنّها سوف تتلاشى.
وفي آية أخرى يؤكد القرآن الحكيم لنا على أن ما نعمله سنجده عند الله سبحانه، يقول تعالى:
?وَمَا تُقَدِّمُوا لاَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ? البقرة،110
هذه الآية تثير فينا حوافز هائلة نحو العمل، لأن الإنسان إذا اكتشف أن عمله سيبقى ولن يضيع فانه سيندفع إلى العمل الصالح بشكل كبير، لأنه يرى أن عمره يذهب، أما عمله فيبقى، فلماذا لا يستفيد من عمره الزائل من أجل عمله الباقي؟
إن كل عمل تعمله في طريق الخير فهو لك، حتى لو كان في مظهره من أجل الآخرين، لأنّك حينما تعمل للآخرين، فان هذا العمل سيتضاعف وتعود اليك نتائجه من حيث تشعر أو لا تشعر.
وفي آية أخرى يقول الله سبحانه وتعالى:
?وَقَدِّمُواْ لأنْفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ مُلاَقُوهُ وَبَشّرِ المؤمِنِينَ? البقرة،223
ونقرأ في آية ثالثة قول الله عز وجل:
?يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفُ بِالْعِبَادِ? آل عمران،30
ونقرأ في سورة النساء ما يدل على: أن المحور الأساسي في الحياة هو العمل الصالح النابع عن الايمان الحق:
?لَيْسَ بِاَمَانِيِّكُمْ وَلآ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ اُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَاُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً? النساء،123-124
العمل والجزاء
ويقول سبحانه:
?فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ? الزَّلزَلَةِ،7-8
إذن، فإن أعمال الخير وأعمال الشر تبقى ولا تزول، وهي محور جزاء الإنسان في الدنيا والآخرة.
ومن أجل أن يدفعك الإسلام إلى أن تجتهد في سبيل عمل الخير، ولا تدع عمل خير الا وتقوم به، ولا تبقي من عمرك لحظة الا وتعمرها بعمل الخير، فان القرآن يبين أنّه في يوم القيامة سيُنصب ميزان توضع في كفة منه أعمال الإنسان الخيرة وفي الكفة الأخرى أعماله الشريرة، وآنئذ يشعر الإنسان بقيمة حبة الخردل من عمله، هذه الأعمال الصغيرة التي قد نستهين بها اليوم، إلاّ أننا نشعر بقيمتها غداً، واذا كنا الآن عقلاء واستشعرنا أنفسنا وتحسسنا بذلك الموقف، فإننا نستطيع أن نعمل اليوم، لكي ننتفع به في الآخرة، أما بعد فوات الأوان فإننا لا نستطيع أن نعمل، فنندم، والندم لا ينفع شيئاً وأعوذ بالله من ذلك اليوم. لذلك جاء في الحديث: (ودع فخرك إلى الميزان).
ففي ذلك اليوم إذا رجحت كفة الحسنات على كفة السيئات، يحق لك أن تفتخر، أما اليوم وقبل أن تعرف مصيرك فلا تستطيع أن تقول شيئاً.
يقول تعالى:
?وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَاهِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ? القَارِعَةِ،8-11
إن الهاوية التي هي نار حامية، هي مصير من خَفَّت موازينه في مجال عمل الخير، فهل الأفضل أن يعمل الإنسان الخير أو لا يعمل؟ أن يجتهد أو لا يجتهد؟
إن القرآن الحكيم ورسالات الله تبلور للإنسان هذا الإحساس الذي تعيشه أنت بينك وبين الله، فحتى لو كنت على قمة جبل فإن هذا الإحساس يزيدك إندفاعاً نحو العمل. لذلك نرى المؤمنين المتقين الذين أيقنوا بأن الآخرة حق، يتعبون أنفسهم ويجهدون، بل يكادون يهلكونها بالعمل في سبيل الله.
وهذا الإحساس الديني هو الإحساس الذي لم يفهمه كثير من علماء الاجتماع، لذلك أخطأوا في فهمهم للدوافع الذاتية عند الإنسان.
الفطرة والتنافس
وحينما يقترب الإنسان إلى الله سبحانه بفطرته الأولية النقية، فانه يفعل ذلك حبا في الله، واحساسا بضرورة الاتصال بينبوع المحبة والعظمة والجمال.
وإن الأدعية المأثورة عن النبي وأهل بيته (عليهم الصلاة والسلام)، مثل دعاء البهاء لأسحار شهر رمضان المبارك الذي يقول:
(اللهم اني أسألك من بهائك بأبهاه، وكل بهائك بهي . اللهم اني أسألك ببهائك كله. اللهم اني أسألك من جمالك بأجمله، وكل جمالك جميل، اللهم اني أسألك بجمالك كله..)
إن هذه الأدعية تثير في أعماق وجدان الإنسان ذلك الأحساس الديني النقي النظيف المفعم حيوية وروحاً وصفاءً ونقاءً. ولو لم يمتلك الإنسان هذا الاحساس، فإن آلاف الأدعية والنصوص والتوجيهات لا تنفعه شيئاً.
إنّ هذا الاحساس الديني العميق في فطرة الإنسان بالعمل وبضرورة خلاص الذات من أهوال يوم القيامة ومن النار، يستفيد منه الإسلام اجتماعياً أيضاً، فيجعله متوافقاً مع الشعور الإجتماعي، هذا هو الفرق الكبير بين المجتمع الإسلامي الذي يعيش حالة التنافس والمسارعة إلى الخيرات، والمجتمع الجاهلي الذي يعيش حالة الإنفصام والتقاعس.
التنافس الزائف(4/1)
ففي المجتمع الإسلامي يدعوك إحساسك الداخلي إلى الايمان، والى الإجتهاد من أجل الله، والى النقاء، والى التقوى. بينما تجد المجتمع الجاهلي يدفع الشخص إلى التنافس على المال، وعلى الجاه، وعلى السلطة، وعلى القيم الفاسدة فيعيش آنئذ الانفصام، وكلما تناول عقاقير مهدئة، ولجأ إلى معاقرة الخمرة، والى القمار، والعياذ بالله، فإنه لا يجد الراحة، لأنّ الإنسان الذي تتجاذبه قوتان في اتجاهين متضادين، لا يقدر أن يحصل على الراحة والسكينة.
ان المجتمع الجاهلي مجتمع يعيش التنافس على القيم الزائفة في الخارج، وبينما يعيش الاندفاع نحو الدين في الداخل كبشر مفطور على حب الله، لذلك لا يكون مجتمعاً هادئاً فاضلاً، أما المجتمع الإسلامي فان ذلك التنافس الخارجي سيتمحور هو الآخر حول ذلك الاحساس الداخلي، وبالتالي يعمق الحياة في هذا المجتمع، لأنّ ذلك الاحساس الروحي الداخلي هو الذي يجمعنا مع بعضنا ويفجر فينا ينبوع الحياة ويجعلنا أمة واحدة.
لنقرأ الآيات الكريمة التي تدعونا إلى التنافس على الخير وعلى العمل الصالح، يقول القرآن الحكيم في سورة البقرة:
?وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ? البقرة،148
فلا بأس أن يختلف الناس ويتفاضلوا بالميزات والإتجاهات العلمية والعملية، ولكن بشرط أن تكون وجهات الجميع خيراً، فالأعمال اذا كانت جميعها صالحة فإنها ستجتمع بالتالي في اتجاه واحد.
التنافس والإبتلاء
وفي آية أخرى يبين القرآن الحكيم ان اختلاف شرائع الناس انما تخدم هدفاً واحداً، وهو المسارعة إلى الخيرات والمنافسة عليها.
يقول تعالى:
?وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَآ أَنْزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَآ أَنْزَلَ اللّهُ فَاُوْلئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنْزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ اُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ ءَاتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ? المائدة،47-48
كان من الممكن أن يجعل الله الناس أمة واحدة، ولكن أبى أن يخلق البشر هكذا، إنّما جعل لكلٍ شرعة ومنهاجاً، لماذا؟
?ليبلوكم فيما آتاكم?
فهذا الاختلاف يخدم حكمة الله سبحانه وتعالى في الكون، القاضية بأن يبلو الله البشر بالنعم التي أعطاها اياهم، من العقل والقوة والمال.
فالله يختبرك عن طريق وجود الاختلاف الذي يدفعك أنت ويدفع الآخرين إلى العمل، فالأعمال تتفجر من كل صوب، وبالتالي تعمر الارض وتستخرج ما في الإنسان والطبيعة من طاقات وامكانات، وتسخرها من أجل مصلحة البشر.
ان للإنسان طاقات لا تحد، وفي الطبيعة قوى لا تنفد، والخلاف يفجّر طاقات البشر باتجاه تسخير الطبيعة، واستخراج كنوزها.
إن أضخم الانجازات البشرية، كانت في ظروف الصراع الحاد، وفي أيام الحرب الساخنة، لذلك قيل إن (الحاجة أم الإختراع).
بيد أن اتجاه الخلافات البشرية سار في طريق الهدم. فالقوى العظمى في العالم كانت ولا تزال تتسابق في صنع المزيد من اسلحة الدمار التقليدية والنووية التي يكفي المخزون الجاهز منها لتدمير العالم عشرات المرات.
إنّها لم تتنافس في القضاء على السرطان أو تنمية العالم الثالث أو إستغلال المحيطات لخير البشرية.
وخلاصة القول: إن التسابق أمر طبيعي بين الناس، ولكن الشيء المهم عند الإسلام هو أن يكون هذا التسابق في تجاه الخير ومرضاة الله سبحانه.
صفوة الكلام
1- إن التنافس في العمل الصالح والمسارعة إلى الخيرات، يؤديان دوراً حاسماً في دفع المجتمع الاسلامي إلى الأمام .
2- وفي الإسلام تتوافق الأنظمة الإجتماعية مع ذلك الشعور النابع من أعماق الفطرة البشرية .
3- والشعور بالتنافس هو جزء من النزعة الإجتماعية في المجتمع وهي تشبه الروح في الإنسان .
4- وتوحي آيات القرآن الحكيم أن التنافس يجب أن يكون حول الايمان والعمل الصالح . أما ما عدا ذلك من القيم والأسماء والإنتماءات، فهي لا تعني شيئاً .
5- إن كل عمل يقوم به الإنسان في طريق الخير فهو له حتى لو كان في ظاهره من أجل الآخرين .
6- وإن رجحان كفّة الحسنات في ميزان الأعمال هو الذي يبعث على الاعتزاز .
7- والفارق الأساسي بين المجتمع الإسلامي ومجتمع الجاهلية هو أن الأول يعيش حالة التنافس والمسارعة الى الخيرات، بينما الثاني يعيش حالة الإنفصام والتقاعس .
===================
الحوافز الاجتماعية
- عز وجل - العلاقة بين أبناء المجتمع الإسلامي ليست علاقة تراكمية وكمية، وإنما هي علاقة تفاعلية وعضوية .
- عز وجل - المجتمع الحي هو الذي يتفاعل أبناؤه بحيث يُضاف كل واحد منهم إلى الآخرين إضافة كيفية، ويتعاون ويتكافل معهم .
نظريات حس التوافق الاجتماعي
هناك نظريتان متناقضتان حول تطبيق الأنظمة الاجتماعية .
تقول الأولى بأن الأنظمة الاجتماعية مفروضة على الإنسان، كما الحقائق الطبيعية مفروضة عليه، فكما أن الحرّ والبرد والظلام والنور والليل والنهار، وكما أن الصحة والمرض والشباب والشيخوخة، تفرض ذاتها على الإنسان بحيث لا يستطيع الفرد التخلص من ضغطها، فكذلك الأنظمة الاجتماعية.
أمّا النظرية الثانية، وهي أحدث من الأولى وأقرب إلى العقل والعلم، فتقول: أن النظام الاجتماعي يستلهم قوته وشرعيته من داخل الإنسان، فكل فرد من أبناء المجتمع ينجذب بدافع ذاتي نحو تطبيق الانظمة والقوانين الاجتماعية على نفسه وبدون ضغط خارجي، فأول ما يتعلم الإنسان الطاعة إنّما يتعلمها من أمه، والأم هي ينبوع الحنان والحب، والطفل الرضيع لا يطيع أمه خوفاً منها أو طمعاً في لبنها وانّما حباً لها، ومن ثم حينما ينمو الطفل في محيط ملؤه الحب والحنان والعاطفة، تراه يكون أكثر رغبة في اقتباس القيم والعادات التي تسود ذلك الجو العائلي.
بينما الطفل الذي يعيش في مجتمع الصرامة والقسوة، قد تكون ردة الفعل عنده تجاه هذه الصرامة أقوى من حس توافقه مع المجتمع الصارم.
فالمجتمعات التي تعيش الحب والحنان ويحسب كل فرد فيها نفسه أباً وأخاً وإبناً لسائر المجتمع، تعيش التوافق الاجتماعي، وأبناؤها يطيعون قيمها وتقاليدها أكثر من المجتمعات التي تسودها الصرامة والعنف.
التكيف الاجتماعي
وتضيف هذه النظرية: إن إحساس الإنسان الداخلي هو الذي يدفعه نحو التنافس مع الآخرين، أو تقليدهم، والكلمة العربية الشائعة التي تقول (حشر مع الناس عيد) لا تدل على أن الناس هم الذين يفرضون على الفرد أن يحشر نفسه معهم، انّما هو الذي يحب أن يصبح جزءاً منهم.
إن التجارب والبحوث الحديثة التي قام بها علماء النفس والاجتماع وعلماء التربية، دلت على أن أقوى الغرائز عند البشر هو حسّ التوافق الاجتماعي أي التكيّف مع سائر أبناء المجتمع.(4/2)
والمثال التالي يسوقه علماء الاجتماع في هذا الحقل: لقد دلت التجارب على أن العمل الجماعي أكثر حيوية وإنتاجاً من العمل الفردي، حيث جعلوا فرداً يعمل لوحده في غرفة، ويجاوره آخرون في غرفة أخرى يعملون أيضاً. فاذا قيل لهذا الفرد بأن أولئك الذين هم في الغرفة المجاورة يعملون مثلما تعمل، فانه يزداد نشاطاً وبالتالي يزداد إنتاجاً. أمّا اذا لم يفهم ذلك فانه سيتباطأ عن العمل. فعندما يشعر الإنسان بأن هناك آخرين يعملون نفس العمل الذي يقوم به، فان ذلك يدفعه إلى زيادة نشاطه.
وهناك تجربة بسيطة يمكنك أن تجربها بنفسك: إحكِ لإنسان ما قصة عن نشاط فرد آخر، حتى ولو كان بطل القصة شخصاً تاريخياً وليس معاصراً، فسوف ترى أن هذه القصة ستخلف أثرها العاجل عليه، حيث يزداد نشاطه.
اذن، وفق هذه النظرية وهي النظرية الأحدث والأقرب إلى التجارب العلمية، كما هي الاقرب إلى البصائر الإسلامية، نستنتج أن التوافق مع أبناء المجتمع ومحاكاة الناس الآخرين، وبالتالي إتباع سلوكياتهم وطرق عملهم ومستويات إنتاجهم إنما هو نابع من فطرة البشر ومن غريزته الذاتية.
والإسلام يحفّزك نحو المزيد من العمل، بإثارة إحساس التوافق مع الآخرين، وذلك عبر أسلوبين:
الاول: القدوات الصالحة
يجعل الإسلام للفرد قدوات صالحة، يعطي لها شرعية اجتماعية، ويرفعها عالية أمام عينيه ليتخذ أبناء المجتمع منها منهاجاً لعملهم ومقياساً لمدى انتاجهم وحيويتهم.
فالانبياء مثلاً، نرى أن القرآن يركّز عليهم فيذكر قصصهم ولعشرات المرات.. بينما لا نجده يحدثنا عن الملائكة، وما يتميزون به من مثابرة واجتهاد وقوة عظيمة، مع أن الحديث عن الملائكة ربما يكون أفضل ظاهراً من صبر أيوب أو استقامة نوح، أو جهاد هود وما أشبه، والسبب في ذلك هو أن الأنبياء بشر مثلك، فعندما تسمع قصة نبي كأيوب عليه السلام الذي صبر على البلاء، فانك ستتفجر حيوية وتندفع نحو اتباع سيرته وإنتهاج نهجه. وكذلك تأكيد الإسلام على الأئمة عليهم السلام ووجوب ولايتهم، لأنك حينما تحب وليا من أولياء الله، وتعتبره إماما لك وحجة بينك وبين الله سبحانه وتعالى، فإنك ستبحث دائماً عن سيرته وتفتش عن نهجه، وتحاول تطبيق ذلك المنهج وتلك السيرة على نفسك.
وكذلك تأكيد الإسلام على المؤمنين الصادقين، وتأكيده على الأب الصالح، والمعلم الصالح، والصديق الصالح وضرورة إتباعهم.
فاذا كان في المنطقة التي تعيش فيها رجل صالح، صادق اللسان والعهد، محسناً مخلصاً، سبّاقاً إلى الخيرات.. فإن الإسلام يأمرك بأتخاذه قدوة، لأن هذا الرجل الصالح سيحشر يوم القيامة حجة عليك كما جاء في الأحاديث، حيث أن الله سبحانه وتعالى سيأتي بهذا الرجل ويأتي بك ويقول لك.. هذا رجل كان يعيش في المنطقة التي كنت تعيش فيها، وأنت كنت تعرفه، وظروفه كانت تشبه ظروفك، والضغوط التي كانت عليه مشابهة للضغوط التي واجهتها فلماذا أصبح هذا مؤمناً صادقاً، وأنت لم تصبح كذلك؟.
الثاني: التنافس الإيجابي
لماذا يشدّد الإسلام على صلاة الجماعة في المسجد أو خارجه.. ويقرّر أن المجتمعين فيها اذا زاد عددهم على خمسين شخصاً، فلا يحصي ثواب تلك الصلاة الا الله سبحانه وتعالى؟
إن الصلاة هي الصلاة، ولكن من أحد أهداف صلاة الجماعة انك حين تقف مع الآخرين تصلي، فانك ستسعى لأن تصبح صلاتك أكثر خشوعاً وأقرب إلى السنة والآداب والمستحبات، لان الله فطر البشرية على حس التوافق مع الآخرين. فإذا كنت في صلاة الجماعة، واستولت على أحد المصلين حالة الخشوع والتهجد وأخذ يبكي في صلاته، فإنك تحس بنقص، فتقول في نفسك: لماذا يخشع ويبكي في صلاته وأنا لا أخشع ولا أبكي؟ لماذا تحصل عنده هذه الحالة ولا تحصل عندي؟ وحينها تشعر عميقاً بضرورة الوصول إلى مستواه، وهذا شعور طبيعي بالنسبة لك، لذلك يحرص الإسلام على إقامة الصلاة جماعة.
والإسلام يأمرنا بأن نعلن بعض الأعمال الصالحة التي نقوم بها. فالصدقة مثلاً مستحبة في السر والعلن. فالصدقة الواجبة يستحب أن تكون علناً لأنك حينما تدفع الزكاة والخمس والكفارة وما أشبه من الصدقات الواجبة أمام الآخرين، فانّهم يتشجعون على دفع صدقاتهم اذ ينمو فيهم الاحساس بالتنافس والتوافق الاجتماعي.
والإسلام حين يأمر بالتنافس مع الآخرين على الخيرات، فانّه يضرب سورا بين المجتمع المؤمن الموحّد وبين المجتمع الكافر المشرك، ويثير حسن التوافق الاجتماعي فقط بينك وبين المؤمنين من إخوتك. وهذا الفصل بين المجتمعين يجعلك منتمياً إلى ذلك المجتمع المؤمن الصادق، ويجعل حس التوافق فيك متوجها إلى هذا المجتمع، وليس إلى المجتمعات المنحرفة. لذلك ترى الإسلام يؤكد بأنك اذا كنت في مجتمع فاسد فمن الضروري ان تكبح جماح هذا الإحساس الذاتي الذي فطرت عليه، وهو الإحساس بالتوافق الاجتماعي، وعليك أن تحصن نفسك ضد التأثر بذلك المجتمع، وأن تجعل من إرادتك حاجزاً يمنع حس التوافق الإجتماعي من التأثير عليك.
قواعد التعامل الإجتماعي
إن العلاقة بين أبناء المجتمع الإسلامي ليست علاقة تراكميّة وكميّة وانّما هي علاقة تفاعلية عضوية. فالإسلام لا يريد أن يجمع الناس في المسجد كجمع البرتقال في صناديقه، وانّما يريد أن يجمعهم كما تجتمع قطرات الماء فتتحول إلى سيل عظيم. وهذه صفة المجتمع الحي الذي يتفاعل أبناؤه بحيث يضاف كل واحد إلى الآخر إضافة كيفية يتشجع بالآخر، ويتعاون ويتكامل معه. فكل جزء من أجزاء الإنسان وكل حركة من حركاته وكل نشاط من نشاطاته، يتكامل مع الجزء المماثل عند الإنسان الآخر.
ونقرأ في وصية للإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام ما يوضح لنا هذه الحقيقة. يقول عليه السلام :
(وأحسن كلمة حكم جامعة، أن تحب للناس ما تحب لنفسك وتكره لهم ما تكره لها).
إن هذه هي الكلمة الجامعة والحكمة الرشيدة التي تعتبر قاعدة لسائر الحكم والمواعظ والوصايا، حيث تعلمنا كيف نتكامل مع الآخرين، ونتفاعل معهم. ثم يضيف الامام قائلا:
(إنّك قلّما تسلم ممن تسرعت اليه، أو تندم اذا فضلت عليه، واعلم إن من الكرم الوفاء بالذمم، والصدود آية المقت، وكثرة العلل آية البخل).
فالإنسان الذي يصد خيره عن الآخرين، إنّما يجلب مقتهم وغضبهم على نفسه، وإن من يتعلل ويتعذّر بأعذار واهية، انّما يكشف عن البخل الكامن في ذاته. فحينما تواجه شخصاً يطلب منك حاجة فاعطه حاجته، ولا تتعلل بالأعذار إن كنتَ قادراً على الإستجابة له.
ويقول الإمام عليه السلام:
(ولبعض امساكك على أخيك مع لطف خير من بذل مع جنف).
فحينما تريد أن تعطي للآخرين لا تعطهم تمننا، أعطهم ولو شيئا قليلاً ولكن مع اللطف وهو خير من أن تعطيهم شيئاً كثيراً ثم تحملهم المنّة.
ويضيف الإمام:
(ومن الكرم صلة الرحم، ومن يثق بك أو يرجو صلتك اذا قطعت قرابتك؟).
أي أنك اذا قطعت قرابتك وعلاقتك بالآخرين فمن الذي يرجو منك الصلة.
(والتجرّم وجه القطيعة، إحمل نفسك من أخيك عند صرمه اياك على الصلة، وعند صدوده على لطف المسألة، وعند جموده على البذل، وعند تباعده على الدنوّ، وعند شدّته على اللّين، وعند تجرّمه على الإعذار، حتى كأنك له عبد وكأنه ذو النعمة عليك، وإياك أن تصنع ذلك في غير موضعه، أو تفعله في غير أهله).(4/3)
فالإسلام يريدك أن تندفع للعمل على إصلاح ما بينك وبين أبناء المجتمع، فاذا رأيت صدودا أو منعا أو قطيعة من قبل الآخرين، فحاول أن تبادر بالخير اليهم. ان هذا الاحساس الذي ينبع من ذات الإنسان هو الذي يجعل المجتمع الإسلامي مجتمعاً حيوياً، لذلك يؤكّد الإمام علي عليه السلام على هذه الفكرة ويضيف:
(ولا تتخذن عدو صديقك صديقاً فتعادي صديقك).
الى هذا المستوى يأمرك الإسلام بأن تحافظ على مشاعر أصدقائك. فاذا رأيت شخصاً يعادي صديقاً من أصدقائك فلا تقترب إلى ذلك الشخص لأن ذلك جفاء لصداقتك مع صديقك.
(ولا تعمل بالخديعة فانه خُلقٌ لئيم. وامحض اخاك النصيحة، حسنة كانت أو قبيحة).
اذا رأيت فعلا حسناً عند أخيك أو قبيحاً فأعطه النصيحة محضاً دون تشويه أو تضليل، ودون زيادة أو نقيصة.
(وساعده على كل حال، وزل معه حيث زال، ولا تطلبن مجازاة أخيك وإن حثا التراب بفيك).
(وجُد على عدوك بالفضل، فانّه أحرى للظفر).
أي حتى اذا كان هناك عدو لك فحاول أن تجود عليه بالفضل طالما أنّه لم يعلن الحرب ويشهر السيف عليك.
(وتَسلَّم من الدنيا بحسن الخلق وتجرُّع الغيظ، فاني لم أرَ جرعة أحلى منها عاقبة، ولا ألذ منها مغبة. ولا تصرم أخاك على ارتياب، ولا تقطعه دون استعتاب، ولِن لمن غالظك فانّه يوشك أن يلين لك).
إذا رأيت من أخيك ما لا يحمد وأردت ان تقاطعه، فقبل ذلك إذهب اليه وعاتبه فاذا لان فلِن له، أمّا اذا بقي على تلك الأخلاق غير الحميدة فيمكنك أن تقاطعه.
انظروا إلى هذه التعاليم، وتدبروا فيها.. إنّها تهدف إلى خلق الحيوية الذاتية داخل المجتمع المسلم، وليس فقط جمع أبناء المجتمع إلى بعضهم، انّما إيجاد الروابط الداخلية الوشيجة بين القلوب، لتكون هي الحصن لهذا المجتمع.
صفوة الكلام
1- نظريتان حول الأنظمة الإجتماعية .
ألف: إنها مفروضة على الإنسان، كما الحقائق الطبيعية .
باء: إنها تستلهم قوتها وشرعيتها من داخل الإنسان، ومدى انجذابه لتطبيقها . وهذه النظرية هي الأقرب إلى العقل والعلم وبصائر الدين .
2- المجتمعات التي تعيش أجواء الحب والحنان، يحسب كل شخص فيها نفسه أباً وأخاً وإبناً لسائر أعضاء المجتمع، تعيش التوافق الإجتماعي . وأبناؤها يطيعون قيمها وتقاليدها أكثر من المجتمعات التي تسودها الصرامة والعنف .
3- إن أقوى الغرائز عند البشر هو حس التوافق الإجتماعي، أي التكيّف مع سائر أبناء المجتمع .
4- والإسلام يحفِّز الأنسان نحو المزيد من العطاء والعمل بإثارة إحساس التوافق مع الآخرين، وذلك عبر أسلوبين .
ألف: تسليط الضوء على القدوات الصالحة .
باء: التأكيد على التنافس الإيجابي .
5- ويحبِّذ الإسلام أداء بعض الأعمال الصالحة علناً (كالصدقات الواجبة) وذلك لتنمية الإحساس بالتنافس في أبناء المجتمع الإسلامي .
=====================
المطلوب: بناء مجتمع حيوي
- عز وجل - الإسلام يبني المجتمع على أساس العقل وليس الشهوات .
- عز وجل - إن قاعدة المجتمع الإسلامي الرسالي هي : الحب والعطاء والإيثار .
كيف يجعل الإسلام المجتمع حيوياً فاعلاً؟
هناك مرحلتان للوصول إلى هذا الهدف:
اولاً: ايجاد التماسك داخل كيان المجتمع.
ثانياً: القضاء على العقبات التي تعترض فاعلية المجتمع.
وهنا نتساءل: كيف يربط الإسلام البشر بعضهم ببعض ويجعلهم متماسكين حتى يحقق المرحلة الأولى؟
للإجابة على هذا السؤال لابد أن نعرف، أن هناك قوتين تتجاذبان أنشطة الإنسان: قوة العقل، وقوة الشهوات، وكل مجتمع إمّا أن يكون قائماً على أساس قوة العقل، أو على اساس طاقة الشهوات، بينما نجد بعض المجتمعات تخلط بين الشهوات والعقل، ولكنها في ساعات الحسم تعود إمّا إلى العقل وإمّا إلى الشهوات. والمجتمع الإسلامي يبني أساسه على قوة العقل لا قوة الشهوات، فالقيم الزائفة، مثل قيمة الأرض، وقيمة العنصر، وقيمة المصلحة وما أشبه، ينسفها الإسلام نسفاً وينظف المجتمع منها ولا يبقي الا قيمة واحدة، وهي قيمة التقوى التي تعتمد أساساً على قوة العقل.
بين الحب و الشهوة
وهذه القيمة حينما تدخل علاقات المجتمع تسمى بالحب، وهنا لا بد أن نذكِّر بالفرق الكبير بين الحب والشهوة. فحينما تقول أنا أشتهي البرتقال، فذلك يعني أنك تريد أن تأكله، وحينما تقول أشتهي السيارة فذلك يعني أنك تريد أن تركبها وتستهلكها..
أمّا الحب فهو شيء آخر.. أنت تحب الله يعني تحب أن تعبد الله، وتخضع له وتطيعه. وأنت تحب المستضعفين يعني تريد أن تخدمهم وتضحي من أجلهم، وليس أن تستخدمهم وتضحي بهم من أجل مصالحك، وأنت تحب الصالحين يعني تريد أن تعمل بهداهم وتنصرهم، اذن فالشهوة هي أنك تريد شيئاً أو شخصاً من أجل مصلحتك، ومن أجل غريزتك، ومن أجل أهوائك، أمّا الحب فهو يعني أنك تريد نفسك من أجل ما تحبّه.
إن الحب هو أعمق مشاعر العطاء والاحسان والبذل والإنفاق عند الإنسان، فكما خلق الله سبحانه وتعالى فيك قوة تدعوك إلى إتلاف الأشياء واستخدام الأشخاص من أجل ذاتك وهي قوة الشهوات، كذلك أغرز في قلبك قوة تدعوك إلى العطاء للأشياء وللأشخاص والبذل من أجلهم، وهي قوة العقل التي يولد منها الحب والإيثار . وكما تشعر باللذة والمتعة تجاه استفادتك من الأشياء، كذلك وبنفس المقدار بل وأكثر من ذلك تشعر باللذة حينما تعطي نفسك للأشياء والأشخاص.
إن لذة الإنسان الذي يجلس في مطعم كبير ويطلب مائدة من ألذ الموائد، ليست أكبر من لذة ذلك الإنسان الغني الذي يفرش لمجموعة من الأيتام والأرامل والمستضعفين والمساكين مائدة غنية فيأكلون منها وهو ينظر اليهم.
وإن لذة الإنسان الذي يعدم رجلا من أجل مصلحته ومن أجل ذاته ومن أجل سلطانه وطغيانه، ليست بالتأكيد أكثر من متعة الإنسان الذي ينقذ غريقاً من الماء، أو يقوم بجراحة ناجحة لقلب مريض مشرف على الموت. إنّ اللذة ذات اللذة، وانك في كلتا الحالتين ستحصل على نفس المطاليب، وتحقق نفس الأهداف والغايات، ولكن إمّا عن طريق الشهوات الدنيئة وإمّا عن طريق العقل الرفيع.
ان المجتمع الإسلامي مبني على أساس الحب، ونقرأ في القرآن الحكيم تلك الآية التي تحدد ملامح المجتمع الإسلامي، ملامح المجتمع الذي لا يعرف الحدود والالفاظ والشعارات وما أشبه حيث يقول الله سبحانه وتعالى:
? يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ? المائدة،54
الحب في الله والبغض في الله
إن قاعدة التجمّع الإسلامي الرسالي هي الحب والعطاء والإيثار، وعندما تحب الآخرين، فإنك لا تبحث كيف تستفيد منهم وتستثمرهم وتستغل طاقاتهم، وانّما تبحث ابداً كيف تخدمهم، وكيف تضحي بذاتك من أجلهم. ونجد في كثير من الأحاديث المأثورة عن الأئمة عليهم السلام، إن أرفع درجات الايمان، أن تحب لله وتبغض لله. فإذا أردت أن تجرّب نفسك هل أنت مؤمن، أم لا تزال نسبة من الشرك والنفاق توجد في نفسك، فانظر إلى علاقتك بالآخرين: ما حقيقتها. ولماذا ترتبط بهم؟ هل من أجل أن يخدموك، أو من أجل أن تخدمهم؟(4/4)
فان كانت علاقتك بهم لإستغلالهم فاعلم بأن نسبة من النفاق ما تزال تعشعش في قلبك، واذا رأيت العكس فاعلم بأنك نقي القلب، صافي الايمان، وانك اذا متّ في تلك اللحظة سوف تحشر مع المحسنين لانّ هذه هي صفتهم، فهم يحبون الناس، ويخدمونهم، وتؤكّد الاحاديث على هذه الحقيقة مرة أخرى حينما تقول:
(أحبب أخاك المسلم وأحبب له ما تحب لنفسك، وأكره له ما تكره لنفسك)
هذا هو الايمان: إذا أردت أن تغتاب أحدا، فقل في نفسك: هل أرضى بأن يغتابني أحد؟ بالطبع .. لا، إذن لا تغتبه. وكذلك إذا أردت أن تتهم الآخرين، إذا أردت ان تسيء الظن بهم، واذا أردت أن تغلبهم، واذا أردت سوءً بهم .. كلما أردت من هذه الصفات السيئة شيئاً فاجعل نفسك مكان الطرف الآخر، فإذا كنت لا ترضى بهذه الصفات لنفسك فحريّ بك ألا ترضاها للآخرين وهم اخوتك.
اذا ثبّتنا هذه القاعدة الأصيلة وهي قاعدة الحب الاجتماعي، آنئذ نستطيع أن نبني على هذه القاعدة بناءنا الإجتماعي. وهناك بعض العقبات تعترض بناء هذه القاعدة ولكن الإسلام سرعان ما يصفيها، ثم يوجد بالمقابل العوامل التي تشجّع على الحب.
عقبات حب الآخرين
من العقبات الرئيسية الكأداء التي تعترض حبك للآخرين هو سوء الظن بهم، لذلك يقول القرآن الحكيم
?اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ? الحُجُرات،12
إن بعض القلوب معقّدة، فهي تفسر كل عمل تفسيراً معكوساً. فإن صلى أحد أمام الناس قالوا: هذا مرائي، وإن صلّى في الخفاء قالوا: هذا تارك لصلاته! وإن أعطى الزكاة علانية، قالوا: يريد الشهرة، وإن أعطاها بالسِّر، قالوا عنه: إنه بخيل!
وكثيراً ما يسيء الإنسان الظن بأخيه المؤمن، بينما هو من أولياء الله. وقد جاء في الحديث الشريف أن الله سبحانه وتعالى قد أخفى أولياءه في الناس ، وكثيراً ما ترى شخصاً فتستصغره وتذكره بسوء فاذا به من أولياء الله الصدّيقين.
لنقرأ معاً هذه الرواية التاريخية ففيها الكثير من الدروس والعبر:
(قال رجل من خواص الشيعة لموسى بن جعفر (عليهما السلام)، وهو يرتعد بعد ما خلا به: يا ابن رسول الله، ما أخوفني أن يكون فلان بن فلان ينافقك في إظهاره إعتقادَه وصيتك وإمامتك ، فقال الإمام الكاظم (عليه السلام): وكيف ذاك؟ قال: لإني حضرت معه اليوم في مجلس فلان -رجل من كبار أهل بغداد- فقال له صاحب المجلس: أنت تزعم أن موسى بن جعفر إمام، دون هذا الخليفة القاعد على سريره ، قال له صاحبك هذا : ما أقول هذا : بل أزعم أن موسى بن جعفر غير إمام ، وإن لم أكن اعتقد أنه غير إمام، فعلي وعلى من لم يعتقد ذلك، لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، قال له صاحب المجلس : جزاك الله خيرا ولعن من وشى بك .
فقال له الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام: ليس كما ظننت، ولكن صاحبك أفقه منك، إنما قال: موسى غير إمام، أي أن الذي هو غير إمام فموسى غيره ، فهو إذا إمام، فإنما أثبت بقوله هذا إمامتي، ونفى إمامة غيري.
ثم أضاف الإمام عليه السلام:
يا عبد الله، متى يزول عنك هذا الذي ظننته بأخيك؟ هذا من النفاق، تب إلى الله.
ففهم الرجل ما قاله واغتم وقال: يا بن رسول الله، مالي مال فارضيه به، ولكن قد وهبت له شطر عملي كله وتعبدي من صلواتي علكيم أهل البيت ومن لعنتي على أعدائكم.
قال الإمام الكاظم عليه السلام: الآن خرجت من النار) .
نسف الحواجز الاجتماعية
أمّا العقبة الثانية التي ينسفها الإسلام فهي الحواجز الاجتماعية التي تفصل الناس عن بعضهم، وعندما يحدثنا الإسلام عن هذه النقطة فانّه يتفجّر غضباً، وتأتي كلمات النصوص لاهبة وكأنها الحمم البركانية، حينما تتحدث عن الغيبة وعن التهمة وعن النميمة وعن الفحش، بل وأكثر من ذلك تجد الإسلام مع تأكيده على حرمة الكذب وأن الكذب مفتاح الشر ، مع ذلك يقول (على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله: إن الله أحب الكذب في الصلاح، وأبغض الصدق في الفساد.) . لماذا؟
لانّ العلاقات الاجتماعية يجب أن تكون نظيفة، فحينما يأتيك شخص ويتحدث لك عن شخص آخر بحديث سوء، فهو يخلق في قلبك عقدة نفسية تجاه ذلك الشخص، وهذه العقدة تبقى، كلما تراه من بعيد تتذكر كلام ذاك الشخص في حقّه، حتى لو كان كلامه عنه خطأ، ولكن النفس البشرية تتأثر حتى بالكذب ولا يريد الإسلام أن تحدث بين الاخوة حواجز نفسية، فمن جهة يقول لك لا تغتب، ومن جهة ثانية يقول لذلك الشخص لا تسمع غيبة. فاذا جاءك أحد وأراد أن يغتاب شخصاً عندك فاذا أصغيت اليه فأنت شريكه في الجريمة، فقد جاء في الحديث الشريف: (ما عمر مجلس بالغيبة إلاّ خرب من الدين، فنزّهوا أسماعكم من استماع الغيبة، فإن القائل والمستمع لها شريكان في الإثم) .
صفوة الكلام
1- لبناء المجتمع الإسلامي الحيوي لابد من:
ألف: ايجاد التماسك الداخلي .
باء: القضاء على عقبات الحيوية .
2- ولكي يكون المجتمع متماسكاً قإن الإسلام يبنيه على أساس العقل وليس الشهوات .
3- وينسف الإسلام القيم الزائفة (الإرض، العنصر، المصلحة) ولا يُبقي إلا قيمة التقوى التي تعتمد على العقل .
4- إن الحب - النابع من قيمة التقوى - هو أعمق مشاعر العطاء والإحسان والبذل عند الإنسان . وإذا كان الإنسان يشعر باللذة حينما يأخذ، فإن شعوره باللذة عندما يعطي يكون أقوى .
5- وحب المؤمن للآخرين ليس حباً إستغلالياً، بل هو حب العطاء والايثار من أجلهم .
6- والإسلام يصفي العقبات التي تعترض نمو هذه العلاقة الايجابية بين أبناء المجتمع . وهي: سوء الظن، والغيبة، والنميمة، والتهمة، والفحش، وما إلى ذلك .
=======================
الصفوة الرسالية .. أولاً
- عز وجل - علينا العودة إلى مرحلة الرسالة الإسلامية في مكة المكرمة، والعمل على بناء الصفوة الرسالية .
- عز وجل - إذا أراد الإنسان شيئاً، فليس هناك في الحياة ما يحول بينه وبين إرادته . هذه سنّة الله التي جعلها في البشرية .
إنّ تفوّق المجتمعات على بعضها لا يكون بالكميّة العددية، ولا بالامكانيات المادية، ولا بالقادة الافذاذ الذين قد يبرعون في هذا المجتمع دون غيره، وإنّما بحجم الحيوية والتفاعل اللذين يتمتع بهما المجتمع.
كما إن التطورات الحضارية على مختلف أبعادها لا تحدث أساساً إلاّ بهذا السبب، ففي داخل المجتمع الكبير المتراخي الذي يفقد السلطة المركزية، ولا يملك تفاعلاً ذاتياً، ولا قدرة إتخاذ القرار الحاسم، ولا سرعة التحدي والمواجهة، في داخل هذا المجتمع تنبت نبتة إجتماعية صغيرة تتسم بالفاعلية والحيوية والقدرة على الجذب والاستقطاب، وبسرعة تستطيع هذه النبتة اليانعة المتواضعة ظاهراً، النشيطة والمتماسكة واقعاً، على أن تجمع الأفراد الأكثر نشاطاً وطهارة وفداء من بين أبناء المجتمع الكبير وتستقطبهم حول محورها، وتجتذب صفوة الفكر والمعارف والتجارب، وتمتص خيرة القدرات والامكانات، وبالتالي تتخذ القرارات الحاسمة بسرعة، وتملك القدرة المركزية لتنفيذها، وتملك إرادة التحدي والمواجهة في مقابل الأعداء.
إن هذه النبتة الصغيرة تتحول بعد فترة إلى قوة هائلة، بينما يذوب شيئاً فشيئاً ذلك المجتمع الكبير في تيار هذا المجتمع الحيوي الصغير.(4/5)
وبوضوح نتلمس هذه الحقيقة في حركة الرسل والأنبياء عليهم صلوات الله، فالذين كانوا مع نوح.. والذين كانوا مع شعيب وصالح وهود.. والذين آمنوا بموسى وعيسى.. والذين كانوا مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كانوا فئة قليلة في العدد، ولكنهم الأكثرية في النوعيّة، ليس فقط لأن الواحد منهم كان يقابل عشرة، بل وأيضاً لان الاثنين منهم كانا واحداً.. والثلاثة كانوا واحداً.. والعشرة كانوا واحداً. كانوا يتحركون باتجاه واحد، وكان تنفيذ القرارات سريعاً، وكان التعاون سائداً بينهم، وكان كل واحد منهم يكمّل الآخرين، فلا يبقى في المجموع أي نقص. لذلك إستطاعوا أن ينتصروا على تلك المجتمعات الكبيرة الجاهلية، وهذا هو معنى الحيوية.
الصفوة الرسالية
والظروف الراهنة التي تعيشها أمتنا الإسلامية تشبه إلى حد بعيد تلك الظروف التي عاشتها الرسالات الإلهية في بداية إنطلاقها. فمع أن عدد المسلمين اليوم يتجاوز الألف مليون مسلم، إلا أننا لا يمكننا أن نفجّر طاقاتهم الايمانية بصورة فجائية، ونكوّن منهم -بين ليلة وضحاها- المجتمع الإسلامي الفاضل الذي هو خطوة في طريق بناء المجتمع الإنساني المثالي، وإنقاذ جميع مستضعفي الأرض، فهذه طريقة بعيدة جداً، لأن أفكار الإنسان وقدراته والإمكانات المتاحة له كفرد أو كمجموعة إيمانية صغيرة محدودة جدّا، ومهما بذلت من محاولات للتوعية والتوجيه وكشف الحقائق أمام جماهير الأمة الإسلامية، فإنها بضآلتها الكمية لا تستطيع أن تواجه سيل الاذاعات والصحف والافلام والتوجيهات التي تبثها الجاهلية العالمية عبر شبكاتها الاعلامية.
إذن، فالذي ينبغي على الرسالي أن يفعله هو أن يبني تلك الصفوة التي تكوّن المجتمع الإسلامي الحقيقي، فيعود إلى مرحلة الرسالة الإسلامية في مكة المكرمة، حيث قام الرسول صلى الله عليه وآله بتكوين ذلك المجتمع الصغير عدديا والكبير نوعياً، وذلك عبر ثلاث عشرة سنة كان صلى الله عليه وآله وسلم يواصل فيها الليل بالنهار في بناء الطليعة الرسالية، وهم صفوة المؤمنين الذين أصبحوا روّاد الحضارة الإسلامية عبر التاريخ.
وأقول لكل المؤمنين في الساحة الإسلامية: أن عليهم أن يكوّنوا من مجموعاتهم المتواضعة، هذا المجتمع الحيوي المنشود المؤلَّف من الصفوة المختارة، حيث لا يلبث هذا المجتمع الصغير بحيويته ونشاطه وتكامليته أن يكبر شيئاً فشيئاً حتى يحطّم كل الكيانات الجاهلية، ويفرض نفسه على الساحة الاجتماعية كلها، فيستقطب العناصر الجيدة، ويبعد العناصر الفاسدة، وهكذا عبر تحوِّل جذري، يشبه التحول الكيميائي في الحياة، يصبح هذا التجمع هو السائد على الساحة.
المجتمع النموذجي
إنّ الإسلام لا يمكن أن ينتصر الا بالإسلام، ولا يمكن أن نقيم المجتمع الإسلامي الا باقامة المجتمع الإسلامي، أي أننا اذا أردنا أن يسود الإسلام فيجب علينا أن نبدء بتطبيقه عملياً في واقعنا، واذا أردنا أن نقيم المجتمع الإسلامي فيجب أن نقيمه أولاً في بيتنا، وفي أوساطنا القريبة ، لكي نعطي النموذج الحي لفكرتنا التي نريد أن نطبقها.
وعندما يشاهد عامة الناس تعامل المؤمنين الايجابي والودود مع أزواجهم وأبنائهم وإخوانهم، وعندما يشاهدون تجمعهم الايماني الفاضل في المسجد، وفي السوق، وفي الجامعة، وفي الإدارة، وأنهم كيف يتحابون ويتوادون ويتعاونون في الله، وكيف يكمّل بعضهم بعضاً، وكيف يقف بعضهم مع بعض، فسوف يكفيهم هذا النموذج دليلاً وشاهداً على صدق الرسالة.
انني أدعو الجميع إلى أن يطرحوا على أنفسهم هذا السؤال: من أين يجب أن يتحركوا؟ وفي أي مجال يجب أن يبذلوا جهودهم؟
إن الإنسان كانسان، إذا أراد شيئاً فليس هناك في الحياة ما يحول بينه وبين إرادته، هذه سنَّة الله، وهذه هي الحقيقة التي ضمنها الله سبحانه وتعالى للبشرية، إنّه عهدٌ بين الله وبين الإنسان أن يتركه حرّاً في الدنيا. يقول الله سبحانه وتعالى: ?كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلآءِ وَهَؤُلآءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً? الاسراء،20
ولكن بالرغم من ذلك، نرى أن كثيراً من الحركات الإسلامية تود تطبيق الإسلام وإقامة المجتمع الإسلامي، ولكنها لا تفلح في ذلك، لماذا؟ لانّها لا تعرف أن الطريق الصحيح هو اقامة المجتمع الإسلامي أولاً في نفسها وواقعها، وأن هذا قد يقضي عليها بتحمّل كل التضحيات اللازمة من أجل صنع النواة الاجتماعية الحيوية الفاعلة.
والنصوص التي نذكرها فيما يلي من الكتاب والسنّة، إنّما هي برامج عمل لنا ولكل العاملين في الساحة، الذين يستبد بهم الألم من واقع أمتهم، ويهدفون إلى إقامة نظام إجتماعي ربّاني يقوم على قواعد إيمانية راسخة لا تتحقق إلاّ بالجدّ والإجتهاد، والتضحية والفداء.
لا.. للمجتمع الجاهلي
عندما دعا قوم موسى عليه السلام ربّهم أن ينجيهم من فرعون، قال الله سبحانه وتعالى:
?وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ? يونس،87
فَرفْض المجتمع الجاهلي، وإقامة المجتمع الإسلامي على شكل بيوت متقابلة إلى بعضها (إشارة إلى وجود علاقات متماسكة) وإقامة الصلاة، وإعطاء الأمل، كل ذلك يشكل الخطوة الاولى في طريق إقامة حكم الله، وهكذا فعل أصحاب الكهف، الذين يقول عنهم ربنا:
?وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْووا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيّءْ لَكُم مِن أَمْرِكُم مِرْفَقاً? الكهف،16
إنّهم اعتزلوا المجتمع المنحرف، وبنوا مجتمعهم الخاص بعيداً عنه.
وكثيرة هي التوجيهات الإسلامية التي وردت بشأن رفض المجتمعات الجاهلية، وعدم الإندماج مع أولئك الذين لا يهتمّون بواقعهم الفاسد، الساكتين عن الظلم، المستسلمين للوضع الشاذ الفاسد.
إن المسلم لا يبقى في هذه القضية الحساسة غير عابىء، فعليك أن تفتش عن أصدقائك المؤمنين، وتعمل معهم على بناء المجتمع الفاضل، فليس لك الحق إذا كنت مؤمناً رسالياً أن تصادق أيا كان، وأن تعمل في أي عمل شئت. إنَّ عليك أن تجعل أعمالك وأفكارك وارتباطاتك وحتى علاقاتك الشخصية موجهة باتجاه بناء المجتمع الإسلامي الرسالي الفاضل، ثم التحرك لنشر هذا المجتمع داخل الأمة الإسلامية كلها، والله سبحانه وتعالى يؤكّد في بعض الآيات على هذه الفكرة فيقول:
?فَاَمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ? العَنْكبُوت،26
وقد لا تكون الهجرة المطلوبة هنا هجرة جغرافية بالضرورة، بل قد يكون المطلوب هجرة نفسية ومعنوية، أي التصرف في العلاقات مع المجتمع الجاهلي والمنحرف بطريقة تصون المؤمن من أن يتأثر بالسلبيات والإنحرافات السائدة.. فالمهم هو أن يهاجر المؤمن رقعة الأفكار والمبادئ والسلوكيات المنحرفة، كي يتسنى له بناء المجتمع الفاضل في أجواء الطهر والفضيلة والعلاقات الإيمانية.
وربما إلى هذه الحقيقة يشير الإمام الصادق عليه السلام حين يوجِّه المؤمنين إلى الإبتعاد عن الأجواء السلبية للمجتمع الفاسد حيث يقول:(4/6)
(إن الله عزوجل أوحى إلى نبي من أنبياء بني اسرائيل: إن أحببت أن تلقاني غداً في حظيرة القدس، فكن في الدنيا وحيداً غريباً مهموماً محزوناً مستوحشاً من الناس، بمنزلة الطير الواحد الذي يطير في أرض القفار، ويأكل من رؤوس الأشجار، ويشرب من ماء العيون، فاذا كان الليل آوى وحده ولم يأو مع الطيور. إستأنس بربه، واستوحش من الطيور) .
هذا الطير مثل يضربه الله سبحانه وتعالى في هذا الحديث القدسي لأولئك الذين يفتشون عن هدفهم، ولو كان بالابتعاد عن الآخرين ممن لا يعيشون واقعهم وتطلعاتهم وأهدافهم.
وجاء في الحديث القدسي أيضاً:
(إن من أغبط أوليائي عندي عبداً مؤمناً ذا حظّ من صلاح، أحسن عبادة ربه، وعبد الله في السريرة، وكان غامضاً في الناس، فلم يُشر اليه بالأصابع، وكان رزقه كفافاً فصبر عليه، فعجلت به المنية فقلَّ تراثه وقلت بواكيه) .
ويقول الامام علي عليه السلام نقلا عن عيسى عليه السلام:
(طوبى لمن كان صمته فكراً، ونظره عبراً، ووسعه بيته، وبكى على خطيئته، وسلم الناس من يده ولسانه) .
وفي حديث آخر عن الإمام علي عليه السلام:
(طوبى لمن لزم بيته، وأكل قوته، واشتغل بطاعة ربه، وبكى على خطيئته، فكان من نفسه في شغل، والناس منه في راحة) .
وفي حديث الإمام موسى بن جعفر عليه السلام لهشام، يقول عليه السلام:
(يا هشام.. الصبر على الوحدة علامة قوة العقل، فمن عقل عن الله تبارك وتعالى إعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها، ورغب فيما عند الله، وكان الله أنيسه في الوحشة، وصاحبه في الوحدة، وغناه في العيلة، ومعزّه من غير عشيرة.
يا هشام، قليل العمل من العاقل مقبول مضاعف، وكثير العمل من أهل الجهل مردود) .
وروي عن الإمام الهادي عليه السلام أنه قال:
(لو سلك الناس وادياً وسيعاً، لسلكتُ وادي رجل عبدَ الله وحده خالصاً) .
فتش ولو عن صديق واحد يكون في طريقك فهذا أفضل من عدة أصدقاء يمشون في طريق الشر.
ركيزة التجمع الإيماني
إذن، الوصول إلى المجتمع الفاضل لا يكون إلاّ عبر عملين متكاملين، الاول: بناء حواجز بيننا وبين المجتمع الجاهلي، لكي لا نتأثر بسلبياته، والثاني: أن نبني داخل هذا الحصن الذي نحصن أنفسنا به، مجتمعنا المثالي الفاضل، ولكن حينما ندخل حصن الايمان وحصن المجتمع الإسلامي فلابد أن نبني هذا المجتمع على أساس الحب في الله، والبغض في الله، هذا الحب وهذا البغض النابعين من ايماننا بقيمة محوريّة واحدة في كل الحياة، هي قيمة التقوى.
يقول الامام أبو محمد العسكري عليه السلام عن آبائه عليهم السلام، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنّه قال لبعض أصحابه ذات يوم:
(يا عبد الله، أحبب في الله، وأبغض في الله، ووال في الله، وعاد في الله، فانّه لا تنال ولاية الله الا بذلك، ولا يجد رجل طعم الايمان وإن كثرت صلاته وصيامه حتى يكون كذلك، وقد صارت مؤاخاة الناس يومكم هذا أكثرها في الدنيا، عليها يتوادّون، وعليها يتباغضون، وذلك لا يغني عنهم من الله شيئاً.
فقال له: وكيف لي أن أعلم أنّي قد واليت وعاديت في الله عزوجل؟ ومن وليّ الله عزوجل حتى أواليه، ومن عدوّه حتى أعاديه؟
فأشار له رسول الله إلى علي عليه السلام فقال: أترى هذا؟ فقال: بلى، فقال: وليُّ هذا وليُّ الله فواله، وعدو هذا عدو الله فعاده.. والِ وليّ هذا ولو أنّه قاتل أبيك وولدك، وعاد عدوّ هذا ولو أنّه أبوك وولدك) .
وقال الإمام الصادق عليه السلام:
(من أحب كافراً فقد أبغض الله، ومن أبغض كافراًً فقد أحب الله).
ثم قال عليه السلام:
(صديق عدو الله عدو الله) .
فإذا رأيت رجلاً يعادي الله بعمله وفكره فصادقته، فانك تصبح عدوا لله سبحانه وتعالى.
وعنه عليه السلام:
(هل الدين الا الحب.. ان الله عزّوجل يقول: ?قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ?
يقول فُضيل بن يسار: سألت الإمام الصادق عليه السلام عن الحب والبغض أمن الأيمان هو؟ فقال: (وهل الإيمان إلاّ الحب والبغض. ) ثم تلا قوله ?حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ?
وقال عليه السلام:
(مِن حُبِّ الرجل دينه حبه إخوانه) .
وقال الإمام العسكري عليه السلام:
(حب الأبرار للأبرار ثواب للأبرار، وحب الفجّار للأبرار فضيلة للأبرار، وبغض الفجّار للأبرار زين للأبرار، وبغض الأبرار للفجار خزيٌ على الفجّار) .
إن المحور في الحياة هم الأبرار، فاذا أحبوا أحداً دلّ ذلك على أنّه من الأبرار وهو زين له، واذا أحبهم أحد فهذا شيء طبيعي، واذا أبغضهم فاجر يدل على أنهم على حق، فإذا عاداك رجل فاجر فلابد أن تحمد الله وتعرف بأنّك على حق، فمقياس الحب والبغض يدور حول محور واحد وهو محور البر والفجور.
وقال الإمام الصادق عليه السلام:
(من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله، فهو ممن كمل إيمانه) .
وفي حديث آخر يقول:
(من أحب الله وأبغض عدوه، لم يبغضه لوتر وتره في الدنيا، ثم جاء يوم القيامة، بمثل زبد البحر ذنوباً كفّرها الله له) .
وقال عليه السلام:
(من أوثق عرى الايمان أن تحبّ في الله وتبغض في الله وتعطي في الله وتمنع في الله عز وجل) .
وقال عليه السلام:
(ان المتحابّين في الله يوم القيامة على منابر من نور، قد أضاء نور وجوههم ونور أجسادهم ونور منابرهم كل شيء حتّى يعرفوا به، فيقال: هؤلاء المتحابّون في الله)
وقال الامام الباقر عليه السلام:
(إذا أردت أن تعلم أنّ فيك خيراً فانظر إلى قلبك، فإن كان يحبّ أهل طاعة الله عزّوجل ويبغض أهل معصيته ففيك خير والله يحبّك. وإذا كان يبغض أهل طاعة الله ويحبّ أهل معصيته فليس فيك خير، والله يبغضك، والمرء مع من أحب) .
وقال الامام الصادق عليه السلام:
(كلّ من لم يحب على الدين، ولم يبغض على الدين، فلا دين له) .
وقال الباقر عليه السلام: قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
(ودُّ المومن للمؤمن في الله من أعظم شعب الإيمان، ألا ومن أحبّ في الله وأبغض في الله وأعطى في الله ومنع في الله فهو من أصفياء الله) .
صفوة الكلام
1- إن تفوق المجتمعات، وتطور الحضارات لا يكون بالكم والعدد، وإنما بحجم الحيوية والتفاعل في المجتمع .
2- وإن النبتة الإجتماعية الصغيرة التي تتسم بالحيوية والتفاعل تتحول بعد فترة إلى قوة هائلة يذوب فيها المجتمع الكبير، ونتلمس هذه الحقيقة بوضوح في حركة الرسل والانبياء عليهم السلام .
3- والظروق الراهنة تشبه إلى حد بعيد ظروف الرسالات الإلهية في بداية إنطلاقتها، لذلك ينبغي على الرسالي أن يعمل على بناء الصفوة المؤمنة التي تكوِّن المجتمع الإسلامي الحقيقي .
4- إن رفض المجتمع الجاهلي، وإقامة المجتمع الاسلامي على شكل مجموعات ذات علاقات متماسكة، وإقامة الصلاة، وإعطاء الأمل، كل ذلك يشكل الخطوة الأساسية في طريق إقامة حكم الله .
5- وكثيرة هي التوجيهات الاسلامية بشأن هجرة المجتمعات الجاهلية، ولكن قد لا تكون هذه الهجرة، هجرة جغرافية بالضرورة، بل قد يكون المطلوب هجرة نفسية ومعنوية .
6- إذن، فالوصول إلى المجتمع الفاضل لا يكون إلا عبر عملين:
ألف: بناء حواجز بيننا وبين المجتمع الجاهلي .
باء: بناء مجتمعنا المثالي الفاضل داخل هذا الحصن .. حصن الايمان، وحصن المجتمع الإسلامي .
ولابد أن نبني هذا المجتمع على أساس الحب في الله والبغض في الله .
===================(4/7)
التكامل العضوي والتنظيم الداخلي
- عز وجل - المطلوب هو العمل على بناء مجتمع التكامل والتفاعل، والذي يهدم الحواجز بين أبنائه، وينظم نفسه داخلياً .
- عز وجل - إن مجتمع الحسد والبغضاء ليس مجتمعاً إسلامياً، ولا يمكن أن ينبعث الخير منه
ما هو الفرق بين زُبَر الحديد ومحرك السيارة؟
الفرق هو أن زبر الحديد لا تملك تنظيماً داخلياً، فلو جئت بقطع من الحديد الخردة تتألف من البراغي والإسطوانات والمكابس وما أشبه، وأوقدت تحتها طناً من البنزين فإنّها لا تتحرك بوصة واحدة. أمّا لو جئت بلتر واحد من البنزين، وأوقدته في بيت النار في محرك السيارة، فإنّها ستتحرك مسافة عدة كيلومترات.
إن محرِّك السيارة يتكون أيضاً من مجموعة قطع حديدية، ولكنها منظمة تنظيماً علمياً، ومترابطة فيما بينها بشكل دقيق، بحيث تستفيد من طاقة البنزين في المجال المحدد لها.
هكذا هو الفرق بين المجتمع المنظّم والمجتمع غير المنظم. وفي القرآن الكريم نجد مثلاً لمجتمع غير منظم كان يتعرض لهجوم الأعداء دون أن يستطيع أن يصدهم. يقول تعالى:
?قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الاَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَاَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً * ءاَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ ءَاتُونِي اُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً * فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً? الكهف،94-97
لقد كانوا يواجهون مشكلة خطيرة تهدد حياتهم وكيانهم، ولكنهم لم يعرفوا كيف يحلّونها برغم توفر كل عناصر الحل عندهم، فما كان من ذي القرنين إلاّ أن وحّدهم ونظم قواهم ووجههم بحيث يستفيدون من الامكانات والطاقات التي كانت متوفرة لديهم، وإذا بهم يقومون بانجاز صناعي حضاري وهو ذلك السدّ الضخم الذي حيّر أعداءهم وأفشل خططهم في الغزو والاحتلال.
المفهوم الإسلامي للتنظيم
والمجتمع الإسلامي الرسالي الذي ذكرنا ضرورة انشائه، ولو ضمن مجموعة صغيرة كمرحلة أولية، يتميّز بالتنظيم والتكامل العضوي بين أفراده، وهذا هو السر في انتصار المسلمين في بادىء أمرهم، حيث كونوا مجموعات صغيرة من المجاهدين كانت تتحرك عبر الفيافي المترامية، فاذا بهم يسحقون الجيوش الضخمة التي كانت مجهزة بكل الوسائل الحربية والإمكانيات المادية المتوفرة آنذاك.
وعندما ينادي الإسلام بضرورة التنظيم، فانّه لا يريده -بالطبع- على غرار النمط الغربي الذي يقوم على مجموعة من الإجراءات المعقدة المتشابكة التي يصبح الفرد جزءاً منها، ولا يعرف من أين يبدأ والى أين ينتهي في خضم ذلك الروتين المحيّر والمعطّل للكثير من النشاطات البشرية البنّاءة.
إن التنظيم في الإسلام يعني التعاون السهل الميسور بين المسلمين، والتكامل العميق بين أفكارهم ومشاعرهم ونشاطاتهم في اتجاه تطبيق شريعة السماء السمحة، والتي تمكّن المجتمع من الاستفادة من كل طاقاته وامكاناته كما يستفيد محرك السيارة من كل قطرة من الوقود الموجود في خزانها.
إنني لم أعثر في خلال تتبعي ودراستي للجيوش الإسلامية في التاريخ على كلمة تعبّر عما يسمى اليوم بالتعبئة (لوجستيك) أي فن تحريك الجيوش ونقل المُؤَن والامدادات وما أشبه.
فقد كان المجاهدون الذين يؤلفون الجيوش الإسلامية في صدر الإسلام يقومون في الليل بتنظيف أسلحتهم، وترتيب معداتهم بأنفسهم، وكانت بعض نسائهم معهم يقمن بخدمتهم وتضميد جرحاهم، وكانوا يندفعون في النهار للقيام بالأعمال العظيمة، والانجازات الكبيرة بعفوية وبدون أي تعقيد او نظام روتيني جامد، وبدون أن يكون لديهم ما يسمّى بالانضباط الحربي الذي يستخدم اليوم لمراقبة الجنود وإكراههم على القيام بالأعمال المطلوبة عن طريق فرض العقوبات المختلفة.
وكان المجاهدون المسلمون وهم في عز المعركة وفي الساحات الدامية يتفقهون ايضاً في الدين، كما يقول القرآن الحكيم:
?فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ? التوبة،22
هذه الآية نزلت - حسب أغلب التفاسير - حين كان المسلمون في غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كان بين المحاربين مجموعة من كبار المهاجرين والأنصار يلتفون حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويتلقّون منه تعليمات الرسالة الإسلامية، وعندما يعودون إلى قومهم، كانوا يعلمونهم ما تعلموه، فيشكلون بذلك جهازاً تنظيمياً لنشر التعاليم الإسلامية من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى الجماهير العريضة، في وقت كانت وسائل النشر والاعلام بدائية ومحدودة.
والآن حينما نريد أن ننشىء ذلك المجتمع الحيوي الصغير القادر على استقطاب طاقات الأمّة نحتاج إلى هذه الحالة التنظيمية التي لا يتحكم بها الروتين المعقد ولا المزيد من الشعارات والقرارات والدساتير التي لا يتعدى كونها حبراً على ورق، وإنّما تخلقها التعاليم الإسلامية العظيمة عبر توجيهاتها الصائبة التي تعود على الأمة الإسلامية بالمكاسب الهائلة.
ومن هذه التعاليم:
اولاً: مبدأ الشورى
يقول القرآن الحكيم: ?وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ? الشورى،38
ويقول:?وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر? آل عمران،159
ويقول الإمام علي عليه السلام:
(من استبد برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها)
إن المسلم ينبغي أن يعلم أن قراره في أي أمر، يجب ألاّ يكون نابعاً من هواه وشهوته وجهله، بل من عقله وإرادته، ومن رؤيته وبصيرته. لذلك فهو دائماً يفتش عمّن يستشيره في القضايا الهامة، من أصحاب العلم والخبرة، وأهل الاخلاص والتقوى، وبهذا يكون قادرا على مزج فكره وتجربته مع ما يمكن أن يستفيده من أفكار وتجارب الآخرين، فتكون قراراته بالتالي حكيمة ورشيدة دون أن يحتاج الأمر إلى دراسات مطولة وإجراءات معقدة، لأنّ تفاعل العقول مع بعضها يختصر الزمن إلى حد كبير، وهذه سنة طبيعية لا سبيل إلى إنكارها.
ثانياً: القيادة
يهتم الإسلام كثيراً بمسألة القيادة في المجتمع ويضع لها مواصفات وشروطاً دقيقة، ليضمن بذلك سير المجتمع في الطريق الصحيح، ويحول دون تصادم وتناقض أفكار ونشاطات الأفراد مع بعضها البعض مما يخلق عقبات أمام تقدم المجتمع إن لم تؤدّ إلى تراجعه وتخلفه.
والقيادة الصحيحة في المجتمع الإسلامي تتركز امّا في شخص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أو في الائمة المعصومين من أهل بيته عليهم السلام، الذين عيّنهم بأمر الله، أو فيمن تتوافر فيهم صفات العلم والعدالة والتقوى والكفاءة والشجاعة من العلماء الأعلام الذين هم نوّاب الامام المعصوم عليه السلام في غيبته ويكون لهم الحق في تحديد آلية إنتخاب أو تعيين القيادات التنفيذية على رأس كل تنظيم داخل المجتمع.
يقول تعالى:
?يَآ أيهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ? النساء،59
?إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ? المائدة،55
?فَسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُم لاَ تَعْلَمُونَ? النّحل،43(4/8)
هذه الآيات وكثير غيرها تعطي مواصفات واضحة للقيادة الإسلامية، وتضفي عليها أهمية بالغة بربطها مباشرة بطاعة الله وولايته.
ثالثاً: التشجيع المتبادل والنهي عن التثبيط
الإنسان بطبيعته يحتاج إلى من يشجعه على العمل والنشاط، ولذلك ترى المسلمين عندما يقوم أحدهم بمهمة، فان الآخرين يقبلون عليه فيشجعونه. وبهذه الطريقة يعطي البعض العزيمة والارادة للآخرين، وقد تلعب كلمة تشجيع واحدة دوراً مؤثراً في صنع مصير انسان وتقويم مسيرة حياته. يقول تعالى:
?وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ? العصر،3
ويقول:
?ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ? البلد،17
والتشجيع هو بعض أقسام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فاذا رأيت انساناً يصلي صلاة الليل -مثلاً- فقل له: أحسنت، إن صلاة الليل نور، ولا تقل له: يا مرائي.
إن مثل هذا الكلام التثبيطي مدعاة إلى الضلال والانحراف. والواقع ان التخذيل مرض اجتماعي يتفشّى أحياناً بين الناس بشكل يبعث على الأسى، لأنه يعرقل كثيراً من النشاطات البنّاءة، والأعمال الصالحة التي يمكن أن تستفيد منها المجتمعات بشكل فعّال.
رابعاً: إزالة الحجب القائمة بين الأفراد
إن نصف واجبات الإسلام ووصاياه على الأقل، إنما جاءت بهدف هدم الحواجز التي يمكن أن تفصل المؤمنين عن بعضهم، مثل العصبيات بسائر أقسامها وأسمائها، والكبر، والغرور، والحقد، والحسد، وسوء الظن.. هذه القائمة الطويلة السوداء من الصفات السيئة التي جاء الإسلام للقضاء عليها واجتثاثها من جذورها.
وقد تتعجب من قول الرسول صلى الله عليه وآله: (إنما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق) ولكن المجتمع الذي لا يقوم على قاعدة الحب في الله والبغض في الله.. هذا المجتمع لا يمكن أن يصلّي أو يزكّي أو يعبد الله أو يبني حضارة أو يعمل أي شيء مفيد، إن مجتمع الحسد، والبغضاء ليس مجتمعاً إسلامياً أبداً، ولا يمكن أن ينبعث الخير منه.
إذن، القضية الأساسية هي العمل على بناء مجتمع التكامل والتفاعل، والذي يهدم الحواجز بين أبنائه، و ينظم نفسه داخلياً، وآنئذٍ يستطيع أن ينتصر على كل قوة خارجية تريد إذلاله واستعباده ونهب خيراته وثرواته.
وهنا نورد نماذج من الأحاديث الشريفة التي تعالج بعض الحواجز الشيطانية التي تفتك بالمجتمع والتي من الصعب على الإنسان أن يتخلص منها إلاّ بالتوكل على الله سبحانه.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
(الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب) .
ويقول الأمام علي عليه السلام:
(إجتنب الغيبة فانها إدام كلاب النار) .
ويقول عليه السلام:
(كذب من زعم انه وُلِدَ مِنْ حلال وهو يأكل لحوم الناس بالغيبة) .
ويقول في النهي عن سوء الظن:
(ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه، ولا تظننّ بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً) .
ويقول الامام الصادق عليه السلام:
(من قال في مؤمن ما رأته عيناه وسمعته أذناه فهو من الذين قال الله عزوجل:
?إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ? (النور،19)
فرواية أقوال وتصرفات الآخرين غير اللائقة وان كانت صحيحة، هي من الغيبة التي ينهى الإسلام عنها، وتعليل ذلك كما تشير إليه الآية الكريمة، هو أن هذا الأمر مما يشيع الفاحشة في المجتمع، فيشجع الآخرين ويعطيهم المبرر لارتكاب ذات الأعمال السيئة.
وفي حديث آخر يؤكد الإمام عليه السلام فيه على هذه الفكرة فيقول:
(الغيبة أن تقول في أخيك ما هو فيه مما قد ستره الله عليه. فأمّا إذا قلت ما ليس فيه فذلك قول الله ?فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِينا? ).
ويؤكد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، على بشاعة عمل ذي الوجهين ودور هذه الصفة في فصم عرى الاخوة الإسلامية وتفتيت المجتمع الرسالي فيقول:
(أربعة يؤذون أهل النار على ما بهم من الأذى، يسقون من حميم الجحيم، ينادون بالويل والثبور. يقول أهل النار بعضهم لبعض: ما بال هؤلاء الأربعة قد آذونا على ما بنا من الأذى؟!
فرجل معلق في تابوت من جمر، ورجل يجرّ أمعاءه، ورجل يسيل فوه قيحاً ودماً، ورجل يأكل لحمه، فيقال لصاحب التابوت: ما بال الأبعد قد آذانا على مابنا من الأذى؟ فيقول: ان الأ بعد قد مات وفي عنقه أموال الناس لم يجد لها في نفسه أداء ولا وفاء.
ثم يقال للذي يجر أمعاءه: ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى؟ فيقول: ان الأبعد كان لا يبالي أين أصاب البول من جسده.
ثم يقال للذي يسيل فوه قيحاً ودماً: ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى؟ فيقول: ان الأبعد كان يحاكي، فينظر إلى كل كلمة خبيثة فيسندها ويحاكي بها .
ثم يقال للذي يأكل لحمه: ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى؟ فيقول: ان الأبعد كان يأكل لحوم الناس بالغيبة ويمشي بالنميمة) .
هذا هو تنظيم الله سبحانه.. إنه تنظيم لا يقوم على الشعارات والقرارات الجوفاء، وإنما يقوم على تبادل الحب، ورفع الحجب والتكامل العضوي في جوّ من الحيوية والنشاط والعزيمة الشديدة لتطبيق أحكام السماء.
صفوة الكلام
1- يتميز المجتمع الإسلامي الرسالي بالتنظيم والتكامل العضوي بين أبنائه، وهذا هو السر في إنتصار المسلمين في بادئ أمرهم .
2- والتنظيم الذي ينادي الاسلام بضرورته، ليس على غرار النمط الغربي الذي يقوم على مجموعة من الاجراءات المعقّدة التي تضيِّع الإنسان في خضم الروتين المحيِّر والمعطِّل للنشاطات البشرية البنَّاءة .
3- والتنظيم في الإسلام يعني :
التعاون السهل بين المسلمين، والتكامل بين أفكارهم ونشاطاتهم في اتجاه تطبيق الشريعة .
4- وتقوم الحالة التنظيمية في الامة على :
ألف: مبدء الشورى .
باء: القيادة الصحيحة .
جيم: التشجيع المتبادل، وعدم التثبيط .
دال: إزالة الحجب القائمة بين الأفراد .
=======================
البرامج الروحية والبناء الحضاري
- عز وجل - علينا مقاومة الحضارة المادية بتأسيس حضارة إسلامية متكاملة الأبعاد .
- عز وجل - عندما يصبح المجتمع الإسلامي كتلة متراصة، فلا يمكن إختراقها أبداً .
الصراع القائم بين الإسلام والجاهلية صراع ذو أبعاد مختلفة، ثقافية وإجتماعية وإقتصادية وسياسية، وبالتالي فهو صراع حضاري شامل لا يمكن كسبه إلا بتكثيف الجهود وتركيزها.
فلا يمكن أن نقاوم القوى الساعية للتسلط علينا وقهرنا، عن طريق الحركة السياسية وحدها، أو بالتغيير الثقافي فقط، أو بالتحدي الاقتصادي والوصول إلى الاكتفاء الذاتي في حقل الانتاج فحسب، وإنّما علينا أن نقاوم الحضارات المادية، بتأسيس حضارة إسلامية متكاملة الأبعاد.
وحينما نقول (حضارة) فاننا نقصد بها: التحول الثقافي والإجتماعي ومن ثم الاقتصادي والسياسي والعمراني، وفي كل الجوانب وعلى مدى واسع. وكذلك العمل من أجل تكوين كياننا، لمقاومة التحديات عن طريق تكثيف وتركيز كل الجهود، وذلك غير ممكن إلا عن طريق البرامج الرسالية.
ذلك لأن الحضارات المادية قد سبقت الحضارات الروحية من حيث تطوير الوسائل المادية، فلابد أن نجهز أنفسنا بعامل لا يوجد عند أصحاب تلك الحضارات، ونركب قاطرة أسرع من تلك التي إمتطوها حتى بلغوا هذا المستوى، وهذه القاطرة ليست فقط الأخذ بالعوامل المادية، وإنما كذلك الأخذ بالبرامج الروحية.
الانفتاح الواعي(4/9)
وهذا لا يعني أن نسد كل الابواب، فلا نستفيد من تجارب الآخرين ولا نطّلع على ما يجري في المجتمعات الأخرى، وإنّما علينا أن ننفتح على العالم ولكن دون أن ننسى الميزات الحضارية التي نمتلكها.. وتلك العناصر الحاسمة التي لا تزال بأيدينا، والتي ينبغي أن نجعلها في حسابنا لنستفيد منها عملياً. فمن دون ذلك لا نصل إلى أي تغيير إيجابي.
ان الوصول إلى الحضارة الحق غير ممكن الا عبر البرامج الروحية، وان أولئك الذين يريدون أن يصلوا بأمتنا إلى مستوى حضاري ارفع من الحضارات الغربية دون أن يأخذوا الجانب الروحي بنظر الاعتبار، هؤلاء فاشلون سلفاً. وكل الإحصائيات العلمية والتحليلات السياسية والبحوث الاجتماعية تؤكد على فشلهم هذا، لأنّ الفجوة تتسع يوماً بعد آخر وبكل أبعادها بين الدول المتقدمة والدول المتخلفة.
فكيف نلحق بهم؟ وكيف نردم هذه الفجوة الآخذة في الاتساع؟
إن الجهود التي بذلت عبر القنوات القومية أو الإقليمية، أو القنوات الحزبية المستوردة وما أشبه كانت جهوداً جبارة، ولكنها ليس فقط لم تنجح في ردم الفجوة بين الدول المتخلفة والدول المتقدمة، وإنّما ساهمت في زيادة إتساعها، لأنّها كانت بضاعة الأجنبي ردّت إليه، ولان هذه الجهود صبت بالتالي في تلك القنوات التي حفرتها القوى المعادية لأمتنا بطريقة تعود مرة أخرى وتصب لصالحها.
تجربة السقوط
وآخر تجربة غربية ماثلة أمامنا هي تجربة حزب البعث الذي أسسه رجل غربي الأصالة والفكر، الذي إستوحى من الاشتراكية الأوروبية والفلسفة القومية الاوروبية جوهر نظريته وصبغها ببعض الألفاظ العربية، وكما يقول في بعض كتاباته فإنّه أراد أن يوحّد الامة العربية في ظل الشعار المثلث المعروف (وحدة، حرية، اشتراكية) ذلك الشعار المتناقض في ذاته والمناقض لأعمال البعثيين أنفسهم وممارساتهم.
وليس صدفة أن يفشل حزب البعث، لأن فكره كان فكراً إستعمارياً، يصب في قناة الغرب. لذلك حينما نؤكّد على البرامج الروحية والمناهج السماوية وضرورة العودة إلى كل التعاليم المحمدية لبناء حضارتنا المنشودة، فاننا نستوحي هذا التأكيد من الوقائع الحية التي نعيشها والتي تعمق الألم والمرارة في نفوسنا.
لقد عكفت مجموعات كبيرة من السياسيين والمثقفين تستجدي الأفكار من هذا وذاك دهراً طويلاً، وبعد أن أخذتها وعملت بها، رأينا أنّها أفكار تدعو إلى عبوديتنا لهم مرة أخرى، وتعمل على ذلتنا وتفتتنا واستضعافنا.
إننا ولكي نردم هذه الفجوة بين بلداننا وبين البلدان المتقدمة، ليس أمامنا طريق الا الرجوع إلى تلك البرامج الروحية التي وضعها الإسلام. هذه البرامج التي هي ليست كفيلة فقط بانتشالنا مما نحن فيه، وانّما هي أيضاً طريق واضح ومستقيم للوصول بنا إلى أسمى الأهداف في الدنيا قبل الآخرة.
طريق النهوض
وهنا نعرض شذرات من هذه البرامج تعلمنا كيف يجب أن يعامل أحدنا الآخر، علّنا نستضيء بنورها في طريقنا لإقامة الحضارة الإسلامية المتكاملة التي ننشدها بإذن الله.
قال الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
(إنّ من إجلال الله، إعظام ذوي القربى في الإسلام)
وقال أيضاً:
(من لم يرحم صغيراً، ولا يوقر كبيراً فليس منّا)
وقال الإمام الصادق عليه السلام:
(لا يعظّم حرمة المسلمين الاّ من عظّم الله حرمته على المسلمين. ومن كان أبلغ حرمة لله ورسوله، كان أشدّ حرمة للمسلمين. ومن إستهان بحرمة المسلمين، فقد هتك ستر إيمانه) .
ولكي يعمق الإسلام شعورك بالوحدة مع المؤمنين، يقول:
(ان المؤمن ليسكن إلى المؤمن كما يسكن قلب الظمآن إلى الماء البارد)
بل يقول لك: حينما تجلس عند أخيك المؤمن فأكثر النظر إلى وجهه، فإنّ كثرة النظر تزيد الحب المتبادل، يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
(نظر المؤمن في وجه أخيه المؤمن للمودة والمحبة له عبادة) .
ويقول أيضاً:
(الا وإنّ ود المؤمن من أعظم سبب الايمان. ألا ومن أحب في الله وأبغض في الله، وأعطى في الله، ومنع في الله عز وجل فهو من أصفياء المؤمنين عند الله تبارك وتعالى. الا إنّ المؤمنَيْن اذا تحابّا في الله عزوجل وتصافيا في الله كانا كالجسد الواحد، اذا اشتكى أحدهما من جسده موضعاً وجد الآخر ألَمَ ذلك الموضع)
هكذا يرتفع مستوى الوحدة الايمانية بل الوحدة الروحية بين المؤمنين. ويؤكد على هذه الفكرة قول الأمام الصادق عليه السلام لأحد أصحابه الذي قال للإمام: (اني لألقى الرجل لم أره ولم يرني فيما مضى قبل يومه ذلك، فأحبه حباً شديداً. فاذا كلمته وجدته لي مثل ما انا عليه له. ويخبرني أنّه يجد لي مثل الذي أجد له). فقال الامام:
(صدقت يا سدير، إن ائتلاف قلوب الأبرار إذا التقوا وإن لم يظهروا التودد بألسنتهم كسرعة إختلاط قطر السماء على مياه الأنهار. وإن بُعد ائتلاف قلوب الفجار إذا التقوا وإن أظهروا التودد بألسنتهم كَبُعد البهائم من التعاطف وإن طال اعتلافها على مزود واحد) .
قضاء حوائج المؤمنين
ومن جملة ما يؤكد الإسلام عليه في معرض التكامل الاجتماعي لبناء الحضارة، هو ضرورة قضاء حوائج المؤمنين بعضهم لبعض.
فالمؤمن عليه أن يطلب حوائجه من أخيه المؤمن ولا يستحي منه. وكلما يجد في نفسه حاجة يكشفها له بلا تحرّج. ويطلب منه في نفس الوقت أن لا يتوانى في تقديم ما يتمكن تقديمه.
وحينما تقضي أنتَ حاجتي وأقضي أنا أيضاً لك حاجتك فأنت تتكامل معي وأنا أتكامل معك، لأنّك تستطيع أن تقوم بعمل لا أستطيع هذه اللحظة أن أقوم به، وغدا قد أكون أستطيع القيام بهذا العمل وتعجز أنت عن ذلك. وهكذا فان عملية التعاون تبدأ من الجذور ومن الخلايا الصغيرة. وعندما يصبح المجتمع كله كتلة متراصة، آنئذ لا يمكن إختراقها.
وتأملوا هذا الحديث للامام الصادق عليه السلام وهو يقول:
(أوحى الله عزوجل إلى داود: إن العبد من عبادي ليأتيني بالحسنة فأبيحه جنتي.
فقال داود: يارب وما تلك الحسنة؟
قال: يُدخل على عبدي المؤمن سرورا ولو بتمرة.
فقال داود عليه السلام: حق لمن عرفك ألا يقطع رجاءه منك) .
وحينما سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أي الأعمال أحب إلى الله، قال:
(اتّباع سرور المسلم) . قيل: يا رسول الله وما إتّباع سرور المسلم؟ قال: (شبعة جوعه، وتنفيس كربته، وقضاء دينه.)
وفي حديث آخر يصور لنا مدى أهمية قضاء حوائج المؤمنين بهذا الاسلوب الرائع..
يروي حنان بن سدير عن أبيه أنه قال: كنت عند الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام فَذُكِر عنده المؤمن وما يجب من حقه، فالتفت إليّ أبو عبد الله عليه السلام فقال لي: ( يا أبا الفضل ألا أحدثك بحال المؤمن عند الله.) فقلت: بلى، فحدثني جُعلت فداك.. فقال:
(إذا قبض الله روح المؤمن صعد ملكاه إلى السماء فقالا: يارب عبدك ونعم العبد، كان سريعاً إلى طاعتك، بطيئاً عن معصيتك وقد قبضتََه اليك، فما تأمرنا من بعده؟ فيقول الجليل الجبّار: إهبطا إلى الدنيا وكونا عند قبر عبدي ومجّداني وسبّحاني وهلّلاني وكبّراني واكتبا ذلك لعبدي حتى أبعثه من قبره).
ثم قال لي: ألا أزيدك؟ قلت بلى، فقال:(4/10)
(إذا بعث الله المؤمن من قبره، خرج معه مثال يقدمه أمامه، فكلما رأى المؤمن هولاً من أهوال يوم القيامة، قال له المثال: لا تجزع ولا تحزن وأبشر بالسرور والكرامة من الله عزّوجل، فما يزال يبشره بالسرور والكرامة من الله سبحانه حتى يقف بين يدي الله عزوجل ويحاسبه حساباً يسيراً، ويأمر به إلى الجنة والمثال أمامه، فيقول له المؤمن: رحمك الله نِعَم الخارج معي من قبري! مازلت تبشّرني بالسرور والكرامة من الله عزوجل حتى كان ما كان، فمن أنت؟
فيقول له المثال: أنا السرور الذي أدخلته على أخيك المؤمن في الدنيا، خلقني الله لأبشرك) .
هذه هي البرامج الإسلامية لبناء المجتمع الفاضل. وكم يكون راقياً ذلك المجتمع الذي يسعى لادخال السرور والفرح على قلوب سائر أبنائه.
وللإمام جعفر الصادق عليه السلام حديث يبيّن فيه أن تعاون المؤمنين وترابطهم المادي والمعنوي أفضل من العبادات المستحبة.
عن المشمعل الأسدي قال: خرجتُ ذات سنة حاجّاً، فانصرفت إلى أبي عبد الله الصادق عليه السلام فقال: من أين بك يا مشمعل؟ فقلت: جعلت فداك كنت حاجاً، فقال: أو تدري ما للحاج من الثواب؟ فقلت: ما أدري حتى تعلمني فقال:
(إن العبد إذا طاف بهذا البيت أسبوعاً - أي سبع مرات - وصلى ركعتيه وسعى بين الصفا والمروة كتب الله له ستة آلاف حسنة، وحط عنه ستة آلاف سيئة، ورفع له ستة آلاف درجة، وقضى له ستة آلاف حاجة للدنيا وادّخر له للآخرة كذا).
فقلت له: جعلت فداك إن هذا لكثير.. فقال: أفلا أخبرك بما هو أكثر من ذاك؟ قلت بلى، فقال عليه السلام:
(لقضاء حاجة امرئ مؤمن أفضل من حجة وحجة حتى عدّ عشر حجج..) .
فهل تملك نفسك بعد ما تسمع هذا الحديث وتؤمن به إلا أن تهرع لقضاء حوائج إخوانك المؤمنين. وكم يكون سامياً ذلك المجتمع الذي يسعى بل يهرع كل واحد لقضاء حوائج اخوانه بهذه الروحية العالية والنية الخالصة. ثم إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول:
(والله لقضاء حاجة المؤمن خير من صيام شهر واعتكافه) .
ويحدثنا الامام الصادق عليه السلام بحديث بالغ الأهمية نرجو أن يصبح مناراً نهتدي به:
(إنّ الرجل ليسألني الحاجة فأبادر بقضائها مخافة أن يستغني عنها فلا يجد لها موقعاً اذا جاءته) .
فحينما يسألك شخص حاجته فبادر إلى قضائها ولا تماطل فقد يتغيّر الوضع ويستغني عنها فتفوتك بذلك فرصة عظيمة، ويقول عليه السلام في حديث آخر:
(من كان في حاجة أخيه المسلم كان الله في حاجته ما كان في حاجة أخيه) .
والإسلام في الوقت الذي يقول للمقتدر: إقض حوائج اخوتك المؤمنين، يقول للمحتاج: أطلب من أخيك حوائجك.
يقول الإمام الصادق عليه السلام : (إذا ضاق أحدكم فليُعلم أخاه ولا يعين على نفسه) .
أي ينبغي لمن يقع في مشكلة أن يستعين بأخيه المؤمن على حلها ولا يتركها تستفحل.
وفي حديث آخر يشجعنا على الاجتماعات الايمانية ويقول:
(تبسّم الرجل في وجه أخيه حسنة، وصرفه القذى عنه حسنة، وما عُبد الله بشيء أحب إلى الله من إدخال السرور على المؤمن) .
أوَلا تريد أيها المسلم ان تجلب لنفسك حب الله تبارك وتعالى؟
وأكثر من هذا، يقول الإسلام لو أن رجلاً كافراً قضى حاجة رجل مؤمن، فانّ الله لا ينسى لذلك الرجل المشرك عمله الحسن.
فقد روى عبيد الله بن الوليد الوصّافي أنه سمع أبا جعفر عليه السلام يقول:
(إن في ما ناجى الله عز وجل به عبده موسى قال: إن لي عباداً أبيحهم جنتي واحكّمهم فيها.
قال: يارب ومن هؤلاء الذين تبيحهم جنتك وتحكّمهم فيها؟ قال: من أدخل على مؤمن سروراً.
ثم قال: إنّ مؤمناً كان في مملكة جبّار، فولع به فهرب منه إلى دار الشرك، فنزل برجل من أهل الشرك فأظله وأرفقه وأضافه، فلمّا حضره الموت أوحى الله عزوجل إليه: وعزّتي وجلالي لو كان لك في جنتي مسكن لأسكنتك فيها، ولكنها محرّمة على من مات بي مشركاً. ولكن يانار هيديه ولا تؤذيه، ويؤتى برزقه طرفي النهار. قلت: مِنَ الجنة؟ قال من حيث شاء الله) .
فليس المهم من أين يأتي رزقه في نار جهنم، من الجنة أو من أي مكان، إنّما المهم هو أن هذا المشرك الذي بقي مشركاً حتى مات، ولكن بسبب تعاونه مع مؤمن ولع به الطاغوت فهرب من بلاد الإسلام إلى بلاد الشرك خوفاً على دينه، فإن الله لا ينسى لهذا المشرك عمله الحسن بل يجازيه خيراً.
إن الإسلام ليس فقط يريدنا أن نسارع نحو قضاء حوائج إخوتنا المؤمنين، وانّما يشجعنا ايضاً على التعاون والتماسك والارتباط ببعضنا عبر تعاليم كثيرة، مثل أخذ الزينة عند المساجد، والتعطر، والحضور في المساجد وسائر الاماكن المقدسة، والاجتماع في المناسبات الإسلامية وحتى المشاركة في الاعراس وتشييع الجنائز وغير ذلك من آداب العلاقات الإجتماعية .
صفوة الكلام
1- إن الصراع بين الاسلام والجاهلية صراع شامل، فلا يمكن الإنتصار فيه إلا بعمل شامل وعلى كل المستويات .
2- من هنا، فإن مقاومة الحضارات المادية لا تتحقق إلا بتأسيس حضارة إسلامية ذات أبعاد متكاملة .
3- وفي البناء الحضاري ، لا يمكننا الإكتفاء بالعوامل المادية فقط والتي سبقتنا فيها الحضارات المادية ، بل يجب - إضافة إلى ذلك - الأخذ بالبرامج الروحية والمعنوية التي نتميَّز بها .
4- إن الجهود التي بذلتها مجموعات كبيرة من السياسيين والمثقفين في بلادنا باءت بالفشل، لأنها تجاهلت البعد الروحي والمعنوي الذي يُعتبر نقطة قوتنا الأساسية .
5- ولكي نردم الفجوة بين بلادنا وبين البلاد المتقدمة، علينا العودة الى البرامج الروحية والمعنوية التي وضعها الإسلام، والتي لا تنتشلنا مما نحن فيه فقط، بل ترسم لنا طريق الوصول إلى أسمى الأهداف في الدنيا قبل الآخرة .
====================
الجهاد من أجل التقدم
- عز وجل - إن التخلف الذي ينخر عظامنا، هو سبب كل المآسي التي نعاني منها.
- عز وجل - الإسلام هو المنهج الذي ينقذنا من التخلف كما أنقذ آباءَنا من قبل .
إنّ ما نشاهده في العالم الإسلامي - اليوم - من المآسي والويلات والحرمان، ومن سيطرة الطغاة والأجانب، ومن عربدة إسرائيل واغتصابها لحقوق شعبنا الفلسطيني، وتحولها من مغتصب لأرض وحقوق شعب، إلى سلاح مشهور على رقبة الأمة الإسلامية، وإلى أداة فعّالة بيد الاستعمار في هذه البقعة المقدسة من العالم.
كل ذلك انّما جاء كنتيجة مباشرة لتخلف أمتنا. إن أمتنا ضعيفة ومفتتة ولا تملك من وسائل التكنولوجيا الحديثة ما تردع به الأعداء.
فبينما تصنع إسرائيل مختلف الأسلحة المتطوِّرة، وتحصل على ثلث دخلها من بيع الأسلحة للعالم، وبينما تقوم هذه الدويلة اللقيطة ببناء قاعدة صناعية متكاملة، وتكاد تصبح في عداد الدول الصناعية في العالم، لا نزال نحن نلهث وراء الصناعة العالمية، ونتسابق لشراء المنتوجات الجاهزة الصنع من هذه الدولة أوتلك، وحتى لبناء جسر أو مدرسة أو لتنظيف مدننا، فإن بعض حكوماتنا تستعين بالشركات الأجنبية.
لقد زرت عاصمة إحدى الدول الإسلامية الغنية بالنفط، فرأيت عمالاً أجانب يعملون في تنظيف المدينة، ولما سألت عن ذلك، أجابني أحدهم مستنكراً: شركة إنجليزية تجلب عمالاً كوريين لتنظيف بلدنا!
إن للتخلف مفهوماً واضحاً هو: أن تبيع المواد الخام، وتشتري كل شيء مصنّع. ونحن نشتري حتى المياه الغازية من الخارج. ولقد سألت مرة أحدهم: لماذا نستورد المياه الغازية معلبة من اليابان، ولانقوم بتحضيرها، بالرغم من أن العملية ليست أكثر من إذابة مسحوق في المياه المتوفرة عندنا؟ أجاب: في الواقع لا نقدر على صنع ذلك بمثل إتقانهم!(4/11)
إن هذا التخلف الذي ينخر عظامنا هو سبب كل المآسي التي نعاني منها.
إننا نلهث وراء الصناعة الأجنبية لهثاً، بينما الأجانب يفتشون في بلداننا عن أسواق وعن مواد خام، ليبيعونا كل شيء، ومادامت حالتنا في هذا المستوى من السوء فلابد أن ننتظر المزيد من إستكبار المستكبرين علينا، واستهتارهم بحقوقنا.
فما الذي ينقصنا عن الشعب الياباني الذي لم يملك غداة إنتهاء الحرب العالمية الثانية إلاّ ركام المدن المهدمة والمصانع المدمرة بالاضافة إلى مئات الألوف من القتلى والجرحى، لكنهم نهضوا من كبوتهم وشقوا طريقهم بعزيمة صادقة حتى غزت صناعتهم اليوم أسواق العالم؟
ولقد كان معدل دخل الفرد الياباني بعد الحرب مباشرة لا يزيد على ثلاثمائة دولار سنوياً، اما الآن فإن دخل الفرد في السنة(1980- 1981) قفز إلى اكثر من اثني عشرة آلاف دولار سنوياً.
هذا مع ان اليابان بلد مستعمَر ولا تزال أراضيه تحت الاحتلال العسكري الإمريكي.
وكذلك ألمانيا، التي تعتبر اليوم من أقوى الدولة الأوربية في الإقتصاد، هذه الدولة التي خرجت من الحرب العالمية الثانية وهي تحمل ذكرى عشرة ملايين قتيل خسرتهم، ولا تملك إلاّ أنقاضاً لحضارة سادت ثم بادت.
إننا ومع ما نملك من موارد اقتصادية، وأراضٍ واسعة، وموقع جغرافي متميز، ترى أن دويلة الصهاينة تعربد في المنطقة دون أن يرد عليها أحد من الجهات الرسمية بأي رد، اللهم إلاّ عربدة إعلامية فارغة.
إسرائيل تعربد عبر طائراتها المتطورة حيث تقصف المدنيين هنا وهناك، وتقتل الأطفال والنساء والشيوخ، وفي مقابل ذلك ترى المؤتمرات الرسمية تلو المؤتمرات، والتصريحات تلو التصريحات، والمؤتمرون والمصرحون هم أول من يعلم انهم غير صادقين، لأنهم حينما يصرّحون بتصريحات ضد العدو الصهيوني، فإنه يتعاونون معه من خلف الستار.
كيف نحقق التقدم الحضاري؟
إن الإسلام هو المنهاج الذي جاء لكي ينقذنا من تخلفنا كما أنقذ آباءنا من قبل. ولكن مع الأسف فإن هذا الجانب مهمل عادة في أحاديث المؤمنين وتوجهاتهم، وهذا غير صحيح لأن هناك تطلعاً كامناً في نفوس الشعوب الإسلامية النامية يدعوهم إلى اللحاق بركب الحضارة.
إن أعدائنا يحاولون أن يسرقوا هذا التطلع، وأن يجيِّروه في سبيل مصالحهم، وذلك بالكذب على شعوبنا، فمرة يأتون إليهم بنظام الرأسمالية ويقولون هذا النظام سوف يجلب لكم التقدم والحضارة، ومرة يأتون لهم بالنظام الاشتراكي ويدّعون أنّه الوحيد القادر على رفع التخلف والحرمان.
انهم يكذبون ليسرقوا تطلعنا، ويستغلوا جهلنا وقلة وعينا.
لذلك يجب على المفكرين الإسلاميين أن يركزوا على هذه المسألة، ويبينوا أن سبب تخلفنا، بالاضافة إلى الاستعمار والثقافات الدخيلة، هو بُعدنا عن ديننا وقيمنا، وفهمنا الخاطىء له.
الإسلام هو دين التقدم والحضارة، وهناك عدة عوامل يوفرها الإسلام لتحقيق ذلك:
أولاً: فك الأغلال النفسية والتحرر من الأغلال الاجتماعية.
فالإنسان بطبيعته إذا تحرر من أغلاله يصبح نشيطا وبنّاءً وفاعلا في الحياة، ولكن الأغلال التي يخلقها الجهل والجاهلية والعقد النفسية عند الإنسان هي التي تمنع إنطلاق البشر، والإسلام يفك هذه الأغلال الواحد تلو الآخر، يقول ربنا:
?وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ? الأعراف،157
فهو يضع عنهم غلّ الإتكالية وانتظار الآخرين.. يضع عنهم الاعتماد على الجن والخرافة والأسطورة وما أشبه من الأغلال الثقافية، ويحررهم من قيود الارتباط بالاشخاص على حساب المبدأ. فاذا قال لك الآخرون: توقّف ولا تتحرك. فلا تسمع لهم، وإنّما إتبع منطق الحق.
هذه الأغلال وكثير غيرها يفكها الإسلام عن الناس ويدعهم ينطلقون ويتقدمون.
ثانياً: التمحور حول العمل الصالح.
إن الإسلام يعطي العمل الصالح القيمة الاساسية ويجعله محور التنافس في المجتمع. ففي أكثر من مائة وعشرين موضعاً، يؤكد القرآن الحكيم على الربط العضوي بين الايمان والعمل الصالح، ويصرح بأن الذين يرثون الأرض هم الصالحون.
والصلاح ليس شيئاً جامداً، وإنّما هو حركة وعمل في الاتجاه الصحيح. وهو ليس فقط في أمور الدين كالصلاة والصيام والزكاة والحج، وانّما كل عمل يحكم العقل والدين بصلاحه، فبناء المساكن صلاح، وتعبيد الشوارع صلاح، وإقامة المصانع صلاح، وزراعة الأرض صلاح، وكل ما كان من شأنه عمارة الأرض فهو عمل صالح.
ومن جهة أخرى فان الإسلام يحارب العمل الفاسد، ويهاجم المفسدين بعنف شديد ويتوعدهم بأشد العذاب، يقول تعالى:
?إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ? المائدة،33
ويقول ربنا:
?وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ? الأعراف،56
ثالثاً: الاهتمام بالعلم .
فالعلم هو قاطرة التقدم، وعلم الإنسان هو سلاحه ضد الطبيعة، وهو الذي يعطيه القدرة على تسخيرها. وكلمة العلم والعلماء لا تعني فقط العلم بالدين، بالرغم من أن علماء الدين في الإسلام لهم ميزتهم الخاصة بهم، إلا أن العلم بصفته الشاملة هو الذي يؤكد عليه الإسلام، بدليل أنّه يقول على لسان نبينا العظيم:
(اطلبوا العلم ولو بالصين فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم) .
فهل كان الفقه في أيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدرس في الصين، أم كانت هناك العلوم المتنوعة؟ .
رابعاً: علمية العمل وعملية العلم .
إن العلم ينبغي أن لا يبقى غريباً وانّما يصبح موجها للعمل. والعمل ينبغي أن لا يكون أعمى وإنّما يتبصّر بالعلم.
خامساً: التعاون .
يأمر الإسلام بالتعاون، ويسن أنظمة من أجل التعاون البنّاء، ويؤكد على أخلاقيات وآداب تقرّب الأفراد إلى بعضهم لتسبب تعاونهم ولتتكامل فعالياتهم.
سادساً: حذف الزوائد التي تتطفل على حياة المجتمع .
إن الإنسان إنّما يسعى وينشط في سعيه، إذا عرف أن مكاسبه التي تأتيه من وراء السعي والعمل والجهاد، ستعود إليه شخصيا بالنفع أو إلى من يريد هو أن تعود اليه.
أمّا الإنسان الذي يُسرق جهده ويُستغل سعيه، فانّه لا ينشط في السعي.
والإسلام يؤكّد عبر قوانينه الصارمة على العدالة الاجتماعية، ويقضي على الطفيليات التي تمتص حقوق الآخرين. فحينما يحدد الإسلام الرأسمال ولا يدعه يتحكم في سعي الفقراء والكادحين، كما ويحدد السلطة السياسية ولا يدعها تستغل جهود المستضعفين، ويؤكد تأكيداً شديداً على الملكية الفردية في حدود العدالة الاجتماعية، فان كل ذلك من أجل أن يقول للانسان إن سعيك يعود إليك ولا يعود إلى غيرك. وبذلك يشجعه على العمل والسعي وبذل الجهد.
وكمثل على ذلك: حكمة الميراث في الإسلام، إذ تقوم على أساس أن الإنسان لا يملك سعيه في حياته فقط، وإنّما حتى بعد مماته سوف يوِّرث سعيه أولاده أو الآخرين، وبهذا يشجع الإسلام على العمل والانتاج.
سابعاً: تحديد الطرق الصالحة للعمل .
حينما يحدد الإسلام الطرق الصالحة للعمل، يبعّد الإنسان عن الكسل والجبن والهم، وكذلك عن إقتراف المعاصي التي تسبب ضعفه وابتعاده عن الآخرين. فهو بذلك يبني المجتمع الحيوي النقي جسدياً وعقلياً.(4/12)
هذا هو البرنامج الذي يضعه الإسلام الحق، يبقى علينا أن نطبّقه بشكل سليم. إنها قضية أساسية في حياة شعوبنا النامية، لأن العالم اليوم يقف على أبواب تغييرات جذرية هائلة، وأننا لو بقينا هكذا، فإن الفجوة بين بلادنا والبلاد الصناعية تتوسع أكثر فأكثر، وقد تصل هذه الفجوة يوماً إلى حد أن بلادنا لا يمكنها أن تلحق بركب الحضارة أبداً.
إن فرصتنا الوحيدة هي التحرك الآن، برغم صعوبة هذا العمل البالغة. وربما لو كنا قبل خمسين سنة قد عقدنا العزم على اللحاق بركب الحضارة، وشددنا الأحزمة وسعينا، لكنّا قد ردمنا هذه الفجوة ولحقنا بمن سبقونا وربما تجاوزناهم.
إننا لا يحق لنا أن نتغافل عن مصيرنا ومصير الأجيال القادمة، وهذه ليست مسؤولية إجتماعية فقط، وانّما هي أيضاً مسؤولية فردية.. أي: كل إنسان يجب أن يجسد الإسلام بتعاليمه الحضارية لكي يكون رائداً في مجال تقدم بلده، ليعقد كل واحد منا العزم على أن يقلل شيئاً ما من تخلف بلده الذي يعيش فيه.
لا يكن همّ تجارنا أن يزيدوا من ثرواتهم فقط. ولا يكن همّ علمائنا ومثقفينا أن يوظَّفوا في إحدى الشركات أو الوزارات، وأن يبنوا بيتاً. ولا يكن همّ عمالنا زيادة الأجور. ولا يكن همّ حرفيينا وكسبتنا الحصول على مغانم مادية. بل ينبغي أن يكون همّ كل واحد منا أن يقدم بلده، وهذا هو العمل الصالح وهذا هو الجهاد الحقيقي في فترتنا الراهنة.
صفوة الكلام
1- إن ما نعانيه اليوم من المشاكل والمآسي في كل الأبعاد، ناجم عن التخلف المستشري في أوصال أمتنا .
2- إن أمتنا تملك الموارد الإقتصادية الكافية، والأراضي الواسعة، والموقع الجغرافي المتميز، إلا أنها لا تستطيع مواجهة العدو الصهيوني، إلا بالإعلام الفارغ .
3- وبالرغم من أن الإسلام هو المنهج الذي ينقذنا من التخلف، إلا أن هذه الحقيقة مهملة عادة في توجهات المؤمنين، من جهة وإن أعداءنا يحاولون سرقة هذا التطلع من جهة أخرى .
4- الإسلام يحارب التخلف، ويحقق التقدم والحضارة عبر العوامل التالية :
ألف: فك الأغلال النفسية والتحرير من الأغلال .
ب: التمحور حول العمل الصالح .
ج: الإهتمام بالعلم .
د: علمية العمل وعملية العلم .
هـ: التعاون .
و: حذف الزوائد الني تتطفل على حياة المجتمع .
ز: تحديد الطرق الصالحة للعمل .
===================
مراحل الحضارة
- عز وجل - ليست عملية التغيير الجذري في حياة الأمم إلاّ الاستفادة الجيدة من عامل الإرادة البشرية، ومن قدرة الإنسان على تحدي واقعه السيء .
- عز وجل - الأمة التي تعرف سرّ التغيير والإصلاح الجذريين في حياتها لا تموت أبداً .
الدورة التاريخية
إن الدورات التاريخية التي نراها عادة عبر التاريخ البشري، حيث أن الأمم تنشأ ثم تتقدم ثم تنكمش، ثم تتحدى ثم تنكسر، وقد يحدث في بعض الحالات أنها تنبعث من جديد، ثم تتقدم، ثم تنتهي. إن هذه الدورات التي غالباً ما نجدها صحيحة في تاريخ الحضارات لا تقع بطريقة واحدة في كل مكان، ولا يمكن أن نعتبرها قضية مطلقة، كالقضايا الرياضية التي قوامها القوانين المجردة والكلية، مثلاً (2×2=4 دائماً).
الدورات التاريخية ليست هكذا، وإنّما تحتفظ بالجانب الإنساني فيها وهو الجانب الإرادي المتميز، حيث أن كل عامل يؤثر في ظرف تاريخي معين تأثيراً بمقدار مختلف عن تأثيره في ظروف أخرى.
ويمكننا أن نقسم المراحل الحضارية للتاريخ بصفة عامة إلى:
أولاً: المرحلة البدائية
وهي عبارة عن وجود مجموعة من البشر، أجسادهم مجتمعة وأفكارهم متفرقة، لا يحملون رسالة ولا يطمحون لتحقيق هدف، ولا يبحثون عن تقدّم، ولا يعنيهم الاّ الحصول على ضرورات معاشهم. هذه المجموعة البشرية تبقى هكذا عبر مئات السنين، تعيش في عزلة عن العالم، كالعرب في الجاهلية، وشعوب أخرى غيرهم.
ثانياً: المرحلة الرسالية
ثم تنبعث فيها فكرة رسالية، عادة ما تكون مستوحاة من نبي بُعِثَ إليهم مباشرة من قبل الله عز وجل، أو رسالة نُقِلت إليهم عبر وسيط بشري من غير الأنبياء. وحين تنبعث فيهم هذه الرسالة، فانّها تقوم بدور إشعارهم بوضعهم المتردي الذي يتوجب عليهم تغييره، وإعطائهم رسالة هي فوق تطلعاتهم المادية الضيقة، حيث يتشبثون بها ويتمحورون حولها، ويفجرون طاقاتهم من أجل تحقيقها. وأخيراً تحدد لهم برامج ومناهج، وسلوكيات وأحكاماً وأنظمة معينة يسيرون على هداها، وهنا تنغرس النواة الأولى للمدنية التي لا تلبث أن تنمو حتى تحقق مدنية جديدة.
ثالثاً: مرحلة الإصطدام
هذه المدنية تصطدم أول ما تنمو بما حولها، من أفكار ومجتمعات صدمة عنيفة، قد تؤثر فيها تأثيراً سلبياً، فتنهزم أمام جيوش الأعداء، وتصاب بنواقص كثيرة. جاء في القرآن الحكيم:
?وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ? البقرة،155
هذه الآية تشير إلى المشاكل التي تنشأ بعد نمو الحضارة وتكوّن الأمة على أساس الرسالة.
وقد تسبب هذه الصدمة وهذا التحدي إنكماشاً في هذه المدنية حتى ليبدو، للذي يرى الصراع من بعيد، أن هذه الرسالة وهذه الحضارة التي ابتنيت عليها قد انتهت، ولم يبقَ لها فرصة للانتصار على أعدائها، وذلك بسبب الظروف الصعبة التي تعيشها، والخلافات الداخلية التي تهزها.
ولكن مع هذا الإنكماش، فإن هذه المدنية تتميز في هذه المرحلة بالشجاعة وروح الإقدام والتضحية من أجل الاهداف التي تحملها.
كما أنّها في هذه المرحلة، لا يهتم أبناؤها بالأسلحة والتنظيم والوسائل العلمية والطبيعية من أجل كسب المعركة، وإنّما يتحركون في الأرض تحركاً إرتجالياً، من أجل تحقيق أهدافها.
رابعاً: مرحلة المراجعة والتنظيم
ولكن هذه الرسالة لا تلبث أن تجدد نفسها بعد سنين قد تطول وقد تقصر، ويتجدد إيمان أتباعها بها، لأنّهم بعد أن ينهزموا شيئاً ما أمام الصعوبات والأعداء، فإنهم يعودون ليقيِّموا أوضاعهم، ويطرحوا على أنفسهم هذه الأسئلة: لماذا انهزمنا؟ وماهي الثغرات؟ وكيف نتقدم؟.
وهكذا تنبعث فيهم الروح مرّة أخرى فيتحركون، ولكن في هذه المرحلة تتميز إنطلاقتهم بعدم الاعتماد على الايمان وحده، بل يتوجه الاهتمام إلى التطوير والتنظيم، وتهيئة الوسائل، والسعي إلى زيادة الحلفاء والحصول على الأسلحة، والأخذ بكل الاسباب العلمية والمادية للبناء والتقدم، وذلك إعتباراً بما حصل لهم من دروس مُرّة، ومن إنتكاسات صعبة. وتدوم هذه المرحلة فترة طويلة نسبياً، تنمو خلالها الحضارة وتتقدم، وتحتفظ ذاكرتها بعبرها السابقة لكي لا تتكرر التجارب الفاشلة مرة أخرى.
خامساً: مرحلة التحجّر
ولكن مع إستمرار الوقت وطول الزمن، تهترىء الذاكرة الحضارية، وتنسى تجاربها تقريباً، سواء التجارب الايمانية كالشجاعة والتضحية، أو التجارب المادية التي حصلت عليها في المرحلة السابقة.
يقول ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم:
?أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ? الحديد،16
وقسوة القلب عبارة عن التحجّر، وإصابة الأمة بحالة التعب والإرهاق، فتصبح في وضع لا تعطي فيه ولا تأخذ، ولا تتأثر بحقائق الحياة، ولا تستجيب للعوامل الطبيعية والسنن الصحيحة، فتصبح مثل الحجر الذي لا يتفاعل مع ما حوله.(4/13)
والمقصود بالتعب والإرهاق هنا، والذي يعبِّر عنه القرآن الحكيم بـ "قسوة القلب" هو التبلد الفكري، والتوقف الذهني، وحسب تعبير بعض المؤرخين: توقف الابداع في عقل الحضارة.
سادساً: مرحلة التغني بالأمجاد
بعد هذه المرحلة، تبدأ مرحلة الصراعات الداخلية، حيث الأنانيات، والنزاعات القومية، والنعرات العنصرية والطائفية تعصف بتلك الحضارة. وهي مرحلة صعبة، تتشرذم فيها عناصر الحضارة، وربما تصل إلى مشارف النهاية، وبالتالي يسقط الكيان، ويتفتت المجتمع، وتنسى الأفكار.
إلاّ انّ الغرور والكبرياء الناشىء عن الأمجاد السابقة يبقى، لأنّ الأمجاد هي آخر ما ينساها الإنسان، حيث تتجسَّد في إنجازات بعضها ظاهرة كالآثار المعمارية، وبعضها خفيّة كالأحداث التاريخية المروية التي لها خطها في تفسير شيء يسميه بعض المؤرخين بطيف الحضارة، أي آخر مرحلة من إنتهاء هذه الحضارة.
إنّ الحالة العاطفية التي تنبع من الانتماء إلى الأمجاد والمكاسب التاريخية والافتخار بها، تعود لتصنع شيئاً ما، وعادة ما يكون ذلك الشيء دولة كبيرة ظاهراً، أو ألفاظاً ضخمة، ولكن دون أن يكون فيها أي نوع من الابداع والتطوير أو العطاء أو حمل رسالة حقيقية، وانّما هي فقط طيف الحضارة أو حلمها. هذه المرحلة غالباً ما تكون قصيرة الأمد، وبعدها ينتهي كل شيء، وبانتهائها، تذهب آخر فرصة لهذه الحضارة في البقاء.
إنّ كل الحضارات عبر التاريخ، وحسب ما يذكر المؤرخون، مرت بهذه المراحل، ولكن هل هذه المراحل حتمية وأنها دائماً بشكل واحد؟
كلا، إنّها ليست حتمية.. لأن الحضارة يمكنها أن تستوعب تجارب الحضارات الأخرى في أول مراحلها، فتضم إلى روح التضحية والشجاعة والاقدام، الأخذ بالعوامل المادية والسنن الطبيعية التي توصلت إليها الأمم السابقة، ولا تدع مجالاً للغرور أن يصيبها وبذلك يمكنها أن تبقى فترة أطول.
أثر الغرور في الحضارة
وهنا لا بأس أن أعرض تجربتين لبيان أثر الغرور في الحضارة، دون أن أحاول المقارنة الدقيقة، لان الامثلة التي أضربها ليست حضارات وإنّما هي دول، ولكن يمكننا أن نسوقها أمثلة على واقع الحضارات.
المثال الأول: ألمانيا في عهد (بسمارك) حيث كان رئيساً للوزراء في (بروسيا) فجعل من هذه الولاية نواة لدولة إتحادية كبيرة في أوربا وهي ألمانيا الإتحادية، بفضل جهوده، وبفضل نشاط وحيوية الشعب البروسي.
إلاّ أن بسمارك لم يلبث أن اغترّ بالسكك الحديدية الجديدة، والأسلحة الحديثة، والجيوش المنظمة، والطاعة التامة، والانضباط العسكري الكامل، والتقدم الاقتصادي الذي وصلت اليه ألمانيا الاتحادية، فقام يضرب ذات اليمين وذات الشمال، وخاض حروباً عديدة إلى أن ضعفت ألمانيا سريعاً وأصبحت دولة عادية، بينما كان بالامكان أن تصبح لفترة طويلة مركز الثقل الحضاري في أوربا.
أما المثال الثاني فهو الولايات المتحدة الأمريكية. فقد عاشت الولايات المتحدة فترة طويلة نسبياً بعد استقلالها ومزدهرة، والسبب في ذلك أنّ الشعب الأمريكي رفض كل المحاولات التي قامت لإقحامه في الحروب، والتدخل في شؤون الدول الأخرى. فقد رفض وبكل شدة في سنة 1913م النظرية التي دعت إلى إحتلال المكسيك، وقد كان سبب إنتصار (روزفلت) على منافسه الانتخابي هو رفعه شعار إبقاء أمريكا بعيدة عن مشاكل العالم، وقد واجه معارضة من الشعب الامريكي عندما إنحرف عن هذه السياسة، وقام بمحاولات عديدة لادخال الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية.
لقد كان الامريكيون يعلمون ماذا يعني التدخل العسكري هنا وهناك، وتحمّل مشاكل (لا ناقة لهم فيها ولا جمل) وكانوا يعرفون بالضبط ماذا يعني ذلك، وكانت ذاكرتهم لا تزال تحتفظ بالتجارب الأوروبية القاسية، لأنّهم أوروبيون إنتقلوا إلى أمريكا، فقرروا ألا يعيدوا التجربة هناك، وظلوا فترة طويلة هكذا، إلى أن تم إدخالهم في الحرب العالمية الثانية وبعدها أصبحوا ورثة الاستعمار القديم، وتدخّلوا في أكثر بقاع العالم، والآن هم يعانون مشاكل معقّدة في كثير من المجالات بسبب هذه التصرفات، وخصوصاً بعد الحرب الفيتنامية، فقد أصيب الشعب الأمريكي بهزة عميقة في كيانه الداخلي، ولا أعتقد أن بأمكان هذا الشعب أن ينسى هذه الهزة.
لقد كان الشعب الأمريكي في فترة، من الشعوب التي لا تقهر، فموارده كبيرة، وقواه عظيمة، وإنجازاته التكنولوجية باهرة. ولكن ثبت الآن بأن الأمريكيين ليس فقط يُقهرون وإنّما يتراجعون أيضاً.
الإرادة ودورها في وقف الإنهيار
وفي حالة هبوط روح الحضارة، والمدنية، وتكوّن قسوة القلب، أي تحول الحضارة إلى حقيقة جامدة، يمكن أن يلعب الفكر والثقافة والإرادة والقيم دوراً هاماً. فبعد أن تقسو القلوب، وتتحول النظرات الرسالية إلى توجهات مادية، ويحين وقت الإنهيار فإنّ بالامكان، وبتحول جذري داخل الحضارة وبهمة عالية من بعض أبنائها، أن يوقفوا إنهيارها وتدهورها. مثل ما حدث مع قوم يونس الذين يقص علينا القرآن قصتهم:
?فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ? يونس،98
فقد كان قوم يونس يعيشون في آخر لحظات حضارتهم، ولكنهم تداركوا التدهور الذي كان يرتقب أن ينتهي بصاعقة من السماء، بعد أن هجرهم نبيهم، ولاحت نذر العقاب الشديد، فلجأوا إلى علمائهم وسمعوا نصيحتهم ثم غيّروا مسيرتهم، وأوقفوا بذلك الإنهيار المحتوم.
هذه قضية هامة وفريدة في تأريخ الأمم، وأهميتها نابعة من أنها تدل على أن إرادة الإنسان أقوى من مسيرة الزمان وظروفه.
كيف نتحدى الإنهيار؟
والسؤال الكبير الذي نواجهه في نهاية البحث هو: هل هناك عامل يجعل الأمم تقاوم الإنهيار، ويُغذي فيها محاولات الإستمرار في الحضارة وتحدي عوامل السقوط؟
هل هي الصدفة؟ هل هو القضاء والقدر؟ أم أن هناك عاملاً آخر يمكن التخطيط له والإستفادة منه؟.
نحن نعتقد إن عامل الإرادة البشرية يلعب دوراً جذرياً وأساسياً في هذا المجال، ولعامل الإرادة قوانينه وأنظمته الذاتية والبعيدة عن تأثير العوامل الأخرى.
إن إثارة الإهتمام في المجتمعات البشرية بعامل الإرادة، ودوره الأساسي في الحفاظ على المسيرة الحضارية، يعطيها القدرة على الإستفادة من هذا العامل العظيم الذي يُعتبر المنطلق الرئيسي لحركات التغيير والإصلاح الجذريين في كل منعطفات التاريخ.
فعملية التغيير الجذري ما هي إلاّ الإستفادة الجيّدة من عامل الإرادة البشرية، ومن قدرة الإنسان - النابعة من إرادته الحديدية- على تحدي واقعه الذي قد يكون متجهاً نحو الإنهيار، ولكن ليس بالعناصر المادية، وإنما بالأفكار الروحية والقيم.
والأمة التي تعرف سرّ التغيير والإصلاح الجذريين في واقعها لا تموت أبداً، لأنه كلما ضعفت العوامل المادية في هذه الأمة، تدخَّل العامل الإرادي ليعوِّض عن النقص الناجم عن ضعف تلك العوامل، وليعطي الأمة إندفاعاً جديداً نحو الأمام، وذلك عن طريق إثارة روح التمسك بقيم الجهاد والعطاء والإيثار والتضحية.
وربما نستطيع القول أن الأمة الإسلامية هي من أكثر الأمم التي عرفت حتى الآن سرّ عملية التغيير الجذري وأهميتها في مسيرتها الطويلة. والمذهب الرسالي لأهل البيت عليهم السلام هو ذلك السرّ الذي يحمل في طيّاته أعلى درجات الإرادة الرسالية للتغيير، وأسمى مراتب العطاء والتضحية والإيثار والجهاد.
صفوة الكلام(4/14)
1- ليست الدورات التاريخية التي نشاهدها في التاريخ البشري قضية مطلقة، بل للجانب الإنساني المتمثل في الإرادة المتميزة، دور فعّال فيها .
2- وتتلخص دور المراحل الحضارية فيما يلي :
ألف: المرحلة البدائية .
ب: المرحلة الرسالية .
ج: مرحلة الإصطدام .
د: مرحلة المراجعة والتنظيم .
هـ: مرحلة التحجّر .
و:مرحلة التغني بالأمجاد .
3- في حال هبوط الروح الحضارية، فإن بإمكان الفكر والثقافة والإرادة والقيم أن تلعب دوراً هاماً في ايجاد تحوّل جذري وبهمة عالية من بعض أبنائها .
4- إن إثارة الإهتمام في المجتمعات البشرية بعامل الإرادة، ودوره الأساسي في الحفاظ على المسيرة الحضارية، يعطيها القدرة على الإستفادة من هذا العامل العظيم الذي يعتبر المنطلق الرئيسي لحركات التغيير والإصلاح الجذريين في كل منعطفات التاريخ .
====================
أنظمة التطهير الذاتي في المجتمع
- عز وجل - تعيش المجتمعات الحرة فترة أطول لأن الحرية تساعد على امتصاص النقمة، وتصحيح المسير، وتصفية الرواسب .
- عز وجل - العلم حياة القلوب، وهو يؤدي إلى تجديد دم المجتمع، وتصفية رواسب الجهل والغفلة عنه .
المجتمع الإسلامي مجتمع يطهّر بعضه بعضا كماء النهر، فهو مجتمع شاهد على نفسه وشاهد على غيره، والأنظمة الإسلامية التي تجعل هذا المجتمع يطهر نفسه بنفسه كثيرة، سنشير إليها في السطور القادمة، ولكن علينا -قبل ذلك- أن نشير إلى أن عوامل الزمن والغفلة وتراكمات الجهل، وحالات الإرهاق والتعب وما أشبه قد تعترض مسيرة المجتمع فتبعده عن قيمه وعن الإستعداد لمواجهة التحديات.
لذلك نرى أن الكثير من المجتمعات في التأريخ لا تعيش إلا مدة قصيرة قد لا تتجاوز نصف قرن من الزمان، وبعد ذلك تبدأ رحلة الإنهيار.
وإنما تموت هذه المجتمعات لأنها تفقد عامل الديمومة الأساسي، وهو وجود نظام لتصفية الرواسب السلبية التي تخلفها المشاكل التي تعتريها، كالمريض الذي يشكو من تعطل كليته عن العمل، فلا يمر دمه بعملية تصفية تبعد عنه السموم، لذلك لا يستطيع هذا الإنسان أن يعيش طويلا، لأن الدم سيسمم كل الجسم، وهكذا المجتمع، فهو يتعرض بسبب الصراعات والتناقضات وظروف الجهل والغفلة إلى تراكم السموم في عروقه، وهذه السموم يجب أن تخرج عبر قنوات معينة بعيدا عن جسم المجتمع، حتى لا تتسبب في موته.
فالمجتمعات الديكتاتورية - مثلاً - تنفجر مرة واحدة، والسبب هو أن رواسبها تبقى في عروقها، إذ لا يوجد فيها جهاز تصفية لنقل هذه الرواسب بعيدا عن المجتمع، فتتجمع هذه الرواسب في المجتمع وتقضي عليه مرة واحدة، تماماً كالجلطة الدموية التي تفاجئ الفرد فتقتله.
أما المجتمعات التي تملك نوعا من الحرية، فهي تعيش فترة أطول، لأن وجود الحرية يساعد على إمتصاص النقمة وتصحيح المسيرة وتصفية الرواسب السامة وتنقية حياة المجتمع.
أنظمة التصفية
والإسلام يؤكد على مجموعة أنظمة تساعد على تجدد دم المجتمع وتعيد إليه حيويته ونقاءه، ومن هذه الأنظمة:
أولا: نظام تعليم الجاهل، وتحمل العلماء مسؤوليتهم.
يؤكد الإسلام على العلماء أن يتحملوا مسؤولية دورهم الارشادي والتوعوي، وأن يبينوا للناس علمهم بكل الأساليب الممكنة، ذلك لأن العلم حياة القلوب وهو الذي يجدد دم المجتمع، ويسبب تصفية رواسب الجهل والغفلة عنه. يقول الحديث المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وآله:
(أيما رجل آتاه الله علما فكتمه وهو يعلمه لقي الله عزوجل يوم القيامة ملجما بلجام من نار) .
فإذا كنت تعلم حقيقة واحدة فكتمتها ولم تنشرها بين الناس، فإنك سوف تقف بين يدي الله ملجماً بلجام من نار.
وفي حديث آخر يقول رسول الله صلى الله عليه وآله:
(تناصحوا في العلم، فإن خيانة أحدكم في علمه أشد من خيانته في ماله، وإن الله مسائلكم يوم القيامة) .
فحينما يكون لأحد من الناس عليك مال، ثم لا ترده إليه فإن تلك خيانة عظيمة، أما إذا كنتَ عالماً، وكان الناس بحاجة إلى علمك، وامتنعتَ عن بذله لهم، فإن هذه خيانة أعظم لأن ضررها على المجتمع أكبر.
فالعلم ليس حكرا على أحد، وإنما هو للناس جميعا، والعلم أمانة عند صاحبه يجب أن يؤديها إلى أهلها، ولا يحتفظ به لنفسه وإلا أعتبر خائنا، ومرتكبا للظلم بحق جميع أفراد المجتمع.
ومع إن الإسلام يؤمن بتنظيم نشر العلم عبر طرق ووسائل مثل الجامعات، والمدارس، والمساجد، والمجالس العلمية، والحلقات الدراسية، إلا أنه يؤمن أيضا بأسلوب آخر لنشر العلم، وهو أسلوب النشر الذاتي، أي أن يكون العالِم كالمصباح ينشر نوره في كل مكان بشكل ذاتي، ودون حاجة إلى دافع خارجي لنشره. وإذا إلتزم المجتمع بمنهج قيام كل شخص عالِم بنشر علمه في كل مكان وبكل وسيلة ممكنة، فلا يبقى في المجتمع الإسلامي جاهل واحد، لأن العلم يتدفق إليه من جميع جوانبه، وبهذا الأسلوب يحافظ الإسلام على نقاء المجتمع من شوائب الجهل.
ثانيا: نظام التذكير
إن تقادم الزمن على الإنسان ينسيه معلوماته، فيخفت نور معرفته، ويكون بحاجة ماسة إلى التذكير لتنشيط معارفه وإحيائها من جديد، وقد كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يستخدم أسلوب الوعظ حتى مع كبار أصحابه، كعلي ابن أبي طالب عليه السلام وأبي ذر وابن مسعود وغيرهم، وكان صلى الله عليه وآله يحدِّث الواحد منهم - بين الحين والآخر - ويوصيه بأمور كان قد عرفها سابقاً، ويطرح عليه قضايا كان قد أحاط بها علماً وفقهاً من ذي قبل، وقد جاء في القرآن الحكيم أمر صريح له بذلك:
?فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ? الغَاشِيَة،21-22
ثالثا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
فللإنسان شعور فطري بضرورة التوافق مع الناس المحيطين به. فهو يلبس ما يلبسه الآخرون، ويتحدث باللغة التي يتحدثون بها، ويقوم بالأعمال التي يراها الناس صحيحة. والإسلام يثير هذا الحس، ويوجهه باتجاه تطبيق القيم السماوية.
إنك إذا عملت عملا سيئا، ثم خرجت إلى الشارع فرأيت الناس ينظرون إليك شزرا، وكل من رآك يؤنبك، ثم عدت إلى البيت لتسمع نفس الكلمات من زوجتك ومن والديك وإخوانك، فمن المستحيل أن تكرر نفس العمل، وهذا هو تأثير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد استخدم الرسول صلى الله عليه وآله هذا الحس، كعقاب رادع لبعض المتخلفين عن الجهاد.
حدث أن ثلاثة من الصحابة وهم كعب بن مالك الشاعر، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أميّة الرافقي تخلَّفوا عن الجهاد مع رسول الله في غزوة تبوك، يقول كعب: فلما وافى الرسول - أي عاد إلى المدينة - إستقبلناه نهنيّه بالسلامة، فسلّمنا عليه فلم يرد علينا السلام وأعرض عنا، وسلّمنا على إخواننا فلم يردّوا علينا، فبلغ ذلك أهلونا فقطعوا كلامنا، وكنا نحضر المسجد فلم يسلِّم علينا أحد ولا يكلّمنا، فجئن نساؤنا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقلن: قد بلغنا سخطك على أزواجنا، أفنعتزلهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا تعتزلنّهم، ولكن لا يقربونكن..
وهكذا قاطعهم الجميع إنطلاقاً من واجب النهي عن المنكر حتى شعر المتخلّفون بالضيق الشديد، يقول القرآن الحكيم في وصفهم:
?وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الاَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لامَلْجَاَ مِنَ اللّهِ إِلآَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ? التوبة،118(4/15)
لأنهم وجدوا مقاطعة إجتماعية، ولأن إحساسهم الذاتي بضرورة التوافق الإجتماعي مع الآخرين أرهقهم، فاضظروا للعودة إلى الطريق الإجتماعي وتابوا فتاب الله عليهم.
وهكذا المجتمع الإسلامي اليوم، فحينما ينحرف أحد عن القيم الإسلامية، فإن على الآخرين أن يؤنبوه و يظهروا عدم الرضا عنه، إنطلاقاً من واجب النهي عن المنكر، حتى يدفعوه بالاتجاه الصحيح.
رابعا: العمل وفق السنة
يؤكد الإسلام على ضرورة العمل وفق المسيرة العامة للمجتمع الإسلامي والتي ترسمها سنّة الرسول وأهل بيته، أي الإبتعاد عن البدعة التي هي حاجز أمام الإنسان يحجب عنه نور الحقيقة، وفي الحديث المعروف عن رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول:
(عليكم بِسُنَّةٍ، فعمل قليل في سُنَّة خير من عمل كثير في بدعة) .
فالإتجاه العام للمجتمع الصالح لابد أن يُحفظ، ولابد أن يتوافق الإنسان مع ذلك الإتجاه وأن لا ينحرف عن المسيرة السليمة للمجتمع.
خامسا: مسؤولية الإنسان في المجتمع
ويؤكد الإسلام على ضرورة تحمل الإنسان مسؤوليته في المجتمع، يقول الحديث الشريف:
(كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) .
والمسؤولية الإجتماعية، هي غير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إنها تعني قيام الإنسان بدور الأب بالنسبة إلى الأسرة، وبدور المدير بالنسبة إلى المصنع، وبدور القائد بالنسبة إلى المجتمع، فإن القائد لا يكتفي بالنصح والكلام فقط، وإنما يصنع واقعا. فإذا رأى مجتمعه عاجزاً إقتصادياً، فانه يضع برنامجا إقتصاديا لكي يرفع عن مجتمعه العجز، وحينما يخشى الأب على إبنه من الإنحراف فإنه يزوجه، والزواج ليس كلاماً وإنما هو عمل، وهكذا يفرض الإسلام على أبناء المجتمع الإسلامي أن يتحملوا مسؤوليتهم تجاه الآخرين.
سادساً: القوانين الرادعة للمنحرفين
حينما يصل الإنحراف إلى رأس المجتمع أي إلى القيادة فحينذاك تجب النهضة للتغيير، والنهضة الرسالية تعني أنك حينما تجد إنحرافا في المجتمع فعليك أن تسعى لإصلاحه بالكلمة الشجاعة، فإن لم تنفع فبالتخطيط الجهادي العملي، حتى لو أدى ذلك إلى إستشهادك، لأن ذلك سيحدث موجة من المقاومة والتحدي داخل المجتمع.
إن القوانين الإسلامية التي تقول بأن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر، وأن الدفاع عن المظلومين والمستضعفين واجب الإنسان المسلم، كما جاء في الحديث الشريف الذي رواه الإمام الحسين عليه السلام عن جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
(من رأى سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، ثم لم يغيِّر بقولٍ ولا فعل، كان حقيقاً على الله أن يدخله مدخله) .
إن هذه القوانين إنما هي لأجل مواجهة الإنحراف في المجتمع الإسلامي، وإصلاح مسيرته العامة.
وفي المجتمع المنحرف لا يحدث أن ينطلق كل الناس لمواجهة الإنحراف، وانما تبدأ المواجهة من بعض العناصر الذين يقومون بتشكيل تجمعات صغيرة، تتحمل هذه المسؤولية، ثم تعم المواجهة والتحدي كل شرائح المجتمع.
وهكذا، فإن المجتمع الذي توجد فيه فئة يقاومون الإنحراف ويواجهونه بالتحدي الصارخ، يوجد فيه حس إجتماعي عام، على أساسه يقوم كل الناس بواجبهم فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويتحملون مسؤوليتهم الإجتماعية، ويقومون بإرشاد الجاهل، وتذكرة الغافل، إن هذا المجتمع سوف يكون مجتمعا ذاتي التطهير، يتبادل التواصي بالحق وبالصبر، فكل إنسان يوصي الآخرين ويستمع لوصية الآخرين، وكل واحد يشجع الآخر على عمل الخير، حتى ليشبه المجتمع بناء يستند كل حجر فيه على غيره ولا يقوم بمفرده.
واذا وجدنا اليوم مجتمعا ضعيفا لا يتفاعل مع نفسه ومبادئه الأصيلة، ولا يواجه أعداءه، فلابد أن نعلم أنه يفتقر إلى تلك الأنظمة التي وضعها الإسلام من أجل تنقية المجتمع، وتطهيره من الرواسب السلبية القاتلة.
صفوة الكلام
1- المجتمع الإسلامي شاهد على نفسه وشاهد على غيره، ومجتمع يطهِّر بعضه بعضاً .
2- الكثير من المجتمعات لا تعيش إلاّ فترة قصيرة، لأنها تفقد عامل الديمومة الأساسي وهو: نظام لتصفية الرواسب .
3- يؤكد الاسلام على الأنظمة التالية التي تساعد على تنقية حياة المجتمع :
ألف: نظام تعليم الجاهل، وتحمل العلماء مسؤوليتهم .
ب: نظام التذكير .
ج: نظام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
د: العمل وفق السنة .
هـ: مسؤولية الإنسان في المجتمع .
و: القوانين الرادعة للمنحرفين .
4- إن المجتمع الذي يفتقر إلى الأنظمة الإسلامية للتطهير الذاتي من الرواسب السلبية، هو مجتمع ضعيف لا يتفاعل مع نفسه ومبادئه الأصيلة، ولا يواجه أعداءه
=====================
التطلع لنشر العدالة في الأرض
- عز وجل - كلما كانت همة الإنسان وتطلعاته أعلى، كلما كانت حركته وحيويته وأمكاناته أكبر .
- عز وجل - المجتمع الإسلامي، مجتمع رسالي مسؤول يتحسس المسؤولية تجاه كل الشعوب المضطهدة .
الإنسان إبن أهدافه
الإنسان كفرد، كتلة ضخمة من الطاقات الكامنة، وحينما يتصل بإنسان آخر تتضاعف طاقاته وإمكاناته، وهكذا يملك المجتمع إمكانات هائلة لا يتصور مداها. وعملية البناء الحضاري إنما هي تفجير طاقات الإنسان، كفرد وكمجتمع، وتحويلها إلى إمكانات فعلية.
ونتساءل: أليس إنسان اليوم هو إنسان ما قبل ألوف أو ملايين السنين، حينما هبط أول انسان على وجه كوكبنا، فلماذا بقي أحقابا عديدة، يعيش بشكل بدائي ولم يفجر طاقاته وإمكاناته وبقي يخشى الحيوانات المفترسة؟
والجواب: لأنه لم يكن يجد الحاجة إلى ذلك في نفسه، فقدرات الإنسان إنما تتفجر حينما يجد صاحبها الحاجة الفعلية إليها. فالحاجة أمّ الإختراع، وأم العلم، والإنسان لا يتحرك باتجاه شيء إلا حينما يكون بحاجة إليه، فاكتشافه للقمح كان بسبب حاجته إليه ليسد به جوعه، وإكتشافه لطريقة بناء البيوت كان بسبب حاجته إليها ليحتمي بها من الحر والبرد والشمس والرياح، واكتشافه للسلاح كان بسبب حاجته إليه ليدافع عن نفسه ضد العدو، وهكذا..
إن حاجات بعض الناس في الحياة محدودة، لذلك حينما يصلون إليها، تنتهي دوافعهم النفسية للتقدم. فهم لا يريدون من الدنيا إلا العفاف والكفاف.. قرصين من الخبز، وطمرين من اللباس، وشبرين من الأرض. إن مثل هؤلاء الناس لا يكونون عادة نشطين، لأنهم يعملون من أجل أن يوفروا هذه الحاجات البسيطة، التي لا يهدفون تحقيق أمور أكبر منها في الحياة، وحينما يحصلون عليها، تتجمد طاقاتهم التي تحولت إلى إمكانات فعلية.
الحضارات وليدة الحاجة
والحضارات في التاريخ إنما نمت في البلاد الباردة جدا، أو في البلاد التي كانت قريبة من الغابات حسب ما يذكره المؤرخون، وبالتالي حيث كان الخطر فيها على الإنسان كبيرا. والسبب لأن شعور الإنسان بالخطر كان يولد لديه حاجات شديدة تدفعه إلى العمل.
اما في المناطق ذات المناخ المعتدل، والتي كان الإنسان يجد فيها حاجاته ميسّرة كالطعام والمأوى والراحة، لذلك لم يكن يخشى من أخطار أو من ظروف الطقس الصعبة، فإنه لم يكن يجهد ليقي نفسه منها.
ان الإنسان الذي يكتفي بلقمة العيش ومكان يرتاح فيه، لا يمكن أن يكون بانيا لحضارة، لأنه لا يجد في نفسه حاجة إلى التحرك. أما الإنسان الذي يحمل هدفا كبيرا في حياته، تراه يتحرك ليلا ونهارا، ويجتهد ويستنفذ طاقاته، ويفجر إمكاناته، من أجل الوصول إلى هدفه.
ولذلك تقول الحكمة المأثورة:
(المرء يطير بهمته كما يطير الطائر بجناحيه).(4/16)
فكلما كانت همة الإنسان وتطلعاته عالية، كلما كانت حركته وحيويته وإمكاناته أكبر. وهذه هي المعادلة الحضارية في العالم.
تطلع المجتمع الرسالي
ومن السمات الأساسية للمجتمع الإسلامي التي تجعله مجتمعا حيويا، هي تحمّله لمسؤولية نشر العدالة على وجه البسيطة كلها، وهداية البشرية جمعاء إلى الطريق السوي، حيث الفوز بالسعادة في الدنيا والآخرة.
فالمجتمع الإسلامي هو مجتمع رسالي مسؤول، يتحسس المسؤولية تجاه كل إنسان ينام ليله طاويا على جوع، وتجاه كل إنسان يقض البرد مضجعه، وكل إنسان يلفه الخوف والحرمان، وتجاه مآت الملايين من البشر الذين يعيشون الآن في العالم دون مستوى التغذية التي يحددها الطب، وتجاه كل الشعوب المضطهدة سياسياً، والمحرومة إقتصادياً، التي تتعرض للقسر والإرهاب من قبل أصحاب القوة والثروة في العالم، وتُنهب ثرواتها بانتظام.
إن هذا الشعور بالمسؤولية لدى المجتمع الإسلامي يتحول إلى حاجة نفسية وهدف إجتماعي. وحينما تكون الحاجة النفسية عميقة، والهدف الإجتماعي واضحا، تتحرك الإمكانات من القوة إلى الفعل، ويتحرك المجتمع إلى تحقيق أهدافه، وبهذه المعادلة يتحول المجتمع إلى مجتمع ديناميكي حيوي، يحث الخطى في طريق بناء حضارته المنشودة.
إن المجتمع الإسلامي يحمل رسالة، ورسالة هذا المجتمع ليست عنصرية أو حزبية أو قومية.
إنه لا يفكر في نفسه كيف ينتصر على المجتمعات الأخرى لكي يعيش هو أفضل حياة مادية، ويحتفظ بسلطته عليهم.
إنه يحمل قضية مستضعفي العالم، ويندفع نحو تحرير الإنسان من الجهل والعبودية، ومن نوازع الحقد والحسد، ودواعي الكسل والفشل، وأغلال المادة، ثم يسعى من أجل عمارة الارض وتحقيق سيطرة البشر على موارد الطبيعة ليستخدمها لمصلحته. ومن أجل مكافحة الفقر والضعف والإستسلام لتحديات الطبيعة.
وما أوامر الجهاد، وتكريم الشهادة، ومفهوم الإنفاق والتضحية في الإسلام، إلاّ جزءا من التركيبة الداخلية لهذا المجتمع، فالإسلام يبني المجتمع بحيث يكون قادرا على حمل هذه الرسالة العظيمة، ومن دون ذلك لا يمكن للمجتمع الإسلامي أن يحقق أهدافه الرسالية الكبرى.
إن الإسلام يذكر أمر الجهاد والقتال في سبيل الله في أكثر من سبعين مورداً في القرآن الحكيم، بينما يشير إلى أمر الشهادة والتضحية في سبيل الله في عددٍ آخر من الآيات الكريمة، كما يتحدث في آيات اُخرى عما يرتبط بذلك من الإعداد والثبات والإستقامة.
وبالتالي فإن آيات قرآنية كثيرة تتحدث مباشرة أو بصورة غير مباشرة عن الجهاد والقتال، وعن التضحية والإنفاق، وعن تحمل مسؤولية المستضعفين في الأرض، وكلها تهدف إلى بناء المجتمع الإسلامي على أساس حمل هذه الرسالة العالمية، رسالة إنقاذ الإنسان من أغلاله الإجتماعية والنفسية، ودفعه إلى الأمام باتجاه تسخير الطبيعة لمصلحته.
وحينما نتدبر في القرآن الحكيم نجد سورة كاملة تتحدث عن هذه الخصائص للمجتمع الإسلامي، تلك هي سورة النساء.
ففي البدء تتحدث السورة عن الأسرة كخلية طبيعية وحضارية يقررها الإسلام، ثم تتحدث عن العلاقات الإجتماعية، ثم عن المسجد والطهارة والصلاة، وعن كل ما يربط الإنسان بأخيه الإنسان، ثم تتحدث عن الجهاد، ليس فقط جهاد المسلمين ضد الأعداء الذين يبادرون بالهجوم المسلح على المجتمع الإسلامي، وإنما الجهاد لحمل رسالة الإسلام إلى كافة المستضعفين في الأرض. وهكذا يتصدر الجهاد في سبيل الله قائمة خصائص المجتمع الإسلامي.
وبصائر هذه السورة تدل بوضوح على واقع التطلع عند المجتمع الإسلامي، وانه ليس مجتمعا منغلقا على نفسه، مهتما بمصالحه الذاتية، وانما هو مجتمع يحمل رسالة إلهية إلى العالم، ولا يفكر في نفسه فحسب، بل يفكر في الآخرين أيضاً.
ففي بعض آياتها الكريمة نقرأ عن ضرورة الجهاد، والقيام بالعمل التغييري الجذري ضد الطغاة الذين يريدون خنق الإنسان وكبت حرياته، وبالتالي إستغلاله.
يقول تعالى:
?يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعاً? النساء،71
هنا يأمر الإسلام بالإعداد ويقول: إستعدوا للكفاح وللمسيرة الجهادية، ولا تحبسوا أنفسكم في حدودكم، تفكرون في بلدكم وأنفسكم فقط.
والنفر، المذكور في الآية الكريمة، ليس بالضرورة أن يكون جماعيا، فربما لا تسمح الظروف لكل الناس المتواجدين في البلاد الإسلامية بالتحرك. آنئذ يجب عليك أن تأخذ مجموعة من اخوتك وتنفر معهم في سبيل الله: ?فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعاً? - أي إنفروا كأفراد أو كأمة -.
ثم يقول الله سبحانه:
?وإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَيُبَطِّئَنَّ فإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَعَهُمْ شَهِيداً * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَم تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَاَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً? النساء،72-73
هاتان الآيتان تبينان حالة الأفراد الشاذين الذين لا يريدون تحمل مسؤولياتهم الإنسانية، بل يريدون لمجتمعهم الإنغلاق، ويريدون موارد وثروات بلدهم لأنفسهم فقط.
ولكن هؤلاء ليسوا منكم، أنتم المؤمنون يجب أن تتحركوا وتنفروا، ولكن من أجل ماذا؟ يجيب القرآن الكريم قائلا:
?فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالاَخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً? النساء،74
هذه المسيرة هي مسيرة الإنسان المؤمن، إنه يحمل رسالته على كتفه ويتحرك في العالم ليقاتل في سبيل الله، لله وحده وليس لأي شيء آخر، ويبيع نفسه لله لأنه يتعامل مع الله في صفقة رابحة على أساس أن يدفع نفسه ويأخذ من الله الجنة. يقول تعالى في سورة التوبة:
?إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِاَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ? التوبة،111
ونتساءل ما هو سبيل الله في الواقع الخارجي؟ يقول ربنا سبحانه وتعالى موضّحاً:
?وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِن لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِن لَدُنكَ نَصِيراً? النساء،75
فسبيل الله هو إنقاذ المستضفين الذين ينتشرون في آفاق الأرض، ويدعون الله أن ينقذهم عن طريق بعث ولي لهم، أي قائد، وبعث نصير لهم، أي جنود.
إن الله سبحانه وتعالى يأمر المجتمع الإسلامي أن يقوم بواجبه تجاه كل المستضعفين في الأرض. ونتسائل ايضاً: ضد من تجري الحرب؟ فيقول ربنا:
?الَّذِينَ ءَامَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَآءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً? النساء،76
فالله سبحانه يأمرنا ان نحارب من أجل المستضعفين ضد أولياء الشيطان الذين يدعمون أنظمة الطاغوت ويقاتلون من أجله.
الصراع من أجل تصفية العناصر المنافقة
إن التحرك عبر الأرض لإنقاذ المستضعفين رسالة هامة يحملها المجتمع الرسالي، ولكن هناك ناحية أخرى تشير اليها سورة النساء أيضا، وهي ناحية الصراع الداخلي ضد المنافقين، والذي نبيّنه عبر النقاط التالية:(4/17)
أولا: المنافقون لا يجيدون عادة القتال، لأن خطتهم هي التسلل إلى مواقع القيادة في المجتمع الإسلامي وهدمه من الداخل، ولكن الإسلام يأمرنا أن نقاتلهم ونجاهدهم.
يقول القرآن الحكيم مؤكدا على هذه الفكرة:
?فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً * وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَآءً فَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً? النساء،88-89
ثانيا: إن المنافقين، بسبب نفاقهم وتظاهرهم بالدين، يخدعون بعض البسطاء من المسلمين، الذين قد يستنكرون موقف الرساليين ويقولون: لماذا تقاتلونهم؟ . انهم مواطنون شرفاء لا يطالبون الا بالحرية وان يسود الأمن في البلد.
ولكن القرآن يوبخنا على مثل هذا الموقف ويقول: ?فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ?
أي لماذا انقسمتم في قضية المنافقين على أنفسكم وأصبحتم فريقين: فريق يؤيد مجاهدة المنافقين واستئصالهم، وفريق لا يؤيد ذلك. بينما الله سبحانه وتعالى قد حدد الموقف من المنافقين اذ يقول: ?وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا?
إن النفاق جريمة كبرى، ولا نحتاج بعد النفاق إلى إثبات جريمة أخرى عليهم.
ثالثا: يبين القرآن قضية أخرى وهي: ?أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ?
ذلك لأن بعض الناس يقولون انه من الممكن أن يهتدي المنافقون وأن يعودوا إلى رشدهم. ولكن بعد وضوح البينة، وانتشار الوعي، إذا وجدنا إنسانا ينافق ويقوم بالدعوة إلى تحطيم الكيان الاجتماعي للأمة الإسلامية، فإن من الواجب التصدي له لأنه من الذين أضلهم الله: ?وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً?
رابعا: يقول القرآن الحكيم: ?وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا?
فالمنافقون يريدون أن يعيدوكم إلى الكفر، وأن يعيدوا النظام الجاهلي البائس إلى بلادكم، لأنهم متأثرون بالثقافة الأجنبية، فهم غرباء عن مجتمعكم لذلك ينبغي عليكم التصدي لهم.
إن المجتمع الإسلامي، هو مجتمع التحدي والجهاد، فهو يواصل دائماً خط الجهاد، ولكن ليس من أجل نفسه أو من أجل الطاغوت، أو من أجل الرأسمال والرأسمالية، أو من أجل الفساد والمفسدين، كلا، وانما هو يجاهد من أجل المستضعفين، ومن أجل الرسالة والقيم. لذلك فهو لا يحدد مواقفه تجاه نفسه أو تجاه الآخرين حسب المصالح الذاتية. وهو أيضا لا يهادن ولا يساوم.
فإذا كان داخل المجتمع الإسلامي مجموعة من المنافقين، فلا يجوز لهذا المجتمع أن يهادنهم تحت شعار انهم مواطنون، ذلك لأنه إذا كان المجتمع، مجتمعاً مبدئيا رساليا يؤمن بالقرآن وبالإسلام، فإن الذي لا يؤمن بالقرآن ولا بقيادة الإسلام، يُعتبر غريباً وأجنبياً عن هذا المجتمع. فالإيمان هو الذي يربط أبناء المجتمع الواحد بعضهم ببعض، والأخوة الحقيقية هي أخوة الإيمان، لا أخوة الدم أو التراب أو المصالح. لذلك فإن القرآن الحكيم، يعتبر الجهاد حتى استئصال شأفة المنافقين، من السمات الرئيسية للمجتمع الإسلامي.
صفوة الكلام
1- إن عملية البناء الحضاري إنما هي تفجير طاقات الإنسان، كفرد وكمجتمع، وتحويلها إلى إمكانات فعلية .
ولا يتحقق ذلك إلا إذا أحس الإنسان بالحاجة الفعلية إليها .
2- والحضارات في التاريخ إنما نمت عندما أحس الإنسان بالأخطار والحاجات .
3- والمجتمع الإسلامي مجتمع مسؤول، وهذا الشعور بالمسؤولية يتحول إلى حاجة نفسية وهدف إجتماعي، وحينذاك تتحرك الامكانات من القوة إلى الفعل، وبهذه المعادلة يتحول المجتمع إلى مجتمع ديناميكي حيوي متحرك .
4- لذلك فإن المجتمع الإسلامي يحمل رسالة نشر العدالة في الأرض، وهي رسالة إنسانية وليست رسالة عنصرية أو حزبية أو قومية .
5- وفي القرآن الكريم نجد آيات كثيرة تتحدث عن الجهاد والقتال والتضحية والإنفاق والإيثار وتحمل مسؤولية المستضعفين في الأرض، وكلها تهدف إلى بناء المجتمع الإسلامي على أساس حمل رسالة إنقاذ الإنسان من أغلاله الإجتماعية والنفسية .
=================
طاعة القيادة الرشيدة
- عز وجل - القيادة المطاعة بإذن الله، تستطيع أن تستقطب طاقات الناس وتعبئها وتوجهها في الإتجاه السليم .
- عز وجل - ليست الطاعة المطلوبة هي الطاعة القشرية والخارجية فقط، بل ينبغي أن تكون نابعة من قناعة نفسية، ورضا قلبي .
الطاعة والفاعلية
من أبرز العوامل التي تؤدي إلى حيوية المجتمع الإسلامي، وبالتالي تفوقه على سائر المجتمعات وقدرته الذاتية على الإنتصار عاجلا أم آجلا على أعدائه، هو وجود الطاعة في هذا المجتمع.
والطاعة المطلوبة هي الطاعة النابعة من التسليم الذاتي والقناعة الواعية، وقهر الشهوات والأنانيات، وتبديلها بطاعة العقل وطاعة من يمثل العقل ويجسده، أي طاعة الله، وطاعة خليفة الله في الأرض وهو النبي والإمام أو نائبه.
والسؤال هو: لماذا وكيف تؤثر الطاعة، بهذا المفهوم وعلى هذا المستوى، في حيوية المجتمع وفاعليته وحركته الذاتية؟
ونقول في الجواب: إن القيادة المطاعة بإذن الله، هي التي تستطيع أن تستقطب طاقات الناس وتعبئها وتوجهها، وتحقق مكاسب هائلة بجهد بسيط نسبيا إذا قسناه مع حجم المكاسب، كيف ذلك؟
في سورة النساء تجد إجابة هذا السؤال. يقول القرآن الكريم:
?وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً * فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً * وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وَإِذاً لاَتَيْنَاهُم مِن لَدُنَّآ أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً * وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَاُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ اُولئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً? النساء،64،70
وبالتدبر في هذه الآيات الكريمة، نجد عدة قضايا هامة في غاية المتانة والدقة لا يستطيع النظر العابر ان يلاحظها. فوجود الرسول ليس للبركة فقط وإنما للطاعة بصورة أساسية:?وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بإِذْنِ اللّهِ? .
ولو كان الرسول موجودا ولم يطع، فوجوده وعدمه سواء ولن ينفع الناس شيئا، وكذلك كل من يمثل القيادة الشرعية، فالإنتماء النظري من دون الطاعة الفعلية، مرفوض في المفهوم الإسلامي.
والقرآن يضيف إلى هذه الحقيقة فكرة أخرى حيث يقول:
?وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً? .(4/18)
أي أن القيادة الإسلامية يجب أن تكون مطاعة إلى درجة أن الإنسان حينما يقصر في واجباته الدينية، ولا يطبق برامج هذه القيادة، لا يكفيه أن يستغفر الله وحده، وإنما عليه أن يأتي إلى القيادة ويستغفر الله عندها، حتى يستغفر له القائد من تلك الذنوب، وعند ذلك يكون احتمال الغفران وارداً. فحتى مغفرة الذنوب والتي تنبع من فضل الله سبحانه ورحمته، يربطها القرآن بالقيادة. ولكن الطاعة المطلوبة ليست الطاعة القشرية والخارجية فقط، وإنما يجب أن تكون نابعة من قناعة نفسية، ومن رضا القلب:
?فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ ? أي ضعفا وقلقا وعدم رضا ? وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ? تسليما نفسيا لأوامر القيادة
ثم إن الطاعة للقيادة يجب ألا تكون في القضايا البسيطة فقط، ولا تكون فقط في تنظيم طاقاتك التي فجرتها حتى الآن في نفسك وأعطيتها من ذاتك، وانما يجب أن تكون من أجل تفجير طاقات إضافية كامنة في نفسك ومن أجل بلورة شخصيتك، ومن أجل القيام بالأعمال العظيمة التي لا يمكنك القيام بها لوحدك، وإنما تتشجع بأمر القيادة على تنفيذها. يقول الله سبحانه ?وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً?.
هذا هو مستوى طاعة القيادة، فالقائد لو قال لك ضحِّ بنفسك في سبيل الله، أو اخرج من بلدك من أجل هدف سامٍ، فلا تتردد، وان الذين يترددون عن تطبيق الأعمال العظيمة التي تأمرهم بها القيادة، يعبرون بذلك عن إهتزازهم وضعف شخصيتهم وفي نهاية أمرهم سيصابون بالشر والضر. وأما الذين يتبعون القائد حتى في الأوامر الصعبة التي تحتاج إلى أقصى حدود التضحية فإن عاقبتهم ستكون خيرا، ?لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً?.
ثم يبين لنا القرآن جانبا آخر:
?وَإِذاً لاَتَيْنَاهُم مِن لَدُنَّآ أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً * وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَاُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ اُولئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً? .
بالتدبر في هذه الآيات نعرف إن هذا المستوى من الطاعة للقيادة سوف يحقق للمجتمع ثلاثة مكاسب:
أولا:
حينما يكون المجتمع بهذا المستوى من الطاعة فإنه سوف يتقدم، ويشمله من الله سبحانه وتعالى فضل كبير: ?لاَتَيْنَاهُم مِن لَدُنَّآ أَجْراً عَظِيماً? .
ثانيا:
إن هذا المجتمع سوف يكون على الطريقة السليمة، وسيكون وعيه وعلمه ومعرفته في مستوى من النضج والبلورة بحيث تعصمه من الإنزلاق والإنحراف: ?وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً? .
ثالثا:
هذا في الدنيا أما في الآخرة فإن هذا المجتمع سيحشر ?مع الذين أنعم الله عليهم من النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ اُولئِكَ رَفِيقاً? .
رابعا:
ثم يذكرنا القرآن الحكيم في الآية الأخيرة بأن مستوى الطاعة ليست بالإدعاء وإنما هي قضية يعلمها الله سبحانه وتعالى ?ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً?.
الحيوية والطاعة
نستوحي من هذه الآيات الكريمة الإجابة على السؤال الذي طرحناه في بداية البحث وهو:
ما هي العلاقة بين فاعلية المجتمع وحيويته، وبين الطاعة التامة للقيادة؟
حيث نستلهم من القرآن الكريم ، أن هذه العلاقة تنبع من الأمرين التاليين:
أولا: تكامل الطاقات
إن كثيرا من طاقات المجتمع تذهب هدرا، لعدم وجود تنظيم لها. وحتى مع وجود العاملين المخلصين الذين يقدمون أقصى ما لديهم في سبيل المصلحة العامة، فإن المجتمع غالبا لا يجني ثمار جهوده بشكل حسن لأنه يفتقر إلى تكامل وتنظيم طاقاته المبعثرة.
وقد جنت البشرية نتائج هامة لهذا التكامل والتنظيم للطاقات في عصرنا الراهن، ذلك ان الحضارة الحديثة مبنية على أساس هذين العاملين، فمن دون التكامل لم يقدر أن يشترك ثلاثمائة ألف عالم في صنع المركبة الفضائية (أبولو) التي حملت الإنسان إلى القمر، ولولا التنظيم الذي هو نتيجة الطاعة لما تكاملت جهود هؤلاء العلماء وعلومهم.
إن القيادات الإسلامية توفر للمجتمع الإسلامي المطيع لها تكامل الجهود والطاقات التي تذهب هدرا في الصراعات الإجتماعية، فالكثير من طاقات المجتمع تذهب هباء بسبب تحول التنافس البناء إلى صراع عدواني، فترى كل جناح وكل جبهة وكل حزب يحاول إيقاف مسيرة الجناح والجبهة والحزب الآخر.
وما يؤسف له هو أننا إذا نظرنا إلى واقع العالم الإسلامي اليوم، وإلى المجتمعات التي توصف بأنها إسلامية، لوجدنا كم هي الطاقات التي تبدد في الصراعات الداخلية، سواء الصراع الذي يبدأ بين زميلين في المدرسة، أو في العمل، أو بين زوج وزوجته، أو الصراع الذي يكبر ويكبر ليصبح بين تيارين إجتماعيين أو بين دولتين.
إن الصراعات الإجتماعية تبدأ صغيرة، تبدأ بسبب نفوس متوترة، ثم تتفجر ضمن صراعات إجتماعية كبيرة، والإسلام يريد أن يقضي على جذور الصراع الهدام ويحوله إلى تنافس بناء.
يقول تعالى:
? فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ? أي فيما اختلفوا فيه، وبعدما حكمت يسود هناك جو من الراحة النفسية والسكينة القلبية ?ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً? .
إن جهود المجتمع الإسلامي الذي يتمتع بهذا المستوى الرفيع من الطاعة للقيادة، لا تتناقض مع بعضها البعض، وانما تتحول صراعاته إلى تنافس بناء متكامل، وهذا يوفر للمجتمع المزيد من الطاقة، وحينما تتوفر هذه الطاقات وتحفظ من التشتت، فإنها تكون قادرة على بناء حضارة رسالية.
ثانيا: تركيز الطاقات
الطاعة للقيادة توفر حالة من التركيز الشديد القادر على إختراق أعتى المشاكل والعقبات التي تحول بين المجتمع وانطلاقاته الحضارية.
إن نور الشمس الموجود في كل مكان، لا يستطيع أن يشعل الحرائق، ولكن إذا تم تركيز هذا النور بتمريره عبر عدسة، فإنه يولد حرارة كبيرة، وهكذا، فإن تركيز أي شيء يسبب نتائج غير النتائج المتسببة من نفس الشيء في غير حالة التركيز.
إن بلادنا المتخلفة لا ينقصها شيء من الطاقات والموارد، ولكن الذي ينقصها هو عدم وجود تلك القدرة القيادية التي تستطيع أن تعبئ طاقات الأمة في لحظة واحدة وفي اتجاه معين، وتتغلب بها على العقد الحضارية التي نعيشها، والتي أشبه ما تكون بالحلقة المفرغة حيث لا ندري ماذا نعمل، فالأمور متشابكة ومرتبطة بعضها بالبعض الآخر، فمثلا.. نحتاج إلى مهندسين، وهذا يجعلنا بحاجة إلى كليات لتربيتهم، وهذا بدوره يحتاج إلى المال اللازم لتمويلها، وبالتالي فنحن نحتاج إلى مصدر لتوفير الأموال، وبما أن البلد زراعي، لذلك نتجه إلى تحسين الزراعة، ولكن تحسين الزراعة بدوره يحتاج إلى أدوات زراعية، ثم إلى المصانع التي تنتجها، والتي تحتاج إلى المهندسين لإدارتها.. وهكذا ندور حول أنفسنا ونراوح في مكاننا ولن ينقذنا إلا دفعة قيادية هائلة تتكون من قائد كفوء وشعب مطيع، حتى ننفلت من هذا الطوق، وننطلق في مسيرتنا الحضارية إلى الأمام .(4/19)
فالعقد الحضارية الموجودة في المجتمع الإسلامي، والتي أصبحت عقبة في طريق تقدم المجتمع ورفاهيته ووحدته، من الممكن حلها عن طريق القيادة، وإلى هذا المعنى تشير الآية الكريمة:
?وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً?.
إن هذه الموعظة خدمة لهم، وخير لأنفسهم فهي تدفع المجتمع إلى أن يقاوم ضغوط العدو ويصمد أمامه.
وخلاصة القول: إن المشكلة الحقيقية في مجتمعاتنا الراهنة، تتجسد في وجود عقبة كأداء أمام المجتمع عليه أن يتحداها وأن يتغلب عليها عن طريق تركيز جهوده. والقيادة الرشيدة المطاعة هي التي تستطيع ان تركز الجهود وتعبئها في لحظة واحدة، وباتجاه واحد، لتحطم بها العقد التي تشل المجتمع وتكبّله.
صفوة الكلام
1- تعتبر الطاعة من أبرز العوامل التي تؤدي إلى حيوية المجتمع وتقدمه .
والطاعة المطلوبة هي النابعة من القناعة الواعية، واستبدال طاعة الشهوات بطاعة العقل ومن يجسّد العقل .
2- القيادة المطاعة تستطيع أن تستقطب طاقات الناس، وتحقيق مكاسب هائلة بها 3- وقيادة لا تُطاع، لا تنفع الناس شيئاً، ووجودها وعدمها سواء .
4- والطاعة لا تكون في الامور البسيطة فقط، بل الأهم الطاعة في المهمات العظيمة التي لا يمكن للإنسان أن ينجزها لوحده .
5- ونستلهم من آيات القرآن الحكيم إن العلاقة بين فاعلية المجتمع وحيويته، وبين الطاعة التامة للقيادة تنبع من أمرين :
الأول: إن طاعة القيادة توفر للمجتمع الإسلامي تكامل الجهود والطاقات كما تضمن توجيه الطاقات نحو التنافس الايجابي البنّاء بدلاً عن إهدارها في الصراعات الهامشية .
الثاني: إن طاعة القيادة توفر حالة من التركيز الشديد القادر على إختراق أعتى المشاكل والعقبات التي تحول بين المجتمع وانطلاقاته الحضارية .
======================
التنظيم ركيزة البناء الحضاري
- عز وجل - ينبغي أن تكون الحياة الإسلامية، حياةً منظمة يسودها التعاون والتعامل، وتتفاعل فيها الطاقات والأفكار .
- عز وجل - يؤكد الإسلام على خروج الإنسان من قوقعة الذات، والإنطلاق في رحاب التعاون مع سائر أبناء المجتمع .
التنظيم هو أحد العوامل الرئيسية لحيوية المجتمع وفاعليته، والإسلام يؤكد على التنظيم جوهراً وإطاراً، وجوهر التنظيم هو تعاون الجهود في خطة يضعها العلم.
ويضع الإسلام شرطين للتنظيم الإجتماعي هما:
العمل العلمي
الشرط الأول: أن يكون العمل وفق منهجٍ علمي. فالإسلام يعتبر العلم عنصرا جوهريا في إدارة الحياة والمجتمع، ويهتم بالعلم والعلماء، كما أنه يجعل العلم قصب السبق الذي يتنافس عليه الناس، ويجعل المعرفة الهدف السامي الذي لابد أن يسعى الجميع للوصول إليه، يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
(طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة) .
(أطلبوا العلم ولو بالصين) .
ويقول الإمام علي عليه السلام:
(قليل العمل مع كثير العلم خير من كثير العمل مع قليل العلم والشك والشبهة..) .
وهكذا يؤكد الإسلام على العلم، ويجعل طلب العلم هدفا أساسيا يتطلع إليه الإنسان.
غير أن العلم بلا عمل به لا قيمة له إطلاقا، ولئن كان العلم ضروريا، فاقتران العلم بالعمل أشد ضرورة وإلحاحاً، في الحديث الشريف عن الإمام علي عليه السلام:
(عالم بلا عمل كشجرة بلا ثمر) .
وقال عليه السلام:
(العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا إرتحل عنه) .
وهكذا يجعل الدين العمل هدفا للعلم، وبذلك يحقق الإسلام عملية العلم.
يقول الإمام علي عليه السلام في وصيته لكميل بن زياد:
(يا كميل! ما من حركة إلا وانت محتاج فيها إلى معرفة) .
فالمعرفة تسبق الحركة، والعلم يسبق العمل، وبذلك يجعل العمل مقارنا للعلم ومزكّى به. وهناك أحاديث كثيرة نستوحي منها هذه الفكرة، أي أن يكون عمل الإنسان نابعا من علمه، ووفق خطة علمية ومنهجية محددة.
كما نستلهم ذلك من كلمة البصيرة في القرآن، إذ البصيرة في القرآن تعني العمل وفق هدى العلم، فإذا كان العلم منطلقا من هوى الإنسان وشهوته، أو من حالة إرتجالية تتسم برد الفعل العشوائي، فإنه يؤدي إلى ضرر كبير وشر مستطير. أما العمل المنتج فهو الذي ينبع من معرفة الإنسان وعلمه وعقله.
وقد تكررت كلمة البصيرة والبصائر في القرآن سبع مرات للتأكيد على أن القرآن طريق هدى وبصائر، وأن الرسول على بصيرة من أمره ومن اتبعه.
التعاون روح المجتمع
الشرط الثاني: أن يكون العمل تعاونيا جماعيا، وليس إنفرادياً إنعزالياً، والإسلام يأمر بأن يجري العمل في إطار التعاون، ولا يكون إنفرادياً، ويضع أساليب تشجع على بث روح التعاون بين أعضاء المجتمع الإسلامي منها:
ألف: إخراج الإنسان من قوقعة الإنغلاق والتمحور حول الذات، إلى الإنفتاح على الآخرين. والإسلام يُخرج الإنسان من قوقعته الذاتية عبر التعاليم الإجتماعية التي تصب في قنوات حب الآخرين، وقد جاءت رسالات الله لتبدل محور الإنسان من ذاته إلى محور الأخوة الإجتماعية. وبالتالي يُخرجه من ظلمات نفسه إلى نور الحق، ومن سجن أنانيته إلى رحاب الواقع، ومن عمى إنغلاقه، إلى بصيرة إنفتاحه.
إن هذا هو هدف أكثر التعاليم الإسلامية التي تسعى في مجموعها إلى صياغة الشخصية الرسالية، والتي تصنع للمجتمع الإسلامي أرضية التعاون البنّاء.
جاء في الحديث، أن رجلاً قال للإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام: جُعلت فداك، رجل عرف هذا الأمر، لزم بيته ولم يتعرف إلى أحد من أخوانه، قال عليه السلام: "كيف يتفقه هذا في دينه"؟! .
وروي عنه عليه السلام أنه قال لإسحاق بن عمار: (أحسن يا إسحاق إلى أوليائي ما استطعت، فما أحسن مؤمن إلى مؤمن ولا أعانه إلا خمش وجه إبليس وقرح قلبه) .
وقال عليه السلام: (إن مما خص الله به المؤمن أن يعرّفه برّ أخوانه وإن قل، وليس البر بالكثرة، وذلك أن الله عزوجل يقول في كتابه: ?وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ?، ثم قال: ?وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ? ومن عرّفه الله عزوجل بذلك أحبه، ومن أحبه الله تبارك وتعالى، وفّاه أجره يوم القيامة بغير حساب) .
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أنه قال: (رأس العقل بعد الدين التودد إلى الناس، واصطناع الخير إلى كل أحد بر وفاجر) .
وجاء عن الصادق عليه السلام: (أيما مؤمن أوصل إلى أخيه المؤمن معروفا فقد أوصل ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) .
وفي وصيته عند وفاته، قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: (عليكم بالتواصل والتباذل، وإياكم والتدابر والتقاطع) .
باء: التأكيد على التعارف الذي هو مقدمة التعاون، حيث يقول الله سبحانه وتعالى:
?وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا? الحجرات،13
جيم: التأكيد على التعاون ذاته، حيث يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم:
?وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ? المائدة،2
إن معرفة الآخرين هي الخطوة الأولى نحو التعاون معهم، حيث انها تقود إلى اكتشاف نقاط القوة والضعف الموزعة بين الأفراد وكذلك بين المجتمعات، ومن ثم ينفتح السبيل أمام تكميل كل فرد أو طائفة نواقصهما بما لدى الآخرين، وبالتالي يشجع على تبادل المنافع والمصالح لما فيه خير الجميع.(4/20)
وهذه الظاهرة تنطبق على الدول أيضاً، فإنها تتفاوت فيما بينها من ناحية الموارد الطبيعية والثروات، والقدرات التكنولوجية، والطاقات البشرية العاملة. فتعارف الدول عن طريق الوفود والبعثات والزيارات المتبادلة، يُمكّن كل دولة من الحصول على احتياجاتها، وإعطاء الفائض لديها لآخرين يحتاجونه. وبذلك يمكن للبرامج الإقتصادية والمشاريع التنموية أن تسير قدما إلى الأمام.
كما تنطبق أيضا على الأفراد حيث يتفاوت الناس من جهة المواهب والإستعدادات الطبيعية المكتسبة. فقد يملك انسان العلم، وآخر يملك المال، وثالث لديه خبرة جيدة في الطباعة، ورابع يتمتع بموهبة تجارية ولديه دار للنشر والتوزيع. فكل واحد من هؤلاء الأربعة لا يستطيع بمفرده أن يفعل شيئا. أما اذا اجتمعوا وتعارفوا، ومن ثم تعاونوا، فيمكنهم إذ ذاك أن يزودوا المجتمع بالكتب النافعة التي يحتاج إليها. وهناك ألوف الأمثلة لمجالات التعاون بين الإنسان وأخيه الإنسان، كأفراد، أو كتنظيمات إجتماعية، أو على مستوى الدول.
وإنما يؤكد الإسلام على التعاون وعلمية العمل، وهما الركنان الإساسيان لتنظيم المجتمع، فإنه لكي لا يُختَرق مثل هذا المجتمع من قبل القوى المعادية، لأنه حينئذ سيصبح متماسكا ومتعاونا مع بعضه، وليست فيه ثغرات ينفذ من خلالها العدو.
إطار التنظيم
وبعد ما يؤكد الإسلام على جوهر التنظيم من خلال التأكيد على خروج الإنسان من قوقعة الذات، والإنطلاق في رحاب التعارف والتعاون مع المجتمع، يؤكد على نفس التنظيم كإطار وشكل، فترى الإمام علي عليه السلام يقول في آخر وصية له لأولاده:
(أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم، وصلاح ذات البين) .
أي: اتقوا الله أيها المسلمون في تنظيم أموركم، ولا تدعوها فوضى. وحينما يأمر بصلاح ذات البين، فهو يدعم حالة التنظيم في الأمة. ويبدو من هذا النص أن الإسلام حين يأمر بالتنظيم يجعله واجبا شرعيا، يجب أن يتقي الإنسان ربه في تطبيقه، كما يتقي ربه في الصلاة والصيام والزكاة والحج، وسائر الواجبات الدينية.
كيف يولد التنظيم الحيوية؟
والسؤال هو: كيف يولد التنظيم الحيوية في المجتمع؟
الجواب:
الاندفاع في العمل
أولا: التنظيم يوجد الاندفاع نحو المزيد من العمل، فالإنسان عندما تكون أموره منظمة، فإن نفسيته تنفتح، فينطلق في العمل، لأنه حينئذ يجد في نفسه الشوق الكافي والملائم للاندفاع نحو العمل البنّاء، والعطاء الخلاق، وحيث يرى جهوده مثمرة، لأنها تصبح بفضل النظام والتنظيم، متكاملة مع جهود الآخرين.
إن كثيرا من الناس يحبون العمل في سبيل الله، ولكن ليس هناك من يشجعهم على العمل، بل قد لا يجدون سوى التثبيط والتخذيل، فتفتر هممهم، وتخور عزائمهم، وبما أن نفس الإنسان تنزع إلى الراحة والتواكل، فإن النتيجة الطبيعة ستكون حينئذ، القعود عن العمل.
إن أكثر الذين تقدموا في الحياة إنما تقدموا بسبب توفر الأرضية الصلبة التي تشجِّع على العطاء والعمل، وقليلون هم الذين استطاعوا أن ينطلقوا من الرمال الرخوة المتحركة.
إن المجتمع الذي يشجع أفراده ويدفعهم إلى العمل، يصبح مثل القاعدة الصلبة التي يمكن للأفراد أن ينطلقوا منها ويتقدموا. بينما المجتمع الذي يخوِّر العزائم ويثبِّط الهمم، يكون كالرمال الرخوة التي تبتلع الجهود.
إزالة العقبات
ثانيا: التنظيم يرفع العقبات من طريق الأفراد ليواصلوا مسيرتهم. ذلك أن الإنسان الفرد لا يملك سوى إمكانيات محدودة، أما التنظيم فإنه يتمتع بإمكانيات أكبر بكثير ويستطيع رفد أفراده بها، ليواصلوا المسير. فإن كانت العقبة مالية، فإن التنظيم يوفر الأموال اللازمة. وإن كانت العقبة علمية، فالتنظيم يوفر المعلومات النوعية المطلوبة. وإن كانت العقبة أمنية، كما في الدول التي يتسلط عليها الطغاة، فإن التنظيم يوفر الحلول المناسبة لتجاوزها، عبر العمل السري، أو نقل النشاطات إلى خارج البلد، وغيرها من الأساليب.
وهكذا فمع وجود التنظيم، يمكن السيطرة على أغلب المشاكل والصعوبات التي تعترض العمل الرسالي.
الإستمرار في العمل
ثالثا: التنظيم يعطي القدرة على الإستمرار في العمل، والوصول به إلى غايته. فأنت مثلا، إذا بدأت بعمل ما، وكنت تعلم أنك اذا اعترضتك عقبة في الطريق، كأن مرضت أو سُجنت، أو هاجرت، فإن هناك من يأتي وراءَك ويواصل مسيرتك، عندها تشرع في العمل بكل ثبات وإطمئنان دون أن يصيبك القلق والتردد.
إن الأعمال العلمية الكبيرة، والإنجازات الحضارية الضخمة، لا يقوم بها فرد، وإنما تقوم بها مجموعات متعاونة تعمل حسب خطة متكاملة ومدروسة، وهذه هي طبيعة الحياة، فالعلم، وخصوصا في عالمنا الحاضر، لا يتقدم عبر عناصر متفرقة ومشتتة، وإنما عبر مجموعات منظمة، وعموما فإن السمة الظاهرة للحضارة الحديثة أنها تعتمد على منهجية التنظيم، كما نلمس ذلك في المجالات المختلفة، إبتداء من مشاريع البناء والإنشاءات والأعمال الصناعية التكنولوجية، وإنتهاء بصعود الإنسان إلى القمر، ومرورا بانتاج الطاقة النووية وسائر الإختراعات والإكتشافات العلمية الحديثة.. وهكذا في المجال الفكري ككتابة الموسوعات العلمية ودوائر المعارف.
والإسلام بدوره يدعو إلى منهجية التنظيم، وذلك من خلال الدعوة إلى العلم الإجتماعي، والتعارف، والتعاون، ولكن الحياة التي نعيشها في البلاد الإسلامية ومع الأسف مخالفة لما يدعو إليه الإسلام. إننا نعيش - في الأغلب - حياة أفراد مبعثرين لا حياة جماعات منظمة.
إن الحياة الإسلامية الحقة هي حياة منظمة يسود فيها التعاون والتكامل، وتتفاعل فيها الطاقات والأفكار، وهذه هي الحيوية التي ندعو إليها.
ان الحياة المنظمة لا يمكن تحققها بصورة فجائية وشاملة لكل أبناء المجتمع الإسلامي، وإنما من الضروري أن تبدأ على نطاق صغير. فكل انسان ينبغي أن يفتش عمن يتعاون ويتفاعل معهم.
ان الإسلام لا يحب الحياة الإنفرادية، فقد جاء في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه قال:
(وإياكم والفُرقة، فإن الشاذّ من الناس للشيطان، كما أنّ الشاذّ من الغنم للذئب) .
فالشاة التي تشرد من قطيع الغنم، تكون من نصيب الذئب، كذلك الإنسان الذي يعيش لوحده، فإنه يصبح من نصيب الشيطان الذي هو أخطر من الذئب، واننا اليوم جميعا شاردون، مما حدى بذئاب الشرق والغرب بافتراسنا.
مسؤولية المؤمن
لذلك فإن عليك أيها المسلم أن تبحث عن مجموعة تنتمي إليها، واذا لم تجد هناك تجمعا يمكن أن تصب عملك وجهدك في تياره، فعليك أن تصنع تجمعا، وتخلق العمل الرسالي المنظم، بأن تجمع حولك عدداً من المؤمنين الذين ترى أن نفسيتك منسجمة مع نفسيتهم، وإرادتك متوافقة مع إرادتهم، وطبيعتك متناسبة مع طبائعهم. وآنئذ تُكوِّن الخلية الإيمانية الصادقة، والفئة المخلصة المتحابة في الله، والمتعاونة من أجل خير المجتمع، وتحاول أن تكمل حياتك بحياتهم.
وفي هذا الأمر لا ينبغي أن ننتظر إسقاط الطاغوت الحاكم، ولا يجوز أن نقول: ما دام الطاغوت موجوداً فهو لا يسمح لنا بأن ننظم أنفسنا، ولا يدعنا نجتمع. إن هذا الرأي هو الخطل بعينه، لأن بقاء الطاغوت يستمر لحين تكوّن المجتمع الإسلامي الصالح، الذي هو البديل الضروري لإسقاط الطاغوت، حيث اننا لا نهدف من إسقاطه أن يأتي طاغوت آخر مكانه إنما نريد حكم الله، وتطبيق الشريعة الإسلامية التي لا يمكن تطبيقها إلا على مجتمع إسلامي مهيأ لتقبلها.(4/21)
إن الكثير من بلادنا تحكمها سلطات طاغوتية لا تعترف بشرعية السماء، ولا تعمل لقيام المجتمع الإسلامي الذي يسير في خط التوحيد ويطبق التعاليم القرآنية نصا وروحا، فعلى المجاهدين الرساليين أن يعملوا لإقامة مثل هذا المجتمع ، ولن تستطيع السلطات الفاسدة أن تحول بين المؤمنين المخلصين الجادين، وبين تنظيم أنفسهم، وتكامل فعالياتهم مهما إستخدمت من وسائل القمع والإرهاب، ومارست من أساليب المكر والخديعة.
إن أقصى ما تستطيع أن تفعله السلطات الطاغوتية هو أن تبث الخلافات وتسبب سوء الظن بين أفراد المجتمع، وتوهن العزائم، وتزرع إنعدام الثقة في النفوس، ولكنها لا تتمكن أن تجبر أحدا على تصرف معين، إن كان يملك الإرادة والعزيمة. فحتى السجون التي تستخدمها السلطات الطاغوتية كوسيلة للضغط، حيث تضع المجاهدين في زنزانات إنفرادية مظلمة وموحشة، فإن المجاهدين يتمكنون بطريقة أو بأخرى أن يتصلوا مع بعضهم، ويتعاونوا رغم الجدران السميكة التي تفصل بينهم، لأن الطغاة لا يقدرون على منع الناس من التعاون والتكامل مهما فعلوا.
من هنا ندعو جميع الأخوة المؤمنين والأخوات المؤمنات إلى أن يبدؤوا مسيرة التعاون من أجل بناء المجتمع الإسلامي الذي يُرضي الله سبحانه وتعالى. وعند التعاون نكتشف إن كثيرا من طاقاتنا الكامنة ستتفجر، وتزداد الحيوية في أنفسنا مائة بالمائة، لأن في التعاون خيرا وبركة، وإن (يد الله مع الجماعة ) - كما يقول الإمام علي عليه السلام-.
أي أن بركة الله ورحمته وقوته إنما هي مع الجماعة الحقّة المجتمعة على كلمة واحدة.
صفوة الكلام
1- من عوامل حيوية المجتمع هو الإعتماد على التنظيم جوهراً وإطاراً .
2- ويضع الإسلام للتنظيم الإجتماعي شرطين:
الأول: أن يكون العمل وفق منهج علمي .
الثاني: أن يكون العمل تعاونياً وجماعياً .
3- وللإسلام أساليبه في التشجيع على بث روح التعاون بين أبناء المجتمع الإسلامي، وهي:
ألف: إخراج الإنسان من قوقعة الإنغلاق على الذات إلى عالَم الإنفتاح على الآخرين .
ب: التأكيد على التعارف الذي هو مقدمة للتعاون .
ج: التأكيد على التعاون الايجابي البنّاء .
4- إن المجتمع الذي ينظم نفسه على أساس التعاون والمنهج العلمي، لا يُخترق من قبل العدو، لأنه يكون مجتمعاً متماسكاً وليست فيه ثغرات ينفذ من خلالها العدو
5- ومن خلال الامور التالية يولد التنظيم الحيوية في المجتمع:
اولاً: التنظيم يوجد الإندفاع نحو المزيد من العمل .
ثانياً: التنظيم يرفع العقبات عن طريق العمل .
ثالثاً: التنظيم يعطي القدرة على الاستمرار في العمل .
========================
الباب الخامس
قيم التقدم في المجتمع الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
(وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) سورة الأعراف 58
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير الخلق محمد وعلى آله المعصومين وأصحابه المنتجبين .
كما التربة الصالحة تُنبت الزرع المبارك، كذلك المجتمع الطيب يُنمي المواهب الخيرة، ويُربي السعي، ويُعين الانسان على التقدم .
بينما المجتمع الخبيث لا يخرج نباته إلا نكدا، لانه يميت القلب، ويقتل الموهبة، ويحدد النشاط، ويحرف السعي عن أهدافه النبيلة .
وصلاح المجتمع بمكارم الاخلاق التي تطهر علاقات الناس ببعضهم وتوجهها الى الخير و الفضيلة . وحين جعل الرسول (صلى الله عليه وآله) هدف بعثته تأديب الناس بالآداب الرفيعة، وقال: (انما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق) ، فقد حدد معالم رسالته بوضوح . أوَليس المجتمع الاسلامي المتنامي والمبارك يكون بذاته وسيلة لانتشار الاسلام، بما فيه من قوة واقتدار، واستقامة واعتدال، وتقدم وازدهار؟ .
واليوم حيث تعيش الامة الاسلامية نهضة شاملة، ويتصدى الرساليون لقيادتها نحو تطلعاتها النبيلة، نتوجه إلى سيرة الرسول من جديد لنزداد علما بسر نجاحه، فلا نجد مثل الخُلق العظيم الذي تحلّى به، وفاض على المجتمع الفاضل الذي بناه بيديه الكريمتين .
أفلا يكفينا ذلك هدى في مسيرتنا الرسالية ؟ فلنشرع في تزكية نفوسنا من كبرها وأحقادها، وتطهير قلوبنا من إصرها وأغلالها، لنبني بعدئذ مجتمعاً فاضلاً، مجتمعاً يتميز بالجدية البالغة، والسعي الحثيث، والتعاون الشامل، والنمو المتكامل . ومن دون الالتزام الشديد بالأداب الاسلامية في علاقاتنا مع بعضنا لا نحظى بهذا الهدف النبيل .
وكتاب (المجتمع الاسلامي) هو محاولة متواضعة في طريق توضيح مبادئ المجتمع الاسلامي، وبيان خصائصه، ولقد كان في الاصل مجموعة أحاديث ألقيت خلال شهر رمضان المبارك ثم أُعيدت صياغتها وخرجت في صورة كتاب طبع حتى الآن خمس مرات.
وقد قام أخيرا بعض الاخوة في مكتبنا، بإعادة النظر فيه، وتحرير بعض فصوله من جديد، وإسناد أحاديثه الشريفة، وتقسيمه إلى ثلاثة كتب صغيرة الحجم، لتكون أسهل تناولاً للقراء الكرام، كما أضافوا لكل فصل من فصوله خلاصة الأفكار الواردة فيه تحت عنوان (صفوة الكلام) تركيزاً للفائدة . وما بين يديك - أيها القارئ الكريم - هو الكتاب الأول من هذه المجموعة .
نسأل الله التوفيق والمزيد من الفائدة إنّه قريب مجيب .
محمد تقي المدرسي
======================
خلاص الإنسان .. أين ؟
- عز وجل - الرسالات الإلهية هي الطريق الأوحد لخلاص البشرية مما يحدق بها من مشاكل وأخطار .
- عز وجل - المجتمع الحي، هو الذي تقوم علاقات أبنائه على أساس القيم السليمة و العمل الصالح .
لماذا جاءت الرسالات الإلهية ؟ وما هي أهدافها الحقيقية؟
سؤالان خالدان خلود الرسالات، وهامّان أهميتها، وخطيران بالنسبة إلى حياة البشرية خصوصا في هذا العصر، حيث طغت المادية وأخذت تهدد العالم كله بالفناء، في الوقت الذي أخذت البشرية تتطلع إلى الخلاص بصورة أكثر جدية، إذ أن مدى تطلعها نحو الخلاص يكون بقدر عظمة وخطورة المشاكل التي تحيط بها.
فالاخطار المحدقة بالبشرية كبيرة جدا، سواء تلك التي تتجسد في الحروب، أو الإستغلال والإستعباد، أو في الرعب النووي الذي يخيم على البشرية جميعا، مما يدفع البشرية للبحث عن الخلاص أكثر فأكثر.
الخلاص في رسالات الله
إن الرسالات الإلهية، التي يجب أن تُفهم من جديد وليس أن نجعلها جزءا من واقعنا المتخلف، ونفسرها حسب أفكارنا التبريرية ونظراتنا السلبية، هي الطريق الأوحد لخلاص البشرية مما يحدق بها من مشاكل وأخطار.
ذلك أن الرسالات الإلهية، والتي تتجسد اليوم برسالة الإسلام، قادرة على أن تخلق الواقع السليم في بُعدين: الأول، في ذات الإنسان كفرد. والثاني، في كيان الإنسان كمجتمع.
ورغم أن أكثر من نَظَرَ إلى الإسلام والرسالات الألهية الأخرى وفَسَّرها، حاول أن يحمِّلها فكرة أن الرسالات إنما تهتم بواقع الفرد كفرد دون أن تعير أي أهمية لواقع الفرد كوحدة أساسية تشكل مع الآخرين مجتمعا قائما له أهدافه وتطلعاته في الحياة، إلاّ أننا نعتقد أن الدين يعطي الاولوية الأولى لخلق المجتمع الإنساني الصالح، وليس فقط لإصلاح الإنسان كفرد.
وما ذلك التفسير الخاطئ للدين إلاّ لفصله عن الحياة، وجعله تجربة فردية بين الإنسان وربه، دون أن يكون له أدنى تأثير على سلوك الفرد في المجتمع سواء مع نفسه أو مع الآخرين.(4/22)
إن القرآن الحكيم لا يخاطب الناس كأفراد، وإنما يخاطبهم كمجموع إلاّ في آيات قليلة ولأسباب بلاغية، فأغلب آيات القرآن التي تخاطب الناس تخاطبهم كمجموع:
- يا أيها الناس..
- يا أيها الذين آمنوا..
- إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات
- وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَآ أَنْزَلَ اللّهُ فَاُوْلئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ.. الظَّالِمُونَ.. الْفَاسِقُونَ .
لذلك، وانطلاقا من هذا المبدأ فسوف نبدأ حديثنا عن البعد الثاني، وهو إهتمام الدين ببناء المجتمع الحي. ولكن قبل ذلك لابد أن نلقي نظرة عابرة على معنى كلمة "الحياة" لكي نعرف بوضوح الفرق بين المجتمع الحي والمجتمع الميت.
ما هي الحياة؟
يصف القرآن الحكيم رسالات الله بأنها حياة:
?يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إذا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ?24،الأنفال
أي استجيبوا لما يعطيكم الحياة.
والحياة هي القوة الكامنة في الشيء، والتي تعطيه القدرة على اكتساب الأشياء الأخرى وإذابتها في بوتقة واحدة وفي اتجاه معين.
فالبذرة الحية - مثلاً - تختلف عن البذرة الميتة، ووجه الإختلاف بينهما هو أن البذرة الحية حينما تتوفر لها فرصة النمو، تستمد من أشعة الشمس ومن أملاح الأرض ومن عناصر الماء المواد المفيدة لها، وتحولها كلها إلى تركيبة واحدة متجانسة، وتوجهها بإتجاه واحد وهو النمو، فتتحول تلك البذرة الصغيرة إلى شجرة كبيرة متكاملة، أما البذرة الميتة فإنها سرعان ما تتحلل لتمتصها المواد المحيطة بها.
وهكذا الفرق بين النطفة الحية والنطفة الميتة. فالنطفة الميتة تتحول بعد مدة قصيرة إلى لا شيء، بينما النطفة الحية، تتحول بعد تسعة أشهر إلى طفل وبعد عدة سنين تراه قد أصبح رجلا سويا.
المجتمع الحي
ولكن ما معنى الحياة في المجتمع؟ وماهو المجتمع الحي؟ وما هو المجتمع الميت؟
إن الاجابة على هذه الاسئلة، كفيلة بتوضيح قضايا كثيرة في المجتمع البشري، ومن أبرزها الحركات التغييرية والنهضات الإصلاحية التي تشكل ظاهرة متميزة في تاريخ الإنسانية.
إن المجتمع الحي هو تماماً كتلك البذرة الحية التي أشرنا اليها، فهو يملك القدرة على أن يمتص من حوله الامكانات المادية والبشرية ويذوِّبها كلها في بوتقة واحدة، ويعطيها التفاعل ويوجهها من أجل بناء الحضارة الإنسانية التي تسير أبدا في إتجاه النمو والتكامل.
بينما المجتمع الميت فهو كالبذرة الميتة، يفتقد خاصية الامتصاص والتفاعل والنمو، وبالتالي سرعان ما يتفسخ ويتفتت ومن ثم يتلاشى.
إن مجتمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثلاً لم يكن عدد افراده في مكة المكرمة قبل الهجرة النبوية يزيد عن مائتي انسان مستضعف، ولكنه بعد أقل من ربع قرن، إستطاع أن يُحوّل المجتمعات الكثيرة المتواجدة في الجزيرة العربية، إلى مجتمع مسلم واحد، ويذوِّبها في هدفه.
وإذا نظرت إلى خريطة العالم، لوجدت أن المسلمين، وبعد قرن ونيّف من البعثة النبوية، طرقوا غربا أبواب اوروبا عن طريق شمال إفريقيا، وعبروا شرقا نهر السين، واقتحموا الشرق الاقصى في آسيا، وقد استطاعو أن يذوّبوا كل المجتمعات والحضارات التي كانت موجودة في هذه البقعة الشاسعة من الارض، ويصبغوها بالصبغة الإسلامية، ويخلقوا منها الامة الإسلامية الكبيرة. هذا هو المجتمع الحي.
ومثل آخر هو المجتمع الاوروبي، فأوروبا بالنسبة إلى العالم صغيرة المساحة، وفقيرة من ناحية الامكانات الطبيعية، ولكن هذا المجتمع الحيوي إستطاع أن ينشر حضارته وفكره على العالم كله ويوجهه باتجاهه الخاص.
فترى مثلا أن ألف مليون صيني وهندي ومئات الملايين من الناس في افريقيا وامريكا اللاتينية واستراليا، كان يوجهّهم اربعون مليون فقط، هم سكان جزيرة صغيرة تسمى بريطانيا. ويجب هنا ان ننبّه على وجود فارق كبير بين هذين المثالين، فالمثال الإسلامي كانت صبغته الحق والعدل والتوافق مع السنن الطبيعية والبشرية، بينما المثال الاوروبي على العكس من ذلك تماما. ووجه الشبه بينهما هو في الحيوية والفاعلية فقط.
واما المثال على المجتمع الميت، فهو الامة الإسلامية اليوم، والتي انقسمت إلى دول انطوت كل واحدة منها على نفسها وتجمّدت داخل حدودها، مما ادّى بهذا المجتمع ذي الأمجاد التأريخية العظيمة إلى ان يفقد شخصيته الإسلامية، ويضعف ويتفسخ من الداخل، ويصبح نهزة الطامعين، وأن تتعرض ثرواته وخيراته للنهب، وكرامته للسحق، وليصبح اليوم مجتمعا متخلفا يخضع لسيطرة القوى الاجنبية العظمى توجهه كيف شاءت، وتتلاعب بمقدراته أنّى يحلو لها.
قيم المجتمع الحي
وفي القرآن الحكيم نقرأ آية تصف لنا المجتمع الحيوي المؤمن فتقول:
?مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيَماهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً? الفتح،29
ونلاحظ ان القرآن يذكّرنا هنا بهذه الحقيقة بوضوح فيقول: ?كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْاَهُ?
ففي البداية تُزرع البذرة الحية في باطن الارض، وبعد فترة تتحول إلى زرع يرتفع فوق سطح الارض ?فئَاَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ? أي وضع له الزارع عصا قائمة تسنده، فاذا بهذا الشطء يستمد الضوء والماء والاملاح من البيئة والمحيط، فيقوى ويرتفع مستغلظاً مستوياً، ?يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ? فالصديق معجب والعدو مغتاظ وحاقد.
ان المجتمع الحي هو ذلك المجتمع الذي تكون علاقات ابنائه ببعضه قائمة على اساس القيم السليمة، والعمل الصالح، فالعلاقات الإيجابية المتفاعلة هي أهم شيء في تكوين المجتمع الحي.
أمّا المجتمع الذي تكون علاقاته قائمة على أساس العنصرية، والإعتبارات القبلية، والمصالح المادية، والاقليمية، يكون كالجسد الميت الذي لا تلبث البكتريا والميكروبات الموجودة فيه أن تحلله وتفسخه وتحوله خلال مدة قصيرة إلى تراب وعظام نخرة.
فما هي حقيقة العلاقات الايمانية التي ينبغي أن تشكل الأساس في بناء المجتمع الإسلامي الحي؟.
هذا ما نقرأه على الصفحات القادمة بإذن الله تعالى.
صفوة الكلام
1- إن الأخطار المحدقة بالبشرية (الحروب، الاستغلال والإستعباد، الرعب النووي، ...) تدفعها للبحث عن الخلاص أكثر فأكثر .
2- إن الرسالات الإلهية التي يجب أن تُفهم من جديد، وبعيداً عن التأثّر بواقعنا المتخلف، وأفكارنا التبريرية، ونظراتنا السلبية، هي طريق الخلاص للبشرية .
3- إن الاسلام يعطي الأولوية الأولى لخلق المجتمع الانساني الصالح، وليس لإصلاح الإنسان كفرد - فحسب - .
4- ويهتم الدين ببناء مجتمع حي وليس مجتمعاً ميتاً .
5- المجتمع الحي، هو تماماً كالبذرة الحية، يمتص من حوله الإمكانات المادية والبشرية، ويوجهها من أجل بناء الحضارة الإنسانية .
6- إن العلاقات الايجابية المتفاعلة هي أهم عنصر في تكوين المجتمع الحي، وتقوم هذه العلاقات على أساس القيم السليمة والعمل الصالح .
=====================(4/23)
قيم البناء والتقدم
- عز وجل - التقوى - عقيدة وسلوكاً - هي الصبغة العامة للمجتمع الإسلامي .
- عز وجل - المجتمع الاسلامي، هو مجتمع القوة، والاستقلال، والثروة، والتقدم في كافة المجالات العلمية والصناعية .
هناك ثلاث نظريات فيما يخص العلاقة بين الفرد والمجتمع:
النظرية الأولى تقول:
إن الفرد هو كل شيء في المجتمع، وهو العامل الحاسم في تحريك التاريخ، ولذلك ينبغي الاهتمام بالمجتمع من حيث هو أفراد، وسن المناهج والانظمة التي تربّي أفراداً متفوقين ونابغين، يبنون الحضارة البشرية، ويهبون التقدم للانسانية.
وتنطلق هذه النظرية من واقع وجود بعض العظماء الذين استطاعوا أن يغيروا مسيرة التاريخ، ويرسموا خريطة جديدة لحياة مجتمعاتهم.
النظرية الثانية
وتقول:
إن الفرد لا قيمة له إطلاقا، فهو أشبه ما يكون ببرغي صغير في ماكنة المجتمع. وهذه النظرية تتمسك بالحتميات الاجتماعية، وترى بأن حركة المجتمعات وتطوراتها نابعة من أنظمة عامة يخضع الافراد لسلطانها، فلا يملكون أن يواجهوها أو يغيّروا منها شيئا إذا ما رأوا أنها تقودهم في الاتجاه الخاطىء. ولذلك فهذه النظرية تؤمن بفكرة الدورات الاجتماعية المنتظمة، أي ان كل مجتمع لابد أن يمرّ بنفس المراحل التي يمرّ بها الإنسان في حياته. حيث يولد طفلا رضيعا ثم يصبح شابا مراهقا، فرجلا، فكهلا، فشيخا، فهرما، ثم يموت. والأمثلة التاريخية على ذلك كثيرة ومتنوعة يعددّها أرنولد توينبي في كتابه (مختصر دراسة للتاريخ).
أمّا النظرية الثالثة؛
والتي يؤيدها الإسلام وتقوم أنظمته وشرائعه عليها، فهي تقف في الوسط بين النظريتين، فتعطي للفرد أهميته اللائقة، كما تعطي للمجتمع دوره المؤثر، وتنظم العلاقات بينهما بشكل دقيق ومتوازن.. فالمجتمع يؤثر في الفرد، والفرد بدوره يؤثر في المجتمع؛ إنها لا تسلب الفرد إرادته، ولا تحرم المجتمع من تلك القوانين والانظمة الديناميكية التي تعطيه الوقود المناسب في مسيرته الحضارية التكاملية .
وعلى هذا فهي لاتنفي تينك النظريتين، وانما تربط بينهما بشكل تزول معه الهوة الفاصلة بين الفرد والمجتمع، وتجعل الاثنين يتفاعلان مع بعضهما لما فيه خير الإنسانية وسعادتها.
كذلك فهي ترى أن الدورة الاجتماعية المنتظمة ليست حتمية أبدا. ففي التاريخ الحديث مثلا نجد ان المجتمع الألماني كان مجتمعاً حيوياً يتفجر ثورة واندفاعا، وكان باستطاعته أن يبقى زمنا طويلا متحكما في القارة الأوروبية، ولكن هذا المجتمع الفتي ابتُلي بطاغوت أهوج مثل (هيتلر)، وبحزب متطرف مثل (الحزب النازي)، فانقاد إلى الهاوية والسقوط، وتم - بعد الحرب العالمية الثانية - تقسيمه إلى شطرين أحدهما تحت مظلة المعسكر الشرقي والآخر تحت مظلة المعسكر الغربي، واستمر هذا الوضع عدة عقود من الزمن حتى إنهيار الاتحاد السوفياتي.
وهكذا فالمجتمعات قد تموت في أيام شبابها، وقد يشيخ المجتمع ويهرم ويشرف على الموت، ولكن لا يلبث أن ينبعث في داخله مصلح يفجّر إمكاناته الذاتية المختزنة فيتحدى المجتمعُ بارادة ابنائه تيارَ الانحدار، ويتقدم مرة أخرى حتى يثبت نفسه، كما حدث بالنسبة للمجتمع العربي الجاهلي الذي كان مشرفا على التفسخ والاندثار، ولكن بمجيء النبي محمد صلى الله عليه وآله وظهور الإسلام، دبّت فيه الروح، واذا بالعرب يصبحون في فترة وجيزة سادة العالم وبناة الحضارة.
ديناميكية المجتمع
إن بناء المجتمع على أساس القيم الصحيحة، والعمل الصالح يعطيه ديناميكية في الاتجاه الصحيح، وعكس ذلك صحيح أيضا. ولكي نوضح الفكرة، دعنا نضرب مثالاً على ذلك: إذا حفرت نهراً يمتد من ينابيع المياه ويجري عبر الاراضي الصالحة للزراعة، فسوف يروي هذا النهر آلاف الهكتارات من الاراضي المزروعة ويصبح سلة خبز لأولئك الذين يعيشون حول هذه المنطقة. أما إذا حفرت ذات النهر عبر أراضٍ سبخة فانه لن ينفع شيئا وستذهب مياهه هدرا.
إن هذه واحدة من السنن الطبيعية التي تنطبق أيضا على المجتمع البشري، فالمجتمع مثل النهر يمتلك طاقة هائلة، فإذا وجّهت في الاتجاه السليم وحفرت لها قنوات ملائمة، تحركت هذه الطاقة عبر القنوات وأعطت ثمارا طيّبة، ولكن إذا كانت هذه القنوات غير سليمة ومتناقضة الاتجاهات فان المجتمع سرعان ما يتحطم ويموت.
مثلا، إذا أقمنا بناء المجتمع على العنصرية، فان طاقاته ستتوجه عبر هذه القناة الرديئة، فيفرض الرجل الابيض سيطرته على الرجل الأسود، كما كان الوضع في جنوب إفريقيا، وتكون النتيجة أن بضع مئات من الألوف من البيض يتحكمون في مصير عدة ملايين من المواطنين السود، وهذا يعني فيما يعني أن الرجل الأبيض كان يعمل ساعتين فقط في اليوم، وكان يستطيع أن يضمن لنفسه بهما حياة مرفهة، بينما كان الأسود يعمل أربع عشرة ساعة يوميا حتى يحصل على أجر قليل لم يكن يكفيه. فالاول كانت عنده ست ساعات من الفراغ، بينما الثاني كان يُرهق بست ساعات من العمل الأضافي، وبعد فترة كان الأبيض يموت من الترف والفراغ، والأسود يموت من الجوع والتعب، وينتهي المجتمع شر نهاية، وهذه واحدة من السنن الإجتماعية.
ويتوقف تقدم وحيوية المجتمع البشري على قوانين وأنظمة ذاتية كثيرة نسمّيها بديناميكية المجتمع، وسوف نستعرض هنا جملة منها بشكل موجز من خلال عهد الامام علي بن أبي طالب عليه السلام، لمالك الأشتر لمّا ولاّه مصر، حيث يرسم لنا فيه الديناميكية الاجتماعية والقوانين التي تتحكم في المجتمع.
يقول عليه السلام:
( واعلم أنّ الرعيّة طبقات لا يصلح بعضها إلاّ ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض. فمنها: جنود الله، ومنها: كتّاب العامّة والخاصّة، ومنها: قضاة العدل، ومنها: عمّال الإنصاف والرّفق، ومنها: أهل الجزية والخراج من أهل الذّمة ومسلمة الناس، ومنها: التجّار وأهل الصناعات، ومنها: الطبقة السُّفلى من ذوي الحاجة والمسكنة، وكلٌّ قد سمّى الله له سهمه (أي نصيبه من الحق) ووضع على حدِّه فريضة في كتابه، أو سُنّة نبيّه صلى الله عليه وآله عهداً منه عندنا محفوظا.
فالجنود، بإذن الله، حصون الرعية، وزين الولاة، وعِزُّ الدين، وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلاّ بهم.
ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به على جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيما يصلحهم، ويكون من وراء حاجتهم.
ثم لا قوام لهذين الصنفين إلاّ بالصِّنف الثالث من القضاة والعمال والكتّاب، لما يُحكمون من المعاقد (أي: يقومون بتنظيم العقود) ويجمعون من المنافع، ويؤتمنون عليه من خواص الأمور وعوامها.
ولا قوام لهم جميعا الا بالتجّار وذوي الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم (أي: المنافع التي يجتمعون من أجلها)، ويقيمونه من أسواقهم، ويكفونهم من التّرفّق (أي: التكسّب) بأيديهم ما لا يبلغه رفق غيرهم.
ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم (أي: مساعدتهم وصلتهم) ومعونتهم. وفي الله لكلٍّ سعة، ولكلٍّ على الوالي حق بقدرما يصلحه) .
ويمكننا ان نستخلص من هذه القطعة من عهد الامام علي عليه السلام بعض القوانين الأساسية لبناء المجتمع الحي:
1 - قانون التفاضل بالسعي
فالمجتمع يتألف من طبقات تقوم - أولاً - على أسس سليمة هي: العلم والخبرة والكفاءة والقدرة البدنية.. الخ.(4/24)
ولا يوجد - ثانياً - بينها إستعلاء ولاتفاخر، فأفراد المجتمع متساوون في الإنسانية، وسواسية أمام القانون القضائي، ويختلف هذا القانون عن الطبقية البغيضة التي تقوم على أساس العنصر والدم، أو الثروة والمال، أو المنصب والمركز الاجتماعي، أو على أسس قبلية وطائفية وعائلية وما أشبه.
2 - قانون التعاون
وهذه الطبقات، التي تشكل جسم المجتمع، غير منغلقة على ذاتها، بل تنفتح على بعضها بالتعاون المثمر البنّاء، فيكمل بعضها بعضا، فلا غنى لواحدة عن الآخرى، كما ان علاقتها مبنية على أسس المحبة والاحترام المتبادل.
3 - قانون العدالة
وهذا أهم ركيزة يقوم عليها المجتمع الحيوي السليم، حيث ينبغي أن تكون العدالة شاملة للجميع، حاكماً ومحكوماً، غنياً وفقيراً، قوياً وضعيفاً.. حتى تؤتي ثمارها.
إن فقدان العدالة له تأثير هدّام مزدوج، فمن ناحية يؤدي إلى التجرؤ على أكل حقوق الآخرين، والإعتداء عليهم، ويؤدي من ناحية أخرى إلى تثبيط همم العاملين المنتجين من زرّاع وتجّار وجنود وكتّاب ومفكّرين.. بسبب قلقهم من احتمال إغتصاب وسرقة الآخرين لجهودهم.
4 - قانون صيانة المجتمع
لكي يحافظ المجتمع على نفسه من الاعتداء الخارجي، أو الاضطراب والتفسخ الداخلي، فلابد له من عدّة ركائز هامة تشكل أساس البناء الاجتماعي:
أولا: القوة العسكرية: جيش، وأسلحة، وتدريب، وتنظيم.. الخ
ثانيا: القوة الاقتصادية: زراعة، وصناعة، وحِرَف، ومهن.. الخ
ثالثا: القوة القضائية: قضاة، وحكام شرع، وكتّاب.. الخ
رابعا: القوة الادارية والتنفيذية، وهي جهاز الحكومة بما فيه من وزراء وموظفين، وإداريين.
خامسا: القائد الأعلى أو الرئيس، وهو الذي يجمع كل هذه الخيوط بيده ويكون خاضعاً للقيادة التي تتمثل في النبي صلى الله عليه وآله أو الامام المعصوم أو الولي الفقيه وهم الامناء على شريعة الله في الأرض.
5 - قانون التكافل والضمان الاجتماعي
إن الفقراء والمساكين وذوي الحاجة ممن قعدت بهم كارثة تعرضوا لها، أو مرض ألم بهم، أو شيخوخة أصابتهم، ينبغي أن تُشكل لأجل هؤلاء جميعا مؤسسات خاصة تقوم برعايتهم، ويسمي الإمام علي عليه السلام من يعملون في مثل هذه المؤسسات بعمال الرفق والانصاف.
إن هذا القانون يجلب الاطمئنان للفرد فيما يخص مستقبله، وبالتالي يؤدي إلى زيادة إنتاجه، إضافة إلى إشاعة روح التراحم بين أفراد المجتمع.
صبغة المجتمع الإسلامي
أما الصبغة العامة للمجتمع الإسلامي الصحيح فهي التقوى عقيدة وسلوكاً، ويشير إلى ذلك حديث الامام علي عليه السلام في عهده لمحمد بن ابي بكر حين قلّده مصر:
(واعلموا عباد الله أن المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا وآجل الآخرة، فشاركوا أهل الدّنيا في دنياهم، ولم يشاركوا أهل الدنيا في آخرتهم، سكنوا الدنيا بأفضل ما سُكنت، وأكلوها بأفضل ما أُكلت، فحظوا من الدّنيا بما حظي به المترفون، وأخذوا منها ما أخذه الجبابرة والمتكبّرون، ثمّ انقلبوا عنها بالزاد المبلّغ والمتجر الرابح) .
وكما هو واضح من السياق، فإن التقوى المقصودة هنا ليست التقوى الفردية، بل هي تلك التي تأخذ الطابع الجماعي، أي تصبح خصيصة من خصائص المجتمع، يمتاز ويُعرف بها.
وهذا الحديث يبين حكمة مهمة في الحياة الاجتماعية الإسلامية، وهي أن المسلمين ليسوا هم أولئك الذين تعلقوا بالآخرة فقط وتركوا الدنيا وشؤونها وراء ظهورهم، وليسوا هم أولئك الضعفاء الفقراء ، الزاهدون في متاع الدنيا، المعتزلون لأمور الحكم والسياسة والجيش، ولا يؤمنون بالعلوم والتكنولوجيا الحديثة، إن هذه أفكار سلبية دسّها الأجانب الحاقدون في صفوفنا وحاولوا بها إضعاف المسلمين من جهة، وتشويه وجه الإسلام المشرق من جهة ثانية.
إن المجتمع الإسلامي هو مجتمع القوة والإستقلال والثراء والتقدم في كافة المجالات العلمية والصناعية. وهو مجتمع يبني حضارة متكاملة بكل أبعادها، غاية ما في الأمر أن كل ذلك ينبغي أن يتم في إطار مبادئ محددة في تعامله مع شؤون الحياة ومع المجتمعات الأخرى، تقوم على أساس الحلال والحرام الذي تقرره الشريعة الإسلامية وعلى أساس القيم والأخلاق الفاضلة.
صفوة الكلام
1 - ثلاث نظريات حول الاهتمام بالفرد والمجتمع:
ألف: الإهتمام بالفرد على حساب حقوق المجتمع .
باء: الاهتمام بالمجتمع، وسحق الفرد .
جيم: النظرية الإسلامية التي تعطي للفرد أهميته اللائقة، كما تعطي للمجتمع دوره المؤثِّر، وتنظم العلاقات بينهما بشكل دقيق ومتوازن .
2 - إن بناء المجتمع على أساس القيم الصحيحة والعمل الصالح يعطيه ديناميكية في الاتجاه الصحيح .
3 - يتوقف تقدم وحيوية المجتمع على قوانين وأنظمة أساسية يشير إليها الامام علي عليه السلام في عهده إلى مالك الأشتر . هي:
ألف: التفاضل بالسعي .
ب: التعاون .
ج:العدالة .
د: صيانة المجتمع بالقوى العسكرية، والإقتصادية، والتنفيذية، والقضاء، والقيادة العليا .
هـ: التكافل الإجتماعي .
4 - وتشكل التقوى: الصبغة العامة للمجتمع الاسلامي، حيث تصبح واحدة من خصائص المجتمع، يمتاز ويعرف بها .
====================
لكي لا نخضع للأغلال
- عز وجل - القرآن الكريم يدعوا إلى صلاح العمل ، لتوجيهه في وجهة التعاون الإيجابي البنّاء .
- عز وجل - لقد جاءت رسالات السماء من أجل تحرير الإنسان من الأغلال التي تعيق مسيرته نحو التقدم والبناء .
الإنسان مفطور على النشاط و العمل وهو لا يحب الفراغ والبطالة، ولذلك نجد أن الأنظمة الدكتاتورية تستخدم التعذيب بالفراغ كأشد أنواع التعذيب، فتسجن المعارضين في زنزانات إنفرادية، وتحرمهم من أي نوع من العمل حتى القراءة وسماع المذياع والتحدث مع الآخرين.
وكذلك نجد الطفل لا يكف أبداً عن اللعب والحركة وممارسة حيويته ونشاطه في كل شيء، واذا مُنع من ذلك بأي اسلوب فانه سرعان ما تسوء حالته الصحية، هذا من الناحية النفسية، أمّا من الناحية البدنية فان أكثر اعضاء الإنسان في حالة حركة ونشاط، فحتى عندما يكون مسترخيا أو نائماً، يكون عقله في حالة تخزين للمعلومات وتبويبها وربط بعضها بالبعض الآخر.
الطموح.. ميزة الإنسان
إنها طبيعة الإنسان، فهو كأي كائن حي آخر، مفطور على النشاط ومجبول على التحرك. وليس هذا فحسب، بل الإنسان مفطور على الطموح أيضاً، وبذلك يتميز عن سائر الاحياء، فهو لا يكتفي بما يحصل عليه، وإنما يريد المزيد دائما.
إن الطموح قوة داخلية دافعة لا تقف بالمرء عند حد البحث عن الأكل والشرب فقط، ولو كان كذلك لاستغنى عن بذل الجهود الجبارة لبناء تلك الحضارات الكبيرة في التاريخ، لأن أكله وشربه مضمونان بأدنى جهد كما هو بالنسبة لأي حيوان.
إن الإنسان يبحث عن الملك والخلود، ولذلك حينما أراد إبليس أن يغوي أبانا آدم وأمنا حواء عليهما السلام قال لآدم:
?هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى? طه ،120
إذاً فالعمل - الذي هو نتيجة الطموح - هو من طبيعة الإنسان، ولكن المشكلة التي تعاني منها البشرية على مر الزمن هي في أمرين:
انحراف الطموح(4/25)
الأول: الفساد والانحراف في الطموح، حيث يصبح الطموح -أحياناً- طريقاً للتردي والعاقبة السوأى، ولذلك نجد حين نستعرض آيات القرآن الحكيم إنّ أغلب الآيات التي تتحدث عن العمل، لا تتحدث عن العمل باعتباره ضرورة فهو قضية مفروغ منها، وانما تدعوا إلى صلاح العمل، لتوجيهه في وجهة التعاون الإيجابي البنّاء، ونادراً ما نجد آية تذكر العمل مجرداً عن أية صفة كقوله تعالى: ?وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ? التوبة،105
أما أغلب الآيات التي تدعوا إلى العمل فإنها تدعوا إلى صلاحه. يقول تعالى:
?وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ? سورة العصر
?مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِن ذَكَرٍ أَوْ اُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً? النّحل،97
?فَمَن كَانَ يَرْجُوا لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً? الكهف،110
وهكذا يعالج القرآن مسألة الطموح عند الإنسان فيرفعه عن الاقتصار على البعد الدنيوي، ويوجهه باتجاه الآخرة:
?يَآ أَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ? الإِنشِقاق،6
?إِنَّآ إلى رَبِّنَا رَاغِبُونَ? القَلَم،32
?تِلْكَ الدَّارُ الاَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الاَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ? القَصَص،83
أغلال العمل
الثاني: هناك مشكلة مهمة اخرى عانت منها المجتمعات البشرية على طول التاريخ، وهي وجود الأغلال الكثيرة أمام العمل الايجابي والحركة الهادفة، فبالرغم من أن الإنسان مفطور على العمل والنشاط، وأن هناك وقودا يحركه في هذا الاتجاه وهو الطموح، فان الاغلال الاجتماعية والتي تتحول إلى أغلال نفسية وفكرية تجمّده وتعرقل حركته. ولقد جاءت رسالات السماء من أجل فك هذه الاغلال التي تعيق سير البشر باتجاه التقدم والبناء، يقول القرآن الحكيم:
?وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ?الاعراف،157
وعندما نتأمل الآيات القرآنية والاحاديث الشريفة نجد كثيراً من الآيات والنصوص تسعى من أجل تحطيم الاغلال بكافة أشكالها:
1- الخشية من السلطة أو أصحاب القوة التي تؤدي إلى سيطرة الدكتاتورية، أو الإستسلام لقوات الاحتلال الطامعة. ولذلك يقول القرآن مخاطباً المؤمنين: ?فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ? المائدة،3
ويقول:
?أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ? التوبة،13
وهكذا فهو يهدف إلى ازالة خشية العباد التي تقيد البشر وتكبله، والإبقاء على خشية الخالق التي تدفعه في طريق الجد والعمل.
2- الخوف من الأخطار المستقبلية والحزن على الخسائر الماضية مما يحطم معنويات الإنسان، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى عنها: ?إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ? الاحقاف،13
ويقول تعالى: ?إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ? النساء،104
دعنا نتصور عندما يتحرر الإنسان من كابوس الحزن والخوف كيف يكون إندفاعه في الحياة عظيماً.
3- تأثير الإعلام المضلل من الانباء الكاذبة والافكار الخاطئة التي يقول القرآن عنها: ?يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا? الحُجُرات،6
أي لا تصدّقوا كل الأخبار التي تسمعونها ما لم تتأكدوا يقينا من صحتها، كذلك لا تأخذوا الثقافة والأفكار من أي شخص وإنما من المؤمنين المخلصين فقط. يقول سبحانه: ?لاَيَتَّخِدِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ? آل عمران،28
فبدل أن نقرأ كتب الماركسيين والماديين الغربيين وصحفهم، دعنا نقرأ كتب وصحف علماء الإسلام المجاهدين الذين ينقلون لنا الثقافة الإسلامية من معينها الصافي.
4- الاستحياء من الحق الذي هو غل اجتماعي ثقيل يكبل طاقات الافراد، ويمنعهم من أداء كثير من الاعمال الضرورية أو المفيدة. فعندما يريد شخص أن يقوم بعمل بنّاء، فانه يحسب الف حساب لكلام الناس عنه ونظراتهم اليه، فاذا ما أحس أنهم سيسخرون منه . وإن كان عن جهل منهم، فإنه يُحجم عن العمل. والقرآن الحكيم ينسف الخضوع لهذا الضغط حيث يقول: ?وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحِي مِنَ الْحَقِّ? الاحزَاب،53
فإذا كان الله كذلك فكيف انت يا عبد الله؟ إذن لا تحسب لكلام الناس حسبانا، وأقدم على العمل مادمت تراه مفيدا وفي طريق الحق.
ويقول سبحانه واصفاً المجاهدين: ?يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ? المائدة،54
فالمؤمنون لا يخافون لومة اللائمين في كل المجالات: في الخطابة وتأليف الكتب بالنسبة للمثقفين المبتدئين في هذا المجال.. وفي أداء بعض النشاطات اليدوية كالزراعة والبناء وغيرها مما يحتاجه المجتمع بشكل ماس في بعض الظروف، بالنسبة لمن يتمتعون بالوجاهات والمراكز.. وفي حمل السلاح ونصب المتاريس وحفر الخنادق والركض هنا وهناك في الحالات التي تتطلب مجهودا حربيا، بالنسبة للعلماء والطلاب وأصحاب المراكز العلمية المرموقة وغيرهم، وكذلك الحال بالنسبة للمرأة وغير ذلك كثير.
ولو درسنا سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وآله والإمام علي بن ابي طالب عليه السلام وسائر الائمة والاصحاب الأجلاء، لرأينا انهم لم يكونوا ليستنكفوا عن أداء أي عمل يكون فيه خير للمجتمع مهما كان صغيراً.
5- اليأس والقنوط، فعندما يرتكب الإنسان ذنوبا كبيرة وكثيرة في حق الله والناس، أو عندما تكون الظروف صعبة ومعاكسة، والظغوط شديدة فإن قنوطه من رحمة الله، ويأسه من انفراج الامور وتحسّن الاحوال يدفعانه إلى التقاعس والقعود عن العمل، ولكن القرآن يرفع هذه العقبات ويفتح طريق العمل من جديد بالأمل فيقول: ?قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً? الزُّمر،53
ويقول :
?فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً? الإنشراح،5
وهكذا نرى إن الإسلام لا يقول للناس: إعملوا فقط. بل ويقوم برفع الموانع والعقبات من طريقهم ويفك عنهم الأغلال، فتتحرك طبيعتهم البشرية المحبة للعمل والنشاط، وإذا بهم يندفعون إندفاعاً شديداً بحيث يضطر أحياناً إلى أن يكبح قليلا من هذا الاندفاع محافظة عليهم من الإرهاق فيقول رسول الله صلى الله عليه وآله:
(إن لبدنك عليك حقا)
ويقول: الإمام علي عليه السلام: (روّحوا قلوبكم، فإنها إذا أكرهت عميت)
إن رسالات السماء لا تحتاج أن تقول للانسان كيف يشق الذّرة ويستخرج الطاقة النووية، فإن اكتشاف ذلك موكول إلى الإنسان نفسه بما أودع الله فيه من عقل وقدرة، ولكنها تكتفي بتوجيهه إلى الطريقة الصحيحة لاستخدام عقله وقدرته. كذلك فهي لا تقوم بتعليم الإنسان كيف يبني بيتاً، وانما تحدّد له كيف يستفيد منه إستفادة سليمة بعد بنائه.
لقد دخل أمير المؤمنين عليه السلام على العلاء بن زياد الحارثي - وهو من أصحابه في البصرة - يعوده، فلما رأى الإمام سعة داره قال:
(ما كنتَ تصنعُ بسعة هذه الدار في الدنيا، وأنت إليها في الآخرة كنتَ أحوج؟)(4/26)
فهل يعني هذا الكلام أنه كان على الحارثي أن يبيع داره وينفق ثمنها في سبيل الله حتى يكسب بذلك داراً في الآخرة؟ يجيب الإمام عليه السلام على هذا التساؤل في تتمة كلامه:
(وبلى إن شئت بلغتَ بها الآخرة؛ تُقري فيها الضيف، وتصل فيها الرحم، وتُطلِع منها الحقوق مطالعها، فإذا أنت قد بلغتَ بها الآخرة) .
صفوة الكلام
1 - الإنسان مفطور - بطبيعته - على النشاط ، ومجبول على التحرك، بل ومفطور على الطموح أيضاً، فهو لا يكتفي بما يحصل عليه، وإنما يطلب المزيد دائماً.
2- إذن فالعمل - الذي هو نتيجة الطموح - هو من طبيعة الإنسان، ولكن هناك مشكلتان:
الاولى: الفساد و الانحراف في الطموح . ولذلك فإن القرآن الكريم يؤكد دائماً على صلاح العمل .
الثانية: وجود الأغلال الكثيرة أمام العمل الايجابي والحركة الهادفة،ولقد جاءت الرسالات الالهية من أجل فك هذه الأغلال، وهي بإيجاز:
ألف: الخشية من أصحاب القوة .
ب : الخوف من أخطار المستقبل والحزن على خسائر الماضي .
ج : التأثر بالإعلام المضلِّل .
د : الإستحياء من الحق .
هـ : اليأس والقنوط .
===================
الانتماء الاجتماعي والتغيير
- عز وجل - المجتمع الرسالي، مجتمع نهضوي، يحمل رسالة التوحيد إلى العالم .
- عز وجل - على كل مؤمن أن ينتمي لتجمعات ومؤسسات ثقافية فكرية رسالية للعمل على بناء مجتمع إسلامي فاضل، يقوم على أساس القيم الإلهية، وتطبيق أحكام الشريعة
لماذا يعطي الإسلام الحياة الاجتماعية شرعية مؤكدة، ويفضّلها على الفردية والإنعزال والانطواء على الذات؟
ولماذا يحثّ الفرد على الانتماء الاجتماعي؟
لسببين رئيسيين:
1- إمكانية تطبيق الرسالة
إن المجتمعات المتماسكة تجري فيها الشرائع والقوانين بسهولة ويسر، بينما المجتمعات المائعة وغير المتماسكة، من الصعب تطبيق القوانين والأنظمة فيها، ومن الصعب توفيق الافراد مع الخط العام للمجتمع.
فالمجتمع المتماسك هو المجتمع الذي يندفع فيه الفرد نحو تكييف نفسه مع الآخرين إندفاعاً ذاتياً، ولا يجد صعوبة في تطبيق الأنظمة على نفسه، بل يندفع نحو التطبيق إندفاع السيل من عل، من دون صعوبة أو مقاومة، وهو منذ الطفولة يتربى على ذلك.
وبما أن الإسلام رسالة الهية متكاملة ذات قيم وأنظمة، وذات أحكام وشرائع تفصيلية، لذلك تجد أن هذا الدين لابد وأن يؤكد على شرعية المجتمع لكي تُطبق تلك القيم، وتلك الشرائع في هذا المجتمع بسهولة ويسر.
وطالما أنه يقرر وجوب إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وأهمية الصدق والوفاء، وضرورة الصلاح والخير، ويؤكد على ذلك كله.. فلا يمكنه أن يترك تطبيق هذه القيم والانظمة من دون إيجاد سبيل وضمان لذلك، ومن أبرز تلك الضمانات، إيجاد التماسك الوثيق داخل المجتمع عن طريق إعطاء الشرعية للكيان الاجتماعي.
2- امكانية نشر الرسالة
المجتمع الرسالي مجتمع نهضوي، لانّه يحمل رسالة التوحيد إلى العالم، وحينما يحمل مجتمع ما مثل هذه الرسالة فإنّه سوف يصطدم حتما مع قوى كثيرة في طريق نشرها. والإسلام - من جهة أخرى - رسالة عالمية لا تريد أن تحصر نفسها في الجزيرة العربية أو في البلاد النائية فقط، وانّما هو رسالة لكل إنسان، والى هذا يشير قوله تعالى: ?وما أرسلناك الا رحمة للعالمين? الانبياء ، 107 .
وما دامت رسالة الإسلام عالمية، لذلك لابد أن يستعد المجتمع الذي يؤمن بها للصدام، ذلك لانه عندما يصطدم هذا المجتمع بالعقبات، فلابد أن يضحي من أجل ازالة تلك العقبات بالاموال والانفس، وعندما يستعد هذا المجتمع للتضحية، فإن التضحية ستكون عادة وسنة فطرية لهذا المجتمع، وسيكون هذا المجتمع معطاء، يعطي من دماء أبنائه بسخاء في سبيل تطبيق الرسالة.
والمجتمع المتماسك من السهل عليه أن يقدم ضحايا من أبنائه لتطبيق قيمه لإعتبارين:
الاول: ان هذا المجتمع يؤمن بالقيم ايماناً شديداً ومن يؤمن بالقيم يضحي من أجلها.
الثاني: السبب النفسي، ولكي أوضّح هذا السبب، لابد أن أضرب مثالاً: الإنسان الذي له إبن واحدٌ فقط، من الصعب عليه أن يقدمه شهيداً في سبيل الله لانّه لا يملك غيره. ولكن لو افترضنا أن رجلا له عشرة أولاد، فسيكون تقديم الشهداء بالنسبة له أكثر قبولاً لانّه سيفقد قسماً من أولاده ويحتفظ بالباقين.
وهكذا الإنسان الذي يعيش داخل مجتمع متماسك، ويحس بشدة الانتماء الاجتماعي، سوف يحس شعورياً ونفسياً بأن كل أبناء المجتمع هم أبناؤه أو آباؤه أو إخوانه وأخواته. لذلك لا فرق عنده بين أن يضحّي ببعض أولاده أو أقاربه، أو أن يضحي الآخرون في هذا السبيل، بل من السهل عليه أن يضحي بنفسه لأنّه لا يحس بفرديته أو تميزه عن الآخرين، إنما يحس أنّه جزء متفاعل مع كل أفراد المجتمع. فإذا مضى في سبيل الله فانه سيكون وراءه من يتابع دربه ويحقق أهدافه.
وهذا هو الشعور الذي كان يسود المجاهدين الإسلاميين الأوائل وهم يجاهدون في كل الجبهات في أقاصي الارض حيث كان بعضهم يجاهد في حدود السند، والبعض الآخر في الاندلس ولكنهم جميعاً كانوا يشعرون بأنّهم أمة واحدة، إذا استشهد أحدهم فلا ضير، لأن هناك الملايين ممن سيواصلون دربه ويحققون طموحاته. كما يقول ربنا عنهم:
?مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا? الاحزَاب،23
من هنا ولأسباب أخرى غيرها يعطي الإسلام الشرعية للانتماء الاجتماعي. ولكن كيف يحقق تلك الشرعية وبأي أسلوب؟
الخلايا الاجتماعية
يتكون المجتمع من خلايا عديدة تنتظم في تشكيلات معينة وهي على نوعين: خلايا فطرية توجدها غريزة الإنسان وربما مصالحه، وخلايا حضارية تكوِّنها قيم الإنسان ومبادؤه.
أولاً: الخلايا الفطرية
يؤمن الإسلام بخلية الاسرة ايماناً قوياً قد لا يصل إليه إيمان أي مذهب أو دين آخر، ويؤكد على تماسكها. فالأسرة مقدسة في نظر الإسلام، والتماسك الأسري في الإسلام هو أحد الأسس الرئيسية لتماسك المجتمع.
ويقوم المجتمع الإسلامي على أساس الاسرة كوحدة اجتماعية، ولذلك تُسمى الأسرة فيه حصنا. فالإسلام يسمي الرجل المتزوج بالمُحْصَن، ويسمي المرأة المتزوجة بالمُحْصَنة، لأنّهما قد دخلا في الحصن.. والإسلام لا يرضى لأي سبب من الأسباب بهدم هذا الحصن.
ومن أهم الاسباب الهدّامة التي وضع الإسلام تشريعات مشددة لمكافحتها هو الزنا، فاعتبر الزاني هو ذلك الذي يعتدي على حصن الاسرة فيسبب هدم البيت الاسري.
والواقع أنّه إذا تفشى الزنا في المجتمع فان الأسرة تتفتت وتنهار. وهذا مانراه في المجتمعات المادية التي ينتشر فيها هذا المرض الإجتماعي الخطير.
لذلك، فإن الإسلام يؤكد على حرمة الزنا ويعتبره أمراً خطيراً جداً.
يقول تعالى:
?وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً? الاسراء،32
ونجد أن نبينا محمداً صلى الله عليه وآله وسائر الأئمة من أهل بيته عليهم السلام حينما يريدون ان يبيّنوا سبب حرمة الزنا يؤكدون أن الزنا يهدم حصن الأسرة وبالتالي يحطّم المجتمع. ونستطيع أن نستلهم هذه الافكار من الأحاديث التالية:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
(لما أُسري بي مررت بنسوان معلقات بثديهن، فقلت من هؤلاء يا جبرائيل؟ فقال هؤلاء الّلواتي يورثن أموال ازواجهنّ أولاد غيرهم)(4/27)
أي انهن يزنين ثم يلحقن أولادهنّ من الزنا بأزواجهن، ومن الطبيعي أن يرث هؤلاء الأولاد أموال غير آبائهم، باعتبار أن الازواج لم يكونوا الآباء الحقيقيين لهم.
وفي حديث آخر نجد الامام الرضا عليه السلام يقول:
(وَحَرَّم الزنا لما فيه من الفساد، من قتل الأنفس وذهاب الأنساب، وترك التربية للأطفال، وفساد المواريث وما أشبه ذلك من وجوه الفساد) .
فالامام الرضا عليه السلام يؤكد على ان المجتمع الذي لا يحصن بالاسرة، لا يملك تربية صالحة للأولاد، إذ أن الإنسان عندما يلجأ لبيتٍ غير بيته يقضي فيه شهوته فانه لا يهتم بأمور اولاده وزوجته، والاولاد لا يشعرون بالمقابل بأهمية بيتهم، ولذلك لا يستلهمون القيم والافكار من أبيهم، فتتفتت الأسرة، وبالتالي يتفتت المجتمع.
وفي حديث آخر يقول الامام أمير المؤمنين علي عليه السلام:
(ألا أخبركم بأكبر من الزنا؟ قالوا: بلى، قال هي امرأة توطىء فراش زوجها فتأتي بولد من غيره فتلزمه زوجها، فتلك التي لا يكلّمها الله ولا ينظر إليها يوم القيامة ولا يزكيها ولها عذاب أليم) .
والعقوبات الإسلامية حول الزنا تؤكد هذه الأهمية، يقول تعالى:
?الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ? النُّور،2
في هذه الآية يبين القرآن الحكيم أن للزاني، رجلاً كان أو امرأة، ثلاث عقوبات:
عقوبة جسدية وهي مائة جلدة، وعقوبة معنوية وهي غضب الناس ?وَلاَ تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ?. وعقوبة نفسية وهي ?وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ?.
وبعد المرور بهذه العقوبات الصارمة يستحيل على الزاني ان يكرّر فعلته كما أنه سيصبح عبرة للآخرين. وفي بعض الأحاديث نجد تفسيراً لسبب شدّة الإسلام مع الزناة، فعن الامام الرضا عليه السلام قال:
(علّة ضرب الزاني على جسده بأشدّ الضرب لمباشرته الزنا واستلذاذ الجسد كلّه به، فجعل الضرب عقوبة له وعبرة لغيره، وهو أعظم الجنايات) .
ثانيا: الخلايا الحضارية
يعطي الإسلام أهمية كبيرة للخلايا الحضارية التي لا يعتني بها - عادة - الا الذين يحملون قيماً معينة يؤمنون بها.
ومن جملة الخلايا الحضارية في المجتمع، تلك الخلايا التي تتكون من مجموعة رجال يمتلكون رؤى واحدة ويسيرون في خط واحد. وعادة تتكون مثل هذه الخلايا من فرد يؤمن بفكرة ويحمل رسالة، ويتحسس بمسؤولية إجتماعية، ثم لا يبقى وحده وإنما يبحث عن أولئك الذين يؤمنون بفكرته ويتحسسون بمسؤوليته، ويحملون رسالته.. يبحث عنهم في كل مكان حتى يجدهم، فاذا وجدهم وطّد علاقته بهم، يزورهم ويجلس اليهم ويتحدث معهم عن أفكاره ويستمع منهم، حتى تتلاقح أفكارهم جميعاً.
ومن هنا نجد أن الإسلام يعطي أهمية كبيرة لزيارة الاخوان بشرط أن تكون هذه الزيارة في الله.
فحينما تجد الظلم متفشيا، والطاغوت متحكما، والظلمات مخيمة على بلدك، أو عندما تجد الفساد منتشراً، والغزو الثقافي نشطاً، والأخطار الفكرية والعقائدية تهدد أبناء المجتمع، آنئذ عليك ان تبحث عن رفاق مسيرة، وأخوة جهاد، وعليك أن تبحث عمن يحمل أفكارك الرسالية السليمة.
فإذا وجدتهم، تزورهم في الله لكي تعمل معهم لتغيير الواقع إلى الأفضل فتجلب لمجتمعك الخير والسعادة.
لنستمع إلى الامام الباقر عليه السلام وهو يحدّث أحد القادة الرساليين، كان قد زاره في المدينة وهو خيثمة ثم حمل منه رسالة إلى اتباعه وانصاره في الكوفة:
يقول خيثمة: دخلت على أبي جعفر عليه السلام أودعه فقال لي:
(يا خيثمة! أبلغ موالينا السلام، وأوصهم بتقوى الله، وأوصهم أن يعود غنيّهم على فقيرهم، وقويّهم على ضعيفهم، وأن يشهد حيّهم جنازة ميّتهم، وأن يتلاقوا في بيوتهم، فإن لقاء بعضهم بعضاً في بيوتهم حياة لأمرنا. رحم الله عبداً أحيا أمرنا. ياخيثمة أبلغ موالينا، أنّا لسنا نغني عنهم من الله شيئاً إلاّ بعمل، وأنّهم لن ينالوا ولايتنا إلا بورع، وإنّ أعظم الناس حسرة يوم القيامة من وصف عدلا ثمّ خالفه إلى غيره) .
يعطينا هذا الحديث برنامج عمل متكاملاً للانسان الرسالي الذي يعمل على تغيير مجتمع يتحكم فيه الطاغوت أو ينتشر فيه الفساد والإنفلات. وفي حديث آخر يقول الامام الصادق عليه السلام:
(من زار أخاه في الله، قال الله عزوجل: اياي زرت وثوابك عليِّ، ولستُ أرضى لك ثوابا بدون الجنة) .
وفي حديث آخر يقول عليه السلام:
(ما زار مسلم أخاه المسلم في الله ولله، إلاّ ناداه الله تبارك وتعالى: أيّها الزائر طبت وطابت لك الجنّة) .
ويقول الامام الباقر عليه السلام:
(إن العبد المسلم إذا خرج من بيته زائراً أخاه لله لا لغيره، إلتماس وجه الله، رغبة فيما عنده، وكًّل الله عزوجل به سبعين الف ملك ينادونه من خلفه إلى أن يرجع إلى منزله.. ألا طبت وطابت لك الجنة) .
هذه الاحاديث الصريحة التي تدل على أهمية التزاور في الله، يوصي بها الأئمة عليهم السلام أتباعهم ومواليهم الملاحَقين من قبل السلطات الغاشمة الذين لا يستطيعون اللقاء في اجتماعات عامة، ولذلك فهم يؤكدون على تزاور المؤمنين في بيوتهم.
ونقرأ في حديث مأثور عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال:
(حدثني جبرائيل: أن الله عزوجل أهبط ملكاً إلى الأرض، فاقبل ذلك الملك حتّى دفع إلى باب رجل، فإذا رجل يستأذن على باب الدار. فقال له الملك: ما حاجتك إلى ربِّ هذه الدار؟
قال: أخ لي مسلم زرته في الله تبارك وتعالى.
قال: تالله، ما جاء بك إلاّ ذاك؟
قال: ما جاء بي الاّ ذاك - اي ما جاء بي إلى زيارته الاّ وجه القربة إلى الله - .
قال الملك: فإني رسول الله إليك وهو يقرئك السلام ويقول: وجبت لك الجنة، إن الله تعالى يقول: ما من مسلم زار مسلماً، فليس إيّاه زار بل إيّاي زار وثوابه الجنّة) .
فهل تريد ان تزور الله؟
زره بزيارة أخيك المسلم في سبيل الله، التي تعني السعي لتحقيق كل ما أمر به الله سبحانه وتعالى كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون على البر والتقوى والعمل على إصلاح الواقع، وتغييره إلى الأفضل.
إن هذه الاحاديث توجهنا إلى بناء الخلايا الاجتماعية الحضارية بالاضافة إلى الخلايا الفطرية الطبيعية، فبالاضافة إلى انك تنتمي إلى أسرة متماسكة ومحصنة، عليك أن تنتمي أيضاً لتجمعات ومؤسسات ثقافية فكرية رسالية للعمل معاً على بناء مجتمع إسلامي فاضل، يقوم على أساس القيم الإلهية، وتطبيق أحكام الشريعة في الحياة بكل فخر واعتزاز.
وهكذا تتشكل نواة الطليعة الرسالية المؤمنة التي تجاهد من أجل إعادة الروح للمجتمع المسلم كما أراده الله ورسوله وأهل البيت (عليهم جميعاً صلوات الله) ثم بناء الأمة المؤمنة، ثم الحضارة الإسلامية الشامخة.
صفوة الكلام
1- الإسلام يحث الفرد على الانتماء الاجتماعي لسببين:
ألف: إمكانية تطبيق الرسالة .
باء:إمكانية نشر الرسالة .
2- ويتكون المجتمع من نوعين من الخلايا :
الاول: الخلايا الفطرية، وهي التي توجدها غريزة الإنسان،وربما مصالحه .
والأسرة هي الخلية الاساسية التي يقدسها الاسلام، ويكافح كل ما يهددها بخطر .
الثاني: الخلايا الحضارية، التي يكوِّنها الإنسان إنطلاقاً من قيمه ومبادئه .
ومن ذلك الخلايا الرسالية التي تهتم بالعمل التغييري في المجتمع .(4/28)
3 - وتؤكد الأحاديث الشريفة على ضرورة بناء الخلايا الاجتماعية الحضارية بالإضافة إلى الخلايا الفطرية الطبيعية .
==================
الطليعة المؤمنة
شهداء على الناس
- عز وجل - المطلوب: أن يختار الناس النظام الصالح بأنفسهم ، وما الطليعة المؤمنة إلاّ وسائط خير، وأدلاّء معروف .
- عز وجل - نحن لا نريد أن نتخذ القرارات بديلاً عن الجماهير، ولا نريد أن نقوم بالتغيير نيابة عن الناس، ولا أن نقيم النظام الصالح رغماً عنهم .
كما أن الإسلام يعطي الشرعية للكيان الاجتماعي ويؤكد عليه، كذلك فهو يرفض الرهبانية والاعتزال عن الناس إعتزالا دائما ويؤكد على حضور الطليعة المؤمنة في أوساط الجماهير.
وفي هذا المجال نجد أحاديث كثيرة تؤكد على ضرورة تواجد العناصر الرسالية داخل الجماهير وعدم الاعتزال للعيش بعيداً عنها، حتى ولو كان ذلك يسبب لهذه العناصر الأذى، حيث أن المؤمن الصالح يشق عليه كثيراً أن يعيش مع اناس قد لا يلتزمون بشكل كامل بأحكام الشريعة، ولا يتحملون أية مسؤولية. ولكن هذه الصعوبة يجب أن يتحملها العنصر الرسالي، لأنّه إن فقد الجماهير، يكون قد فقد أرضه التي ينبت وينمو فيها، ويستمد منها عناصر قوته.
جاء في الحديث:
توفي ابنٌ لعثمان بن مظعون رضي الله عنه، فاشتدّ حزنه عليه حتى اتّخذ من داره مسجداً يتعبّد فيه، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله، فأتاه فقال له:
(يا عثمان! إن الله تبارك وتعالى لم يكتب علينا الرهبانية، إنّما رهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله).
ثم قال:
(يا عثمان! من صلّى صلاة الفجر في جماعة، ثم جلس يذكر الله عزوجل حتى تطلع الشمس، كان له في الفردوس سبعون درجة، بُعد ما بين كل درجتين كحضر الفرس الجواد المضمر سبعين سنة. ومن صلّى الظهر في جماعة كان له في جنات عدن خمسون درجة ما بين كل درجتين كحضر الفرس الجواد خمسين سنة. ومن صلّى العصر في جماعة كان له كأجر ثمانية من ولد اسماعيل كل منهم رب بيت يعتقهم. ومن صلّى المغرب في جماعة كان له كحجة مبرورة وعمرة متقبلة. ومن صلّى العشاء في جماعة كان له كقيام ليلة القدر) .
الإسلام يرفض الفوضوية
من مظاهر الشرعية التي يعطيها الإسلام للكيان الإجتماعي، رفضه للفوضوية التي يعتبر غياب الطليعة المؤمنة عن الجماهير أحد أسبابها الرئيسية.
فالفوضوية مرفوضة، لأنّ أي مجتمع لا يمكنه أن يبقى من دون وجود نظام وقوانين تحكمه، حتى لو كان هذا النظام جائراً والقوانين باطلة.
فالسلطة ضرورة ولا يمكن أن نستبدل النظام الجائر بالفوضى، لأنّ النظام الجائر أفضل عند الإسلام من الفوضى.
نعم، المطلوب العمل من إجل إقامة نظام عادل عوضاً عن النظام الجائر وهذا واجب شرعي، أمّا أن نزيل النظام الجائر للاشيء، فهذا أمر موفوض عند الإسلام. وفي القرآن إشارة واضحة إلى هذه الحقيقة، وهي أن نبي الله موسى عليه السلام حينما إنطلق إلى فرعون، فإنّه حاول أولاً أن يهديه، وهذا دليل على أن موسى عليه السلام لم يكن يريد أن يهدم نظام فرعون، وإنما أن يقوِّمه ويصلحه، ولكن فرعون كما فراعنة كل زمان، إتهم موسى بأنّه يريد هدم نظامه وإشاعة الفساد والفوضى.
والرسالة الإسلامية انما قامت على كلمتين، هما (لا اله الا الله) اي تحرير الإنسان من الجبت والطاغوت ومن عبادة الآلهة البشرية والحجرية. و(محمد رسول الله صلى الله عليه وآله) أي إقامة الحكومة الإلهية الصالحة البديلة عن النظام الفاسد.
من هنا فإن الاسلوب المناسب لتغيير الانظمة ليس هو هدم النظام فقط ثم انتظار قيام نظام بديل، وانما اقامة نظام بديل في داخل المجتمع، ومن ثم محاولة احتواء عناصر المجتمع الفاسد وتوجيهه في الاتجاه السليم، وأتصور بأن الاسلوب الذي اتبعه الأنبياء وأولياء الله الصالحون في العمل التغييري، كان هو:
أولاً: عدم هدم النظام الفاسد قبل أن يتم تأسيس كيان قادر على إحلال النظام الصالح مكانه.
ثانياً: محاولة تغيير النظام الفاسد عن طريق الناس أنفسهم، وذلك بالتأثير فيهم وليس بالإبتعاد عنهم والسعي نحو إقامة نظام عادل بالرغم عنهم.
إنّنا نريد أن يختار الناس النظام الصالح بأنفسهم، وما الطليعة المؤمنة إلا وسائط خير وأدلاء معروف فقط، تعرّف الناس على طريق الحق، وتضحي من أجل هذه المسؤولية، وفي سبيل توعية الجماهير. أما بعد ذلك فالجماهير هي التي تتحرك، وهي التي سوف تبني النظام المطلوب. نحن لا نريد أن نتخذ القرارات بديلا عن الجماهير أو بالوكالة عنها، لا نريد أن نقوم بالتغيير نيابة عن الناس، ولا أن نقيم النظام الصالح رغماً عنهم.
إننا نريد أن نرفع عن أعين الناس غشاوة التضليل الاعلامي، ونرفع عن طريقهم العقبات الكأداء ليقيموا بأنفسهم النظام الصالح، ودورنا هو دور حامل الرسالة اليهم، وهكذا كان دور الأنبياء عليهم السلام الذي يحدثنا القرآن الحكيم عنه فيقول:
?فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ? الغَاشِيَة،21-22
فالنبي ليس مسيطراً على الناس وإنّما هو بشير.. ونذير، وان عليه البلاغ، وبقية الامور مرتبطة بالناس وبالله. بأقدار الله، وبقضاء الله سبحانه وتعالى.
وبشكل عام، فالأنبياء إنما كانوا يريدون أن يؤسسوا سلطة الحق في النفوس، والاندفاع الطبيعي إلى العمل، وقد نجحوا في ذلك.
وهكذا يجب ان يكون الإسلاميون، والحركة الإسلامية في العالم التي نرجو لها أن تنتصر في هذه المهمة.
الطليعة شهداء حاضرون بين الناس
تأكيداً لضرورة تواجد الطليعة المؤمنة في أوساط الجماهير نورد بعض الأحاديث الشريفة التي توضح لنا هذا الأمر.
تمهيد في وصيته للزهري، يقول الإمام زين العابدين عليه السلام:
(أما عليك أن تجعل المسلمين منك بمنزلة أهل بيتك، فتجعل كبيرهم منك بمنزلة والدك، وتجعل صغيرهم منك بمنزلة ولدك، وتجعل تربك - أي الذي يساويك في العمر - بمنزلة أخيك .
فأي هؤلاء تحب أن تظلم؟ وأي هؤلاء تحب أن تدعو عليه؟ وأي هؤلاء تحب أن تهتك ستره؟
وإن عرض لك ابليس لعنه الله أنَّ لك فضلا على أحد من أهل القبلة، فانظر إن كان أكبر منك فقل قد سبقني بالايمان والعمل الصالح فهو خير مني، وإن كان أصغر منك فقل قد سبقته بالمعاصي والذنوب فهو خير مني، وإن كان تِرْبَك فقل أنا على يقين من ذنبي وفي شك من أمره فمالي أدع يقيني لشكي. وإن رأيت المسلمين يعظمونك ويوقرونك ويبجلونك، فقل هذا فضل أخذوا به، وإن رأيت منهم جفاءً وانقباضاً عنك فقل هذا لذنب أحدثته. فانك إذا فعلت ذلك سهّل الله عليك عيشك وكثر أصدقاؤك وقلّ أعداؤك، وفرحت بما يكون من برهم ولم تأسف على ما يكون من جفائهم) .
إنَّ هذا الحديث يؤكد لنا ضرورة محبة الآخرين من المسلمين والتواجد بينهم بعد اعتبارهم آباء وأولاداً واخوة، وحتى الذين يشك في عدالتهم، بل على كل انسان أن يشك في عدالته هو شخصياً، ولا يقول انّي منزّه ومزكّى، وأنّي أفضل من الآخرين، وانّما عليه أن يعتبر نفسه أبدا أقل منهم، ولذلك يعظمهم ويحترمهم، ويكون قريبا منهم.
? تمهيد وفي حديث آخر يقول الامام الصادق عليه السلام:
(حسنُ المعاشرة مع خَلق الله تعالى في غير معصيةٍ من مزيد فضل الله عزوجل عند عبده. ومن كان خاضعاً لله تعالى في السر - أي كان خاضعاً في سرّه لله سبحانه وتعالى - كان حَسَن المعاشرة في العلانية. فعاشر الخلق لله تعالى، ولا تعاشرهم لنصيبك من الدنيا، ولطلب الجاه والرياء والسمعة، ولا تَسقُطَنَّ بسببها عن حدود الشريعة من باب المماثلة والشهرة .(4/29)
فإنهم لايغنون عنك شيئاً وتفوتك الآخرة بلا فائدة )
عاشر الناس ولكن لا تتبع طريقتهم ولا تنحرف عن طريقتك السليمة من أجل مماثلة الناس أو الاشتهار بينهم، فالطليعة يجب أن تبقى داخل الجماهير ولكن دون أن تذوب في سلبيات المجتمع، وإنّما عليها أن تحتفظ بميزاتها وحيويتها وبأخلاقها الحسنة وتعاشر الجماهير بأخلاقها وبأعمالها العامة.
فإذا قلت: حشر مع الناس عيد. فان هذا الحشر سيكون بالتالي إلى النار، وهل الحشر مع الناس في نارجهنم عيد للانسان؟
ثم يؤكد الامام عليه السلام نفس الفكرة التي أكدها الإمام زين العابدين عليه السلام ويقول:
(واجعل من هو أكبر منك بمنزلة الأب، والأصغر منك بمنزلة الولد والمثل بمنزلة الأخ، ولا تدع ما تعمله يقينا من نفسك بما تشك فيه من غيرك. وكن رفيقا في أمرك بالمعروف، شفيقا في نهيك عن المنكر، ولا تدع النصيحة في كل حال. قال الله عزوجل: وقولوا للناس حسنا) .
? تمهيد وفي حديث آخر يوجه الامام ابو عبد الله الصادق عليه السلام خطابه إلى شيعته ومواليه، والشيعة هم أولئك الطليعة الذين لم ينفصلوا عن سائر الجماهير بل كانوا في الجماهير من أجل إصلاح الناس وهدايتهم، يقول:
(عليكم بالصلاة في المسجد، وحسن الجوار للناس، وإقامة الشهادة، وحضور الجنائز، إنه لابد لكم من الناس، إنّ أحداً لا يستغني عن الناس حياته، فأما نحن نأتي جنائزهم، وإنما ينبغي لكم أن تصنعوا مثل ما يصنع من تأتمّون به. والناس لابد لبعضهم من بعض، ماداموا على هذه الحال حتى يكون ذلك ثم ينقطع كل قوم إلى أهل أهوائهم).
ثم يقول عليه السلام:
(عليكم بحسن الصلاة، واعملوا لآخرتكم، واختاروا لأنفسكم فان الرجل قد يكون كيّسا في أمر الدنيا فيقال ما أكيس فلانا، وانّما الكيّس كيِّس الآخرة) .
ثم الامام ما لبث أن أوضح بأن الحضور مع الناس والاختلاط بالجماهير لا يعني الذوبان في بوتقتهم، وانّما يجب المحافظة على الدين، وعلى الميزة الرسالية، أما البقاء مع الناس فهو من أجل هدايتهم فقط وفقط.
? تمهيد وجاء في الحديث أن الامام علي عليه السلام حين حضرته الوفاة جمع أولاده وأوصاهم بهذه الوصية التي هي لي ولك أيضا، يقول الامام عليه السلام:
(يا بنيَّ عاشروا الناس عشرة إن غبتم حنّوا إليكم، وإن فُقدتم بكوا عليكم. يابنيّ إنّ القلوب جنود مجنّدة تتلاحظ بالمودّة، وتتناجى بها، وكذلك هي في البغض) .
? تمهيد وجاء في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام:
(اتقوا الله وعليكم بالطاعة لأئمتكم. قولوا ما يقولون واصمتوا عما صمتوا. فإنّكم في سلطانِ من قال الله تعالى: وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال - يعني بذلك ولد العباس - فاتقوا الله فانكم في هدنة، صلوا في عشائرهم، واشهدوا جنائزهم، وأدّوا الأمانة اليهم، وعليكم بحج هذا البيت فأدمنوه، فان في إدمانكم الحج دفع مكاره الدنيا عنكم، وأهوال يوم القيامة) .
هذه الرواية تبين الوضع الإستثنائي الذي كان يعيشه الإمام وأصحابه في ظل جور الطغاة المتحكمين في رقاب الناس.
وحين يعيش الرساليون وسط الجماهير، لا يمكن للسلطات الظالمة أن تضربهم بسهولة باتهامهم بالمروق عن الدين، أما إذا كانوا مجموعة شباب يبتعدون عن الجماهير، ليتركوها طعمة للدعايات المضلّة، آنئذ يمكن للحكام الطغاة، وأعوانهم أن يبثّوا حول تلك الشبيبة المؤمنة الدعايات ويتهموهم بأنّهم مرقة وكفار وفاسدون..
فاذا كنتَ أنت الرسالي بعيداً عن الناس، فإن أحداً لا يستطيع أن يرد الاعلام الكاذب الموجّه ضدك، أما إذا كنت مع الناس وفي صميم المجتمع، آنئذ لا يستطيع أحد أن يصدق الإعلام المضلل، لأنّه عندما يقول عنك أنك مارق فان الناس يعرفون بأنك ممن يحضر الجماعة ويصلي بخشوع. وإذا قالوا عنك بأنك سارق، فان الناس يعرفون بأن افضل الناس اداء للامانة هو أنت. وإذا قالوا عنك أنك رجل لا تعترف بالقيم، فان الناس يقولون نحن نراه كل سنة في الحج، فكيف لا يعترف بالقيم؟ وكيف لا يطبق الفرائض؟!
وهكذا تتبخر كل الدعايات المغرضة.
قيادة القلوب
في خطابه الموجّه إلى المجموعة التي حملت راية الرسالة وكانوا قدوة للآخرين، يقول النبي صلى الله عليه وآله:
(يا بني عبد المطلب! إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم. فالقوهم بطلاقة الوجه وحسن البشر) .
ان بني عبد المطلب يجب ان يكونوا هداة الناس وقادتهم ولكن هل بالسيف؟ او بالمال؟
كلا لأنهم لا يملكون لا السيف ولا المال الكافي، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينبههم إلى انهم يملكون ما هو أمضى من السيف وأغنى من المال، وهو الأخلاق الحسنة والمعاملة الإنسانية، وطلاقة الوجه وحسن البشر.
وهذا ما ينطبق على حملة الرسالة الإلهية الذين لا يملكون الاموال كما تملكها القوى العالمية، ولا يملكون القوة كما يملكها الجبابرة والمفسدون، ولا يملكون أجهزة المخابرات ودوائرها وشبكاتها، ولكن يملكون ما هو أقوى وأمضى من كل ذلك وهو الأخلاق الحسنة.. إنهم يملكون الجماهير.
فإذا قالت القوى المناوئة أن عندنا الأموال الطائلة والقوة الحاسمة، وشبكات الجاسوسية، فسوف تقول الطلائع الرسالية المؤمنة، أننا نملك الجماهير.. نملك الإنسان.. نملك القلوب ونحكمها، وهذا هو الشيء الحاسم في قضية النهضة والتغيير.
وكفى بتوجيه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لنا أن لا نستهين بالناس، أيّاً كانوا حيث يقول: (من لم يرحم صغيراً ولا يوقّر كبيراً فليس منا) .
ويقول: (ولا تكفّر مسلماً بذنب تكفّره التوبة الاّ من ذكره الله في الكتاب قال الله عزّوجل: ?إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار?، واشتغل بشأنك الذي أنت به مُطالب) .
فلا يجوز لك أن تجلس وتوزع الاتهامات يمينا وشمالا فتقول: هذا فاسق وذاك منافق، كلا.. فأنت رجل تريد أن تهدي الناس وتدعوهم إلى الخير.. فكيف تكفّر المسلمين!
إن المسلم قد يرتكب بعض الذنوب أو يتهاون في أداء بعض الواجبات، ولكن يمكنه أن يتوب إلى الله وتصبح توبته كفارة له، انه إن تاب، تاب الله عليه.
والله سبحانه لم يوظفك بوّاباً على باب الجنة أو النار، لتُدخل فيهما من تشاء وحسبما يحلو لك.
يقول تعالى:
?لَيْسَ لَكَ مِنَ اْلأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ? آل عمران،128
فربما تكفّر رجلاً مسلماً ثم يتوب هذا الرجل ويصبح من أحسن الصالحين، أما أنت الذي كَفَّرته تأتيك فتنة فتضلك عن سبيل الله فتصبح من أهل النار -والعياذ بالله-.
صفوة الكلام
1 - الاسلام يرفض الرهبانية والاعتزال عن الناس، ويؤكد على حضور الطليعة المؤمنة في أوساط الجماهير .
2 - وهذا الحضور هو تمهيد ضروري للعمل من أجل إقامة نظام عادل عوضاً عن النظام الجائر، وذلك عن طريق الناس أنفسهم .
3 - فالطليعة المؤمنة ليست بديلاً عن الجماهير، بل دورها الأساس هو حمل الرسالة إلى الناس، ورفع غشاوة التضليل عن أعينهم ليختاروا هم البديل السليم .
4 - ولكن حضور الطليعة الرسالية بين الجماهير لا يعني ذوبانها في سلبيات المجتمع، وإنمّا عليها أن تحتفظ بميزاتها وحيويتها وأخلاقها الإيمانية .
5 - فالحضور بين الناس إنما هو من أجل هدايتهم وإصلاحهم وليس التأثر سلباً بهم .
6 - والحضور الدائم بين الناس، يُبطل مفعول الإعلام المضلّل الذي يطلقه الأعداء لتشويه صورة المؤمنين الرساليين في المجتمع .(4/30)
7 - فإذا كانت القوى المعادية تملك المال، والقوة، وشبكات التجسس، واخطبوط الإعلام، فإن على الطلائع الرسالية أن تمتلك الجماهير وتحظى بثقتها، فإن امتلاك القلوب هو العنصر الحاسم في حركة النهضة والتغيير .
====================
التقوى قاعدة المجتمع
- عز وجل - اذا انتزعنا التقوى من مجتمعٍ ما، فلن يكون هذا المجتمع إسلامياً ورسالياً .
- عز وجل - التقوى هي الأرضية الصلبة التي يبني عليها الاسلام الكيان الإجتماعي .
- عز وجل - المجتمع الذي لا وجود للتقوى فيه، ليس مجتمعاً حياً .
هناك كثير من الأنظمة التي يحافظ بها الإسلام على إستقامة المجتمع وصلاحه، والتي من شأنها أيضاً إيجاد الديناميكية والحيوية داخل المجتمع المسلم، وحفر القنوات التي تجري عبرها طاقاته وفاعلياته في الإتجاه الصحيح.
والحديث عن هذه الأنظمة والقنوات ليس حديثاً مقتضبا لكثرتها وتشعبها، ولحاجتنا أن نضرب لها الأمثلة ونبين حكمتها وفلسفتها، إلا أن كل تلك الأنظمة والقنوات تعود بالتالي إلى نقطة محورية واحدة هي التقوى.. تلك الأرضية الثابتة التي يبني عليها الإسلام الكيان الاجتماعي.
فالتقوى هي القاسم المشترك لكل التوجيهات والتعاليم الرسالية، واذا انتزعنا التقوى من مجتمع ما فلن يكون هذا المجتمع إسلاميا ورساليا. حتى لو طبّق القوانين الإسلامية، لأن التطبيق الخالي من الروح (التقوى) هو تطبيق أجوف.
إن أكبر حاسوب في العالم والذي يقوم بمئات الألوف من العمليات الرياضية المعقدة خلال لحظات، لا يمكن أن يوصف بأن له عقلاً لأن يفتقد الحياة. كذلك المجتمع الذي لا "تقوى" فيه، مهما بنى من حضارة ماديّة فهو ليس مجتمعا حيّاً، ولا يمكن أن يتّسم بالإسلامية والرسالية أبداً.
ما هي التقوى؟
التقوى هي الالتزام الداخلي بالإسلام - عقيدةً وشريعة - النابع عن القناعة التامة، وتذليل الشهوات عن طريق الإرادة الصلبة والوعي الكافي. والتقوى ليست مجرد عمل، وانما عمل وراءه التزام وتعهد وتحمل مسؤولية. وليست هي مجرد التزام، فقد يلتزم الإنسان بشيء تأدباً، إنما يجب أن يكون التزاماً نابعاً من الإيمان بالله سبحانه وتعالى وباليوم الآخر وبالرسالة.
وهذه القناعة يجب أن تكون نابعة من تذليل الشهوات عن طريق العقل، فلو كنت انساناً مستقيماً تعيش بصورة طبيعية في مجتمع مسلم، ولم يسلط عليك ضغط ولم تجد أمامك محرّما حتى تُفتتن وتُبتلى بارتكابه أو عدم ارتكابه، فلا يدل هذا على تقواك.
إنما المتقي هو الذي يجرَّب ويقع تحت الضغوط، ولكن إرادته وعقله وبالتالي جوهر إنسانيته هو الذي يجعله يتحدى الضغوط.. ويحافظ على استقامته، وبالتالي يكون متقياً.
أهمية التقوى
يذكر القرآن الحكيم التقوى في آيات كثيرة ويبين أفكاراً شتى حولها، إلاّ أنك حين تقرأ القرآن وتتدبر فيه تجد أن التقوى هي المحور الأساسي للقرآن..
لماذا الصوم؟ ولماذا الحج؟ ولماذا الزكاة؟ ولماذا شرّع القصاص في الإسلام؟.. كل ذلك للتقوى.
وهكذا فالآيات القرآنية تبين أن حكمة أكثر الاحكام الشرعية هي الوصول إلى مستوى التقوى.
يقول تعالى:
?يَآ أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِن نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبَا? النساء،1
فالتقوى هي محور سؤالكم بعضكم عن بعض، ومحور ثقة بعضكم ببعض وبالتالي هي أساس إجتماعكم وقاعدة كيانكم.
وفي آية أخرى يجعل القرآن العدالة أحد افرازات التقوى:
?يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى اَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ? المائدة،8
وفي آية أخرى يجعل القرآن الخير والرفاه والسعادة مبنية على أساس التقوى:
?وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَآءِ وَالاَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَاَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ? الاعراف،96
وفي آية أخرى يجعل القرآن الحكيم التقوى ركيزة للبناء الاجتماعي الإسلامي ويقول:
?لَمَسْجِدٌ اُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ? التوبة،108
ثم يبين أن أي بناء لا يقوم على التقوى فهو بناء هاوٍ يكاد يسقط في النار:
?أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ? التوبة،109
ويؤكد القرآن الحكيم على أن الحياة الدنيا والمعيشة الفاضلة والسعادة الدنيوية مبتنية على التقوى:
?الَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الاَخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ? يونس،63-64
فهذه الحقيقة ليست مرتبطة ببرهة معينة من الزمن. وانما (لا تبديل لكلمات الله) في كل زمن.
ويربط القرآن بين التقوى والاحسان، ويبين بأن التقوى هي أهم نوع من أنواع الاحسان:
?إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ? يوسف،90
ويؤكد القرآن على أن أي علاقة لا تباركها التقوى، فإنها علاقة هشة يمكن أن تنفصم في أية لحظة:
?الأَخِلآَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ? الزّخْرُف،67
والقرآن الحكيم حين يطرح التقوى فإنه يطرحها كتيار اجتماعي، يعيش ضمن مجموعة بشرية متفاعلة مع بعضها، وليس كعمل فردي: ?..هُدىً لِلمُتَّقِينَ? البقرة،2 ، ?..وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ? البقرة،66 ، ?..وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى? طه،132 .. وهكذا للمتقين وليس للمتقي كفرد.
كانت هذه مجموعة من الآيات تُحدثّنا عن أهمية التقوى وأنها قاعدة أساسية لسائر قواعد المجتمع الإسلامي. وهناك روايات شريفة تدل على ذات الحقيقة نتلوها معاً.
? تمهيد روى أبو جعفر الباقر عن أمير المؤمنين عليهما السلام أنه قال:
(إن لأهل التقوى علامات يُعرفون بها: صدق الحديث، وأداء الأمانة، ووفاء بالعهد، وقلّة العجز والبخل، وصلة الأرحام، ورحمة الضعفاء، وقلة المؤاتاة للنساء، وبذل المعروف، وحسن الخلق، وسعة الحلم، واتّباع العلم فيما يقرّب إلى الله، طوبى لهم وحسن مآب) .
ان كل هذه العلامات تتلخص في واحدة وهي الارتباط بالكيان الاجتماعي ارتباطا متينا وحسنا، فصدق الحديث قضية اجتماعية، وكذلك أداء الأمانة، وكذلك الوفاء بالعهد، وقلة العجز والبخل، وصلة الأقارب، ورحمة الضعفاء .. الخ.
? تمهيد وفي نهج البلاغة يقول الامام علي عليه السلام:
(كم من صائم ليس له من صيامه الاّ الجوع والضمأ، وكم من قائم ليس له من قيامه الا السهر والعناء، حبذا نوم الاكياس وإفطارهم) .
فالمجتمع الإسلامي لا يقوم على أساس كثرة الصيام والقيام، إنّما على روح العمل وهو التقوى.
تمهيد وقال الامام الصادق عليه السلام: (لا يغرنك بكاؤهم فإن التقوى في القلب) .
أن يبكي الإنسان من خوف الله تعالى، هذا وحده ليس تقوى، وانّما التقوى هو أن يحطم الإنسان في قلبه الحواجز التي لا تدعه يفهم الحقائق ويؤمن بها، ولا تدعه يوفق أعماله وفق مناهج الله سبحانه وتعالى.(4/31)
تمهيد يقول الامام علي عليه السلام:
(التُقى رئيس الاخلاق) .
فسائر الأخلاق تنبني على أساس التقوى.
تمهيد وفي حديث مفصل يقول الامام علي عليه السلام :
(أمّا بعد، فانّي أوصيكم بتقوى الله الذي ابتدأ خلقكم، واليه يكون معادكم، وبه نجاح طلبتكم، وإليه منتهى رغبتكم، ونحوه قصد سبيلكم، وإليه مرامي مفزعكم، فإن تقوى الله دواء داءِ قلوبكم، وبصر عمى أفئدتكم، وشفاء مرض أجسادكم، وصلاح فساد صدوركم، وطهور دنس أنفسكم، وجلاء غشاء أبصاركم، وأمن فزغ جأشكم، وضياء سواد ظلمتكم).
فالتقوى تعطي الإنسان كل ما يحتاجه، فاذا كان يحتاج إلى أن يكون قلبه بصيراً فانّ التقوى ضياء القلب، أو كان يحتاج إلى سلامة الجسد فالتقوى سلامة للجسد، أو كان يحتاج أن يفهم الحياة، فالتقوى عينٌ بصيرة للانسان.
ويضيف الإمام عليه السلام:
(فاجعلوا طاعة الله شعاراً دون دثاركم، ودخيلاً دون شعاركم، ولطيفاً بين أضلاعكم، وأميراً فوق أموركم، ومنهلاً لحين ورودكم، وشفيعاً لدرك طلبتكم، وجُنة ليوم فزعكم، ومصابيح لبطون قبوركم وسكناً لطول وحشتكم، ونفساً لكرب مواطنكم).
ان الامام عليه السلام يبين لنا بأنّه لا يكفي أن يكون ظاهر الإنسان ملتزماً ببرامج الله سبحانه وتعالى، وانّما ينبغي أن يكون قلبه كذلك.
انظروا إلى التعابير اللطيفة، ان للانسان شعاراً ودثاراً (الشعار هو ما يلبسه الإنسان تحت ثيابه، أمّا دثاره فهو ثيابه الظاهرة) في البداية يقول الامام لتكن التقوى شعاراً دون دثاركم، يعني لتكن التقوى ثيابكم الالصق إلى أجسامكم، ثم لا يكتفي بذلك فيقول دخيلاً دون شعاركم، أي يجب أن تكون التقوى عند ملامسة الجلد قبل الشعار، ثم لا يكتفي بذلك فيقول ولطيفا بين أضلاعكم، أي لا يكفي أن تكون التقوى ملامسة لجلد الإنسان بل يجب أن تكون مستقرة بين أضلاعه.
ولا يكفي أن تكون التقوى توجّهاً كسائر توجّهاتكم، وانّما ينبغي أن تكون أميراً فوق أموركم، أي أن تصبغوا كل أموركم بصبغتها، وأن تكون -أيها المؤمن- وَلِهاً إلى التقوى، وأن تستهدفها قبل كل شيء. لا تفكر أن تبني بيتاً أو تؤسس اسرة.. وانّما فكر قبل كل ذلك أن تكون متقياً.
تمهيد وفي حديث آخر، وهو من ألطف ما قاله الامام علي عليه السلام حول التقوى، ويقول: (التقوى سنخ الايمان)
أي إن الايمان الذي لا يثمر التقوى لا خير فيه ابداً. فالايمان هو الذي يعطيك التقوى. أمّا إذا رأيت نفسك مؤمنا بدون تقوى فلابد أن تشك في ايمانك.
آثار التقوى في المجتمع الإسلامي
أهم أثرين للتقوى في المجتمع الإسلامي هما:
الاول: أن التقوى هي قصب السبق الذي يتنافس حوله المسلمون.
الثاني: أن التقوى هي القيادة الحقيقية للمجتمع الإسلامي.
فكما أن الإنسان خُلِقَ طموحاً، فكذلك خُلِقَ متنافساً، فإذا عاش الناس جميعاً على الخبز والماء القراح، فإنّهم جميعاً سيكونون قانعين، ولكن مادام الناس ليسو كذلك، إذاً لابد أن يبحثوا عن مادة يتنافسون حولها.
فماهي مجالات التنافس؟
يمكننا أن نقسم مجالات التنافس في الحياة إلى قسمين:
الأول: القيم المادية، كالجاه والسلطة والمال والشهرة والمتع الجسدية. والتنافس حول هذه الأمور فيه عيوب كبيرة منها:
أ - إن هذه الاشياء عرضة للزوال، وحياة الإنسان على الارض قصيرة جداً فهو سيموت ويترك ما تعب في جمعه والحصول عليه.
ب - إن طبيعة الإنسان محدودة، ولذلك فإن تلذذه بالأشياء المادية محدود جداً، فمهما كان الإنسان غنيا فانّه لن يستطيع أن يأكل الا مقداراً محدوداً من الطعام، ولا يمارس الا قدراً محدوداً من المتعة الجنسية.
ج - إن التنافس حول المال سيعود بالأضرار الوخيمة على المجتمع، حيث ستتركز الثروة في أيد قليلة ويبقى السواد الأعظم محروما، فيصبح عرضة للجهل والتخلف، ويسود الحقد والكراهية بين طبقة الأغنياء وطبقة الفقراء.
د - إن التنافس حول الجاه والسلطة يؤدي إلى الحرب والتقاتل، لأنّه لا يمكن للجميع أن يصبحوا حكاماً ورؤساء، فالمجتمع يكفيه حاكم واحد، وكل مؤسسة في هذا المجتمع يكفيها رئيس واحد.
وهكذا فالشهوات والقيم المادية محدودة، والبحث عنها والتنافس حولها يحطم الفرد والمجتمع معاً.
ثانياً: القيم المعنوية كالعلم وتهذيب النفس والعمل الصالح.. الخ.
وهذه القيم تمتاز بأنّها غير محدودة. فحينما يتنافس الناس حول العلم، يستطيع كل منهم أن يحصل على قدر وافر منه دون أن ينقص من علم الآخرين شيئاً، وحينما يتنافسون في العبادة وتزكية الذات، ويتنافسون حول الأعمال الخيّرة كتأليف الكتب وتأسيس الأجهزة الاعلامية الصادقة كالصحافة والاذاعة والسينما والتلفزيون..أو كإنشاء المرافق الضرورية مثل المدارس والمساجد والمستشفيات والمصانع، واعداد الجيش الذي يدافع عن الثغور، فان المجال مفتوح على مصراعيه للجميع.
والقرآن الحكيم يحدد لنا هدف التنافس في المجتمع ويقول:
?إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ? الحُجُرات،13
فابحثوا عن التقوى، وتنافسوا على التقوى.
?وفي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ? المُطَفِّفِينَ،26 ?فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ? البقرة،148.
دعوا سباقكم وتسارعكم، وبالتالي تنافسكم، يكون حول الخيرات، فالخيرات كثيرة لا يمكن تحديدها، وبامكان الجميع أن يحصلوا عليها، وكذلك التقوى باعتبارها ركيزة التنافس وقصب السبق الذي يحاول الجميع أن يصل اليه. إن هذا التسابق يؤدي إلى أن يبحث المجتمع دائماً عن التقدّم، وبالتالي يتقدم الجميع وتتقدم البشرية.
من هنا يضرب الإسلام على هذا الوتر، فيبين لنا أن التفاضل بين الناس يجب أن يكون على مقياس التقوى فيقول الإمام زين العابدين عليه السلام:
(لا حسب لقرشي ولا لعربي إلا بالتواضع، ولا كرم الا بالتقوى) .
وفي وصية النبي صلى الله عليه وآله لأبي ذر يقول:
(عليك بتقوى الله فإنّه رأس الأمر كله) .
فإن كنت تريد أن تحصل على رئاسة، فعليك بتقوى الله سبحانه وتعالى، فقد جاء في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال:
(من أخرجه الله من ذل المعاصي إلى عز التقوى، أغناه الله بلا مال، وأعزّه بلا عشيرة، وآنسه بلا بشر. ومن خاف الله عزوجل أخاف الله منه كل شيء. ومن لم يخف الله عزوجل أخافه الله من كل شيء) .
وفي حديث آخر عن الامام علي عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال:
(المتقون سادة، والفقهاء قادة، والجلوس إليهم عبادة).
التقوى وقيادة المجتمع
أما عن أثر التقوى في قيادة المجتمع، فان أي مجتمع لا يمكن أن يعيش قيما شتى، وانّما يعيش قيمة واحدة تكون محوراً له. فمثلاً هناك مجتمع يعيش قيمة المادة، فأغناهم وأكثرهم ثروة هو سيدهم. وهناك مجتمع يعيش قيمة الجاه والحسب فأقربهم إلى العشيرة الفلانية هو سيدهم، وهناك مجتمع يعيش القوة فأقواهم هو سيدهم. ولكن المجتمع الإسلامي يعيش قيمة التقوى، لذلك تكون هذه القيمة هي إمام المجتمع، ويكون أتقى الناس هو سيد الناس، وحينما يكون الأمر كذلك تكون قيادة هذا المجتمع قيادة نظيفة مائة بالمائة.
صفوة الكلام
1- إن الأنظمة والتوجيهات والتعاليم الرسالية التي يحافظ بها الإسلام على إستقامة المجتمع كثيرة، وتُعتبر التقوى هي القاسم المشترك بين كل تلك .
2 - والتقوى هي الإلتزام الداخلي بالإسلام - عقيدة وشريعة - النابع عن القناعة التامة، وتذليل الشهوات عن طريق الإرادة الصلبة و الوعي الكافي .(4/32)
3 - وتؤكد آيات القرآن الحكيم وكذلك السنّة الشريفة على أن التقوى هي القاعدة الأساسية لسائر قواعد المجتمع الإسلامي .
4 - لذلك، فلا يكفي أن تكون التقوى توجّهاً كسائر توجّهات الإنسان في الحياة، بل ينبغي أن تصبغ حياته بصبغتها وبشكل كامل .
5 - والتقوى هي قصب السبق التي يتنافس حوله المسلمون، كما هي أساس القيادة الحقيقية للمجتمع الإسلامي .
=======================
التقوى ضمانة الاستقامة
- عز وجل - الإسلام يضرب القيم الفاسدة لكي تعيش المجتمعات على أساس التقوى والعمل الصالح .
إن التقوى -كما تحدثنا فيما سبق- تشكل حجر الأساس في بناء المجتمع الإسلامي، وهي الجذر الذي تتفرع عنه كل برامج ومناهج هذا المجتمع، ولكن يبقى علينا - لتسليط ضوء أكثر على دور التقوى - أن نتحدث عن ثلاثة أمور أساسية حول التقوى، وهي:
الأول: دور التقوى في إعطاء الحيوية والفاعلية للمجتمع.
الثاني: العلاقة بين التقوى والعمل.
الثالث: دور التقوى في تحصين المجتمع الإسلامي ضد الإنحراف.
التقوى وحيوية المجتمع
يوجه المجتمع الإسلامي أبناءه لكي يصبّوا طاقاتهم وإمكانياتهم في قنوات سليمة تتجه إلى الأهداف التي يتوخونها ويتطلّعون نحو تحقيقها، ويضمن لكل فرد: أن المكاسب التي يكتسبها بعمله ستكون بالتالي له لا لغيره، الأمر الذي سيدفع بالمجتمع إلى المزيد من العطاء.
ولكن كيف يثق المجتمع المسلم الذي يطبّق كل القيم والمناهج الإسلامية بهذه الحقيقة؟
إنه يثق بها عن طريق واحد وهو: ضرب كل يد سارقة تمتد إلى مكاسب الناس، وقطها بحزم وبسرعة. فحينما تُقطع الأيادي السارقة، ولا يوجد في داخل المجتمع من يفكر أن يستغل الآخرين، أو يستثمر جهودهم، حينئذ تجد كل واحد يعمل مطمئناً، لأنّه يعلم بأن مردود عمله سينتهي بالتالي إليه، إمّا مباشرة وامّا بصورة غير مباشرة.
ان المجتمع الإسلامي يحفر القنوات التي تصب فيها فاعليات الأفراد بحيث يكون ضفافها هي ضرب كل القيم الفاسدة، فاذا كان الفرد في المجتمع يستطيع عن طريق السرقة، أو الإحتيال، أو الغش، أو الرشوة، أو القوة، أو الجاه والنسب، أو عن أي طريق فاسد آخر، أن يحصل على عيشه ومكاسبه، آنئذ لا يثق الآخرون بالعمل. ولماذا يعملون مادام الطريق الأيسر والأسهل هو أن تسرق وترتشي وتنهب، وتحصل على أي شيء عن طريق الخداع والتضليل؟.
وحينما يؤكد الإسلام على ضرب الأيادي السارقة لجهود المستضعفين، والكادحين من الناس، فليس لأنّ هؤلاء مجرمون بحق أنفسهم أو أنّهم يسرقون بضعة دنانير فقط، وانّما لكي يشيع في الناس الأمن فيعرفوا أنّ عملهم لا يذهب لحساب الآخرين، لأنّه من دون الإحساس بالأمن، فإن الناس يتصورون أن مردود عملهم سيذهب إلى جيوب الآخرين، آنئذ لا يعملون، فتتوقف الدورة الاقتصادية في المجتمع.
ضرب القيم الفاسدة
الإسلام يضرب جميع القيم الفاسدة التي قد يتذرع بها الناس في أكلهم لحقوق الآخرين. ومن هذه القيم، قيمة النسب، وقيمة العصبية الجاهلية، وقيمة الغنى.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله، حينما فتح مكة وقام على الصفا، وهو يضرب قيمة النسب:
(يا بني هاشم، يابني عبد المطلب .. إنّي رسول الله اليكم، واني شفيق عليكم، لاتقولوا إن محمداً منّا، فوالله ما أوليائي منكم ولا من غيركم الا المتقون. الا فلا أعرفكم تأتوني يوم القيامة تحملون الدنيا على رقابكم ويأتي الناس يحملون الآخرة)
أي إذا جئت يا فلان المنسوب إلى رسول الله يوم القيامة وحملت معك البلاد التي فتحتها والأموال التي انتهبتها وما أشبه، ثم جاء غيرك وحمل معه الزهد والتقوى والعمل الصالح، فإنني - حينذاك - لا أعرفك أنت المنسوب اليّ بالنسب، انّما أعرف ذلك الذي ينتسب اليّ بالعمل الصالح. ثم يضيف النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
(الا وإني قد أعذرت فيما بيني وبينكم، وفيما بين الله عزوجل وبينكم، وإن لي عملي ولكم عملكم).
وجاء في حديث آخر عن الإمام علي عليه السلام:
(إن أولى الناس بالانبياء أعملهم بما جاؤوا به)، ثم تلى قوله تعالى: ?ان أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا..? ثم قال عليه السلام: (ان ولي محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته، وإن عدو محمد من عصى الله وان قربت قرابته) .
فولي محمد صلى الله عليه وآله ليس من ينتسب إليه نسباً ويبتعد عنه حسباً وعملاً، انّما العكس هو الصحيح. وكذلك الأمر بالنسبة إلى سائر الانبياء عليهم السلام، وقصة نوح عليه السلام مع ابنه دليل على ذلك. وكذلك سيرة أهل البيت عليهم السلام الذين كانوا يجهدون أنفسهم بالعبادة ولا يكتفون بأنّهم من أبناء رسول الله.
فهذا الامام زين العابدين عليه السلام، الذي كانت حياته خير دليل على هذه السيرة للأئمة عليهم السلام، وهي شاهدة على كذب وبطلان زعم أولئك الذين يحسبون أن مجرد الانتساب إلى رسول الله، يعطيهم صك الغفران يوم القيامة.
فقد جاء في التاريخ أن فاطمة بنت علي بن أبي طالب عليهم السلام أتت جابر بن عبد الله الانصاري صحابي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت له:
(يا صاحب رسول الله، ان لنا عليكم حقوقاً، وإن من حقنا عليكم أن إذا رأيتم أحدنا يهلك نفسه إجتهاداً، أن تذكروه الله وتدعوه إلى البُقيا على نفسه، وهذا علي بن الحسين بقية أبيه الحسين عليه السلام قد انخرم أنفه، وثفنت جبهته وركبتاه وراحتاه، أذاب نفسه في العبادة) .
فأتى جابر إلى بابه واستأذن، فلما دخل عليه وجده في محرابه، قد أنضّته العبادة، فنهض علي فسأله عن حاله سؤالاً حفياً، ثم أجلسه بجنبه، ثم أقبل جابر يقول: أما علمت أن الله خلق الجنة لكم ولمن أحبكم، وخلق النار لمن أبغضكم وعاداكم، فما هذا الجهد الذي كلفته نفسك؟ فقال له علي بن الحسين عليه السلام:
( يا صاحب رسول الله، أما علمت أن جدي رسول الله قد غفر الله له من ذنبه ما تقدم وما تأخر فلم يدع الاجتهاد له، وتعبد -بأبي هو وأمي- حتى انتفخ الساق وورم القدم، فقيل له أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: أفلا أكون عبداً شكوراً؟!) .
هكذا كان علي بن الحسين عليهما السلام. فأئمة أهل البيت لم يكونوا يكتفون بأنّهم من أولاد رسول الله أو من أولاد علي أو من أولاد الحسين، انّما كانوا يجهدون أنفسهم بالعبادة.
كذلك العصبية، فهناك من ينتفع بها تحت رايات شتى كالقومية الضيقة، والوطنية المزيفة، والاقليمية البغيضة التي لولاها لسقطت عروش، ولولا القومية لتحطمت أحزاب مشبوهة، ولولا شعار الوطنية المزيفة، لما استطاع الطغاة أن يتحكموا برقاب الشعوب، فهذه القيم الفاسدة هي التي مكّنت الطغاة من رقاب الجماهير، والإسلام يضرب هذه القيم الفاسدة لكي تعيش المجتمعات على أساس التقوى والعمل الصالح.
وكذلك العنصرية، حتى الأنواع الخفية منها، كالعنصرية الجنسية (حسب ما أسميها) أي تفضيل الرجل على المرأة - في المجتمع وليس في إطار الأسرة - ليس بالعمل، وانّما لمجرد أنّه رجل وأنّها إمرأة.
ان القرآن الكريم يؤكّد بأن الرجال قوّامون على النساء، ولكن بماذا؟ بما أنفقوا من أموالهم، بسبب ما تفضّل بعضهم على بعض بالعمل. فإذا كان هناك إمرأة كاتبة ورجل كاتب، ولكن كتابة الرجل كانت أقل قيمة علمية من كتابة المرأة، فإننا لو قدّمنا الرجل في هذه الحالة، نكون قد كفرنا بقيمة التقوى والعمل الصالح.(4/33)
ان الإسلام حين يضرب هذه القيم الفاسدة، يصنع لجهودك حصنا، ويكون الامر أشبه شيء بشاطئي النهر اللذين يحفظان مياهه، فجهودك في المجتمع الذي تسود فيه القيم الفاسدة، لا يمكن لها أن تثمر لأنّك مهما عملت واجتهدت فان نتيجة عملك ستكون للآخرين.
إن أحد أسباب التخلف في العالم الثالث هو قلة العلماء والمبدعين، وهذا ليس لأنّ الله خلق البشر هنا أقل ذكاء وفطنة من العالم المتقدم، فالله أعطى للناس قدراً متساوياً من العقل والذكاء، ولكن في العالم الثالث كلما تكونت أدمغة من المفكرين والمهندسين والاطباء والخبراء الاجتماعيين والسياسيين.. هاجرت إلى اوروبا أو إلى أمريكا.
والسبب أنّهم حين يكملون دراساتهم ويريدون ان يخدموا بلدهم، يفاجؤون بأن من هم أقل منهم علماً وخبرة قد أصبحوا رؤساء عليهم لاعتبارات فاسدة كأن يكونوا من الأسرة الحاكمة أو من الحزب الحاكم، أو من بطانة الرئيس.
حتى أنّه في سنة واحدة، استفادت الولايات المتحدة الامريكية أكثر من عشرين مليار دولار من الادمغة الهاربة اليها من العالم الثالث. والسبب في ذلك هو عدم وجود احترام لقيمة العلم، والعمل الصالح وبالتالي لقيمة التقوى في بلادنا، بسبب الأنظمة التي تسودها.
التقوى والعمل
في وصيته لأبي ذر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا أبا ذر، كن بالعمل بالتقوى أشدّ اهتماماً منك بالعمل) .
وذلك لسببين:
الأول: إن التقوى ليس فقط تدفعك إلى العمل، وانّما توجد فيك تلك الدوافع المباركة التي تدعوك إلى الاستمرار في العمل.
فكثير من الناس يندفعون إلى العمل من وحي العواطف وبسبب ردود الأفعال، وهؤلاء سرعان ما تخبو في أنفسهم جذوة العمل ويتوقفون ويتركون العمل ويكون ضررهم على العمل حينذاك أكثر من نفعهم، كالذي يحفر الارض ويضع الأساس ويبني إلى النصف ثم يترك البناء، فالارض كانت صالحة والمواد الانشائية كانت مفيدة للبناء، امّا الان فإنّه أشغل الارض وأفسد المواد الانشائية.
بينما الذي يعمل بدافع التقوى، فانه يستمر في عمله، ولذلك جاء في الحديث عن الإمام علي عليه السلام:
(قليل مدوم عليه خير من كثير مملول منه) .
الثاني: إن التقوى تصحح العمل. فالعمل إذا كانت وجهته وجهة باطلة، فإنّه قد يكون كبيراً ومفيداً في الظاهر، ولكنه في لحظة واحدة يتحطم ويكون مثله مثل بقرة حلوب، تعطي مقداراً كبيراً من اللبن السائغ ولكن في آخر لحظة تضرب برجلها اناء الحليب فتقلبه.
كثير من الناس يعمل الواحد منهم ويجتهد، ولكن في سبيل أي شيء؟ في سبيل أن يصل إلى الحكم، وحينما يصل إلى الحكم، تراه يتحالف مع الشرق والغرب كي يستقر في الحكم، حتى لو كان تحالفه هذا على حساب مصالح الشعب.
والقوى الكبرى كذلك تجتهد وتبني المصانع والمعاهد وتقوم بالدارسات العلمية المكثفة، ولكن من أجل ماذا؟
من أجل صناعة وإنتاج أسلحة الدمار الشامل كالقنابل الذرية، والهيدروجينية والنيترونية وذلك لفرض سيطرتها على العالم!
إذن، التقوى ضمان لوجهة العمل، فالعمل الذي يكون وراءه دافع فاسد يكون ضرره أكبر من نفعه، ولذلك فان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما رأى في إحدى غزواته رجلاً مقتولاً، قال هذا شهيد الحمار، لأنّ هذا القتيل كان قد خرج مع المسلمين إلى المعركة، طمعاً في حمار كان في جبهة العدو. ولكن الدائرة دارت عليه فقتله صاحب الحمار، وهكذا خسر دنياه وآخرته. ومثل هذا في الحياة كثيرون، حيث تكون نتيجة جهدهم هباء منثوراً.
وفي يوم الخندق حينما جلس الإمام علي عليه السلام على صدر عمرو بن عبد ود العامري، بصق عمرو في وجه الامام عليه السلام فقام الامام ومشى خطوات ثم عاد واحتزّ رأسه، فتعجب المسلمون من ذلك وقد كانوا ينتظرون قتل عمرو ويخشون أن تحدث مفاجأة غير مرتقبة، فسألوا علياً عن السبب فيما فعله.
قال لانه بصق في وجهي فثار غضبي وكنت أريد أن يكون قتلي له خالصاً لوجه الله عزوجل دون أن يداخلني غضب لنفسي وانتقام لشخصي. وهكذا الإسلام يجعل العمل في اطار التقوى محوراً للمجتمع.
التقوى ضمانة ضد الانحراف
والعمل قد يخلّف رواسب سلبية في نفس العامل، إلاّ العمل الصادر عن التقوى. فالإنسان الذي يعمل ويرجو جزاء عمله ولكنه لا يرى ذلك، يتراجع شيئا فشيئا ويصبح انساناً معقداً. أما المتقي الذي يعمل من أجل الله سبحانه وتعالى فانه لا يزداد بكثرة العمل إلاّ إجتهاداً. لذلك يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الإنسان عن العاملين في سبيله:
?لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِن رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً? الإِنسَان،9-11
وبعدما يتم تنظيف أرضية المجتمع من القيم الفاسدة ومن الذين ينتمون إلى هذه القيم ويعيشون عليها، يبدأ الإسلام بعدئذ في دفع الفرد إلى الجهاد. والجهاد غير العمل الصالح بالرغم من أن الإسلام يؤكد على العمل الصالح في ما يزيد على مائة وعشرين مرة في القرآن الحكيم، فالجهاد هو أن تبذل كل ما لديك من جهد ومن امكانية فكرية ومادية وغيرها في سبيل الله، والمؤمن الحقيقي يفعل ذلك لأنّه لا يجد أمامه مانعاً من ذلك. بل يجد الدافع الكافي لذلك. وهنا نورد بعض الأحاديث الشريفة التي تركز القيم الصالحة في المجتمع الإسلامي.
? تمهيد جاء في الحديث عن الامام علي بن الحسين عليه السلام:
(إن أبغض الناس إلى الله عزوجل من يقتدي بسُنَّة إمام ولا يقتدي بأعماله) .
وهذه قيمة فاسدة تورط فيها كثير من المسلمين فهي سبب رئيسي لكثير من الكسل والتواكل داخل المجتمعات الإسلامية. إنّهم يحسبون أن مجرّد الإدّعاء بأنهم من أتباع علي والحسين عليهما السلام فان ذلك يكفيهم، بينما القرآن والرسول والأئمة يقولون هذا لا يكفي، بل يقولون عنهم انّهم أبغض الناس إلى الله عزوجل. لأنّ سائر الناس قد لا يعرفون الإمام، وهؤلاء يعرفون الإمام ويعترفون له بالإمامة ولكنهم لا يطبقون كلامه!
? تمهيد وجاء في حديث عن الإمام الباقر عليه السلام قوله لجابر الجعفي:
(يا جابر بلّغ شيعتي عني السلام، وأعلمهم أنّه لا قرابة بيننا وبين الله عزوجل، ولا يُتقرب اليه الا بالطاعة له، يا جابر من أطاع الله وأحبنا فهو ولينا، ومن عصى الله لم ينفعه حبنا) .
? تمهيد وجاء في حديث آخر - عنه عليه السلام - قال فيه لخيثمة:
(أبلغ موالينا أنّا لسنا نغني عنهم من الله شيئاً إلا ّ بعمل، وأنّهم لن ينالوا ولايتنا إلاّ بورع، وأن أعظم الناس حسرة يوم القيامة من وصف عدلاً ثم خالفه إلى غيره) .
هذه الأحاديث تضرب القيم الفاسدة ومنها قيمة ولاء الأمنية اي الولاء بالكلام دون العمل بما يأمر به الإمام.
وبعد ما يؤسس الإسلام قاعدة العمل وينظفها من الدخائل، يدفع المسلم إلى العمل.
? تمهيد جاء عن رسول الله وهو يوصي ابا ذر ويوصينا جميعاً باستغلال طاقتنا من أجل كسب رضوان الله تعالى:
(يا أبا ذر: إغتنم خمساً قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) .
? تمهيد وقال صلى الله عليه وآله وسلم قال:
(إذا كان يوم القيامة لم تزل قدما عبد، حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعما إكتسبه من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن حبنا أهل البيت) .
? تمهيد وقال الامام أمير المؤمنين لشيخ من أهل الشام:(4/34)
(يا شيخ من اعتدل يوماه فهو مغبون، ومن كانت الدنيا همته اشتدّت حسرته عند فراقها، ومن كان غده شر يوميه فمحروم، ومن لم يبال ما رزئ من آخرته إذا سلمت له دنياه فهو هالك، ومن لم يتعاهد النقص من نفسه غلب عليه الهوى، ومن كان في نقص فالموت خير له) .
فاليوم هو جزء من العمر فإذا ذهب دون أن يكسب الإنسان فيه أجراً عند الله، فالموت خير له.
تمهيد ويقول الامام علي عليه السلام في حديث آخر:
(ما من يوم يمر على ابن آدم إلا قال له ذلك اليوم: يا ابن آدم أنا يوم جديد، وأنا عليك شهيد، فقل فيّ خيراً واعمل فيّ خيراً، أشهد لك به يوم القيامة فانك لن تراني بعده أبداً) .
هذا الشعور هو الذي يدفعك إلى العمل الجدي، خصوصاً حينما يكرس فيك الإسلام الايمان بالآخرة فانّك تعرف بأن قدميك يوم القيامة لا تزولان الا بعد ان تُسأل عن كل أعمالك وتصرفاتك في الدنيا، وكيف وفيم صرفت الطاقات والنعم التي تفضّل الله سبحانه وتعالى بها عليك.
اننا لو استوحينا من هذه الاحاديث الشريفة أسلوب حياتنا وقيم مجتمعنا، لاستطعنا أن نبني ذلك المجتمع الحيوي الفاعل الذي يستطيع أن يخرق كل الحجب ويصل إلى أهدافه باندفاع وسرعة بإذن الله.
صفوة الكلام
1- يوجّه المجتمع الإسلامي أبناءه لكي يصبّوا طاقاتهم وإمكانياتهم في قنوات سليمة تتجه إلى الأهداف التي يتطلعون نحو تحقيقها، ويضمن لكل فرد: أن المكاسب التي يكتسبها بعمله ستكون بالتالي له لا لغيره، الأمر الذي سيدفع المجتمع إلى المزيد من العطاء .
2 - الاسلام يضرب جميع القيم الفاسدة التي قد يتذرع بها بعض الناس في أكل حقوق الآخرين، ومن هذه القيم: قيمة النسب، وقيمة العصبية الجاهلية، وقيمة الثروة .
3 - والتقوى تضمن إستمرارية العمل، كما توجه العمل في الاتجاه السليم .
4- والعمل قد يخلِّف رواسب سلبية في نفس العامل، إلاّ العمل الصادر عن التقوى . فالمتقي الذي يعمل من أجل الله سبحانه لا يزداد بكثرة العمل إلاّ إجتهاداً .
======================
ماذا عن زينة الحياة الدنيا ؟
- عز وجل - الاسلام لا ينفي الدنيا وزهرتها بشكل مطلق ، بل ينفي الجانب السلبي منها ، والذي يترك آثاراً ضارّة على النفس .
- عز وجل - إن زهرة الحياة الدنيا بذاتها حسنة ومطلوبة، إنما المرفوض هو موقف الإستسلام والذوبان في بوتقة الشهوات .
في سياق حديثنا عن المجتمع الإسلامي الرسالي الذي يتبع رؤى الإسلام ومناهجه في الحياة، يُطرح السؤال التالي:
ما هي علاقة هذا المجتمع بزينة الحياة الدنيا من مال، وتقدم، وحضارة؟.
لا بد أن نقول إن هناك عدة أبعاد لزينة الحياة الدنيا ينبغي أن نستوضحها:
التحرر من سلطان التراب
إن الإسلام يسعى من أجل تزكية النفس البشرية وتطهيرها، وإعطائها دفعات من الإرادة التي تتغلب بها على جاذبية المادة. ومن أجل أن يحقق هذا الهدف الرفيع فهو يوصي ويؤكد على ضرورة التسامي على الدنيا وزينتها، لأن جاذبيتها وضغطها ومن ثم قدرتها على تذويب الإنسان وتمييعه كبيرة جدا.
لقد خُلق الإنسان هكذا.. ترابيا. وللتراب سلطانه على أبنائه. فحينما تجوع المعدة، ويعطش الكبد، وتثور الشهوة، ويتألم الجسد، وتسيطر الرغبة في التفاخر والتكاثر في الأموال والأولاد، آنئذ ترى أن إرادة الإنسان تقف ضعيفة أمام هذه المؤثرات. فلذلك كان أبناء البشر بحاجة إلى من يعطيهم قدرة التغلب على جاذبية هذه الأمور، ولم يكونوا بحاجة إلى من يأمرهم بالإهتمام بمتاع الدنيا، لأنهم إذا تُركوا على طبيعتهم فسوف يفعلون ذلك غريزيا.
ومن هنا لا تدل الوصايا الإسلامية على أن موقف الإسلام من أمور الدنيا موقف سلبي، كما قد يُتبادر إلى الذهن حينما نقرأ الآيات التالية:
?وَاعْلَمُوا اَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ? الانفال،28
?الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً? الكهف،46
?زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَآءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَاَبِ? آل عمران،14
?وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ? الحشر،9
إن هذه الوصايا والمواعظ القرآنية، والتعاليم الإسلامية الأخرى التي صدرت على لسان النبي صلى الله عليه وآله والأئمة المعصومين عليهم السلام لا تدل أبدا على أن المال والبنين وسائر أقسام زينة الحياة الدنيا مرفوضة ومكروهة عند الإسلام، وإنما تدل على أن الإسلام يريد ان يوجد التوازن في نفسية الإنسان حتى لا ينكب على متاع الدنيا إنكبابا أعمى.
ويؤيد هذه الحقيقة جملة من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، نذكر قسما منها:
يقول تعالى:
?قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا? الاعراف،32
وتقول آية أخرى في صفة المتقين:
?وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً? الفُرْقان،67
ويقول الحديث الشريف المروي عن الإمام السجّاد عليه السلام:
(ليس منا من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه) .
ويقول حديث آخر:
(اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا) .
ويقول الإمام علي بن الحسين عليهما السلام:
(معاشر أصحابي! أوصيكم بالآخرة، ولست أوصيكم بالدنيا، فإنكم بها مستوصون، وعليها حريصون، وبها متمسكون) .
أي إنني لا أوصيكم بالدنيا، لأن الدنيا ذات جاذبية، وهناك من أوصاكم بها، إنما الآخرة هي التي تحتاج إلى الوصية.
الاستسلام والذوبان .. لا
إن مصلحة الإنسان الذي يواجه الحياة الدنيا وزينتها هو الذي يحدد موقف الإسلام منها. فالإسلام لا يريد أن ينفي الدنيا وزهرتها، وإنما يسعى من أجل أن ينفي الجانب السلبي منها وهو الذي يؤثر في النفس تأثيرا ضارا. إن زهرة الدنيا بذاتها حسنة ومطلوبة، والقرآن الحكيم يؤكد عليها بقوله على لسان المؤمنين:
(ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار).
إلا أن موقف الإستسلام والذوبان في بوتقة الشهوات هو المرفوض في الإسلام. وحينما يقول الإسلام على لسان الإمام الصادق عليه السلام:
(حب الدنيا رأس كل خطيئة) .
فبالضبط يعني هذه الحقيقة، بدليل أنه لم يقل شهوات الدنيا رأس كل خطيئة، لأن لكل انسان شهوات، وإنما يقول حب الدنيا، والحب هو الإستسلام للشيء وجعله الغاية. أما أن تأخذ الاشياء لنفسك فليس هذا حباً وإنما هو نوع من التملك.
إن الموقف الاستسلامي تجاه زينة الدنيا ومتاعها، هو موقف التبعية والخضوع، وفقدان العقل والرؤية امام حوادث الدنيا ومتغيراتها. وهذا هو الموقف السلبي الذي يحاول الإسلام نفيه. فالزهرة موجودة، والزينة حسنة والمؤمنون أحق بها، وحسب ما جاء في حديث شريف عن الإمام الصادق عليه السلام:
(إنّ الله أكرم من أن يسأل مؤمناً عن أكله وشربه) .
وقال عليه السلام:
(ثلاثة أشياء لا يحاسب الله عليها المؤمن: طعام يأكله، وثوب يلبسه، وزوجة صالحة تعاونه وتحصن فرجه) .(4/35)
فالله لا يحاسبك لماذا تأكل أو تشرب أو تنام، ولا يحاسبك لماذا تبني بيتاً أو تقيم حضارة وتعمر الارض. وإنما يحاسبك على أنه أعطاك الدنيا لتسخيرها فأصبحت أنت مسخَّراً لها.. وحينما تُسَخَّرُ للحياة الدنيا وتستسلم لزينتها وجاذبيتها، فإنّك لا تحصل على الدنيا ولا تكتسب الآخرة.
فحتى عمارة الأرض، وزينة الدنيا وزهرتها لا تحصل عن طريق الاستسلام المطلق لها. وإنّما يستسيغ الشراب ويستمرئ الطعام ذلك الذي يشرب حين يشتهي بقدر ما يشتهي وينتفع، وهكذا يأكل. أمّا الذي يأكل كالأنعام ويشرب كالبهائم، فان الشراب والطعام لا يهنئان له. واذا أهنئاه الآن فلن يأمن من الآثار السيئة مستقبلاً فلرب أكلة منعت أكلات، ولرب شربة سببت أمراضاً وآفات.
الإسلام يريدك أن تُسخِّر الحياة وتتمتع بها وتستفيد منها ولكن بشرط أن تكون أنت المهيمن عليها، إذن موقف الإسلام من الدنيا هو الموقف الذي يحقق للإنسان المسلم أفضل النتائج في العاجل والآجل.
فالإسلام ينهى عن الإسراف، لأن الإسراف لا يضر بالدنيا فحسب، وإنما يضر بالإنسان أيضا. يقول الله عزوجل:
(يَا بَنِي ءَادَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لايُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ? الاعراف،31
والإسلام ينهى عن التبذير بقوله:
?إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً? الاسراء،27
الكفور هو مقابل الشكور، والتبذير في الدنيا كفر بنعم الله.. أي إستفادة خاطئة وانتفاع شاذ من الدنيا.
والإسلام يأمر بالإصلاح في الأرض، وينهي عن الإفساد:
?وَلا تُفْسِدُوا فِي الاَرْضِ بَعْدَ اِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ? الاعراف،56
ويقول سبحانه وتعالى عن المنافقين:
?وإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ? البقرة،205
ويقول عن المؤمنين أن بعضهم يصلح الآخر:
?وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَولِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ? التوبة،71
فعلاقتهم بالحياة هي علاقة الإصلاح. وهذه الصفة يقررها الإسلام ويؤكد عليها لأن الإستفادة من الحياة تعتمد عليها وهذا هو الموقف الصحيح.
إذن، فحينما يأمر الإسلام بالزهد، فليس معنى ذلك أنه يتخذ موقفا سلبيا مطلقا من الحياة، ولا يعني أنه يمنع التفاعل معها والإستفادة من متاعها، فلقد كان الإمام علي عليه السلام أزهد أهل زمانه، حتى قال عنه رسول الله عليه الصلاة والسلام:
(من أراد أن ينظر إلى عيسى في زهده فلينظر إلى علي بن أبي طالب) .
ولكن أموال علي عليه السلام وثرواته كانت كثيرة، وضياعه وحقوله عديدة، وكان يُتعب نفسه ويجتهد في زراعة الأرض واستصلاحها، وحسب ما جاء في بعض الروايات فإن إيراده اليومي كان يصل إلى سبعين ألف دينار من ضياعه وممتلكاته، إلا أنه بعد أن يحصل على هذه الأموال الطائلة كان يوزعها على الفقراء والمحتاجين وينفقها لخير المجتمع وإصلاحه، ولا يستبقي لنفسه إلا الكفاف. وهذا هو المنهج الصحيح لعمارة الأرض.
التنافس الايجابي .. نعم
إن الإسلام يعتبر التنافس البناء من أجل زينة الحياة الدنيا، عاملا أساسيا في عمارة الأرض. فلولا التنافس على بناء البيوت وإنشاء المصانع وتطوير التجارة، لم تنشأ مدنية أو حضارة.
ولو اكتفى كل انسان برغيف خبز يأكله، وقطعة ثوب يلبسها، ورقعة أرض يسكنها، فهل كانت تُبنى هذه القصور والعمارات، وتلك المصانع والمؤسسات؟
ولو لم يكن التنافس في تحدي مجتمع لمجتمع آخر، لم تتسابق المجتمعات نحو الإبداع والإبتكارات والصناعات.
ولو لم يكن التنافس بين أبناء المجتمع لم يرهق الناس أنفسهم في المزيد من العمل، ولركنوا إلى القعود والكسل، ولكن التنافس هو الذي يدفعهم إلى مواصلة الليل بالنهار، والكدح في سبيل الحصول على المال والثروة والتكاثر فيها.
وقوانين الإسلام في الملكية الفردية، تدفع الناس إلى التنافس البنّاء لعمارة الأرض وإصلاحها، لأن غريزة التملك عند الإنسان من أقوى الغرائز التي تدفع إلى العمل والإبداع.
ولقد حاولت النظرية الشيوعية - التي لم تطبق حتى الآن في العالم بالرغم من المحاولات العديدة التي بذلت في هذا الشأن، بل وسيقت إلى متحف النظريات بعد سقوط الإتحاد السوفياتي - حاولت أن تجرب إلغاء نزعة الملكية الفردية عن الشعب في الإتحاد السوفياتي - سابقاً - فكانت النتيجة أن انعدم الحماس للعمل عند الأفراد. ولكنهم بعد أن أعادوا جزئيا فكرة التملك عن طريق منح امتيازات مادية ومعنوية لمن يعمل أكثر، وجدوا أن النشاط قد دب في الناس، وبدؤوا يعملون.
إذن الملكية الفردية بحدودها المشروعة يؤمن بها الإسلام، ويؤكد عليها. بل إن ملكية الإنسان لأمواله تمتد إلى ما بعد وفاته، وذلك عن طريق الإرث والوصايا. لأن الإنسان إذا عرف بأنه سوف يفعل في أمواله ما يشاء في حياته وبعد مماته، فإنه يشعر بالإطمئنان تجاه هذا الجهد المركز الذي نسميه بالمال.
وعندما يقول الإسلام بأن حرمة أموال الآخرين كحرمة أنفسهم، فإنه يشدد بذلك على احترام الملكية الفردية، لأن ذلك في الواقع هو إحترام للإنسان نفسه، فالمال إنما هو جهد مدّخر، وحينما لا تحترم جهد أحد فكأنك لا تحترمه شخصيا. ومن هنا يأتي موقف الإسلام الحاسم تجاه المال.
صفوة الكلام
1- ما هو موقف المجتمع الإسلامي الملتزم من زينة الحياة الدنيا من: مال، وتقدم، وحضارة ؟ . هل الرفض أم القبول؟ .
2- يتكون الموقف الذي يوصي به الاسلام من ثلاثة عناصر:
ألف: إن إرادة الإنسان قدتضعف أمام المؤثرات المادية التي تحاول تذويبه وتمييعه . لذلك فإن الإسلام يسعى من أجل تزكية النفس البشرية وتطهيرها، وإعطائها دفعات من الإرادة التي تتغلب بها على جاذبية المادة ومؤثراتها السلبية .
باء: إن مصلحة الإنسان هي التي تحدد موقف الإسلام من زينة الحياة الدنيا . فالإسلام لا يرفض زهرة الدنيا بشكل مطلق، بل ينفي الجانب السلبي منها والذي يؤثر في النفس تأثيراً ضاراً وسلبياً .
والجانب السلبي هو موقف الإستسلام، والتبعية، و الخضوع، وانعدام العقل والرؤية الصائبة تجاه مؤثرات الدنيا ومتغيراتها .
جيم: الإسلام يعتبر التنافس الايجابي البناء من أجل توظيف زينة الحياة الدنيا في الاتجاه السليم، عاملاً أساسياً في عمارة الأرض، ولولا هذا التنافس لم تنشأ مدنية أو حضارة .
==================
التحرر من سلطة الثروة
- عز وجل - يعمل الإسلام على فصل الثروة عن السلطة حتى لا يُعبد الاغنياء من دون الله
- عز وجل - إن هدف الإسلام في الحياة الإجتماعية هو أن يجعل المال خاضعاً للإنسان وليس حاكماً عليه .
- عز وجل - إذا استطاع المجتمع أن يتحرر من سلطة المال، فإنه تنطلق مواهبه، وتتفجر إمكاناته، ويتحرر من الجمود .
للإنسان قوتان تتجاذبانه.. قوة الطبيعة وقوة القيم. وقد تقوده إحدى القوتين بصورة مطلقة، أو تشتركان في قيادته عبر ظروف مختلفة وفي حالات متباينة.
وفي المجتمع قد تكون القوة الغالبة والحاكمة متجسِّدة في الطبيعة أو في القيم، وذلك عبر المجموعة التي غلبت طبيعتُها قيمها أو غلبت قيمُها طبيعتَها، فتكون الصفة العامة لهذا المجتمع إما صبغة الطبيعة وإما صبغة القيم.(4/36)
فإن كانت الاولى هي السائدة وصبغتها هي الظاهرة، فذلك هو مجتمع الجبت والطاغوت، وإن كانت الثانية هي السائدة فذلك هو مجتمع الرسالة والإيمان.
وكما أن الإنسان الفرد قد يخضع للمال باعتباره مجسِّداً لقوة الطبيعة في ذاته، ومحققا لأهدافه المادية، كذلك المجتمع قد يقوده المال وأصحابه باعتبارهم مجسدين لتلك القوة الطبيعية.
وقد طرحت البشرية، منذ أن واجهت هذه المشكلة، مسألة كيفية التخلص من جاذبية المال بالنسبة للأفراد، والتخلص من قوة المال كقوة طاغية وحاكمة بالنسبة للمجتمع .
صور متعددة وجوهر واحد
في يوم ما كان الاقطاع مشكلة الإنسان الأولى، حيث كان مالكوا الأرض يستغلون الناس بقوة المال، ويفرضون عليهم سلطتهم المستمدة من ثروتهم، وبالتالي كانت الطبيعة المتجسدة في الثروة هي التي تقود المجتمع.
وبعد أن ثار الثائرون وأسقطوا صنم الإقطاع، لم يلبثوا أن إختاروا لأنفسهم صنما آخر سموه الرأسمالية، وكان ذلك الصنم معبِّرا عن غلبة وتفوق قوة الطبيعة في ذاتهم على قوة القيم.
وثارت الثائرة مرة أخرى، فدارت المعارك وأزهقت الانفس وأريقت الدماء حتى اسقطوا صنم الرأسمالية في بعض البلاد، وزعموا بأنهم قد ارتاحوا نهائيا من المشكلة الحادة في حياة الإنسان، وبعد أن هدأت المعارك وظهرت الحقيقة، فإذا بصنم آخر يُعبد من دون الله وهو صنم الدولة المستبدة والمستغِّلة للمال.
وسواء كانت الثروة بيد الإقطاع، متجسدة في امتلاك الأرض ومن عليها، أو كانت بيد التجار، أو كانت بيد السلطة فإنها هي الثروة، وهي الصنم، وبالتالي فهي الحاكمة. فالصور قد تتبدل، والأشكال قد تتغير، ولكن يبقى الجوهر هو الجوهر.
إن المشكلة هي في خضوع الإنسان للثروة، وغلبة الطبيعة على القيم في ذاته. فحينما تذوب القيم في بوتقة الثروة، فلا جدوى من السؤال عمن يملك هذه الثروة ويتسلط على الناس بإسمها.
إذن، ما هو الحل الذي يقدمه الإسلام لهذه المشكلة؟.
الجواب: الحل الإسلامي يأتي على صعيدين:
ألف: على صعيد الفرد.
يبدأ الحل الإسلامي من عمق ذات الإنسان. فهو يسعى لكي يجعل سلطة القيم هي الحاكمة على الطبيعة في ذات الإنسان. فإذا استطعت - تبعاً للتعاليم الإسلامية - أن تجعل نظرتك إلى المال نظرة إستعلاء وتسامي، وإلى زينة الحياة الدنيا نظرة تملك وتسخير، وإلى الطبيعة نظرة إصلاح وإعمار، فإنك تنتصر على مشكلة الثروة في ذاتك.
لذلك نجد القرآن الحكيم يركز على هذا الموضوع في عدة آيات مثل قوله تعالى:
?الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً? الكهف،46
وقوله سبحانه: ?زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَآءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَاَبِ? آل عمران،14
إن هذه الآيات والتعاليم الإسلامية الأخرى المشابهة، تدفع الإنسان إلى أن ينتمي إلى مجتمع القيم، المجتمع الذي يقوده خير الناس علما وتقوى وكفاءة، وليس أكثرهم ثروة، وأوفرهم قوة وجاها.
باء: على صعيد المجتمع.
على الصعيد الإجتماعي، يشدد الإسلام على عدم تركيز السلطة بيد الأغنياء، بل يجعلهم تابعين للعلماء والمفكرين. والنصوص الإسلامية تؤكد على أن إحترام الغني لغناه جريمة وخطيئة كبيرة، يقول الإمام علي عليه السلام:
(من أتى غنيّاً فتواضع له لغناه ذهب ثُلثا دينه) .
كما تؤكد الآيات القرآنية على أن الأغنياء غير الأتقياء هم من شرار الناس. وكمثال على ذلك قصة الجنتين وصاحبهما الذي ?َدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً * وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَآئِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لاَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً? الكهف،35-36
ثم كانت عاقبته أن ?وَاُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَاَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ اُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً? الكهف،42
وقصة قارون (في سورة القصص 76- 81) الذي أوتي من الكنوز:
?وءَاتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ اُوْلِي الْقُوَّةِ?
ثم كانت عاقبته:
?فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الاَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ?
وكذلك يتخذ الإسلام موقفاً صارماً تجاه الأغنياء الذين لا ينفقون أموالهم في سبيل الله:
?وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ? آل عمران،180
كل هذه النصوص والتعاليم تريد أن تفصل المال عن السلطة داخل المجتمع حتى لا يُعبد الأغنياء من دون الله، ولكي لا تتحول الثروة صنماً باسم الاقطاع يوما، وباسم الرأسمالية يوما آخر، وباسم الحزب الحاكم ثالثاً. المهم هو فصل هذا التجمع القائم على المال والثروة عن السلطة الإجتماعية والسياسية، ولكن كيف يتم تحقيق هذا الهدف؟
ما هي الضمانات التي يضعها الإسلام لفصل المال والثروة عن السلطة؟
الضمانات هي:
أولا: التوزيع العادل للثروة.
وذلك عن طريق فرض الضرائب التصاعدية، وغير التصاعدية، كضريبة الخمس والزكاة، والحق المعلوم لو كان غيرهما، وتقسيم الأموال بالإرث، وكذلك بعض الكفارات والديات المالية. هذه الأحكام الشرعية لا تدع المال يصبح دولة بين الأغنياء يتداولونه كما يحلو لهم، ولا يدعون الآخرين يستفيدون منه.
ثم ان الإسلام يؤكد على ضرورة تقسيم المال لو سبب ضررا على المجتمع الإسلامي، ولو كان بغير الطرق السالفة الذكر، حيث:
? تمهيد يقول رسول الله صلى الله عليه وآله:
(لا ضرر ولا ضرار)
تمهيد ويقول صلى الله عليه وآله:
(من أحيى أرضاً مواتاً فهي له)
تمهيد ويقول الإمام الصادق عليه السلام:
(إن الأرض لله ولمن عمّرها) .
ثانيا: القضاء على احتكار الأرض.
إن الإسلام بمعالجته لمشكلة الأرض ذلك المورد الرئيسي والهام للإنسان، وعدم جعلها حكرا على مجموعة خاصة، تستغل الناس يوما بإسم الاقطاع، وآخر بإسم الشركات الزراعية، يقضي بذلك على الاقطاعية القديمة والجديدة. هذا الإقطاع البشع الذي يضيق الخناق على الناس ويعيق مسيرة التقدم في الحياة.
ثالثا: محاربة احتكار المواد الأولية الضرورية.
إن بعض المواد الضرورية الأساسية (أو ما يطلق عليها اليوم بالمواد الإستراتيجية) وبسبب حاجة الناس الماسة إليها، تكون مشتركة المنافع فيما بينهم، ولا يحق لأحد إحتكارها . وهذا يدل على أن كل مادة أصبحت ذات حاجة اجتماعية شاملة، فالناس شركاء فيها، كالنفط مثلا. ويقول الإسلام في ذلك على لسان رسول الله صلى الله علية وآله وسلم:
(الناس شركاء في ثلاث: النار ، والماء، والكلاء)
رابعا: ضبط التجارة الخارجية.(4/37)
إن التجارة الخارجية في الدولة الإسلامية في ما يختص بالمواد الضرورية الأساسية، كالتي تُعتبر أساسا لسائر الصناعات، مثل الحديد والبترول وما أشبه، أو المواد الغذائية الرئيسية كالقمح والأرز واللحم والسكر وغيرها والتي يحتاج إليها الناس في حياتهم اليومية، وأدنى ما يحتاجونه من الملابس، ووسائل النقل، ووسائل البناء يجب ألا تصبح أداة للإستغلال من قبل التجار.
ومن هنا يجب مراقبة التجار وإلزامهم بمراعاة الحدود المشروعة في أعمالهم ونشاطاتهم.. وإذا رأى المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية أن هؤلاء يحتكرون هذه المواد، ويستغلون الناس بها، ويفرضون وصايتهم على الناس عن طريقها، ولا يوفرونها بصورة تكون سببا لرفاه الناس، فمن الواجب على الدولة أن تضبط التجارة الخارجية بما يوفر مصلحة الناس العامة.
خامسا: فصل العلم عن الثروة.
وهو من الضمانات الإسلامية الهامة في هذا المجال، إذ أن الثروة لا تستطيع أن تستغل الناس إلا تحت غطاء العلم، وعن طريق العلماء. فالعلماء الراكعون على أبواب الأغنياء والتجار، والذين يبيعون علمهم بثمن بخس للمستكبرين، كانوا دائما أداة طيّعة بيد أصحاب الثروة، لكي يحولوا ثروتهم إلى سلطة يفسدون بها في الأرض.
سادسا: رفع مستوى الناس علميا واقتصاديا.
من الناحية التاريخية ثبت أن المجتمعات التي تحكمها الديكتاتورية، ويتسلط عليها الإستبداد، هي المجتمعات الأقل وعيا والأكثر فقرا. أي أنه إذا ارتفع مستوى الجماهير إلى حد معين من الوعي والرفاه الإقتصادي، فإن قدرة أصحاب المال والثروة على التسلط والإستغلال تتلاشى.
فالمجتمع الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب، يكون مادة دسمة للمستغلين. لذلك فالأمية خطر على حرية الإنسان. والإسلام يسعى إلى محو الأمية ويعتبره واجبا شرعيا. ويؤكد الحديث الشريف المروي عن النبي الكريم صلى الله علية وآله، على أن:
(طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة)
والإسلام يفرض على المسلم أن يقسم أوقاته أربعة أقسام، يجعل قسما منها لطلب العلم. ولقد كان أحد شروط النبي صلى الله عليه وآله لإطلاق أسرى حرب بدر أن يُعَلِّم الأسير المتعلِّم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة.
إن الإسلام يجعل طلب العلم فوق كل الواجبات، ويشترط أن يقترن ذلك بالوعي، فلا يجتهد الناس في طلب علوم بعيدة عن واقعهم، بل ينبغي أن يكون العلم فيما يخص الإنسان مباشرة، ويعالج مشاكله ويلبي احتياجاته التي يواجهها في زمانه، من معرفة أهل زمانه، وطبيعة القوى والتيارات الحاكمة في الحياة، أي أن يكون علما سياسيا بالمعنى الإسلامي الشامل للسياسة. فقد جاء في الحديث الشريف عن الإمام الباقر عليه السلام أن من صفات المؤمنين هو أن يكون: (عارفا بأهل زمانه)
وأن (العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس) .
وكذلك بالنسبة إلى الإقتصاد، فحينما نقول: إن المجتمع الذي يملك أبناؤه مستوى معينا من الثروة والغنى، فإنهم يرفضون الديكتاتورية، ليس المقصود بذلك أن يكون دخل الفرد كبيرا. فلو كان دخله الشهري كبيراً جداً، ولكن كان مصروفه الطبيعي أكثر لكان فقيرا، والفقير في الإسلام هو الذي يكون إنفاقه الطبيعي أكثر من دخله، والمؤمن يجب أن يبتعد عن الفقر الذي هو سواد الوجه في الدارين. ولا يعني ذلك أن يكون همه الحصول على المزيد من المال، بل المقصود أن يقتصد في مصروفه وألا يجعل ميزانيته دائما خاسرة. وعلى المؤمن أن يدخر، فـ (نعم العون على تقوى الله الغنى) كما يقول رسول الله صلى الله عليه وآله .
والغنى أن تكون يدك مبسوطة يوم الحاجة، وهو ذلك اليوم الذي يحاول فيه الغني أن يستغلك. فحينما تقرر سلطة الأغنياء أن تتحكم في مصيرك، تكون قادرا على المقاومة بأن تُضرب عن العمل مثلا. وعندما يقطعون راتبك فأنت تمتلك مدخراً تعيش عليه، وتصمد إلى ان ترغمهم أن يعطوك حقوقك، وبالتالي ترغم السلطة السياسية الحاكمة في البلد على الرضوخ للحق.
لذلك فإن الديكتاتورية مقرونة بقلة الوعي والمال عند الجماهير. فكلما توزعت الثروة وانتشر الوعي كلما ضعفت سلطة الديكتاتورية.
سابعا: اعتبار الخضوع لغير سلطان الله شركا.
هنا تأتي الضمانة الدينية، وهي الأهم، حيث أن الإسلام يحرم على المسلم الخضوع لسلطان غير سلطان الله، ولحاكم غير من أمر الله به، ويعتبر ذلك شركا. والشرك عند الله ظلم عظيم غير قابل للغفران. ويضم القرآن الكريم من بدايته إلى نهايته آيات كثيرة عن الشرك والمشركين، وعن ضرورة مقاومة الشركاء من دون الله، والتمرد على الآلهة التي تُعبد من دون الله، ومن هذه الآلهة أصحاب الثروة الذين يتسلطون على الناس ويستغلونهم.
إن هدف الإسلام في الحياة الإجتماعية هو أن يجعل المال خاضعا للإنسان وليس حاكما عليه، وأن يجعل الإنسان مسخِّرا للحياة لا تابعا لما فيها من متاع زائل. وهذا الهدف العام يحققه الإسلام عبر مجموعة ضخمة من التعليمات التربوية، والاحكام الإجتماعية، والوصايا الأخلاقية.
واذا استطاع مجتمع أن يتحرر من سلطة المال ويجعله مملوكا له وليس مالكاً، فإنه ليس فقط تنطلق مواهبه وتتفجر إمكاناته ويتحرر من الجمود، وإنما تنمو ثروته أيضا، ويستطيع أن يفلت وإلى الأبد من قيد الفقر، فالمال حيث يُعبد من دون الله يصبح فقرا، والمجتمع الذي يحكمه المال هو المجتمع الفقير.
صفوة الكلام
1- قوتان تتجاذبان الإنسان؛ قوة الطبيعة، وقوة القيم .
2- إذا سادت المجتمع قوة الطبيعة، فذلك هو مجتمع الجبت والطاغوت، وإذا سادته قوة القيم، فذلك هو مجتمع الرسالة والإيمان .
3- المال والثروة هما أهم مظاهر قوة الطبيعة .
4- والإسلام يحل مشكلة خضوع الإنسان للثروة، وغلبة قوة الطبيعة على قوة القيم في ذاته ومن ثم في المجتمع من خلال :
ألف: جعل سلطة القيم هي الحاكمة على الطبيعة في ذات الإنسان كفرد .
باء: التأكيد على عدم تركيز السلطة بيد أصحاب المال والثروة، بل جعلهم تابعين للعلماء والمفكرين .
5- ويضع الاسلام عدد من الضمانات لفصل المال والثروة عن السلطة، من أهمها :
- التوزيع العادل للثروة .
- القضاء على إحتكار الأرض .
- مكافحة إحتكار المواد الأساسية .
- ضبط التجارة الخارجية .
- فصل العلم عن الثروة .
- رفع مستوى المجتمع في مجالي العلم والاقتصاد .
- رفض الخضوع لغير سلطان الله .
=====================
الباب السادس
حقيقة الحضارة الإسلامية
تأليف الشيخ
ناصر بن حمد الفهد
بسم الله الرحمن الرحيم
تنبيه
هذه المذكرة جواب عمَّن...
- جعل حضارة الإسلام؛ هي النبوغ في علوم الفلاسفة والملاحدة.
- وجعلها هي تشييد المباني وزخرفة المساجد.
- وجعل علماء الإسلام؛ هم الملاحدة - كابن سينا والفارابي ونحوهم -
أسأل الله تعالى أن ينفعهم بها.
وصلى الله على محمد
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد...
فإن الفتن في هذه الأزمان قد تتابعت كقطع الليل، وأحييت معالم الدَّهْمَاء، وأثير نقع الفتن واستوري زناد الهَزَاهِز:
إذا لهب من جانب باخ شره ... ذكا لهب من جانب فتضرما
ولكن مستثار الفتنة وعرصة غيِّها؛ هو فيما حازه الكفار من زخارف الدنيا التي فَتَحها الله عليهم، فإنها قد بلبلت كثيراً من المسلمين، فمنهم من انسلخ عن دينه والعياذ بالله؟ ومنهم من بقي حائراً، ومنهم من ثبت على دينه على دَخَنٍ، ومنهم من لم يرفع بهذه الفتنة رأساً ولم يلق لها بالاً وثبت على دينه ثبات الجبال الرواسي.(4/38)
والمقصود هنا؛ فريق من المسلمين ثبتوا على دينهم، ولكنَّ نقعاً من هذه الفتنة أصابهم، وذلك أنهم حاولوا إبراز محاسن الإسلام للكافرين، وأن المسلمين كانوا في حضارة وعلم من جنس حضارتهم وعلومهم، فهؤلاء صحت ألفاظهم وأخطأت معانيهم، فالإسلام هو دين الحق والعلم والحضارة، ولكنها حضارة غيرُ الحضارة وعلمٌ غير العلم.
سارت مشرقة وسرت مغرباً ... شتان بين مشرقٍ ومغرب
فحضارتهم دنيوية زائلة، وحضارة المسلمين دينية نبوية باقية، وعلومهم دنيوية دنيه، وعلوم المسلمين شرعية ربانية:
سلفيةٌ سنيةٌ نبويةٌ ... ليسوا ... ... أولي شطحٍ ولا هذيانِ
وقد كتبت هذا البحث ونقلت فيه كلام الأئمة الأعلام حول هذا الموضوع، وقسَّمته إلى أربع فصول:
فالفصل الأول: عن الحضارة الإسلامية وعلاقتها بالعلم الشرعي.
والفصل الثاني: عن العلوم الدنيوية التي قيل إن المسلمين برعوا فيها وحكمها شرعاً.
والفصل الثالث: عن العلماء المسلمين الذين قيل إنهم برعوا في هذه العلوم وحكمهم شرعاً.
والفصل الرابع: عن الشبهات التي قد ترد حول هذا الموضوع وردها.
هذا وما كان في هذا البحث من صواب؛ فمن الله، والحمد لله على ذلك، وما كان فيه من خطأ؛ فمني ومن الشيطان، وأستغفر الله.
وأخيراً...
أسأل الله تعالى أن يجعل هذا البحث خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفع به من قرأه.
وصلى الله على محمد
====================
الفصل الأول -الحضارة الإسلامية والعلم الشرعي
إن الحضارة الإٍسلامية الصحيحة؛ هي التي وجدت في القرون المفضلة، في وقت الصحابة والتابعين، وأئمة الدين، فريق الهدى، وأشياع الحق، وكتائب الله في أرضه، الذين بلغوا من الدين والعلم والقوة غاية ليس وراءها مطلع لناظر، ولا زيادة لمستزيد، ففتحوا البلدان، وشيدوا الأركان، ودانت لهم الأمم، وتداعت لهم الشعوب.
ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا ... وإن نحن أومأنا إلى الناس وقّفوا
هم الذين قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)(1).
أولئك هم (أبر الأمة قلوباً، وأعمقها علوماً، وأقلها تكلفاً، وأقومها هدياً، وأحسنها حالاً)(2).
وهم النجوم لكل عبدٍ سائرٍ ... ... يبغي الإله وجنة الحيوانِ
وسواهم والله قطّاع الطريق ... ... أئمةٌ تدعو إلى النيرانِ
فَمن كان مفاخراً؛ فليفاخِرْ بهم، ومن كان مكاثراً؛ فليكاثرْ بهم، فدينهم هو الدين، وعلمهم هو العلم، مكّن الله لهم في الأرض ففتحوا الدنيا وحكموا العالم في مدةٍ لا يبلغ فيها الرضيع أن يفطم.
قال الذهبي رحمه الله تعالى: (واستولى المسلمون في ثلاثة أعوام على كرسي مملكة كسرى وعلى كرسي مملكة قيصر، وعلى أمَّي بلادهما، وغنم المسلمون غنائم لم يسمع بمثلها قط من الذهب والحرير والرقيق فسبحان الله العظيم الفتاح)(3).
وقبل انتهاء جيل الصحابة رضوان الله عليهم؛ كانوا قد فتحوا من الأندلس غرباً إلى الصين شرقاً، وذلك قضل الله يؤتيه من يشاء.
ثم إن المسلمين لم يزلْ أمرهم في إدبار بعد القرون المفضلة وقوتهم في ضعف، حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه اليوم من البعد عن الدين والتعلق بأذيال الكافرين.
لذلك فاعلم؛ أن الدين ما انتهجه السلف، والعلم ما طلبوه، وما سوى ذلك فلا خير فيه.
فصل
وفي هذه الأزمنة التي أتت بكل عجيب؛ ظهر قوم بهرتهم زخارف بني الأصفر وبلبلت أفكارهم وفهومهم، فشعروا - لبعدهم عن الحق - بنقص إزاء ما يرونه، فهبوا إلى التاريخ يقلبون أوراقه لعلهم يجدون فيه ملجأً أو مغاراتٍ أو مدَّخلاً يسترون فيه هذا النقص، فطووا ذكر القرون المفضلة لأنهم يعلمون أنه ليس فيها لشفرتهم محزّا، ولا لبغيتهم طائلاً، وأمعنوا النظر في دويلات البدع والضلالة، فأخرجوا منها زبالات التاريخ وحثالات المسلمين ممن تفلسف وتزندق وألحد في دين الله، فلمَّعوا وجوههم الكاحلة، ونفضوا عنها الدَرَن والنتن، وهيهات هيهات "هل يصلح العطّار ما أصلح الدهرُ؟"، فبارزوا بهم الكفار، فكانوا بحقٍ كعبدٍ صرعه أَمَةٌ، وكالمستجير من الرمضاء بالنار.
طلبت بك التكثيرَ فازددتُ تلةً ... وقد يخسر الإنسانُ في طلبِ الربحِ
فهرفوا بما لم يعرفوا، فما كلامهم إلا خطل، وما حديثهم إلا هَذَر، وقديماً قيل: "مَنْ أكثرَ أهجَرَ".
فالإسلام لم ينضب معينه من أفذاذ الرجال، ولا من الأئمة الأعلام، حتى يكون بحاجةٍ إلى كلّ موقوذة ومترديةٍ ونطيحةٍ ينازل بهم المسلمون والكافرين.
ولكن النكتة في ذلك؛ أن هؤلاء القوم إنما أرادوا مبارزة بني الأصفر بعلومٍ من جنس علومهم، وهذه العلوم لم يبرع فيها من المسلمين إلا الملاحدة، وغفلوا أو تغافلوا عن قوله تعالى: {كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا} [سورة الإسراء: 20]، وهذا من عطائه سبحانه، والدنيا يعطيها الله لمن يحب ويكره، ولكن الدين لا يعطيه الله إلا لمن يحب، وإلا فهذه العلوم لا تدل على حق ولا تمنع من باطل، بدليل أنك لو جمعت ما عند ملاحدة اليونان والمسلمين من هذه العلوم ثم قارنتها بما عند الكافرين اليو؛م لما بلغت عشر معشارها.
والنقص إنما يشعر به من ابتعد عن جادة الدين، وإلا فمن سلكَ الجَدَد؛ أَمِنَ العثار.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (وإذا كان خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، فكل من كان إلى ذلك أقرب وهو به أشبه، كان إلى الكمال أقرب، وهو به أحق، ومن كان عن ذلك أبعد وشبهه أضعف، كان عن الكمال أبعد وبالباطل أحق، والكامل هو من كان لله أطوع وعلى ما يصيبه أصبر فكلما كان اتْبع لما يأمر الله ورسوله وأعظم موافقة لله فيما يحبه ويرضاه وصبر على ما قدره وقضاه كان أكمل وأفضل، وكل من نقص عن هذين كان فيه من النقص بحسب ذلك)(4).
ولو أمعنوا في دراسة التاريخ؛ لاتضح لهم جلياً إن المسلمين لم يضعفوا ويتسلط عليهم الكفار والتتار والباطنية وغيرهم إلا بعد انتشار مثل هذه العلوم والعلماء بين المسلمين.
__________
(1) رواه الشيخان عن عمران بن حصين رضي الله عنهم.
(2) رواه سعيد بن منصور عن ابن مسعود رضي الله عنه.
(3) تاريخ الإسلام: ص159.
(4) المجموع: 11/4.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (كما هي عادته سبحانه وسنته في عباده إذا أعرضوا عن الوحي، وتعوضوا عنه بكلام البشر، فالمغرب؛ لما ظهرت فيهم الفلسفة والمنطق واشتغلوا بها استولت النصارى على أكثر بلادهم وأصاروهم رعية لهم، وكذلك لما ظهر ذلك ببلاد المشرق؛ سلط الله عليهم التتار فأبادوا أكثر البلاد الشرقية واستولوا عليها، وكذلك في أواخر المائة الثالثة وأول الرابعة لما اشتغل أهل العراق بالفلسفة وعلوم أهل الإلحاد؛سلط الله عليهم القرامطة الباطنية، فكسروا عسكر الخليفة عدة مرات واستولوا على الحاج واستعرضوهم قتلاً وأسراً)(1).
فصل
فالعلم؛ هو العلم الشرعي، وهو الذي دل عليه القرآن والسنة وكلام السلف لا علوم الفلاسفة والملاحدة.
وفي الحديث: (العلم ثلاثة وما سوى ذلك فضل؛ آية محكمة، وسنة متبعة، وفريضة عادلة)(2).
وقال الأوزاعي رحمه الله تعالى: (العلم ما جاء به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فما كان غير ذلك فليس بعلم)(3).(4/39)
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (لكن جماع الخير أن يستعين بالله سبحانه في تلقي العلم الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه هو الذي يستحق أن يسمى علماً، وما سواه إما أن يكون علما فلا يكون نافعاً، وإما أن لا يكون علماً وإن سمي به، ولئن كان علماً نافعاً فلا بد أن يكون في ميراث محمد صلى الله عليه وسلم ما يغني عنه مما هو مثله وخير منه)(4).
وقال ابن رجب رحمه الله تعالى: (فالعلم النافع من هذه العلوم كلها ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها، والتقيد بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث... في ذلك غاية لمن عقل، وشغل لمن بالعلم النافع اشتغل)(5).
وقال الشافعي رحمه الله تعالى:
كل العلوم سوى القرآن مشغلة ... إلا الحديث وإلا الفقه في الدين
العلم ما كان فيه قال؛ حدثنا ... وما سوى ذاك وسواس الشياطين
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:
العلم قال الله قال رسوله ... ... قال الصحابة هم أولو العرفان
وكلام أهل العلم في هذا كثير جداً، وفيما نقلت كفاية إن شاء الله تعالى.
فالحاصل:
إن الحضارة الإسلامية لا تقاس بعمران الدنيا ولا بعلومها، فإن المسلمين لما اشتغلوا ببناء القصور الفارهات، وبتعلّم الفلسفة والمنطق والطبيعيات، وركنوا إلى الدنيا واستهانوا بالعلوم الشرعيات؛ رماهم الله بالدواهي والمصيبات، فالفهمَ الفهمَ، فإن الإسلام لم يأتِ لعمارة الدنيا إلا بالطاعات.
والله أعلم، وهو الموفق للصالحات.
==================
الفصل الثاني -العلوم الدنيوية التي قيل إن المسلمين برعوا فيها
تمهيد:
لم تنتشرْ هذه العلوم والتي تسمى بـ "علوم الأوائل" عند المسلمين وتظهر بصورة كبيرة إلا في وقت المأمون، الذي أمر بترجمة كتب اليونان في الفلسفة والحكمة وغيرها، فأدخل بفعله هذا على المسلمين شراً لا يزال أثره إلى اليوم.
لذلك قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (إن الله لن يغفل عن المأمون ما أدخله على المسلمين بترجمة تلك الكتب).
وقال: (ثم طُلبت كتبهم - أي الفلاسفة - في دولة المأمون من بلاد الروم، فعُرِّبت ودرَّسها الناس، وظهر سبب ذلك من البدع ما ظهر)(6) اهـ.
ونصوص العلماء في ذم فعل المأمون هذا كثيرة، ولكن الذي يزيد الأمر ضغثٌ على إبّارة؛ أن أولئك القوم يجعلون عصر المأمون هذا من أعظم العصور الإسلامية علماً وفتحاً على المسلمين - إن لم يكن أعظمها على الإطلاق - بسبب هذه الترجمة.
ولك أن تقارن إن أردت الحق في ذلك بما فعله الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنه لما فتحت فارس وجد المسلمون فيها كتباً كثيرة، فاستشاروا عمر فيها، فأمرهم بإحراقها، وقال قولته العظيمة: (إن يكن ما فيها هدى فقد هدانا الله بأهدى منه، وإن يكن ضلالاً فقد كفاناه الله)، فأحرقت كلها أو طرحت في الماء.
فريقان منهم سالكٌ بطنَ نحلةٍ ... وآخر منهم سالكٌ نجدَ كبكبِ
وكأني بأولئك القوم؛ يحاولون أن يكّذبوا، أو على الأقل يخفوا هذه الرواية وهذا الخبر، حتى لا يسمع به الغرب والكفار خير مؤيد للإسلام بأنه دين الجهل، وأنه عدو للعلم والعلماء، ولكن...
ما ضرَّ تغلب وائل أهجوتها ... أم بلت حيث تناطح البحرانِ
فالإسلام هو الإسلام، لا يغيره تأويل جاهل، ولا تكلّف أحمق، وحكم الإسلام في هذه العلوم واضح جلي ذكره العلماء، وسوف أنقل فيما يأتي بعض هذه العلوم وبعض ما قيل فيها، والله المستعان.
علم الفلسفة(7):
وهو منبع الضلالة، ومنجم الباطل، قد عشّش به الشيطان وضرب فيه قباب، حرّمه جميع المحققين من العلماء، ومَنْ تعلمه وأدمن النظر فيه لم يسلم من الإلحاد، ودين أهل هذا العلم هو الكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، أبطلوا النقول، وخالفوا المعقول، وأضلوا الأمم.
قال ابن الصلاح رحمه الله تعالى: (الفلسفة رأس السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة، ومن تفلسف عميت بصيرته عن محاسن الشريعة المؤيدة بالحجج الظاهرة، والبراهين الباهرة، ومن تلبّس به علماً وتعليماً قارنه الخذلان والحرقان، واستحوذ عليه الشيطان، وأي فنٍ أخزى منْ فنٍ يعمي صاحبه - أظلم قلبه - عن نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم... وليس الاشتغال بتعليمه وتعلمه مما أباحه الشارع، ولا استباحه أحد من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، والسلف الصالحين، وسائر من يقتدى به من أعلام الأئمة وسادتها، وأركان الأمة وقادتها، قد برّأ الله الجميع من معرّة ذلك وأوناسه، وطهرهم من أوضاره)(8) اهـ.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: (فالزندقة والإلحاد عند هؤلاء جزء من مسمى الفلسفة أو شرط... فلا مبدأ عندهم ولا معاد ولا صانع ولا نبوة ولا كتب نزلت من السماء تكلم الله بها، ولا ملائكة تنزلت بالوحي من الله سبحانه، فدين اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل خير وأهون من دين هؤلاء)(9) اهـ.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (والفلاسفة هم الذين أفسدوا أهل الملل قبلنا مللهم وتواريخهم)(10).
وقال: (كان هؤلاء المتفلسفة إنما راجوا على أبعد الناس عن العقل والدين، كالقرامطة والباطنية الذين ركّبوا مذهبهم من فلسفة اليونان ودين المجوس وأظهروا الرفض، وإنما ينفقون في دولة جاهلية بعيدة عن الإيمان، إما كفاراً أو منافقين، كما نفق مَنْ نفق منهم على المنافقين الملاحدة)(11) اهـ.
وقال ابن القيم رحمه الله في نونيته:
والفيلسوف وذا الرسول لديهم ... متفاوتان وما هما عدلان(12)
أما الرسول ففيلسوف عوامهم ... والفيلسوف نبي ذي البرهان
والحق عندهم ففيما قاله ... ... اتباع صاحب منطق اليونان
ومضى على هذي المقالة أمة خلف ابن سينا فاغتروا بلبان
منهم نصير الكفر في أصحابه ... الناصرين لملة الشيطان
إخوان إبليس اللعين وجنده ... لا مرحباً لعساكر الشيطان
__________
(1) إغاثة اللهفان: 2/602.
(2) انظر ذلك بالتفصيل في "جامع بيان العلم وفضله"، لابن عبد البر: 2/29 -50.
(3) فضل علم السلف على علم الخلف: ص59.
(4) المجموع: 10/664.
(5) السابق: ص63.
(6) المجموع: 2/84.
(7) الفلسفة القديمة تحتوي على سبعة علوم، هي على ترتيبهم: المنطق ثم الارتماطيقي - علم العدد - ثم الهندسة ثم الهيئة - علم الفلك والنجوم - ثم الموسيقى ثم الطبيعيات ثم الإلهيات، ولكل واحدٍ فروع، وانظر لتفصيل وشرح هذه العلوم؛ "مقدمة ابن خلدون": ص478 وما بعدها.
(8) الفتاوى: ص70.
(9) إغاثة اللهفان: 2/595.
(10) المجموع: 5/140.
(11) المجموع: 9/176.
(12) يعني: متساويتان.
علم الكيمياء(1):
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (وحقيقة الكيمياء إنما هي تشبيه المخلوق، وهو باطل في العقل، والله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فهو سبحانه لم يخلق شيئاً يقدر العباد أن يصنعوا مثل ما خلق... وأهل الكيمياء من أعظم الناس غشاً ولهذا لا يظهرون للناس إذا عاملوهم إن هذا من الكيمياء... فجماهير من يطلب الكيمياء لا يصل إلى المصنوع الذي هو مغشوش باطل طبعاً، محرم شرعاً بل هم يطلبون الباطل الحرام... ولم يكن في أهل الكيمياء أحد من الأنبياء ولا من علماء الدين ولا من مشايخ المسلمين، ولا من الصحابة ولا من التابعيين لهم بإحسان وأقدم من يحكى عنه شيء في الكيمياء خالد بن يزيد بن معاوية(2) وليس هو ممن يقتدي به المسلمون في دينهم ولا يرجعون إلى رأيه... وأما جابر ابن حيان؛ صاحب المصنفات المشهورة عن الكيماوية فمجهول لا يعرف، وليس له ذكر بين أهل العلم ولا بين أهل الدين)(3) اهـ.(4/40)
ثم قال: (والكيمياء أشد تحريماً من الربا)(4).
وقال: (إن الكيمياء لم يعملها رجل له في الأمة لسان صدقٍ، ولا عالم متبع، ولا شيخ يقتدى به ولا ملك عادل، ولا وزير ناصح، وإنما يفعلها شيخ ضال مضل).
ثم قال: (وأيضاً فإن فضلاء أهل الكيمياء يضمون إليها الذي يسمى "السيمياء"، وهو السحر... فإنك تجد "السيمياء" التي هي من السحر كثيراً ما تقترن بالكيمياء، ومعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن السحر أعظم المحرمات، فإذا كانت تقترن به كثيراً، ولا تقترن بأهل العلم والإيمان بل هي من أعمال أهل الكفر والفسوق والعصيان) اهـ.
وقد قال الذهبي رحمه الله تعالى في "مسائل طلب العلم وأقسامه": (فصل: ومن العلوم المحرمة: علم السحر والكيمياء والسيمياء والشعبذة والتنجيم، والرمل وبعضها كفر صراح)(5) اهـ.
وقد نعت ابن خلدون في مقدمته(6)؛ الكيميائيين بأنهم يشتغلون بالسحر والطلسمات، وأنكر هذا العلم وأبطله.
وفيما نقلت كفاية إن شاء الله تعالى في بيان حقيقة هذا العلم وحكمه.
علم الفلك:
علم الفلك قسمان:
الأول: هو معرفة منازل القمر والنجوم والمطالع وغيرها مما يعين في معرفة القبلة والاهتداء في البر والبحر ونحوها، وهو ما يسمى بـ "علم التسيير".
الثاني: هو الاستدلال بالحوادث الفلكية على الحوادث الأرضية وادعاء معرفة الغيب، وهو ما يعرف بـ "التنجيم"، ويسمى "علم التأثير".
فالقسم الأول تنازع العلماء في جوازه، فمنهم من حرمه سداً للذريعة ومنهم من كره تعلمه، ومنهم من أجازه - وهم الجمهور - فإذا كان هذا الأمر في "علم التسيير" فما بالك بالتنجيم، فإن العلماء جميعاً على حرمته وإبطاله شرعاً وعقلاً.
وفي الحديث: (من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد).
قال ابن رجب رحمه الله تعالى: (فعلم تأثير النجوم محرم، والعمل بمقتضاه كالتقرب إلى النجوم وتقريب القرابين لها كفر، وأما علم التسيير فإذا تعلم منه ما يحتاج إليه للاهتداء ومعرفته القبلة والطريق كان جائزاً عند الجمهور، وما زاد عليه فلا حاجة إليه وهو يشغل عما هو أهم منه وربما أدى التدقيق فيه إلى إساءة الظن بمحاريب المسلمين، في أمصارهم كما وقع ذلك كثيراً من أهل هذا العلم قديماً وحديثاً وذلك يفضي إلى اعتقاد خطأ الصحابة والتابعين في صلاتهم في كثير من الأمصار، وهو باطل، وقد أنكر الإمام أحمد الاستدلال بالجدي، وقال: "إنما ورد؛ ما بين المشرق والمغرب قبلة")(7) اهـ.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (إن النجوم نوعان، حساب وأحكام، فأما الحساب؛ فهو معرفة أقدار الأفلاك والكواكب، وصفاته ومقادير حركاتها وما يتبع ذلك، فهذا في الأصل علم صحيح لا ريب فيه كمعرفة الأرض وصنعتها ونحو ذلك، لكن جمهور التدقيق فيه، كثير التعب قليل الفائدة، كالعالم مثلاً بمقادير الدقائق والثواني والثوالث في حركات السبعة المتحيرة... أما الأحكام؛ فهي من جنس السحر...)(8) اهـ(9).
فإذا وعيت ما مضى، فاعلم أن جميع علماء الفَلَكِ المسلمين الذين يفاخر بهم المُحَدثون - فيما أعلم - إنما هم منجمون كهان، كالخوارزمي وابن البناء والطوسي وآل شاكر والمجريطي وغيرهم - عافانا الله وإياكم مما ابتلاهم به -
فن العمارة:
أما العمارة فليست من الإسلام في شيء.
فقد روى البخاري وغيره عن خباب رضي الله عنه مرفوعاً: (إن المسلم ليؤجر في كل شيء ينفعه، إلا في شيء يجعله في هذا التراب).
قال ابن حجر رحمه الله تعالى: (وقد ورد في ذم البناء صريحاً ما أخرج ابن أبي الدنيا من رواية عمارة بن عامر: "إذا رفع الرجل بناءً فوق سبعة أذرع نودي: يا فاسق إلى أين؟"، وفي سنده ضعف مع كونه موقوفاً، وفي ذم البناء مطلقاً حديث خباب يرفعه قال: "يؤجر الرجل في نفقته كلها إلا التراب"، أو قال: "البناء"، أخرجه الترمذي وصححه، وأخرج له شاهداً عن أنس بلفظ: "إلا البناء، فلا خير فيه"، وللطبراني من حديث جابر يرفعه قال: "إذا أراد الله بعبدٍ شراً، خضَّر له في اللبن والطين حتى يبني"، ومعنى "خضّر"؛ حسّن، وزناً ومعنى... الخ ما قال رحمه الله تعالى)(10) اهـ.
ولكثرة الأحاديث التي تذم البناء ورفعه؛ كان المحدِّثون رحمهم الله تعالى يعقدون أبواباً عن البناء وما ورد فيه.
لذلك فإن عمر رضي الله عنه لما اختط الكوفة أمرهم ببناء بيوتهم من قَصَب، فلما وقَع فيها الحريق، استأذنوه في بنائها بالحجارة، فقال: (افعلوا، ولا يزيدنّ أحد على ثلاثة أبيات، ولا تطاولوا في البنيان، والزموا السنة تلزمكم الدولة).
وهكذا كان عهد الراشدين والسلف، وهذه هي "العمارة الإسلامية".
وأما قصور الزهراء وغرناطة وقرطبة ودمشق الفيحاء وبغداد والقاهرة وزخرفة جوامعها ومساجدها؛ فليست عمارة إسلامية، بل إن من الإفتيات والكذب على الإسلام أن ينسب إليه ما نهى عنه وزجر، ولكنه التعلق بزهرة الحياة الدنيا، والله المستعان.
واكتفى بما ذكرته من العلوم وما قاله العلماء فيها، وإلا فإن العلوم الدنيوية كثيرة وكلام العلماء فيه كثير - كالموسيقى والشعر والحيل وغيرها -
والله أعلم
==================
الفصل الثالث - (1) الكيمياء في السابق؛ يختلف عن كيمياء اليوم - بعض الشيء -
لأنها في السابق كانت تُعنى بتحويل النحاس ونحوه إلى الذهب والفضة، وكانت قرينة للسحر والسيمياء، أما اليوم؛ فلا يزال تحويل المواد من مادة إلى أخرى باقية فيه، ولكنها اتسعت لتشمل الصيدلة وعلومها الدوائية والتركيبات والمحاليل وغيرها.
(2) نسب البعض إلى "خالد بن يزيد" صناعة الكيمياء وعلمها، وهو باطل رواية ودراية، فأما الرواية:
فإن الذهبي رحمه الله تعالى ذكر أن هذا الخبر لا يصح [سير أعلام النبلاء: 4/383]، وكذلك ذكر ذلك ابن الأثير [الأعلام: 2/300]، وكذلك نسبها شيخ الإسلام إليه بصيغة التضعيف: (يحكى)، وكذلك نسبها ابن كثير كذلك فقال: (وينسب إليه شيء من علم الكيمياء) [البداية والنهاية: 9/80]، فأما الدراية؛ فأولاً: تقدم عصره في وقت الصحابة والتابعين، وقبل الترجمة، وثانياً؛ أن أبا زرعة وابن حبان والذهبي وابن كثير أثنوا على صلاحه ودينه ووثقوه [السير: 4/382، البداية: 9/80، التهذيب: 3/111]، ولو كان كيميائياً ما استحق هذا الثناء، وثالثاً؛ تفنيد ابن خلدون لهذا الكلام عقلاً في مقدمته [ص505]، والله أعلم.
(3) المجموع: 29/398، وما بعدها.
(4) المجموع: 29/378.
(5) ص 214.
(6) ص 496، وما بعدها.
(7) فضل علم السلف: ص35.
(8) المجموع: 35/181.
(9) انظر فتح المجيد: ص316 وما بعدها، الزواجر: 2/109.
(10) فتح الباري: 11/95.
==================
العلماء المسلمين الذين قيل إنهم برعوا في تلك العلوم
تمهيد:
سوف أذكر في هذا الفصل قائمة بأشهر العلماء، الذين يهيج المعاصرون بمدحهم والثناء على خلائقهم وذكر فضائلهم، وأذكر ما قاله أئمة الإسلام فيهم وفي عقائدهم، وقد تركت منهم أكثر مما ذكرت، لأن القصد التنبيه لا الحصر، وقد رتبتهم على حسب الوفاة.
والله المستعان.
ابن المقفع - عبد الله بن المقفع - [ت: 145 هـ]:
كان مجوسياً فأسلم، وعرّب كثيراً من كتب الفلاسفة، وكان يتهم بالزندقة.
لذلك قال المهدي رحمه الله تعالى: (ما وجدت كتاب زندقة إلا وأصله ابن المقفع)(1).
جابر ابن حيان [ت: 200 هـ]:
أولاً: إن وجود جابر هذا مشكوك فيه.
لذلك ذكر الزركلي في "الأعلام" في الحاشية على ترجمته(2): (إن حياته كانت غامضة، وأنكر بعض الكتاب وجوده).(4/41)
وذكر أن ابن النديم أثبت وجوده ورد على منكريه، وابن النديم هذا ليس بثقة - كما سيأتي إن شاء الله -
ومما يؤيد عدم وجوده ما قاله شيخ الإسلام رحمه الله: (وأما جابر بن حيان صاحب المصنفات المشهورة عند الكيماوية؛ فمجهول لا يعرف، وليس له ذكر بين أهل العلم والدين)(3) اهـ.
ثانياً: ولو أثبتنا وجوده، فإنما نثبت ساحراً من كبار السحرة في هذه الملة، اشتغل بالكيمياء والسيمياء والسحر والطلسمات، وهو أول من نقل كتب السحر والطلسمات - كما ذكره ابن خلدون(4) -
الخوارزمي - محمد بن موسى الخوارزمي - [ت: 232 هـ]:
وهو المشهور باختراع "الجبر والمقابلة"، وكان سبب ذلك - كما قاله هو - المساعدة في حل مسائل الإرث، وقد ردّ عليه شيخ الإسلام ذلك العلم؛ بأنه وإن كان صحيحاً إلا أن العلوم الشرعية مستغنية عنه وعن غيره(5).
والمقصود هنا؛ إن الخوارزمي هذا كان من كبار المنجّمين في عصر المأمون والمعتصم الواثق، وكان بالإضافة إلى ذلك من كبار مَنْ ترجم كتب اليونان وغيرهم إلى العربية(6).
الجاحظ - عمرو بن بحر - [ت: 255 هـ]:
من أئمة المعتزلة، تنسب إليه "فرقة الجاحظية"، كان شنيع المنظر، سيء المخبر، رديء الاعتقاد، تنسب إليه البدع والضلالات، وربما جاز به بعضهم إلى الانحلال، حتى قيل: (يا ويح من كفّره الجاحط).
حكى الخطيب بسنده؛ أنه كان لا يصلي، ورمي بالزندقة، وقال بعض المعلماء عنه: (كان كذاباً على الله وعلى رسوله وعلى الناس)(7).
ابن شاكر - محمد بن موسى بن شاكر - [ت: 259 هـ]:
فيلسوف، موسيقي، منجّم، من الذين ترحموا كتب اليونان، وأبوه موسى بن شاكر، وأخواه أحمد والحسن؛ منجمون فلاسفة أيضاً(8).
الكندي - يعقوب بن اسحاق - [ت: 260 هـ]:
فيلسوف، من أوائل الفلاسفة الإسلاميين، منجّم ضال، متهم في دينه كإخوانه الفلاسفة، بلغ من ضلاله أنه حاول معارضة القرآن بكلامه(9).
عباس بن فرناس [ت: 274 هـ]:
فيلسوف، موسيقي، مغنٍ، منجّم، نسب إليه السحر والكيمياء، وكثر عليه الطعن في دينه، واتهم في عقيدته، وكان بالإضافة إلى ذلك شاعراً بذيئاً في شعره مولعاً بالغناء والموسيقى(10).
ثابت بن قرة [ت: 288 هـ]:
صابئ، كافر، فيلسوف، ملحد، منجّم، وهو وابنه إبراهيم بن ثابت وحفيده ثابت بن سنان؛ ماتوا على ضلالهم.
قال الذهبي رحمه الله تعالى: (ولهم عقب صابئة، فابن قرة هو أصل الصابئة المتجددة بالعراق، فتنبه الأمر)(11).
اليعقوبي - أحمد بن اسحاق - [ت: 292 هـ]:
رافضي، معتزلي، تفوح رائحة الرفض والاعتزال من تاريخه المشهور، ولذلك طبعته الرافضة بالنجف(12).
الرازي - محمد بن زكريا الطبيب - [ت: 313 هـ]:
من كبار الزنادقة الملاحدة، يقول بالقدماء الخمسة الموافق لمذهب الحرانيين الصابئة - وهي الرب والنفس والمادة والدهر والفضاء - وهو يفوق كفر الفلاسفة القائلين بقدم الأفلاك، وصنّف في مذهبه هذا ونصره، وزندقته مشهورة(13) - نعوذ بالله من ذلك -
البثّاني - محمد بن جابر الحراني الصابئ - [ت: 317 هـ]:
كان صابئاً.
قال الذهبي: (فكأنه أسلم).
فيلسوفاً، منجّماً(14).
الفارابي - محمد بن محمد بن طرخان - [ت: 339 هـ]:
من أكبر الفلاسفة، وأشدهم إلحاداً وإعراضاً، كان يفضّل الفيلسوف على النبي، ويقول بقدم العالم، ويكذّب الأنبياء، وله في ذلك مقالات في انكار البعث والسمعيات، وكان ابن سينا على إلحاده خير منه، نسأل الله السلامة والعافية(15).
المسعودي - علي بن الحسين - [ت: 346 هـ]:
كان معتزلياً، شيعياً.
قال شيخ الإسلام عن كتابه "مروج الذهب": (وفي تاريخ المسعودي من الأكاذيب ما لا يحصيه إلا الله تعالى، فكيف يوثق في كتاب قد عرف بكثرة الكذب؟)(16) اهـ.
المجريطي - مسلمة بن أحمد - [ت: 398 هـ]:
فيلسوف، كبير السحرة في الأندلس، بارع في السيمياء والكيمياء، وسائر علوم الفلاسفة، نقل كتب السحر والطلاسم إلى العربية، وألف فيها "رتبة الحكيم" و "غاية الحكيم"، وهي في تعليم السحر والعياذ بالله، {وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}، نسأل الله السلامة(17).
مسكويه - محمد بن أحمد - [ت: 421 هـ]:
كان مجوسياً، فأسلم، وتفلسف، وصحب ابن العميد الضال، وخدم بني بويه الرافضة، واشتغل بالكيمياء فافتتن بها(18).
ابن سينا - الحسين بن عبد الله - [ت: 428 هـ]:
إمام الملاحدة، فلسفي النحلة، ضال مضل، من القرامطة الباطنية، كان هو وأبوه من دعاة الإسماعيلية، كافر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم بالآخر(19).
__________
(1) انظر سير أعلام النبلاء: 6/208، البداية والنهاية: 10/96، لسان الميزان: 3/449.
(2) الأعلام: 2/103.
(3) مجموع الفتاوى: 29/374.
(4) المصدر السابق، وانظر مقدمة ابن خلدون: ص496 - 497.
(5) انظر مجموع الفتاوى: 9/214 - 215.
(6) انظر تاريخ ابن جرير: 11/24، البداية والنهاية: 10/308، عيون الإنباء في طبقات الأطباء: ص483، حاشية1.
(7) انظر البداية والنهاية: 11/19، لسان الميزان: 4/409.
(8) انظر الأعلام: 7/117، عيون الإنباء: ص283.
(9) انظر لسان الميزان: 6/373، مقدمة ابن خلدون: 331، مجموع الفتاوى: 9/186.
(10) انظر المغرب في حلي المغرب: 1/333، المقتبس من أنباء أهل الأندلس: ص 279 وما بعدها، نفح الطيب: 4/348، الأعلام: 3/264، ومما يدل على رداءة عقله أيضاً محاولته تقليد الطيور في طيرانها؟!
(11) انظر المنتظم: 6/29، سير أعلام النبلاء: 13/485، البداية والنهاية: 11/85.
(12) من دراسة قمت بها لتاريخه المشهور "تاريخ اليعقوبي".
(13) انظر في بيان مذهبه ونقضه؛ مجموع الفتاوى: 6/304 - 309، مع منهاج السنة: 1/209 وما بعدها، وانظر أيضاً المجموع: 4/114، والمنهاج: 1/353، 2/279، ودرء التعارض: 9/346.
(14) انظر سير أعلام النبلاء: 14/518.
(15) انظر على سبيل المثال؛ الفتاوى 2/86، 4/99، 11/57، 572، وغيرها، وانظر درء التعارض في كثير من المواضع، وانظر أيضاً إغاثة اللهفان: 2/601 وما بعدها، و البداية والنهاية: 11/224، والمنقذ من الضلال: ص98، وكثير من المواضع في نونية ابن القيم، وغيرها من كتب أهل العلم.
(16) انظر منهاج السنة: 4/84، سير أعلام النبلاء: 15/569، لسان الميزان: 4/258.
(17) انظر مقدمة ابن خلدون: 496، 504، 513.
(18) انظر تاريخ الفلاسفة المسلمين: 304 وما بعدها.
(19) انظر سير أعلام النبلاء: 1/531 - 539، إغاثة اللهفان: 2/595 وما بعدها، البداية والنهاية: 12/42 -43، فتاوى ابن الصلاح: 69، نونية ابن القيم: 14، 30، 43، 49، 160، 186 وغيرها، ومجموع الفتاوى: 2/85، 9/133، 228، 17/571، 32/223، 35/133، وأكثر درء التعارض، رد عليه وعلى الفلاسفة، وكذلك المنهاج، وانظر المنقذ من الضلال: ص98، وغيرها من الكتب.
مساوئ لو قسمن على الغواني ... لما أمهرن إلا بالطلاق
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
أو ذلك المخدوع حامل راية الـ ... إلحاد ذاك خليفة الشيطان
أعني ابن سينا ذلك المحلول من أديان أهل الأرض ذا الكفرانِ
ابن الهيثم - محمد بن الحسن بن الهيثم - [ت: 430 هـ]:
من الملاحدة الخارجين عن دين الإسلام، من أقران ابن سينا علماً وسفهاً وإلحاداً وضلالاً، كان في دولة العبيديين الزنادقة، كان كأمثاله من الفلاسفة يقول بقدم العالم وغيره من الكفريات(1).
ابن النديم - محمد بن اسحاق - [ت: 438 هـ]:
رافضي، معتزلي، غير موثوق به.
قال ابن حجر: (ومصنفه "فهرست العلماء" ينادي على مَنْ صنفه بالاعتزال والزيع، نسأل الله السلامة)(2) اهـ.(4/42)
المعرّي - أبو العلاء أحمد بن عبد الله - [ت: 449 هـ]:
المشهور بالزندقة على طريقة البراهمة الفلاسفة، وفي أشعاره ما يدل على زندقته وانحلاله من الدين.
ذكر ابن الجوزي أنه رأى له كتاباً سماه "الفصول والغايات في معارضة الصور والآيات"، على حروف المعجم، وقبائحه كثيرة.
قال القحطاني رحمه الله تعالى:
تعسَ العميُّ أبو العلاء فإنه ... ... قد كان مجموعاً له العَمَيانِ(3)
ابن باجه - أبو بكر بن الصائغ، محمد بن يحيى - [ت: 533 هـ]:
فيلسوف كأقرانه، له إلحاديات، يعتبر من أقران الفارابي وابن سينا في الأندلس، من تلاميذه ابن رشد، وبسبب عقيدته حاربه المسلمون هو وتلميذه ابن رشد(4).
الأدريسي - محمد بن محمد - [ت: 560 هـ]:
كان خادماً لملك النصارى في صقليه بعد أن أخرجوا المسلمين منها، وكفى لؤماً وضلالاً.
وفي الحديث: (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين).
ابن طفيل - محمد بن عبد الملك - [ت: 581 هـ]:
من ملاحدة الفلاسفة والصوفية، له الرسالة المشهورة "حي ابن يقظان"، يقول بقدم العالم وغير ذلك من أقوال الملاحدة(5).
ابن رشد الحفيد - محمد بن أحمد بن محمد(6) - [ت: 595 هـ]:
فيلسوف، ضال، ملحد، يقول بأن الأنبياء يخيلون للناس خلاف الواقع، ويقول بقدم العالم وينكر البعث، وحاول التوفيق بين الشريعة وفلسفة أرسطو في كتابيه "فصل المقال" و "مناهج الملة"، وهو في موافقته لأرسطو وتعظيمه له ولشيعته؛ أعظم من موافقة ابن سينا وتعظيمه له، وقد انتصر للفلاسفة الملاحدة في "تهافت التهافت"، ويعتبر من باطنية الفلاسفة، والحادياته مشهورة، نسأل الله السلامة(7).
ابن جبير - محمد بن أحمد - [ت: 614 هـ]:
صاحب الرحلة المعروفة بـ "رحلة ابن جبير"، ويظهر من رحلته تلك تقديسه للقبور والمشاهد الشركية، وتعظيمه للصخور والأحجار، واعتقاده بالبدع والخرافات وغيرها كثير(8).
الطوسي - نصير الدين محمد بن محمد بن الحسن - [ت: 672 هـ]:
نصير الكفر والشرك والإلحاد، فيلسوف، ملحد، ضال مضل، كان وزيراً لهولاكو وهو الذي أشار عليه بقتل الخليفة والمسلمين واستبقاء الفلاسفة والملحدين، حاول أن يجعل كتاب "الإشارات" لابن سينا بدلاً من القرآن، وفتح مدارس للتنجيم والفلسفة، وإلحاده عظيم، نسأل الله العافية.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
وكذا أتى الطوسي بالحرب الصر ... يح بصارم منه وسل لسانِ
عَمَرَ المدارس للفلاسفة الألى ... كفروا بدين الله والقرآنِ
وأتى إلى أوقات أهل الدين ... ينقلها إليهم فعل ذي أضغانِ
وأراد تحويل "الإشارات" التي ... هي لابن سينا موضع الفرقانِ
وأراد تمويل الشريعة بالنواميس ... التي كانت لدى اليونان
لكنه علم - اللعين - بأن هذا ... ليس في المقدور والإمكانِ
إلا إذا قتل الخليفة والقضاة ... ... وسائر الفقهاء في البلدانِ(9)
ابن البناء - أحمد بن محمد - [ت: 721 هـ]:
شيخ المغرب في الفلسفة والتنجيم والسحر والسيمياء(10).
ابن بطوطة - محمد بن عبد الله - [ت: 779 هـ]:
الصوفي، القبوري، الخرافي، الكذّاب، كان جل اهتماماته في رحلته المشهورة؛ زيارة القبور والمبيت في الأضرحة، وذكر الخرافات التي يسمونها "كرامات" وزيارة مشاهد الشرك والوثنية، ودعائه أصحاب القبور وحضور السماعات ومجالس اللهو، وذكر الأحاديث الموضوعة في فضائل بعض البقاع، وتقديسه للأشخاص، والافتراء على العلماء الأعلام، وغير ذلك(11).
===================
الفصل الرابع -الشبهات التي قد ترد حول هذا الموضوع وردها
قد ترد بعض الشبهات حول هذا الموضوع، وربما يكون من أهم هذه الشبهات ما يأتي:
الشبهة الأولى: أن هؤلاء العلماء وإن كانوا ملاحدة، إنما برعوا في علومهم، لأن بيئتهم بيئة إسلامية علمية صحيحة، هيّأت لهم المناخ المناسب للتفوق العلمي، فلنا علومهم، وعليهم إلحادهم.
الشبهة الثانية: إننا إذا ذكرنا براعة هؤلاء العلماء، إنما نؤكد للعالم اليوم إن الإسلام هو دين العلم والحضارة، وإذا تركنا ذكرهم من أجل عقائدهم؛ نقص جانب كبير ومهم من الحضارة الإسلامية.
الشبهة الثالثة: إن الكفار اليوم على حق لوجود هذه اليوم بأيديهم ولتفوقهم فيها.
الشبهة الرابعة: إن الكفار إنما انتصروا على الإسلام لوجود هذا التفوق العلمي لديهم.
الشبهة الخامسة: إن المسلمين انهزموا وذلوا لجهلهم بهذه العلوم و "تخلفهم" عن ركب الحضارة العلمية.
فصل
جواب الشبهة الأولى
فأما الشبهة الأولى فجوابها من وجوه...
فالوجه الأول:
إن هذه العلوم أصلاً - بصرف النظر عن علمائها - لا تمت إلى الإسلام بصلة - كما سبق بيانه - فتسقط هذه الشبهة جملة وتفصيلاً.
والوجه الثاني:
__________
(1) انظر فتاوى شيخ الإسلام: 35/135، وانظر درء التعارض: 2/281، وانظر ما كتبه من الحاديات في مذكراته - وهو في آخر عمره، نسأل الله الثبات - في تاريخ الفلاسفة: ص270.
(2) انظر لسان الميزان: 5/83.
(3) انظر المنتظم: 8/148، البداية والنهاية: 12/72 - 76، وقد نقل كثيراً من أشعاره الإلحادية، لسان الميزان: 1/218، نونية القحطاني: 49.
(4) انظر عيون الأنباء: 515 وما بعدها، تاريخ الفلاسفة: 79 وما بعدها.
(5) انظر درء التعارض: 1/11، 6/56.
(6) تنبيه: ابن رشد الحفيد غير الجد، فالجد؛ محمد بن أحمد بن رشد [ت: 520 هـ]، قاضي الجماعة بقرطبة من أعيان المالكية، له "المقدمات" و "البيان والتحصيل"، أثنى عليه الذهبي وغيره [السير: 19/501].
(7) انظر درء التعارض: 1/11 - 127 - 152، 6/210، 237، 242، 8/181، 234 وغيرها، و منهاج السنة: 1/356 وغيرها، وفي عدة مواضع من الفتاوى، و سير أعلام النبلاء: 21/307، و تاريخ الفلاسفة: ص120 وما بعدها.
(8) تلخيص لدراسة أعددتها عن رحلته المشهورة بـ "اعتبار الناسك في ذكر الآثار الكريمة والمناسك"، وهو على علاته أفضل من ابن بطوطة في كثير من الأمور، منها أن تعظيم المشاهد والقبور لم يستغرق رحلته كان بطوطة، ومنها عفته عن سماع الأغاني والملاهي وحضور مجالسها ورؤية النساء والأكل بأواني الذهب وعدم استجدائه للسلاطين، بخلاف ابن بطوطة في ذلك كله.
(9) انظر إغاثة اللهفان: 2/601 وما بعدها، درء التعارض: 5/67 - 6/78 - 10/44 وما بعدها 590، الفتاوى: 2/92 - 93 وما بعدها، البداية والنهاية: 13/267 وغيرها.
(10) انظر مقدمة ابن خلدون: ص115 وما بعدها.
(11) تلخيص لدراسة أعددتها عن رحلته، وسبب نعتي له بأنه "كذّاب"، لأنه كذب كذباً فاضحاً على شيخ الإسلام رحمه الله تعالى وهو أنه رآه ينزل من المنبر ويقول؛ "إن نزول الله إلى السماء الدنيا كنزولي هذا"، وهو يذكر أنه قد دخل دمشق في رمضان من سنة 726 هـ، وشيخ الإسلام في ذلك الوقت مسجون في القلعة منذ شعبان، وهذا دليل على افترائه عليه.
إننا لو سلمنا بـ "إسلامية" هذه العلوم، فإننا لا نسلم وجود البيئة الإسلامية الصحيحية التي هيّأت "المناخ المناسب"، بل إن الواقع يشهد بخلاف ما ذكر، فإنه كما أن الحشرات لا تكثر إلا في مواضع الرمل والقمامات، فإن هؤلاء العلماء لا يكثرون إلا في دويلات البدع والضلالات.
وإليك بعض الأمثلة التي تؤيد ما ذكرت؛ فالخوارزمي وآل شاكر؛ ظهروا في دولة المأمون المعتزلي، وابن سينا وابن الهيثم؛ ظهرا في دولة العبيديين الزنادقة، والفارابي؛ ظهر في دولة الحمدانيين الرافضية، ومسكويه؛ في دولة البوبهيين الرافضية، وابن رشد؛ في أول دولة الموحدين الأشعرية المهديّة، وهكذا.
والوجه الثالث:(4/43)
لو سلمنا بأن البيئة إسلامية صحيحة، وعلمية سليمة، فكيف يبرع العالم في أتفه الأمور وأخسها، وينحرف في أعظم الأمور وأهمها على الإطلاق، وهو أمر دينه؟!
والوجه الرابع:
إن كون البيئة إسلامية علمية صحيحة لا يسوّغ المفاخرة بهؤلاء الملاحدة، وإن ساغ ذلك عند أحد؛ فليسع عنده أيضاً المفاخرة بيهود ذلك الوقت ونصاراه ومجوسه الذين في الدولة الإسلامية، والذين برعوا في نفس العلوم، وهم كثير، لأنهم في نفس البيئة الإسلامية العلمية الصحيحة! وعندها يختلط الخاثر بالزُّباد، والرغوة بالصريح، ولا يكون للدين معنى، ولا للإسلام قيمة.
فصل
جواب الشبهة الثانية
وأما الشبهة الثانية؛ فجوابها من وجوه أيضاً...
فالوجه الأول:
إن دعوة الكفار إلى الإسلام لا تكون بتكلّف المحالات، وتزييف الحقائق، فننسب إلى الإسلام ما هو منه براء، لنرغب الكفار فيه، وإلا فلا فرق بين من يفعل ذلك وبين من يضع الأحاديث في الزهد والرقائق ليرغب الناس في الصالحات، ويقول؛ أنا أكذب للرسول ولا أكذب عليه!
وإنما تكون دعوتهم كما كانت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لكفار زمانه، ببيان التوحيد وذم الشرك ونحوه مما ورد عنه وثبت، فإن دخل الكفار بهذه الدعوة إلى الإسلام؛ فلله الحمد، وإن لم يدخلوا فيه وأصروا على باطلهم ورموا الإسلام وشتموه، فلا ضرر عليه من كلامهم، بل هم...
كناطح صخرة يوماً ليوهنها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
وعلى المسلم أن يتمثل في ذلك بقول الشاعر:
وما كل كلب نابحٍ يستفزني ... ولا كلما طنّ الذباب أراعُ
والوجه الثاني:
أن يعلم - أصحاب هذه الشبهة - أن المسلمين إنما فتحوا الدنيا وملكوها بعدل عمر وفقه معاذ وحديث أبي هريرة وزهد أبي ذر وشجاعة خالد، ولم يفتحوها بـ "إشارات" ابن سينا ولا بـ "حادي" الرازي ولا ببصريات ابن الهيثم ولا بموسيقى الفارابي:
هيهات بين اللؤم بون والكرمْ ... أبعد مما بين بصري والحرمْ
بل ما بدأت عزة المسلمين تذهب إلا بعد انتشار هؤلاء وأمثالهم - كما سبق بيانه
والوجه الثالث:
أن هذه الشبهة منقوضة طرداً وعكساً...
أما طرداً؛ فإن أصحاب هذه العلوم من ملاحدة المسلمين إنما استفادوها من اليونانيين، فإن كان في ملاحدة المسلمين "المعلم الثاني"؛ الفارابي، ففيهم "المعلم الأول"؛ أرسطو، وإن كان في ملاحدة المسلمين "الأب الثاني" للطب؛ ابن سينا، ففيهم "الأب الأول"؛ أبقراط، وإن كان في ملاحدة المسلمين "بطليموس الثاني"؛ ابن الهيثم، ففيهم "بطليموس الأول"، وهكذا، وكان الفضل للمتقدم.
ثم إن قلتم؛ إن المسلمين طوروا هذه العلوم، فإن ما طوره الكفار اليوم ووصلوا إليه من الصناعات المذهلة التي طيّروا بها الحديد، وكلموا الجماد، وبنو الشاهقات، وأخرجوا عجائب المخترعات، ليفوق أضعاف أضعاف أضعاف ما طوره أولئك.
فإن قلتم؛ بأن هذه العلوم إنما تدور مع الحق حيثما دار، فقد صحّحتم عقائد الكافرين أولاً وأخيراً.
وإن قلتم؛ إنها لا تدل على حقٍّ فهي هنا وهنا، قلنا؛ وهذا ما نبغي، فلم الفخار بعلمٍ لا يدل على حقٍ، وبعلماء ابتعدوا عن الحق؟!
وأما عكساً؛ فإننا لا نجد في وقت قوة المسلمين وعزتهم في القرون المفضلة لهؤلاء الملاحدة ذكر، ولا لعلومهم مجال، وإنما انتشرت حين بدأت تزول الحضارة الإسلامية، أو قل؛ إنها عندما انتشرت بدأت تزول الحضارة الإسلامية، فإن انتشار هذه العلوم وزوال النعمة متلازمان.
والله أعلم
فصل
جواب الشبهات الثالثة والرابعة والخامسة
وأما الشبهات الثلاث الأخيرة، فأذكر فيما يلي أصولاً ثلاثة في الجواب عليها.
أما الأصل الأول؛ فهو: (إن الدنيا جنة الكافر وسجن المؤمن)(1).
فالكافر؛ غايته الدنيا وهي منتهى أربه، فهو يعمل فيها عمل مقيم أبداً، أما المؤمن؛ فهو كعابر سبيل لا بد من ارتحاله اليوم أو غداً، كالذي في السجن ينتظر الفرج.
لهذا السبب كان السلف مع إقبال الدنيا عليهم؛ كان أقصى مرادهم من الدنيا هو العمل الصالح والتزود بالعلم النافع، وأما الدنيا؛ فليست أهلاً لعمرانها فوق الحاجة.
وأما الكفار؛ فإنهم سعوا منذ القدم في تحصيل الدنيا وعمرانها لأنها جنتهم ومقصودهم فبرعوا في ذلك، وهذه آثارهم شاهدة على ما أقول مع قدم الزمن، كآثار الفراعنة في مصر، وآثار البابليين، وديار حجر وثمود وغيرها، وكما نرى اليوم من زخارفهم وعلومهم، وقد قال تعالى في محكم كتابه: {وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [سورة الزخرف: 33 - 35].
قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: (أي لولا كراهتنا لكون جميع الناس أمة واحدة، متفقة على الكفر، لأعطينا زخارف الدنيا كلها للكفار، ولكننا لعلمنا بشدة ميل القلوب إلى زهرة الحياة الدنيا وحبهاً لها، لو أعطينا ذلك كله للكفار لحملق الرغبة في الدنيا جميع الناس على أن يكونوا كفاراً)(2) اهـ.
فانظر رحمك الله إلى حال الكفار اليوم، فإنهم مع ما هم فيه من زهرة الحياة الدنيا ما أعطاهم الله زخارف الأرض كلها، وانظر إلى فتنة كثير من الملمين بهم، فكيف لو أعطاهم زهرة الدنيا كلها؟! وقال تعالى أيضاً: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [سورة الروم: 7].
فقد روى ابن جرير وغيره عن ابن عباس في تفسيرها، قال: (يعرفون عمران الدنيا، وهم في أمر الآخرة جهال).
وعن الحسن: (ليبلغ من حذق أحدهم بأمر دنياه أنه يقلب الدرهم على ظفره فيخبرك بوزنه، وما يحسن يصلي)(3).
فاعلم أن هذه الزخارف لو كانت تزن عند الله جناح بعوضة؛ ما حَرَمَ منها سيد خلقه أجميعن صلى الله عليه وسلم وأعطاها لأعدائه.
__________
(1) هذا نص حديث رواه مسلم والترمذي وغيرهما، وانظر في شرحه؛ شرح مسلم للنووي: 18/93، و بدائع الفوائد: 3/177، وله عدة تفاسير منها إن المسلم قيده إيمانه عن المحظورات والكافر مطلق التصرف، ومنها إن هذا باعتبار العواقب، فالمسلم ولو كان أنعم الناس في الدنيا فإنه بالإضافة إلى ما له في الجنة كأنه في سجن، والكافر ولو كان أشد الناس بؤساً في الدنيا؛ فذلك بالنسبة إلى النار جنة.
(2) أضواء البيان: 7/248.
(3) ذكر الشنقيطي رحمه الله تعالى على آية الروم هذه كلاماً قيماً جداً لولا طوله لنقلته بنصه، انظر أضواء البيان: 6/477.
فإنه لما صعد إليه عمر رضي الله عنه تلك المشربة، فرآه على صعيد قد أثّر في جنبه، ابتدرت عيناه بالبكاء، وقال: (يا رسول الله، كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت صفوة الله من خلقه؟!)، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم متكئاً، فجلس وقال: (أفي شكٍ أنت يا ابن الخطاب؟!)، ثم قال: (أؤلئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا)، وفي رواية: (أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟).
وأما الأصل الثاني؛ فهو: "إن الكفار كانوا منذ القدم - ولا زالوا - أكثر من المسلمين عدداً وعُدداً وعمراناً".(4/44)
وهذا ظاهر جداً بالتتبع والاستقراء، حتى بعد نتشار الإسلام، ومن شك في ذلك فليقرأ التاريخ، وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى وغيره؛ إن الكفار كانوا في قتالهم مع المسلمين أكثر عدداً وعدة دائماً، والذي يقرأ ويدرس أمهات معارك المسلمين يعلم جيداً أن الفرق بين القوتين يكون دائماً كبيراً وفي صالح الكفار.
لذلك كان عمر رضي الله عنه يوصي جيوشه فيقول: (إنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإذا استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا).
والله ما فتحوا البلاد بكثرة ... ... أنّى؟ وأعداهم بلا حسبان
فمما يدل على أن قوة الكافرين كانت دائماً أكبر من قوة المسلمين - مادياً - أمور كثيرة، منها:
- لو درست معركتي القادسية واليرموك والتي بها قضى الصحابة رضوان الله عليهم على قوتي فارس والروم، لتبين لك أن أعداد الكفار وعتادهم أضعاف أضعاف أعداد المسلمين وعتادهم، كذلك الأمر فيما بعدها من المعارك كنهاوند، وكالفتوح التي أتت بعد الصحابة، وكالمعارك المتأخرة مثل حطين والزلاقة وغيرها، هذا فيما يتعلق بالقوة العسكرية.
- أما الناحية العمرانية، فنكتفي بمثالين:
أما الأول: فإن هارون الرشيد حاول هدم "أيوان كسرى"، فلم يستطع، والهدم أيسر - ولا مقارنة - من البناء.
والثاني: أن المأمون بعده أيضاً حاول هدم الأهرامات، فلم يستطع كذلك.
وما ذلك إلا لقوة هذين الصرحين وقدرة من بناهما(1).
- وكذلك فإن الصحابة قد استفادوا من الفرس من الناحية التنظيمية، الدواوين وكالكتابة ونحوها، فإن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا أميين في الجملة، ولم يكن ذلك نقصاً في حقهم بل كان إلى الكمال أقرب، كما أن كمال النبي صلى الله عليه وسلم في أميته.
فالحاصل؛ إن قوة الكافرين اليوم وتمكنهم من هذه العلوم ليست غريبة عنهم، بل إن تمكنهم فيها منذ القدم، وإن حصل تطور عن ذلك، ولكن المؤكد أنهم برعوا فيها منذ القدم، وقد قدمت بعض الشواهد على ذلك.
وقد يرد سؤال عند هذا، وهو؛ إذا كان الكفار أقوى من المسلمين منذ القدم عدداً وعتاداً وعمراناً، فكيف كانت الدولة بالأمس للمسلمين واليوم للكافرين؟
فجواب هذا يكون بذكر الأصل الثالث؛ وهو: "إن قوة المسلمين بإيمانهم لا بدنياهم".
وهذا ظاهر، ولو ذهبت أستقصي الآيات والأحاديث والآثار التي تثبت هذا الأصل لطال المقام، لذلك تجد أن الإيمان إذا ثبت وتأصّل في النفوس؛ فإن الله سبحانه ينصر عباده كما فعل في معارك الرسول صلى الله عليه وسلم وإمداده لهم بالملائكة في بدرٍ وحنين.
لذلك كان عمر رضي الله عنه يقول: (نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله).
ولما كان الصحابة رضوان الله عليهم النموذج الأمثل في تطبيق الإسلام؛ كانوا - كما قال عنهم بعض التابعين -: (لا يثبت لهم العدو فواق ناقة عند اللقاء).
هذا وإن قتال حزب الله بال ... أعمال لا بكتائب الشجعانِ
والله ما فتحوا البلاد بكثرة ... ... أنّى؟! وأعداهم بلا حسبانِ
فعزة المسلمين وقوتهم بإيمانهم، فإنهم ينصرون به، وما السلاح إلا وسيلة فقط، لذلك فإن الله سبحانه وتعالى قال: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} [سورة الأنفال: 60]، فإنه سبحانه أمر بإعداد المستطاع فقط، ولم يأمر المسلمين بأن يعدو من السلاح مثل ما أعده الكافرون أو أكثر من ذلك، فلو لم يستطع المسلمون إلا على الحجارة فأعدوها مع إيمانهم الصادق؛ لنصرهم الله، ولعل هذا الأمر يتضح بإمداد الله سبحانه للمسلمين بالملائكة في بدر وحنين، وكما مشى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وجنده على الماء وكذلك العلاء بن الحضرمي، ولعل هذا الأمر يتضح بصورة أكثر في مساعدة الحجر والشجر للمسلمين في قتالهم مع اليهود قبل قيام الساعة - كما ورد في الحديث الصحيح -
لذلك فاعلم أن ذل المسلمين اليوم ليس لجهلهم بهذه العلوم، فإنهم كانوا في القرون المفضلة - وقت الحضارة - أجهل بها، ولكن هذه الزلة ضربها الله عليهم لما أعرضوا عن دينه، أن تسليط الكافرين اليوم على المسلمين إنما هو فتنة لهم وعقوبة.
والله أعلم
=================
وبعد...
فإن السبيل للرجوع إلى حضارة الإسلام الأولى؛ إنما تكون بإتباع السلف في العناية بالأعمال الصالحة والعلوم الشرعية والقيام بالجهاد والزهد في الدنيا.
وقد أخطأ كلَّ الخطأ؛ من رأى أن السبيل إنما يكون بأخذ صناعات الكافرين وتعلمها وتعليمها ونشرها بين المسلمين، لأنه لا بد من معرفة الداء قبل أن يوصف الدواء، وداء المسلمين اليوم هو البعد عن دين الله وعن منهج السلف، فلو أنهم التزموا دين الله على منهج السلف لكان هذا الدواء بإذن الله تعالى.
وكما قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: (لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها).
والله أعلم
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجميعن
__________
(1) ولذلك عقد ابن خلدون في مقدمته فصلاً [ص 358] بأن المباني والمصانع في الملة الإسلامية قليلة بالنسبة إلى قدرتها وإلى من كان قبلها من الدول، وذكر هذين المثالين في مقدمته.
- - - - - - - - - - - - - -
الفهرس العام
الباب الرابع -كيف نبني حضارتنا الإسلامية؟ ... 1
الاستباق في الخيرات ... 1
العمل والجزاء ... 3
الفطرة والتنافس ... 4
التنافس الزائف ... 4
التنافس والإبتلاء ... 5
الحوافز الاجتماعية ... 7
المطلوب: بناء مجتمع حيوي ... 13
الصفوة الرسالية .. أولاً ... 18
التكامل العضوي والتنظيم الداخلي ... 27
البرامج الروحية والبناء الحضاري ... 34
الجهاد من أجل التقدم ... 42
مراحل الحضارة ... 48
أنظمة التطهير الذاتي في المجتمع ... 55
التطلع لنشر العدالة في الأرض ... 61
طاعة القيادة الرشيدة ... 68
التنظيم ركيزة البناء الحضاري ... 74
الباب الخامس- قيم التقدم في المجتمع الإسلامي ... 83
خلاص الإنسان .. أين ؟ ... 84
قيم البناء والتقدم ... 89
لكي لا نخضع للأغلال ... 95
الانتماء الاجتماعي والتغيير ... 101
الطليعة المؤمنة ... 108
التقوى قاعدة المجتمع ... 116
التقوى ضمانة الاستقامة ... 124
ماذا عن زينة الحياة الدنيا ؟ ... 132
التحرر من سلطة الثروة ... 139
الباب السادس ... 147
حقيقة الحضارة الإسلامية ... 147
المقدمة ... 147
الفصل الأول -الحضارة الإسلامية والعلم الشرعي ... 148
الفصل الثاني -العلوم الدنيوية التي قيل إن المسلمين برعوا فيها ... 152
الفصل الثالث - (1) الكيمياء في السابق؛ يختلف عن كيمياء اليوم - بعض الشيء - ... 158
العلماء المسلمين الذين قيل إنهم برعوا في تلك العلوم ... 159
الفصل الرابع -الشبهات التي قد ترد حول هذا الموضوع وردها ... 167(4/45)
الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال المستقبل
(5)
الباب السابع
الحضارة الإسلامية وأسباب سقوطها وعوامل النهوض بها
(1)
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الباب السابع
الحضارة الإسلامية وأسباب سقوطها وعوامل النهوض بها (1)
المستقبل لهذا الدين
الأربعاء 2 رجب 1425هـ - 18 أغسطس 2004
الإسلام منهج حياة:
الإسلام منهج حياة بشرية واقعية بكل مقوماتها، منهج يشمل التصور الاعتقادي الذي يفسر طبيعة الوجود، ويحدد مكان الإنسان في هذا الوجود، كما يحدد غاية وجوده الإنساني.. ويشمل التنظيمات الواقعية التي تنبثق من ذلك التصور الاعتقادي وتستند إليه، وتجعل له صورة واقعية متمثلة في حياة البشر، كالنظام الأخلاقي والينبوع الذي ينبثق منه، والأسس التي يقوم عليها، والسلطة التي يستمد منها. والنظام السياسي وشكله وخصائصه، والنظام الاجتماعي وأسسه ومقوماته، والنظام الاقتصادي وفلسفته وتشكيلاته، والنظام الدولي وعلاقاته وارتباطاته..
ونحن نعتقد أن المستقبل لهذا الدين، بهذا الاعتبار: باعتباره منهج حياة، يشتمل على تلك المقومات كلها مترابطة، غير منفصل بعضها عن بعض، المقومات المنظمة لشتى جوانب الحياة البشرية، الملبية لشتى حاجات الإنسان الحقيقية، المهيمنة على شتى أوجه النشاط الإنسانية.
وهذا الدين بهذا الاعتبار ليس مجرد عقيدة وجدانية منعزلة عن واقع الحياة، وليس مجرد شعائر تعبدية يؤديها المؤمنون بهذا الدين فرادى أو مجتمعين، وليس مجرد طريق إلى الآخرة لتحقيق الفردوس الأخروي؛ بينما هناك طريق، أو طرق أخرى لتحقيق الفردوس الأرضي، غير منهج الدين، وغير نظم وتنظيمات الدين !
وهذا الدين من الوضوح في هذا المعنى بحيث يبدو أن ليس هنالك أمل في نجاح أية محاولة لتصويره في صورة العقيدة المنعزلة عن واقع الحياة البشرية، والتي لا علاقة لها بتنظيمات الحياة الواقعية، وتشكيلاتها وأجهزتها العملية. أو العقيدة التي تعد الناس فردوس الآخرة إذا هم أدوا شعائرها وعباداتها، دون أن يحققوا - في واقع مجتمعهم - أنظمتها وشرائعها وأوضاعها المتميزة المتفردة الخاصة ! فهذا الدين ليس هذا.. ولم يكن هذا.. ولا يمكن أن يكون هذا..
و هناك جهود جبارة تبذل-منذ قرون- لحصر الإسلام في دائرة الاعتقاد الوجداني، والشعائر التعبدية، وكفه عن التدخل في نظام الحياة الواقعية؛ ومنعه من الهيمنة الكاملة على كل نشاط واقعي للحياة البشرية-كما هي طبيعته، كما هي حقيقته، وكما هي وظيفته-.
لقد كانت هذه الخصائص في هذا الدين.. خصائص الشمول والواقعية والهيمنة.. هي التي تعبت منها الصليبية العالمية في هجومها على الأمة المسلمة في الوطن الإسلامي. كما أنها هي التي تعبت منها الصهيونية العالمية كذلك، منذ عهد بعيد! ومن ثم لم يكن بد أن تبذلا معاً الجهود الجبارة لحصر هذا الدين في دائرة الاعتقاد الوجداني والشعائر التعبدية؛ وكفه عن التدخل في نظام الحياة الواقعية؛ ومنعه من الهيمنة على نشاط الحياة البشرية.. وذلك كله كخطوة أولى، أو كموقعة أولى، في معركة القضاء عليه في النهاية!
وبعد أن أفلحت تلك الجهود الجبارة؛ ونالت انتصارها الحاسم على يد [أتاتورك]-البطل!!!- في إلغاء الخلافة الإسلامية؛ وفصل الدين عن الدولة؛ وإعلانها دولة [علمانية] خالصة. عقب محاولات ضخمة بذلت في شتى أقطار الأمة المسلمة التي وقعت في قبضة الاستعمار قبل ذلك، لزحزحة الشريعة الإسلامية عن أن تكون هي المصدر الوحيد للتشريع؛ والاستمداد من التشريع الأوروبي؛ وحصر الشريعة في ذلك الركن الضيق المسدود: ركن ما سموه:الأحوال الشخصية!
بعد أن أفلحت تلك الجهود الضخمة، ونالت انتصارها الحاسم على يد [البطل!!!] أتاتورك.. تحولت إذن إلى الخطوة التالية - أو الموقعة التالية- ممثلة في الجهود النهائية، التي تبذل الآن في شتى أنحاء الوطن الإسلامي؛ لكف هذا الدين عن الوجود أصلاً؛ وتنحيته حتى عن مكان العقيدة، وإحلال تصورات وضعية أخرى مكانه ؛ تنبثق منها مفاهيم وقيم، وأنظمة وأوضاع ، تملأ فراغ [ العقيدة ] ! وتسمى مثلها .. عقيدة ..
وصاحب هذه المحاولة ضربات وحشية تكال لطلائع البعث الإسلامي في كل مكان على ظهر هذه الأرض؛ تشترك فيه كل المعسكرات المتخاصمة التي لا تلتقي على شيء في مشارق الأرض ومغاربها، إلا على الخوف من البعث الإسلامي الوشيك؛ الذي تحتمه طبائع الأشياء، وحقائق الوجود والحياة، ودلالات الواقع البشري من هنا و من هناك ..
ولكننا نعلم كذلك أن هذا الدين أضخم حقيقة، وأصلب عوداً، وأعمق جذوراً، من أن تفلح في معالجته تلك الجهود كلها، ولا هذه الضربات الوحشية كذلك.. كما أننا نعلم أن حاجة البشرية إلى هذا المنهج أكبر من حقد الحاقدين على هذا الدين؛ وهي تتردى بسرعة مخيفة في هاوية الدمار السحيقة؛ ويتنادى الواعون منها بصيحة الخطر، ويتلمسون لها طريق النجاة.. ولا نجاة إلا بالرجوع إلى الله.. والى منهجه القويم للحياة.
إن هتافات كثيرة من هنا ومن هناك تنبعث من القلوب الحائرة.. تهتف بمنقذ، وتتلفت على مُخَلِّص. وتتصور لهذا المخلص سمات وملامح معينة تطلبها فيه، وهذه السمات والملامح المعينة لا تنطبق على أحد إلا على هذا الدين!
فمن طبيعة المنهج الذي يرسمه هذا الدين، ومن حاجة البشرية إلى هذا المنهج، نستمد نحن يقيننا الذي لا يتزعزع، في أن المستقبل لهذا الدين، وأن له دوراً في هذه الأرض هو مدعو لأدائه - أراد أعداؤه كلهم أم لم يريدوا - وأن دوره هذا المرتقب لا تملك عقيدة أخرى- كما لا يملك منهج آخر- أن يؤديه. وأن البشرية بجملتها لا تملك أن تستغني طويلاً عنه.
إن البشرية قد تمضي في اعتساف تجارب متنوعة هنا وهناك- كما هي الآن ماضية في الشرق وفي الغرب سواء- ولكننا نحن مطمئنون إلى نهاية هذه التجارب، واثقون من الأمر في نهاية المطاف.
إن هذه التجارب كلها تدور في حلقة مفرغة، وداخل حلقة التصور والخبرة البشرية المشوبة بالجهل، والنقص، والضعف، والهوى، في حين يحتاج الخلاص إلى الخروج من هذه الحلقة المفرغة، وبدء تجربة جديدة أصيلة، تقوم على قاعدة مختلفة كل الاختلاف: قاعدة المنهج الرباني الصادر عن علم [بدل الجهل] وكمال [بدل النقص] وقدرة [بدل الضعف] وحكمة [بدل الهوى].. القائم على أساس: إخراج البشر من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده دون سواه.
مفرق الطريق بين منهج هذا الدين، وسائر المناهج غيره:
إن مفرق الطريق بين منهج هذا الدين، وسائر المناهج غيره: أن الناس في نظام الحياة الإسلامي يعبدون إلهاً واحداً، يفردونه بالألوهية، والربوبية، والقوامة، فيتلقون منه وحده التصورات والقيم والموازين، والأنظمة والشرائع والقوانين، والتوجيهات والأخلاق والآداب.. بينما هم في سائر النظم يعبدون آلهة وأرباباً متفرقة، يجعلون لها القوامة عليهم من دون الله، حين يتلقون التصورات والقيم والموازين، والأنظمة والشرائع والقوانين، والتوجيهات والآداب والأخلاق، من بشر مثلهم. فيجعلونهم بهذا التلقي أرباباً، ويمنحونهم حقوق الألوهية والربوبية والقوامة عليهم.. وهم مثلهم عبيد كما أنهم عبيد..(5/1)
ونحن نسمي هذه النظم التي يتعبد الناس فيها الناس-كما يسيمها الله سبحانه- نظماً جاهلية. مهما تعددت أشكالها، وبيئاتها، وأزمانها. فهي قائمة على ذات الأساس الذي جاء هذا الدين-يوم جاء- ليحطمه، وليحرر البشر منه، وليقيم في الأرض ألوهية واحدة للناس؛ وليطلقهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده؛ بالمعنى الواسع الشامل لمفهوم [العبادة] ومفهوم [ الإله] ومفهوم [الرب] ومفهوم [الدين] .
لقد جاء هذا الدين ليلغي عبودية البشر للبشر، في كل صورة من الصور، وليوحد العبودية لله في الأرض، كما أنها عبودية واحدة لله في هذا الكون العريض..{ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ[83]}[سورة آل عمران].
والمنهج الإسلامي المنبثق من هذا الدين- بهذا الاعتبار- ليس نظاماً تاريخياً لفترة من فترات التاريخ، كما أنه ليس نظاماً محلياً لمجموعة من البشر في جيل من الأجيال، ولا في بيئة من البيئات.. إنما هو المنهج الثابت الذي ارتضاه الله لحياة البشر المتجددة، ولتبقى هذه الحياة مكيفة بالصورة العليا التي أكرم الله فيها الإنسان عن العبودية لغير الله.
والناس إما أن يعيشوا بمنهج الله بكليته فهم في توافق مع نواميس الكون، وفطرة الوجود، وفطرتهم هم أنفسهم. وإما أن يعيشوا بأي منهج آخر من صنع البشر، فهم في خصام مع نواميس الكون، وتصادم مع فطرة الوجود، ومع فطرتهم هم أنفسهم، بوصفهم قطاعاً في هذا الوجود.. تصادم تظهر نتائجه المدمرة من قريب أو من بعيد.
ونحن- كما قلنا- نستيقن أن الناس عائدون إلى الله؛ عائدون إلى منهجه هذا للحياة. وأن المستقبل لهذا الدين عن يقين. ونحن مستيقنون كذلك أن كل الجهود التي بذلت أو سوف تبذل لزحزحة هذا الدين عن طبيعته كمنهج للحياة البشرية الواقعية، في كل مجالاتها العملية والشعورية؛ سوف تبوء بالفشل والخيبة. وقد بانت بوادر الفشل والخيبة.. لأن هذه العزلة ليست من طبيعة هذا الدين.
كُلُّ ديِن منهَج حَيَاة
ونظراً لهذه الحقيقة.. لم يكن هناك دين إلهي هو مجرد عقيدة وجدانية، منعزلة عن واقع الحياة البشرية في كل مجالاتها الواقعية، ولا مجرد شعائر تعبدية يؤديها المؤمنون بهذا الدين فرادى أو مجتمعين، ولا مجرد [أحوال شخصية] تحكمها شريعة هذا الدين، بينما تحكم سائر نواحي الحياة شريعة أخرى مستمدة من مصدر آخر، تؤلف منهجاً آخر للحياة غير منبثق انبثاقاً من [دين الله].
وما يملك أحد يدرك مفهوم كلمة [دين] أن يتصور إمكان وجود دين الهي ينعزل في وجدان الناس، أو يتمثل فحسب في شعائرهم التعبدية، أو[أحوالهم الشخصية]، ولا يشمل نشاط حياتهم كله، ولا يهيمن على واقع حياتهم كله، ولا يقود خطى حياتهم في كل اتجاه، ولا يوجه تصوراتهم، وأفكارهم، ومشاعرهم، وأخلاقهم، ونشاطهم، وارتباطاتهم في كل اتجاه.
لا.. وليس هناك دين من عند الله هو منهج للآخرة وحدها، ليتولى دين آخر من عند غير الله وضع منهج للحياة الدنيا.. فهذا تصور مضحك لحقيقة الواقع الكوني والبشري.. وذلك أن مقتضى هذا التقسيم المفتعل أن يكون لله جانب واحد من جوانب هذه الحياة ينظمه، ويشرف عليه، وينحصر [اختصاصه] فيه، ويكون لغير الله جوانب أخرى كثيرة ينظمها ويشرف عليها [أرباب] آخرون، يتعلق بها اختصاصهم.
إنه تصور مضحك إلى حد أن الذين يفكرون على هذا النحو، سيضحكون من أنفسهم، ومن تفكيرهم، ويسخرون من سذاجتهم وركة أفكارهم.. لو أنهم رأوا الأمر حقيقة من هذه الزاوية الصحيحة، وتحت هذا النور الهادئ الهادي..
وإلا يقم نظام الحياة كله على هذا التفسير الشامل الكامل، فهي إذن أهواء البشر. وهي إذن الجاهلية التي جاء كل دين من عند الله لإخراج الناس منها، ورفعهم إلى الربانية.. وإلا تكن العبودية لله وحده-ممثلة في التلقي عنه في هذا كله-فهي العبودية للعبيد.. وقد جاء دين الله لتحرير العباد من عبادة العبيد!
لا حاجة بنا للإطالة أكثر من هذا في هذه الحقيقة البديهية التي ما كان يجوز أن تكون موضع جدال، لولا تلك الملابسات النكدة التي قامت في أوروبا، وأدت إلى ذلك [الفصام النكد] بين الدين والدولة. بل بين الدين والحياة.
الفصَامُ النَّكِدْ
ليس من طبيعة [الدين] أن ينفصل عن الدنيا، وليس من طبيعة المنهج الإلهي أن ينحصر في المشاعر الوجدانية، والأخلاقيات التهذيبية، والشعائر التعبدية. أو في ركن ضيق من أركان الحياة البشرية.. ركن ما يسمونه [الأحوال الشخصية].
ليس من طبيعة [الدين] أن يفرد لله -سبحانه- قطاعاً ضيقاً في ركن ضئيل-أو سلبي- في الحياة البشرية، ثم يسلم سائر قطاعات الحياة الإيجابية العملية الواقعية لآلهة أخرى وأرباب متفرقين، يضعون القواعد والمذاهب، والأنظمة والأوضاع، والقوانين والتشكيلات على أهوائهم، دون الرجوع إلى الله!
ليس من طبيعة [الدين] أن يشرع طريقاً للآخرة، لا يمر بالحياة الدنيا! طريقاً ينتظر الناس في نهايته فردوس الآخرة عن غير طريق العمل في الأرض، وعمارتها، والخلافة فيها عن الله، وفق منهجه الذي ارتضاه!
ليس من طبيعة [الدين] أن يكون هذا المسخ الشائه الهزيل! ولا هذه الألعوبة المزوقة التي يلهو بها الأطفال! ولا هذه المراسم التقليدية التي لا علاقة لها بنظم الحياة العملية!
ليس من طبيعة [الدين] -أي دين فضلاً عن دين الله- أن يكون هذا العبث الممسوخ الهزيل.. فمن أين إذن جاءته هذه السلبية الهازلة ؟ وكيف إذن وقع ذلك [الفصام النكد] بين الدين والحياة ؟.
لقد تم ذلك [الفصام النكد] في ظروف نكدة! وكانت له آثاره المدمرة في أوروبا.. ثم في الأرض كلها، حين طغت التصورات الغربية، والأنظمة الغربية، والأوضاع الغربية، على البشرية كلها في مشارق الأرض ومغاربها..
ولم يكن بد-وقد انفصمت حياة المخاليق عن منهج الخالق- أن تسير في هذا الطريق البائس؛ وأن تنتهي إلى هذه النهاية التعيسة؛ وأن تحيط بالبشر الدائرة التي يتعذبون الآن في داخلها، ويذوق بعضهم بأس بعض، بينما هم عاجزون عن معرفة طريق الخلاص منها.. وهم يصطرخون فيها..!!.
انتهى دور الرجل الأبيض
لقد انتهى العصر الذي يسود فيه الرجل الأبيض؛ لأن حضارة الرجل الأبيض قد استنفدت أغراضها المحدودة القريبة، ولم يعد لديها ما تعطيه للبشرية من تصورات ومفاهيم ومبادئ وقيم، تصلح لقيادة البشرية، وتسمح لها بالنمو والترقي الحقيقيين.. النمو والترقي للعنصر الإنساني، وللقيم الإنسانية، وللحياة [الإنسانية].
إنها مبتوتة عن الأصل الكبير الذي لا تقوم الأنظمة الاجتماعية، ولا تعيش المبادئ والقيم، إلا إذا انبثقت منه، وقامت عليه. الأصل الاعتقادي المرتبط بالله، والتفسير الكلي للوجود، ومركز الإنسان فيه، وغاية وجوده الإنساني.. ومن ثم كانت قيماً محدودة موقوتة؛ لأنها في الأصل قيم مبتوتة!.. نبات لا جذور له في أعماق الفطرة البشرية؛ لأنه ليس آتياً من المصدر الذي جاءت منه الفطرة البشرية.(5/2)
ومن أجل أنها لم تنبثق من ذلك الأصل؛ ولم تجئ من هذا المصدر، فإنها قامت على أساس مناقض لفطرة الإنسان؛ ولم تراع في الأسس التي قامت عليها، ولا في الوسائل التي اتخذتها، ولا في الطريق التي سارت فيه.. لم تراع في هذا كله احتياجات [الإنسان] الحقيقية، المنبثقة من طبيعة تكوينه، وأصل خلقته وحقيقة فطرته، وأهملت إهمالاً شنيعاً أهم مقوماته-التي بها صار الإنسان إنساناً- ولم تهملها فحسب، بل طاردتها في جفوة وعنف.. وسارت في طريق معارض للحقيقة الإنسانية، وللحاجات الحقيقية لبني الإنسان، وللقيم الصحيحة التي ينبغي أن تطبع الحياة الإنسانية وتميزها.
ومن ثم أخذ [الإنسان] يشقى شقاءً مريراً بالحضارة، التي قامت-أو المفروض أنها قامت- لخدمته وترقيته وإسعاده.. وحين تتناقض[الحضارة] مع [الإنسان] فالنتيجة الحتمية بعد فترة-تطول أو تقصر- من صراع الإنسان مع الحضارة، ومن الآلام والتضحيات، والخسائر والمرارات، أن ينتصر الإنسان، لأنه هو الأصل. ولأن فطرته أعمق وأبقى من أنماط الحضارة الطارئة عليها.. الحضارة المنبتة عن الله، وعن منهجه للحياة.
ثم ماذا؟
ثم إنه الخواء ينخر في روح الحضارة الغربية، بمذاهبها جميعاً، وبأنظمتها جميعاً، الخواء الذي تختنق فيه روح [الإنسان]، وتنهدر فيه قيمة [الإنسان]، وتنحدر فيه خصائص [الإنسان].. بينما تتكدس [الأشياء] وتعلو قيمتها، وتطغى على كل قيمة للإنسان!
إن بريق الحضارة المادية لا يجوز أن يغشي أبصارنا عن حقيقة الشقاء الذي باتت تعانيه البشرية في ظل هذه الحضارة. وإن الصواريخ المطلقة، والأقمار الصاعدة، لا يجوز أن تلهينا عن الدرك الذي ينحدر إليه [الإنسان] ومقومات [الإنسان]!
إن الإنسان هو أكرم ما في هذه الأرض. إنه هو الكائن الأساسي فيها، والمستخلف في مقدراتها. وكل شيء فيها في خدمته-أو ينبغي أن يكون كذلك-و[إنسانيته] هي المقوم الأعلى الذي يقاس به مدى صعوده أو هبوطه. وسعادة روحه هي مقياس ما في الحضارة التي يعيش فيها من ملاءمة لطبيعته أو مصادمة..
فإذا رأينا [الإنسان] ينحدر في صفاته [الإنسانية] وفي تصوره للقيم الإنسانية..
إذا رأيناه وقوداً للآلة، أو عبداً لها، أو تابعاً ذليلاً من توابعها..
إذا رأيناه- تبعاً لهذا- ينحط في تصوره وذكائه وأخلاقه..
إذا رأيناه يهبط في علاقاته الجنسية إلى أدنأ من درك البهيمة..
إذا رأينا وظائفه الأساسية تعطل وتذوي وتتراجع..
إذا رأيناه يشقى ويقلق ويتحير، ويعاني من القلق والحيرة ما لم يعانيه قط في تاريخه من الشقاء والتعاسة، والأمراض العصبية والنفسية، والشذوذ والعته، والجنون والجريمة.
إذا رأيناه هارباً من نفسه، ومن المخاوف، والقلاقل التي تلفه بها الحضارة المادية، والأنظمة الاجتماعية، والسياسية، والأخلاقية، والفكرية.
إذا رأيناه هائما على وجهه يقتل سآمته وملله، بما يقتل به روحه وجسمه وأعصابه، من المكيفات والخمور، أو ما يشبه المكيفات والخمور من الأفكار السود، ومذاهب اليأس والقنوط الملبس والضياع الأليم.. كما في [الوجودية] وغيرها من مذاهب الفكر التعيسة.
إذا رأيناه يئد نسله، أو يبيع أولاده، ليشتري بهم ثلاجات وغسالات كهربائية-كما جاءتنا الأنباء عن أوروبا الضائعة.
إذا رأيناه في مثل هذه الحال النكدة.. فإن جميع ما يصل إليه [العلم] في معزل عن [روح الإنسان] من تيسيرات للحياة المادية، ومن رفاهيات حضارية.. لا يغير شيئاً من حقيقة الانحدار الذي تهوي إليه البشرية؛ ومن حقيقة الشقاء الذي تعانيه؛ ومن حقيقة التعاسة التي تزاولها.. ثم.. من حقيقة فشل هذه الحضارة وقرب نهايتها.. ومن ثم حقيقة الحاجة الماسة إلي نظام آخر أصيل، بريء-في أساسه- من العيوب الأساسية التي أفسدت حياة البشر؛ وضيعت عليهم ثمار العلم والمعرفة والتقدم الحضاري.. نظام يسمح للإنسانية بأن تحقق غاية وجودها الإنساني-كما أرادها خالقها العظيم- وأن تستخدم [العقل] و[العلم] و[التجربة] استخداماً آخر، يتناسق مع احتياجاتها الحقيقية؛ ومع مقتضيات فطرتها الأصيلة.
لقد انتهى دور الرجل الأبيض.. انتهى دوره سواء أكان روسياً أم أمريكياً، إنجليزياً أم فرنسوياً، أم سويسرياً أم سويدياً.. إنه لابد من قاعدة من التصور الاعتقادي لكافة المذاهب والمناهج والنظم والأوضاع التي تقوم عليها حياة [الإنسان]. لابد من تفسير صحيح للوجود، ولمركز الإنسان فيه، ولغاية وجوده الإنساني. وهذا ما أغفلته حضارة الرجل الأبيض، بل حاربته حرباً شعواء، يستوي في هذا جميع الأنظمة السائدة في الغرب، وفي الشرق جميعاً.
والإنسان في حاجة إلى [عقيدة] تعمر قلبه؛ وتنبثق منها تصوراته؛ وتقدم له التفسير الشامل لحياته وللكون من حوله؛ ولعلاقته هو والكون بالخالق الأعلى..[عقيدة] ترسم له أهدافاً أكبر من ذاته، وأعم من جيله، وأبعد من حاضره، وأرفع من واقعه؛ وتربطه بذات علوية، لها عليه رقابة وسيطرة؛ يحبها ويخشاها؛ ويتقي غضبها ويطلب رضاها؛ وينتظر عونها على الخير؛ ويستحي من مواجهتها بالشر؛ ويرجو جزاءها العادل الكامل، الذي يعوض عليه ما يفوته في صراعه للشر في هذه الحياة الدنيا؛ ويربط حياته كلها بها؛ ويتلقى عنها نظام حياته، ومناهج فكره وسلوكه؛ كما يتلقى عنها شعائر عبادته سواء بسواء.. فتستقيم حياته كلها حزمة واحدة، لا فصام فيها ولا صدام..
ولقد يشغل الإنسان بعض الوقت بجوعة الجسد، وما يتعلق بها من الإنتاج بشتى وسائله وصنوفه، ومن المتاع الحسي بشتى ألوانه ومذاقاته.. وما أن تهدأ هذه الجوعة حتى تتحرك في الكائن الإنساني جوعة أخرى. جوعة لا يسدها الطعام، ولا يرويها الشراب، ولا يكفيها الكساء، ولا تسكنها كل ضروب المتاع.. إنها جوعة من نوع آخر. جوعة إلى الإيمان بقوة أكبر من البشر؛ وعالم أكبر من المحسوس؛ ومجال أكبر من الحياة الدنيا.. وجوعة إلى الوئام بين ضمير الإنسان وواقعه، بين الشريعة التي تحكم ضميره والشريعة التي تحكم حياته. بين منهج حركته الذاتية، ومنهج الحركة الكونية من حوله. جوعة إلى [إله] واحد؛ يتلقى منه شريعة قلبه، وشريعة مجتمعه على السواء.. وكل نظام للحياة لا يحقق السعادة للكائن البشري إلا إذا تضمن كفاية هذه الجوعات المتعددة في كينونته الواحدة.. وهذه السمة هي التي خلت منها حضارة الرجل الأبيض!
ولهذا السبب-من وراء كل سبب- انتهى دور الرجل الأبيض..
المُخَلِّص
'إن هتافات كثيرة من هنا ومن هناك، تنبعث من القلوب الحائرة وترتفع من الحناجر المتعبة .. تهتف بمنقذ، وتتلفت على [مخلص]، وتتصور لهذا المخلص سمات وملامح معينة تطلبها فيه..وهذه السمات والملامح المعينة لا تنطبق على أحد إلا على [هذا الدين] .
المستَقبل لهذا الدّين
وحين يتقرر أن الإسلام:
هو وحده القادر على إنقاذ البشرية مما يحدق بها من أخطار ماحقة، تدلف إليها مقودة بسلاسل الحضارة المادية البراقة.
وهو وحده القادر على منحها المنهج الملائم لفطرتها، ولاحتياجاتها الحقيقية.
وهو وحده الذي ينسق بين خطاها في الإبداع المادي، وخطاها في الاستشراف الروحي.
وهو وحده الذي يملك أن يقيم لها نظاماً واقعياً للحياة يتم فيه هذا التناسق الذي لم تعرفه البشرية قط إلا في النظام الإسلامي وحده على مدى التاريخ ..(5/3)
حين يتقرر هذا كله تتضح معه شناعة الجريمة التي يرتكبها - في حق البشرية كلها - أولئك الذين يوجهون الضربات الوحشية لطلائع البعث الإسلامي في كل مكان، والذين يجندون قواهم كلها، لطمس معالم المنهج الإسلامي، ومواراته عن أعين البشرية المتطلعة إلى منقذ، المتلفتة على [مخلِّص]، وتنفيرها منه بشتى الخدع والتمويهات والأكاذيب!
إنها جريمة بشعة في حق البشرية المنكوبة بهذه الحضارة المناقضة لفطرتها ولاحتياجاتها الحقيقة المهددة بغلبة الفلسفة المادية عليها..وهي في كل لحظة تقترب من الهوة الرعيبة، ولا منقذ لها إلا هذا الدين، الذي يحاربه أعداء البشرية، في كل مكان على وجه الأرض، بشتى الخطط، والمؤامرات، والأساليب!
إلا أن هذه الحرب المشبوبة على الإسلام لا تفقدنا الثقة المطلقة في أن [المستقبل لهذا الدين].
لقد صمد الإسلام في حياته المديدة، لما هو أعنف وأقسى من هذه الضربات الوحشية، التي توجه اليوم إلى طلائع البعث الإسلامي في كل مكان. وكافح - وهو مجرد من كل قوة غير قوته الذاتية- وانتصر، وبقى، وأبقى على شخصية الجماعات والأوطان، التي كان يحميها، وهو مجرد من السلاح!
إن الإسلام هو الذي حمى الوطن الإٍسلامي في الشرق من هجمات التتار؛ كما حماه من هجمات الصليبيين على السواء .. ولو انتصر الصليبيون في الشرق كما انتصروا في الأندلس قديماً، أو كما انتصر الصهيونيون في فلسطين حديثاً، ما بقيت قومية عربية، ولا جنس عربي، ولا وطن عربي .. والأندلس قديماً وفلسطين حديثاً كلاهما شاهد على أنه حين يطرد الإسلام من أرض، فإنه لا تبقى فيها لغة ولا قومية، بعد اقتلاع الجذر الأصيل!
والمماليك الذين حموا هذه البقعة من التتار، لم يكونوا من جنس العرب إنما كانوا من جنس التتار! ولكنهم صمدوا في وجه بني جنسهم المهاجمين، حمية للإسلام، لأنهم كانوا مسلمين! صمدوا بإيحاء من العقيدة الإسلامية، وبقيادة روحية إسلامية من الإمام المسلم [ابن تيمية] الذي قاد التعبئة الروحية، وقاتل في مقدمة الصفوف!
ولقد حمى صلاح الدين هذه البقعة من اندثار العروبة منها، والعرب، واللغة العربية .. وهو كردي لا عربي، ولكنه حفظ لها عروبتها ولغتها حين حفظ لها إسلامها من غارة الصليبيين. وكان الإسلام في ضميره هو الذين كافح الصليبيين، كما كان الإسلام في ضمير الظاهر بيبرس، والمظفر قطز، والملك الناصر .. هو الذي كافح التتار المتبربرين!
والإسلام هو الذي كافح في الجزائر مئة وخمسين عاماً. وهو الذي استبقى أرومة العروبة فيها. حتى بعد أن تحطمت مقوماتها الممثلة في اللغة والثقافة، حينما اعتبرت فرنسا اللغة العربية –في الجزائر- لغة أجنبية محظوراً تعليمها! هنالك قام الإسلام - وحده - في الضمير، يكافح الغزاة، ويستعلي عليهم، ولا يحنى رأسه لهم لأنهم أعداؤه [الصليبيون]! وبهذا - وحده - بقيت روح المقاومة في الجزائر، حتى أزكتها من جديد الحركة الإسلامية التي قام بها عبد الحميد بن باديس، فأضاءت شعلتها من جديد .. وهذه الحقيقة التي حاول أن يطمسها المغفلون والمضلِّلون، يعرفها الفرنسيون والصليبيون جيداً لأنهم [صليبيون]!
إنهم على يقين أن [الإسلام]، باستعلاء روحه على أعدائه، هو الذي يقف في طريقهم. ومن ثم يعلنونها حرباً على [المسلمين] .. لا على [العرب]!
والإسلام هو الذي كافح في برقة وطرابلس ضد الغزو الطلياني .. وفي أربطة السنوسية وزواياها نمت بذرة المقاومة، ومنها انبثق جهاد عمر المختار الباسل النبيل..
وأول انتفاضة في مراكش، كانت منبثقة من الروح الإسلامي. وكان [الظهير البربري] الذي سنه الفرنسيون سنة 1931 وأرادوا به رد قبائل البربر هناك إلى الوثنية، وفصلهم عن الشريعة الإسلامية .. هو الشرارة التي ألهبت كفاح مراكش ضد الفرنسيين.
لقد كافح الإٍسلام - وهو أعزل - لأن عنصر القوة:
كامن في طبيعته، كامن في بساطته ووضوحه وشموله، وملاءمته للفطرة البشرية، وتلبيته لحاجاتها الحقيقية. كامن في الاستعلاء عن العبودية للعباد بالعبودية لله رب العباد؛ وفي رفض التلقي إلا منه، ورفض الخضوع إلا له من دون العالمين.
كامن كذلك في الاستعلاء بأهله على الملابسات العارضة كالوقوع تحت سلطان المتسلطين، فهذا السلطان يظل خارج نطاق الضمير مهما اشتدت وطأته .. ومن ثم لا تقع الهزيمة الروحية طالما عمر الإسلام القلب والضمير، وإن وقعت الهزيمة الظاهرية في بعض الأحايين.
ومن أجل هذه الخصائص في الإسلام يحاربه أعداؤه هذه الحرب المنكرة؛ لأنه يقف لهم في الطريق، يعوقهم عن أهدافهم الاستعمارية الاستغلالية، كما يعوقهم عن الطغيان والتأله في الأرض كما يريدون!
ومن أجل هذه الخصائص يطلقون عليه حملات القمع والإبادة، كما يطلقون عليه حملات التشويه والخداع والتضليل!
ومن أجل هذا يريدون أن يستبدلوا به قيماً أخرى، وتصورات أخرى، لا تمت بسبب إلى هذا المناضل العنيد؛ لتستريح الصهيونية العالمية، والصليبية العالمية، والاستعمار العالمي من هذا المناضل العنيد!
إن خصائص الإسلام الذاتية هي التي تحنق عليه أعداءه الطامعين في أسلاب الوطن الإسلامي .. هذه هي حقيقة المعركة؛ وهذا هو دافعها الأصيل..
ولكن الذي لا شك فيه - على الرغم من ذلك كله - هو أن [المستقبل لهذا الدين]..
فمن طبيعة المنهج الذي يرسمه هذا الدين؛ ومن حاجة البشرية إلى هذا المنهج نستمد نحن يقيننا الذي لا يتزعزع، في أن المستقبل لهذا الدين. وأن له دوراً في هذه الأرض هو مدعو لأدائه - أراد أعداؤه أم لم يريدوا - وأن دوره هذا المرتقب لا تملك عقيدة أخرى - كما لا يملك منهج آخر- أن يؤديه، وأن البشرية بجملتها لا تملك كذلك أن تستغني طويلاً عنه. ولا حاجة بنا إلى المضي في توكيد هذه الحقيقة على هذا النحو.
فنكتفي في هذا الموضع بعرض عبرة عن الواقع التاريخي للإسلام، لعلها أنسب العبر في هذا المقام:
بينما كان [سراقة بن مالك] يطارد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصاحبه أبا بكر رضي الله عنه - وهما مهاجران خفية عن أعين قريش .. وبينما كان سراقة يعثر به فرسه كلما هم أن يتابع الرسول وصاحبه، طمعاً في جائزة قريش المغرية التي رصدتها لمن يأتيها بمحمد، وصاحبه، أو يخبر عنهما .. وبينما هو يهم بالرجوع وقد عاهد النبي صلى الله لعيه وسلم أن يكفيهما من وراءه ..
في هذه اللحظة قال النبي صلى الله عليه وسلم: [يا سراقة. كيف بك وسوارى كسرى؟] .. يعده سوارى كسرى شاهنشاه الفرس! [ملك الملوك!].. والله وحده يعلم ما هي الخواطر التي دارت في رأس سراقة؛ حول هذا العرض العجيب؛ من ذلك المطارد الوحيد .. إلا من صاحبه الذي لا يغني شيئاً عنه، والمهاجر - سرّا ً- معه!
ولكن كالرسول - صلى الله عليه وسلم - كان عارفاً بالحق الذي معه، معرفته بالباطل الذي عليه الجاهلية في الأرض كلها يومذاك .. وكان واثقاً من أن هذا الحق لابد أن ينتصر على هذا الباطل. وأنه لا يمكن أن يوجد [الحق] في صورته هذه، وأن يوجد [الباطل] في صورته هذه، ثم لا يكون ما يكون!
كانت الشجرة القديمة قد تآكلت جذورها كلها، بحيث لا يصلها ري ولا سماد .. كانت قد خبثت بحيث يتحتم أن تجتث .. وكانت البذرة الطيبة في يده هي المعبأة للغرس والنماء .. وكان واثقاً من هذا كله ثقة اليقين .(5/4)
نحن اليوم في مثل هذا الموقف بكل ملابساته، وكل سماته. مع الجاهلية كلها من حولنا.. فلا يجوز- من ثم - أن ينقصنا اليقين في العاقبة المحتومة. العاقبة التي يشير إليها كل شيء من حولنا. على الرغم من جميع المظاهر الخادعة التي تحيط بنا!
إن حاجة البشرية اليوم إلى هذا المنهج، ليست بأقل من حاجتها يومذاك .. وإن وزن هذا المنهج اليوم - بالقياس إلى كل ما لدى البشرية من مناهج - لا يقل عنه يومذاك ..
ومن ثم ينبغي ألا يخالجنا الشك في أن ما وقع مرة في مثل هذه الظروف لابد أن يقع. ولا يجوز أن يتطرق إلى قلوبنا الشك، بسبب ما نراه من حولنا، من الضربات الوحشية التي تكال لطلائع البعث الإسلامي في كل مكان، ولا بسبب ما نراه كذلك من ضخامة الأسس التي تقوم عليها الحضارة المادية.. إن الذي يفصل في الأمر ليس هو ضخامة الباطل، وليس هو قوة الضربات التي تكال للإسلام. إنما الذي يفصل في الأمر هو قوة الحق، ومدى الصمود للضربات!
إننا لسنا وحدنا .. إن رصيد الفطرة معنا .. فطرة الكون وفطرة الإنسان .. وهو رصيد هائل ضخم .. أضخم من كل ما يطرأ على الفطرة من أثقال الحضارة .. ومتى تعارضت الفطرة مع الحضارة، فلا بد أن يكتب النصر للفطرة .. قصر الصراع أم طال.
أمر واحد يجب أن يكون في حسابنا
إن أمامنا كفاحاً مريراً شاقاً طويلاً. لاستنقاذ الفطرة من الركام، ثم لتغليب الفطرة على هذا الركام، كفاحاً مريراً يجب أن نستعد له استعداداً طويلاً، يجب أن نستعد بأن نرتفع إلى مستوى هذا الدين ..نرتفع إلى مستواه في حقيقة إيماننا بالله. وفي حقيقة معرفتنا بالله، فإننا لن نؤمن به حق الإيمان حتى نعرفه حق المعرفة ..
ونرتفع إلى مستواه في عبادتنا لله. فإننا لن نعرف الله حق المعرفة إلا إذا عبدناه حق العبادة.
ونرتفع إلى مستواه في وعينا بما حولنا، ومعرفتنا لأساليب عصرنا .. ورحم الله رجلاً عرف زمانه واستقامت طريقته.
ونرتفع إلى مستواه في إحاطتنا لثقافة عصرنا وحضارته؛ وممارسة هذه الثقافة، وهذه الحضارة ممارسة اختبار واختيار .. فإننا لا نملك الحكم على ما ينبغي أن نأخذ منها، وما ينبغي أن ندع، إلا إذا سيطرنا عليها بالمعرفة والخبرة. فمن المعرفة والخبرة نستمد سلطان الاختيار ..
ونرتفع إلى مستواه في إدراكنا لطبيعة الحياة البشرية، وحاجاتها الحقيقية المتجددة، فنرفض ما نرفض من هذه الحضارة، ونستبقي ما نستبقي عن خبرة بالحياة ذاتها تعادل خبرتنا بهذه الحضارة كذلك!
وهذا كفاح مرير .. وكفاح طويل .. ولكنه كفاح بصير وكفاح أصيل.. والله معنا ..{...وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ[21]}[سورة يوسف] ..وصدق الله العظيم.
من كتاب:'المستقبل لهذا الدين' للأستاذ/سيد قطب رحمه الله .
======================
هل نحن مسلمون
محمد قطب
بسم الله الرحمن الرحيم
( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ )
صدق الله العظيم .
" ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ، ولكن هو ما وقر في القلب وصدقه العمل " .
حديث شريف
مقَدّمَة-كيف انحسر مفهوم الإسلام في نفوسنا إلى هذا الحد ؟؟
كيف انحسر من مفهوم شامل للحياة البشرية في جميع اتجاهاتها ، بل مفهوم شامل - في الحقيقة - للكون والحياة والإِنسان ، لكي يصبح مجرد عبادات تؤدى على نحو من الأنحاء ، بل لا تؤدى أحياناً إلا " بالنية " .. بل لا تؤدى أحياناً على الإِطلاق ، لا بالنية ولا بغير النية .. ثم يظل يدور في أخلادنا - مع ذلك - أننا مسلمون صادقو الإِسلام ؟
كيف انحسر من دستور شامل يحكم الحياة البشرية كلها وينظمها : يحكم اقتصادياتها واجتماعياتها ، ومادياتها وروحانياتها ، وسياستها وأفكارها ومشاعرها ، وسلوكها العملي في واقع الحياة ، لكي يصبح مجرد مشاعر هائمة لا رصيد لها من الواقع .. مشاعر تدور في نفس صاحبها - إن دارت - وهو يعيش في مجتمع غير مسلم ولا يستنكر الحياة فيه ولا يحاول تغييره . وتدور في نفسه - إن دارت - وهو ذاته لا يسلك سلوك المسلمين في حياته الخاصة ولا العامة . فتقاليده غير إسلامية ، وأفكاره غير إسلامية ، وتصوراته غير إسلامية ، وسلوكه اليومي لا يمت بصلة إلى الإِسلام ، سواء في علاقة الفرد بالفرد أو الفرد بالجماعة أو الفرد بالدولة ، أو علاقة الرئيس بالمرءوس ...
كيف انحسر من حياة كاملة قائمة على مبادئ الإِسلام وأفكاره ومثله وسلوكه الواقعي ، تشمل الدنيا والآخرة والأرض والسماء والحاكم والمحكوم والرجل والمرأة والأسرة والمجتمع ، لكي يصبح جزئيات مبعثرة لا رابط بينها ولا دلالة فيها ، كالرقعة الشائهة في نسيج غير متناسق الأجزاء ؟
كيف نبتت تلك الأفكار العجيبة التي تقسم الإِسلام مشاعر من ناحية وسلوكا عمليا من ناحية أخرى ، ثم تفصل بين هذه وتلك ، وتتصور أن المشاعر وحدها يمكن أن تكون إسلاما بمعزل عن السلوك ؟!
كيف دار في أخلاد المسلمين أنهم يستطيعون أن يستوردوا اقتصادياتهم من أي نظام على وجه الأرض غير إسلامي ، ويستوردوا أصول مجتمعهم وقواعده من أية فكرة على وجه الأرض غير إسلامية ، ويستوردوا تقاليدهم من أي مجتمع على وجه الأرض غير مسلم ، ثم يظلوا مع ذلك مسلمين ؟!
كيف أمكن أن يتصور المسلم أنه يستطيع أن يخالف تعاليم ربه في كل شيء ، ويخون أماناته كلها ، فيغش ويكذب ويخون ويخدع ، ويتجاوز المتاع المباح إلى المتعة المحرمة ، ويقبل الذل والمهانة حرصاً على هذا المتاع ، ويخلي نفسه من تبعة إقامة المجتمع المسلم سواء بسلوكه الذاتي أو بالدعوة إلى ذلك المجتمع ، ويشارك بذلك كله في إقامة مجتمع غير مسلم ، قائم على الظلم والانحراف والمعصية .. ثم يتصور بعد ذلك أن بضع ركعات في النهار - مخلصة أو غير مخلصة - يمكن أن تسقط عنه تبعاته أمام الله وتسلكه في عداد المسلمين ؟!
كيف أمكن أن تتصور المسلمة أنها تستطيع أن تخالف تعاليم ربها وتخون أماناته : فتغش وتكذب وتحقد وتغتاب .. وتخرج عارية تعرض فتنتها في الطريق لكل عين نهمة وجسد شهوان ، وتخلي نفسها من تبعة إقامة المجتمع المسلم ، سواء بالسلوك المستقيم في ذات نفسها ، أو بتربية أبنائها عليه ، أو بالدعوة إلى ذلك المجتمع .. وتشارك بذلك كله في إقامة مجتمع غير مسلم قائم على الظلم والانحراف والمعصية .. ثم يدور في خلدها بعد ذلك أن " النية الطيبة " في داخل قلبها يمكن أن تسقط عنها تبعاتها أمام الله وتسلكها في عداد المسلمات ؟!
من أين أتت تلك الأفكار الغريبة التي تقول : ما للدين ونظام المجتمع ؟ ما للدين والاقتصاد ؟ ما للدين وعلاقات الفرد بالمجتمع وبالدولة ؟ ما للدين والسلوك العملي في واقع الحياة ؟ ما للدين والتقاليد ؟ ما للدين والملبس - وخاصة ملابس المرأة ؟ ما للدين والفن ؟ ما للدين والصحافة والإذاعة والسينما والتلفزيون ؟
وباختصار .. ما للدين والحياة ؟ ما للدين والواقع الذي يعيشه البشر على الأرض ؟!(5/5)
لا شك أن هناك أسبابا كثيرة لهذا " الانحسار " الذي يعانيه الإِسلام في نفوس المسلمين .
فلم يكن كذلك المجتمع المسلم حين كان يمارس حقيقة الإسلام .
بل لم يكن كذلك المجتمع المسلم إلى عهد قريب - مع كل ما أصابه من فساد خلال القرون - إلى ما قبل الحملة الفرنسية على وجه التحديد .
لقد بدأت الفُرقة بين مثل الدين والسلوك الواقعي مبكرة في تاريخ الإِسلام .. من عهد الأمويين مثلا .. ولكنها كانت فرقة لا تخل بقواعد المجتمع المسلم في مجموعه . كانت الحكومة في العاصمة هي التي تفسد - فساداً جزئيا - في سياسة الحكم والمال . ولكن المجتمع في غير العاصمة ظل إلى حد كبير يمارس أصول الإِسلام وقواعده ، وتحكم حياته المفاهيم الإسلامية في الكليات والجزئيات . والأهم من ذلك كله أن نظام المجتمع كان يقوم على الإسلام ابتداء ، ويستمد قوانينه كلها من شريعة الإسلام ولا يستمدها من أي مصدر سواه .
ثم اتسعت هذه الفرقة حين حكم الأتراك ...
ومع ذلك فقد ظل كثير من أمور المجتمع ومفاهيمه إسلامية خالصة ، وكذلك سلوكه العملي وأخلاقه ومعاملاته وتصوراته وأفكاره .
حتى كان الغزو الصليبي الأخير في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر . وامتداده في القرن العشرين .
وعند ذلك حدث اختلاف كبير في المجتمع المسلم .. واختلال كبير ..
وهذا الكتيب الصغير محاولة - سريعة - لتتبع هذا الخط الذي أدى إلى انحسار المفهوم الإسلامي الضخم الشامل ، لكي يصبح جزئيات مبعثرة لا رابط لها ولا دلالة فيها .. ولكي يصبح مجرد عبادات - مخلصة أو غير مخلصة - يحسب أصحابها أنها الإِسلام كله ، وأنهم ملاقو ربهم بها وقد رضي عنهم ورضوا عنه .. حتى وهو يقول لهم في كتابه العزيز إن ذلك ليس هو الإِسلام كما أراده الله !
فإذا عرفنا كيف نبع هذا الانحراف وامتد .. فلعلنا أن نصحو إلى ما فيه من كيد .. ولعلنا أن نفيء إلى الله وإلى أنفسنا ..
ونعود مسلمين ..
والله الموفق إلى ما يريد .
محمد قطب
مفهوم الإسلام
كيف فهم المسلمون الأوائل معنى الإِسلام ؟
وكيف ينبغي لنا نحن أن نفهم معناه ؟
لا شك أن المسلمين الأوائل لم يفهموا من الإِسلام ما نريد نحن أن نفهمه في عصرنا الحاضر : أنه مجموعة من العبادات يؤديها الإنسان بمعزل عن السلوك العملي ، وأن الإنسان يستطيع أن يتجه إلى الله - مخلصا - في أثناء العبادة ، ثم يتجه لغير الله في أي أمر من أمور الحياة .
إنما الإِسلام - كما فهمه الرسول صلى الله عليه وسلم وكما فهمه عنه أصحابه وأتباعه - هو إسلام النفس كلها لله . هو أن يكون كيان الإِنسان كله متوجها إلى الله . هو أن تكون أفكار الإِنسان ومشاعره وسلوكه العملي كلها محكومة بالدستور الذي أقره الله .
لم يفهم المسلمون من شهادة : أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، أنها كلمة تقال باللسان دون أن يكون لها مدلول مستقر في أعماق النفس وفي واقع الحياة .
وإنما فهموا من شهادة : أن لا إله إلا الله ، أن الله هو المالك الوحيد لهذا الكون ، والمدبر الوحيد لكل ما يقع فيه من أحداث . وأنه هو وحده الذي ينبغي أن يعبد ، وأن تتوجه إليه القلوب بالخشية والتقوى . وأنه هو وحده واهب الحياة ومقدر الموت ، وهو وحده الرزاق ذو القوة المتين . وأن التوجه إلى غيره بالعبادة أو الخشية ، والظن بأن أحداً غيره أو أية قوة من قوى السماوات والأرض تملك للناس نفعاً أو ضراً هو لون من الشرك يستعيذون منه بالله .
وفهموا فوق ذلك من معنى لا إله إلا الله أنه وحده الذي يملك ويحكم . هو الذي يشرّع للبشر ويضع لهم قوانين حياتهم ودستور معيشتهم ، وليس أحد غيره أو أية قوة من قوى السماوات والأرض . وأن هذا الأمر قديم قدم البشرية كلها ، فقد نزل مع آدم منذ هبط آدم إلى الأرض : ( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (1) فهو أمر ملازم للبشرية في تاريخها كله : أن يلتزموا هدى الله ويتصرفوا بمقتضاه .. وإلا فما هم بمسلمين .
كما فهموا من شهادة أن محمدا رسول الله ، أنه - صلى الله عليه وسلم - هو الرسول المعتمد لتبليغ هذه الرسالة : هذا الهدي الذي يلتزم البشر بطاعته واتباعه ، وأنه هو المبلّغ عن ربه الذي تنبغي طاعته مع طاعة الله : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ) (2) ، ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (3) .
وأنه - صلى الله عليه وسلم - هو التطبيق العملي الحي لرسالة السماء ، فهو القدوة في كل عمل وكل تصرف ، وهو قائد الجماعة المسلمة ومربيها ، وأستاذها ومعلمها ، والنور الذي تستضيء به في الظلمات .
* * *
ذلك كان المفهوم العام - أو الإجمالي - لشهادة ألا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله . المفهوم الذي كان الإِنسان يعتبر مسلما بمجرد أن يستقر في خلده ، لأنه في حقيقته يمثل حقيقة الإسلام ، الكفيلة - وحدها - بمجرد استقرارها في ضمير إنسان أن تحول حياته ، وتوجهه إلى الطريق السويّ .. الطريق إلى الله .
وقد تفرعت عن هذا المفهوم الإِجمالي - أو انبسطت معه بتوجيهات القرآن المفصلة وسلوك الرسول العملي - عدة مفاهيم أخرى ، كانت عميقة الغور في نفوس المسلمين الأوائل ، تنعكس في مشاعرهم وأفكارهم وتصرفاتهم ، وإن لم " يفلسفوها " كما نفلسفها نحن ، ويكتبوا فيها الكتب والمجلدات !
فهم المسلمون - بداهة - أن النية وحدها المضمرة في القلب لا يمكن أن تكون إسلاما ! وأنه ما لم تتحقق هذه النية في أعمال محسوسة وسلوك واقعي ، فهي لا تساوي شيئاً في ميزان الواقع وميزان الله . والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " ليس الإِيمان بالتمني ولا بالتحلي . ولكن هو ما وقر في القلب وصدقه العمل " (4) .
ونحن - بعد أن تفلسفنا وتوسعنا في المعرفة السيكلوجية خاصة - ندرك صدق هذه البديهية وعمق دلالتها في حياة الإِنسان .
إن الإِنسان كثيرا ما يخيل إليه أنه مقتنع بفكرة ما تمام الاقتناع ، وأنه ممتلئ بها إلى حد التشبع ، وأنه ليس في حاجة إلى أن يحدث نفسه فيها أو يحدثه أحد غيره ، فهي مقررة في أعماق نفسه ، مستقرة فيها ، لا شك في أمرها ولا جدال .
ثم يكون هذا كله خداعا لا رصيد له من الواقع .. أو هو رصيد ضئيل لا يكفي لتحريك عجلة الحياة .
إنك وأنت جالس تحلم يخيل إليك أنك بدفعة صغيرة قد تستطيع أن تحرك الكون !! ثم تحاول تحريك منضدة من مكانها فإذا هي تثقل عليك ، وإذا أنت محتاج - لكي تزحزحها من مكانها - أن تزيد من قوتك الدافعة ، أو أن تنمي الرصيد الواقعي للرغبة الكامنة في نفسك ، حتى تتعادل مع المقاومة أولا ، ثم تأخذ في الزيادة بعد ذلك . وبقدر ما تزيد ، تكون الحركة المحسوسة في عالم الواقع ؛ وتكون الحركة هي المقياس الحقيقي للرصيد .
وليست هذه حقيقة خاصة بعالم الإِنسان وحده ، ولكنها حقيقة من حقائق الكون الأكبر ، وجزء من ناموس الوجود .
وقد أدرك كل مخترع لآلة متحركة ، أن القوة الكامنة وحدها لا تكفي . وأنها ينبغي أولا أن تتحول من قوة كامنة إلى قوة ظاهرة - أي تتحول من النية إلى العمل - ثم تكون بالقدر الذي يكفي لا لمعادلة المقاومة فحسب ، بل للزيادة عليها ، حتى تنتج الحركة الحقيقية المطلوبة في واقع الحياة .(5/6)
والحركة - قانون الوجود الأكبر - قائمة على هذه الحقيقة : تحويل القوة الكامنة إلى قوة ظاهرة ، وزيادة هذه القوة بحيث تتغلب على المقاومة ثم تتحرك في الاتجاه المطلوب .
والنفس الإِنسانية - وهي طاقة كونية - تسير على القانون ذاته ، فلا فرق في طاقات الكون العظمى بين الماديات والمعنويات ! والمادة والطاقة شيء واحد في عرف العلم الحديث !
النية وحدها لا تكفي .. لأنها قوة كامنة لم تتحول إلى حركة وعمل ، ولم تجرب نفسها أمام العقبات !
والآن فلننظر : ما المعوقات " الطبيعية " في حياة الإنسان ، التي لا تكفي " النية " لمقاومتها .. والتي ينبغي تحويل هذه النية إلى قوة حقيقية لتعادلها أولا ، ثم تزيد عليها لتنتج الحركة الحقيقية في واقع الحياة ؟!
معوقات كثيرة كامنة في داخل النفس ، وموجودة كذلك في واقع الحياة .
فمن داخل النفس : الإِلف .. والعادة .. والتقليد .. والرغبة في الحياة السهلة .. وكراهة الجهد .. وكراهة التعرض للتعب والأخطار ..
والعنوان العام الذي يجمعها هو " الهوى " أي الرغبة في الاستجابة لما تهواه النفس من نزعات .
وفي الواقع الخارجي : العرف الاجتماعي الظالم والقوى المنحرفة التي قد توجد في المجتمع وتسيطر عليه .
والعنوان العام الذي يجمعها هو " الطاغوت " أي كل قوة طغت عن حدها وتجاوزت خطها المستقيم .
الهوى من داخل النفس ، والطاغوت من خارجها ، هما " المقاومة " التي ينبغي أن تتحول النية إلى قوة حقيقية لتعادلهما أولا ، ثم تزيد عليهما لتنتج الحركة المستقيمة المتمشية مع ناموس الكون وإرادة الله .
والهوى من داخل النفس ، والطاغوت من خارجها قوى " حقيقية " واقعة متحركة ذات ضغط وثقل واندفاع . ومن ثم فالنية وحدها لا تكفي لمقاومتها ، فضلا عن التغلب عليها لإِحداث الحركة المستقيمة في الطريق الصحيح .
وتلك بديهية من بديهيات النفس وبديهيات الحياة ، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدركها حق إدراكها وهو يقول : " ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ، ولكن هو ما وقر في القلب وصدقه العمل " . كما كان يدركها أصحابه الأوائل وهم يجاهدون ويجهدون ليقيموا أنفسهم على النهج ، ويقيموا المجتمع على قواعد الإِسلام .
ما قيمة النية الطيبة المخلصة في واقع الحياة ؟!
أو - من جانب آخر - ما عيبها ؟
عيبها أنها خداع ! أنها تخيِّل إليك - وأنت تحلم - أنك بدفعة صغيرة قد تستيطع أن تحرك الكون !
ولكنك لم تجرب كم يحتاج من الجهد أن تحرك المنضدة من الأرض !
أنت مقتنع - بإِخلاص - أنك نظيف القلب نقي السريرة مستقيم الطباع ، متصل بالله عامل بما يرضاه .
نعم .. ولكن حين يحتاج ذلك منك أن تمتنع عن رغبة من رغباتك ، أو تغير إلفك وعادتك ، أو تقاليد المجتمع الذي تعيش فيه ؟! حين يحتاج منك أن تقف في وجه الناس تحولهم عن انحرافهم ، أو تدفعهم عن طريقك لكي لا يحرفوا خطواتك عن الطريق .. وينالك من ذلك الأذى والألم والحرمان ؟!
حين يحتاج منك أن تواجه الطاغوت - أي أنواع الطاغوت - وتتعرض حياتك للأخطار ؟!
ما موقفك عندئذ ؟ وما الرصيد " الواقعي " للنية الطيبة الكامنة في ضميرك ؟!
حقا .. إنه لا قيمة لشيء ولا لعمل بدون هذه النية الكامنة في النفس . ولكن هي وحدها ما قيمتها إذا لم تتحول إلى قوة ظاهرة تعمل في واقع الحياة ؟
وهل كان تعنتا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول : " ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ، ولكن هو ما وقر في القلب وصدقه العمل " ؟
أم إن الرسول كان واقعيا إلى أقصى درجات الواقعية ؟
إن الرصيد الحقيقي لهذه النية الطيبة ، هو مقدرتها على مقاومة الهوى من داخل النفس ، والطاغوت من خارجها . فإذا لم تتحول إلى المقاومة الواقعية أو لم تقدر عليها .. فهل تزيد على فقاعة جميلة المنظر تنفثئ عند أول لمسة ، وتضيع في الفضاء ؟!
ومن أجل ذلك لم يكتف الإِسلام قط بالنية الطيبة ، ولم يَتَلَهّ بها عن العمل المثمر في واقع الحياة .
ومن أجل ذلك لم يقل القرآن " الذين آمنوا " وإنما قال دائما : " الذين آمنوا وعملوا الصالحات " .. ما وقر في القلب وصدقه العمل ..
وكان الإسلام بذلك دين الفطرة ، لأنه يتمشى مع فطرة الكون وناموس الوجود .
* * *
وكان ذلك - كما قلنا - بديهية من البديهيات التي فهمها المسلمون الأوائل عن الإسلام .
ومن إدراكهم لهذه البديهية في المفهوم الإِسلامي عملوا في عالم الواقع لتحقيق الفكرة الإِسلامية ، ولم يكتفوا بالأماني الطيبة والمثل المعلقة في الفضاء .
عملوا في السلوك الفردي من ناحية ، وفي الواقع المادي للمجتمع الإسلامي والدولة الإِسلامية من ناحية أخرى .
لم يفهم أحد من المسلمين الأوائل أنه يستطيع أن يكون مسلما - بالنية الطيبة - وهو يخالف الإِسلام في سلوكه الواقعي ، اعتمادا على أن الله " رب قلوب " وأنه مطلع على بواطن النفس ، مدرك للنوايا الطيبة المختفية وراء الأعمال !! وإنما أدركوا أن النية والعمل وجهان لأمر واحد لا دلالة لأحدهما بدون الآخر . النية الطيبة وحدها بدون عمل هي تَمَنٍّ فارغ لا رصيد له من الواقع . والعمل وحده المنقطع عن النية الطيبة ، عمل ضائع في السماء والأرض ، لأن الله لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه خالصاً - وهذا هو معنى النية الطيبة - ومقاييس الأرض ذاتها تكشف الزيف ولو بعد حين !
لم يفهم أحد من المسلمين الأوائل أنه يستطيع أن يكون مسلما - بالنية الطيبة - وهو ينساق مع هواه الذاتي في أمر من أمور الحياة ، إيثارا لمغنم قريب ، أو راحة متاحة ، أو ضنا بالنفس عن التعب والجهد والأخطار ! أو ينساق مع المجتمع - غير المسلم الذي كان يواجهه أولا - في تقاليده أو انحرافه ، إيثارا لراحة البال ، أو حرصا على المكانة والتقدير والاحترام في ذلك المجتمع ، أو صونا للنفس من أذاه ، سواء كان هذا الأذى هو الغمز واللمز والتحقير والسخرية ، أو كان الأذى المادي الذي يؤذي البدن ويحرم من القوت أو يعرض الحياة نفسها للزوال .
إنما أدركوا إن الإِسلام معناه تنفيذ الإِسلام في عالم الواقع . معناه أن السلوك الشخصي لكل منهم يجب أن يكون إسلاميا مهما ترتب على ذلك من الأخطار . وأن المجتمع الذي يتألف منهم يجب أن يكون إسلامياً كذلك ، مهما ترتب على ذلك من الأخطار .
وهنا حقيقة نذكرها ..
إن النفس لا تستقيم دائما على النهج ، ولا تقدر دائما على مواجهة الصعاب .
وإنها لتضعف أحيانا عن هذا وذاك : ( وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً ) (5)
والله يعلم من عباده ضعفهم ، ويقيل منهم عثرتهم ويقبل توبتهم .. ما داموا لا يصرون على العصيان : ( وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ، وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (6) .(5/7)
ولكن هناك فرقا بين هذه الحقيقة المقررة في حياة البشرية ، وبين الظن بأن النية الطيبة وحدها تكفي للحياة وتكفي للإِسلام ! .. فإنما قبل الله التوبة عن عباده وكتب على نفسه الرحمة ، للذين يجاهدون في تحويل النية الطيبة إلى عمل واقعي مثمر ، ثم يسقطون من الجهد في الطريق ، ولكنهم لا يصرون على سقطتهم ، إنما يقومون من عثرتهم ، يتوجهون إلى الله أن يقيلهم منها ، ويقبلهم في عباده .. فيمن الله عليهم بالمغفرة والرضوان : ( إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ) (7) .
* * *
ولم يفهم المسلمون الأوائل أنهم يستطيعون أن يكونوا مسلمين - بالنية الطيبة - ثم يتركوا المجتمع غير المسلم على ما هو عليه ، حتى ولو لم يجاروه في انحرافه وينساقوا معه في الانحراف .
وإنما فهموا أن معنى إسلامهم هو تحويل هذا المجتمع المنحرف إلى مجتمع مسلم يؤمن بالله ويلتزم بحدود ما أنزل الله .. وإلا فما هم بمسلمين !
وكان جهادهم كله هو حصيلة هذه الإِدراك البديهي لمعنى الإِسلام .
الإسلام حركة في داخل النفس وفي حقيقة الواقع .. وما كان من الممكن أن تستقر هذه العقيدة في نفوس المسلمين دون ان تتحول منها إلى واقع الحياة . وهذا هو الذي حدث في المجتمع الأول الذي نشأ فيه الإِسلام . فبمجرد أن استقرت حقيقة الإِيمان في نفوس المسلمين القلائل الذين رباهم الرسول صلى الله عليه وسلم وصنعهم على عينه ، أخذت الحركة تمتد من نفوسهم إلى المجتمع الخارجي المنحرف يريدون تقويمه ، وإلى النفوس الضالة يريدون هدايتها ، وإلى التقاليد المنتكسة يريدون رفعها إلى المستوى اللائق ببني الإِنسان ، مهتدين في ذلك كله بهدي الله ورسوله ، والقدوة العملية المتمثلة في تصرفات الرسول .
ونجحوا .. لأنهم أرادوا ، وعملوا لتحقيق إرادتهم في عالم الواقع بعد أن حققوها في عالم الضمير ، وعندئذ كانوا مسلمين !
* * *
وكان من البديهيات التي أدركها المسلمون الأوائل أن هذا المجتمع - المسلم - ينبغي أن يقوم على شريعة الله ، وأنه لا يمكن أن يكون مسلما بمعزل عن شريعة الله .
وعلى هذه البديهية قام المجتمع الإِسلامي فترة طويلة جدا من الوقت ، وكانت هذه سمته المتفردة التي يعرف بها ، ويتميز بها عن غيره من المجتمعات .
وقد أدرك هذه السمة المميزة في تاريخ الإِسلام - القائمة على تلك البديهية - كل باحث في هذا التاريخ ، حتى المستشرقون ، الذين نصبوا أنفسهم - كما سيجيء في فصول الكتاب - لهدم هذه الركيزة الكبرى ، ومحاولة فصل المجتمع عن الشريعة في حياة المسلمين . حتى هؤلاء المستشرقون أنفسهم أدركوا قوة هذه السمة المميزة ، وعمقها في بنية المجتمع الإِسلامي وشدة رسوخها فيه .
يقول جب Gibb في كتابه " الاتجاهات الإِسلامية المعاصرة Modern Trends in Islam " :
" إن نوع المجتمع الذي تبنيه جماعة لنفسها يتوقف أساساً على معتقداتها حول كنه هذا الكون وغايته ، وحول مكان النفس الإِنسانية فيه . وهذه نظرية مألوفة ألفة كافية ، ولا تفتأ منابر الكنيسة ترددها أسبوعا بعد أسبوع . ولكن ربما كان الإِسلام هو الدين الوحيد الذي قصد في ثبات وإلحاح إلى بناء مجتمع وفق هذا المبدأ ، وقد كانت أداته الرئيسية لتحقيق هذا الغرض هي الشريعة " .
ويقول جرونيباوم Von Grunebaum في كتابه " الإِسلام Islam " ( الأقواس من عندنا للشرح ) :
" إن الأمر الذي اقتضى عشرات السنين من المسيحيين الأوائل لكي يدركوه قد أدركه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بعد سنوات قليلة : وهو أنه ما دامت إرادة الله قد اقتضت أن تمتد الحياة الدنيا فترة من الوقت طالت أو قصرت ، فإن جماعته ( الجماعة الإسلامية ) ينبغي أن تستقر فيها ، في النقاء كامل مع تعاليم الوحي المنزل . ومن ثم أصبحت مهمة الجماعة أن تنشئ نمطاً شاملا للحياة في ظل الله ( أي في ظل الوحي الإِلهي ) يشمل كل وجه من وجوه الوجود البشري ، من أول التصور إلى الدفن ( أي يشمل الأمور الفكرية والمعنوية - التصورية - كما يشمل الأمور السلوكية والمادية ) ويلغي كل تمييز بين المقدس والدنيوي من مظاهر الحياة ، بجعل كل دقيقة من دقائق هذه الحياة متصلة بعضها ببعض برباط الدين ، ومحتاجة إلى مراسم ( دينية ) لتكملتها عند أداء أي عمل من الأعمال مهما كان نوعه . وبهذه الطريقة توحدت صورة السلوك إلى حد ما ، ولكن الحياة كلها حتى أدق تفصيلاتها أعطيت صورة سامية مستمدة من دلالتها الدينية . ولم تكن حياة الفرد وحده هي التي ينبغي أن تتحول إلى مجموعة متسقة من الأعمال التي يتطلبها الله منه ، بل إن المجتمع الإسلامي في مجموعه كان ينبغي أن يحول بالمثل : فصارت الدولة والجيش والخزانة ( بيت المال ) في اصطلاح المؤمنين الأوائل دولة الله وجيش الله وخزانة ( بيت مال ) الله " .
ويقول ولفرد كانتول سميث Wilfed Cantwell Smith في كتابه " الإِسلام في التاريخ المعاصر Islam in Modern History " : في المقدمة : " وإذ كانت السمة الأولى المميزة للعالم الإسلامي هي أنه " إسلامي " فإننا نقدم لبحثنا بمحاولة لتوضيح ما تعنيه هذه الحقيقة " .
ثم يقول في ص 26 - 27 في فصل " الإِسلام والتاريخ " ( الأقواس الشارحة من عندنا ) .
" .. لقد لاحظ الباحثون ( في أمر هذا الدين ) بروز وضع المجتمع في الإِسلام ... ومن البيّن أن المجتمع الإِسلامي ذو تماسك ملحوظ ، وأن ولاء أعضائه وترابطهم عظيم القدر . وقد أدرك كثيرون أن الجماعة ( الإِسلامية ) ليست مجموعة اجتماعية فحسب ، بل مجموعة دينية . وأن " الدين والدولة " أمر واحد إذا استخدمنا تعبيرنا الغربي غير المناسب .. إن المجتمع الإِسلامي لا يترابط بعضه مع بعض - كالمجتمعات الأخرى - بمجموعة من الولاءات والتقاليد فحسب ، وبنظام متقن السبك من القيم والعقائد . ولا هو نتاج مثل أعلى رفيع فحسب ، بل إنه ينبض بالحيوية الناجمة عن اقتناع شخصي عميق ، اقتناع ديني له حرارته ودلالته في نفس كل عضو من أعضائه . ونستطيع أن نقول إن هذا المجتمع - هذه الجماعة - هي التعبير عن المثل الأعلى الديني ، مستخدمين كلمة " ديني " بالمعنى الفردي الذي سبق شرحه . وإذا كانت عقيدة ما أو نظام ثيولوجي ( قائم على أساس ديني ) يمكن أن يكون تعبيرا عن الصورة العقلية للاعتقاد الشخصي - كما هو الشأن في كثير من الحالات ، وفي المسيحية بصفة خاصة - فإن النظام الاجتماعي بما يحويه من ألوان النشاط المختلفة هو التعبير - في صورة عملية - عن الاعتقاد الشخصي للمسلم " .
ولا نحتاج أن نمضي طويلا في اقتطاف النصوص أو تتبعها عند المستشرقين ، فقد أبرزوا كلهم هذه السمة الواضحة في المفهوم الإسلامي والتاريخ الإِسلامي : وهي أن المجتمع الإِسلامي منبثق من العقيدة الإِسلامية وقائم عليها ، بحيث لا يمكن فصل المجتمع عن العقيدة ، ممثلة في سلوك عملي مستمد من التشريع الشامل الذي يأخذ كل منحى من مناحي الحياة .
وقد كانت تلك - كما أسلفنا - بديهية من بديهيات المفهوم الإِسلامي عند المسلمين الأوائل ، فلا إسلام بغير مجتمع مسلم ، ولا إسلام بغير جهد واقعي - من كل فرد مسلم - لإقامة المجتمع على أسس مستمدة من شريعة الإسلام .
* * *
وكان من بديهيات هذه الإِدراك كذلك ان الشريعة الإِسلامية شيء شامل ، يشمل كل نشاط الإِنسان على وجه الأرض .(5/8)
لم يفهموا أن التشريع الإِسلامي يقتصر على العبادات وحدها . أو على " الأحوال الشخصية ! " من زواج وطلاق وعتاق وإرث فحسب . وإنما فهموا أنه يشمل كذلك كل " المعاملات " التي يمكن أن تنشأ في المجتمع ، ما دام هذا المجتمع مسلما - أي قائما على أسس إسلامية - وما دام هذا المجتمع هو التعبير المباشر أو الانبثاق المباشر للفكرة الإِسلامية في عالم الواقع والعيان .
البيع والشراء والملك والرهن والإجارة والدين .. وكل المعاملات " المدنية " أو " الاقتصادية " بين الفرد والفرد أو بين الفرد والمجتمع أو بين الفرد والدولة ، يشرع لها الإِسلام ، وتقوم على أساس من هذا التشريع . فيحل البيع ويحرم الربا ، ويحرم الاحتكار ، ويحرم الغصب والسلب والنهب والغش والجور ، ويحرم تكديس الأموال في أيدي فئة من الأغنياء وحبسها عن بقية المجتمع ، وتؤدي أموال الزكاة وتنفقها الدولة في مصارفها المنصوص عليها ، وتحدد موارد لبيت المال وقواعد لتوزيع المال بين الناس . وتقوم من ذلك كله قواعد للعدالة الاجتماعية يحددها كتاب الله وسنة رسوله ، وتلتزم بها الدولة لتكون دولة مسلمة .
وسياسة الحكم ، وكل ما يترتب عليها من علاقات الفرد بالدولة والدولة بالفرد ، تحددها نصوص القرآن وروحه ، وتحددها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم تحددها الجماعة المسلمة من وحي هذه وتلك . فَيُنَصّ على مبدإ الشورى . وعلى طاعة الله وطاعة الرسول ، وطاعة أولي الأمر المستمدة من طاعتهم لله والرسول كما حددها الخليفة الأول أبو بكر في صراحة حيث يقول : " أطيعوني ما أطعت الله فيكم ، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم " وهو قول مستمد من نص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " (8) .
والتشريع الجنائي له نصوص محدودة واضحة تلتزم الجماعة المسلمة بتنفيذها ، في حد القتل والزنا والسرقة والخمر والردة والإِفساد في الأرض .. وفيما دون الحدود .. ملتزمين كذلك بالشروح النظرية والعملية التي تحتويها السنة ، من مثل : " ادرءوا الحدود بالشبهات " وقبول الفرد المجرم الذي يوقع عليه الحد فردا عاملا في المجتمع المسلم بمجرد توبته وإعلانه الإِقلاع عن جريمته ، وعدم تعبيره بها ولا قفل سبل العيش الشريفة أمامه من أجلها (9) ...
وتقاليد المجتمع وآداب السلوك وآداب الجنس تحددها كذلك تشريعات الإِسلام وتوجيهاته ، فَيُنَصّ على أن السلام والإخاء والتعاون والمودة والبر هي سمات المجتمع المسلم المتصل بالله . وتُحَدّد طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة في المجتمع المسلم تحديداً صريحا واضحاً يشمل كل علاقات الجسد والروح ، ويُبَيّن ما تلبسه المرأة وما لا تلبسه وما تبديه وما تخفيه . وتبين آداب الجنس بما يحفظ نظافة المجتمع في ذات الوقت الذي ترضي فيه الفطرة السليمة وتشبع كل نوازع الحياة المستقيمة (10) .
وهكذا وهكذا تشمل الشريعة كل أمر من أمور الحياة .
* * *
وقد فهم المسلمون الأوائل من التشريع الإِلهي أنه المصدر الدائم للحياة . وأنه لا مصدر سواه - ولا يمكن أن يكون مصدر سواه - لتنظيم الحياة البشرية على الأرض .
وكان هذا بديهية من بديهيات الإيمان الجاد بالله .. وإلا فما معنى هذا الإيمان - حين يكون جاداً ومستقراً في أعماق النفس - إذا لم يكن معناه التصديق بما يقوله الله للناس في كتابه ، من أنه - سبحانه - أراد لهم الخير بما شرع لهم ، وأنه ألزمهم - إلزاماً جاداً - بتنفيذ ما شرع لهم ، وأنه يعتبرهم كافرين وظالمين وفاسقين إذا لم يحكموا بما أنزل الله ؟!
وما معنى الإِيمان الجاد بالله إذا لم يصدق المسلم ما يقوله الله في كتابه ، من أن كل شرع غير شرع الله هو " هوى " لطائفة من البشر ، منحرف عن الحق ، وأن شرع الله وحده هو الحق ، لأنه صادر عن الحق الذي لا يظلم ولا يتبع الأهواء ؟
وما معنى الإِيمان الجاد بالله إذا دار في خلد المسلم أن علم الله محدود ، وأن علم البشر وتجربتهم أفضل من علم الله وأصدق ، وأولى بالاتباع ؟!
وما معنى الإِيمان الجاد بالله إذا دار في خلد المسلم أن هذا التشريع المفصل كله ، الموصول بناموس الكون وقوانين الوجود ، قد كان من أجل تلك الحفنة من العرب في شبه الجزيرة ، وفي فترة محدودة من حياتهم ، هي الفترة القصيرة التي قضاها الرسول صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم ، والله سبحانه وتعالى يقول له في كتابه إن هذا الدين للناس جميعاً : " للعالمين " : ( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ) (11) ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (12) وإن القرآن - بكل ما يحوي من تشريعات وتوجيهات - هو الحق : ( وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ) (13) وهذا الحق موصول بناموس الوجود الأكبر : ( وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (14) فهذا التشريع الحق ، الذي بمقتضاه تجزى كل نفس بما كسبت ، هو من نفس الحق الذي خلق الله به السماوات والأرض ، وليس إذن حقاً جزئيا من أجل تلك الحفنة من العرب في شبه الجزيرة ، ولا موقوتاً بالفترة المحدودة التي قضاها الرسول صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم ، والله يقول للبشرية كافة - للعالمين - في آخر ما نزل من القرآن : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً ) (15) .
ما معنى الإِيمان الجاد بالله إذا دار في خلد المسلم شيء من ذلك كله ، أو ارتاب في " الحق " الذي يحمله هذا الدين ، بكل ما فيه من تشريع وتوجيه ؟
إنه تناقض مع حقيقة الإِيمان بالله .. لا يقدم عليه مسلم صحيح الإيمان صحيح التفكير .
وقد مرت أربعة عشر قرناً منذ نزل هذا التشريع ، ومرت بالبشرية في أقطار الأرض تجارب شتى ، وتفلسف الناس وتعلموا ، ودرسوا في العلوم السياسية ما درسوا ، فإذا الخلاصة التي انتهوا إليها من هذا العلم كله : أن كل تشريع أرضي هو تعبير عن " الطبقة " التي تملك وتحكم ، وأنه يمثل مصالحها هي على حساب بقية الطبقات . فالإِقطاع مرة يحكم ، فيشرع لحساب طبقة الإقطاعيين ولحماية مصالحهم على حساب بقية " الشعب " . ورأس المال مرة يحكم ، فيشرح لحساب طبقة الرأسماليين ولحماية مصالحهم على حساب العمال . ودكتاتورية البروليتاريا مرة تحكم ، فتشرع لحساب طبقة العمال ( نظرياً على الأقل ) على حساب بقية الآدميين .. ولم يحدث غير ذلك في التاريخ .
وهذا هو الذي قرره الله في كتابه ، من أن كل شرع غير شرع الله " هوى " يميل مع أصحابه حيث يميلون .(5/9)
ثم .. لقد مرت أربعة عشر قرناً منذ نزل هذا التشريع ، ومرت بالبشرية في أقطار الأرض تجارب شتى ، فإذا هذه التجارب ذاتها تثبت أن كل ما انحرف به الناس عن شريعة الله قد سبب لهم شقوة مريرة لا تكاد تطاق ، وهدد أمنهم وراحتهم ، ومزقهم شيعاً ، وأذاق بعضهم بأس بعض ، فضلا عن الشقاء العالمي الشامل الذي أنتج في التاريخ المعاصر حربين متتاليتين في ربع قرن ، والثالثة على الأبواب تهدد بأفظع دمار عرفه التاريخ . وفضلا عن تفتت الأسرة وتحلل الأخلاق وتمزق أعصاب الفرد بين شتى الاتجاهات ، مما تشهد به أمراض الجنون والاضطرابات النفسية والعصبية وضغط الدم وحوادث الانتحار التي شهدت منها البشرية في هذا الجيل ما لم تشهده مجتمعاً في أجيال !
* * *
وقد أدرك المسلمون الأوائل مع ذلك - وإن لم يفلسفوا علمهم كما نفعل نحن في هذه الأيام - أن في الطبيعة البشرية عنصراً ثابتاً وعنصراً متغيراً على الدوام ، وإن ارتبط العنصران ارتباطاً كاملا في كيان الإنسان . وأدركوا كذلك أن تشريع الله الدائم للبشرية في جميع عصورها وأجيالها ، قد كفل العنصر الثابت والعنصر المتغير معاً ، وربطهما ربطاً محكماً برباط الدين ورباط العقيدة في الله .
" في الإنسان عنصر ثابت مستمد من حقائق أزلية في تكوينه لا يغيرها تغير الأحوال والظروف :
" أنه صدر عن إرادة الله : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) (16) .
" وأن البشر جميعهم من نفس واحدة : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) (17) .
" وأن من هذا النفس - أي من جنسها - قد خلق " الزوج " الذي يلتقي بها ويوائمها : ( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا (18) ) ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ) (19) .
" وأن من هذه النفس وزوجها انبث الخلق كلهم والشعوب : ( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً (20) ) . ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (21) ) .
" وقد ترتب على هذه الحقائق الأزلية حقائق أخرى فصارت مثلها دائمة لا تتغير :
" ترتب عليها أن يحس الخلق - بفطرتهم ما دامت سليمة - يحسوا بعظمة الله بالقياس إلى ضآلتهم فيعبدوه ، ويستمدوا منه العون في الحياة .
" وترتب عليها أن يحس الزوجان - اللذان خلقهما الله من نفس واحدة - بحنين والتصاق بعضهما ببعض ، وأن وجودهما لا يتكامل إلا متحدين متوادين متراحمين .
" وترتب عليها أن يحس الناس - حين تصفو سريرتهم وتنظف نفوسهم - بالأخوة في الإِنسانية ، إذ هم من نفس واحدة ذات رحم مع الجميع ، فيتعاونوا ويتشاركوا في الخير .
" تلك عناصر دائمة لأنها ترتكز على أسس دائمة .
" وثمت عناصر أخرى تجدّ كل يوم ، نتيجة تطور المعلومات البشرية ، والتفاعل الدائم بين العقل والكون ، يحاول أن يتعرف أسراره ، ويستكنه كنهه ، ويستخرج كنوزه ، ويسخرها لمنفعته ، فتقوم أوضاع جديدة ، وينتقل الناس من بداوة إلى حضارة ، ومن زرع إلى صناعة ، ومن صناعة إلى .. ؟
" والإِسلام دين الفطرة ، يجاري الفطرة البشرية في جانبيها جميعا
" الجانب الأول يعطيه شرائع ثابتة . والجانب الآخر يعطيه أسسا ثابتة ، ثم يترك له مجال التطور الدائم في إطار تلك الأسس الثابتة ، متمشيا في ذلك مع فطرة الكون وفطرة الحياة .
" الجانب الأول يعطيه العقيدة . والعقيدة في الله واحدة لا تتغير ، لأن الأساس الذي تقوم عليه ثابت لا يتغير .
" وإلى جانب العقيدة يعطيه كذلك تشريعات الزواج والطلاق والحدود وتشريعات مدنية ودولية مختلفة .
" الزواج والطلاق - أو العلاقة بين الرجل والمرأة عامة - عنصر ثابت له تشريع ثابت ، لأنه يرتكز على أسس لا تتغير . هي الرجل من جهة ، والمرأة من جهة ، والعلاقة الشديدة التي تجذب كلا منهما للآخر وتشده إليه .
" والحياة تتغير ظروفها : المجتمع يتغير ، والاقتصاد يتغير ، ونظم التعليم تتغير . والسياسة تتغير . ولكن ذلك لا يغير شيئا من الحقيقة الثابتة التي تحكمها الفطرة بفسيولوجيتها وبيولوجيتها ، وغددها وكيماوياتها ، وهي أن الرجل رجل والمرأة إمرأة . ولا غنى لأحدهما عن الآخر ولا انفصال ولا استقلال (22)
" والحدود - أي العقوبات المفروضة على الجرائم - عنصر ثابت كذلك لأنه يرتكز على شيء ثابت : هو علاقة الإِنسان بأَخيه الإِنسان - أو علاقة الفرد بالمجتمع - وحرمة كل إنسان التي لا يجوز أن يعتدي عليها الآخرون .
" والحياة تتغير ظروفها : ارتباطات العمل تتغير . وعلاقات الإنتاج تتغير . وعلاقات الإِنسان " بالآلة " تتغير . والنظم السياسية تتغير . ولكن ذلك لا يغير شيئاً من الحقيقة الثابتة التي تحكمها وقائع التاريخ البشري . وهي أن الناس كلهم من نفس واحدة ، وعلاقة الرحم تربط الجميع " (23) .
" وكذلك بعض التشريعات المدنية لها صفة الثبوت كالبيع والإِجارة والرهن والدين والوكالة .. إلخ . فكانت لها تشريعات ثابتة . ومثلها التشريعات الدولية لتي تحكم علاقات الدول في السلم والحرب .
" أما الجانب المتطور من الحياة البشرية ، وهو في الوقت ذاته متصل بالجانب الثابت ، فهو سياسة الحكم وسياسة المال ، و " شكل " المجتمع أو شكل البيئة من بدوية إلى زراعية إلى تجارية إلى صناعية .. إلخ
" وتلك أمور كما قلنا تتطور بتطور العقل البشري وتفاعله مع الكون ، ولكنها في تطورها لا تنفصل عن الأصل الثابت ، ولا يمكن أن تنفصل ، بحكم وحدة الإِنسان وترابطه ، واستحالة تجزئته وتقطيعه ، وفصل بعضه عن بعض .
" وفي هذه الأمور كان الإِسلام حكيما غاية الحكمة ، مسايراً للفطرة ملبياً لحاجتها ، فوضع الخطوط العريضة ولم يضع التفصيلات . أو وضع " الإِطار " الذي يريد للبشرية أن تتطور في حدوده ، وترك لكل جيل من الأجيال المتعاقبة أن يضع " الصورة " التي تناسبه وتعجبه ، وتتفق مع مزاجه وظروفه المادية ومبلغه من العلم والإِنتاج . بشرط واحد . هو أن تكون الصورة على قدر الإِطار ، لا أكبر منه فيتحطم ، ولا أصغر منه قيبدو حولها الفراغ .
" في سياسة الحكم وضع أساسين : العدل والشورى : ( وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) (24) ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ) (25)
" ثم لم يحدد طريق الشورى . وهل يكون مجلس واحد أَو مجلسان . وهل ينتخب المجلس أو يعين . وهل يكون التمثيل شخصياً أو مهنياً .. إلخ .. إلخ .. وترك ذلك للتجارب البشرية واجتهادها في التطبيق .
" وفي سياسة المال وضع مجموعة من الأسس ذات طابع واحد يجمعها في النهاية : هو ضرورة اشتراك الناس في الخير ، بحيث لا يكون منه محروم .
" قرر القرآن أن المال في الأصل مال الله ، وهو أعطاه للجماعة : ( آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ) (26) . ( وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) (27)(5/10)
" وقرر أن الجماعة هي صاحبة الحق الأول فيه ، وأن الفرد " موظف " فيه يستحقه بحسن قيامه عليه ، فإذا لم يحسن القيام عليه عاد إلى الجماعة صاحبة الحق الأول فيه : ( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً ) (28) .
" وقرر أن الله يكره حبسه في يد فئة قليلة من الناس تتداوله فيما بينها ويحرم فيه مجموع الشعب : ( كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ) (29) .
" وقرر فريضة الزكاة على الأموال حقا معلوما للفقراء ، تأخذه لهم الدولة وتعطيه لهم من بيت المال : ( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ... ) (30) .
" والرسول صلى الله عليه وسلم يقول :" الناس شركاء في ثلاث : الماء والكلأ والنار " (31) .
ويقول : " لأن يمنح أحدكم أخاه ( أرضه ) خير له من أن يأخذ خرجاً معلوما " (32) .
" وعمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : " لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها بين أهليها كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر " (33) .
" ثم لم يحدد طريق اشتراك الناس في مال الله الذي أعطاه للجماعة . وهل تكون بتأميم المرافق العامة . أم تكون بإشراك العمال في رأس المال ، أم تكون بإعطائهم الأجور التي تكفل حاجاتهم الضرورية التي بينها الرسول في حديثه : " من ولي لنا عملا وليس له منزل فليتخذ منزلا ، أو ليست له زوجة فليتخذ زوجة ، أو ليس له خادم فليتخذ خادما ، أو ليست له دابة فليتخذ دابة " (34) .
" لم يحدد صورة معينة من هذه الصور ، وترك الأجيال المتعاقبة تفكر لنفسها في الصورة التي تناسبها ، وتتلاءم مع إمكانياتها . ولم يضع - في سياسة المال أو سياسة الحكم - تفصيلات ثابتة جامدة ، لكي لا تصطدم بالنمو المطرد في أحوال الجماعة ، والتطور المستمر فيها . ولكنه مع ذلك لم يدع هذه الأمور تفلت من الأصول الثابتة . ولم يدعها للناس يتصرفون فيها بلا دليل ، بحجة أنهم أعلم بأمور " دنياهم " ! فقد كان هذا التصرف الحر - في أوربا ، وفي خارج الإِطار الإِسلامي عامة - شناعة بشعة يندى لها جبين الإنسانية " المتطورة " ! كان الإقطاع في أوربا ثم كانت الرأسمالية بكل ما فيهما من مظالم غنية عن الوصف .
وكلاهما حرام في نظر الإِسلام ، فهما يجعلان المال - سواء في صورة أرض أو رأسمال - دُولة بين الأغنياء وحدهم ، ويحرم منه بقية الشعب . ثم كان الخلاص منهما هو الشيوعية - أي العبودية المطلقة للدولة ، والدكتاتورية المطلقة على الأفراد !
" والإِسلام - كلمة الله لجميع البشر على الأرض ولجميع الأجيال - لم يكن ليترك الناس لمثل هذا " التطور " الذي يرسفون فيه في الأغلال ، وإنما يأخذ بيدهم دائماً ويرشدهم ، حتى وهو يترك لهم حرية النمو وحرية التكيّف مع ما يجدّ من الأوضاع ، ليكلا يشردوا عن الطريق ، ولكي يحتفظوا بتحررهم الوجداني الدائم في جميع الأوضاع وجميع الأحوال " (35) .
وقد أدرك المسلمون الأوائل ذلك كله ، وإن لم يفلسفوه كما نصنع نحن ، فكان فقههم كله في الأمور الثابتة هو شرح النصوص وبيان حالات انطباقها مع المحافظة الكاملة عليها ، كما كان فقههم في الأمور المتغيرة - مع المحافظة الدائمة على أصولها - هو قولة عمر بن عبد العزيز : " يجدّ للناس من الأقضية ( من الأحكام ) بقدر ما يجد لهم من القضايا " .
* * *
وأدرك المسلمون كذلك من مفهوم الإِسلام أن الأرض والسماء حسبة واحدة !
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة ، فاستطاع ألا تقوم حتى يغرسها ، فليغرسها فله بذلك أجر " .
" وأول ما يخطر على البال - من هذا الحديث - هو هذه العجيبة التي تتميز بها الفكرة الإِسلامية : أن طريق الآخرة هو هو طريق الدنيا بلا اختلاف ولا افتراق !
" إنهما ليسا طريقين منفصلين : أحدهما للدنيا والآخر للآخرة ، وإنما هو طريق واحد يشمل هذه وتلك ، ويربط ما بين هذه وتلك .
" ليس هناك طريق للآخرة اسمه العبادة . وطريق للدنيا اسمه العمل .
" وإنما هو طريق واحد أوله في الدنيا وآخره في الآخرة . وهو طريق لا يفترق فيه العمل عن العبادة ولا العبادة عن العمل . كلاهما شيء واحد في نظر الإِسلام . وكلاهما مختلطان ممتزجان . وكلاهما يسير جنباً إلى جنب في هذا الطريق الواحد الذي لا طريق سواه .
" العمل إلى آخر لحظة من لحظات العمر . إلى آخر خطوة من خطوات الحياة . يغرس الفسيلة والقيامة تقوم هذه اللحظة . عن يقين !
" وتوكيد قيمة العمل ، وإبرازه ، والحض عليه ، فكرة واضحة شديدة الوضوح في مفهوم الإِسلام . ولكن الذي يلفت النظر هنا ليس تقدير قيمة العمل فحسب ، وإنما هو إبرازه على أنه الطريق إلى الآخرة الذي لا طريق سواه .
" وقد مرت على البشرية فترات طويلة في الماضي والحاضر ، كانت تحس فيها بالفُرقة بين الطريقين . كانت تعتقد أن العمل للآخرة يقتضي الانقطاع عن الدنيا ، والعمل للدنيا يزحم وقت الآخرة .
" وكانت هذه الفرقة بين الدنيا والآخرة عميقة الجذور في نفس البشرية ، لا تقف عند هذا المظهر وحده ، وإنما تتعداه إلى مفاهيم أخرى تتصل بالكيان البشري في مجموعه .
" فالدنيا والآخرة مفترقتان .
" والجسم والروح مفترقان .
" والمادي يفترق عن اللامادي .
" والفيزيقا - بلغة الفلاسفة - تفترق عن الميتافيزيقا .
" والحياة العملية تفترق عن الحياة المثالية أو عن مفاهيم الأخلاق .
" إلى آخر هذه التفرقات التي تنبع كلها من نقطة واحدة ، هي التفرقة بين الدنيا والآخرة ، أو بين الأرض والسماء .
" .....
" والكيان النفسي بحكم فطرته التي فطره الله عليها .. وحدة .
" وحدة تشمل الجسم والعقل والروح . تشمل " المادة " و " اللامادة " . تشمل شهوات الجسد ورغبات النفس وتأملات العقل وسبحات الروح . تشمل نزوات الحس الغليظة وتأملات الفكر الطليقة ورفرفات الروح الطائرة .
" ولا شك أن جزئيات هذا الكيان متعارضة ، وأن كلا منها جانح في اتجاه .
" ذلك إذا تركت وشأنها ، ينبت كل نابت منها على هواه !
" ولكن العجيبة في هذا الكيان البشري ، عجيبة الفطرة التي فطره الله عليها ، أن هذا الشتات النافر المنتثر ، يمكن أن يجتمع ، يمكن أن يتوحد ، يمكن أن يترابط ، ثم يصبح - من عجب - في وحدته تلك وترابطه ، أكبر قوة على الأرض ! ذلك حين تقبس الذرة الفانية من قوة الأزل الخالدة ، فتشتعل وتتوهج ، وتصبح طليقة كالنور .. تمتزج فيها المادة واللامادة فهما سواء .
" والطريق الأكبر لتوحيد هذا الشتات النافر المنتثر ، وربطه كله في كيان ، هو توحيد الدنيا والآخرة في طريق .
" عندئذ لا تتوزع الحياة عملا وعبادة منفصلين ، ولا تتوزع النفس جسما وروحا منفصلين ، ولا تتوزع الأهداف عملية ونظرية ، أو واقعية ومثالية لا تلتقيان .
" حين يلتقي طريق الدنيا بطريق الآخرة ، وينطبقان فهما شيء واحد ، يحدث مثل هذا في داخل النفس ، فتقترب الأهداف المتعارضة ، ويلتقي الشتات المتناثر ، ثم ينطبق الجميع فهو شيء واحد . وتلتقي النفس المفردة - بكيانها الموحد - تلتقي بكيان الحياة الأكبر ، وقد توحدت أهدافه وارتبط شتاته ، فتتلاقى معه وتستريح إليه وتنسجم في إطاره ، وتسبح في فضائه كما يسبح الكوكب المفرد في فضاء الكون ، لا يصطدم بغيره من الأفلاك ، وإنما يربطها جميعاً قانون واحد شامل فسيح .
" والإسلام يصنع هذه العجيبة . ويصنعها في سهولة ويسر .(5/11)
" يصنعها بتوحيد الدنيا والآخرة في نظام : ( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) . ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) .
" وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم الترجمة الكاملة الصادقة للفكرة الإِسلامية . ومن ثم كانت الدنيا والآخرة في نفسه طريقاً واحدا و " حسبة " واحدة " (36) .
* * *
وأدرك المسلمون كذلك أن " العبادة " في المفهوم الإِسلامي معنى شامل جداً ، يشمل كل نشاط الحياة :
" من أبرز سمات المنهج الإِسلامي أنه منهج عبادة ، ولكن العبادة في هذا المنهح ليست مقصورة على مناسك التعبد المعروفة من صلاة وصيام وزكاة .. وإنما هي معنى أعمق من ذلك جداً .. إنها الصلة الدائمة بالله .
" هذه الصلة في الحقيقة هي منهج التربية كله . تتفرع منه جميع التفريعات وتعود في النهاية إليه .
" والصلاة والصيام والزكاة والحج ، وسائر الشعائر التعبدية ، إن هي إلا مفاتيح . مجرد مفاتيح للعبادة ، أو " محطات " يقف عندها السائرون في الطريق يتزودون بالزاد . ولكن الطريق كله عبادة . وكل ما يقع فيه من نسك أو عمل ، أو فكر أو شعور ، فهو كذلك عبادة .. ما دامت وجهته إلى الله .
" والعبادة بهذا المعنى تشمل الحياة .
" إنها لا تقتصر على اللحظات القصيرة التي تشغلها مناسك التعبد ، وما كان هذا هو القصد من الآية الكريمة : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) (37) . وإلا فما قيمة لحظات عابرة في صفحة الكون ، لا تكاد تترك لها أثراً وتضيع في الفضاء ؟
" إنما قيمتها أن تكون منهج حياة يشمل كل الحياة . قيمتها أن تكون خطة سلوك وخطة عمل وخطة فكر وخطة شعور ، قائمة كلها على منهج واضح ، يتبين فيه - كل لحظة - ما ينبغي وما لا ينبغي أن يكون .
" ومرد الأمور كلها في ذلك هو الله ، هو المرجع الذي يرجع إليه في كل أمر ، ودستوره هو الدستور الذي يستشار في كل لحظة . يستشار في داخل القلب وفي وعي العقل وفي واقع السلوك .
" وهذه هي العبادة في مفهوم الإِسلام .
" ليس معناها أن يتزهد الإِنسان ويتنسك ويترهبن .
" وليس معناها أن تستولي التقوى على قلبه في السجود والركوع ، فإذا ختم صلاته هبت في داخل نفسه نوازع الطمع والجشع والعدوان . أو تخاذل عن القيام بالأمانة . أو ضعف عن نصرة الحق . أو تواكل عن العمل المنتج في عالم الحس
" كلا ! فما هو إذن موصول القلب بالله . إنه " متسكع " في " محطة العبادة " لكنه لا يسير في الطريق .
" والعبادة هي السير في الطريق ، مع التزود بين الحين والحين ؛ السير في الطريق والقلب يحمل الشحنة الحية الواصلة ، التي تدفع للعمل . تدفع دائماً إلى الأمام .
" والإِسلام صريح في اعتبار العمل هو العبادة ، ما دام القلب يتجه فيه إلى الله : ( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (38) ) .
" هذا هو منهج العبادة الذي يرسمه الإِسلام ويقيم عليه أسسه التربوية ، ويشترط فيه الصدق مع الله ، والتقوى لله ، أي الصلة الدائمة بالله (39) " .
* * *
وأدرك المسلمون أن الإِسلام معناه الاستعلاء .
( وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (40)
أنتم الأعلون .. إن كنتم مؤمنين . فالاستعلاء صفة المؤمنين . ولكن أداته محددة واضحة لا تحتمل لبسا ، ولا تختلط بغيرها من الأدوات : " إن كنتم مؤمنين " أداته هي الإيمان !
إن الاستعلاء ليس مصدره قوة مادية أو معنوية من قوى الأرض . ليس مصدره المال . ولا الإِنتاج المادي . ولا العصبية القومية . ولا العصبية العنصرية . ولا أي معنى من هذه المعاني التي يستعلي بها الناس في جاهلياتهم المتكررة على مدار التاريخ .
إنما الاستعلاء مصدره الإِيمان .. وحده .
ولم يكن هذا خداعا من الله سبحانه لعبادة المؤمنين !
وإنما كان تربية لهم على الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
فالشخص المؤمن - المهتدي بهدي الله ، والمهتدي - من ثم - إلى ناموس الكون وناموس الحياة - هو فعلا شخص " أعلى " من بقية المخلوقات . " أعلى " لأنه يشرف على الكون من أفق أكبر وأضخم من آفاق البشر الذين لم يفتح الله عليهم بنعمة الإيمان . وفكرته عن الله والكون والحياة أكبر وأضخم من فكرتهم . وفكرته عن الإِنسان خاصة ، وعن الحياة الإنسانية ، هي أوسع وأشمل فكرة يمكن أن تخطر على قلب إنسان .
ثم إن هذه الفكرة الواسعة الشاملة عن الإنسان والحياة والكون ، هي ذاتها التي تحقق لهذا الاستعلاء في عالم الواقع ، رصيده من القوة المادية والمعنوية ، فإذا هو استعلاء متحقق في عالم الواقع كتحققه في عالم النفوس .
وقد أدرك المسلمون الأوائل هذه الحقيقة على أوسع مجالاتها وأعمقها .
فقد كان كل فرد منهم يدخل الإيمان في قلبه يحس من فوره أنه إنسان جديد أعلى من كل ما حوله من جاهليات الأرض .
ولم يكن ذلك - كما يبدو لأول وهلة - لأن الاهتداء إلى فكرة التوحيد ، يكشف للنفس عن تفاهة الأوثان وتفاهة التعبد إليها فيبعث في النفس الاستعلاء عليها . لقد كان هذا حقيقة ، ولكنه لم يكن كل الحقيقة في أمر الاستعلاء .
فلم تكن الوثنية مجرد " عقيدة " يواجهها المسلم بفكره وضميره فيستعلي عليها .
وإنما كانت " قوة " مادية ومعنوية .. قوة تتمثل في الرجال والمال والسلاح .. كما تتمثل في النفوذ والسيطرة والقدرة على الأذى والقدرة على الحيلولة بين الهدى وبين الوصول إلى الناس .
وهذا كله هو الذي استعلى عليه المسلمون الأوائل وهم أفراد ضئيلو العدد ضئيلو القوة ، لا حول لهم ولا طول . وصمدوا للكيد كله حتى انتصروا عليه .
فلم يكن استعلاء الفكر والمشاعر وحده . ولكنه استعلاء له رصيد في عالم الواقع يواجه القوة المادية والمعنوية ، المتمثلة في باطل الجاهلية التي تقف في طريق المؤمنين وتحاول تحطيمهم بكل سبيل .
ومرة أخرى استعلى المسلمون على جاهلية تفوقهم في القوة المادية والمعنوية حين جابهوا الفرس والروم .(5/12)
فحين واجه المسلمون الفرس والروم ولم يستعلوا بعددهم - فقد كانوا قلة بالنسبة لهؤلاء - ولا بالمال فقد كانوا - بعد - أمة فقيرة تعيش على الكفاف ، ولا بالسلاح فقد كان أعداؤهم يفوقونهم لا بنوع السلاح وحده ، ولكن كذلك بالتنظيم الحربي والتمرس بفنون القتال المنظم على نطاق واسع ، غير ما عهده العرب في غاراتهم الصغيرة قبل الإسلام . ولا بعربيتهم - فقد كانوا فخورين بها حقاً ، ولكنها لم تدفعهم من قبل أبداً إلى مواجهة تلكما الإمبراطوريتين العتيدتين ، بل كانت بعض القبائل العربية تخدم نفوذهما ، وتعمل أجيرة لهما لتصد عنهما هجمات الأعراب . ولا بحضارتهم ، فقد كانت الإِمبراطوريتان دون شك أعلى حضارة بما لا يقاس من سكان شبه الجزيرة في جميع العصور !
وإنما استعلوا بشيء واحد : هو الإيمان . استعلوا بإحساسهم أنهم - وهم مؤمنون - أفضل من كل هذه الخلق ، مهما كان عددها وقوتها وعتادها وحضارتها ونظمها وقوانينها وتشريعاتها .. فكلها انحرافات جاهلية ما دامت لا تهتدي بهدي الله ولا تتبع شريعة الله .
ثم كانت العجيبة التي علم الله أنها لا بد أن تحدث حين يستعلي الناس بالإِيمان على طريقة الإِسلام !
فقد سعت هذه القوة المستعلية بالإِيمان ، إلى تحقيق ذاتها في عالم الواقع - في كل ميدان من ميادين القوة - فتعلمت العلم ، وتعلمت فنون الحرب ، وتزودت بأنواع السلاح ، وتعلمت الحضارة . وتحقق لها في عالم الواقع أن كانت أكبر قوة في تاريخ الأرض ، فاندفعت شرقاً وغرباً بسرعة مذهلة لا مثيل لها في التاريخ ، واندفعت - مستعلية - تنشر الهدى وتدك الباطل دكا ، متغلبة على جميع العوائق المرصودة في الطريق .
وفي كل مرة انتصر فيها المسلمون ، لم يكن مصدر استعلائهم أنهم ذوو رجال أو مال أو جيوش أو علم أو حضارة . وإنما كان مصدر استعلائهم أنهم مؤمنون . أنهم على الحق . والجاهلية من حولهم على الباطل .. ثم بعد ذلك - بعد الانتصار - صارت لهم الرجال والمال والجيوش والعلم والحضارة .. وحققوا من استعلائهم الداخلي بالإيمان استعلاءهم الخارجي بكل أنواع القوة والسلطان .
* * *
وأدرك المسلمون كذلك من مفهوم الإسلام أن الإِنسان قوة فاعلة في هذه الأرض .
أدركوا ذلك من توجيهات القرآن وسنة الرسول ، كما أدركوه من " الواقع " الذي عاشوه بتوجيه الله والرسول .
فهموا من قوله تعالى : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) (41) أن الإنسان هو خليفة الله في الأرض ، المكلف بعمارتها وتنمية الحياة فيها بجهده وكدحه : ( يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ) (42) وأن الله قد سخر للإِنسان - من أجل القيام بمهمة الخلافة هذه - كل ما في السماوات والأرض : ( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ) (43) ولكن عليه أن يسعى بكدحه الخاص لاستخلاص ما سخر له الله من أرزاق وطاقات : ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ) (44) .
كما فهموا من قوله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) (45) أن أحداث الحياة لا تحدث جزافاً . صحيح أن كل شيء يحدث بإرادة الله ، وأن لله علم ما في السماوات والأرض ، وأن عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو .. ولكن إرادة الله العليا قد اقتضت تكريم الإَِنسان - خليفته على الأرض - بإعطائه هذا الدور الإِيجابي في الحياة ، ويجعل إرادة الله ماضية عن طريق إرادة الإِنسان . وهكذا تصبح إرادة الإِنسان - وأعماله - هي التي تصنع التاريخ وتصنع الأحداث . لأن الله - مع قدرته المطلقة سبحانه - لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، ولا يحدث لهم غير ما يحدثونه هم بأنفسهم لأنفسهم .
كما فهموا كذلك من قوله تعالى : ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ) (46) أن الفساد ليس قدراً غيبياً ينزل بالأرض وهي غافلة عن أسبابه ، وإنما ينزل بالأرض بما كسبت أيدي الناس . فالناس هم القوة الفاعلة في حياة الأرض ، وحسبما يعملوا تكن نتيجة عملهم في الخير أو الشر .
ومن هذه المفاهيم كلها التي استوحوها من القرآن ، واستوحوها من جهاد الرسول الواقعي في مكافحة الشر ونشر الهدى ، ومن واقعهم الذي عاشوه في مواجهة جاهليتهم الأولى في شبه الجزيرة وبقية الجاهليات في الأرض .. أدركوا أن عليهم هم أن يعملوا بأنفسهم في واقع الأرض . وأن الدين الذي يؤمنون به ويؤمنون بأنه الخير كله ، لا يقوم بذاته ، ولا ينتشر من تلقاء نفسه - وإن كان الله قادراً على ذلك - إنما يقوم بمجهودهم هم ، وعلى قدر مجهودهم ، ويقوم بمحافظتهم هم عليه ، وعلى قدر محافظتهم . وأنهم إن وهنوا أو تهاونوا في صغيرة أو كبيرة من أمر هذا الدين ، فسيصاب الدين بقدر ما يهنون أو يتهاونون . وأن عليهم من أجل ذلك أن يظلوا في يقظة دائمة لذات أنفسهم وللمجتمع المسلم الذي يعيشون فيه وللعالم من حولهم . وإلا فلا نصر ولا قوة ولا استعلاء ولا سلطان . لأن هذا كله لا يتحقق إلا بالإيمان الصحيح .. وذلك هو معنى الإِيمان . وهذا معنى قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (47)
يقول ولفرد كانتول سميث الذي سبق أن أشرنا إليه ، في مقارنة طويلة معجِبة بين نظرة الهندوكي والمسيحي والمسلم والماركسي لفكرة التاريخ ، ص 32 من كتابه " الإِسلام في التاريخ المعاصر " :
" يرى المسلم ، مثل الماركسي ، وعلى غير ما يرى الهندوكي ، أن ما يحدث هنا في هذه الأرض ذو دلالة باقية ولا مفر منها . إن بناء حياة الجماعة في الأرض على أسس سليمة هو الأمر الحتمي الأسمى . ولا شك أن المحاولة الإِسلامية بالنسبة لكل المحاولات التي بذلت لنشر العدالة بين الناس كانت وما تزال إلى هذه اللحظة أشدها جداً وأكثرها جهداً . وإلى ما قبل قيام الماركسية كانت كذلك أكبرها وأشدها طموحاً . ومع ذلك فهي تفترق عن الماركسية في أن الإِسلام يرى أن كل حدث دنيوي له مرجعان ، ويُنظر إليه في ضوءين معاً . فكل حركة يتحركها إنسان تتوافق ( مع غيرها ) في عالم الخلد وفي العالم الموقوت معاً . وخط السير المستمر للأمور الدنيوية هو مسرحية جماعية تعرض ما تنجزه الجماعة من عمل .. وفي ذات الوقت هو مجموعة من الأعمال المفردة المتميزة بعضها عن بعض ، يُسأل كل فرد بمفرده يوم القيامة عن نصيبه الذاتي فيها . أي أن كل عمل له نتائج من نوع معين في هذه الدنيا ، ونتائج من نوع آخر في العالم الآخر . وبعبارة أخرى فإن كل عمل ينبغي أن يوزن في ذاته ، كما يوزن من حيث صلته بالتطور التاريخي .(5/13)
" ويستطيع الميتافيزيقي أن يقول إن هذا اللون من الحكم ( على الأعمال ) أقرب إلى الحقيقة الموضوعية لهذا العالم الذي نعيش فيه ، ولهذا الكائن ( البشري ) الذي يتكون منه البشر ، وللحياة التي يتكون منها تاريخ معيشتنا ، من أية نظرة ذات جانب واحد تنكر وجود قيم خلقية أسمى من الواقع الأرضي المستمر في الجريان . فالتاريخ ذو دلالة ، ذو معنى مطلق ، ولكن معناه لا ينتهي في ذاته . بل الأحرى أن هناك معايير ومقاييس ، أعلى من موكب الحوادث التي يتكون منها التاريخ ، وبهذه المعايير والمقاييس يمكن ، وينبغي ، الحكم على هذه الأحداث التاريخية ، وهي تُحكم بمقتضاها بالفعل ( في الفكرة الإسسلامية ) " .
* * *
كذلك كان مفهوم الإِسلام في نفوس المسلمين .
وكانت حصيلة هذا المفهوم بأصوله وتفريعاته سمات معينة اتسم بها المجتمع الإِسلامي ، وسلوكا معينا اتخذه المسلمون ، تميزوا به عن المجتمعات الأخرى كلها من قبلهم ومن بعدهم ، كما سجل ذلك المؤرخون جميعاً ، يستوي في ذلك المسلمون منهم ، والمستشرقون .
تميز هذا المجتمع بالطاعة لله وللرسول . طاعة جادة لا تتلكأ ولا ترتاب ..
وتظل الفروق الفردية بين الناس في مدى طاعتهم قائمة . ويظل الضعف البشري الذي يقعد بالنفس عن بلوغ المستوى السامق والاستواء عليه قائماً كذلك . ولكن هذا وذلك لا يغيران شيئاً من الحقيقة الواقعة التي تبلغ أن تكون سمة للمجتمع كله ، يسجلها من يعيشون فيها ومن يطلعون عليها من الخارج ، كما يسجلها الباحثون في غضون التاريخ .. سمة الطاعة الجادة لله ولرسوله ، بلا تلكؤ ولا ارتياب .
لم يحدث - في غير المجتمع الإسلامي - أن قام مجتمع بأسره يحاول تنفيذ أوامر الله ، ويحاول إقامة المجتمع كله على أساس تعليماته ، نتيجة الإِيمان الجاد بها ، الإِيمان الذي يرسخ في أعماق النفس ، ويستقر في أعماق الضمير .
كل فرد في هذا المجتمع يحس - بطبيعة إسلامه - أنه مكلف . مكلف بتبعات معينة لا فكاك منها ، ولا محاولة للجدال فيها ، حتى حين تضعف عنها النفس ، وتنزوي عن القيام بالأمانة ، فهو ضعف يقرّ به صاحبه ولا يتبجح ، ولا يقول إن حكمه هو في الأمر خير أو أصح من حكم الله ورسوله .
كل فرد يحس أنه مكلف بطاعة الله وتنفيذ أوامر الله .
مكلف أن يكون هو في ذات نفسه مسلماً ، منفذاً لتعاليم الإِسلام .
مكلف أن يكون سلوكه الشخصي مطابقا للصورة التي يريدها الله ورسوله للفرد المسلم ، لا في الكليات فحسب ، بل في أدق التفصيلات ؛ حتى طريقة السلام ، حتى طريقة الجلوس والمشي ، حتى طريق تنظيف الفم والأسنان .
ويحس - في أعماق ضميره - أنه لا يوجد صغير وكبير في هذه التكاليف . لا يوجد مهم وتافه . لا يوجد ضروري وغير ضروري .. إلا ما أباح الله ورسوله الخيار فيه بين الرخصة والعزيمة ، فهو عندئذ وما يستطيع . أما التكاليف المنصوص عليها فهي للطاعة والتنفيذ . التنفيذ الجاد المقترن بالإِيمان بالله . والإِيمان بأن الإنسان لا يكون مسلما إذا لم ينفذها بحذافيرها ، وبالصورة التي عينها الله ورسوله . يستوي في ذلك سواك الأسنان والجهاد في المعركة . حتى ليربط المسلمون بين هذه وتلك ، ويفسرون إبطاء النصر عليهم في إحدى المعارك بأنهم قد أهملوا السواك ! فينبه بعضهم بعضاً إلى الواجب المتروك ليستحقوا نصر الله !
ذلك أن مصدر السواك واحد في الأمرين : الطاعة لله وللرسول .
ويحس كل فرد مسلم أن عليه واجبا في ذات نفسه وواجبا في المجتمع الذي يعيش فيه .
واجبه في ذات نفسه - كما أسلفنا - أن يصنع من نفسه : من شعوره وتفكيره وسلوكه العملي جميعاً صورة مسلمة ، مطابقة - بقدر ما تطيق طبيعته - للصورة الإسلامية الصحيحة التي بينها القرآن وسنة الرسول . فيحب الناس ، ولا يحقد عليهم ، ولا يغتابهم ولا يلمزهم ، ولا يؤذيهم في كرامتهم ، كما لا تمتد يده بالأذى إلى أموالهم وأعراضهم ودمائهم ، ويخلص لهم النصيحة والمودة والإِخاء . ويرعى الله في عمله فلا يغش ولا يخدع ولا يسلب ولا يغتصب . ولا يتقاعد عن العمل وهو قادر عليه . ويؤدي أماناته لله ، وهي أمانات شتى تبدأ بأمانة الإِيمان بالله والاعتقاد بربوبيته والطاعة له ، وتتفرع عنها كل الأمانات الأخرى من عبادات ومعاملات .
وواجبه في المجتمع الذي يعيش فيه أن يعينه ويشترك معه ويحمل نصيبه من التبعة في إقامة هذا المجتمع على الأسس الإسلامية النظيفة القويمة . فلا يكفي أن يكون هو ذاته في سلوكه صورة من الفرد المسلم . وإنما ينبغي - لكي يتم إسلامه ويصح - أن يسعى لأن يكون المجتمع كله هو الصورة الإِسلامية . وأن يحتمل في سبيل ذلك ما يكلفه إياه من الجهد والمشقة والجهاد .
أحس كل فرد مسلم وكل مسلمة أن هذا واجبهما في ذات نفسهما وفي مجتمعهما . لا فكاك ولا نكوص ولا تلكؤ ولا ارتياب .
ومن هنا كان المجتمع الأول - في مجموعه - هو تلك الصورة الوضيئة النظيفة .. النظيفة في الخلق وفي السياسة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية والنشاط الفكري والروحي والعملي والحربي .. وكل منحى من مناحي الحياة .
لم يحس المسلم أنه سيعبد ربه - فيما بينه وبين نفسه - ثم يكون سلوكه العملي كيف شاء أو كيف شاء أي مجتمع آخر غير مسلم . كما لم يحس أنه يستطيع أن يترك مجتمعه ينحرف عن سلوك الإِسلام .
ولم تحس المسلمة أنه ستعبد ربها - فيما بينها وبين نفسها - ثم يكون سلوكها في ملبسها وزينتها وطريقة تعاملها مع الرجل وطريقة تفكيرها وشعورها كيف شاءت ، أو كيف شاء أي مجتمع آخر غير مسلم . كما لم تحس أنها تستطيع أن تترك مجتمعها ينحرف عن سلوك الإِسلام .
إنما أحس كلاهما أن واجب إسلامه يلقي عليه تبعة ضخمة في ذات نفسه وفي ذات مجتمعه . تلزمه أن يكون في يقظة دائمة لكل صغيرة وكبيرة يأتيها هو أو مجتمعه . يقظة يحس فيها أنه في كل أمر من هذه الأمور محاسب أمام الله ، وأن عليه أن يحاسب فيها نفسه قبل أن يحاسبه الله .. وبذلك كانوا مسلمين !
* * *
ثم كانت حصيلة هذا الإِدراك لمفهوم الإِسلام ، أن أحست تلك الجماعة المسلمة أنها - بطاعتها لله واتباعها لشريعته وأوامره - هي القوة العليا في هذه الأرض . هي القوة المسيطرة المهيمنة ، التي ينبغي أن تأخذ بزمام البشرية كلها وتقودها إلى الطريق القويم .
لم يدخل في هذا الإحساس أي تقدير أو مقارنة للقوى المادية أو المعنوية بين هذه الجماعة وجماعات الأرض الأخرى التي لا تهتدي بهدي الله .
ولو دخل في حسابهم أي تقدير أو مقارنة بين عدد الرجال وقوة السلاح وقوة العلم وقوة الحضارة وقوة التنظيم . إلى آخر تلك القوى المادية والمعنوية ، لنكص المسلمون على أعقابهم ، بل لما فكروا قط في التحرك ، بل لا نزووا في داخل أنفسهم مدحورين مهزومين .. يحسون بالضآلة ويحسون بالهوان !
وإنما دخل في حسابهم شيء واحد . هو الحقيقة التي تنبع منها جميع الحقائق . أنهم هم المؤمنون . هم الطائعون لله ورسوله . وإذن فهم الأعلون . وكل قوى الأرض إزاءهم ضئيلة ضئيلة لا يقام لها حساب .
ثم كان هذا حقاً ...
فبطاعتهم لله ورسوله أصبحوا حقاً هم القوة العليا في هذه الأرض . القوة المسيطرة المهيمنة ، التي أخذت بزمام البشرية كلها وقادتها إلى الطريق القويم .
ولم يكن الفتح الحربي وحده هو حصيلة هذا الإحساس . وإن كان في ذاته ظاهرة مذهلة في التاريخ البشري .
وإنما كان الإسلام " حركة " قوية مندفعة بكامل حيويتها في كل اتجاه .(5/14)
فالنظم والحضارات التي وجدها الإِسلام في طريقه ، سرعان ما استوعبها ، وأعطاها روحه ، فصارت نظماً وحضارة إسلامية ، ثم بسطها الإِسلام - بصورتها الإِسلامية - في كل مكان وطئته أقدام المسلمين .
و " العلم " الذي وجده الإِسلام في البلاد المفتوحة ، سرعان ما تبناه ، وتوفر عليه ، دراسة وبحثاً وتعميقاً وتوسعة ؛ ثم أعطاه طابعه الخاص فصار علماً إسلامياً ، ثم بسطه الإِسلام - بصورته الإِسلامية - في كل مكان وطئته أقدام المسلمين ، واستنار به لا المسلمون فحسب ، بل كل متعلم على ظهر الأرض .
يقول " جب " في كتابه " الاتجاهات المعاصرة في الإسلام " :
" أعتقد أنه من المتفق عليه أن الملاحظة التفصيلية الدقيقة التي قام بها الباحثون المسلمون قد ساعدت على تقدم المعرفة العلمية مساعدة مادية ملموسة ، وأنه عن طريق هذه الملاحظات وصل المنهج التجريبي إلى أوربا في العصور الوسطى :
ويقول " بريفولت في كتابه " بناء الإنسانية Making of Humanity " :
" لقد كان العلم أهم ما جادت به الحضارة العربية على العالم الحديث ... ولم يكن العلم وحده هو الذي أعاد إلى أوربا الحياة ، بل مؤثرات أخرى كثيرة من مؤثرات الحضارة الإسلامية بعثت باكورة أشعتها إلى الحياة الأوربية . ولكن على الرغم من أنه ليس ثمت ناحية واحدة من نواحي الازدهار الأوربي إلا ويمكن إرجاع أصلها إلى مؤثرات الثقافة الإِسلامية بصورة قاطعة ، فإن هذه المؤثرات توجد أوضح ما تكون ، وأهم ما تكون ، في نشأة تلك الطاقة التي تكوّن ما للعالم الحديث من قوة متميزة ثابتة ، وفي المصدر القوي لازدهاره : أي في العلوم الطبيعية وروح البحث العلمي " .
وغير هذا وذلك من تقاليد الحياة وأساليبها ، وقيمها ومبادئها ، نشرته هذه الجماعة المسلمة المؤمنة بالله ، الطائعة لأوامره ، وظل راسخاً في بنية البشرية حتى بعد أن انحسر العالم الإِسلامي وتخلى عن مهمته الأصيلة في الهيمنة على البشرية وقيادتها في الطريق القويم ، مما قرره مؤرخو الغرب المنصفون أنفسهم حتى وهم يكرهون الإِسلام ، ويكيدون للإِسلام !
ولكن الصورة الكاملة للمفهوم الإِسلامي عن المسلمين الأوائل ، لن تتم في أذهاننا ، ولن نتصورها على حقيقتها ، حتى نرى إلى جانب هذه الصورة العامة ، صورة واقعية من الحياة الإِسلامية كما تتبين في نماذج من المجتمع المسلم .
نماذج من المجتمع المسلم
قلنا في الفصل السابق إن المفاهيم العامة للإِسلام لا يتم تصورها حتى نراها في صورة واقعية من حياة المجتمع المسلم الذي عاش هذه المفاهيم بالفعل ، وأخذها أخذاً جاداً ، فانفعلت بها نفسه ، وحققها في واقع سلوكه .
والمعتاد - وهو أمر طبيعي - حين تؤخذ نماذج للمجتمع المسلم ، أن تؤخذ هذه النماذج من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، والصحابة البارزين الذين حققوا في ذوات أنفسهم بطولات فذة ، خالدة في تاريخ الإِنسان وفي ضمير الكون .
وهو أمر طبيعي كما قلت . فالرسول صلى الله عليه وسلم هو الأسوة والقدوة . وقد كانت كل دقيقة من دقائق حياته مبسوطة أمام المسلمين لتكون لهم النموذج الكامل الدائم الذي يرجعون إليه في كل تصرفاتهم ، ويحاولون - بقدر ما يطيقون - أن يقبسوا منها ويقتدوا بها ، ويتأسوا بها في الشدائد والصعاب .
والصحابة رضوان الله عليهم هم نماذج " بشرية " .. صحيح أنها نماذج ممتازة ، نادرة في التاريخ البشري ، ولكنهم ولا شك بشر تشربت أرواحهم النور العلوي فارتفعت به ، وصارت إلى تلك النماذج العالية التي تشرف بها البشرية في جميع أعصارها وجميع أحوالها . والتأسي بهم والاقتداء بأعمالهم وأفكارهم ومشاعرهم محاولة مفتوحة أمام المسلمين في كل جيل ، يصلون منها إلى ما تقدر نفوسهم عليه .
فأخذ النماذج من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم ، أمر طبيعي حين يراد إعطاء صورة بارزة مكتملة للمجتمع المسلم ، خالدة على مدار التاريخ .
ولكنا هنا في هذا الكتاب خاصة ، الذي نتحدث فيه عن الإِسلام " الشعبي " إن صح التعبير ، الإسلام المطلوب من كل فرد ، والمفروض فيه أن يقدر عليه كل فرد ، مع عمل حساب للفروق الفردية بين الناس في الطاقات والاستعدادات ، وعمل حساب للضعف البشري " الطبيعي " الذي يقعد بالإِنسان عن بلوغِ القمة التي تقدر عليها طاقاته واستعداداته ، أو يقعد به عن الاستواء على هذه القمة حتى إذا وصل إليها أحياناً ...
هنا في هذا الكتاب خاصة لا نريد أن نقصر نماذجنا على حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان قدوة المسلمين في كل وقت وكل جيل ، ولا على الصحابة رضوان الله عليهم وإن كانوا دون شك من عمل الإِسلام ، ونتيجة من نتائجه . بل لا نريد أن نقصر هذه النماذج على فترات البطولة الصاعدة في حياة الأفراد العاديين ، التي ترتفع بهم على ذواتهم ، وتجعل منهم أبطالا خالدين في ضمير الكون ، ولو لم يسجل التاريخ العادي منهم إلا مجرد أسماء .. أو أشخاصاً بلا أسماء !
إنما نريد أن نعرض - إلى جانب هذا كله - نماذج من حالات " الضعف البشري " في المجتمع المسلم ، حالات الهبوط عن القمة السامقة المطلوبة أو المرغوبة ، لنعطي صورة واقعية لهذا المجتمع في جميع صوره وحالاته من جهة ، وليعرف الناس من جهة أخرى أن الإِسلام نظام واقعي في مواجهتته للنفس البشرية والواقع البشري ، وأنه لا يحملهم فوق طاقاتهم ، ولا يفترض فيهم الرفعة الدائمة التي لا تسقط أبداً ولا تهبط أبداً ، ولا يطلب منهم أن يلغوا بشريتهم ليكونوا مسلمين ، وإنما يعاملهم على أنهم بشر ، ويتطلب منهم ما يقدر عليه البشر . ثم ليرى الناس من جهة ثالثة كيف كان الإِسلام في المجتمع المسلم يواجه لحظات الضعف العارضة ، التي تعرض للناس في حياتهم بسبب ثقلة الأرض وجواذبها ، وكيف كان يسعى إلى علاجها لترتفع النفوس من جديد ، وتصل إلى المستوى المطلوب ثم إلى المستوى المرغوب .
والآن نعرض هذه النماذج كما تعرض لنا بغير ترتيب معين مقصود :
* * *
" جاء أعرابي يوماً يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً فأعطاه . ثم قال له : أحسنت إليك ؟ قال الأعرابي : لا . ولا أجملت ! فغضب المسلمون ، وقاموا إليه ؛ فأشار إليهم أن كُفُّوا . ثم دخل منزله ، وأرسل إلى الأعرابي وزاده شيئاً ، ثم قال : أحسنت إليك ؟ قال : نعم . فجزاك الله من أهل ومن عشيرة خيراً . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : إنك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي شيء من ذلك ، فإذا أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي ، حتى يذهب من صدورهم ما فيها عليك . قال : نعم . فلما كان الغداة جاء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن هذا الأعرابي قال ما قال ، فزدناه ، فزعم أنه رضي . أكذلك ؟ فقال الأعرابي : نعم . فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً . فقال صلى الله عليه وسلم : إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة شردت عليه ، فتبعها الناس ، فلم يزيدوها إِلا نفورا ؛ فناداهم صاحب الناقة : خلوا بيني وبين ناقتي ، فإني أرفق بها وأعلم . فتوجه لها صاحب الناقة بين يديها ، فأخذ لها من قمام الأرض ، فردها هوناً هونا ، حتى جاءت واستناخت ، وشد عليها رحلها ، واستوى عليها . وإني لو تركتكم حيق قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار " .
* * *(5/15)
أخرج أحمد والبخاري ومسلم من طريق الزهري ، قال أخبرني عبد الرحمن ابن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب بن مالك وكان قائد كعب من بنيه حين عمي - قال : سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غوة تبوك ، قال كعب : لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك ... وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة ؛ والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة ؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة إلا ورّى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد ، واستقبل سفراً بعيداً ومفاوز ، واستقبل عدداً كثيراً ، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم ، فأخبرهم بوجههم الذي يريد ، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير لا يجمعهم كتاب حافظ ( أي سجل تسجل فيه أسماؤهم ) .
" قال كعب رضي الله عنه : فقلّ رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى عليه ( من كثرة عددهم ) ما لم ينزل فيه وحي من الله عز وجل . وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال ، وأنا إليها أصغو ، فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه ، وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولا أقضي شيئاً ، فأقول لنفسي : أنا قادر على ذلك إن أردت . فلم يزل ذلك يتهادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو ، فهممت أن أرتحل فأدركهم ، وليت أني فعلت ؛ ثم لم يقدر لي ذلك فطفقت إذا خرجت في النس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنني أني لا أرى لي أسوة إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق ، أو رجلا ممن عذر الله ، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك ، فقال وهو جالس في القوم بتبوك : " ما فعل كعب بن مالك ؟ " فقال رجل من بني سلمة : يا رسول الله حبسه برداه والنظر في عطفيه ( أي الكسل والترف ) فقال له معاذ بن جبل : بئس ما قلت ، والله يا رسول الله ما علمنا عنه إلا خيراً ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
" قال كعب بن مالك : فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توجه قافلا من تبوك حضرني بثي فطفقت أتذكر الكذب ، وأقول : بماذا أخرج من سخطه غداً ؟ وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي . فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً زاح عني الباطل حتى عرفت أني لم أنج منه بشيء أبداً ، فأجمعت صدقه ؛ وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادماً ، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع ركعتين ثم جلس للناس . فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له . وكانوا بضعا وثمانين رجلا . فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم . ووكل سرائرهم إلى الله ، حتى جئت فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب ثم قال لي : تعال . فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي : ما خلّفك ؟ ألم تكن قد اشتريت ظهرك ( أي راحلتك ) فقلت : يا رسول الله والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر . لقد أعطيت جدلا . ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى عني به ليوشكن الله أن يسخطك عليّ . ولئن حدثتك بحديث صدق تجد فيه علي ( تسخط علي ) وإني لأرجو فيه عقبى من الله . والله ما كان لي عذر . والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك . فقال صلى الله عليه وسلم : " أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك " فقمت . وبادرني رجال من بني سلمة وأتبعوني فقالوا لي : والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا ؛ لقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون . فلقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فو الله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذب نفسي . ثم قلت لهم : هل لقي هذا معي أحد ؟ قالوا : نعم . لقيه معك رجلان قالا ما قلت ، وقيل لهما مثل ما قيل لك . فقلت : من هما ؟ قالوا : مرارة بن الربيع وهلال بن أمية الواقفي ، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدوا بدرا ، لي فيهما أسوة ، فمضيت حين ذكروهما لي .
" قال : ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه ، فاجتنبنا الناس - أو قال : تغيّروا لنا - حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي الأرض التي كنت أعرف . فلبثنا على ذلك خمسين ليلة . فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما . وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم ، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف بالأسواق فلا يكلمني أحد . وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة وأقول في نفسي : هل حرك شفتيه برد السلام أم لا ؟ ثم أصلي قريباً منه وأسارقه النظر ، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ فإذا التفتّ نحوه أعرض عني . حتى إذا طال ذلك من هجر المسلمين مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة - وهو ابن عمي وأحب الناس إليّ - فسلمت عليه . فو الله ما رد عليّ السلام . فقلت له يا أبا قتادة أنشدك الله تعالى : هلى تعلم أني أحب الله ورسوله ؟ قال : فسكت . فعدت فنشدته فسكت . فعدت فنشدته . قال : الله ورسوله أعلم . ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار .
" وبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول : من يدل على كعب بن مالك ؟ فطفق الناس يشيرون له إليّ حتى جاء فدفع إليّ كتابا من ملك غسان وكنت كاتباً فقرأته فإذا فيه : " أما بعد فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ؛ ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة . فالحق بنا نواسك " . فقلت حين قرأتها : وهذه أيضاً من البلاء . فتيممت بها التنور فسجرتها . حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذ برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك . فقلت : أطلقها أم ماذا أفعل ؟ قال : بل اعتزلها ولا تقربنها . وأرسل إلى صاحبيّ مثل ذلك . فقلت لامرأتي : الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر . فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن هلالاً شيخ ضائع وليس له خادم فهل تكره أن أخدمه ؟ قال : " لا . ولكن لا يقربنك " . فقالت : إنه والله ما به من حركة إلى شيء ، ووالله ما زال يبكي من لدن أن كان من أمرك ما كان إلى يومه هذا . فقال لي بعض أهلي : لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك ، فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه . فقلت : والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أدري ما يقول إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب .(5/16)
" قال : فلبثنا عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا . قال : ثم صليت الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا ، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله منا : قد ضاقت عليّ نفسي وضاقت عليّ الأرض بما رحبت ، سمعت صارخا أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته : يا كعب بن مالك أبشر . فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء الفرج . فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر . فذهب الناس يبشروننا وذهب قِبل صاحبي مبشرون ، وركض إليّ رجل فرسا وسعى ساع من أسلم قبلي وأوفى على الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس ، فلما جاء الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيّ فكسوتهما إياه ببشارته ، والله ما أملك غيرهما يومئذ . فاستعرت ثوبين فلبستهما فانطلقت أؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقاني الناس فوجا بعد فوج يهنئونني بالتوبة ويقولون : ليهنك توبة الله عليك . حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحوله الناس ، فقام إليّ طلحة بن عبيد يهرول حتى صافحني وهنأني . والله ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيره . قال : فكان كعب رضي الله عنه لا ينساها لطلحة .
" قال كعب رضي الله عنه : فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور : " أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك " . قلت : أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله ؟ قال : " لا بل من عند الله " . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر ، وكنا نعرف ذلك منه . فلما جلست بين يديه قلت يا رسول الله : إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم . قال : " أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك " . فقلت : إني أمسك سهمي الذي بخيبر . وقلت : " يا رسول الله إنما أنجاني الله بالصدق . وإن من توبتي أن لا أحدّث إلا صدقا ما بقيت " . والله ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني الله تعالى . والله ما تعمدت كلمة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذبا . وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي " .
* * *
قال ابن اسحق في حديثه عن غزوة بني المصطلق سنة ست على المريسيع ( ماء لهم ) : " فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك الماء بعد الغزو ، وردت واردة الناس ، ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له جهجاه بن مسعود يقود فرسه ، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهني حليف بني عون ابن الخزرج على الماء ، فاقتتلا ، فصرخ الجهني ، يا معشر الأنصار ، وصرخ جهجاه : يا معشر المهاجرين . فغضب عبد الله بن أبيّ بن سلول ، وعنده رهط من قومه ، فيهم زيد بن أرقم وهو غلام حدث . فقال : أو قد فعلوها ؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا . والله ما أعدّنا وجلابيب قريش ( الجلابيب اسم كان المنافقون يلقبون به المهاجرين ) إلا كما قال الأول : سَمِّنْ كلبك يأكلك ! أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . ثم أقبل على من حضره من قومه فقال لهم : هذا ما فعلتم بأنفسكم : أحللتموهم بلادكم ، وقاسمتموهم أموالكم ، أما والله لو أمسكتم عنهم بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم . فسمع ذلك زيد بن أرقم فمشى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدوه فأخبره الخبر وعنده عمر بن الخطاب . فقال : مُرْ به عباد بن بشر فليقتله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ؟ لا . ولكن أذن بالرحيل " . وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها . فارتحل الناس ؛ وقد مشى عبد الله بن أبي بن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن زيد بن أرقم قد بلغه ما سمع منه ، فحلف بالله ما قلت ما قال ولا تكلمت به . وكان في قومه شريفا عظيما . فقال من حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار من أصحابه : يا رسول الله عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه ولم يحفظ ما قال الرجل - حدبا على ابن أبي بن سلول ودفعا عنه
قال ابن إسحق : فلما استقل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار لقيه أسيد بن حضير فحياه بتحية النبوة وسلم عليه . ثم قال : يا نبي الله والله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أو ما بلغك ما قال صاحبكم ؟ " قال : وأي صاحب يا رسول الله ؟ قال : " عبد الله بن أبي " . قال : وما قال ؟ قال : " زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل " . قال : فأنت يا رسول الله والله لتخرجنه منها إن شئت . هو والله الذليل وأنت العزيز . ثم قال : يا رسول الله ارفق به . فو الله لقد جاءنا الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه . فإنه ليرى أنك استلبته ملكا !
" ثم مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى ، وليلتهم حتى أصبح ، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس . ثم نزل بالناس ، فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياما ، وإنما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشغل الناس عن الذي كان بالأمس من حديث عبد الله بن أبيّ .
قال ابن اسحق : ونزلت السورة التي ذكر الله فيها المنافقين ، في ابن أبيّ ومن كان على مثل أمره ، فلما نزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذن زيد بن أرقم ثم قال : " هذا الذي أوفى إلى الله بإذنه " .. وبلغ عبد الله بن أبيّ الذي كان من أمر أبيه .
قال ابن اسحق : فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن عبد الله أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبيّ فيما بلغك عنه . فإن كنت لا بد فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه . فو الله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبرّ بوالده مني . وإني أخشى أن تأمر غيري فيقتله ، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبيّ يمشي في الناس ، فأقتله ، فأقتل مؤمنا بكافر ، فأدخل النار . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا " .
" وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنفونه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك من شأنهم " كيف ترى يا عمر ؟ أما والله لو قتلته يوم قلت لي اقتله لأرعدت له أنف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته " قال : قال عمر : قد والله علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري " .
وذكر عكرمة وابن زيد وغيرهما أن الناس لما قفلوا راجعين إلى المدينة وقف عبد الله بن عبد الله بن أبيّ على باب المدينة واستل سيفه ، فجعل الناس يمرون عليه ، فلما جاء أبوه عبد الله بن أبيّ قال له ابنه : وراءك ! فقال : ما بك ؟ ويلك ! فقال : والله لا تجور من ها هنا حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه العزيز وأنت الذليل ! فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إنما يسير ساقة ( أي في مؤخرة الجيش ينظر المتخلف والضال والمحتاج إلى معونة ) فشكا إليه عبد الله بن أبي ابنه . فقال ابنه عبد الله : والله يا رسول الله لا يدخلها حتى تأذن له . فإذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أما إذ أذن لك رسول الله صلى الله عليه سولم فَجُز الآن !" ...(5/17)
" وهذا عبد الله ( ابن عبد الله بن أبيّ ) رضي الله عنه وأرضاه نموذج رفيع للمسلم المتجرد الطائع : يشقى بأبيه ويضيق بأفاعيله ويخجل من مواقفه ، ولكنه يكن له ما يكنه الولد البار العطوف . ويسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يقتل أباه هذا . فيختلج قلبه بعواطف ومشاعر متباينة ، يواجهها هو في صراحة وفي قوة وفي نصاعة . إنه يحب الإِسلام ويحب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحب أن ينفذ أمره ولو في أبيه . ولكنه لا يطيق أن يتقدم أحد فيضرب عنق أبيه ويظل يمشي على الأرض بعده أمام ناظريه . وهو يخشى أن تخونه نفسه ، وألا يقدر على مغالبة شيطان العصبية ، وهتاف الثأر . وهنا يلجأ إلى نبيه وقائده ليعينه على خلجات قلبه ، ويرفع عنه هذا العنت الذي يلاقيه . فيطلب منه إن كان لا بد فاعلا أن يأمره هو بقتل أبيه . وهو لا بد مطيع . وهو يأتيه برأسه . كي لا يتولى ذلك غيره ، فلا يطيق أن يرى قاتل أبيه يمشي على الأرض ، فيقتله ، فيقتل مؤمناً بكافر .. فيدخل النار ..
" وإنها لروعة تواجه القلب أينما اتجه وأينما قلّب في هذا الموقف الكريم . روعة الإيمان في قلب إنسان وهو يعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكل إليه أشق عمل على النفس البشرية - أن يقتل أباه - وهو صادق النية فيما يعرض . يتقي به ما هو أكبر في نظره وأشق .. وهو أن تضطره نوازعه البشرية إلى قتل مؤمن بكافر ، فيدخل النار .. وروعة الصدق والصراحة وهو يواجه ضعفه البشري تجاه أبيه وهو يقول : " فو الله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبرّ بوالده مني . وهو يطلب من نبيه وقائده أن يعينه على هذا الضعف ويخرجه من هذا الحرج ، لا بأن يرد أمره أو يغيره - فالأمر مطاع والإِشارة نافذة - ولكن بأن يكل إليه هو أن يأتيه برأسه !
" والرسول الكريم يرى هذه النفس المؤمنة المتحرجة ، فيمسح عنها الحرج في سماحة وكرامة : " بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا " .. ومن قبل هذا يكف عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رأيه : " فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه " ؟
" ثم تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم في الحادث تصرف القائد الحكيم .. وأمره بالسير في غير أوان ، ومتابعة السير حتى الإِعياء ، ليصرف الناس عن العصبية المنتنة التي أثارها صياح الرجلين المتقاتلين : يا للأنصار ! يا للمهاجرين ! وليصرفهم كذلك عن الفتنة التي أطلقها المنافق عبد الله بن أبي بن سلول ، وأرادها أن تحرق ما بين الأنصار والمهاجرين من مودة وإخاء فريدين في تاريخ العقائد وفي تاريخ الإنسان ..
" وأخيراً نقف أمام المشهد الرائع الأخير : مشهد الرجل المؤمن عبد الله بن عبد الله بن أبيّ ، وهو يأخذ بسيفه مدخل المدينة على أبيه فلا يدعه يدخل ، تصديقاً لمقاله هو : " ليخرجن الأعز منها الأذل " ليعلم أن رسول الله هو الأعز ، وأنه هو الأذل . ويظل يقفه حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأذن له . فيدخلها بإذنه . ويتقرر بالتجربة الواقعة من هو الأعز ومن هو الأذل . في نفس الواقعة . وفي ذات الأوان .
" ألا إنها لقمة سامقة تلك التي رفع الإيمان إليها أولئك الرجال . رفعهم إلى هذه القمة وهم بعد بشر بهم ضعف البشر ، وخوالج البشر . وهذا هو أجمل وأصدق ما في هذه العقيدة ، حين يدركها الناس على حقيقتها ، وحين يصبحون هم حقيقتها التي تدب على الأرض في صورة أناسي تأكل الطعام وتمشي في الأسواق " (48)
* * *
قال أنس بن مالك : " بينما أنا أدير الكأس على أبي طلحة وأبي عبيدة بن الجراح وأبي دجانة ومعاذ بن جبل وسهيل ابن بيضاء حتى مالت رءوسهم من الخمر ، إذ سمعت مناديا ينادي : ألا إن الخمر قد حرّمت . قال : فما دخل علينا داخل ولا خرج منا خارج حتى أهرقنا الشراب وكسرنا القلال . وتوضأ بعضنا ، واغتسل بعضنا ، وأصبنا من طيب أم سليم ثم خرجنا إلى المسجد " (49) .
وعن أبي بريدة عن أبيه قال : " بينما نحن قعود على شراب لنا ونحن نشرب الخمر ، إذ قمت حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه ، وقد نزل تحريم الخمر ، فجئت أصحابي فقرأت الآية عليهم إلى قوله : " فهل أنتم منتهون ؟ " قال : وبعض القوم شربته في يده شرب بعضاً وبقي بعض في الإِناء ، فأراقوا ما في كئوسهم ، ثم صبوا ما في باطيتهم وقالوا : انتهينا ربنا . انتهينا ربنا " (50)
" وما تكونت عصابات للتهريب ، ولا لجأت الدولة إلى أحكام الإِعدام والسجن ومصادرة الأموال والأملاك ، ولكنها المبادرة إلى التنفيذ في يسر وطاعة امتثالا لأمر القرآن (51) " .
وعن صفية بنت شيبة قالت :
" بينما نحن عند عائشة ، قالت : فذكرن نساء قريش وفضلهن ، فقالت عائشة : إن لنساء قريش لفضلا ، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار ولا أشد تصديقا لكتاب الله ، ولا إيمانا بالتنزيل . لما نزلت في سورة النور : ( وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ) انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم منها ، يتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وعلى كل ذي قرابته ، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرجّل فاعتجرت به (52) تصديقا وإيمانا بما أنزل الله من كتاب " (53) .
* * *
" كان المشركون في مكة قد منعوا عددا من المؤمنين من الهجرة وحبسوهم بها وقيدوهم بالأغلال وعذبوهم ليفتنوهم عن دينهم ، فلما كان عهد الحديبية ، نص فيه على أن من يهرب منهم ويأتي المدينة يرده الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة . وقد استطاع أبو بصير " عتبة بن أسيد " أن ينفلت من محبسه ، وسار على قدميه سبع ليال حتى وصل المدينة ، فبعث المشركون في إثره برجلين ليتسلماه وفاء بعهد الحديبية ، وكان موقفا عنيفا على المؤمنين أن يردوا شابا مؤمنا إلى المشركين ليعذبوه بعد ما لقي منهم من عذاب وما بذل من جهد ومشقة حتى بلغ المدينة ، وظن أبو بصير أنه قد أمن واستراح من الفتنة والعذاب ، ولم يتصور أن يسلمه الرسول صلى الله عليه وسلم لأعدائه . فلما أمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرجع ، ودفعه إلى سفيري قريش ، قال : يا رسول الله تردني إلى المشركين يفتنوني في ديني ؟ فقال له : " يا أبا بصير : إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر ، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المسلمين فرجا ومخرجا " . فقال أبو بصير متعجبا : يا رسول الله ! تردني إلى المشركين ؟! فقال له : " انطلق يا أبا بصير ، فإن الله سيجعل لك مخرجا " . ودفعه إلى الرجلين ليعودا به إلى مكة " (54) .
* * *(5/18)
" قال رجل من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان : يا أبا عبد الله . أرأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه ؟ قال : نعم يا ابن أخي قال : فكيف كنتم تصنعون ؟ قال والله لقد كنا نجهد . فقال : والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض ولحملناه على أعناقنا . قال ، فقال حذيفة : يا ابن أخي ، والله لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق ، وصلى رسول الله صلى عليه وسلم هوياً من الليل ثم التفت إلينا فقال : " من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع - يشرط له رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجعة - أسأل الله تعالى أن يكون رفيقي في الجنة ؟ " فما قام رجل من القوم من شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد ، فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني . فقال : " يا حذيفة اذهب فادخل في القوم فانظر ماذا يصنعون ، ولا تحدث شيئاً حتى تأتينا " قال : فذهبت ، فدخلت في القوم ، والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل ، ولا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء . فقام أبو سفيان فقال : يا معشر قريش لينظر امرؤ من جليسه ... ثم قال أبو سفيان : يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام . لقد هلك الكراع والخف ( يعني الخيل والجمال ) وأخلفتنا بنو قريظة ، وبلغنا عنهم الذي نكره ، ولقينا من شدة الريح ما ترون . ما تطمئن لنا قدر ولا تقوم لنا نار ولا يستمسك لنا بناء . فارتحلوا إني مرتحل ... قال حذيفة : فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي في مرط ( أي كساء ) لبعض نسائه مرجل ( من وشي اليمن ) فلما رآني أدخلني إلى رجليه ، وطرح على طرف المرط ، ثم ركع وسجد وإني لفيه . فلما سلم أخبرته الخبر .. وسمعت غطفان بما فعلت قريش فانشمروا راجعين إلى بلادهم " .
" ... لقد كان الهول الذي واجهه المسلمون في هذا الحادث من الضخامة ، وكان الكرب الذي واجهوه من الشدة ، وكان الفزع الذي لقوه من العنف ، بحيث زلزلهم زلزالا شديدا ، كما قال عنهم أصدق القائلين : ( هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً ) ..
" لقد كانوا ناسا من البشر . وللبشر طاقة . لا يكلفهم الله ما فوقها . وعلى الرغم من ثقتهم بنصر الله في النهاية ، وبشارة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم ، تلك البشارة التي تتجاوز الموقف كله إلى فتوح اليمن والشام والمغرب والمشرق . على الرغم من هذا كله ، فإن الهول الذي كان حاضرا يواجههم كان يزلزلهم ويزعجهم ويكرب أنفاسهم .
" ومما يصور هذه الحالة أبلغ تصوير خبر حذيفة . والرسول صلى الله عليه وسلم يحس حالة أصحابه ، ويرى نفوسهم من داخلها ، فيقول : " من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع ؟ " - يشرط له الرسول صلى الله عليه وسلم الرجعة - ومع الدعاء المضمون بالرفقة مع رسول الله في الجنة فإن أحدا لا يلبي النداء . فإذا عين بالاسم حذيفة قال : فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني ! .. ألا إن هذا لا يقع إلا في أقصى درجات الزلزلة ..
" ولكن إلى جانب الزلزلة ، وزوغان الأبصار ، وكرب الأنفاس .. كان إلى جانب هذا كله الصلة التي لا تنقطع بالله ، والإِدراك الذي لا يضل عن سنن الله ، والثقة التي لا تتزعزع بثبات هذه السنن ، وتحقق أواخرها متى تحققت أوائلها . ومن ثم اتخذ المؤمنون من شعورهم بالزلزلة سببا في انتظار النصر . ذلك أنهم صدقوا قول الله سبحانه من قبل : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ) .. وها هم أولاء يزلزلون : فنصر الله إذن منهم قريب ! ومن ثم قالوا : ( هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ) .. ( وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً ) .
( هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ ) .. هذ الهول وهذا الكرب وهذه الزلزلة وهذا الضيق ، وعدنا عليه النصر . فلا بد أن يجيء النصر : ( وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ) صدق الله ورسوله في الأمارة وصدق الله ورسوله في دلالتها . ومن ثم اطمأنت قلوبهم لنصر الله ووعد الله : ( وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً ) .
" لقد كانوا ناسا من البشر ، لا يملكون أن يتخلصوا من مشاعر البشر وضعف البشر . وليس مطلوبا منهم أن يتجاوزوا حدود جنسهم البشري ، ولا أن يخرجوا من إطار هذا الجنس ، ويفقدوا خصائصه وميزاته . فلهذا خلقهم الله . خلقهم ليبقوا بشرا ، ولا يتحولوا جنسا آخر . لا ملائكة ولا شياطين ، ولا بهيمة ولا حجرا .. كانوا ناسا من البشر يفزعون ويضيقون بالشدة . ويزلزلون للخطر الذي يتجاوز الطاقة . ولكنهم كانوا - مع هذا - مرتبطين بالعروة الوثقى التي تشدهم إلى الله ؛ وتمنعهم من السقوط ؛ وتجدد فيهم الأمل وتحرسهم من القنوط . وكانوا بهذا وذاك نموذجا فريدا في تاريخ البشرية لم يعرف له نظير .
" وعلينا أن ندرك هذا لندرك ذلك النموذج الفريد في تاريخ العصور . علينا أن ندرك أنهم كانوا بشرا لم يتخلوا عن طبيعة البشر ، بما فيها من قوة وضعف . وأن منشأ امتيازهم أنهم بلغوا في بشريتهم هذه أعلى قمة مهيئة لبني الإنسان في الاحتفاظ بخصائص البشر في الأرض مع الاستمساك بعروة السماء " (55) .
* * *
عن بريدة قال : " جاء ماعز بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله طهرني ، فقال . ويحك ! ارجع فاستغفر الله وتب إليه . قال فرجع غير بعيد ثم جاء فقال : يا رسول الله طهرني . فقال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك ، حتى إذا كانت الرابعة قال رسول الله : مم أطهرك ؟ قال : من الزنا . فسأل رسول الله : أبه جنون ؟ فأخبر رسول الله أنه ليس بمجنون . فقال أشرب خمرا ؟ فقام الرجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر فقال : أزنيت ؟ قال : نعم ! فأمر به فرجم . فلبثوا يومين أو ثلاثة ثم جاء الرسول صلى الله عليه وسلم فقال : استغفر الماعز بن مالك ، لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم . ثم جاءته امرأة من غامد من الأزد ، فقالت : يا رسول الله طهرني . فقال : ويحك ! ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه . فقالت : تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك ؟ إنها حبلى من الزنا ! فقال : أنت ؟ قالت : نعم ! قال لها : حتى تضعي ما في بطنك . قال : فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : قد وضعت الغامدية . فقال : إذن لا نرجمها وندع ولدها صغيرا ليس له من ترضعه . فقام رجل من الأنصار فقال : إليّ رضاعه يا نبي الله . قال فرجمها . ويروى أنه قال لها : اذهبي حتى تلدي . فلما ولدت قال : اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه ، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز ، فقالت : هذا يا نبي الله قد فطمته وقد أكل الطعام . فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها ، وأمر الناس فرجموها ، فيقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فتنضح الدم على وجه خالد ، فسبها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مهلا يا خالد ، فو الذي نفسي بيده ، لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له ، ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت " .
* * *(5/19)
" يروى أنه كان عند يونس بن عبيد حلل مختلفة الأثمان ضرب قيمة كل حلة منه أربعمائة ، وضرب كل حلة قيمتها مئتان . فمر إلى الصلاة وخلف ابن أخيه في الدكان ، فجاء أعرابي وطلب حلة بأربعمائة ، فعرض عليه من حلل المئتين ، فاستحسنها ورضيها واشتراها ، فمضى بها ، وهي على يديه ، فاستقبله يونس ، فعرف حلته ، فقال للأعرابي : بكم اشتريت ؟ فقال : بأربعمائة . فقال : لا تساوي أكثر من مائتين ، فارجع حتى تردها ! فقال : هذه تساوي في بلدنا خمسمائة وأنا ارتضيتها . فقال يونس : انصرف ، فإن النصح في الدين خير من الدنيا بما فيها . ثم رده إلى الدكان ، ورد عليه مائتي درهم وخاصم ابن أخيه في ذلك ، وقال له أما استحييت ! أما اتقيت الله ! تربح مثل الثمن وتترك النصح للمسلمين ! فقال : والله ما أخذها إلا وهو راض بها . قال : فهلا رضيت له بما ترضاه لنفسك ؟ " (56) .
* * *
( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً ) .
" لقد اختار النبي صلى الله عليه وسلمل لنفسه ولأهل بيته معيشة الكفاف ، لا عجزاً عن حياة المتاع ، فقد عاش حتى فتحت له الأرض ، وكثرت غنائمها ، وعم فيؤها ، واغتنى من لم يكن له من قبل مال ولا زاد ! ومع هذا فقد كان الشهر يمضي ولا توقد في بيوته نار . مع جوده بالصدقات الهبات والهدايا . ولكن ذلك كان اختياراً للاستعلاء على متاع الحياة الدنيا ورغبة خالصة فيما عند الله . رغبة الذي يملك ولكنه يعف و يستعلي ويختار .. ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكلفا من عقيدته ولا من شريعته أن يعيش مثل هذه المعيشة التي أخذ بها نفسه وأهل بيته ، فلم تكن الطيبات محرمة في عقيدته وشريعته ؛ ولم يحرمها على نفسه حين كانت تقدم إليه عفوا بلا تكلف ، وتحصل بين يديه مصادفة واتفاقا ، لا جريا وراءها ولا تشهيا لها ، ولا انغماساً فيها ، ولا انشغالا بها .. ولم يكلف أمته كذلك أن تعيش معيشته التي اختارها لنفسه ، إلا أن يختارها من يريد ، استعلاء على اللذائذ والمتاع ، وانطلاقاً من ثقلتها إلى حيث الحرية التامة من رغبات النفس وميولها .
" ولكن نساء النبي صلى الله عليه وسلم كن نساء ، من البشر ، لهن مشاعر البشر . وعلى فضلهن وكرامتهن وقربهن من ينابيع النبوة الكريمة ، فإن الرغبة الطبيعية في متاع الحياة ظلت حية في نفوسهن . فلما أن رأين السعة والرخاء بعدما أفاض الله على رسوله وعلى المؤمنين راجعن النبي صلى الله عليه وسلم في أمر النفقة . فلم يستقبل هذه المراجعة بالترحيب ، إنما استقبلها بالأسى وعدم الرضا ، إذ كانت نفسه صلى الله عليه وسلم ترغب في أن تعيش فيما اختاره لها من طلاقة وارتفاع ورضى ، متجردة من الانشغال بمثل ذلك الأمر والاحتفال به أدنى احتفال ، وأن تظل حياته وحياة من يلوذون به على ذلك الأفق السامي الوضيء المبرأ من كل ظل لهذه الدنيا وأوشابها . لا بوصفه حلالا وحراما - فقد تبين الحلال والحرام - ولكن من ناحية التحرر والانطلاق والفكاك من هواتف هذه الأرض الرخيصة .
" ولقد بلغ الأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم من مطالبة نسائه له بالنفقة أن احتجب عن أصحابه . وكان احتجابه عنهم أمراً صعباً عليهم يهون كل شيء دونه . وجاءوا فلم يؤذن لهم . روى الإِمام أحمد - بإسناده - عن جابر رضي الله عنه قال : أقبل أبو بكر رضي الله عنه يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ببابه جلوس ، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس فلم يؤذن له . ثم أقبل عمر رضي الله عنه فاستأذن فلم يؤذن له . ثم أذن لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما فدخلا والنبي صلى الله عليه وسلم جالس وحوله نساؤه وهو صلى الله عليه وسلم ساكت . فقال عمر رضي الله عنه لأكلمن النبي صلى الله عليه وسلم لعله يضحك . فقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله لو رأيت ابنة زيد - امرأة عمر - سألتني النفقة آنفاً فوجأت عنقها ! فضحك النبي صلى الله عليه والسلام حتى بدت نواجذه ، وقال : " هن حولي يسألنني النفقة " ! فقام أبو بكر رضي الله عنه إلى عائشة ليضربها وقام عمر رضي الله عنه إلى حفصة كلاهما يقولان : تسألان النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده ؟! فنهاهما الرسول صلى الله عليه وسلم فقلن : والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا المجلس ما ليس عنده .. قال : فأنزل الله عز وجل الخيار ، فبدأ بعائشة رضي الله عنها فقال : " إني أذكر لك أمراً ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك " قالت : ما هو ؟ قال فتلا عليها ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ .. الآية ) قالت عائشة رضي الله عنها : أفيك أستأمر أبويّ ؟ بل أختار الله تعالى ورسوله . وأسألك ألا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت ! فقال صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى لم يبعثني معنفاً ، ولكن بعثني معلما ميسراً . لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها ""
" ونحب أن نقف لحظات أمام هذا الحادث نتدبره من بعض زواياه .
" إنه يحدد التصور الإِسلامي الواضح للقيم ، ويرسم الطريق الشعوري للإِحساس بالدنيا والآخرة ، ويحسم في القلب المسلم كل أرجحة وكل لجلجة بين قيم الدنيا وقيم الآخرة ؛ بين الاتجاه إلى الأرض والاتجاه إلى السماء . ويخلص هذا القلب من كل وشيجة غريبة تحول بينه وبين التجرد لله والخلوص له وحده دون سواه .
" هذا من جانب . ومن الجانب الآخر يصور لنا الحادث حقيقة حياة الرسول صلى الله عليه وسلم والذين عاشوا معه واتصلوا به . وأجمل ما في هذه الحقيقة أن تلك الحياة كانت حياة إنسان وحياة ناس من البشر ، لم يتجردوا من بشريتهم ومشاعرهم وسماتهم الإِنسانية . مع كل تلك العظمة الفريدة البالغة التي ارتفعوا إليها ، ومع كل هذا الخلوص لله والتجرد مما عداه . فالمشاعر الإنسانية والعواطف البشرية لم تمت في تلك النفوس ولكنها ارتفعت ، وصفت من الأوشاب . ثم بقيت لها طبيعتها البشرية الحلوة ، ولم تعوق هذه النفوس عن الارتفاع إلى أقصى درجات الكمال المقدر للإِنسان " (57) .
* * *
من هذه النماذج المتفرقة التي تجمع بين البطولات النادرة ولحظات الضعف العارض .. تتبين لنا صورة من المجتمع المسلم الذي عاش فيه المسلمون الأوائل ، في ظل إدراكهم الصحيح لمفهوم الإسلام ، وأخذهم الأمور أخذاً جاداً كما ينبغي للمؤمنين بهذا الدين ، الذين يقدرون معنى الإِيمان ، ويقدرون التبعات التي يلقيها على عاتقهم وجودهم الإِنساني الصحيح .
نعم .. ليست المسألة فرائض يفرضها هذا الدين على الناس بلا موجب . إلا رغبة التحكم في العباد !
إنما هو الوجود الإنساني الصحيح .. إذا رغب الإِنسان أن يكون إنسانا حقاً .. لا مجرد كائن يأكل ويشرب ، ويقضي أيامه على هذه الأرض كيفما اتفق ، وكيفما شاءت له نزوة اللحظة التي يعيش فيها .. بلا تقدير لنواميس الكون ، ولا لموضع الإِنسان المتميز في هذا الكون كله .. بوصفه خليفة الله .(5/20)
وقد كان هذا هو التقدير الصحيح " للإِنسان " في نفوس المسلمين الأوائل الذين عاشوا في ظل الإِسلام . استمدوه من كلام الله وسنة رسوله . وعاشوه في واقع حياتهم . فكان حقاً لهم أن يسودوا الأرض ، وأن يكونوا فيها القوة العليا ، التي تهيمن على البشرية وتقودها في الطريق الصحيح .
فالإسلام في حقيقته هو وضع الإِنسان في وضعه الصحيح . هو تعريف الإِنسان بما يشتمل عليه من طاقات واستعدادت ، ووضع هذه الطاقات والاستعدادات في وضعها الصحيح بعضها من بعض ، ثم إطلاقها للعمل ، في تناسقها وتكاملها ، المتسق مع ناموس الكون ، فتأخذ صورتها الحقيقية : لا قوة أرضية صغيرة محدودة ، ولكن قوة كونية ، متفاعلة مع الكون مهتدية بناموسه الأكبر الذي خلقه الله .
ومن ثم تقع منها تلك المعجزات التي وقعت في هذا المجتمع المسلم ، والتي اقتطفنا منها هذه النماذج المفردة ، والتي سجل لها التاريخ أنها كانت أكبر محاولة جادة لإِقامة الحياة بين الناس في الأرض على أسس من العدالة ، وأكبر محاولة جادة لتنمية الحياة في جميع مرافقها ، المادية والروحية ، الاجتماعية والاقتصادية والعلمية والعملية .. على مستوى " إنساني " نظيف ، لا يقصر الخير على فئة معينة من الناس بدافع من الأنانية البغيضة ، وإنما يبذل الخير للناس كلهم ، حتى أولئك الذين لا يؤمنون بهذا الدين ، بل حتى أولئك الذين كانوا يحاربونه من الصليبيين !
* * *
هذه الصورة العالية من الإيمان .. هذه الصورة العالية من تقويم " الإنسان " ووضعه في الوضع الصحيح بالنسبة " للوجود الإنساني " .. هذا الانطلاق العالي بالطاقة البشرية في جميع ميادين العمل والفكر والشعور .. هذه الصورة النظيفة للكيان البشري ، التي لا تخرج به مع ذلك عن بشريته ، وإنما تأخذ منه أفضل ما يعطيه مع المحافظة على كل خصائص الإِنسان .. هذه الصورة العالية كيف انحرفت عن السبيل ؟!
كيف صار المسلمون إلى ما صاروا إليه اليوم من انحراف عن الإسلام ، وكيف انحسر مفهوم الإِسلام في نفوسهم إلى هذه الصورة الهزيلة ، التي صارت - في أحسن حالاتها - مجموعة من الشعائر التعبدية " المخلصة " ، وفي معظم حالاتها عبادة لله " بالنية الحسنة ! " ، وفي أسوأ حالاتها خروجاً صريحاً على الدين ، ونفوراً منه وانسلاخا من كل رابط يربطهم بتعاليمه ؟
لا شك أن انحرافاً عظيما وقع في نفوس المسلمين .
فمجرد المقارنة بين صورة المجتمع المسلم والمجتمع الذي نعيش فيه ، تبين لنا الفرق المذهل بين المجتمعين ، وتكاد تفصل بين المجتمع الذي نعيش فيه وبين الإِسلام ! لولا هذه الصيحات المتكررة في أنحاء العالم الإِسلامي ، الداعية إلى العودة للإِسلام ، ولولا أولئك الأفراد ، المتفرقون في العالم الإِسلامي ، الذين يدركون المفهوم الصحيح للإِسلام ، ويعيشونه في واقع حياتهم - بقدر ما يطيقون في مجتمع غير مسلم - ثم يدعون الناس أن يدركوا هذا المفهوم معهم ، ويعيشوا معهم فيه .
ولا شك كذلك أن عوامل عنيفة جداً هي التي أثرت على المجتمع المسلم وأثرت على المفهوم الإِسلامي حتى صار إلى ما صار إليه .. فليس من الطبيعي أن تذهب هذه القوة كلها بددا بدون مؤثرات عنيفة ، وليس من الطبيعي أن ينحدر تقدير الإِنسان لنفسه ، ولطاقاته واستعداداته ، فينزل من موقف الرفعة والقوة والاستعلاء إلى موقف الهبوط والضعف والهوان .. إلا أن تكون قد عملت في نفسه عوامل فظيعة مدمرة أفسدت كيانه .
والآن فلننظر كيف بدأ وكيف امتد خط الانحراف .
خط الانحراف
كيف بدأ خط الانحراف وكيف امتد ؟
هل كان من الممكن أن يحتفظ المجتمع الإِسلامي بصورته الرفيعة العالية إلى فترة طويلة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وذهاب التأثير المباشر الذي كان لشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم على نفوس الناس ؟
لا نكون واقعيين إذا أجبنا على هذا السؤال بالإيجاب !
ولكنا لا نكون واقعيين كذلك إذا قلنا إن وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وذهاب تأثير شخصيته المباشر على نفوس الناس ، معناه تحطيم المجتمع الإِسلامي وتدمير قواعده من الأساس .
لا نكون واقعيين .. ولا نكون مؤمنين !
لا نكون واقعيين ، لأننا نبخس الكيان البشري قدره إذا قررنا أن إيمان الإِنسان بالمثل والمبادئ والقيم شذوذ في حياته ، يحتاج إلى قوى خارقة لتثبيته ، فإذا احتجبت تلك القوى الخارقة ذهب الإيمان !
نبخسه قدره ونغفل الواقع الذي عاشه الإِنسان بالفعل على مدار التاريخ ، مؤمناً بالمثل والقيم والمبادئ ، وعاملا على نشرها وتثبيتها ، وكادحاً من أجلها في واقع الحياة .
ونغفل الواقع الإِسلامي كذلك ، الذي عاشه الإِسلام أكثر من ألف عام !!
ولا نكون مؤمنين ، إذا تصورنا إن الله سبحانه يصنع للناس هذا الصنيع كله ، فينزل عليهم كتابه ، ويرسل إليهم رسوله ، ويكلفه ما كلفه من إقامة أمة على هدى الكتاب ، وتربيتها على تشريعاته وتوجيهاته ، ويفصّل لهم في كتابه ما فصل من التشريع والتوجيه .. ليكون ذلك كله موقوتا ببضع سنين .. أو بضع عشرات من السنين !
إنه عبث يتنزه عنه بعض الفانين من أهل هذه الأرض .. فضلا عن أن يصدر عن الله خالق الكون والحياة !
كلا ! لم يكن الأمر الطبيعي أن تتقوض أركان المجتمع المسلم وتنحرف أصوله لمجرد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذهاب تأثيره المباشر على نفوس الناس .
ولم يكن طبيعياً كذلك أن تظل على مستواها السامق الرفيع !
كان طبيعياً أن تهبط بعض الشيء !
فقد ارتفع الناس كلهم على ذواتهم بالتأثير المباشر لشخصية الرسول .
فحين يذهب هذا التأثير المباشر ، فمن الطبيعي أن يرجعوا إلى ذواتهم ويعيشوا في هذه الحدود . نعم . ولكن ما هذه الحدود ؟
إنها الحدود التي يصنعها الإِسلام .. وفرق بين الإِسلام وبين شخصيته الرسول !
" يا أيها الناس : من كان منكم يعبد محمداً فإن محمداً قد مات .. ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ! "
تلك الكلمة الصادقة التي قالها أبو بكر رضي الله عنه عقب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم .
والإِسلام كلمة الله .. فهي كلمة حية لا تموت !
وتأثير الإِسلام في نفوس الناس دائم ، لأنه يعقد الصلة المباشرة بين قلوب الناس وبين الله .. الحي الذي لا يموت .. فيتبعون كلماته ، ويربون أنفسهم على ما يريد .
ثم إن تاثير شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم ليس مقصوراً على فترة حياته ، فالقدوة فيه والأسوة قائمة كا فتح الناس لها القلوب ..
ومن هنا ظل الناس مسلمين بعد وفاة الرسول !
وإذا كانت الفترة " المثالية " من حياة الإِسلام لم تدم ، ولم يكن مقدراً لها في علم الله وفي طبائع الأشياء أن تدوم ، فقد كان ينبغي أن توجد ، لتظل صورة باهرة معروضة للأنظار ، تحاول الأجيال المتعاقبة منها ما تستطيع ، ويصل إلى مستواها الرفيع أفراد متعاقبون على مدار الأجيال ، يعيدون للإِسلام قوته وحيويته كلما بعد العهد ، وطالت الشقة ، وتهاوى الناس في الطريق !
وتلك - فيما نحسب - حكمة وجود تلك الفترة النادرة بكل مثاليتها ، كما قدرها الله في عليائه ، وكما تحققت في واقع المسلمين في أربعة عشر قرنا توالت فيها الظلمات والنور !
* * *
كان من المروض إذن أن يستمر المجتمع الإِسلامي مسلماً ، ويمتد في أرجاء الأرض ، ويقيم قواعد الإِسلام ، ويعيش في مفهومه .. إلى ما يشاء الله بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام .
وقد حدث شيء كبير من ذلك الأمر المفروض ، ولفترة طويلة جداً من التاريخ .(5/21)
لم تستو الحياة - في كل جوانبها - على الأفق الأعلى الذي كان وقت حياة الرسول وخلفائه الراشدين ، ولكنها ظلت مع ذلك عالية .. عالية جداً بالنسبة لكل ما عرفته الأرض من نظم وقيم وحضارات .
وقد مر بنا من قول المستشرق ولفرد كانتول سميث أن المحاولة الإِسلامية لنشر العدالة بين الناس كانت وما تزال أشد المحاولات جداً وأكثرها جهداً . كما مر بنا من أقوال غيره من المستشرقين ما يبين كيف امتد المد الإِسلامي في مختلف مرافق الحياة حتى شمل الأرض المعروفة كلها في ذلك الحين ، واستضاءت به أوربا في كل مرفق من مرافق نهضتها الأخيرة في العصر الحديث .
والمعاني " الإِنسانية " التي رسخها المسلمون في الضمير البشري ، والتي التقطتها أوربا في الحروب الصليبية مرة ، وفي الجامعات الإِسلامية في الأندلس والشمال الأفريقي مرة .. داخلة كما مر بنا من قول بروبفولت في كل الأسس الحضارية التي يقوم عليها العالم المتحضر اليوم .
فليس صحيحاً إذن ما اندس في أوهام بعض المسلمين أنفسهم ، من أن الإِسلام قد انتهى بعد فترة الرسول والخلفاء الراشدين !
الصحيح فقط أن الفترة المثالية قد انتهت ، وبدأت فترة " عادية " من تاريخ الإِسلام ، وإن كانت - وهي عادية بالنسبة للإِسلام - أعلى فترة في تاريخ الأرض .
* * *
ولكن خط الانحراف بدأت منذ ذلك الحين .
بدأ منذ العصر الأموي أول كسر في المبدائ الإِسلامية في سياسة الحكم وسياسة المال ، إذ بدأ " الملك العضوض " بنظامه الوراثي ومظالمه ، وبدأ ما يشبه الإِقطاع في محيط الأمراء وأتباع السلطان .
ومع ذلك فقد ظل المجتمع إسلامياً في مجموعه . كانت العاصمة وحدها هي التي فسدت . فسدت فساداً جزئيا في سياسة الحكم والمال بالنسبة للملوك والأمراء . ولكن ما زال أولئك الحكام أنفسهم - رغم انحرافهم - يقرون بمبادئ الإِسلام ويحكمون شريعة الله في شئون الناس ، كبيرها وصغيرها ، مع التحايل عليها أحياناً فيما يختص بأشخاصهم وأقربائهم قي شئون الحكم والمال .
وهو فساد ما في ذلك شك . ولكنه كما قلنا فساد جزئي لم يتعد العاصمة إلى بقية المجتمع الإِسلامي . ولم يتأثر به المسلمون - إلا قليلا - في حياتهم اليومية ، فظلوا يعيشون في مفهوم الإسلام ويكيفون به حياتهم ، ويعملون - في عالم الواقع - على نشر المد الإِسلامي في بقاع الأرض ، شاعرين بالعزة التي قررها الله لذاته - سبحانه - ولرسوله وللمؤمنين . شاعرين بالاستعلاء الذي يصنعه الإِيمان في نفوس المؤمنين . شاعرين بالتبعة الكبرى التي يفرضها الإِيمانا عليهم في ذوات أنفسهم وفي مجتمعهم . شاعرين بالإِخاء الحقيقي الذي يجمع المؤمنين بعضهم إلى بعض . شاعرين بالمودة والتعاون . شاعرين أنهم أمة واحدة : يدخل المسلم إلى أي قطر من أقطار الأرض المسلمة ، فإذا هو - بصرف النظر عن الحكومات وخلافاتها - أخ لكل من فيه من المسلمين ، يتلقى منهم المودة والمعونة والأخوة ، ويمنحهم من نفسه ما يمنحونه من نفوسهم . شاعرين أن المال مال الله ، والناس كلهم شركاء فيه ، لا الغني مستأثر ولا الفقير محروم . شاعرين أن سلوكهم الشخصي ينبغي أن يكون مطابقا لما يريده الله ورسوله . بقدر ما وسعهم من جهد - وهو جهد كبير في واقع الأمر - وأن شريعة الله هي المصدر الدائم للحياة ، والدستور الذي لا دستور غيره لحكم حياتهم وتنظيم العلاقات بين الناس . وأن عليهم أن يعملوا في عالم الواقع بالعلم والعمل والجهد الجاد لتحقيق الاستعلاء والقوة ، وهداية البشرية كلها إلى النور .
وفي ذلك كانت الفتوح التي يعرفها التاريخ في كل مناحي الحياة .
* * *
ثم جاء العصر العباسي .. ودخل الفرس في توجيه سياسة الدولة وتشكيل صورتها . ودخل في " الفكر الإِسلامي " بعض المفاهيم الغريبة عليه - وأبرزها الصوفية والفلسفة النظرية التجريدية الغريبة على التصور الإِسلامي في واقعيته المثالية - كما دخل العاصمة كثير من ألوان الفساد الخلقي ، وانتشر في قصور الخلفاء والأمراء والأتباع جو من اللهو والفسوق والتفاهة والانصراف عن الكدح والجد .. لا يعرفه الإِسلام ولا يمكن أن يسيغه . من جوارٍ ومطربين وملهين ، وألوان من البذخ الفاحش ، والترف الفاجر ، و " أدباء " يُمِدُّون لهذا كله ليرتزقوا .. ويقدمون المادة المتعفنة التي تستهلكها هات القصور ، ويبعدون " بالفن " عما يمكن أن يكون فناً إسلامياً حقيقياً ، ينبع من الحقيقة الإِسلامية الكونية ويترجم عنها ، ويجعلون منه أداة للزلفى حيناً ، وللتلهية والتطريب حيناً آخر .. وقلما يعبرون فيه عن معاني الحياة .
وانعكس شيء من هذا كله على المجتمع الإِسلامي ولا شك . ولكنا نأخذ صورة غير صحيحة عن هذا المجتمع إذا تصورناه كله على صورة العاصمة الفاسدة المنحلة ، وقصور الخلفاء والأمراء والأتباع التي تزخر بالترف والفجور .
ولئن كانت كتب التاريخ - والغربي منها خاصة - قد عنيت عناية كبيرة بإبراز هذه الصورة للإِسلام في تلك الفترة ، فالذي يعرف - إلى ما قبل جيل واحد - كيف كانت تعيش العاصمة وكيف كان يعيش الريف في كل البلاد الإِسلامية ، يدرك من فوره ذلك الفارق الكبير بين الحياتين ، ويدرك أن فساد العاصمة وتبذّلها لا يعني شيئاً كثيراً بالنسبة لبقية المجتمع ، المحافظ على تقاليده ، بعيداً عن العاصمة وترفها المجنون .
ونحن هنا لا نؤرخ - كما تصنع كتب التاريخ - لملوك المسلمين و " خلفائهم " .. وإنما نستعرض تاريخ المجتمع الإِسلامي ، تاريخ الأفراد العاديين الذين يكوّنون مجموع الأمة ، ويمثلون حقيقة الفكرة التي يعتنقونها .
وقد قلنا إن " شيئاً " من هذا الفساد المستشري في العاصمة قد انعكس على المجتمع .. ولكنه شيء ضئيل بالقياس إلى هذا الفساد . فلئن كانت الخمر والجواري واللهو والطرب هي " المودة " في قصور العاصمة ، التي تنفق فيها الأموال وينفق فيها الجهد البشري ، فقد كان في تلك العاصمة ذاتها علماء يعكفون على عملهم بعيداً عن ضوضاء القصور وزخارفها ، يترجمون ويؤلفون ويتابعون أبحاثهم في مراصدهم ومعاملهم ومكتباتهم الخاصة .. وكان فقهاء يعكفون على دراسة الفقه ويتبحرون فيه ويضيفون إلى تراثه بروح إسلامية خالصة .. وكان جغرافيين يجوبون الأرض ليكتشفوا أرض الله الواسعة ويكتبوا عنها كتابة علمية جادة مخلصة تتميز بالأمانة العلمية والدقة في التحصيل والتسجيل . وكان دعاة يجوبون الأرض ليدعوا الناس إلى الإِسلام في " الصين " و " أندونيسيا " وغيرهما من أقاصي آسيا ، وفي السودان شرقه وغربه من المحيط إلى المحيط .. وكان مجاهدون يدخلون المعارك ضد أعداء الإِسلام في كل مكان .. ثم كان " الفرد العادي " في المجتمع ، في المدن والريف والبيداء مسلماً يعيش بروح الإسلام ويحكّمها في حياته ، يتجنب الحرام ويسعى إلى الحلال ، مسترشداً بهدي الله ورسوله ، ومحافظاً على تقاليد المجتمع المستمدة من تقاليد الإسلام .
وليس معنى ذلك بطبيعة الحال أن هذا المجتمع كان مثالياً وفاضلا في جميع تصرفاته .. فذلك لم يحدث في أي مجتمع في الأرض في أية فترة من فترات التاريخ .. ولا المجتمع الذي رباه على عينه رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ولكن معناه أن الخير فيه يغلب على الشر .. ونوازع الرفعة تغلب على نوازع الهبوط .. والتقاليد الفاضلة تغلب على التقاليد المنحلة .(5/22)
كان هذا المجتمع في مجموعه أدنى درجة من مجتمع العصر الأموي .. ولكنه بعد مجتمع " مسلم " يعيش على مفاهيم الإِسلام ، مع درجات من الانحراف في هذه المفاهيم هنا أو هناك .
* * *
وجاء العصر التركي .. حين استولى الأتراك العثمانيون على مقاليد الإِسلام .
وقد حقق الأتراك للإِسلام أمجاداً حربية رائعة ما في ذلك شك . ولكن لا شك كذلك في أن مفاهيم الإِسلام قد عانت انحساراً كبيراً على يد الأتراك . أو الأحرى أن نقول إنها جمدت وتحجرت على أيديهم وتوقفت عن النماء .
لقد كان أبرز ما في الإِسلام منذ مولده أنه " حركة " .. حركة فاعلة في كل اتجاه ، في ميدان الفتح ، كما هو في ميدان العلم ، وميدان الفقه ، وميدان الاقتصاد والاجتماع والفكر والسياسة .. وكل منحى من مناحي الحياة .
فلما تولاه العثمانيون امتدوا به في ميدان الفتح ما شاءت لهم عبقريتهم الحربية وقوتهم العسكرية . ولكنهم جمدوا به جمودا معيباً في بقية الميادين .
لم يكن لهم كبير اهتمام بالعلم .. ومن ثم توقف المد العلمي الإِسلامي في ذات الوقت الذي بدأت فيه أوربا تنهل من المنابع الإسلامية لتستمد منها كل أسس النهضة الحديثة ، كما هو مسجل ومعروف لدى المؤرخين .
ولم يكونوا أصلاء في الفقه .. فكل ما دفعتهم إليه تقواهم هو الحرص على التراث الفقهي القائم بالفعل ، وتجميده على ما هو عليه .
والفقه هو التعبير الدائم عن نمو المجتمع في ظل الفكرة الإسلامية . ومن ثم تلاقي تجميد الفقه وتجميد المجتمع الإِسلامي في وقفة هائلة منكرة لم يصب الإِسلام بأسوأ منها في تاريخه الطويل .
حافظ المجتمع على تقاليده الموروثة ولكن هذه التقاليد ذاتها فقدت معناها . صارت مظهراً بغير روح . مظهراً مقدسا في ذاته ولو لم يؤد إلى المعنى المقصود به . ومن ثم كان الحجاب التركي - مثلا - مظهرا مقدسا من مظاهر المجتمع ، ولو كان الفسق والفجور في أيام الدولة الأخيرة يجري داخل القصور .. المحجبة التي لا تصل إليها عين إنسان !
ومن هذه الوقفة المنكرة بدأ الخطر الحقيقي على الإِسلام ... فليس أخطر على أية فكرة أو نظام من أن يقف نموه ويتجمد على صورة من الصور .. لأنه يأخذ بعد ذلك حتما في الاضمحلال والضمور .
وفي أثناء ذلك كله كان الإسلام قد تعرض لأحداث عنيفة أليمة من الداخل والخارج على السواء . من صراعات الأسر الحاكمة ، ومن هجمات المغول والتتار ، وهجمات الصليبيين حينا بعد حين .. فلما جاءت هذه الوقفة المتحجرة على يد الحكم العثماني ، كان ذلك إرهاصا بضربة قاصمة تصيب الإسلام .
ولم يفت ذلك العالَمَ الصليبي المتحفز الواقف بالمرصاد ، فقد كانت هذه فرصته السانحة المرتقبة من أزمان .
وانقض الصليبيون انقضاضتهم الهائلة على العالم الإِسلامي ليدمروه ويقضوا عليه
ومع ذلك .. مع ذلك كله الذي أصاب الإسلام من داخله وخارجه .. فهل كان الإِسلام قد مات وكتب عليه الفناء ؟!
كلا !
فقد اقتضى الأمر من الصليبيين قرنا كاملا ليتغلبوا على العالم الإسلامي بكل ما يملكون من قوة وعتاد .
واقتضاهم قرنا آخر ليحاولوا تدميره والقضاء عليه بعد أن حكموه . مع كل ما يملكون من كيد ومكر وتدبير .
* * *
وقد حدث تحول هائل في العالم الإسلامي بعد هذا الغزو الصليبي الأخير .
هو أكبر تحول في تاريخه كله .. وأكبر انحراف .
لقد كان المجتمع الإسلامي قد ضعف وتجمد . نعم . ولكنه لم يكن في طريقه إلى الزوال .
فالحيوية العجيبة التي تتمثل في هذه العقيدة .. الحيوية التي احتملت الهزات السابقة كلها ، من صراع الأسر الحاكمة ، وغارات التتار والصليبيين ، وأفاقت منها بعد فترة وتغلبت عليها .. هذه الحيوية العجيبة كانت قد بدأت تتحرك من الوقفة العثمانية المنكرة ، وبدأت تتحرر من ثقلة القيد التركي ، لتعاود الانطلاق من جديد .. تلك الحركات التي تمثلت فيما بعد في الحركة الوهابية في الحجاز ، والحركة المهدية التي قام بها المهدي الكبير في السودان .. وكانت تلك الحركات قمينة أن تعيد للإِسلام حيويته وانطلاقه ليكتب فصلا جديدا في حياة البشر يضاف إلى ما مضى من الفصول .
ولكن الاستعمار الصليبي كان قد عاجل العالم الإسلامي قبل تلك اليقظة الحية .. ليقضي على عدوه القديم .
وصنع الاستعمار الصليبي كل ما وسعه وما وسعته شياطين الأرض .. لتكون هذه الضربة هي القاضية ، وليقتلع الإسلام من الجذور .
في هذه المرة لم تكن وسيلتهم هي الجيوش وحدها كما كان الأمر في الغزوات السابقة . ولكن كان إلى جانب الجيوش كل ما يملكون من علم وكيد وتدبير ومكر ، يشوهون به تعاليم الإسلام ذاتها ، وينشرون هذه الصورة المشوهة في قلوب المسلمين أنفسهم ، ليصرفوهم عن الإِسلام في الواقع بعد أن فشلوا في تنصيرهم على يد المبشرين ! (58)
وحين جال الاستعمار الصليبي جولة في العالم الإِسلامي ، كان الانحراف في المجتمع المسلم قد أخذ مداه ، وكانت قد وجدت تلك الأفكار الغريبة - التي لم توجد قط من قبل في أي عصر من عصور الإِسلام في رفعته او هبوطه - الأفكار التي تقول : ما للدين ونظام المجتمع ؟ ما للدين والاقتصاد ؟ ما للدين وعلاقات الفرد بالمجتمع وبالدولة ؟ ما للدين والسلوك العملي في واقع الحياة ؟ ما للدين والتقاليد ؟ ما للدين والملبس - وخاصة ملابس المرأة ؟ ما للدين والفن ؟ ما للدين والصحافة والإِذاعة ، والسينما والتليفزيون ؟ وباختصار : ما للدين والحياة ؟ ما للدين والواقع الذي يعيشه البشر على الأرض ؟!
وكان قد وجد المسلم الذي يقول : أنا مسلم ما دمت أصلي وأصوم ، ولكن لا عليّ أن آخذ نظامي الاقتصادي من أية فكرة على الأرض غير إسلامية ، وآخذ أفكاري وتقاليدي من أي نظام على الأرض غير مسلم .
وكانت قد وجدت المسلمة التي تقول : أنا مسلمة ما دامت نيتي حسنة .. ولكن لا عليّ أن أخالط الشبان وأخرج معهم ، ولا عليّ أن ألبس أحدث أزياء الموضة ولو كانت عارية الصدر أو الظهر أو الذراعين أو الساقين .. أو عارية البدن كله إلا قليلا على شاطئ البحر .. ولا عليّ أن أتزين بكل أنواع الزينة .. ولا عليّ أن أرقص في الحفلات إذا اقتضى الأمر .
وفوق هذا وذلك كان قد وجد " المسلم " " والمسلمة " اللذان ينسلخان من دينهما علانية ، ويعلنان أن الدين رجعية وجمود وانحطاط وتأخر .. ينبغي تحطيمها " لتنهض ! " الأمة وتخطو إلى الأمام !
وكان ذلك هو حصيلة الجهد الجبار الذي بذله الاستعمار الصليبي في العالم الإسلامي خلال قرنين كاملين من الزمان ، ولكنه لم يكن يعمل وحده .. فقد كانت إلى جانبه - في العالم كله - تيارات مادية منحلة ، تنسلخ من الدين وتندد به وتدعو إلى حيوانية بشعة لا مثيل لها من قبل بهذه الضراوة ، تسند هذا الانحلال الشنيع بنظريات " علمية ! " سيكلوجية واجتماعية ، وتضيف إليها أسطورة ضخمة اسمها " التطور " !
من هذه وتلك حدث أكبر انحراف في تاريخ الإسلام .
وفي الفصلين القادمين بيان لكيد الاستعمار الصليبي من ناحية ، والتيارات العالمية من ناحية . ونبدأ بالكيد الصليبي في داخل العالم الإسلامي ، وهو ما سميناه " عوامل محلية " .
عوامل الانحراف المحَلية
بدأت بالحملة الفرنسية على مصر صفحة جديدة في التاريخ الإِسلامي .. صفحة سيئة .
لقد هجمت الجيوش الصليبية من قبل على العالم الإِسلامي هجمات متكررة .. ثم ردت مدحورة في كل مرة ، مهما كان مدى لبثها في بعض الأراضي الإِسلامية ، ومهما كانت الخسائر التي تكبدتها الجيوش الإِسلامية في صد العدوان وطرد المعتدين .(5/23)
وفي هذه المرة جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر .. ثم في النهاية ثار عليها الشعب واضطرتها الظروف إلى الرحيل .. ولكن شيئاً ما كان قد تغير ما بين هذه الحملة وسابقاتها .. في الأسباب والنتائج سواء .
إن الهزيمة الحربية النكراء التي أوقعها نابليون بجيوش المماليك شمالي القاهرة لم تكن في الحقيقة هزيمة جيوش فحسب ، ولكنها كانت هزيمة عهد من العهود الإِسلامية ؛ وهزيمة للفكرة التي يمثلها ذلك العهد . هزيمة عميقة موغلة في النفوس .
لقد صدمت الهزيمة نفوس المسلمين وهزتها هزة عنيفة .. مع أنها لم تكن أول هزيمة حربية في التاريخ . فمن قبل ارتدت الجيوش الإِسلامية مرات أمام هجمات الصليبيين . ولكن المسلمين في كل مرة كانوا يحسون أنها هزيمة مؤقتة ، سببتها كثرة الجيوش الغازية أو مفاجأتها للمسلمين على غرة . وكان في حس المسلمين دائماً أنها فترة قصيرة ريثما تستعد الجيوش الإِسلامية وتتدفق على خطوط القتال .. ثم يأتي النصر من عند الله بعد أن تتهيأ النفوس للمعركة والفداء .
وكان ذلك يحدث بالفعل في كل مرة ..
يهب المسلمون وتتدفق الجيوش في حمية فائرة دفاعاً عن العقيدة .. ويأتي نصر الله كسابق وعده للمؤمنين .
ومن ثم كان المسلمون يحافظون دائماً على استعلائهم ، حتى والهزيمة حائقة بهم ، فما كان يخالجهم الشك في أنهم الأعلون . وأنهم في النهاية هم المنتصرون .
وكان تكرار النصر بعد كل هزيمة مؤقتة يؤكد هذا المعنى في نفوسهم توكيداً ، ويرسخ في شعورهم الاستعلاء بالإِيمان ، والاعتزاز بأنهم مسلمون . وكانوا ينظرون إلى الجيوش الغازية - مهما كانت قوتها وعدتها وعتادها - على أنها مجموعة من البرابرة المتأخرين ، الذين لا يعرفون الله حق معرفته ، ومن ثم فهم مخلوقات أدنى منهم ، ولو خدمتهم ظروف المعركة فترة من الوقت وغلّبتهم على المسلمين .
وكانوا ينددون تنديداً عنيفاً بتقاليدهم المنحلة وأخلاقهم الفاسدة ، وكان من أشد ما ذكره المقريزي في التنديد بهم أنهم قوم فاقدو الرجولة ، فتجد الواحد منهم يصحب امرأته في الطريق حاسرة الوجه والصدر والذراعين فيقابلهما صديق لزوجته ، فيتنحى الزوج ليترك امرأته وصديقها يتبادلان الحديث ، حتى إذا انتهيا عاد فتأبط ذراعها وسار في الطريق !
وكان هذا بطبيعة الحال دنسا وانحلالا خلقياً في نظر المسلمين ، وفقداناً لمعاني الشرف في ذلك المجتمع الغربي ، لا يسيغونه هم ، ولا يكادون يتصورون أنه ممكن الحدوث (59) .
وكذلك ظلت العقيدة مستعلية في نفوس المسلمين ، وظلوا يحسون بالعزة التي قررها الله لذاته - سبحانه - ولرسوله وللمؤمنين ، حتى في ساعات الحرج والكرب حين كانت جيوش الصليبيين تتدفق كالسيل من الجرف المنهار . وكانوا يحسون أن كل تقاليد غير تقاليدهم لوثة لا ينبغي أن تصيبهم ، ورجس لا ينبغي أن يدنس أرض الإِسلام .
* * *
ولكن الأمر لم يكن كذلك بعد الحملة الفرنسية ..
كانت العقيدة راسخة في نفوس المسلمين . نعم . ولكنها كانت - تحت الحكم التركي - قد جمدت وتحجرت كما قلنا في الفصل السابق . ولم تعد لها مرونتها الحياة التي كانت تتسم بها في جميع العصور . وتحولت إلى مجموعة من التقاليد - المقدسة المظهر - التي لا تحمل في طياتها رصيداً حقيقياً كبيراً من الحركة الحية الفاعلة في عالم الواقع .
ثم كانت الهزيمة الحربية التي وقعت بالمماليك على يد نابليون في امبابة ، إيذانا بالهزيمة الداخلية .. هزيمة العقيدة في داخل النفوس .
لقد رُوّع المسلمون بمدافع نابليون .. وبدت لهم سيوف المماليك هذراً فارغاً إزاء تلك المدافع الجديدة التي لم يكونوا يعرفونها ، أو يتصورون وجودها في يد الأعداء .
وانقلب ميزان القوى انقلاباً عنيفاً في نفوسهم .
فتلك هي المرة الأولى التي تنهزم فيها جيوش المسلمين " عن جدارة " وتتغلب جيوش الصليبيين لأنها تملك " قوة " حقيقية من العتاد والفن الحربي و " المعرفة " لا يملكها المسلمون .
ولقد كان ممكناً مع كل ذلك ألا يتغير الميزان في داخل النفوس .
كان ممكناً أن تصمد النفوس للهزيمة ، ريثما تتجمع للانقضاض من جديد .. كما حدث مرات كثيرة من قبل . ولكن " الرصيد الداخلي " للعقيدة في تلك الفترة لم يكن من القوة بحيث يصمد للصدمة ويتجمع من جديد .
حقاً .. لقد قام الشعب بمقاومة باسلة للحملة الفرنسية . وثارت القاهرة بزعامة " رجال الدين " وتأثيرهم الروحي .. وحدثت بطولات عجيبة أروعها بطولة " الفتى الصغير " في الصعيد ، الذي ظل بمفرده يدلف كل ليلة إلى معسكر الأعداء ، فيدخل مخزن الأسلحة ، ويستولي على بنادق الفرنسيين ، ويعود سابحاً في الترعة إلى أهله ليتسلحوا بها في مقاومة المحتلين . حتى إذا بان النقص في الأسلحة ترصد الحراس للمتسللين وهم يظنونهم عصابة هائلة ، فإذا بهم يفاجأون بهذا الصبي وحده يصنع هذا الصنيع ! وانقضوا عليه يحاولون القبض عليه فقاوم حتى انكسرت ذراعه ، وحملوه إلى قائد الحملة ( ديزيه ) فلما رآه أخذ بشجاعته وبطولته ، وعرض عليه أن يتبناه فرفض لأنه كافر . فعرض عليه أن يتكره على ألا يعود إلى سرقة السلاح فرفض أن يعده بذلك ما دام الكفار باقين في البلاد ! وأخيراً أطلق سراحه على أن تشدد الحراسة على السلاح !
حقا .. لقد حدث كل ذلك . ولكنه كان أشبه بالأعمال " الفردية " الفدائية . أما " الكيان " الحقيقي للدولة المسلمة المقاتلة ، التي تنظم القتال وتجيش الجيوش ، وتقف للغزاة بوصفها " دولة الإسلام " .. أما ذلك كله فكان قد ذاب في معركة إمبابة ، ولم يعد له وجود .
وأحس المسلمون بالهزيمة حتى وهم يرون الغزاة ينسحبون .
* * *
لم تكن الهزيمة الحقيقية هي هزيمة الحرب .
فقد وضع نابليون في فترة إقامته في مصر " قانونا " جديداً يُحكم به المسلمون غير شريعة الله . قانونا مستمداً من التشريع الفرنسي . وحصر تشريع الله في أمور " الأحوال الشخصية " من زواج وطلاق وميراث ...
وكانت تلك هي المرة الأولى في تاريخ المسلمين .
المرة الأولى التي يحكمهم فيها قانون غير قانون الله ، يضعه وينفذه قوم غير مسلمين !
لقد كان الصليبيون يدخلون الأراضي الإسلامية أحيانا ، ويبقون فيها في بعض الأحيان سنوات ، بل وصل بهم الأمر قبيل صلاح الدين أن يقيموا لهم دويلات على شاطئ البحر الأبيض في بلاد الشام . ولكنهم لم يجرؤوا قط في أية مرة أن يضعوا قانونا من عندهم يحكمون به المسلمين . فقد كانوا في كل مرة غزاة انتهبوا قطعة من الأرض ، ولم يكونوا قط " دولة " حاكمة مسيطرة في الأرض .
وفي هذه المرة كانوا - لأول مرة - دولة حاكمة في أرض الإِسلام ، بعد أن أطاحوا بالدولة المسلمة ، وذوبوها في ميدان القتال .
وكان هذا بدء الهزيمة الحقيقية .. هزيمة العقيدة .. وبدء انحسارها في عالم الواقع ، وانحسارها - من ثم - في داخل النفوس .
* * *
وفي ظل هذه الهزيمة وتلك كان " الانبهار " الذي أحدثته الحملة الفرنسية في نفوس المصريين . انبهار بقوة السلاح أولا ، وانبهار " بالعلم الغربي " الذي حمله رجال البعثة المرافقة للحملة ، وانبهار بالمطبعة التي جاء بها نابليون إلى مصر ، وانبهار بالتنظيمات التي أحدثها .. وفي كلمة واحدة انبهار بكل ما جاء من " الغرب " وكل ما ليس بإسلام !!
وكانت هذه هي الهزيمة الحقيقية الكاملة ، التي مهدت لكل ما أحدثه الاستعمار الصليبي بعد ذلك من تدمير مخرب في حياة المسلمين وعقيدتهم ، وأفكارهم ومشاعرهم ، وسلوكهم في واقع الحياة .(5/24)
لذلك لم يكن طرد الفرنسيين من مصر أو انسحابهم حدثا حقيقيا في عالم الواقع ، بعد هذه الهزيمة الداخلية التي خلفتها الحملة في نفوس المسلمين !
* * *
وهنا يجدر بنا أن نقف وقفتين قصيرتين قبل أن نمضي في استعراض التاريخ :
فقد حرص الاستعمار الصليبي أولا - وجاراه في ذلم المؤرخون المسلمون - على إخفاء العنصر الصليبي إخفاء كاملا من الحملة الفرنسية على مصر ، وما تلاها من الاستعمار الغربي على نطاق واسع في بلاد المسلمين . بل لقد وصل الأمر - في سبيل إخفاء القصد الصليبي من الاستعمار الحديث كله - إلى حد الزعم بأن الحروب الصليبية ذاتها لم تكن صليبية ( !! ) وإنما كان الدين فيها ستاراً يخفي المطامع الاقتصادية ! وتلوك هذا الزعم من ورائهم أفواه " مسلمة ! " يدور أصحابها في طاحونة الاستعمار مغمضي العينين في بلاهة ، أو .. لقاء أجر معلوم !!
وحرص الاستعمار الصليبي ثانياً - وجاراه في ذلك المؤرخون المسلمون - على القول بأن الحملة الفرنسية على مصر كانت هي الخير والبركة ، لأنها أيقظت المسلمين من سباتهم ، فأفاقوا يتطلعون إلى " النهضة " . إلى " القوة " . إلى " التقدم " .. إلى " الأخذ بوسائل الحضارة الحديثة " .. وباختصار : أيقظتهم إلى الخير في كل اتجاه .
فأما الزعم الأول فلسنا نحن الذين نرد عليه ! فنحن متهمون كيفما كان الرد !
وإنما يرد عليه الكتّاب المسيحيون أنفسهم ، في كتبهم التي يؤلفونها لتقرأ هناك .. ويطّلع عليها من يريد الاطلاع .
" روم لاندو Rom Landow " مؤلف مسيحي معاصر ؛ يعيش في أحداث القرن العشرين ، بعقلية القرن العشرين - تلك العقلية التي يقال لنا هنا في الشرق إنها قد تحررت من سخافات الدين والتعصب الديني ، وليست مثلنا متأخرة جامدة رجعية - وهو يكتب عن هذه الأحداث في الشمال الأفريقي خاصة . وله كتاب سماه " مأساة مراكش The Moroccan Drama " جاء فيه في ص 310 :
" ويقول كلوسترمان وريتزر من رجال البرلمان الفرنسي إن مسيو بيدو وزير خارجية فرنسا كان ينظر إلى الحوادث الجارية في مراكش على أنها معركة بين قوى المسيحية والإسلام ولما حاولا إقناعه بوضع حد للحركة الهدامة في مراكش ، أجاب قائلا : " هذه معركة بين الهلال والصليب ! "
فهل صدق الذين يدورون في طاحونة الاستعمار الصليبي مغمضي العينين في بلاهة ، كيف تنظر فرنسا إلى علاقتها بالمغرب .. الآن .. في القرن العشرين .. المتحرر من خرافة الدين والتعصب الديني ؟! وهل يستكثرون بعد ذلك أن تكون الروح الصليبية قائمة في نفوس الفرنسيين في القرن الثامن عشر ، القرن الذي لم يكن بعد قد " تحرر ! " من عصبية الدين ؟!
هذا عن فرنسا ..
أما بقية أوربا الصليبية ، فهذا ولفرد كانتول سميث يقول عنها في كتاب " الإِسلام في التاريخ المعاصر " الذي سبقت الإِشارة إليه ، في ص 109 - 110 :
" إلى أن قام كارل ماركس وقامت الشيوعية ، كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( يقصد الإِسلام بطبيعة الحال ) هو التحدي الحقيقي الوحيد للحضارة الغربية الذي واجهته في تاريخها كله . وإنه لمما يستحق التذكر : أن نتذكر كم كان هذا التحدي حقيقياً ، وكم كان يبدو في وقت من الأوقات تهديداً خطيراً حقا .
" لقد كان الهجوم مباشراً ، في كلا الميدانين الحربي والعقيدي . وكان قوياً جداً . ولا شك أنه بالنسبة للمسلمين يبدو أنه الحق والصواب ، وأنه الأمر الطبيعي والمحتوم ، أن يمتد الإِسلام كما امتد . ولكن الأمر يختلف بالنسبة لمن يقع خارج نطاق الإِسلام ، الذي لم يكن يرى فيه شيئاً من ذلك كله ، والذي كان التوسع الإِسلامي يقع على حسابه . وقد كان هذا التوسع إلى حد كبير على حساب الغرب . فقد فقدت المسيحية دفعة واحدة " أجمل مقاطعات الإِمبراطورية الرومانية " لنتسلمها منها القوة الجديدة ، وكانت في خطر من ضياع الإِمبراطورية بكاملها . وعلى الرغم من أن القسطنطينية لم تقع - تماما - في يد الجيوش العربية كما وقعت مصر وسوريا ، فقد استمر الضغط عليها فترة طويلة . وفي موجة التوسع الإسلامي الثانية وقعت القسطنطينية بالفعل سنة 1453 ، وفي قلب أوربا المفزعة ذاتها أحاط الحصار بفينا سنة 1529 بينما ظل الزحف الذي بدا عنيدا لا يلين ، مستمراً في طريقه . وحدث ذلك مرة أخرى في وقت قريب لم يتطاول عليه العهد في سنة 1683 ، وإن وقوع تشيكوسلوفاكيا في قبضة الشيوعية عام 1948 لم يكن له قط في العصر الحديث ذلك الفزع في نفوس الغرب المتهيب ، كما كان لذلك الزحف المستمر قرنا بعد قرن ، من تلك القوة الضخمة المهدِّدة التي لا تكف ولا تهدأ ، ويتكرر انتصارها مرة بعد مرة .
" وكما هو الأمر مع الشيوعية ، كذلك كان التهديد والانتصارات ( الإسلامية ) قائمين في عالم القيم والأفكار أيضاً . فقد كان الهجوم الإسلامي موجها إلى عالم النظريات كما هو موجه إلى عالم الواقع . وقد عملت العقيدة الجديدة بإصرار على إنكار المبدأ الرئيسي للعقيدة المسيحية ، التي كانت بالنسبة لأوربا الاعتقاد السامي الذي أخذت تبني حوله - في بطء - حضارتها . وكان التهديد الإِسلامي موجها بقوة وعنف ، وكان ناجحاً نجاحاً مكتسحاً في نصف العالم المسيحي تقريباً . والإِسلام هو القوة الإِيجابية الوحيدة التي انتزعت من بين المسيحيين أناساً دخلوا في الدين الجديد وآمنوا به .. بعشرات الملايين .
" وإنه لمن المشكوك فيه أن يكون الغربيون - حتى أولئك الذين لا يدركون إطلاقا أنهم اشتبكوا في مثل هذه الأمور - قد تغلبوا قط على آثار ذلك الصراع الرئيسي المتطاول الأمد ... أو على آثار الحروب الصليبية التي استغرقت قرنين من الحرب " العقيدية " العدوانية المريرة " .
فهل صدق الذين يدورون في طاحونة الاستعمار الصليبي مغمضي العينين في بلاهة ، كيف تنظر أوربا إلى العالم الإِسلامي حتى هذه اللحظة ، وما هي الدوافع الحقيقية الأصيلة وراء هذا الاستعمار ؟!
حقيقة إن الاستعمار الأوربي - المدفوع قطعا بدوافع اقتصادية - لم يقتصر على العالم الإِسلامي ، وإنما استعمر كل أرض استطاع أن يغتصبها من أصحابها في الشرق أو الغرب . ولكن هذه الحقيقة لا يجوز أن تلهينا عن الحقيقة الأخرى وهي أن الدافع الصليبي كان راسخا وأصيلا في اتجاه الاستعمار الأوربي إلى العالم الإِسلامي ، وأن الدافع الاقتصادي لم يكن وحده هو المسيطر على مشاعر المستعمرين تجاه المسلمين ، بدليل كافٍ واضح - سنبينه في هذا الفصل - هو أنهم لم يكتفوا في العالم الإِسلامي بالاستغلال الاقتصادي ، وإنما عملوا عملا جاداً متواصلا مصراً على تحطيم قواعد الإِسلام ، وتوهين عراه في النفوس ، بينما لم يتعرضوا أي تعرض للهندوكية في الهند - مثلا - ولا للبوذية في الصين ، وهما من الوجهة العددية أضعاف المسلمين !
* * *
هذا بالنسبة للنقطة الأولى ، الخاصة بالهدف الصليبي في الحملة الفرنسية على مصر ، الذي ينبغي أن يكون قد اتضح - فيما أحسب - في نفوس القراء ، والذي يفسر لهم - فيما أحسب كذلك - سر وضع القوانين " المدنية " ليحكم بها المسلمون في مصر .. بمعزل عن شريعة الله .. وحصر هذه الشريعة في " الأحوال الشخصية " للمسلمين !
أما النقطة الثانية ، الخاصة بالخير والبركة العميقة التي حلت بمصر والعالم الإِسلامي نتيجة هذه الحملة .. فتدور حولها كذلك في نفوس المسلمين أوهام وأساطير ! بما في ذلك " المؤرخون " المسلمون المحدثون !(5/25)
حقيقة إن الحركة " العلمية " استيقظت على " الصدمة " التي أصابت المصريين نتيجة الهزيمة .. ولكن هذا لا يُرجع " الفضل " إلى الحملة الفرنسية المستعمرة الغاصبة ! ومفهوم جداً أن يقول الأوربيون ذلك . أما واجبنا نحن حين نؤرح فهو أن نضع " النوايا " في الحساب . فهل كان غرض فرنسا أن " تحضر " مصر وتعلمها ؟ أم كان غرضها أن تقتل شخصيتها " و " تفرنسها " كما حاولت أن تصنع في تونس والجزائر ومراكش ، وكل بلد دنسته أقدامها بالاستعمار ؟
ومن جهة أخرى .. ماذا كانت النتيجة العملية للحملة الفرنسية بالنسبة لمصر الإِسلامية ؟ هل كانت هذه " القيظة " التي حلت بمصر ، قائمة على مقوماتها الطبيعية ، وجذورها الحقيقية ، وموروثاتها ومقدساتها ، أم قامت على أنقاض هذا كله ، لتخلق من مصر بلداً أخر بعيداً عن الإِسلام ، أو .. منسلخا من الإِسلام ؟
ومن جهة ثالثة .. يغفل أولئك " المؤرخون " حقائق التاريخ التي وقعت بالفعل ، لا التي كانت محتملة الوقوع !
فمن قال إن الحملة الفرنسية على مصر هي المفتاح " الوحيد " للبركة والخير ، الذي كان يمكن أن يقع في يد المسلمين فيوقظهم إلى ما هم فيه من جهالة وجمود وتأخر ، ويدفعهم إلى الحركة الحية من جديد ، حتى توضع حولها كل هذه الهالات التي تدرس للتلاميذ في المدارس والطلاب في الجامعات ؟!
ومتى حدث في تاريخ الإِسلام أن تركه الله يذوي ويموت ، دون أن يبعث فيه من يوقظه من سباته ويعيده للحركة الحية من جديد ؟
وما نظرة أولئك المؤرخين إلى الحركة الوهابية التي قامت تهدف إلى تنقية الإِسلام من الخرافة المتعفنة التي شاعت في أفكار المسلمين باسم الإِسلام ، والحركة المهدية التي قامت تهدف إلى تخليص المسلمين من النير الإِنجليزي الذي أحاط بعنق مصر في شمال الوادي مع خضوعها اسميا للخليفة العثماني ، ثم تخليص العالم الإِسلامي من النير التركي . وغيرهما من الحركات الإِسلامية التي تهدف كلها إلى تصفية الإسلام ورفع الظلم الاجتماعي والسياسي والفكري والروحي الواقع على المسلمين ، وبعث الإسلام من غفوته ليؤدي دوره في الواقع الحي للبشرية ؟
أم البعث لا يكون بعثا حتى يجيء على أيدي المستعمرين من فرنسيين وغير فرنسيين ؟
تلك - على أي حال - من آثار السموم التي وضعها الاستعمار الصليبي في نفوس المسلمين !!
* * *
وما نريد أن ننكر دلالة التاريخ ..
فقد كانت الهزيمة قائمة بالفعل في نفوس المسلمين يوم جاءت الهزيمة الحربية في الميدان .
ولكن ذلك - كما قلنا - لم يكن معناه أن الإِسلام كان قد انتهى وآذن بالزوال .
فقد احتاج الاستعمار إلى جهود مضنية للاستيلاء على العالم الإِسلامي استغرقت قرنا من الزمان ، واحتاج إلى قرن آخر لمحاولة تقويض الإِسلام من الداخل .. من مكمن العقيدة في داخل النفوس .
وهذا وذاك بجانب الانتفاضات الحية للإِسلام في شتى بقاع المسلمين قبل الاستعمار وفي أثناء الاستعمار .
وذلك كله دليل على مدى قوة هذه العقيدة ، ومدى مقاومتها للأحداث رغم كل ما أصابها من هزات مدمرة على مدار التاريخ .
ونريد في الصفحات التالية أن نتتبع ذلك الجهد الذي قام به الاستعمار الصليبي في أناة وتدبر ، وكيد منظم مدروس ، ليحاول تقويض الإِسلام من الداخل ، مستشهدين في هذا العرض بأقوال المبشرين والمستعمرين أنفسهم ، الذين هم فوق مستوى الشبهات في هذا المجال !
* * *
جاء محمد علي إلى مصر واليا من قبل الأتراك .. يُسرّ في نفسه الاستقلال عن " الخلافة " التركية في الآستانة ، ولكنه لا يصحو - أو لا يهتم - بالنفوذ الفرنسي الذي يتغلغل معه في البلاد !
لا يصحو - أو لا يهتم - بأن فرنسا تحتضنه ، وتشير عليه ، وتضع له مشروعات عمرانية ، وتساعده في تنفيذها ، لأهداف بعيدة .. أبعد من أهدافه هو البعيدة .. التي ظن نفسه بارعا أشد البراعة وهو يعمل لها من وراء " الخلافة " !
كانت فرنسا تحتضن محمد علي ، وتشجعه على الاستقلال عن الخلافة ، لأن ذلك مثل " طيب ! " يحتذى في بقية العالم الإِسلامي ، فيتفكك هذا العالم إلى دويلات صغيرة ، يشرف عليها النفوذ الغربي ، ويتبنى " حركة الإصلاح " فيها .. الإصلاح المقترن بهدم المقومات الإِسلامية ، وسَلْخِ المسلمين من عقيدتهم ، وإخضاعهم للنفوذ الصليبي الواقف بالمرصاد ، يتحين الفرصة لإرواء أحقاده الصليبية المسمومة .
وهنا نقطة تلتبس على أفكار المسلمين وهم يستعرضون التاريخ ..
تكن تلك " الخلافة " في أواخر أيامها - فاسدة ظالمة متجبرة ؟ ألم تكن مظهراً خاويا لا يخفى وراءه سوى الخرافة والجهالة والظلم ؟ ألم تكن قد بعدت عن روح الإِسلام ؟
فكيف لا يكون الخروج عليها إذن عملا طيبا يستحق التشجيع ويستحق الإِشادة والتسجيل !
هل كان يطلب من المسلمين في أقطار الأرض أن يُبْقُوا على الخلافة بعد ما صارت إليه لمجرد كونها رمزاً للإِسلام ، وهم يذوقون منها الذل والهوان ، والرجعية والتحجر ، والوقوف في وجه كل إصلاح ؟
ولنفرض أن للاستعمار هدفاً خبيثاً من هدم الخلافة وتقطيع أوصال العالم الإِسلامي ، فهل نسكت نحن على مظالم الخلافة ونقتل أنفسنا بالتحجر والرجعية من أجل أن خروجنا على الخلافة سيحقق للاستعمار هذا الهدف الخبيث ؟!
هنا تلتبس المسألة على أفكار المسلمين .. وهي لا تلتبس عليهم إلا بسبب ما دسه الاستعمار الصليبي في أفكارهم ، وألح في تثبيته ، من أنه لم يكن هناك إلا أحد أمرين : إما الاستمرار في الخضوع المذل لمظالم الخلافة .. وإما الانفصال عنها في حركات استقلالية .. وليكن بعد ذلك ما يكون .. بل ليكن دخول النفوذ الغربي في البلاد " المستقلة " هو الثمن الذي تدفعه تلك البلاد للتخلص من ظلم الخلافة وتجبر الأتراك الحاكمين .. ثم تزيد الدعاية الاستعمارية الأمر لبسا في أذهان المسلمين ، حين تقول لهم إن النفوذ الغربي كان معناه الإصلاح والعمران ونشر الحضارة والتعليم .. وكلها خير وبركة كان يقف في طريقها استمرار الخلافة في حكم المسلمين .
وهنا مغالطة مركبة ..
فليس صحيحا أولا أن الأمر كان على هذا النحو : إما الرضى بالمظالم وإما تقطيع أوصال العالم الإِسلامي على هذا النحو المدمر للإِسلام والمسلمين .
وليس صحيحا ثانيا أن الطريق الوحيد للإِصلاح كان دخول النفوذ الصليبي في بلاد المسلمين .
ونعود إلى الحركة الوهابية والحركة المهدية اللتين حرص الاستعمار الصليبي حرصا شديداً على كبتهما وقتلهما قبل أن يمتد نفوذهما إلى العالم الإِسلامي ، وشغّل في ذلك محمد علي وأبناءه ، بطريق مباشر أو غير مباشر .
لقد كانت كلتاهما حركة إصلاح شاملة ؛ كانت أولاهما تبتغي إصلاح العالم الإِسلامي كله من الظلم والخرافة ، وتحرير المسلمين من النير التركي بكل ما يحمل في طياته من جمود وتحجر ، وكانت الثانية تهدف إلى تخليص شمال الوادي من الاحتلال الإنجليزي ، ثم تخليص العالم الإِسلامي من النير التركي . كانت كلتاهما تحاول أن يعيش المسلمون في جو إسلامي نظيف ويستعيدوا كيانهم التاريخي المجيد ، مع المحافظة على أوصال العالم الإِسلامي من التقطيع ، والمحافظة على كيانه من النفوذ الغربي الصليبي أن يعيث فساداً فيه .
ولذلك أسرعت أوربا الصليبية توغر عليهما صدر الحكام الأتراك الذين كان الكثير منهم عملاء للصليبية ، وتستغل محمد علي وأبناءه في إخماد الحركتين الواحدة في أثر الأخرى .. بينما راحت في الوقت ذاته تشجع كل حركة " استقلالية " تقوم على أساس العصبية الإِقليمية ، ولا تقوم على أساس الإِسلام !(5/26)
وهذا ما ينبغي أن يكون مفرق الطريق في تفكير المسلمين بين الإِبقاء على الظلم وبين القضاء على هذا الظلم مع الإبقاء على وحدة العالم الإسلامي وقوة العقيدة الإِسلامية .. وهو حل كان يأباه الاستعمار الصليبي من قبل ، وما زال حتى اليوم يأباه !
* * *
واستمر النفوذ الفرنسي يتوسع في مصر - ويتوسع في سوريا ولبنان - حتى صارت له " مدرسة " فكرية ، تربى فيها في مصر وفي غيرها من كانوا يقولون إن فرنسا هي وطنهم الثاني وأمهم الرءوم ! ومن كانوا يقولون إن مصر لم تكن قط جزءاً من الشرق ! وإنما كانت دائما جزءاً من حوض البحر الأبيض المتوسط ( أي الذي تقع عليه فرنسا ! ) وأن روابطها الفكرية والروحية والثقافية كانت دائما مع أمم البحر الأبيض وليست مع أمم الشرق ( أي ليست مع الإِسلام الذي جاء من قلب الجزيرة العربية ولم يجيء من شواطئ البحر الأبيض !! ) .
وارتفع هؤلاء وهؤلاء إلى مراكز التوجيه - بدفع الاستعمار الصليبي الفرنسي المستمر - ليحوّلوا الأجيال الجديدة إلى فرنسا ، أو يحولوها على أي حال بعيداً عن الإِسلام !
ولكن فرنسا - مع ذلك - لم تستطع أن تحقق كل أحلامها القديمة التي دفعت بها إلى احتلال مصر أيام حملة نابليون ، والتي ظلت تخايل لها بعد ذلك فترة طويلة من الزمان .. فقد كانت المطامع الإنجليزية أسرع وأجسر ، وجاء الاحتلال البريطاني إلى مصر عام 1882 ليبقى فيها نيفاً وسبعين من الأعوام .
وهنا تبدأ الفترة العظمى للنشاط الصليبي في مصر ، تعاصرها فترة النشاط الصليبي الفرنسي في سوريا ولبنان والشمال الأفريقي في تونس والجزائر ومراكش ، كما يعاصر الفترة الأخيرة منها امتداد النشاط الصليبي البرتغالي والدنمركي والهولندي والإِيطالي ... إلخ . في بقية بلاد الإِسلام .
وفي تلك الفترة وضعت السياسة المرسومة المدبرة المنظمة للقضاء على العقيدة الإِسلامية في نفوس المسلمين .
* * *
لم يكن الأمر سهلا بالنسبة للاستعمار
فهذه العقيدة من الرسوخ والقوة وتعمق الجذور بحيث تحتاج إلى جهد مضنٍ لاقتلاعها من جذورها ، أو لتوهين عراها في النفوس . وقد صبر الاستعمار الصليبي على الجهد .. وأفلح في نهاية المطاف .
أفلح .. حين استطاع أن يربي على سمومه أجيالا لا تعرف من الإِسلام إلا اسمه .. وإلا أنه علاقة " بين العبد والرب " لا علاقة لها بالسلوك العملي ، ولا علاقة لها بشئون المجتمع وشئون الحياة .
أو لا تعرف عنه إلا أنه رجعية وجمود وتأخر .. ينبغي الانسلاخ منها للّحاق بركب الحياة !!
وهنا نمضي في العرض الذي بدأناه معتمدين على وقائع التاريخ ، وعلى أقوال مبشرين والمستعمرين .
* * *
في سنة 1882 وقف المستر جلادستون رئيس الوزارة البريطانية في مجلس العموم البريطاني يمسك بيده نسخة من المصحف ويقول لأعضاء المجلس : " إنه ما دام هذا الكتاب باقياً في أيدي المصريين ، فلن يستقر لنا قرار في تلك البلاد " !!
وهو كلام لا تحتاج دلالته إلى تعليق !
فالرجل يحس أن مبعث القوة في هذا الشعب هو القرآن . هو الإِسلام . وهو صخرة المقاومة التي يرتطم بها الاستعمار ويعانيها .. فيجب أن تتحطم .. يجب أن تزول .
وجاء دنلوب .. المتخرج في كلية اللاهوت البريطانية ليرسم لمصر سياسة التعليم
يا عجبا ! سياسة التعليم في بلد مسلم .. يضعها قسيس ؟!
نعم ! لينزع " هذا الكتاب " من أيدي المصريين .. وليستطيع الاستعمار أن يستقر في هذه البلاد !
ووضع دنلوب سياسته المرسومة .. التي آتت في النهاية ثمارها المرجوة منها ، على مهل وبطء ، كما هو شأن السياسة البريطانية في كل مكان .
كان الأزهر هو مصدر العلم في مصر ؛ كان الجامع والجامعة ، يؤمه المتعلمون من شتى الأنحاء - لا في مصر وحدها ، بل في العالم الإِسلامي كله - لينالوا بركة الوجود إلى " جواره " . وليتلقوا فيه العلم والعرفان : " مجاورين " .
ولم يكن الأزهر في ذلك الحين كائنا حياً صالحاً لتعليم الإِسلام . فقد كان ككل شيء في أواخر العهد التركي مجموعة من الجمود والتحجر لا تصلح للحياة ..
ولكن محاولات قوية كانت قد بدأت تبذل لإِصلاح الأزهر وإحيائه ومعاونته على " التنوّر " من إظلامه الشديد .
وبصرف النظر عن النتائج التي يمكن أن ترجى من حركة الإصلاح هذه - بزعامة محمد عبده وأتباعه - فقد كان همّ الاستعمار الصليبي هو القضاء على الأزهر ، لأنه - في نظر المسلمين على الأقل ، إن لم يكن كذلك في الواقع - معقل العقيدة الإِسلامية ، والمتّجه الذي تتجه إليه أنظار المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، وهو - من ثم - مصدر من مصادر " الوحدة " الإِسلامية ، الفكرية والروحية والواقعية ، " ينبغي " أن يزول .
وكان هدم الأزهر بطريقة مباشرة أمراً لا يفكر فيه الاستعمار البريطاني بطريقته الملتوية البطيئة الماكرة ، فقد رأى كيف كانت حماقة الفرنسيين من قبل أيام الحملة الفرنسية ، حين استباحوا الأزهر لخيولهم ، سبباً مباشراً من أسباب ثورة الشعب ، ورأوا كذلك كيف كانت حملات التبشير التي تهاجم العقيدة الإِسلامية مهاجمة مباشرة تؤدي إلى عكس المطلوب منها ، إذ تنبه المسلمين للخطر ، وتزيدهم استمساكا بالإسلام !
كلا ! لا يرتكب الاستعمار الإِنجليزي هذه الحماقة ..
إنما يعمد إلى كيد بطيء الفعل ولكنه مضمون المفعول (60)
فتح دنلوب مدارس " حكومية " ابتدائية تدرس العلوم " المدنية " وتعلم اللغة الإنجليزية - لغة الاستعمار - وتخرج موظفين كتبة في الدواوين التي يحتلها ويديرها الإِنجليز .. يقبضون رواتب تعد بالجنيهات لا بالقروش !
ولم يكن الأمر في حاجة إلى مزيد من الإِغراء . فمن ذا الذي يبعث بابنه بعد اليوم إلى الأزهر - إلا الفقراء العاجزون عن دفع المصروفات - وهو يرى له المستقبل المضمون في وظيفة الحكومة ، حيث " يرطن " بلغة السادة المستعمرين ؟
وانصرف الناس - القادرون - من ذوات أنفسهم عن الأزهر ، واتجهوا إلى مدارس الحكومة بعد الثورة الأولى التي ثارها الحس الباطني المسلم على هذه المدارس " الكافرة " التي لا تعلم القرآن ولا تعلم الدين .. وأصبح هؤلاء المتعلمون " طبقة " جديدة ، تستمد طبقيتها من أنها من أبناء الأسر أولا ، ومن مركزها الاجتماعي في وظيفة الحكومة ثانيا .. ومن التشجيع الظاهر والخفي الذي تلقاه من سلطات الاستعمار بعد هذا وذاك .
ولم يكن أولئك المتخرجون في تلك المدارس " متعلمين " في الحقيقة . إنما كانوا كما قلنا مجموعة من " الكتبة " لا يصلحون لغير هذه الوظيفة . لا يصلحون إلا لتلقي الأوامر من المدير الإنجليزي ، وتنفيذها في عبودية كاملة ورعب وتقديس !
وما كان الإنجليز في ذلك الحين يجهلون أصول " التربية " الصحيحة ولا وسائل التعليم الحقة . ولا كانت مدارسهم في إنجلترا تدار بأساليب العبودية التي كانوا يديرون بها مدارس الحكومة في مصر . ولكن السياسة التي رسمها دنلوب لم تكن تهدف إلى تخريج متعلمين ، وإنما تهدف إلى تخريج عدد من العبيد يؤمرون فيطيعون ، ويشار إليهم فينفذون .. بجانب الهدف الآخر الخفي الذي يتحقق في ذات الوقت ، في بطء أكيد العاقبة ، وهو تحويل الناس عن الأزهر ليذوي ويتضاءل ، ويموت في نهاية المطاف .(5/27)
في تلك المدارس كان يدرس المقرر في صورة واحدة ، من كتاب واحد مقرر . وما كان الإِنجليز يجهلون أن الصورة الواحدة المحدودة تحدد تفكير الدارس وتقتل ملكة الابتكار فيه ، لأن الابتكار ينشأ من رؤية الشيء الواحد في صور متعددة ومن زوايا مختلفة ، فيتعود الذهن على التحوير والتبديل ، وينشأ عن ذلك الابتكار والتطوير . وقد كانت مدارسهم في إنجلترا - في ذلك الوقت ذاته - تربي تلاميذها على أن يطلعوا على الموضوع الواحد في مصادر مختلفة فيتربى فيهم حب الاطلاع من ناحية ، والقدرة على الابتكار والاختراع من ناحية . ثم يمتحنون فيما استفادوه من دراستهم لا فيما حفظوه عن ظهر قلب . ولكنهم - في مصر - كانوا يحددون الأفهام والعقول ، خوفا من أن تنشأ فيها القدرة على التفكير !
وفي تلك المدارس كان الناظر الإنجليزي يحيط نفسه بجو من القداسة والرهبة ، كأنه إله يعبد ، يسري في النفوس منه الرعب ، وتتوجه إليه القلوب بالتوقير والتقديس ، وكانت تلك خير وسيلة - لا للتربية - وإنما لزرع العبودية في النفوس
وفي تلك المدارس كان يلقن التلاميذ أن مصر بلد متأخر لأنه زراعي ، لا يمكن أن تنشأ فيه الصناعة - عنوان التقدم - لأنه ليس فيه فحم ولا حديد . وأن أوربا على وجه العموم وإنجلترا بصفة خاصة ، بلاد متقدمة لأنها بلاد صناعية ، لأن فيها الفحم والحديد .
وفي تلك المدارس لم يكن يدرس القرآن ولا الدين .. إلا نتفا متناثرة تضر أكثر مما تنفع ..
فبينما كانت المدارس التبشيرية التي يحميها الاستعمار ويمكّن لها في الأرض ، تبدأ نشاطها اليومي بالصلاة في كنيسة المدرسة ، والتوجه إلى الله بالدعاء المسيحي - بما في ذلك التلاميذ المسلمون قسرا عنهم - فيرتبط الدين في وجدان التلاميذ بالنشاط والتطلع ، والحياة الباكرة القوية المستشرفة ، كانت حصص القرآن والدين في مدارس الحكومة توضع في نهاية اليوم المدرسي ، وقد كلّ التلاميذ وملوا ، وحنوا إلى الانفلات من سجن المدرسة البغيض إلى فسحة الشارع أو رحب البيت ، وكانت هذه الحصص توكل إلى أسن مدرس في المدرسة ، يسعل ويتفل ، ويمثل أمام التلاميذ ضعف الحياة الفانية المنهارة .. فيرتبط الدين في وجدانهم بالعجز والفناء والشيخوخة ، كما يرتبط بالملل والضجر والنفور .
* * *
وتوسعت سياسة دنلوب ، فأنشأ بضع مدارس ثانوية تمد الموجة الصليبية خطوات إلى الأمام ..
مدارس تسيرعلى النهج ذاته في كل شيء .. ولا تدرس شيئاً عن حقيقة الإِسلام !
فما التاريخ الإِسلامي الذي يدرسه التلاميذ ؟
نزل الإسلام :
1 - في قوم وثنيين يعبدون الأصنام فدعاهم إلى عبادة الله الواحد .
2 - وكانوا يئدون البنات فنهاهم عن ذلك .
3 - ثم دعاهم لنشر الدعوة فكانت الغزوات والفتوح التي انتهت بانتشار الإِسلام في البقاع التي يوجد فيها اليوم !
ومن ثم يكون الإسلام " منتهيا " قد فرغت مهمته ، ولم يعد له مهمة يؤديها في وقع الحياة !
فأولا : لم يعد هناك أولئك الوثنيون عباد الأصنام الذين يدعوهم الإسلام إلى عبادة الله الواحد ( وقد حجب الاستعمار أفريقيا ! )
وثانياً : لم يعد أحد يئد البنات حتى يحتاج إلى دعوة الإسلام للقضاء على هذه الفعلة الشنيعة .
وثالثا : نشر الدعوة - أو الجهاد - قد توقف بحكم الظروف الدولية الحديثة ، ولم يعد له محل في العالم الحديث .
أما الإِسلام كقوة كونية انبعثت في الأرض لتهدي الناس إلى النور ..
أما الإِسلام كنظام يحكم الحياة البشرية من جميع أطرافها ويوجهها إلى الفلاح والخير ..
أما الإسلام كقوة فاعلة في واقع الأرض ..
أما الإِسلام كحضارة امتدت في أقطار الأرض وأقطار الزمن أكثر من ألف من السنين ..
أما الإسلام كحركة علمية أضاءت وجه الأرض كله واستقت منها أوربا ذاتها لتكوّن نهضتها الحديثة ..
أما الإِسلام كتنظيم اقتصادي وعدالة اجتماعية ..
أما الإِسلام كحركة تحريرية ، حررت ضمير الفرد من الخرافة كما حررته من العبودية لغير الله ، وحررت جموع الناس من الظلم الذي يقع عليهم من فساد النظم أو فساد الأشخاص ..
أما الإِسلام كشريعة أنزلها الله ليحكم بها الناس في الأرض ، ولتنفذ وتطاع ..
أما هذا كله ، فلا شيء منه يدرس للطلاب في المدارس .. وإنما يدرس الإِسلام - على أكثر تقدير - كمجموعة من العبادات يؤديها الإِنسان فيكون قد أدى كل ما عليه من " إسلام " !
أو يدرسونه مجموعة من الشبهات ! مجموعة من المظالم الفكرية والروحية والاجتماعية والسياسية ، تبيّنه في نظر الناس شيئاً ضئيلا هزيلا من ناحية ، ومن ناحية أخرى تبيّنه رجعية وجموداً وتأخراً ينبغي الانسلاخ منها في قوة ، والتخلص من هذه السبة التي تسمى الدين .
وفي مكان هذا كله يدرسون لهم أوربا !
أوربا هي القوة . وهي الحضارة . وهي العلم . وهي العدالة الاجتماعية . وهي الحرية والإخاء والمساواة . وهي التقدم الصاعد أبداً في كل ميدان .
النظم الاجتماعية الحقة هي التي قامت في أوربا . والنظم الاقتصادية الحقة هي التي ابتدعها الفكر الأوربي . والنظم الدستورية الصالحة هي التي صقلتها تجارب الأوربيين . حقوق الإِنسان قررتها الثورة الفرنسية . والديمقراطية قررها الشعب الإِنجليزي . والحضارة وضعت أسسها الإِمبراطورية الرومانية .
وباختصار : أوربا هي العملاق الضخم الذي لا يقهر . والإسلام هو القزم الضئيل الذي عليه أن يتعبد هذا العملاق .. ليعيش !
* * *
ولم يكن ذلك كل شيء في سياسة دنلوب القسيس .
لقد كانت اللغة العربية - وما تزال - مرتبطة بالإِسلام في نفوس المسلمين ، العرب منهم وغير العرب سواء .
فلا بد إذن من تحقيرها والزراية بها ، حتى تنتقل الزراية والتحقير - بالطبيعة - إلى ما يرتبط بها من معاني الدين .
وليكن شخص معلم اللغة العربية هو موضع الزراية والتحقير ..
فبينما يقبض مدرس اللغة الإِنجليزية أو الجغرافيا والتاريخ أو الرياضة اثني عشر جنيها كاملة في الشهر ، تساوي في ذلك الزمان الحياة الرغيدة والوفر الذي تتكون منه ثروات وأراض وبيوت .. يقبض زميله مدرس اللغة العربية الذي يقوم بالعمل معه في نفس المدرسة ، ويأخذ جدولا مماثلا من الحصص أو أكثر .. أربعة جنيهات !
وفي الحال تتميز الطبقتان تميزاً شنيعا لا يقف عند حد .
فهذا موضع الاحترام في المدرسة والمجتمع ، ينال مكانته الاجتماعية والاقتصادية .. ويتزوج من " البيوتات " ويربي أبناءه في جو من الاستعلاء والترفع ..
وذلك يتأخر ويتواضع وينطوي على نفسه ، وتنزل مكانته الاجتماعية والاقتصادية .. ولا يتسنى له أن يتزوج من أسرة كريمة .. ويربي أبناءه في جو من الفقهر والمذلة والهوان .. ويلقاه الناس في كل مكان بالازدراء والنفور ..
أف ! هذا مدرس لغة عربية !
ولا تصيبه الضربة وحده في واقع الأمر .. وإنما تصيب معه اللغة العربية والدين !
* * *
ولم يكن هذا كل شيء ...
فمع الاستعمار الصليبي في العالم الإِسلامي كان التبشير يعمل على أوسع نطاق ممكن ، وفي قوة وإصرار وعنف ، لتقويض المفهوم الإسلامي في النفوس ، وزرع المفهوم المسيحي أو الأوربي بصفة عامة في قلوب الناس بدلا من مفهوم الإِسلام .
وأمامي كتاب " الغارة على العالم الإٍسلامي La Conquete du Monde Musulman " (61) يشتمل على حقائق مذهلة .. يذهل الإِنسان إذ يراها تنشر بهذه الصراحة ، ويذهل إذ يرى الخطوط التي وضعها التبشير والاستعمار معاً ما زالت عاملة في العالم الإِسلامي ، والسموم التي وضعاها معاً ما زالت سارية في نفوس المسلمين !(5/28)
إنها مأساة شنيعة .. أن يكون هذا الكيد كله قد دبر للمسلمين وهم في غفلة من أمرهم ، أو وهم يضحكون في بلاهة ، أو وهم يخبطون كفاً على كف في تواكل بليد !
ثم مأساة شنيعة .. أن نرى آثار هذا الكيد كله عاملة في جسم العالم الإِسلامي اليوم ، في أفكاره وسلوكه ، وأخلاقه وتقاليده ... فيفرح بعضنا " بالتقدم " الذي أحرزناه ، ويغتمّ بعضنا للفساد الذي فسدناه .. ويظن هؤلاء وهؤلاء أنه " التطور " " الحتمي " قد أخذ طريقه إلى العالم الإِسلامي ، وأنه لا يمكن وقفه ، ولم يكن وقفه مستطاعا في أي وقت من الأوقات ..
ويغفلان معاً - هؤلاء وهؤلاء - عما صنعه الاستعمار والتبشير في عقول الناس ونفوسهم في قرنين من الزمان !
حقاً إن " التطور " العالمي قوة ضخمة ، سواء اعتبرناه انحداراً أو رفعة ؛ وكان لا بد أن تصيب دفعته العالم الإِسلامي رضي أم أبى ، وسنتكلم بالتفصيل عن آثاره في الفصل القادم " تيارات عالمية " ؛ ولكنا نقول هنا إن الاستعمار الصليبي قد عمل ولا شك كثيراً " لإِخضاع " العالم الإِسلامي للموجة الكاسرة ، دون أن تتاح له القدرة على مقاومتها ، أو الوقوف منها موقفاً آخر غير موقف الخنوع والاستسلام .
ولو كان العالم الإسلامي في قوته كما كان ، وفي استعلائه كما كان ، لكان له ولا شك موقف آخر من هذا " التطور " غير الخنوع له والاستسلام ، وغير الفرحة البلهاء " بالتقدم " ، والمسارعة إلى أخذ كل شيء يأتي من الغرب على أنه الشفاء من كل داء ، ولو كان هذا السم وهو مبعث الداء ! .. ولكان له من البشرية كلها موقف آخر غير هذا الموقف الخانع المستسلم : موقف المنقذ من الهاوية التي تفغر فاها اليوم لتبتلع كل خير حصلته البشرية في تاريخها الطويل !
سنعود إلى هذا فيما بعد ..
أما الآن فنقتطف من هذا الكتاب المذهل فقرات ذات دلالة .. وإن كان الكتاب كله في الحقيقة يستحق القراءة كلمة كلمة ، لأنه لا توجد فيه كلمة واحدة بغير دلالة عجيبة شنيعة بشأن ما نحن فيه !!
هذا الكتاب هو في حقيقته عدد خاص من " مجلة العالم الإِسلامي La Rrevue du Monde Musulman " التي تصدر في فرنسا ، أصدرته قبل خمسين عاماً ، لعرض نشاط التبشير البروتستانتي في البلاد الإِسلامية ، وكتب مقدمته مسيو أ. لو شاتلييه A . Le Chatelier رئيس تحرير تلك المجلة عندئذ ، ليحمس الكاثوليك في فرنسا ، ويستنهض همتهم ، لينشطوا في التبشير من جانبهم ، مثيراً غيرتهم بالنجاح الباهر الذي أحرزه البروتستانت في هذا الميدان . وجعلت المجلة عنوان هذا البحث La Conquete du Monde Musulman أي غزو العالم الإسلامي . وقد ترجمه السيدان مساعد اليافي ومحب الدين الخطيب عند صدوره مباشرة ، ونشراه في جريدة المؤيد ، مقالات متتابعة ، ثم جمعاه بعد ذلك في كتاب صدر في القاهرة سنة 1350 هـ أي منذ ثلاثين عاماً .
وهذا الكتاب - الذي صدر في ذلك التاريخ البعيد - يعرض نشاط التبشير فيما يقرب من قرن - قبل تأليفه - ويعرض بالذات أعمال المؤتمرات التبشيرية الكبرى التي قامت في القاهرة سنة 1906 وفي أدنبره بإنجلترا سنة 1910 وفي لكنو بالهند 1911 ، ويعطي فكرة واضحة جداً عن اتجاه التبشير في العالم الإسلامي ووسائله وأهدافه . والزمن الطويل الذي مضى منذ تأليفه لا يفقده قيمته ، بل إنه على العكس هو الذي يعطيه أهمية زائدة ، لأنه يبين الخطوط الأساسية التي وضعت في الماضي ، وتركت تعمل على مهل لتبلغ أهدافها ، وقد بلغتها فعلا ، وما تزال حتى اليوم سارية المفعول .. ويبين للمسلمين أن تاريخ الاستعمار الصليبي معهم طويل من قبل ، وأن الحاضر كله ليس إلا جولة من جولات الصراع ، يفصح عنها رجل مثل بيدو في فرنسا حين يشير إلى معركة " الهلال والصليب " في المغرب .. ويخفيها آخرون .
* * *
يقول شاتلييه في مقدمته ( والأقوال الشارحة من عندنا وكذلك الخطوط الموضوعة تحت بعض الكلمات لإبراز أهميتها ) :
" قلنا في سنة 1910 عندما كنا نخوض على صفحات هذه المجلة ( مجلة العالم الإسلامي الفرنسية ) في موضوع السياسة الإِسلامية ( أي السياسة التي ينبغي أن تتبع تجاه الإِسلام والبلاد الإِسلامية ) : ينبغي لفرنسا أن يكون عملها في الشرق مبنياً قبل كل شيء على قواعد التربية العقلية ليتسنى لها توسيع نظاق هذا العمل والتثبت من فائدته . ويجدر بنا لتحقيق ذلك بالفعل أن لا نقتصر على المشروعات الخاصة التي يقوم الرهبان المبشرون وغيرهم بها ( ! ) ... فتبقى مجهوداتهم ضئيلة بالنسبة إلى الغرض العام الذي نتوخاه ، وهو غرض لا يمكن الوصول إليه إلا بالتعليم الذي يكون تحت الجامعات الفرنساوية ، نظراً لما اختص به هذا التعليم من الوسائل العقلية والعلمية المبنية على قوة الإِرادة ( ! ) . وأنا أرجو أن يخرج هذا التعليم إلى حيز الفعل ليبث في دين الإِسلام التعليم المستمدة من المدرسة الجامعة الفرنساوية " !
هكذا يبين شاتلييه في صراحة " الغرض العام الذي يتوخاه " ! وهو أن تُبَثّ في دين الإِسلام التعليم المستمدة من المدرسة الجامعة الفرنساوية .. أي تدس في الإِسلام التعاليم المسيحية الفرنسية ، لا عن طريق الرهبان المبشرين - فهؤلاء عملهم محدود ، لا يفي بالغرض الواسع المدى - وإنما عن طريق التعليم ، عن طريق فتح مدارس فرنسية في العالم الإسلامي تبث هذه التعاليم ، وتدرس هذه الأفكار .. وهذه المدارس - لكي لا ننسى - هي المدارس العلمانية !! وهي غير مدارس الرهبان والراهبات ، ذات الصبغة الدينية الصريحة !
ثم يقول في نفس المقدمة :
" نعم ، إن غاية المدرسة اليسوعية ( في بيروت وهي من مدارس الرهبان ) وطريقة التعليم فيها تختلفان عن غاية وطريقة المدرسة الكلية الفرنساوية في الأستانة ( وهي من المدارس العلمانية ) إلا أن النتائج كانت متقاربة من حيث تعميم التعاليم والأفكار التي تنشرها اللغة الفرنسية . ومن هذا يتبين لنا أن إرساليات التبشير الدينية التي لديها أموال جسيمة وتدار أعمالها بتدبير وحكمة ، تأتي بالنفع الكثير في البلاد الإِسلامية ، من حيث إنها تبث الأفكار الأوربية " .
ثم يمضي في المقدمة فيستشهد بهذه الفقرة من كلام الأب زويمر ( وهو مبشر بروتستانتي كان له نشاط في نهاية القرن الماضي وأوائل هذا القرن في الشرق الإِسلامي ومصر خاصة ، وهو منشئ مجلة العالم الإِسلامي الإِنجليزية ) :
" إن لنتيجة إرساليات التبشير في البلاد الإِسلامية مزيتين : مزية تشييد ومزية هدم . أو بالحرى مزيتي تحليل وتركيب . والأمر الذي لا مرية فيه هو أن حظ المبشرين من التغيير الذي أخذ يدخل على عقائد الإِسلام ومبادئه الخلقية في البلاد العثمانية والقطر المصري وجهات أخرى هو أكثر بكثير من حظ الحضارة الغربية منه " .
وهو كلام له خطورته بصفة خاصة . فهو يقرر صراحة أن التغيير الذي دخل على عقائد الإِسلام ومبادئه الخلقية يرجع إلى نشاط التبشير - الذي يحميه الاستعمار ويمكّن له - أكثر مما يرجع إلى الحضارة الغربية بذاتها . وهذا يؤيد ما قدمنا به لهذه المقتطفات ، من أن موجة " التطور " العالمية - أي الغربية في الحقيقة - لم تكن بذاتها مستطيعة أن تصنع هذا الصنيع كله في العالم الإسلامي ، فتدمر عقائده وأخلاقه ، لولا الاستعمار الصليبي الذي مهد لها ، ومكنها من تسديد الضربات القاصمة لصرح الإسلام .. وهو قول يعترف به المبشرون الغربيون أنفسهم ، ثم ينكره كثير من " المسلمين " ! مؤرخين وغير مؤرخين !
ونمضي في المقتطفات .. يقول شاتلييه بعد ذلك في المقدمة :(5/29)
" ولا شك في أن إرساليات التبشير من بروتستانتية وكاثوليكية تعجز عن أن تزحزح العقيدة الإِسلامية من نفوس منتحليها ، ولا يتم لها ذلك إلا ببث الأفكار التي تتسرب مع اللغات الأوربية . فبنشرها اللغات الإِنجليزية والألمانية والهولندية والفرنسية يحتك الإِسلام بصحف أوربا وتتمهد السبل لتقدم ( ! ) إسلامي مادي ، وتقضي إرساليات التبشير لبناتها من هدم الفكرة الدينية الإسلامية التي لم تحفظ كيانها وقوتها إلا بعزلتها وانفرادها " .
وهو كلام كذلك له خطورته . فهو يبين لنا - فيما أحسب - هدف الاستعمار الصليبي من نشر اللغات الأوربية في البلاد الإسلامية التي يستعمرها . إنه أولا وقبل كل شيء هدم الفكرة الدينية الإِسلامية .. ثم إنشاء أي شيء بعد ذلك ، أو عدم إنشاء شيء على الإطلاق ! فالمهم هو الهدم وليس هو الإِنشاء .. باعتراف شاتلييه نفسه إذ يقول في الفقرة التالية :
" ولا ينبغي لنا أن نتوقع من جمهور العالم الإِسلامي أن يتخذ له أوضاعا وخصائص أخرى إذا هو تنازل عن أوضاعه وخصائصه الاجتماعية ( المستمدة من الفكرة الإِسلامية ) إذ الضعف التدريجي في الاعتقاد بالفكرة الإِسلامية وما يتبع هذا الضعف من الانتقاض والاضمحلال الملازم له ، سوف يفضي بعد انتشاره في كل الجهات إلى انحلال الروح الدينية من أساسها لا إلى نشأتها بشكل آخر " :
كلام صريح لا يحتاج إلى تعليق .. فتعليم اللغات الأوربية هدفه إضعاف الاعتقاد بالفكرة الإِسلامية . وهذا الضعف مقدر له - في علم الاستعمار الصيبي وتدبيره - أن يتبعه انتقاض واضمحلال ملازم له .. وهذا هو المطلوب !
وهنا نقف لحظة لنرد على هذا السؤال : هل كنا نمتنع إذن عن تعلم اللغات الأوربية - وهي الوسيلة الكبرى أو الوحيدة للمعرفة في الوقت الحاضر - بسبب أن الاستعمار يستخدمها لإِضعاف العقيدة الإِسلامية ؟
كلا ! فالامتناع عن تعلم اللغات وإقفال باب المعرفة حماقة لا يطلبها لنفسه عاقل ! وإنما السبيل هو أن نتعلمها بوعينا وإرادتنا ، لا على النحو الذي يريده لنا الاستعمار . نتعلمها كما تعلم المسلمون الأوائل اليونانية والفارسية والهندية - لغات العلم يومئذ والمعرفة - دون أن تتأثر بذلك عقيدتهم ، بل تعلموها لخدمة هذه العقيدة ومد نشاطها إلى كل فروع المعرفة .. ويومها أصبح المسلمون هم علماء الأرض .. مع بقائهم مسلمين !
ووقفة أخرى - لا يملك الإنسان نفسه إزاءها - ليقارن بين هذا الصنيع الصليبي في العام الإِسلامي ، وبين ما صنعه الإِسلام في البلاد المفتوحة ، ليتبين لنا الفرق بين اتجاه واتجاه !
فما لا شك فيه أن المسلمين نشروا لغتهم العربية في البلاد التي فتحوها ، وأنهم فتحوا هذه البلاد لينشروا فيها الإِسلام .. ولكن أي فرق .. !
لم يحفظ التاريخ قط أن المسلمين سعوا بأية وسيلة ملتوية إلى " استلاب " الناس من عقيدتهم وأفكارهم ليدخلوا الإِسلام ! وإنما كانت الدعوة صريحة مكشوفة لا تحايل فيها ، ولا ضغط كذلك ولا إكراه .
يقول ت. و. أرنولد - وهو كاتب مسيحي ، فوق مستوى الشبهات فيما نحن بصدده ! - في كتابه " الدعوة إلى الإٍسلام The Preaching of Islam " ص 48 من الترجمة العربية لحسن إبراهيم حسن وآخرين :
" ويمكننا أن نحكم من الصلات الودية التي قامت بين المسيحيين والمسلمين من العرب ، بأن القوة لم تكن عاملا حاسما في تحويل الناس إلى الإِسلام . فمحمد نفسه قد عقد حلفا مع بعض القبائل المسيحية ، وأخذ على عاتقه حمايتهم ومنحهم الحرية في إقامة شعائرهم الدينية ، كما أتاح لرجال الكنيسة أن ينعموا بحقوقهم ونفوذهم القديم في أمن وطمأنينة "
ويقول في ص 51 : " ومن الأمثلة التي قدمناها آنفاً عن ذلك التسامح الذي بسطه المسلمون الظافرون على العرب المسيحيين في القرن الأول من الهجرة ، واستمر في الأجيال المتعاقبة ، نستطيع أن نستخلص بحق أن هذه القبائل المسيحية التي اعتنقت الإِسلام ، إنما فعلت ذلك عن اختيار وإرادة حرة . وإن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات مسلمة لشاهد على هذا التسامح " .
ثم إن نشر اللغة العربية في البلاد المفتوحة ، الذي كان مقصودا به ولا شك فتح الباب السلمي لاطّلاع الناس على العقيدة الجديدة ، حتى يعتنقوها - إذا أعجبتهم - دون إكراه ، (62) لم يكن مقصودا به ، ولا هو أدى قط إلى الاضمحلال والانتقاض ، ولا إلى انحلال الروح الدينية من أساسها بحيث لا تنشأ بشكل آخر ، مما يصرح شاتلييه أنه هدف الاستعمار الصليبي ، وإنما كان مقصودا به ، وأدى بالفعل إلى إنشاء الروح الدينية الصحيحة بصورة قوية بناءة في واقع الحياة .
ويكفي هذا التفريق .. ونمضي في الطريق ، نسجل المقتطفات .. أو في الحقيقة الاعترافات !
يستمر شاتلييه في المقدمة فيقول :
" ولكننا نعود فنقول : إنه مهما اختلفت الآراء في نتائج أعمال المبشرين من حيث الشطر الثاني من خطتهم وهو الهدم ، فإن نزع الاعتقادات الإِسلامية ملازم دائما للمجهودات التي تبذل في سبيل التربية النصرانية . والتقسيم السياسي الذي طرأ على الإِسلام سيمهد السبل لأعمال المدنية الأوربية ، إذ من المحقق أن الإسلام يضمحل من الوجهة السياسية ، وسوف لا يمضي غير زمن قصير حتى يكون الإسلام في حكم مدنية محاطة ( محاصرة ) بالأسلاك الأوربية " .
وهذه الفقرة القصيرة تشتمل وحدها على حقيقيتين خطيرتين :
الأولى سبق الإِشارة إليها ولكنها هن تصاغ بصورة أوضح وأصرح ، وهي أن الجهود التي تبذل ، هي في سبيل التربية النصرانية ، لا في سبيل نشر الحضارة من حيث هي تراث إنساني لا يعرف الدين ولا الوطن ، وتشترك فيه البشرية بكاملها ، كما كان يخيل للمستغفلين من المسلمين في الشرق ، إزاء أعمال " التمدين " التي يقوم بها الاستعمار في البلاد الإِسلامية ، وكما كان يزعم المأجورون من دعاة هذا الاستعمار أو المتسممون بسمومه .
إنها في صراحة ووضوح جهود تبذل في سبيل التربية النصرانية ، ويصاحبها ويلازمها نزع الاعتقادات الإِسلامية من النفوس .
والثانية أن التقسيم السياسي الذي طرأ على الإِسلام سيمهد السبل لأعمال المدنية " الأوربية " أي - كما شرحها شاتلييه - المدنية النصرانية ..
وهذا التقسيم السياسي الذي يشير إليه الكاتب هو تفتت العالم الإسلامي إلى دويلات شبه مستقلة ، يقوم بالحكم فيها حاكم شبه مستقل ، أو طامع في الاستقلال ، يتبناه الاستعمار الصليبي وينفخ فيه من روح الشيطان .
هذا التفتيت كان عملية مقصودة ولا شك ، ليتم الغزو ، الديني والحربي ، بصورة أسرع وأيسر مما لو كان العالم الإِسلامي وحدة - مهما يبلغ من ضعفها فهي صعبة التفتيت ، وتجزئتها تزيدها ضعفا على أي حال .
ثم إن هذا يؤيد يؤكد ما سبق أن ذكرناه ، وكررناه ، من أن المدنية الأوربية بذاتها - أو " التطور " كما يلذ " للمثقفين " أن يسموه - لم يكن مستطيعاً وحده أن يفسد من العالم الإِسلامي ما أفسد ، لولا هذا الدك المستمر في قلاعه على أيدي الاستعمار الصليبي ، بنزع العقيدة الإِسلامية من النفوس بكل وسيلة يملكها المبشرون والمستعمرون .
* * *(5/30)
وقد كانت هذه المقدمة في الحقيقة كافية لتوضيح ما نقصد إليه من هذه المقتطفات . كافية لبيان الكيد الذي دبر للإِسلام للقضاء عليه منذ قرن مضى ، ولبيان أن هذا الكيد ذاته هو الذي ما يزال يجري عليه العالم الصليبي في علاقاته مع العالم الإِسلامي ، مع فارق واحد ، أنه لم يعد - دائماً - يعلن عن أهدافه - فيما عدا صراحات رجل كالمسيو بيدو في فرنسا - وإنما صار أميل إلى إخفائها والتستر عليها ، بل نفيها أحياناً بكل وسيلة ممكنة .. وذلك لسببين :
الأول : أن هذا الكيد قد فعل فعله في حقيقة الواقع ، وما تزال دفعته سارية ، فيحسن التستر عليها حتى تؤدي عملها في هدوء ، ويحسن عدم التشويش عليها بما يوقظ الناس إلى حقيقة أهدافها .
والثاني : أن الاستعمار الصليبي قد وجد أسناده الداخليين - من بين المسلمين الذين استُعمرت أرواحهم وتسممت نفوسهم - الذين يكل إليهم المهمة الكبرى في تحطيم العقيدة الإِسلامية ، دون أن يتدخل تدخلا سافراً كما كان مضطراً قبل نصف قرن ، ودون أن ينكشف للناظرين .. وجد أسناده الداخليين في كل مكان في العالم الإٍسلامي ، من " الكتّاب " و " المفكرين " و " الموجهين " و " المثقفين " و " التحرريين " و " التقدميين " و " التطوريين " .. وغيرهم ممن يملكون التوجيه والتأثير .. يسند إليهم المهمة ويستريح ، ويقف ساخراً يفرك يديه من غفلة المستغفَلين وسهولة الكيد على الكائدين !
كانت المقدمة التي كتبها شاتلييه واقتطفنا منها هذه الفقرات كافية لبيان هذا كله ، بحيث نستغني عن مزيد من المقتطفات من البحث نفسه المسمى " غزو العالم الإِسلامي " أو " الغارة " عليه . لولا أن في بقية الكتاب تفصيلات نافعة في الخطوات التي اتخذها الاستعمار الصليبي لقتل العقيدة في نفوس المسلمين وتحويلهم عنها . تفصيلات قد تزيد علمنا بالوسائل ، إن لم تزد علمنا بالأهداف .
* * *
ينقسم الكتاب إلى فصول مختلفة عن " تاريخ التبشير" و " مؤتمر القاهرة التبشيري سنة 1906 " و " مؤتمر أدنبره التبشيري سنة 1910 " و " المؤتمر الاستعماري الألماني " و " مؤتمر لكنو التبشيري سنة 1911 " و " التنظيم المادي لإِرساليات التبشير " و " مقاصد المبشرين وآمالهم في المستقبل " . وفي كل فصل من هذه الفصول تفصيلات مختلفة . ولا يهمنا هنا أن نسير مع هذه التفصيلات ولا أن نقتطف من كل الفصول . وإنما نكتفي فقط بالعبارات ذات الدلالة ، كما صنعنا من قبل في مقدمة شاتلييه .
* * *
جاء في ص 33 من الكتاب ( في فصل " مؤتمر القاهرة سنة 1906 " ) .
" أما الذين تعلموا على الطريقة الشرقية في الأزهر وما يماثله ، فلم يتكلم أعضاء المؤتمر عنهم إلا بعض اقتراحات ونظريات : من ذلك أن أحد أعضاء المؤتمرأفاض في وصف ما للجامع الأزهر القديم من النفوذ ، وإقبال الألوف عليه من الشبان المسلمين في كل أقطار العالم . وتساءل عن سر نفوذ هذا الجامع منذ ألف سنة إلى الآن . ثم قال : إن السنيين من المسلمين رسخ في أذهانهم أن تعليم العربية في الجامع الأزهر متقن ومتين أكثر منه في غيره ، والمتخرجون في الأزهر معروفون بسعة الاطلاع على علوم الدين ، وباب التعليم مفتوح في الأزهر لكل مشايخ الدنيا خصوصا وأن أوقاف الأزهر الكثيرة تساعد على التعليم فيه مجانا ، لأن في استطاعته أن ينفق على 250 أستاذاً . ثم تساءل عما إذا كان الأزهر يتهدد كنيسة المسيح بالخطر . وعرض اقتراحا يريد به إنشاء مدسة جامعة نصرانية تقوم الكنيسة بنفقاتها ، وتكون مشتركة بين كل الكنائس المسيحية في الدنيا على اختلاف مذاهبها لتتمكن من مزاحمة الأزهر بسهولة ، وتتكفل هذه المدرسة الجامعة بإِتقان تعليم اللغة العربية ." .....
" وختم كلامه قائلا : ربما كانت العزة الإِلهية قد دعتنا إلى اختيار مصر مركز عمل . لنسرع بإنشاء هذا المعهد المسيحي لتنصير الممالك الإِسلامية " ( !! ) .
الأزهر إذن يتهدد كنيسة المسيح بالخطر ! وينبغي لذلك إزالته من الطريق ! ولكن كيف وهو راسخ القدم منذ ألف سنة أو تزيد ؟! الطريق هو إزالة " تفرده " الذي تفرد به هذه الألف من السنين ! فإذا أصبح له شبيه من أي نوع ، فقد ذهبت قيمته وانصرف الناس عنه إلى شيء جديد !
* * *
وجاء في ص 36 من نفس الفصل :
" خاض المؤتمر بعد ذلك في مسألة إرساليات التبشير الطبية ، فقام المستر هاربر وأبان وجوب الإكثار من الإِرساليات الطبية ، لأن رجالها يحتكون دائما بالجمهور ، ويكون لهم تأثير على المسلمين أكثر مما للمبشرين الآخرين " .
وفي ص 37 : " يجب على طبيب إرساليات التبشير أن لا ينسى ولا في لحظة واحدة أنه مبشر قبل كل شيء ثم هو طبيب بعد ذلك " .
ولا يهمنا من هذه الفقرات أكثر من التذكير ببعض وسائل التبشير ، وكيف كانت " الخدمات الإنسانية ! " تتخذ وسيلة لتحطيم الدين !
* * *
وجاء في ص 48 :
" والنتيجة الأولى لمساعي هؤلاء ( المبشرين ) هي تنصير قليل من الشبان والفتيات ، والثانية تعويد كل طبقات المسلمين أن يقتبسوا بالتدريج الأفكار المسيحية " .
ومن قبل في ص 47 :
" ينبغي للمبشرين أن لايقنطوا إذا رأوا نتيجة تبشيرهم للمسلمين ضعيفة ، إذ من المحقق أن المسلمين قد نما في قلوبهم الميل الشديد إلى علوم الأوربيين وتحرير النساء " .
وسنعود إلى موضوع تحرير النساء مرة أخرى فنتحدث عنه بشيء من التفصيل . أما هنا فنلفت النظر إلى أن المبشرين في ذلك الوقت ( سنة 1906 ) كانوا قد كفّوا عن التطلع إلى تنصير المسلمين بمعنى تحويلهم إلى اعتناق المسيحية ، واكتفوا بما يغني - في نظرهم وفي الحقيقة - عن هذا التنصير ، وهو " تعويد كل طبقات المسلمين أن يقتبسوا بالتدريج الأفكار المسيحية " أو " الميل الشديد إلى علوم الأوربيين " .
والفقرتان من كلام القس زويمر ، وقد مر بنا أنه كان من أخطر المبشرين في مصر وما حولها من البلاد الإسلامية . وهو يعني ما يقول في هاتين الفقرتين . فليس المهم أن يتنصر المسلمون رسمياً ، وإنما المهم أن يتنصروا فكرياً وروحياً .. وهو ما نجح فيه الاستعمار الصليبي نجاحا لا شك فيه .
* * *
وجاء في ص 52 :
" ومؤتمر المبشرين الذي عقد في القاهرة لم يفته البحث في حركة الإصلاح ( ! ) التي دخلت في مسلمي الهند ، والإشارة إلى " السير سيد أحمد خان " زعيم تلك النهضة ، وما تبذله مدرسته الإسلامية في " عليكره " ومؤتمر التربية الإِسلامية . ولقد خطب القسيس ويتبرتشت في مؤتمر القاهرة بموضوع " الإِسلام الجديد " ( ! ) فذكر أن تعاليم أوربا تقرب المسلمين من النصرانية " .
وهنا تتبدى لنا عناية الاستعمار الصليبي في " التقاط " كل شخص أو مذهب منحرف من بين المسلمين ، وتكبيره والإِشادة به والنفخ فيه ، لأنه كما جاء في صفحة 46 من الكتاب : " تبشير المسلمين يجب أن يكون بواسطة رسول من أنفسهم ومن بين صفوفهم ، لأن الشجرة يجب أن يقطعها أحد أعضائها " .
كما تلفت النظر تلك الإشارة إلى " الإسلام الجديد " .. الإِسلام المتطور الذي يبشر به المبشرون المسيحيون .. ويتبنونه وينفخون فيه لأنه يقرب المسلمين من النصرانية !
* * *
في ص 60 ." وقد قال أحد المبشرين : المدارس هي من أحسن الوسائل لترويج أغراض المبشرين " .
وفي ص 82 .
" إن الحكومة ( يقصد الحكومة الألمانية التي تحكم مستعمرات ألمانيا الإِسلامية في أفريقيا ) لا بد لها من القيام بتربية الوطنيين المسلمين في المدارس العلمانية ما دام هؤلاء المسلمون ينفرون من المدارس المسيحية "
وفي ص 72 :(5/31)
" اتفقت آراء سفراء الدول الكبرى في عاصمة السلطنة العثمانية على أن معاهد التعليم الثانوية التي أسسها الأوربيون كان لها تأثير على حل المسألة الشرقية يرجح على تأثير العمل المشترك الذي قامت به دول أوربا كلها " .
وهذه الفقرات - والأخيرة منها خاصة - لا تحتاج في خطورتها إلى تعليق . فالقوم يعترفون أن هذه المدارس - العلمانية !! - كان لها تأثير في حل المسألة الشرقية يزيد على كل ما قامت به دول أوربا من قرارات سياسية للقضاء على العالم الإسلامي وتفتيته إلى دويلات خاضعة للنفوذ الغربي .
و " المسألة الشرقية " تعبير جرت به الكتب الغربية في تأريخها للفترة الأخيرة من الخلافة العثمانية . ويقصدون " بحلها " من وجهة نظرهم القضاء على تلك الخلافة التي كانت - رغم كل شيء - رمزاً لوحدة العالم الإِسلامي ، وقوة تخشاها أوربا رغم ما أصابها من وهن وضعف حتى كانوا يطلقون عليها اسم : الرجل المريض ! .. لقد ظل هذا الرجل المريض يزعجهم ويرعبهم ويقلق أعصابهم - وهو مريض - حتى قضوا عليه نهائيا في الحرب الكبرى الأولى بمساعدة حليفهم الخفي أتاتورك ، الذي أضفوا عليه ألقاب البطولة والعظمة لقاء الخدمة الكبرى التي قدمها للعالم الصليبي ، بإزالة رمز الوحدة الإِسلامية ، وإقامة دولة هزيلة في تركيا على أساس لا ديني ، قرت بها عيون الصليبيين وقلوبهم ، وما زالوا يذكرونها بالخير العميم (63) .
وفي هذه الفقرات يعترف الكاتب أن المدارس العلمانية قد فعلت في حل المسألة الشرقية .. أي في تحطيم الإِسلام .. أكثر مما فعلته السياسة والحرب والجيوش ! وتلك هي المدارس التي كنا نفتح لها قلوبنا وأفكارنا ، ونربي فيها أبناءنا وبناتنا مفاخرين !!
* * *
جاء في ص 64 في فصل " مؤتمر إدنبرج - سنة 1910 " .
" وأعمال مؤتمر إدنبرج لم تكن حبراً على ورق بدليل أن المؤتمر الاستعماري الألماني الذي عقد عقب مؤتمر إدنبرج التبشيري اهتم بأمر إرساليات التبشير الجرمانية ، حتى خيل إلى الناس أن هذا المؤتمر الاستعماري السياسي تحول إلى مؤتمر تبشير ديني " !
وفي ص 80 من نفس الفصل :
" نشرت المجلة السويسرية التي نقلنا عنها المقالة الماضية مقالة ذات شأن عن موقف إرساليات التبشير في المؤتمر الاستعماري الألماني . ومما يزيد في أهمية هذه المقالة أنها مكتوبة بقلم " ا. ك. اكسنفلد " صاحب التقرير عن الفرع المختص بالإسلام في المؤتمر الاستعماري وهو أيضاً سكرتير جمعية التبشير في برلين . قال صاحب المقالة : إن المؤتمر الاستعماري امتاز بميزتين : الأولى أنه بحث في الشئون الصناعية والاقتصادية ، والثانية إجماعه على وجوب ضم المقاصد السياسية والاقتصادية إلى الأعمال الأخلاقية والدينية في سياسة الاستعمار الألماني . واستشهد بقول " شنكال " رئيس غرفة التجارة في همبورج : إن نمو ثروة الاستعمار متوقف على أهمية الرجال الذين يذهبون إلى المستعمرات . وأهم وسيلة للحصول على هذه الأمنية إدخال الدين المسيحي في البلاد المستعمرة ، لأن هذا هو الشرط الجوهري للحصول على الأمنية المنشودة حتى من الوجهة الاقتصادية .. ثم حدث خلاف بين المبشرين وأعضاء المؤتمر في وجهة النظر إلى الإسلام . فقام اكسنفلد كاتب هذه المقالة في المجلة السويسرية ولفت الأنظار إلى الخطر الإسلامي في المستعمرات الألمانية بأفريقية ، واقترح على المؤتمر الاهتمام من كل الأوجه بعاقبة الحال الحاضرة ، سواء في ذلك الوجهة التبشيرية والوجهة الفكرية ووجهة السلطة السياسية " .
وهذا يكفي في بيان الصلة العميقة بين الاستعمار والتبشير ، وفي أهمية قتل العقيدة الإسلامية في نظر المستعمرين " حتى من الوجهة الاقتصادية " البحتة ، التي يزعم الاستعمار الصليبي أنها كانت دافعه الأوحد لاستعمار العالم الإِسلامي ! ويجاريه في ذلك مستغفلون من المسلمين !
* * *
وجاء في ص 94 في فصل " مؤتمر لكنو سنة 1911 " .
" والآن لم يبق غير 800‚128‚37 مسلم تحت سلطة حكومات إسلامية . وانتقلت السلطة السياسية على أكثرية المسلمين من يد الخلافة الإِسلامية إلى يد انجلترا وفرنسا وروسيا وهولاندة . وعدد المسلمين الذين تحت سلطة كل واحدة من هذه الدول يفوق عدد المسلمين الموجودين في كل أرجاء السلطة العثمانية . وإن عدد المسلمين الذين تحت سلطة الدول النصرانية سيزداد كثيراً عقب انقلابات قريبة الحصول ، وبذلك تزداد مسئولية الملوك النصارى في مهمة تنصير العالم الإِسلامي ... "
* * *
وأخيراً موضوع المرأة !
سبق أن أثبتنا الفقرة التي اقتطفناها من ص 46 من الكتاب ، والتي تقول :
" ينبغي للمبشرين ألا يقنطوا إذا رأوا نتيجة تبشيرهم للمسلمين ضعيفة . إذ من المحقق أن المسلمين قد نما في قلوبهم الميل الشديد إلى علوم الأوربيين وتحرير النساء " .
وفي صفحتي 88 ، 89 وردت الفقرتان الآتيتان بشأن قرارات مؤتمر لكنو ومؤتمر القاهرة :
" كل هذه الحوادث ( بوادر قيام نهضة في العالم الإِسلامي ) تحتم على الكنيسة أن تعمل بحزم وجد ، وتنظر في أمر التبشير والمبشرين بكل عناية . وعل ذلك فيشمل برنامج مؤتمر لكنو الأمور الآتية :
" أولها : درس الحالة الحاضرة .
" ثانيها : استنهاض الهمم لتوسيع نطاق تعليم المبشرين والتعليم النسائي .
" ثالثهما : إِعداد القوات اللازمة ورفع شأنها .
" هذا ما نشرته مجلة الرئيس عن مواد تضمنها برنامج المؤتمر . أما البرنامج نفسه فقد عرض على المؤتمرين بعد قراءة الخطب الافتتاحية وانتخاب اللجنة وتلاوة تقارير لجنة مواصلة أعمال مؤتمر القاهرة ، وهذه مواده :
" الأولى ......." ......
" السابعة : الارتقاء الاجتماعي والنفسي بين النساء المسلمات .
" الثامنة : الأعمال النسائية "
ما هذه العناية الشديدة " بتحرير " المرأة المسلمة و " تعليم " المرأة المسلمة و " الارتقاء الاجتماعي والنفسي " للمرأة المسلمة ؟! وممن ؟! من المبشرين ومؤتمرات التبشير ؟! ومتى !؟ عندما يكون هناك " خطر " من قيام نهضة في العالم الإسلامي ! وعندما يكون المطلوب اتخاذ قرارات ضد هذه النهضة ؟!
ما هذه العناية الشديدة بهذا كله ، وما علاقة تحرير المرأة وتعليمها وترقيتها اجتماعياً ونفسياً ، بالقرارات التي تتخذ لقتل الإِسلام والإِجهاز عليه قبل أن يحاول النهوض من جديد ؟!
أليس هذا كلاماً يلفت النظر ؟ أليس كلاماً له خبئ ؟!
نعم .. لقد كانت حركة " تحرير المرأة المسلمة " من أخبث ما قام به الاستعمار الصليبي من حركات ، لتفتيت كيان الإسلام ومحاولة اقتلاعه من الجذور. فقد كانت كفيلة - وحدها - ببث الانحلال الخلقي والفكري والديني في الشعوب المسلمة ، بما تعجز عنه الوسائل الباقية كلها مجتمعات ..
حين تخرج المرأة عارية في الطريق ، تعرض فتنتها لكا راغب ، وتثير في الرجل شهوة الحيوان .. عندئذ لا إسلام ولا دين ولا عقيدة .. ولا تماسك في أخلاق الشعب ولا صمود .. ويجد الاستعمار الصليبي فرصته السانحة لتسديد الضربة الأخيرة .. ضربة الإجهاز ...
ويتراءى للنفوس ذلك السؤال : أو لم تكن المرأة المسلمة في حالة من الجهالة والتأخر والانحطاط والجمود والعبودية تحتاج معها إلى " تحريرها " وتعليمها ، وترقيتها اجتماعياً ونفسياً ؟!
بلى . من غير شك ..
ولكن الاستعمار الصليبي حين أقدم على ذلك لم يكن بطبيعة الحال يعمل لصالح المرأة المسلمة ولا المجتمع المسلم ، وقد سبق من كلام المبشرين أنهم يعملون على تفتيت هذا المجتمع وإفساد أخلاقه وتذويب عوامل القوة فيه وتحويلها إلى عوامل ضعف ..(5/32)
فحين " حرر " المرأة لم يحررها للنهوض بالمجتمع وترقيته والارتفاع به كما زعم ، وكما زعم أجراؤه من بعده ، وإنما " حررها " ليفسدها هي أولا ويفسد معها بقية المجتمع .
وحين " علمها " ، كان يعلمها لتعرف الفساد وتتقنه ، وتجعله فساداً قائماً " على أصول " ! أصول تربوية مرة ، وسيكلوجية مرة ، واجتماعية وفكرية مرة ... وهو في كل مرة فساد .
وحين " ارتقى بها اجتماعياً ونفسياً " ، كان يقصد إلى الانحدار بها في هوة الفتنة والغواية ، حيث تبقى هناك إلى ما شاء الله .. ترتكس على الدوام .
وكان له بالفعل ما أراد ...
والتحرر .. والتعليم .. والارتقاء الاجتماعي والنفسي .. كله من أهداف الإِسلام بالنسبة للمرأة المسلمة . ولكنه لا يقوم على أساس الانحلال الخلقي والديني كما أراده الاستعمار الصليبي للقضاء على الإسلام . وإنما يقوم على أسسه الرفيعة التي تحقق للفرد البشري أعلى ما في طوقه من الرفعة والتكريم ، مع المحافظة على نظافة المجتمع ونظافة الأخلاق (64) .
وقد تحدثت في كتب أخرى عن وضع المرأة كله في الإِسلام ، وما أريد أن أعيد هنا ما قلته هناك . ولكني أشير فقط ، بصدد الحديث عن الاستعمار الصليبي في العالم الإِسلامي ، إلى أن قضية المرأة و " تحريرها " كانت أكبر فتنة اجتماعية وضعها ذلك الاستعمار لتفتت المجتمع الإِسلامي كله ، كما يفتت البارود أصلب الصخور .
* * *
وبجانب هذا الكيد كله كانت الجهود التبشيرية " العلمية ! " التي يقوم بها المستشرقون !
ولقد أدى المستشرقون دورهم " بإخلاص " فأحدثوا أكبر فتنة فكرية كان في طوقهم أن يحدثوها في العالم الإِسلامي .. بين " المثقفين " من أبنائه . وقد مهدت لهذه الفتنة طريقة الدراسة ذاتها في المدرسة الابتدائية والثانوية ، ثم في " المدارس العليا " .. وفي الجامعة بعد ذلك ، حين حلت الجامعة مكان تلك المدارس بالتدريج
ولئن كان " التبشير " كان مقصودا به العوام من الناس ، حسب ما جاء في كتبهم ، وحسب ما كان واقعاً بالفعل ، من اندساسهم بين الجهلة والعوام في المدن والأرياف ، فقد كان الجهد الاستشراقي موجها إلى " المثقفين " ، فهم الذين يدركون " القضايا " التي يثيرها المستشرقون ضد الإِسلام ، من فكرية وفلسفية وتشريعية واجتماعية واقتصادية ، ويتأثرون بها وقد حُقِنُوا من قبل " بمبادئ " هذه السموم في المدارس والجامعات ، وصاروا مستهدفين لها ، سريعي الاستجابة إليها .. ثم هم الذين يمكن أن يوكل إليهم بعد ذلك أن ينشروا هذه السموم ذاتها في الأجيال التالية : في كتبهم وصحفهم ، ومدارسهم وجامعاتهم ، وبيوتهم نواديهم ، بحيث يجيء على مرور الأيام جيل " مثقف " لا يعرف عن الإِسلام إلا الشبهات !
وقد ناقشت في كتاب " شبهات حول الإِسلام " كثيرا من الشبهات التي يلقيها المستشرقون حول الإِسلام ، والتي ورثها من بعدهم الشيوعيون وأضافوا إليها في الجانب الاقتصادي ما لم يكن المستشرقون الغربيون يعنون به كثيرا من قبل ، في مسائل الملكية الفردية والإِقطاع والرأسمالية .. إلخ . ولم أناقش في ذلك الكتاب شبهات العقيدة ، والوحي ، وصحة النبوة .. إلى آخر تلك السخافات التي يمعن المستشرقون في إثارتها بلجاج وسخف والتواء ، لأنني - في ذلك الكتاب خاصة - كنت مشغولاً بالإِسلام كواقع حيّ يعيش في المجتمع وينظم علاقات أفراده بعضهم ببعض ، لا من حيث هو " نظرية عقيدية " تشغل الذهن أكثر مما تشغل الحياة . ولأنني أحس - دائما - أن مجادلات المستشرقين في " العقيدة " و " الوحي " و " النبوة " أسخف من أن يتصدى لها أحد بالجدال ، ويكفي - مثلا - أن رجلا كمرجليوث ، يعتبر من أئمة المستشرقين ، وله هنا في بلادنا تلاميذ " عظام ! " يدعون له ولأفكاره بشأن الشعر الجاهلي والقرآن ، يقول في بحثه عن الإِسلام في موسوعة تاريخ العالم Universal History of the World إن محمدا صلى الله عليه وسلم مجهول النسب ، لأنه محمد " ابن عبد الله " .. وقد كان العرب يطلقون على من لا يعرفون نسبه اسم عبد الله !!!
محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم .. بن قصي .. محمد رسول الله ، مجهول النسب في بيئة لا تعرف شيئاً كما تعرف الأنساب ، ولا تعتز بشيء كم تعتز بالأنساب ، وهو يتحدى آلهتها وتقاليدها وعبادتها وعاداتها وأوضاعها كلها بنسبه المجهول !!!
فأي سخف وأي تفاهة في التفكير والتعبير ؟!
وعلى أي حال فلست بصدد الرد على التواءات المستشرقين ومجادلاتهم بشأن الإَسلام ، وإنما أنا أسجل فقط خطوات التاريخ .
وأقتطف هنا سطورا موحية من كتاب " الإِسلام على مفترق الطرق " تأليف ليوبولد فايس ( محمد أسد ) وترجمة عمر فروخ . يقول في ص 58 - 59
" وبعد بضعة عقود جاء زمن أخذ فيه علماء الغرب يدرسون الثقافات الأجنبية ويواجهونها بشيء من العطف ، أما فيما يتعلق بالإِسلام فإن الاحتقار التقليدي أخذ يتسلل في شكل تحزب غير معقول إلى بحوثهم العلمية . وبقي هذا الخليج الذي حفره التاريخ بين أوربة والعالم الإِسلامي غير معقود فوقه بجسر . ثم أصبح احتقار الإِسلام جزءا أساسياً من التفكير الأوربي . والواقع أن المستشرقين الأولين في الأعصر الحديثة كانوا مبشرين نصارى يعملون في البلاد الإِسلامية ، وكانت الصورة المشوهة التي اصطنعوها من تعاليم الإِسلام وتاريخه مدبرة على أساس يضمن التأثير في موقف الأوربيين من " الوثنيين " ( أي المسلمين ! ) غير أن هذا الالتواء العقلي قد استمر ، مع أن علوم الاستشراق قد تحررت من نفوذ التبشير ، ولم يبق لعلوم الاستشراق هذه عذر من حمية دينية جاهلية تسيء توجيهها . أما تحامل المستشرقين على الإِسلام فغريزة موروثة وخاصة طبيعية تقوم على المؤثرات التي خلقتها الحروب الصليبية ، بكل ما لها من ذيول ، في عقول الأوربيين الأولين " .
ولقد أدى المستشرقون خدمات جليلة للمباحث الإِسلامية دون شك ... فطريقتهم المنظمة ، وصبرهم العجيب على استخلاص النصوص وتحريرها - وإن كانت لهم أخطاء كثيرة في فهم النصوص وتفسير الأحداث - وجلدهم المثالي على الغوص في بطون الكتب العربية القديمة التي لا رابط في تأليفها ولا نظام ، والتي لا يصبر عليها العرب أنفسهم أصحاب هذه اللغة وحماتها والقائمون عليها ، ولا يتجهون إلى البحث فيها وهي تراثهم الذي ينبغي عليهم حفظه ونشره والاستفادة به
كل هذه الصفات النادرة ، والجهود الضخمة التي بذلوها في بعث النصوص القديمة ونشرها ، على الرغم من الأخطاء الكثيرة - المضحكة أحياناً - في الفهم والتأويل .. ينبغي أن تسجل لهم بالحق . ولكن العبرة - مع ذلك - ليست بالجهد الذي بذل ، إنما العبرة بالهدف الذي بذل هذا الجهد من أجله وعمل في سبيله . هل كان هذا الهدف هو " خدمة " الإِسلام ، أم تشويه الإِسلام وتلويث صورته في النفوس ؟
وهل كان " ضمير العالِم " هو الذي يسيطر على المستشرقين في هذا الجهد المضني الذي بذلوه ، أم كان المبشر المختفي في إهاب المستشرق ، هو الذي يدفع هذا الجهد ويغذيه ؟!
وأين هو ضمير العالم في مرجليوث الذي يحاول التشكيك في نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم .. في الجزيرة العربية التي كان حفظ الأنساب عندها " فريضة " مقدسة تفرضها البيئة والتقاليد ؟(5/33)
وأين هو في جرونيباوم الذي يقول في كتابه " الإسلام " إن العلم كان مطلوبا منه في نظر الإِسلام أن يخدم الدين .. أي أمور الآخرة ( ! ) في حين يقرر في نفس الكتاب أن الإِسلام بالذات نظام دنيوي أخروي في آن واحد ، لا ينفصل فيه الدين عن الدنيا ، ولا المجتمع عن الشريعة !
وأين هو في فلهوزن في كتابه " الدولة العربية " حيث يقول إن أبا بكر وعمر اغتصبا الخلافة من المسلمين اغتصابا ( ولو قال من عليّ كرم الله وجهه لكانت هناك وجهة نظر على الأقل ! ولكنه يقول من المسلمين ! ) وإن محمدا صلى الله عليه وسلم هادن اليهود وحالفهم وهو ضعيف القوة ، فلما قوي " انقلب " عليهم ، وطردهم بدافع من القومية !! ولا يذكر ما يسجله التاريخ من أن اليهود هم الذين نقضوا عهدهم مع المسلمين ، وفعلوا كل ما يفعله المحارب من تأليب المشركين عليهم في مكة ، والتآمر مع المنافقين في المدينة ، ونشر الأراجيف .. وأخيراً الاعتداء الشائن على امرأة من المسلمين .
وأين هو في جولدتسيهر في كتابه " العقيدة والشريعة في الإِسلام " الذي يقول فيه إن الإِسلام ليس فيه شيء جديد " لا في الأفكار ولا فيما يتصل بعلاقة الإِنسان بما هو فوق حسه وشعوره وباللانهاية " إذ هو في نموه مصطبغ بالأفكار والآراء الهلينستية ، ونظامه الفقهي الدقيق مستمد من القانون الروماني ، ونظامه السياسي متأثر بالنظريات السياسية الفارسية وتصوفه يمثل تيارات الآراء الهندية والأفلاطونية الجديدة !!!
وأين هو في " قايين رابن " تلميذ مرجيليوث في كتاب : " اللغات القديمة في غربي بلاد العرب " الذي يقول فيه إن القرآن قد احتوى على أخطاء لغوية ونحوية ( !! ) وإن المسلمين على مر الأجيال قد صححوا كثيراً منها ولكن ما زال بعضها باقيا حتى اليوم !
إلى آخر هذا اللغو الذي لا يحترمه عقل ولا علم ولا ضمير ..
ومع ذلك كله فللمستشرقين في الشرق الإِسلامي معجبون كثيرون .. وتلاميذ !
وتصل الفتنة إلى حد أن بعض المسلمين أنفسهم ، ممن لا يشك الإِنسان في ضمائرهم ، يخدعون في كتاباتهم فيجعلونها مراجع لهم لا في البحث عن الحوادث التاريخية ، ولا في تحرير النصوص ؛ بل في البحث عن أصل التصور الإِسلامي ، وفي تفسير أحداث التاريخ الإِسلامية ، حتى شخصيات العصر الأول .. دون فطنة إلى أن الهدف الأول للاستشراق - سواء أكان ظاهرا أم خفيا - كان تلبيس هذه العقيدة ، وإلقاء الغبش في التصور الإِسلامي ، والتشكيك في الشخصيات موضع القدوة ، وفي دوافع الرجال الكرام الذين أسسوا هذا الدين .
فإذا كانت الفتنة تصل إلى هذا الحد عند هؤلاء " المسلمين " ضميراً وثقافة .. فكيف هي عند " رعاع " المثقفين الذين لا يعرفون عن الإسلام إلا ما يقوله لهم هؤلاء المستشرقون ، وكيف هي عند المتحللين المنسلخين من هذا الدين ، الذين تتفتح نفوسهم وتشرق لهذا الطعن والتشويه ، بقدر ما تنقبض من كل كلام يصحح الأفهام ويذكر الحقائق كما أنزلها الله وعرفها المسلمون ؟! ( وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) (65) .
نعم . لقد كان جهد المستشرقين جزءاً من الكيد المنظم لهذا الدين .
وهو جهد خبيث ...
فقد تعلموا من بدء المعركة أن المهاجمة الصريحة للمسلمين في عقيدتهم ليس لها نتيجة سوى استفزاز مشاعرهم وإيقاظهم إلى الكيد المرصود لهم ، فيزيدهم ذلك تمسكا بالدين !
لذلك لجأوا إلى طريق أخبث .. هو دس السم في العسل كما يقولون ... فهم يبدأون بتمجيد الإِسلام ورسوله ، والإِشادة بالفضائل الجمة العالية التي يشتمل عليها هذا الدين ... فإذا اطمأن المسلم إلى أنه في جوٍ صديق لا يضمر له السوء ، وألقى سلاح الانتباه واليقظة ... فهنالك يُدَسّ له السم وهو غافل ، وتوضع - في وسط التمجيد - تلك الغمزات والتشويهات ، التي تصل في النهاية إلى تشكيك الناس في حقائق عقيدتهم ، ونمو الشبهات خفية في داخل النفس أو علانية في وضح الذهن !
وهذه هي الخدعة الماكرة .. فمن ذا الذي يشك - وهو يرى كاتبا مسيحيا لا يؤمن بالإِسلام يكيل له هذا المديح كله - من ذا الذي يشك بعد ذلك في صدق كل حرف يقوله ، وفي أن هذه المطاعن موجودة حقيقة في الدين ، وإنما كان يخفيها عن بصيرته التسليم الأعمى الموروث ، حتى قيض الله له ذلك " العالم النزيه " ليكشف له عن الأباطيل ، ويريه الحقائق في وضح النور .. وفي ضوء " العلم " الذي لا يتحيز ولا يميل ؟!!
فإذا هززت أحدهم من غفوته وغفلته .. وقلت له كيف تنتظر من غير مسلم أن يقول لك الحق في أمر الإِسلام ؟! وكيف تتخذ منه مصدر المعرفة في أمر دينك وهو لا يؤمن بهذا الدين ؟ قال - بلسانه ، وهو ما يزال في غفلة المبهور - حقاً إنه لا يؤمن بالإِسلام .. ولكنه يبحث بحثاً " علمياً " حراً لا علاقة له بالدين !!!
وجميل أن نأخذ عن المستشرقين طريقة البحث المستأنية الصابرة المنقبة في بطون الكتب وحواشيها ، ونحن أقدر منهم بعد ذلك على فهم النصوص وتأويلها ، وتفسير الحوادث ووزنها ، وتقويم الشخصيات ووضعها في مكانها الصحيح .. أما أن نأخذ " حقائق " الدين عنهم .. ؟!
ألا إنها الفتنة الصليبية التي تحيق بالمسلمين !
* * *
وأمامي الآن كتاب أَعُده أخبث ما قرأت من كتب المستشرقين ! ذلك هو كتاب " الإِسلام في التاريخ المعاصر " الذي أشرت إليه أكثر من مرة في فصول هذا الكتاب .
إنه يسير على الطريقة ذاتها .. طريقة التمجيد .. ثم دس ما يريد من الأفكار في ظل هذا التمجيد .
ولكن عنصر الخبث الزائد فيه أنه يقرّ لك بحقائق لا تتصور أن كاتبا غربيا مسيحيا يمكن أن يقرّ لك بها بحال من الأحوال . وذلك ليعطيك جو " الثقة " المطلقة ، والنزاهة العلمية الكاملة التي لا تحتمل أي شك ولا تأويل !
فهو - كما أثبتنا من قبل - يقر لك بأن أوربا لا تستطيع أن تنسى الحروب الصليبية ، ولا أن تخرج من ذاكرتها أن الإسلام ظل يهددها في عقر دارها بضعة قرون .
وهو يقر في ص 111 بأن الغرب وقف في صف الصهيونية ضد العرب المسلمين ، متاثراً بتلك العداوة القديمة بين المسيحية والإِسلام .
ويقر في صفحات 104 - 113 أن الغرب يوجه كل أسلحته : الحربية والعلمية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية ... إلخ . إلى العالم الإِسلامي بغرض إذلاله وتحقيره وإشعاره بالضآلة والخنوع .
بل يقر - فيما يختص بالعقيدة المسيحية ذاتها ، في مقارنة بين " التضحية " الإِسلامية والتضحية المسيحية ، في الفصل الأول من الكتاب - يقر بأن في العقيدة المسيحية لوناً من السلبية إزاء أحداث التاريخ ، بينما الإِسلام إيجابي حتى في تضحيته . فبينما يضحي المسيحي بنفسه ، بوقوفه في وجه عجلة التاريخ المنحرفة حتى تدوسه وتقتله ، وحسبه أنه لم يسمح لها بالسير المنحرف وهو حيّ ، دون أن يحاول تصحيح العجلة أو تغيير اتجاهها ، فإن المسلم يضحي بنفسه وفي حسه أن هذه التضحية ستدفع عجلة التاريخ إلى الأمام في اتجاهها الصحيح .
ماذا تريد من رجل غربي مسيحي أن يقول لك خيراً من ذلك وأنزه ؟!
فهل تشك بعد ذلك في شيء مما يقول ؟!(5/34)
هل تشك مثلا في إخلاصه وحسن نيته حين يقول لك في الفصل الرابع إن تركيا التي أقامت دولتها على أساس غير ديني ( secular ) هي والله العظيم مسلمة لم تخرج عن إسلامها ! وإنما هي فقط فسرت الإِسلام تفسيرا جديدا ، يفصل بين الدين والدولة وبين الدين والمجتمع وبين الدين والتقاليد وبين الدين والاقتصاد وبين الدين والتشريع .. وبين الدين وواقع الحياة !!
وحين يقول لك إن تركيا هذه هي المثل الأعلى الذي ينبغي للمسلمين في كل بلاد الأرض أن يحتذوه ، ليحصلوا على " القوة " التي حصلت عليها تركيا ، وعلى العلم .. والحضارة . والتقدم .. ورفعة الشأن ؟! ( على أن واقع تركيا الذي يعرفه الناس جميعاً يصرخ في وجهه ، ويشهد بمأساة الضعف والفقر والذلة ، والفوضى التي انتهت إليها في العصر الحديث ) .
وحين يقول لك في الفصل الخامس إن باكستان دولة فاشلة لأنها أقامت نظامها على أساس الدين ، وإنها مثل سيئ لا ينبغي للمسلمين أن يحتذوه ؟! ( مع أن هو نفسه ينسى - في مكان آخر من نفس الفصل ص 225 فيقول إن سبب الفشل في باكستان هو أن الحزب الذي تولى الحكم عند نشأتها لم يكن مؤسساً على روح إِسلامية ، ولا معرفة حقيقية بالإِسلام ، وإنما هو الحزب الذي كان الاستعمار البريطاني قد رباه واحتضنه ودربه وقربه إليه !! )
أو حين يقول لك في نهاية الكتاب بعد لف طويل ودوران مرهق : إن على المسلمين اليوم - لكي يعيشوا في العالم الحديث - أن يتنازلوا عن الفكرة الرئيسية في عقيدتهم ، وهي أن الإِسلام لا يمكن أن يقوم إلا في مجتمع مسلم . ويستبدلوا بها أن يعيشوا مسلمين ( عقيدةً ! ) في مجتمع لا يقوم على أسس الإسلام !!! ( وهي الغاية الأولى لأعمال الاستشراق كما هي الغاية الأولى لرجال التبشير .. وهي هي الغاية التي يهدف إليها الاستعمار والمستعمرون ! ) .
هل عندك شك في إخلاصه أيها القارئ العزيز ؟!!
* * *
تلك هي الحرب الصليبية التي وجهت إلى الإسلام في عصره الحديث ..
وقد قال ولفرد كانتول سميث في كتاب " الإِسلام في التاريخ المعاصر " بعد أن استعرض تاريخ العداء الصليبي بين المسيحية والإِسلام في ص 111 :
" ونحن لا نستعيد هنا هذا التاريخ الطويل من الصراع لنشعله من جديد بطبيعة الحال ، أو لنبرر المهاترات بأية صورة ، وإنما لنقول فقط إنه لا يجوز أن نتوقع النجاح السريع لمن يرجون أو يعملون على التراضي والتفاهم ( بين الكتلتين ) " .
ونحن هنا نستعير الجزء الأول من عبارته .. فما سردنا هذا التاريخ كله لنثير الأحقاد الصليبية في النفوس ، وإنما لنعرف فقط من أين أُتِي الإِسلام وبأي الوسائل .. والنتائج التي وصل إليها الغرب من هذا الصراع .
لقد كانت نتيجة تلك الحرب هي تلك الأجيال " المسلمة ! " التي لا تعرف من الإِسلام إلا اسمه ، وإلا أنه مجموعة من العبادات يؤديها الإِنسان فيكون قد أدى كل ما عليه من " إسلام " .
أو .. لا تعرف من الإِسلام إلا الشبهات ..
وكان نتيجتها ذلك " المسلم " الذي يقول : أنا مسلم ما دمت أصلي وأصوم .. ولكن لا عليّ أن آخذ أفكاري وتقاليدي ونظام اقتصادي ونظام مجتمعي من أية فكرة على الأرض غير مسلمة أو أي نظام غير مسلم .
وتلك " المسلمة " التي تقول : أنا مسلمة ما دامت نيتي حسنة .. ولكن لا عليّ أن ألبس كما أشاء ، وأخالط الشبان كما أشاء ، وأكوّن معهم من العلاقات ما أشاء .
وفوق هذا وذلك المسلم والمسلمة اللذان ينسلخان من دينهما علانية ، ويعلنان أنه رجعية وتأخر وجمود ....
ومع ذلك كله فلم تكن الحرب الصليبية وحدها هي التي تعمل لتفتيت العقيدة الإِسلامية وتشويهها ، والعمل على سلخ الناس منها بكل وسيلة ممكنة . وإنما كانت تعمل إلى جانبها - وإن كان عن طريقها - تيارات أخرى ، تقتلع العقيدة من جذورها ، وتجتثها من أساسها .. تيارات لا تعمل في داخل العالم الإِسلامي وحده .. وإنما هي تيارات عالمية !
تيارات عالميّة
حين جاءت هذه التيارات العالمية وأخذت تؤثر في الإسلام ، كان العالم الإِسلامي مغزُواً لها من قبل ، مفتوحاً لتأثيراتها ، لا يملك المقاومة ولا الصمود .
وهذه التيارات لا تعمل ضد الإِسلام وحده ، بل تعمل ضد " العقيدة " الدينية ذاتها أياً كانت هذه العقيدة .. ولكنها جاءت في أوربا نتيجة طبيعية ومنطقية للأحوال كلها هناك . وجاءت تدريجية .. لا مفاجئة .
أما بالنسبة للعالم الإِسلامي فهي تيارات غريبة .. غير نابعة من البيئة أو الظروف ، ولا منسجمة معها أي انسجام .. إنها مقحمة عليها إقحاماً غير منطقي وغير طبيعي .
ولو كان العالم الإِسلامي حراً .. وقوياً كما كان .. ومتماسك القواعد والأركان .. فقد كان من المشكوك فيه كثيراً أن تزلزل هذه التيارات شيئاً من بنيانه ، أو تغيّر تغييراً أساسياً في مفاهيمه .. وإن تأثرت بها نوعاً من التأثر بطبيعة الحال ..
أما وهو مكتوف بقيود الاستعمار وأغلاله .. أما وهو ضعيف واهن القوى ، من عوامل الضعف الكامنة فيه من قبل ، والسموم التي تجرعها من بعد .. فلم يكن بد من أن يتلقى هذه التيارات تلقي العاجز الموهون ، الذي لا يملك المقاومة ولا الصمود .
وهذا " التطور " كما تسميه أوربا لم يكن - على هذا النحو - " حتمياً " كما يتوهم القوم هناك . وإنما خيّل إليهم هناك أنه حتمي ، لأنه - كما قلنا - جاء نتيجة طبيعية ومنطقية لأحوالهم وظروفهم . ومع ذلك فلم يكن حتمياً حتى في أوربا ، وحتى في تلكم الظروف .. لو شاءت أوربا أن تؤمن بمثل أخرى وقيم أخرى تصد بها تلك التيارات وتوقفها عن السريان .
ولكن أوربا لم تشأ .. فكانت الحتمية هناك : ( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ (66) ) .
وعلى أي حال فلم يكن هذا التطور - على هذا النحو - حتمياً بالنسبة لجميع الأرض .. وبالنسبة للإِسلام على وجه الخصوص .
وليست هذه أول مرة في التاريخ يواجه الإسلام فيها الدنيا كلها بغير ما تعتقد وما تألف ، فيتخذ هو طريقه ، بمفاهيمه الخاصة وقيمه ومبادئه ، تاركا للدنيا إلفها واعتقادها ، ثم .. يؤثر في هذه الدنيا بمفاهيمه وقيمه ومبادئه ، فيصرفها عن طريقها المعوج ، ويوجهها إلى السبيل الصحيح .
جاء الإِسلام والدنيا كلها تقدس ملوكها وأباطرتها وحكامها .. وتعبدها من دون الله .. فهل كان هذا المفهوم السياسي " حتماً " على الإسلام لأن الدنيا كلها تدين به ؟ أم جاء الإسلام ليعلّم الحكام أن يقولوا : " اسمعوا وأطيعوا ما أطعت الله فيكم ، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم " أو يقولوا : " إن أحسنت فأعينوني ، وإن أسأت فقوموني " فيجعلوا من الأمة المهتدية بهدي الله رقيبة على أعمالهم ويطالبوها بالرقابة عليهم ؟!
وجاء الإِسلام والفساد الخلقي يملأ الأرض .. فهل كان هذا المفهوم الخلقي ( الذي لعله كان متطوراً ! ) ذا قوة حتمية على المجتمع الإسلامي تفسد أخلاقه وتهبط به إلى الحيوانية التي ارتفع عنها ؟ أم ظل هذا المجتمع - رغم كل ما أصابه من فساد - أنظف مجتمع عرفه التاريخ ، حتى جاء المستعمرون والمبشرون " يجاهدون " لإفساده مدى قرنين من الزمان ؟!
وجاء الإِسلام وشريعة الغاب هي الحاكمة : القوي يأكل الضعيف .. فهل كان هذا المفهوم الإِنساني الهابط ( الذي " ارتفعت " إليه أوربا في نهضتها الحديثة ! ) ذا قوة حتمية على الإِسلام .. أم جاء الإسلام يقرر مبدأ التعاون بين القادرين وغير القادرين في المجتمع ، ويظل يطبقه أكثر من ألف عام ؟!(5/35)
إن التطورات ليست حتمية إلا حين يلغي الإِنسان كيانه الإِيجابي ويترك نفسه للأحداث . فعندئذ تقوده الأحداث بطبيعة الحال إلى حيث ينتهي بها التيار ، ما دامت لا تجد تعديلا ولا مقاومة من جانب الإِنسان .
وهي حتمية كذلك حين يكون الإنسان أضعف من أن يقاوم التيار .. وكذلك كان العالم الإِسلامي بعد أن حكمه الاستعمار الصليبي في كل مكان .
* * *
وقد أوحى الاستعمار الصليبي بلا شك إلى العالم الإِسلامي المستعبَد ، أن هذا التطور حتمي أولا وخيّر كذلك . حتى لا تجنح البقية الباقية فيه من عقيدة إلى مقاومة التيار المفسد المدمر . وأخذ يقوي هذا الإِيحاء الخبيث ، بأن يبث في الأذهان أن كل مقاومة لهذا التطور العالمي الخيّر هي رجعية لا ينبغي للإِنسان أن يتصف بها ، وجمود وانحطاط وتأخر ، ينبغي الإِقلاع عنه والتخلص من كل آثاره . فمن ذا الذي يزج بنفسه في هذا المنحدر ، ويلصق بنفسه تهمة الجمود والانحطاط ؟! أو ليس الأسلم والأمثل أن يسير الإِنسان " مع التيار " فيضمن السمعة " الحسنة ! " سمعة الرقي والتقدم والرفعة ، وينجو من تهمة الرجعية والجمود ؟!
يذكرني ذلك بمنظر حدث على الشاطئ .. قبل سنوات !
فتاة ( كان ) بها بقية ضئيلة من حياء .. حياء الأنثى الطبيعي الفطري .. ولو أنها تلبس " المايوه " وتسير به على الشاطئ ! جلست على الرمال ليلتقط لها المصور صورة ، جلست بهذه البقية الضئيلة من الحياء مضمومة الرجلين .. فقام المصور يفسح ما بين رجليها ليلتقط لها صورة " تقدمية ! " ولكنها راحت - في حياء ضئيل - تتأبى عليه . عندئذ قال لها بلهجة ذات معنى " الله ! هوّه أنت فلاحة والا إيه ؟! " .
وفي الحال كانت البقية الضئيلة من الحياء قد تلاشت من نفس الفتاة ووجهها ، وجسدها جميعاً .. وجلست منفرجة الرجلين في " طلاقة ! " تسجل نفسها في " بوز " تقدمي جميل !!
وهكذا كان حال الاستعمار الصليبي مع المسلمين المستضعفين : " هل أنتم رجعيون ؟ .. أم ماذا ؟! " فتتلاشى المقاومة ويحل محلها الاستسلام !
وكذلك سرت " المدنية " الأوربية في طريقها " الحتمي ! " في بلاد العالم الإِسلامي المسلوب العقل والإرادة والتدبير !
وقد كان " التصنيع " مثلا ، تطورا عالميا خيّرا في كثير من جوانبه .. فهل سمح له الاستعمار الصليبي أن يلج باب العالم الإِسلامي ويستقر في أرجائه ؟ أم منعه بكل شدة وحسم ، واحتفظ بالبلاد الإِسلامية في حالة ذريعة من التأخر الصناعي والاقتصادي ليخدم أغراضه الخاصة ؟
وإنما فتح الباب على مصراعيه للفساد الخلقي والديني باسم التطور ، لأن ذلك يخدم أغراضه في حل أخلاق الأمة الإِسلامية وتفتيت قوتها ، ومنع عنها في ذات الوقت كل وسائل القوة والفلاح ، ولو كانت تطوراً عالمياً " حتمي " الانتشار .
وهذا مثل واحد ، لعله يوضح الكثير من القضايا التائهة في أذهان المسلمين وهم يفكرون في " التطور " وفي " الحتمية " وما أشبه ذلك من أضاليل الاستعمار .
بقي أن نعرف ما هذه " التيارات العالمية " التي فتح الاستعمار أبواب العالم الإِسلامي لاستقبالها ، ومنع وسائل مقاومتها وحطّمها ، ونفّر منها باسم الرجعية والجمود والتأخر والانحطاط ...
* * *
ليس من السهل تلخيص قرنين من " التطور " في بضعة سطور .
وقد بينت في كتاب " معركة التقاليد " في فصل " جولة مع التاريخ " كيف سارت الأمور في أوربا في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين . وكيف انتقلت أوربا من شعوب متدينة ذات تقاليد مبنية على الدين - أياً كان هذا الدين ، وأياً كانت درجة هذا التدين ومتانة تلك التقاليد - إلى أمم لا عقيدة لها ولا أخلاق ولا تقاليد .. تعيش في جو مادي ملحد ، منفلتة من كل قيد ، غارقة في المتاع الحيواني الغليظ .
وقلت هناك إن دارون يمثل خطاً بارزاً في ذلك التطور .. فقد ولد دارون سنة 1809 وفي سنة 1859 نشر كتابه " أصل الأنواع " ، وفي سنة 1871 نشر كتاب " أصل الإِنسان " .
وحدثت يومئذ زلزلة عنيفة في عقائد الناس .
فقد كان المفهوم المستمد من الدين أن الإِنسان كائن متميز . كائن له روح تميزه عن سائر الحيوان .
وقد ترتبت على هذه الحقيقة قيم روحية ومعنوية ودينية وفكرية .. لا توجد في عالم الحيوان .
وبغض النظر عن درجة تمسك الناس هناك بهذه القيم ، فقد كانت " موجودة " على أي حال .. موجودة ولو في الحس الباطن .. تضبط قليلا من انطلاق الحيوان الكامن في الإنسان .
ولكن دارون جاء يعلن أن الإِنسان حيوان متطور .. ولا زيادة !
حيوان بحت .. لم ينفخ الله فيه من روحه ولم تتدخل قوة عليا في تكوينه .. إنما هو نهاية التطور الحيواني ، لا يزيد على الحيوان سوى ما اكتسبه في أثناء تطوره البطيء في ملايين من السنين !
وقام بين دارون وبين الكنيسة صراع شديد في أمر الإِنسان : هي ترميه بالإِلحاد والكفر ، وهو يرميها بالجهل والتخريف .
ووقفت الجماهير في أول الأمر في صف الكنيسة . فقد عزّ عليها أن يحقّر دارون الإِنسان ويشوه صورته ، برده إلى أصل مادي حيواني ، ونفي النفخة العلوية عنه ، وسلبه مكانه الرفيع في الكائنات .
ولكنها عادت فأيدت دارون ضد الكنيسة !
لقد كانت الكنيسة في العصور الوسطى قد تحولت من معنى الرحمة والروحانية التي توحي بها طبيعة المسيحية ، إلى سلطان دنيوي قاهر مذل . وراحت تفرض على الناس ألوانا من الإِتاوات ، إتاوات مالية وروحية وفكرية . تفرض عليهم الضرائب المرهقة والعشور والعمل المجاني في أرض الكنيسة ، وتفرض عليهم الخضوع المذل لرجال الدين ، وتفرض عليهم أفكارا معينة بوصفها كلمة السماء ، من خالفها فهو ملحد وخارج على الدين ..
لذلك وجدت الجماهير المكبوتة المحقورة فرصة سانحة للانتقام من الإذلال الذي كانت تفرضه الكنيسة عليهم ، وقاموا يناصرون دارون رغم تحقيره " للإِنسان " !
ولم يقف الأمر - في فورة الغضب والحماسة - عند تحطيم الكنيسة ذاتها ، بوصفها كيانا " بشريا " مهما تكن قداسته .. وإنما انتهى الأمر بتحطيم الدين ذاته والخروج من كل معانيه ..
وارتدت أوربا منذئذ رومانية خالصة .. مادية وثنية ملحدة ، لا تؤمن بغير المادة المحسوسة والواقع الذي تدركه الحواس .. ولا تستجيب إلا للنفع المادي القريب !
وانساحت تلك الموجة المادية تشمل كل وجه من وجوه الحياة ..
الاقتصاد .. والسياسة .. والدين .. والأخلاق .. والتقاليد .. وعلاقات الناس بعضهم ببعض .
وظهر التفسير المادي للتاريخ . والتفسير الجنسي للسلوك البشري ..
وكلاهما امتداد للمفهوم الدارويني للإِنسان (67) .
التفسير المادي للتاريخ يفسر الحياة كلها تفسيرا ماديا : تاريخ البشرية هو تاريخ البحث عن الطعام . القوى المادية هي التي تكيّف حياة البشرية وتنشئ لها أفكارها وعقائدها . الأفكار والمشاعر والعقائد ليست قيما ذاتية ، وليست هي التي تحرك الناس أو ترسم لهم سلوكهم العلمي في واقع الحياة . وإنما هي لاحقة " للتطور " الاقتصادي والمادي ، ومرتبطة به .
ليست هناك قيم ثابتة اسمها الدين . أو اسمها الأخلاق . أو اسمها التقاليد .. لا شيء ثابت على الإِطلاق .
إنما كل عصر له مفاهيمه وقيمه التي تناسبه . والتي لا تناسب غيره من العصور(5/36)
الدين والأخلاق والتقاليد كانت من مفاهيم العصر الإِقطاعي ومن مستلزماته . أما العصر الصناعي فلا دين له ولا أخلاق ولا تقاليد . إنه عصر متحرر ! عصر منطلق كالآلة التي تسيطر عليه . ينشئ مفاهيم جديدة و " أخلاقا " جديدة . وليس الدين من بين هذه المفاهيم ، لأن البشرية في عصر العلوم والصناعة قد شبت عن الطوق . لم تعد في حاجة إلى أساطير الدين وخرافاته . إنها تعيش في الواقع الملموس . الواقع الذي تدركه الحواس . والدين .. وكل الأفكار " الميتافيزيقية " التي لا يمكن للحواس أن تدركها لم تعد تتناسب مع " نمو " البشرية وتطورها .. إنها من مخلفات العصر البائد التي لا يمكن أن تعود !
والتفسير الجنسي للسلوك البشري يرد كل نشاط يقوم به البشر إلى الجنس ..
الطفل يرضع بلذة جنسية . ويتبول ويتبرز بلذة جنسية . ويمص إبهامه بلذة جنسية . ويشعر نحو أمه بميل جنسي . فإذا وقف " الوالد " حائلا دون هذا العشق الجنسي نبتت عقدة أوديب التي تكبت مشاعر الطفل الجنسية نحو أمه . ومن هذا الكبت تنشأ " القيم " .. ينشأ الدين والأخلاق والتقاليد والضمير .. ولكن الدافع الجنسي يظل هو الدافع الحقيقي المحرك وراء كل هؤلاء ! ثم إن هذا " الكبت " الذي ينشئ الدين والأخلاق والتقاليد ، هو عملية نفسية ضارة تنشأ عنها الاضطرابات النفسية والعصبية ، والعقد ، وتبدد النشاط البشري في الصراعات النفسية الداخلية بلا طائل .. والأَوْلَى رفع هذا الكبت لتنطلق البشرية بلا قيود !
ومن هذين المفهومين سرى " التطور " الحديث في أوربا !
سرى على أساس حيواني بحت ..
ولا جرم فقد كان " الإِنسان " كما فسره دارون حيواناً متطورا ولا زيادة .. وهذه المفاهيم المادية الحيوانية هي اللائقة بهذا الإِنسان الحيواني ، الذي أطلقه دارون في التاريخ .
وانحدرت أوربا في منحدرها بلا ضابط ..
انحدرت تحطم القيم الروحية والدينية والأخلاقية في كل منحىً من مناحي الحياة .
الحياة كلها هي المادة ، وهي متاع الحيوان ..
وإذ كان الدين والأخلاق والتقاليد كلها " حواجز " ضد النظرة المادية وضد متاع الحيوان ، فلتحطم بلا هوادة ، ولتستخدم في تحطيمها كل نظريات " العلم " وأبحاثه وتجاربه ... ولْتُنْشَأْ نظريات " علمية ! " تقول إن الدين خرافة . والأخلاق قيد ضار بالبشرية . والتقاليد خرقة بالية يمزقهل الجيل الصاعد الجريء . ونظريات تقول إن الجنس عملية " بيولوجية " لا شأن لها بالأخلاق . وإن كل شاب وشابة " ينبغي " لهما أن يفرغا طاقة الجنس كما ينبغي لهما أن يتناولا الطعام سواء بسواء ، حتى تقر نفساهما وتهدأ أعصابهما وينطلقا إلى الإِنتاج المفيد !
وسرت تلك المفاهيم في المجتمع الغربي سريانا ذريعاً لا يقف عند حد .. وقالت أوربا لنفسها إن هذا هو " التطور " وإنه " حتمي " لا يمكن لقوة أن تقف في طريقه ، وإن الذي يقف في طريقه هم الرجعيون المتأخرون الجامدون .. الذين لا يفهمون !
وقالت الببغاوات في الشرق مثل ذلك .
قالت دون أن تسأل نفسها : أصحيح هو ؟
ودون أن تسأل نفسها : أمناسب هو لحياة الشرق حتى إن كان مناسبا لحياة الغرب ؟ وهل هو نبات طبيعي بالنسبة لهذه البيئة وظروفها حتى إن كان طبيعياً بالنسبة للبيئة هناك ؟
لم تسأل نفسها لأنها مستعبدة في داخل ضمائرها ، وأنّى للعبيد أن يسألوا السادة ويناقشوهم فيما يقولون ؟ .. وهل يمكن أن تخطىء أوربا ؟ هل يخطئ السادة ؟ وهل يعرف أكثر منهم العبيد ؟!
كلا ! كلا ! ما هكذا تكون الأمور !
كل شيء إلا مناقشة ما يستورد من الغرب من الأفكار والمفاهيم ..
أليس هذا الغرب هو الذي يملك الآلة ونحن لا نملك ؟ ويملك العلم ونحن لا نملك ؟ ويملك القوة ونحن لا نملك ؟ ويملكنا نحن ولا نملك أنفسنا ؟
كلا ! كلا !
إذا كان الغرب قد قال لا دين فلا دين . ولا أخلاق فلا أخلاق . ولا تقاليد فلا تقاليد !
أأنتم رجعيون أم ماذا ؟!
ألا تتقدمون وتتحضرون وتتطورون ؟!
فلتنبذوا تلك الخرافة البالية التي اسمها الدين . وتلك القيود العتيقة التي اسمها الأخلاق . وذلك التحجر المشين الذي اسمه التقاليد .
انطلقوا .. تحرروا .. حطموا الأغلال !
اخرجوا أيها الفتيان والفتيات على التقاليد البالية التي يقيدكم بها أهلوكم .. فهم رجعيون . وأنتم الجيل الصاعد المتحضر الذي لا يؤمن بالخرافة .
اصنعوا كما يصنع الغرب .. صداقات . نعم . قبلات وأحضان . نعم . علاقات جنسية " خفيفة " تريحون بها أعصابكم بدل إنفاق الطاقة في الجنس المكبوت .. !
ووقف الاستعمار الصليبي يفرك يديه ساخراً من الببغاوات ، مسرورا في ذات الوقت من صنيع العبيد .
نعم . لقد كانت أوربا في غشيتها الحيوانية تؤمن بهذا الهبوط الحيواني البشع على أنه تطور وتقدم وارتفاع . ولكن أوربا مع ذلك لم تكن قد فسدت كل جوانبها بعد . كانت ما تزال فيها " فضائل " حقيقية . من أبرزها فضيلة " العمل " و " الإِنتاج " و " التنظيم " والصبر الشديد على الجهد ، والجلد الطويل على الصراع .. كل تلك فضائل حقيقية لم تكن قد فسدت بعد بموجة الفساد الخلقي الهابط ، وموجة الحيوانية الفظيعة ( وإن كانت قد وصلت إلى نتيجتها " الحتمية " فيما بعد في فرنسا وغيرها من البلاد فدمرت كيانها ) .. أما هذا الشرق المستعبد فماذا كان فيه من تلك الفضائل حتى يتحمل هذا " التطور " كله ولا يضعف ولا ينحل من قريب ؟!
لقد كان الضعف السابق في ظل الحكم التركي ، والضعف اللاحق في ظل الاستعمار الصليبي قد دمرا كل فضائله الذاتية القديمة ، التي استمدها من الإسلام يوم كان قوة حية فاعلة ، ممتدة في الأرض في كل فروع الحياة من علم وعمل وإنتاج وفتح واتساع ..
وكان في حاجة إلى " تطور " من نوع آخر .. تطور يعيد إليه إنسانيته المسلوبة وقوته المحطمة .. يعيد إليه أخلاقه وتقاليده على أصولها الحقيقية : قوة حية في داخل النفس ، متحققة في واقع الحياة .
وقد كان هذا هدف الحركات الإِسلامية التي حرص على تحطيمها الاستعمار .
أما هذا " التطور " الأوربي الحيواني ، فقد أسرع الاستعمار يفتح له الأبواب ، ويؤجر له الأبواق من المستعبدين الذين رباهم من قبل و " ثقفهم " وأطلقهم ينشرون سمومه في الآفاق .
* * *
ونعود إلى أوربا .. نساير " التطور " هناك .
لقد نشأ من المفاهيم الداروينية للإِنسان رغبة زائدة في " المتاع " .
وحب المتاع رغبة طبيعية في البشرية من قديم : ( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) (68) .
نعم . لا شيء جديد في حب المتاع .. ولكن الأديان والقيم الروحية التي تحملها كانت تعمل دائما على موازنة تلك الرغبة الفطرية في المتاع ، بأن تضع في الكفة الأخرى قيما أعلى من متاع الأرض وأخلد : ( ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ ) (69) .
والحياة في نطاق الدين .. في نطاق الفكرة الإِسلامية خاصة .. تحقق أكبر قسط من المتاع النظيف ، دون أن تفسد النفس بهذا المتاع فتترهل أو تتميع أو تهبط إلى مستوى الحيوان ..(5/37)
ولكن أوربا في " تطورها " خرجت من نطاق الدين . وخرجت من " الضوابط " التي كانت تضبط رغبة المتاع .. ومن ثم غرقت في المتاع بلا ضابط ولا حدود .
بدأت بالمتاع الجنسي . ولكنها لم تقف عنده . وكان طبيعيا ألا تقف عنده . فتلك سنة الله في كل الأرض على مدار التاريخ . كل حضارة من حضارات التاريخ تسربت إليها الرغبة الزائدة في المتاع ، بدأت بالمتاع الجنسي ، وتلاه وسار معه متاع في كل فروع الحياة . متاع يصل في النهاية إلى الترف والاسترخاء .
وكذلك كانت تلك الموجة " المتطورة " في أوربا ..
وساعدتها الصناعة والتقدم االفني في عالم الإِنتاج .
وامتلأت الحياة " بالمباهج " التي تنتجها الصناعة الحديثة : السينما والإذاعة والتليفزيون ، والسيارة الفاخرة . والأثاث الوثير والفراش المريح .. وسعت الصناعة بكل وسيلة إلى " تجميل " الحياة وتزيينها ، وعرضها في صورة براقة مغرية جذابة ..
ولا عيب في هذا في ذاته !
ولكن العيب في " القيم " التي تحكم الحياة ..
فما هدف الحياة في نظر المشرفين على هذا النوع من الإِنتاج ، وما هدفها عند المتلقين لهذا الإِنتاج ؟
ولن ندخل في جدل مذهبي عن " الرأسمالية " وطريقة إنتاجها وأهدافها الاستغلالية ، لتضمن أكبر قسط من الربح يدخل سهلا إلى جيوب أصحاب رأس المال .
المسألة في نظرنا أعمق من ذلك ..
فلو لم تجد الرأسمالية الإقبال الشديد على هذا النوع من الإِنتاج ، لسعت إلى الربح عن طريق غيره ، ما دام الربح هو هدفها الوحيد كما تقول الشيوعية .
المسألة هي الرغبة في المتاع الزائد ، التي ولدت في أوربا في ظل المفهوم المادي الحيواني للإِنسان ، وسعى الصهيونية العالمية إلى إفساد العالم غير اليهودي ( الأميين أو الأمميين كما يدعونهم ) لتكون لهم السيطرة الكاملة عليهم ، يوم يقودونهم من مقود الشهوات !
وأياً كانت الأمور فقد امتدت تلك الرغبة في المتاع الزائد حتى أصبحت " سمة " من سمات الحضارة الحديثة تنشرها في الآفاق ..
وأياً كانت نتائجها الحاضرة والمستقبلة في حياة الأمم - كما صنعت في فرنسا في الحرب الأخيرة ، وما تزال تصنع في غيرها من البلدان - فإن الجانب الذي يهمنا منها هنا هو تأثيرها على المفاهيم الروحية والدينية والخلقية في كل مكان تحل فيه
إن التعارض واضح بين الاتجاه الديني ، والرغبة الزائدة في المتاع .. لا لأن الدين - الإِسلامي بصفة خاصة - يحرم المتاع أو يحاربه ، وهو الذي يقول : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ) ولكن لأن المتاع الزائد عن الحد يفسد النفس ويرهلها ، ويحبب إليها الحياة الدنيا فتنسى الآخرة وتنسى " التكاليف " المرتبطة بالآخرة .. وتنفر من الضوابط التي تحرمها من ذلك المتاع .
وهذا ما حدث بالفعل .. فكلما غرقت النفوس في المتاع بعدت عن محيط الدين ، ونفرت من قيوده وضوابطه ، وتمنت من صميمها أن يخفت إلى الأبد أو يزول .
ومع " المدنية " التي أغرقت العالم الإسلامي في ظل الاستعمار ، سرت تلك الرغبة الزائدة في المتاع ، باسم التحضر والرقي .. أو بأي اسم من الأسماء .
وكانت كالحمض الأكّال يأكل العقيدة من النفوس .
ولم يكن الإِسلام ليحرم وسائل الراحة التي توفر الوقت والجهد .. من سيارة وطائرة وقطار سريع ، وثلاجة كهربائية وغسالة كهربائية وفرن وما إلى هذه الأشياء ..
ولم يكن ليحرم السينما في ذاتها ولا الإِذاعة في ذاتها ولا التلفزيون (70) .
ولكنه ولا شك يحارب روح الترف والترهل ، ويحارب الفجور الخلقي الذي تنشره السينما الحالية والإِذاعة الحالية .. التي تعرض الحياة كلها كأنها لحظة جنس هابط مسعور .
وأياً كان الأمر فقد امتد ذلك الحمض الأكال من الغرب إلى الشرق ، وسمي " تطوراً " وحضارة ومدنية .. وأضيف إلى عوامل الهدم السابقة كلها ، التي توجّه لهدم الإِسلام !
* * *
وأخيراً .. موضوع المرأة !
حركات التحرر .. وحركات المساواة .. وحركات الإِغراء !
وهي قصة طويلة ما بنا من حاجة إلى سردها بتفاصيلها في هذا المقام .
وقد تحدثت عنها في كتاب " معركة التقاليد " بصفة خاصة وفي كتاب الشبهات .
وإنما يكفي هنا أن نقول إن الحركة النسائية في أوربا كانت حركة " منطقية " مع الظروف الاجتماعية والاقتصادية هناك . ولكن لم يكن " حتما " أن تأخذ صورتها تلك في أوربا ذاتها لو آمن القوم بغير ما آمنوا به هناك ، ثم لم يكن حتما أن تأخذ نفس الصورة في العالم الإِسلامي حيت لم تكن توجد تلك الظروف على الإِطلاق .
وفرق - كما قلنا من قبل هنا وفي الكتب الأخرى - بين إزالة الظلم الذي كان واقعاً ولا شك بالمرأة المسلمة ، من جهالة وعبودية وحيوانية تخالف الإسلام مخالفة صريحة ، وبين اتخاذ تلك الصورة المزرية التي لا تفسد المجتمع فحسب ، بل ترد المرأة ذاتها متاعاً جسدياً مباحاً لكل راغب تتهيأ له الظروف .
بدأت القصة حين نكل الرجل عن إعالة المرأة في المجتمع الصناعي " المتطور ! " فاضطرت إلى العمل بنفسها لتعول نفسها ، وأحياناً لتعول أسرتها كذلك . فاستغلها أصحاب المصانع وأعطوها نصف الأجر الذي يعطونه للرجل مع أنها تعمل معه في نفس المصنع وتعمل نفس العدد من الساعات !
وهي " عدالة " لا يطيقها إلا الضمير الأوربي المترفع المتطور النبيل !
وكان لا بد للمرأة أن تطالب بحقها الطبيعي المنطقي .. واستعملت كل وسائل المطالبة : الإِضراب والتظاهر والدعاية والإعلان .. ثم بدا لها أنها لا بد أن تشارك في مصدر التشريع لتستخرج تشريعات في صالحها ، لأن التشريعات هناك يضعها أصحاب المصالح لاستغلال الآخرين ، ولا يضعها الله لعباده كلهم كما هو الحال في الإِسلام ، فطالبت بحق الانتخاب ، ثم حق دخول البرلمان .. ثم طالبت بالمساواة في الوظائف والمساواة في التعليم ..
وفي الطريق .. طالبت بأنواع أخرى من المساواة !
ورغم أنه هو كان قد ألقى الدين والتقاليد جانباً .. فقد رأى أن يستخدمهما لزجر المرأة عن مزاحمته في الميدان .. !
وكان " طبيعياً " ومنطقياً في مثل هذا الجو الذي تعيش فيه أوربا ، والمفاهيم الهابطة المنحرفة المسيطرة عليها ، أن تطالب المرأة بحق المساواة مع الرجل في نزع الدين والتقاليد ! وفي حق الفساد الخلقي الذي يمارسه الرجل بلا رادع ، ثم يمنع عنه المرأة باسم التقاليد !
ونالت المرأة الأوربية " حقوقها " واحداً إثر واحد .. بما في ذلك حق الفساد والفجور !
بل نالت هذا الحق الأخير بمساعدة الرجل وتشجيعه .. فقد وجد الرجل أن ذلك ييسر له المتاع الدنس ، فلا يكلفه أكثر من تهيئة الظروف !
وخرجت المرأة إلى المتجر والمصنع والطريق .
خرجت للكسب وللفتنة في آن ...
وفي ظل تعاليم فرويد الجنسية ، وفي ظل الرغبة في المتاع الزائد عن الحد ، وفي ظل التوجيه الصهيوني الخفي لإِفساد " الأميين " ( أو الأمميين ) والاستحواذ عليهم من طريق الشهوات .. في ظل هذا كله تعلمت المرأة فنون " الإِغراء " .
والمسألة ليست في حاجة إلى تعليم .. ففي فطرة المرأة أن ترغب في " الإِعجاب " وأن تسعى لكسبه بكل سبيل (71) ولكن الوسائل تختلف من مجتمع إلى مجتمع ، ومن فكرة إلى فكرة .. ثم إن الإِعجاب يختلف عن الفتنة . فأولهما مباح ونظيف . والآخر لا مباح ولا نظيف ..
ولكن المد الأوربي " المتحضر " لم يكن ليختار الوسائل النظيفة وهو يتلقن على يد فرويد أنه لا نظافة في طبع الإِنسان ! وأن النظافة هي الكبت المدمر للكيان !(5/38)
فلتنزل المرأة إلى الميدان بأقذر أسلحتها .. أسلحة الإِغراء .. وليكن الإِغراء هدفا في ذاته ولو لم يكن هناك هدف آخر من ورائه .. كالحصول على الزوج أو الحصول حتى على العشيق !
الإغراء من أجل الإِغراء !
من أجل أن تحس المرأة أنها ذات جاذبية .. ثم ذات سلطان !
وكان لها فعلا ذلك السلطان !
فما دام الرجل هو ذلك الإِنسان الدارويني الشبيه بالحيوان ..
وما دام هو الرجل الواقع تحت سطوة الجنس الذي أطلقه فرويد من عقاله ..
وما دام هو الرجل الراغب في المتاع الزائد عن الحد ..
ما دام الرجل هو ذلك .. فالسلطان الأكبر عليه هو سلطان الشهوة . سلطان الجسد .. وكل مثير لشهوة الجسد فهو في حياته صاحب سلطان .
ومن ثم فالمرأة " المغرية " في حسه ذات سلطان .
وأحست المرأة - بالفطرة - أنها كلما زادت إغراء زاد سلطانها على الرجل الغارق في الشهوات .
ومن هنا أصبح الإِغراء هدفا في ذاته عند المرأة ، ليس من الضروري أن تستخدمه للحصول على الزوج أو حتى على العشيق .. وإنما هو سلاح تستخدمه مع الرجل عامة ، ولغير هدف سوى أن تحس أنها " موجودة " في كيان هذا الرجل أو ذاك .
فهي في حياتها الراهنة أصبحت تعمل وتكدح ، وتشقى في عملها وكدحها .. ولكنها تعوض هذا الشقاء " بالسلطان " الذي تكسبه عن طريق الإغراء ، وبإحساسها أنها " موجودة " في قلوب الرجال !
وفتنها سلطانها الإِغرائي على الرجل فتمادت فيه ..
وراحت من ورائها - تنفخ فيها - أبواق الشيطان .
السينما العارية والإِذاعة العارية والمسرح العاري والقصة العارية والصحافة العارية .. وكل وسيلة من وسائل الإثارة والإِغراء ...
وصار كل مكان ميدانا للفتنة .. وتحول العالم إلى ماخور ...
وكان هذا " تطورا " أوربيا تزجيه إلى البشرية باسم الحضارة والارتقاء ! وتحطم به ما بقي - إن كان قد بقي شيء - من الدين والأخلاق والتقاليد .
وكان " طبيعيا " أن يمتد هذا " التطور " إلى العالم الإِسلامي المغلوب على أمره ، المغزوّ من قبل بكل لون من ألوان الفساد .
ومع حركة " التحرر " النسوية ، المنقولة من أوربا نقل التقليد بلا تبصر ولا دراسة ، والتي ينفخ فيها الاستعمار ويغذيها لتهدم كيان الأمة الإسلامية - كما سبق من كلام المبشرين - مع هذه الحركة التحررية سرت فنون الإِغراء القادمة من الغرب ، فقد كان كل شيء مهيأ لوصولها في الموعد المرقوب !
تعلمت المرأة " المسلمة ! " فنون الإغراء ..
ووجدت في بلدها - وبلغتها - السينما العارية والصحافة العارية والإذاعة العارية والقصة العارية .. تعلمها كها فنون الإِغراء ، وتغريها بها وتحضها عليها ..
ووجدت محررين ومحررات في باب " المرأة " في الصحافة يشرحون لها كيف تكون " جذابة ! " أو في حقيقة الأمر " مغرية " .. وكيف يكون لها على الرجل سلطان !
إغراء في البيت وفي الشارع ..
إغراء في اللفظ وفي الحركة ..
إغراء في الملبس والزينة ..
إغراء في المشية والجلسة والنظرة ..
وصار الإغراء عند المرأة " المسلمة ! " هدفا في ذاته .. ليس من الضروري أن تستخدمه في الحصول على الزوج ، ولا حتى في الحصول على العشيق .. وقد صار من " حقها " بتوجيه " الكتاب " المتحررين أن تتخذ العشيق !
وإنما صارت مهمة الإِغراء في حياتها أن تشعر بأنها " موجودة " بقدر ما تمارس من فنون الإِغراء إزاء كل رجل تلقاه في المكتب أو في الطريق .
بل صارت المرأة " المسلمة ! " أشد رقاعة من زميلتها الغربية ، بحكم " تميع " المجتمع الشرقي في هذه الفترة .. وانفلات الضوابط كلها .. وتميع الأهداف كذلك في داخل النفوس .
وتمت الحلقة لهدم كل بقية متبقية من هذا الدين !
* * *
والآن .. بعد هذا العرض المذهل في أرض الإِسلام وفي كل الأرض ..
هل كان المتوقع بعد هذا الجهد الفظيع كله الذي بذل لهدم هذه العقيدة بكل وسائل الهدم .. واشتركت فيه من قريب أو بعيد كل قوى الأرض .. هل كان المتوقع أن يظل على ظهر الأرض إسلام ومسلمون ؟!
وكيف يتأتى أن يوجد مسلم أو مسلمة .. وقد كان الهدف الذي سعت إليه قوى التدمير كلها أن تجعل الحياة لهما مستحيلة في أية بقعة من الأرض ، وأن يكون مجرد الوجود بالنسبة لهما كأنه قطعة من الجحيم ؟
جحيم الاضطهاد . وجحيم التضييق . وجحيم الغربة النفسية والفكرية والروحية والاجتماعية التي يلقيانها في مجتمع غير مسلم .. وجحيم المطاردة والملاحقة بالسخرية والأذى والتحقير والتنفير ..
والمسلمة بصفة خاصة .. بزيها المتميز تميزا حادا في المجتمع العاري المنفلت من القيود ..
إنه لمن العجب أن يظل إنسان - بعد هذا كله - يقول : لا إله إلا الله . محمد رسول الله .
ومع ذلك ..
هل تعجب .. أو تفزع .. إذا قلت لك ..
إن المستقبل للإِسلام ؟!
المستقبل للإسْلام !
المستقبل للإسلام ؟
هل يصدق أحد هذا الكلام ؟ بعد هذه الجهود المدمرة التي بذلت لتحطيمه ، وبعد أن عملت في القضاء عليه كل العوامل المحلية والتيارات العالمية التي وصفناها في هذا الكتاب ؟
نعم ..
لقد بذل الاستعمار الصليبي كل ما في وسعه للقضاء عليه ..
فتت العالم الإسلامي إلى دويلات ..
وأمسك بكل دويلة على حدة يعزلها عن أخواتها ويثير بينها الأحقاد والمنازعات ..
وفي كل منها عزل الدين عن المجتمع وعزل الشريعة عن الحياة ..
وحارب كل حركة تقوم فيها لإحياء الدين وإعادته إلى الواقع الحي المتحرك البنّاء
ورسم سياسة تعليمية تبعد الشباب النابت عن منابع دينه ، ولا تبقي في نفسه منه غير الشبهات ..
وحرص على إخراج جيل من " المثقفين " في كل بلد إسلامي ، ينفر من الدين وينسلخ منه ، ويرى فيه أنه جمود وتأخر ورجعية وانحطاط ..
وحرص على أن يمزق شر ممزق كل حركة تقوم بين المثقفين خاصة تنادي بالعودة إلى الإِسلام .. لأن ذلك معناه إضاعة الجهد كله الذي بذله الاستعمار الصليبي في قرنين من الزمان ..
ونجح في ذلك كله ..
نجح في إبعاد المسلمين عن دينهم ..
ونجح في تعويق أية حركة إسلامية في الشرق الإِسلامي .. لجيل أو أجيال ..
ثم .. ؟!
ثم تقوم في أمريكا ذاتها ، التي أنفقت ألوف الملايين من الدولارات على الحركة التبشيرية لمحاربة الإِِسلام .. تقوم حركة إسلامية بين الزنوج هناك يصل أتباعها إلى نصف مليون في ثلاث سنوات !
وتعتقل أمريكا الزنوج وتعاملهم في سجونها بالعنف والقسوة - كما تقول مجلة تايم Time الأمريكية في أحد أعدادها - فإذا الدعوة تنتشر في داخل السجون ! وإذا هؤلاء المسلمون - كما تقول المجلة - لا يبالون بشيء في سبيل الوصول إلى أهدافهم ، لا تصدهم القسوة ولا يرهبهم العنف .. لأنهم صاروا مسلمين !!
ثم .. ؟!
ثم تكتشف أمريكا ذاتها ، التي أنفقت ما أنفقت لوقف المد الإِسلامي في أفريقيا ، أنها في حاجة إلى مهادنة الإسلام في أفريقيا بالذات ، وإلا اكتسحت الشيوعية القارة السوداء !!
فماذا يصنع " الإِنسان " إزاء هذه الإرادة الإلهية التي تأبى أن ينطفئ نور الله في الأرض : ( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (72) .
* * *
ونترك العالم الإِسلامي كله والمسلمين فيه ، وننظر إلى الغرب ذاته الذي اجتاحته تلك التيارات .
إن الإِفلاس الروحي الذريع الذي يعانيه الغرب لا يمكن أن يدوم .. إلا إذا كان مقدوراً أن تنتهي البشرية في هذا الجيل ..
أما إذا كان في تقدير الله أن تستمر هذه البشرية أيّ مدىً من الزمان ، فلا بد لها أن تفيق من غفوتها ، وتصحو على الهاوية التي تنحدر إلى أعماقها ..(5/39)
وقد بدأت تصحو بالفعل ..
بدأت تحس أن هناك جوعة لا يغذيها شيء . لا تغذيها النظم الاقتصادية . ولا نظم الحكم . ولا التنظيمات الاجتماعية . ولا متاع الأرض كله المتاح للناس كما لم يتح قط من قبل : متاع الجنس والمباهج المهيأة للترويح عن الناس والترفيه ..
جوعة الروح .. جوعة العقيدة ..
وتتبدى هذه الجوعة في القلق الدائم الذي يسيطر على النفوس .. والاضطرابات النفسية والعصبية وضغط الدم والانتحار والجنون .. رغم كل هذا التيسير الذي تهيئه الصناعة الحديثة ، ورغم كل الفرص المتاحة للبهجة والمتاع ..
بل كلما أغرق الناس في المتاع الدنس زادت حدة الجنون .. وزاد الشعور بالجوعة الكامنة في أعماق الضمير ..
ولا بد أن تصحو هذه الجوعة ذات يوم قريب إلى أنها تربد العقيدة .. العقيدة في الله .. فهي العنصر الواحد الذي لا يحل محله سواه ..
ولن تكون هذه العقيدة المطلوبة تهاويل وتسابيح .. ولا إغراقا في عالم الروح على حساب بقية " الإِنسان " .
وإنما تكون - بعد تجارب البشرية الطويلة هذه - عقيدة تشمل الإِنسان كله : عقله وجسمه وروحه .
وليس في الأرض عقيدة تشمل ذلك كله سوى الإِسلام ..
وليس من الضروري - الآن - أن يصبح الناس اسمهم محمد وأحمد وعلي .. ولكنهم سيهتدون - بفطرتهم وتجاربهم الطويلة المريرة - إلى أن هذه العقيدة هي العقيدة المطلوبة التي تشمل الإنسان كله وتوحد اتجاهه ، فلا يتمزق .. كل بضعة منه في اتجاه .
* * *
و " الموانع " التي تبدو اليوم حاجزا ضخما أمام العقيدة .. أمام العودة إلى الدين .. لن تلبث أن تزول .
ليس هذا أول " انقلاب " في تاريخ البشرية ..
وما أسهل ما تنقلب الأفكار والمشاعر بعد إذ يبدو أن ذلك مستحيل !
حين تتيقظ البشرية على الخطر المحدق بها من إفلاس الروح ، ستقبل راضية كل " تنظيم " يقوم على أساس العقيدة ، مهما بدا لها مقيدا لانفلاتها الذي تعيش عليه اليوم .. لأن الانفلات هو العلة التي تحدث اليوم الاضطراب ..
والمتاع الدنس ستعدل عنه النفوس إلى المتاع المعقول .. وستجد راحتها الطبيعية الفطرية في هذا المتاع .
والنشاط الإِغرائي الذي تقوم به المرأة اليوم ، والذي يلذ لها أن تجد فيه ذاتها ، ويعز عليها أن تتنازل عنه بعد أن لجت فيه إلى هذا المدى .. هذا النشاط الإِغرائي ذاته قد بدأت المرأة - الأمريكية والأوربية - تفزع منه !
إنه يحقق لها ذاتها على نطاق واسع ، نعم . ولكنه كذلك يحقق ذوات الأخريات !
ومن ثم تسطو الأخريات على زوجها وخطيبها ومن تهواه ..
وتتهدم الأسرة ، وتتفكك الروابط ، وتملأ النفوسَ الجراح ..
وستكتشف المرأة عما قليل ، أنها غير حريصة عليه .. وأن خيرا منه أن تحصل على الإِعجاب النظيف الذي يحقق الفطرة ويلبيها ، لا على الفتنة التي تورث الشقاء .
* * *
في ذلك اليوم سيعود الناس إلى الدين .. سيعودون إلى الإِسلام .
وتلك قوة أكبر من إرادة البشر ! لأنها مبنية على السنة التي أودعها الله في الفطرة وتركها تعمل في النفوس ..
وحين يجيء ذلك اليوم .. فماذا يعني في حساب العقائد عمر جيل من البشر أو أجيال .. ؟
ليس المهم : متى يحدث ذلك ..
إنما المهم أنه سيحدث .. سيحدث بمشيئة الله ما لم يقدر الله للبشرية الفناء .
وحين يجيء ذلك اليوم .. وهو آت إن شاء الله .. فماذا تساوي كل التضحيات والآلام التي تحملتها أجيال من المسلمين ليعقدوا الجسر فوق الهوة الحالية بين الكفر الملحد وبين الإِسلام ؟
لا شيء ...
تضحيات مضمونة في السماء والأرض : ( وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) .
صدق الله العظيم
====================
فضل الحضارة الإسلامية على العلوم الطبية
الاثنين :13/02/2006
(الشبكة الإسلامية) د . هناء إسماعيل ( مجلة الحج والعمرة )
كتاب النجاة لابن سينا
عندما جاء الإسلام اهتم العرب منذ فجره بشتى ضروب المعرفة والعلوم، وصاحب الانتصارات الحربية الرائعة، تقدم الثقافة وازدهار الفكر على صعيد جميع العلوم والمعارف النظرية التطبيقية بالإضافة إلى مختلف الفنون والصناعات.
وكان الاهتمام الكبير الذي أولته الدولة الإسلامية بالعلم والعلماء عاملاً هيأ الظروف الملائمة لانتشار التعليم، فما لبثت العلوم والطب أن اكتسيا ثوبًا جديدًا، بل نفخت فيهما الروح من جديد. فلقد شجع نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم نفسه دراسة الطب وقال: "تداووا فإن الله تعالى لم يضع داء إلا وضع له دواء غير داء واحد: الهِرَم"[رواه أبو داود].
حافظ العلماء المسلمون على تراث المعرفة الإغريقية فاحترموه وقدروه ونهضوا به وطوروه، وكان ذلك إسهامًا عظيمًا في تقدم الطب، فقد ترجم المسلمون إلى العربية مؤلفات جالين وغيره، ووزعوها على المراكز العلمية في مختلف أنحاء الدولة الإسلامية، فكان لهذا العمل العظيم والجليل فوائده العلمية الكبيرة والجمة.
وقد أسهم ولاة المسلمين كذلك في نهضة علم المعالجة بالعقاقير، بل يعتقد الكثيرون أن الكلمة الإنجليزية Drug المرادفة للعقار الطبي، مشتقة من أصل عربي، كما هو الحال في آلاف المصطلحات الأخرى.
كذلك أنشأ الولاة المسلمون المستشفيات التعليمية الكبيرة والمستوصفات العامة في سائر أنحاء الدولة الإسلامية.
ومن حسن حظ العلوم الطبية أنها حظيت بالنصيب الأوفى بفضل هذا التشجيع المعنوي والمادي من الخلفاء وأولي الأمر والثراء، لاسيما خلال الحقبة الواقعة بين الأعوام 800 - 1200م.
وهذا الازدهار شمل جميع الدول الإسلامية من الشرق في الشام إلى الغرب في الأندلس، وكان لمصر الإسلامية النصيب الأكبر في هذا التقدم الحضاري، فقد أعطت لدنيا العلوم الطبية الكثير، واعتبرت أحد ينابيع الفكر العربي.. فقد أعطت ما لم تعطه الولايات الإسلامية الأخرى حضارة وعلمًا وفنًّا وفكرًا وابتكارًا، فبعد أن من الله عليها بالفتح الإسلامي سنة 21هـ في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، التقت حضارة العرب القادمين من شبه الجزيرة العربية بحضارة الفراعنة التي تسلمها أبناء النيل، وقد عكس المسلمون ضوء الشمس الغاربة للحضارات الفرعونية واليونانية، وكان لهم فضل الحفاظ على العلوم الطبية؛ لأن الرومان لم يحسنوا القيام على هذا التراث، بينما العرب المسلمون تسلموه وأتقنوه وأبدعوا فيه وأضافوا إليه.
كان هذا الالتقاء الحضاري نتيجة مباشرة في دفع عجلة التقدم في شتى ميادين العلوم والمعرفة والصناعات والنظم الإدارية، كما صاحب الفتوح الإسلامية إنشاء المدارس، ومن أروع مظاهر الحضارة الإسلامية مدارس الطب، فمنذ قيام الدولة الإسلامية كانت المساجد معاهد عامة لتعليم الشريعة فضلاً عن أنها دور للعبادة، وكان أول معهد هو الذي أنشأه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في مسجد المدينة، بعد هجرته في السنة الأولى.
وبمرور الزمن أصبحت المساجد كلها جامعات إسلامية، وصار اسم المسجد "جامع"، واليوم نحن نسمي مؤسستنا العلمية الكبيرة الشاملة بمؤنث "جامع" أي "جامعة"، وأصبح يدرس فيها مختلف علوم الدنيا والدين .
واشتهر عمر بن منصور البهابري، ومحمد بن عبد الله المصري، بتدريس الطب في الجامع الطولوني الذي أنشاه أحمد بن طولون، مؤسس الدولة الطولونية في مصر في خلال القرن الثالث الهجري، كما اشتهر عبد اللطيف البغدادي الذي كان يدرس الطب في الجامع الأزهر (وقد أنشأ في زمن المعز لدين الله الفاطمي، مؤسس الدولة الفاطمية في مصر، خلال القرن الرابع الهجري).(5/40)
كما أُنشئت بيوت الحكمة (أي خزائن الكتب) لجمع الكتب من مختلف العلوم لحفظها وترجمتها، وكانت أول دار حكمة هي دار الحكمة القياسية، التي أنشئت في زمن هارون الرشيد (القرن الثاني الهجري)، وجمع له البرامكة كتب الهند القيمة، وكتب فارس، واليونان، ونشطت حركة الترجمة، وفي عصر المأمون في أول القرن الثالث الهجري، فأصبحت دار الحكمة أكاديمية للبحث العلمي في مختلف العلوم، وخصوصًا العلوم الطبية، وأضاف العرب علومهم إلى ما ترجموه من علوم الأمم الأخرى.
ولما انتشرت العلوم وازدادت المؤلفات، وبلغ شغف الناس بالعلوم مبلغًا كبيرًا لم تعد دور الحكمة تفي بالغرض، فأنشئت دور العلوم لتلقى فيها المحاضرات، وأولها دار علم الموصلي (في القرن الثالث الهجري).
ثم ظهرت المدارس التي أنشئت عن طريق الأساتذة والأثرياء، وابتدأت بدار يجتمع فيها الأستاذ مع طلابه، وأقدم مدرسة هي مدرسة أبي بكر بن فورك الأصبهاني (القرن الخامس الهجري) في نيسابور، وكانت تدرس فيها مختلف العلوم، ثم أصبحت تلك المدارس "حكومية"، وأول مدرسة حكومية هي المدرسة النظامية التي أنشأها نظام الملك (في القرن الخامس في بغداد وخراسان).
وهنا تجدر الإشارة إلى أن العرب المسلمين هم أول من جعل التدريس من واجبات الدولة، وأول من عرفوا تأميم الطب والعلاج.
ويعد الرازي واحدًا من أشهر الأطباء المسلمين، فقد ألف في القرن العاشر الهجري أكثر من ثلاثمائة كتاب في الطب، كما وضع موسوعة طبية كاملة، واشتهر كذلك الطبيب المسلم ابن سينا، حتى أصبح كتابه "القانون في الطب" واحدًا من أهم المراجع الدراسية في المدارس الطبية خلال العصور الوسطى، واشتهر طبيب مسلم آخر في قرطبة وهو الزهراوي، الذي كتب في القرن العاشر كتابًا يستعرض فيه بالتفصيل كل المعارف الطبية في زمنه، كما ألف كتابًا مصورًا في الجراحة يعتبر الأول من نوعه في تاريخ الطب، وضمنه صورًا للأدوات التي تستخدم في علوم الجراحة.
ومن أمثلة دور العلم الطبية (دار ابن سينا)، فكان يجتمع فيها طلبة العلم، منهم من يقرأ في كتاب القانون، وآخر يقرأ في طرق الشفاء، وكان التدريس يتم ليلاً لعدم وجود فراغ خلال النهار بسبب خدمة السلطان والأمراء، ومن أهم المدارس الطبية أيضًا المدرسة الدخوارية بالشام، التي أنشأها أبو محمد بن علي بن حامد المعروف بالدخوار، وكان كحالاً (أي طبيبًا للعيون)، وتتلمذ على يديه كثير من أطباء دمشق، وكان أستاذًا ببيمارستان النوري الكبير، ثم بعد وفاته أوقفت داره وجعلت مدرسة للطب، وكذلك المدرسة الدينسرية التي أنشأها عماد الدين الدينسري، ولكن دور العلم والمدارس الطبية لم تف بالغرض المطلوب؛ لأن الطب من العلوم التجريبية التي لا تصلح لها هذه المعاهد، فكان لابد من الدراسة العملية، ولذلك ظلت البيمارستانات هي كليات الطب المفضلة لتدريس المقررات للطالب، حيث إنها مكان تتوافر فيه الحالات المرضية وطرق العلاج.
والبيمارستان هي كلمة فارسية تتكون من شقين "بيمار" بمعنى المرض، و"ستان" بمعنى مكان، أي أن معناها مجتمعة "مكان المرض" ثم حورت في العصور الحديثة إلى كلمة مارستان، أصبحت لفترة طويلة تطلق على دور العلاج العقلي، حتى صارت التعبير العامي لهذا النوع من المستشفيات.
بذلك أنشئت المدارس الطبية العلمية، أو البيمارستانات التعليمية، وأهمها البيمارستان المقتدري في القرن الرابع الهجري في بغداد، وقد هدمه المغول، والبيمارستان النوري الكبير في دمشق (في القرن السادس الهجري) ، والبيمارستان العضدي في بغداد، والمنصوري بالقاهرة، الذي أنشأه المنصور سيف الدين قلاوون، (في القرن السابع الهجري)، وكان يشرف على البيمارستان ويدرس الطب فيه علماء شهد لهم التاريخ؛ ففي البيمارستان العضدي كان ابن بطلان، وابن التلميذ، وسنان بن قرة ، وفي المقتدري كان الواسطي. وفي النوري: ابن الدخوار، وابن النفيس، وابن أبي أصيبعة.
أما بيمارستان قلاوون في القاهرة فكان أعظم مستشفى، وكلية طبية في تاريخ مصر خلال العصور الوسطى، وكان يشرف على رئاسته كبير أطباء، وهو ما يقابل اليوم عندنا "عميد كلية الطب"، وكان يتم اختياره من كبار الأطباء، وأحسنهم سمعة وعلمًا، وكان الإشراف على البيمارستان يعتبر من وظائف الدولة المهمة ولرئيسه حق مقابلة السلطان في أي وقت، كما كان للبيمارستان قسمان: قسم للرجال، وآخر للنساء، وكل قسم من الأقسام الداخلية يشمل تخصصات عدة مثل: طب العيون - الجراحة - الإسهال والحمى - الأمراض العقلية والنفسية...إلخ.
كما كان قسم خارجي يتردد عليه حوالي 4000 مريض يوميًا يصرف لهم أصناف جيدة من العلاج، وكان كل قسم يشرف عليه رئيس، وكان لرئيس الأطباء ورؤساء الفروع فقط الإذن بمزاولة فنون الطب لمن يرونه صالحًا من الطلاب الدارسين بالبيمارستان، وكان يعاون المدرسين أو الأساتذة طوائف المعيدين، فنظام المعيدين هو أصلاً من ابتكار التعليم الإسلامي، وكان للمعبد واجبات منها ما ذكره القلقشندي (إذا ألقى المدرس الدرس وانصرف أعاد الطلبة ما ألقاه المدرس ليفهموه ويحسنوه).
كان الالتحاق بالمدرسة الطبية أو البيمارستان سهلاً، إذ يذهب الطالب إلى حيث يجلس الأستاذ، ويستمع إليه، والطالب حر في اختيار مقررات الدراسة، بل ودراسة ما يرغب فيه وحرية التنقل من أستاذ إلى آخر، حتى تكون الدراسة على هواه، ولا تفرض عليه في هيئة برامج أو مقررات إجبارية، ولم يكن الأمر فوضى كما قد يتبادر إلى الذهن، ولكن كانت هناك كتب أساسية يجب أن يدرسها الطالب، ولا يمكنه الحصول على إجازته إذا لم يتقن هذه الكتب.
ولعل الكثيرين يعلمون أن هذا النظام انتهى من عندنا نحن مبدعيه، وانتقل إلى الدول المتقدمة على رأسها الولايات المتحدة وأوروبا، ومازال قائمًا ويطبق لديهم حتى اليوم، فالطالب الذي يدرس دراسات عليا أو عادية يختار أستاذه والمقررات أو البرامج التي سيدرسها بنفسه وبحرية كاملة، ولا تفرض عليه أو يفرض عليه أستاذه أو مشرفيه. ولكن من يعترف اليوم بهذا الإبداع العظيم للعرب، وفضل الحضارة الإسلامية على العلوم وطرق المناهج والتدريس؟
وتمر ستة قرون كاملة بعد هذا الإبداع الإسلامي، ونجد في عام 1537م طبيبًا بلجيكيًا، بل عالمًا من علماء جامعة لوفان، هو أندريه فيزالوس، يترجم الكتاب التاسع من كتب الرازي إلى اللغات الأوروبية، وما لبث فيزالوس أن عين أستاذًا للتشريح في جامعة بادوا، وفي عهده أدخلت كلية الطب في جامعة بادوا الأساليب الإسلامية الجديدة في ممارسة الطب، التي ما لبثت أن انتشرت في سائر أوروبا وأسهمت إسهامًا كبيرًا في تقدم الطب في أوروبا.
==============
هل الحضارة الغربية مستمرة؟
الخميس :15/12/2005
(الشبكة الإسلامية)
رحلات الفضاء
البعض يتصورون مثلاً أنَّنا حين نتحدثُ عن سقوطِ الغربِ أو أمريكا أو الحضارةِ الغربيِّة ، يعنون معنىً عامَّاً شاملاً يترتَّبُ عليه تدميرُ جميعِ المنجَزَاتِ الحضاريَّةِ ، وعودةَ الإنسانِ كما يقولونَ إلى العصورِ البدائيَّةِ بعيداً عن كلِّ ما تمتَّع به في هذا العصر!(5/41)
هناك مثلاً طرحٌ .. عبارةٌ عن فيلم اسمُهُ ( مقاتلٌ على الطريق ) لجورج ميلر ، هذا الروائيُّ يتنبَّأ بهذه النهايةِ المرعبَةِ للعالَمِ الغرْبِيّ ، والبؤسِ الذي سوف يلفُّ العالَمَ هناك ، ويقضي على كلِّ المنجزاتِ الحضاريَّةِ التي يتمتَّع بها الناسُ اليومَ سواءً من الاتصالاتِ المختلفةِ أو المتعةِ أو الرفاهيةِ أو النَّقلِ أو الكهرباءِ أو غيرِ ذلك .
وهكذا رواياتُ الخيالِ العلميَّ كما يسمونها ، التي تصوِّرُ تدميرَ الحضارةِ التكنولوجيَّة الحديثة والعودةَ المفاجئةَ للعصورِ البدائيَّة .
ولذلك فإن البعضَ يُبدون انزعاجاً من الحديثِ عن سقوطِ الغرب، لأنهم يظنون أنَّ سقوطَ الغربِ سوف يترتَّبُ عليه زوالُ هذه الفُرَصِ والامكانياتِ التي يتمتَّعون بها.
و هذا في الواقع ليس مقصوداً لنا حينما نتحدثُ عن سقوطِ الغرب أو سقوطِ أمريكا، و إن كان هذا مطروحاً لدى بعض الغربيين، فهناك جماعاتٌ من العلماءِ المتخصِّصين يتوقعون أحوالَ سيئةً سوف تكون إليها البشريةُ حتى وإن كان هناك نظرةٌ متفائلةٌ ومثاليُّةٌ للمستقبل قبل عشراتِ السنوات، كانت هي السائدة .
حينذاك كتَبَ فيلسوفٌ ألمانيّ اسمُهُ سبيكر، كتاباً عن تدهورِ الحضارةِ الغربيَّةِ و توقَّعَ مستقبلاً مظلِماً للغرب و للعالَمِ كلِّه من وراء الغرب .
ثم جاء العالِمُ الانجليزي جورج اروين وكتب كتاباً اسمُهُ ( العالَم عام 84 )، وكان كاتباً متشائماً وتوقَّعَ أوضاعاً سيئةً لكنَّ الواقعَ كان أكثرَ تشاؤماً منه، فإنَّ الأوضاعَ التي مرَّ بها العالَمُ عام 84 وما بعدَه كانت أكثرَ سوءاً وسوداويةً وقتامةً مما تصوَّرَه أو ظنَّهُ ذلك العالِمُ الانجليزي .
ثم كتب الفيلسوفُ الإنجليزي الآخرُ أيضاً هولن ويلسون سقوطَ الحضارةِ الغربيةِ ضمنَ منظومةٍ متسلسِلَةٍ من البحوثِ و الكُتُبِ والدراساتِ القديمةِ ،التي كانت تتحدَّثُ عن سقوطٍ وشيكٍ للعالَمِ الغربيِّ .
هناك أيضاً علماءُ الفَلَكِ في هذا الزمان، الذين يكتبون نهاياتٍ مفزِعَةٍ عن الكونِ بسببِ زيادةِ طاقةِ الشمسِ و حرارتِها مثلاً ، وتمزُّقِ أو وجود ثقبٍ ضخمٍ لطبقةٍ عُليَا معروفةٍ يسمونها ( طبقةَ الأوزون ) ويقولون : إنَّ هذا الثقب ، إذا ظلَّ يكبرُ بالمعدَّلاتِ التي تحدُثُ الآن فإنه سوفَ يترتَّبُ عليه أخطارٌ تهدِّدُ الحياةَ البشريَّةَ كلَّها، منها مثلاً زحفُ الماءِ على الكرةِ الأرضيَّةِ و تغطيةِ مُدُنٍ بأكملِها وغمرِها بالمياه، وابتلاعُ هذه المدن بسكانِها وإمكانياتِها ، وتلوثُ البيئةِ والجوِّ وانتشارُ أمراضٍ منها سرطانُ الجلدِ، إلى أشياءَ أخرى كثيرةٍ مترتِّبةٍ على هذا الخطرِ الذي يُسمَّى ثقبُ الأوزون .
علماءُ الطبِّ أيضاً يتحدَّثُون بنفسِ النظرةِ ويتكلَّمون عن الأخطارِ و الأمراضِ التي سوف تحدُثُ للبشريَّةِ من جرَّاءِ هذا الثقبِ الذي أصبَحَ مرئيَّاً وملاحظاً الآن وهو يتزايدُ بسببِ كثافةِ الاستهلاكِ التصنيعيِّ خاصَّةً في الدولِ الغربيَّة .
إضافةً إلى ذلك فعلماءُ الطبِّ يدقُّون نواقيسَ الخَطَرِ من الأمراضِ التي أصبحَتْ تفتِكُ بالبشريَّة، لم يَعُد مَرَضُ السَّرَطَانُ هو أخطرُها، بل أصبحَ مرضُ الإيدز الذي ضحاياه يعدَّون بعشراتِ الملايين ، وحاملو الجراثيمِ مئاتُ الملايين، ويُتوقَّعُ أن تزدادَ النسبةُ بكثرةٍ في السنواتِ القادمة ، ويقفُ الطبُّ عاجزاً عن إيقافها ، وهذا يهدِّدُ السلالاتِ البشريَّةَ ويهدِّدُ الحياةَ على وجهِ الأرض .
أما علماءُ البيئةِ فهم يرسمون صورةً مكبَّرةً لما حدث في المعمل النوويِّ في الاتِّحادِ السوفييتي ( تشرنوبل ) وقد تسرَّبَ من هذا المعمل بعضُ الإشعاعات النوويَّةِ فدمَّرتِ الحياةَ هناك وأثَّرَتْ وقَتَلَتْ وغيَّرَتْ أشياءَ كثيرةً وانتقلتْ آثارُها عبرَ مأكولاتٍ وفواكه وخضروات وغيرِها إلى العالَمِ العربيِّ والإسلاميِّ، بل إلى العالَمِ كلِّه .
فهم يقولون مثلاً : ماذا لو حدث زلزالٌ في أَحَد المواقع التي تُقامُ عليها مفاعلاتٌ أو معاملٌ نوويَّة ؟ وترتَّبَ على ذلك تسرُّبٌ خطيرٌ في هذه المواد والإشعاعات القاتلةِ للناس ؟
بل ماذا لو حدث حربٌ نوويَّة أو حربٌ جرثوميَّة بين دولتين من دول العالم ؟
إذن لكان ذلك يمتدُّ أثَرُهُ و ضرُرُه إلى مواقعَ كثيرة !
بل ماذا لو تملَّكتْ بعضُ ما يسمونها بالجماعاتِ الارهابيةِ أو عصاباتِ المافيا ، أو المجموعاتِ التخريبيَّةِ في العالَم ، و بطبيعةِ الحالِ أنا لا أقصدُ بهذا المسلمينَ إنَّما يُقصد بشكلٍ عامٍّ تلك الجماعاتُ التي تتاجرُ بكلِّ شيءٍ في الشرقِ والغربِ ، وهي جماعاتٌ إرهابيَّةٌ همُّها تحصيلُ المالِ والثراءِ والكسب ، ماذا لو تملَّكتْ بعضُ هذه العصابات السلاحَ النوويَّ ؟!
فضلاً عن أن المصانعَ والنفاياتِ والإشعاعات النوويَّةَ التي تُدفنُ غالباً في بلادِ المسلمين أوتُصدَّرُ بطريقةٍ أو أخرى، حتى أنَّ آخرَ ذلك أنَّ الصومالَ وُضِعَ في مياهها بعضُ النِّفايات النوويَّة، وهذا يهدِّدُ الحياةَ البشريَّةَ على وجهٍ آَخَر .
إذن هؤلاء يتوقعون نهايةً حادَّةً وحاسِمةً للحياةِ البشريَّةِ ، وأن سقوطَ الحضارةِ لا يعني فقط تأخُّراً أو تراجُعاً بقدرِ ما يعني تهديداً للحياةِ البشريَّةِ على وجه الأرض أو على الأقل تهديداً للمنجزاتِ الحضاريَّةِ التي يتمتَّعُ بها الإنسانُ في العالَمِ كلِّه .
و هؤلاء العلماءُ يتَّفقُونَ على أنَّ العالَمَ يسيرُ إلى كارثةٍ محقَّقَةٍ لا مهرَبَ منها .
يقول مثلاً كاتبٌ رومانيٌّ شهير : " إنَّ محاولةَ إنقاذِ العالَمِ حينئذٍ هي مثلُ محاولةِ الفئرانِ أن تهربَ من سفينةٍ على وشكِ الغرق ، تهرب نعم من السفينةِ لكن لتغرقَ في البحر ، فهي بين حرق أو غرق! ".
هذه التوقعاتُ أو الظنونُ مع أنها الآن لا تؤخذُ بعينِ الجديَّةِ إلا أنَّه يُنظرُ إليها على أنَّها من الطرائفِ العلميَّة، و مع ذلك يجبُ ونحن نتحدثُ عنها ،أن نتنبَّهَ إلى خمسةِ نقاط :
أولاً : هذه الأشياءُ هي احتمالاتٌ قائمةٌ وواردةٌ ، وليست أموراً في دائرةِ المستحيلِ وغيرِ المُمكِن ، والمعتادُ أن مراكزَ التَّحليلِ الغربيَّةِ تضعُ لكلِّ احتمالٍ حساباً ، فينبغي أن توضعَ هذه الأشياءُ في الاعتبارِ و ألا تُستبعدَ استبعاداً كليَّاً أو نهائيَّاً .
ثانياً : من المعلومِ أن ثمَّةَ حضاراتٍ كثيرةٍ سادت ثم بادت.
ثالثاً : ثمة نصوصٍ شرعيَّةٍ و أحاديثَ عن النبي صلى الله عليه و على آله وسلم توحي وتدلُّ على أنَّ العالم سوفَ يعودُ إلى العصورِ البدائيَّةِ في آخرِ الزمان ، و سوف يُستخدمُ السلاحُ الأبيضُ.
رابعاً : أنَّ المسلمين يؤمنون، بل وغيرِ المسلمين من أهلِ الديانات السماويَّة ، يؤمنون بالساعةِ وهي تدميرُ الحياةِ الدنيويَّةِ والقضاءِ على البشرِ و موتِهِم عن آخرِهم .. حتى مَلَكُ الموتِ يموت .
خامساً : أمريكا برزَت بسرعة فلا غرابة أن يكون انهيارُها سريعاً أيضاً كما تتوقَّع بعضُ الدِّراساتِ وبعض التحَّاليل.
ــــــــ
المصدر/نهاية التاريخ : سلمان العودة، بتصرف
=============
الوحدة والتوحيد أساس بناء الحضارة الإسلامية
الاحد :11/12/2005
(الشبكة الإسلامية) د. عبد الحليم عويس
الجزائر
نموذج التلاحم بين العرب والبربر(5/42)
تثور في كثير من بلاد المسلمين نعرات عنصرية، تحاول تهميش الأخوة الإسلامية، وتذويب التلاحم الجنسي الذي صهره الإسلام في بوتقة "الأخوة"، وفتح به العالم من خلال كل الأجناس الإسلامية صانعة الحضارة الإسلامية، عربية أو تركية، أو كردية أو بربرية!!
وفي بلاد الشمال الإفريقي ( والأندلسي سابقًا ) وجدت ومازالت محاولات تدميرية للإيقاع بين عنصري العرب والبربر الذين يرجعان في الحقيقة إلى أصل عربي واحد، وقد التحما معًا في فتح الأندلس ونشر الإسلام في العالم.
ومن البديهي أن العنصر البربري بكل خلفيته الثقافية يمثل واحدًا من أبرز المكونات الثقافية للمغرب العربي الإسلامي - ومن العبث بل من الأنانية القومية - إنكار دوره الحضاري الأساسي عبر عدد متطاول من القرون!!
على أنه لا يمكن - مع وجود هذا العنصر - إهمال المكونات الثقافية العربية التي استقرت على امتداد المغرب منذ الفتح الإسلامي، ولا سيما تأثير الدولتين الكبيرتين: بني رستم في تيهارت، والفاطميين في المهدية، وهما دولتان قامتا على التوحيد بين البربر والعرب في سياق واحد!!
وهذا لا يعني إهمال شأن الجهد الذي بذله البربر أنفسهم في تعلم العربية وعلوم الإسلام، حتى إننا لنجد القرن الرابع الهجري لم يكد يبزغ حتى صار كثير من البرابرة يزاحمون العرب في علوم لغة "الضاد" وأصبح علماء البربر يناظرون فقهاء العرب في القواعد الأصولية والفروع الفقهية وقضايا علم الكلام.
لقد استطاع الطابع العربي أن يغلب على الثقافة منذ مطلع القرن الرابع الهجري، وقد ساعد على ذلك أن الثقافة العربية جزء من الإسلام الذي هو عقيدة الأمة، وأن تاريخ الأمة منذ ثلاثة قرون هو تاريخ هذه الثقافة، وأن المغرب العربي محاط من كل أطرافه بثقافات عربية، سواء من ناحية الشمال حيث (الأندلس الإسلامية)، أو من الشرق حيث منابع الثقافة الإسلامية.. مما يجعلنا نطمئن إلى القول بأن الثقافة العربية الإسلامية قد نجحت في أن تكون الثقافة "الأم" والأولى.. منذ القرن الرابع الهجري، ونجحت في أن تكون مناط عناية الدول البربرية، على اختلاف منازعها واتجاهاتها السياسية الرسمية.
ولقد حظيت العربية باحترام البربر - أيما احترام - على وجه العموم، وقد اعتبروها لسان الأدب ولغة العلم وعنوان الثقافة، فانبلج بالتالي في القرنين الخامس والسادس الهجريين "عصر جديد أصبحت فيه اللغة العربية ربة المنزل، وصاحبة الأمر والنهي على القرائح والعقول".
وعند منتصف القرن الخامس الهجري حدث ما هو معروف من زحف القبائل العربية على المغرب العربي، ومهما يكن من الآثار السلبية التي خلفتها هذه القبائل في الحياة السياسية والاقتصادية والعمرانية (بخاصة) في المغرب العربي، فإنها كانت من الناحية الثقافية أكبر العوامل المؤثرة في تعريب الثقافة المغربية.
فقد أثرت لغة التخاطب لقبائل بني هلال وبني سليم في اللسان البربري، الذي كان طاغيًا على اللسان العربي في الأرياف، وفي المدن أيضًا، وسارت عملية الاستعراب تبعًا لعملية المزج والاحتكاك في الحياة العملية اليومية.
وقد برز بهذا المظهر الحضاري دور جديد في الآداب المغربية يسميه أحد المؤرخين المعاصرين بـ(الدور المدرسي)، وهو دور تم وضع حجره الأساس في القرن الخامس الهجري، وقد ظل هذا الاتجاه يختمر في القرن السادس الهجري، وهو دور يمتاز بأنه آخر الأدوار المدرسية الأخرى، التي اختمرت في الذهنية المغربية، ولهذا فقد جاء "خلاصة للأدب العربي وزبدة للعقول".
ويبدو أنه بعد هذا الدور بدأت (الجزائر) تدخل في عداد الدول المعربة فعلاً، وقد سبقتها بقليل من السنوات (تونس)، أما المغرب الأقصى فقد تأخر عنهما تأخرًا نسبيًا يمثل خلافًا في الدرجة، لا في المظهر الحضاري العام!!
ومن عناصر التكوين الثقافي التي لا يمكن تجاهل تأثيرها في هذا الطور، زحف مذهب "مالك بن أنس" بدءًا من التأثير الذي أحدثته "مدرسة القيروان" التونسية، ومرورًا بالقسم الغربي في العالم الإسلامي كله، وهو القسم الذي انتظم فيه الأندلس وبلدان المغرب العربي، وعبورًا إلى القارة الإفريقية حيث لا يزال مذهب مالك هو المذهب الغالب في هذه البلاد.
والجدير بالذكر أن احتكاك المغرب بالأندلس وهجرة بعض الأندلسيين والأفارقة والصقليين وغيرهم إليه، وإسهام هؤلاء في الحركة الثقافية المغربية، بما حملوه من علوم وآداب.
كل هذه العناصر وربما غيرها، قد كونت الملامح الأساسية للشخصية الثقافية المغربية، وساعدت على إبرازها في صورة حضارية خاصة ذات إطار خاص، كما أن هذه العناصر في الوقت نفسه قد ساعدت على رقي الثقافة المغربية وازدهارها عامة.
وقد انتشرت في هذا العصر ظاهرة التنافس الثقافي، وكان السباق قائمًا بين بلدان المشرق والمغرب والأندلس وعواصمها المختلفة المهدية وبجاية وفاس، وتلمسان، وسبتة ، وبغداد والقاهرة والمدينة المنورة، ومكة، وغيرها.
وقد برزت كل مدينة من هذه المدن بلون خاص من العلوم أو الآداب غلب عليها، واشتهرت به.
فالمهدية عاصمة البحوث الكيماوية، وصقلية عاصمة الترجمة والنقل للعلوم العربية إلى اللاتينية، وبجاية عاصمة الرياضيات (ومن بجاية الجزائرية هذه أخذ الأوروبيون الأرقام العربية والجبر والمقابلة وهندسة أوقليدس)، وهكذا الأمر في كل عاصمة إسلامية عربية.
وقد ساعد على هذا التنافس وعطائه الحضاري، ما كان يلتزم به الحكام من رعاية للملتصقين بهم من العلماء والأدباء والشعراء.
وعلى سبيل المثال، فإن حكام المغرب الأوسط (الجزائر) خلال القرن الخامس والسادس للهجرة كانوا يرعون العلماء والشعراء، ويغرونهم بالقدوم عليهم، ويجودون عليهم بالعطاء جودًا حاتميًا، وكان أبرز حكام الجزائر على الإطلاق خلال القرن الخامس الهجري "الناصر بن علناس الحمادي" أطول الملوك باعًا في هذا المضمار، فقد كان يؤمه الأدباء، ويقصده الشعراء، فيغدق صلاته عليهم.
وكان الأمير "المنصور بن الناصر بن علناس" الذي خلف أباه الناصر على حكم الجزائر، يكتب ويقول الشعر، ويشجع الأدباء والشعراء.
وكانت حركة الانتقال المتاحة بين العواصم الإسلامية (دون جوازات سفر أو تأشيرات دخول وخروج)، كانت هذه الحركة الانتقالية التي غلب عليها طابع البعثات والرحلات العلمية، من أبرز العوامل في إذكاء روح النشاط الثقافي.
وهي ظاهرة عامة في العالم الإسلامي كله خلال هذه العصور بدرجات متفاوتة بين شعوب وحكومات هذا العالم، ولربما كانت هذه الظاهرة أقوى في عالمي المغرب والأندلس عنها في المشرق، نظرًا لشعور أبناء المشرق بأنهم المصدر والأصل الذي يجب أن تشد إليه الرحال ويسعى إليه، وأيضًا لشعور المغاربة بمكانة إخوانهم (المشارقة) في الحضارة الإسلامية.
لقد كانت حدود الأقاليم غير ذات أهمية وهي لم تمثل حاجزًا أو فاصلاً بين العلماء والأدباء والكتاب والشعراء، بل كانت الأفكار في العالم الإسلامي متصلة كما تعكس تقاربًا ثقافيا يعتبر خصيصة كبرى من خصائص الحضارة الإسلامية في عصور الازدهار.(5/43)
وفي الموسوعات العلمية الكبرى لهذه القرون تأكيد واضح لبروز هذه الظاهرة ودورها الإيجابي في خلق وحدة فكرية في العالم الإسلامي كله، فابن بسام يفرد القسم الرابع من موسوعته "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة"(القسم الرابع من المجلد الأول)، لمن هاجر إلى الجزيرة "أي الأندلس" من الآفاق وطرأ عليها من شعراء الشام والعراق، ويشتمل هذا القسم على تراجم لهؤلاء الرحالة الشعراء في القرن الخامس الهجري، وحتى وفاة ابن بسام سنة 542هـ قريبًا من منتصف القرن السادس الهجري.
والمقري صاحب موسوعة "نفح الطيب" يورد لنا نحوًا من مائتين وخمسين ترجمة لمن رحلوا عن الأندلس إلى المشرق من العلماء والأدباء والفقهاء، ويورد لنا أيضًا قريبًا من خمس وسبعين ترجمة لمن رحلوا من المشرق إلى الأندلس.
وفي كتاب "الصلة" لأبي القاسم خلف بن عبد الملك الشهير بـ" ابن بشكوال" المتوفى سنة 578هـ، نلحظ الظاهرة نفسها، فأغلبية المترجم لهم رحلوا إلى المشرق، وكثير من المشارقة زاروا الأندلس، وقد ألحقهم ابن بشكوال بقائمته التي أطلق عليها اسم "الغرباء"!!
وفي "التكملة" لابن الأبار، وفي "وفيات الأعيان" لابن خلكان، و"فوات الوفيات" للصفدي، وفي "جذوة المقتبس" للحميدي، وفي غيرها من المصادر، نستطيع التأكد من هذه الظاهرة على نحو واضح.
ويذكر "ناصر خسرو" أنه رأى سنة 441هـ 1049م، وهو بمصر، بعثة للبحث عن الآثار الفرعونية (جماعات من المطالبين)، قادته من الشام والمغرب.
كما أن المشاهير كانوا يتبوأون مركزهم الثقافي على امتداد العالم الإسلامي كله، و"ناصر خسرو" يذكر لنا أن أفاضل الشام والمغرب والعراق يقرون بأن "أبا العلاء المعري" أديب عصرهم بلا منازع.
وحين يورد لنا "المقري التلمساني" حياة الأزدي الحميدي صاحب "جذوة المقتبس" المذكور آنفًا، يخيل إلينا أننا أمام مواطن عالمي منوع غريب؛ فقد عاش وطلب العلم في كل من الأندلس ومصر ودمشق ومكة المكرمة وواسط وبغداد، وغيرها!!
فنحن بإيجاز شديد أمام ظاهرة يمكن أن نسميها بـ(الوحدة الحضارية) حتى وإن كان ثمة تفكك سياسي منتشر.
وهذه الوحدة الحضارية صهرت المغرب العربي في بوتقتها ولم تلبث أن جعلت انتماءه للحضارة الإسلامية انتماء وجود وكيان ومصير.
وفي ضوء هذا الذي ذكرناه بإيجاز تبدو محاولات الفصل بين العربي والبربر، وهي كذلك بين كل الأجناس الإسلامية في الحقيقة. عملية فصل بين أجزاء جسد واحد، وحضارة إسلامية تقوم في بنيتها الأساسية على الوحدة والتوحيد.
============
استانبول حاضرة الدولة العثمانية
الاثنين :22/12/2003
(الشبكة الإسلامية) موسوعة الحضارة الإسلامية
مسجد أيا صوفيا تقع مدينة "استانبول" فى الجزء الأوربى من تركيا، فوق مدينة "القسطنطينية" الرومانية القديمة، وهى ذات طابع جغرافى فريد، إذ يحدها من الشمال البحر الأسود ومن الشرق بحر مرمرة ومن الجنوب بحر إيجة ومن الغرب شريط ضيق من الأرض متصل بقارة أوروبا. وترجع أهمية هذا الموقع فى أنه يجعل استانبول أحد أهم نقاط الاتصال بين قارة آسيا وقارة أوربا، وأنها تعد من أحصن المواقع الاستراتيجية فى العالم، كما أنها تعد مفتاح أوربا من الشرق.
**استانبول عبر التاريخ:***
دخلت مدينة "إسلام بول" التاريخ الإسلامى والعالمى لتحل محل مدينة "القسطنطينية" الرومانية القديمة منذ أن فتحها السلطان محمد الفاتح سنة (857هـ) فغير اسمها إلى "إسلام بول" ثم حرفت إلى "استانبول" بعد ذلك، وقام السلطان محمد الفاتح بتغيير الكثير من معالم المدينة الرومانية القديمة فحول كنيسة "آيا صوفيا" إلى مسجد كبير، وقام بناء مسجد عند ضريح أبى أيوب الأنصارى مع أن هذا مخالف لنهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن بناء المسجد عند الأضرحة أو عليها ، وبعد ذلك أصبح تنصيب السلاطين يتم عند هذا المسجد.
وبعد وفاة بايزيد الثانى ابن محمد الفاتح، تسلم السلطة سليم الأول الذى ضم المشرق الإسلامى وشمال إفريقيا إلى الدولة العثمانية وانتقلت الخلافة الإسلامية من القاهرة إلى أستانبول.
واستمرت استانبول فى دورها التاريخى كحاضرة لدولة الخلافة العثمانية إلى أن انتقلت العاصمة من أستانبول إلى أنقرة وسط الأناضول عام (1923م)، ورغم ذلك فمازالت تعيش المدينة ماضيها المتألق وذكريات مجدها الغابر وظلت قلب تركيا الثقافى والإقتصادى.
**استانبول.. معالم وآثار ***
**1- قلعة روميلى حصار:***
وهى القلعة التى بناها السلطان محمد الفاتح تمهيدًا لفتح القسطنطينية ولإحكام الحصار حولها، وتعد قلعة روميلي حصارمن أهم معالم مدينة أستانبول التاريخية، وتتميز القلعة التى تطل على مضيق البوسفور بأسوارها وأبراجها العالية.
**2- مسجد آيا صوفيا:***
بعد أن تم فتح القسطنطينية عام (857هـ) وقام السلطان محمد الفاتح بتحويل كنيسة "آيا صوفيا" إلى مسجد بعد أن أقام لها أربع مآذن، وظل مسجد آيا صوفيا من أبرز معالم أستانبول. إلى أن جاء أتاتورك وحول المسجد إلى متحف فى محاولة منه للتقرب إلى أوربا!!
** 3- قصر طوبقابى:***
بناه السلطان محمد الفاتح بعد فتح القسطنطينية، وكان قصر طوبقابى مقر حكم آل عثمان لفترة طويلة، وحوله بيوت الوزراء والأصدقاء والعسكر، وتحول قصر طوبقابى الآن إلى متحف يضم مجموعة من أهم الآثار الإسلامية، وبه مقتنيات من كافة أنحاء العالم الإسلامى، وفى هذا المتحف يوجد "مصحف عثمان" وهو أول مصحف مدون بالخط الكوفى، وبردة النبى صلى الله عليه وسلم التى أهداها للشاعر كعب بن زهير، ومجموعة كبيرة من اللوحات والنقوش والزخارف والسيوف واللآلئ المحلى بها الخناجر والعروش والتى تظهر جميعًا روعة الفن الإسلامى.
**4- جسر البوسفور:***
وهو أشهر جسر فى العالم؛ فهو الوحيد الذى يربط بين قارتين، وهو رابع أطول جسر فى العالم، وهو عمل هندسى كبير يرتفع فوق سطح الماء (64) مترًا ليسمح بمرور أعلى البواخر وأكبر الناقلات.
**5- جامع السليمانية: ***
يقع فى منطقة السليمانية وهو من روائع فن العمارة الإسلامية، ولقد تفوق المسجد فى بنائه وتصميمه على "آيا صوفيا" رائعة العمارة البيزنطية، حيث يمتاز بسعته وارتفاعه، وتفرده بالمآذن الأربع، وقد صمم المبنى المهندس المعمارى الشهير "سنان" الذى يعتبر من رواد فن العمارة الإسلامية.
6**- المكتبة السليمانية: ***
وهى واحدة من أكبر المكتبات فى العالم الإسلامى، أنشأها السلطان العثمانى سليمان القانونى عام (957هـ/1550م)، وصمم مبنى المكتبة المعمارى الشهير سنان، ويتبع المكتبة السليمانية الرئيسية المنسوبة إلى السلطان سليمان عدد من المكتبات الخاصة التى أنشأها أفراد.
ويبلغ عدد ماتحتويه المكتبة السليمانية من كتب مخطوطة ومطبوعة (98955)، منها (64267) مخطوطة معظمها باللغة العربية، (8992) والباقى بالفارسية والتركية. هذا مع العلم أن نظام حصر المخطوطات وإحصائها لا يذكر النسخ المكررة للكتاب الواحد.
وقسم الفهارس فى المكتبة أنشئ فى نهاية عام (1979م) ومقره السليمانية وهو يضم ثلاثة فروع، فرع لفهرسة المخطوطات العربية، والثانى للتركية والثالث للفارسية.
=============
من أعلام الحضارة الإسلامية " ابن النفيس "
الاثنين :18/08/2003
(الشبكة الإسلامية) إعداد : ربيع محمود(5/44)
العرب والمسلمين ليسوا عالة على الحضارة الإنسانية كما يزعم أعداؤهم ، وإنما هم فاعلون ومبدعون فيها ، وعلى الأجيال العربية والإسلامية الشابة أن تعمق ثقتها بحضارتها ، وأن تستعد لاستعادة مكانتها عبر المشاركة الأوسع في البحث العلمي وفي الإبداع والابتكار والاختراع .
ابن النفيس عالم موسوعي فهو طبيب عام وطبيب كحال " عيون " وعالم بالمنطق والفقه والحديث وبعلم الأصول وباللغة العربية نحوها وصرفها ، وقد اشتهر بلقب ابن النفيس لنفاسة عقله وعمله .
وقد قيل فيه: ( لم يوجد على وجه الأرض قاطبة مثيل له في الطب، ولا جاء بعد ابن سينا مثله. قالوا، وكان في العلاج أعظم من ابن سينا ).
إن أول من تنبه إلى أخطاء جالينوس، ونقدها، ثم اكتشف الدورة الدموية الصغرى لم يكن سرفيتوس الأسباني، ولا هارفي الإنجليزي، بل كان رجلا عربيا من علماء الطب في القرن السابع الهجري الموافق للقرن الثالث عشر الميلادي، وهو ابن النفيس الذي وصل الى هذا الاكتشاف العظيم قبل هارفي بأربعمائة عام، وقبل سرفيتوس بثلاثمائة عام.
اسمه ونشأته
هو أبو الحسن علاء الدين علي بن أبي الحزم المعروف بابن النفيس ، وهو طبيب وعالم ولد بدمشق سنة 607 هـ.
نشأ ابن النفيس بدمشق واخذ علوم الطب علي أيدي أطبائها وبخاصة علي يد كبير الأطباء مهذب الدين والدخوار صاحب مدرسة الدخوارية الطبية بدمشق ثم رحل ابن النفيس إلى مصر واستوطن بها في مدينة القاهرة وأصبح عميد البيمارستان أو المستشفى الناصري "مستشفى قلاوون حاليًا" الذي أنشأه السلطان قلاوون عام 580 الهجري ، كما صار طبيبا خاصا للسلطان ببيرس البندقدارى ملك مصر والشام ، طوال السنوات الاثنتين والعشرين الأخيرة من عمر الظاهر ببيرس وفي القاهرة حظي ابن النفيس باحترام الأطباء والحكام والأمراء.
إنجازاته
لقد بقي العلم قروناً مصراً على تعاليم جالينوس وابن سينا ، وفجأة ظهر ثلاثة من العلماء الأوربيين يصفون الدورة الدموية في القرن السادس عشر بذات الألفاظ التي استخدمها ابن النفيس قبلهم بثلاثة قرون ، وهم ميشيل سرفتوس الإسباني الذي حكم عليه بالإعدام حرقاً بسبب مؤلفه اللاهوتي، وكولومبو في بادوا ، وأخيراً هارفي الإنجليزي الذي درس في بادوا وادعى أنه صاحب الاكتشاف .
ولكن الحقيقة هي "ابن النفيس" هو مكتشف الدورة الدموية الصغرى ، وقال : "إن الدم ينقي في الرئتين " قبل "سرفيتوس" بثلاثة قرون .
كان "ابن النفيس" مستقلاً في التفكير والرأي ويعارض الآراء وينقدها حتى ولو كانت من جالنيوس أو ابن سينا ، فخرج من ملاحظاته وخبراته إلى أن الدم ينساب من البطين الأيمن إلى الرئة ، حيث يمتزج بالهواء ثم إلى البطين الأيسر وهي الدورة التي نسميها اليوم بالدورة الدموية الصغرى . وكانت تلك خطوة كبرى اعتمد عليها الطبيب البريطاني هارفي الذي كشف سنة 1628 م الدورة الدموية الكبرى
وقد سجل ابن النفيس اكتشافه هذا في كتابه :" شرح تشريح القانون لابن سينا" حيث يقول ( والذي نقوله نحن والله أعلم ، أن القلب لما كان من أفعاله توليد الروح ، وهي إنما تتكون من دم رقيق جداً شديد المخالطة لجرم هوائي ، فلابد أن يحصل في القلب دم رقيق جداً وهواء ليمكن أن يحدث الروح من الجرم المختلط منهما ، وذلك حيث تولد الروح وهو التجويف الأيسر )
وكان ابن سينا قد ذكر في كتابه القانون أن القلب به بطينان وأن أحدهما مملوء بالدم وهو البطين الأيمن وان الآخر مملوء بالروح وهو البطين الأيسر ، وأنه لا منفذ بين هذين البطينين البتة , وعارض ابن النفيس هذا الرأي ، حين أثبت بالتشريح أن الدم يذهب من البطين الأيمن ، عبر الوريد الشرياني إلى الرئة لينقي بها ويلطف جرمه ثم يعود من الرئة إلى البطين الأيسر وقد لطف جرمه وخالطة الهواء
وبالطبع لم تكن العدسات المكبرة قد اخترعت في عصر ابن النفيس ولم يتم الكشف عن الأوعية الشعيرية إلا بعد قرون ، وبذلك يكون ابن النفيس قد سبق عصره بقرون في اكتشافه للدورة الدموية
مؤلفاته
وكان ابن النفيس معتدًا بمصنفاته إذ نقل المؤرخون أنه قال : لولم أعلم أن تصانيفي تبقى بعدي عشرة آلاف سنة ما وضعتها .
ترك ابن النفيس عدداُ من المؤلفات، منها :
1 ــ "شرح تشريح القانون" وقد شرح فيه باب التشريح من كتاب القانون لابن سينا، وانتقد عدداً من أقواله في هذا الباب. وقد ظل هذا الكتاب مغموراً في المكتبات إلى أن عثر عليه الطبيب المصري الدكتور محي الدين التطاوي سنة 1924 في مكتبة برلين، وقام بدراسته في رسالة لنيل دكتوراه من جامعة فريبورج بألمانيا.
ولهذا الكتاب عناوين مختلفة وفيه شرح غاية في الدقة ، للدورة الدموية الصغرى ، اى الدورة الدموية الرئوية وقد ترجم هذا الكتاب إلى اللاتينية الطبيب الإيطالي " الباجو" لاول مرة في مدينة البندقية عام(954هـ/ 1547م) وهي الترجمة التي رجع إليها الطبيب الإنجليزي " وليم هارفي " الذي يعزى إليه اكتشاف الدورة الدموية الكبرى وقد رجع إليها من قبله الطبيب البلجيكي : " فيزال".
يقول ميرهوف في هذا الصدد: (عندما قرأت المقطع الأول من هذا الموضوع ـ أي موضوع دوران الدم الرئوي، في شرح ابن النفيس، فوجئت بشبهه العظيم ببعض عبارات سرفيتوس الأساسية، فكأن المقطع العربي قد ترجم ببعض التصرف إلى اللاتينية).
2 ــ "الكتاب الشامل في الطب"، وهو موسوعة علمية هائلة سماها : "الشامل في الصناعة الطبية" وكان ينوي فيها أن تصل إلى 300 مجلد ، كل مجلد يتناول موضوعًا بذاته وخلال ثلاثين سنة قام بإتمام ثمانين مجلدًا من موسوعته "الشامل" وتوفى قبل تبييض بقية كتب الموسوعة ،
3 ــ "المهذب في الكحل"، وهو مؤلف عن الرمد وطب العيون .
4 ــ "المختار في الأغذية "، وهو كتاب عن الغذاء والحمية.
5 ــ "شرح فصول أبقراط"، توجد نسخة منه في المكتبة الوطنية بباريس والأسكوريال. وقد تم طبعه في إيران عام 1298هـ/1881م.
6 ــ "موجز القانون"، وهو موجز لقانون ابن سينا، يقع في خمسة أجزاء. وتوجد نسخ منه في كل من باريس وأكسفورد، وفلورنسا، وميونيخ، والأسكوريال. وطبع بالإنجليزية لأول مرة سنة 1838م في مدينة كالكوتا بالهند تحت عنوان ''المغني في شرح الموجز" .
ولم يكن هذا الكتاب مجرد تلخيص لكتاب الشيخ الرئيس ابن سينا الشهير (القانون في الطب) وإنما كان مراجعة نقدية علمية تجريبية ، وهذا ما يجعلنا نجد فيه النموذج الراقي لاسلوب الحضارة العربية الإسلامية في تأمل التجربة الإنسانية واستقرائها وإخضاعها للنقد فحصاً وتدقيقاً ، دون استسلام أو إذعان .
وله من المؤلفات أيضاً (شرح تقدمة المعرفة) لابقراط ، و(شرح مسائل حنين بن اسحاق) ، و(شرح الهداية في الطب) لابن سينا، و(بغية الفطن في علم البدن)
ومن مؤلفاته في غير المواضيع الطبية (الرسالة الكاملية في السيرة النبوية)، (وكتاب فاضل بن ناطق)، وهو مجاراة لكتاب (حي بن يقظان) لا بن طفيل، ولكن بطريقة دينية لا فلسفية
وفاته
عاش ابن النفيس طوال حياته مطيعا لربه أمينا لدينه، لا يشغله غير العلم والتعبد، حتى مرض ستة أيام نصحه فيها أصحابه من الأطباء في علته أن يتناول شيئا من الخمر لتسكين الآلام، فأبى أن يتناول شيئا منه، وقال: "لا ألقى الله تعالى وفي بطني شيء من الخمر".
و توفي بمدينة القاهرة ـ التي أقام بها معظم حياته ـ في 21 ذو القعدة 687 هـ عن عمر قارب الثمانين عاماً.
ولم يكن متزوجاً ، و ترك وصية وهب فيها داره ومكتبته إلى البيمارستان الناصري الذي قضى فيه معظم حياته.
=============(5/45)
المساواة معلم من معالم الحضارة الإسلامية
الخميس :14/08/2003
(الشبكة الإسلامية)
تقرير المساواة حقاً بين الناس من غير نظر إلى ألوانهم هذا جانب من جوانب الدعوة في حضارتنا الإسلامية.
فبعد أن أعلن القرآن مبدأ المساواة في قوله: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات:13]، وقف الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ليعلن في خطابه الخالد: "الناس من آدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى" ، ولم تكن هذه المساواة لتقف عند حدود المبادئ التي تعلن في مناسبات متعددة - كما يقع من زعماء الحضارة الحديثة اليوم - بل كانت مساواة مطبقة تنفذ كأمر عادي لا يلفت نظراً، ولا يحتاج إلى تصنع أو عناء، فقد نفذت في المساجد حيث كان يلتقي فيها الأبيض والأسود على صعيد واحد من العبودية لله عز وجل والخشوع بين يديه، ولم يكن الأبيض ليجد غضاضة أو حرجاً في وقوف الأسود بجانبه. ونفذت في الحج حيث تلتقي العناصر البشرية كلها من بيضاء وملونة على صعيد واحد وبثياب واحدة من غير تمييز بين أبيض وأسود واستعلاء من البيض على السود.
بل إننا لنجد ما هو أسمى من هذا، فقد أمر سول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً الحبشي يوم فتح مكة أن يصعد فوق الكعبة ليؤذن من فوقها ويعلن كلمة الحق، والكعبة هي الحرم المقدس عند العرب في الجاهلية، وهي القبلة المعظمة في الإسلام، فكيف يصعد عليها عبد ملوّن كبلال ؟ كيف يطؤها بقدميه ؟ إن مثل هذا أو قريباً منه لا يتصور في الحضارة الحديثة في أمريكا إلى عهد قريب ، ولكن حضارتنا فعلته قبل أربعة عشر قرناً، فما كان صعود بلال على سطح الكعبة إلا إعلاناً لكرامة الإنسان على كل شيء وأن الإنسان يستحق هذه الكرامة لعلمه وعقله وأخلاقه وإيمانه لا لبشرته وبياضه، فما يقدم الإنسان بياضه إذا أخَّره عمله، ولا يؤخره سواده إذا قدمه ذكاؤه واجتهاده.
ولذلك لم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه وهو من أكرم صحابته أن يسب آخر فيقول له: يا ابن السوداء، لم يرض منه ذلك بل قرَّعه وقال له: "أعيَّرته بسواد أمه ؟ إنك امرؤ فيك جاهلية" وهذا حدّ فاصل بين العلم والجهل بين الحضارة الإنسانية والحضارة الجاهلية.
إن الحضارة التي لا يستعلي فيها عرق على عرق ولا لون على لون هي الحضارة التي يصنعها الإنسان العاقل الكريم وتسعد بها الإنسانية الواعية الكريمة ، والحضارة التي يعلو فيها الأبيض ويمتهن فيها الأسود ، ويسعد بها ذوو البشرة البيضاء ، ويشقى بها الملونون هي الحضارة الجاهلية التي ترتد بها الإنسانية إلى الوراء مئات القرون عمياء متكبرة جاهلة حمقاء.
"إنك امرؤ فيك جاهلية" هذا وصف للحضارة الجاهلية التي تنادي بالتمييز العنصري، وهو ما كافحته حضارتنا في كل ميادين الحياة، في المسجد والمدرسة والمحكمة والقيادة ، مع الأصدقاء والأعداء على السواء .
لمَّا جاء المسلمون لفتح مصر وتوغلوا فيها حتى وقفوا أمام حصن بابليون رغب المقوقس في المفاوضة مع المسلمين، فأرسل إليهم وفدًا ليعلم ما يريدون، ثم طلب منهم أن يرسلوا إليه وفداً، فأرسل إليه عمرو بن العاص عشرة نفر فيهم عبادة بن الصامت، وكان عبادة أسود شديد السواد، طويلاً حتى قالوا إن طوله عشرة أشبار، وأمره عمرو أن يكون هو الذي يتولى الكلام ، فلما دخلوا على المقوقس تقدمهم عبادة بن الصامت فهابه المقوقس لسواده وقال لهم: نحّوا عني هذا الأسود وقدموا غيره يكلمني، فقال رجال الوفد جميعاً: إن هذا الأسود أفضلنا رأياً وعلماً، وهو سيدنا وخيرنا والمقدم علينا، وإنما نرجع جميعاً إلى قوله ورأيه، وقد أمره الأمير دوننا بما أمره، وأمرنا ألا نخالف رأيه وقوله، فقال لهم: وكيف رضيتم أن يكون هذا الأسود أفضلكم وإنما ينبغي أن يكون هو دونكم؟ قالوا: كلا وإن كان أسود كما ترى فإنه من أفضلنا موضعاً وأفضلنا سابقة وعقلاً ورأيًّا، وليس ينكر السواد فينا، فقال المقوقس لعبادة: تقدم يا أسود وكلمني برفق فإني أهاب سوادك، وإن اشتد كلامك علي ازددت لك هيبة، فقال عبادة - وقد رأى فزع المقوقس من السواد - : إن في جيشنا ألف أسود هم أشد سواداً مني.
ألا ترى إلى هذه الحضارة ما أروعها وأسمى إنسانيتها؟ لقد كان الناس جميعاً - حتى المتحضرون في القرن العشرين - يرون السواد منقصة، وكانوا لا يرون الأسود أهلاً لأن يكون في عداد البيض، فكيف يتقدمهم ويقودهم ويفضلهم في الرأي والعلم؟ فجاءت حضارتنا تحطم هذه المقاييس، وتسفه هذه الآراء، وتقدم الأسود على الأبيض حين يقدمه علمه ورأيه وشجاعته.
وليس عبادة بن الصامت إلا واحداً من هؤلاء السود الذين رفعتهم حضارتنا إلى مرتبة القيادة والزعامة.
وكان عبد الملك بن مروان يأمر المنادي في موسم الحج أن لا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح إمام أهل مكة وعالمها وفقيهها، أتدرون كيف كان عطاء هذا؟ لقد كان أسود، أعور، أفطس، أشل، أعرج، مفلفل الشعر.. وكان إذا جلس في حلقته العلمية بين الآلاف من تلاميذه بدا كأنه غراب أسود في حقل من القطن! هذا الأسود الأعور الأفطس الأعرج جعلته حضارتنا إماماً يرجع إليه الناس في الفتوى، ومدرسة يتخرج على يده الألوف من البيض، وهو عندهم محل الإكبار والحب والتقدير.
ولقد كان في حضارتنا المجلون في كل ميادين العلم والأدب، وهم سود البشرة لم يمنعهم سوادهم أن يكونوا أدباء ينادمون الخلفاء كنصيب الشاعر، ولا فقهاء يؤلفون المراجع المعتبرة في الفقه الإسلامي كعثمان بن علي الزيلعي شارح الكنز في الفقه الحنفي، والحافظ جمال الدين أبي محمد عبد الله بن يوسف الزيلعي (762هـ) مؤلف الراية، وكلاهما أسودان من زيلع من بلاد الحبشة.
وليس من أبناء العربية من يجهل كافوراً الأخشيدي العبد الأسود وقد حكم مصر في القرن الرابع الهجري، وهو الذي خلده المتنبي في مدحه وهجائه.
وقصارى القول إن حضارتنا لم تعرف هذا التمييز العنصري بين البيض والسود، ولم يكن فيها مجتمعات خاصة للسود لا يساكنهم فيها أبيض، ولا اضطهاد خاص بهم يجعلهم محل نقمة البيض وازدرائهم، وإنما كانت حضارتنا إنسانية تنظر إلى الناس جميعاً بمنظار الحق والخير، ولا ترى البياض والسواد إلا بياض الأعمال وسوادها (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) [الزلزلة:7، 8].
ولقد كان مثل هذا القول يبدو غريباً منذ خمسين سنة، فمن بدهيات الأمور أن الفريق بين البيض والسود عمل همجي لا تلجأ إليه حضارة راقية، وأن حضارتنا لم يكن منها أن تفعل ذلك وهي أشهر حضارة عرفت بنشر الإخاء والمساواة بين الناس، ولكننا منذ قيام هيئة الأمم وإعلان ميثاق حقوق الإنسان، نجد أنفسنا في حاجة إلى مثل هذا الحديث بعد أن رأينا وسمعنا الأحاديث المفجعة عن التمييز العنصري في جنوب أفريقيا وعن حالة الزنوج والملونين في أمريكا إلى عهد قريب.(5/46)
ومن العجيب أن الذين ينادون بالتمييز العنصري وينزلون أشد المحن والبلايا بزنوج أمريكا ليسوا شرقيين حتى يتهموا بالرجعية والتأخر والهمجية كما هو شأن الغربيين في اتهام الشرقيين دائماً، وإنما هم دول راقية من أكبر الدول في هيئة الأمم! فأمريكا أكبر دولة تسيطر على هيئة الأمم، وانجلترا أكبر دولة في أوروبا تباهي بديمقراطيتها، وجنوب إفريقيا كانت إلى عهد قريب ممثلة في هيئة الأمم بطبقة من الحكام الأوروبيين البيض الذين استعمروا تلك المنطقة وأخذوا يتكلمون باسمها، ودول أمريكا الجنوبية لها مقام مرموق ورأي مسموع في أوساط هيئة الأمم. وهذه الدول هي التي تقوم في القرن العشرين بأبشع جريمة إنسانية عرفها التاريخ، جريمة اضطهاد الإنسان لأخيه الإنسان، لا لضعفه ولا لجهله بل للون بشرته!
وعلى مرمى النظر من البيت الأبيض في واشنطن وفي ظل نصب لنكولن التذكاري ينبسط حي بشع يعيش فيه مئتان وخمسون ألف زنجي ، كان إلى عهد قريب يحظر عليهم أن يدخلوا الفنادق والمطاعم والمسارح والمدارس والمستشفيات الخاصة بالبيض، حتى الكنائس، فقد دخل زنجي من جمهورية بناما كنيسة كاثوليكية في واشنطن، وفيما هو مستغرق في صلاته سعى إليه أحد القسس وقدم له قصاصة من ورق قد كتب فيها عنوان كنيسة زنجية كاثوليكية، وحين سئل القس عن سر هذا التصرف أجاب: إن في المدينة كنائس خاصة بالكاثوليك الزنوج يستطيع هذا المرء الأسود أن يقف فيها بين يدي ربه!
وفي عام 100 من الهجرة أي منذ ثلاثة عشر قرناً شكت جارية سوداء تسمى فرتونة إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز بأن لها حائطاً قصيراً يُقتحم منه عليها فيُسرق دجاجها، فأرسل عمر فوراً إليها يخبرها أنه أرسل إلى والي مصر يطلب إليه أن يصلح لها حائطها ويحصن لها بيتها، وكتب إلى واليه في مصر أيوب بن شرحبيل: إن فرتونة مولاة ذي أصبح قد كتبت إليَّ تذكر قصر حائطها وأنه يسرق منه دجاجها وتسأل تحصينه لها. فإذا جاءك كتابي هذا فاركب أنت بنفسك إليه حتى تحصنه لها! فلما وصله الكتاب ركب بنفسه إلى الجيزة ليسأل عن فرتونة حتى عثر على محلها، فإذا هي سوداء مسكينة، فأعلمها بما كتب به أمير المؤمنين وحصن لها بيتها.
هذا ما فعلناه قبل أكثر من ثلاثة عشر قرناً.. وهذا مثل من حضارتنا.
"كتاب "من روائع حضارتنا " بتصرف كبير"
============
من خصائص الحضارة الإسلامية ( 1/2)
الاربعاء:02/07/2003
(الشبكة الإسلامية) مصطفى السباعي ( بتصرف )
يعرِّف الحضارة بعض الكاتبين في تاريخها بأنها " نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي " وتتألف الحضارة من العناصر الأربعة الرئيسية : المواد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون.
ولاطراد الحضارة وتقدمها عوامل متعددة من جغرافية واقتصادية ونفسية كالدين واللغة والتربية، ولانهيارها عوامل هي عكس تلك العوامل التي تؤدي إلى قيامها وتطورها، ومن أهمها الانحلال الخلقي والفكري، واضطراب القوانين والأنظمة، وشيوع الظلم والفقر، وانتشار التشاؤم أو اللامبالاة، وفقدان الموجهين الأكفاء والزعماء المخلصين.
وقصة الحضارة تبدأ منذ عُرف الإنسان، وهي حلقة متصلة تسلِّمها الأمة المتحضرة إلى من بعدها، ولا تختص بأرض ولا عرق، وإنما تنشأ من العوامل السابقة التي ذكرناها.
وتكاد لا تخلو أمة من تسجيل بعض الصفحات في تاريخ الحضارة ، غير أن ما تمتاز به حضارة عن حضارة إنما هو قوة الأسس التي تقوم عليها، والتأثير الكبير الذي يكون لها، والخير العميم الذي يصيب الإنسانية من قيامها ، وكلما كانت الحضارة عالمية في رسالتها ، إنسانية في نزعتها ، خلقية في اتجاهاتها ، واقعية في مبادئها ، كانت أخلد في التاريخ وأبقى على الزمن وأجدر بالتكريم.
وحضارتنا حلقة من سلسلة الحضارات الإنسانية، سبقتها حضارات وستتبعها حضارات. وقد كان لقيام حضارتنا عوامل، ولانهيارها أسباب
أبرز ما يلفت نظر الدارس لحضارتنا أنها تميزت بالخصائص التالية:
1 - الوحدانية المطلقة في العقيدة
- أنها قامت على أساس الوحدانية المطلقة في العقيدة ، فهي أول حضارة تنادي بالإله الواحد الذي لا شريد له في حكمه وملكه، هو وحده الذي يُعيد، وهو وحده الذي يُقصد (إياك نعبد وإياك نستعين) وهو الذي يعز ويذل، ويعطي ويمنح، وما من شيء في السموات والأرض إلا وهو تحت قدرته وفي متناول قبضته.
هذا السمو في فهم الواحدانية كان له أثر كبير في رفع مستوى الإنسان وتحرير الجماهير من طغيان الملوك والأشراف والأقوياء ورجال الدين، وتصحيح العلاقة بين الحاكمين والمحكومين، وتوجيه الأنظار إلى الله وحده وهو خالق الخلق ورب العالمين.
كما كان لهذه العقيدة أثر كبير في الحضارة الإسلامية تكاد تتميز به عن كل الحضارات السابقة واللاحقة، وهي خلوها من كل مظاهر الوثنية وآدابها وفلسفتها في العقيدة والحكم والفن والشعر والأدب، وهذا هو سر إعراض الحضارة الإسلامية عن ترجمة الالياذة وروائع الأدب اليوناني الوثني، وهو سر تقصير الحضارة الإسلامية في فنون النحت والتصوير مع تبريزها في فنون النقش والحفر وزخرفة البناء.
إن الإسلام الذي أعلن الحرب على الوثنية ومظاهرها لم يسمح لحضارته أن تقوم فيها مظاهر الوثنية وبقاياها المستمرة من أقدم عصور التاريخ، كتماثيل العظماء والصالحين والأنبياء والفاتحين.
وقد كانت التماثيل من أبرز مظاهر الحضارات القديمة والحضارة الحديثة؛ لأن واحدة منها لم تذهب في عقيدة الوحدانية إلى المدى الذي وصلت إليه الحضارة الإسلامية.
2 - إنسانية النزعة والهدف، عالمية الأفق والرسالة
- وثاني خصائص حضارتنا أنها إنسانية النزعة والهدف، عالمية الأفق والرسالة، فالقرآن الذي أعلن وحدة النوع الإنساني رغم تنوع أعراقه ومنابته ومواطنه، في قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)[الحجرات: 13].
إن القرآن حين أعلن هذه الوحدة الإنسانية العالمية على صعيد الحق والخير والكرامة جعل حضارته عقدًا تنتظم فيه جميع العبقريات للشعوب والأمم التي خفقت فوقها راية الفتوحات الإسلامية، ولذلك كانت كل حضارة تستطيع أن تفاخر بالعباقرة الذين أقاموا صرحها من جميع الأمم والشعوب، فأبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والخليل وسيبويه والكندي والغزالي والفارابي وابن رشد وأمثالهم ممن اختلفت أصولهم وتباينت أوطانهم، ليسوا إلا عباقرة قدمت فيهم الحضارة الإسلامية إلى الإنسانية أروع نتاج الفكر الإنساني السليم.
3 - مراعاة المبادئ الأخلاقية تشريعًا وتطبيقًا
- وثالث خصائص حضارتنا أنها جعلت للمبادئ الأخلاقية المحل الأول في كل نظمها ومختلف ميادين نشاطها ، وهي لم تتخل عن هذه المبادئ قط ، ولم تجعل وسيلة لمنفعة دولة أو جماعة أو أفراد، ففي الحكم وفي العلم وفي التشريع وفي الحرب وفي السلم وفي الاقتصاد وفي الأسرة، روعيت المبادئ الأخلاقية تشريعًا وتطبيقًا، وبلغت في ذلك شأوًا ساميًّا بعيدًا لم تبلغه حضارة في القديم والحديث، ولقد تركت الحضارة الإسلامية في ذلك آثارًا تستحق الإعجاب وتجعلها وحدها من بين الحضارات التي كفلت سعادة الإنسانية سعادة خالصة لا يشوبها شقاء.
4 - الحضارة الإسلامية حضارة تؤمن بالعلم في أصدق أصوله ، وترتكز على العقيدة في أصفى مبادئها(5/47)
- ورابع هذه الخصائص أنها تؤمن بالعلم في أصدق أصوله، وترتكز على العقيدة في أصفى مبادئها، فهي خاطبت العقل والقلب معًا ، وأثارت العاطفة والفكر في وقت واحد ، وهي ميزة لم تشاركها فيها حضارة في التاريخ.
وسر العجب في هذه الخاصة من خصائص حضارتنا أنها استطاعت أن تنشئ نظامًا للدولة قائمًا على مبادئ الحق والعدالة، مرتكزًا إلى الدين والعقدية دون أن يقيم الدين عائقًا ما دون رقي الدولة واطراد الحضارة، بل كان الدين من أكبر عوامل الرقي فيها، فمن بين جدران المساجد في بغداد ودمشق والقاهرة وقرطبة وغرناطة انطلقت أشعة العلم إلى أنحاء الدنيا قاطبة.
إن الحضارة الإسلامية هي الوحيدة التي لم يُفصل فيها الدين عن الدولة مع نجاتها من كل مآسي المزج بينهما كما عرفته أوروبا في القرون الوسطى.
لقد كان رئيس الدولة خليفة وأميرًا للمؤمنين، لكن الحكم عنده للحق والتشريع للمختصين فيه، ولكل فئة من العلماء اختصاصهم والجميع يتساوون أمام القانون، والتفاضل بالتقوى والخدمة العامة للناس " والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها " (رواه البخاري ومسلم)، " الخلق كلهم عيال الله فأحبهم إليه أنفعهم لعياله "(رواه البزار). هذا هو الدين الذي قامت عليه حضارتنا، ليس فيه امتياز لرئيس ولا لرجل دين ولا لشريف ولا لغني (قل إنما أنا بشرٌ مِثلُكم)[الكهف: 110].
5 - التسامح الديني العجيب
- وآخر ما نذكره من خصائص حضارتنا هذا التسامح الديني العجيب الذي لم تعرفه حضارة مثلها قامت على الدين. إن الذي لا يؤمن بدين ولا بإله لا يبدو عجيبًا إذا نظر إلى الأديان كلها على حد سواء، وإذا عامل أتباعها بالقسطاس المستقيم، ولكن صاحب الدين الذي يؤمن بأن دينه حق وأن عقيدته أقوم العقائد وأصحها، ثم يتاح له أن يحمل السيف، ويفتح المدن، ويستولي على الحكم، ويجلس على منصة القضاء، ثم لا يحمله إيمانه بدينه، واعتزازه بعقيدته، على أن يجور في الحكم، أو ينحرف عن سنن العدالة، أو يحمل الناس على اتباع دينه. إن رجلاً مثل هذا لعجيب أن يكون في التاريخ، فكيف إذا وجد في التاريخ حضارة قامت على الدين وشادت قواعدها على مبادئه ثم هي من أشد ما عرف التاريخ تسامحًا وعدالة ورحمة وإنسانية ! وحسبنا أن نعرف أن حضارتنا تنفرد في التاريخ بأن الذي أقامها دين واحد ولكنها كانت للأديان جميعًا.
خاتمة
هذه هي بعض خصائص حضارتنا وميزاتها في تاريخ الحضارات، ولقد كانت بذلك محل إعجاب العالم، ومهوى أفئدة الأحرار والأذكياء من كل جنس ودين، يوم كانت قوية تحكم وتوجه وتهذب وتعلم، فلما انهارت وقامت من بعدها حضارة أخرى، اختلفت الأنظار في تقدير قيمة حضارتنا، فمن مزرٍ بها ومن معجب، ومن متحدث عن فضائلها، ومن مبالغ في الانتقاص منها، هكذا تختلف أنظار الباحثين الغربيين اليوم في حضارتنا، وما كانوا ليفعلوا ذلك لولا أنهم وهم الذين بيدهم مقاييس الحكم وعنهم تؤخذ الآراء، هم الأقوياء الذين يمسكون بدفة الحضارة اليوم، وإن الذين يُحكم عليهم وعلى حضارتهم هم الضعفاء الذين تتطلع أبصار الأقوياء إلى استلاب خيراتهم وحكم بلادهم بشره وجشع، ولعله هو موقف القوي من الضعيف يزري به وينتقص قدره. كذلك فعل الأقوياء في كل عصور التاريخ، إلا نحن يوم كنا أقوياء فقد أنصفنا الناس قويهم وضعيفهم، وعرفنا الفضل لأهله شرقيهم وغربيهم، ومن مثلنا في التاريخ، عدالة حكم، ونزاهة قصد، واستقامة ضمير ؟
ومن المؤسف أننا لم ننتبه تمامًا لعصبية الأقوياء ضدنا وجورهم في الحكم على حضارتنا، وكثير منهم إما متعصب لدين أعمت العصبية بصره عن رؤية الحق، أو متعصب لقومية حمله كبرياء القومية على أن لا يعترف لغير أمته بالفضل، ولكن ما عذرنا نحن في تأثرنا بآرائهم في حضارتنا ؟ فيم يزري بعض الناس من أبناء أمتنا بهذه الحضارة التي ركعت الدنيا أمام قدميها بضعة قرون ؟
لعل حجة المستخفين من قومنا بقيمة حضارتنا أنها ليست شيئًا إذا قيست بروائع هذه الحضارة الحديثة واختراعاتها وفتوحاتها في آفاق العلم الحديث، وهذا لو صح لا يبرر الاستخفاف بحضارتنا لسببين:
الأول: أن كل حضارة فيها عنصران: عنصر روحي أخلاقي، وعنصر مادي. أما العنصر المادي فلا شك في أن كل حضارة متأخرة تفوق ما سبقها، تلك هي سنة الله في تطور الحياة ووسائلها، ومن العبث أن تطالب الحضارة السابقة بما وصلت إليه الحضارة اللاحقة، ولو جاز هذه لجاز لنا أن نزري بكل الحضارات التي سبقت حضارتنا، لما ابتدعته حضارتنا من وسائل الحياة ومظاهر الحضارة ما لم تعرفه الحضارات السابقة قط، فالعنصر المادي في الحضارات ليس هو أساس التفاضل بينها دائمًا وأبدًا.
أما العنصر الأخلاقي والروحي فهو الذي تخلد به الحضارات، وتؤدي به رسالتها من إسعاد الإنسانية وإبعادها عن المخاوف والآلام، ولقد سبقت حضارتنا كل الحضارات السابقة واللاحقة في هذا الميدان، وبلغت فيه شأوًا لا نظير له في أي عصر من عصور التاريخ، وحسب حضارتنا بهذا خلودًا.
إن الغاية من الحضارة هي أن تقرب الإنسان من ذروة السعادة، وقد عملت لذلك حضارتنا ما لم تعمله حضارة في الشرق والغرب.
الثاني: أن الحضارات لا يقارن بينها بالمقياس المادي، ولا بالكمية في الأعداد والمساحات، ولا بالترف المادي في المعيشة والمأكل والملبس، وإنما يقارن بينها بالآثار التي تتركها في تاريخ الإنسانية، شأنها في ذلك شأن المعارك والممالك، فهي لا تقارن بينها بسعة الرقعة ولا بحساب العدد، والمعارك الفاصلة في التاريخ القديم والوسيط لو قيست بمعارك الحرب العالمية الثانية من حيث أعداد الجيوش ووسائل القتال لكانت شيئًا تافهًا، ولكنها لا تزال تعتبر معارك لها قيمتها البالغة في التاريخ لما كان لها من الآثار البعيدة.
إن معركة " كاني" التي هزم فيها القائد القرطاجي الشهير " هنيبال " الرومانيين هزيمة منكرة لا تزال من المعارك التي تدرّس في المدارس العسكرية في أوروبا حتى الآن. وإن معارك خالد بن الوليد في فتوح العراق والشام لا تزال محل دراسة العسكريين الغربيين وإعجابهم، وهي عندنا من الصفحات الذهبية في تاريخ الفتوحات العسكرية في حضارتنا. ومع هذا فما كان قدم معركة كاني أو معركة بدر أو معركة القادسية أو حطين ليحول دون النظر إليها على أنها معارك فاصلة في التاريخ.
=================
بغداد مدينة الحضارة والخلافة هدف للمدفعية الأميركية
الاربعاء:19/03/2003
(الشبكة الإسلامية) - رويترز
بدأت القوات الأميركية والبريطانية التي يبلغ قوامها نحو 300 ألف جندي بالاستعداد لشن هجوم على بغداد مدينة الحضارة الرابضة على ضفاف نهر دجلة باعتبارها الآن هدفا حربيا.
وتمتعت مدينة الخلفاء التي كانت عاصمة العالم الإسلامي لمئات السنين بنفوذ قوي لدى ملايين العرب وتاريخ عريق كحاضرة للثقافة والعلم. فقد كانت بغداد مركزًا مزدهرًا للعلم والفلسفة والأدب في القرن التاسع الميلادي وتربعت على الذروة عندما كانت أوروبا تعيش في ظلمة القرون الوسطى وقبل قيام الولايات المتحدة بنحو 1000 عام.(5/48)