الحج والعمرة
في القرآن الكريم
إعداد
بهجت بن فاضل بن بهجت
مكة المكرمة
قال تعالى : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)( البقرة :126)
أيسر التفاسير:
تضمنت هذه الآية أمر الله تعالى لرسوله أن يذكر دعوة إبراهيم ربَّه بأن يجعل مكة بلداً آمناً من دخله يأمن فيه على نفسه وماله وعرضه، وأن يرزق أهله وسكانه المؤمنين من الثمرات وأن الله قد استجاب لإبراهيم دعوته إلا أن الكافرين لا يحرمون الرزق في الدنيا ولكن يحرمون الجنة في الدار الآخرة حيث يلجئهم تعالى مضطراً لهم عذاب النار الغليظ وبئس المصير الذي يصيرون إليه- وهو النار- من مصير.
=============================
قال تعالى : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِين) ( آل عمران:96)
تفسير ابن كثير:
يخبر تعالى أن أول بيت وضع للناس أي لعموم الناس لعبادتهم ونسكهم, يطوفون به, ويصلون إليه, ويعتكفون عنده {للذي ببكة} يعني الكعبة التي بناها إبراهيم الخليل عليه السلام الذي يزعم كل من طائفتي النصارى واليهود أنهم على دينه ومنهجه, ولا يحجون إلى البيت الذي بناه عن أمر الله له في ذلك ونادى الناس إلى حجه, ولهذا قال تعالى: {مباركاً} أي وضع مباركاً {وهدى للعالمين}
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن الأعمش, عن إبراهيم التيمي, عن أبيه, عن أبي ذر رضي الله عنه, قال: قلت يا رسول الله, أي مسجد وضع في الأرض أول ؟ قال «المسجد الحرام». قلت: ثم أي ؟ قال: «المسجد الأقصى». قلت: كم بينهما ؟ قال: «أربعون سنة». قلت: ثم أي ؟ قال: «ثم حيث أدركتَ الصلاة فصل فكلها مسجد» وأخرجه البخاري ومسلم من حديث الأعمش به.(1/1)
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح, حدثنا سعيد بن سليمان, عن شريك, عن مجالد, عن الشعبي, عن علي رضي الله عنه في قوله تعالى: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً} قال: كانت البيوت قبله, ولكنه كان أول بيت وضع لعبادة الله.
وحدثنا أبي, حدثنا الحسن بن الربيع, حدثنا أبو الأحوص, عن سماك, عن خالد بن عرعرة, قال: قام رجل إلى علي رضي الله عنه, فقال: ألا تحدثني عن البيت, أهو أول بيت وضع في الأرض ؟ قال: لا, ولكنه أول بيت وضع فيه البركة مقام إبراهيم, ومن دخله كان آمناً, وذكر تمام الخبر في كيفية بناء إبراهيم البيت,
وزعم السدي أنه أول بيت وضع على وجه الأرض مطلقاً, والصحيح قول علي رضي الله عنه.
فأما الحديث الذي رواه البيهقي في بناء الكعبة في كتابه دلائل النبوة من طريق ابن لهيعة, عن يزيد بن أبي حبيب, عن أبي الخير, عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً «بعث الله جبريل إلى آدم وحواء, فأمرهما ببناء الكعبة, فبناه آدم, ثم أمر بالطواف به, وقيل له: أنت أول الناس, وهذا أول بيت وضع للناس» فإنه كما ترى من مفردات ابن لهيعة وهو ضعيف. والأشبه. والله أعلم, أن يكون هذا موقوفاً على عبد الله بن عمرو, ويكون من الزاملتين اللتين أصابهما يوم اليرموك من كلام أهل الكتاب.
وقوله تعالى: {للذي ببكة} بكة من أسماء مكة على المشهور, قيل: سميت بذلك لأنها تبك أعناق الظلمة والجبابرة بمعنى أنهم يذلون بها ويخضعون عندها وقيل: لأن الناس يتباكون فيها أي يزدحمون. قال قتادة: إن الله بك به الناس جميعاً, فيصلي النساء أمام الرجال ولا يفعل ذلك ببلد غيرها,(1/2)
وكذا روى عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعمرو بن شعيب ومقاتل بن حيان. وذكر حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس رضي الله عنه, قال: مكة من الفج إلى التنعيم, وبكة من البيت إلى البطحاء, وقال شعبة, عن المغيرة, عن إبراهيم: بكة البيت والمسجد, وكذا قال الزهري. وقال عكرمة, في رواية, وميمون بن مهران: البيت وما حوله بكة, وما وراء ذلك مكة. وقال أبو صالح وإبراهيم النخعي وعطية العوفي ومقاتل بن حيان: بكة موضع البيت وما سوى ذلك مكة,
وقد ذكروا لمكة أسماء كثيرة: مكة, وبكة, والبيت العتيق, والبيت الحرام, والبلد الأمين, والمأمون, وأم رحم, وأم القرى, وصلاح, والعرش على وزن بدر, والقادس لأنها تطهر من الذنوب, والمقدسة, والناسة بالنون, وبالباء أيضاً والحاطمة, والنسّاسة, والرأس, وكوثاء والبلدة, والبنية, والكعبة.
قال تعالى : ( وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ) (الأنعام:92)
{ أم القرى }: مكة المكرمة.
تفسير السعدي:
" وهذا "
القرآن
" كتاب أنزلناه إليك مبارك "
أي : وصفه البركة . وذلك لكثرة خيراته ، وسعة مبراته .
" مصدق الذي بين يديه "
أي : موافق للكتب السابقة ، وشاهد لها بالصدق .
" ولتنذر أم القرى ومن حولها "
أي : وأنزلناه أيضا ، لتنذر أم القرى ، وهي : مكة المكرمة ، ومن حولها ، من ديار العرب ، بل ومن سائر البلدان . فتحذر الناس عقوبة الله ، وأخذه الأمم ، وتحذرهم مما يوجب ذلك .
" والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به "
لأن الخوف إذا كان في القلب ، عمرت أركانه ، وانقاد لمراضي الله .
" وهم على صلاتهم يحافظون "
أي : يداومون عليها ، ويحفظون أركانها وحدودها ، وشروطها وآدابها ، ومكملاتها . جعلنا الله منهم .(1/3)
================================
قال تعالى : ( وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ)( الأنفال:35)
{ مكاء وتصدية }: المكاء: التصفير، والتصدية: التصفيق.
تفسير البغوي:
قال ابن عباس والحسن : المكاء : الصفير ، وهو في اللغة اسم طائر أبيض ، يكون بالحجاز له صفير ،كأنه قال : إلا صوت مكاء ، والتصدية التصفيق . قال ابن عباس : كانت قريش تطوف بالبيت وهم عراة يصفرون ويصفقون .
قال مجاهد : كان نفر من بني عبد الدار يعارضون النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف ،ويستهزؤون به ، ويدخلون أصابعهم في أفواههم ويصفرون .
فالمكاء : جعل الأصابع في الشدق .
والتصدية : الصفير ، ومنه الصدى الذي يسمعه المصوت في الجبل .
قال جعفر بن ربيعة : سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن قوله عز وجل " إلا مكاء وتصدية " فجمع كفيه ثم نفخ فيهما صفيراً .
قال مقاتل : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى في المسجد قام رجلان عن يمينه فيصفران ورجلان عن شمال فيصفقان ليخلطوا على النبي صلى الله عليه وسلم صلاته ، وهم من بني عبد الدار .
قال سعيد بن جبير : التصدية صدهم المؤمنين عن المسجد الحرام ، وعن الدين ، والصلاة . وهو على هذا التأويل : التصددة بدالين ، فقلبت إحدى الدالين ياءً ، كما يقال تظنيت من الظن ، وتقضي البازي إذا البازي كسر ، أي تقضض البازي . قال ابن الأنباري : إنما سماه صلاة لأنهم أمروا بالصلاة في المسجد فجعلوا ذلك صلاتهم . " فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون "
=======================================(1/4)
قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (الحج:25-27)
تفسير البغوي:(1/5)
قوله عز وجل: " إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله "، عطف المستقبل على الماضي، لأن المراد من لفظ المستقبل الماضي، كما قال تعالى في موضع آخر: " الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله " (النساء:167)، معناه: إن الذين كفروا فيما تقدم، ويصدون عن سبيل الله في الحال، أي: وهم يصدون. " والمسجد الحرام "، أي: ويصدون عن المسجد الحرام. " الذي جعلناه للناس "، قبلةً لصلاتهم ومنسكاً ومتعبداً كما قال: " وضع للناس " (آل عمران:96). " سواءً "، قرأ حفص عن عاصم و يعقوب : ((سواء)) نصباً بإيقاع الجعل عليه لأن الجعل يتعدى إلى مفعولين. وقيل: معناه مستوياً فيه، " العاكف فيه والباد "، وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء وما بعده خبر، وتمام الكلام عند قوله " للناس "، وأراد بالعاكف: المقيم فيه، والبادي: الطاريء المنتاب إليه من غيره. واختلفوا في معنى الآية، فقال قوم: ((سواء العاكف فيه والباد)) أي: في تعظيم حرمته وقضاء النسك فيه. وإليه ذهب مجاهد و الحسن وجماعة، وقالوا: المراد منه نفس المسجد الحرام. ومعنى التسوية: هو التسوية في تعظيم الكعبة في فضل الصلاة في المسجد الحرام والطواف بالبيت. وقال آخرون: المراد منه جميع الحرم، ومعنى التسوية: أن المقيم والبادي سواء في النزول به، ليس أحدهما أحق بالمنزل يكون فيه من الآخر، غير أنه لا يزعج فيه أحد إذا كان قد سبق إلى منزل، وهو قول ابن عباس و سعيد بن جبير و قتادة و ابن زيد قالوا: هما سواء في [البيوت] والمنازل. وقال عبد الرحمن بن سابط : كان الحجاج إذا قدموا مكة لم يكن أحد من أهل مكة بأحق بمنزلة منهم. وكان عمر بن الخطاب ينهى الناس أن يغلقوا أبوابهم في الموسم، وعلى هذا القول لا يجوز بيع دور مكة وإجارتها، وعلى القول الأول -وهو الأقرب إلى الصواب- يجوز، لأن الله تعالى قال: " الذين أخرجوا من ديارهم " (الحج:40)،(1/6)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن "، فنسب الدار إليه نسب ملك، واشترى عمر داراً للسجن بمكة بأربعة آلاف درهم، فدل على جواز بيعها. وهذا قول طاووس و عمرو بن دينار ، وبه قال الشافعي . قوله عز وجل: " ومن يرد فيه بإلحاد بظلم " أي: في المسجد الحرام بإلحاد بظلم وهو الميل إلى الظلم، الباء في قوله ((بإلحاد)) زائدة كقوله: " تنبت بالدهن " (المؤمنون:20)، ومعناه من يرد فيه إلحاداً بظلم، قال الأعشى : (( ضمنت برزق عيالنا أرماحنا ))، أي: رزق عيالنا. وأنكر المبرد أن تكون الباء زائدة وقال: معنى الآية من تكن إرادته فيه بأن يلحد بظلم. واختلفوا في هذا الإلحاد، فقال مجاهد و قتادة : هو الشرك وعبادة غير الله. وقال قوم: هو كل شيء كان منهياً عنه من قول أو فعل حتى شتم الخادم. وقال عطاء : هو دخول الحرم غير محرم، أو ارتكاب شيء من محظورات الحرم، من قتل صيد، أو قطع شجر. وقال ابن عباس: هو أن تقتل فيه من لا يقتلك، أو تظلم فيه من لا يظلمك، وهذا معنى قول الضحاك .
وعن مجاهد أنه قال: تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات. وقال حبيب بن أبي ثابت: هو احتكار الطعام بمكة. وقال عبد الله بن مسعود في قوله: " ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم "، قال: لو أن رجلاً هم بخطيئة لم تكتب عليه، ما لم يعملها، ولو أن رجلاً ههم بقتل رجل بمكة وهو بعدن أبين، أو ببلد آخر أذاقه الله من عذاب أليم. وقال السدي : إلا أن يتوب. وروي عن عبد الله بن عمر أنه كان له فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الآخر، فسئل عن ذلك فقال: كنا نحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل كلا والله، وبلى والله.(1/7)
26. قوله عز وجل: " وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت "، أي: وطأنا. قال ابن عباس: جعلنا. وقيل: بينا قال الزجاج : جعلنا مكان البيت [مبوءاً لإبراهيم. وقال مقاتل بن حيان : هيأنا. وإنما ذكرنا مكان البيت] لأن الكعبة رفعت إلى السماء زمان الطوفان، ثم لما أمر الله تعالى إبراهيم ببناء البيت لم يدر أين يبني فبعث الله ريحاً خجوجاً فكنست له ما حول البيت على الأساس. وقال الكلبي : بعث الله سحابةً بقدر البيت فقامت بحيال البيت وفيها رأس يتكلم يا إبراهيم ابن على قدري فبني عليه. قوله تعالى: " أن لا تشرك بي شيئاً " أي: عهدنا إلى إبراهيم وقلنا له لا تشرك بي شيئاً، " وطهر بيتي للطائفين "، يعني: الذين يطوفون بالبيت، " والقائمين " أي: المقيمين، " والركع السجود "، أي: المصلين.(1/8)
27. " وأذن في الناس " أي: أعلم وناد في الناس، " بالحج "، فقال إبراهيم وما يبلغ صوتي؟ فقال: عليك الأذان وعلي البلاغ، فقام إبراهيم على المقام فارتفع المقام حتى صار كأطول الجبال فأدخل أصبعيه في أذنيه، وأقبل بوجهه يميناً وشمالاً وشرقاً وغرباً وقال: يا أيها الناس ألا إن ربكم قد بنى بيتاً وكتب عليكم الحج إلى البيت فأجيبوا ربكم، فأجابه كل من كان يحج من أصلاب الآباء وأرحام الأمهات: لبيك اللهم لبيك، قال ابن عباس: فأول من أجابه أهل اليمن فهم أكثر الناس حجاً. وروي أن إبراهيم صعد أبا قبيس ونادى. وقال ابن عباس عنى بالناس في هذه الآية أهل القبلة، وزعم الحسن أن قوله: " وأذن في الناس بالحج " كلام مستأنف وأن المأمور بهذا التأذين محمد صلى الله عليه وسلم أمر أن يفعل ذلك في حجة الوداع. وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا ". قوله تعالى: " يأتوك رجالاً "، مشاة على أرجلهم جمع راجل، مثل قائم وقيام وصائم وصيام، " وعلى كل ضامر "، أي: ركباناً على كل ضامر، والضامر: البعير المهزول. " يأتين من كل فج عميق " أي: من كل طريق بعيد، وإنما جمع (يأتين) لمكان كل وإرادة النوق.
====================================
قال تعالى : ( إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)( النمل:91)
تفسير السعدي :(1/9)
"إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها" لما فرغ سبحانه من بيان أحوال المبدإ والمعاد أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم هذه المقالة: أي قل يا محمد إنما أمرت أن أخص الله بالعبادة وحده لا شريك له، والمراد بالبلدة: مكة، وإنما خصها من بين سائر البلاد لكن فيها بيت الله الحرام، ولكونها أحب البلاد إلى رسوله، والموصول صلة للبلدة، ومعنى حرمها جعلها حرماً آمناً لا يسفك فيها دم، ولا يظلم فيها أحد، ولا يصطاد صيدها، ولا يختلى خلالها "وله كل شيء" من الأشياء خلقاً وملكاً وتصرفاً: أي ولله كل شيء "وأمرت أن أكون من المسلمين" أي المناقدين لأمر الله المستسلمين له بالطاعة، وامتثال أمره، واجتناب نهيه، والمراد بقوله أن أكون أن أثبت على ما أنا عليه.
=================================
قال تعالى : ( وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ)( القصص:57-59)
تفسير البغوي:(1/10)
57- "وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا"، مكة، نزلت في الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف، وذلك أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لنعلم أن الذي تقول حق، ولكنا إن اتبعناك على دينك خفنا أن تخرجنا العرب من أرضنا مكة. وهو معنى قوله: "نتخطف من أرضنا"/، والاختطاف: الانتزاع بسرعة. قال الله تعالى: " أولم نمكن لهم حرما آمنا "، وذلك أن العرب في الجاهلية كانت تغير بعضهم على بعض، ويقتل بعضهم بعضاً، وأهل مكة آمنون حيث كانوا، لحرمة الحرم، ومن المعروف أنه كان يأمن فيه الظباء من الذئاب والحمام من الحدأة، "يجبى"، قرأ أهل المدينة ويعقوب: تجبى بالتاء لأجل الثمرات، والآخرون بالياء للحائل بين الاسم المؤنث والفعل، أي: يجلب ويجمع، "إليه"، يقال: جبيت الماء في الحوض أي: جمعته، قال مقاتل: يحمل إلى الحرم، "ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون"، أن ما يقوله حق.
58- "وكم أهلكنا من قرية"، أي من أهل قرية، "بطرت معيشتها"، أي: في معيشتها، أي: أشرت وطغت، قال عطاء: عاشوا في البطر فأكلوا رزق الله وعبدوا الأصنام، "فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً"، قال ابن عباس رضي الله عنهما: لم يسكنها إلا المسافرون ومار الطريق، يوماً أو ساعة، معناه: لم تسكن من بعدهم إلا سكوناً قليلاً. وقيل: معناه: لم يعمر منها إلا أقلها وأكثرها خراب، "وكنا نحن الوارثين"، كقوله: "إنا نحن نرث الأرض ومن عليها" (مريم-40).
59- "وما كان ربك مهلك القرى"، أي: القرى الكافرة وأهلها، "حتى يبعث في أمها رسولاً"، يعني: في أكبرها وأعظمها رسولاً ينذرهم، وخص الأعظم ببعثة الرسول فيها، لأن الرسول يبعث إلى الأشراف، والأشراف يسكنون المدائن، والمواضع التي هي أم ما حولها، " تتلو عليهم آياتنا "، قال مقاتل: يخبرهم الرسول أن العذاب نازل بهم إن لم يؤمنوا، "وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون"، مشركون، يريد: أهلكتهم بظلمهم.(1/11)
================================
قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (القصص : 85)
تفسير البغوي:
قوله تعالى: "إن الذي فرض عليك القرآن"، أي: أنزل عليك القرآن على قول أكثر المفسرين، وقال عطاء:أوجب عليك العمل بالقرآن، "لرادك إلى معاد"، إلى مكة، وهي رواية العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما،وهو قول مجاهد. قال القتيبي: معاد الرجل: بلده، لأنه ينصرف ثم عود إلى بلده، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من الغار مهاجراً إلى المدينة سار في غير الطريق إلى مكة اشتاق إليها، فأتاه جبريل عليه السلام وقال: أتشتاق إلى بلدك ومولدك؟ قال: نعم، قال: فإن الله تعالى يقول: "إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد"، وهذه الآية نزلت بالجحفة ليست بمكية ولا مدنية. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: "لرادك إلى معاد" إلى الموت. وقال الزهري وعكرمة: إلى القيامة. وقيل: إلى الجنة. "قل ربي أعلم من جاء بالهدى"، أي: يعلم من جاء بالهدى، وهذا جواب لكفار مكة لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إنك لفي ضلال، فقال الله عز وجل: قل لهم ربي أعلم من جاء بالهدى، يعني نفسه، "ومن هو في ضلال مبين"، يعني المشركين، ومعناه: أعلم بالفريقين.
=============================================
قال تعالى : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ)( العنكبوت:67)
تفسير البغوي:
"أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم"، يعني العرب، يسبي بعضهم بعضاً، وأهل مكة آمنون، "أفبالباطل"، بالأصنام والشيطان، "يؤمنون وبنعمة الله"، بمحمد والإسلام، "يكفرون".
===============================(1/12)
قال تعالى : ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِير)ِ (الشورى:7)
تفسير البغوي:
" وكذلك "، مثل ما ذكرنا، " أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أم القرى "، مكة، يعني: أهلها، " ومن حولها "، يعني قرى الأرض كلها، " وتنذر يوم الجمع "، أي: تنذرهم بيوم الجمع وهو يوم القيامة يجمع الله الأولين والآخرين وأهل السموات وأهل الأرضين " لا ريب فيه "، لا شك في الجمع أنه كائن ثم بعد الجمع يتفرقون. " فريق في الجنة وفريق في السعير ". أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، حدثنا أبو منصور الخشماذي ، حدثنا أبو العباس الأصم ، حدثنا أبو عثمان سعيد بن عثمان التنوخي ، حدثنا بشر بن بكر ، حدثني سعيد بن عثمان عن أبي الزاهر ، حدثنا جرير بن كريب عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال الثعلبي : وأخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري ، حدثنا أبو بكر بن مالك القطيعي ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثني أبي، حدثنا حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا ليث، حدثني أبو قبيل المعافري عن شفي الأصبحي عن عبد الله بن عمرو قال: " خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم قابضاً على كفيه ومعه كتابان، فقال:أتدرون ما هذان الكتابان؟ قلنا: لا يا رسول الله، فقال: للذي في يده اليمنى: هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وعشائرهم وعدتهم قبل أن يستقروا نطفاً في الأصلاب، وقبل أن يستقروا نطفاً في الأرحام إذ هم في الطينة منجدلون فليس بزائد فيهم ولا ناقص منهم، إجمال من الله عليهم إلى يوم القيامة، [ثم قال للذي في يساره: هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء أهل النار وأسماء آبائهم وعشائرهم وعدتهم قبل أن يستقروا نطفاً في الأصلاب،(1/13)
وقبل أن يستقروا نطفاً في الأرحام إذ هم في الطينة منجدلون، فليس بزائد فيهم ولا بناقص منهم، إجمال من الله عليهم إلى يوم القيامة]، فقال عبد الله بن عمرو: ففيم العمل إذاً يارسول الله؟ فقال: اعملوا وسددوا وقاربوا، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة، وإن عمل أي عمل، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل، ثم قال: " فريق في الجنة " فضل من الله، " وفريق في السعير"، عدل من الله عز وجل ".
=========================================
قال تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً ) ( الفتح:24)
تفسير البغوي:(1/14)
. قوله عز وجل: " وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيراً "، قرأ أبو عمرو بالياء، وقرأ الآخرون بالتاء، واختلفوا في هؤلاء: أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا عمرو بن محمد الناقد ، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بن مالك رضي الله عنهم: أن ثمانين رجلاً من أهل مكة، هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين يريدون غدر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأخذهم سلماً فاستحياهم، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: " وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم ". قال عبد الله بن مغفل المزني : " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية في أصل الشجرة التي قال الله تعالى في القرآن، وعلى ظهره غصن من أغصان تلك الشجرة فرفعته عن ظهره، وعلي بن أبي طالب بين يديه يكتب كتاب الصلح، فخرج علينا ثلاثون شاباً عليهم السلاح فثاروا في وجوهنا، فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ الله بأبصارهم فقمنا إليهم فأخذناهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: جئتم في عهد؟ أو هل جعل لكم أحد أماناً؟فقالوا: اللهم لا، فخلى سبيلهم، [فأنزل الله عز وجل هذه الآية]".
قال تعالى : (لاأُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَد)(ِالبلد:1)
"لا أقسم"، يعني أقسم، "بهذا البلد"، يعني مكة.
=================================
قال تعالى : ( وَهَذَا الْبَلَدِ الأمِينِ ) (التين:3)
تفسير البغوي:
"وهذا البلد الأمين"، أي الآمن، يعني: مكة، يأمن فيه الناس في الجاهلية والإسلام،
الكعبة المشرفة(1/15)
قال تعالى : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) (البقرة:125)
تفسير البغوي:
قال الله تعالى " وإذ جعلنا البيت " يعني الكعبة " مثابة للناس " مرجعاً لهم، قال مجاهد و سعيد بن جبير : يأتون إليه من كل جانب ويحجون، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: معاذاً وملجأ وقال قتادة و عكرمة : مجمعاً " وأمنا " أي مأمناً يأمنون فيه من إيذاء المشركين، فإنهم ما كانوا يتعرضون لأهل مكة ويقولون: هم أهل الله ويتعرضون لمن حوله كما قال الله تعال: " أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم " (67-العنكبوت). أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن اسماعيل أنا علي بن عبد الله أنا جرير عن منصور عن مجاهد عن طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: " إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاه فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلا الإذخر ". قوله تعالى " واتخذوا " قرأ نافع و ابن عامر بفتح الخاء على الخبر، وقرأ الباقون بكسر الخاء على الأمر " من مقام إبراهيم مصلى " قال ابن يمان : المسجد كله مقام إبراهيم، وقال إبراهيم النخعي : الحرم كله مقام إبراهيم، وقيل: أراد بمقام إبراهيم جميع مشاهد الحج، مثل عرفة ومزدلفة وسائر المشاهد. والصحيح أن مقام إبراهيم هو الحجر الذي في المسجد يصلي إليه الأئمة، وذلك الحجر الذي قام عليه إبراهيك عليه السلام عند بناء البيت، وقيل: كان(1/16)
أثر أصابع رجليه بيناً فيه فاندرس من كثرة المسح بالأيدي، قال قتادة و مقاتل و السدي : أمروا بالصلاة عند مقام إبراهيم ولم يؤمروا بمسحه وتقبيله. أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن اسماعيل أنا مسدد عن يحيى بن حميد عن أنس قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (( وافقت الله في ثلاث - أو وافقني ربي في ثلاث - قلت يا رسول الله لو اتخذت مقام إبراهيم مصلى؟ فأنزل الله تعالى " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " وقلت يا رسول الله: يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب؟ فأنزل الله عز وجل آية الحجاب، قال وبلغني معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه فدخلت عليهن فقلت لهن: إن انتهيتن، أو ليبدلنه الله خيراً منكن، فأنزل الله تعالى: " عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن " (5-التحريم). ورواه محمد بن اسماعيل أيضاً عن عمرو بن عوف أنا هشيم عن حميد عن أنس رضي الله عنه قال: قال عمر رضي الله عنه: وافقت ربي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ". وأما بدء قصة المقام فقد روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أتى إبراهيم عليه السلام بإسماعيل وهاجر ووضعهما بمكة، وأتت على ذلك مدة، ونزلها الجرهميون وتزوج إسماعيل منهم امرأة وماتت هاجر، واستأذن إبراهيم سارة أن يأتي هاجر، فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل فقدم إبراهيم مكة، وقد ماتت هاجر، فذهب إلى بيت إسماعيل فقال لامرأته: أين صاحبك؟ قالت ذهب للصيد وكان إسماعيل عليه السلام يخرج من الحرم فيصيد، فقال لها إبراهيم: هل عندك ضيافة؟ قالت ليس عندي ضيافة، وسألها عن عيشهم؟ فقالت: نحن في ضيق وشدة، فشكت إليه فقال لها: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له فليغير عتبة بابه، فذهب إبراهيم فجاء إسماعيل فوجد ريح أبيه فقال [لامرأته: هل جاءك(1/17)
أحد؟ قالت: جاءني شيخ صفته كذا وكذا كالمستخفة بشأنه قال] فما قال لك؟ قالت: قال: أقرئي زوجك السلام وقولي له فليغير عتبة بابه، قال ذلك أبي وقد أمرني أن أفارقك الحقي بأهلك، فطلقها وتزوج منهم أخرى، فلبث إبراهيم ما شاء الله أن يلبث، ثم استأذن سارة أن يزور إسماعيل فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل، فجاء إبراهيم عليه السلام حتى انتهى إلى باب إسماعيل فقال لامرأته: أين صاحبك؟ قالت ذهب يتصيد وهو يجىء الآن إن شاء الله فانزل يرحمك الله، قال: هل عندك ضيافة؟ قالت: نعم فجاءت باللبن واللحم، وسألها عن عيشهم؟ فقالت: نحن بخير وسعة، فدعا لهما بالبركةولو جاءت يومئذ بخبز بر أو شعير وتمر لكانت أكثر أرض الله براً أو شعيراً أو تمراً، فقالت له: انزل حتى أغسل رأسك، فلم ينزل فجاءته بالمقام فوضعته عن شقه الأيمن فوضع قدمه عليه فغسلت شق رأسه الأيمن ثم حولت إلى شقه الأيسر فغسلت شق رأسه الأيسر فبقي أثر قدميه عليه، فقال لها: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له قد استقامت عتبة بابك، فلما جاء إسماعيل، وجد ريح أبيه فقال لامرأته: هل جاءك أحد؟ قالت: نعم شيخ أحسن الناس وجهاً وأطيبهم ريحاً، وقال لي كذا وكذا وقلت له كذا وكذا، وغسلت رأسه وهذا موضع قدميه فقال: ذاك إبراهيم النبي أبي، وأنت العتبة أمرني أن أمسكك. وروي عن سعيد بن جبير / عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ثم لبث عنهم ما شاء الله ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاً تحت دومة قريباً من زمزم، فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد ثم قال: يا إسماعيل إن الله تعالى أمرني بأمر تعينني عليه؟ قال: أعينك قال: إن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتاً، فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام إبراهيم على حجر المقام وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان ( ربنا تقبل منا إنك(1/18)
أنت السميع العليم ) وفي الخبر: (( الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة ولولا ماسته أيدي المشركين لأضاء ما بين المشرق والمغرب )). قوله عز وجل " وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل " أي أمرناهما وأوحينا إليهما، قيل: سمي إسماعيل لأن إبراهيم كان يدعو الله أن يرزقه ولداً ويقول: إسمع يا إيل وإيل هو الله فلما رزق سماه الله به " أن طهرا بيتي " يعنى الكعبة أضافه إليه تخصيصاً وتفضيلاً أي ابنياه على الطهارة والتوحيد، وقال سعيد بن جبير و عطاء : طهراه من الأوثان والريب وقول الزور، وقيل: بخراه وخلقاه، قرأ أهل المدينة وحفص (بيتي) بفتح الياء هاهنا وفي سورة الحج، وزاد حفص في سورة نوح " للطائفين " الدائرين حوله " والعاكفين " المقيمين المجاورين " والركع " جمع راكع " السجود " جمع ساجد وهم المصلون قال الكلبي و مقاتل : الطائفين هم الغرباء والعاكفين أهل مكة، قال عطاء و مجاهد و عكرمة : الطواف للغرباء أفضل، والصلاة لأهل مكة أفضل.
==================================
قال تعالى : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران:96&97)
تفسير البغوي:(1/19)
قوله تعالى :" إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً" سبب (نزول هذه الآية) أن اليهود قالوا للمسلمين : بيت المقدس قبلتنا ، وهو أفضل من الكعبة وأقدم وهو مهاجر الأنبياء ،ب وقال المسلمون بل الكعبة أفضل ، فانزل الله تعالى :" إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين". " فيه آيات بينات مقام إبراهيم ، ومن دخله كان آمناً" ، وليس شئ من هذه الفضائل لبيت المقدس. واختلف العلماء في قوله تعالى :" إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة" ، فقال بعضهم : هو أول بيت ظهر على وجه الماء عد خلق ( السماء) والأرض، خلقه الله قبل الأرض بألفي عام ، وكانت زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض من تحته ، هذا قول عبد الله بن عمر ومجاهد وقتادة والسدي. وقال بعضهم : هو أول بيت بني في الأرض ، روي عن علي بن الحسين : أن الله تعالى وضع تحت العرض بيتاً وهو البيت المعمور ، وأمر الملائكة ان يطوفوا به ، ثم امر الملائكة الذين هم سكان الارض ان بينوا في الارض بيتاً على مثاله وقدرة ، فبنوا واسمه الضراح ن وأمر من في الارض ان يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور. وروي أن الملائكة بنوه قب لخلق آم بألفي عام، وكانوا يحجونه ، فلما حجه آدم قالت الملائكة : بر حجك يا آدم ، حججنا هذا البيت قبلك بألف عام ، ويروى عن ابن عباس رضي اله عنه انه قال: أراد به أنه أول عن علي بن أبي طالب ، قال الضحاك : أول بيت وضع فيه البركة ، وقيل: أول بيت وضع للناس يحج اليه . وقيل: أول بيت جعل قبلة للناس . وقال الحسن والكلبي : معناه : أول مسجد ومتعبد وضع للناس يعبد الله فيه كما قال الله تعالى : ( في بيوت إذن الله أن ترفع ) يعني المساجد. اخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل اخبرنا موسى بن إسماعيل اخبرنا عبد الواحد أنا الأعمش أخبرنا إبراهيم بن يزيد التيمي عن أبيه قال سمعت أبا ذر يقول : "قلت(1/20)
يارسول الله أي مسجد وضع في الأرض أولاً ؟ قال:المسجد الحرام ، قلت ثم أي ؟ قال: المسجد الأقصى ، قلت : كم كان بينهما ؟ قال : أربعون سنة ، ثم أينما أدركتك الصلاة بعد فصل فإن الفضل فيه". قوله تعالى :"للذي ببكة" قال جماعة : هي مكة نفسها ، وهو قول الضحاك ، والعرب تعاقب بين الباء والميم ، فتقول : سبد رأسه وسمده ، وضربه لازب ولازم ، وقال الآخرون : بكة موضع البيت ومكة اسم البلد كله. وقيل : بكة موضع البيت والمطاق ، سميت بكة : لأن الناس يتباكون فيها ، أي يزدحمون يبك بعضهم بعضاظً ويصلي بعضهم بين يدي بعض ويمر بعضهم بين يدي بعض. وقال عبد الله بن الزبير سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة ، أي تدقها فل يقصدها جبار بسور الا قصمه الله. وأما مكة سميت بذلك لقلة مائها ، من قول العرب : مك الفصيل ضرع أمه وأمتكه إذا امتص كل مافيه من اللبن ، وتدعى أم رحم لأن الرحمة تنزل بهاز "مباركاً" نصب على الحال ، أي : ذا بركة " وهدى للعالمين" لأنه قبلة المؤمنين " فيه آيات بينات " قرأ ابن عباس" آية بينة " على الوحدان ، وأراد مقام إبراهيم وحده ، وقرأ الاخرون " آيات بينات" بالجمع، فذكر منها مقام إبراهيم (وهو الحجر) الذي قام عليه إبراهيم ، وكان أثر قدميه فيه فاندرس من كثرة المسح بالأيدي ، ومن تلك الآيات : الحجر السود والحطيم وزمزم والمشاعر كلها ، وقيل: مقام إبراهيم جميع الحرم ، ومن الآيات في البيت أن الطير تطير فلا تعلو فوقه ، وأن الجارحة إذا قصدت صيداً فإذا دخل الصيد الحرم كفت عنه ، وإنه بلد صدر إليه الأنبياء والمرسلون والأولياء والأبرار ، وإن الطاعة والصدقة فيها تضاعف بمائة الف. أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أبو محمد الحسن بن احمد المخلدي ، أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحق السراج ن أخبرنا أبو مصعب احمد بن أبي بكر الزهري انا مالك بن أنس عن زيد بن رباح وعبيد الله بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله الأغر عن ابي هريرة(1/21)
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة ، فيما سواه إلا المسجد الحرام". قوله عز وجل:" ومن دخله كان آمناً" من ان يحاج فيه ن وذلك بدعاء ابراهيم عليه السلام حيث قال : رب اجعل هذا بداً آمناً ، وكانت العرب في الجاهلية يقتل بعضهم بعضاً ويغير بعضهم على بعض ومن دخل الحرم امن من القتل والغارة وهو المراد من الآية على قول الحسن وقتادة وأكثر المفسرين قال الله تعالى :" أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمنا ويتخطف الناس من حولهم " سورة العنكبون الآية 67)، وقيل : المراد به أن من دخله عام عمرة القضاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان آمناً ، كما قال تعالى " لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين" (سورة الفتح، الآية 27) وقيل: هو خبر بمعنى الأمر تقديره : ومن دخله فأمنوه ، كقوله تعالى" فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج " البقرة -197) ، أي : لا ترفثوا ولا تفسقوا ، حتى ذهب بعض أهل العلم إلى أن من وجب عليه القتل قصاصاً او حداً فالتجأ إلى الحرم فلا يستوفى منه فيه ولكنه ( لا يطعم ) ولا يبايع ولا يشارى حتى يخرج منه ، فيقتل ، قاله ابن عباس ، وبه قال أبو حنيفه ، وذهب قوم الى أن القتل الواجب بالشرع يستوفى فيه أما اذا ارتكب الجريمة في الحرم يستوفي فيه عقوبته بالانفاق. وقيل: معناه ومن دخله معظماً له متقرباً إلى الله عز وجل كان آمناً يوم القيامة من العذاب قوله عز وجل(1/22)
97-" ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " أي: ولله فرض واجب على الناس حج البيت ، قرأ أبو جعفر وحمزة والكسائي وحفص " حج البيت " بكسرالحاء في هذا الحرف خاصة ، وقرأ الآخرون بفتح الحاء ، وهي لغة اهل الحجاز ، وهما لغتان فصيحتان ومعناهما واحد . والحج احد أركان الإسلام ، أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أنا عبد الله بن موسى أنا حنظلة بن أبي سفيان عن عكرمة بن خالد عن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" بني الاسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة/ والحج ، وصوم رمضان". قال اهل العلم : ولوجوب الحج خمس شرائط : الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والاستطاعة ، فلا يجب على الكافر ولا على المجنون ، ولو حجا بانفسهما لا يصح لأن الكافر ليس من أهل القربة ولا حكم (لفعل) المجنون ، ولا يجب على الصبي ولا على العبد ، ولو حج صبي يعقل ، أو عبد يصح حجمها تطوعاً لا يسقط به فرض الإسلام عنهما فلو بلغ الصبي، أو عتق العبد بعدما حج واجتمع في حقه شرائط ( وجوب) الحج ، وجب عليه أن يحج ثانياً ، ولا يجب على غير المستطيع ، لقوله تعالى :" من استطاع إليه سبيلاً" غير أنه لو تكلف فحج يسقط عنه فرض الإسلام. والاستطاعة نوعان ، احدهما : أن يكون مستطيعاً(بنفسه) ، والآخر : أن يكون مستطيعاً بفيره ، أما الاستطاعة بنفسه أن يكون قادراً بنفسه على الذهاب ووجد الزاد والراحلة ، أخبرنا عبد الواحد بن محمد الكسائي الخطيب ثنا عبد العزيز بن احمد الخلال ثنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع بن سليمان أخبرنا الشافعي أخبرنا سعيد بن سالم عن إبراهيم بن يزيد عن محمد بن عباد بن جعفر قال: فعدنا الى عبد الله ابن عمر فسمعته يقول : "سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ماالحاج ؟ قال(1/23)
:الشعث التفل، فقام رجل آخر فقال : يارسول الله : أي الحج أفضل ؟ قال : العج والثج فقام رجل آخر فقال : يارسول الله ما السبيل؟ قال: زاد وراحلة". وتفصيله : أن يجد راحلة تصلح لمثله ووجد الزاد للذهاب والرجوع ، فاضلاً عن نفقة عياله ومن تلزمه نفقتهم وكسوتهم لذهابه ورجوعه ، وعن دين يكون عليه ، ووجد رفقة يخرجون فيث وقت جرت عادة أهل بلدة بالخروج في ذلك الوقت ، فإن خرجوا قبله أو أروا الخرونج إلى وقت لا يصلون إلا أن يقطعوا كل يوم اكثر من مرحلة لا يلزمهم الخروج ( في ذلك الوقت )، ويشترط أن يكون الطريق آمناً ، فإن كان فيه خوف من عدو مسلم أو كافر او رصدي يطلب شيئاً لا يلزمه ، ويشترط ان تكون المنازل المأهولة معمورة يجد فيها الزاد والماء ، فإن كان زمان جدوبة تفرق اهلها او غارت مياهها، فلا يلزمه ولو لم يجد الراحلة لكنه قادر على المشي ، أو لم يجد الزاد لوكن يمكنه أن يكتسب في الطريق لا يلزمه الحج ، ويستحب لو فعل ، وعد مالك يلزمه. اما الاستطاعة بالغير هو : أن يكون الرجل عاجزاً بنفسه ، بأن كان زمناً او به مرض غير مرجو الزوال، لكن له مال يمكنه أن يستأجر من يحج عنه ، يجب عيه أن يستاجر ، أو لم يكن له مال لكن بذل له ولده أو أجنبي الطاعة في أن يحج عنه ، يلزمه أن يأمره اذا كان يعتمد صدقه ، لأن وجوب الحج ( يتعلق ) بالاستطاعة ، ويقال في العرف : فلان مستطيع لبناء دار وان كان لايفعله بنفسه ، وإنما يفعله بماله أو بأعوانه . وعند أبي حنيفة لا يجب الحج ببذل الطاعة ، وعند مالك لا يجب على المعضوب في المال. وحجة من أوجبه ما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عباس أنه قال : كان الفضل بن عباس رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه ، فجعل الفضل ينظر اليها وتنظر اليه ، فجعل رسول الله صلى(1/24)
الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل الى الشق الآخر ، فقالت : يارسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج ، أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة ، أفأحج عنه ؟ قال: نعم. قوله تعالى :" ومن كفر فإن الله غني عن العالمين " ، قال ابن عباس والحسن وعطاء : جحد فرض الحج ، وقال مجاهد : من كفر بالله واليوم الآخر. وقال سعيد بن المسيب: نزلت في اليهود حيث قالوا: الحج الى مكة غير واجب . وقال السدي : هو من وجد ما يحج به ثم لم يحج حتى مات فهو كفر به ، أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي أنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا أبو الحسن الكلماتي أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر ، أخبرنا سهل بن عمار اخبرنا يزيد بن هرون أخبرنا شريك عن الليث عن عبد الرحمن بن سابط عن ابي أمامه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من لم تحبسه حاجة ظاهرة أو مرض حابس أو سلطان جائر ، ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانياً".
===============================
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) ( المائدة:95)
تفسير البغوي:(1/25)
قوله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم "، أي: محرمون بالحج والعمرة ، وهو جمع حرام ، يقال : رجل حرام وامرأة حرام، وقد يكون(من ) دخول الحرم ، يقال : أحرم الرجل إذا عقد الإحرام ، وأحرم إذا دخل الحرم . نزلت في رجل يقال له أبو اليسر شد على حمار وحش وهو محرم فقتله. قوله تعالى : "ومن قتله منكم متعمداً " اختلفوا في هذا العمد فقال قوم : هو العمد بقتل الصيد مع نسيان الإحرام ، أما إذا قتله عمداً وهو ذاكر لإحرامه فلاحكم عليه ، وأمره إلى الله لأنه أعظم من أن يكون له كفارة، وهو قول مجاهد و الحسن. وقال آخرون : أن يعمد المحرم قتل الصيد ذاكرا ً لإحرامه فعليه الكفارة .واختلفوا فيما لو قتله خطأ ، فذهب أكثر الفقهاء إلى أن العمد والخطأ سواء في لزوم الكفارة، قال الزهري : على المتعمد بالكتاب وعلى المخطئ بالسنة ، وقال سعيد بن [ جبير ] : لا تجب كفارة الصيد بقتل الخطأ بل يختص بالعمد . قوله عز وجل "فجزاء مثل " قرأ أهل الكوفة و يعقوب " فجزاء " منون ، " مثل " ، رفع على البدل من الجزاء ، وقرأ الآخرون بالإضافة " فجزاء مثل " ، " ما قتل من النعم " ، معناه أنه يجب عليه مثل ذلك الصيد من النعم ، وأراد به ما يقرب من الصيد المقتول شبها من حيث الخلقة لا من حيث القيمة . " يحكم به ذوا عدل منكم " أي : يحكم بالجزاء رجلان عدلان ، وينبغي أن يكونا فقيهين ينظران إلى أشبه الأشياء من النعم فيحكمان به ، وممن ذهب إلى إيجاب المثل من النعم عمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وابن عمر وابن عباس ، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم ، حكموا في بلدان مختلفة وأزمان شتى بالمثل من النعم ، يحكم حاكم في النعامة ببدنه وهي لا تساوي بدنه ، وفي حمار الوحش ببقرة (وهي لا تساوي بقرة ) وفي الضبع بكبش وهي لا تساوي كبشاً ، فدل على أنهم نظروا إلى ما يقرب من الصيد شبهاً من حيث الخلقة (لا من حيث القيمة) ، وتجب في الحمام شاة، وهو(1/26)
كل ما عب وهدر من الطير ، كالفاختة و القمري . وروي عن عمر وعثمان وابن عباس رضي الله عنهم أنهم قضوا في حمام مكة بشاة ، أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن أبي الزبير المكي عن جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضى في الضبع بكبش ، وفي الغزال بعنز ، وفي الأرنب بعناق ، وفي اليربوع بجفرة قوله تعالي : " هدياً بالغ الكعبة " ، أي : يهدي تلك الكفارة إلى الكعبة ، فيذبحها بمكة ويتصدق بلحمها على مساكين الحرم ، " أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً " ، قال الفراء رحمه الله : العدل بالكسر : المثل من جنسه ، والعدل بالفتح : المثل من غير جنسه ، وأراد به : أنه في جزاء الصيد مخير بين أن يذبح المثل من النعم ، فيتصدق بلحمه على مساكين الحرم ، وبين أن يقوم المثل دراهم ، والدراهم طعاماً ، فيتصدق بالطعام على مساكين الحرم ،أو يصوم عن كل مد من الطعام يوماً وله أن يصوم حيث شاء لأنه لا نفع فيه للمساكين . وقال مالك : إن لم يخرج المثل يقوم الصيد ثم يجعل القيمة طعاماً فيتصدق به ، أو يصوم . وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لا يجب المثل من النعم ، بل يقوم الصيد فإن شاء صرف تلك القيمة إلى شئ من النعم ، وإن شاء إلى الطعام فيتصدق به ، وأن شاء صام عن كل نصف صاع من بر أو صاع من غيره يوماً. وقال الشعبي و النخعي جزاء الصيد على الترتيب والآية حجة لمن ذهب إلى التخيير. قوله تعالى: " ليذوق وبال أمره " أي : جزاء معصيته ، "عفا الله عما سلف " ، يعني : قبل التحريم ، ونزول الآية ، قال السدي : عفا الله عما سلف في الجاهلية ، " و من عاد فينتقم الله منه " في الاخرة . " والله عزيز ذو انتقام " ، وإذا تكرر من المحرم قتل الصيد فيتعدد عليه الجزاء عند عامة أهل العلم ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : إذا قتل المحرم صيداً متعمداً يسأل هل قتلت قبله شيئاً من الصيد ؟ فإن(1/27)
قال نعم لم يحكم عليه ، وقيل له : اذهب ينتقم الله منك ، وإن قال لم أقتل قبله شيئاً حكم عليه ، فإن عاد بعد ذلك لم يحكم عليه ، ولكن يملأ ظهره وصدره ضرباً وجيعاً ، وكذلك حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في وج وهو واد بالطائف . واختلفوا في المحرم هل يجوز له أكل لحم الصيد أم لا ؟ فذهب قوم إلى أنه لا يحل له بحال ، ويروى ذلك عن ابن عباس ، وهو قول طاووس وبه قال سفيان الثوري ، واحتجوا بما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن احمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عبد الله بن عباس عن الصعب بن جثامة الليثي "أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً ، وهو بالأبواء أو بودان ، فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وجهي ، قال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم" وذهب الأكثرون إلى أنه يجوز للمحرم أكله إذا لم يصطد بنفسه ولا اصطيد لأجله أو بإشارته ، وهو قول عمر وعثمان وأبي هريرة ، وبه قال عطاء و مجاهد و سعيد بن جبير ، وهو مذهب مالك و الشافعي و أحمد و إسحاق وأصحاب الرأي ، وإنما رد النبي صلى الله عليه وسلم على الصعب بن جثامة لأنه ظن أنه صيد من أجله . والدليل على جوازه ما أخبرنا ابو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن ابي النضر مولى عمر بن عبيد الله التيمي عن نافع مولى أبي قتادة " عن أبي قتادة بن ربعي الأنصاري رضي الله عنه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان ببعض طريق مكة ، تخلف مع أصحاب له محرمين وهو غير محرم فرأى حماراً وحشياً فاستوى على فرسه وسأل أصحابه أن يناولوه سوطه فأبوا فأخذه ثم شد على الحمار فقتله، فأكل منه بعض أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم ، وأبى بعضهم فلما أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن(1/28)
ذلك ، فقال : إنما هي طعمة أطعمكموها الله تعالى ." أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن احمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع أنا الشافعي أنا إبراهيم بن محمد عن عمرو بن أبي عمرو عن المطلب بن حنطب عن جابربن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لحم الصيد لكم في الإحرام حلال ، مالم تصيدوه أو يصاد لكم " ، قال أبو عيسى : المطلب لا نعرف له سماعاً من جابر بن عبد الله رضى الله عنه. وإذا أتلف المحرم شيئاً من الصيد لا مثل له من النعم مثل بيض أو طائر دون الحمام ففيه قيمة يصرفها إلى الطعام ، فيتصدق به أو يصوم عن كل مد يوما ً، واختلفوا في الجراد فرخص فيه قوم للمحرم وقالوا هو من صيد البحر ، روى ذلك عن كعب الأحبار ، والأ كثرون على أنها لا تحل ، فإن أصابها فعليه صدقه ، قال عمر : في الجراد تمرة ، وروي عنه وعن ابن عباس قبضة من طعام .
==================================
قال تعالى : ( جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ( المائدة :97)
تفسير البغوي:(1/29)
97- قوله عز وجل : " جعل الله الكعبة البيت الحرام " ، قال مجاهد : سميت كعبة لتربيعها ، والعرب تسمي كل بيت مربع كعبةً ، قال مقاتل : سميت كعبة لانفرادها من البناء ، وقيل : سميت كعبة لارتفاعها من الأرض ، وأصلها من الخروج والارتفاع ، وسمي الكعب كعباً لنتوئه ، وخروجه من جانبي القدم ، ومنه قيل للجارية إذا قاربت البلوغ وخرج ثديها : تكعبت . وسمي البيت الحرام : لأن الله تعالى حرمه وعظم حرمته ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السموات والأرض " ." قياماً للناس " ، قرأ ابن عامر " قيماً " بلا ألف والآخرون : (( قياماً )) بالألف ، أي قواماً لهم في أمر دينهم ودنياهم ، أما الدين لأن به يقوم الحج والمناسك ، وأما الدنيا فيما يجبى إليه من الثمرات ، وكانوا يأمنون فيه من النهب والغارة فلا يتعرض لهم أحد في الحرم ، قال الله تعالى : " أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم " ( العنكبوت -67) " والشهر الحرام " ، أراد به الأشهر الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ، أراد أنه جعل الأشهر الحرم قياماً للناس يأمنون فيها القتال ، " والهدي والقلائد " أراد أنهم كانوا يأمنون بتقليد الهدي ، فذلك القوام فيه .
===============================
قال تعالى : ( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ )( الحج:26)
تفسير البغوي:(1/30)
قوله عز وجل: " وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت "، أي: وطأنا. قال ابن عباس: جعلنا. وقيل: بينا قال الزجاج : جعلنا مكان البيت [مبوءاً لإبراهيم. وقال مقاتل بن حيان : هيأنا. وإنما ذكرنا مكان البيت] لأن الكعبة رفعت إلى السماء زمان الطوفان، ثم لما أمر الله تعالى إبراهيم ببناء البيت لم يدر أين يبني فبعث الله ريحاً خجوجاً فكنست له ما حول البيت على الأساس. وقال الكلبي : بعث الله سحابةً بقدر البيت فقامت بحيال البيت وفيها رأس يتكلم يا إبراهيم ابن على قدري فبني عليه. قوله تعالى: " أن لا تشرك بي شيئاً " أي: عهدنا إلى إبراهيم وقلنا له لا تشرك بي شيئاً، " وطهر بيتي للطائفين "، يعني: الذين يطوفون بالبيت، " والقائمين " أي: المقيمين، " والركع السجود "، أي: المصلين.
================================
العمرة
قال تعالى : ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ)(البقرة:158)
تفسير البغوي:(1/31)
قوله تعالى: " إن الصفا والمروة من شعائر الله " الصفا جمع صفاة وهي الصخور الصلبة الملساء، يقال: صفاة وصفا، مثل: حصاة وحصى ونواة ونوى، والمروة: الحجر الرخو، وجمعها مروات، وجمع الكثير مرو، مثل تمرة وتمرات وتمر. وإنما عنى الله بهما الجبلين المعروفين بمكة في طرفي ا لمسعى، ولذلك أدخل فيهما الألف واللام، وشعائر الله أعلام دينه، أصلها من الإشعار وهو الإعلام واحدتها شعيرة وكل ما كان معلماً لقربان يتقرب به إلى الله تعالى من صلاة ودعاء وذبيحة فهو شعيرة فالمطاف والموقف والنحر كلها شعائر الله ومثلها المشاعر، والمراد بالشعائر ها هنا: المناسك التي جعلها الله أعلاماً لطاعته، فالصفا والمروة منها حتى يطاف بهما جميعاً " فمن حج البيت أو اعتمر " فالحج في اللغة: القصد، والعمرة: الزيارة، وفي الحج والعمرة المشروعين قصد وزيارة " فلا جناح عليه " أي لا إثم عليه، وأصله من جنح أي مال عن القصد " أن يطوف بهما " أي يدور بهما، وأصله يتطوف أدغمت التاء في الطاء. وسبب نزول هذه الآية أنه كان على الصفا والمروة صنمان أساف ونائلة، وكان أساف على الصفا ونائلة على المروة، وكان أهل الجاهلية يطوفون بين الصفا والمروة تعظيماً للصنمين ويتمسحون بهما، فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام كان المسلمون يتحرجون عن السعي بين الصفا والمروة لأجل الصنمين فأذن الله فيه وأخبر أنه من شعائر الله. واختلف أهل العلم في حكم هذه الآية ووجوب السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة فذهب جماعة إلى وجوبه وهو قول ابن عامر وجابر وعائشة وبه قال الحسن وإليه ذهب مالك و الشافعي وذهب قوم إلى أنه تطوع وهو قول ابن عباس وبه قال ابن سيرين و مجاهد وإليه ذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي. وقال الثوري وأصحاب الرأي على من تركه دم. واحتج من أوجبه بما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الكسائي الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم أخبرنا(1/32)
الربيع عن سليمان أخبرنا الشافعي أخبرنا عبد الله بن مؤمل العائذي عن عمرو بن عبد الرحمن بن محيصن عن عطاء بن أبي رباح عن صفية بنت شيبة قالت: أخبرتني بنت أبي تجراة - اسمها حبيبة إحدى نساء بني عبد الدار - قالت: دخلت مع نسوة من قريش دار آل أبي حسين ننظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسعى بين الصفا والمروة فرأيته يسعى وإن مئزره ليدور من شدة السعي حتى لأقول إني لأرى ركبتيه، وسمعته يقول " اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي ". أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن هشان بن عروة عن أبيه أنه قال: قلت لعائشة زو ج النبي صلى الله عليه وسلم أرأيت قول الله تعالى " إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " فما أرى على أحد شيئاً ألا يطوف بهما، قالت عائشة: كلا لو كانت كما تقول كانت (( فلا جناح عليه أن يطوف بهما )) إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلون لمناة وكانت مناة حذو قديد فأنزل الله تعالى " إن الصفا والمروة من شعائر الله " الآية. قال عاصم : قلت لأنس بن مالك أكنتم تكرهون السعي بين الصفا والمروة؟ قال: نعم، لأنها كانت من شعائر الجاهلية حتىأنزل الله تعالى " إن الصفا والمروة من شعائر الله " أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من المسجد وهو يريد الصفا يقول " نبدأ بما بدأ الله تعالى به " فبدأ بالصفا. وقال كان إذا وقف على الصفا يكبر ثلاثاً ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وله الملك وله الحمد وهوعلى كل شيء قدير. يصنع ذلك ثلاث مرات ويدعو ويصنع على المروة مثل ذلك. كان إذا نزل من الصفا مشى حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي(1/33)
يسعى حتى يخرج منه. قال مجاهد : - رحمه الله - حج موسى عليه السلام على جمل أحمر وعليه عباءتان قطوانيتان، فطاف البيت ثم صعد الصفا ودعا ثم هبط إلى السعي وهو يلبي فيقول لبيك اللهم لبيك. فقال الله تعالى لبيك عبدي وأنا معك فخر موسى عليه السلام ساجداً. قوله تعالى: " ومن تطوع خيراً " قرأ حمزة و الكسائي بالياء وتشديد الطاء وجزم العين وكذلك الثانية " فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا " (184-البقرة) بمعنى يتطوع ووافق يعقوب في الأولى وقرأ الباقون بالتاء وفتح العين على الماضي وقال مجاهد : معناه فمن تطوع بالطواف بالصفا والمروة. وقال مقاتل و الكلبي : فمن تطوع: أي زاد في الطواف بعد الواجب. وقيل من تطوع بالحج والعمرة بعد أداء الحجة الواجبة عليه وقال الحسن وغيره: أراد سائر الأعمال يعني فعل غير المفترض عليه من زكاة وصلاة وطواف وغيرها من أنواع الطاعات " فإن الله شاكر " مجاز لعبده بعمله " عليم " بنيته. والشكر من الله تعالى أن يعطي لعبده فوق ما يستحق. يشكر اليسير ويعطي الكثير.
===============================
قال تعالى : ( وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)(البقرة:196)
تفسير البغوي:(1/34)
قوله عز وجل " وأتموا الحج والعمرة لله " قرأ علقمة و إبراهيم النخعي ( وأقيموا الحج والعمرة لله ) واختلفوا في إتمامها فقال بعضهم: هو أن يتمها بمناسكهما وحدودهما وسننهما، وهو قول ابن عباس وعلقمة و إبراهيم النخعي و مجاهد ، وأركان الحج خمسة .. الإحرام والوقوف بعرفة، وطواف الزيارة، والسعي بين الصفا والمروة، وحلق الرأس أو التقصير. وللحج تحللان، وأسباب التحلل ثلاثة: رمي جمرة العقبة يوم النحر وطواف الزيارة والحلق، فإذا وجد شيئان من هذه الأشياء الثلاثة حصل التحلل الأول، وبالثلاث حصل التحلل الثاني، وبعد التحلل الأول يستبيح جميع محظورات الإحرام إلا النساء، وبعد الثاني يستبيح الكل، و أركان العمرة أربعة: الإحرام، والطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة والحلق، وقال سعيد بن جبير و طاووس : تمام الحج والعمرة أن تحرم بهما مفردين مستأنفين من دويرة أهلك، ومثله عن ابن مسعود، وقال قتادة : تمام العمرة أن تعمل في غير أشهر الحج، [فإن كانت في أشهر الحج] ثم أقام حتى حج فهي متعة، وعليه فيها الهدي إن وجده، أو الصيام إن لم يجد الهدي، وتمام الحج أن يؤتى بمناسكه كلها حتى لا يلزم عامله دم بسبب قران ولا متعة وقال الضحاك : إتمامها أن تكون النفقة حلالاً وينتهي عما نهى الله عنه، وقال سفيان الثوري : إتمامها أن تخرج من أهلك لهما، ولا تخرج لتجارة ولا لحاجة. قال عمر بن الخطاب: الوفد كثير والحاج قليل، واتفقت الأمة على وجوب الحج على من استطاع إليه سبيلاً، واختلفوا في وجوب العمرة فذهب أكثر أهل العلم إلى وجوبها وهو قول عمر وعلي وابن عمر وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: والله عن العمرة لقرينة الحج في كتاب الله، قال الله تعالى: " وأتموا الحج والعمرة لله " وبه قال عطاء و مجاهد و طاووس و قتادة و سعيد بن جبير ، وإليه ذهب الثوري و الشافعي في أصح قوليه، وذهب قوم إلى أنها سنة وهو قول جابر وبه قال الشافعي وإليه ذهب مالك وأهل(1/35)
العراق وتأولوا قوله تعالى " وأتموا الحج والعمرة لله " على معنى أتموهما إذا دخلتم فيهما، أما ابتداء الشروع فيها فتطوع، واحتج من لم يوجبهما بما روي عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه سئل عن العمرة أواجبة هي؟ فقال: لا وأن تعتمروا خير لكم " والقول الأول أصح ومعنى قوله " وأتموا الحج والعمرة لله " أي ابتدؤوهما فإذا دخلتم فيهما فأتموهما فهو أمر بالابتداء والإتمام أي أقيموهما كقوله تعالى: " ثم أتموا الصيام إلى الليل " (187-البقرة) أي ابتدؤوه وأتموه. أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أبو منصور السمعاني أخبرنا أبو جعفر الرياني أخبرنا حميد بن زنجويه أخبرنا ابن أبي شيبة أخبرنا أبو خالد الأحمر عن عمرو بن قيس عن عاصم عن شقيق عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحج المبرور جزاء إلا الجنة " وقال ابن عمر: ليس من خلق الله أحد إلا وعليه حجة وعمرة واجبتان إن استطاع إلى ذلك سبيلاً كما قال الله تعالى " وأتموا الحج والعمرة لله " فمن زاد بعد ذلك فهو خير وتطوع، واتفقت الأمة على أنه يجوز أداء الحج والعمرة على ثلاثة أوجه: الإفراد والتمتع والقران، فصورة الإفراد أن يفرد الحج، ثم بعد الفراغ منه يعتمر وصورة التمتع أن يعتمر في أشهر الحج، ثم بعد الفراغ من أعمال العمرة، يحرم بالحج من مكة فيحج في هذا العام، وصورة القران: أن يحرم بالحج والعمرة معاً أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج قبل أن يفتتح الطواف فيصير قارناً، واختلفوا في الأفضل من هذه الوجوه: فذهب جماعة إلى أن الإفراد أفضل ثم التمنع ثم القران وهو قول مالك و الشافعي لما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن أبي الأسود محمد بن عبد(1/36)
الرحمن بن نوفل عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج، فأما من أهل بالعمرة فحل، وأما من أهل بالحج أو جمع بين الحج والعمرة فلم يحلوا حتى كان يوم النحر. أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أخبرنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع أخبرنا الشافعي أخبرنا مسلم عن ابن جريج عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر رضي الله عنه وهويحدث عن حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم لا ننوي إلا الحج، ولا نعرف غيره ولا نعرف العمرة، وروي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج وذهب قوم إلى أن القران أفضل وهو قول الثوري وأصحاب الرأي واحتجوا بما أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم أخبرنا محمد بن هشام بن ملاس النميري أخبرنا مروان بن معاوية الفزاري أخبرنا حميد قال: قال أنس بن مالك رضي الله عنه: أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " لبيك بحج وعمرة ". وذهب قوم إلى أن التمتع أفضل، وهو قول أحمد بن حنبل و إسحاق بن راهوية واحتجوا بما أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا يحيى بن بكير أخبرنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أن ابن عمر رضي الله عنهما قال: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج فتمتع الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج فكان من الناس من أهدى فساق الهدي ومنهم من لم يهد،(1/37)
فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس " من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت، ويسعى بين الصفا والمروة، وليقصر وليتحلل، ثم ليهل بالحج فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله"، فطاف حين قدم مكة، واستلم الركن أول شيء ثم خب ثلاثة أطواف ومشى أربعاً، فركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين، ثم سلم فانصرف، فأتى الصفا فطاف بالصفا والمروة سبعة أطواف، ثم لم يتحلل من شيء حرم منه حتى قضى حجه ونحر هديه يوم النحر وأفاض فطاف بالبيت، ثم حل من كل شيء حرم منه، وفعل مثل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهدى وساق الهدي من الناس. وعن عروة أن عائشة رضي الله عنها أخبرته عن النبي صلى الله عليه وسلم في تمتعه بالعمرة إلى الحج فتمتع الناس معه بمثل الذي أخبرني سالم عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال شيخنا الإمام رضي الله عنه، قد اختلفت الرواية في إحرام النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا وذكر الشافعي في كتاب اختلاف الأحاديث كلاماً موجزاً أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان منهم المفرد والقارن والمتمتع وكل كان يأخذ منه أمر نسكه ويصدر عن تعليمه، فأضيف الكل إليه على معنى أنه أمر بها وأذن فيها ويجوز في لغة العرب إضافة (الشييء) إلى الآمر به، كما يجوز إضافته إلى الفاعل له كما يقال بنى فلان داراً، وأريد أنه أمر ببنائها، وكما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزاً، وإنما أمر برجمه واختار الشافعي الإفراد لرواية قصة حجة الوداع وآخرها، ولفضل حفظ عائشة رضي الله عنها، وقرب ابن عمر من النبي صلى الله عليه وسلم. ومال الشافعي في اختلاف الأحاديث إلى التمتع، وقال ليس شيء من الاختلاف أيسر من هذا وإن كان الغلط فيه قبيحاً من جهة أنه مباح لأن الكتاب ثم السنة ثم مالا أعلم فيه خلافاً على أن التمتع بالعمرة(1/38)
إلى الحج وإفراد الحج والقران، واسع كله وقال: من قال إنه أفرد الحج يشبه أن يكون مقيماً على الحج إلا وقد ابتدأ إحرامه بالحج قال الشيخ الإمام رحمه الله: ومما يدل على أنه كان متمتعاً أن الرواية عن ابن عمر وعائشة متعارضة، وقد روينا عن ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (( تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في [حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وقال ابن شهاب عن عروة أن عائشة أخبرته عن النبي صلى الله عليه وسلم] في تمتعه بالعمرة إلى الحج، فتمتع الناس معه بمثل الذي أخبرني سالم عن ابن عمر وقال ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هذه عمرة استمتعنا بها ". وقال سعد بن أبي وقاص في المتعة: صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنعناها معه. قال الشيخ الإمام: وما روي عن جابر أنه قال: خرجنا لا ننوي إلا الحج - لا ينافي التمتع لأن خروجهم كان لقصد الحج، ثم منهم من قدم العمرة، ومنهم من أهل بالحج إلى أن أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعله متعة قوله تعالى " فإن أحصرتم " اختلف العلماء في الإحصار الذي يبيح للمحرم التحلل من إحرامه فذهب جماعة إلى أن كل مانع يمنعه عن الوصول إلى البيت الحرام والمعنى في إحرامه من عدو أو مرض أو جرح أو ذهاب نفقة أو ضلال راحلة، يبيح له التحلل، وبه قال ابن مسعود وهو قول إبراهيم النخعي و الحسن و مجاهد و عطاء و قتادة وعروة بن الزبير، وإليه ذهب سفيان الثوري وأهل العراق وقالوا: لأن الإحصار في كلام العرب هو حبس العلة أو المرض، وقال الكسائي وأبو عبيدة ما كان من مرض أو ذهاب نفقة يقال: منه أحصر فهو محصر وما كان من حبس عدو أو سجن يقال: منه حصر محصور، وإنما جعل هاهنا حبس العدو إحصاراً قياساً على المرض إذ كان في معناه، واحتجوا بما روي عن عكرمة عن الحجاج بن عمرو الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل ". قال عكرمة :(1/39)
فسألت ابن عباس وأبا هريرة فقالا صدق. وذهب جماعة إلى أنه لا يباح له التحلل إلا بحبس العدو وهو قول ابن عباس وقال لا حصر إلا حصر العدو، وروي معناه عن ابن عمر وعبد الله بن الزبير وهو قول سعيد بن المسيب و سعيد بن جبير وإليه ذهب الشافعي و أحمد و إسحاق ، وقالوا الحصر والإحصار بمعنى واحد. وقال ثعلب : تقول العرب حصرت الرجل عن حاجته فهو محصور، وأحصره العدو إذا منعه عن السير فهو محصر، واحتجوا بأن نزول هذه الآية في قصة الحديبية وكان ذلك حبساً من جهة العدو ويدل عليه قوله تعالى في سياق الآية " فإذا أمنتم " والأمن يكون من الخوف، وضعفوا حديث الحجاج بن عمرو بما ثبت عن ابن عباس أنه قال: لا حصر إلا حصر العدو، وتأوله بعضهم على أنه غنما يحل بالكسر والعرج إذا كان قد شرط ذلك في عقد الإحرام كما روي أن ضباعة بنت الزبير كانت وجعة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: " حجي واشترطي وقولي اللهم محلي حيث حبستني ". ثم المحصر يتحلل بذبح الهدي وحلق الرأس، والهدي شاة وهو المراد من قوله تعالى " فما استيسر من الهدي "، ومحل ذبحه حيث أحصر عند أكثر أهل العلم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذبح الهدي عام الحديبية بها، وذهب قوم إلى أن المحصر يقيم على إحرامه ويبعث بهديه إلى الحرم، ويواعد من يذبحه هناك ثم يحل، وهو قول أهل العراق. واختلف القول في المحصر إذا لم يجد هدياً ففي قول لا بد له فيتحلل والهدي في ذمته إلى أن يجد، والقول الثاني: له بدل، فعلى هذا اختلف القول فيه، ففي قول عليه صوم التمتع، وفي قول تقوم الشاة في فدية الطيب واللبس فإن المحرم إذا احتاج إلى ستر رأسه لحر أو برد أو إلى لبس قميص، أو مرض فاحتاج إلى مداواته بدواء فيه طيب فعل، وعليه الفدية، وفديته على الترتيب والتعديل فعليه ذبح شاة فإن لم يجد يقوم الشاة بدراهم والدراهم يشتري بها طعاماً فيتصدق به، فإن عجز صام عن كل مد يوماً. ثم المحصر إن كان إحرامه بغرض قد(1/40)
استقر عليه فلذلك الغرض في ذمته وإن كان بحج تطوع فهل عليه القضاء؟ اختلفوا فيه فذهب جماعة إلى أنه لا قضاء عليه وهو قول مالك و الشافعي ، وذهب وم إلى أن عليه القضاء، وهو قول مجاهد و الشعبي و النخعي وأصحاب الرأي. قوله تعالى " فما استيسر من الهدي " [أي فعليه ما تيسر من الهدي] ومحله رفع وقيل: ما في محل النصب أي فاهدي ما استيسر والهدي جمع هدية وهي اسم لكل ما يهدي إلى بيت الله تقرباً إليه، وما استيسر من الهدي شاة، قاله علي بن أبي طالب وابن عباس، لأنه أقرب إلى اليسر، وقال الحسن و قتادة : أعلاه بدنة وأوسطه بقرة وأدناه شاة. قوله تعالى: " ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله " اختلفوافي المحل الذي يحل المحصر ببلوغ هديه إليه فقال بعضهم: هو ذبحه بالموضع الذي أحصر فيه سواء كان في الحل أو في الحرم، ومعنى محله: حيث يحل ذبحه فيه وأكله. أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا عبد الله بن محمد أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر أخبرني الزهري أخبرني عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة في قصة الحديبية قال: فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: " قوموا فانحروا ثم احلقوا، فوالله ما قام رجل منهم حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد، دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك فاخرج، ثم لا تكلم أحداً منهم بكلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج ولم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً ". وقال بعضهم: محل هدي المحصر الحرم، فإن كان حاجاً فمحله يوم النحر، وإن كان معتمراً فمحله يوم يبلغ هديه الحرم قوله تعالى " فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه " معناه لا تحلقوا رؤوسكم(1/41)
في حال الإحرام إلا أن تضطروا إلى حلقه لمرض أو لأذى في الرأس من هوام أو صداع " ففدية " فيه إضمار، أي: فحلق فعليه فدية نزلت في كعب بن عجرة. أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا الحسن بن خلف أخبرنا إسحاق بن يوسف عن أبي بشر و رقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: حدثني عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه وقمله يسقط على وجهه فقال: أيؤذيك هوامك؟ قال نعم فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلق وهو بالحديبية ولم يبين لهم أنهم يحلون بها وهم على طمع أن يدخلوا مكة، فأنزل الله الفدية فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطعم فرقاً بين ستة مساكين أو يهدي شاة أو يصوم ثلاثة أيام. قوله تعالى: " ففدية من صيام " أي ثلاثة أيام " أو صدقة " أي ثلاثة آصع على ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع " أو نسك " واحدتها نسيكة أي ذبيحة، أعلاها بدنة وأوسطها بقرة وأدناها شاة، أيتها شاء ذبح، فهذه الفدية على التخيير والتقدير، ويتخير بين أن يذبح أو يصوم أو يتصدق، وكل حيث شاء، قوله تعالى: " فإذا أمنتم " أي من خوفكم وبرأتم من مرضكم " فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي " اختلفوا في هذه المتعة فذهب عبد الله بن الزبير إلى أن معناه: فمن أحصر حتى فاته الحج ولم يتحلل فقدم مكة يخرج من إحرامه بعمل عمرة واستمتع بإحلاله ذلك بتلك العمرة إلى السنة المستقبلة ثم حج فيكون متمتعاً بذلك الإحلال إلى إحرامه الثاني في العام القابل، وقال بعضهم معناه " فإذا أمنتم " وقد حللتم من إحرامكم بعد الإحصار ولم تقضوا عمرة، وأخرتم العمرة إلى السنة القابلة، فاعتمرتم في أشهر الحج ثم حللتم فاستمتعتم بإحلالكم إلى الحج ثم أحرمتم بالحج، فعليكم ما استيسر من الهدي، وهو قول علقمة و إبراهيم النخعي و سعيد بن جبير ، وقال ابن عباس و عطاء(1/42)
وجماعة: هو الرجل يقدم معتمراً من أفق من الآفاق في أشهر الحج فقضى عمرته وأقام حلالاً بمكة حتى أنشأ منها الحج فحج من عامه ذلك فيكون مستمتعاً بالإحلال من العمرة إلى إحرامه بالحج، فمعنى التمتع هو الاستمتاع بعد الخروج من العمرة بما كان محظوراً عليه في الإحرام إلى إحرامه بالحج. ولوجوب دم التمتع أربع شروط: أحدهما أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، والثاني أن يحج بعد الفراغ من العمرة في هذه السنة، والثالث أن يحرم بالحج في مكة ولا يعود إلى الميقات لإحرامه، الرابع أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام، فمتى وجدت هذه الشرائط فعليه ما استيسر من الهدي، وهو دم شاة يذبحه يوم النحر فلو ذبحها قبله بعد ما أحرم بالحج يجوز عند بعض أهل العلم كدماء الجنايات، وذهب بعضهم إلى أنه لا يجوز قبل يوم النحر كدم الأضحية. قوله تعالى: " فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج " أي صوموا ثلاثة أيام، يصوم يوماً قبل التروية ويوم التروية، ويوم عرفة، ولو صام قبله بعدما أحرم بالحج يجوز، ولا يجوز يوم النحر ولا أيام التشريق عند أكثر أهل العلم، وذهب بعضهم وذهب بعضهم لى جواز صوم الثلاث أيام التشريق. يروى ذلك عن عائشة وابن عمر وابن الزبير وهو قول مالك و الأوزاعي و أحمد و إسحاق . قوله تعالى " سبعة إذا رجعتم " أي صوموا سبعة أيام إذا رجعتم إلى أهليكم وبلدكم، فلو صام السبعة قبل الرجوع إلى أهله لا يجوز، وهو قول أكثر أهل العلم، روي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وقيل يجوز أن يصومها بعد الفراغ من أعمال الحج، وهوالمراد من الرجوع المذكور في الآية. قوله تعالى " تلك عشرة كاملة " ذكرها على وجه التأكيد وهذا لأن العرب ما كانوا يهتدون إلى الحساب فكانوا يحتاجون إلى فضل شرح وزيادة بيان، وقيل: فيه تقدم وتأخير يعني فصيام عشرة أيام ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجعتم فهي عشرة كاملة وقيل: كاملة الثواب والأجر، وقيل: كاملة فيما أريد به من إقامة الصوم بدل الهدي(1/43)
وقيل: كاملة بشروطها وحدودها، وقيل لفظه خبر ومعناه أمر أي فأكملوها ولا تنقصوها " ذلك " أي هذا الحكم " لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام " واختلفوا في حاضري المسجد الحرام، فذهب قوم إلى أنهم أهل مكة وهو قول مالك ، وقيل: هم أهل الحرم وبه قال طاووس من التابعين وقال ابن جريج : أهل عرفة والرجيع وضجنان ونخلتان، وقال الشافعي رحمه الله: كل من كان وطنه من مكة على أقل من مسافة القصر فهو من حاضري المسجد الحرام، وقال عكرمة : هم من دون الميقات، وقيل هم أهل الميقات فما دونه، وهو قول أصحاب الرأي، ودم القران كدم التمتع والمكي إذا قرن أو تمتع فلا هدي عليه، قال عكرمة : سئل ابن عباس عن متعة الحج فقال: أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأهللنا فلما قدمنا مكة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي ". فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة، وأتينا النساء ولبسنا الثياب ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج، فإذا فرغنا فقد تم حجنا وعلينا الهدي، فجمعوا نسكين في عام بين الحج والعمرة فإن الله أنزله في كتابه وسنة نبيه وأباحه للناس من غير أهل مكة قال الله تعالى: " ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ". ومن فاته الحج، وفواته يكون بفوات الوقوف بعرفة حتى يطلع الفجر يوم النحر، فإنه يتحلل بعمل العمرة، وعليه القضاء من قابل والفدية وهي على الترتيب والتقدير كفدية التمتع والقران. أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن نافع عن سليمان بن يسار أن هناد بن الأسود جاء يوم النحر وعمر بن الخطاب ينحر هديه فقال: يا أمير المؤمنين أخطأنا العدد، كنا نظن أن هذا اليوم يوم عرفة، فقال له عمر: اذهب إلى مكة فطف أنت ومن معك بالبيت واسعوا بين الصفا والمروة وانحروا هدياً إن كان معكم، ثم احلقوا أو قصروا ثم(1/44)
ارجعوا، فإذا كان عام قابل فحجوا واهدوا فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم. " واتقوا الله " في أداء الأوامر " واعلموا أن الله شديد العقاب " على ارتكاب المناهي.
فرضية الحج وآدابه
قال تعالى : (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) (البقرة:158)
أيسر التفاسير:
شرح الكلمات:
{ الصفا والمروة }: جبل مقابل البيت في الجهة الشرقية الجنوبية، والمروة جبل آخر مقابل الصفا من الجهة الشمالية والمسافة بينهما قرابة (760) ذراعاً.
{ شعائر الله }: أعلام دينه جمع شعيرة وهي العلامة على عبادة الله تعالى فالسعي بين الصفا والمروة شعيرة لأنه دال على طاعة الله تعالى.
{ الحج }: زيارة بيت الله تعالى لأداء عبادات معينة تسمى نسكاً.
{ العمرة }: زيارة بيت الله تعالى للطواف به والسعي بين الصفا والمروة والتحلل بحلق شعر الرأس أو تقصيره.
{ الجناح }: الاثم وما يترتب على المخالفة بترك الواجب أو بفعل المنهى عنه.
{ يطوَّف }: يسعى بينهما ذاهباً جائياً.
{ خيراً }: الخير اسم لكل ما يجلب المسرة، ويدفع المضرة والمراد به هنا العمل الصالح.
معنى الآية الكريمة:(1/45)
يخبر تعالى مقرراً فرضية السعي بين الصفا والمروة، ودافعاً ما توهمه بعض المؤمنين من وجود إثم في السعي بينهما نظراً إلى أنه كان في الجاهلية على الصفا صنم يقال له إسافٌ، وآخر علىالمروة يقال له نائلة يتمسح بهما من يسعى بين الصفا والمروة فقال تعالى: إن الصفا والمروة يعني السعي بينهما من شعائر الله أي عبادة من عباداته إذ تعبد بالسعي بينهما نبيه إبراهيم وولده إسماعيل والمسلمون من ذريتهما. فمن حج البيت لأداء فريضة الحج أو اعتمر لأداه واجب العمرة فليسع بينهما إداءً لركن الحج والعمرة ولا إثم عليه في كون المشركين كانوا يسعون بينهما لأجل الصنمين: اساف ونائلة.
ثم أخبر تعالى واعداً عباده المؤمنين أن من يتطوع منهم بفعل خير من الخيرات يجزه به وثبه عليه، لأنه تعالى يشكر بعباده المؤمنين أعمالهم الصالحة وثيبهم عليها لعلمه بتلك الأعمال ونيات أصحابها، هذا معنى قوله تعالى: { فمن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم }.
هداية الآية الكريمة:
من هداية الآية:
1- وجوب السعي بين الصفا والمروة لكل من طاف بالبيت حاجاً أو معتمراً وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي ". (رواه الدارقطني ولم يعل) وسعى صلى الله عليه وسلم في عمراته كلها وفي حجه كذلك.
2- لا حرج في الصلاة في كنيسيةٍ حولت مسجداً، ولا يضر كونها كانت معبداً للكفار.
3- الترغيب في فعل الخيرات من غير الواجبات، وذلك من سائر النوافل كالطواف والصلاة والصيام والصدقات والرباط والجهاد.
====================================
قال تعالى : (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (البقرة:189)
أيسر التفاسير:
شرح الكلمات:(1/46)
{ الأهلة }: جمع هلال وهو القمر في بداية ظهروه في الثلاثة الأيام الأولى من الشهر لأن النسا إذا رأوه رفعوا أصواتهم الهلال الهلال.
{ المواقيت }: جمع ميقات: الوقت المحدد المعلوم للناس.
{ إتيان البيوت من ظهورها }: أن يتسور الجدار ويدخل البيت تحاشياً أن يدخل من الباب.
{ ولكن البرّ من اتقى }: البر الموصل إلى رضوان الله الله برّ عبد اتقى الله تعالى بفعل أوامره واجتناب نواهيه فليس البر دخول البيوت من ظهورها.
{ الفلاح }: الفوز وهو النجاة من النار ودخول الجنة.
معنى الآية الكريمة:
روي أن بعض الصحابة رضوان الله عليهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلين: ما بال الهلال يبدو قيقاً، ثم يزيد حتى يعظم ويصبح بدراً، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما كان أول بدئه؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية: { يسألونك عن الأهلة } وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: هي مواقيت للناس وعلّة بدءها صغيرة ثم تتكامل ثم تنقص حتى المحاق هي أن يعرف الناس بها مواقيتهم التي يؤقتونهالأعمالهم فبوجود القمر على هذه الأحوال تعرف عدة النساء وتعرف الشهور فنعرف رمضان ونعرف شهر الحج ووقته، كما نعرف آجال العقود في البيع والإِيجار، وسداد الديون وما إلى ذلك. وكان الأنصار في الجاهلية إذا أحرم أحدهم بحج أو عمرة وخر جمن بيته وأراد أن يدخل لغرض خاص لا يدخل من الباب حتى لا يظله نجف الباب فيتسور الجدار ويدخل من ظهر البيت لا من بابه وكانوا يرون هذا طاعة وباً فأبطل الله تعالى هذا التعبد الجاهلي بقوله عز وجل: { وليس البر أن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر }. بر أهل التقوى والصلاح. وأمرهم أن يأتوا البيوت من أبوابها فقال: { وأتوا البيوت من أبوابها } ، وأمرهم بتقواه عز وجل ليفلحوا في الدنيا والآخرة. فقال { واتقوا الله لعلكم تفلحون }.
هداية الآية الكريمة:
من هداية الآية:
1- أن يسأل المرء عما ينفعه ويترك السؤال عما لا يعنيه.(1/47)
2- فائدة الشهور القمرية عظيمة إذ بها تعرف كثير من العبادات.
3- حرمة الابتداع في الدين ولو كان برغبة في طاعة الله تعالى وحصول الأجر.
4- الأمر بالتقوى المفضية إلى فلاح العبد ونجاته في الدارين.
===============================
قال تعالى : (وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )(البقرة:196)
أيسر التفاسير:
شرح الكلمات:
{ وأتموا الحج والعمرة لله }: فإتمامهما أن يحرم بهما من الميقات وأن يأتي بأركانهما وواجباتهما على الوجه المطلوب من الشارع، وأن يخلص فيهما لله تعالى.
{ فإن أحصرتم }: الحصر والإِحصار أن يعجز الحاج أو المعتمر عن إتمام حجه أو عمرته إما بعدوا يصده عن دخول مكة أو مرض شديد لا يقدر معه على مواصلة السير إلى مكة.
{ فما استيسر من الهدي }: أي فالواجب على من أحصر ما تيسر له من الهدي شاة أو بقرة أو بعير.
{ ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله }: لا يتحلل المحصر من إحرامه حتى يذبح ما تيسر له من الهدى فإن ذبح تحلل بحلق رأسه.
{ ففدية }: فالواجب هو فدية من صيام أو صدقة أو نسك.
{ فمن تمتع بالعمرة إلى الحج }: فمن أحرم بعمرة في أشهر الحج وتحلل وبقي في مكة ينتظر الحج وحج فعلاً فالواجب ما استيسر من الهدي.(1/48)
{ فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام }: فمن تمتع بالعمرة ولم يجد هدياً لعجزه عن فالواجب صيام عشرة أيام ثلاثة في مكة وسبعة في بلده.
{ ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام }: أي ما وجب من الهدي أو الصيام عند العجز وهو لغير أهل الحرم أما سكان مكة والحرم حولها وهم أهل الحرم فلا يجب عليهم شىء إن تمتعوا.
معنى الآية الكريمة:
يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يتموا الحج والعمرة له سبحانه وتعالى فيأتوا بها على الوجه المطلوب وأن يريدوا بهما الله تعالى، ويخبرهم أنهم إذا أحصروا فلم يتمكنوا من إتمامها فالواجب عليهم أن يذبحوا أن ينحروا ما تيسر لهم فإذا ذبحوا أو نحروا حلوا من إحرامهم، وذلك بحلق شعر رؤوسهم أو تقصيره، كما أعلمهم أن من كان منهم مريضاً أو به أذى من رأسه واضطر إلى حلق شعر رأسه أو لبس ثوب أو تغطية رأس فالواجب بعد أن يفعل ذلك فدية وهي واحد من ثلاثة على التخيير: صيام ثلاثة أيام إو إطعام ستة مساكين لكل مسكين حفنتان من طعام، أو ذبح شاة. كما أعلمهم أن من تمتع بالعمرة إلى الحج ولم يكن من سكان الحرم أن عليه ما استيسر من الهدي شاة أو بقرة أو بعير فإن لم يجد ذلك صام ثلاثة أيام في الحج من أول شهر الحجة إلى يوم التاسع منه وسبعة أيام إذا رجع إلى بلاده. وأمرهم بتقواه عز وجل وهي امتثال أوامره والأخذ بتشريعة وحذرهم من إهمال أمره والإِستخفاف بشرعه فقال: و { اتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب }.
هداية الآية :
1- وجوب إتمام الحج والعمرة لمن شرع فيهما بالإحرام من الميقات، وإن كان الحج تطوعاً والعمرة غير واجبة.
2- بيان حكم الإِحصار وهو ذبح شاة من مكان الإِحصار ثم التحلل بالحلق أو التقصير، ثم القضاء من قابل إن تيسر ذلك للعبد، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قضى هو وأصحابه العمرة التي صدوا فيها عن المسجد الحرام عام الحديبية.(1/49)
3- بيان فدية الأذى وهي أن من ارتكب محظوراً من محظورات الإِحرام بأن حلق أولبس مخيطاً أو غطى رأسه لعذر وجب عليه فدية وهي صيام أو إطعام أو ذبح شاة.
4- بيان حكم التمتع مفصلا وهو أن من كان من غير سكان مكة والحرم حولها إذا أحرم بعمرة في أشهر الحج وتحلل منها وبقى في مكرة وحجّ من عامه أن عليه ذبح شاة فإن عجز صام ثلاثة أيام في مكة وسبعة في بلاده.
5- الأمر بالتقوى وهى طاعة الله تعالى بامتثال أمره واجتناب نهيه، وتحذير من (تركها لما يترتب عليه من العقاب الشديد).
==============================================
قال تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )(البقرة:197-199)
أيسر التفاسير:
شرح الكلمات:
{ أشهر معلومات }: هي شوال والقعدة وعشر ليال من الحجة هذه هي الأشهر التي يحرم فيها بالحج.
{ فرض }: نوى الحج وأحرم به.
{ فلا رفث }: الرفث الجماع ومقدماته.
{ ولا فسوق }: الفسق والفسوق الخروج من طاعة الله بترك واجب أو فعل حرام.
{ الجدال }: المخاصمة والمنازعة.
{ الجناح }: الإِثم.
{ تبتغوا فضلاً }: تطلبوا ربحاً في التجارة من الحج.
{ أفضتم من عرافات }: الإِفاضة من عرفات تكون بعد الوقوف بعرفة يوم الحج وذلك بعد غروب الشمس من يوم التاسع من شهر الحجة.(1/50)
{ المشعر الحرام }: مزدلفة وذكْرُ الله تعالى عندها هو صلاة المغرب والعشاء جمعاً بها وصلاة الصبح.
معنى الآيات:
ما زال السياق في بيان أحكام الحج والعمرة فأخبر تعالى أن الحج له أشهر معلومة وهي شوال والعقدة وعشر ليال من الحجة فلا يحرم بالحج إلا فيها. وأن من أحرم بالحج يجب عليه أن يتجنب الرفث والفسق والجدال حتى لا يفسد حجه أو ينقص أجره، وانتدب الحاج إلى فعل الخير من صدقة وغيرها فقال: { وما تفعلوا من خير يعلمه الله } ولازمة أنه يثيب عليه ويجزي به. وأمر الحجاج أن يتزودوا لسفرهم في الحج بطعام وشراب يكفون به وجوههم عن السؤال فقال: وتزودّوا، وأرش دإلى خير الزاد وهو التقوى، ون التقوى عدم سؤال الناس أموالهم والعبد غير محتاج وأمرهم بتقواه عز وجل، أي بالخوف منه حتى لا يعصوه في أمره ونهيه فقال: { واتقون يا أولى الألباب } ، والله أحق أن يتقى لأنه الواحد القهار، ثم أباح لهم التجار أثناء وجودهم في مكة ومنى فقال: { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم } يريد رزقاً حلالاً بطريق التجارة المباحة، ثم أمرهم بذكر الله تعالى في مزدلفة بصلاة المغرب والعشاء والصبح فيها وذلك بعد إفاضتهم من عرفة بعد غروب الشمس فقال عز من قائل: { فإّا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام } ثم ذكرهم بنعمة هدايته لهم بعد الضلال الذي كانوا فيه وانتدبهم إلى شكره وذلك بالإِكثار من ذكره فقال تعالى: { واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الظالمين }. ثم أمرهم بالمساواة في الوقوف بعرفة والإِفاضة منها فليقفوا كلهم بعرفات. وليفيضوا جميعاً منها فقال عز وجل { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } ، وذلك أن الحمس كانوا يفيضون أدنى عرفات حتى ينجوا من الزحمة ويسلوا من الحطمة. وأخيراً أمرهم باستغفار الله أي طلب المغفرة منه ووعدهم بالمغفرة بقوله: { واستغفروا الله إن الله غفور رحيم }.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:(1/51)
1- حرمة الرفث والفسوق والجدال في الاحرام.
2- استحباب فعل الخيرات للحاج أثناء حجه ليعظم أجره ويبر حجه.
3- إباحة الاتجار والعمل للحاج طلبا للرزق على أن لا يحج لأجل ذلك.
4- وجب المبيت بمزدلفة الذكر الله تعالى.
5- وجوب شكر الله تعالى بذكره وطاعته على هدايته وإنعامه.
6- وجوب المساواة في أداء مناسك الحج بين سائر الحجاج فلا يتميز بعضهم عن بعض في أي شعيرة من شعائر الحج.
7- الترغيب في الاستغفار والاكثار منه.
=====================================
قال تعالى : (فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ * وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (البقرة:200-203)
أيسر التفاسير:
شرح الكلمات:
{ قضيتم }: أديتم وفرغتم منها.
{ المناسك }: جمع منسك وهي عبادات الحج المختلفة.
{ الخلاق }: الحظ والنصيب.
{ حسنة }: حسنة الدنيا كل ما يسر ولا يضر من زوجة صالحة وولد صالح ورزق حلال وحسنة الاخرة النجاة من النار ودخول الجنان.
{ قنا }: حظ وقسط من أعمالهم الصالحة ودعائهم الصالح.
{ الأيام المعدودات }: أيم التشريق الثلاثة بعد يوم العيد.
{ تعجل في يومين }: رمى يوم الأول والثاني وسافر.
{ ومن تأخر }: رمى الأيام الثلاثة كلها.
{ فلا إثم }: أي لا ذنب في التعجيل ولا في التأخر.(1/52)
{ لمن اتقى }: للذي اتقى ربّه بعدم ترك واجب أوجبه أو فعل حرام حرمه.
{ تحشرون }: تجمعون للحساب والجزاء يوم القيامة.
معنى الآيات:
بهذه لآيات الأربع انتهى الكلام على أحكام الحج ففي الآية الأولى: (200) يرشد تعالى المؤمنين إذا فرغوا من مناسكهم بأن رموا جمرة العقبة ونحروا وطافوا طواف الافاضة واستقروا بمنى للراحة والاستجمام أن يكثروا من ذكر الله تعالى عند رمى الجمرات، وعند الخروج من الصلوات ذكراً مبالغاً في الكثرة منه على النحو الذي كانوا في الجاهلية يذكرون فيه مفاخر آبائهم وأحساب أجدادهم. وبين تعالى حالهم وهي أن منهم من همه الدنيا فهو لا يسأل الله تعالى إلا ما يهمه منها، وهذا كان عليه أكثر الحجاج في الجاهلية، وأن منهم من يسأل الله تعالى خير الدنيا والآخرة وهم المؤمنون الموحدون فيقولون: { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار } ، وهذا متضمن تعليم المؤمنين وإرشادهم إلى هذا الدعاء الجامع والقصد الصالح النافع فلله الحمد والمنة وفي الآية (202) يخبر تعالى أن لأهل الدعاء الصالح وهم المؤمنون الموحدون نصيباً من الأجر على أعمالهم التي كسبوها في الدنيا، وهو تعالى سريع الحساب فيعجل لهم تقديم الثواب وهو الجنة وفي الآية (203) يأمر تعالى عبادة الحجاج المؤمنين بذكره تعالى في أيام التشريق عند رمي الجمار وبعد الصلوات الخمس قائلين الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد ثلاث مرات إلى عصر اليوم الثالث في أيام التشريق ثم أخبرهم الله تعالى بأنه لا حرج على من تعجل السفر إلى أهله بعد رمي اليوم الثاني، كما لا حرج على من تأخر فرمى اليوم الثالث فقال تعالى: { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه } فالأمر على التخيير وقيد نفي الإثم بتقواه عز وجل فمن ترك واجباً أو فعل محرماً فإن عليه إثم معصيته ولا يطهره منها إلا التوبة فنفي الإِثم مقيد بالتعجل(1/53)
وعدمه فقط. فكان قوله تعالى لمن اتقى قيداً جميلاً، ولذا فليستعدوا لذلك بذكره وشكره والحرص على طاعته.
من هداية الآيات:
1- وجوب الذكر بمنى عند رمي الجمرات إذ يكبر مع كل حصاة قائلاً الله أكبر.
2- فضيلة الذكر والرغبة في لأنه من محاب الله تعالى.
3- فضيلة سؤال الله تعالى الخيرين وعدم الاقتصار على أحدهمأ، وشره الاقتصار على طلب الدنيا وحطامها.
4- فضيلة دعاء { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار }. فهي جامعة للخيرين معاً، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا طاف بالبيت يختم بها كل شوط.
5- وجوب المبيت ثلاث ليالي بمعنى ووجوب رمي الجمرات إذ بها يتأتى ذكر الله في الأيام المعدودات وهي أيام التشريق.
6- الرخصة في التعجل لمن رمى اليوم الثاني.
7- الأمر بتقوى الله وذكر الحشر والحساب والجزاء إذ هذا الذكر يساعد على تقوى الله عز وجل.
قال تعالى : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)(آل عمران:96&97)
أيسر التفاسير:
شرح الكلمات:
{ ببكة }: مكة.
{ للعالمين }: للناس أجمعين.
{ مقام إبراهيم }: آية من الآيات وهو الحجر الذي قام عليه أثناء بناء البيت فارتسمت قدماه وهو صخر فكان هذا آية.
{ من دخله }: الحرم الذى حول البيت بحدوده المعروفة.
{ آمناً }: لا يخاف على نفس ولا مال ولا عرض.
{ الحج }: قصد البيت للطواف به وأداء بقية المناسك.
{ سبيلاً }: طريقاً والمراد القدرة على السير إلى البيت والقيام بالمناسك.
معنى الآيات:(1/54)
قوله تعالى: { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين } فإنه متضمن الرّد على اليهود الذين قالوا إن بيت المقدس هي أول قبلة شرع للناس استقبالها فَلِمَ يعدل محمد وأصحابه عنها إلى استقبال الكعبة؟ وهي متأخرة الوجود فأخبر تعالى أن أول بيت وضع للناس هو الكعبة لا بيت المقدس وأنه جعله مباركاً يدوم بدوام الدنيا والبركة لا تفارقه فكل من يلتمسها بزيارته وحجه والطواف به يجدها ويحظى بها، كما جعله هدى للعالمين فالمؤمنون يأتون حجاجاً وعماراً فتحصل لهم بذلك أناع من الهداية، والمصلون في مشارق الأرض ومغاربها يستقبلونه في صلاتهم، وفي ذلك من الهداية للحصول على الثواب وذكر الله التقرب إليه أكبر هداية وقوله تعالى فيه آيات بينات يريد: في المسجد الحرام دلائل واضحات منها مقام إبراهيم وهو الحجر الذي كان يقوم عليه أثناء بناء البيت حيث بقي أثر قدميه عليه مع أنه صخرة من الصخور ومنها زمزم والحِجْر والصفا والمروة وسائر المشاعر كلها آيات ومنها الأمن التام لمن دخله فلا يخاف غير الله تعالى. قال تعالى: { ومن دخله كان آمناً } ثم هذا الأمن له والعرب يعيشون في جاهلية جهلاء وفوضى لا حد لها، ولكن الله جعل في قلوبهم حرمة الحرم وقدسيته ووجوب آمن كل من يدخله ليحجه أو يعتمره، وقوله تعالى { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً } ، لمَّا ذكر تعالى البيت الحرام وما فيه من بركات وهدايات وآيات ألزم عباده المؤمنين به وبرسوله بحجة ليحصل لهم الخير والبركة والهداية، ففرضه بصيغة ولله على الناس وهي أبلغ صيغ الإِيجاب، واستثنى العاجزين عن حجه واعتماره بسبب مرض أو خوف أو قلة نفة للركوب والإِنفاق على النفس والأهل أيام السفر.(1/55)
وقوله تعالى في آخر الآية: { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } فإنه خبر منه تعالى بأن من كفر بالله ورسوله وحج بيته بعد ما ذكر من الآيات والدلائل الواضحات فإنه لا يضر إلا نفسه أما الله تعالى فلا يضره شيء وكيف وهو القاهر فوق عباده والغنى عنهم أجمعين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- البيت الحرام كان قبل بيت المقدس وأن البيت الحرام أول بيت وضع للتعبد بالطواف به.
2- مشروعية طلب البركة بزيارة البيت وحجه والطواف به والتعبد حوله.
3- وجوب الحج على الفور لمن لم يكن له مانع يمنعه من ذلك.
4- الإِشارة إلى كفر من يترك الحج وهو قادر عليه، ولا مانع يمنعه منه غير عدم المبالاة.
==========================================
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ((المائدة :1&2)
أيسر التفاسير:
شرح الكلمات:
{ أوفوا بالعقود } العقود: هي العهود التي بين العبد والرب تعالى وبين العبد وأخيه والوفاء بها: عدم نكثها والاخلال بمقتضاها.
{ بهيمة الانعام }: هي الإِبل والبقر والغنم.
{ وأنتم حرم }: أي محرمون بحج أو عمرة.(1/56)
{ شعائر الله }: جمع شعيرة وهي هنا مناسك الحج والعمرة، وسائر أعلام دين الله تعالى.
{ الشهر الحرام }: رجب وهو شهر مضر الذي كانت تعظمه.
{ الهدى }: ما يُهدى للبيت والحرم من بهيمة الأنعام.
{ القلائد }: جمع قلادة ما يقلد الهدى، وما يتقلده الرجل من لحاء شجر الحرم ليأمن.
{ آمين البيت الحرام: قاصدي يطلبون ربح تجارة أو رضوان الله تعالى.
{ وإذا حللتم }: أي من إحرامكم.
{ ولا يجرمنكم شنآن قوم }: أي لا يحملنكم بغض قوم أن تعتدوا عليهم.
{ أن صدوكم }: أي لأجل أن صدوكم.
{ البر والتقوى }: البر: كل طاعة لله ورسوله والتقوى: فعل ما أمر الله به ورسوله وترك ما نهى عنه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
{ الإِثم والعدوان }: الإِثم: سائر الذنوب، والعدوان: الظلم وتجاوز الحدود.
{ شديد العقاب }: أي عقابه شديد لا يطاق ولا يحتمل.
معنى الآيتين:
ينادى الحق تبارك وتعالى عباده المؤمنين بعنوان الإِيمان فيقولٌ يا أيها الذين آمنوا أي ما من آمنتم بي وبرسولي ووعدي ووعيدى أوفوا بالعقود فلا تحلوها وبالعهود فلا تنكثوها، فلا تتركوا واجباً ولا ترتكبوا منهياً، ولا تحرموا حلالاً ولا تحلو حراماً أحللت لم بهيمة الأنعام هي الإِبل البقر والغنم الا ما يتلى عليكم وهي الآتية في آية
{ حرمت عليكم الميتة والدم... }
فلا تحرموها وحرمت عليكم الصيد وأنتم حرم فلا تحلوه. وسلموا الأمر لي فلا تنازعوا فيما أحل وأحرم فإني أحكم ما أريد. هذا ما تضمنته الآية الأولى { يا ايها الذين آمنوا اوفوا بالعقود احلت لكم بهيمة الانعام إلا ما يتلى عليكم غير محلى الصيد وانتم حرم ان الله يحكم ما يريد }.(1/57)
أما الآية الثانية فقد تضمنت أحكاما بعضها نُسخ العمل به وبعضها محكم يعمل به الى يوم الدين المحكم والواجب العمل به تحريم شعائر الل وهي أعلام دينه من سائر ما فرض وأوجب، ونهى وحرم. فلا تستحل بترك واجب، ولا بفعل محرم، ومن ذلك مناسك بقول الله فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم الآية، ومن المنسوخ أيضاً هدي المشركين وقلائدهم والمشركون أنفسهم فلا يسمح لهم بدخول الحرم ولا يقبل منهم هدى، ولا يجيرهم من القتل تقليد أنفسهم بلحاء شجر الحرم ولو تقلدوا شجر الحرم كله. هذا معنى قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله، ولا الشهر الحرام ولا الهدى ولا القلائد ولا آمين. البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا } والمراد بالفضل الرزق بالتجارة في الحج، والمراد يالرضوان ما كان المشركون يطلبونه بحجهم من رضى الله ليبارك لهم في أرزاقهم ويحفظهم في حياتهم.
وقوله تعالى { وإذا حللتم فاصطادوا.. } خطاب للمؤمنين أذن لهم فى الاصطياد الذي كان محرماً وهم محرمون إذن لهم فيه بعد تحللهم من إحرامهم. وقوله تعالى {.. ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا } ينهى عباده المؤمنين أن يحملهم بغض قوم صدوهم يوم الحديبية عن دخول المسجد الحرام أن يعتدوا عليهم بغير ما أذن الله تعالى لهم فيه وهو قتالهم إن قاتلوا وتركهم إن تركوا. ثم أمرهم تعالى بالتعاون على البر والتقوى، أي على أداء الواجبات والفضائل، وترك المحرمات والرذائل، ونهاهم عن التعاون عن ضدها فقال عز وجل: { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإِثم والعدوان }.
ولما كانت التقوى تعم الدين كله فعلاً وتركاً أمرهم بها، فقال واتقوا الله بالإِيمان به ورسوله وبطاعتهما في الفعل والترك، وحذرهم من إهمال أمره بقوله { إن الله شديد العقاب } باحذروه بلزوم التقوى.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:(1/58)
1- وجوب الوفاء بالعهود التي بين الله تعالى وبين العبد والمحافظة على العقود التي بين العبد وأخيه العبد لشمول الآية ذلك.
2- إباحة أكل لحوم الإِبل والبقر والغنم إلا الميتة منها.
3- تحريم الصيد في حال الإِحرام وحليته بعد التحلل من الإِحرام وهو صيد البر لا البحر.
4- وجوب إحترام شعائر الدين كلها أذاء لما وجب أداؤه، وتركالما وجب تركه.
5- حرمة الاعتداء مطلقا حتى على الكافر.
6- وجوب التعاون بين المؤمنين على إقامة الدين، وحرمة تعاونهم على المساس به.
=====================================
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ * أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ )(المائدة:94-96)
أيسر التفاسير:
شرح الكلمات:
{ ليبلونكم }: ليختبرنكم.
{ الصيد }: ما يصاد.
{ تناله أيديكم }: كبيض الطير وفراخه.
{ ورماحكم }: جمع رمح، وما ينال به هو الحيوان على اختلافه.
{ ليعلم الله من يخافه بالغيب }: ليظهر الله تعالى بذلك الاختبار من يخافه بالغيب فلا يصيد.(1/59)
{ فمن اعتدى (بعد التحريم) }: بأن صاد بعد ما بلغه التحريم.
{ وأنتم حرم }: جمع حرام والحرام: المُحرم لحج أو عمرة ويقال رجل حرام وامرأة حرام.
{ من النعم }: النعم: الإِبل والبقر والغنم.
{ ذوا عدل منكم }: أي صاحبا عدالة من أهل العلم.
{ وبال أمره }: ثقل جزاء ذنبه حيث صاد والصيد حرام.
{ وللسيارة }: المسافرين يتزوّدون به في سفرهم. وطعام البحر ما يقذف به إلى الساحل.
معنى الآيات:
ينادي الرب تبارك وتعالى عباده المؤمنين ليعلمهم مؤكدا خبره بأنه يبلوهم اختباراً لهم ليظهر المطيع من العاصي فقال: { يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب } فحرم عليهم تعالى الصيد وهم حرم ثم ابتلاهم بوجوده بين أيديهم بحيث تناله أيديهم ورماحهم بكل يسر وسهولة على نحو ما ابتلى به بني إسرائيل في تحريم الصيد يوم السبت فكان السمك يأتيهم يوم سبتهم شُرّعاً ويوم لا يسبتون لا يأتيهم كذلك بلاهم ربهم بما كانوا يفسقون بيد أن المسلمين استجابوا لربهم وامتثلوا أمره، على خلاف بني إسرائيل فإنهم عصوا وصادقوا فمسخهم قردة خاسئين. وقوله تعالى { فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } ، أي فمن صاد بعد هذا التحريم فله عذاب أليم هذا ما دلت عليه الآية الأولى (94). أما الآية ا لثانية (95) وهي قوله تعالى: { يا أيها الذين أمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } فأكد لهم تحريم الصيد وبيّن لهم ما يترتب على ذلك من جزاء فقال { ومن قتله منكم متعمداً } فالحكم الواجب على من قتله جزاءً { مل ما قتل من النعم } وهى الإِبل والبقر تشبه الجمل وبقرة الوحش تشبه البقرة، والغزال يشبه التيس وهكذا فإن شاء من وجب عليه بعير أو بقرة أو تيس أو يسوقه إلى مكة الفقراء الحرم فليفعل وإن شاء اشترى بثمه طعاماً وتصدق به، إن شاء صام بدل كل نصف صاع يوماً لقوله تعالى: { هدياً بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً }(1/60)
وقوله تعالى: { هدياً بالغ الكعبة أو مخالفته وقوله تعالى: { عفا الله عما سلف } وقوله تعالى: { ليذوق وبال أمره } أي ثقل جزاء فإنه تعالى يقول { ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام } ومعناه أنه يعاقبه على معصيته ولا يحول دون مراده تعالى حائل ألا فاتقوه واحذروا الصيد وأنتم حرم، هذا ما دلت عليه الآية الثانية أما الثالثة (96) فقد أخبر تعالى بعد أن حرم على المؤمنين الصيد وهم حرم وواجب الجزاء على من صاد.
أخبر أنه امتناناً منه عليهم أحل لهم صيد البحر أي ما يصيدونه من البحر وهم حرم كما أحل لهم طعامه وهو ما يقذفه البحر من حيوانات ميتة على ساحله { متاعاً لكم وللسيارة } وهم المسافرون يتزودون به في سفرهم ويحرم عليهم صيد البر ما داموا حرماً، وأمرهم بتقواه أي بالخوف من عقوبته فيلزموا طاعته بفعل ما أوجب وترك ما حرم، وذكرهم بحشرهم جميعاً إليه يوم القيامة للحساب والجزاب فقال: { واتقو الله الذي إليه تحشرون }.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- اتبلاء الله تعالى لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية بكثرة الصيد بين أيديهم. وحرم عليهم صيده فامتثلوا أمر الله تعالى ولم يصيدوا فكانوا خيراً من بني إسرائيل وأفضل منهم على عهد انبيائهم.
2- تحريم الصيد على المحرم إلا صيد البحر فإنه مباح له.
3- بيان جزاء من صاد وهو محرم وانه جزاء مثل ما قتل من النعم.
4- وجوب التحكيم فيما صاده المحرم، ولا يصح أن يكفر الصائد بنفسه.
5- صيد الحرم حرام على الحرام من الناس والحلال.
=============================================
قال تعالى : (جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(المائدة : 97)
أيسر التفاسير:(1/61)
شرح الكلمات:
{ الكعبة }: الكعبة كل بناء مربع والمراد بها هنا بيت الله الحرام.
{ قياماً للناس }: يقوم به أمر دينهم بالحج إليه والاعتمار ودنياهم بأمن داخله وجبي ثمرات كل شيء إليه.
{ الشهر الحرام }: أي المحرم والمراد به الأشهر الحرم الأربعة رجب والقعدة والحجة ومحرم.
{ الهدي }: ما يهدى إلى البيت من أنواع الهدايا.
{ والقلائد }: جمع قلادة ما يقلده البعير أو البقرة المهدى إلى الحرم.
معنى الآية:
قوله تعالى: { جعل الله الكعبة البيت الحرام للناس } المراد من الناس العرب في جاهليتهم قبل الإِسلام ومعنى قياماً: أن مصالحهم قائمة على وجود البيت يحج ويعتمر يأمن الآتى إليه والداخل في حرمه، وكذا الشهر الحرام وهي أربعة أشهر القعدة والحجة ومحرم ورجب، وكذا الهدي وهو ما يهدى إلى الحرم من الأنعام، وكذا القلائد جمع قلادة وهي ما يقلده الهدي إشعاراً بأنه مهدى إلى الحرم، وكذا ما يقلده الذاهب إلى الحرم نفسه من لِحَاءَ شجرة الحرم إعلاماً بأنه آت من الحرم أو ذاهب إليه فهذا الأربعة البيت الحرام والشهر الحرام والهدى والقلائدة كانت تقوم مقام السلطان بين العرب فتحقق الأمن والرخاء في ديارهم وخاصة سكان الحرم من قبائل قريش فهذا من تدبير الله تعالى لعباده وهو دال على علمه وقدرته وحكمته ورحمته ولذا قال تعالى: { ذلك لتعلموا ان الله يعلم ما في السموات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم } أي حقق ذلك الأمن والرخاء في وقت لا دولة لكم فيه ولا نظام ليعلمكم أنه يعلم ما في السموات وما في الأرض من سائر الكائنات وشتى. المخلوقات لا يخفى عليه من أمرها شيء، وأنه بكل شيء عليم فهو الإِله الحق الذي لا إله غيره ولا رب سواه فاعبدوه، وتوكلوا عليه واتركوا عبادة غيره والنظر إلى سواه، وإن لم تفعلوا فسوف يعاقبكم بذلك أشد العقوبة وأقساها فإنه عز وجل شديد العقاب فاعلموا ذلك واتقوه.
من هداية الآية:(1/62)
1- بيان عظيم تدبير الله تعالى لخلقه، إذ أمّن مصالح قريش والعرب فاوجد لهم أمناً واستقراراً وتبع ذلك هناءة عيش وطيب حياة بما ألقى عباده من احترام وتعظيم للبيت الحرام والشهر الحرام، والهدي والقلائد، الأمر الذى لا يقدر عليه إلا الله.
========================================
قال تعالى : (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )(التوبة :19)
أيسر التفاسير :
شرح الكلمات:
{ سقاية الحاج }: مكان يوضع فيه الماء في المسجد الحرا ويسقى منه الحجاج مجاناً.
{ وعمارة المسجد الحرام }: هنا عباة عن بنائه وصيانته وسدانة البيت فيه.
{ لا يستوون عند الله }: إذ عمارة المسجد الحرام مع الشرك والكفر لا تساوى شيئاً.
{ والله لا يهدي القوم الظالمين }: أي المشركين لا يهديهم لما فيه كمالهم وسعادتهم.
معنى الآية:
ما زال السياق في الرد على من رأى تفضيل عمارة المسجد الحرام بالسقاية والحجابة والسدانة على الإِيمان والهجرة والجهاد فقال موبخاً لهم { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون } في حكم الله وقضائه بحال من الأحوال، والمشركون ظالمون كيف يكون لعمارتهم للمسجد الحرام وزن أو قيمة تذكر { والله لا يهدي القوم الظالمين }
قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)(الحج :25)
أيسر التفاسير :
شرح الكلمات:
{ كفروا } : جحدوا توحيد الله وكذَّبوا رسوله وما جاءهم به من عند ربهم.(1/63)
{ ويصدون عن سبيل الله } : يمنعون الناس من الإسلام، ويصرفونهم عنه.
{ والمسجد الحرام } : مكة المكرمة والمسجد الحرام ضمنها.
{ العاكف } : المقيم بمكة للتعبد في المسجد الحرام.
{ والباد } : الطارىء عن مكة النازح إليها.
{ بإلحاد بظلم } : أي إلحاداً أي ميلاً عن الحق مُلتبساً بظلم لنفسه أو لغيره.
معنىالآية الكريمة:
قوله تعالى: { إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله } هذه الآية الكريمة تحمل تهديداً ووعيداً شديداً لكل م نكفر بتوحيد الله وكذب رسوله وما جاء به من الهدى والدين الحق وصدَّ عن سبيل الله أي صرف الناس عن الدخول في الإسلام، وعن دخول المسجد الحرام للطواف بالبيت والإقامة بمكة للتعبد في المسجد الحرام والآية وإن تناولت المشركين الذين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن دخول مكة عام الحديبية فإنها عامة فى كل من كفر وصدَّ إلى يوم القيامة وقوله تعالى: { الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والبادِ } هو وصف للمسجد الحرام إذ جعله الله تعالى موضع تنسُّك لكل من أتاه وأقام به أو يأتيه للعبادة ثم يخرج منه، فالعاكف أي المقيم فيه كالبادي الطارىء القدوم إليه هم سواء في حق الإقامة في مكة والمسجد الحرام للتعبد.
وقوله تعالى: { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم } أي يرد بمعنى يعتزم الميل عن الحق فيه بظلم يرتكبه كالشرك وسائر الذنوب والمعاصي القاصرة على الفاعل أو المتعدية إلى غيره. وقوله تعالى: { نذقه من عذاب أليم } هذا جزاء من كفر وصد عن سبيل الله والمسجد الحرام ومن أراد فيه إلحاداً بظلم لنفسه أو لغيره.
هداية الآية الكريمة
من هداية الآية الكريمة:
1- التنديد بالكفر والصدَّ عن سبيل الله والمسجد الحرام والظلم فيه والوعيد الشديد لفاعل ذلك.
2- مكة بلد الله وحرمه من حق كل مسلم أن يقيم بها للتعبد والتنسك ما لم يظلم وينتهك حرمة الحرم بالذنوب والمعاصي، وخاصة الشرك والظلم والضلال.(1/64)
3- عظيم شأن الحرم حيث يؤاخذ فيه على مجرد العزم على الفعل ولو لم يفعل.
===================================
قال تعالى : ( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ *لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)(الحج :26-29)
أيسر التفاسير :
شرح الكلمات
{ وإذ بوأنا لإبراهيم } : أي أذكر يا رسولنا إذ بوأنا: أي أنزلنا إبراهيم بمكة مبينين له مكان البيت.
{ أن لا تشرك بي شيئاً } : أي ووصيناه بأن لا تشرك بي شيئاً من الشرك والشركاء.
{ وطهر بيتي } : ونظف بيتي من أقذار الشرك وأنجاس المشركين.
{ وأذن في الناس بالحج } : أعلن في الناس بأعلى صوتك.
{ رجالاً وعلى كل ضامر } : مشاة وركباناً على ضوامر الإبل.
{ فج عميق } : طريق واسع بعيد الغور في قارات الأرض.
{ في أيام معلومات } : هي أيام التشريق.
{ بهيمة الأنعام } : أي الإبل والبقر والغنم إذ لا يصح الهدى إلا منها.
{ البائس الفقير } : أي الشديد الفقر.
{ ليقضوا تفثهم } : أي ليزيلوا أوساخهم المترتبة على مدة الإحرام.
{ وليوفوا نذورهم } : أي بأن يذبحوا وينحروا ما نذروه لله من هدايا وضحايا.(1/65)
معنى الآيات: قوله تعالى: { وإذ بوأنا لإبراهيم } أي اذكر يا رسولنا لقومك المنتسبين إلى ابراهيم باطلاً وزوراً حيث كان موحداً وهم مشركون اذكر لهم كيف بوأه ربُّه مكان اليبت لِيَبْنِيه ويرفع بناءه وكيف عهد الله إليه ووصاه بأن يطهره من الأقذار الحسية كالنجاسات من دماء وأوساخ والمعنوية كالشرك والمعاصي وسائر الذنوب وذلك من أجل الطائفين به والقائمين في الصلاة والراكعين والساجدين فيه إذ الرُّكع جمع راكع والسجد جمع ساجد حتى لا يتأذوا بأي أذى معنوي أو حسيّ وهم حول بيت ربهم وفي بلده وحرمه، ليذكر قومك هذا وهم قد نصبوا حول البيت التماثيل والأصنام، ويحاربون كل من يقول لا إله إلا الله وقد صدوك وأصحابك في المسجد الحرام ومنعوك من الطواف بالبيت العتيق، فأين يذهب بعقولهم عندما يدعون أنهم على دين إبراهيم وإسماعيل. هذا ما دل عليه قوله تعالى: { وإذ بوأنا لإِبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود }.
وقوله تعالى { وأذن في الناس بالحج } أي وعهدنا إليه آمرين إياه أن يؤذن في الناس بأن ينادي معلنا معلماً: أيها الناس إن ربك قد بنى لكم بيتاً فحجوه ففعل ذلك فأسمع الله صوته من شاء ن عباده ممن كتب لهم أزلا أن يحُجوا وسهل طريقهم حجوا فعلاً ولله الحمد والمنة.(1/66)
وقوله تعالى: { يأتوك رجالاً } أي عليك النداء وعلينا البلاغ فنادِ { يأتوك رجالاً } أي مشاة { وعلى كل ضامر } من النوق المهازيل { يأتين من كل فج عميق } أي طريق بعيد في أغوار الأرض وأبعادها كالأندلس غرباً وأندونيسيا شرقاً. وقوله تعالى: { ليشهدوا منافع لهم } أي يأتوك ليشهدوا منافع لهم دينيَّة كمغفرة ذنوبهم واستجابة دعائهم والفوز برضا ربهم، وتعلم دينهم من علمائهم، ودينويّة كربح تجارة ببيع وشراء وعرض سلع وأنواع صناعات، وقوله تعالى: { ويذكروا اسم الله } شاكرين لله تعالى إنعامه عليهم وإفضاله وذلك في أيام الحج كلها من العشر الأول من ذي الحجة إلى نهاية أيام التشريق بالصلاة والذكر والدعاء، كما يذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام عند نحر الإبل وذبح البقر والغنم بأن يقول الناحر أو الذابح بسم الله والله أكبر وقوله تعالى: { فكلوا منها } أي من بهيمة الأنعام التي نحرتموها أو ذبحتموها تقرباً إلينا كهدى التمتع أو التطوع، { واطعموا البائس الفقير } وهو من اشتد به الفقر وقوله تعالى: { ثم ليقضوا تفثهم } بإزالة التسعث والوسخ الذي لازمهم طيلة مدة الإِحرام.
وقوله: { وليوفوا نذورهم } أن من كان منهم قد نذر هدياً بذبحه في الحرم فليوف بذلك إذ هذا أوان الوفاء بما نذر أن ينحره أو يذبحه بالحرم. وقوله { وليطوفوا بالبيت العتيق } أي وليطوفوا طواف الإفاضة وهو ركن الحج ولا يصح الا بعد الوقوف بعرفة ورمي جمرة العقبة صباح العيد عيد الأضحى.
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- وجوب بناء البيت وإعلائه كلما سقط وتهدم ووجوب تطهيره من كل ما يؤذي الطائفين والعاكفين في المسجد الحرام من الشرك والمعاصي وسائر الذنوب ومن الأقذار كالأبوال والدماء ونحوها.
2- مشروعية فتح مكاتب للدعاية للحج.
3- جواز الاتجار أثناء إقامته في الحج.
4- وجوب شكر الله تعالى ذكره.
5- جواز الأكل من الهدي ومن ذبائح التطوع بل استحبابه.(1/67)
6- وجوب الحلق أو التقصير بعد رمي حمة العقبة.
7- وجوب الوفاء بالنذور الشرعية أما النذور للأولياء فهي شرك ولايجوز الوفاء بها.
8- تقرير طواف الإفاضة وبيان زمنه وهو بعد الوقوف بعرفة ورمي جمرة العقبة.
=================================
قال تعالى : ( ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ * ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ * لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ)(الحج :30-33)
أيسر التفاسير :
شرح الكلمات:
{ ذلك } : أي ألمر هذا مثل قول المتكلم هذا أي ما ذكرت..وكذا وكذا..
{ حرمات الله } : جمع حرمة ما حرَّم الله إنتهاكه من قول أو فعل.
{ فهو خير له عند ربه } : أي خير في الآخرة لمن يعظم حرمات الله فلا ينتهكها.
{ إلا ما يتلى عليكم } : أي تحريمه من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهلِ لغير الله به.
{ فاجتنبوا الرجس } : أي اجتنبوا عبادة الأوثان.
{ واجتنبوا قول الزور } : وهو الكذب وأعظم الكذب ما كان على الله تعالى والشرك وشهادة الزور.
{ حنفاء لله } : موحدين له مائلين عن كل دين إلى الإسلام.
{ خرَّ من السماء } : أي سقط.
{ فتخطفه الطير } : أي تأخذه بسرعة.
{ شعائر الله } : أعلام دينه وهي هنا البُدْن بأن تختار الحسنة السمينة منها.
{ فإنها منت تقوى القلوب } : أي تعظيمها ناشىء من تقوى قلوبهم.
{ لكم فيها منافع } : منها ركوبها والحمل عليها بما لا يضرها وشرب لبنها.(1/68)
{ إلى أجل مسمى } : أي وقت معين وهو نحرها بالحرم أيام التشريق.
{ ثم محلها إلى البيت } : أي عند البيت العتيق وهو مكة والحرم العتيق.
معنى الآيات:
ما زال السياق في مناسك الحج قوله تعالى (ذلك) أي لمر ذاك الذي علمتم من قضاء التفث أي إزالة شعر الرأس وقص الشارب وقلم الأظافر ولباس الثياب ونحر وذبح الهدايا والضحايا، { ومن يعظم } منكم { حرمات الله } فلا ينهكها { فهو خير له } أي ذلك التعظيم لها باحترامها وعدم انتهاكها خير له عند ربّه يوم يلقاه وقوله تعالى: { وأحلت لكم الأنعام } أي الإبل والقر والغعنم أحل الله تعالى لكم أكلها والانتفاع بها وقوله تعالى: { إلا ما يتلى عليكم } تحريمه كما جاء في سورة البقرة والمائدة والأنعام، ومن ذلك قوله تعلى:
{ حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيَّتُمْ وما ذبح على النصب }(1/69)
وقوله: { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } أي اجتنبوا عبادة الأوثان فإناه رجس فلا تقربوها بالعبادة ولا بغيرها غضبا لله وعدم رضاً بها وبعبادتها، وقوله: { واجتنبوا قول الزور } وهو الكذب مطلقاً وشهادة الزور وأعظم الكذب ما كان على الله بوصفه بما هو منزه عنه أو بنسبه شيء إليه كالولد والشريك وهو عنه منزه، أو وصفه بالعجز أو بأي نقص وقوله، { حنفاء لله غير مشرِكين } أي موحدين لله تعالى في ذاته وصفاته وعباداته مائلين عن كل الأديان إلى دينه الإسلام، غير مشركين به أي شيء من الشرك أو الشركاء وقوله تعالى: { ومن يشرك بالله } إلهاً آخر فعبده أو صرف له بعض العبادات التي هي لله تعالى فحاله في خسرانه وهلاكه هلاك من خرَّ من السماء أي سقط منها بعدما رفع إليها فتخطفه الطير أي تأخذه بسرعة وتمزقه أشلاء كما تفعل البازات والعقبان بصغار الطيور، وتهوى به الريح في مكان سحيق بعيد فلا يعثر عليه أبداً فهو بين أمرين إما اختطاف الطير له أو هوى الريح به فهو خاسر هالك هذا شأن من يشرك بالله تعالى فيعبد معه غيره بعد أن كان في سماء الطهر والصفاء الروحي بسلامة فطرته وطيب نفسه فانتكس في حمأة الشرك والعياذ بالله وقوله تعالى: { ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب } أي الأمر ذلك من تعظيم حرمات الله واجتناب قول الزور والشرك وبيان خسران المشرك ومن يعظم شعائر الله وهي أعلام دينه من سائر المناسك وبخاصة البدن التي تهدى للحرم وتعظيمها باستحسانها واستسمانها ناشىء عن تقوى القلوب فمن عظمها طاعة لله تعالى وتقرباً إليه دل ذلك على تقوى قلبه لربه تعالى والرسول يشير الى صدره ويقول التقوى ها هنا التقوى ها هنا ثلاث مرات وقوله تعالى: { لكم فهيا منافع إلى أجل مسمى } أي أذن الله تعالى للمؤمنين أن ينتفعوا بالهدايا وهم سائيقوها إلى الحرم بأن يركبوها ويحملوا عليها ما لا يضرها ويشربوا من ألبانها وقوله تعالى: { ثم محلها إلى البيت العتيق(1/70)
} أي محلها عند البيت العتيق وهو الحرم حيث تنحر إن كان مما ينحر أو تذبح إن كان مما يذبح.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب تعظيم حرمات الله لما فيها من الخير العظيم.
2- تقرير حلِّيَّة بهيمة الأنعام بشرط ذكر اسم الله عند ذبحها أو نحرها.
3- حرمة قول الزور وشهادة الزور وفي الأثر عدلت شهادة الزور الشرك بالله.
4- وجوب ترك عبادة الأوثان ووجوب البعد عنها وترك كل ما يمت إليها بصلة.
5- بيان عقوبة الشرك وخسران المشرك.
6- تعظيم شعائر الله وخاصة البدن من تقوى قلوب أصحابها.
7- جواز الانتفاع بالبدن الهدايا بركوبها وشرب لبنها والحمل عليها إلى غاية نحرها بالحرم.
===================================
قال تعالى : ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ)(الحج :34-37)
أيسر التفاسير :
شرح الكلمات:
{ منسكاً } : أي ذبائح من بهيمة الأنعام يتقربون بها إلى الله تعالى، ومكان الذبح يقال له منسك.
{ فله اسلموا } : أي انقادوا ظاهراً وباطنياً لأمره ونهيه.(1/71)
{ وبشر المخبتين } : أي المطيعين المتواضعين الخاشعين.
{ وجلت قلوبهم } : أي خافت من اله تعالى أن تكون قصَّرتْ في طاعته.
{ والبدن } : جمع بدنة وهو ما يساق للحرم من إبل وبقر ليذبح تقرباً إلى الله تعالى.
{ من شعائر الله } : أي من أعلام دينه، ومظاهر عبادته.
{ صوآف } : جمع صافَّة وهي القائمة على ثلاث معقولة اليد اليسرى.
{ فإذا وجبت جنوبها } : أي بعد أن تسقط على جنوبها على الأرض لا روح فيها.
{ القانع المعتمر } :القانع السائل والمعتر الذي يتعرض للرجل ولا يسأله حياء وعفة.
{ كذلك سخرناهم } : أي مثل هاذ التسخير سخرناهم لكم لتركبوا عليها وتحملوا وتحلبوا.
{ لعلكم تشكرون } : أي لأجل أن تشكروا الله تعالى بحمده وطاعته.
{ لن ينال الله لحومها } : أي لا يرفع إلى الله لحم ولا دم، ولكن تقواه بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه.
{ لتكبروا الله على : أي تقولون الله أكبر بعد الصوات الخمس أيام التشريق ما هداكم } شكراً له على هدايته اياكم.
{ وبشر المحسنين } : أي الذين يريدون بالعبادة وجه الله تعالى وحده ويؤدونها على الوجه المشروع.
معنى الآيات:(1/72)
ما زال السياق في توجيه المؤمنين وإرشادهم إلى ما يكملهم ويسعدهم في الدارين فقوله تعالى: { ولكل أمة جعلنا منسكاً } اي ولكل أمة من الأمم السابقة من أهل الإيمان والإسلام جعلنا لهم مكان نسك يتعبدوننا فيه ومنسكاً أي ذبح قربان ليتقربوا به إلينا، وقوله: { ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } أي فمعبودكم أيها الناس معبود القربان لحكمة: وهو أن يذكروا اسمنا على ذبح ما يذبحون ونحر ما ينحرون بأن يقولوا بسم الله والله أكبر. وقوله تعالى: { فإلهكم إله واحد } أي فمعبودكم أيها الناس معبود واحد { فله أسلموا } وجوهكم وخصوه بعبادتكم ثم قال لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم { وبشر المختبين } برضواننا ودخول دار كرامتنا ووصف المخبتين معرفاً بهم الذين تنالهم البشرى على لسان رسول الله فقال { الذين اذا ذكر الله } لهم أو بينهم { وجلت قلوبهم } أي خافت شعوراً بالتقصير في طاعته وعدم أداء شكره والغفلة عن ذكره { والصابرين على ما أصابهم } من البلاء فلا يجزعون ولا يتسخطون ولكن يقولون إنا لله وإنا إليه راجعون { والمقيمي } الصلاة أي بأدائها في أوقاتها في بيوت الله مع عباده المؤمنين ومع كامل شرائطها وأركانها وسننها { ومما رزقناهم ينفقون } مما قل أو كثيرينفقون في مرضاة ربهم شكراً لله على ما آتاهم وتسليماً بما شرع لهم وفرض عليهم.(1/73)
وقوله تعالى: { والبدن جعلناها لكم من شعائر الله } أي الإبل والبقر مما يُهدى إلى الحرم جعلنا ذلك من شعائر ديننا ومظاهر عبادتنا، { لكم فيها خير } عظيم وأجر كبير عند ربكم يوم تلقوه إذا ما تقرب متقرب يوم عيد الأضحى بأفضل من دم يهرقه في سبيل الله وعليه { فاذكروا اسم الله عليها } اي قولوا بسم الله والله أكبر عند نحرها، وقوله: { صوآف } أي قائمة على ثلاثة معقولة اليد اليسرى، فإذا نحرتموها ووجبت أي سقطت على جنوبها فوق الأرض ميتة { فكلوا منها وأطعموا القانع } الذي يسألكم { والمعتر } الذي يتعرض لكم ولا يسألكم حياءاً، وقوله تعالى: { سخرناهم لكم } أي مثل ذلك التسخير الذي سخرناهم لكم فتركبوا وتحلبوا وتذبحوا وتأكلوا سخرناهم لكم من أجل أن تشكرونا بالطاعة والذكر.
وقوله تعالى في آخر آية في هذا السياق وهي (37) قوله: { لن ينال الله لحومها ولا دماؤها } أي لن يرفع إلأيه لحم ولا دم ولن يبلغ الرضا منه، ولكن التقوى بالإخلاص وفعل الواجب والمندوب وترك الحرام والمكروه هذا الذي يرفع إليه ويبلغ مبلغ الرضا منه.
وقوله تعالى: { كذلك سخرها لكم } أي كذلك التسخير الذي سخرها لكم لعلَّة أن تكبروا الله على ما هداكم إلأيه من الإِيمان والإِسلام فتكبروا الله عند نحر البدن وذبح الذبائح وعند أداء المناسك وعقب الصلوات الخمس أيام التشريق. وقوله تعالى: { وبشر المحسنين } أمر الله تعالى رسوله والمبلغ عنه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يبشر باسمه المحسنين الذين أحسنوا الإيمان والإِسلام فوحدوا الله وعبدوه بما شرع وعلى نحو ما شرع متبعين في ذلك هدى رسوله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
هداية الآيات
من هداية الآيات
1- ذبح القربان مشروع في سائر الأديان الإِلهية وهو دليل على أنه لا غله إلا الله إذا وحدة التشريع تدل على وحدة المشرع.(1/74)
وسر مشروعية ذبح القربان هو أن يذكر الله تعالى، ولذا وجب ذكر اسم الله عند ذبح ما يذبح ونحر ما ينحر بلفظ بسم الله والله أكبر.
2- تعريف المخبتين أهل البشارة السارة برضوان الله وجواره الكريم.
3- وجوب ذكر اسم الله على بهيمة الأنعام.
4- بيان كيفية نحر البدن، وحرمة الأخذ منها قبل موتها وخروج روحها.
5- الندب إلى الأكل من الهدايا ووجوب إطعام الفقراء والمساكين منها.
6- وجوب شكر الله على كل إنعام.
7- مشروعية التكبير عند أداء المناسك كرمي الجمار وذبح ما يذبح وبعد الصلوات الخمس ايام التشريق.
8- فضيلة الإحسان وفوز المحسنين ببشرى على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
================================
قال تعالى : ( إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ )(النمل :91)
أيسر التفاسير :
شرح الكلمات:
{ هذه البلدة }: أي مكة المكرمة والاضافة للتشريف.
{ الذي حرمها }: اي الله الذي حرم مكة فلا يختلى خلاها ولا ينفَّر صيدها ولا يقاتل فيها.
{ من المسلمين }: المؤمنين المنقادين له ظاهراً وباطناً وهم اشرف الخلق.
معنى الآية:
إنه بعد ذلك العرض الهائل لأحداث القيامة والذي المفروض فيه أن يؤمن كل من شاهده ولكن القوم ما آمن أكثرهم ومن هنا ناسب بيان موقف الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أنه عبد مأمور بعبادة ربه لا يغر ربه الذي هو رب هذه البلدة الذي حرمها فلا يقاتل فيها ولا يصاد صيدها ولا يختلى خلالها ولا تلتقط لقطتهها إلا لمن يعرفها، وله كل شيئ خلقاً وملكاً وتصرفاً فليس لغيره معه شيء في العوالم كلها علويّها وسفلِيّها وقوله: { وأمرت أن أكون من المسلمين } أي وأمرني ربي أن أكون في جملة المسلمين أي المنقادين لله والخاضعين له وهم صالحو عباده من الأنبياء والمرسلين.
هداية الآية:
من هداية الآية:(1/75)
1- بيان وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم وأنها عبادة الله والإِسلام له.
2- بيان وتقرير حرمة مكة المكرمة والحرم.
قال تعالى : ( وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (القصص :57)
أيسر التفاسير :
شرح الكلمات:
{ إنك لا تهدي من أحببت } : أي هدايته كأبي طالب بأن يسلم ويحسن إسلامه.
{ وقالوا } : أي مشركو قريش.
{ إن نتبع الهدى معك } : أي إن نتبعك على ما جئت به وندعو إليه وهو الإِسلام.
{ نتخطف من أرضنا } : أي تتجرأ علينا قبائل العرب ويأخذوننا.
{ يجبى إليها ثمرات كل شيء } : أي حمل ويساق إليه ثمرات كل شيء من كل ناحية.
{ رزقاً من لدنا } : أي رزقاً لكم من عندنا يا أهل الحرم بمكة.
معنى الآية:
قوله تعالى: { إن نتبع الهدي معك نتخطف من أرضنا } هذا اعتذار اعتذر به بعض رجالات قيش فقالوا نحن نعرف أن ما جئت به حق ولكننا نخشى إن آمنا بك واتبعناك يتالب علينا العرب ويرموننا عن قوس واحدة ونصبح نتخطف منقبل المغيرين كما هو حاصل لغيرنا، وبذلك نحرم هذا الأمن والرخاء وتسوء أحوالنا، لهذا نعتذر عن متابعتك فيما جئت به وأنت تدعو إليه من الكفر بآلهتنا وهدمها والتخلى عنها. فقال تعالى في الرد على هذا الاعتذار الساقط البارد { أولم نمكن لهم حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا } اي لم يوطئ لهم أرض بلد حرمناه فلا يسفك فيه دم، ولا يصاد فيه صيد، ولا يؤخذ فيه أحد بجزيرة، اليس هذا كافياً في أن يعلموا أن الذي جعل لهم حرماً آمناً قادر على أن يؤمنهم إذا آمنوا وأسلموا، ومن باب أولى.(1/76)
{ ولكن أكثرهم لا يعلمون } فهذه علة اصرارهم على الشرك والكفر. إنها الجهل بالله تعالى وعظمته وعلمه وحكمته. ومعنى يجبى أو تجبى إليه ثمرات كل شيء أي يحمل غليه ويساق من انحاء البلاد ثمرات كل شيء من أنواع الأرزاق وكان ذلك رزقاً منه تعالى لأهل الحرم. أفلا يشكرون.
================================
قال تعالى : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ) (العنكبوت:67)
شرح الكلمات:
{ يتخطف الناس من حولهم } : اي يُسبون ويُقتلون في ديار جزيرتهم.
{ أفبالباطل يؤمنون } : أي يؤمنون بالأصنام وهي الباطل، ينكر تعالى عليهم ذلك.
تفسير الطبري:
يقول تعالى ذكره مذكرا هؤلاء المشركين من قريش القائلين: لولا أنزل عليه آية من ربه, نِعْمَتَه عليهم التي خصهم بها دون سائر الناس غيرهم مع كفرهم بنعمته وإشراكهم في عبادته الاَلهة والأنداد: أو لم ير هؤلاء المشركون من قريش ما خصصناهم به من نعمتنا عليهم دون سائر عبادنا, فيشكرونا على ذلك وينزجروا عن كفرهم بنا وإشراكهم ما لا ينفعنا ولا يضرّهم في عبادتنا أنا جعلنا بلدهم حرما حرّمنا على الناس أن يدخلوه بغارة أو حرب, آمنا, يأمن فيه من سكنه, فأوى إليه من السباء والخوف والحرام الذي لا يأمنه غيرهم من الناس وَيُتَخَطّفُ النّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ يقول: وتُسْلَب الناس من حولهم قتلاً وسباء.
كماروي عن قَتادة في قوله أو لَمْ يَرَوْا أنّا جَعَلْنا حَرَما آمِنا وَيُتَخَطّفُ النّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ قال: كان لهم فِي ذلك آية أن الناس يُغزَون ويُتَخَطّفون وهم آمنون.(1/77)
وقوله: أفَبالباطِلِ يُؤْمِنُونَ يقول: أفبالشرك بالله يقرّون بألوهية الأوثان بأن يصدّقوا وبنعمة الله التي خصهم بها من أن جعل بلدهم حرما آمنا يكفرون يعني بقوله «يكفرون»: يجحدون. كما روي عن قَتادة قوله أفَبالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ: أي بالشرك وَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَكْفُرُونَ: أي يجحدون.
=================================
قال تعالى : ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِير)ِ (الشورى:7)
تفسير الطبري:
يقول تعالى ذكره: وهكذا أوْحَيْنا إلَيْكَ يا محمد قُرْآنا عَرَبِيّا بلسان العرب, لأن الذين أرسلتك إليهم قوم عرب, فأوحينا إليك هذا القرآن بألسنتهم, ليفهموا ما فيه من حجج الله وذكره, لأنا لا نرسل رسولاً إلا بلسان قومه, ليبين لهم لِتُنْذِرَ أُمّ القُرَى وهي مكة وَمَنْ حَوْلَهَا يقول: ومن حول أمّ القرى من سائر الناس. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
عن السديّ, في قوله: لِتُنْذِرَ أُمّ القُرَى قال: مكة.
وقوله: وَتُنْذِرَ يَوْمَ الجَمْعِ يقول عزّ وجلّ: وتنذر عقاب الله في يوم الجمع عباده لموقف الحساب والعرض. وقيل: وتنذر يوم الجمع, والمعنى: وتنذرهم يوم الجمع, كما قيل: يخوّف أولياءه, والمعنى: يخوّفكم أولياءه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
عن السديّ وَتُنْذِرَ يَوْمَ الجَمْعِ قال: يوم القِيامَةِ.
وقوله: لا رَيْبَ فِيهِ يقول: لا شكّ فيه.(1/78)
وقوله: فَرِيقٌ فِي الجَنّة وَفَرِيقٌ فِي السّعِيرِ يقول: منهم فريق في الجنة, وهم الذين آمنوا بالله واتبعوا ما جاءهم به رسوله صلى الله عليه وسلم وَفَرِيقٌ فِي السّعِيرِ يقول: ومنهم فريق في الموقدة من نار الله المسعورة على أهلها, وهم الذين كفروا بالله, وخالفوا ما جاءهم به رسوله. وقد:
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرني عمرو بن الحارث, عن أبي قبيل المعافريّ, عن شفيّ الأصبحيّ, عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان, فقال: «هَلْ تَدْرُونَ ما هَذَا؟» فقلنا: لا, إلا أن تخبرنا يا رسول الله, قال: «هَذَا كِتابٌ مِنْ رَبّ العالَمِينَ, فِيهِ أسْماءُ أهْلِ الجَنّةِ, وأسماءُ آبائِهِمْ وَقَبَائِلِهمْ», ثُمّ أُجْمِلَ, على آخِرِهِم, «فَلا يُزادُ فِيهِمْ وَلا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أبَداً, وَهَذَا كِتابُ أهْلِ النّارِ بِأسمْائِهِمْ وأسْماءِ آبائِهِمْ», ثُمّ أُجْمِلَ على آخِرِهِم, «فَلا يُزَادُ وَلا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أبَداً», قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ففيم إذن نعمل إن كان هذا أمر قد فُرغ منه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بَلْ سَدّدُوا وَقارِبُوا, فإنّ صَاحِبَ الجَنّةِ يُخْتمُ لَهُ بعَمَلِ الجَنّةِ وَإنْ عَمِلَ أيّ عَمَلٍ, وَصَاحِبُ النّارِ يُخْتَمُ لَه بعَمَلِ النّارِ وَإنْ عَمِلَ أيّ عَمَلٍ, فَرَغَ رَبّكُمْ مِنَ العِبادِ» ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه فنبذهما: «فَرَغ رَبّكُمْ مِنَ الخَلْقِ, فَرِيقٌ فِي الجَنّةِ, وَفَرِيقٌ فِي السّعِيرِ» قالوا: سبحان الله, فلم نعمل وننصب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العَمَلُ إلىخَوَاتِمِهِ».(1/79)
عن يحيى بن أبي أسيد, أن أبا فراس حدثه أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول: إن الله تعالى ذكره لما خلق آدم نفضه نفض المزود, فأخرج منه كلّ ذرية, فخرج أمثال النغف, فقبضهم قبضتين, ثم قال: شقي وسعيد, ثم ألقاهما, ثم قبضهما فقال: فَرِيقٌ فِي الجَنّةِ وَفَرِيقٌ فِي السّعِيرِ.
عن ابن حجيرة أنه بلغه أن موسى قال: يا ربّ خلقك الذين خلقتهم, جعلت منهم فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير, لوما أدخلتهم كلهم الجنة قال: يا موسى ارفع زرعك, فرفع, قال: قد رفعت, قال: ارفع, فرفع, فلم يترك شيئاً, قال: يا ربّ قد رفعت, قال: ارفع, قال: قد رفعت إلا ما لا خير فيه, قال: كذلك أدخل خلقي كلهم الجنة إلا ما لا خير فيه. وقيل: فَرِيقٌ فِي الجَنّةِ وَفَرِيقٌ فِي السّعِيرِ فرفع, وقد تقدّم الكلام قبل ذلك بقوله: لِتُنْذِرَ أُمّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا بالنصب, لأنه أريد به الابتداء, كما يقال: رأيت العسكر مقتول أو منهزم, بمعنى: منهم مقتول, ومنهم منهزم.
===========================
قال تعالى : ( لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) (الفتح:27)
تفسير الطبري:
يقول تعالى ذكره: لقد صدق الله رسوله محمدا رؤياه التي أراها إياه أنه يدخل هو وأصحابه بيت الله الحرام آمنين, لا يخافون أهل الشرك, مقصّرا بعضهم رأسه, ومحلّقا بعضهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
عن ابن عباس لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيا بالحَقّ لَتَدْخُلُنّ المَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شاءَ اللّهِ آمِنِينَ قال هو دخول محمد صلى الله عليه وسلم البيت والمؤمنون, محلقين رؤوسهم ومقصرين.(1/80)
وعن مجاهد, في قوله: الرّؤْيا بالحَقّ قال: أُرِيَ بالحدُيبية أنه يدخل مكة وأصحابه محلقين, فقال أصحابه حين نحر بالحُديبية: أين رؤيا محمد صلى الله عليه وسلم؟
وعن قتادة لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيا بالحَقّ قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يطوف بالبيت وأصحابه, فصدّق الله رؤياه, فقال: لَتَدْخُلُنّ المَسّجِدَ الحَرَام إنْ شاءَ اللّهُ آمِنِينَ... حتى بلغ لا تَخافُونَ.
وعن قتادة, في قوله: لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيا بالحَقّ قال: أُرِيَ في المنام أنهم يدخلون المسجد الحرام, وأنهم آمنون محلّقين رؤوسهم ومقصّرين.
وقال ابن زيد, في قوله: لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيا بالحَقّ.. إلى آخر الآية. قال: قال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّي قَدْ رأيْتُ أنّكُمْ سَتَدْخُلُونَ المَسْجِدَ الحَرَام مُحَلّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصّرِينَ» فلما نزل بالحُديبية ولم يدخل ذلك العام طعن المنافقون في ذلك, فقالوا: أين رؤياه؟ فقال الله لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيا بالحَقّ فقرأ حتى بلغ وَمُقَصّرِينَ لا تَخافُونَ إني لم أره يدخلها هذا العام, وليكوننّ ذلك.
عن ابن إسحاق لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيا بالحَقّ... إلى قوله: إنْ شاءَ اللّهُ آمِنِينَ لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أُرِيَها أنه سيدخل مكة آمنا لا يخاف, يقول: محلقين ومقصرين لا تخافون.
وقوله: فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا يقول تعالى ذكره: فعلم الله جلّ ثناؤه ما لم تعلموا, وذلك علمه تعالى ذكره بما بمكة من الرجال والنساء المؤمنين, الذين لم يعلمهم المؤمنون, ولو دخلوها في ذلك العام لوطئوهم بالخيل والرّجل, فأصابتهم منهم معرّة بغير علم, فردّهم الله عن مكة من أجل ذلك وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:(1/81)
قال ابن زيد, في قوله: فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلمُوا قال: ردّه لمكان من بين أظهرهم من المؤمنين والمؤمنات, وأخره ليدخل الله في رحمته من يشاء من يريد أن يهديه.
وقوله: فجَعَلَ مِنْ دُون ذلكَ فَتْحا قَرِيبا اختلف أهل التأويل في الفتح القريب, الذي جعله الله للمؤمنين دون دخولهم المسجد الحرام محلّقين رؤوسهم ومقصّرين, فقال بعضهم: هو الصلح الذي جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش. ذكر من قال ذلك:
عن مجاهد, قوله: مِنْ دُونِ ذلكَ فَتْحا قَرِيبا قال: النحر بالحُديبية, ورجعوا فافتتحوا خَيبر, ثم اعتمر بعد ذلك, فكان تصديق رؤياه في السنة القابلة.
عن الزهريّ, قوله: فجعَلَ مِنْ دُونِ ذلكَ فَتْحا قَرِيبا يعني: صلح الحُديبية, وما فتح في الإسلام فتح كان أعظم منه, إنما كان القتال حيث التقى الناس فلما كانت الهدنة وضعت الحرب, وأمن الناس كلهم بعضهم بعضا, فالتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة, فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه, فلقد دخل في تينك السنتين في الإسلام مثل من كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر.
عن ابن إسحاق فجعَلَ مِنْ دُونِ ذلكَ فَتْحا قَرِيبا قال: صلح الحُديبية.
وقال آخرون: عنى بالفتح القريب في هذا الموضع: فتح خيبر. ذكر من قال ذلك:
قال ابن زيد, في قوله: فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلكَ فَتْحا قَرِيبا قال: خيبر حين رجعوا من الحُديبية, فتحها الله عليهم, فقسمها على أهل الحديبية كلهم إلا رجلاً واحدا من الأنصار, يقال له: أبو دجانة سماك بن خرشة, كان قد شهد الحُديبية وغاب عن خَيبر.(1/82)
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أنه جعل لرسوله والذين كانوا معه من أهل بيعة الرضوان فتحا قريبا من دون دخولهم المسجد الحرام, ودون تصديقه رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان صلح الحُديبية وفتح خيبر دون ذلك, ولم يخصص الله تعالى ذكره خبره ذلك عن فتح من ذلك دون فتح, بل عمّ ذلك, وذلك كله فتح جعله الله من دون ذلك.
والصواب أن يعم كما عمه, فيقال: جعل الله من دون تصديقه رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدخوله وأصحابه المسجد الحرام محلّقين رؤوسهم ومقصّرين, لا يخافون المشركين صلح الحُديبية وفتح خيبر.
======================
قال تعالى : ( لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ)( البلد:1&2)
تفسير الطبري :
يقول تعالى ذكره: أقسم يا محمد بهذا البلد الحرام, وهو مكة, وكذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
عن ابن عباس, في قوله: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ يعني: مكة.
عن مجاهد لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ قال: مكة.
عن منصور, عن مجاهد لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ قال: الحرام.
عن منصور, عن مجاهد لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ قال: مكة.
عن قتادة لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ قال: البلد مكة.
عن عطاء, في قوله: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ يعني: مكة.
قال ابن زيد, في قول الله: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ قال: مكة.
وقوله: وأنْتَ حِلّ بِهَذَا البَلَدِ يعني: بمكة يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وأنت يا محمد حِلّ بهذا البلد, يعني بمكة يقول: أنت به حلال تصنع فيه مِن قَتْلِ من أردت قتلَه, وأَسْرِ من أردت أسره, مُطْلَقٌ ذلك لك يقال منه: هو حِلّ, وهو حلال, وهو حِرْم, وهو حرام, وهو مُحلّ, وهو محرم, وأحللنا, وأحرمنا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:(1/83)
عن ابن عباس وأنْتَ حِلّ بِهَذَا الْبَلَدِ يعني بذلك: نبيّ الله صلى الله عليه وسلم, أحلّ الله له يوم دخل مكة أن يقتل من شاء, ويستحْيِي من شاء فقتل يومئذٍ ابن خَطَل صَبْرا وهو آخذ بأستار الكعبة, فلم تحلّ لأحد من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتل فيها حراما حرّمه الله, فأحلّ الله له ما صنع بأهل مكة, ألم تسمع أن الله قال في تحريم الحرم: ولِلّهِ عَلى النّاسِ حِجّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً يعني بالناس أهل القبلة.
عن منصور, عن مجاهد وأنْتَ حِلّ بِهَذَا الْبَلَدِ قال: أَحَلّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع فيه ساعة.
عن مجاهد وأنْتَ حِلّ بِهَذَا الْبَلَدِ قال: أحلّ له أن يصنع فيه ما شاء.
عن منصور وأنْتَ حِلّ بِهَذَا الْبَلَدِ قال: أُحِلّت للنبيّ صلى الله عليه وسلم, قال: اصنع فيها ما شئت.
عن مجاهد, في قول الله وأنْتَ حِلّ بِهَذَا الْبَلَدِ قال: أنت حِلّ مما صنعت فيه.
عن منصور, عن مجاهد وأنْتَ حِلّ بِهَذَا الْبَلَدِ قال: أحلّ الله لك يا محمد ما صنعت في هذا البلد من شيء, يعني مكة.
عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد وأنْتَ حِلّ بِهَذَا الْبَلَدِ قال: لا تؤاخَذَ بما عملت فيه, وليس عليك فيه ما على الناس.
عن قتادة وأنْتَ حِلّ بِهَذَا الْبَلَدِ يقول: بريء عن الحرج والإثم.
عن قتادة وأنْتَ حِلّ بِهَذَا الْبَلَدِ يقول: أنت به حلّ لست بآثم.
قال ابن زيد, في قوله: وأنْتَ حِلّ بِهَذَا الْبَلَدَ قال: لم يكن بها أحد حلاً غير النبيّ صلى الله عليه وسلم, كلّ من كان بها حراما, لم يحلّ لهم أن يقاتلوا فيها, ولا يستحلوا حرمه, فأحله الله لرسوله, فقاتل المشركين فيه.
عن عطاء وأنْتَ حِلّ بِهَذَا الّبَلَدِ قال: إن الله حرّم مكة, لم تحلّ لنبيّ إلا نبيكم ساعة من نهار.(1/84)
عن عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وأنْتَ حِلّ بهَذَا الْبَلَدِ يعني محمدا, يقول: أنت حلّ بالحرم, فاقتل إن شئت, أو دع.
============================
قال تعالى : ( وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ)( التين:3)
{ وهذا البلد الأمين } : مكة المكرمة لأنها بلد حرام لا يقاتل فيها فمن دخلها آمن.
قال تعالى : ( فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ)( قريش:3)
وقوله: فَلْيَعْبُدُوا رَبّ هَذَا الْبَيْتِ يقول: فليقيموا بموضعهم ووطنهم من مكة, وليعبدوا ربّ هذا البيت, يعني بالبيت: الكعبة
المناسك
قال تعالى : (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة:128)
تفسير البغوي:
ربنا واجعلنا مسلمين لك " موحدين مطيعين مخلصين خاضعين لك. " ومن ذريتنا " أي أولادنا " أمة " جماعة والأمة أتباع الأنبياء " مسلمة لك " خاضعة لك. " وأرنا " علمنا وعرفنا، قرأ ابن كثير ساكنة الراء و أبو عمرو بالاختلاس والباقون بكسرها ووافق ابن عامر و أبو بكر في الاسكان في حم السجدة، وأصله أرئنا فحذفت الهمزة طلباً للخفة ونقلت حركتها إلى الراء ومن سكنها قال: ذهبت الهمزة فذهبت حركتها، " مناسكنا " شرائع ديننا وألام حجنا. وقيل: مواضع حجنا، وقال مجاهد : مذابحنا والنسك الذبيحة، وقيل: متعبداتنا، وأصل النسك العبادة، والناسك العابد فأجاب الله تعالى دعاءهما فبعث جبريل فأراهما المناسك في يوم عرفة فلما بلغ عرفات قال: عرفت يا إبراهيم؟ قال: نعم فسمى الوقت عرفة والموضع عرفات. " وتب علينا " تجاوز عنا " إنك أنت التواب الرحيم ".(1/85)
قال تعالى : ( وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (البقرة:196)
تفسير البغوي:(1/86)
" وأتموا الحج والعمرة لله " قرأ علقمة و إبراهيم النخعي ( وأقيموا الحج والعمرة لله ) واختلفوا في إتمامها فقال بعضهم: هو أن يتمها بمناسكهما وحدودهما وسننهما، وهو قول ابن عباس وعلقمة و إبراهيم النخعي و مجاهد ، وأركان الحج خمسة .. الإحرام والوقوف بعرفة، وطواف الزيارة، والسعي بين الصفا والمروة، وحلق الرأس أو التقصير. وللحج تحللان، وأسباب التحلل ثلاثة: رمي جمرة العقبة يوم النحر وطواف الزيارة والحلق، فإذا وجد شيئان من هذه الأشياء الثلاثة حصل التحلل الأول، وبالثلاث حصل التحلل الثاني، وبعد التحلل الأول يستبيح جميع محظورات الإحرام إلا النساء، وبعد الثاني يستبيح الكل، و أركان العمرة أربعة: الإحرام، والطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة والحلق، وقال سعيد بن جبير و طاووس : تمام الحج والعمرة أن تحرم بهما مفردين مستأنفين من دويرة أهلك، ومثله عن ابن مسعود، وقال قتادة : تمام العمرة أن تعمل في غير أشهر الحج، [فإن كانت في أشهر الحج] ثم أقام حتى حج فهي متعة، وعليه فيها الهدي إن وجده، أو الصيام إن لم يجد الهدي، وتمام الحج أن يؤتى بمناسكه كلها حتى لا يلزم عامله دم بسبب قران ولا متعة وقال الضحاك : إتمامها أن تكون النفقة حلالاً وينتهي عما نهى الله عنه، وقال سفيان الثوري : إتمامها أن تخرج من أهلك لهما، ولا تخرج لتجارة ولا لحاجة. قال عمر بن الخطاب: الوفد كثير والحاج قليل، واتفقت الأمة على وجوب الحج على من استطاع إليه سبيلاً، واختلفوا في وجوب العمرة فذهب أكثر أهل العلم إلى وجوبها وهو قول عمر وعلي وابن عمر وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: والله عن العمرة لقرينة الحج في كتاب الله، قال الله تعالى: " وأتموا الحج والعمرة لله " وبه قال عطاء و مجاهد و طاووس و قتادة و سعيد بن جبير ، وإليه ذهب الثوري و الشافعي في أصح قوليه، وذهب قوم إلى أنها سنة وهو قول جابر وبه قال الشافعي وإليه ذهب مالك وأهل العراق(1/87)
وتأولوا قوله تعالى " وأتموا الحج والعمرة لله " على معنى أتموهما إذا دخلتم فيهما، أما ابتداء الشروع فيها فتطوع، واحتج من لم يوجبهما بما روي عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه سئل عن العمرة أواجبة هي؟ فقال: لا وأن تعتمروا خير لكم " والقول الأول أصح ومعنى قوله " وأتموا الحج والعمرة لله " أي ابتدؤوهما فإذا دخلتم فيهما فأتموهما فهو أمر بالابتداء والإتمام أي أقيموهما كقوله تعالى: " ثم أتموا الصيام إلى الليل " (187-البقرة) أي ابتدؤوه وأتموه. أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أبو منصور السمعاني أخبرنا أبو جعفر الرياني أخبرنا حميد بن زنجويه أخبرنا ابن أبي شيبة أخبرنا أبو خالد الأحمر عن عمرو بن قيس عن عاصم عن شقيق عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحج المبرور جزاء إلا الجنة " وقال ابن عمر: ليس من خلق الله أحد إلا وعليه حجة وعمرة واجبتان إن استطاع إلى ذلك سبيلاً كما قال الله تعالى " وأتموا الحج والعمرة لله " فمن زاد بعد ذلك فهو خير وتطوع، واتفقت الأمة على أنه يجوز أداء الحج والعمرة على ثلاثة أوجه: الإفراد والتمتع والقران، فصورة الإفراد أن يفرد الحج، ثم بعد الفراغ منه يعتمر وصورة التمتع أن يعتمر في أشهر الحج، ثم بعد الفراغ من أعمال العمرة، يحرم بالحج من مكة فيحج في هذا العام، وصورة القران: أن يحرم بالحج والعمرة معاً أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج قبل أن يفتتح الطواف فيصير قارناً، واختلفوا في الأفضل من هذه الوجوه: فذهب جماعة إلى أن الإفراد أفضل ثم التمنع ثم القران وهو قول مالك و الشافعي لما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن(1/88)
بن نوفل عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج، فأما من أهل بالعمرة فحل، وأما من أهل بالحج أو جمع بين الحج والعمرة فلم يحلوا حتى كان يوم النحر. أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أخبرنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع أخبرنا الشافعي أخبرنا مسلم عن ابن جريج عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر رضي الله عنه وهويحدث عن حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم لا ننوي إلا الحج، ولا نعرف غيره ولا نعرف العمرة، وروي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج وذهب قوم إلى أن القران أفضل وهو قول الثوري وأصحاب الرأي واحتجوا بما أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم أخبرنا محمد بن هشام بن ملاس النميري أخبرنا مروان بن معاوية الفزاري أخبرنا حميد قال: قال أنس بن مالك رضي الله عنه: أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " لبيك بحج وعمرة ". وذهب قوم إلى أن التمتع أفضل، وهو قول أحمد بن حنبل و إسحاق بن راهوية واحتجوا بما أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا يحيى بن بكير أخبرنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أن ابن عمر رضي الله عنهما قال: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج فتمتع الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج فكان من الناس من أهدى فساق الهدي ومنهم من لم يهد، فلما قدم(1/89)
النبي صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس " من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت، ويسعى بين الصفا والمروة، وليقصر وليتحلل، ثم ليهل بالحج فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله"، فطاف حين قدم مكة، واستلم الركن أول شيء ثم خب ثلاثة أطواف ومشى أربعاً، فركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين، ثم سلم فانصرف، فأتى الصفا فطاف بالصفا والمروة سبعة أطواف، ثم لم يتحلل من شيء حرم منه حتى قضى حجه ونحر هديه يوم النحر وأفاض فطاف بالبيت، ثم حل من كل شيء حرم منه، وفعل مثل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهدى وساق الهدي من الناس. وعن عروة أن عائشة رضي الله عنها أخبرته عن النبي صلى الله عليه وسلم في تمتعه بالعمرة إلى الحج فتمتع الناس معه بمثل الذي أخبرني سالم عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال شيخنا الإمام رضي الله عنه، قد اختلفت الرواية في إحرام النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا وذكر الشافعي في كتاب اختلاف الأحاديث كلاماً موجزاً أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان منهم المفرد والقارن والمتمتع وكل كان يأخذ منه أمر نسكه ويصدر عن تعليمه، فأضيف الكل إليه على معنى أنه أمر بها وأذن فيها ويجوز في لغة العرب إضافة (الشييء) إلى الآمر به، كما يجوز إضافته إلى الفاعل له كما يقال بنى فلان داراً، وأريد أنه أمر ببنائها، وكما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزاً، وإنما أمر برجمه واختار الشافعي الإفراد لرواية قصة حجة الوداع وآخرها، ولفضل حفظ عائشة رضي الله عنها، وقرب ابن عمر من النبي صلى الله عليه وسلم. ومال الشافعي في اختلاف الأحاديث إلى التمتع، وقال ليس شيء من الاختلاف أيسر من هذا وإن كان الغلط فيه قبيحاً من جهة أنه مباح لأن الكتاب ثم السنة ثم مالا أعلم فيه خلافاً على أن التمتع بالعمرة إلى الحج(1/90)
وإفراد الحج والقران، واسع كله وقال: من قال إنه أفرد الحج يشبه أن يكون مقيماً على الحج إلا وقد ابتدأ إحرامه بالحج قال الشيخ الإمام رحمه الله: ومما يدل على أنه كان متمتعاً أن الرواية عن ابن عمر وعائشة متعارضة، وقد روينا عن ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (( تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في [حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وقال ابن شهاب عن عروة أن عائشة أخبرته عن النبي صلى الله عليه وسلم] في تمتعه بالعمرة إلى الحج، فتمتع الناس معه بمثل الذي أخبرني سالم عن ابن عمر وقال ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هذه عمرة استمتعنا بها ". وقال سعد بن أبي وقاص في المتعة: صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنعناها معه. قال الشيخ الإمام: وما روي عن جابر أنه قال: خرجنا لا ننوي إلا الحج - لا ينافي التمتع لأن خروجهم كان لقصد الحج، ثم منهم من قدم العمرة، ومنهم من أهل بالحج إلى أن أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعله متعة قوله تعالى " فإن أحصرتم " اختلف العلماء في الإحصار الذي يبيح للمحرم التحلل من إحرامه فذهب جماعة إلى أن كل مانع يمنعه عن الوصول إلى البيت الحرام والمعنى في إحرامه من عدو أو مرض أو جرح أو ذهاب نفقة أو ضلال راحلة، يبيح له التحلل، وبه قال ابن مسعود وهو قول إبراهيم النخعي و الحسن و مجاهد و عطاء و قتادة وعروة بن الزبير، وإليه ذهب سفيان الثوري وأهل العراق وقالوا: لأن الإحصار في كلام العرب هو حبس العلة أو المرض، وقال الكسائي وأبو عبيدة ما كان من مرض أو ذهاب نفقة يقال: منه أحصر فهو محصر وما كان من حبس عدو أو سجن يقال: منه حصر محصور، وإنما جعل هاهنا حبس العدو إحصاراً قياساً على المرض إذ كان في معناه، واحتجوا بما روي عن عكرمة عن الحجاج بن عمرو الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل ". قال عكرمة : فسألت ابن(1/91)
عباس وأبا هريرة فقالا صدق. وذهب جماعة إلى أنه لا يباح له التحلل إلا بحبس العدو وهو قول ابن عباس وقال لا حصر إلا حصر العدو، وروي معناه عن ابن عمر وعبد الله بن الزبير وهو قول سعيد بن المسيب و سعيد بن جبير وإليه ذهب الشافعي و أحمد و إسحاق ، وقالوا الحصر والإحصار بمعنى واحد. وقال ثعلب : تقول العرب حصرت الرجل عن حاجته فهو محصور، وأحصره العدو إذا منعه عن السير فهو محصر، واحتجوا بأن نزول هذه الآية في قصة الحديبية وكان ذلك حبساً من جهة العدو ويدل عليه قوله تعالى في سياق الآية " فإذا أمنتم " والأمن يكون من الخوف، وضعفوا حديث الحجاج بن عمرو بما ثبت عن ابن عباس أنه قال: لا حصر إلا حصر العدو، وتأوله بعضهم على أنه غنما يحل بالكسر والعرج إذا كان قد شرط ذلك في عقد الإحرام كما روي أن ضباعة بنت الزبير كانت وجعة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: " حجي واشترطي وقولي اللهم محلي حيث حبستني ". ثم المحصر يتحلل بذبح الهدي وحلق الرأس، والهدي شاة وهو المراد من قوله تعالى " فما استيسر من الهدي "، ومحل ذبحه حيث أحصر عند أكثر أهل العلم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذبح الهدي عام الحديبية بها، وذهب قوم إلى أن المحصر يقيم على إحرامه ويبعث بهديه إلى الحرم، ويواعد من يذبحه هناك ثم يحل، وهو قول أهل العراق. واختلف القول في المحصر إذا لم يجد هدياً ففي قول لا بد له فيتحلل والهدي في ذمته إلى أن يجد، والقول الثاني: له بدل، فعلى هذا اختلف القول فيه، ففي قول عليه صوم التمتع، وفي قول تقوم الشاة في فدية الطيب واللبس فإن المحرم إذا احتاج إلى ستر رأسه لحر أو برد أو إلى لبس قميص، أو مرض فاحتاج إلى مداواته بدواء فيه طيب فعل، وعليه الفدية، وفديته على الترتيب والتعديل فعليه ذبح شاة فإن لم يجد يقوم الشاة بدراهم والدراهم يشتري بها طعاماً فيتصدق به، فإن عجز صام عن كل مد يوماً. ثم المحصر إن كان إحرامه بغرض قد استقر عليه(1/92)
فلذلك الغرض في ذمته وإن كان بحج تطوع فهل عليه القضاء؟ اختلفوا فيه فذهب جماعة إلى أنه لا قضاء عليه وهو قول مالك و الشافعي ، وذهب وم إلى أن عليه القضاء، وهو قول مجاهد و الشعبي و النخعي وأصحاب الرأي. قوله تعالى " فما استيسر من الهدي " [أي فعليه ما تيسر من الهدي] ومحله رفع وقيل: ما في محل النصب أي فاهدي ما استيسر والهدي جمع هدية وهي اسم لكل ما يهدي إلى بيت الله تقرباً إليه، وما استيسر من الهدي شاة، قاله علي بن أبي طالب وابن عباس، لأنه أقرب إلى اليسر، وقال الحسن و قتادة : أعلاه بدنة وأوسطه بقرة وأدناه شاة. قوله تعالى: " ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله " اختلفوافي المحل الذي يحل المحصر ببلوغ هديه إليه فقال بعضهم: هو ذبحه بالموضع الذي أحصر فيه سواء كان في الحل أو في الحرم، ومعنى محله: حيث يحل ذبحه فيه وأكله. أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا عبد الله بن محمد أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر أخبرني الزهري أخبرني عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة في قصة الحديبية قال: فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: " قوموا فانحروا ثم احلقوا، فوالله ما قام رجل منهم حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد، دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك فاخرج، ثم لا تكلم أحداً منهم بكلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج ولم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً ". وقال بعضهم: محل هدي المحصر الحرم، فإن كان حاجاً فمحله يوم النحر، وإن كان معتمراً فمحله يوم يبلغ هديه الحرم قوله تعالى " فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه " معناه لا تحلقوا رؤوسكم في حال(1/93)
الإحرام إلا أن تضطروا إلى حلقه لمرض أو لأذى في الرأس من هوام أو صداع " ففدية " فيه إضمار، أي: فحلق فعليه فدية نزلت في كعب بن عجرة. أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا الحسن بن خلف أخبرنا إسحاق بن يوسف عن أبي بشر و رقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: حدثني عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه وقمله يسقط على وجهه فقال: أيؤذيك هوامك؟ قال نعم فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلق وهو بالحديبية ولم يبين لهم أنهم يحلون بها وهم على طمع أن يدخلوا مكة، فأنزل الله الفدية فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطعم فرقاً بين ستة مساكين أو يهدي شاة أو يصوم ثلاثة أيام. قوله تعالى: " ففدية من صيام " أي ثلاثة أيام " أو صدقة " أي ثلاثة آصع على ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع " أو نسك " واحدتها نسيكة أي ذبيحة، أعلاها بدنة وأوسطها بقرة وأدناها شاة، أيتها شاء ذبح، فهذه الفدية على التخيير والتقدير، ويتخير بين أن يذبح أو يصوم أو يتصدق، وكل حيث شاء، قوله تعالى: " فإذا أمنتم " أي من خوفكم وبرأتم من مرضكم " فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي " اختلفوا في هذه المتعة فذهب عبد الله بن الزبير إلى أن معناه: فمن أحصر حتى فاته الحج ولم يتحلل فقدم مكة يخرج من إحرامه بعمل عمرة واستمتع بإحلاله ذلك بتلك العمرة إلى السنة المستقبلة ثم حج فيكون متمتعاً بذلك الإحلال إلى إحرامه الثاني في العام القابل، وقال بعضهم معناه " فإذا أمنتم " وقد حللتم من إحرامكم بعد الإحصار ولم تقضوا عمرة، وأخرتم العمرة إلى السنة القابلة، فاعتمرتم في أشهر الحج ثم حللتم فاستمتعتم بإحلالكم إلى الحج ثم أحرمتم بالحج، فعليكم ما استيسر من الهدي، وهو قول علقمة و إبراهيم النخعي و سعيد بن جبير ، وقال ابن عباس و عطاء وجماعة: هو(1/94)
الرجل يقدم معتمراً من أفق من الآفاق في أشهر الحج فقضى عمرته وأقام حلالاً بمكة حتى أنشأ منها الحج فحج من عامه ذلك فيكون مستمتعاً بالإحلال من العمرة إلى إحرامه بالحج، فمعنى التمتع هو الاستمتاع بعد الخروج من العمرة بما كان محظوراً عليه في الإحرام إلى إحرامه بالحج. ولوجوب دم التمتع أربع شروط: أحدهما أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، والثاني أن يحج بعد الفراغ من العمرة في هذه السنة، والثالث أن يحرم بالحج في مكة ولا يعود إلى الميقات لإحرامه، الرابع أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام، فمتى وجدت هذه الشرائط فعليه ما استيسر من الهدي، وهو دم شاة يذبحه يوم النحر فلو ذبحها قبله بعد ما أحرم بالحج يجوز عند بعض أهل العلم كدماء الجنايات، وذهب بعضهم إلى أنه لا يجوز قبل يوم النحر كدم الأضحية. قوله تعالى: " فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج " أي صوموا ثلاثة أيام، يصوم يوماً قبل التروية ويوم التروية، ويوم عرفة، ولو صام قبله بعدما أحرم بالحج يجوز، ولا يجوز يوم النحر ولا أيام التشريق عند أكثر أهل العلم، وذهب بعضهم وذهب بعضهم لى جواز صوم الثلاث أيام التشريق. يروى ذلك عن عائشة وابن عمر وابن الزبير وهو قول مالك و الأوزاعي و أحمد و إسحاق . قوله تعالى " سبعة إذا رجعتم " أي صوموا سبعة أيام إذا رجعتم إلى أهليكم وبلدكم، فلو صام السبعة قبل الرجوع إلى أهله لا يجوز، وهو قول أكثر أهل العلم، روي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وقيل يجوز أن يصومها بعد الفراغ من أعمال الحج، وهوالمراد من الرجوع المذكور في الآية. قوله تعالى " تلك عشرة كاملة " ذكرها على وجه التأكيد وهذا لأن العرب ما كانوا يهتدون إلى الحساب فكانوا يحتاجون إلى فضل شرح وزيادة بيان، وقيل: فيه تقدم وتأخير يعني فصيام عشرة أيام ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجعتم فهي عشرة كاملة وقيل: كاملة الثواب والأجر، وقيل: كاملة فيما أريد به من إقامة الصوم بدل الهدي وقيل: كاملة(1/95)
بشروطها وحدودها، وقيل لفظه خبر ومعناه أمر أي فأكملوها ولا تنقصوها " ذلك " أي هذا الحكم " لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام " واختلفوا في حاضري المسجد الحرام، فذهب قوم إلى أنهم أهل مكة وهو قول مالك ، وقيل: هم أهل الحرم وبه قال طاووس من التابعين وقال ابن جريج : أهل عرفة والرجيع وضجنان ونخلتان، وقال الشافعي رحمه الله: كل من كان وطنه من مكة على أقل من مسافة القصر فهو من حاضري المسجد الحرام، وقال عكرمة : هم من دون الميقات، وقيل هم أهل الميقات فما دونه، وهو قول أصحاب الرأي، ودم القران كدم التمتع والمكي إذا قرن أو تمتع فلا هدي عليه، قال عكرمة : سئل ابن عباس عن متعة الحج فقال: أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأهللنا فلما قدمنا مكة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي ". فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة، وأتينا النساء ولبسنا الثياب ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج، فإذا فرغنا فقد تم حجنا وعلينا الهدي، فجمعوا نسكين في عام بين الحج والعمرة فإن الله أنزله في كتابه وسنة نبيه وأباحه للناس من غير أهل مكة قال الله تعالى: " ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ". ومن فاته الحج، وفواته يكون بفوات الوقوف بعرفة حتى يطلع الفجر يوم النحر، فإنه يتحلل بعمل العمرة، وعليه القضاء من قابل والفدية وهي على الترتيب والتقدير كفدية التمتع والقران. أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن نافع عن سليمان بن يسار أن هناد بن الأسود جاء يوم النحر وعمر بن الخطاب ينحر هديه فقال: يا أمير المؤمنين أخطأنا العدد، كنا نظن أن هذا اليوم يوم عرفة، فقال له عمر: اذهب إلى مكة فطف أنت ومن معك بالبيت واسعوا بين الصفا والمروة وانحروا هدياً إن كان معكم، ثم احلقوا أو قصروا ثم ارجعوا، فإذا(1/96)
كان عام قابل فحجوا واهدوا فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم. " واتقوا الله " في أداء الأوامر " واعلموا أن الله شديد العقاب " على ارتكاب المناهي.
==============================
قال تعالى : ( فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ (البقرة:200)
تفسير البغوي:
" فإذا قضيتم مناسككم " أي فرغتم من حجكم وذبحتم نسائككم، أي ذبائحكم، يقال: نسك الرجل ينسك نسكا إذا ذبح نسيكته، وذلك بعد رمي جمرة العقبة والاستقرار بمنى. " فاذكروا الله " بالتكبير والتحميد والثناء عليه " كذكركم آباءكم " وذلك أن العرب كانت إذا فرغت من الحج وقفت عند البيت فذكرت مفاخر آبائها، فأمرهم الله تعالى بذكره وقال: فاذكروني فأنا الذي فعلت ذلك بكم وبآبائكم وأحسنت إليكم وإليهم. قال ابن عباس و عطاء : معناه فاذكروا الله كذكر الصبيان الصغار الآباء، وذلك أن الصبي أول ما يتكلم يلهج بذكر أبيه ل بذكر غيره فيقول الله فاذكروا الله لا غير كذكر الصبي أباه أو اشد، وسئل ابن عباس عن قوله " فاذكروا الله كذكركم آباءكم " فقيل قد يأتي على الرجل اليوم ولا يذكر فيه أباه، قال ابن عباس: ليس كذلك ولكن أن تغضب لله إذا عصي أشد من غضبك لوالديك إذا شتما، وقوله تعالى " أو أشد ذكراً " يعني: وأشد ذكراً، وبل أشد، أي وأكثر ذكراً " فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا " أراد به المشركين كانوا لا يسألون الله تعالى في الحج إلا الدنيا يقولون اللهم أعطنا غنماً وإبلاً وبقراً وعبيداً، وكان الرجل يقوم فيقول يارب: لإن أبي كان عظيم القبة كبير الجفنة كثير المال فأعطني مثل ما أعطيته، قال قتادة هذا عبد نيته الدنيا لها أنفق ولها عمل ونصب " وما له في الآخرة من خلاق " من حظ ونصيب(1/97)
قال تعالى : (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام:162)
تفسير البغوي:
قوله عز وجل: " قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً "، قرأ أهل الكوفة والشام (قيماً) بكسر القاف وفتح الياء خفيفةً، وقرأ الآخرون بفتح القاف وكسر الياء مشدداً ومعناهما واحد وهو القويم المستقيم، وانتصابه على معنى هداني ديناً قيماً، " ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين ".
162- " قل إن صلاتي ونسكي " ، قيل: أراد بالنسك الذبيحة في الحج والعمرة، وقال مقاتل: نسكي: حجي، وقيل: ديني، " ومحياي ومماتي "، أي: حياتي ووفاتي، " لله رب العالمين "، أي: هو يحييني ويميتني، وقيل: محياي بالعمل الصالح ومماتي إذا مت على الإيمان لله رب العاملين،وقيل: طاعتي في حياتي لله وجزائي بعد مماتي من الله رب العالمين. قرأ أهل المدينة: (ومحياي) بسكون الياء و(مماتي) بفتحها، وقراءة العامة (محياي) بفتح الياء لئلا يجتمع ساكنان
=============================
قال تعالى : (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ)(الحج:28)
تفسير البغوي:(1/98)
" ليشهدوا "، ليحضروا، " منافع لهم "، قال سعيد بن المسيب ، و محمد بن علي الباقر : العفو والمغفرة. وقال سعيد بن جبير : التجارة، وهي رواية ابن زيد عن ابن عباس، قال: الأسواق. وقال مجاهد : التجارة وما يرضى الله به من أمر البدنيا والآخرة. " ويذكروا اسم الله في أيام معلومات "، يعني عشر ذي الحجة في قول أكثر المفسرين. قيل لها ((معلومات)) للحرص على علمها بحسابها من أجل وقت الحج في آخرها. ويروى عن علي رضي الله عنه: أنها يوم النحر وثلاثة أيام بعده، وفي رواية عطاء عن ابن عباس أنها يوم عرفة والنحر وأيام التشريق. وقال مقاتل : المعلومات أيام التشريق. " على ما رزقهم من بهيمة الأنعام "، يعني: الهدايا، والضحايا، تكون من النعم، وهي الإبل والبقر والغنم. واختار الزجاج أن الأيام المعلومات: يوم النحر وأيام التشريق، لأن الذكر على بهيمة الأنعام يدل على التسمية على نحرها، ونحر الهدايا يكون في هذه الأيام. " فكلوا منها " أمر إباحة وليس بواجب، وإنما قال ذلك لأن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من لحوم هداياهم شيئاً، واتفق العلماء على أن الهدي إذا كان تطوعاً يجوز للمهدي أن يأكل منه وكذلك أضحية التطوع لما: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني ، أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري ، أخبرنا أحمد بن علي الكشهيمني ، أخبرنا علي بن حجر ، أخبرنا إسماعيل بن جعفر ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله قال في قصة حجة الوداع: وقدم علي ببدن من اليمن وساق رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بدنة فنحر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وستين بدنة بيده ونحر علي ما بقي، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تؤخذ بضعة من كل بدنة فتجعل في قدر، فأكلا من لحمها وحسيا من مرقها . واختلفوا في الهدي الواجب بالشرع هل يجوز للمهدي أن يأكل منه شيئاً؟ مثل دم التمتع والقران والدم(1/99)
الواجب بإفساد الحج وفواته وجزاء الصيد؟ فذهب قوم إلى أنه لا يجوز أن يأكل منه شيئاً، وبه قال الشافعي ، وكذلك ما أوجبه على نفسه بالنذر، وقال ابن عمر: لا يأكل من جزاء الصيد والنذر، ويأكل مما سوى ذلك، وبه قال أحمد و إسحاق ، وقال مالك : يأكل من هدي التمتع ومن كل هدي وجب عليه إلا من فدية الأذى وجزاء الصيد والمنذور، وعند أصحاب الرأي يأكل من دم التمتع والقران ولا يأكل من واجب سواهما. قوله عز وجل: " وأطعموا البائس الفقير "، يعني: الزمن الفقير الذي لا شيء و((البائس)) الذي اشتد بؤسه، والبؤس شدة الفقر.
=================================
قال تعالى : ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ)( الحج:34)
تفسير البغوي:(1/100)
" ليشهدوا "، ليحضروا، " منافع لهم "، قال سعيد بن المسيب ، و محمد بن علي الباقر : العفو والمغفرة. وقال سعيد بن جبير : التجارة، وهي رواية ابن زيد عن ابن عباس، قال: الأسواق. وقال مجاهد : التجارة وما يرضى الله به من أمر البدنيا والآخرة. " ويذكروا اسم الله في أيام معلومات "، يعني عشر ذي الحجة في قول أكثر المفسرين. قيل لها ((معلومات)) للحرص على علمها بحسابها من أجل وقت الحج في آخرها. ويروى عن علي رضي الله عنه: أنها يوم النحر وثلاثة أيام بعده، وفي رواية عطاء عن ابن عباس أنها يوم عرفة والنحر وأيام التشريق. وقال مقاتل : المعلومات أيام التشريق. " على ما رزقهم من بهيمة الأنعام "، يعني: الهدايا، والضحايا، تكون من النعم، وهي الإبل والبقر والغنم. واختار الزجاج أن الأيام المعلومات: يوم النحر وأيام التشريق، لأن الذكر على بهيمة الأنعام يدل على التسمية على نحرها، ونحر الهدايا يكون في هذه الأيام. " فكلوا منها " أمر إباحة وليس بواجب، وإنما قال ذلك لأن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من لحوم هداياهم شيئاً، واتفق العلماء على أن الهدي إذا كان تطوعاً يجوز للمهدي أن يأكل منه وكذلك أضحية التطوع لما: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني ، أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري ، أخبرنا أحمد بن علي الكشهيمني ، أخبرنا علي بن حجر ، أخبرنا إسماعيل بن جعفر ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله قال في قصة حجة الوداع: وقدم علي ببدن من اليمن وساق رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بدنة فنحر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وستين بدنة بيده ونحر علي ما بقي، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تؤخذ بضعة من كل بدنة فتجعل في قدر، فأكلا من لحمها وحسيا من مرقها . واختلفوا في الهدي الواجب بالشرع هل يجوز للمهدي أن يأكل منه شيئاً؟ مثل دم التمتع والقران والدم(1/101)
الواجب بإفساد الحج وفواته وجزاء الصيد؟ فذهب قوم إلى أنه لا يجوز أن يأكل منه شيئاً، وبه قال الشافعي ، وكذلك ما أوجبه على نفسه بالنذر، وقال ابن عمر: لا يأكل من جزاء الصيد والنذر، ويأكل مما سوى ذلك، وبه قال أحمد و إسحاق ، وقال مالك : يأكل من هدي التمتع ومن كل هدي وجب عليه إلا من فدية الأذى وجزاء الصيد والمنذور، وعند أصحاب الرأي يأكل من دم التمتع والقران ولا يأكل من واجب سواهما. قوله عز وجل: " وأطعموا البائس الفقير "، يعني: الزمن الفقير الذي لا شيء و((البائس)) الذي اشتد بؤسه، والبؤس شدة الفقر.
=======================================
قال تعالى : ( لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ)( الحج:67)
تفسير البغوي:
قوله عز وجل: " لكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه "، قال ابن عباس: يعني شريعة هم عاملون بها. وروي عنه أنه قال: عيداً. قال قتادة و مجاهد : موضع قربان يذبحون فيه. وقيل: موضع عبادة. وقيل: مألفاً يألفونه. والمنسك في كلام العرب: الموضع المعتاد لعمل خير أو شر، ومنه ((مناسك الحج)) لتردد الناس إلى أماكن أعمال الحج. " فلا ينازعنك في الأمر "، يعني في أمر الذبائح. نزلت في بديل بن ورقاء، وبشر بن سفيان، وسزيد بن خنيس قالوا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ما لكم تأكلون مما تقتلون بأيديكم ولا تأكلون مما قتله الله. قال الزجاج : معنى قوله " فلا ينازعنك " أي: لا تنازعهم أنت، كما يقال: لا يخاصمك فلان، أي: لا تخاصمه، وهذا جائز فيما يكون بين الإثنين، ولا يجوز: لا يضربنك فلان، وأنت تريد: لا تضربه، وذلك أن المنازعة والمخاصمة لا تتم إلا باثنين، فإذا ترك أحدهما فلا مخاصمة هناك. " وادع إلى ربك "، إلى الإيمان بربك، " إنك لعلى هدىً مستقيم ".
الإفاضة من عرفات(1/102)
قال تعالى : ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ) (البقرة:198)
تفسير البغوي:
قوله تعالى: " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم " أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا علي بن عبد الله أخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية فلما كان الإسلام تأثموا من التجارة فيها فأنزل الله تعالى " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم " في مواسم الحج، قرأ ابن عباس كذا، وروى عن أبي أمامة التيمي قال: قلت لابن عمر: إنا قوم نكري في هذا الوجه، يعني إلى مكة، فيزعمون أن لا حج لنا، فقال: ألستم تحرمون كما يحرمون وتطوفون كما يطوفون وترمون كما يرمون؟ قلت بلى، قال: أنت حاج: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الذي سألتني عنه فلم يجبه بشيء حتى نزل جبريل بهذه الآية " ليس عليكم جناح " أي حرج " أن تبتغوا فضلاً " أي رزقاً " من ربكم " يعني بالتجارة في مواسم الحج " فإذا أفضتم " دفعتم، والإفاضة: دفع بكثرة وأصله من قول العرب: أفاض الرجل ماء أي صبه " من عرفات " هي جمع عرفة، جمع بما حولها وإن كانت بقعة واحدة كقولهم ثوب أخلاق. واختلفوا في المعنى الذي لأجله سمي الموقف واليوم عرفة فقال عطاء : كان جبريل عليه السلام يري إبراهيم عليه السلام المناسك ويقول عرفت؟ فيقول عرفت فسمي ذلك المكان عرفات واليوم عرفة، وقال الضحاك : إن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض وقع بالهند وحواء بجدة فجعل كل واحد منهما يطلب صاحبه فاجتمعا بعرفات يوم عرفة وتعارفا فسمي اليوم يوم عرفة والموضع عرفات،(1/103)
وقال السدي لما أذن إبراهيم في الناس بالحج وأجابوه بالتلبية وأتاه من أتاه أمره الله أن يخرج إلى عرفات ونعتها له فخرج فلما بلغ الجمرة عند القعبة استقبله الشيطان ليرده فرماه بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة فطار فوقع على الجمرة الثانية، فرماه وكبر فطار، فلما نظر إليه لم يعرفه فجاز فسمي ذا المجاز، ثم انطلق حتى وقف بعرفات فعرفها بالنعت فسمي الوقت عرفة والموضع عرفات حتى إذا أمسى ازدلف إلى جمع، أي قرب إلى جمع، فسمي المزدلفة. وروي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنه أن إبراهيم عليه السلام رأى ليلة التروية في منامه أنه يؤمر بذبح ابنه فلما أصبح روى يومه أجمع أي فكر، أمن الله تعالى هذه الرؤيا أم من الشيطان؟ فسمي اليوم يوم التروية، ثم رأى ذلك ليلة عرفة ثانياً فلما أصبح عرف أن ذلك من الله تعالى فسمي اليوم يوم عرفة، وقيل سمي بذلك لأن الناس يعترفون في ذلك اليوم بذنوبهم، وقيل سمي بذلك من العرف وهو الطيب، وسمي منىً لأنه يمنى فيه الدم أي يصب فيكون فيه الفروث والدماء ولا يكون الموضع طيباً وعرفات طاهرة عنها فتكون طيبة. قوله تعالى: " فاذكروا الله " بالدعاء والتلبية " عند المشعر الحرام " وهو ما بين جبلي المزدلفة من مأزمي عرفة إلى المحسر، وليس المأزمان ولا المحسر من المشعر، وسمي مشعراً من الشعار وهي العلامة لأنه من معالم الحج، وأصل الحرام: من المنع فهو، ممنوع أن يفعل فيه ما لم يؤذن فيه، وسمي المزدلفة جمعاً: لأنه يجمع فيه بين صلاتي العشاء، والإفاضة من عرفات تكون بعد غروب الشمس، ومن جمع قبل طلوعها من يوم النحر. قال طاووس كان أهل الجاهلية يدفعون من عرفة قبل أن تغيب الشمس ومن مزدلفة بعد أن تطلع الشمس ويقولون: أشرق ثبير كيما نغير فأخر الله هذه وقدم هذه. أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن موسى بن عقبة عن كريب مولى عبد الله بن عباس عن أسامة بن(1/104)
زيد أنه سمعه يقول: (( دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل فبال، ثم توضأ فلم يسبغ الوضوء، فقلت له: الصلاة يا رسول الله قال: فقال الصلاة أمامك، فركب فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت العشاء فصلاها ولم يصل بينهما شيئاً )). وقال جابر : " دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئاً، ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة، فدعاه وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً فدفع قبل أن تطلع الشمس". أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا زهير بن حرب أخبرنا وهب بن جرير أخبرنا أبي عن يونس الأيلي عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أسامة بن زيد كان ردف النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة إلى المزدلفة ثم أردف الفضل من مزدلفة إلى منى، قال: فكلاهما قال لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى جمرة العقبة )). قوله تعالى: " واذكروه كما هداكم " أي واذكروه بالتوحيد والتعظيم كما ذكركم بالهداية فهداكم لدينه ومناسك حجه " وإن كنتم من قبله لمن الضالين " أي وقد كنتم، وقيل: وما كنتم من قبله إلا من الضالين. كقوله تعالى: " وإن نظنك لمن الكاذبين " (186-الشعراء) أي: وما نظنك إلا من الكاذبين، والهاء في قوله (( من قبله )) راجعة إلى الهدى، وقيل: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كناية عن غير مذكور.
النحر(1/105)
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)( المائدة:2)
تفسير البغوي:(1/106)
قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله "، نزلت في الحطم واسمه شريح بن ضبيعة البكري ، أتى المدينة،وخلف خيله خارج المدينة ، ودخل وحده على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إلى ما تدعو الناس ؟ فقال : إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، [ وأن محمداً رسول الله ] ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، فقال : [ حسن ] ، إلا أن لي أمراء لا أقطع أمراً دونهم ، ولعلي أسلم وآتي بهم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : يدخل عليكم رجل من ربيعة يتكلم [ بلسان ] شيطان ، ثم خرج شريح من عنده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد دخل بوجه كافر وخرج بقفا غادر وما الرجل بمسلم فمر بسرح المدينة فاستاقه وانطلق ، فاتبعوه فلم يدركوه ، فلما كان العام القابل خرج حاجا في حجاج بكر بن وائل من اليمامة و معه تجارة عظيمة ، وقد قلد الهدي ، فقال المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم : هذا الحطم قد خرج حاجاً فخل بيننا وبينه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنه قد قلد الهدي ، فقالوا : يا رسول الله هذا شيء كنا نفعله في الجاهليه ، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل : " يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله " قال ابن عباس و مجاهد : هي مناسك الحج ، وكان المشركون يحجون ويهدون ، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فنهاهم الله عن ذلك. وقال أبو عبيدة : شعائر الله هي الهدايا المشعرة ، والإشعار من الشعار ، وهي العلامة ، وإشعارها : إعلامها بما يعرف أنها هدي ، والإشعار ها هنا : أن يطعن في صفحة سنام البعير بحديدة حتى يسيل الدم ، فيكون بذلك علامة أنها هدي ، وهي سنة في الهدايا إذا كانت من الأبل ، لما أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن أسماعيل ثنا أبو نعيم أنا أفلح عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : "فتلت قلائد بدن النبي صلى الله عليه وسلم بيدي ،(1/107)
ثم قلدها وأشعرها وأهداها ، فما حرم عليه شيء كان أحل له " وقاس الشافعي البقر على الإبل في الإشعار ، وأما الغنم فلا تشعر بالجرح، فإنها لا تحتمل الجرح لضعفها ، وعند أبي حنيفة : لا يشعر الهدي . وقال عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما : لا تحلوا شعائر الله هي أن تصيد وأنت محرم ، بدليل قوله تعالى : " وإذا حللتم فاصطادوا " وقال السدي : أراد حرم الله ، وقيل : المراد منه النهي عن القتل في الحرم ، وقال عطاء : شعائر الله حرمات الله واجتناب سخطه واتباع طاعته. قوله : " ولا الشهر الحرام " أي : القتال فيه ، وقال ابن زيد : هو النسيء ، وذلك أنهم كانوا يحلونه في الجاهليه عاما ويحرمونه عاماً ، " ولا الهدي " وهو كل ما يهدى إلى بيت الله من بعير أو بقرة أو شاة ، " ولا القلائد " أي الهدايا المقلدة ، يريد ذوات القلائد ، وقال عطاء : أراد أصحاب القلائد ، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا أرادوا الخروج من الحرم قلدوا أنفسهم ,إبلهم بشيء من لحاء شجر الحرم كيلا يتعرض لهم ، فنهى الشرع عن استحلال شيء منها . وقال مطرف بن الشخير : هي القلائد نفسها وذلك أن المشركين كانوا يأخذون من لحاء شجر مكة ويتقلدونها فنهوا عن نزع شجرها . قوله تعالى : " ولا آمين البيت الحرام " ، أي : قاصدين البيت الحرام ، يعني الكعبة فلا تتعرضوا لهم ، " يبتغون " يطلبون " فضلاً من ربهم " يعني الرزق بالتجارة ، " ورضواناً "أي : على زعمهم ، لأن الكافرين لا نصيب لهم في الرضوان ، وقال قتادة : هو أن يصلح معاشهم في الدنيا ولا يعجل لهم العقوبة فيها ، وقيل : ابتغاء الفضل للمؤمنين والمشركين عامة ، وابتغاء الرضوان للمؤمنين خاصة ، لأن المسلمين والمشركين كانوا يحجون ، وهذه الآية إلى ها هنا منسوخة بقوله : " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " ( سورة التوبة ، 5 ) وبقوله : " فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا " ( سورة التوبة ، 28) ، فلا يجوز أن يحج مشرك ولا(1/108)
أن يأمن كافر بالهدي والقلائد. قوله عز وجل : " وإذا حللتم " من إحرامكم ، " فاصطادوا " ، أمر إباحة ، أباح للحلال أخذ الصيد، كقوله تعالى : " فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض " ( الجمعة ، 10 ) . " ولا يجرمنكم " ، قال ابن عباس و قتادة : لا يحملنكم ، يقال : جرمني فلان على أن صنعت كذا ، أي حملني ، وقال الفراء : لا يكسبنكم ، يقال : جرم أي : كسب ، وفلان جريمة أهله ، أي كاسبهم ، وقيل : لا يدعونكم ، " شنآن قوم "اي بغضهم وعداوتهم ، وهو مصدر شنئت ، قرأ ابن عامر و أبو بكر شنآن قوم بسكون النون الأولى ، وقرأ الآخرون بفتحها ، وهما لغتان ، والفتح أجود ، لأن المصادر أكثرها فعلان ، بفتح العين مثل الضربان والسيلان والنسلان ونحوها ، " أن صدوكم عن المسجد الحرام " ، قرأ ابن كثير وأبوعمرو بكسر الألف على الإستئناف ، وقرأ الآخرون بفتح الألف ، أي : لأن صدوكم ، ومعنى الآية : ولايحملنكم عداوة قوم على الإعتداء لأنهم صدوكم . وقال محمد بن جرير : لأن السورة نزلت بعد قضية الحديبية ، وكان الصد قد تقدم ، " أن تعتدوا " ، عليهم بالقتل وأخذا لأموال ، " وتعاونوا " ، أي : ليعن بعضكم بعضاً ، " على البر والتقوى " ، قيل البر متابعة الأمر ، والتقوى مجانبة النهي ، وقيل البر : الإسلام ، والتقوى: السنة ، " ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " ، قيل :الإثم : الكفر ، والعدوان : الظلم ، وقيل الإثم : المعصية ، والعدوان : البدعة .(1/109)
أخبرنا أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري أنا أبوعبد الله محمدبن أحمد بن محمد بن أبي طاهر الدقاق ببغداد أخبرنا أبوالحسن علي بن محمد بن الزبير القرشي أنا الحسن بن علي بن عفان أنا زيد بن الحباب عن معاوية بن صالح حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير بن مالك الحضرمي عن أبيه عن النواس بن سمعان الأنصاري قال :" سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم ، قال : البر حسن الخلق ، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس " . " واتقوا الله إن الله شديد العقاب ".
=============================
قال تعالى : ( جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )(المائدة:97)
تفسير البغوي:(1/110)
قوله عز وجل : " جعل الله الكعبة البيت الحرام " ، قال مجاهد : سميت كعبة لتربيعها ، والعرب تسمي كل بيت مربع كعبةً ، قال مقاتل : سميت كعبة لانفرادها من البناء ، وقيل : سميت كعبة لارتفاعها من الأرض ، وأصلها من الخروج والارتفاع ، وسمي الكعب كعباً لنتوئه ، وخروجه من جانبي القدم ، ومنه قيل للجارية إذا قاربت البلوغ وخرج ثديها : تكعبت . وسمي البيت الحرام : لأن الله تعالى حرمه وعظم حرمته ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السموات والأرض " ." قياماً للناس " ، قرأ ابن عامر " قيماً " بلا ألف والآخرون : (( قياماً )) بالألف ، أي قواماً لهم في أمر دينهم ودنياهم ، أما الدين لأن به يقوم الحج والمناسك ، وأما الدنيا فيما يجبى إليه من الثمرات ، وكانوا يأمنون فيه من النهب والغارة فلا يتعرض لهم أحد في الحرم ، قال الله تعالى : " أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم " ( العنكبوت -67) " والشهر الحرام " ، أراد به الأشهر الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ، أراد أنه جعل الأشهر الحرم قياماً للناس يأمنون فيها القتال ، " والهدي والقلائد " أراد أنهم كانوا يأمنون بتقليد الهدي ، فذلك القوام فيه .
قال تعالى : ( ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ) (الحج:32)
تفسير البغوي:
ذلك "، يعني: الذي ذكرت من اجتناب الرجس وقول الزور، " ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب "، قال ابن عباس ((شعائر الله)) البدن والهدي، وأصلها من الإشعار، وهو إعلامها ليعرف أنها هدي، وتعظيمها: استسمانها واستحسانها. وقيل ((شعائر الله)) أعلام دينه، " فإنها من تقوى القلوب "، أي: فإن تعظيمها من تقوى القلوب.
===============================(1/111)
قال تعالى : ( وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) (الحج:36&37)
تفسير البغوي:
" الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم "، من البلاء والمصائب، " والمقيمي الصلاة "، أي: المقيمين للصلاة في أوقاتها، " ومما رزقناهم ينفقون "، يتصدقون.(1/112)
36. قوله عز وجل: " والبدن "، جمع بدنة سميت بدنة لعظمها وضخامتها، يريد: الإبل العظام الصحاح الأجسام، يقال بدن الرجل بدناً وبدانةً إذا ضخم، فأما إذا أسن واسترخى يقال بدن تبديناً. قال عطاء و السدي : البدن: الإبل والبقر أما الغنم فلا تسمى بدنة. " جعلناها لكم من شعائر الله "، من أعلام دينه، سميت شعائر لأنها تشعر، وهو أن تطعن بحديدة في سنامها فيعلم أنها هدي، " لكم فيها خير "، النفع في الدنيا والأجر في العقبى، " فاذكروا اسم الله عليها "، عند نحرها، " صواف "، أي: قياماً على ثلاث قوائم قد صفت رجليها وإحدى يديها، ويدها اليسرى معقولة فينحرها كذلك. أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا عبد الله بن مسلمة ، أخبرنا يزيد بن زريع ، عن يونس ، عن زياد بن جبير قال: رأيت بن عمر أتى على رجل قد أناخ بدنةً ينحرها، قال: ابعثها قياماً مقيدةً سنة محمد صلى الله عليه وسلم. وقال مجاهد : الصواف إذا عقلت رجلها اليسرى وقامت على ثلاث قوائم. وقرأ ابن مسعود: ((صوافن)) وهى أن تعقل منها يد وتنحر على ثلاث، وهو مثل صواف. وقرأ أبي و الحسن و مجاهد : ((صوافي)) بالياء أي: صافية خالصة لله لا شريك له فيها. " فإذا وجبت جنوبها "، أي: سقطت بعد النحر فوقعت جنوبها على الأرض. وأصل الوجوب: الوقوع. يقال: وجبت الشمس إذا سقطت للمغيب، " فكلوا منها "، أمر إباحة، " وأطعموا القانع والمعتر "، اختلفوا في معناها: فقال عكرمة و إبراهيم و قتادة : ((القانع)) الجالس في بيته المتعفف يقنع بما يعطى ولا يسأل، و ((المعتر)) الذي يسأل. وروى العوفي عن ابن عباس: ((القانع)) الذي لا يتعرض ولا يسأل، و ((المعتر)) الذي يريك نفسه ويتعرض ولا يسأل، فعلى هذين التأويلين يكون ((القانع)): من القناعة، يقال: قنع قناعة إذا رضي بما قسم له. وقال سعيد بن جبير و الحسن و الكلبي : ((القانع)):(1/113)
الذي يسأل، ((والمعتر)): الذي يتعرض ولا يسأل، فيكون ((القانع)) من قنع يقنع قنوعاً إذا سأل. وقرأ الحسن : ((والمعتري)) وهو مثل المعتر، يقال: عره واعتره وعراه واعتراه إذا أتاه يطلب معروفه، إما سؤالاً أو تعرضاً. وقال ابن زيد : ((القانع)): المسكين، ((والمعتر)): الذي ليس بمسكين، ولا يكون له ذبيحة يجيء إلى القوم فيتعرض لهم لأجل لحمهم. " كذلك " أي: مثل ما وصفنا من نحرها قياماً، " سخرناها لكم "، نعمة منا لتتمكنوا من نحرها، " لعلكم تشكرون "، لكي تشكروا إنعام الله عليكم.
37. " لن ينال الله لحومها ولا دماؤها "، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا نحروا البدن لطخوا الكعبة بدمائها قربة إلى الله، فأنزل الله هذه الآية: " لن ينال الله لحومها ولا دماؤها " قرأ يعقوب ((تنال وتناله)) بالتاء فيهما، وقرأ العامة بالياء. قال مقاتل : لن يرفع إلى الله لحومهما ولا دماؤها، " ولكن يناله التقوى منكم "، ولكن ترفع إليه منكم الأعمال الصالحة والتقوى، والإخلاص ما أريد به وجه الله، " كذلك سخرها لكم "، يعني: البدن، " لتكبروا الله على ما هداكم "، أرشدكم لمعالم دينه ومناسك حجه، وهو أن يقول: الله أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أبلانا وأولادنا، " وبشر المحسنين "، قال ابن عباس: الموحدين.
===================================
قال تعالى : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ )(الكوثر:2)
تفسير البغوي:
فصل لربك وانحر"، قال محمد بن كعب: إن أناساً كانوا يصلون لغير الله وينحرون لغير الله، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصلي وينحر لله عز وجل. وقال عكرمة وعطاء وقتادة: فصل لربك صلاة العيد ويوم النحر، وانحر نسكك. وقال سعيد بن جبير، ومجاهد: فصل الصلوات المفروضة بجمع، وانحر البدن بمنىً. وروي عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال: "فصل لربك وانحر" قال: وضع اليمين على الشمال في الصلاة عند النحر.
تم بحمد الله(1/114)