الحباء في الإيصاء
العلامة الفقيه السيّد
نعمان خير الدين بن أبي الثناء السيد محمود الآلوسي
(1252- 1317هـ )
تحقيق وتعليق
الدكتور عبد الله جاسم الجنابي
جمادى الآخرة 1426هـ تموز 2005م(1/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) . ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ، وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ) . ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا ، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما ) 0
وبعد :
فهذه رسالة لطيفة للشيخ العلامة نعمان خير الدين الالوسي (1252-1317هـ) عنوانها الحباء في الايصاء ، تمثل بحثا محررا في أحكام الوصية والايصاء التقطه مؤلفه من رد المحتار على الدر المختار للعلامة الفقيه ابن عابدين الحنفي 0
ترجمة المؤلف :
هو الشيخ العلامة الفقيه خاتمة المحققين (1) خير الدين نعمان بن أبى الثناء السيد محمود المفتى المفسر ابن السيد عبد الله أبو البركات البغدادي الآلوسي الحسني الحسيني الحنفي المذهب ، السلفي العقيدة 0
__________
(1) كذا وصفه تلميذه العلامة محمد شمس الحق العظيم أبادي في عون المعبود 9/144 0(2/1)
ولد ببغداد في 12 المحرم من سنة 1252هـ (30/4/1836م) ، ونشأ بها ، وولي القضاء في بلاد متعددة منها : الحلة، فسار سيرة مرضية حمد عليها وحبب إلى القلوب، وزار مصر في طريقه إلى الحج ، ورحل إلى سورية وبلاد الأناضول واجتمع بفضلائها ، ثم قصد القسطنطينية ، فحاز إعجابهم ، وعاد يحمل لقب رئيس المدرسين بالمدرسة المرجانية ، وكان شغوفا بالمطالعة وميالا إلى جمع الكتب النادرة ، وجمع خزانة كتب نادرة(1) 0
__________
(1) قال آغا بزرك الطهراني في الذريعة 7/193 : " المكتبة ( المرجانية ) أو ( مكتبة جامع مرجان ) هي مكتبة الشيخ خير الدين نعمان ابن أبي الثناء محمود بن عبد الله البغدادي الآلوسي المفسر المتوفى ( 1317 ) ومؤلف " جلاء العينين في محاكمة الأحمدين " وقفها على المدرسة المعروفة بالمرجانية ببغداد حين كان مدرسا فيها وظلت حتى عام ( 1928 م ) حيث أسست الحكومة مكتبة بعنوان مكتبة ( الأوقاف العامة ) فنقلت ( 1463 مجلدا ) من هذه الكتب إليها" 0وينظر أيضا : معجم المطبوعات العربية 1/8 0(2/2)
والأسرة الآلوسية مشهورة في العراق تنسب إلى آلوس قرية على الفرات قرب عانات ، نبغ فيها علماء وأدباء منهم السيد محمود والد نعمان المذكور ، كان معروفا بالفضل والأدب وجودة الخط وقوة الحافظة 0 يحكى عنه قال : ما استودعت ذهني شيئا فخانني(1)0
قال أحمد مترجميه : " ولد في أرض التعصب الأعمى الذميم تحت سماء الجور والاعتساف ولكنه نشأ بفطرته حر الضمير نير البصيرة وربي على الآداب الإسلامية الفاضلة فشب مسلما عاقلا فاضلا غيورا على مصالح الأمة والوطن والدين " (2)0
وقال العلامة محمد بهجة الأثري (1320-1417هـ ): " كان عقله أكبر من علمه ، وعلمه أبلغ من إنشائه ، وإنشاؤه أمتن من نظمه . وكان جوادا وفيا ، زاهدا ، حلو المفاكهة ، سمح الخلق " (3)0
توفي يوم السابع من المحرم سنة 1317هـ (29/5/1899م) في مدرسته بجانب مرقد مرجان تحت القبة وكان نبأ وفاته شديدة الوطأة على عارفي فضله ونبله (4) 0
من شيوخه :
__________
(1) هدية العارفين ، إسماعيل باشا البغدادي 2/496 ، الكنى والألقاب ، عباس القمي 1/190 ، معجم المؤلفين ، عمر رضا كحالة 13/ 107 ، الأعلام ، الزركلي 8/42 ، معجم المطبوعات العربية ، سركيس 1/7-8 ، الشيخ نعمان خير الدين الآلوسي : حياته ، آثاره العلمية ، عبد الله بن صالح المحمود آل غازي ص : 195-233 منشور في مجلة الحكمة ، العدد 11 ، شوال 1417هـ ، المدينة المنورة ، تاريخ الأسر العلمية في بغداد ، محمد سعيد الراوي البغدادي ص : 220-223 ،البغداديون أخبارهم ومجالسهم ، ابراهيم عبد الغني الدروبي ص : 35و37 ، بلوغ الاماني في التعريف بشيوخ الفاداني ، محمد مختار الدين الفلمباني ص : 154، 155 0
(2) معجم المطبوعات العربية ، سركيس 1/7-8 0
(3) نقلا عن الأعلام 8/42 0
(4) معجم المطبوعات العربية ، سركيس 1/7-8 0(2/3)
والده العلامة المفسر أبو الثناء الالوسي ، والسيد العلامة المفسر صديق حسن خان (ت1307هـ ) ، والشيخ علي علاء الدين الموصلي ، والشيخ احمد عبيد العطار محدث الشام في عصره (ت1218هـ ) ، والعلامة حسين بن محسن الانصاري السبعي اليماني(ت1327هـ ) ، والعلامة الفقيه عبد الغني الميداني الحنفي(ت1268هـ ) ، والسيد احمد بن عيسى النجدي الحنبلي (ت1329هـ) ، والعلامة الفقيه محمود بن حمزة الدمشقي الحمزاوي الحنفي (ت1305هـ ) ، والشيخ عبد الرحمن الكزبري محدث الشام ، والسيد حسين البوجعدي العذري (ت1322هـ ) وغيرهم ممن لهم الباع الطولى في العلوم الشرعية في عصرهم 0
من تلاميذه :
ولداه : الشيخ علي علاء الدين (ت1340هـ ) ، ومحمد ثابت (ت1329هـ ) 0
الشيخ العلامة المحدث شمس الحق العظيم أبادي شارح سنن أبي داود (ت1329هـ )0
السيد العلامة عيسى صفاء الدين البندنيجي ( ت1282هـ ) 0
السيد خضر بن يوسف البغدادي العاني ( ت1345هـ ) 0
العلامة المحدث السيد عبد الكريم بن عباس الازجي الشيخلي الحسني أبو الصاعقة ( ت 1379هـ) 0
له التآليف النافعة الكثيرة منها :
جلاء العينين في مجلد مطبوع بمصر . الجواب الفسيح في رد عبد المسيح في مجلدين مطبوع في لاهور . الحباء في الايصاء رسالة في الوصية ، سلس الغانيات في ذوات الطرفين من الكلمات في علم اللغة . شقائق النعمان في العقائد . الطارف والتالد في إكمال حاشية سيدنا الوالد على شرح القطر . غالية المواعظ في حزئين مرتب على خمسين مجلسا مطبوع بمصر ، الأجوبة النعمانية عن الاسئلة الهندية - في العقائد 0
نسبة المخطوط :
لا شك في نسبة المخطوط إلى مصنفه ، وممن عزاه إليه العلامة إسماعيل باشا البغدادي (1) 0
والمخطوط مما طبعه ابنه السيد علي علاء الدين الآلوسي في الآستانة سنة 1328 هـ 0
وصف المخطوط :
__________
(1) هدية العارفين 2/496 0(2/4)
تقع في 9 ورقات ، قياسها 24 ×16 سم ، تحمل الرقم 10/9526 بخط علي بن محمد حسن الايرواني على نسخة المؤلف سنة 1311هـ مجاميع ، وهي النسخة المعتمدة في التحقيق 0
ومنه نسخة أخرى استكتبها المؤلف مقابلة عليه سنة 1320هـ تقع في 7 ورقات ، مسطرتها 28 ×20 سم تحمل الرقم 5690 مجاميع ، وكلاهما في مكتبة الأوقاف(1) 0
عملنا في المخطوط :
1 0 ضبط النص ، ومقارنة نصوصه بالأصول التي أخذ منها 0
2 0 التعليق على بعض المواطن ، تكميلا للفائدة 0
3 0 تخريج الأحاديث النبوية الواردة في الأصل 0
4 0 ترجمة بعض الأعلام إذا تعلق بالترجمة فائدة ترجع إلى الأصل 0
5 0 الإحالة إلى المصادر المعتمدة للزيادة في الإيضاح 0
والله الموفق لا رب سواه ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله صحبه وسلم 0
{ النص المحقق }
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المبدي المعيد ، المتفضل بالعفو ومن عنده المزيد ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم الأنبياء ، وآله وصحبه الأوصياء الأمناء ، ولائمة المجتهدين الذين هم نجوم الاهتداء في الدين 0
أما بعد :
__________
(1) الشيخ نعمان خير الدين الآلوسي : حياته ، آثاره العلمية ، عبد الله بن صالح المحمود آل غازي ص :224 0(2/5)
فلما كنت السنة الحادية والثلثماية بعد الألف من هجرة ذي الرسالة والشرف ، في دار الخلافة القسطنطينية ، حماها الله تعالى من كل محنة ، وحفظها من كل فتنة ، وأدام خليفتها الأعظم في الملة الإسلامية ، امرني حضرة صدرها الأعظم ، الوزير الافخم ، صاحب الدولة والأبهة والعطوفة ، مشهور الآفاق بالفضايل المعروفة ، خير الدين باشا التونسي (1)، لا برحت الألطاف الإلهية خافقة عليه حينما يصبح ويمسي ، أن الخص له أبحاثا من كتب الأئمة والفقهاء ، تتعلق بإسقاط ما في الذمة ، وصلوات كانت واجبة الأداء ، وشيئا من مباحث الايصاء ، موضحا لما كتبه شيخ مشايخنا العلامة السيد محمد أمين بن عابدين (2)
__________
(1) خير الدين باشا ( 1810-1890هـ) أصله شركسي وجاء تونس صغيرا وتقرب من احمد باي فاستخلصه لخدمته وأعانه على إتمام دروسه وتقلب في مناصب الدولة العسكرية والسياسية في زمن الباي المذكور وانتدب لمهمات سياسية في فرنسا وتقلد وزارة البحرية سنة 1855 ثم الوزارة . واستدعاه السلطان عبد الحميد سنة 1878 وولاه الصدارة العظمى ، لكن عمله لم يتفق مع رجال المابين فاستقال وسمي عضوا في مجلس الأعيان وظل في القسطنطينية إلى أن مات 0 ينظر : معجم المطبوعات العربية 1/854 ، الأعلام 2/217و3/71 0
(2) السيد محمد أمين عابدين بن السيد عمر عابدين بن عبد العزيز بن احمد بن عبدالرحيم الدمشقي الحنفي المفتى العلامة الشهير بابن عابدين ولد سنة 1198 وتوفى سنة 1252 اثنتين وخمسين ومائتين وألف . له من التصانيف الإبانة عن اخذ الأجرة على الحضانة . إتحاف الذكى النبيه بجواب ما يقول الفقيه ،تنبيه ذوى الإفهام على حكم التبليغ خلف الإمام . تنبيه الرقود على مسائل النقود . تنبيه الغافل الوسنان في أحكام هلال رمضان . الدرر المضية في شرح نظم الأبحر الشعرية . الرحيق المختوم شرح قلائد المنظوم لابن عبد الرزاق في الفرائض . رد المحتار على الدر المختار في الفقه والفتاوى مجلدات . مطبوع .. العقود الدرية في تنقيح فتاوى الحامدية . العقود اللآلى في أسانيد العوالي . عقود رسم المفتى . العلم الظاهر في النسب الطاهر . غاية البيان في أن وقف الاثنين وقف لا وقفان . غاية المطلب في اشتراط الواقف عود النصيب إلى درجة الأقرب فالأقرب . فتح رب الأرباب على لب الألباب شرح نبذة الإعراب . الفوائد العجيبة في إعراب الكلمات الغريبة . الفوائد المخصصة بأحكام الحمصة . مناهل السرور لمبتغى الحساب بالكسور . منحة الخالق على البحر الرائق .. نسمات الأسحار على إفاضة الأنوار شرح المنار . نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف . ينظر : هدية العارفين 2/367-368 ، معجم المطبوعات العربية 1/ 150-154 ، الأعلام 6/42 ، الكنى والألقاب ، عباس القمي 1/345 0(2/6)
، لا برحت أعماله المتصلة تملى عند الكرام الكاتبين ،فشرعت في ذلك مرتبا لما هنالك على مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة ، نسأل الله تعالى حسنها ، عندما تقرب شمس الحياة من الأفول ، ومنه سبحانه الهداية في البداية والنهاية 0
فأقول : المقدمة في الإيصاء
أجمع العلماء أن الوصية مستحبة حال الصحة ، لكل من له مال أو عنده لأحد مال وعلى تأكدها في المرض (1)0
فقد اخرج الشيخان والجماعة عن ابن عمر ( رضي الله تعالى عنهما ) {1/أ} أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :" ما حق امرئ مسلم أن يبيت ليلتين ، وله شيء يريد أن يوصي فيه ، إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه " (2) 0 ورواه الطحاوي بلفظ : " لا يحل لامرئ مسلم له مال 000 " (3) 0
__________
(1) المبسوط 27/ 142 ، البحر الرائق 9/213 ، مواهب الجليل ، الحطاب 8/513 ، شرح مسلم ، النووي 11/74 ، الشرح الكبير ، ابن قدامة 6/ 424 ، جواهر العقود 1/ 351 ، تحفة الاحوذي 6/256 0
(2) صحيح البخاري – فتح الباري 5/264 ، صحيح مسلم – بشرح النووي 11/74 ، المسند ، الإمام احمد 2/34 ، سنن أبي داود 1/654 رقم (2862 ) ، سنن الترمذي 2/224 رقم ( 981 ) ، سنن ابن ماجه 2/901 رقم ( 2699) ، سنن الدارمي 2/402 0
(3) لم أقف عليه في شرح المعاني وينظر : فتح الباري ، ابن حجر 5/264 0ووقع في معجم الطبراني الاوسط1/ 286 و 287 و2/343 ، ومسند الشاميين له 1/204 و208 و2/378 ، وسنن الدارقطني 4/86 بلفظ : " لا ينبغي 000 " الحديث 0(2/7)
وقال الإمام الشافعي : " معنى الحديث ما الحزم والاحتياط للمسلم إلا أن تكون وصيته مكتوبة عنده " (1) ، وفي رواية : ليلة أو ليلتين ، وفي أخرى ثلاث ليال ، قال الحافظ ابن حجر : " وكان ذكر الليلتين والثلاث لرفع الحرج ، لتزاحم أشغال المرء التي يحتاج إلى ذكرها ففسح له بهذا القدر ليتذكر ما يحتاج إليه ، واختلاف الروايات فيه دال على انه للتقريب ، لا للتحديد ، والمعنى لا يمضي عليه زمان وان كان قليلا إلا ووصيته مكتوبة ولذلك قال ابن عمر : " لم أبت ليلة منذ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك إلا ووصيتي عندي " (2) 0
وقد استدل بهذا الحديث مع قوله تعالى : ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت ..الآية ) ( البقرة :180 ) ، جماعة من السلف على وجوب الوصية ، وحكاه البيهقي عن الشافعي في القديم ، وبه قال داود وابن جرير وآخرون 0 وذهب الجمهور إلى أنها مندوبة ، وأجابوا عن الآية بأنها منسوخة0
وقد اختلف القائلون بالوجوب فقال أكثرهم : تجب الوصية في الجملة 0 وقال آخرون : تجب للقرابة الذين لا يرثون خاصة 0وقال بعضهم : وجوب الوصية في الآية والحديث يختص بمن عليه حق شرعي ، يخشى أن يضيع على صاحبه إن لم يوص به كالوديعة والدَّين ونحوهما(3) 0
__________
(1) الام4/92 0وتمام كلامه : " ويحتمل ما المعروف في الأخلاق إلا هذا ، لا من وجه الفرض " 0 وينظر : شرح مسلم ، النووي 11/74 ، تنوير الحوالك ، السيوطي ص : 565 ، تحفة الاحوذي 6/256 0
(2) هو تمام الحديث المتقدم تخريجه عن ابن عمر ( رضي الله عنهما ) 0
(3) السنن الكبرى ، البيهقي 6/265 ، المحلى 9/312 ، فتح الباري 5/265 ، عون المعبود 8/45 0(2/8)
قال(1) : وعرف من مجموع ما ذكرنا أن الوصية قد تكون واجبة ، وقد تكون مندوبة ، فيمن رجا منها كثرة الأجر ، ومكروهة في عكسه ، ومباحة فيمن استوى الأمران فيه ، ومحرمة كما ثبت عن ابن عباس ( رضي الله تعالى عنهما ) : " الإضرار في الوصية من الكبائر " رواه سعيد بن منصور موقوفا ، والنسائي مرفوعا (2) 0
__________
(1) أي ابن عابدين 0
(2) سنن النسائي الكبرى 6/ 320 ، مصنف عبد الرزاق 9/88 ، سنن الدارقطني 4/86 ، السنن الكبرى ، البيهقي 6/271 ، المحلى 9/ 319 0 قال الحافظ في الفتح 5/265 وتبعه الشوكاني في نيل الاوطار 6/144 : " رواه سعيد بن منصور موقوفا بإسناد صحيح ، ورواه النسائي ورجاله ثقات " ، وقال أبو عبيد الآجري في سؤالاته لأبي داود 2/62-63 : " سمعت أبا داود / يقول عمر بن المغيرة لا بأس به ، ولكن خالفه الناس في حديث " الإضرار في الوصية من الكبائر " عن داود بن أبي هند . قال أبو عبيد : رفعه عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأوقفه الناس على ابن عباس " 0و قال الإمام البيهقي في سننه الكبرى 6/ 271 : " هذا هو الصحيح موقوف ، وكذلك رواه ابن عيينة وغيره عن داود موقوفا ، وروي من وجه آخر مرفوعا ، ورفعه ضعيف " 0 وينظر لزاما : نصب الراية 6/494- 495 ففيه تخريج مطول لهذا الأثر ، تفسير ابن كثير 1/ 471 0(2/9)
وعن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) ، عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة {1/ب} الله تعالى ستين سنة ، ثم يحضرهما الموت فيضارون في الوصية ، فيجب لهما النار " 0 ثم قرأ أبو هريرة : ( من بعد وصية يوصي بها أو دين غير مضار وصية من الله 000 الآية ) ( النساء :12 ) 0 رواه أبو داود والترمذي (1) 0
وروى الإمام احمد وابن ماجه : " إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة ، فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله ، فيدخل النار ، وان الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته ، فيدخل الجنة " (2) 0
وقد استدل من قال بعدم وجوب الوصية بما ثبت في صحيح البخاري وغيره عن عائشة ( رضي الله تعالى عنها ) أنها انكرت أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوصى ، قالت :" متى أوصى وقد مات بين سحري ونحري" (3) 0
قالوا : ولو كانت الوصية واجبة لما تركها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - 0
واجيب :
__________
(1) المسند 2/278 ، سنن أبي داود 1/655 رقم ( 2867) ، سنن الترمذي 3/ 292 رقم ( 2200) وقال : حسن غريب من هذا الوجه ، المعجم الأوسط 3/229 ، السنن الكبرى ، البيهقي 6/271 ، مصنف عبد الرزاق 9/ 88 ، مسند إسحاق بن راهويه 1/194، المحلى 9/319 ، والحديث ضعيف فيه : شهر بن حوشب تكلم فيه غير واحد من الأئمة ووثقه البعض ، وينظر : نصب الراية 6/294 ، نيل الاوطار 6/ 147 0
(2) المسند 2/ 278 ، سنن ابن ماجه 2/902 رقم ( 2704) 0وفيه شهر بن حوشب 0
(3) صحيح البخاري – فتح الباري 8/106 ، صحيح مسلم ، بشرح النووي 15/208 0
فائدة : قال النووي في شرح صحيح مسلم 15/ 208 ونحوه في الفتح 8/106 : " السحر بفتح السين المهملة وضمها وإسكان الحاء وهي الرئة وما تعلق بها قال القاضي وقيل إنما هو شجري بالشين المعجمة والجيم وشبك هذا القائل أصابعه وأومأ إلى أنها ضمته إلى نحرها مشبكة يديها عليه والصواب المعروف هو الأول " 0(2/10)
بان المراد بنفي الوصية منه - صلى الله عليه وسلم - نفي الوصية بالخلافة لا مطلقا ، بدليل انه قد ثبت عنه- صلى الله عليه وسلم - الوصية بعدة أمور كأمره - صلى الله عليه وسلم - في مرضه لعائشة بإنفاق الذهيبة ، كما ثبت من حديثها (1) 0
وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة كما في المغازي لابن إسحاق قال : " لم يوص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند موته إلا بثلاثة لكل من الداريين والرهاويين والاشعريين بجاد(2) مائة وسق من خيبر ، وان لا يترك في جزيرة العرب دينان ، وان ينفذ بعث أسامة " (3) 0
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس( رضي الله تعالى عنهما ) : " وأوصى بثلاث : أن يجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم 000 " الحديث (4) 0
__________
(1) ينظر : فتح الباري 5/268 ، نيل الاوطار 6/ 145 ، تحفة الاحوذي 6/258 0
(2) الجاد بمعنى المجدود ، أي نخل يُجَد منه ، مقدار مائة وسق 0 ينظر : الفائق في غريب الحديث ، الزمخشري 1/169 ، النهاية في غريب الحديث 1/ 237 ، لسان العرب 3/112 0
(3) السنن الكبرى 6/266 وينظر :سيرة ابن هشام 3/813 ، تاريخ دمشق ، ابن عساكر 46/17 ،أسد الغابة ، ابن الأثير5/118 ، فتح الباري 5/169 ، سبل السلام 3/104 ، نيل الاوطار 6/145 0
(4) صحيح مسلم – بشرح النووي 11/94 0 فائدة : قال النووي – رحمه الله تعالى - : " قال العلماء هذا أمر منه - صلى الله عليه وسلم - بإجازة لوعود وضيافتهم وإكرامهم تطبيبا لنفوسهم وترغيبا لغيرهم من المؤلفة قلوبهم ونحوهم وإعانة على سفرهم قال القاضي عياض قال العلماء سواء كان الوفد مسلمين أو كفارا لأن الكافر إنما يفد غالبا فيما يتعلق بمصالحنا ومصالحهم " 0(2/11)
واخرج الإمام احمد والنسائي عن انس ( رضي الله تعالى عنه ) : " كانت غاية وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين حضره الموت الصلاة وما ملكت أيمانكم " (1) 0
واستدلوا أيضا على توجيه نفي من نفى الوصية مطلقا إلى الخلافة بما في صحيح البخاري عن عمر ( رضي الله تعالى عنه ) قال : " مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يستخلف " (2) 0
وبما أخرجه احمد {2/أ } والبيهقي(3) عن علي كرم الله تعالى وجهه لما ظهر يوم الجمل قال : " يا أيها الناس إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعهد لنا في هذه الإمارة شيئا 000 " الحديث (4) 0
واعلم : أن الوصية لا تجوز لوارث (5)، ولا تجوز إلا بالثلث ، أو اقل منه 0(6)
__________
(1) سنن النسائي الكبرى 4/258 الأرقام ( 7094-7096 ) ، كتاب الوفاة ، النسائي ص : 44-45 ، المسند 3/117 ، مسند أبي يعلى 5/310 ، تاريخ بغداد 4/463 0
(2) صحيح البخاري – الفتح 8/114 ، المسند 6/63 وينظر : الفتح 5/269 0
(3) في دلائل النبوة ، كما في فتح الباري 5/269 0
(4) المسند 1/114 ، الفتن ، نعيم بن حماد ص : 43و46 ، وهو ضعيف الإسناد ، لجهالة الراوي عن علي ( رضي الله تعالى عنه ) وينظر : كنز العمال 5/655 0
(5) ينظر : الموطأ2/765 ، المدونة الكبرى 6/57 ، كشاف القناع 4/ 411 ، المحلى 9/316 ، نيل الاوطار 6/151 0
(6) ينظر : المدونة الكبرى 6/4 ، مغني المحتاج 3/46 ، البحر الرائق 9/213 ، بداية المجتهد 2/ 273 0(2/12)
روى الجماعة عن سعد بن آبي وقاص ( رضي الله تعالى عنه ) انه قال : " جاءني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني من وجع اشتد بي فقلت : يا رسول الله إني قد بلغ بي من الوجع ما ترى ، وأنا ذو مال ، ولا يرثني إلا ابنة لي افأتصدق بثلثي مالي ؟ قال : لا 0 قلت : فالشطر يا رسول الله ؟ قال : لا0 قلت : فالثلث ؟ قال : الثلث والثلث كثير ، أو كبير ، انك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس " (1) 0
__________
(1) صحيح البخاري – فتح 5/273 ، صحيح مسلم – بشرح مسلم 11/76 ، سنن أبي داود 1/ 654 رقم ( 2864) ، سنن الترمذي 3/ 291 رقم ( 2199 ) ، سنن النسائي الكبرى 4/ 67 رقم ( 6318) ، سنن النسائي الصغرى 6/241 ، المسند 1/ 168 ، الموطأ2/763، صحيح ابن خزيمة 4/61 ، صحيح ابن حبان – الاحسان 10/61 و 13/385 و16/252 ، المنتقى ، ابن الجارود ص : 238 ، سنن الدارمي 2/407 ، مسند أبي يعلى 2/146 ، السنن الكبرى 3/378 و6/268 0(2/13)
وعن أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله تعالى تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في حسناتكم ، ليجعل لكم زيادة في أعمالكم " رواه الدارقطني (1) 0
__________
(1) المسند 6/441 ،مسند الشاميين ، الطبراني 2/353 قال الهيثمي في المجمع 4/ 212 : " رواه احمد والبزار والطبراني، وفيه أبو بكر بن {أبي} مريم وقد اختلط ، وعن معاذ بن جبل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله تصديق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في حياتكم ليجعلها لكم زيادة في أعمالكم . رواه الطبراني {في معجمه الكبير 20/54 }وفيه عقبة {كذا ، والصواب : عتبة ، كما في المعجم الكبير وفيض القدير }بن حميد الضبى وثقه ابن حبان وغيره ضعفه أحمد {ورواه الدارقطني في سننه 4/85 }. وعن خالد بن عبيد السلمى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله عز وجل أعطاكم عند وفاتكم ثلث أموالكم زيادة في أعمالكم رواه الطبراني وإسناده حسن " ، ورواه ابن ماجه في سننه 2/904 رقم ( 2709) عن أببي هريرة ( رضي الله عنه ) وفي إسناده طلحة بن عمرو الحضرمي ، ضعفه غير واحد وينظر : نصب الراية 6/491 ، فيض القدير 2/277 0ورواه ابن عدي والعقيلي في كتابيهما من حديث أبي بكر الصديق ( رضي الله عنه ) : عن حفص بن عمر بن ميمون أبي إسماعيل الايلي مولى علي بن أبي طالب عن ثور بن يزيد عن مكحول عن الصنابحي انه سمع أبا بكر الصديق يقول سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن الله عز وجل قد تصدق عليكم بثلث أموالكم عند موتكم زيادة في أعمالكم انتهى وأسند بن عدي تضعيفه عن النسائي وقال عامة ما يرويه غير محفوظ وقال العقيلي يحدث بالاباطيل " ينظر : نصب الراية 6/492 ، فيض القدير 2/277 ، كشف الخفاء 1/325 ، ارواء الغليل 6/76-77 ، وهو حديث حسن بشواهده 0، وما بين الحاصرتين {}زيادة مني أو استدراك على الأصل المنقول عنه 0(2/14)
وروى الإمام احمد وأبو داود عن أبي زيد الأنصاري أن رجلا اعتق ستة اعبد عند موته ليس له مال غيرهم فاقرع بينهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فاعتق اثنين ،وأرقَّ أربعة 0وفي رواية قال فيه : " لو شهدته قبل أن يدفن ، لم يدفن في مقابر المسلمين " (1) 0
وقد اخذ بالقرعة الإمام احمد وغيره (2)وعند الإمام أبي حنيفة : يعتق من كل واحد ثلثه ، ويستسعى في باقيه(3).
__________
(1) صحيح مسلم – بشرح النووي 11/77 ، سنن أبي داود 2/240 رقم ( 3958 ) ، سنن الترمذي 2/409 رقم (1375 ) ،سنن النسائي الصغرى 4/64 ، سنن ابن ماجه 2/ 786 رقم ( 2345 ) ، المسند 4/ 431 ومن حديث أبي زيد الأنصاري (رضي الله عنه ) 5/341 ، المنتقى ، ابن الجارود ص : 238 ، شرح معاني الآثار 4/381 ، وينظر : المجمع 4/211 0
(2) المغني 6/580 ، كشاف القناع 4/434 0 قال الإمام النووي في شرح مسلم 11/140 : " وفي هذا الحديث دلالة لمذهب مالك والشافعي وأحمد واسحق وداود وابن جرير والجمهور في إثبات القرعة في العتق ونحوه وأنه إذا أعتق عبيدا في مرض موته أو أوصى بعتقهم ولا يخرجون من الثلث أقرع بينهم فيعتق ثلثهم بالقرعة وقال أبو حنيفة القرعة باطلة لا مدخل لها في ذلك بل يعتق من كل واحد قسطه ويستسعى في الباقي لأنها خطر وهذا مردود بهذا الحديث الصحيح وأحاديث كثيرة " 0 وينظر أيضا 17/103 ، عون المعبود 10/355 0
(3) شرح معاني الآثار 4/381-382 ، تحفة الفقهاء 2/262 ، رد المحتار 6/439 ، سنن الترمذي 2/409 0(2/15)
وروى الجماعة عن أبي أمامة قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث " (1) 0
وعن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تجوز وصية لوارث إلا أن يشاء الورثة - وفي رواية – إلا أن يجيز الورثة " (2) 0
وكذا قال العلماء في الزائد على الثلث : إذا أجازته الورثة فانه يصح ، ومن الناس من جوز {2/ب }الوصية للوارث مستدلا بقوله تعالى : ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والاقربين ) ( البقرة :180 ) 0
__________
(1) سنن أبي داود 1/656 رقم (2870) ، سنن الترمذي 3/293 رقم ( 2203) ، سنن ابن ماجه 2/905 رقم ( 2713) ، مسند أبي داود الطيالسي ص : 154 ، المنتقى ، ابن الجارود ص : 238 ،المعجم الكبير 8/114و135 ، مسند الشاميين 1/319 ، سنن الدارقطني 3/36 ، السنن الكبرى 6/212 0 وللحديث طرق متعددة عن جماعة من الصحابة ، ينظر تخريجها في : نصب الراية 3/483 و5/14و6/497، فيض القدير 2/310 و6/569 ، كشف الخفاء 2/369 ، تحفة الاحوذي 6/258 ، نظم المتناثر من الحديث المتواتر ، الكتاني ص : 167-168 0
(2) سنن الدارقطني 4/55 و87 ، السنن الكبرى ، البيهقي 6/263 و272 وقال : " " عطاء هذا هو الخراساني ، لم يدرك ابن عباس ، ولم يره ، قاله أبو داود السجستاني وغيره ، وقد روي من وجه آخر عنه عن عكرمة عن ابن عباس " 0 وذكر الحافظ ابن حجر في " التلخيص الحبير " ( 3 / 92 ) : أن أبا داود رواه في " المراسيل " عنه مرسلا به ، وقال : " وهو المعروف " 0قال العلامة الألباني في الارواء6/96 : " منكر " يعني بزيادة " إلا أن يشاء الورثة " 0وينظر : نيل الاوطار 6/151 ، تحفة الاحوذي 6/259 0(2/16)
قال :ونسخ الوجوب لا يستلزم نسخ الجواز ، وعند جمهور العلماء إنها منسوخة بحديث ابن عباس المتقدم ، وأما للقرابة الذي هو غير وارث فجائزة بالاتفاق (1) 0
واعلم أيضا : أن الصدقة في الحياة والصحة أفضل ، فقد روى الجماعة عن أبي هريرة ( رضي الله تعالى عنه ) انه قال : " جاء رجل فقال : يا رسول الله أي الصدقة أفضل وأعظم أجرا ؟ قال : أما وأبيك لتفتأن ، أن تصدق وأنت شحيح صحيح تخشى الفقر ، وتأمل البقاء ، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت : لفلان كذا ، وقد كان لفلان " (2) 0
وقوله : لتفتأن بفتح اللام وضم الفوقية وسكون الفاء وبعدها فوقية أيضا ، ثم همزة مفتوحة ، ثم نون مشددة ، وهو من الفتيا (3)، وفي نسخة : لتنبأن من النبأ ،وتصدق بتخفيف الصاد على حذف إحدى التائين ، واصله أن تتصدق ، والتشديد على الإدغام 0
__________
(1) المبسوط 14/73 ، تحفة الفقهاء 3/207 ، الثمر الداني ، الآبي ص :552 ، الأم4/104 ، تكملة المجموع 15/419-420 ، روضة الطالبين 5/ 103 ، المغني 5/473 ، المحلى 9/330 ، سبل السلام 3/106 ، نيل الاوطار 6/182 0
(2) صحيح الباري – فتح 5/280 ، صحيح مسلم – بشرح النووي 7/123 ، المسند 2/231 ، سنن أبي داود 1/655 رقم ( 2865) ، سنن النسائي الصغرى 6/237 ، سنن النسائي الكبرى 4/99 رقم (6438) ، صحيح ابن خزيمة 4/103 ، صحيح ابن حبان 8/106 ، مسند أبي يعلى 10/465 0
(3) قوله : " لتفتأن " ، لم أقف على هذه الرواية في المصادر التي بين يدي 0(2/17)
وفي معنى الحديث : قوله تعالى :( وانفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت 00 الآية ) ( البقرة :254 ) وفي معناه أيضا ما أخرجه الترمذي : " مثل الذي يعتق ويتصدق عند موته مثل الذي يعتق ويتصدق عند موته ، مثل الذي يهدي إذا شبع " (1) 0
واخرج أبو داود من حديث أبي سعيد مرفوعا : " لأن يتصدق الرجل في حياته وصحته بدرهم خير من أن يتصدق عند موته بمائة " (2) 0
الفصل الأول : في الايصاء بالفدية والصوم والصلاة والحج عن الميت ونحو ذلك
اعلم : إن العلماء رحمهم الله تعالى اختلفوا في بعض ذلك ، فلنذكر ما ورد من الأحاديث ، وأقوال الأئمة مما يتعلق بما هنالك :
__________
(1) سنن الترمذي 3/295 رقم (2206) ، قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ، سنن أبي داود2/242 رقم (3968) ، سنن النسائي الكبرى 3/172 رقم (4893) و 4/100 رقم (6441) ، سنن النسائي الصغرى 6/ 238 ، المسند 5/197 ، سنن الدارمي 2/413 ، المعجم الأوسط 5/342 ، وحسن إسناده الحافظ في الفتح 5/280 وصححه الحاكم 2/213 ، وأقره الذهبي ، وصححه ابن حبان في صحيحه – الإحسان 8/126 0 ينظر :فيض القدير 5/649 ، كنز العمال 10/319 ، عون المعبود10/365 ، تحفة الاحوذي 6/264 0
(2) سنن أبي داود 1/655 رقم (2866) ، صحيح ابن حبان 8/125 ، موارد الظمآن ص : 210 وفي سنده شرحبيل بن سعد الأنصاري قال المنذري لا يحتج بحديثه ينظر : فيض القدير 5/328 ، تحفة الاحوذي 6/264 ، عون المعبود 8/48 0(2/18)
عن ابن عباس ( رضي الله تعالى عنهما ) قال :" إن امرأة قالت : يا رسول الله إن أمي ماتت ، وعليها صوم نذر ، فأصوم عنها ؟ فقال : أرأيت لو كان {3/أ } على أمك دين فقضيت ، أكان يؤدى ذلك عنها ؟ 0 قالت : نعم 0 قال : فصومي عن أمك " أخرجاه في الصحيحين (1) 0وفي رواية : " أن امرأة ركبت البحر فنذرت إن الله تعالى نجاها ،أن تصوم شهرا ، فأنجاها الله تعالى ، فلم تصم حتى ماتت ، فجاءت قرابة لها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك فقال : صومي عنها " أخرجه احمد والنسائي وأبو داود (2) 0
وعن عائشة ( رضي الله تعالى عنها )أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " مَن مات وعليه صيام ، صام عنه وليه " متفق عليه (3) 0
__________
(1) صحيح البخاري – فتح 5/291 ، صحيح مسلم – بشرح النووي 8/24 ، الترمذي – تحفة 3/331 ، سنن أبي داود – عون 7/28 ، سنن النسائي الكبرى 2/174 رقم (2917) ، صحيح ابن خزيمة 3/271 ، صحيح ابن حبان 10/240 ، وينظر : الارواء ، الألباني 3/261 ففيه مبحث مهم حول الحديث 0
(2) سنن أبي داود 2/103 رقم (3308) ، المسند1/216 ، مسند أبي داود الطيالسي ص : 342 ، صحيح ابن خزيمة 3/272 ، السنن الكبرى 4/ 255 و10/85، وينظر : نصب الراية3/ 31 ، نيل الاوطار 4/319 0
(3) صحيح البخاري – فتح 4/168 صحيح مسلم 8/23 ، سنن أبي داود 1/537 رقم (2400) و2/103 رقم (3311 ) ، سنن النسائي الكبرى 2/175 رقم (2919) ، المنتقى ص : 237 ، صحيح ابن خزيمة 3/271 ، صحيح ابن حبان 8/334 ، السنن الكبرى 4/ 255 و6/279 ، وينظر : فتح الباري 4/168 لدفع الاضطراب عن هذا الحديث 0(2/19)
وعن بريدة ( رضي الله تعالى عنه ) قال : " بينا أنا جالس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ أتته امرأة فقالت : إني تصدقت على أمي بجارية ، وأمنا ماتت 0 فقال : وجب أجرك ، وردها عليك الميراث 0 قالت : يا رسول الله انه كان عليها صوم شهر افأصوم عنها ؟ قال : صومي عنها 0 قالت : إنها لم تحج قط أفأحج عنها ؟0 قال : حجي عنها " رواه احمد ومسلم وأبو داود (1) 0
__________
(1) صحيح مسلم 8/25 ، المسند 5/351 ، سنن الترمذي 2/89 رقم ( 662) ، سنن النسائي الكبرى 4/67 رقم (6315-6316) ، سنن ابن ماجه 2/800 رقم (2394) ، المستدرك 4/347 وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، ولم يصب في هذا الاستدراك فهو عند مسلم ، السنن الكبرى 4/256 ، وينظر : الارواء3/262 0(2/20)
واستدل أصحاب الحديث وجماعة من محدثي الشافعية واحمد بن حنبل ، والشافعي في احد قوليه (1)بهذه الأحاديث على أن الولي يصوم عن الميت إذا مات وعليه صوم ، أي صوم كان ، والجمهور على أن صوم الولي عن الميت ليس بواجب 0 وذهب بعض أهل الظاهر إلى وجوبه ، وذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي في الجديد
__________
(1) قال الإمام النووي في المجموع 6/368 : " ذكرنا فيمن مات وعليه صوم وتمكن منه فلم يصمه حتى مات انه علي قولين ( الجديد ) المشهور في المذهب وصححه أكثر الأصحاب انه يجب الإطعام عنه لكل يوم مد من طعام ولا يجزئ الصيام عنه وبالغ الأصحاب في تقوية هذا القول وانه مذهب للشافعي حتى قال القاضي أبو الطيب في المجرد هو نص الشافعي في كتبه القديمة والجديدة قال وحكي عنه انه قال في بعض كتبه القديمة يصوم عنه وليه وقال صاحب الحاوي مذهب الشافعي في القديم والجديد انه يطعم عنه ولا يصام عنه قال وحكى بعض أصحابنا عن القديم انه يصوم عنه وليه لأنه قال فيه قد روى ولك في ذلك خبر فان صح قلت به فجعله قولا ثانيا قال وأنكر سائر أصحابنا أن يكون صوم الولي عنه مذهبا للشافعي رضي الله عنه وتأولوا الأحاديث الواردة " من مات وعليه صوم صام عنه وليه " إن صح على أن المراد الإطعام أي يفعل عنه ما يقوم مقام الصيام وهو الإطعام وفرقوا بينه وبين الحج بأن الحج تدخله النيابة في الحياة ولا تدخل الصوم النيابة في الحياة بلا خلاف هذا هو المشهور عند الأصحاب ( والقول الثاني ) وهو القديم انه يجوز لوليه أن يصوم عنه ولا يلزمه ذلك وعلي هذا القول لو أطعم عنه جاز فهو علي القديم مخير بين الصيام والإطعام هكذا نقله البيهقى وغيره وهو متفق عليه على القديم وهذا القديم هو الصحيح عند جماعة من محققي أصحابنا الجامعين بين الفقه والحديث " وينظر :شرح مسلم 8/26 ، روضة الطالبين 2/247 ، فتح الباري 4/168 ، كشاف القناع 2/389 ، سبل السلام 2/165 ، نيل الاوطار 4/320 ، عون المعبود 9/68 0(2/21)
إلى انه لا يصام عن الميت مطلقا (1) 0
وتمسك المانعون مطلقا بما روي عن ابن عباس انه قال : " لا يصل احد عن احد ، ولا يصم احد عن احد " أخرجه النسائي (2) 0
واخرج عبد الرزاق عن عائشة قالت : "لا تصوموا عن موتاكم ، وأطعموا عنهم " (3) 0
قالوا : فلما أفتى ابن عباس وعائشة بخلاف ما روياه دل ذلك على أن العمل على خلاف ما روياه (4)0
قال في الفتح (5): " اختلف المجيزون في {3/ب} المراد بقوله : "وليه " ، فقيل : كل قريب 0 وقيل : الوارث خاصة 0 وقيل : عصبته 0
__________
(1) ينظر : المبسوط 3/89 ،البحر الرائق 2/499، بداية المجتهد 1/240 ، مواهب الجليل 3/519 ، عون المعبود 9/68، أحكام الجنائز ، الألباني ص : 170 0
(2) سنن النسائي الكبرى 2/174 رقم (2917) و2/175 رقم (2918) ، السنن الكبرى 4/257 ، وصحح إسناده النووي في المجموع 6/370 ، وابن التركماني في الجوهر النقي 4/257 ، والشوكاني في نيل الاوطار 4/320 ، وروي نحو هذا الأثر عن ابن عمر أخرجه الإمام مالك في الموطأ بلاغا 1/303 ، ووصله ابن أبي شيبة في مصنفه 4/472 ، والبيهقي في سننه 4/254 وينظر : المحلى 7/ 60 ، الجوهر النقي 4/257 0، قال الحافظ في الفتح 4/56 والشوكاني في نيل الاوطار 5/11 : " إسناد صحيح " 0
(3) السنن الكبرى 4/257 ، وينظر : الجوهر النقي 4/257وقال : سنده صحيح ، فتح الباري 4/169 ،
(4) قال الإمام الشوكاني في نيل الاوطار 4/320 : " قال في الفتح (4/169) : وهذه قاعدة لهم معروفة ، إلا أن الآثار عن عائشة وابن عباس فيها مقال ، وليس فيها ما يمنع من الصيام إلا الأثر الذي عن عائشة وهو ضعيف جدا انتهى ، وهذا بناء من صاحب الفتح على أن لفظ حديث ابن عباس باللفظ الذي ذكره هنالك وهو أنه قال : كان لا يصوم أحد عن أحد ، ولكنه ذكره في التلخيص باللفظ الذي ذكرناه سابقا ، والحق أن الاعتبار بما رواه الصحابي لا بما رآه " 0وينظر : تحفة الاحوذي 3/335 0
(5) فتح الباري 4/169 0(2/22)
واختلفوا هل يختص ذلك بالولي أم لا يختص به ، فلو أمر أجنبيا بأن يصوم عنه أجزأ ، وقيل : يصح استقلال الأجنبي بذلك ، وظاهر صنيع البخاري اختيار هذا الأخير ، وبه جزم أبو الطيب الطبري (1) وقواه بتشبيهه - صلى الله عليه وسلم - ذلك بالدَّين ، والدين لا يختص بالقريب " انتهى 0
قال في نيل الاوطار (2): " وظاهر الأحاديث انه يصوم عنه وليه ، وان لم يوص بذلك " انتهى 0
وأما الحج فقد ورد فيه أيضا أحاديث في الصحاح منها : عن ابن عباس ( رضي الله تعالى عنهما ) أن امرأة من جهينة جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت ، أفأحج عنها ؟قال : نعم ، حجي عنها ، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته ، اقضوا الله ، فالله أحق بالوفاء " رواه البخاري (3) 0
__________
(1) قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية 12/ 98-99 : " أبو الطيب الطبري الفقيه ، شيخ الشافعية ، طاهر بن عبد الله بن طاهر بن عمر ، ولد بآمل طبرستان سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة ، سمع الحديث بجرجان من أبي أحمد الغطريفي ، وبنيسابور من أبي الحسن الماسرجسي ، وعليه درس الفقه أيضا وعلى أبي علي الزجاجي ، وأبي القاسم بن كج ، ثم اشتغل ببغداد على أبي حامد الاسفراييني ، وشرح المختصر وفروع ابن الحداد ، وصنف في الأصول والجدل ، وغير ذلك من العلوم الكثيرة النافعة ، وسمع ببغداد من الدارقطني وغيره ، وولي القضاء بربع الكرخ بعد موت أبي عبد الله الصيمري ، وكان ثقة دينا ورعا ، عالما بأصول الفقه وفروعه ، حسن الخلق سليم الصدر مواظبا على تعليم العلم ليلا ونهارا 000 توفي سنة 450هـ " 0
(2) نيل الاوطار 4/321 0
(3) صحيح البخاري – فتح 4/56 ، وينظر : صحيح مسلم 8/25 ، نصب الراية 3/299 ، فيض القدير 2/90 ، الارواء 3/261 0(2/23)
وعن ابن عباس قال : " أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل فقال : إن أبي مات ، وعليه حجة الإسلام أفأحج عنه ؟ قال : أرأيت لو أن أباك ترك دينا عليه ، أفقضيته عنه ؟ قال : نعم 0 قال : فاحجج عن أبيك " 0 رواه الدارقطني (1) 0
وروى أبو داود عن ابن عباس أيضا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -جاءته امرأة من خثعم تستفتيه فقالت : " يا رسول الله إن فريضة الله تعالى على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه ؟ قال : نعم ، وذلك في حجة الوداع " (2) 0
قال الخطابي : في هذا الحديث بيان جواز حج الإنسان عن غيره حيا وميتا ، وانه ليس كالصلاة والصيام وسائر الأعمال البدنية التي لا تجزي فيها النيابة والى هذا ذهب الشافعي ، وكان مالك لا يرى ذلك ، وقال : لا يجزئه إن فعل وهو الذي روى حديث ابن عباس ، وكان يقول في الحج عن الميت إن لم يوص(3){4/أ} به الميت : إن تصدّق عنه واعتق أحب إليّ من أن يحج عنه 0
__________
(1) ونحوه في صحيح ابن حبان 9/303 ، ولم أقف على موضع هذه الرواية من سنن الدارقطني ، ولا في كتابه في العلل ، وينظر : نيل الاوطار 5/11 0
(2) سنن أبي داود 1/407 رقم (1809) ، سنن النسائي الصغرى 5/117 ، سنن ابن ماجه 2/971 رقم ( 2909) ، المسند 1/219 و251 و329 ، سنن الدارمي 2/39-40 ، صحيح ابن خزيمة 4/343 ، صحيح ابن حبان 9/301 0
(3) وهو قول الظاهرية في اشتراط الوصية بالحج ينظر : المحلى 7/60 0(2/24)
وكان إبراهيم النخعي وابن أبي ذئب يقولان : لا يحج احد عن احد (1)، والحديث حجة على جماعتهم ، وحكي عن مالك وأبي حنيفة أنهما قالا : الزمِن لا يلزمه فرض الحج ، إلا أن أبا حنيفة قال : إن لزمه الفرض في حال الصحة ثم زمِنَ لم يسقط عنه بالزمانة ، وقال مالك : يسقط(2) 0
واستدل الشافعي بخبر الخثعمية على وجوب الحج على المعضوب(3) الزمِن ، إذا وجد من يبذل له طاعة من ولد أو ولد ولد " (4) انتهى باقتصار 0
__________
(1) قول النخعي وابن أبي ذئب نقله عنهما ابن أبي شيبة في المصنف 4/472 ، والعلامة ابن حزم في المحلى 7/64 ، والإمام النووي في المجموع 7/116 ،وبه قال القاسم بن محمد ، كما في المصنف 4/472 ، والمحلى 7/60 ، وينظر : إعانة الطالبين 2/323 ، تحفة الاحوذي 3/580 0 تنبيه : قال أبو بكر السرخسي في أصوله 2/8 : " وكذلك قول ابن عمر : لا يحج أحد عن أحد ، لا يمنع العمل بالحديث الوارد في الاحجاج عن الشيخ الكبير لجواز أن يكون ذلك خفي عليه ، وهذا لان الحديث معمول به إذا صح عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فلا يترك العمل به باعتبار عمل ممن هو دونه بخلافه ، وإنما تحمل فتواه بخلاف الحديث على أحسن الوجهين وهو أنه إنما أفتى به برأيه ، لأنه خفي عليه النص ولو بلغه لرجع إليه فعلى من يبلغه الحديث بطريق صحيح أن يأخذ به " 0
(2) مواهب الجليل 4/11 ، المبسوط 4/153 0
(3) قال النووي في المجموع 7/93- 94 : " المعضوب فهو بالعين المهملة والضاد المعجمة وأصل العضب القطع كأنه قطع عن كمال الحركة والتصرف ويقال له أيضا المعصوب - بالصاد المهملة - قال الرافعي كأنه قطع عصبه أو ضرب عصبه " 0 وينظر : كشاف القناع 2/453 0
(4) المجموع 1/447 و7/93 ، روضة الطالبين 2/288 0(2/25)
وقال في نيل الاوطار (1): " إن الحديث المتقدم فيه دليل على إجزاء الحج عن الميت من الولد وكذلك من غيره ، ويدل على ذلك " اقضوا الله فالله أحق بالوفاء " وروى سعيد بن منصور وغيره عن ابن عمر بإسناد صحيح انه لا يحج احد عن احد ، ونحوه عن مالك والليث ، وعن مالك : إن أوصى بذلك فليحج عنه والا فلا ، وفي الحديث دليل على أن من مات وعليه حج وجب على وليه أن يجهز من يحج عنه من رأس ماله ، كما أن عليه قضاء ديونه ، وقد اجمعوا على أن دين الآدمي من رأس المال ، فكذلك ما شبه به في القضاء ، والحق بالحج كل حق ثبت في ذمته من نذر أو كفارة أو زكاة ، أو غير ذلك " انتهى 0
واعلم : أن الاستيجار على الطاعات لا يصح كالحج ونحوه ، وما يأخذه المأمور بالحج إنما يأخذه بطريق الكفاية لا العوض عن تعبه وبنى عليه انه يجب رد الزائد من النفقة ، وان يشترط إنفاقه بقدر كمال الأمر ، وان يتصرف فيه على ملك الآمر ، حيا كان أو ميتا، معينا كان القدر أو لا (2) 0
وعن عبد الله بن عمرو أن العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن ينحر مائة بدنة ، وان هشام بن العاص نحر حصته خمسين ، وان عمرا سئل النبي- صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال : " أما أبوك فلو اقر بالتوحيد ، فصمتَ ، وتصدقت عنه {4/ب}نفعه ذلك " رواه الإمام احمد (3) 0
وعن ابن عباس أن رجلا قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن أمي توفيت أينفعها إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم 0
__________
(1) نيل الاوطار 5/9 0
(2) ينظر : المبسوط 4 / 158و162 ، بدائع الصنائع 4/192 ، رد المحتار 2/ 661 و3/160 0
(3) المسند 2/182 ، قال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/192 : " رواه احمد ، وفيه الحجاج بن أرطاة ، وهو مدلس " 0(2/26)
قال : فان لي مخرفا – أي حديقة من النخل- فاني أشهدك أني تصدقت به عنها " رواه البخاري والترمذي وأبو داود والنسائي (1) 0
وعن الحسن عن سعد بن عبادة أن أمه ماتت فقال : يا رسول الله إن أمي ماتت فأتصدق عنها ؟ قال : نعم 0 قلت : فأي الصدقة أفضل ؟ قال : سقي الماء 0 قال الحسن : فتلك سقاية آل سعد بالمدينة 0 رواه احمد والنسائي (2) 0
فان قلت (3): إن الأحاديث تدل على إن الصدقة من الولد تلحق الوالدين بعد موتها من دون وصية منهما ، وقوله تعالى : ( أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفّى أن لا تزر وازرة وزر أخرى ، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) (سورة النجم :36 - 39)يفيد بظاهره عدم الوصول 0 فما الجواب عن ذلك ؟
قلت : ذكر العلماء انه سيجاب عنها بوجوه ، ففي روح المعاني – تفسير والدنا – تغمده الله تعالى برحمته ما ملخصه : إن قوله تعالى : ( وان ليس 000) الخ بيان لعدم إثابة الإنسان بعمل غيره اثر بيان عدم مؤاخذته بذنب غيره ، واستشكل بأنه وردت أخبار صحيحة بنفع الصدقة وغيرها عن الميت كالأحاديث المتقدمة 0
وأجيب : بان الغير لما نوى ذلك الفعل له صار بمنزلة الوكيل عن القائم مقامه شرعا ، فكأنه بسعيه ، وهذا لا يتأتى إلا بطريق عموم المجاز ، والجمع بين الحقيقة والمجاز عند من يجوزه 0
__________
(1) صحيح البخاري – فتح 5/292 ، سنن أبي داود – عون 8/63 ، جامع الترمذي – تحفة 3/274 ، سنن النسائي الكبرى 4/110 رقم ( 6482) ، صحيح ابن خزيمة 4/125 0
(2) المسند 5/285 ، سنن أبي داود – عون 5/65 ، سنن النسائي الكبرى 4/112 رقم ( 6491) ،صحيح ابن خزيمة 4/123 وقال : إن صحَّ الخبر ، السنن الكبرى ، البيهقي 4/185 ، وينظر : فتح الباري 5/291 0
(3) ينظر : تحفة الاحوذي 3/274- 275 ، 4333 0(2/27)
وأجيب أيضا : بان سعي غيره لما لم ينفعه إلا مبنيا على سعي نفسه من الأيمان ، فكأنه سعيه ، ودل على بنائه على ذلك الحديث المتقدم في نذر العاص في الجاهلية أن ينحر مائة بدنة 0 وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " أما أبوك فلو اقر بالتوحيد فصمت وتصدقت عنه نفعه ذلك " 0
وقال بعض الأجلّة : انه {5/أ} ورد في الكتاب والسنة ما هو قطعي في حصول الانتفاع بعمل الغير ، وهو ينافي ظاهر الآية ، فتقيد بما لا يهبه العامل (1) 0
وسئل والي خراسان عبد الله بن طاهر ، الحسين بن الفضل عن هذه الآية مع قوله تعالى : ( والله يضاعف لمن يشاء ) (سورة البقرة : 261) فقال : ليس له بالعدل إلا ما سعى ، وله بالفضل ما شاء الله تعالى ، فقبل عبد الله رأس الحسين 0
وقال عكرمة : كان هذا الحكم في قوم إبراهيم وموسى عليهما السلام ، وأما هذه الأمة فللإنسان منها سعي غيره ، يدل عليه حديث سعد بن عبادة : هل لامي إذا تطوعت عنها قال - صلى الله عليه وسلم - : نعم 0
وقال الربيع : الإنسان هنا الكافر ، وأما المؤمن فله ما سعى وسعى غيره (2)0
وعن ابن عباس : الآية منسوخة بقوله تعالى : ( والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم ) (سورة الطور :21 ) 0 وتعقب أبو حيان رواية النسخ بأنها لا تصح ، لأن الآية خبر لم تتضمن تكليفا ، ولا نسخ في الأخبار 0(3)
وقيل : اللام بمعنى على أي ليس على الإنسان غير سعيه ، وهو بعيد (4) 0
__________
(1) شرح مسلم 11/84 0
(2) زاد المسير ، ابن الجوزي 7/237 ، رد المحتار 2/656 ، تحفة الاحوذي 3/274 0
(3) ينظر : نواسخ القرآن ، ابن الجوزي ص : 233 0
(4) وقد رده الكمال بن الهمام بأنه بعيد من ظاهر الآية ، من سياقها فإنها وعظ للذي تولى وأعطى قليلا وأكدى ، كما نقله عنه ابن عابدين في رد المحتار 5/211 0(2/28)
وقال ابن عطية : " التحرير عندي في هذه الآية أن ملاك المعنى هو اللام من قوله تعالى للإنسان فإذا حققت الشيء الذي حق الإنسان أن يعول فيه لي كذا لم تجده إلا سعيه وما يكون من رحمة بشفاعة أو دعاية أب صالح أو ابن صالح أو تضعيف حسنات أو نحو ذلك فليس هو للإنسان ولا ليسعه أن يقول لي كذا أو كذا إلا على تجوز وإلحاق بما هو حقيقة "(1) انتهى 0
ويعلم من مجموع ما تقدم أن استدلال المعتزلة بالآية على أن العبد إذا جعل ثواب عمله أي عمل كان لغيره ، لا ينجعل ويلغو جعله غير تام ، وكذا استدلال الإمام الشافعي بها على أن ثواب القراءة لا تلحق الأموات ، وهو مذهب الإمام مالك 0 بل قال ابن الهمام : إن مالكا والشافعي لا يقولان بوصول العبادات البدنية المحضة كالصلاة ،والتلاوة ، بل غيرهما كالصدقة والحج(2) 0
وفي الأذكار (3){5/ب} للإمام النووي عليه الرحمة : المشهور من مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه وجماعة أنها لا تصل ، وذهب الإمام احمد وجماعة من العلماء ومن أصحاب الشافعي والحنفية إلى أنها تصل فالاختيار أن يقول القاري بعد فراغه : اللهم أوصل ثواب ما قرأته إلى فلان 0
والظاهر انه إذا قال ذلك ، ونحوه كوهبت ثواب ما قرأته لفلان بقلبه كفى ، وعن بعضهم اشتراط نية النيابة أول القراءة ، وهذا إذا لم تكن القراءة بالأجرة ، والا فالمعطي والقاري آثمان ، ولا يصل إلى الميت شيء كما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى 0
__________
(1) المحرر الوجيز ، ابن عطية ص: 0
(2) نصّ الإمام الشافعي " رحمه الله تعالى " في الأم على جواز الحج عن الميت ، وانه ينفعه ذلك ، ينظر : الأم 2/121 و 125، 7/223 – 224 0
(3) الأذكار ، النووي ص : ، ونحوه في : شرح مسلم 1/90 ، وينظر : فتح الوهاب 2/31 ، فتح المعين 3/258-260 ، حواشي الشرواني 6/158 ، مواهب الجليل 3/521 0(2/29)
ولتعارض الأحاديث والأدلة اختلف الأئمة فيما إذا ترك المسلم والمسلمة الصوم والصلاة وغير ذلك من الفروض والواجبات في حياتهما وشارفا على الموت وأوصيا بالفدية عن ذلك بعد موتهما أو تبرع عنهما الوارث أو غيره هل يصح أم لا ؟
فأما فدية الصوم ونفقة الإحجاج عنه فقد ثبتا بالنصّ ، واتفق الأئمة عليها 0
وإما الفدية عن الصلوات وغيرها فقد جوزها أصحاب الإمام أبي حنيفة – رحمهم الله تعالى – وألحقوا الغير بالصوم ، وقالوا : يرجى من الله تعالى القبول إن شاء الله تعالى 0
والزكاة ولو بلا وصية على المعتمد ، ومثلها الحج ، فانهما يصحان ،فمن أراد أن يقلد الأئمة الحنفية في هذه المسألة ، وكان من أتباع مذهب آخر فلا بأس بذلك ، لأن التقليد لغير مذهبه بلا تلفيق جائز على ما عليه جمهور الأصوليين 0
وإذا علمت ذلك : فاعلم أنهم قالوا في كتبهم إن الإسقاط والكفارة والفدية بوصية من الشخص أولى من أن يفعله عنه وارثه تبرعا وهو يجري في الصلاة ، والواجب فيها أن يعطي للفقير عن كل فرض نصف صاع من برّ ، أو دقيقه ، وصاع من شعير ، أو تمر ، أو زبيب كالفطرة 0
والصاع ألف وأربعون درهما شرعيا ، ويكون بالدراهم المتعارفة تسعماية وعشرة ، واتفقت كلمة المشايخ الحنفية على أن الصلاة كالصوم استحسانا لكونها (ـ )(1)أنفسهم{6/أ } والخلاف بينهم في أن صلاة يوم كصومه أو كل فريضة كصوم يوم وهو المعتمد 0
والمراد بالصوم صوم رمضان ، وصوم كفارات اليمين ، والقتل والظهار والجناية على إحرام وقتل المحرم صيدا ، وصوم منذور فان أوصى بذلك ولم يف الثلث بما عليه من الفدية ، فيحسب ما عليه من الصلوات الفائتات في مدة عمره من بلوغه إلى وفاته 0
ويحسب عن كل صلاة نصف صاع من بر ، أو صاع من شعير ، أو نحوه ، أو قيمة ذلك من النقود ، وهو أفضل إن كان انفع للفقراء ويدار على الفقراء كما ستعرفه قريبا إن شاء الله تعالى مفصلا 0
__________
(1) ما بين القوسين قدر كلمة غير واضحة في المخطوط 0(2/30)
الفصل الثاني(1) : في كيفية الوصية
اعلم أن الإنسان سواء كان في صحته أو في مرضه : إما أن يخصص أحدا لتنفيذ وصاياه وإيفاء ديونه وبض حقوقه ، والنفقة على أولاده ، ويجعله وصيا على ذلك ويقبل الوصي الوصاية ، أو يقول لأحد اقض عني ديني بعد وفاتي أو نحو ذلك فيكون وصيا أو يقول للورثة : اعملوا كذا بعد موتي أو يقول للحاضرين ليعمل كذا وكذا بعد وفاته أو يكتب كتابا ويشهد على ما فيه ويقول : اشهدوا علي بما في هذا الكتاب ، والشهود يعرفون الكتاب 0
أو يكتب بخطه ويختمه بختمه وخطه معروف فان ذلك حجة عند البعض ، فيجب على الورثة تنفيذ الوصية بالوجه المشروع 0
وأما التبرع فهو أن لا يوصي بشيء ، والورثة أو بعضهم يتبرع من نفسه بإخراج ذلك فبالوصية يسقط عن الميت ما عليه وبالتبرع يكون ذلك له صدقة كسائر الصدقات ، إلا ديون العباد فإنها لا تسقط ، وقيل بالتبرع من الوارث تسقط أيضا إن شاء الله تعالى 0
__________
(1) في الأصل : الفصل الثالث ، وهو سبق قلم ، إنما هو الفصل الثاني 0(2/31)
وفي حاوي الزاهدي(1) معزيا لنجم الأئمة الحكيمي (2): لو أوصى بصلوات عمره ، وعمره معلوم صحّ ، فان فاتته صلوات بعد ذلك في مرضه هذا ومات قبل ان يتطاول مرضه لا يلزمه استيناف الوصية ، وان أيس ثم فاتته صلوات فلا بد من الإيصاء بها 0
قال رضي الله عنه : الوصية {6/ب}بجميع حقوق الله تعالى كالصلاة والزكاة والصوم والحج والنذر والكفارات وصدقة الفطر والعشر وسجدة التلاوة ونحوها تنفذ من ثلث المال عند أصحابنا ، وعند أهل الحديث من كل المال انتهى0
وفي رسالة العلامة ابن عابدين : إن الأجنبي إذا تبرع عن الميت لا يكفي لإطلاق عباراتهم على الولي ، وهو الوارث ، أو الوصي ، ووقع في بعض عبارات المتأخرين في مسألتنا أي الدور الآتي الوارث أو وكيله ومقتضى ظاهر كلام الفقهاء انه لا يصح لان الوكيل لما استوهب المال من الفقير صار ملكا له لا للوارث ، وصار بالدفع للفقير ثانيا أجنبيا دافعا من مال نفسه ، والأحوط أن يباشر الوارث الدور بنفسه ، ولا يوكل أحدا ، والناس عنه غافلون 0
__________
(1) نجم الدين أبو الرجا مختار بن محمود بن محمد الغزمينى الخوارزمي الفقيه الحنفي المعروف بالزاهدي المتوفى سنة 658 ثمان وخمسين وستمائة له من الكتب جامع في الحيض . حاوى مسائل الواقعات والمنية وما تركه في تدوينه من مسائل القنية وزاد فيه من الفتاوى لتتميم الغنية ينظر : هدية العارفين 2/423 ، معجم المطبوعات العربية 1/ 961 ، الأعلام7/193 ، معجم المؤلفين 12/211 0
(2) محمد بن اسعد بن محمد بن نصر الحكيمي العراقى ، الحنفي ( أبو المظفر ) فقيه ، واعظ ، مفسر ، لغوي ، شاعر . ولد في ربيع الأول ، وتفقه ببغداد ، وسكن دمشق ، وتوفي بها في المحرم سنة 567هـ . من تصانيفه : تفسير القرآن ، شرح المقامات للحريري ، نظم مختصر القدوري في فروع الفقه الحنفي ، ينظر : معجم المؤلفين 9/50 0(2/32)
الفصل الثالث : في كيفية دور الفدية على الفقراء واعطائها لهم (1)
قال الفقهاء الحنفية رحمهم رب البرية : إذا لم يف ثلث الميت لما عليه من الكفارات الشرعية والفدية عن الواجبات المتروكة ، أو كان ثلثه يكفي للبعض لا للكل فانه توضع دراهم من ثلث مال المتوفي أو من مال ولي الميت ، أي وارثه أو وصيّه ويستدينها أحدهما وتجعل في صرّة ، وان لم تكن دراهم فيجعل بدلها جواهر أو حليا أو نحو ذلك ، ويجمع الفقراء قبل الدفن ، وهو أحسن ، وليكونوا عشرة أو أكثر فانه أحوط ، ولا يكن فيهم صغير ولا غني ولا عبد ولا كافر ولا مجنون ، ويقبض الوارث أو الوصي وقيل أو وكيلهما الموكل عنهما صراحة الصرّة بيده ويجلس الفقراء أو يوقفهم ويعطي الصرّة للفقير على أنها فدية عن صلاة الميت المتروكة ، ويقدرها تخمينا بمقتضى عمره ، وجميع صلواته احتياطا ويقول له : خذ هذه الصرّة عن فدية صلاة سنة أو عشرين سنة أو سبعين سنة مثلا عن فلان بن فلان الفلاني ، أو يقول : ملكتك هذه الدراهم عن فدية صلاة ثمانين سنة مثلا عن فلان بن فلان الفلاني {7/أ} ويقبلها الفقير منه ويقبضها بيده ويعلن أنها صارت ملكه يتصرف فيها كيف شاء ثم يقول الفقير له : وأنا قبلتها وتملكتها منك عن فدية الصلاة المذكورة لفلان بن فلان الفلاني ، ثم بعد القبض والقبول يهبها برضاه للولي أو الوكيل ، ويسلمها له وهو يقبلها منه ثم يعطيها الولي أو الوكيل إلى فقير آخر ويقول له كما قال للأول ويعملان كالعمل السابق الأول ، وهكذا يعمل الوصي او الوارث أو وكيله مع
__________
(1) هذا الذي يذكره المؤلف – رحمه الله تعالى – غير قائم على دليل صحيح ، بل لا يعرف في كلام المتقدمين من أئمة الحنفية ، وأقل ضرره الاستهانة بالعبادات الشرعية ، وعدم القيام بها ، ولا سيما الصلاة ، بدعوى دفع فدية الإسقاط ، بحيلة الشريعة المطهرة منزهة عنها ، ومبطلة لها ، والله المستعان على هذه الأقوال الغرائب الضعيفة العارية عن التحقيق 0(2/33)
كل فقير منهم ويديرها عليهم مرارا حتى يستوعب قدر ما على الميت من الصلوات التي يظن فواتها في مدة عمره 0ثم يفعل كذلك عن الصوم والضحية والنذور وسجدة التلاوة وهي كصلاة ، والنوافل التي أفسدها ولم يقضها ، وعن الزكاة ، ولو بلا وصية على المعتمد ، ومثلها الحج ، وعن الفطرة التي على نفسه ، وعلى من يجب عليه فطرته ، والعشر والخراج ، وعن الجناية عن الحرم ، أو الإحرام في الحج ، وكفارة قتل خطأ ، وظهار ، يعني عن كفارة الظهار ، والنفقة الواجبة ، والكفارات المالية ككفارة اليمين ، والايلاء والاعتكاف المنذور عن صومه ، لا عن اللبث في المسجد لكل يوم ، كالفطرة ، وعن النفقات الواجبة الغير المؤدات في حالة الحياة ، وعن حقوق العباد المجهولة أربابها ، وعن الكفارات 0 ثم من بعد ذلك لا بد أن يخرج عن سائر الحقوق المالية ، ثم يخرج عن سائر الحقوق البدنية ثم بعد تمام دوران هذه الصرّة التي فيها الدراهم ، أو فيها حلي أو نحوه من ذوات القيم بالوجه المذكور ، وقول مدير الصرّة للفقراء وتفهيمه لهم بالوجه المسطور يقبضها من الفقير الأخير بالهبة فتخرج من مال الفقير ، وتكون ملكا للموهوب له اعني المدير ، ثم يتصدق عليهم بجميع المال أو بعضه أو بما أوصى به الميت ، وإذا لم يكن للميت مال فليعمل ذلك الولي من ماله إن شاء ، أو يستقرض لنفسه ، أو يستوهب من الغير ليدفعه للفقراء بالوصية {7/ب} المتقدمة ، ثم بعد أن يهبه الفقير الأخير للولي أو وكيله يرجعه القابض إلى المقرض أو الواهب ، ويرجى من الله سبحانه وتعالى القبول0(2/34)
وكلما كان الفقراء أكثر من عشرة ، أو دورها عليهم متكررا كثيرا ، فهو أولى وأقرب لحصول المأمول ، وعندما يقول الوصي أو الولي أو وكيلهما للفقير : خذ هذه الدراهم كفارة صلوات فلان ، ينبغي أن لا يسرع الفقير قبل تمام الإيجاب بالقبول بل ينتظر إلى أن يكمل الوصي كلامه الذي عرفت سابقا ، ثم يقبل ، ثم يهبها للوصي ولا يقول الوصي قبلتها منك إلا بعد تمام كلام الفقير 0
ومما ينبغي الاحتراز عند الاستفهام من الدافع للفقير فلا يقول الوصي له قبلت هذه كفارة صلاة عن فلان ، لأنه حينئذ يكون على تقدير الاستفهام بالهمزة أو هل ، لان هذا الكلام من باب التصديق الايجابي ، وفي وقوع الصيغ الاستفهامية موقعا لإيجاب كلام لأهل المذهب ، بل إما أن يقول الوصي له خذ هذه كفارة صلاة عن فلان بن فلان ، وإما أن يقول : هذه كفارة صلاة فلان بن فلان ، والناس عن هذا غافلون 0
فإنهم يديرون ولا ينتظرون ، ولا يفصلون ولا يقبلون ، بل الفقراء على اخذ شيء منها مستعجلون ، والمديرون جاهلون فانا لله وإنا لله وإنا إليه راجعون 0
هذا ويجب الاحتراز من أن يدير الصرّة أجنبي ، قيل إلا بالوكالة عن الولي أو الوصي ، والولي أولى ، ويجب أيضا أن لا يلاحظ الدافع عند دفع الصرة إلى الفقير الهزل ، أو الحيلة ، بل يجب أن يدفعها عازما على تمليكها منه حقيقة لا تحيلا ، ملاحظا أن الفقير إذا أبى عن هبتها له كان له ذلك ، ولا يجبره على الهبة 0
خاتمة : رزقنا الله تعالى حسنها ، في مسائل منثورة تتعلق بالايصاء ، والميت
الوصية في القرب ، والصدقات المطلقة والجارية ، كبناء المساجد والمدارس ، ومواضع لسقي الماء ، وسائر الخيرات ،والأوقاف ونحو ذلك صحيحة مثاب عليها ، وأما في المعاصي وما يخالف الشريعة المطهرة فباطلة ، وكذا {8/أ} كل ما ليس له اصل في الشرع 0(2/35)
ومن ذلك ما يفعله كثير ممن ليس له إطلاع على كلام العلماء من الإيصاء بقراءة الختمات على قبره ، أو في بيته ، أو في المسجد ، أو حافظا يقرأ لأمواته بالأجرة فان ذلك غير صحيح ، ولأنه لا يجوز الاستيجار على قراءة القرآن ، والمعطي والآخذ آثمان ، بل الأجرة على تعليمه جوزت للضرورة 0(1)
أما قراءة الوارث أو الأجنبي من غير أجرة وإهداء ثوابها للميت فجائز ، ويصل ثواب ذلك للميت إن شاء الله تعالى ، وكذا التهاليل بالأجرة كما هو المتعارف ، فإنها غير جائزة ، لأنه لا يجوز اخذ الأجرة على طاعة الله تعالى ، والقاري والذاكر ليس لهما اجر بهذا العمل ، لأنه إنما يقرأ ويذكر لأخذ الدراهم والدينار ، فليس له اجر بذلك حتى يهبه للميت (2)، والناس عنه غافلون ، بل هم على المذكرين غاضبون ، وللتفاخر والشهرة طالبون ، وفي جهلهم مسترسلون 0
قال في ردّ المحتار (3): " صرّح علماءنا في باب الحج عن الغير بان للإنسان أن يجعل ثواب عمله لغيره ، وهو مذهب أهل السنة ، ولكن استثنى مالك والشافعي العبادات البدنية المحضة كالصلاة والتلاوة ، فلا يصل ثوابها إلى الميت عندهما بخلاف غيرها كالصدقة والحج 0
__________
(1) قال العلامة ابن القيم في زاد المعاد 1/ 527 : " ولم يكن من هديه - صلى الله عليه وسلم - أن يجتمع للعزاء ، ويقرأ له القرآن ، لا عند قبره ، ولا غيره ، وكل هذا بدعة حادثة مكروهة " 0 وينظر : تفسير ابن كثير ص : 1361 الآيات 36-41 من سورة النجم 0
(2) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الاختيارات العلمية – المطبوع مع الفتاوى الكبرى 5/ 363 : " ولم يكن من عادة السلف إذا صلوا تطوعا أو صاموا تطوعا أو حجوا تطوعا أو قرأوا القرآن يهدون ثواب ذلك إلى أموات المسلمين ، فلا ينبغي العدول عن طريق السلف ، فانه أفضل وأكمل " 0
(3) 2/263 ، وينظر : البحر الرائق 3/105 0(2/36)
أقول : ما مرّ عن الشافعي هو المشهور عنه ، والذي حرره متأخرو الشافعية وصول القراءة إلى الميت إذا كانت بحضرته أو دعا له عقبها ولو غائبا " انتهى 0
قال العلماء : وأحسن ما يهدى للميت العتق والصدقة والاستغفار والدعاء له والحج عنه ، وثواب الصوم وسقاية الماء 0(1)
وينبغي أن يوصي أهله بأن لا يضربوا على قبره خيمة في الثلاثة أيام(2) ، فان فيه زيادة على الكراهة ما شاهدناه من تهدم كثير من القبور بسبب دق الأوتاد 0
وان يكتب في صدر وصيته كما نقل عن الإمام رحمه الله تعالى بعد البسملة هذا ما أوصى به فلان بن فلان ، وهو يشهد أن لا اله إلا الله وان محمدا عبده ورسوله ، وان الجنة حق ، والنار حق (3)، إلى آخر ما ذكره في الظهيرية {8/ب} في موضعين ، قبيل القسم الثالث في المحاضر والسجلات 0
__________
(1) قلت : هذا هو الصواب ، لأن كل ما ذكر له دليل يشهد له من السنة النبوية المطهرة ، لا سيما إذا كان من ولد الميت 0 قال الإمام المحقق محمد بن علي الشوكاني في نيل الاوطار 4/142 : " وأحاديث الباب تدل على أن الصدقة من الولد تلحق الوالدين بعد موتهما بدون وصية منهما ، ويصل إليهما ثوابها ، فيخصص بهذه الأحاديث عموم قوله تعالى : * ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) ( النجم : 39 ) ولكن ليس في أحاديث الباب إلا لحوق الصدقة من الولد ، وقد ثبت أن ولد الإنسان من سعيه ، فلا حاجة إلى دعوى التخصيص ، وأما من غير الولد فالظاهر من العمومات القرآنية أنه لا يصل ثوابه إلى الميت فيوقف عليها حتى يأتي دليل يقتضي تخصيصها " 0وينظر : أحكام الجنائز ، الألباني ص : 213 – 226 0
(2) نصّ على بدعية هذا الفعل العلامة ابن الحاج في المدخل 3/278 0
(3) ينظر : مصنف عبد الرزاق 9/53 ، مصنف ابن أبي شيبة 7/323 ، المغني 6/490- 491، الشرح الكبير 6/423 ، سبل السلام 3/104 ، جواهر العقود 1/361 – 363 ، مجمع الزوائد 4/210 ، ارواء الغليل 6/75و84 لبيان كيف كانت وصايا السلف 0(2/37)
وان يداوم على ذكر الله تعالى ليكون آخر كلامه لا اله إلا الله محمد رسول الله فقد قال معاذ - رضي الله عنه -: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من كان آخر كلامه لا اله إلا الله دخل الجنة " (1) أماتنا الله تعالى عليها وحشرنا عليها بفضله وكرمه ، فهذه هي الوصية الشرعية ، لا ما يفعل في زماننا من الوصايا ، فان اغلبها باطلة ردية 0
ومن السنة أن يلقن المحتضر الشهادتين (2) 0
__________
(1) المسند 5/233و247 ، سنن أبي داود 2/62 رقم ( 3116 ) ، المستدرك 1/351 و500 وقال : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه 0
(2) قال النووي في شرحه على صحيح مسلم 6/219 : " قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ) معناه من حضره الموت والمراد ذكروه لا إله إلا الله لتكون آخر كلامه كما في الحديث من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة والأمر بهذا التلقين أمر ندب وأجمع العلماء على هذا التلقين وكرهوا الإكثار عليه والموالاة لئلا يضجر بضيق حاله وشدة كربه فيكره ذلك بقلبه ويتكلم بما لا يليق قالوا وإذا قاله مرة لا يكرر عليه إلا أن يتكلم بعده بكلام آخر فيعاد التعريض به ليكون آخر كلامه ويتضمن الحديث الحضور عند المحتضر لتذكيره وتأنيسه " 0وقال العلامة المباركفوري في تحفة الاحوذي 4/45 : " قال القاري في المرقاة : الجمهور على أنه يندب هذا التلقين وظاهر الحديث يقتضي وجوبه وذهب إليه جمع بل نقل بعض المالكية الاتفاق عليه إنتهى 0 قلت : الأمر كما قال القاري والله تعالى أعلم " وينظر : التلخيص الحبير 2/102 ، حاشية السيوطي على سنن النسائي 4/5 ، عون المعبود 8/267 0(2/38)
ويقرأ عنده سورة يس (1)
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير 2/104 : " انه - صلى الله عليه وسلم - قال : " اقرءوا يس على موتاكم " . احمد 5/26 و27 ، وأبو داود 2/63 رقم ( 3121 ) ، والنسائي { في سننه الكبرى 6/265 رقم ( 10913 ) } ، وابن ماجه 1/446 رقم (1448 ) ، وابن حبان 7/270 ، والحاكم 1/565 من حديث سليمان التيمي عن أبي عثمان وليس بالنهدي عن أبيه عن معقل بن يسار ولم يقل النسائي وابن ماجه عن أبيه وأعله ابن القطان بالاضطراب وبالوقف وبجهالة حال أبي عثمان وأبيه0
ونقل أبو بكر بن العربي عن الدارقطني انه قال :" هذا حديث ضعيف الإسناد مجهول المتن ولا يصح في الباب حديث " { وينظر : فيض القدير 2/86 } 0
وقال احمد في مسنده ( 4/105 ) : ثنا أبو المغيرة ثنا صفوان قال : " كانت المشيخة يقولون : إذا قرئت يعني يس عند الميت خفف عنه بها " { قال الهيثمي في مجمع الزوائد 2/322 : رواه أحمد ، وفيه من لم يسم 0 وينظر : تاريخ دمشق 48/82 ، الإصابة 5/249 }0 وأسنده صاحب الفردوس من طريق مروان بن سالم عن صفوان بن عمر وعن شريح عن أبي الدرداء وأبي ذر قالا : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما من ميت يموت فيقرأ عنده يس إلا هون الله عليه " { رواه أبو نعيم في تاريخ أصفهان 1/188 ، وعزاه العجلوني في كشف الخفاء 2/390 إلى ابن أبي الدنيا ، وضعفه الألباني في ارواء الغليل 3/152 } 0
وفي الباب عن أبي ذر وحده أخرجه أبو الشيخ في فضائل القرآن 0
( تنبيه ) قال ابن حيان في صحيحه 7/271 عقب حديث معقل ( قوله ) اقرأوا على موتاكم يس أراد به من حضرته المنية لا أن الميت يقرأ عليه قال وكذلك لقنوا موتاكم لا اله إلا الله ورده المحب الطبري في الأحكام وغيره في القراءة وسلم له في التلقين " أ0هـ كلام الحافظ ، وما كان بين { } ، فهو من زيادتي على الحافظ ابن حجر 0 والحديث ضعفه جماعة من الأئمة منهم النووي في الأذكار ص :144 فانه قال : " إسناده ضعيف ، فيه مجهولان لكن لم يضعفه أبو داود " قلت : لم يضعفه أبو داود لظهور التضعيف ، وقال الذهبي في الميزان 4/550 : " أبو عثمان 000 لا يعرف أبوه ولا هو ، ولا روى عنه سوى سليمان التيمى " 0وينظر : مجمع الزوائد 6/311 ، فيض القدير 2/86 ، سبل السلام 2/90 ، نيل الاوطار 4/52 ، عون المعبود 8/271 ، ارواء الغليل 3/151 0(2/39)
0
وتحرم النياحة على الميت ، والبناء على قبره بالجص وتبخيره ، ورفع الستور عليه ، وتعليق الذهب والفضة ، وحمل المبخرة قدّامه عند حمله إلى المقبرة (1)0
ومن البدع السيئة : ما يفعلونه من إخراج شيء من المأكولات أمام الجنازة ، ويسمونه السابقة ، ويترتب عليه من أذية الفقراء ما يشاهد ، متجه (2)0 وكذا وضع الميت ثلات مرات ورفعه عند عتبة باب داره 0
وكذا جعل الناس أمامه يسبحون بأعلا صوت ويذكرون (3)0
وكذا من البدع إن الميت إذا دفن يوم الأربعاء يجعلون معه في قبره بيضة دجاجة ، لئلا يجر غيره معه ، أي لئلا يموت غيره من أهل بيته ، فكل ذلك منكر 0
ويحرم الذبح عند قبره حين الدفن ، والنذر له ، والذبح له ، والاستغاثة به لدفع الكرب وجلب المنافع وإيقاد السرج على قبره ، والصلاة إليه وعنده (4) 0
__________
(1) ينظر : الاختيارات العلمية 5/361 0
(2) قال شيخ الإسلام في الاختيارات العلمية 5/362 : " وإخراج الصدقة مع الجنازة بدعة مكروهة، وهي تشبه الذبح عند القبر ، ولا يشرع شيء من العبادات عند القبور الصدقة ، وغيرها " 0
(3) أخرج ابن أبي شيبة في المصنف 7/189 ،والإمام البيهقي في سننه الكبرى 4/740 والخطيب في تاريخ بغداد 8/91 عن قيس بن عباد قال : " كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يكرهون رفع الصوت عند الجنائز " وينظر : المجموع 5/321 ، المغني 2/363 ، الشرح الكبير 2/363 ، أحكام الجنائز ص : 92 0
(4) ينظر : الاختيارات العلمية 5/361 0(2/40)
ويكره الجلوس عليه ، وعند الإمام أبي حنيفة (1) : يكره البول والتغوط على القبر لا مطلق الجلوس عليه على قول الجمهور(2) 0
وكسر عظمه (3)، فكل ذلك ورد النهي عنه في الأحاديث الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - 0
__________
(1) ونحوه عن الإمام مالك أيضا 0 ينظر : البحر الرائق 2/341 ، رد المحتار 2/265 ، مواهب الجليل 3/75 ، حاشية الدسوقي 1/428 0
(2) المغني 2/387 ، فتح الباري 3/178 ، فيض القدير 5/328 ، نيل الاوطار 4/136 ، عون المعبود 9/35 ، وبه قال ابن حزم 5/141 ، وهو قول الإمامية أيضا كما في : نهاية الأحكام ، العلامة الحلي 2/ 284-285 ، الحدائق الناضرة ، المحقق البحراني 4/138-139 ، جواهر الكلام ، الشيخ الجواهري 4/351 0
(3) هو قوله - صلى الله عليه وسلم - : " كسر عظم الميت ككسر عظم الحي " ينظر : المسند 6/58 و100و105 و168 و200 و264 ، سنن ابي داود 2/81 رقم ( 3207 ) ، سنن ابن ماجه 1/516 رقم (1616) ، صحيح ابن حبان 7/437 ، المنتقى ، ابن الجارود ص : 143 ، سنن الدارقطني 3/132 ، كلهم من حديث عائشة ، وقد حسنه ابن القطان ، وقال ابن دقيق العيد : على شرط مسلم ، كما في كشف الخفاء 2/110 ، وصححه العلامة الألباني في الارواء 3/213 0(2/41)
ويكره اتخاذ الضيافة من الطعام من أهل الميت ، لأنه شرع في السرور ، لا في الشرور ، وهي بدعة مستقبحة 0(1)
روى الإمام احمد عن جرير بن عبد الله- رضي الله عنه - قال : " كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت ، وصنعهم الطعام من النياحة " 0(2)
__________
(1) هذه هو نص العلامة ابن الهمام في فتح القدير شرح الهداية 1/473 0 قال القرطبي : " الاجتماع إلى أهل الميت وصنعهم الطعام والمبيت عندهم كل ذلك من فعل الجاهلية قال ونحو منه الطعام الذي يصطنعه أهل الميت في اليوم السابع ويجتمع له الناس يريدون به القربة للميت والترحم عليه وهذا لم يكن فيما تقدم ولا ينبغي للمسلمين أن يقتدوا بأهل الكفر وينهي كل إنسان أهله عن الحضور لمثل هذا وشبهه من لطم الخدود وشق الجيوب واستماع النوح وذلك الطعام الذي يصنعه أهل الميت كما ذكر فيجتمع عليه الرجال والنساء من فعل قوم لا خلاق لهم . قال : وقال أحمد : هو من فعل الجاهلية . " نقله عنه المناوي في فيض القدير 1/682 0 وينظر : الفتاوى الكبرى ، ابن تيمية 3/34 ، المدخل 3/276 0
(2) المسند 5/204 ، سنن ابن ماجه 1/ 490 رقم (612) ، والحديث صحح إسناده الإمام النووي في المجموع 5/204 ، وقال السندي : " وهذا الحديث سنده صحيح ، ورجاله على شرط مسلم " كما في عون المعبود 8/282 0(2/42)
ويستحب لجيران الميت والأقرباء الأباعد تهيئة طعام لهم يشبعهم يومهم وليلتهم لقوله - صلى الله عليه وسلم - {9/أ}: " اصنعوا لآل جعفر طعاما ، فقد جاءهم ما يشغلهم " (1)0ويلح عليهم في الأكل لأن الحزن يمنعهم من ذلك فيضعفون 0
__________
(1) سنن أبي داود 2/65 رقم (3132) ، سنن الترمذي 2/234 رقم (1003) ، سنن ابن ماجه 1/514رقم (1610 ) ، المسند1/205 ، مسند الحميدي 1/247 ، سنن الدارقطني 2/66 ، مسند أبي يعلى 12/174 ، المستدرك 1/372 ، السنن الكبرى ، البيهقي 4/61 0 والحديث حسنه الترمذي ، وصححه الحاكم ، ووافقه الحافظ الذهبي ، وصححه ابن السكن 0 وفيه خالد بن جعفر بن سارة وثقه الأئمة يحيى بن معين ، واحمد ، والترمذي ، والنسائي ،وابن شاهين ، وابن حزم ، والبيهقي ، وابن طاهر ، والذهبي ، وابن حجر 0ينظر : العلل وعرفة الرجال ، احمد 1/402 و3/103 ، الجرح والتعديل 2/477-478 ، الثقات ، ابن حبان 6/134 ، تاريخ أسماء الثقات ، ابن شاهين ص : 55 ، الكاشف ، الذهبي 1/294 ، تهذيب التهذيب 2/77 ، تقريب التهذيب 1/ 161 ، تحفة الاحوذي 4/68 ،وهذا التوثيق عن هؤلاء الأئمة العشرة سوى ابن حبان يرد قول الدكتور بشار عواد معروف في تعليقه على تهذيب الكمال 5/28 ونحوه 8/ 78: " فيه خالد بن سارة لم يوثقه غير ابن حبان ، وهو صدوق ، فهو كما قال الترمذي : " حسن " 0(2/43)
وتستحب التعزية للرجال والنساء اللاتي لا يفتنَّ (1)، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " من عزّى أخاه بمصيبة كساه الله تعالى من حلل الكرامة يوم القيامة " (2)رواه الترمذي وابن ماجه 0
__________
(1) قال المناوي في فيض القدير 5/632 : " فيه- أي الحديث -أن التعزية سنة مؤكدة وأنها لا تختص بالموت فإنه أطلق المصيبة وهي لا تختص به إلا أن يقال إنها إذا أطلقت إنما تنصرف إليه لكونه أعظم المصائب ، والتعزية في الموت مندوبة قبل الدفن وبعده " 0
(2) سنن ابن ماجه 1/511 رقم (1601) ، مسند عبد بن حميد ص : 119 ، الدعاء ، الطبراني ص : 369 ، السنن الكبرى ، البيهقي 4/59 ، وحسن إسناده النووي في الأذكار ص :148، وضعفه الشيخ الألباني في الارواء 3/216 بقيس أبي عمارة ، فان فيه مقالا ، وقال : " ثم إن في الحديث إرسالا لم أر من نبه عليه00 " قلت : بل نبه عليه حافظان جليلان هما 1 0 ابن عساكر في تاريخ دمشق 55/5 فانه قال : " كذا قال في إسناده ، ومحمد لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما ولد قبل وفاته بيسير وجده عمرو بن حزم لا يعرف لأبي بكر سماع منه ولعله سقط منه عن أبيه " 0 2 0 الحافظ العلائي فانه قال : " والظاهر أن في اسناده انقطاعا " كما نقله عنه العلامة المباركفوري في تحفة الاحوذي 4/159 ، وقارن : جامع التحصيل ، العلائي ص : 267 0وينظر : فيض القدير 5/632 ،أحكام الجنائز ص : 206 0(2/44)
والتعزية أن يقول : أعظم الله تعالى أجرك ، وأحسن عزاك ، وغفر لميتك (1) ، وتفصيل هذه الأبحاث في الكتب المطولة 0
ولا يقوم من مرت عليه جنازة ، وما ورد فيه منسوخ عند الأئمة الثلاثة (2)، وعن الإمام احمد(3) وإسحاق وابن الماجشون إن قام فله اجر0
__________
(1) قال الإمام النووي في الاذكار ص : 150 " أما لفظة التعزية ، فلا حجر فيه ، فبأي لفظ عزاه حصلت " 0 وقال العلامة الدسوقي المالكي في حاشيته 1/419 : " وليس في ألفاظ التعزية حد معين " 0 وقال العلامة الألباني في أحكام الجنائز ص : 206 : " ويعزيهم بما يظن انه يسليهم ، ويكف من حزنهم ، ويحملهم على الرضا والصبر ، مما يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم -إن كان يعلمه ويستحضره ، والا فبما تيسر له من الكلام الحسن الذي يحقق الغرض ، ولا يخالف الشرع 0وينظر : رد المحتار 2/260 ، البحر الرائق 2/337 ، المجموع 5/305 ، روضة الطالبين 1/664 ، حاشية الدسوقي 1/419 ، المغني 2/410 ، الشرح الكبير 2/428 ، كشاف القناع 2/137 0
(2) سواء كان هذا القيام للجنازة من الجالس إذا مرت به ، أو قيام المشيع لها عند وصولها إلى القبر حتى توضع على الأرض 0 ينظر تفصيل ذلك في : الأم 1/318 ، المجموع 5/280 ، مواهب الجليل 3/58 ، حاشية الدسوقي 1/424 ، سبل السلام 2/108، نيل الأوطار 4/119و 121 ، تحفة الأحوذي 4/119-120 ، عون المعبود 8/315 ، أحكام الجنائز ص : 1000- 101 0
(3) قال شيخ الإسلام في الاختيارات العلمية 5/361 : " ويستحب القيام للجنازة إذا مرت به ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد "0 وبه قال ابن حزم في المحلى 5/153 0(2/45)
ويحفر القبر مقدار نصف قامة ، وان زاد إلى مقدار قامة فأحسن (1)، والسنة اللحد (2)، ولا يشق إلا في ارض رخوة (3) 0
ويرخص التابوت في القبر عند الحاجة كرخاوة الأرض ، قيل : أو لامرأة فانه أقرب للستر ، والا فهو مكروه كبيت معقود بالبناء يسع جماعة قياما لمخالفتها السنة ، والكراهة فيه من وجوه : عدم اللحد ، ودفن الجماعة في قبر واحد بلا ضرورة ، واختلاط الرجال بالنساء بلا حاجز ، والتجصيص ، والبناء عليها(4) ، وخصوصا إن كان فيها ميت لم يبل 0
قال الزيلعي : ولو بلي الميت وصار ترابا جاز دفن غيره في قبره ، وزرعه ، والبناء عليه ، ويخالفه ما في التتارخانية : إذا صار الميت ترابا في القبر يكره دفن غيره في قبره لأن الحرمة باقية 0(5)
ويسنم القبر ولا يربع خلافا للإمام الشافعي(6) 0
__________
(1) رد المحتار 2/253 0
(2) في حاشية الأصل : " وحكى النووي جواز اللحد والشق كما نقله في نيل الاوطار " 0
(3) قال الإمام النووي في المجموع 5/287 : " اجمع العلماء أن الدفن في اللحد والشق جائزان ، لكن إن كانت الأرض صلبة لا ينهار ترابها فاللحد أفضل 000، وان كانت رخوة تنهار فالشق أفضل " 0
(4) رد المحتار 2/253 ، البحر الرائق 2/341 0
(5) البحر الرائق 2/342 ، رد المحتار 2/253 0 وينظر :روضة الطالبين 1/658 ، المغني 2/416 ، الشرح الكبير 2/415 ، الحدئق الناضرة 4/145 ، جواهر الكلام 4/353 0
(6) ينظر :المجموع 5/297 ، مواهب الجليل 3/59 ، حاشية الدسوقي 1/428 ، رد المحتار 2/257 ، المغني 2/385 ، فتح الباري 3/203 ، نيل الاوطار 4/130 ، تحفة الاحوذي 4/130 ، عون المعبود 9/29 0(2/46)
ويحرم البناء عليه ، لو للزينة ، ويكره لو للإحكام (1)، لما روى مسلم وغيره أنه- صلى الله عليه وسلم - نهى عن تجصيص القبور ، وان يكتب عليها ، وان يبنى عليها " (2)0
وإذا وضعت علامة على القبر ليعلم بها ، فلا بأس ، ولئلا يذهب الأثر ، ولا يمتهن (3)، كما فعل - صلى الله عليه وسلم - من وضعه الحجر عند رأس عثمان بن مظعون ، وقال : أتعلَّم بها قبر أخي {9/ب} ، وأدفن إليه من مات من أهلي ، كما رواه أبو داود (4) 0
ولا بأس بنقل الميت قبل دفنه ، قيل : مطلقا ، وقيل : إلى ما دون مدة السفر ، وقيَّده الإمام محمد بقدر ميل أو ميلين ، لأن مقابر البلد ربما بلغت هذه المسافة ، فيكره فيما زاد (5) 0
__________
(1) ينظر : المدونة1/ 189 ، مواهب الجليل 3/59 ، رد المحتار 2/257 ، تحفة الاحوذي 4/132 ، عون المعبود 9/33 ، النهاية ، الطوسي ص : 44 ، نهاية الأحكام 2/284 ، الحدائق الناضرة 4/130 0
(2) لم يرو مسلم هذا الحديث بهذا السياق ، وإنما هو عند الترمذي 2/258 رقم (1058) وقال : حسن صحيح ، قد روي من غير وجه عن جابر ، المستدرك 1/370 ، وصحح إسناده ، شرح معاني الآثار 1/516 ، صحيح ابن حبان 7/435 0
(3) اختلف العلماء في كتابة الاسم على القبر ، قال النووي في المجموع 5/298 : " قال أصحابنا – يعني الشافعية – وسواء كان المكتوب على القبر في لوح عند رأسه كما جرت عادة بعض الناس ، أم في غيره فكله مكروه لعموم الحديث : 0 وينظر : المدخل 3/272 0
(4) في سننه 2/81 رقم (3206 ) ، السنن الكبرى ، البيهقي 3/412 ، وسنده حسن بشواهده 0 قال العلامة الألباني في أحكام الجنائز ص : 197 : " وله شاهدان يتقوى بهما " 0 وينظر : عون المعبود 9/17 ، سير أعلام النبلاء 1/154 هامش 2 0
(5) البحر الرائق 2/341 ، رد المحتار 6/750 ،مواهب الجليل 3/75 ، المجموع 5/303 ، روضة الطالبين 1/662 ، كشاف القناع 2/126 ، نيل الاوطار 4/169 ، النهاية ، الطوسي ص : 44 ، نهاية الأحكام 2/283 0(2/47)
وتجب الصلاة عليه ، وغسله ، ودفنه 0(1)
والشهيد لا يغسل عند الجمهور (2)0
واختلفوا في غسل الزوجة زوجها ، والزوج زوجته ، فأجازه الشافعي والجمهور ، وقال الإمام احمد : لا تغسله ، لبطلان النكاح ، ويجوز العكس عنده كالجمهور ، وقال الإمام أبو حنيفة والشعبي : لا يجوز أن يغسلها ، ويجوز العكس كالجمهور ، قالوا : لأنها لا عدة عليه (3)، بخلافها حامل ماتت وولدها حي شق بطنها من الأيسر ويخرج ولدها(4) 0
وزيارة المقابر بالوجه المشروع سنة (5)، وشد الرحل لزيارتها مختلف فيه (6)، ويقول : السلام عليكم يا دار قوم مؤمنين ، وإنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون ، ونسأل الله تعالى لنا ولكم العافية ، ويقرأ من القرآن ما تيسر ، ويهدي ثواب ذلك إليهم ، ولا سيما الفاتحة ، والإخلاص(7) ، نسأله تعالى أن يميتنا على التوحيد والإخلاص ويحشرنا عليه ، يوم يؤخذ بالنواص ، بمنه وكرمه آمين 0
__________
(1) المجموع 5/211 ، تحفة الفقهاء1/247 ، رد المحتار 1/456 ، المغني 2/367 ، النهاية ص : 143 0
(2) روضة الطالبين 1/633 ، فتح الباري 3/170 ، نيل الاوطار 4/60 ، عون المعبود 8/285 ، الحدائق الناضرة 3/334 0
(3) المجموع 5/289 ، المحلى 5/144 0
(4) رد المحتار 6/707 ، المجموع 5/301 ، المحلى 5/166 ، كشاف القناع 2/170 ، أحكام الجنائز ص : 234 ، النهاية ص : 42 ، الحدائق الناضرة 3/476 0
(5) المجموع 5/309 ، روضة الطالبين 1/656 ، مواهب الجليل 3/50 ، حاشية الدسوقي 1/422 ، البحر الرائق 2/342 ، رد المحتار 2/262 ، المغني 2/424 ، كشاف القناع 2/174 ، المحلى 5/160 ، الحدائق الناضرة 4/139 0
(6) كشاف القناع 2/419 ، فتح الباري 3/54 ، فيض القدير 6/181 ،نيل الاوطار 5/180 ، عون المعبود 6/24 0
(7) تقدم التنبيه على القراءة وأنها خلاف ما كان عليه السلف 0(2/48)
نمقه العبد الفقير الآثم الجاني علي بن المرحوم الحاجي محمد حسن الايرواني عفى عنهما ، وكتبتها على خط مؤلفها شيخنا العلامة البحر الحبر الفهامة فريد عصره ووحيد مصره ، مؤيد سنة سيد المرسلين وقامع المبتدعين خاتمة المحققين مولانا السيد نعمان خير الدين أفندي الشهير بآلوسي زاده ، رئيس المدرسين ببغداد ، حماه الله تعالى من كيد الحساد ، وأدام نفعه للبلاد والعباد آمين 0(2/49)