الحرب الباردة
تأليف
بدر بن علي بن طامي العتيبي
غفر الله له
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم ، أمّا بعد :
فإن أحسن الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (آل عمران:102) .
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (النساء:1) .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (الأحزاب:70-71) .
فنحمد الله الذي أتم لنا الدين القويم ، كما قال تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً}(المائدة: من الآية3) ، وكان ذلك بإنزال كتابه الكريم ، الذي وصفه الله بأنه { تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}(النحل: من الآية89) ، فبه يستبين الحق ، ومن سلكه اهتدى ، ومن اهتدى به فهو مرحوم من الشقاوة ، والبشارة له من ثم بعاقبة من كان دليله القران ، وهي سعادة الدارين .(1/1)
وكذلك أتم الله لنا الدين بإرسال رسوله الكريم ، كما قال تعالى { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة:128) .
روى الحاكم من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( ليس من عمل يقرب إلى الجنة إلاّ قد أمرتكم به ، ولا عمل يقربكم إلى النار إلاّ قد نهيتكم عنه )) الحديث .
وروى الطبراني عن أبي ذرٍ رضي الله عنه : ( تركنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما من طائر يقلب جناحيه في الهواء إلاّ وهو يذكر لنا منه علما ) فما من خير إلاّ ودلنا عليه ، وما من شر إلاّ وحذرنا منه .
فشمل ديننا الحنيف جميع جوانب الحياة ، ما دقّ منها وما جلّ ، كيف لا ؟ ، وهو الدين الذي علمنا بآداب الأكل والشرب والنوم بل وقضاء الحاجة ، فكيف يغفل ما هو أكبر من ذلك وأهم من مسائل الدين والدنيا ، من جميع الشؤون الدينية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، وجميع شؤون الناس على تباين واختلاف أجناسهم من ذكر وأنثى ، ودياناتهم من مسلم وكافر ، وألوانهم من أبيض وأسود وأحمر وأصفر ، وأعمارهم من صغير وكبير ، ولغاتهم من عربي وعجمي .
فنحمد الله على هذه النعم السابغة ، التي كاد بنا من أجلها أعداء الدين ، ولا تزال مكائدهم تتوالى من عهد الأنبياء والمرسلين إلى هذا الزمان الغريب !! ، قال الله تعالى : { مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } (البقرة:105) .
فالإسلام في هذه الأزمان تنتابه حرب شعواء شرسة طاحنة من أعدائه !!، من كل جهة !! ، مع الخور والضعف المستشري بين المسلمين في الدين والاقتصاد والسياسة .(1/2)
ومن أخطر أساليب الحروب : الحروب الفكرية إذ إن الحروب العسكرية البدنية تفسد الأرض ابتداءً والناس تبعاً ، وأمّا الحروب الفكرية الدينية فهي تفسد الناس ابتداءً والأرض تبعاً !! ، وهذه أخطر ، وخاصة إذا كانت هذه الحرب تدور داخل حصون المسلمين ، ونبال الأعداء تنطلق من وراء ظهورهم من حيث يأمنون !! ، فجدّ أعداء الدين في زعزعة كثير من الثوابت الدينية في العقائد والعبادات والأخلاق بأسلحة شتى مدمرة .
فتارة بسلاح التشكيك وعدم ثبوت النصوص أو عدم الدلالة أو عدم الحجية !! ، وتارة بالتحريف للكلم عن مواضعة ، وتارة بدعوى أن المسألة خلافية والرأي فيها مفتوح للناظرين !! ، فيسقط جدار هذا الدين حجراً حجرا ، وزاوية زاوية والناس في غفلة يعمهون .
فكم من أمرٍ قطعي الوجوب أو قطعي التحريم عند المسلمين من قديم الزمان لا يقبلون فيه المساومة والنقاش أصبح اليوم على موائد الصحف والقنوات الفضائية فاكهة الأخذ والرد ، والمخالفة وإبداء الرأي والرأي الآخر !! .(1/3)
ومن عظيم تلك الثوابت(1) التي أخذت أسلحة ( الدمار الشامل الفكرية ) تنقض عليها هي ( قضية حقوق المرأة في الإسلام ) ، فقبل عقودٍ قلائل مضت كنا لا نساوم ولا نقبل الكلام فيها ولا حولها !! ، والآن صارت محل انسلاخ كثير من الأقلام من حبر الحياء والحشمة فاتجهت إلى الدعوة إلى التبرج والسفور تحت شعار إرجاع الحقوق المسلوبة من المرأة !! ومساواتها بالرجل ، وكأن الإسلام معتدٍ على حقوقها عندما جعل نصف شهادتها بنصف شهادة الرجل ، وإرثها نصف إرث الرجل ، وأمرها بالقرار في البيوت ، والحجاب ... و .. و .. الخ .
فثارت ثوائر الدعاة إلى خروج المرأة وتمثيلها وقيادتها للسيارات وتوليها للمناصب السياسية ولعبها للرياضة في الأندية والمدارس والشوارع !! ، وهذه والله زفرات شرٍ يخشى علينا منها من الهلاك كما قال الله تعالى ذكره : {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً } (الإسراء:16)
__________
(1) وقد كنت كتبت كتاباً سميته بـ" قمع النوابت من زعزعة الثوابت " يسّر الله تجهيزه ، ذكرت فيه العديد من الثوابت العقدية والفقهية والأخلاقية والتاريخية ، مما قد تجرأت عليها بعض أيادي أدعياء العلم والفكر بالخوض والتشكيك ، وكتابي هذا هو على نسق كتاب شيخنا العلامة حمود بن عبدالله التويجري ـ رحمه الله تعالى ـ المسمى بـ " تغليظ الملام على المتسرعين في الفتيا والأحكام " ، أضفت عليه بعض الإضافات ، وحجاب المرأة وسترها أفردت له مبحثاً هناك كما صنع شيخنا رحمه الله تعالى إذ إن حجاب المرأة من الثوابت التي أصيبت بوهن الخلاف وحرية الرأي والفكر !! .(1/4)
إننا نحزن كثيراً لما يجري على إخواننا المسلمين المنكوبين في مشارق الأرض ومغاربها وما ينهال عليهم من مكائد الأعداء ، من تشريدٍ ، واغتصابٍ ، وسلبٍ ، ونهبٍ ، وقتلِ ، ولكنهم في حقيقة الحال موقفهم أوضح وأهون من موقفنا اليوم حيث صرنا تحت وطأة ( الحرب الباردة )(1) ، فحروب إخواننا تتلف الأجساد وتكون أرواحهم نقية نزيهة ، وهذه ( الحرب الباردة ) تُبقي الأجساد ولكن بأرواح ممسوخة منحرفة .
فهذه ( الحرب الباردة ) هي التي سلك فيها خصوم الأنبياء والمرسلين والدعاة المصلحين مسلك المنافقين بالكيد والخديعة ، وإتقان أساليب المراوغة والتشكيك في الأصول ، ولو أن امرأة صنعت كما صنعت صفية - زوجة الخائب سعد زغلول من نزعها للحجاب مع جموع المتهتكات أمثالها أمام قصر النيل بمصر في الميدان الذي سمّي لاحقاً بـ ( ميدان التحرير ) وأحرقت الحجاب هي وصويحيباتها وجعلنه تحت الأقدام كما يصنع اليوم بعلم إسرائيل في ذلك الميدان وغيره (2) - أقول لو أن امرأة بيننا اليوم رامت أن تصنع شيئاً من ذلك لقوبلت بقذائف النكير والسب ، والمعارضة والشجب .
__________
(1) كان تأليف هذا الكتاب عام 1420هـ تقريباً ، وكانت أقلام أهل الضلال من دعاة السفور والإنحراف حينذاك أقل شراسعة ، وأخفى طريقة منهم الآن ، وأما اليوم فقد توالت تصريحاتهم ولا أقول تلميحاتهم لتحقيق العديد من مطالبهم الفاسدة ، ( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (التوبة:32) .
(2) سيأتي في آخر الكتاب فصل بعنوان (الغارات السالفات على المسلمات) ، أذكر فيه شيئاً من أخبار أمثال صفية زغلول .(1/5)
ولكنهم اليوم سلكوا مسلك قائدهم الأول إبليس اللعين الذي قال الله تعالى محذراً منه : { ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين } ، وقال في سورة النور : { يا أيها الذين ءآمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر } الآية ، فوقع التحذير من خطوات الشيطان قبل شخصه لأنه لا يستجيز أحد من سائر بني آدم على كافة مللهم وأديانهم أن يشرف بتبعية الشيطان ، ولكن خطواته يستهين بها المرء حتى يقع في الجرم الأكبر .
روى الإمام أحمد والطبراني من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه ، كرجل كان بأرض فلاة فحضر صنيع القوم ، فجعل الرجل يجئ بالعود والرجل يجئ بالعود ، حتى جمعوا من ذلك سوادا واججوا ناراً فأنضجوا ما فيها )) .(1/6)
ولهذا لا نعجب أن عامة الأفكار المنحرفة التي تتدفق من كل حدب وصوب اليوم تروج بأيدي من نشأ بين أظهرنا ويتكلم بألسنتنا(1) .
ومن حكمة الشارع وسماحة الشريعة أنه إذا حرم علينا عملاً من الأعمال حرم علينا ما يوصل إليه أو كره لنا ذلك ، كما قال تعالى : { ولا تقربوا الزنى } ، فحذّر من جناب الحمى قبل الوقوع فيه ، فكل ما يقرّب للزنى من اختلاط وسفور وتبرج وغناء وصور ... و .. ، حذّر منه الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) وحق لهم الوصف بأنهم ( دعاة على أبواب جهنم ) كما جاء ذلك في حديث حذيفة رضي الله عنه ، في الفتن وهو متفق عليه ولفظه : (( كان الناس يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخير ، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني ! ، فقلت : يارسول الله لقد كان الناس في جاهلية وشر ، فجاء الله بهذا الخير ، فهل بعد هذا الخير من شر ؟ ، قال : نعم ، قلت : وهل بعد ذلك الشر من خير ؟ ، قال : نعم ، وفيه دخن ، قلت : وما دخنه ؟ ، قال : رجال يستنون بغير سنتي ويهتدون بغير هديي ، تعرف منهم وتنكر ، قلت : وهل بعد ذاك الخير من شر ؟ قال : نعم ، فتنة عمياء ، ودعاة على أبواب جهنم من اجابهم إليها قذفوه فيها ، قلت : يارسول الله : صفهم لنا ، قال : قوم من جلدتنا ، ويتكلمون بألسنتنا ، قلت : يارسول الله ما تامرني إن أدركت ذلك ؟ ، قال : تلزم جماعة المسلمين وإماهم ، قلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ ، قال : فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يأتيك الموت وأنت على ذلك ))(1/7)
وقد روى الامام أحمد والحاكم وأبو نصر في " السنة " من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً ، وعلى جنبي الصراط سور فيه أبواب مفتحة ، وعلى الأبواب ستور مرخاة ، وعلى باب الصراط داعٍ يقول : يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً ولا تتعوجوا ، وداعٍ يدعو من فوق الصراط ، فإذا أراد فتح شي من تلك الأبواب قال : ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه ، فالصراط الإسلام ، والستور حدود الله ، والأبواب المفتحة محارم الله ، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله ، والداعي من فوق واعظ الله في قلب كل مسلم )) .
وروى الشيخان من حديث عقبة بن نافع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إيّاكم والدخول على النساء )) .(1/8)
ودعاة التبرج والسفور اليوم ومن يتابع كتاباتهم ( اليومية !! ) ، يرى منهم هذا المسلك الشيطاني العجيب ، فتارة تكتب ( مصممة أزياء وطنية !! ) في بعض الصحف أن العباءة السوداء منظر حزن وكآبة للمرأة ، وأن لديها ( موضات وموديلات !! ) بألوان زاهية ( ساترة !! ) تناسب كل مناسبة ، وأخرى تقول إن المرأة ( بيننا !! ) مقيدة بـ ( قيد حديدي أسود !! ) تعني الحجاب ، ويكتب آخر مخاطباً صديقاً له بقوله ( بايعني !!(1)، على أن نفتح أكثر من ملفٍ في حق المرأة حتى إذا مُنِعْنَا من البعض يرضخ المجتمع لبعض ما نطالب ) ، ويوصيه بأن لا يكثر الجدال في مسالة واحدة من هذه المسائل وليكثر من فتح الملفات حول : ( حقوق المرأة المسلوبة !! ) بزعمه ، ويقول في آخر مقاله المنحط المتهافت : ( مدّ يدك وبايعني على أن نطرح في
__________
(1) اسمع إلى هذا الكلام وأذكر قول الله تعالى عن المشركين قولهم : { وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشئٌ يراد } ، كيف هم يتواصون على طريق الضلالة ويتعاهدون على ذلك ، عندما شغل بعضنا ببعض بتتبع العثرات والانشغال بسفاسف الأمور وقلة العلم وغلبة الجهل والهوى والانخراط في الأحزاب والجماعات التي أعقبت المسلمين بكل فرقة وبلية ، وترك الميدان لهؤلاء ، وكان واجب أهل الحق التواصي بالحق والتواصي بالصبر ، والله المستعان ، وسبق أن أشرت أن الكتاب جرى به القلم قبل سنوات من نشره الآن ، واليوم امتاز المجرمون عن المسلمين ، وظهرت لهم ( مواقع ) و ( استراحات ) و ( صحف ) يتوافدون إليها ، ويبثون سمومهم ، بل لهم ( غارات فكرية - منظمة مدعومة من جهات أجنبية معادية - ) يشنونها على العديد من المواقع في الشبكة العنكبوتية ، والقنوات الفضائية ، والصحف المحلية ، وقد مضى مثل الأولين بأن أهل الضلال سوف يذوبون ، فدين أبقاه الله ما يزيد على ألف وأربعمائة قرن ، وسيبقى حتى تقوم الساعة ، لن تزيله تلك الغارات العقيمة .(1/9)
الساحة النقاش حول موضوع جديد وهو : فتح أندية رياضية نسائية !! )(1) .
كما قد فتحوا من قبل : ملف كشف وجه المرأة ، وقيادة المرأة للسيارة ، وتمثيل المرأة ، وتوليها المناصب الوزارية ، ومقاعد الشورى ، ودراستها في الخارج بغير محرم ، واباحة الغناء سافرة أمام الجماهير !! ، وفتح باب التعارف والتهاني والتهادي بين الأصدقاء والصديقات عبر المراسلات والإذاعات والإنترنت !! ، وإباحة الاختلاط في مقاعد الدراسة والعمل بين الجنسين ، كل هذه المطالب عندما يفجرها هؤلاء في مقدم هذه ( الحرب الباردة ) إنما لتضعف العزائم عن صدّها كلها فيرضخ المجتمع لقبول بعضها وبهذا يحقق هؤلاء انتصاراً منشودا ولو بالبعض !! ، وهكذا القذائف الفكرية المنحرفة تنهال دواليك .
ولو أن جهود الدعاة المخلصين تفانت عند بزوغ هذه الفتنة ، وشمّروا سواعد الجد والجهاد بالحجة والبيان ، والاستعانة بسلطة السلطان الشرعية ، وقمعوا هؤلاء المنحلين ، لما تجرءوا على أي مطلب آخر من مطالبهم ، وما أحسن ما سمعته من بعض إخواننا في البلاد العربية المجاورة مثلاً يُستشهدُ به عندهم يقول : ( اصرخ إذا سُرقت البيضة تسلم لك الدجاجة !! ) ، ومعناه : لو أن صاحب الدجاجة إذا سرقت من عنده البيضة سكت وتهاون بها لتجرأ اللص على العودة مرة أخرى للسرقة وربما تكون هذه المرة أكبر وتكون الدجاجة !! ، ولكن عندما يصرخ الصراخ الشديد ، ويقيم الدنيا ولا يقعدها عند سرقة البيضة منه ، يهاب ذلك اللص من العودة مرة أخرى ، ولسان حاله يقول خائفاً : ( هذا فعله في البيضة فكيف لو سرقت الدجاجة !! ) .
__________
(1) أنظر حركة ( هدى شعراوي ) في آخر هذه الكتاب ، وما فيها من شبه من هذا المنطلق !! .(1/10)
وأفضل من هذا المثل ، قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( مثل القائم في حدود الله ، والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة ، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم ، فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا ، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً ، وإن اخذوا على أيديهم نجوا ، ونجوا جميعاَ )) رواه البخاري والترمذي من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه .
فكان الحقيق بكل مسلم ومسلمة على شتى طبقاتهم إذا علموا وجه المنكر أن ينكروه ويجابهوه ، ويجابهوا دعاة التبرج والسفور فلا يخرج أحدهم من عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان )) الحديث رواه مسلم.
روى محمد بن نصر في " السنة " عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرسلا : (( كل رجل من المسلمين على ثغرة من ثغر الإسلام ، الله الله لا يؤتى الإسلام من قبلك )) .
ثم روى عن الحسن بن صالح بن حي قال : ( إنما المسلمون على الإسلام بمنزلة الحصن فإذا أحدث المسلم حدثاً ثغر في الإسلام من قبله ، فإن أحدث المسلمون كلهم فاثبت أنت على الأمر الذي لو اجتمعوا عليه لقام الدين لله بالأمر الذي أراده لخلقه لا يؤتى الإسلام من قبلك ) .
وفي مثل هذا المعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا يحقرن أحدكم نفسه !! ، قالوا : يا رسول الله وكيف يحقر أحدنا نفسه ؟! ، قال : يرى أن عليه مقالاً ثم لا يقول فيه ، فيقول الله عز وجل يوم القيامة: ما منعك أن تقول في كذا وكذا ؟ ، فيقول : خشية الناس ! ، فيقول : فإياي كنت أحق أن تخشى )) رواه ابن ماجة بسند حسن عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه .(1/11)
فلا يحتقر المسلم نفسه في أن ينشر حجة الله على خلقه و { لا يكلف الله نفساً إلاّ وسعها } ، فساهم أخي المسلم بكل ما تستطيع في نشر دين الله ، وتوعية الناس التوعية الصالحة ، وثق تماماً أن عامة ما يحصل في الناس من تفريط هو من جرّاء الذنوب والمعاصي وتقصير المصلحين ، وقد قال شيخنا الإمام العلامة عبدالعزيز بن باز رحمه الله : ( إن الدعاة لو أنهم بينوا الإسلام على وجهه الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم حق البيان لدخل الناس في دين الله أفواجا كما قال الله تعالى ذكره في سورة النصر : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً } (النصر:1-3)
قلت : وهذا يعني أن التقصير من عند أنفسنا ، ولا يكن عنك حديث السفينة السابق ببعيد ، قال الله تعالى : {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } (هود:116-117).
ولكن الله يهلك القرى وفيهم الصالحون ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سألته زينب بنت جحش رضي الله عنها : أنهلك وفينا الصالحون ؟! .
قال : (( نعم إذا كثر الخبث )) متفق عليه .
وقالت له عائشة رضي الله عنها : يا رسول الله ، إن الله أنزل سطوته بأهل الأرض ، وفيه الصالحون فيهلكون بهلاكهم ؟! ، فقال : (( يا عائشة ، إن الله عز وجل إذا أنزل سطوته بأهل نقمته ، وفيهم الصالحون ، فيصيرون معهم ثم يبعثون على نيّاتهم)) رواه ابن حبان .(1/12)
روى الإمام أحمد والترمذي وأبو داود عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال : أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير موضعها : { )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } الآية (المائدة:105) ، وإنما سمعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه ، أوشك أن يعمهم الله بعقاب )) .
وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ، ثم يقدرون على أن يغيروا ولا يغيرون ، إلاّ أوشك أن يعمهم الله بعقاب )) .
وروى أبوا داود وابن ماجة من حديث جرير رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي ، يقدرون على أن يغيروا عليه ولا يغيرون إلاّ أصابهم الله منه بعقاب قبل أن يموتوا )) .(1/13)
وروى أبو داود واللفظ له ، والترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل ، فيقول : يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله ، فلا يمنعه أن يكون أكيله وشريبه وقعيده ، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ، ثم قال : { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ) (المائدة:78-80) إلى قوله : {فاسِقُونَ } )) ، ثم قال : (( كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، ولتأخذن على يد الظالم ، ولتأطرنه على الحق أطرا )) ، ومعنى تأطرنه : أي تعطفه وتقهره إلى اتباع الحق .
وروى ابن ماجة وابن حبان عن عائشة رضي الله عنها قالت : دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فعرفت في وجهه أنه قد حضره شي فتوضأ ، وما كلّم أحداً ، فلصقت بالحجرة أستمع ما يقول ، فقعد على المنبر ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، وقال : (( يا أيها الناس ، إن الله يقول لكم : مروا بالمعروف ، وانهوا عن المنكر ، قبل أن تدعوا فلا أجيب لكم ، وتسألوني فلا أعطيكم ، وتستنصروني فلا أنصركم )) ، فما زاد عليهن حتى نزل .(1/14)
ومثل هذا كله قول الله تعالى في قصة أهل السبت : {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (الأعراف:165) ، فأهلك الله طائفة ، وعفى عن الذين نهوا عن السوء وسكت عن الثالثة : الذين قالوا : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً) (الأعراف:164) . وكان ابن عباس يبكي بكاءاً شديداً عند هذه الآية ويقول : فأرى الذين نهوا قد نجوا ، ولا أرى الآخرين ذكروا ، ليت شعري مالله صانع بهم ، ونحن نرى أشياء ننكرها ولا نقول فيها .
هذه الآثار غيض من فيض في أصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يوشك أن يأخذنا نصيب منها في حقيقة الحال ، ذكرت منها ما لعلّه أن يوقظ القلوب الوسنانة ، وتقيم لهذا الأصل العظيم قوائم أركانه ، ولولا خشيت أن نخرج عن المقصود ، لذكرت منها ما تنقطع به علائق قلوب أهل التوحيد من الخوف مما ورد من شديد الزجر والوعيد ، على المقصرين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وما توعدهم الله به ، ولكن عسى الله أن ينفع بما تقدم الوعظ به ، وتكون به نجاة من عرف ونبه ، والله المستعان ، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله .
فصل
فيما يطلب ممن رام النصيحة والإنكار ؟!(1/15)
لاشك أن الناظر إلى حال المجتمعات اليوم يلحظ التغير الشديد ، والتدني الفاضح لموقف العامة من قضية حجاب المرأة واحتجابها !! ، حتى أصبح القرار في البيوت ، والتمسك بالحجاب الشرعي للمرأة في أنظار البعض : هي ميزة العجائز اللواتي أكل عليهن الزمن وشرب !! ، أو مجموعة من الفتيات المتشددات اللواتي تأثرن ( بالتيار الديني المتشدد !! ) على حدّ تعبيرهم !! ، ويقولون : (( إن المرأة الانفتاحية هي : تلك المرأة التي تسهم في بناء المجتمع !! )) ، وكأن هذا البناء لا يتم إلاّ بكشف الوجه!! ، وقيادتها للسيارة !! ، وابتعاثها في الخارج !! ، وتوليها للمناصب !! ، ومزاحمتها للرجال في أعمالهم حتى في ساحات القتال والمعركة في الأرض والجو والبحر !! .
هذه مزاعمهم إن كانت عليكم تخفى !! ، والله يعلم سر نواياهم وأخفى ، وهم دعاة الفاحشة والرذيلة من حيث علموا أم لم يعلموا ، وليذكروا قول الله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (النور:19) ، فلم نرَ المرأة الانفتاحية إلاّ في أعفن الأوساط كالوسط الفني الغنائي والتمثيلي !! ، ولم نلحظ لتلك المرأة الانفتاحية مشاركة في الدعوة إلى الله وتعليم التوحيد والصلاة وواجبات المرأة في الإسلام ، لم نشاهد هذه المرأة الانفتاحية تحارب الأفكار المنحرفة المستوردة بل هي بالعكس من ذلك ، فهي الأرض المعبدة لوطء الأقدام !! ، والشارة المنصوبة لرمي السهام ! ، يلعب بهن الرجال ، وكل يستمتع بها بالمباشرة والمشاهدة في الحل والترحال !! .
وعلى هذا المنظار ( للمرأة الانفتاحية !! ) ، تكون خديجة وعائشة وأسماء وأم حرام وأم سليم ، وغيرهن من نساء الصحابة ، جنين على بناء الإسلام بالهدم والتحطيم!! .(1/16)
وحاشاهن والله فهن اللواتي نصرن الإسلام باليد واللسان ، فقد شدّ الله أزر الإسلام منذ شروق شمس النبوة بالمرأة المسلمة ، فهي مع الرجل في الدعوة إلى الله ، وهي معه في الحرث والنسل ، وهي معه حتى في الجهاد على القدر المشروع لها من تطبيب المرضى ومساعدة المحتاج ، وإلاّ فجهادهن الشرعي هو الحج والعمرة مرة واحدة في العمر ثم ظهور الحصر ، كما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) .
إذا تقرر ما حركنا به سواكن الهمم في قلوب قاصدي القمم ، وما سبق الوعظ به من الترهيب من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فما هو المطلوب منّا بعد إذ هدانا الله لاتباع سبيل الحق القويم ، والصراط المستقيم ؟! ، وكيف نؤدي واجب النصيحة والإنكار ؟! ، فيقال : هذا سؤال وارد ممن رام السلامة وشمّر عن سواعد الجدّ في إنكار المنكر ، وبذل النصيحة لعموم المسلمين مما يكاد بهم وبدينهم ، ويجاب عليه :
بأن الواجب على من امتثل للتصدي للمنكرات والرد عليها ، ونصيحة الناس وإرشادهم أن يراعي ستة أصول :
الأصل الأول : الإخلاص لله تعالى .
__________
(1) وقد سألته عائشة رضي الله عنها : هل على النساء جهاد ؟ ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( عليكن أفضل الجهاد ، حج مبرور )) رواه البخاري ، كما أنه أمر نساءه بعدم تكرار الحج بعد حجة الإسلام ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( هذه ثم ظهور الحصر )) رواه أحمد عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه بسند صحيح ، يعني لزوم البيوت ، فأين دعاة التبرج والسفور عن هذه النصوص !! ، فإذا كان الحج والعمرة وهما من أفضل ما تعبد المرء به إلى الله يكفي المرأة منهما مرة واحدة ثم تؤمر بلزوم بيتها والقرار فيه ، فكيف بمن يأمرها بالسياحة والتجول !! ، وحضور المهرجانات الغنائية والرياضية !! ولا حول ولا قوة إلاّ بالله .(1/17)
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والنصيحة من أجل العبادات ، والقاعدة الشرعية تنص على أن قبول العبادة متوقف على الإخلاص لله وحده .
قال الله تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } (البينة:5) ، وقال تعالى : {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ }(الزمر: 3) ، وقال : { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً } (النساء:146) ، والنصرة والتأييد وكفاية الشرور تكون بإخلاص العبادة لله كما قال تعالى : {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (يوسف:24) .
روى النسائي في "السنن" وأصله في البخاري عن مسعد بن مصعب عن أبيه رضي الله عنه أنه ظن أن له فضلاً على من دونه من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( إنما تنصر هذه الأمة بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم )) .
فبالإخلاص تنكشف الغمة ، وتلتهب الهمّة ، وتنجوا الأمة ، ولا يخفى علينا حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة في الغار فدعا كل منهم بصالح عمله وخالصه ، فكشف الله عنهم تلك المحنة والبلية بفضل صلاحهم وإخلاصهم ، والحديث رواه البخاري ومسلم .
قال سهل بن عبدالله التستري رحمه الله : ( الناس موتى إلاّ العلماء ، والعلماء سكارى إلاّ العاملون ، والعاملون مغرورون إلاّ المخلصين ، والمخلصون على وجل حتى يُعلم ما يختم الله لهم به ) .(1/18)
وهو ضرب من الجهاد الذي أمر الله به ، ولهذا عامة من يذكر أصول الأمر والمعروف والنهي عن المنكر يذكره تحت أبواب الجهاد وأحاديثه ، ولا يقبل الله جهاد مجاهد في غير سبيل الله عز وجل .
قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى : ( وتحقيق ذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من أوجب الأعمال وأفضلها وأحسنها وقد قال تعالى : {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } (هود: 7) ، وهو كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله : أخلصه وأصوبه ، فإن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل ، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل ، حتى يكون خالصاً صواباً ، أن يكون لله ، والصواب أن يكون على السنة .
فالعمل الصالح لابد أن يراد به وجه الله تعالى ، فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلاّ ما أريد به وجهه وحده ، كما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ((يقول الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا منه برئ وهو كله للذي أشرك )) .
وهذا هو التوحيد الذي هو أصل الإسلام ، وهو دين الله تعالى الذي بعث به جميع رسله ، ومن أجله خلق الخلق ، وهو حقه على عباده ، أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ، ولا بد مع ذلك أن يكون العمل صالحاً ، وهو ما أمر الله به ورسوله وهو الطاعة ، فكل طاعة عمل صالح ، وكل عمل صالح طاعة ، وهو العمل المشروع المسنون ، العمل المشروع المسنون هو : المأمور به أمر إيجاب أو استحباب ، وهو العمل الصالح وهو الحسن وهو البر ، وهو الخير ، وضده المعصية والعمل الفاسد والسيئة والفجور والظلم.(1/19)
ولما كان العمل لا بد فيه من شيئين : النية والعمل ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((أصدق الأسماء حارث وهمام )) ، فكل أحد حارث همام ، له عمل ونية ، لكن النية المحمودة التي يقبلها الله ويثيب عليها هي أن يراد الله وحده بذلك العمل ، والعمل المحمود هو الصالح ، وهو المأمور به ، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه : اللهم اجعل عملي كله صالحا وأجعله لوجهك خالصاً ولا تجعل لأحدٍ فيه شيئا .
وإذا كان هذا حد كل عمل صالح فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب أن يكون ذلك ، هذا في حق الآمر الناهي نفسه . ) انتهى كلامه رحمه الله .
الأصل الثاني : إتباع السنة في الإنكار ، وهذا من فقه السيرة .
لأن أعظم نجاح كان في هداية الخلق وإزالة ما هم عليه من منكرات هي سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - الدعوية ، حيث آمن به من الخلائق عدد لا يحصون ودخل الناس في دين الله أفواجا كما قال تعالى ذكره : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً } (النصر:1-3) .
فلا بدّ لمن امتثل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر النظر في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والتفقه بها ، فيجد أن سيرته في الإنكار متنوعة بتنوع الأشخاص والمواطن الزمانية والمكانية ، فما أنكره وهو في مكة غير ما أنكره وهو في المدينة ، وما أنكره وهو في أرض الحرب غير ما أنكره وهو في أرض السلم ، كذا إنكاره على المتعلم غير إنكاره على الجاهل ، وإنكاره على حديث العهد بالكفر غير إنكاره على من رسخ في الإسلام ، وإنكاره على ذوي الهيئات غير إنكاره على عامة الناس ، وإنكار المنكر على الحدث الصغير غير إنكاره على الشيخ الكبير ، كذا يتنوع بتنوع المنكر فإنكاره للشرك غير إنكاره لسائر الذنوب .(1/20)
كل هذه مواطن سجل عن النبي صلى الله عليه وسلم صور شتى من قوة الإنكار ولينه ، والردع والهجر وعدمه ، وهذا هو عين السياسة الشرعية النبوية ، ولولا أن يخرج الكتاب عن مقصود تأليفه لذكرت على كل ما تقدم شاهد ذلك من السنة النبوية الثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم - ، وكتب السيرة قريبة الوصول ، لا يمل من قراءتها المجتهد ولا تعيي الكسول .
وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى بالإتباع من جميع طرائق الرجال والله تعالى يقول : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب:21) ، وقال : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة:128) ، وهو القائل ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين ، تمسكوا بها ، وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة )) رواه الإمام أحمد وغيره عن العرباض بن سارية رضي الله عنه بإسناد صحيح .
فطريقته عليه الصلاة والسلام أسلم الطرق وأحكمها ، ولهذا تجد أن أهل السنة هم الذين سلكوا الطريق المستقيم في إنكار المنكر من بين أهل الأهواء من الخوارج والمرجئة وغيرهم .
الأصل الثالث : العلم الشرعي الذي به يُنكر المنكر .
وذلك لأن العلم سلاح بتار ، وشعلة من نار ، يحارب به ويستضاء ، والجاهل يفسد أكثر من أن يصلح .
وكما قال الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه : ( كم مريد للخير لم يدركه ) .
وقال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله : ( من عبد الله بغير علم ، كان ما يفسد أكثر مما يصلح ) .(1/21)
وقال سفيان الثوري : ( لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلاّ من كان فيه ثلاث خصال : رفيق بما يأمر رفيق بما ينهى ، عدل بما يأمر عدل بما ينهى ، عالم بما يأمر عالم بما ينهى ) .
ولهذا اتفقت العقول السليمة على أن هلاك الناس من ثلاثة أشخاص : نصف فقيه ، ونصف طبيب ، ونصف نحوي ، فالأول يفسد الأديان والثاني يفسد الأبدان والثالث يفسد اللسان ، نص على ذلك أهل العلم .
وهؤلاء هم أنصاف المتعلمين ، لا ظهراً أبقوا ولا أرضاً قطعوا ، فلا هم بالجهل اعترفوا ، ولا بالعلم والتحقيق شرفوا ، فما يفسدون أكثر مما يصلحون ، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله .
فكم من مُنْكرٍ للمنكر لا يعي وجه الإنكار ، ولربما تسرع متسرع بإنكار ما ليس بمنكر !! ، فأورث على الإسلام عاقبة وخيمة ، وأحدث منكراً أخطر وأشد .
قال النووي رحمه الله في شرح "صحيح مسلم " : ( ثم إنه يأمر وينهى من كان عالماً بما يأمر به ، وينهى عنه ، وذلك يختلف باختلاف الشيء ، فإن كان من الواجبات الظاهرة والمحرمات المشهورة ، كالصلاة والصيام والزنا والخمر ونحوها ، فكل المسلمين علماء بها ، وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال ومما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام مدخل فيه ، ولا لهم إنكاره بل ذلك للعلماء ) .
قلت : وقوله ( دقائق الأفعال والأعمال ) معناه مسائل الاجتهاد وهو معنى قول بعض أهل العلم : ( لا إنكار في مسائل الاجتهاد ) ، ولا يصح أن يقال : ( لا إنكار في مسائل الخلاف ) ، لأن الخلاف منه ما هو مستساغ ومنه ما لا يكون كذلك ، والأول لا عبرة به و لا يؤخذ باجتهاده ذلك ، فعامة أهل الأهواء والبدع خرجوا وخالفوا باجتهاد ، ولكنه غير مستساغ عند أهل العلم ، فليس كل خلاف يعذر فيه المخالف حتى يكون هذا المخالف خالف باجتهاد مستساغ عند أهل العلم ، قال الشاعر :
وليس كل خلاف جاء معتبر إلاّ خلاف له حظ من النظر(1/22)
قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله : ( وقولهم مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح ، فإن الإنكار إمّا أن يتوجه إلى القول بالحكم أو العمل ، أمّا الأول فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعا قديما وجب إنكاره وفاقاً وإن لم يكن كذلك فإنه ينكر بمعنى بيان ضعفه عند من يقول المصيب واحد وهم عامة السلف الفقهاء .
وأمّا العمل فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره أيضاً ، بحسب درجات الإنكار كما ذكرناه من حديث شارب النبيذ المختلف فيه وكما ينقض حكم الحاكم إذا خالف سنة وإن كان قد اتبع بعض العلماء .
وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مسوغ فلا ينكر على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً ، وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد كما اعتقد ذلك طوائف من الناس ، والصواب الذي عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوباً ظاهراً مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه فيسوغ له ـ أي الاجتهاد ـ ) إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى .
الأصل الرابع : مراعاة المصلحة والمفسدة .
وهذا لا يعيه إلاّ من ألمّ بالأصل السابق بتوفيق من الله وهداية ، ولا شك أن معرفة مصالح العباد ومفاسدها من أوجب ما يجب على من امتثل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والحكم للغالب منهما لا مطلق تقديم درء المفاسد على جلب المصالح ، فتارة تكون المصلحة لا تتحقق إلاّ مع وقوع المفسدة ولكنها أهون من شأن المصلحة المتحققة ، وتارة تكون المفسدة لا تدرأ إلاّ بدفع المصلحة المتحققة ولكنها أهون من خطر المفسدة المدفوعة ، أمّا عند تساوي المرتبتين فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح وهذا المراد بهذه القاعدة عند أهل العلم .
ومن صورة جلب المصالح المقدمة على درء المفاسد عند علو المصلحة على المفسدة ما حصل من صنيع النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلح الحديبية .(1/23)
ومن صورة دفع المفسدة المقدم على جلب المصلحة عند علو المفسدة على المصلحة ما حصل من امتناعه - صلى الله عليه وسلم - من هدم البيت وبناءه على قواعد إبراهيم .
ومعرفة علو أحد الجانبين على الآخر لا يحصل إلاّ بالعلم والعدل .
قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى : ( لكن اعتبار المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة ، فمتى قدر الإنسان على إتباع النصوص لم يعدل عنها ، وإلاّ اجتهد رأيه لمعرفة الأشباه والنظائر ، وقلّ أن تعوز النصوص من يكون بها خبيراً بها وبدلالتها على الأحكام .
وعلى هذا إذا كان الشخص والطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما ، بل إما أن يفعلوهما جميعاً أو يتركوهما جميعاً ، لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا ينهوا عن منكر ، بل ينظر ، فإن كان المعروف أكثر أمر به ، وإن استلزم ما هو دونه من المنكر ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم بل يكون النهي حينئذٍ من باب الصد عن سبيل الله والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وزوال فعل الحسنات .
وإن كان المنكر أغلب نهي عنه ، وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف ، ويكون المر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه آمراً بمنكر وساعياً في معصية الله ورسوله .
وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان ، لم يأمر بهما ولم ينه عنهما ، فتارة يصلح الأمر ، وتارة يصلح النهي ، وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي ، حيث كان المعروف والمنكر متلازمين وذلك في الأمور المعينة الواقعة ) إلى آخر كلامه رحمه الله .
الأصل الخامس : الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن ، والترهيب من الحماس المفرط .(1/24)
وقد جاء الأمر بذلك في محكم التنزيل كما قال تعالى : {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } (النحل:125) ، وقال تعالى: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران:159) ، وقال تعالى : { فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه:44) ، وقال : {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}(فصلت: من الآية34) .
وروى الإمام أحمد ومسلم وغيرها من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( ما كان الرفق في شي إلاّ زانه ، ولا نزع من شي إلاّ شانه )) .
وروى الإمام أحمد وغيره من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إن الله رفيق يحب الرفق ، ويعطي عليه مالا يعطي على العنف)).
وروى البخاري ومسلم من حديث أبي موسى وأنس رضي الله عنهما ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( يسروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا )) .
وعندما أوذي النبي - صلى الله عليه وسلم - من قريش قال : ((ربّي اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)).
قال الإمام أحمد : ( الناس محتاجون إلى مداراة ورفق ، والأمر بالمعروف ، لا غلظة ، إلاّ رجل معلن بالفسق فلا حرمة له ) .
و الشكاية اليوم من قطّاع الطريق بين الناس وبين الله عز وجل الغفور الرحيم كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( إن منكم منفرون )) ، وكما قال ابن مسعود رضي الله عنه : ( كم مريد للخير لم يدركه ) ، فلربما أساء منهم مسي في الإنكار وأغلظ على العاصي فيتولى الآخر كبره ويتحقق منه الإعراض والاستكبار ، بعدما كان داؤه مجرد الغفلة التي يستطيع الداعي أن يدعوه بالرفق واللين في القول .(1/25)
كيف والأمر زاد ببعض الجهال فارتكبوا منكراتٍ أشد من التخريب والتدمير والتكفير بغير بينة مما جر على المصلحين الصادقين ضريبة هذا التهوّر .
الأصل السادس : الصبر على الأذية في سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فلابد أن يلاقي الآمر والناهي من الأذية مثل ما لقيه الدعاة المخلصين من قبله من الأنبياء والصالحين كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل )) ، رواه الإمام أحمد والبخاري من حديث سعد رضي الله عنه .
وبذلك كانت وصية العبد الصالح لقمان الحكيم لابنه كما حكى الله تعالى في قوله : { وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } (لقمان:17) ، وقال تعالى : {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } (آل عمران:186) .
ومن صدق عمله وخلص كان القبول نصيبه من الناس ، ومتى تحقق منه الصدق والإخلاص يتحقق له النصرة والتأييد بإذن الله تعالى ، كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ } (السجدة:24) .
قال الشافعي رحمه الله تعالى : ( بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين ) .
ورتب الله تعالى الفلاح والنصرة على الصبر والمصابرة والمرابطة كما قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (آل عمران:200)(1/26)
وقال تعالى : {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } (الروم:47) ، وهذا وعد من الله لعباده المؤمنين ، وشرف الله أهل الصبر بمعية نصره وتأييده كما قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}(البقرة: 153) ، وجرت سنة الله أن الإيمان لا يصح لهم إلاّ بالابتلاء كما قال تعالى : { الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} (العنكبوت:1-2) .
ولك أن تتأمل ما حصل للأنبياء وأولوا العزم من الرسل عليهم الصلاة والسلام ومبلغ أذية أقوامهم بهم ، وهذه حال الحرب بين الحق والباطل من قديم الزمان ، من عهد الأنبياء وخصومهم ، وأهل التوحيد والسنة وأتباعهم من السلف الصالح وخصومهم ، فهاهو آدم عليه السلام وخصومة إبليس عليه لعنة الله له وكيده به حتى صنع ما صنع وعاقبه الله بأن أخرجه وذريته من الجنة ، وما ذلك إلاّ للحسد الكامن في نفس إبليس وتكبّره عن أمر ربّه !! ، ولذا خانه بعدما قاسمه بأنه له لمن الناصحين !! ، وكذلك سائر الأنبياء وأولو العز من الرسل ، فقد تنوع أعداؤهم في تعدد أنواع العداوة معهم ، فتارة بالسب والشتم وأنهم سحرة !! وكذبة !! ومجانين !! وظلمة !! ومفسدون في الأرض !! ويفرقون بين الناس !! ويبدلون الدين !! ذكر ذلك كله عنهم الله في كتابه الكريم ، واتهموهم بأنهم يطلبون السلطة والكبرياء في الأرض !! ، كما حكى الله عن قوم نوح عليه السلام في قوله تعالى : {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ }(المؤمنون: 24) ، وكما قال قوم فرعون لموسى عليه السلام فيما حكى الله عنهم : { قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } (يونس:78) .(1/27)
وتارة يبلغ عداؤهم إلى الكذب والافتراء عليهم ، كما في قوله تعالى : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ }(البقرة: 102) ، وكما قال تعالى عن عيسى عليه السلام : {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ } (المائدة:116) .
وتارة يبلغ عدوانهم بانتقاصهم لأنبياء الله واحتقارهم لعقولهم ، فاتهموهم بالجنون والسفه كما حكى الله عنهم في آيات عدّة ، ومن احتقارهم لهم قولهم فيما حكى الله عنهم : { فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} (هود:27) ، وقالوا : { قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} (الشعراء:111) ، وقال قوم إبراهيم له عليه السلام فيما أخبر الله عنهم : {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} (الأنبياء:55) ، وقال بنو اسرائيل لموسى عليه الصلاة والسلام عندما أمرهم أن يذبحوا بقرة : { أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ }(البقرة: 67) ، ومن تهكمهم بموسى عليه السلام ما حكى الله عنهم في قوله تعالى : { فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآياتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ } (الزخرف:47).(1/28)
وربما تطاول بهم الأمر إلى الاعتداء عليهم ، كما قالوا لنوح عليه السلام : {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ } (الشعراء:116) ، وقالوا لإبراهيم عليه السلام : { يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً } (مريم:46) ، وكما قال فرعون لعنه الله لنبي الله موسى عليه السلام : { قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} (الشعراء:29) ، وكما حكى الله عن حال المشركين من الجن والإنس مع نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} (الجن:19) وقال جل شأنه : { وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ } (القلم:51) .
بل ربما تطاول الأمر إلى قتلهم !! ، كما قالوا في إبراهيم عليه السلام : {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ } (الأنبياء:68) ، وقال تعالى : { وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) (الأعراف:127) ، وقال الله تعالى : {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ } (غافر:25) .(1/29)
وأكثر أخي من تأمل سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكيف صبره على قومه ، فقد ألحقوا به كل ما يخطر بالبال من أذية ، فتنقصوا دينه ، وعرضه ، وعقله ، وجسده ، وماله ، وطرد من أرضه ، فقالوا عنه أنه ساحر ، ويقتل الناس ، ويفرق بين الأخ وأخيه ، وأنه أبتر لا ينجب ، واتهموا زوجه عائشة الطاهرة بالفاحشة ، وقالوا عنه مجنون وكذاب ، وأدموا وجهه وشجوا رأسه وكسروا رباعيته ، وطعنوا في تقسيمه للصدقة واتهموه بعدم العدل ، كل هذا أصاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يمنعه ذلك من تبليغ دين الله والرأفة بهم وتكرار دعوتهم وقتالهم ، حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وهكذا تأتي خصومة أهل الحق مع أهل الباطل في كل آن وحين ، وخلَف أعداء الأنبياء الكثير ، ومنهم أهل البدع والأهواء ، وقد قررت في مواضع أخرى أن كل صفة من صفات اليهود والنصارى وأهل الجاهلية فإنه يوجد مثلها في أهل الأهواء من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وبهذا يقع مصداق قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضبٍ لدخلتموه )) .
وروى الإمام أحمد والنسائي وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إن منكم من يقاتل على تأويل القران كما قاتلت على تنزيله ، [قال أبو سعيد] : فاستشرفنا وفينا أبو بكر وعمر ، فقال لا ، ولكنه خاصف النعل ، يعني علياً رضي الله عنه )) ، حيث أنه كان حينئذ يخصف نعل النبي - صلى الله عليه وسلم - التي قطعت عند باب المسجد ، وقد وقع مصداق ذلك حيث قاتل علي رضي الله عنه الخوارج الذي تأولوا القران على غير تأويله ، وذا من دلائل نبوته - صلى الله عليه وسلم - .(1/30)
وروى الإمام مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلاّ كان له من أمته حواريون و أصحاب يأخذون بسنته ويتقيدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون مالا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل )) .
ولا تسأم من تكرار دعوة المدعويين ، فهذا إبراهيم عليه السلام كرر نداءه لأبيه أكثر من مرة كما في سورة مريم { يآ أبتِ } { يآ أبتِ} { يآ أبتِ } { يآ أبتِ}.
ونبينا - صلى الله عليه وسلم - أطال بجوار عمّه أبي طالب ويكرر عليه ويلحّ ويقول : (( يا عمِّ ، قل لا إله إلاّ الله كلمة أحاج لك بها عند الله )) .
وكرر عند الغلام اليهودي قوله : (( يا غلام قل لا إله إلا الله )) .
وكرر سعد بن أبي وقاص الدعوة لأمه وهي ممتنعة عن الطعام حتى أسلمت ، كما كرر أبو هريرة الدعوة والدعاء لأمه حتى أسلمت ، والقصص في مثل ذلك كثيرة يعز حصرها .
وقالوا لعبدالله بن عبدالعزيز العُمَري ـ نسبة إلى عمر بن الخطاب ـ ، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : تأمر من لا يقبل منك ؟ ، فقال : يكون معذرة ، وقرأ : {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ } (الأعراف: من الآية164) .
فصل
في كيفية الإعداد والمجابهة للحرب الباردة(1/31)
إذا تقرر عندك أخي المسلم وأختي المسلمة الأصول السابقة ، نأتي إلى الكلام على كيفية ملاقاة خصوم العفة والحشمة ، ودعاة تحرير المرأة ، فلا مجال للمتحمسين أهل التهور والمجازفة ، إذ لا بدّ في سائر الحروب العسكرية ( والفكرية أيضاً !! ) من التنظيم والتخطيط الإعدادي الجيد ، ما بين جِلادٍ وإمداد ، وتفريغ وإعداد ، وميمنة وميسرة ، وكرٍّ وفرّ بالأقدام والإحجام ، واقتناص مواطن الضعف والتقصير ، كل منّا بحسب جهده واستطاعته ، وهذه المهام موزعة على أئمة المسلمين وعامتهم ، لا تسقط عن أحدٍ منهم بحال من الأحوال .
فمن كان ذا سلطان فعليه أن يسلط سلطته على هؤلاء المحاربين والأخذ على أيديهم فـ ( إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقران ) ، وهكذا من كان ذا علمٍ وبيان من ذوي الحسبة والإفتاء أن يجتهدوا في نشر الفتاوى القاضية بوجوب ستر المرأة وحجابها ، ونبذ السفور ، والقرار في البيت ، ونبذ الاختلاط ، والترهيب من السفر من غير محرم ، والنهي عن التشبه بالكافرات .(1/32)
ومثل هذا الجهد المطلوب لا يعني اضمحلال البلاد منه ، فلله الحمد والمنّه نحن نعيش في بلد إسلامي منشأه على تطبيق الشريعة الإسلامية والعمل بها ، وأمر ولاة الأمر يقضي بوجوب الحجاب الشرعي ومنع التبرج والسفور والاختلاط في المرافق الحكومية والعامة ، ولكن نسأل الله من فضله المزيد وأن يمنّ عليهم بتشديد الوطأة على من يسعى لنقض هذه الأصول التي قامت عليها هذه البلاد (1).
وهكذا الدعاة المخلصين وأهل الحسبة وطلاب العلم ، عليهم من الواجب مثل ما على من تقدم بل ربما أكثر وأبلغ ، فهم الموكلون بذلك بالدعوة والإرشاد ، فيكثف في ذلك الندوات العلمية والمحاضرات ، كما يجدد في المنابر روح نشر الإسلام والدعوة إليه ، بتعليم الناس شرائع دينهم ومن ذلك الحجاب والستر والترهيب من التبرج والسفور ، وسائر القضايا التي يخالف فيها المخالفون ، ويقترن ذلك بالنصوص الشرعية من الكتاب والسنة ، والطريقة المثلى في النصيحة بالرفق واللين ، والبعد عن السب والتجريح للأعيان ، مما يفقد المنبر بذلك هيبته وجلالته .
__________
(1) وكذا سائر البلدان الإسلامية ، ومجتمعات المسلمين ، يجب على أهل الخير والصلاح مواصلة الجهد لنشر الفضيلة والعفة بين الناس موازاة بنشر التوحيد والسنة وفرائض الإسلام ، فالله تعالى يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً } (البقرة: 208) أي في الإسلام من جميع نواحيه من أعلاه قول : لا إله إلا الله ، إلى أدناه : إماطة الأذى عن الطريق ، فالباطل لا يزول إلا بحضور الحق ، والحق إذا حضر يقهر الباطل مهما كانت قوة الباطل ، قال تعالى : { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} (الإسراء:81) ، وقال : { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } (الأنبياء:18) .(1/33)
كما أن على أهل الكتابة والتصنيف واجب الكتابة في هذا الموضوع ، بالتأصيل والتقعيد وكشف الشبه والرد على أهلها ، من خلال الكتب والنشرات والمشاركة في الصحف بالبحث العلمي الهادف المستند للدليل وصدق النية.
وهكذا عامة المسلمين عليهم واجب الحفاظ على محارمهم ، ومراقبة الله فيهم ، فكل منّا على ثغر من ثغور الإسلام ، فالله ألله أن يؤتى الإسلام من قبله .
وبعد توزيع المهام على جميع صفوف جيش الإسلام والسنة ، ومعرفة كل منّا واجبه تجاه أولئك المحاربين ، فلا بدّ من التأهب بالذخيرة الكافية لتدميرهم وإبطال كيدهم ، وهذه الذخيرة في حربنا هذه هي معرفة النصوص الشرعية من الكتاب والسنة وكلام أهل العلم في حجاب المرأة المسلمة ، والتحذير من التبرج والسفور والاختلاط ، وقد انتصب العلماء المخلصون في إيضاح ذلك فجمعوا لنا من الأدلة الشرعية ما تتم به العدة ، وممن كتب في ذلك من مشايخنا الإمامين الجليلين عبدالعزيز بن باز وابن عثيمين رحمهما الله في رسالتين موجزتين في هذا الشان ، كما صنّف شيخنا العلامة حمود التويجري رحمه الله كتاباً سمّاه بـ " الصارم المشهور على أهل التبرج والسفور " ، والشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد في كتاب " حراسة الفضيلة " (1) ، وكتاب "حجاب المرأة المسلمة بين انتحال المبطلين وتأويل الجاهلين " لمحمد فؤاد البرازي ، وكتاب "اللباب في فرضية النقاب" لأبي مصعب فريد بن أمين الهندواي ، وغيرهم كثير ولله الحمد أشرت إلى أشهرها وأغزرها علما .
فصل
في شروط لباس المرأة المسلمة
__________
(1) وأشيد بهذا الكتاب على الوجه الخصوص ، فهو فريد في بابه ، وقد أقض لدعاة السفور المضاجع ، وتناوشوه من كل جانب سباً وتعييراً وتهويلاً وهو كتاب واحد ، فكيف لو تظافرت الجهود من كل حدب وصوب بتقديم مثل هذا الجهد ؟! .(1/34)
من سبر نصوص القران والسنة يجد أنها متطابقة على أصل واحد في حجاب المرأة المسلمة بشروط متفقة غير مفترقة ، وهذه الشروط نص عليها أهل العلم والأثر، في مؤلفاتهم في مباحث ( حدّ العورة ) ، ونستطيع أن نذكرها مع بعض البيان والاستدلال على وجه الاختصار ، فأقول :
الشرط الأول : أن يكون مباحاً بالأصل والوصف ، فلا يجوز من محرم بأصله كجلدٍ نجس كالخنزير والسباع ، أو محرم بوصفه كجلد مالا يطهر إلاّ بالدباغ ، أو مغصوب ونحو ذلك .
***
الشرط الثاني : أن يكون سابغاً ، فلا يجوز أن يُكشف من خلاله شيءٌ من جسدها ، من مفرق الرأس إلى أخمص القدمين وزيادة ـ إلاّ وجهها في الصلاة عند المحارم ـ ، وقد روى أبو داود والترمذي والنسائي من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( من جرّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة فقالت أمّ سلمة : فكيف يصنع النساء بذيولهن ؟ ، قال : يرخين شبراً ، فقالت أم سلمة: إذاً تنكشف أقدامهن ، قال : فيرخين ذراعاً لا يزدن عليه )) .
انظروا عباد الله إلى هذا الحديث ؛ وشاهدوا الناس من حولكم وانتكاس المفاهيم في أذهانهم ، وتلاعب الشيطان بهم ، حتى أنساهم أمر الله عز وجل وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، كيف أن الرجال يلبسون الثياب التي تزيد عن أقدامهم بالشبر والذراع ، وكيف النساء يقصرن الثياب حتى تصل إلى الفخذين أو أطرافهما ، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله .
***
الشرط الثالث : أن يكون واسعاً لا يصف الجسد والأعضاء ، فلا يجوز للمرأة لبس اللباس الضيق أمام الرجال ويدخل في ذلك بعض العباءات ( المزعومة !! ) الملقاة على المنكبين ، والتي تجسد الخصر والفخذين .(1/35)
وقد روى الإمام أحمد وأبو داود عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال : كساني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبطية كثيفة مما أهدى له دحية الكلبي فكسوتها امرأتي ، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : (( مالك لا تلبس القبطية ، قلت : كسوتها امرأتي ، قال : مرها فلتجعل تحتها غلالة فإنّي أخاف أن تصف حجم عظامها )) وفي رواية أبي داود : (( وأمر امرأتك أن تجعل تحته ثوباً لا يصفها )) .
وقد نص أهل العلم على أن المرأة لا يجوز له أن تشد وسطها مطلقاً لأنه يصف الجسد وحجم الخصر .
***
الشرط الرابع : أن لا يكون شفافاً ، يُرى الجسد من خلاله ، وإن زعموا أنه واسع سابغ ، فلا يحل لها لبسه إذا كان شفافاً لا يحجب ما وراءه ، وقد روى الإمام مسلم في " صحيحه " من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ((صنفان من أمتي لم أرهما بعد ، نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات على رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها ، ورجال معهم سياط مثل أذناب البقر يضربون بها الناس )) ، وفي رواية : (( فاتنات مفتونات )) .
وعند أحمد وغيره عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( سيكون في آخر أمتي رجال يركبون على سروج كأشباه الرحال ، ينزلون على أبواب المساجد ، نساؤهم كاسيات عاريات على رؤوسهن كأسنمة البخت العجاف ، العنوهن فإنهن ملعونات، لو كان ورائكم أمة من الأمم لخدمن نساؤكم نساءهم كما يخدمنكم نساء الأمم )) .(1/36)
ويدخل في هذا الوصف كلُّ لباس للمرأة فيه نوع من التعري ، سواء كان ضيقاً أو شفافاً أو غير سابغ لجسدها، وتأمل هذا الحديث وزماننا اليوم تجد مصداقيته ، ودليل من دلائل نبوته - صلى الله عليه وسلم - ، وأشبه ما تكون تلك السروج التي وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسيارات اليوم خاصة وأن من الناس من لا يحضر الجماعات والجمع إلاّ عليها ، ولعل فيها كناية عن مزيد الترف في آخر الزمان ، مما سبب إهمالهم للنساء وعدم قيامهم بأمر الله فيهم .
***
الشرط الخامس : أن لا يكون فيه تشبه بالرجال ، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تحريم تشبه أحد الصنفين بالآخر ، فقد روى الإمام أحمد والبخاري وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : (( لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال )) .
وفي رواية لهما : (( لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء ، وقال : (( أخرجوهم من بيوتكم )) .
وروى أبو داود من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : (( إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن الرجلة من النساء )) .
وعند الإمام أحمد وأبي داود والنسائي بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : (( لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل يلبس لبسة المرأة ، والمرأة تلبس لبسة الرجل )) ، صححه ابن حبان والحاكم والنووي والذهبي .
وعند الإمام أحمد والنسائي من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( ثلاثة لا يدخلون الجنة ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة : العاق لوالديه ، والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال ، والديوث )) صححه الحاكم ووافقه الذهبي.
إخواني وأخواتي !! ، كيف حال عموم الرجال والنساء اليوم مع هذه النصوص النبوية ؟! .(1/37)
فتجدهم إلاّ من رحم الله مخالفين لها ولا حول ولا قوة إلاّ بالله ، فمن الرجال من أطال الثياب ، ولبس الذهب والأساور ، وتقلد السلاسل والقلائد ، وصبغ الوجه بأصباغ النساء ، ويرقص ويغني كحالهنّ ، ومال إلى التغنج والتنعم المفرط !! ، ومن النساء من بدلت لباس الحياء والحشمة بلباس التبرج والسفور ومشابهة الرجال في تقصير الثياب ، بل والتعري ولبس البنطلونات ، بل ويدخل في ( ترجل النساء ) قيادتهن للسيارات والدراجات ، وتوليهن مناصب الرجال ومهنهم ، وكل هذا والله من دلائل قرب الساعة ودنوها كما جاء في ذلك حديثٌ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يخبر بذلك في فيما رواه أبو نعيم في الحلية عن حذيفة رضي الله عنه مرفوعاً : (( من اقتراب الساعة اثنتان وسبعون خصلة ، وذكر منها : تشبه الرجال بالنساء وتشبه النساء بالرجال )) .
وروى الإمام أحمد والبخاري في " الأدب المفرد " عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عيه وسلم : (( بين يدي الساعة : تسليم الخاصة ، وفشو التجارة ، حتى تعين المرأة زوجها على التجارة )) ، ومثله عند أبي نعيم من حديث حذيفة وفيه : (( وشاركت المرأة زوجها في التجارة ))(1) .
***
__________
(1) راجع كتاب ( إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم و أشراط الساعة ) صحيفة (15-16) لشيخنا حمود بن عبدالله التويجري رحمه الله ، وهذا الكتاب من أفضل وأشمل وأعدل ما كتب في هذا الباب ، ومن نظر فيه يوشك أن يحسب أن لا يفوت من علامات الساعة المذكورة فيه إلا وهي واقعة في زماننا إلاّ الشيء اليسير والله المستعان .(1/38)
الشرط السادس : أن لا يكون فيه تشبه بالكافرات ، وهذا من ثوابت الشريعة في تحريم التشبه بالكفار مطلقاً للرجال والنساء فيما كان من شعائرهم الدنيا وخصوص عاداتهم ، وذلك لما روى الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( من تشبه بقوم فهو منهم )) ، صححه ابن حبان وقال ابن تيمية : إسناده جيد ، وقال ابن حجر : إسناده حسن .
قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى : ( هذا الحديث أقل أحواله أنه يقتضي تحريم التشبه بهم وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله تعالى : {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ }(المائدة: 51) ) .
وروى الترمذي عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( ليس منّا من تشبه بغيرنا ، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى )) .(1/39)
قلت : وانظر إلى من حولك وكيف مخالفتهم لهذا الحديث إلا من رحم الله ، وبالخصوص نساء المسلمين ، فمتى كان ( البنطلون ) من لباس المؤمنات العفيفات ؟! ، ومتى كان ( الهيلاهُب ) ــ وهو شبيه بالبنطلون ولكنه مجسداً للفخذين ــ من لباس المسلمات ؟! ، ومتى كان ( الميني جب ) ــ وهو لباس يلبسه النساء إلى ما فوق الركبتين ــ من لباس المسلمات ؟! ، ومتى كانت العباءة المجسدة للأعضاء، وهي ما تسمى بـ ( العباءة الفرنسية !! ) من لباس المسلمات واسمها يدل عليها ! ، كل هذا ومثله في اللباس كثير!! ، زيادة على غير ذلك من الزينة الوافدة : من قصات الشعر المزرية ، والأصباغ المقززة ، والملصقات السخيفة ، وعدسات العيون الملونة ، وخرم الأسنان واللسان والشفاه ، وتطويل رمش العين ، والأظافر ، وبعض العادات الدخيلة القولية والفعلية ! ، والله تعالى يحكي عن إبليس قوله : { وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ } فهل يليق بمسلم أن يحقق لإبليس بغيته ؟! فيكون من أوليائه ! : { وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً)(النساء: 119).
***
الشرط السابع : أن لا يحتوي على محرم من تصاوير وصلبان وعبارات ماجنة ، أو طيب عند الخروج ، أو زينة ظاهرة أو أن يكون لباس شهرة .
وكل هذه القيود قد جاءت النصوص الشرعية بالنهي عنها في لباس المرأة المسلمة ، ومن ذلك أحاديث ذم التصوير والمصورين وهي كثيرة جداً مروية في الصحاح وغيرها ، من ذلك : ما رواه البخاري ومسلم عن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم : أحيوا ما خلقتم )) .(1/40)
وعندهما عن عائشة رضي الله عنها قالت : قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سفر وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل ، فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلون وجهه وقال : (( يا عائشة ، أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله )) ، قالت : فقطعناه فجعلنا منه وسادتين ، وفي رواية أخرى بزيادة : (( إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة )) .
ومثل التصوير كل ما فيه شعار للكفار من صليب ونحوه ، فعن عائشة رضي الله عنها : (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم -لم يكن يترك في بيته شيئاً فيه تصاليب إلاّ نقضه )) رواه أبو داود في " سننه " .
وعند ابن أبي شيبة عنها أنها قالت : (( إنا لا نلبس الثياب التي فيها تصاليب )).
ونهى عن لباس الشهرة كما روى الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة ، ثم ألهب فيه ناراً )) .
وقد جمعت هذه الشروط السبع الماضية في قولي ناظماً :
وشرط لباسِ المسلماتِ الحرائرِ بكل مباح واسع الحد ساترِ
وليس بشفافٍ ولا يحوي منكراً وليس شبيهاً بالرجال وكافرِ
***
فصل
في أدلة القران والسنة على أن المرأة كلها عورة ومما في ذلك الوجه والكفين
القسم الأول :
الحجاب الشرعي في القران الكريم(1/41)
إن القران الكريم الذي جعله الله تبيانا لكل شيءٍ ، وقد أوضح لنا الحجاب الشرعي حكماً وحكمةً وكيفيةً أصدق إيضاح وأبينه مما لا يدع لذي شك مجالا ، ولكن الذين يحبون أن يخوضوا في آيات الله ويتبعون ما تشابه منها ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، ويحرفون الكلم عن مواضعه ويشككون في دلائل هذه الآيات ، يسعون إلى إهمال الواضحات البينات ، والأخذ بالمتشابهات ، { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } (الصف:8) .
وفيما يلي آيات الرحمن الدالة على وجوب الحجاب الشرعي للمرأة المسلمة بشروطه المتقررة السابق بيانها :
الدليل الأول : قال تعالى : { وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (النور:31) .
وجه الدلالة من هذه الآية :(1/42)
أن الله تعالى أمر نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يأمر النساء المؤمنات بأن يغضّن الأبصار عن رؤية المحرمات ، وأمرهن بحفظ الفروج ، وحفظها يعني من الزنى وما يؤدي إليه لأن الله تعالى قال في محكم التنزيل { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً } (الإسراء:32) فحرم قرب الزنى فكيف بالزنى !! ، ومن القرب إلى الزنى سماع الأغاني الماجنة والنظر إلى الأفلام المنحطة والمجلات الداعية إلى الفاحشة .
كما نهى الله تعالى المؤمنة أن تبدي ـ أي تظهر ـ زينتها وفسر أهل العلم من الصحابة وغيرهم الزينة هنا بسائر البدن بما في ذلك الوجه والكفين ، أما الذي استثناه الله مما يظهر من الزينة فهذا مما لابدّ من ظهوره كالعباءة ونحوها .
روى ابن جرير الطبري بإسناد جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } قال : هي الثياب .
وعنه أنه قال : ( { وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } قال : لا خلخال ولا شنف ولا قلادة ، { إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } ، قال : الثياب ) ، رواه الحاكم في " المستدرك " (2/397 ) وقال : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي .
قال ابن كثير رحمه الله تعالى مفسراً لهذه الآية : ( أي لا يظهرن شيئاً من الزينة للأجانب إلاّ ما لا يمكن إخفاؤه ، قال ابن مسعود : كالرداء والثياب ، يعني على ما كان يتعاناه نساء العرب من المقنعة التي تجلل ثيابها ، وما يبدو من أسافل الثياب فلا حرج عليها فيه ، لأن هذا لا يمكن إخفاؤه ، ونظيره من زي النساء ما يظهر من إزارها وما لا يمكن إخفاؤه ، وقال بقول ابن مسعود : الحسن وابن سيرين وأبو الجوزاء وإبراهيم النخعي وغيرهم ) ، ( تفسير سورة النور : 31 ) ( 6/47 ) .(1/43)
وقوله : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } : الخمار ما غطى الرأس ومنه سمّيت الخَمْرُ خمراً لأنها تغطي عقل السكران فلا يعقل شيئاً ، والجيب طوق العنق الذي تخرج منه الرقبة والرأس من الثوب ، فإذا أرخت الخمار - الذي هو على الرأس - على الجيب - الذي هو طوق العنق - فقطعاً سوف يحتجب الوجه والرقبة عن الأنظار ، وانظر إلى تعبيره سبحانه وتعالى بقوله { وَلْيَضْرِبْنَ } عبر بالضرب ، والضرب يكون فيه نوع من الشدة ، وهذا لتحقيق الاحتجاب والتأكد من التغطية الشاملة .
وبهذا فهم نساء الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ، كما روى البخاري في "صحيحه" تحت باب : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } ، ثم أسند عن عائشة رضي الله عنها قولها : ( يرحم الله نساء المهاجرين الأول ، لما أنزل الله { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } شققن مروطهن فاختمرن بها ) .
قال الحافظ بن حجر في " الفتح " (8/346) : ( قوله : فاختمرن : أي غطين وجوههن ) .
وقال في كتاب الأشربة من " الفتح " (10/48) في تعريفه للخَمْرِ لغة : ( ومنه خمار المرأة لأنه يستر وجهها ) .(1/44)
وروى أبو داود في " السنن " (11/158 ) و ابن أبي حاتم ( من تفسير ابن كثير : 6/49 ) واللفظ له ، من حديث صفية بنت شيبة قالت : ( ذكرنا عند عائشة ـ رضي الله عنها ـ نساء قريش وفضلهن ، فقالت : إن نساء قريش لفضلاء ، ولكنّي والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقاً لكتاب الله ، ولا إيماناً بالتنزيل ، ولقد نزلت سورة النور : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } ، فانقلب إليهن رجالهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها ، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته ، وعلى كل ذي قربة ، فما منهن امرأة إلاّ قامت إلى مرطها المرحل واعتجرت به ، تصديقاً وإيمانا بما أنزل الله في كتابه ، فأصبحن وراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبح معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان ) .
و الإعتجار في اللغة : ( هو لف الخمار على الرأس مع تغطية الوجه ) .
قال ابن الأثير في كتاب " النهاية " : ( وفي حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار(1) : (( جاء وهو معتجر بعمامته ، ما يرى وحشي منه إلاّ عينيه ورجليه )) ، الإعتجار بالعمامة هو : أن يلفها على رأسه ، ويرد طرفها على وجهه ، ولا يعمل منها شيئاً تحت ذقنه ) .
وروى سعيد بن منصور وابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها : أن امرأة دخلت عليها وعليها خمار رقيق يشف جبينها ، فأخذته عائشة فشقته ، ثم قالت : ألا تعلمين ما أنزل الله في سورة النور، فدعت لها بخمار فكستها إيّاه ) .
وهو في الموطأ عن علقمة بن أبي علقمة عن أمه رضي الله عنها قالت : ( دخلت حفصة بنت عبدالرحمن على عائشة وعليها خمار رقيق فشقته عائشة وكستها خماراً كثيفاً ) .
__________
(1) والحديث رواه البخاري في " صحيحه " ( 7/424 ) باب : مقتل حمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه ، وفيه : (( فكشف عبيدالله عن وجهه )) ، فدل ذلك على أن الإعتجار تغطية للوجه .(1/45)
قلت : ليت شعري هذا صنيعها فيما ( يشفّ الجبين ) فكيف بالتي تقعد حاسرة الوجه والشعر على أحدث ( التسريحات !! ) ، أو لبس ( البراقع ) الشفافة المظهرة للخدود والوجنتين !! .
وقوله في الآية : { وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ } ، تأكيد للستر والعفاف ، أيضاً حماية لها ولغيرها من الفتنة ، ولذلك مُنعن من الضرب بالأرجل على الأرض كي لا يظهر الصوت من الخلخال ونحوه ، فكيف بما هو أبلغ من ذلك فتنة من رؤية الوجه أو تجاسيد الأعضاء !! . وإذا كانت المرأة مأمورة أن تحجب قدمها و خلخالها ، الا تؤمر بحجب الوجه وهو رمز جمالها !! .
الدليل الثاني : قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً }(الأحزاب:59) .
وجه الدلالة : أن الله تعالى أمر النساء أن يدنين الجلباب - القماش الذي يوضع على الرأس - فتدنيه أي : ترخيه وتنزله من أعلى إلى أسفل وتغطي به الوجه ، بدليل قوله تعالى : { ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ } .
تقول عائشة رضي الله عنها : ( كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها على وجهها من رأسها ، فإذا جاوزونا كشفناه ) رواه الإمام أحمد وغيره ، وهذا فيه تطبيق المعنى المراد من الجلباب سواء قلنا بأنه غطاء للرأس فقط أم لسائر الجسد .
قال ابن جرير : ( والجلباب رداء فوق الخمار تستر من فوق إلى أسفل ، يعني يرخينها عليهن ويغطين وجوههن وأبدانهن ) .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنه : ( أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة ) .(1/46)
وروى ابن جرير بإسناد جيد عن محمد بن سيرين قال : سألت عَبيدة السلماني عن قول الله تعالى : { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ } فغطى وجهه ورأسه وأبرز عينه اليسرى .
قال شيخ الإسلام بن تيمية في الفتاوى ( 15/371-372 ) : ( وأمر سبحانه بإرخاء الجلابيب لئلا يعرفن ولا يؤذين ، وهذا دليل على القول الأول ، وقد ذكر عبيدة السلماني وغيره : أن نساء المؤمنين كن يدنين عليهن الجلابيب من فوق رؤوسهن حتى لا يظهر إلاّ عيونهن لأجل رؤية الطريق ، وثبت في الصحيح: (( إن المرأة المحرمة تنهى عن الإنتقاب والقفازين )) ، وهذا مما يدل على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يحرمن ، وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن ) إلى أن قال : ( إنما ضرب الحجاب لئلا ترى وجوههن وأيديهن ) .
وقال رحمه الله (22/110- 120 ) : ( وكانوا قبل أن تنزل آية الحجاب كان النساء يخرجن بلا جلباب ، يرى الرجال وجهها ويديها ، وكان إذ ذاك يجوز لها أن تظهر الوجه والكفين ، وكان حينئذ يجوز النظر إليها ، لأنه يجوز إظهاره ، ثم لما أنزل الله عز وجل آية الحجاب بقوله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ } حجب النساء عن الرجال .. ) .
إلى أن قال : ( والوجه واليدان والقدمان ، ليس لها أن تبدي ذلك للأجانب على أصح القولين ، بخلاف ما كان قبل النسخ ، بل لا تبدي إلاّ الثياب ) .
إلى أن قال رحمه الله : ( ولهذا أمرت المرأة في الصلاة أن تختمر ، وأما وجهها ويداها وقدماها فهي مما نهيت عن إبداء ذلك للأجانب ، ولم تنه عن إبدائه للنساء ولا لذوي المحارم ) .(1/47)
وفي قوله تعالى : { ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ } ، ذكرٌ للعلة المانعة من كشف المرأة لوجهها هو خشية الأذية من الآخرين ، فليتق الله دعاة نزع الحجاب المتفوهين بسلامة القلوب ، وليتأملوا كيف أن الله تعالى أوضح لنا أن كشف الوجه سبب رئيس من أسباب الأذية للمرأة وهذا واقع ثابت يشهد له العالم من حولنا من وقوع الاختطاف ، وانتهاك الأعراض ، وجرائم الاغتصاب ، مما لا يجحده إلا مكابر .
وقد بوّب البخاري في صحيحه ( باب : شهادة الأعمى وأمره ونكاحه و إنكاحه ومبايعته وقبوله في التأذين وغيره ) ، ثم قال البخاري : ( وأجاز سمرة بن جندب شهادة امرأة منتقبة ) .
قلت : أي أنه لم يكن يرَ وجهها .
وروى عبدالرزاق وعبد بن حميد وجماعة عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : (لما نزلت هذه الآية { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ } ، خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة ، وعليهن أكسية سود يلبسنها ) ، "الدر المنثور" (6/659) ، ثم ساق آثاراً عدّة عن الصحابة وأئمة التابعين تنص على ما أردنا تقريره فليراجع والله أعلم .
قصة عجيبة : روى الخطيب البغدادي في تاريخه (13/53) عن محمد بن أحمد القاضي قال : حضرت مجلس موسى بن إسحاق القاضي بالري سنة ست وثمانين ومائتين ، فتقدمت امرأة فادعى وليها على زوجها خمسمائة دينار مهراً ، فأنكر ، فقال القاضي : شهودك ، قال : قد أحضرتهم ، فاستدعى بعض الشهود أن ينظر إلى المرأة ليشير إليها في شهادته ، فقام الشاهد وقال للمرأة قومي !! ، فقال الزوج : تفعلون ماذا؟ ، قال الوكيل : ينظرون إلى امرأتك وهي مسفرة لتصح عندهم معرفتها!! ، فقال الزوج : فإني أشهد القاضي أن لها عليّ هذا المهر الذي تدعيه ، ولا تسفر عن وجهها ، فردت المرأة وأخبرت بما كان من زوجها ، فقالت المرأة : فإني أشهد القاضي أني قد وهبت له هذا المهر وأبرأته منه في الدنيا والآخرة ) .(1/48)
الدليل الثالث : قال تعالى : { وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } (النور:60) .
وجه الدلالة : أن الشارع رخص للنساء العجائز اللاتي لا يرجى منهن نكاحاً أن تكشف عن وجهها وتضع ثيابها شريطة أن لا يكون في ذلك تبرج بزينة !! ، وهي عجوز مع أن العفة والاحتجاب منها أولى ، فكيف بمن هي في سن الشباب ، فهذا من مفهوم الآية أنهن لا رخصة لهن في كشف الوجه والعورة وإلا لما كان لتخصيص القواعد من النساء في هذه الآية فائدة .
وبهذا قال أئمة التفسير من الصحابة ومن بعدهم :
قال ابن كثير في تفسيره ( 6/91 ) : ( قال ابن مسعود رضي الله عنه : {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} : الجلباب أو الرداء ، وكذا روي عن ابن عباس ، وابن عمر ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأبي الشعثاء ، وإبراهيم النخعي ، والحسن ، وقتادة ، والزهري ، والأوزاعي وغيرهم ) .
وفي قوله تعالى : { وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ } إرشاد إلى الأولى والأكمل وهو الاحتجاب ، خاصة إذا كان فيها من الجمال بقية ، فإنها تؤمر بالحجاب .
قال البغوي : ( قال ربيعة الرأي : هن العجز اللائي إذا رآهن الرجال استقذروهن ، فأمّا إن كانت فيها بقية من جمال ، وهي محل الشهوة ، فلا تدخل في هذه الآية ) .
وروى رزين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( كانت أم سلمة لا تضع جلبابها وهي في البيت طلباً للفضل ) ، من جامع الأصول ( 10/647 ) .(1/49)
وما أحسن ما روى سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي عن عاصم الأحول قال : كنا ندخل على حفصة بنت سيرين ، وقد جعلت الجلباب هكذا وتنقبت به ، فنقول لها : رحمك الله قال الله تعالى: { وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} هو الجلباب ، قال : فتقول لنا : أي شي بعد ذلك ؟ ، فنقول : { وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ } ، فتقول : هو إثبات الحجاب ) من الدر المنثور ( 6/222 ) .
أقول : هذا هو شأن العفيفات النزيهات وإن كنّ من العجائز ، فكيف بمن هي محل للفتنة من الفتيات الجميلات ، فالعفة مطلوبة منهن من باب أولى .
الدليل الرابع : قال تعالى ذكره : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } الآية (الأحزاب: 53) .
وهذه الآية هي آية الحجاب ، وقد جاء في سبب نزولها أحاديث عدة ، أشهرها حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال عمر رضي الله عنه : ( قلت يا رسول الله يدخل عليك البرّ والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ، فأنزل الله آية الحجاب ) رواه الإمام أحمد والبخاري .(1/50)
وجاء فيها قصة أخرى ، وهي ما قاله أنس رضي الله عنه ، فقال : لما تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون وإذا هو يتأهب للقيام ، فلم يقوموا ، فلما رأى ذلك قام ، فلما قام ، قام من قام ، وقعد ثلاثة نفر ، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليدخل ، فإذا القوم جلوس ، ثم إنهم قاموا ، فانطلقت فجئت فأخبرت النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم قد انطلقوا ، فجاء حتى دخل ، فذهبت أدخل فألقى الحجاب ، فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ } الآية (الأحزاب: 53) متفق عليه .
ورويت قصص عدّة ، والجمع بين غالبها غير متعذر لاحتمال تكرر استحثاث عمر رضي الله عنه للنبي - صلى الله عليه وسلم - على حجب نساءه من الناس ، كما كرر ذلك في تحريم الخمر .
وظاهر هذه الآية يخص نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أن سبب نزولها في ذلك ، ولكن حكمها يشمل جميع النساء بدلالة عمل نساء الصحابة بها وتلفعهن بمروطهن كأنهن الغربان ، والقاعدة الشرعية تقول : ( العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب إلاّ بدليل مخصص ) ، فالعبرة بعموم لفظ الآية لا بخصوص سبب نزولها حتى يأتي دليل مخصص ، وبهذا جزم ابن جرير الطبري والقرطبي وغيرهما .
ومما يدل على عمومها لجميع النساء أن العلة التي من أجلها فرض الحجاب على نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية موجودة في غيرهم وغيرهن من باب أولى وهي قوله تعالى : { ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } ، أطهر لقلوب الصحابة ، وقلوب أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فكيف بسائر الرجال وسائر النساء !! .(1/51)
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى وهو يرد على من قال بأنها خاصة بنساء النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( قول كثير من الناس أن آية الحجاب ـ أعني قوله تعالى : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } خاصة بأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإن تعليله لهذا الحكم الذي هو إيجاب الحجاب بكونه أطهر لقلوب الرجال والنساء من الريبة في قوله : { ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } قرينة واضحة على إرادة تعميم الحكم ، إذ لم يقل أحد من المسلمين إن غير أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - لا حاجة إلى أطهرية قلوبهن وقلوب الرجال من الريبة منهن ، وقد تقر في علم الأصول : أن العلة قد تعمم مدلولها ، وإليه أشار في " مراقي السعود " بقوله :
وقد تخصص وقد تعمم لأصلها لكنها لا تخرم
.. وبما تقدم تعلم أن في هذه الآية الكريمة الدليل الواضح على أن وجوب الحجاب حكم عام في جميع النساء ، لا خاص بأزواجه - صلى الله عليه وسلم - ، وإن كان اللفظ خاص بهن ، لأن عموم علّته دليل على عموم الحكم فيه ... ) ، من أضواء البيان ( 6/ 584-585 ) .
الدليل الخامس : قال تعالى : {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} (الأحزاب:32) .
وهذه آية أخرى في الحجاب ، والأولى احتجاب فقط ، وهذه حجاب وقرار ، ووجه الدلالة : أن الله أمر نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقرار في البيوت ، وعدم التبرج ، وهو الخروج للناس والتكشف أمامهم ، وأن هذا من صنيع أهل الجاهلية .
ولها حكم سابقتها في عموم الحكم مع خصوصية السبب والخطاب .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى : ( هذه آداب أمر الله بها نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ونساء الأمة تبع لهن في ذلك .. ) تفسيره (6/405) .(1/52)
وروى الترمذي في " سننه " عن ميمونة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( الرافلة في غير أهلها كمثل ظلمة يوم القيامة لا نور لها )) .
وعنده والبزار عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إن المرأة عورة ، فإذا خرجت استشرفها الشيطان ، وأقرب ما تكون بروحة ربّها وهي في قعر بيتها )) .
كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر نساءه بعدم تكرار الحج بعد حجة الإسلام ، وأمرهن بالقرار في البيوت ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( هذه ثم ظهور الحصر )) ، رواه أحمد عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه بسند صحيح .
وفي رواية : (( فكنّ كلهن يحججن إلاّ زينب وسودة بنت زمعة ، وكانتا تقولان : والله لا تحركنا دابة بعد أن سمعنا ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - )) .
وهذا في الحج فكيف بما هو دونه من أمور الدين والدنيا !! .
وفي الآية إشارة للاحتجاب عن الأجانب حتى بالقول الداعي إلى الفتنة ، فقال تعالى : { فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } والمراد : ترخم الصوت ويدخل فيه الضحك ونحوه .
فإذا كان ترخيم الصوت والتمايع فيه مدعاة إلى طمع مرضى القلوب ، وهو يحصل من امرأة دون أخرى ، وفي مقام دون آخر ، فكيف بالداعي الملازم الذي يرى في كل امرأة ، وفي كل مقام ، ومن قصد أو من غير قصد ، وهو الوجه الذي هو عنوان جمال المرأة وبه يفرّق بين الحسناء و الدميمة !! ، فهذا أولى بالاحتجاب من الصوت ، والله المستعان .
فهذه أدلة حجاب المرأة المسلمة من نصوص القران الكريم ، تذكرة وموعظة { أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ }(قّ: 37) ، صريحة في فرضية الحجاب ، مغلقة عن أهل الشبه كل باب ، صريحة في المعاني والأحكام ، قوية في إفحام الخصم والإلجام ، فدونك إياها ، ورحم الله عبداً حفظها ووعاها وأدّاها .
القسم الثاني :
الحجاب الشرعي في السنة النبوية(1/53)
الدليل الأول : ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلّي الفجر فيشهد معه نساء من المؤمنات الفجر متلفعات في مروطهن ، ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس ) وفي لفظ : ( متلففات ) .
وجه الدلالة : أن النساء يخرجن متلفعات أو متلففات بالمروط وهي الأكسية ويشمل ذلك كامل الجسد.
قال الحافظ في " الفتح " ( 1/ 575 ) : ( قال الأصمعي : التلفع أن تشتمل بالثوب حتى تجلل به جسدك ، وفي شرح الموطأ لابن حبيب : التلفع لا يكون إلاّ بتغطية الرأس ، والتلفف يكون بتغطية الرأس كشفه ، والمروط جمع مرط بكسر أوله ، كساء من خز أو صوف أو غيره ) .
وقال في موطن آخر (2/67 ) : ( واستدل به بعضهم على جواز صلاة المرأة مختمرة الأنف والفم !! ، فكأنه جعل التلفع صفة لشهود الصلاة ، وتعقبه عياض بأنها إنما أخبرت عن هيئة الانصراف ، والله أعلم ) .
وقال : ( ولا معارضة بين هذا وبين حديث أبي برزة أنه كان ينصرف من الصلاة حين يعرف الرجل جليسه ، لأن هذا إخبار عن رؤية المتلفعة على بعد ، وذاك إخبار عن رؤية الجليس ) .
قال العظيم آبادي في شرح سنن أبي داود (2/ 91 ) : ( متلفعات : بالنصب على الحالية ، أي مستترات وجوههن وأبدانهن ) .
وقال المباركفوري قي " التحفة " (1/473) : ( قال الجزري في النهاية : أي متلففات بأكسيتهن ، واللفاع : ثوب يجلل الجسد كلّه ، كساء كان أو غيره ، وتلفع بالثوب إذا اشتمل به ، انتهى ) .
وظن الباجي أن في ذلك دليل على أن المرأة كانت تسفر عن وجهها !! ، وإنما حصل الاشتباه من أجل الغلس ، وتعقبه الحافظ في " الفتح " (2/67 ) وقال : (وهذا فيه ما فيه ) .
قلت : والتعليل مقيد بالغلس للاشتباه وانعدام الرؤية الواضحة عنهن من أجله ، فتغيب عن الناظر هيئاتهن ، لأن المرأة تعرف بهئيتها وإن كانت منتقبة في الغالب ، كما حصل في قصة سودة مع عمر بن الخطاب رضي الله عنهم .(1/54)
والدليل الثاني : قول عائشة رضي الله عنها في حجها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع الرسول صلى الله عليه وسلم فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها على وجهها من رأسها فإذا جاوزونا كشفناه ) .
رواه أحمد(6/30) وأبو داود (5/286) وابن ماجه (2/979) وابن خزيمة (4/203) والدارقطني (2/295) والبيهقي (5/48) ، كلهم من حديث زياد بن أبي زياد عن مجاهد عن عائشة به ، وإسناده حسن بشواهده ، وهو ما رواه سعيد بن منصور في سننه نقلاً من " فتح الباري " (3/474) وهو في مسائل أبي داود للإمام أحمد (صحيفة :110 ) من حديث هشيم قال حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنه به ، وهو إسناد صحيح .
وترجم له أبو داود في " السنن " (5/286) بقوله : ( باب : في المحرمة تغطي وجهها ) .
وترجم ابن ماجه في " السنن " (2/979) بقوله : ( باب : المحرمة تسدل الثوب على وجهها ) .
ووجه الدلالة منه : صريح على أن الأصل في المرأة أنها تغطي الوجه عن الأجانب ، حتى وإن كانت محرمة بالحج وهي مأمورة بالكشف حينذاك ، فكيف بغير الحج وهي مأمورة بالستر والتغطية !.
وقد حمل بعضهم هذا الصنيع من نساء المؤمنين حين الإحرام على التخيير ، مستدلاً بما روى البيهقي في السنن (5/47) : عن عائشة رضي الله عنها بسند صحيح: ( المحرمة تلبس من الثياب ما شاءت إلاّ ثوبا مسّه ورس أو زعفران ولا تتبرقع ولا تلثم وتسدل الثوب على وجهها إن شاءت ) ، وأصله في البخاري تعليقاً (3/473) ، ولم يذكر : ( إن شاءت ) .
وهذا غير صريح في التخيير ، ويحمل المراد من ذلك على ما إذا كانت بغير مشاهدة الرجال ، جمعاً بصنيع النساء عامة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قالت : ( تسدل إحدانا ) و ( تسدل المرأة جلبابها ) و ( سدلنا الثوب على وجوهنا سدلاً ) ، وهكذا ما سيأتي من قول أمّ سلمة وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم .(1/55)
وبهذا يكون التخيير في الأصل هل هو السدل للمحرمة أم لا ، وليس في الحكم مطلقاً ، فمن شاءت تتخذه أصلاً في جميع حال إحرامها فلها ذلك مبالغة في الاحتجاب كما ثبت ذلك عن أسماء ، ومن شاءت اتخذت الأصل هو كشف الوجه لها في حال إحرامها حتى يمرّ بها الرجال ، هذا ما يلزم الأخذ به جمعاً بين ما نقل ، والله أعلم .
والدليل الثالث : عن أم سلمة رضي الله عنه قالت : ( كنا نكون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن محرمات ، فيمرّ بنا الراكب فتسدل المرأة الثوب من فوق رأسها على وجهها ) .
رواه الدارقطني في " السنن " (2/295) من حديث بشر بن مطر عن سفيان بن عيينة عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن أم سلمة به .
وبشر بن مطر بن ثابت الدقاق ، قال عنه ابن حبان في " الثقات " : يخطي ، وقال أبو حاتم : كان صدوقاً ، وقال الدارقطني : ثقة .
فيحتمل أن يكون هذا وهمٌ من بشر فجعله من حديث أم سلمة وهو من حديث عائشة ، ويحتمل أن للحديث وجه أخر ، والله أعلم
ووجه الدلالة منه كسابقه ، والمراد بالسدل في كل الإرخاء ، غير مشدود على الوجه كالنقاب واللثام ونحوه ، ولا ضير في مماسة بعض المسدول الوجه ، ولا يلزم المرأة أن تضع عصابة على الرأس أو ما يباعد به عن وجهها ، فإن هذا من البدع المحدثة .
قال ابن القيم في "بدائع الفوائد" (3/143) : ( ولم تكن إحداهن ـ أي نساء الصحابة ـ تتخذ عوداً تجعله بين وجهها وبين الجلباب كما قاله بعض الفقهاء ، ولا يعرف هذا عن امرأة من نساء الصحابة ، ولا أمهات المؤمنين البتة لا عملاً ولا فتوى ، ومستحيل أن يكون هذا من شعائر الإحرام ولا يكون ظاهراً مشهوراً يعرفه الخاص والعام ) .
الدليل الرابع : عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين )) .
رواه الإمام أحمد(2/119) والبخاري (4/63) وأبو داود (5/271) والترمذي 03/572) والنسائي 5/133,136) .(1/56)
قال الترمذي : حديث حسن صحيح .
قال ابن حجر في "الفتح" (4/64) : ( النقاب : الخمار الذي يشد على الأنف أو تحت المحاجر ) .
قال السندي في حاشيته على " سنن النسائي" (5/133) : ( النقاب : المعروف للنساء لا يبدو منه إلاّ العينان ) .
وقال العظيم الآبادي في "شرح سنن أبي داود" (5/271) : ( النقاب : لبس غطاء للوجه فيه نقبان على العينين تنظر منهما ) .
ووجه الدلالة منه : أن النقاب كان معروف من عادة نساء المؤمنين ، نهين عن لبسه حال الإحرام لأنه مفصّل على الوجه ، مع إقرار الشارع لها بالتجلبب بالجلباب كما تقدم .
قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله في "الفتاوى" (15/372) : ( وهذا مما يدل على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يحرمن ، وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن ) .
وهنا شبهة بثّها بعضهم وقال : كون المرأة منهية عن تغطية وجهها حال الإحرام لا يدل على أن الواجب عليها ستره في حال الإحلال ، كما أن الرجل منهي عن تغطية رأسه حال الإحرام ، ولا يدل ذلك عند كل أحد أنه منهي عن تغطيته في حال الإحلال ؟! .(1/57)
والجواب يترك للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في "تهذيب السنن" (5/282- مع عون المعبود): ( وأما نهيه - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما : (( المرأة أن تنتقب ، وأن تلبس القفازين )) ، فهو دليل على أن وجه المرأة كبدن الرجل لا كرأسه ، فيحرم عليها فيه ما وضع وفصّل على قدر الوجه كالنقاب والبرقع ، ولا يحرم عليها سترة بالمقنعة والجلباب ونحوهما ، وهذا أصح القولين ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - سوّى بين وجهها ويديها ، ومنعها من القفازين والنقاب ومعلوم أنه لا يحرم عليها ستر يديها ، وأنهما كبدن المحرم يحرم سترهما بالمفصَّل على قدرهما ، وهما القفازان ، فهكذا الوجه إنما يحرم ستره بالنقاب ونحوه ، وليس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حرف واحد في وجوب كشف المرأة وجهها عند الإحرام إلاّ النهي عن النقاب ، وهو كالنهي عن القفازين ، فنسبة النقاب إلى الوجه كنسبة القفازين إلى اليد سواء وهذا واضح بحمد الله . ) .
الدليل الخامس : قول أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت : ( كنا نغطي وجوهنا من الرجال وكنّا نمتشط قبل ذلك في الإحرام ) رواه ابن خزيمة (4/203) والحاكم (1/454) ، وصححه ابن القيم (1) .
وهو في " الموطأ " (1/223) عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر أنها قالت : ( كنّا نخمّر وجوهنا ونحن محرمات ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق ) .
الدليل السادس : قوله - صلى الله عليه وسلم - عندما خرج من معتكفة مع أم المؤمنين صفية رضي الله عنها ورآه رجلان فأسرعا في السير فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( على رسلكما إنها صفية )) متفق عليه .
وجه الدلالة : أن الوجه لو لم يكن يغطى لما احتاجوا إلى التعريف بأنها صفية لأنها قطعاً سوف تكون معروفة عند الناظر .
__________
(1) في "تهذيب السنن" (5/283- مع عون المعبود) .(1/58)
فإن قيل : إنهما لم يروها لأجل الظلام لأن الحادثة وقعت ليلاً !! . نقول : فكيف رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - إذن !! ، فإن قيل : كانا بعيدين !! ، نقول : الوارد خلاف ذلك لأنهم تحدثوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومثله لا يكون إلاّ عن قرب ، والله أعلم .
فهذا دليل على أنها كانت محتجبة الوجه ، فلم يعرفها الصحابيان رضي الله عنهم ، والله أعلم .
الدليل السابع : ما ثبت في الصحيح من حديث دخول عمر بن الخطاب رضي الله عنه على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنده جماعة من نساء قريش ، وفيه : ( فبادرن الحجاب ) هيبة من عمر رضي الله عنه .
ومعنى هذا يحتمل وجهين :
أحدهما : أنهن أحكمن الاحتجاب ، بدليل قوله رضي الله عنه : ( يا عدوات أنفسهن أتهبنني ولا تهبن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) .
والوجه الآخر : أنهن كنّ يكشفن وجوههن أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة ويكون ذلك من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -، وعلى كل حال ففيه دلالة واضحة على الحجاب وشرعيته .
قال الحافظ في " الفتح " (9/ 118 ) : ( والذي تحرر عندنا أنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يحرم عليه النظر إلى المؤمنات الأجنبيات بخلاف غيره ) .
الدليل الثامن: قالت عائشة رضي الله عنها : (( رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسترني بردائه ، وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد )) متفق عليه .
ووجه الدلالة : كون النبي - صلى الله عليه وسلم -سترها بردائه لكي ترى الذين يلعبون بالحراب ، وجاء في رواية : (( فأقامني وراءه وخدي على خدّه )) وفي أخرى : (( فوضعت رأسي على منكبه )) وفي أخرى : (( أنظر بين إذنيه وعاتقه )) ، قال الحافظ في " الفتح " (2/15) : ( ومعانيها متقاربة ) .
قلت : ولو كان الوجه ليس بعورة لما احتاج أن يسترها النبي - صلى الله عليه وسلم - بردائه ، وتكون من وراءه .(1/59)
الدليل التاسع ... :عن فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة ، وهو غائب ، فجاءت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له ، فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ، ثم قال : (( تلك امرأة يغشاها أصحابي ، اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده )) رواه الإمام مالك في " الموطأ " (1/394) والشافعي في " الأم" (5/343) وأحمد (6/412) ومسلم (10/297) وغيرهم.
وفي رواية لمسلم ولأحمد بنحوها : (( فإنك إذا وضعت خمارك لم يرك )) ، وتقدم أن الخمار غطاء للوجه على الصحيح .
الدليل العاشر: وعن أبي حميد الساعدي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا خطب أحدكم امرأة فلا جناح عليه أن ينظر منها إذا كان إنما ينظر إليها للخطبة وإن كانت لا تعلم )) رواه أحمد (5/424) .
وجه الدلالة : أنه لو كان النساء متبرجات كاشفات الوجوه لما احتجنا إلى هذه الرخصة النبوية لأنهن أصبحن معروفات عند الجميع !! ، فدلّ ذلك على أن المرأة في العهد النبوي كانت مأمورة بالحجاب الكامل ، ورخص للخاطب أن ينظر إلى ما استطاع منها بإذن أو بغير إذن .
الحادي عشر : قول عائشة رضي الله عنها في حديث قصة الإفك : ( وكان ـ أي صفوان ـ يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني ، فخمرت وجهي عنه بجلبابي ) متفق عليه .
ووجه الدلالة منه واضح ، وفيه مزيد بيان من كون الجلباب والخمار يتفقان على الاستخدام لتغطية الوجه ، والجلباب أعمّ وأشمل ، كما قال ذلك ابن منظور في "اللسان " وغيره ، والخمار ما يغطي الرأس والوجه وينحدر على الصدر ليس أسفل منه ، ومنه النقاب والنصيف واللثام .(1/60)
الثاني عشر: عن أم عطية رضي الله عنها قالت : (( أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نخرجهن في الفطر والأضحى : العواتق والحيّض وذوات الخدور ، فأمّا الحيض فيعتزلن الصلاة ، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين ، قلت : يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب ؟ ، قال : لتلبسها أختها من جلبابها )) .
رواه أحمد (5/84) والبخاري (1/504, 556) ومواطن أخر ، ومسلم (6/178) وأبو داود (3/487) والترمذي (3/91) والنسائي (3/180,181) وابن ماجه (1/414) .
ووجه الدلالة منه ظاهرة : وهي كون النبي - صلى الله عليه وسلم -لم يأذن للنساء بالخروج إلى صلاة العيد إلاّ بتغطية الوجه بالجلباب ، ولو أن تستعيره ، وسبق تفسير الجلباب ، وأنه الرداء الذي يغطي الوجه والجسم .
الثالث عشر:عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( المرأة عورة )) .
رواه الترمذي (4/337) وابن خزيمة (3/93, 94) والبزار (5/427) والطبراني في " الكبير " (10/132) وابن عدي في " الكامل " (3/423) والدارقطني في " العلل " (5/314) .
قال الترمذي : حديث حسن صحيح غريب ، قال الهيثمي : ورجال الطبراني موثوقون ، قال المنذري : رجاله رجال الصحيح .
ووجه الدلالة منه صريحة للغاية : وهي كون النبي - صلى الله عليه وسلم - أطلق كون المرأة عورة ولم يستنثنِ منها شيئاً لا وجه ولا غيره .
وفي رواية حرب عن الإمام أحمد قال : قيل للإمام أحمد : ( الرجل يكون في سوق يبيع ويشري ، فتأتيه المرأة تشتري ، فيرى كفّها ونحو ذلك ؟ ، فكره ذلك ، وقال : كل شي من المرأة عورة ، قيل : فالوجه ؟ ، قال : إذا كانت شابة تشتهى فإنّي أكره ذلك ، وإن كانت عجوزاً رجوت ) .(1/61)
قلت : وقول الإمام أحمد ( أكره ذلك ) للتحريم ، كما وضح ذلك الإمام ابن القيم في " إعلام الموقعين " ، واشتهر عن الإمام أحمد قوله : ( كل شي من المرأة عورة حتى ظفرها ) (1).
فائدة : لما كان نعيم أهل الجنة أتم نعيم ، وحلتهم أكمل حلّه ، فإن نساء أهل الجنة جعل الله من عادتهم الحجاب ! ، فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لروحة في سبيل الله أو غدوة خير من الدنيا وما فيها ولقاب قوس أحدكم من الجنة أو موضع قيد يعني سوطه خير من الدنيا وما فيها ، ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما ولملأته ريحا ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها ) .
وفي رواية عند الإمام أحمد في " المسند " : ( قلت يا أبا هريرة : وما النصيف ؟ ، قال : الخمار ) .
قال الحافظ : ( وَقَوْله فِيهِ " وَلِنَصِيفِهَا " بِفَتْحِ النُّون وَكَسْر الصَّاد الْمُهْمَلَة بَعْدهَا تَحْتَانِيَّة سَاكِنَة ثُمَّ فَاءَ هُوَ الْخِمَار بِكَسْرِ الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الْمِيم ) .
__________
(1) كتاب ( أحكام النساء ) للإمام أحمد بن حنبل ( صحيفة :29-31) ، وهو مروي عن أبي بكر بن عبدالرحمن وسمي مولاه .(1/62)
وقال : ( وَقَالَ الْأَزْهَرِيّ : النَّصِيف الْخِمَار , وَيُقَال أَيْضًا لِلْخَادِمِ . قُلْت : وَالْمُرَاد هُنَا الْأَوَّل جَزْمًا . وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيِّ " وَلَتَاجُهَا عَلَى رَأْسهَا " وَحَكَى أَبُو عُبَيْد الْهَرَوِيُّ أَنَّ النَّصِيف الْمِعْجَرُ بِكَسْرِ الْمِيم وَسُكُون الْمُهْمَلَة وَفَتْح الْجِيم وَهُوَ مَا تَلْوِيه الْمَرْأَة عَلَى رَأْسهَا , وَقَالَ الْأَزْهَرِيّ : هُوَ كَالْعِصَابَةِ تَلُفُّهَا الْمَرْأَة عَلَى اِسْتِدَارَة رَأْسهَا , وَاعْتَجَرَ الرَّجُل بِعِمَامَتِهِ لَفَّهَا عَلَى رَأْسه وَرَدَّ طَرَفَهَا عَلَى وَجْهه وَشَيْئًا مِنْهَا تَحْت ذَقْنِهِ , وَقِيلَ الْمِعْجَرُ ثَوْبٌ تَلْبَسُهُ الْمَرْأَةُ أَصْغَر مِنْ الرِّدَاء , وَوَقَعَ فِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس عِنْد اِبْن أَبِي الدُّنْيَا " وَلَوْ أَخْرَجَتْ نَصِيفَهَا لَكَانَتْ الشَّمْسُ عِنْد حُسْنِهَا مِثْل الْفَتِيلَة مِنْ الشَّمْس لَا ضَوْء لَهَا , وَلَوْ أَطْلَعَتْ وَجْههَا لَأَضَاءَ حُسْنهَا مَا بَيْن السَّمَاء وَالْأَرْض , وَلَوْ أَخْرَجَتْ كَفّهَا لَافْتُتِنَ الْخَلَائِق بِحُسْنِهَا ) .
فالنصيف والخمار والمعجر كلها تقضي بستر الوجه ، وهذا فالجنة ، وأخلاق أهل الجنة هي أخلاق أهل الإيمان في الدنيا .
هذه بعض النصوص الصحيحة الصريحة من السنة النبوية المطهرة في وجوب احتجاب المرأة وأنه عورة كلها ، وبما في ذلك الوجه والكفين ، وقد ذكر شيخنا العلامة حمود التويجري رحمه الله ما هو أكثر من ذلك فلتراجع ففي كتابه دعامة للحق وأهله .
ولا عذر لمن يرقب الله واليوم الآخر أن يعرض عن هذه النصوص الصريحة متعلقاً بقول فلان وفلان !! ، وليذكر قول الله تعالى : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (النور:63) .(1/63)
وليذكر دعاة الضلال والمتسرعين في الأحكام أنهم موقوفون أمام الله ومحاسبون على ما قالوا ، عندما يقال لهم : { آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ } (يونس:59 ) ، فكم حصل على الإسلام من بلية من جرّاء كشف وجه المرأة وتبرجها أمام الأجانب ، حتى صارت منطلقاً لدعاة التبرج والسفور .
وما يحصل اليوم في العالم العربي والإسلامي أظهر دليل ، فمن الذي ينتصب لتحمل إثم كل هؤلاء المتبرجات حين أباح للمرأة أن تكشف وجهها لغير المحارم !! ، والله تعالى يقول : { لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ } (النحل:25 ) .
وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه ، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً )) .
وبهذه النصوص تكون العدّة للمسلمين الذابين عن حياض الدين ، بنصوص الوحيين من القران والسنة النبوية المباركة ، والله المستعان وعليه التكلان .
فصل
في كون وجه المرأة عورة ولا عبرة بخلاف من خالف
إن مما لاشك فيه أن الشريعة في مسائلها الفرعية مسائل عدّة لا تعد ولا تحصى اختلف فيها أهل العلم لأسباب عدّة ذكرها العلماء من حيث : دلالة النص وثبوته وحجيته ، فقد يدل الدليل ولا يثبت ، وقد يدل الدليل ويثبت ولكن لا يحتج به لنسخ أو معارض آخر أقوى ، وقد يثبت ويكون حجة ولكن الدلالة محل خلاف ، وقد يدل ويكون حجة ولكنه غير صحيح ، كل هذه الموارد هي من دواعي حصول الخلاف بين العلماء في كثير من المسائل العلمية والعملية .
والخلاف بين العلماء في مسائل الدين الأصلية والفرعية ينقسم إلى قسمين :
1- خلاف سائغ النظر فيه والاجتهاد .
2- خلاف لا يسوغ النظر فيه ولا الاجتهاد .(1/64)
ومثل الأول كمثل بعض المسائل الفرعية من مسائل الفقه والشريعة أو بعض مسائل فروع أصول الدين(1) ، مما قد يرد فيه بعض أسباب اختلاف النظر بين العلماء السابقة الذكر .
وفي مثل هذا الخلاف العبرة بالقول الذي يظفر بالدليل الشرعي من القران والسنة ومقاصد الشريعة ، وما عداه من الأقوال مردودة على أصحابها ، مع اعتذارنا لهم بمسوّغ الاجتهاد ، وكذا من تابعهم على اجتهادهم حاله كحالهم ، ولا أقول قلّدهم ، وعامة هذا النوع من المسائل الخلاف فيه لا ينقطع على مرّ العصور، وإن اندثر في عصر انتشر في آخر ، وهذا الخلاف المخالف فيه معذور ، وهو بين الأجر والأجرين إن شاء الله ، ويقع الإنكار على القول لا على القائل ، ويشمل الإنكار المقلد لتقليده بغير دليل لا المتبع ، وعلى هذا يتنزل قول بعض العلماء : ( لا إنكار في مسائل الاجتهاد )(2).
أمّا القسم الثاني : فمثل مسائل أصول التوحيد والعقيدة لا فروعها ، فلا يجوز الاجتهاد فيها ، وإن اجتهد وأخطأ يعامل بما يعامل به أهل البدع والأهواء ، لاعتقادنا أن عامة أهل البدع لم يضلوا بمجرد الهوى بل منهم من ضل بدافع الاجتهاد المبني على مقدمات خاطئة ، وهذا متقرر عند من عرف مقالاتهم ومنشئها، فالجهمية تذرعوا بالتنزيه ، والمعتزلة والخوارج بالعدل ، ونحو ذلك .
__________
(1) كمسألة العرش والقلم وأيهما خلق أولاً ، ومسألة فناء النار ، والإقعاد على العرش ، وحياة الأنبياء في قبورهم ، وكيفية وزن الأعمال ، ونحو ذلك .
(2) تقدم لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلامٌ في تحرير الخلاف الذي ينكر فيه على المخالف والذي لا ينكر ( صحيفة : 18 )(1/65)
أيضاً من هذا الخلاف الذي لا يسوغ فيه النظر ولا الاجتهاد : الاجتهاد في المسائل النصّية ، وإن كانت فرعية !! ، وهو ما يسميه بعض أهل العلم بـ ( الاجتهاد في مقابلة النص ) ، وهذا مردود لا يقبل ولا عبرة بقول من خالفه ، ومن ذلك ردّ العلماء مذهب أهل الرأي وذموهم لما وقعوا فيه من مخالفة للنصوص الظاهرة ، ولم يعتبروا خلافهم مسوّغاً لمعذرة المخالف .
وعليه لا يعذر المخالف في ذلك عند العلماء وأمره إلى الله ، كما أن الإنكار عليه واجب ، ولا يجوز إتباع المجتهد فيه ولا تقليده ، وينكر عليه ، وعلى هذا ينزّل قول العلماء ( من تتبع رخص العلماء تزندق ) ، وإلاّ فهناك من قال : بإباحة وطء النساء في أدبارهن !! ، وإباحة شرب الخمر المختلف فيه!! ، وإباحة ربا الفضل !، ودانوا بحياة الخضر !، والخروج على أئمة الجور ! ، وتحليل الاستمناء باليد !!، وإجازة المتعة ! ، وسماع المعازف ! ، وغير ذلك من المسائل التي استقرت السنة على خلافها .
وقد أحسن الناظم في قوله :
وليس كل خلافٍ جاء معتبر إلاّ خلاف له حظ من النظرِ
ومن هذه المسائل : إباحة كشف وجه المرأة عند الرجال !! ، وعامة مقالات العلماء تنص على وجوبه والحث عليه ، وقد أخطأ من زعم أن كشفه هو مذهب جمهور العلماء !! (1) ، ومن راجع نصوص القران والسنة وكلام العلماء المتقدمين وجد مصداقية ما قُرِّر هنا ، وأن الوجه عورة عند جماهيرهم ، ولولا ضيق المقام لنقلت من مقالاتهم ما يكشف الشبهة عن المغترين ، ومن ذلك :
__________
(1) راجع كتاب ( حجاب المرأة المسلمة بين انتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ) لمحمد فؤاد البرازي ( صحائف :193-238) ، وكذا كتاب ( اللباب في فرضية النقاب ) لفريد الهنداوي ، وما نقلاه مشكورين من أقوال أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم من العلماء في وجوب تغطية الوجه .(1/66)
قول الغزالي في " إحياء علوم الدين " : ( لم يزل الرجال على ممر الزمان مكشوفي الوجوه ، والنساء يخرجن منتقبات ) من " فتح الباري " (9/248) .
وقال الحافظ في " فتح الباري " ( 9/235) : ( ولم تزل عادة النساء قديماً وحديثاً يسترن وجوههن عن الأجانب ) .
وقال في موضع آخر (9/248) : ( استمرار العمل على جواز خروج النساء إلى المساجد والأسواق والأسفار منتقباتٍ لئلا يراهن الرجال ) ثم ذكر كلام الغزالي السابق .
وقال شمس الأئمة شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى في " الفتاوى " (22/114) : ( والوجه واليدان والقدمان ليس لها أن تبدي ذلك للأجانب على أصح القولين ، بخلاف ما كان قبل النسخ بل لا تبدي إلاّ الثياب ) .
وقال أيضاً(24/382) : ( وكشف النساء وجوههن بحيث يراهن الأجانب غير جائز وعلى وليّ الأمر : الأمر بالمعروف والنهي عن هذا المنكر وغيره ، ومن لم يرتدع فإنه يعاقب على ذلك بما يزجره ) .
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين (1/223) في معرض ردّه على من أوجب كشف وجه المرأة في حال إحرامها مطلقاً : ( فكيف يحرم ستر الوجه في حق المرأة مع أمر الله لها أن تدني عليها من جلبابها ، فلا تعرف ويفتتن بها ) .
ووجه الشافعية عدم جواز النظر إلى وجه المرأة مطلقاً بـ ( اتفاق المسلمين على منع خروج النساء سافرات الوجوه ) ، كما نص على ذلك النووي في " روضة الطالبين " (7/21) وغيره .
ونقل صاحب كتاب " مكانك تحمدي " ( صحيفة : 40 ) عن شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله أنه ذكر : ( اتفاق المسلمين على منع خروج النساء سافرات الوجوه ، لأن النظر مظنة الفتنة ) .(1/67)
فهذه بعض النقول عن الأئمة الأجلاء ممن نص على عورة وجه المرأة وغيره كثير عن المتقدمين والمتأخرين يثقل هاهنا حصرهم ، ذكر جملة منهم من أشرنا إلى مؤلفاتهم في أثناء هذا الكتاب وحواشيه ، وما نقل عن غيرهم من أهل العلم خلاف ذلك فهو مما تأولوه باجتهاد مرجوح ، والمرجعية عند النزاع هو كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -كما قال تعالى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } (النساء:59) ، ففيهما الحكم بين قولنا وقول من خالف ، ويستحيل أن يحيلنا ربنا عند النزاع على غير مزيل له وهما الكتاب والسنة ، فمن نظر فيهما وتأمل ، علم أن القول بأن وجه المرأة عورة هو أصح القولين ، وأعدل المذهبين ، وبه عفة المرأة وحشمتها ، وصيانة لها ولأمتها .
فهذه جموع عدتنا من القران والسنة وأقوال العلماء صُفّت للجاهلين والمبطلين صفا صفا ، ومائة منها صابرة تغلب من شبهاتهم ألفا ، انتقيتها ممن بحث من أهل العلم وأفاد ، وحليتها بمزيد تعليق به ينتبه العباد ، ولله لحمد والمنّة .
فصل
{ وشهد شاهد من أهلها }
إن المقارنة بين المرأة الغربية المتهتكة ، دمية الأطفال !! ، ولعبة المحتال !! ، ولذة البطّال !! ، وبين المرأة المسلمة العفيفة الشريفة ، النزيهة الظريفة ، يجد البون الشاسع بين هذه وتلك ، فالمسلمة في عالي مراتب العفة والكرامة ، وهي في حضيض الذلة والامتهان والسآءمة ، ومهما قالوا بأنها صنعت وصنعت ، فكذلك نساء المسلمين صنعن وصنعن ، بمزيد فوز بحفظ أبصارهن وفروجهن ، بينما الأخرى دفعت ثمن تبرجها وسفورها ومخالطتها للرجال : عفتها وكرامتها وحقوقها الحقّة !! .(1/68)
والكون لا يصلح إلا بشرع الله ، قال تعالى : {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا) (الأعراف:56) ، فليس من الضروري في رقيّ الأمم ، وتطور الحضارات ، أن تكشف المرأة عن وجهها ، وأن تخالط الرجال ، وأن تدع القرار في البيوت .
ولعل أفضل ما يشاد بذكره من تلك الأمم المعاصرة هذه الدولة العربية السعودية ، فليست هي أقدم الأمم ، ولكنها صارعت كبار الدول الآن على القمم !! ، فمنذ تأسيسها وهي حافظة للمرأة حقوقها ، ولم تلزمها بترك الحجاب ولا مخالطة الرجال ، واستطاعت المرأة أن تسهم في بناء هذا الصرح العظيم مع حفاظها على كرامتها ، فلم تكن الحاجة ملحّة إلى ما يرومون .
حتى إن العالم الغربي لم يغفل هذا الرقي الذي نحن نعيش فيه ، وعقل أن ما هم عليه من حضارة إنما هي من خضرة الأوحال ، ومزيف الأحوال ، فمهما بنوا جانباً من جوانب الحياة ، تهدّمت عندهم جوانب من جوانب الحياء والفكر والسلوك ، وكان ابتداء هلاكه بسبب تلك المرأة الضعيفة !!(1) ، حتى أصبحت شبيهة بالدمية يستمتع بها تحمل وتهمل !! ، بل ربّما تدنى الأمر بها إلى أن تصبح شبيهة بالمراحيض تلقى فيها القاذورات ، بقضاء الوطر والملذات !! ، ثم تلقى في زبالة البغايا والعاهرات ، حتى بين تلك الأوساط !! ، فتصبح النهاية المأساوية ، هم وغمّ ، ذل وتشريد ، إجهاض وانتحار.
__________
(1) واذكر قوله صلى الله عليه وسلم : (( واتقوا النساء ، فإن فتنة بني إسرائيل في النساء )) .(1/69)
ومن ثمّ سئم العالم الغربي من أوحال التدني التي تتخبط فيه النساء واعترفوا أن كرامة المرأة وتحريرها هو ( الإسلام !! ) الذي حفظ للمرأة جميع حقوقها ، قالت الكاتبة الإنجليزية الليدي كوك : ( إن الاختلاط يألفه الرجال ولهذا طمعت المرأة بما يخالف فطرتها وعلى قدر كثرة الاختلاط تكون كثرة أولاد الزنى ، وهاهنا البلاء العظيم على المرأة ـ إلى أن قالت ـ علموهن الابتعاد عن الرجال ، أخبروهن بعاقبة الكيد الكامن لهن بالمرصاد ) .
وقال شوينهور الألماني : ( قل هو الخلل العظيم في ترتيب أحوالنا الذي دعا المرأة لمشاركة الرجل في علو مجده وباذخ رفعته ، وسهل عليها التعالي في مطامعها الدنبئة حتى أفسدت المدنية الحديثة بقوى سلطانها ودنيء آرائها ) .
وقال اللورد بيرون : ( لو تفكرت أيها المطالع فيما كانت عليه المرأة في عهد قدماء اليونان لوجدتها حالة مصطنعة مخالفة للطبيعة ، ولرأيت معي وجوب اشتغال المرأة بالأعمال المنزلية مع تحسين غذائها وملبسها فيه ، وضرورة حجمها عن الاختلاط بالغير) .(1/70)
وقال سامويل سمايلس الأنجليزي : ( إن النظام الذي يقضي بتشغيل المرأة في المعامل مهما نشأ من الثورة للبلاد فإن نتيجته كانت هادمة لبناء الحياة المنزلية ، لأنه هاجم هيكل المنزل ، وقوض أركان الأسرة ومزق الروابط الاجتماعية ، فإنه يسلب الزوجة من زوجها ، والأولاد من أقاربهم ، صار بنوع خاص لا نتيجة له إلاّ تسفيل أخلاق المرأة ، إذ وظيفة المرأة الحقيقية هي القيام بالواجبات المنزلية مثل ترتيب مسكنها وتربية أولادها ، والاقتصاد في وسائل معيشتها مع القيام بالاحتياجات البيتية ، لكن المعامل تسلخها من كل هذه الواجبات بحيث أصبحت المنازل غير منازل !! ، وأضحت الأولاد تشبّ على عدم التربية ، وتلقى في زوايا الإهمال ، وطفئت المحبة الزوجية ، وخرجت المرأة عن كونها الزوجة الظريفة ، والقرينة المحبة للرجل ، وصارت زميلته في العمل والمشاق ، وباتت معرض للتأثيرات التي تمحو غالباً التواضع الفكري والأخلاقي الذي عليه مدار حفظ الفضيلة ) .
وقالت الدكتورة إيدايلين : ( إن سبب الأزمات العائلية في أمريكا وسر كثرة الجرائم في المجتمع هو : أن الزوجة تركت بيتها لتضاعف دخل الأسرة ، فزاد الدخل وانخفض مستوى الأخلاق ـ ثم قالت ـ إن التجارب أثبتت أن عودة المرأة إلى الحريم هو الطريقة الوحيدة لإنقاذ الجيل الجديد من التدهور الذي يسير فيه ) .
وقال أحد أعضاء الكونجرس الأميريكي : ( إن المرأة تستطيع أن تخدم الدولة حقاً إذا بقيت في البيت الذي هو كيان الأسرة ) .
وقال عضو آخر : ( إن الله عندما منح المرأة ميزة الأولاد لم يطلب منها أن تتكرم لتعمل في الخارج بل جعل مهمتها البقاء في المنزل لرعاية هؤلاء الأطفال ) .(1/71)
وقال شو ينهمور الألماني أيضاً : ( اتركوا للمرأة حريتها المطلقة كاملة بدون رقيب ثم قابلوني بعد عام لتروا النتيجة ولا تنسوا أنكم سترثون معي الفضيلة والعفة والأدب ، وإذا متّ فقولوا : أخطأ أو أصاب كبد الحقيقة !!! )(1).
وقال الدكتور ( ألكيس كاريل ) حائز جائزة نوبل الطبية ، في " مجلة المختار من ردريز دايجست " في ( العدد 36 من الطبعة العربية ) بحثاً بعنوان ( لبن الأم طبيعي للطفل ) : ( فالأم في هذا العصر ليس لها من تعليمها ولا عاداتها ما يهيئها للأمومة ومقتضياتها .. ويرى كثير من الأمهات أن عملهن ومستقبلهن وشهواتهن الاجتماعية أهم من رعاية أطفالهن ، ولا يدركن أن المرأة إنما خلقت للأمومة .. والأم في العصر الحديث فريسة في مخالب البيئة الاقتصادية والبيئة العقلية ، فقد ضرب المجتمع صفحاً عن قوانين علم الحياة ، وبخاصة قانون النسل ، فالبنات قد حرمن معرفة العمل الذي خلقن له وجهلن قدره في حياة البشر ، بل وصرن يتعلمن ما يتعلمه الصبيان ، وصرن بمنزلة الذكور !! ، لهن مالهم في الحياة ، وعليهن ما عليهم ، فصار على المرأة أن تعول نفسها كما يفعل الرجل ، فكيف يتأتى لعاملة في مصنع أو مكتب ، أو لمدرسة أو محامية أو طبيبة أو تاجرة أو امرأة باحثة عن ملاذ الحياة ؛ أن ترضع طفلها ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر هي الحد الأدنى للرضاعة !! ) (2) .
__________
(1) كل هذه النقول من كتاب الدكتور مصطفى حسني السباعي ، في كتاب " المرأة بين الفقه والقانون " بواسطة رسالة " خطر مشاركة المرأة للرجل في ميدان عمله " ضمن مجوعة : " الحجاب والسفور في الكتاب والسنة " ( صحيفة :29 ) .
(2) بواسطة كتاب ( الإسلام والمرأة ) لسعيد الأفغاني ( صحيفة : 114-115 ) .(1/72)
أقول : هذه العبارات والاعترافات ، هي من كلام عقلاء تلك الأمم ممن عرف نتائج التبرج والسفور ، فكيف بمن هم من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ، ويرون أن خروج المرأة ( انفتاحية !! ) ، وأن مشاركتها للرجل في مجال عمله ( مساواة وإنسانية!! ) ، وأن البيت ( سجن واستذلال ) ، الحجاب ( قيود وأغلال !! ) ،، وتقول إحداهن بلسان عربي فصيح : ( متى يحين الوقت ونزيح هذه الأغلال السوداء من على وجوهنا !! ) ، وتسميه أخرى بـ : ( السياج الحديدي الأسود !! ) .
كل هذه الأصوات تتفجر صباح مساء بيننا ، ولم يكن لهم العبرة في العالم من حولهم ولا حول ولا قوة إلاّ بالله .
فصل
في الغارات السالفات على المسلمات
إن الناظر إلى موجز أطوار حياة المرأة على مرّ العصور يجد أن المرأة مرّت بثلاثة أطوار :
1- المرأة في الجاهلية الأولى : ( بعض شيمة بلا دين ) .
2- والمرأة في الإسلام قديماً وحاضراً : ( دين وشيمة وعفاف ) .
3- والمرأة المعاصرة وهي الجاهلية الأخرى : ( لا دين ولا شيمة ) .
ولم تعاني المرأة من مسخ أخلاقي ، وتطهير عرقي للشيمة ، كما عانته المرأة في هذه الأزمان ، وخاصة المسلمات منهن (1) ، فشنّ عليهم أعداء الفضيلة شتى صنوف الغارات .
وأخطر هذه الغارات هي الغارات من داخل الحصون ، وإن شئت سمّها بـ (الانقلاب الفكري ) ، خاصة إذا لبست لباس الدين والفتوى !! ، يسّوق لها ذلك بعض أئمة الضلال ممن ينتسب للإسلام ، وهم أخوف ما خافه علينا نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، كما روى الإمام أحمد والترمذي من حديث ثوبان رضي الله عنه قال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : ( إنما أخاف عليكم الأئمة المضلين ) .
__________
(1) انظر كتاب ( حجاب المرأة المسلمة بين انتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ) لمحمد فؤاد البرازي ، وذكره لحال المرأة عند سائر الحضارات الكافرة .(1/73)
فكانت البداية الفعليه في العالم الإسلامي على يد رفاعة الطهطاوي [1216هـ - 1290هـ ] ، الذي ابتعث واعظاً وإماماً لبعثة مصرية إلى فرنسا ، فتشرّب هناك الثقافة الإباحة ، وعاد إلى مصر يحمل فيروسات تلك الأوبئة الفتاكة ، وفجّر في مصر الدعوة إلى ما يسميه بـ ( تحرير المرأة ) ، بثلاثة مؤلفات وهي : ( "تلخيص الإبريز في تلخيص باريز" – و " مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية " – و "المرشد الأمين للبنات والبنين " ) .
ودعا في هذه المؤلفات إلى أن الاختلاط لا يمكن أن يكون سبباً في الفساد ، وحث على إقامة المسارح ، وجوّز مراقصة الرجال للنساء فيقول في مراقصة النساء في فرنسا : ( ويتعلق في فرنسا كل الناس .. فلذالك كان دائماً غير خارج عن قوانين الحياء ، بخلاف الرقص في أرض مصر ، فإنه من خصوصيات النساء ، لأنه لتهييج الشهوات ، وأمّا في باريس فإنه نطٌ مخصوص لايشم منه رائحة العهر أبداً !!!! ، وكل إنسان يعزم امرأة يرقص معها ، فإذا فرغ الرقص عزمها آخر للرقصة الثانية ، وهكذا وسواء كان يعرفها أو لا !!! )(1) .
وهكذا جاءت نازلي فاضل ، وفتحت نادياً لاجتماع من هم على شاكلتها ، وكانت ممن اشتهر بمخالطة الرجال ، وتجتمع معهم ، وكان من روّاد صالونها الذي افتتحته آنذاك (محمد عبده-وسعد زغلول- واللقّاني- ومحمد بيرم - وقاسم أمين )(2).
__________
(1) من كتابه " تلخيص الإبريز " ( صحيفة : 168 ) ، بواسطة " حجاب المسلمة " لمحمد فؤاد البرازي ( صحيفة : 427 ) .
(2) المرجع السابق : ( صحيفة : 430 ) .(1/74)
من ثم ألّف مرقس فهمي [ 1287هـ - 1374هـ ] كتاباً بعنوان : " المرأة في المشرق " وهو مصري نصراني عميل للنفوذ البريطاني مما سهل له الطعن في الإسلام ، وفي هذا الكتاب كانت الدعوة الصريحة الأولى في تاريخ مصر إلى : ( القضاء على الحجاب الإسلامي - وَ إباحة الاختلاط للمرأة المسلمة بالأجانب عنها - وَ تقييد الطلاق ووجوب وقوعه أمام القاضي - وَ منع الزواج بأكثر من واحدة - وَ إباحة الزواج بين المسلمات والأقباط ) .
ثم كتب قاسم أمين [ 1279هـ- 1326هـ ] كتاباً أقرّ فيه ما كتبه النصراني ( مرقس فهمي ) بعد نزاع بينهم ومن ثم اتفاق ، فسمّى كتابه بـ ( تحرير المرأة ) ، تناول فيه القضية الرئيسية للمرأة وهي ( الحجاب ) ومسائل أخرى ، وتفوّه إفكاً عندما حاول أن يسقط الحجاب بساقط الكلام ، وحاول أن يطوّع نصوص الوحيين لغريزة الغربيين !! ، وسمّى الأمر بالحجاب جموداً من رجال الدين !! ، فلقي كتابه معارضة شديدة من بعض أهل الغيرة ، حتى اعتزل خوفاً من سيل الانتقادات على كتابه ذلك ، حتى ناصره على الضلالة ( سعد زغلول ) الذي قال له : ( امض في طريقك وسوف أحميك !! ) ، وكذا ناصره شيخه (محمد عبده ) زعيم المدرسة العقلانية !! الذي شاركه في كتابة بعض نصوص كتابه ( تحرير المرأة ) .
ثم لما اتفق لقاسم أمين موافقة قوة السلطة السياسية المتمثلة في ( سعد زغلول )، ونفوذ الشبهة الدينية الصادرة من ( محمد عبده ) ، كشف عن وجه طويته بكتابه (المرأة الجديدة ) الذي فاق كتابه الأول سوءاً ، وزاد عليه شراً .(1/75)
ومن ثمّ جاء دور سعد زغلول [ 1273هـ - 1346] زعيم الشعب ، فقد كانت له الجرأة على المجاهرة بحرب الحجاب أكثر من غيره ، ومن ذلك أنه ما نشرته جريدة " الجمهورية " [ 20/4/1978م] في الذكرى السبعين لموت قاسم أمين : ( ولما تولى سعد زغلول زعامة الشعب في عام 1919 ، اشترط على السيدات اللواتي يحضرن لسماع خطبه أن يزحن النقاب عمّا سمح الله به من وجوههن ، وكانت هذه أول مرحلة عملية للسفور !! ) .
وتقول ( فاطمة عصمت زكريا ) : ( وبعد تعيينه وزيراً أراد مجموعة من النساء المصريات في القاهرة أن يجتمعن به لأمر من الأمور ، فدخل عليهن ، وبُهت ، إذ فوجئ بأنهن يسدلن الحجاب على وجوههن ، فرفض الدخول والاجتماع بهن إلاّ أن يكشفن وجوههن !! ، فأبين ذلك ، ولم يحصل الاجتماع ) .
وعندما قدم من منفاه إلى الإسكندرية برفقة زوجته ( صفية سعد زغلول ) وجد أن البحر إمتلأ من المستقبلين على ظهور القوارب ، فأمرها أن تظهر أمامهم وتنزع الحجاب ، وأقيم بعد ذلك حفل للشعب ، وأمرها أن تكرر هذه الفضيحة فقامت فنزعت الحجاب فنزع النساء الحاضرات الحجاب ) .
ثم ظهرت هدى شعراوي [ 1296هـ - 1367هـ ] ، زوجة ( علي شعراوي باشا ) صديق ( سعد زغلول ) ، ووجهتها امرأة ( حسين رشدي باشا ) ، وهي امرأة فرنسية ، إلى فكر ( قاسم أمين ) و (محمد عبده ) و ( سعد زغلول ) ، وأوصتها إذا عادت إلى مصر أن تدعو إلى تحسين حال المرأة ، وأن تبدأ مشروعها بتوجيه المرأة المصرية إلى ممارسة الرياضة البدنية أولاً (1) ، قبل تنبيهها إلى خوض الحياة الاجتماعية ، وترغيبها في الفنون والآداب ، وعقد اجتماعات تجمع بين الرياضة الفكرية والرياضة البدنية ، وكذا إعداد ملعب للتنس لاجتماعهن .
__________
(1) احفظ هذه ، واذكر ما يدعى إليه في الصحف الآن من فتح أندية رياضية نسائية جماهيرية !! .(1/76)
وللصداقة بين ( هدى شعراوي ) و ( صفية زغلول ) ، ولقرب الأخير من السلطة عن طريق والدها ( مصطفى فهمي ) وزوجها ( سعد زغلول ) ، إندفعت (هدى شعراوي ) نحو ما تروم إليه مما تسميه بـ ( تحرير المرأة ) ، واستغلت المظاهرات المصرية تجاه الاستعمار البريطاني عام 1919 ، خرجت هي وصديقتها ( صفية زغلول) في مظاهرة بقيادتهما في [ 20 مارس - آذار عام 1919 ] في ميدان قصر النيل ( ميدان الإسماعيلية ) وهتفن ضد الاستعمار ، وبتدبير سابق وعلى حين غفلة من الناس نزعن الحجاب ، وألقين به في الأرض ، وسكبن عليه البترول ، و أشعلن فيه النار ، ومن ثَمّ سمّي بـ ( ميدان التحرير )، وشكلن لجنة النساء الوفديات ، ثم ترشحت بعد ذلك (هدى شعراوي ) و صديقتها الأخرى ( سيزا نبراوي ) إلى المشاركة في ( المؤتمر النسائي الدولي ) الذي عقد في روما [ شهر آذارـ مارس عام 1923 ] ، وعندما حضرت إلى هذا المؤتمر هي ورفيقتها كان أول شي صنعتهاه هو أن قامتا بنزع الحجاب وداستاه بأقدامهما ، وما إن عادتا إلى مصر حتى ألقتا بالحجاب ودخلتا سافرتي الوجه والعياذ بالله .
قال خير الدين الزركلي : ( فكانت أول مصرية مسلمة رفعت الحجاب )(1).
ومن ثمّ انتقلت حمّى نزع الحجاب وسفور المرأة وتبرجها إلى العالم العربي والاسلامي :
ففي العراق على يد ( جميل صدقي الزهاوي ) [ 1279هـ-1354هـ] ، وهو شاعر ملحد ، وأنشد في نزع الحجاب قوله:
أسفري فالحجاب يا إبنة فهر هو داء في الإجتماع وخيم
وقال :
القوم يا إبنة يعرب من جهلهم وادوك وأدا
حجبوك عن أبناء نو عك حاسبين الغي رشدا
ثم تزايد شرّه فأنشد :
مزقي يا إبنة العراق الحجابا واسفري فالحياة تبغي انقلابا
مزقيه وأحرقيه بلا ريـ ــــثٍ فقد كان حارساً كذابا
زعموا أن في السفور سقوطاً في المهاوي وأن فيه خرابا
كذبوا فالسفور عنوان طهرٍ ليس يلقى معرة وارتيابا
وحكم عليه علماء زمانه بذلك بالزندقة .
__________
(1) الإعلام ( 8/79 ) .(1/77)
وهكذا العراقي الآخر ( معروف الرصافي ) [ 1294هـ - 1364هـ ] ، فلم يقل عن صديقه
السابق بشي من المعتقد والأدب ، ومن ذلك قوله منشداً :
ألا ما لأهل الشرق في برحاءِ يعيشون في ذلٍ به وشقاءِ
لقد حكموا العادات حتى غدت لهم بمنزلة الأقياد للأسراءِ
لقد غمطوا حق النساء فشددوا عليهن في حبسٍ وطول ثواءِ
وقد ألزموهن الحجاب وأنكروا عليهن إلاّ خرجة بغطاءِ
أضاقوا عليهن الفضاء كأنهم يغارون من نورٍ به وهواءِ
وقد زعموا أن لسن يصلحن في الدنى لغير قرارٍ في البيوت وباءِ
وهذه مصادمة لأمر الله تعالى في قوله : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ) (الأحزاب:33 ) .
وقال :
وأكبر ما أشكو من القوم أنهم يعدون تشديد الحجاب من الشرعِ
أفي الشرع إعدام الحمامة ريشها وإسكاتها فوق الغصون عن السجعِ
وقد أطلق الخلاق منها جناحها وعلمها كيف الوقوع على الزرعِ
فتلك التي ما زلت أبكي لأجلها بكاء إذا ما اشتدّ أدى إلى الصرعِ
وقال :
لئن وأدوا البنات فقد قبرنا جميع نسائنا قبل المماتِ
ولو عدمت طباع القوم لوما لما غدت النساء محجباتِ(1)
وقال في معارضة صريحة للقران :
ولم أرَ بين الناس ذا مظلمة أحق بالرحمة من مسلمة
منقوصة حتى بميراثها محجوبة حتى عن المكرمة
__________
(1) تسمية ( الحجاب ) وتشبيهه بـ ( الوأد ) مصطلح دارج عندهم ، وقد صورت إحدى المجلات المحلية صورة امرأة متحجبة تماماً وهي جالسة داخل قبر مظلم تحت عنوان : ( وأد البنات يعود بعد أربعة عشر قرن !! ) .(1/78)
وهكذا في الجزائر العربية ( أحمد بن بيلا ) ، إلى ( كمال أتاتورك ) في تركيا وأمره عام 1920 بنزع الحجاب إلى ( رضا بهلوي ) في إيران بمثل ذلك عام 1962، إلى ( محمد أمان ) في أفغانستان ، إلى (أحمد زوغوا ) في ألبانيا ، إلى ( أبو رقيبة ) في تونس ، وهكذا في سائر البلاد العربية والإسلامية ، مما قل أن تجد من بين تلك الدول دولة تأمر بالحجاب وتعمل به إلا من رحم الله ، والله المستعان(1) .
هذه هي تلك الغارات السالفات على حجاب المسلمات ، نستفيد منها فوائد ، حيث عرفنا من أساليبهم :
- كيف يتذرعون بإباحة بعض العلماء لكشف الوجه .
- كيف يستغلون الحروب الخارجية وحين الفرقة ميقاتاً لتنفيذ مخططاتهم(2) .
- كيف يحاولون الاستعانة بالسلطة في تنفيذ مطاليبهم .
- كيف يجندون الأقلام والشعر والصحف والمجلات في نشر مذاهبهم .
- كيف يربطون المرأة بكل جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية كي يستوجب سفورها .
__________
(1) جميع هذه التسلسل لمؤامرات نزع الحجاب وسفور المرأة مأخوذ من كتاب " حجاب المسلمة بين انتحال المبطلين وتأويل الجاهلين " لمحمد فؤاد البرازي ( الصفحات : 423-543 ) وكتاب " حراسة الفضيلة " للشيخ بكر أبو زيد ( صفحات : 168-182 ) ، وكتاب " واقعنا المعاصر " لمحمد قطب ( الصفحات : 250-295 ) .
(2) ومثل هذه المعارضات في حين الفرقة والاختلاف تكون خطيرة جداً ، وهي ميقات الخوارج عند الخروج في كل زمان كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنهم : (( أنهم يخرجون على حين فرقة من الناس )) ، واليوم مع تعاظم الصراع الديني والسياسي بين الشعوب الإسلامية ودول الكفر إلا أن هناك من بني جلدتنا من يظهر في كل قناة ويدعو إلى تحرير المرأة المزعوم ! ، بل ويظهرون التوجع للأعداء بأن المرأة في ذلٍّ ومهانة بشريعة الإسلام ، وربما كتبوا التقارير السرية لبعض شواذ الحوادث الأسرية للدول الغربية الكافرة كي تتخذ مطية لتشويه الإسلام .(1/79)
فهاهي أخي المسلم ، وأختي المسلمة ، عدتهم وخطتهم !! ، وهاهم قادتهم وأئمتهم !! ، فأرض المعركة أمامنا مكشوفة ، وجموع قوتهم من بين قوات الموحدين مكتوفة ، ولكن ما النتيجة إن اعترانا حال رباطنا السِنةُ والنومُ !! ، فباغتنا في حال غفلتنا القوم ، عندما وضعنا العدّة والسلاح ، والله تعالى شأنه يقول في الحروب العسكرية للمؤمنين : { وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً } (النساء: 102) .
فدونكم السلاح ، أعني سلاح العلم والكفاح ، وتفطنوا للمتاع ، و (( خير متاع الدنيا المرأة الصالحة )) ، فلا يميل دعاة السفور والتبرج على أسلحتكم وعلى متاعكم !! ميلة واحدة !! ، وتفطن لكونها : ( واحدة !! ) ، عندما يتسع الخرق على الراقع ، ويتعذر إرجاع الجلابيب والبراقع ، فالله الله بالدعوة إلى الله ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والنصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ، والله أسأل أن يصلح شأن عباده ، وأن يردهم إلى الحق رداً جميلا ، وأن يقينا شرور أنفسنا ، ولا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منّا ، اللهم وفق ولاة أمور المسلمين إلى تحكيم شريعتك ، والقيام بأمرك ، اللهم وفق خادم الحرمين الشريفين عبدك وابن عبدك وابن أمتك الملك فهد بن عبدالعزيز إلى ما تحب وترضى ، اللهم أعنه على طاعتك ، اللهم وفقه وإخوانه وأعوانه إلى ما فيه صلاح العباد والبلاد ، اللهم أرزقه البطانة الصالحة واصرف عنه بطانة السوء ، يارب العالمين ، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما .
وكتب بدر بن علي بن طامي العتيبي
الطائف - الحوية(1/80)