بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والصلاة والسلام الأتمَّان الأكملان على خير خلق الله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره واتبع هداه.
أما بعد: فإن الحج رحلة مباركة، ومناسبة ميمونة، وسياحة محمودة.
وإن للحج ثمارَه اليانعةَ، وفوائدَه المتعددةَ، وبركاتِه المتنوعةَ، ودروسَه المفيدةَ، وأسرارَه البديعةَ.
ولقد يسر الله أن كتبت بعض الكلمات في هذا الشأن، وأُلقيت في عدد من المناسبات، ورغبة في عموم النفع أحببت نشر تلك الكلمات، فطبعت أكثر من مرة، ثم أعدت فيها النظر، وزدت عليها عدداً من الكلمات، فجاء هذا الكتاب مشتملاً على الموضوعات التالية:
أولاً: ... من آداب الحج.
ثانياً: ... من منافع الحج ودروسه.
ثالثاً: ... مشهد التقوى في الحج.
رابعاً: ... الذكر في الحج.
خامساً: ... الدعاء في الحج.
سادساً: ... مشهد المراقبة في الحج.
سابعاً: ... مشهد الصبر في الحج.
ثامناً: ... مشهد الشكر في الحج.
تاسعاً: ... مشهد مراغمة الشيطان في الحج.
عاشراً: ... مشهد الاضطرار والتذلل، وانتظار الفرج في الحج.
حادي عشر: ... مشهد العزة في الحج.
ثاني عشر: ... مشهد الاستغفار في الحج.
ثالث عشر: ... مشهد التوبة في الحج.
رابع عشر: ... من معاني العيد.
فأسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن ينفع بهذه الكلمات، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
للحج آدابٌ عظيمة، وأخلاقٌ قويمة،يَحسُن بالحاج أن يقف عليها، ويَجمُل به أن يأخذ بها، ليكون حجه كاملاً مبروراً، وسعيه مقبولاً مشكوراً.
ومن تلك الآداب والأخلاق ما يلي:
1_ الاستشارة والاستخارة: فيستحب للحاج أن يستشير من يثق بدينه، وخبرته وعلمه في حجه هذا، كما يستحب له أن يستخير الله _ تعالى _ في حجه.
وهذه الاستخارة وتلك الاستشارة لا تعود إلى الحج نفسه؛ فالحج خير.(1/1)
وإنما تعود إلى ملاءمة الوقت، وتعود إلى المصلحة، وحال الشخص، وتعود إلى الرفيق، والزاد.
2_ إخلاص النية لله _ تعالى _: فلا يقصد في حجه رياء ولا سمعة، ولا ليقال: حج فلان، ولا ليطلق عليه لقب الحاج.
وإنما يحج محبة لله، ورغبة في ثوابه، وخشية من عقابه، وطلباً لرفع الدرجات، وحط السيئات؛ فالإخلاص عليه مدار العمل.
قال _ تعالى _: [وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ](البينة : 5) وقال النبي ": =إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل أمرئ ما نوى+رواه البخاري ومسلم.
3_ المبادرة إلى كتابة الوصية: ذلك أنه مُقْدِم على الحج، ومُتَعَرِّضٌ لمصاعب الطريق، فحري به أن يكتب وصيته، وبيان ما له وما عليه، وجدير به أن يوصي
أهله وأصحابه قبل سفره؛ بتقوى الله _ تعالى _.
4_ المبادرة إلى التوبة النصوح: وهي التوبة الناصحة الخالصة، التي تأتي على جميع الذنوب؛ فحري بالحاج أن يبادر إلى تلك التوبة، وأن يتحلل من المظالم؛ فذلك أرجى لقبول حجه، ورفعة درجاته، ومغفرة سيئاته، بل وتبديلها حسنات.
5_ التفقه في أحكام الحج: ولو على سبيل الإجمال؛ فإن لم يستطع؛ فليأخذ معه من الكتب أو الأشرطة ما يفيده في معرفة أحكام الحج، وأن يسأل عما يُشكل عليه.
6_ الحرص على اصطحاب الرفقة الطيبة: التي تعينه على الخير إذا تذكَّر، وتذكره بالخير إذا نسي، والتي يستفيد من جرَّاء صحبتها العلم النافع، والخلق الفاضل.
7_ تأمير الأمير: فإذا كان الحجاج جماعة فعليهم أن يؤمروا أميراً، وأن يكون ذا خبرة وسداد رأي، وعليهم أن يلزموا طاعته في غير معصية الله، وليحذروا من الاختلاف عليه، كما عليه أن يرفق بهم، وأن يستشيرهم.(1/2)
8_ حسن العشرة للأصحاب: ومن ذلك أن يقوم الإنسان على خدمتهم بلا منَّة ولا تباطؤ، وأن يشكرهم إذا قاموا بالخدمة، وأن يتحمل ما يصدر من الرفقة من جفاء وغلظة ونحو ذلك، وأن يرى الحاج أن لأصحابه عليه حقاً، ولا يرى لنفسه عليهم حقاً؛ فذلك من كريم الخلال ومن حميد الخصال، ومما تُرفع به الدرجات، وتُحط السيئات.
ومن حسن العشرة: أن يبتعد الحاج عن مشاجرة الأصحاب، ومخاصمتهم، فإن حصل شيء من ذلك فليبادر إلى الاعتذار، وإذا تعذر الاجتماع فالأولى أن يفترقا؛ لتسلم القلوب، ويتمكن كل واحد منهما من أداء مناسكه دونما تشوّش أو قلق، وبعد ذلك تهدأ العاصفة، ويحصل الائتلاف.
ومن حسن العشرة: أن يحرص الحاج على ملاطفة أصحابه، وإدخال السرور عليهم خصوصاً الضعفة والنساء.
ومن الأدب مع الأصحاب: أن يحرص الحاج على الالتزام بالمواعيد، وأن يتلطف بالاعتذار إن حصل خطأ أو تأخير، أو خلل، وأن يتحمل ما يصدر منهم من عتاب إذا هم عاتبوا، وأن يتقبل العذر من غيره إذا هم أخطؤوا بتأخر أو خلل، فذلك دليل سمو النفس، وبُعد الهمة، وحسن المعاشرة، فالعاقل اللبيب الكريم هو من يتحمل أذى الناس، ولا يحمِّلهم أذاه.
9_ تَخَيُّرُ النفقة الطيبة: فيختار الحاج النفقة الطيبة من المال الحلال، حتى يُقبل حجه ودعاؤه، قال النبي ":=إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً+رواه مسلم.
10_ لزوم السكينة، واستعمال الرفق: قال النبي ": =أيها الناس! عليكم بالسكينة؛ فإن البرَّ ليس بالإيضاع+رواه البخاري ومسلم.
وقال: =إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنزع من شيء إلا شانه+رواه مسلم.
11_ الحرص على راحة الحجاج، والحذر من أذيتهم: فعلى الحاج أن يحرص كل الحرص على راحة إخوانه الحجاج، وأن يبتعد عن كل ما فيه أذى لهم، من رفع للصوت، أو إطلاق للأبواق بلا داع، أو أن يزاحمهم، أو يضيق عليهم، أو أن يؤذيهم بالتدخين أو نحو ذلك.(1/3)
ومما يَجمُل به أيضاً أن: يحب لإخوانه الحجاج ما يحب لنفسه، وأن يكره لهم ما يكرهه لنفسه، فيتحمل أذاهم، ويصبر على بعض ما يصدر منهم من زحام، أو تصرفات مقصودة أو غير مقصودة ؛ فالإنسان الكريم يصبر على أذى ضيوفه حرصاً على إكرامهم، فكيف بضيوف ربه؟! إن إكرامهم أولى ثم أولى، وإنه لدليل على إجلال الله وتوقيره، وإنه لدليل على كمال العقل، ومتانة الدين؛ لأنه لا أحسن من درء الإساءة بالإحسان.
12_ حفظ اللسان: وذلك بتجنب فضول الكلام، وسيئه، والبعد عن الغيبة والنميمة، والسخرية بالناس، وبالحذر من كثرة المزاح أو الإسفاف فيه، وبصيانة اللسان من السب والشتم.
ومن ذلك: أن يحذر الحاج من المماحكة، وكثرة المماكسة، وأن يحذر من المخاصمة والجدال إلا إذا كان جدالاً لإحقاق الحق، وإبطال الباطل بالتي هي أحسن.
13_ غض البصر: لأن الحاج يعرض له ما يَعْرِضُ من الفتن، فمن النساء من تخرج سافرة عن وجهها، ويديها، وقدميها وربما أكثر من ذلك؛ فعلى الحاج أن يغض بصره، وأن يحتسب ذلك عند الله _ تعالى _ وبذلك يسلم قلبه من التشوّش، ويسلم حجه من النقص، ويحفظ على نفسه دينه، ويبتعد عن الفتن والبلايا، ويحصل على ثمرات غض البصر المتنوعة، والتي منها: الفراسة الصادقة، والحلاوة التي يجدها في قلبه، إلى غير ذلك من ثمرات غض البصر العديدة.
14_ لزوم النساء الستر والعفاف: فعليهن ذلك،وعليهن الحذر من مخالطة الرجال وفتنتهم، وعليهن الحذر من التبرج والسفور، والسفر بلا محرم.
15_ الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله: كل ذلك حسب القدرة، والاستطاعة مع لزوم الرفق، واللين، والحكمة، والموعظة الحسنة، والرحمة بالمدعوين والتلطف بهم، والصبر على بعض ما يصدر منهم.
16_ إعانة الحجاج: وذلك بقدر المستطاع، كأن يرشد ضالهم، ويعلم جاهلهم ونحو ذلك من الإعانات المتعددة.(1/4)
17_ الاستكثار من النفقة: ليواسي المحتاجين، وليرفد إخوانه إذا احتاجوا، وليبادر إلى إعانتهم إذا شعر بأنهم في حاجة ولو لم يطلبوا.
18_ استشعار عظمة الزمان والمكان: فذلك يبعث الحاج لأداء نسكه بخضوع لله، وإجلال له _ تعالى _:[ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ](الحج: 32)، ثم إن ذلك يُصَبِّرُه على بعض ما يلقاه من نصب أو تعب، أو أذى.
19_ اغتنام الأوقات: فعلى الحاج أن يغتنم وقته بما يقربه إلى الله _ تعالى _ من ذكر أو دعاء، وقراءة للقرآن، وذلك في أي مكان من تلك البقاع المباركة، فذلك سبب لانشراح صدره، ومضاعفة أجره، وإمداده بالقوة والطاقة، وشهود تلك الأماكن له يوم القيامة.
20_ استحضار انقضاء أيام الحج: فهي قليلة معدودة، وسرعان ما تنقضي، فإذا استحضر الحاج ذلك كان دافعاً له إلى اغتنامها، والبعد عما يفسد حجه، أو ينقص أجره.
21_ المحافظة على أداء الفرائض: وذلك بالحرص على أداء الصلوات المكتوبة مع الجماعة، وأن يحذر كل الحذر من تأخيرها عن وقتها.
22_ البعد عن إجهاد النفس فيما لا يعني: فذلك سبب لأن يتوفر الإنسان على النشاط، ويتقوى على أداء المناسك، بيسر وسهولة.
أما إذا أجهد نفسه بلا داع، وفيما لا يعني كان ذلك مدعاة لتعبه، ومرضه، وتكاسله عن أداء النسك على الوجه الذي ينبغي.
23_ ألا يكون هَمُّ الحاج أن يقضي نسكه: بل عليه أن يستشعر عظمة ما يقوم به، وأن يكون قلبه منطوياً على تعظيم أمر الله، وأن يحرص على أن يتلذذ بما يقوم به؛ فذلك من أعظم ما يعينه على انشراح صدره، وإتيانه بالنسك على الوجه الأكمل.
وبالجملة: فليحرص الحاج على كل ما يقربه إلى ربه، وعلى كل ما يعينه على أداء نسكه، وليحذر كل الحذر من كل ما يفسد عليه حجه، أو ينقص أجره من قول أو عمل.(1/5)
تقبل الله من المسلمين حجَّهم، وأعانهم على أداء مناسكهم، وأصلح ذات بينهم، وجمع على الحق كلمتهم، ونصرهم على عدوه وعدوهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
لقد شرع الله الشعائر والعبادات لِحِكَمٍ عظيمة، ومصالح عديدة لا ليضيق بها على الناس، ولا ليجعل عليهم في الدين من حرج.
ولكل عبادة في الإسلام حِكَمٌ بالغة، يظهر بعضها بالنص عليها، أو بأدنى تدبُّر، وقد يخفى بعضها إلا على المتأملين الموفَّقين في الاستجلاء والاستنباط.
والحكمة الجامعة في العبادات هي: تزكية النفوس، وترويضها على الفضائل، وتطهيرها من النقائص، وتصفيتها من الكدُرات، وتحريرها من رقِّ الشهوات، وإعدادها للكمال الإنساني، وتقريبها للملأ الأعلى، وتلطيف كثافتها الحيوانية؛ لتكون رِقَّاً للإنسان، بدلاً من أن تَسْتَرِقَّهُ.
وفي كل فريضة من فرائض الإسلام امتحان لإيمان المسلم، وعقله، وإرادته.
هذا وإن للحج أسراراً بديعة، وحكماً متنوعة، وبركاتٍ متعددة، ومنافع مشهودة، سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى الأمة.
قال الله _ تبارك وتعالى _ في محكم التنزيل: [وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ] (الحج).
والحديث ههنا سيكون حول بعض المنافع التي تشهد في الحج، والتي وردت مجملة في قوله _ تعالى _: [لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ].
قال الشيخ العلامة عبد الرحمن السعدي × في الآية السابقة: =أي لينالوا ببيت الله منافع دينية من العبادات الفاضلة، والعبادات التي لا تكون إلا فيه، ومنافع دنيوية من التكسب، وحصول الأرباح الدنيوية، وهذا أمر مشاهد كلٌّ يعرفه+ا. هـ.
وإليكم طرفاً من تلك المنافع والدروس التي تُنال بالحج:(1/6)
أولاً: تحقيق العبودية والتوحيد لله _ تبارك وتعالى _: فكمال المخلوق في تحقيق العبودية لربه، وكل ما ازداد العبد تحقيقاً لها ازداد كماله وعلت درجته، وفي الحج يتجلى هذا المعنى غاية التجلي؛ ففي الحج تذلل لله، وخضوع وانكسار بين يديه؛ فالحاج يخرج من ملاذ الدنيا مهاجراً إلى ربه، تاركاً ماله وأهله ووطنه، متجرداً من ثيابه، لابساً إحرامه، حاسراً عن رأسه، متواضعاً لربه، تاركاً الطيب والنساء، متنقلاً بين المشاعر بقلب خاشع، وعين دامعة، ولسان ذاكر يرجو رحمة ربه، ويخشى عذابه.
ثم إن شعار الحاج منذ إحرامه إلى حين رمي جمرة العقبة والحلق =لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك+.
ومعنى ذلك: أنني خاضعٌ لك، منقادٌ لأمرك، مستعد لما حملتني من الأمانات؛ طاعة لك، واستسلاماً دونما إكراه، أو تردد.
وهذه التلبية ترهف شعور الحاج، وتوحي إليه بأنه _ منذ فارق أهله _ مقبلٌ على ربه، متجردٌ عن عاداته ونعيمه، منسلخ من مفاخره ومزاياه.
ولهذا التواضع والتذلل أعظم المنزلة عند الله _ عز وجل _ إذ هو كمال العبد، وجماله، وهو مقصود العبودية الأعظم، وبسببه تمحى عن العبد آثارُ الذنوب، وظلمتها؛ فيدخل في حياة جديدة ملؤها الخير، وحشوها السعادة.
وإذا غلبت هذه الحال على الحجاج فملأت عبودية الله قلوبهم، وكانت هي المحرك لهم فيما يأتون، وما يذرون _ صنعوا للإنسانية الأعاجيب، وحرروها من الظلم، والشقاء، والبهيمية.
ثانياً: التعود على اغتنام الأوقات؛ فالوقت رأس مال الإنسان، والوقت من أَجَلِّ ما ينبغي أن يصان عن الإضاعة والإهمال.
وفي الحج يقوم الحاج بأعمال عظيمة، وفي أماكن مختلفة متباعدة مزدحمة، وفي أيام محددة، قد لا تتجاوز أربعة أيام.
وفي هذا دليل على أن في الإنسان طاقةً هائلةً مخزونة لو استثارها لآتت أكلها ضعفين أو أكثر، وهذا درس عظيم يبعث المسلم إلى أن يعتاد اغتنام الأوقات، وأن يحرص على أن لا يضيع منها شيئاً في غير فائدة.(1/7)
ثالثاً: ارتباط المسلمين بقبلتهم التي يولون وجوههم شطرها في صلواتهم المفروضة خمس مرات في اليوم؛ وفي هذا الارتباط سر بديع يصرف وجوههم عن التوجه إلى غربٍ كافر، أو شرقٍ ملحد؛ فتبقى لهم عزتهم، وكرامتهم.
رابعاً: تحقق الأخوة الإسلامية: فالقبلة واحدة، والرب واحد، والمشاعر واحدة واللباس واحد، والمناسك واحدة، والزمان واحد، فكل هذه الأمور تجتمع في الحج، وهي مدعاة للإحساس بوحدة الشعور، وموجبة للتآخي، والتعارف، والتعاون على مصالح الدين والدنيا.
خامساً: أن الحج فرصة عظيمة للإقبال على الله بشتى القربات: حيث يجتمع في الحج من العبادات ما لا يجتمع في غيره؛ فيشارك الحج غيره من الأوقات بالصلوات وغيرها من العبادات التي تُفعل بالحج وغير الحج، وينفرد بالوقوف بعرفة، والمبيت بالمزدلفة، ورمي الجمار، وإراقة الدماء، وغير ذلك من أعمال الحج.
سادساً: الحج وسيلة عظمى لحط السيئات ورفعة الدرجات؛ فالحج يهدم ما كان قبله، قال النبي " لعمرو بن العاص ÷: =أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله+رواه مسلم.
والحج أفضل الأعمال بعد الإيمان والجهاد؛ فعن أبي هريرة ÷ قال: سئل النبي ": أي الأعمال أفضل؟ قال: =إيمان بالله ورسوله+، قيل: ثم ماذا؟ قال: =جهاد في سبيل الله+، قيل: ثم ماذا؟ قال: =حج مبرور+رواه البخاري.
والحج أفضل الجهاد؛ فعن عائشة _ رضي الله عنها _ قالت: قلت يا رسول الله: نرى الجهاد أفضل الأعمال، أفلا نجاهد؟ قال: =لا، لكن أفضل الجهاد حج مبرور+رواه البخاري.
والحج المبرور جزاؤه الجنة، قال ": =العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة+رواه مسلم.
والحاج يعود من ذنوبه كيوم ولدته أمه إذا كان حجه مبروراً، قال النبي ": =من حج هذا البيت فلم يرفث، ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه+رواه البخاري، ومسلم.(1/8)
سابعاً: هياج الذكريات الجميلة، ففي الحج تهيج الذكريات الجميلة: وهذا سر بديع من أسرار الحج العزيزة على كل قلب مسلم، وما أكثر تلك الذكريات، وما أجمل ترددها على الذهن؛ فالحاج على سبيل المثال يتذكر أبانا إبراهيم الخليل _عليه السلام _ فيتذكر توحيده لربه، ومُهاجرَه في سبيله، وكمال عبوديته، وتقديمه محابَّ ربِّه على محابِّ نفسه، ويتذكر ما جرى له من الابتلاءات العظيمة، وما حصل له من الكرامات، والمقامات العالية، ويتذكر أذانه في الحج، ودعاءه لمكة المكرمة، وبركات تلك الدعوات التي ترى آثارها إلى يومنا الحاضر.
ويتذكر الحاج ما كان من أمنا هاجر _ عليها السلام _ فيتذكر سعيها بين الصفا والمروة؛ بحثاً عن ماءٍ تشربه؛ لتدر باللبن على وليدها أبينا إسماعيل ذلك السعي الذي أصبح سنة ماضية، وركناً من أركان الحج.
ويتذكر أبانا إسماعيل _ عليه السلام _ فيمر بخاطره مشاركة إسماعيل لأبيه إبراهيم في بناء الكعبة، ويتذكر ما كان من بر إسماعيل بأبيه؛ حيث أطاعه لما أخبره بأن الله يأمره بذبحه، فما كان من إسماعيل إلا أن قال: [افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ](الصافات:102).
ويتذكر الحاج أن مكة هي موطن النبي " ففيها ولد وشب عن الطوق، وفيها تنزل عليه الوحي، ومنها شعَّ نور الإسلام الذي بدد دياجير الظلمات.
ويتذكر من سار على تلك البطاح المباركة من أنبياء الله ورسله، وعباده الصالحين؛ فيشعر بأنه امتداد لتلك السلسلة المباركة، وذلك الركب الميمون.
ويتذكر الصحابة _ رضي الله عنهم _ وما لاقوه من البلاء في سبيل نشر هذا الدين.
ويتذكر أن هذا البيت أول بيت وضع للناس وأنه مبارك وهدى للعالمين.
بلدة عظمى وفي آثارها ... أنفعُ الذكرى لقوم يعقلونْ
شبَّ في بطحائها خيرُ الورى ... وشبا في أُفِقْها أسمحُ دينْ(1/9)
فهذه الذكريات الجميلة تربط المؤمن بأكرم رباط، وتبعث في نفسه حبَّ أسلافه الكرام، والحرصَ على اتباع آثارهم، والسير على منوالهم.
ثم إن الحاج إذا عاد من رحلة حجه حمل معه أغلى الذكريات، وأعزَّها على نفسه؛ فتظل نفسُه متلهفةً للعودة إلى تلك البقاع المباركة، ورحم الله الإمام الصنعاني إذ يقول في قصيدته الطويلة في ذكرى الحج ومنافعه:
أيا عذبات البان من أيمن الحِمَى ... رعى اللهُ عيشاً في رباك قطعناهُ
سرقناه من شرخ الشباب وروقه ... فلما سرقنا الصَّفْوَ منه سُرِقْنَاهُ
وعادت جيوشُ البين يقدمها القضا ... فَبَدَّدَ شملاً في الحجاز نظمناهُ
ونحن لجيران المُحَصَّب جيرةٌ ... نُوفِّي لهم عهد الودادِ ونرعاهُ
فهاتيك أيامُ الحياةِ وغيرُها ... مماتٌ فيا ليت النوى ما شهدناهُ
فيا ليت عنا أغمض البينُ طَرْفَهُ ... ويا ليت وقتاً للفراق فقدناهُ
وترجع أيامُ الُمحَصَّب من منى ... ويبدو ثراه للعيون وحصباهُ
وتسرح فيه العِيْسُ بين ثُمامِه ... وتستنشق الأرواحُ نَشْرَ خُزاماهُ
نَحِنُّ إلى تلك الربوع تشوُّقاً ... ففيها لنا عَهْدٌ وعقدٌ عقدناهُ
وربٍّ برانا ما نسينا عهودَكم ... وما كان من ربع سواكم سلوناهُ
ففي ربعهم لله بيتٌ مباركٌ ... إليه قُلوبُ الخَلْقِ تَهْوِي وتهواهُ
يطوف به الجاني فيُغْفَرُ ذنْبُه ... ويسقط عنه جرمه وخطاياهُ
فكم لذةٍ كم فرحةٍ لطوافه ... فللهِ ما أحلى الطوافَ وأهناهُ
نطوف كأنَّا في الجنان نطوفها ... ولا همَّ لا غمٌّ فذاك نفيناهُ
فيا شوقنا نحو الطواف وطِيبه ... فذلك شوقٌ لا يحاط بمعناهُ
فمن لم يَذُقهُ لم يذقْ قطُّ لذةً ... فَذُقْهُ تَذُقْ يا صاحِ ما قد أُذِقْنَاهُ
إلى آخر ما قاله من قصيدته الطويلة الماتعة.(1/10)
ثامناً: اكتساب الأخلاق الجميلة: فالحج ميدان فسيح لمن أراد ذلك؛ فالحاج يتدرب عملياً على الحلم، والصبر، والمداراة، وكظم الغيظ من جراء ما يلقى من الزحام، والتعب، والنصب سواء في الطريق إلى الحج، أو في الطواف، أو في السعي، أو في رمي الجمار، أو غيرها من المناسك؛ فيتحمل الحاج ما يلقاه من ذلك؛ لعلمه بأن الحج أيام معدودة، ولخوفه من فساد حجه إذا هو أطلق لنفسه نوازع الشر، ولإدراكه بأن الحجاج ضيوف الرحمن؛ فإكرامهم، والصبر على ما يصدر من بعضهم دليل على إجلال الله _ عز وجل _.
فإذا تحمل الحاج تلك المشاق في أيام الحج صار ذلك دافعاً لأن يتخلق بالأخلاق الجميلة بقية عمره.
ثم إن الحاج يتعلم الكرم، والبذل، والإيثار، والبر، والرحمة، وذلك من خلال ما يراه من المواقف النبيلة الرائعة التي تجسد هذه المعاني؛ فهذا سخي يجود بالإنفاق على المساكين، وذاك كريم بخلقه يعفو عمن أساء إليه، وأخطأ في حقه، وذاك رحيم يعطف على المساكين ويتلطف بهم، وذاك حليم يصبر على ما يلقاه من أذى، وذاك بَرٌّ بوالده يحمله على عاتقه، وذاك يحوط أمه العجوز بلطفه ورعايته.
بل ويكتسب الأخلاق الجميلة إذا رأى من لا يدركون معنى الحج، ممن يغضبون لأدنى سبب، وتطيش أحلامهم عند أتفه الأمور.
فإذا رأى العاقلُ البصيرُ سوء فعال هؤلاء انبعث إلى ترك الغضب، وتجافى عن مرذول الأخلاق.
تاسعاً: تذكر الآخرة: فإذا رأى الحاج ازدحام الناس، ورأى بعضهم يموج في بعض، وهم في صعيد واحد، وبلباس واحد، وقد حسروا عن رؤوسهم، وتجردوا من ثيابهم، ولبسوا الأردية والأزر، وتجردوا من ملذات الدنيا، ومتعها _ تذكر يوم حشره على ربه؛ فيبعثه ذلك إلى الاستعداد للآخرة، ويقوده إلى استصغار متاع الحياة الدنيا، ويرفعه عن الاستغراق فيها، ويكبر بِهِمَّته عن جعلها قبلة يولي وجهه شطرها حيثما كان.(1/11)
أيها الحاج الكريم أسأل الله أن يجعل حجك مبروراً، وسعيك مشكوراً، وذنبك مغفوراً، وأن يعيد علينا وعليك وعلى أمة الإسلام من بركات الحج.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
لكل عبادة في الإسلام حكمةٌ أو حكمٌ يظهر بعضها بالنص عليه، أو بأدنى عمل عقلي، وقد يخفى بعضها إلا على المتأملين المتعمقين بالتفكر، والتدبر، والموفقين بالاستجلاء، والاستدبار.
ولكل عبادة في الإسلام تُؤدَّى على وجهها المشروع، أو بمعناها الحقيقي آ ثارٌ في النفوس تختلف باختلاف العاملين في صدق التوجُّه، واستجماع الخواطر، وإخلاص النيات، واستحضار العلاقة بالمعبود.
والعبادات إذا لم تُعْطِ آثارها في أعمال الإنسان الظاهرة فهي عبادات مدخولة، أو جسد بلا روح.
هذا وإن للحج حِكَماً باهرة، وأسراراً بديعة، وآثاراً على الفرد والأمة.
وما زال المسلمون ينهلون من معين الحج العذب، ويشهدون دروسه النافعة، وينالون من بركاته المتنوعة.
والحديث ههنا سيدور حول أعظم درس، وأكبر حكمة تشهد في الحج، ألا وهي التقوى.
ولو تأملنا النصوص الواردة في الحج لوجدناها في معظمها تدور حول هذا المعنى العظيم، قال الله _ تعالى _: [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألْبَابِ](البقرة: 197)، وقال _ عز وجل _: [لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ](الحج: 37)، وقال _ تبارك وتعالى _:[ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ] (الحج :32).(1/12)
فأولوا الألباب الذين خصهم الله بالنداء لتقواه؛ يأخذون من الحج عبرة للتزود من التقوى، فينظرون إلى أصل التشريع الإلهي، ومكانته المهمة في الدين، ويعلمون أن صدق المحبة والعبودية لله لا يكون إلا بتقديم مراد الله على كل مراد.
فهذا إبراهيم الخليل _ عليه السلام _ ابتلاه الله _ تعالى _ بذبح ابنه الوحيد إسماعيل، الذي ليس له سواه، والذي رزقه الله إياه عند كبر سنه، والذي هو أحب محبوب من محبوبات الدنيا.
وهذا الأمر من أعظم البلاء، وبه يتحقق الإيمان، وتظهر حقيقة الامتحان، فالخليل أعطى المسلمين درساً عظيماً للصدق مع الله، وذلك بتقديم مراد الله على مراد النفس مهما غلا وعظم، فإنه بادر إلى التنفيذ مع شدة عاطفته، وعظيم رحمته ورقته وشفقته _ فأفلح، وأنجح، وتجاوز هذا البلاء، فرحمه الله، وشلَّ حركة السكين عن حلق ابنه، بعد أن أهوى بها الخليل؛ ففداه الله بذبح عظيم، وجعلها سنة مؤكدة باقية في المسلمين إلى يوم القيامة، ليعاملوا الله _تعالى_ معاملة المحب لحبيبه ومعبوده، فيضحوا بمرادات نفوسهم، ومحبوباتها في سبيل مراد الله ومحبوبه.
فإذا عرف الحجاج هذا المعنى، وأدركوا هذا السر العظيم الذي لأجله شرعت الهدي والأضاحي؛ عادوا يحملون تلك المعاني العظيمة، التي تجعلهم لا يتوانون عن تنفيذ شيء من أوامر الله، فلا تمنعهم لذة النوم وشهوة الفراش عن المبادرة إلى القيام إلى صلاة الفجر، ولا يمنعهم حب المال، والحرص على جمعه من ترك الغش، والغبن، والربا، والتطفيف، وإنفاق السلع بالأيمان الكاذبة.
ولا يمنعهم حب الشهوات والميل إلى النساء، والطمع في نيل اللذة المحرمة من غض البصر، ولزوم العفة، وحفظ الفروج، إيثاراً لما يحبه الله على ما تحبه نفوسهم، وتنزع إليه طبائعهم، ورغبة في نيل رضا الله، وعوضه في الدنيا والآخرة.
ولا يمنعهم حب الدنيا عن الإنفاق في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم.(1/13)
وعلى هذه النبذة اليسيرة من أعمال الحج فقس؛ وهكذا يستفيد أولوا الألباب من هذا الدرس العظيم من الحج ما يتزودون به على التقوى.
وبما أن الوصية بالتقوى أعظم ما ورد في القرآن الكريم، وبما أن أعمال الحج تدور حول هذا المعنى العظيم _ فإليكم شيئاً من البسط لمفهوم التقوى وفضائلها.
تعريف التقوى: عرف العلماء التقوى بتعريفات عديدة هي من باب اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد، ومن تعريفاتهم ما قاله طلق بن حبيب ×: =التقوى أن تعملَ بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله+.
وعرفها الراغب الأصفهاني × بقوله: =التقوى بتعارف الشرع حفظ النفس عما يُؤثِم، وذلك بترك المحظور، ويتم ذلك بترك بعض المباحات+.
وقال ابن الجوزي ×: =التقوى اعتماد المتقي ما يحصل به الحيلولة بينه وبين ما يكرهه+.
وقال ابن تيمية ×: =اسم تقوى الله يجمع فِعْلَ كلِّ ما أمر الله به إيجاباً واستحباباً, ونهى عنه تحريماً وتنزيهاً, وهذا يجمع حقوق الله وحقوق العباد+.
وقال ابن رجب ×: =أصل التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقايةً تَقِيْهِ منه؛ فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبينما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وقايةً تقيه من ذلك وهو فعل طاعته واجتناب معصيته+.
والكلام في التقوى يتضمن مسألتين عظيمتين:
المسألة الأولى: التقوى الكاملة: وهي ما اشتملت على فعل الواجبات, وترك المحرمات والشبهات، وربما دخل فيها بعد ذلك فعل المندوبات، وترك المكروهات، وبعض المباحات, هذا أعلى درجات التقوى, قال الحسن ×: =ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال؛ مخافة الحرام+.
وقال ميمون بن مِهران ×: =المتقي أشد محاسبة لنفسه من الشريك الشحيح لشريكه+.
المسألة الثانية: أن التقوى لابد أن تكون بعلم: قال ابن رجب ×: =وأصل التقوى أن يعلم العبد ما يتقي ثم يتقيه+.(1/14)
قال عون بن عبد الله: =تمام التقوى أن تبتغي علم ما لم يُعْلَمْ منها إلى ما علم منها+.
وذكر معروف الكرخي × عن بكر بن خنيس × قال: =كيف يكون متقياً من لا يدري ما يتقي؟+.
ثم قال معروف: =إذا كنت لا تحسن تتقي أكلت الربا، وإذا كنت لا تحسن تتقي لقيتك امرأةٌ فلم تَغُضَّ بصرك, وإذا كنت لا تحسن تتقي وضعت سيفك على عاتقك+.
ثمرات التقوى:
التقوى وصية الله لخلقه ووصية رسول الله " لأمته, وثمرات التقوى لا تكاد تحصى ولا تحصر؛ إذ هي منبع كل خير ديني ودنيوي، وإليكم ذكراً لبعض تلك الثمرات:
1_ الحفظ من الأعداء، قال الله _ تعالى _: [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً](آل عمران:120).
2_ التأييد والنصر والمعية الخاصة، قال _ تعالى _: [إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ](النحل:128).
3_ حصول المخرج للمتقي، ورزقه من حيث لا يحتسب، قال _ تعالى _: [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً(2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ](الطلاق).
4_ حصول التيسير، قال الله _ تعالى _: [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً] (الطلاق:4).
5_ قبول العمل، قال الله _تعالى_: [إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ](المائدة:27).
6_ أن أكرم الناس عند الله أتقاهم له، قال الله _ تعالى _: [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ](الحجرات:13).
7_ النجاة من النار، قال الله _ عز وجل _: [وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً] (مريم).
8 _ دخول الجنة، قال الله _ عز وجل _: [وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ](آل عمران:133).(1/15)
9_ محبة الله للمتقي، قال الله _ عز وجل _: [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ](التوبة:4).
10_ انتفاء الخوف والحزن، ونيل البشارة في الدنيا والآخرة، والفوز العظيم، قال الله _ تعالى _: [أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ](يونس).
11_ أن الله يجعل للمتقي فرقاناً يفرق به بين الحق والباطل، قال الله _ تعالى _: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً](الأنفال:29).
12_ تكفير السيئات، وتعظيم الأجور، قال _ عز وجل _:[وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً](الطلاق:5).
13_ التقوى طريق العلم، قال _ عز وجل _: [وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ] (البقرة:282).
14_ التقوى سبيل الفلاح، قال _ عز وجل _: [وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (آل عمران:130).
15_التقوى خير الزاد، قال _ عز وجل _: [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى] (البقرة:197).
16_ التقوى خير لباس، قال _ عز وجل _: [وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ](الأعراف:26).
17_ أن العاقبة للتقوى وللمتقين، قال الله _ عز وجل _: [وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى] (طه:132)، وقال _ تعالى _: [وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ](القصص:83).
18_ نيل ولاية الله، قال الله _ تبارك وتعالى _: [إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ](الأنفال:34).(1/16)
19_ نيل البركات، قال الله _ تعالى _: [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ](الأعراف:96).
وصايا السلف بالتقوى:
ومما يؤكد شأن التقوى أن السلف الصالح كانوا يتواصون بالتقوى كثيراً، ولو رام أحد من الناس حصر تلك الوصايا لربما أعياه الأمر، وإليكم طرفاً منها:
كان أبو بكر ÷ يقول في خطبته: =أما بعد: فإني أوصيكم بتقوى الله، وأن تثنوا عليه بما هو أهله+.
ولما حضرته الوفاة وعهد إلى عمر، دعاه، فوصاه بوصية، وأول ما قال له: =اتق الله يا عمر+.
وكتب عمر بن الخطاب إلى ابنه عبد الله _ رضي الله عنهما _: =أما بعد: فإني أوصيك بتقوى الله _ عز وجل _ فإن من اتقاه وقاه، ومن أقرضه أجزاه، ومن شكره زاده؛ فاجعل التقوى نُصْبَ عينيك، وجلاء قلبك+.
واستعمل علي بن طالب ÷رجلاً على سرية فقال: =أوصيك بتقوى الله الذي لابد لك من لقائه، ولا منتهى لك دونه، وهو يملك الدنيا والآخرة+.
وكتب عمر بن عبد العزيز ×إلى رجل: =أوصيك بتقوى الله _ عز وجل _ التي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثيب إلا عليها؛ فإن الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل، جعلنا الله وإياك من المتقين+.
ولما ولي خطب فحمد الله، وأثنى عليه، وقال: =أوصيكم بتقوى الله _ عز وجل _ فإن تقوى الله خلف من كل شيء، وليس من تقوى الله خلف+.
الذكر شأنه عظيم، ومنزلته عالية في الدين؛ فما تقرب المتقربون بمثله، ولا شُرِعت العباداتُ إلا لأجله, قال الله _ عز وجل _: [ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ] وقال _ تبارك وتعالى _: [فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي].
وهذه العبادةُ العظيمةُ تظهر غايةَ الظهور في الحج؛ ذلكم أن الذكر هو المقصود الأعظم في الحج؛ فما شرع الطواف بالبيت العتيق، ولا السعيُ بين الصفا والمروة، ولا رميُ الجمار، ولا إراقةُ الدماء إلا لإقامة ذكر الله _ عز وجل _.(1/17)
قال _ تبارك وتعالى _: [لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً] البقرة.
وقال _ عز وجل _: [وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ].
وقال _ تبارك وتعالى _: [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ] الحج.
وقال _ عز وجل _: [لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرْ الْمُحْسِنِينَ].
وهكذا يتجلى شأن الذكر في الحج، ويستبين عظم منزلته، ورفيع مكانته.
ولقد جاءت نصوص الشرع متضافرة متظاهرة على فضل الذكر, وعموم نفعه، والثناء على أهله، والحث على الإكثار منه, قال _ تبارك وتعالى _: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً] الأحزاب، وقال _ عز وجل _: [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ]، وقال: [وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]، وقال: [وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً].(1/18)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =مما هو كالإجماع بين العلماء بالله وأمره أن ملازمة ذكر الله دائماً هو أفضل ما شغل به العبدُ نفْسَه في الجملة.
وعلى ذلك دلَّ حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم =سبق المفَرِّدون+.
قالوا: يا رسول الله! ومن المفردون؟
قال: =الذاكرون الله كثيراً والذاكرات+.
وفيما رواه أحمد والترمذي وابن ماجة وأبو داود عن أبي الدرداء ÷ عن النبي"أنه قال: =ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق، ومن أن تلقوا عدوكم، فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟+.
قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: =ذِكرُ الله+.
والدلائل القرآنية، والإيمانية بصراً، وخبراً، ونظراً على ذلك كثيرة.
وأقل ذلك أن يلزم الإنسانُ الأذكارَ المأثورةَ عن معلم الناس الخير، وإمام المتقين " كالأذكار المؤقتة في أول النهار، وآخره، وعند أخذ المضجع، وعند الاستيقاظ في المنام، وأدبار الصلوات، ودخول المنزل، والمسجد، والخلاء، والخروج من ذلك، وعند المطر، والرعد وغير ذلك.
وقد صنفت له الكتب المسمَّاة بعمل اليوم والليلة.
ثم ملازمة الذكر مطلقاً، وأفضله: لا إله إلا الله وقد تعرض أحوال يكون بقية الذكر مثل: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله أفضل منه+. أ_هـ.
أما فوائد الذكر فلا تكاد تحصى لكثرتها، وتنوع بركتها، وإليكم نبذةً عن تلكم الفوائد على سبيل الإجمال:
الذكر يرضي الرحمنَ، ويطرد الشيطانَ، ويزيل الهمَّ والغم، ويجلب البسطَ والسرور.
والذكر يجلب الرزق، ويحيي القلب، ويورث محبةَ الله للعبد، ومحبةَ العبد لله، ومراقَبَتَهُ _ عز وجل _ ومعرفتَه، والرجوعَ إليه، والقربَ منه.
والذكر يَحُطُّ السيئاتِ، وينفع صاحبَه عند الشدائد، ويزيل الوحشةَ ما بين العبد وربه.(1/19)
ومن فوائد الذكر: أنه يؤمِّن من الحسرة يوم القيامة، وأن فيه شُغْلاً عن الغيبة، والنميمة، والفحش من القول، وأنَّه مع البكاء من خشية الله سببٌ لإظلال الله للعبد يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
والذكر أمانٌ من النفاق، أمانٌ من نسيان الله.
ومن فوائده: أنه غراس الجنة، وأنه أيسر العبادات، وأقلُّها مشقة، ومع ذلك فهو يعدل عتق الرقاب، ويُرَتَّبُ عليه من الجزاء ما لا يرتب على غيره.
والذكر يغني القلب، ويسدُّ حاجته، ويجمعُ على القلب ما تفرق من إراداته وعزومه، ويفرق عليه ما اجتمع من الهموم، والغموم، والأحزان، والأنكاد، والحسرات.
ويفرق عليه _أيضاً _ ما اجتمع على حربه من شياطين الإنس والجن.
والذكر يقرِّب من الآخرة، ويباعد من الدنيا، ويعطي الذاكرَ قوةً، حتى إنه لَيفعلُ مع الذكر ما لا يُظن فعلُه بدون الذكر.
ومن فوائده أنه رأس الشكر؛ فما شكر الله من لم يذكره، وأن أكرم الخلق على الله من لا يزال لسانه رطباً من ذكر الله.
وبالذِّكر تَسْهُل الصعاب، وتَخِفُ المشاق، وتُيَسَّر الأمور، وتذوب قسوة القلب، وتُسْتَجْلَب بركة الوقت.
والذكر يوجب صلاةَ الله، وملائكتِه، ومباهاةَ الله _ عز وجل _ بالذاكرين ملائكتَه.
وللذكر تأثير عجيب في حصول الأمن، ودفع الخوف، ورفعه؛ فليس للخائف الذي اشتد خوفه أنفعُ من الذكر.
ثم إن الجبال والقفار تباهي وتبشر بمن يذكر الله عليها.
ودوام الذكر في الطريق، والبيت، والحضر والسفر، والبقاع تكثير لشهود العبد يوم القيامة.
وللذكر من بين الأعمال لذة لا تُعَادِلُها لذة.
وبالجملة فإن ثمرات الذكر وفوائده، تحصل بكثرته، وباستحضار ما يقال فيه، وبالمداومة على الأذكار المطلقة، والمقيدة، وبالحذر من الابتداع فيه، ومخالفة المشروع.
ومع فضل عموم الذكر فهناك أذكارٌ مطلقةٌ عظيمةٌ، وقد جاء في فضلها نصوصٌ كثيرة.
وأعظم هذه الأذكار: =سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله اكبر+.(1/20)
وقد جاء في فضلها أحاديث كثيرة، منها ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة ÷ قال: قال رسول الله ": =لأن أقول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس+.
ومن الأذكار العظيمة =لا حول ولا قوة إلا بالله+.
ومعناها: لا تحوُّلَ للعبد من حال إلى حال، ولا قوَّةَ له على ذلك إلا بالله.
وقد جاء في فضلها أحاديثُ كثيرةٌ منها ما جاء في سنن الترمذي عن عبدالله ابن عمرو_ رضي الله عنهما _ قال: قال رسول الله ": =ما على الأرض أحدٌ يقول: لا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله إلا كُفِّرتْ خطاياه، ولو كانت مثل زبد البحر+.
قال الترمذي: =وهذا حديث حسن غريب+.
وجاء في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري ÷ قال: قال رسول الله ": =يا أبا موسى، أو يا عبدالله بن قيس! ألا أدلك على كنز من كنوز الجنَّة+.
قلت:بلى.
قال: =لا حول ولا قوة إلا بالله+.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =لا حول ولا قوة إلا بالله تُحمل بها الأثقال، وتُكابد الأهوال، ويُنال رفيعُ الأحوال+.
وقال ابن القيم ×: =وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية _ رحمه الله تعالى _ يذكر أثراً في هذا الباب، ويقول: إن الملائكة لما أمروا بحمل العرش قالوا: يا ربنا! كيف نحمل عرشَك وعليه عظمتُك وجلالك؟.
فقال: قولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فلما قالوها حملوه+.
وقال ابن القيم _ أيضاً _: =وهذه الكلمة _ يعني لا حول ولا قوة إلا بالله _ لها تأثيرٌ عجيبٌ في معاناة الأشغال الصعبة، وتَحَمُّلِ المشاقِّ، والدخولِ على الملوك، ومَنْ يُخاف، وركوب الأهوال، ولها _ أيضاً _ تأثيرٌ في دفع الفقر+.
قال: =وكان حبيبُ بنُ مسلمةَ يَستَحب إذا لقيَ عدواً، أو ناهض حصناً، أن يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وأنه ناهض يوماً حصناً للروم فانهزم، فقالها المسلمون، وكبروا، فانهدم الحصن+.
ومن الأذكار المطلقة العظيمة =سبحان الله وبحمده+.(1/21)
ولقد جاء في فضلها أحاديثُ كثيرةٌ، منها ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة ÷ أن رسول " قال: =من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حُطَّت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر+.
ومن الأذكار العظيمة كذلك: =سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم+.
فقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة ÷ عن النبي " قال: =كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم+.
وأما أعظم الأذكار في الحج فهو التلبية؛ فهي عنوان الحج، وشعار الحاج _كما قال النبي " _ =الحج: العج، والثج+ رواه الترمذي وابن ماجة.
فالعج: التكبير والتلبية، والثج: هو الذبح.
أما طبقات الناس في الذكر فهي أربع طبقات، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =إحداها: الذكر بالقلب، واللسان، وهو المأمور به.
الثاني: الذكر بالقلب فقط، فإن كان مع عجز اللسان فحسنٌ، وإن كان مع قدرته فتركٌ للأفضل.
الثالث: الذكر باللسان فقط، وهو كون اللسان رطباً بذكر الله، ويقول الله _تعالى_ في الحديث القدسي: =أنا مع عبدي ما ذكرني، وتحركت بي شفتاه+.
الرابع: عدم الأمرين، وهو حال الأخسرين+ ا_هـ.
ومما يحسن التنبيه له أن للذكر مفهوماً خاصاً، وهو ما مضى الحديث عنه، وله مفهوم عامٌ شاملٌ، وهو كل ما تكلم به اللسان، وتصوره القلب، مما يقرب إلى الله، من تعلُّم علمٍ، وتعليمه، وأمرٍ بالمعروف، ونهيٍ عن المنكر فهو ذكرٌ لله.
ولهذا من اشتغل بطلب العلم النافع بعد أداء الفرائض، أو جلس مجلساً يتفقه أو يفقه فيه الفقهَ الذي سماه الله ورسوله فقهاً، فهذا _ أيضاً _ من ذكر الله.
وكذلك من قام بقلبه محبةُ الله، وخوفُه، ورجاؤه، ونحو ذلك فهو من ذكر الله.
كما يدخل في الذكر تلاوةُ القرآن، والدعاءُ، والصلاةُ، وإفشاءُ السلام، وإصلاحُ ذات البين، ومخاطبة الناس بالحسنى.(1/22)
ويدخل في ذلك الصدقةُ، ونشرُ الكتب، والدعوةُ إلى الله، فكلُّ ذلك وغيره داخلٌ في عموم مفهوم الذكر.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك، وحسن عبادتك، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد.
فالدعاء نعمة كبرى، ومنحة جلى، جاد بها ربنا _ جل وعلا _ حيث أمرنا بالدعاء ووعدنا بالإجابة، والإثابة.
فشأن الدعاء عظيم، ومنزلته عالية في الدين، فهو رأس الأمر وأصل الدين.
والدعاء عبادة لله، وتوكل عليه، والدعاء _ أيضاً _ محبوب لله وأكرم شيء عليه _ عز وجل _ والدعاء سبب عظيم لانشراح الصدر وتفريج الهم، ودفع غضب الله _ عز وجل _ والدعاء مفزع المظلومين، وملجأ المستضعفين، وأمان الخائفين.
والدعاء سبب لدفع البلاء قبل نزوله، ورفعه بعد نزوله.
ثم إن ثمرة الدعاء مضمونة إذا أتى الداعي بشرائط الدعاء وآدابه؛ فإما أن تُعجل له الدعوة، وإما أن يدفع عنه من السوء مثلها، وإما أن تُدخر له في الآخرة.
فما أشد حاجة العباد إلى الدعاء، بل ما أعظم ضرورتهم إليه، والأدلة على ذلك كثيرة جداً، والمقام لا يسمح بالتفصيل.
هذا وإن الحجَّ فرصةٌ عظيمة للإكثار من الدعاء، والإلحاح فيه على الله _ عز وجل _ ذلكم أن مظان إجابة الدعاء في الحج كثيرة متوافرة؛ فالأوقات، والأماكن، والأحوال، والأوضاع التي يُستجاب فيها الدعاء تتوافر في الحج أكثر مما تتوافر في غيره، فمن تلكم المظان التي تُرجى فيها الإجابة بالحج ما يلي:
1_ أن الحاج مسافر: والمسافر مستجاب الدعاء قال النبي ": =ثلاث دعوات مستجابات: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد لولده+ رواه البخاري في الأدب المفرد،وأبو داود، وصححه الألباني.
2_ أن الحاج مستجاب الدعوة: قال النبي ": =الغازي في سبيل الله، والحاج، والمعتمر وفد الله؛ دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم+ رواه ابن ماجة، وصححه الألباني.(1/23)
3_ في الحج يشتد الإخلاص: وذلك من أعظم أسباب الإجابة كما في قصة أصحاب الغار الذين انطبقت عليهم الصخرة _ كما في صحيح البخاري _ فكان إخلاصهم لله أعظم سبباً لنجاتهم.
4_ في الحج مواضع عديدة يشرع فيها الدعاء، وتُرجى الإجابة:
فمن ذلك الدعاء عند الصفا؛ لما جاء في صحيح مسلم من الحديث الطويل في صفة حجة النبي " التي رواها جابر ÷ وفي الحديث: =بدأ في الصفا فرقي حتى رأى البيت فاستقبل القبلة ووحد الله وكبره، وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم دعا بين ذلك، قال هذا ثلاث مرات+.
ومن ذلك الدعاء عند المروة؛ للحديث السابق وفيه: =ثم نزل المروة حتى إذا انْصَبَّتْ قدماه في بطن الوادي سعى، حتى إذا صعدتا مشى، حتى إذا أتى المروة فعل على المروة كما فعل على الصفا+.
ومن مواطن الإجابة في الدعاء في الحج: الدعاء يوم عرفة، قال النبي ": =أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له+ رواه مالك، والترمذي، وحسنه الألباني.
ومن تلك المواطن: الدعاء عند المشعر الحرام _ كما جاء في حديث جابر الطويل _ وفيه: =ثم ركب القصواء، حتى إذا أتى المشعر الحرام؛ فاستقبل القبلة، فدعاه، وكبره، وهلله، ووحده، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً+.
ومن ذلك الدعاء بعد رمي الجمرة الصغرى؛ لما جاء في صحيح البخاري =أن رسول الله " كان إذا رمى الجمرة التي تلي مسجدَ منى يرميها بسبع حصيات، ثم يكبر كلَّما رمى بحصاة، ثم تقدم أمامها فوقف مستقبل القبلة رافعاً يديه يدعو، وكان يُطيل الوقوف+.(1/24)
ومن ذلك الدعاء بعد رمي الجمرة الوسطى للحديث السابق وفيه: =ثم يأتي للجمرة الثانية، فيرميها بسبع حصيات يكبر كلما رمى بحصاة، ثم ينحدر ذات اليسار مما يلي الوادي، فيقف مستقبل القبلة رافعاً يديه يدعو، ثم يأتي الجمرة التي عند العقبة فيرميها بسبع حصيات يكبر عند كل حصاة، ثم ينصرف ولا يقف عندها+.
ومن ذلك الدعاء عند شرب ماء زمزم قال النبي ": =ماء زمزم لما شُرب له+ أخرجه أحمد، وابن ماجة، وصححه الألباني.
هذا وإن هناك مواضعَ وأحوالاً يشرع فيها الدعاء، وتُرجى الإجابة غير ما ذُكر، ويشترك فيها الحاج وغيره، ومن ذلك على سبيل الإجمال:
الدعاء في جوف الليل، ووقت السحر، ودبر الصلوات المكتوبات، وبين الأذان والإقامة، وعند نزول الغيث، وفي السجود، وعقب الوضوء، وبعد الصلاة على النبي " في التشهد الأخير.
ومن ذلك الدعاء عند رقة القلب، ودعاء المضطر، ودعاء المظلوم، ودعاء الوالد لولده، وعلى ولده، ودعاء الولد الصالح لوالده.
ومن ذلك عند الدعاء بـ: =لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين+ وفي حال المصيبة عند قول الداعي: =إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، واخلفني خيراً منها+.
أيها الحاج الكريم: ومما يجب عليك حال الدعاء ما يلي: أن تكون عالماً بأن الله وحده هو القادر على إجابة الدعاء، وألا تدعو مع الله أحداً غيره؛ لأن دعاء غير الله شرك بالله _ عز وجل _ وأن تتوسل إلى الله بالتوسلات المشروعة، كأن تسأل الله _ عز وجل _ بأسمائه الحسنى، أو أن تدعو بصالح عملك، أو غير ذلك من التوسلات المشروعة.
وأن تتجنب التوسلات الشركية، كدعاء غير الله، وأن تتجنب التوسلات البدعية، كالتوسل بجاه النبي " وأن تتجنب الاستعجال، وأن تكون حسن الظن بالله، وأن تكون حاضر القلب، مطيباً لمطعمك، متجنباً الاعتداء بالدعاء.
ومما يحسن بك أيها الحاج، أن تأتي بآداب الدعاء؛ كي يكون دعاؤك كاملاً، فمن تلك الآداب:(1/25)
الثناء على الله قبل الدعاء، والصلاة على النبي " والإقرار بالذنب وإظهار الفاقة والفقر، والتضرع والخشوع، والرغبة والرهبة، والإلحاح بالدعاء، وتجنب الدعاء على الأهل والمال والنفس، واستقبال القبلة، والدعاء ثلاثاً، ورفع الأيدي، واختيار الجوامع من الدعاء، وخفض الصوت، والإسرار بالدعاء إلا أن يكون خلف الداعي أناسٌ يُؤَمِّنون.
ومن الآداب: ألا يحجِّر الداعي رحمة الله، وأن يدعو لإخوانه المسلمين، وأن يسأل الله كلَّ صغيرة وكبيرة.
ومما يحسن بك أيها الحاج حال الدعاء أن تدعو بالأدعية المشروعة من الكتاب والسنة؛ لما فيها من الخير والاتباع، والبركة، والسلامة من الخطأ والاعتداء.
ومن تلك الأدعية القرآنية:
[رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ].
[رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ].
[رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ].
[رب رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ].
[لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ].
[رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي].
[رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ].
[رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ].
[رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ].
[رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ].
[رَبِّ زِدْنِي عِلْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ].(1/26)
[رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً].
[رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ].
ومن الأدعية النبوية:
اللهم إني أسألك الهدى، والتقى، والعفاف، والغنى.
يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك.
رب اغفر لي ذنبي كلَّه دِقَّه وجُلَّه، أوله وآخره، سره وعلانيته.
اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك.
اللهم إني أعوذ بك من العجز، والكسل، والجبن، والهرم، والبخل، وأعوذ بك من عذاب القبر، ومن فتنة المحيى والممات.
اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك.
أيها الحاج الكريم، إذا كانت هذه هي حالك مع الدعاء فحري أن يُستجاب لك [وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]، ولقد أحسن من قال:
وإني لأدعو الله والأمر ضيِّقٌ ... عليَّ فما ينفك أن يتفرجا
وربَّ فتى ضاقت عليه وجوهه ... أصاب له من دعوة الله مخرجا
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يتقبل من المسلمين حجهم، وصالح أعمالهم، وأن يجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(1/27)
فهذا درس عظيم, ومنفعة مشهودة تنال من الحج, وتكتسب من خلال أيامه المباركة, تلكم هي عبودية المراقبة لله _ عز وجل _ فالمواطن والمواضع والمناسك التي تنال منها تلك الفضيلة كثيرة جداً؛ فالحاج _ على سبيل المثال _ يعظِّم شعائر الله, والله _ تبارك وتعالى _ يقول:[ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ](الحج:32)، ومعنى تعظيمِها: إجلالُها، والقيامُ بها، وتكميلُها على أكمل ما يقدر عليه العبد.
ولا ريب أن ذلك الإجلال والتعظيم, إنما يكون في القلب, لا يطلع عليه إلا الله _ عز وجل _.
وكذلك ترى الحاجَّ يخلص في هداياه وقرابينه, وهو بذلك يراقب ربه، ويستحضر شهوده واطلاعه عليه، وأنه [لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ](الحج:37).
وكذلك ترى الحاجَّ يطوف في البيت العتيق سبعاً، ويسعى بين الصفا والمروة سبعاً, ويقف في عرفة في وقت محدد، وينصرف منها في وقت محدد,وهكذا مبيته في مزدلفة, ثم لا تراه يزيد في الجمار أو ينقص, ولا تراه يعمل عملاً من أعمال الحج في غير وقته, ولا يأتي محظوراً من محظورات الإحرام عالماً عامداً, وتجده إذا شك في أمرٍ ما, طفق يسأل أهل العلم هل عليه من إثم؟ وهل له من جبرٍ إذا أخطأ؟ لماذا؟ لأنه يرغب في قبول حجه, ويرهب من فساده أو رده, وما الذي يقوده إلى ذلك؟ إنه استحضار إطلاع ربه عليه.
ولا ريب أن هذا درسٌ عظيم, يبعث المسلم إلى مراقبة ربه في شتى أحواله, وسائر شؤونه، وأعماله، وأيامه؛ فالمطلع على أعمال الحج مطلعٌ على غيرها.
وبذلك يصل الحاج إلى أعلى مقام من مقامات العبادة, وأعلى مرتبة من مراتب الدين, ألا وهي مرتبة الإحسان؛ فالإحسان أن تعبد الله كأنك تراه, فإن لم تكن تراه فإنه يراك _ كما جاء في حديث جبريل المشهور في صحيح مسلم _.(1/28)
فإذا استشعر الحاج هذا المعنى العظيم, انبعث إلى مراقبة ربه _ عز وجل _ في شتى شؤونه, فالذي يطلع عليه في حجه مطلع على جميع أحواله _ كما مر _.
وهذا سرٌّ بديعٌ، ودرسٌ عظيمٌ تُفِيد منه الأمةُ بعامة، ويفيد منه الأفرادُ بخاصة؛ فواجب على المصلحين وقادةِ الأمم أن يتنبهوا لهذا المعنى، وأن يحرصوا على إشاعته في الناس؛ ذلكم أن وازعَ الدين والمراقبة لرب العالمين يفعل في النفوس ما لا يفعله وازعُ القوةِ والسلطان؛ فإذا أَلِفَ المرءُ أن يراقب ربه، ويستحضر شهوده واطلاعه عليه _ فإن المجتمعَ يأمنُ بوائقه، ويستريحُ من كثير من شروره.
أما إذا كان الاعتماد على وازعِ القوة، وحارسِ القانون _ فإن القوةَ قد تضعف، وإن الحارسَ قد يغفُل، وإن القانون قد يُؤَوَّل، وقد يُتَحايلُ للتخلص من سلطانه.
لذلك تكثر الجرائم والمفاسد إذا قلّت التربية الإسلامية في مجتمع ما، فإذا أشعنا هذا المعنى في الناس وعَمدْنا إلى تربيتهم بأسلوب الدين والفضيلة أرحنا واسترحنا، ووفَّرنا جهوداً كبيرة، وقد تكون ضائعة في غير ما فائدة؛ فالمراقبة حارسٌ قويٌّ يمنع الإنسانَ من التفكير في الجرائم والشرور.
وإذا راقب الإنسان ربَّه، واحترمه في خلواته أظهر الله فضله، ورفع ذكره؛ فالجزاء من جنس العمل، ومن يعمل سوءاً يجز به.
قال أبو حازم ×: =لا يُحْسِن عبدٌ فيما بينه وبين الله _ عز وجل _ إلا أحسن الله فيما بينه وبين الناس، ولا يعوِّر _ أي يفسد _ فيما بينه وبين الله _ عز وجل _ إلا عوَّر الله فيما بينه وبين العباد، ولَمُصَانعةُ وجهٍ واحدٍ أيسرُ من مصانعة الوجوه كلها؛ إنك إذا صانعت اللهَ مالت الوجوهُ كلُّها إليك، وإذا أفسدت ما بينك وبين الله شنأتك الوجوهُ كلُّها+.
وقال المعتمر بنُ سليمان ×: =إن الرجلَ يصيب الذنبَ في السر ّ، فيصبح وعليه مذلّتُه+.(1/29)
وقال ابن الجوزي ×: =نظرتُ في الأدلة على الحق _ سبحانه وتعالى _ فوجدتُها أكثرَ من الرمل،ورأيتُ من أعجبها؛ أن الإنسان قد يخفي ما لا يرضاه الله _ عز وجل _ فيظهره الله _ سبحانه وتعالى _ عليه ولو بعد حين، وينطق الألسنة به، وإن لم يشاهده الناس، وربما أوقع صاحبَه في آفة يفضحه بها بين الخلق؛ فيكون جواباً لكل ما أخفى من الذنوب، وذلك لِيَعْلَمَ الناسُ أن هنالك مَنْ يجازي على الزلل، ولا ينفع من قدرِه وقدرتِهِ حجابٌ ولا استتارٌ، ولا يضاع لديه عمل.
وكذلك يخفي الإنسان الطاعة، فتظهر عليه، ويتحدث الناس بها، وبأكثر منها، حتى إِنهم لا يعرفون له ذنباً، ولا يذكرونه إلا بالمحاسن، لِيُعْلَمَ أن هنالك ربَّاً لا يُضيع عَمَلَ عامل.
وإن قلوب الناس لَتَعْرِفُ حالَ الشخص، وتحبه أو تأباه، وتذمه أو تمدحه وَفْقَ ما يتحقق بينه وبين الله _ سبحانه وتعالى _ فإنه يكفيه كلَّ هم، ويدفع عنه كلَّ شر.
وما أصلح عبد ما بينه وبين الخلق، دون أن ينظر إلى الحق إلا انعكس مقصودُه، وعاد حامدُه ذامّاً+.
وقال ×: =إن للخلوة تأثيراتٍ تَبِيْنُ في الجلوة؛ كم من مؤمن بالله _ عز وجل _ يحترمه عند الخلوات، فيترك ما يشتهي؛ حذراً من عقابه،أو رجاءًا لثوابه، أو إجلالاً له، فيكون بذلك الفعل كأنه طرح عوداً هندياً على مجمر، فيفوح طيبه، فيستنشقه الخلائق، ولا يدرون أين هو.
وعلى قدر المجاهدة في ترك ما يهوى تقوى محبتُه، أو على مقدار زيادة دفع ذلك المحبوب المتروك يزيد الطِّيب، ويتفاوت تفاوتَ العود؛ فترى عيونَ الخلقِ تُعظِّم هذا الشخص، وألسنتُهم تمدحُه، ولا يعرفون لِمَ، ولا يقدرون على وصفه.
وقد تمتد تلك الأراييحُ _ أي الروائح الطيبة _ بعد الموتِ على قَدْرِها، فمنهم من يُذْكَرُ بالخير مدةً مديدةً، ثم ينسى، ومنهم من يذكر مائةَ سنةٍ ثم يخفى ذكره، ومنهم من يبقى ذكرهم أبداً.(1/30)
وعلى عكس هذا مَنْ هاب الخلق، ولم يحترم خلوتَه بالحق؛ فإنه على قدر مبارزته بالذنوب، وعلى مقادير تلك الذنوب يفوح منه ريحُ الكراهة، فتمقته القلوب+.
إلى أن قال ابن الجوزي ×: =قال أبو الدرداء ÷: إن العبدَ ليخلو بمعصية الله-تعالى-فيلقي الله بُغْضَه في قلوب المؤمنين من حيثُ لا يشعر+.
وقال ابن الجوزي ×: =إنه بقدر إجلالكم لله _ عز وجل _ يجلكم، وبمقدار تعظيم قدره واحترامه يعظمُ أقدارَكم وحرمتكم+ إلى آخر ما قال × في ذلك السياق في كتابه =صيد الخاطر+.
وهكذا نستفيد من الحج ومن أيامه المباركة, عبوديةَ المراقبة، فهذا شيء من ثمرات الحج، وذلك شيء من ثمرات تلك العبودية الجليلة _أعني عبودية المراقبة_ فنسأل الله _ جل وعلا _ أن يرزقنا خشيته في الغيب والشهادة، وأن يجعلنا هداة مهتدين.
فالحج مدرسة للصبر، وميدان فسيح للتدرب على هذا الخلق الكريم؛ فالحاج يتدرب عملياً على الصبر بجميع أنواعه الثلاثة وهي: الصبر على طاعة الله، والصبر عن محارم الله، والصبر على أقدار الله المؤلمة .
فالحاج يصبر على بذل المال، وبذل الجهد البدني، ويصبر على ما يلاقيه من فراق الأهل والأولاد والبلاد والأملاك، ويصبر على ما يواجهه من إرهاق وتعب ونصب وزحام في سبيل الوصول إلى البيت العتيق، وأداء النسك، ويصبر عن ملاذه التي تحرم عليه حال الإحرام من نساء وطيب ونحو ذلك، ويصبر على ضبط نفسه عن الغضب؛ خوفاً من فساد حجه أو نقصان أجره، ويصبر على قلة النوم، وكثرة التنقل ونحو ذلك مما يصبر عليه.
وهكذا يتبين لنا عظم الارتباط بين الحج والصبر، ويتضح لنا أن الحج سبيل إلى اكتساب ذلك الخلق العظيم الذي أمر الله به وأعلى مناره، وأكثر من ذكره في كتابه، وأثنى على أهله القائمين به؛ ووعدهم بالأجر الجزيل عنده.(1/31)
قال الله _ تبارك وتعالى _: [وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ](النحل:127)، وقال _ عز وجل _ [وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ].
وقال _ عز وجل _:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ](آل عمران:200).
وقال _عز وجل _:[وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ](البقرة:155).
وقال النبي " في الحديث المتفق عليه : =ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحدٌ عطاءاً أعظم ولا أوسع من الصبر+، وقال أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب ÷: =وجدنا خير عيشنا الصبر +، وقال: =أفضل عيش أدركناه بالصبر، ولو أن الصبر كان من الرجال كان كريماً+، وقال أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب ÷: =الصبر مطية لا تكبو+، وقال الحسن ×: =الصبر كنز من كنوز الخير لا يعطيه الله إلا لعبدٍ كريم عنده+.
الحاج المحتسب إذا أوذي أو شُتِمَ لا يغضب، ولا يقابل الإساءة بمثلها، ولا تضطرب نفسه، ولا يثور لأتفه الأسباب؛ كحال من لم يتسلح بالصبر؛ فترى الواحد من هؤلاء يخرج عن طوره وتثور نفسه وتضطرب أعصابه.
أما الحاج المحتسب فتراه هادئ النفس، ساكن الجوارح، رضي القلب، والحاج المحتسب يطرد روح الملل؛ لأن حجه لله وصبره بالله، وجزاء ه على الله.
والأمة التي تدرك من الحج أفضل المعاني تتعلم الانضباط، والصبر على النظام، والتحرر من أسر العادات.
وهكذا يتبين لنا أثر الحج في اكتساب خلق الصبر؛ فإذا تحلى الإنسان به كان جديراً بأن يفلح في حياته، وأن يقدم الخير العميم لأمته، ويترك فيها الأثر الكبير، وإن عَطُل من الصبر فما أسرع خوره، وما أقل أثره.(1/32)
ثم إن الإنسان أي إنسان لابد له من الصبر إما اختياراً، وإما اضطراراً؛ ذلك أنه عرضة لكثير من البلاء في نفسه بالمرض، وفي ماله بالضياع، وفي أولاده وأحبته بالموت، وفي حياته العامة بالحروب وتوابعها من فقدان كثير من حاجاته التي تعوَّدها في حياته؛ فإذا لم يتعوَّدِ الصبر على المشاق، وعلى ترك ما يألف وقع صريع تلك الأحداث.
وكذلك حال الإنسان مع الشهوات؛ فهي تتزين له وتغريه، وتتمثل له بكل سبيل؛ فإذا لم يكن معه رادع من الصبر ووازع من الإيمان أوشك أن يتردى في الحضيض.
ومن كان متصدياً للدعوة إلى الإصلاح منبرياً للدفاع عن الحق فما أشد حاجته إلى الصبر، وتوطين نفسه على المكاره؛ فإن في تلك السبيل عقبةً كؤوداً لا يقتحمها إلا ذو الهمم الكبيرة؛ فإن في طوائف المبطلين أو المفسدين نفوساً طاغية، وأحلاماً طائشة، وألسنةً مقذعة، وربما كانت فيهم أيدٍ باطشة، وأرجلٌ إلى غير الحق ساعية.
وإنما تعظم همة الداعي إلى الحق والإصلاح بقدر صبره، وبقدر ما يتوقعه من فقد محبوب أو لقاء مكروه؛ فلابد لأهل الحق من الصبر على دعوة الناس، ولابد لهم من الصبر في انتظار النتائج؛ لأن استعجال الثمرة قد يؤدي إلى نتائج معاكسة تضر أكثر مما تنفع؛ فالصبر إذا اقترن بالأمر كان عصمةً للداعية من الانقطاع، وتفجرت بسببه ينابيع العزم والثبات.
إنه الصبر المترع بأنواع الأمل العريض، والثقة بمن بيده ملكوت كل شيء ليس صبر اليائس الذي لم يجد بداً من الصبر فصبر، ولا صبر الخانع الذليل لغير ربه _ جل وعلا _.
وبالجملة فإن الصبر من أعظم الأخلاق وأجل العبادات، وإن أعظمَ الصبر وأحمدَه عاقبة الصبرُ على امتثال أمر الله، والانتهاء عما نهى عنه؛ لأن به تخلُص الطاعة، ويصِحُّ الدين، ويستَحَقُّ الثواب؛ فليس لمن قل صبره على الطاعة حظٌ من بر، ولا نصيب من صلاح.(1/33)
ومن الصبر المحمود: الصبر على ما فات إدراكه من رغبة مرجوة، وأعوز نيله من مسرة مأمولة ؛ فإن الصبر عنها يعقب السلو منها، والأسف بعد اليأس خُرْقٌ.
ومن جميل الصبر: الصبر فيما يخشى حدوثه من رهبة يخافها ؛ أو يحذر حلوله من نكبة يخشاها؛ فلا يتعجل همَّ ما لم يأت فإن أكثر الهموم كاذبة، وإن الأغلب من الخوف مدفوع.
ومن جميل الصبر: الصبر على ما نزل من مكروه، أو حل من أمر مخوف؛ ففي الصبر في هذا تنفتح وجوهُ الآراء، وتُسْتَدْفَعُ مكائدُ الأعداء ؛ فإن من قل صبره عَزُبَ رأيه، واشتد جزعه؛ فصار صريع همومه، وفريسة غمومه.
وكما أن الأفراد بأمس الحاجة إلى الصبر فكذلك الأمة؛ فأمة الإسلام كغيرها من الأمم لا تخرج عن سنن الله الكونية؛ فهي عرضة للكوارث والمحن، وهي في الوقت نفسه مكلفة بمقتضى حكم الله الشرعي بحمل الرسالة الخالدة، ونشر الدعوة المباركة، وتحمُّل جميع ما تلاقيه في سبيلها برحابة صدر، وقوة ثبات، ويقين بأن العاقبة للتقوى وللمتقين.
وهي كذلك مطالبة بالجهاد في سبيل الله؛ لإعلاء كلمة الله، ونشر دين الله، وإزاحة ما يقف في وجه الدعوة من عقبات؛ فلابد لها من الجهاد الداخلي الذي لا يتحقق إلا بمجاهدة النفس والهوى، وهذا الجهاد لا يتحقق إلا بخلق الصبر، ومغالبة النفس والشيطان والشهوات؛ فذلك هو الجهاد الداخلي الذي يؤهل للجهاد الخارجي؛ لأن الناس إذا تركوا طباعهم وما أودع فيها من حب للراحة وإيثار للدعة، ولم يشد أزرهم بإرشاد إلهي تطمئن إليه نفوسهم، ويثقون بحسن نتائجه _ عجزت كواهلهم عن حمل أعباء الحياة، وخارت قواهم أمام مغرياتها، وذاب احتمالهم أمام ملذاتها وشهواتها؛ فيفقدون كل استعداد لتحصيل السمو والعزة، والمنزلة اللائقة؛ فلهذا اختار الله لهم من شرائع دينه ما يصقل أرواحهم، ويزكي نفوسهم، ويمحص قلوبهم، ويربي ملكات الخير فيهم.(1/34)
ومن أعظم الشرائع التي يتحقق بها ذلك المقصود شريعة الحج، ومن هنا كان الحج من أعظم أنواع الجهاد؛ كما جاء ذلك في الحديث الصحيح.
فيا أيها المسلمون: هذا هو الحج يعلمنا الصبر، ويربينا على خلق الصبر؛ فليكن لنا منه أوفر الحظ والنصيب، وليكن زاداً فيما نستقبله من أعمارنا.
قال الله _ عز وجل _: [لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ](البقرة:198).
وقال _ تبارك وتعالى _: [وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ](الحج:36).
ففي الآيتين السابقتين إشارة إلى واجب الشكر لله _ تبارك وتعالى _ قال العلامة عبد الرحمن السعدي × في قوله _ تعالى _:[وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ]: =أي اذكروا الله _ تعالى _ كما منّ عليكم بالهداية بعد الضلال، وكما علمكم ما لم تكونوا تعلمون؛ فهذه من أكبر النعم التي يجب شكرها، ومقابلتها بذكر المنعم بالقلب واللسان+.
وقال في تفسير الآية الثانية عند قوله _ تعالى _: [كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] قال: =لعلكم تشكرون الله على تسخيرها فإنه لولا تسخيرها لم يكن لكم بها طاقة، ولكنه ذللها لكم، وسخرها؛ رحمة بكم وإحساناً إليكم فاحمدوه+ا. هـ.
هذا وإن كثيراً من النصوص جاءت مبينة منزلة الشكر، حاثةً على ملازمته؛ فالشكر من أجل العبوديات، وأعلى المنازل؛ إذ هو نصف الإيمان، فالإيمان صبر وشكر.(1/35)
وقد أمر الله بالشكر، ونهى عن ضده، وأثنى على أهل الشكر، ووصف به خاصة خلقه، ووعد أهله بأحسن جزائه، وجعله سبباً للمزيد من فضله، وحارساً وحافظا لنعمته، وأخبر _ عز وجل _ أن أهل الشكر هم المنتفعون بآياته.
والشكرُ قيدُ النعم الموجودةِ، وصيدُ النعمِ المفقودة.
وحقيقة الشكر هوَ ظهورُ أثرِ نعمةِ اللهِ على لسان عبده ثناءاً واعترافاً، وعلى قلبه شهوداً ومحبة، وعلى جوارحه انقياداً وطاعة.
والمؤمن حقاً هو مَنْ يلازم الشكرَ في شتى أحواله؛ فإذا نزل به ما يحب شكر الله عليه؛ إذْ هو المنعمُ المتفضل، وإذا نزل به ما يكره شكر الله على ما قدره عليه؛ كظماً للغيظ، وستراً للشكوى، ورعاية للأدب، وسلوكاً لمسلك العلم؛ فإن العلم بالله والأدب معه يأمران بشكر الله على المحاب والمكاره، وإن كان الشكر على المكاره أشقَّ وأصعب.
هذا وإن من أعظم الدروس المستفادة من الحج انبعاثَ عبودية الشكر لله _ عز وجل _ فالحاج على سبيل المثال يرى المرضى، والمعاقين، والعميان، ومقطعي الأطراف وهو يتقلب في أثواب الصحة والعافية؛ فينبعث بذلك إلى شكر الله _ عز وجل _ على نعمة العافية.
ويرى ازدحام الحجيج، وافتراشهم الأرض، وربما لا يستطيع الحاج أن يجد مكاناً يجلس فيه؛ فيتذكر نعمة المساكن الفسيحة التي يسكن فيها؛ فينبعث إلى شكر الله على ذلك.
ويرى الفقراء والمعوزين؛ فينبعث إلى شكر الله على نعمة المال والغنى، ويرى نعمة ربه عليه أن يسر له الحج الذي تتشوق إليه نفوس الكثيرين من المسلمين، ولكنهم لا يستطيعون إليه سبيلاً؛ فيشكر الله _ عز وجل _ أن يسَّر له الحج، وأعانه على أداء مناسكه، بل ويرى نعمة ربه عليه أن جعله من المسلمين؛ فينبعث إلى شكر نعمة الإسلام، ويعض عليها بالنواجذ، ويثني عليها بالخناصر؛ لأن نعمة الإسلام لا تَعْدِلها نعمةٌ ألبتة, وهكذا تكون عبودية الشكر في الحج؛ فيكون الحاج من الشاكرين وإذا كان كذلك درت نعمه وقرت.(1/36)
وإليكم هذه القصة العجيبة في الشكر: جاء في كتاب الثقات لابن حبان × في ترجمة التابعي الجليل أبي قلابة ما نصه: =أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي من عباد أهل البصرة وزهادهم، يروي عن أنس بن مالك، ومالك ابن الحويرث، وروى عنه أيوب وخالد مات بالشام سنة 104هـ في ولاية يزيد ابن عبد الملك.
حدثني بقصة موته محمد بن المنذر بن سعيد، قال: حدثنا يعقوب بن إسحاق ابن الجراح، قال: حدثنا الفضل بن عيسى عن بقية بن الوليد، قال: حدثنا الأوزاعي عن عبد الله بن محمد، قال: خرجت إلى ساحل البحر مرابطاً، وكان رابطُنا يومئذ عريشَ مصر, قال: فلما انتهيت إلى الساحل, فإذا أنا ببطيحة، وفي البطيحة خيمة فيها رجل قد ذهبت يداه ورجلاه، وثقل سمعه وبصره، ومالَهُ من جارحة تنفعه إلا لسانُه وهو يقول: اللهم أوزعني أن أحمدك حمداً أكافئ به شكر نعمتك التي أنعمت عليَّ بها، وفضلتني على كثير ممن خلقت تفضيلا.
قال الأوزاعي: قال عبد الله قلت: والله لآتين هذا الرجل ولأسألنه أنى له هذا الكلام: فَهْمٌ أم علم؟ أم إلهام ألهم؟.
فأتيت الرجل فسلمت عليه فقلت: سمعتك وأنت تقول: اللهم أوزعني أن أحمدك حمداً أكافئ به شكر نعمتك التي أنعمت بها علي، وفضلتني على كثير ممن خلقت تفضيلاً, فأي نعمة من نعم الله عليك تحمده عليها؟ وأي فضيلة تفضَّل بها عليك تشكره عليها؟.
قال: وما ترى ما صنع بي ربي؟ والله لو أرسل السماء علي ناراً فأحرقتني, وأمر الجبال فدمرتني, وأمر البحار فأغرقتني, وأمر الأرض فبلعتني, ما ازددت لربي إلا شكراً؛ لما أنعم علي من لساني هذا, ولكن يا عبد الله إذ أتيتني لي إليك حاجة, قد تراني على أي حالة أنا، أنا لست أقدر لنفسي على ضر ولا نفع, ولقد كان معي بُنَيٌّ لي يتعاهدني في وقت صلاتي, فيوضِّيني, وإذا جعت أطعمني, وإذا عطشت سقاني, ولقد فقدته منذ ثلاثة أيام فتحسسه لي رحمك الله.(1/37)
فقلت: والله ما مشى خلق في حاجة خلق كان أعظم عند الله أجراً ممن يمشي في حاجة مثلك, فمضيت في طلب الغلام, فما مضيت غير بعيد حتى صرت بين كثبان من الرمل, فإذا أنا بالغلام قد افترسه سبُعٌ وأكل لحمه, فاسترجعت وقلت: أنى لي وجهٌ رقيقٌ آتي به الرجل, فبينما أنا مقبل نحوه إذ خطر على قلبي ذكرُ أيوب النبي " فلما أتيته سلمت عليه, فرد عليَّ السلام, فقال: ألست بصاحبي؟ قلت: بلى! قال: ما فعلت في حاجتي؟ فقلت: أنت أكرم على الله أم أيوب النبي؟ قال: بل أيوب النبي, قلت: هل علمت ما صنع الله به, أليس قد ابتلاه بماله وآله وولده؟ قال: بلى! قلت:فكيف وجده؟ قال: وجده صابراً شاكراً حامداً, قلت:لم يرض منه ذلك حتى أوحش من أقربائه وأحبابه قال: نعم, قلت فكيف وجده ربه؟ قال: وجده صابراً شاكراً حامداً, قلت: فلم يرض منه بذلك حتى صيَّره عرضاً لمارِّ الطريق هل علمت؟ قال: نعم, قلت فكيف وجده ربه؟ قال: صابراً شاكراً حامداً, أوجز رحمك الله! قلت له: إن الغلام الذي أرسلتني في طلبه وجدته بين كثبان الرمل وقد افترسه سبع, فأكل لحمه؛ فأعظم الله لك الأجر، وألهمك الصبر.(1/38)
فقال المبتلى: الحمد لله الذي لم يخلق من ذريتي خلقاً يعصيه؛ فيعذبه بالنار, ثم استرجع, وشهق شهقة فمات, فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون, عظمت مصيبتي, رجل مثل هذا إن تركته أكلته السباع, وإن قعدت لم أقدر له على ضر ولا نفع, فسجَّيته بشملة كانت عليه, وقعدت عند رأسه باكياً, فبينما أنا قاعد إذ تهجَّم عليَّ أربعة رجال فقالوا: يا عبد الله! ما حالك وما قصتك؟ فقصصت عليهم قصتي وقصته, فقالوا لي: اكشف لنا عن وجهه فعسى أن نعرفه, فكشفت عن وجهه؛ فانكب القوم عليه يقبلون عينيه مرة, ويديه أخرى ويقولون: بأبي عين طالما غضت عن محارم الله, وبأبي وجسمه طالما كنتَ ساجداً والناس نيام, فقلت: من هذا يرحمكم الله؟ فقالوا: هذا أبو قلابة الجرمي صاحب ابن عباس, لقد كان شديد الحب لله _ تعالى _ وللنبي " فغسلناه وكفناه بأثواب كانت معنا, وصلينا عليه ودفناه, فانصرف القوم وانصرفت إلى رباطي, فلما أن جنَّ الليل وضعت رأسي, فرأيته فيما يرى النائم في روضة من رياض الجنة, وعليه حلتان من حلل الجنة وهو يتلو الوحي: [سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ](الرعد:24)، فقلت: ألست بصاحبي قال بلى قلت: أنى لك هذا؟ قال: إن لله درجات لا تنال إلا بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء مع خشية الله _ عز وجل _ بالسر والعلانية+.
اللهم اجعلنا ممن إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر, وإذا أذنب استغفر.
الشيطان عدو للإنسان مبين والله _ عز وجل _ حذرنا من الشيطان، وأمرنا أن نتخذه عدواً، ونهانا عن اتباع خطواته، قال _ عز وجل _: [إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً](فاطر:6)، وقال _ تبارك وتعالى _: [وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ](البقرة:168).
فمراغمة الشيطان باتخاذه عدواً، وبترك الاتباع لخطواته من أعظم القربات إلى رب الأرض والسموات.(1/39)
وهذا الأمر يتجلى غاية التجلي في الحج؛ فيتجلى في مراغمة الشيطان إذا وقف في طريق الحاج يثبِّطه عن الحج، ويتجلى بمجاهدة النفس على إيقاع الحج على أحسن الوجوه وأتمها.
ويتجلى في يوم عرفة خصوصاً في عشيتها حين يجتهد الحاج في الدعاء والضراعة؛ فما رئي الشيطان في يوم أدحر، ولا أصغر، ولا أحقر منه في ذلك اليوم؛ وما ذلك إلا لما يرى من نزول الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام _كما جاء ذلك في موطأ الإمام مالك ×_.
وأعظم ما يتجلى ذلك المعنى في رمي الجمار؛ حيث تظهر المراغمة والعداوة للشيطان في تلك المواضع غاية الظهور, بل هي الحكمة الخاصة لذلك النسك؛ إذ الحكمة العامة منها إقامة ذكر الله.
قال العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي × في تفسيره المبارك =أضواء البيان+ عند تفسيره لسورة الحج قال: =الفرع الحادي عشر في حكمة الرمي: اعلم أنه لا شك في أن حكمة الرمي في الجملة هي طاعة الله فيما أمر به، وذكره بامتثال أمره على لسان نبيه " قال أبو داود في سننه: حدثنا مسدد، قال: حدثنا عيسى بن يونس، قال: حدثنا عبيد الله ابن زياد عن القاسم عن عائشة قالت: قال رسول الله ": =إنما جعل الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة، ورمي الجمار؛ لإقامة ذكر الله+.
وقال النووي في شرح المهذب في حديث أبي داود هذا: =وهذا الإسناد كله صحيح إلا عبيد الله فضعفه أكثرهم ضعفاً يسيراً، ولم يضعف أبو داود هذا الحديث فهو حسن عنده _ كما سبق _.
وروى الترمذي هذا الحديث من رواية عبيد الله هذا، وقال: هو حديث حسن, وفي بعض النسخ: حسن صحيح؛ فلعله اعتضد برواية أخرى+، انتهى محل الغرض منه.(1/40)
قال مقيده _ عفى الله عنه، وغفر له _: عبيدالله بن أبي زياد المذكور هو القداح أبو الحصين المكي، وقد وثقه جماعة، وضعفه آخرون، وحديثه هذا معناه صحيح بلا شك، ويشهد لصحة معناه قوله _ تعالى _: [وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ](البقرة:203) لأنه يدخل في الذكر المأمور به رمي الجمار؛ بدليل قوله بعده: [فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ](البقرة:203).
وذلك يدل على أن الرمي شُرِع لإقامة ذكر الله كما هو واضح، ولكن هذه الحكمة إجمالية، وقد روى البيهقي × في سننه عن ابن عباس مرفوعاً قال: =لما أتى إبراهيم خليل الله _ عليه السلام _ المناسك عرض له الشيطان عند جمرة العقبة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض, ثم عرض له عند الجمرة الثانية فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض, ثم عرض له في الجمرة الثالثة, فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض+ قال ابن عباس _ رضي الله عنهما _: =الشيطانَ ترجمون وملةَ أبيكم تتبعون+ انتهى بلفظه من السنن الكبرى للبيهقي.
ولقد روى هذا الحديثَ الحاكمُ في المستدرك مرفوعاً ثم قال: =هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه+.
وعلى هذا الذي ذكره البيهقي فَذِكْرُ اللهِ الذي شرع الرمي لإقامته هو الاقتداء بإبراهيم في عداوة الشيطان، ورميه، وعدم الانقياد إليه، والله يقول: [قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ](الممتحنة:4).
فكأن الرمي رمز وإشارة إلى عداوة الشيطان التي أمرنا الله بها في قوله: [إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً](فاطر:6)، وقوله منكراً على من والاه: [أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ](الكهف:50).
ومعلوم أن الرمي بالحجارة من أكبر مظاهر العداوة+انتهى كلام الشنقيطي ×.(1/41)
وهكذا يفيد الحجاج من ذلك المشهد العظيم ألا وهو رمي الجمار درساً عظيماً ألا وهو مراغمة الشيطان وعداوته؛ فالشيطان عدوٌ للإنسان، والحجاج لا يرمون الشيطان، وليس الشيطان بواقف لهم يرجمونه، وإنما يرجمون المواقف التي وقف بها الشيطان لأبيهم إبراهيم؛ فرجمه الخليل _ عليه السلام _ فهم يرجمونه لا لمجرد التكرار وإنما للاقتداء والانتفاع والاعتبار.
فعليهم أن يتأملوا كيف عرف أبوهم إبراهيم أن الذي وقف له ليصده عن امتثال أمر ربه أنه شيطان؛ حيث تَمثَّل له ثلاث مرات، فرجمه إبراهيم ثلاث مرات كل مرة بسبع حصيات وقال له: ليس لك عندي إلا الرجم، فخنس وخسأ، وخاب ظنه، ونكص على عقبيه.
فأولوا الألباب يعتبرون بهذا الرجم، ويأخذون منه دروساً وعبراً؛ إذ يعاملون كل شيطانٍ من شياطين الجن والإنس ممن يريدون صرفهم عن طاعة ربهم بالرجم المعنوي الذي هو بغض من صد عن سبيل الله، وعصيانه، ومراغمته، والابتعاد عنه والاستعاذة بالله منه؛ فيعرفون أن كل من حاول صدَّهم عن طاعة ربهم، أو فتنتَهم في دينهم _ أنه شيطان مهما لبس من لبوس، ومهما أظهر من مودة وتصنع.
مشاهد الاضطرار والافتقار إلى الله، والتذلل والانكسار بين يديه، ومشهد انتظار الفرج منه _ تبارك وتعالى _ من أعظم المشاهد في الحج.
فالحاج وهو متلبس بتلك الشعيرة العظيمة يشعر بأنه مضطر إلى الله مفتقر إليه، خائف منه، راجٍ ما عنده، منكسرٌ بين يديه.
وهذا هو لب العبادة، ومقصودها الأعظم؛ فالافتقار إلى الله دون من سواه هو عينُ الغنى، والتذلل، والانطراح بين يديه هو العزُّ الذي لا يدانيه عز؛ فالله _ تبارك وتعالى _ يحب المنكسرة قلوبهم فيدنيهم، ويقرب منهم، بل هو _ عز وجل _ عند المنكسرة قلوبهم من أجله.(1/42)
عن عمرانَ بنِ موسى القصيرِ قال: قال موسى _ عليه السلام _: =يا ربي أين أبغيك؟ قال: ابغني عند المنكسرة قلوبُهم من أجلي؛ فإني أدنوا منهم كل يوم باعاً، ولولا ذلك لانهدموا+ رواه الإمام أحمد في الزهد.
ثم إن حاجة الإنسان، بل ضرورته إلى ربه لا تدانيها حاجة أو ضرورة؛ فإن في القلب جوعةً، وفقراً ذاتياً، وفاقةً وحاجةً لا يسدها إلا الإقبال على الله _ عز وجل _.
وكلما اشتدت حاجة الإنسان إلى ربه، وعظمت ضرورته إليه، واشتد تحريه لإجابة دعائه _ جاءه الفرج، وأقبل عليه اليسر؛ فانتظار الفرج من أجل العبوديات وأعظمها.
ما ضاق بالمرء أمر فاستعد له ... عبادةَ الله إلا جاءه الفرجُ
ولا أناخ بباب الله ذو ألمٍ ... إلا تزحزح عنه الهم والحرجُ
قال ابن القيم ×: =انتظار روح الفرج يعني راحته، ونسيمه، ولذته؛ فإن انتظاره، ومطالعته، وترقبه يخفف حمل المشقة لا سيما عند قوة الرجاء، أو القطع بالفرج؛ فإنه يجد في حشو البلاء من رَوْح الفرج، ونسيمه، وراحته ما هو من خفي الألطاف، وما هو فرج معجل+.
وهذه المعاني العظيمة تُدرك بالحج، وينالها الحاج في كثير من المواطن والمناسك؛ فالحاج _ على سبيل المثال _ إذا رأى جموع الحجيج المزدحمة عند الطواف، والسعي، وفي رمي الجمار، أو في الطرقات ظن أن تلك الجموع لن تتفرق، وأنه لن يصل إلى مبتغاه من إكمال نسكه، وربما أدركه الضجر، وبلغت منه السآمة مبلغها، وربما أضمر في نفسه أنه لن يحج بعد عامه هذا، وما هي إلا مدة يسيرة ثم تنزاح تلك الجموع، ويتيسر أداء المناسك.
وفي هذا درس عظيم، وسر بديع يتعلم منه الحاج عبودية انتظار الفرج؛ فلا ييأسُ بعد ذلك من روح الله، وقرب فرجه مهما احلولكت الظلمة، ومهما استبد الألم سواء في حاله أو حال أمته.
بل يكون محسناً ظنه بربه، منتظراً فرجه، ولطفه، وقرب غِيَره.
ولا بعد في خير وفي الله مطمع ... ولا يأس من روح وفي القلب إيمان(1/43)
ولئن كانت تلك المعاني _ أعني الافتقار، والتذلل، وانتظار الفرج _ لئن كانت ظاهرةً مستفادةً من كثير من مناسك الحج _ فلهي أشد ظهوراً في نسك السعي بين الصفا والمروة؛ حيث يتجلى هذا الأمر؛ إذ هو الحكمة الخاصة للسعي؛ فالحكمة العامة من السعي إقامة ذكر الله.
أما الخاصة فهو حصول هذا المعنى العظيمِ، والسرِّ البديعِ _ كما أشار إلى ذلك العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي _.
قال × في تفسيره: =أما حكمة السعي فقد جاء النص الصحيح ببيانها، وذلك هو ما روي عن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ في قصة ترك إبراهيم هاجر وإسماعيل في مكة، وأنه وضع عندهما جراباً فيه تمر، وسقاءاً فيه ماء.
وفي الحديث الصحيح المذكور: =وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل، وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت، وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوَّا _ أو قال يتلبط _ فانطلقت؛ كراهية أن تنظر إليه؛ فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً؛ فلم تَرَ أحداً، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها، ونظرت هل ترى أحداً فلم تر أحداً ففعلت ذلك سبع مرات.
قال ابن عباس: قال النبي ": =فذلك سعي الناس بينهما+رواه البخاري.
وهذا الطرف الذي ذكرنا من هذا الحديث سقناه بلفظ البخاري × في صحيحه.(1/44)
وقول النبي " في هذا الحديث الصحيح: =فذلك سعي الناس بينهما+ فيه الإشارة الكافية إلى حكمة السعي بين الصفا والمروة؛ لأن هاجر سعت بينهما السعي المذكور، وهي في أشد حاجة، وأعظم فاقة إلى ربها؛ لأن ثمرة كبدها وهو ولدها إسماعيل تنظره يتلوّى من العطش في بلد لا ماء فيه ولا أنيس، وهي _أيضاً_ في جوع وعطش في غاية الاضطرار إلى خالقها _ جل وعلا _ وهي من شدة الكرب تصعد على هذا الجبل؛ فإذا لم تر شيئاً جرت إلى الثاني فصعدت عليه لترى أحداً؛ فأُمر الناسُ بالسعي بين الصفا والمروة؛ ليشعروا بأن حاجتهم، وفقرهم إلى خالقهم ورازقهم كحاجة وفقر تلك المرأة في ذلك الوقت الضيِّق، والكرب العظيم إلى خالقها ورازقها، وليتذكروا أن من كان يطيع الله كإبراهيم _ عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام _ لا يضيعه ولا يخيب دعاؤه، وهذه حكمة بالغة ظاهرة دل عليها حديث صحيح+ انتهى كلام العلامة الشنقيطي ×.
فيا أيها الحاج: استحضر هذا الدرسَ العظيم، والحكمة البالغة؛ فما دمت مطيعاً لله، مفتقراً إليه، ملازماً دعاءه فلا تيأسن من لطفه؛ فإذا أَلَمَّت بك مصيبة، أو نزل بك بلاء، أو ركبك دين، أو لازمك مرض سواء في نفسك أو ولدك أو من تحب _ فانتظر فرج ربك _ جل وعلا _.
وإذا رأيت أمتك تسام الخسف، ويتطاول عليها الأعداء، ورأيت إخوانك المسلمين وهم يعانون الأمرَّين _ فلا تركن إلى خاطر اليأس، ولا تظننَّ أن الليل ليس له آخر.
بل كن متفائلاً، حسن الظن؛ فإن النصر مع الصبر، وإن الفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسراً، ولن يغلب عسر يسرين.
وهكذا يفيد الحاج الدرس العظيم من الحج، ألا وهو الافتقار إلى الله _ تبارك وتعالى _ والتذلل والانكسار بين يديه، وانتظار فرجه _ عز وجل _.
اللهم آمن روعاتنا، واستر عوراتنا، واختم بالسعادة آجالنا، واقرن بالعافية غدونا وآصالنا.
العزة خصلة شريفة، وخلة حميدة، وخلق رفيع، وأدبٌ سامٍ تعشقها قلوب الكرام، وتهفو إلى اكتسابها النفوس الكبار.(1/45)
وإن الإسلام لدين العزة والكرامة، ودين السمو والارتفاع ، ودين الجد والاجتهاد ؛ فليس دين ذلة ومسكنة ، ولا دين كسل وخمول ودعة.
هذا وإن موسمَ الحجِّ لميدانٌ فسيح لاكتساب العزة والتحلي بها، وذلك من وجوه عديدة متنوعة؛ فالحاج على سبيل المثال ينال هذا الخلقَ من جرَّاء حجِّه، وتركه لبعض شهواتِه المباحةِ فضلاً عن المحرمة؛ فتراه يدع النساء، والطيب، والزينة إلى غير ذلك من محظورات الإحرام.
وهذا يبعثه إلى الترفع عن الدنايا ومحقرات الأمور، ويطلقه من أسر العادات وأهواء النفوس.
وينال العزة كذلك من جراء بعده عن الجدال، والمراء، والجهل، والرفث، والصخب، والإساءة إلى الناس؛ امتثالاً لقوله _ تعالى _: [الحج أشهرٌ معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج](الحج:197).
وإذا كان الحاج كذلك حفظ على نفسه عزتها وكرامتها، ورفعها عن مجاراة الطائفة التي تلذ المهاترة والإقذاع.
وينال المؤمنُ العزةَ في هذا الموسم العظيم من جراء حجه، وكثرة أعماله الصالحة، وانقطاعه عما سوى الله _ تبارك وتعالى _ وهذا هو سر العزة الأعظم؛ إذ ينال بسبب ذلك عزةَ نفسٍ، وزيادةَ إيمانٍ، واتصالاً وقرباً من الرحمن [ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين](المنافقون:8).
وينال المسلمون عموماً العزة في الحج؛ بسبب تحقيق الأخوة الإسلامية فيه؛ فالرب واحد، والقبلة واحدة، والمشاعر واحدة، واللباس واحد، والمناسك واحدة، والزمان واحد.
فهذه الأمور وغيرها تجتمع في الحج، وهي مدعاة للإحساس بوَحْدَة الشعور، وموجِبَةٌ للتآخي والتعاون على مصالح الدين والدنيا، وهذا بدوره يضفي على المسلمين عزة، وجلالاً، وهيبةً، ووقاراً.(1/46)
وينال المسلم العزة من جراء تَذَكُّره الآخرة؛ فإذا رأى الحاج ازدحام الناس، ورأى بعضهم يموج في بعض وهم في صعيد واحد، وبلباس واحد، وقد حسروا عن رؤوسهم، وتجردوا عن ثيابهم، ولبسوا الأردية والأزر، وتجردوا من ملذات الدنيا ومتعتها _ تَذَكَّر يوم حشره على ربه؛ فيبعثه ذلك إلى الاستعداد للآخرة، ويقوده إلى استصغارِه لمتاع الدنيا، ويرفعه عن الاستغراق فيها، ويُكْبِرُ بهمته عن جعلها قبلةً يولي وجهه شطرها حيث ما كان.
وهكذا يستفيد الحاج من هذه الحكمة العظمى درساً يقوده إلى الكرامة، وينأى به عن الذلة والمهانة.
وينال المؤمنون العزة في هذا الموسم كذلك بسبب كثرة إنفاقهم وإحسانهم إلى الفقراء والمعوزين؛ وذلك إما بذلاً مباشراً،أو من خلال الهدايا والقرابين، قال الله _ عز وجل _: [وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ] (الحج:36)، فالقانع: هو الفقير الذي لا يسأل؛ تقنُّعاً وتعففاً، والمعتر: هو الفقير الذي يسأل؛ فكل منهما له حق فيها.
وفي ذلك صيانة للوجوه من السؤال، وإنقاذ لكثير من الناس من عوز الفقر، وذلة الحاجة اللذين قد ينجرفان بهم إلى فساد الأخلاق وضيعة الآداب.
وهكذا يتبين لنا أثر الحج في اكتساب العزة سواء للأفراد أو للأمة.
وما أحوجنا، وما أحوج أمتنا إلى هذا الخلق العظيم الذي أرشدنا إليه ديننا، وحثنا على التحلي به، ووجهنا إلى اكتسابه، وبين لنا جميع السبل الموصلة إليه.
ومن مظاهر تربية الإسلام للمسلمين على هذا الخلق _ أن وجههم إلى إفراد الله بالمسألة دقت أو جلت، كثرت أو قلت.
ومن ذلك توجيه المسلمين إلى الكسب المباح عن طريق الكدح والعمل، والمشي في مناكب الأرض؛ حتى يعف الإنسان نفسه، ويستغني عن غيره.(1/47)
كما وجههم في المقابل إلى أن يترفعوا عن مسألة الناس، ونفَّرهم من ذلك الخلق الذميم إلا من كان مضطراً أو متحملاً حمالة ، أو من أصابته جائحة، أو فاقة، أو نحو ذلك.
كما أرشدهم إلى أن اليد العليا خير من اليد السفلى؛ فمنع القادر على الكسب من بسط كفه للاستجداء إذا كان في استجدائه إراقة لماء وجهه.
بل إن من أحكام الشريعة إباحة التيمم للمكلف وعدم إلزامه بقبول هبة ثمن الماء؛ لما في ذلك من المنة التي تنقص حظاً وافراً من أطراف الهمة الشامخة.
بل ومنها عدم إلزام الإنسان باستهابة ثوب يستر به عورته في الصلاة؛ صيانة لضياء وجهه من الانكساف بسواد المطالب.
ومن الأحكام القائمة على رعاية هذا الخلق أن التبرعاتِِ لا تقرر إلا بقبول المتبرع له؛ إذ قد يربأ به خلق العزة عن قبولها؛ كراهة احتمال منتها.
والمنة تصدع قناة العزة؛ فلا يحتملها ذو مروءة إلا في حال الضرورة، ولا سيما منةً تجيء من غير ذي طبع كريم، أو قدر رفيع.
ثم إن الشريعة أرشدت المسلم إذا أخذ المال أن يأخذه بسخاوة نفس؛ ليبارك الله له فيه، ولا يأخذه بإسراف، وهلع، وتعرض، وذلة، وإشراف.
وإذا اتصف المرء بعزة النفس وفُرت كرامتُه، وارتفع رأسه، وسلم من ألم الهوان، وتحرر من رق الأهواء، وذل الطمع، ولم يسر إلا على وَفْقِ ما يمليه عليه إيمانه، والحق الذي يحمله؛ ولهذا تجد أن أشدَّ الناس عزماً ومضاءاً هو أنزههم نفساً، وأبعدهم عن الطمع وجهه.
ثم إن عزة النفس تضفي على صاحبها وقاراً وجلالاً ومكانةً في القلوب؛ وذلك مما تنشرح له صدور العظماء، وإنما يعاب الرجل إذا جعل هذه المكانة غايته المنشودة دون أن يكون الحامل عليها رضا الله، ومن ثمَّ نفع الآخرين.(1/48)
وكما أن للعزة أثراً في الأفراد فكذلك لها آثارٌ صالحة في الأمة؛ فالأمة التي تُشْرَبُ في نفوسها العزة يشتد حرصها على أن تكون مستقلة بشؤونها، غنية عن أمم غيرها، وتبالغ في الحذر من الوقوع في يد مَنْ يطعن في كرامتها، أو يهتضم حقاً من حقوقها.
هذا شيء من معالم العزة، وأثر الحج في اكتسابها.
وإليكم نبذة من النصوص الشرعية الواردة في شأن العزة.
قال النبي " لابن عباس _ رضي الله عنهما _: =إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله+ رواه أحمد والترمذي،وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وقال ": =لأن يأخذَ أحدُكم أَحْبُلاً، فيأخذَ حُزْمةً من حطب؛ فيكفَّ الله به وجْهَهُ ـ خيرٌ من أن يسألَ الناسَ أعطي أو منع+ رواه البخاري ومسلم.
وقال ": =من يستغنِ يغنِهِ الله، ومن يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ الله، ومن يتصبرْ يصبرْهُ الله، وما أعطي أحدٌ عطاءاً أو خيراً أوسع من الصبر+ رواه البخاري ومسلم.
وقال ": =ما يزال الرجلُ يسأل الناسَ حتى يأتيَ يومَ القيامة، وليس في وجهه مُزْعةُ لحمٍ+ رواه البخاري ومسلم.
وعن النبي " قال: =من سأل الناس، تكثراً فإنما يسأل جمراً؛ فَلْيَسْتَقِلَّ أو ليستكثر+ رواه البخاري ومسلم.
بل لقد أوصى " نفراً من أصحابه ألا يسألوا الناس شيئاً؛ فعن عوف ابن مالك الأشجعي ÷أنه لما بايع النبي"مع طائفة من أصحابه قالوا: فعلام نبايعك؟ قال: =على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، والصلوات الخمس،وتطيعوا.+، وأسر كلمةً خفيةً: =ولا تسألوا الناس شيئاً+رواه مسلم.
قال عوف: فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوطُ أحدِهم؛ فما يسأل أحداً يناوله إياه.
وعن قَبيصةَ بنِ مخارق الهلالي ÷ قال: =تحملت حَمَالةً، فأتيت رسول الله " أسأله فيها فقال: =أقم حتى تأتينَا الصدقةُ؛ فنأمرَ لك بها+.(1/49)
قال: ثم قال ": =يا قبيصةُ! إن المسألة لا تَحِلُّ إلا لأحد ثلاثةٍ: رجلٍ تحمَّل حمالةً، فحلَّت له المسألةُ؛ حتى يصيبَها ثم يُمْسِك،ورجلٍ أصابتْه جائحةٌ اجتاحت ماله؛ فحلَّت له المسألةُ،حتى يصيب قواماً من عيش _ أو قال: أو سِداداً من عيش _ ورجلٍ أصابته فاقةٌ حتى يقومَ ثلاثةٌ من ذوي الحِجا من قومه: لقد أصاب فلاناً فاقةٌ، فحلَّت له المسألةُ حتى يصيبَ قواماً من عيش _ أو سداداً من عيش _ فما سواهن يا قبيصةُ سحتاً يأكلها سحتاً+رواه مسلم.
وكما تظافرت نصوصُ الشرع في الثناء على خلق العزة، والحثِّ عليه، فكذلك تتابعت وصايا العلماء والحكماء.
قال وهب بن منبه × لرجل يأتي الملوك: =ويحك تأتي من يغلق عنك بابَه، ويظهر لك فقرَه، ويواري عنك غناه، وتدعُ من يفتح لك بابَه بالليل والنهار ويظهر لك غناه، ويقول: =ادعني استجب لك+!.
وقال طاووسٌ لعطاءٍ _ رحمهما الله _: =إياك أن تطلبَ حوائجك إلى من أغلق دونك بابه، ويجعل دونها حُجَّابَه، وعليك بمن بابه مفتوح إلى يوم القيامة، أمرك أن تدعوَه، ووعدك بأن يجيبك+.
وقيل لأبي حازم ×: =ما مالُك؟ قال: ثقتي بالله، وإياسي من الناس+.
وكتب أمير المؤمنين إلى أبي حازم: ارفع إليّ حاجتك.
قال أبو حازم: =هيهات! رفعت حاجتي إلى من لا يَخْتَزِنُ الحوائجَ؛ فما أعطاني قنعت، وما أمسك عني منها رضيت+.
وكان الشيخ عز الدين بن عبد السلام × إذا قرأ عليه الطالبُ وانتهى يقول: =اقرأ من الباب الذي يليه ولو سطراً؛ فإني لا أحب الوقوف على الأبواب+.
وأنشد الإمام أحمد بن يحيى ثعلب ×:
من عف خف على الصديق لقاؤه ... وأخو الحوائج وجهه مبذول
وأخوك مَنْ وفَّرْتَ ما في كيسه كيسه ... فإذا استعنت به فأنت ثقيل
ولله در الشيخِ المَكُّوديّ إذ يقول:
إذا عرضت لي في زمانيَ حاجةٌ ... وقد أشكلت فيها عليَّ المقاصدُ
وقفت بباب الله وقفةَ ضارعٍ ... وقلت: إلهي إنني لك قاصدُ(1/50)
ولست تراني واقفاً عند باب مَنْ ... يقول فتاهُ: سيديْ اليومَ راقد
معاشر المسلمين: هذه هي العزة، وها نحن في موسم الخير والعزة؛ أفلا نستشعر هذا المعنى من جراء حجنا، وأيامه المباركة، وندرك أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، فنلتمس العزة من مظانها،ونسعى لإدراكها، والاتصاف بها؛ فيكون لنا عزٌّ وسرورٌ، وذكر جميل في العاجل، وأجر وذخرٌ وعطاءٌ غير مجذوذ في الآجل؟.. اللهم أعزنا بطاعتك، ولا تذلنا بمعصيتك.
الحديث ههنا سيكون حول مشهد التقصير في أعمال الحج، ورؤية النقص فيها، والسعي في تلافي الخلل والتفريط من خلال الاستغفار.
قال ربنا _ جلا وعلا _: [ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ](البقرة:199).
قال الشيخ العلامة عبد الرحمن السعدي × في تفسير هذه الآية: =أي ثم أفيضوا من مزدلفة من حيث أفاض الناس من لدن إبراهيم _ عليه السلام _ إلى الآن.
والمقصود من هذه الإفاضة كان معروفاً عندهم، وهو رمي الجمار، وذبح الهدايا، والطواف، والسعي، والمبيت بمنى ليالي التشريق، وتكميل باقي المناسك.
ولما كانت هذه الإفاضة يقصد بها ما ذكر، والمذكوراتُ آخرُ المناسك أمر الله _ تعالى _ عند الفراغ منها باستغفاره، والإكثار من ذكره؛ فالاستغفار للخلل الواقع من العبد في أداء عبادته، وتقصيره فيها، وذكرُ اللهِ شكرُ الله على إنعامه بالتوفيق لهذه العبادة العظيمة، والمنة الجسيمة.
وهكذا ينبغي للعبد كلما فرغ من عبادة أن يستغفر عن التقصير، وأن يشكر على التوفيق، لا كمن يرى أنه أكمل العبادة، ومنَّ بها على ربه، وجعلت له محلاً ومنزلةً رفيعة؛ فهذا حقيق بالمقت، ورد الفعل، كما أن الأول حقيقٌ بالقبول والتوفيق لأعمال أخر+ا. هـ.
الاستغفار طلب المغفرة، وهي ستر الذنوب، والعفو عنها، ووقاية شرها.
والاستغفار من أجلِّ القربات، وأنفعِ الطاعات، وأعظمِ موانع إنفاذ الوعيد.(1/51)
والاستغفار ختام الأعمال الصالحة، فيختم به الصلاة، وقيام الليل، ويختم به الحج _ كما مر _، وتختم به المجالس؛ فإن كانت ذكراً كان كالطابع عليها، وإن كانت لغواً كان كفارةً لها.
ولما وفى نبينا " تبليغ الرسالة، والجهاد في سبيل الله، وأقر الله عينه بعز الإسلام وظهور المسلمين، ودخول الناس في دين الله أفواجاً _ أمره الله بالاستغفار؛ فكان التبليغُ والجهادُ عبادةً قد أكملها وأداها؛ فشرع له الاستغفار عقيبها.
وبالجملة فهذه حال العبد مع ربه في جميع أحواله، فهو يعلم أنه لا يوفي هذا المقام حقه، فهو أبداً يستغفر عقب كل عمل صالح؛ فكل أحد محتاج إلى مغفرة الله ورحمته، ولا سبيل إلى النجاة بدون ذلك.
ولذلك ينبغي أن يختم الحج بالاستغفار، فهو يكمل الحج، ويرقع ما تخرق منه بالجدال ونحوه.
إن من الناس من لا يعرف من موجبات سخط الله، وأسباب عقوبته إلا المعاصي التي شددت الشريعة في النهي عنها؛ فإذا تابوا من عمل سيئ فإنما يتوبون منها؛ فهذه حالة عامة المؤمنين.
أما خاصة المؤمنين فحالهم أكمل وأتم، فهم يعرفون أن لكل عمل سيئ لوثةً في النفس تبعدها عن الكمال، ويرون أن لكل عمل صالح أثراً في النفس يقربها من الله _ عز وجل _ والتقصير في الصالحات يعد عند هؤلاء من الذنوب التي تهبط بالنفس، وتبعدها عن الله، فالنفس إذا قصرت فيها تتوب، وإذا استمرت لم تعمل من النقائص والعيوب.
ويختلف اتهام هؤلاء لأنفسهم باختلاف علمهم بصفات النفس، وما يعرض لها من الآفات في سيرها، وعلمهم بكمال الله، ومعنى القرب منه، واستحقاق رضوانه.
ولهذا ترى هؤلاء الكمَّل يسارعون في الخيرات، ويبادرون إلى التوبة والاستغفار؛ لشعورهم بالنقص في العمل، والتقصير في حق رب الأرض والسموات.(1/52)
هذا وإن للاستغفار فضائلَ جمةً,وأسراراً بديعةً، وبركات متنوعةً فمن ذلك أنه طاعة لله، وأنه سبب لمغفرة الذنوب، ورفعة الدرجات، ونزول الأمطار ، والإمداد بالأموال والبنين[فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً](نوح).
والاستغفار سبب في زيادة القوة، والمتاع الحسن، ودفع البلاء، وحصول الرحمة، قال ربنا _ تبارك وتعالى _: [وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ](هود:3).
وقال على لسان هود _ عليه السلام _: [وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ](هود:52).
وقال _ عز وجل _ [لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ](النمل:46).
قال لقمان _ عليه السلام _ لابنه: =يا بني عود لسانك الاستغفار؛ فإن لله ساعات لا يرد فيهن سائلاً+.
وقالت عائشة _ رضي الله عنها _: =طوبى لمن وجد في صحفيته استغفاراً كثيراً+.
وقال أبو المنهال: =ما جاور عبد في قبره من جارٍ أحب إليه من استغفار كثير+.
وقال الحسن ×: =أكثروا من الاستغفار في أسواقكم، وعلى موائدكم، وفي طرقاتكم؛ فإنكم لا تدرون متى تنزل الرحمة+.
وقال قتادة ×: =إن هذا القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم، فأما داؤكم فالذنوب، وأما دواؤكم فالاستغفار+.
وقال بعضهم: =فمن أهمته ذنوبه أكثر لها من الاستغفار+.
ومما يدل على عظم شأن الاستغفار أن الله _ عز وجل _ جمع بينه وبين التوحيد في قوله _ تبارك وتعالى _: [فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ] (محمد:19).(1/53)
وفي بعض الآثار أن إبليس قال: =أهلكت الناس بالذنوب، وأهلكوني بـ: لا إله إلا الله، والاستغفار+.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =شهادة التوحيد تفتح باب الخير، والاستغفار يغلق باب الشر+.
وللاستغفار صيغٌ عديدةٌ أفضلها أن يبدأ العبد بالثناء على ربه، ثم يُثَنِّي بالاعتراف بذنبه، ثم يسأل الله المغفرة، كما في حديث شداد بن أوس عن النبي " قال: =سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت+ البخاري.
ومن صيغ الاستغفار: =أستغفر الله الحي القيوم وأتوب إليه+.
قال ": =من قاله غُفِر له وإن كان فرَّ من الزحف+.
رواه أبو داود والترمذي، وجود إسناده المنذري في الترغيب والترهيب.
وفي كتاب عمل اليوم والليلة للنسائي عن خباب بن الأرت ÷ قال: قلت يا رسول الله: كيف نستغفر؟ قال ": قل =اللهم اغفر لنا وارحمنا وتب علينا؛ إنك أنت التواب الرحيم+.
وفيه _أيضاً_ عن أبي هريرة ÷ قال: ما رأيت أحداً أكثر أن يقول: =أستغفر الله وأتوب إليه+.
وعن ابن عمر _ رضي الله عنهما _ قال: إن كنا لنعد لرسول الله " في المجلس الواحد مائة مرة يقول: =ربي اغفر لي وتب علي؛ إنك أنت التواب الرحيم+.
رواه أحمد، وأبو داود، والبخاري في الأدب المفرد، والترمذي، وابن ماجة، وصححه ابن حبان.
ومن أخصر الصيغ، وأشهرها: =أستغفر الله+، و=رب اغفر لي+.
هذا هو الاستغفار، وهذا فضله، وتلك صيغه؛ فما أحرانا في نهاية حجنا أن تلهج ألسنتنا بالاستغفار، وما أجمل أن يكون الاستغفار لنا خير دثار فيما نستقبله من أيام.
اللهم تقبل منا، ومن المؤمنين، وتجاوز عن تفريطنا، وتقصيرنا.
فإن التوبة وظيفة العمر، وبداية العبد ونهايته، وأول منازل العبودية، وأوسطها، وآخرها.(1/54)
والحديث ههنا سيكون حول مشهد التوبة في الحج؛ فالحديث عن التوبة جميل في كل وقت؛ فكيف إذا كان الحديث عنها في مثل هذه الأيام المباركة التي يتوب فيها الغاوون، ويُقْصِرُ المتمادون، ويكثر التائبون العائدون؟.
فما أجمل بالحاج بعد أن قام بأعمال الحج، وختمها بالذكر والاستغفار أن يطبع عليها بطابع التوبة النصوح.
أيها الحاج الكريم: لقد فتح الله بمنه وكرمه باب التوبة؛ حيث أمر بها، ووعد بقبولها مهما عظمت الذنوب، قال الله _ تبارك وتعالى _: [وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ](الزمر:54).
وقال _ عز وجل _: [وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ](الشورى:25).
وقال في حق أصحاب الأخدود الذين حفروا الحفر لتعذيب المؤمنين، وتحريقهم بالنار: [إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ](البروج:10).
قال الحسن ×: =انظروا إلى هذا الكرم والجود قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة+.
بل إنه _ عز وجل _ حذر من القنوط من رحمته، فقال: [قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ](الزمر:53).
قال ابن عباس _ رضي الله عنهما _: =من آيس عباد الله من التوبة بعد هذا فقد جحد كتاب الله _ عز وجل _+.
أما فضائل التوبة، وأسرارها، وبركاتها فمتعددة متنوعة متشعبة؛ فالتوبة سبب الفلاح، وطريق السعادة، وبالتوبة تكفر السيئات، وإذا حسنت بدَّل الله سيئاتِ صاحبها حسنات.(1/55)
وعبودية التوبة من أحب العبوديات إلى اللهِ, واللهُ _ تبارك وتعالى _ يفرح بتوبة التائبين, قال النبي ": =لله أفرح بتوبة العبد من رجل نزل منزلاً وبه مهلكة، ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومةً، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته حتى اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله، قال: أرجع إلى مكاني، فرجع فنام نومةً، ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده+رواه البخاري ومسلم.
ولم يجئ هذا الفرح في شيء من الطاعات سوى التوبة، ومعلوم أن لهذا الفرح تأثيراً عظيماً في حال التائب وقلبه، ومزيدُ هذا الفرح لا يُعبر عنه.
ومن فضائل التوبة: أنها توجب للتائب آثاراً عجيبة من مقامات العبودية التي لا تحصل بدون التوبة؛ فتوجب للتائب رقةً ومحبةً ولطفاً، وتوجب له شكر الله، وحمده، والرضا عنه؛ فَرُتِّب له على ذلك أنواع من النعم لا يهتدي العبد إلى تفاصيلها، بل لا يزال يتقلب في بركاتها وآثارها ما لم ينقضها أو يفسدها.
من المسائل في باب التوبة: مسألة التخلص من الحقوق , والتحلل من المظالم؛ فالتوبة تكون من حق الله، وحقِّ العباد، فحقُّ الله _ تعالى _ يكفي في التوبة منه أن يترك ما كان يفعله من النواهي، وأن يفعل ما كان يتركه من الأوامر.
ومن حقوق الله ما يجب فيه مع التوبةِ القضاءُ والكفارةُ كما هو مفصّلٌ في مواضعه.
وأما حق غير الله فَيَحْتَاجُ إلى التحلل من المظالم فيه، وإلى أداء الحقوق إلى مستحقيها، وإلا لم يحصلِ الخلاصُ من ضرر ذلك الذنب.
قال النبي ": =من كان لأخيه عنده مظلمة من مال، أو عرض؛ فليتحلَّلْهُ اليوم، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إلا الحسنات والسيئات+رواه البخاري.
ولكن من لم يَقْدِرْ على الإيصال بعد بذله الوُسعَ في ذلك؛ فعفو الله مأمول، فإنه يضمن التبعاتِ، ويبدل السيئاتِ حسناتٍ.(1/56)
ومن لطائف التوبة أن التوبةَ واجبةٌ ومستحبةٌ؛ فالتوبةُ الواجبةُ تكون من فعلِ المحرماتِ وترك الواجباتِ، والتوبةُ المستحبةُ تكون من فعل المكروهات وتركِ المستحبات؛ فمن اقتصر على التوبة الأولى كان من المقتصدين الأبرار، ومن تاب التوبتين كان من السابقين المقربين، ومن لم يأتِ بالأولى الواجبة؛ كان من الظالمين.
ومن المسائل في باب التوبة مسألة التوبة النصوحِ، وهي الخالصةُ، الصادقةُ، الناصحةُ الخاليةُ من الشوائب و العلل؛ وهي التي تكون من جميع الذنوب؛ فلا تَدَعُ ذنباً إلا تناولتْه، وهي التي يَجْمَعُ صاحبُها العزمَ والصدقَ بكُلِّيته؛ فلا يبقى عنده تردُّدٌ ولا تَلوُّم، ولا انتظار، وهي التي تقعُ لمحض خوف الله، وخشيته، والرغبة مما لديه، والرهبة مما عنده؛ فمن كانت هذه حالَهُ غُفِرَتْ ذنوبُه كلُّها، وإذا حَسُنَتْ توبتُه بَدّلَ اللهُ سيئاتِه حسنات.
ومن اللطائف في هذا الباب مسألةُ التوبةِ الخاصة، وهي التي تكون من بعض الذنوب؛ فالواجب على العبد أن يتوب من جميع الذنوب صغيرها وكبيرها.
لكن إذا تاب من بعضها مع إصراره على بعضها الآخر _ قُبِلَتْ توبتُه مما تاب منه ما لم يُصِرَّ على ذنبٍ آخرَ من نوعه.
مثال ذلك: أن يتوب من الرّبا وهو مصر على شرب الخمر، فتقبل توبته من الربا، وهكذا.
وقد يُتَصَوَّر أن يتوب الإنسانُ من الكثير من الذنوب دون القليل منها؛ لأن لكثرة الذنوب تأثيراً في كثرة العقوبة، وصعوبة التوبة.
وبالجملة فكلُّ ذنبٍ له توبةٌ خاصةٌ، وهي فرضٌ منه لا تتعلق بالتوبة من غيره؛ فهذه هي التوبةُ الخاصةُ، وحكمها: أنها تَصِحُّ فيما تاب منه؛ شريطةَ أن يكون التائب باقياً على أصل الإيمان.
وسر المسألة: أن التوبة تَتَبَعَّضُ كالمعصية؛ فيكون تائباً من وجه دون وجه.(1/57)
ومن اللطائف في باب التوبة مسألةُ رجوعِ الحسناتِ إلى التائب بعد التوبة؛ فإذا كان للعبد حسناتٌ، ثم عمل بعدها سيئاتٍ استغرقت حسناتِه القديمةَ وأَبْطَلَتْها، ثم تاب بعد ذلك توبة نصوحاً _ عادت إليه حسناتُه القديمةُ، ولم يكن حكمُه حكمَ المستأنف لها بل يقال: تُبْتَ على ما أسلفتَ من خير؛ فالحسنات التي فَعَلْتَها في الإسلام أعظمُ من الحسنات التي يفعلها الكافر في كفره، من عتاقة، وصدقة، وصِلَةٍ، وبر.
قال حكيم بن حزام ÷: =قلت يا رسول الله، أرأيتَ أشياءَ كنت أتحنَّث بها _ يعنى أتعبَّد بها _ في الجاهلية من صَدقة، أو عتاقة، أو صلة رحم؛ فهل فيها من أجر؟ فقال النبي ": =أسلمتَ على ما أسلفتَ من خير+رواه البخاري، ومسلم.
قال ابن حجر × في شرح الحديث: =لا مانع من أن يضيف الله إلى حسناته في الإسلام ثوابَ ما كان صدر منه في الكفر؛ تفضّلاً وإحساناً+ ا. هـ.
وقال ابن القيم × مبيّناً العلة في ذلك: =وذلك لأن الإساءةَ المُتَخَلِّلَة بين الطاعتين قد ارتفعت بالتوبة، وصارت كأنها لم تكن؛ فتلاقت الطاعتان، واجتمعتا، والله أعلم+ ا. هـ.
ومن اللطائف في باب التوبة: مسألةُ رجوعِ التائبِ إلى حاله ومقامه قبل المعصية؛ فقد يكون للعبد حالٌ، أو مقامٌ مع الله، ثم ينزل عنه بسبب ذنبٍ ارتكبه، ثم بعد ذلك يتوب من ذلك الذنب، فهل يعود بعد التوبة إلى مثل ما كان، أو لا يعود، أو يعود إلى أنقص من رتبته، أو يعود خيراً مما كان؟.
والجواب: أن من التائبين من يعود إلى مثل حاله الأول، ومنهم من يعود إلى أكملَ من حاله، ومنهم من يعود إلى أنقصَ مما كان؛ فإن كان بعد التوبة خيراً مما كان قبل الخطيئة، وأشدَّ حذراً، وأعظم تشميراً، وأعظم ذلاً وخشية وإنابة _ عادَ إلى أرفعَ مما كان.
وإن كان قبل الخطيئةِ أكملَ في هذه الأمور، ولم يعد بعد التوبة إليها عاد أنقص مما كان عليه.
وإن كان بعد التوبةِ مثلَ ما كان قبل الخطيئة _ رجع إلى منزلته.(1/58)
وهذا ما رجّحه شيخ الإسلام ابن تيمية × في هذه المسألة.
وعلى هذا؛ فإنه ينبغي التفطُّنُ لهذه المسألة، خصوصاً من كان له حالٌ مع الله، وكان ذا خشيةٍ، وعلمٍ، وتألُّهٍ، ومسارعة إلى الخيرات، وحرص على الدعوة ونحو ذلك، ثم طاف به طائف من الشيطان، فأزلَّه، وأغواه، وطوَّح به عن قصد السبيل، فنزل عن رتبته السابقة، وفقد أُنْسَه بالله، ودبَّ إلى الضّعف والفتور وترك ما كان يقوم به من خير ومسارعة.
فهذه مسألة تعتري كثيراً من الناس، فيستسلمون لها، ويركنون إلى خاطر اليأس، ويرضون بالدّون، فيظنون أنهم لا يمكن أن يرجعوا إلى حالتهم السابقة من الخير، والقرب من الله!.
فعلى من وقعت له تلك الحال ألا يستسلم للشيطان، وألا ييأس من رجوعه إلى ما كان عليه من منزلة؛ بل عليه أن يجتهد بالتوبة النّصوح، وأن يشمّر عن ساعد الجدِّ؛ لتدارك ما فات بالأعمال الصالحات؛ فلربما عاد إلى مقامه وحاله السابق، بل ربما عاد أكمل مما كان عليه، وليس ذلك ببعيد على من كان ذا نفس شريفة، وهمة عالية.
ولا بُعدَ في خيرٍ وفي الله مطمعٌ ... ولا يأسَ من رَوْحٍ وفي القلب إيمانُ
أيها الحجاج الكرام: مسائل التوبة كثيرة، ولطائفها متنوعة، وأسرارها بديعة عديدة لا يتّسع لها المجال.
اللهم إننا نسألك التوبة النصوح التي ترضيك عنا، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
أيها الحاج الكريم: ما أكثر دروس الحج، وما أعظم بركاته؛ فليكن لك من ذلك أوفر الحظ والنصيب؛ لتفوز بسعادة الدارين، ولتكون من حزب الله المفلحين، ومن أوليائه المتقين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ...
العيد مظهرٌ من مظاهر الدين، وشعيرة من شعائره المعظمة التي تنطوي على حِكَمٍ عظيمة، ومعانٍ جليلة، وأسرار بديعة لا تعرفها الأممُ في شتى أعيادها.(1/59)
فالعيد في معناه الديني: شكرٌ لله على تمام العبادة، لا يقولها المؤمن بلسانه فحسب؛ ولكنها تعتلجُ في سرائره رضاً واطمئناناً، وتنبلج في علانيته فرحاً وابتهاجاً، وتُسفر بين نفوس المؤمنين بالبشر والأنس والطلاقة، وتمسح ما بين الفقراء والأغنياء من جفوة.
والعيد في معناه الإنساني: يومٌ تلتقي فيه قوةُ الغنيِّ، وضعفُ الفقير على محبةٍ ورحمةٍ وعدالةٍ من وحي السماء، عُنْوانُها الزكاةُ، والإحسانُ، والتَّوسعةُ.
يتجلى العيدُ على الغني المُتْرَف: فينسى تُعَلُّقَه بالمال، وينزل من عليائهِ متواضعاً للحقِّ وللخلق، ويذكرُ أن كلَّ مَنْ حوله إخوانُه وأعوانُه؛ فيمحو إساءَة عامٍ، بإحسان يومٍ.
ويتجلى العيد على الفقير المُتْرَب: فيطرح همومَه، ويسمو من أفق كانت تصوره له أحلامُه، وينسى مكارهَ العام ومتاعِبَه، وتمحو بشاشةُ العيد آثارَ الحقد والتبرّم من نفسه، وتنهزمُ لديه دواعي اليأسِ على حين تنتصر بواعثُ الرجاء.
والعيد في معناه النفسي: حدٌ فاصلٌ بين تقييدٍ تخضع له النفسُ، وتَسكُنُ إليه الجوارحُ، وبين انطلاقٍ تنفتح له اللهواتُ، وتتنبَّه له الشهوات.
والعيد في معناه الزمني: قطعةٌ من الزمن؛ خُصِّصَت لنسيان الهموم، واطِّراح الكُلَف، واستجمام القوى الجاهدة في الحياة.
والعيد في معناه الاجتماعي: يومُ الأطفالِ يفيض عليهم بالفرح والمرح، ويوم الفقراءِ يلقاهم باليسر والسعة، ويومُ الأرحامِ يجمعها على البر والصلة، ويومُ المسلمينَ يجمعهم على التسامح والتزاور، ويومُ الأصدقاءِ يجدد فيهم أواصرَ الحب، ودواعي القرب، ويومُ النفوس الكريمة تتناسى أضغانها؛ فتجتمع بعد افتراق، وتتصافى بعد كدر، وتتصافح بعد انقباض.
وفي هذا كله: تجديدٌ للرابطة الاجتماعية على أقوى ما تكون من الحب، والوفاء، والإخاء.
وفيه أروعُ ما يُضْفي على القلوب من الأنس، وعلى النفوس من البهجة، وعلى الأجسام من الراحة.(1/60)
وفيه من المغزى الاجتماعي _ أيضاً _ تذكيرٌ لأبناء المجتمع بحق الضعفاء والعاجزين؛ حتى تشمل الفرحةُ بالعيد كلَّ بيتٍ، وتعمَّ النعمةُ كلَّ أسرة.
وإلى هذا المعنى الاجتماعي: يرمُزُ تشريعُ صدقةِ الفِطْر في عيد الفطر، ونحر الأضاحي في عيد الأضحى؛ فإن في تقديم ذلك قبل العيد، أو في أيّامه إطلاقاً للأيدي الخيّرة في مجال الخير؛ فلا تشرق شمسُ العيدِ إلا والبسمةُ تعلو كلَّ شفاهٍ، والبهجةُ تغمرُ كلَّ قلبٍ.
في العيد: يَسْتَروِحُ الأشقياءُ ريحَ السعادةِ، ويتنفّسُ المختنقون في جوٍّ من السَّعة، وفيه يذوق المُعْدَمون طيبات الرزق، ويتَنَعَّم الواجدون بأطايبه.
في العيد: تُسلسُ النفوسُ الجامحةُ قيادَها إلى الخير، وتَهُشُّ النفوسُ الكزَّةُ إلى الإحسان.
في العيد: أحكامٌ تَقْمَعُ الهوى، من ورائها حِكَمٌ تُغَذِّي العقل، ومن تحتها أسرارٌ تُصَفِّي النفس، ومن بين يديها ذكرياتٌ تُثمر التأسِّي في الحق والخير، وفي طيِّها عِبَرٌ تُجلِّي الحقائق، وموازينُ تقيم العدل بين الأصناف المتفاوتة بين البشر، ومقاصدُ سديدةٌ في حفظ الوَحْدة، وإصلاح الشأن، ودروسٌ تطبيقيةٌ عالية في التضحية، والإيثار، والمحبة.
في العيد: تظهر فضيلةُ الإخلاص مُستَعْلِنَةً للجميع، ويُهْدي الناسُ بعضُهم إلى بعض هدايا القلوبِ المُخلصَةِ المُحبَّة، وكأنما العيد روح الأسرة الواحدة في الأمة كلها.
في العيد: تَتَّسِعُ روحُ الجوارِ وتمتد، حتى يرجعَ البلدُ العظيم وكأنه لأهله دارٌ واحدة يتحقق فيها الإخاءُ بمعناه العملي.
في العيد: تنطلق السجايا على فطرتها، وتبرز العواطف والميول على حقيقتها.
العيد في الإسلام: سكينةٌ ووقارٌ، وتعظيمٌ للواحد القهار، وبعدٌ عن أسباب الهلكة ودخول النار.
والعيد مع ذلك كله: ميدان استباق إلى الخيرات، ومجال منافسة في المَكْرُمَات.(1/61)
ومما يدل على عظم شأن العيد أن الإسلام قرن كلَّ واحدٍ من عيديه العظيمين؛ بشعيرة من شعائره العامة التي لها جلالُها الخطير في الروحانيات، ولها خَطَرُها الجليل في الاجتماعيات، ولها ريحُها الهابَّةُ بالخير، والإحسان، والبر، والرحمة، ولها أثرها العميق في التربية الفردية والجماعية، التي لا تكون الأمةُ صالحةً للوجود، نافعةً في الوجود _ إلا بها.
هاتان الشعيرتان هما: شهر رمضان؛ الذي جاء عيدُ الفطر مِسْكَ ختامِه، وكلمةَ الشكر على تمامه، والحجُّ؛ الذي كان عيدُ الأضحى بعضَ أيامه، والظَّرْفَ المُوعِي لمعظم أحكامه.
فهذا الربط الإلهي بين العيدين، وبين هاتين الشعيرتين كافٍ في الحكم عليهما، وكاشفٌ عن وجه الحقيقة فيهما، وأنهما عيدان دِينيَّان بكل ما شُرع فيهما من سنن، بل حتى ما نَدب إليه الدينُ فيهما من أمورٍ ظاهرُها أنها دنيوية كالتجمّل، والتحلِّي، والتطيُّب، والتوسعة على العيال، وإِلطاف الضيوف، والمرح، واختيار المناعم والأطايب، واللهو مما لا يخرج إلى حدِّ السرف، والتَّغالي، والتفاخر المذموم؛ فهذه الأمور المباحة داخلة في الطاعات إذا حسُنت النية؛ فمن محاسن الإسلام أن المباحات إذا حسُنت فيها النيةُ، وأُريدَ بها تَحَقُّقُ حِكمةِ الله، أو شُكر نعمته _ انقلبت قربات؛ كما قال النبي ": =حتى اللقمة تضعها في فيِّ امرأتك+.
كِلا طرفي العيد: في معناه الإسلامي جمالٌ، وجلالٌ، وتمامٌ وكمالٌ، وربطٌ واتصالٌ، وبشاشةٌ تُخالط القلوب، واطمئنانٌ يلازم الجنوب، وبسطٌ وانشراحٌ، وهجرٌ للهموم واطِّراح، وكأنه شبابٌ وخَطَتْهُ النُّضْرةُ، أو غُصْنٌ عاوده الربيع؛ فوخَزَتْهُ الخُضْرَةُ.(1/62)
وليس السرُّ في العيد: يومَهُ الذي يبتدئُ بطلوع الشمس وينتهي بغروبها، وإنما السرُّ فيما يَعْمُرُ ذلك اليومَ من أعمال، وما يَغْمُرُه من إحسان وأفضال، وما يغشى النفوسَ المستعدَّةَ للخير فيه من سموٍّ وكمال؛ فالعيد إنما هو المعنى الذي يكون في العيد, لا اليومُ نفسُهُ.
هذه بعض معاني العيد: كما نفهمها من الإسلام، وكما يحقِّقُها المسلمون الصادقون؛ فأين نحن اليوم من هذه الأعياد؟ وأين هذه الأعياد منا؟ وما نصيبنا من هذه المعاني؟ وأين آثار العبادةِ من آثار العادة في أعيادنا؟
إن مما يُؤسَف عليه أن بعض المسلمين جَرَّدوا هذه الأعياد من حِليتها الدينية، وعَطَّلوها عن معانيها الروحية الفوارة التي كانت تفيض على النفوس بالبهجة، مع تَجَهُّم الأحداث، وبالبشر مع شدة الأحوال؛ فأصبح بعض المسلمين _ وإن شئت فقل: كثير منهم _ يَلْقَون أعيادهم بهممٍ فاترة، وحِسٍّ بليد، وشعور بارد، وأسرَّةٍ عابسة، حتى لكأنَّ العيد عملية تجارية تَتْبَعُ الخِصبَ والجَدَّ، وتتأثر بالعسر واليسر، والنَّفاق والكساد، لا صبغة روحيَّة تؤثِّر ولا تتأثَّر.
ولئن كان من حق العيد أن نَبْهَج به ونفرح، وكان من حقِّنا أن نتبادل به التهاني، ونطّرح الهموم، ونتهادى البشائر _ فإن حقوقَ إخواننا المشردين المعذبين شرقاً وغرباً تتقاضى أن نحزن لمحنتهم ونغتم، ونُعْنَى بقضاياهم ونهتم؛ فالمجتمع السعيد الواعي هو ذلك الذي تسمو أخلاقه في العيد، إلى أرفع ذروة، ويمتد شعوره الإنساني إلى أبعد مدى، وذلك حين يبدو في العيد متماسكاً متعاوناً متراحماً، حتى لَيَخْفِقُ فيه كل قلب بالحب، والبر، والرحمة، ويذكر فيه أبناؤه مصائب إخوانهم في الأقطار حين تنزل بهم الكوارث والنكبات.
ولا يراد من ذلك تَذْراف الدموع، ولبس ثياب الحداد في العيد، ولا يراد منه _أيضاً_ أن يعتكف الإنسان المرزوء بفقد حبيب أو قريب، ولا أن يمتنع عن الطعام، كما يفعل الصائم.(1/63)
وإنما يراد من ذلك أن تظهر أعيادُنا بمظهر الأمة الواعية؛ التي تلزم الاعتدال في سرَّائها وضرَّائها؛ فلا يَحُوْلُ احتفاؤها بالعيد دون الشعور بمصائبها التي يرزح تحتها فريقٌ من أبنائها.
ويراد من ذلك أن نقتصد في مرحنا وإنفاقنا؛ لنوفِّر من ذلك ما تحتاج إليه أمتنا في صراعها المرير الدامي.
ويراد من ذلك _ أيضاً _ أن نشعر بالإخاء قوياً في أيام العيد؛ فيبدو علينا في أحاديثنا عن نكبات إخواننا وجهادهم ما يقوي العزائم، ويشحذ الهمم، ويبسط الأيدي بالبذل، ويطلق الألسنة بالدعاء _ فهذا هو الحزن المجدي، الذي يُترجَم إلى عمل واقعي.
أيها المسلم المستبشر بالعيد: لا شك أنك تستعد أو قد استعددت للعيد أباً كنت، أو أمّاً، أو شاباً، أو فتاةً، ولا ريب أنك قد أخذت أُهْبَتَك لكل ما يستلزمه العيد من لباس، وطعام ونحوه ؛ فأضف إلى ذلك استعداداً تنالُ به شُكوراً، وتزداد به صحيفتُك نوراً، استعداداً هو أكرم عند الله، وأجدر في نظر الأُخوَّة والمروءة.
ألا وهو استعدادك للتفريج عن كربة من حولك من البؤساء والمعدَمِين، من جيران، أو أقربين أو نحوهم؛ فتِّشْ عن هؤلاء، وسَلْ عن حاجاتهم، وبادر في إدخال السرور إلى قلوبهم، وإن لم يُسْعِدْكَ المال؛ فلا أقل من أن يُسعدَك المقالُ بالكلمة الطيبة، والابتسامة الحانية، والخفقة الطاهرة.
وتذكَّر صبيحةَ العيد، وأنت تقبل على والديك، وتأنس بزوجك، وإخوانك وأولادك، وأحبابك، وأقربائك؛ فيجتمع الشمل على الطعام اللذيذ، والشراب الطيب، تذكَّر يتامى لا يجدون في تلك الصبيحة حنانَ الأب، وأيامى قد فقدن ابتسامةَ الزوج، وآباءً وأمهاتٍ حُرموا أولادهم، وجموعاً كاثرة من إخوانك شردهم الطغيان، ومزقهم كلَّ ممزق؛ فإذا هم بالعيد يشرقون بالدمع، ويكتوون بالنار، ويفقدون طعم الراحة والاستقرار.(1/64)
وتذكر في العيد وأنت تأوي إلى ظلك الظليل، ومنزلك الواسع، وفراشك الوثير تذكَّر إخواناً لك يفترشون الغبراء، ويلتحفون الخضراء، ويتضورون في العراء، واستحضر أنك حين تأسو جراحهم، وتسعى لسدِّ حاجتهم أنك إنما تسدّ حاجتك، وتأسو جراحك [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ] (التوبة:71)، و[وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ](البقرة:272)، و[مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ](فصلت:46)، و=من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه+، =ومن لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم+، و=مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر+.
وإليك أيها القارئ الكريم هذه الكلمات حول العيد، وقد رَقَمَتْها يراعةُ الإمام الأديب الشيخ محمد البشير الإبراهيمي _ يرحمه الله _.
وهذه الكلمات مبثوثة في صفحات متفرقة, وأجزاء مختلفة من كتاب (آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي)، وقد أحببت أن يقف القارئُ على تلك الكلمات؛ لما فيها من الحديث عن العيد، ومعانيه، وعن حال الأمة الإسلامية في العيد، ومع العيد حتى لكأنه يتحدث عن حال المسلمين اليوم، مع أنه قد كتب تلك المقالات منذ ما يزيد على خمسين عاماً.(1/65)
وسيلاحظ القارئ في هذه الكلمات روعةَ البيان، والغيرةَ الصادقة، والسَّبْر، والتحليل، والمتابعة الدقيقة، والنظرة الفاحصة لأحوال المسلمين، والأسى العميق الذي كان يعتلج في قلب الكاتب، بسبب ما آلت إليه أحوال المسلمين، فمِمَّا قاله × في عيد الأضحى: =إن تفاخرت الأيام ذوات الشِّيات والمياسم، والمواكب والمواسم؛ فيومُك الأغرُّ المُشَهَّرُ، وإن أتت الأيام بمن لهم فيها ذكر الرجال، وبمن شرفها بنسبة من الأبطال جئت بإبراهيم، وإبراهيمُ آدم النُّبُوَّة بعد آدم البُنُوَّة، وبإسماعيل سامِكِ البَنِيَّةِ (1) القوراء، وعامر الحَنِيَّةِ (2) القفراء، رمز التضحية والفداء، وناسل العديد الطيب من النجيبات والنجباء.
__________
(1) _ البنية القوراء : الكعبة.
(2) _ الحنية القفراء : مكة.(1/66)
وبمحمدٍ لَبِنَةِ التمام، ومسك الختام، ورسول السلام وكفى، وإن جاءت الأيام بما أُثِر فيها من رموز، ونُثِر فيها من كنوز جئت بالشعائر المأثورة، والنذر المنذورة، وجئت بالهدي يتهادى، والبُدْنِ تَتَعَادى، وجئت بالفدية والكفارة، والتجرد والطهارة، وجئت بالأضحية والقربان، رموز طواها الإسلام في الشعائر المضافة إليك، ووكل لتصاريف الأيام شَرْحَهَا، وقد شَرَحَتْ، وَأَوْضَحَتْ، وأين من يعقل؟ أو أين من يعي؟ يا عيد: بأية حال عدت؟! وهذه فلسطين التي عَظَّمَتْ حُرُمَاتِك ثلاثة عشر قرناً ونصف قرن، وتأرَّج ثراها بالأثر العاطر من إسراء محمد، وتَضَمَّخَ بدماء الشهداء من أصحابه، واطمأنت من أول يوم قلوبُ أبنائها بهدي القرآن، وجنوبُهم بعدل عمر _ تُسامُ الدون، وتقاسي عذاب الهون، قد اجتمع على اهتضامها عُتُو الأقوياء، وكيد الضعفاء، يريدون أن يمحوا معالمك منها، ويحسروا ظِلال الإسلام عنها، طرقت حماها غارةٌ شعواءُ من الشهوات والأهواء، يحميها الحديد, وينافح عنها الذهب, وغَمَرَتْها قطعان من ذؤبان البشر، وشراذم من عباد المال، يريدون أن يحققوا فيها حُلْماً غلطوا في تفسيره، وأن ينصبوا فيها مسيحاً دجالاً، بعد أن كذَّبوا المسيح الصادق، وأن ينتقموا من المسلمين، بعد أن عجزوا من الانتقام من بابل ويونان، وفارس، والرومان، وروسيا والألمان، وإيطاليا والأسبان، وأن يرثوها بدون استحقاق، ويجعلوا من بني إسماعيل خَوَلاً (1) لبني إسحاق (2).
__________
(1) _ خولاً: يعني خدماً وعبيداً .
(2) _ آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي3/468.(1/67)
ثم انتقل × إلى الحديث عن مواقع أخرى من العالم الإسلامي، فقال: =وهذا الشمال(1) قد أصبح أهله كأصحاب الشِّمال في سموم من الاستعمار وحميم، وظلٍّ من يحموم,لا باردٍ ولا كريم،أفسد الاستعمارُ أخلاقَهم، ووهَّن عزائمهم، وفرَّق بين أجزائهم ؛ لئلا يجتمعوا، وقطع الصلة بينهم وبين ماضيهم؛ لئلا يذَّكروا، وضرب بينهم وبين العلم بسور له باب، ومكَّن فيهم الضعف والانحلال؛ بما زيَّن لهم من سوء الأعمال، وبما غزا به نفوسهم وعواطفهم من أفكار ومغريات، وهذه تركيا ذات السلف الصالح في رَفْع منارِك (2) وإقامة شعارك _ واقفَةٌ على صراطٍ أدق من السيف، واقعه بين دبٍّ عارمٍ يترقب الفرصة لازدرادها، وبين محتالٍ بارع يمد الشباك لاصطيادها، ويطوي في العمل لتحريرها نية استعبادها، ويداويها من المرض الأحمر بالداء الأصفر.
وهذا الهند الإسلامي، لا يكاد يظفر بالأمنية التي سلخ في انتظارها القرون، وبذل في تحصيلها الجهود؛ ليستعيد تراث الإسلام الذي أثَّله المهلب، والثقفي(3) حتى تعاجله الدسائس، والفتن، حتى ليوشك أن يرجع إلى العبودية طائعاً مختاراً، فيسجل على نفسه عار الدهر وخزي الأبد+(4).
__________
(1) _ يعني شمال أفريقيا .
(2) _ الضمير في منارك يعود على العيد؛ لأن الحديث في سياقه.
(3) _ يعني: المهلب بن أبي صفرة، ومحمد بن القاسم الثقفي.
(4) _ آثار الإمام 3/469.(1/68)
إلى أن قال × متحدثاً عن تلاعب مجلس الأمن، وهيئة الأمم، والمصير الذي ينتظر العالم في ظل الهيمنة الغربية: =وهذا العالم كلُّه مُسَيَّرٌ إلى غاية مشؤومة، متوقع لضربةٍ قاضية تنسي الماضية، وهو يستنزل الغيث من غير مَصَبِّه، ويستروح ريح الرحمة من غير مَهَبِّه، ويتعلل بالعلالات الواهية من جمعية لم تجمع مُتَفَرِّقاً من هوىً، ولم تزجر عادياً من عدوان إلى مجلس أمن لم يُؤَمِّن خائفاً، ولم ينصر مظلوماً، وإنما هو كُرة بين لاعبينِ: أحدهما يستهوي بالفكرة، والآخر يستغوي بالمال، وويل للعالم إذا نفد النفاق، واصطدمت قوة الفِكْر بقوة الذهب+(1).
ثم يختم × كلمته متحدثاً على لسان العيد فيقول: =أما والله لو ملكتَ النطقَ يا عيدُ لأقسمتَ بالله، ولقلتَ لهذه الجموع المهيضة الهضيمة من أتباع محمد يا قوم: ما أخلف العيد، وما أخلفتم من ربكم المواعيد، ولكنكم أخلفتم، وأسلفتم الشر؛ فجزيتم بما أسلفتم [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً](النور: 55).
فلو أنكم آمنتم حق الإيمان، وعملتم الصالحات التي جاء بها القرآن، ومنها جمعُ الكلمة، وإعدادُ القوة، ومحو التنازع من بينكم، لأنجز الله لكم وعده، وجعلكم خلائف الأرض، ولكنكم تنازعتم ففشلتم، وذهبت ريحكم، وما ظلمكم الله، ولكن ظلمتم أنفسكم.
أيها المسلمون: عيدُكُم مُبارك إذا أردتم، سعيد إذا استعددتم، لا تظنوا أن الدعاء وحده يرد الاعتداء؛ إن مادة: دعا يدعو لا تنسخ مادة: عدا يعدو، وإنما ينسخها أعَدَّ يُعِدُّ، واستعدَّ يستعدُّ، فأعدوا، واستعدوا تزدهر أعيادكم، وتظهر أمجادكم+(2).
__________
(1) _ آثار الإمام 3/470.
(2) _ آثار الإمام 3/470.(1/69)
وقال ×في موضع آخر في مقالة بعنوان: =من وحي العيد عيد+:
=يا عيد كنا نلتقي فيك على مُلك اتَّطدت أركانه، وعلى عِزَّة تمكنت أسبابها، وعلى حياة تجمع الشرف والترف، وتأخذ من كل طريفة بطرف، وعلى جِدٍّ لا ينزل الهزل بساحته، واطمئنان لا يُلِمُّ النصب براحته؛ فأصبحنا نلتقي فيك على الآلام والشجون، فإن أنساناهما التعود فعلى اللهو والمجون+(1).
إلى أن قال: =يا عيد إن لقيناك اليوم بالاكتئاب؛ فتلك نتيجة الاكتساب، ولا والله ما كانت الأزمنة، ولا الأمكنة يوماً ما جمالاً لأهلها، ولكن أهلها هم الذين يُجَمِّلونها ويُكَمِّلونها، وأنت يا عيد ما كنت في يوم جمالاً لحياتنا، ولا نضرة في عيشنا، ولا خضرة في حواشينا حتى نتَّهمك اليوم بالاستحالة، والدمامة، والتَّصوُّح.
وإنما نحن كنا جمالاً فيك، وحِلْيَةً لِبُكرِك وأصائلك؛ فحال الصبغ، وحلم الدبغ، واقعشر الجناب، وأقفرت الجنبات، وانقطعت الصلة بين النفوس وبين وحيك؛ فانظر أيُّنا زايل وصفَه، وعكس طباعه؟ بلى إنك لم تزل كما كنت، وما تَخَوَّنتَ ولا خنت _ وتوحي بالجمال، ولكنك لا تصنعه، وتلهم الجلال ولكنك لا تفرضه.
ولكننا نُكِبْنَا عن صراط الفطرة، وهدي الدين؛ فأصبحنا فيك كالضمير المعذب في النفس النافرة+(2).
بارك الله للمسلمين في عيدهم، ومكَّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
الموضوع ... الصفحة
المقدمة ... 3
أولاً: من آداب الحج ... 5
1_ الاستشارة والاستخارة ... 5
2_ إخلاص النية لله _ تعالى _ ... 5
3_ المبادرة إلى كتابة الوصية ... 5
4_ المبادرة إلى التوبة النصوح ... 6
5_ التفقه في أحكام الحج ... 6
6_ الحرص على اصطحاب الرفقة الطيبة ... 6
7_ تأمير الأمير ... 6
8_ حسن العشرة للأصحاب ... 6
__________
(1) _ آثار الإمام 3/481.
(2) _ آثار الإمام 3/481، وانظر كلاماً عظيماً في هذا المعنى في 3/462 _ 463, و3/467 _ 470, و3/479 , 4/291 _ 295.(1/70)
9_ تَخَيُّرُ النفقة الطيبة ... 7
10_ لزوم السكينة، واستعمال الرفق ... 7
11_ الحرص على راحة الحجاج، والحذر من أذيتهم ... 7
12_ حفظ اللسان ... 8
13_ غض البصر ... 8
14_ لزوم النساء الستر والعفاف ... 9
15_ الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله ... 9
16_ إعانة الحجاج ... 9
17_ الاستكثار من النفقة ... 9
18_ استشعار عظمة الزمان والمكان ... 9
19_ اغتنام الأوقات ... 9
20_ استحضار انقضاء أيام الحج ... 9
21_ المحافظة على أداء الفرائض ... 10
22_ البعد عن إجهاد النفس فيما لا يعني ... 10
23_ ألا يكون هَمُّ الحاج أن يقضي نسكه ... 10
ثانياً: من منافع الحج ودروسه ... 11
-الحكمة الجامعة في العبادات ... 11
-من أسرار الحج، ومنافعه: ... 11
أولاً: تحقيق العبودية والتوحيد لله _ تبارك وتعالى _ ... 12
ثانياً: التعود على اغتنام الأوقات ... 13
ثالثاً: ارتباط المسلمين بقبلتهم التي يولون وجوههم شطرها ... 13
رابعاً: تحقق الأخوة الإسلامية ... 13
خامساً: أن الحج فرصة عظيمة للإقبال على الله بشتى القربات ... 13
سادساً: الحج وسيلة عظمى لحط السيئات ورفعة الدرجات ... 14
سابعاً: هياج الذكريات الجميلة، ففي الحج تهيج الذكريات الجميلة ... 14
ثامناً: اكتساب الأخلاق الجميلة ... 17
تاسعاً: تذكر الآخرة ... 18
ثالثاً: مشهد التقوى في الحج ... 19
-الحكمة في العبادات في الإسلام ... 19
-آثار العبادات في النفوس ... 19
-التقوى أعظم دروس الحج ... 19
-أخذ العبرة من الحج للتزود من التقوى ... 20
-إبراهيم عليه السلام يحقق التقوى ... 20
-نتيجة معرفة الحجاج عبرة التقوى ... 20
-معالم في التقوى ... 21
-تعريف طلق بن حبيب، والراغب الأصفهاني، وابن الجوزي، وابن تيمية، وابن رجب _ رحمهم الله _ للتقوى ... 21
-الكلام في التقوى يتضمن مسألتين عظيمتين: ... 22
المسألة الأولى: التقوى الكاملة ... 22(1/71)
المسألة الثانية: أن التقوى لا بد أن تكون بعلم ... 22
-19 من ثمرات التقوى ... 23
-وصايا السلف بالتقوى ... 25
رابعاً: الذكر في الحج ... 27
-شأن الذكر ... 27
-عبادة الذكر تظهر غاية الظهور في الحج ... 27
-تضافر وتظاهر نصوص الشرع على فضل الذكر ... 28
-كلام جميل لشيخ الإسلام ابن تيمية × في فضل الذكر ... 28
-فوائد الذكر ... 29
- وأعظم هذه الأذكار: =سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله اكبر+ ... 31
- ومن الأذكار العظيمة =لا حول ولا قوة إلا بالله+: معناها وفضلها ... 31
-كلام لابن تيمية وابن القيم _ رحمهمها الله _ في شأنها ... 32
-من الأذكار العظيمة =سبحان الله وبحمده+ ... 32
- ومن الأذكار العظيمة كذلك: =سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم+ ... 33
-أعظم الأذكار في الحج التلبية ... 33
-طبقات الناس في الذكر ... 33
-للذكر مفهوم خاص، ومفهوم عام شامل ... 33
خامساً: الدعاء في الحج ... 35
-شأن الدعاء ... 35
-من المظان التي تُرجى فيها الإجابة في الحج: ... 35
1_ أن الحاج مسافر ... 36
2_ أن الحاج مستجاب الدعوة ... 36
3_ في الحج يشتد الإخلاص ... 36
4_ في الحج مواضع عديدة يشرع فيها الدعاء، وتُرجى الإجابة ... 36
-مواضع يشرع فيها الدعاء، وتُرجى الإجابة، يشترك فيها الحاج وغيره ... 37
-من آداب الدعاء ... 38
-أدعية قرآنية ... 39
-أدعية نبوية ... 40
سادساً: مشهد المراقبة في الحج ... 42
-شيء من قيام عبودية المراقبة في الحج ... 42
-بتحقيق المراقبة يصل الحاج إلى أعظم مقامات العبادة، وأعلى مراتب الدين وهو الإحسان ... 43
-وازع الدين يفعل في النفوس ما لا يفعله وازع القوة والسلطان ... 43
-أقوال جميلة في المراقبة لأبي حازم، والمعتمر ابن سليمان، وابن الجوزي ... 44
-إذا حقق العبد مراقبة الله أظهر الله فضله ... 44
سابعاً: مشهد الصبر في الحج ... 47
-الحج ميدان فسيح للتدرب على الصبر ... 47(1/72)
-عظم الارتباط بين الحج والصبر ... 47
-نصوص وآثار في فضل الصبر ... 47
- الحاج المحتسب إذا أوذي أو شُتِمَ لا يغضب، ولا يقابل الإساءة بمثلها ... 48
- الحاج المحتسب تراه هادئ النفس، ساكن الجوارح ... 48
-إذا تحلى الإنسان بالصبر أفلح في حياته وقدم الخير لأمته ... 48
-كل إنسان لابد له من الصبر ... 48
-حاجة الداعية إلى الصبر ... 49
-بقدر صبر الداعي إلى الحق والإصلاح تعظم همته ... 49
-الصبر إذا اقترن بالأمر كان عصمة للداعية من الانقطاع ... 49
-أعظم الصبرِ، وأحمده عاقبةً ... ... 49
-نماذج من الصبر المحمود ... 50
-حاجة الأمة إلى الصبر ... 50
ثامناً: مشهد الشكر في الحج ... 52
-واجب الشكر لله ... 52
-كثير من النصوص بيَّنت منزلة الشكر ... 52
-حقيقة الشكر ... 53
- المؤمن حقاً هو مَنْ يلازم الشكرَ في شتى أحواله ... 53
-من أعظم الدروس المستفادة من الحج انبعاثُ عبودية الشكر لله _ عز وجل _ ... 53
-نماذج من ذلك ... 53
-قصة عجيبة في الشكر ... 54
تاسعاً: مشهد مراغمة الشيطان في الحج ... 58
-الشيطان عدوٌ للإنسان مبين ... 58
-مراغمة الشيطان تتجلى في الحج خصوصاً في يوم عرفة ... 58
- أعظم ما تتجلى المراغمة في رمي الجمار ... 58
-كلام جميل للشنقيطي في حكمة الرمي ... 58
-الدرس العظيم المستفاد من رمي الجمار ... 60
عاشراً: مشهد الاضطرار والتذلل، وانتظار الفرج في الحج ... 62
-هذه المشاهد لب العبادة، ومقصودها الأعظم ... 62
- حاجة الإنسان، وضرورته إلى ربه لا تدانيها حاجة أو ضرورة ... 62
-كلمة لابن القيم في انتظار الفرج ... 63
-الحاج يتعلم الاضطرار والتذلل وانتظار الفرج من حجه ... 65
حادي عشر: مشهد العزة في الحج ... 67
-العزة خصلة شريفة ... 67
-موسمُ الحجِّ ميدانٌ فسيح لاكتساب العزة والتحلي بها ... 67
-ينال الحاج العزة من جراء بعده عن الجدال، والمراء، والجهل، والرفث، والصخب، والإساءة إلى الناس ... 67(1/73)
-ينال المؤمنُ العزةَ في هذا الموسم العظيم من جراء حجه، وكثرة أعماله الصالحة ... 67
-ينال المسلمون عموماً العزة في الحج؛ بسبب تحقيق الأخوة الإسلامية فيه ... 68
-ينال المسلم العزة من جراء تَذَكُّره الآخرة ... 68
-ينال المؤمنون العزة في هذا الموسم كذلك بسبب كثرة إنفاقهم وإحسانهم إلى الفقراء والمعوزين ... 68
-8 من مظاهر تربية الإسلام للمسلمين على العزة ... 69
-ثمرات العزة على الفرد ... 70
-ثمرات وآثار العزة على الأمة ... 70
-نبذة من النصوص الشرعية الواردة في العزة ... 71
-كلمات جميلة في هذا المعنى لوهب بن منبِّه، وطاووس، وأبي حازم ... 72
-لفتة تربوية على العزة للعز بن عبدالسلام ... 73
-أبيات جميلة لثعلب، والمكُّودي في العزة ... 73
ثاني عشر: مشهد الاستغفار في الحج ... 74
-تفسير الشيخ السعدي لقوله تعالى: [ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ... 74
-معنى الاستغفار ... 75
-الاستغفار من أجل القربات ... 75
-الاستغفار ختام الأعمال الصالحة ... 75
-حال العبد مع ربه في جميع أحواله ... 75
- فضائلُ جمةٌ,وأسرارٌ بديعةٌ ... 76
-آثار في فضل الاستغفار ... 77
- صيغ الاستغفار ... 77
ثالث عشر: مشهد التوبة في الحج ... 79
-فضائل التوبة، وأسرارها، وبركاتها ... 80
-عبودية التوبة من أحب العبوديات إلى اللهِ ... 80
-مسألة التخلص من الحقوق ... 81
-التوبة واجبة ومستحبة ... 81
-مسألة التوبة النصوح ... 81
-مسألة التوبة الخاصة ... 82
-مسألة رجوع الحسنات إلى التائب بعد التوبة ... 82
-مسألة رجوع التائب إلى حاله ومقامه قبل المعصية ... 83
رابع عشر: من معاني العيد ... 86
-العيد مظهر من مظاهر الدين ... 86
-العيد في معناه الديني ... 86
-العيد في معناه الإنساني ... 86
-العيد في معناه النفسي ... 86
-العيد في معناه الزمني ... 86(1/74)
-العيد في معناه الاجتماعي ... 87
-اقتران العيدين بشعيرتين من شعائر الدين العظيمة دليل عظم شأن العيد ... 88
-ماذا يُراد منا في العيد؟ ... 91
-أيها المسلم المستبشر بالعيد ... ... 91
-تذكر صبيحة العيد ... ... 92
-وتذكر في العيد ... ... 92
-كلمات حول العيد للإمام الأديب الشيخ محمد البشير الإبراهيمي × ... 92
الفهرس ... 98(1/75)