الحب المتبادل بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمدينة وأهلها
للدكتور خليل ملا خاطر
عرض كتاب
عرض : د. عبيد محمد أحمد خيري
االكتاب من القطع المتوسط . عدد صفحاته مائة وتسع وتسعون صفحة . طبع هذا السفر القيم بدار القبلة للثقافة الإسلامية بجدة في عام 1424هـ -2005م . ونحن نستعرض هنا الطبعة الثانية لهذا الكتاب النفيس .
يشتمل الكتاب على مقدمة ومبحثين وخاتمة . في المقدمة ذكر الكاتب سبب تأليفه لهذا الكتاب حيث ألقى محاضرة عن النبي المصطفى الكريم - صلى الله عليه وسلم - وأيامه في المدينة المنورة وحبه لها والتي لخَّصها في هذا الكتاب القيم. ودلف الكاتب إلى مقدمة مختصرة عن معرفة ذرات الكون لهذا النبي المصطفى الكريم، ومحبتها له صلوات الله عليه وسلامه، مع بيان وجوب محبته على جميع ذرات الكون . وتناول الكاتب الحب ومراتبه وثواب المحب للرسول الكريم، وتكلم عن ساكني المدينة المنورة وواجباتهم من محبة المدينة، وفصّل القول في محبة المدينة وقاطنيها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمدينة وقاطنيها .
تحدث الكاتب على معرفة المخلوقات للنبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - ، ومحبتها له من يوم الخلق الأول ، قال تعالى جل شأنه : ژ ک ک گ گ گ ژ (الأنبياء: 107). وبين وجوب محبته - صلى الله عليه وسلم - على جميع ذرات الكون من جمادٍ ونباتٍ وحيوان وإنسان لأنه بمثابة الوالد لها، وانتهاء بكونه رحمة لها، مروراً بما حواه من صفات الجمال والكمال في الذات والصفات . وهو - صلى الله عليه وسلم - أولى بالمؤمن المسلم من نفسه، في الدنيا والآخرة .
والحب أنواع ودرجات فمن لم يحظ بأرقاها وأعلاها فلا تفوته أوساطها وأدناها .ومن لم يتحقق بما ورد من أنواعها ومظاهرها – فلا يفوته على الأقل – محاكاتهم والتشبه بهم .
إن لم تكونوا مثلهم فتشبّهوا ... ... إن التشبه بالكرام فلاح(1/1)
والحب لا يظهر في حقيقته، إنما تظهر آثاره، ومن ادّعاه كشفته شواهد الامتحان .
ويجب تقديم محبة النبي المصطفى الكريم على محبة النفس والوالد والولد والأهل والأقارب والمال والناس أجمعين، والتحذير من تقديم محبة المخلوقات – مهما كانت – على محبته تعالى ومحبة نبيه المصطفى الكريم صلى الله عليه وسلم . ومن أحبَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك الحب الذي طلبه الله تعالى وذكره رسوله الكريم نال مميزات كثيرة جداً؛ كتذوق حلاوة الإيمان، ومحبه الله له، واشتياق النبي - صلى الله عليه وسلم - لرؤيته، وحصول السعادة له في الدارين، وإعطائه صفة الإيمان، وحشره تحت العرش مع الرسول الكريم، ودخوله الدرجات العليا من الجنة، ومرافقته له - صلى الله عليه وسلم - فيها... وغيرها كثير . وأهم تلك المميزات: معيته وقربه الدائمان منه عليه الصلاة والسلام .
أمر الله جل شأنه أهل المدينة – على اختلاف أجناسهم – ومن حولها أن يقدّموا نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نفوسهم ورغباته عليه الصلاة والسلام على رغباتهم، قال تعالى: ژ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑڑ ژ (التوبة: 120).
وللحب مظاهر متعددة ؛ منها التعظيم والتوقير والتكريم والفداء، ومنها: الاتّباع، والطاعة، مع ما بينهما من فوارق، إذ كل اتّباع طاعة وليس كل طاعة اتّباعاً. فعلينا طاعة الله ورسوله الكريم، واتّباع رسول الله فقط لأنه المشاهد المرئي .(1/2)
وأهل المدينة هم أهلها الأصليون، والقاطنون المجاورون فيها، والمقيمون فيها، سواء إقامة طويلة أو قصيرة. وعليهم ألا يكونوا دون الجماد (أُحُدٍ) في محبتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يكونوا دون (الجذع) في حنينهم إليه، وحزنهم على فراقهم له إذا ابتعدوا عنه، ولا يكونوا دون (الوحش) في أدبهم وخوف إيذائهم له، ولا يكونوا دون (الجَمَل) في تعظيمهم وتوقيرهم له، ولا يكونوا دون (الشاة) في حرصهم عليه، ولا يكونوا دون (المنبر) في خشيتهم وتجاوبهم معه صلوات الله عليه وسلامه .
وعلى ساكني المدينة المنورة -كما يقول الكاتب -أن يقتدوا بالمهاجرين رضي الله تعالى عنهم في اقتفائهم واتّباعهم وفدائهم له - صلى الله عليه وسلم - ، وأن يقتدوا بالأنصار -رضي الله تعالى عنهم -في الفداء والمحبة والحرص والتعظيم والتوقير .
وعلى ساكني المدينة المنورة أن يحبوا ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحبه، لأن ذلك من أولى واجبات المحبة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ] إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل فقال : إني أحب فلاناً فأحبّه، فيحبه جبريل، ثم ينادى في السماء فيقول، إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء [ الحديث بطوله، متفق عليه(1).
__________
(1) صحيح البخاري : كتاب بدء الخلق : باب ذكر الملائكة ، وفي غيرهما . وصحيح مسلم : كتاب البر والصلة : باب إذا أحب الله عبداً حبَّبه إلى عباده ، رقم (157).(1/3)
لقد جعل الله تعالى رسوله المصطفى الكريم وصفيّه المختار العظيم خير خلقه، وسيدَ رسله عليهم السلام، بل سيد الناس أجمعين . فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعوة، فرفعت إليه الذراع – وكانت تعجبه – فنهس منها نهسةً، وقال : ] أنا سيد الناس يوم القيامة... [ الحديث بطوله، في قصة الشفاعة العظمى يوم القيامة، متفق عليه (1).
كما جعل الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أولى بالمؤمنين من أنفسهم في الدنيا والآخرة، فقال جل شأنه : ژ ? ? ? ? ? ژ (الأحزاب: 6). كما جعله تعالى رؤوفاً رحيماً بالمؤمنين، حريصاً عليهم، يعزعليه ما يشق عليهم، فقال سبحانه وتعالى : ژ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ (التوبة: 128). بل وأكثر من ذلك فقد أرسله جل شأنه رحمة للعالمين فقال عز وجل: ژ ک ک گ گ گ گ ژ (الأنبياء: 107) .
__________
(1) صحيح البخاري : كتاب الأنبياء : باب قول الله تعالى : ( ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه ) . وصحيح مسلم : كتاب الإيمان : باب أدنى أهل الجنة منزلة ، رقم ( 327 ، 328 ) .(1/4)
لقد حوى الرسول المصطفى الكريم الجمال والكمال، الباطني والظاهري، ولقد كسا الله تعالى جمال نبيه المصطفى الكريم بالجلال، ولولا ذلك-كما يقول الكاتب – لافتتن به أكثر مما افتتن بيوسف عليه السلام لذا كان الصحابة رضي الله عنهم إذا جالسوه - صلى الله عليه وسلم - لم يرفعوا رؤوسهم نحوه، ولم يحدّواالنظر إليه، هيبةً وإجلالاً وتعظيماً، وإذا كلموه عليه الصلاة والسلام لم يرفعوا أصواتهم، احتراماً وتقديراً بعد أن أدبهم الله تعالى . فعن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه قال: ]... وما كان أحدٌ أحبَّ إليًّ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا أجلَّ في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه، إجلالاً له، ولو سئلتُ أن أصفه ما أطقتُ، لأني لم أكن أملأ عيني منه ... [ رواه مسلم (1).
لقد أجرى الله جل شأنه على يد رسوله المصطفى الكريم من المعجزات والخوارق، ما لا تحتمله العقول، وقد تنوعت معجزاته - صلى الله عليه وسلم - ، فمنها العلوي والسفلي، والساكن والمتحرك، والظاهر والباطن، ومنها معجزات لم يظهر نظائرها على أيدي السابقين، بل ما من معجزة حصلت لنبي أو رسول، إلا وحصل للنبي المصطفى الكريم ما هو أكبر منها. ومعجزاته عليه الصلاة والسلام محاطة بسياج الأمان والحفظ، لذا لم يخطر على بال أحد من أصحابه رضى الله عنهم وأرضاهم أنه إله، أو ابن إله، أو يدّعي ذلك له كما حصل مع اليهود الذين ادّعوا أن عزيراً ابن الله، وادّعت النصارى أن المسيح ابن الله .
والرسول الكريم يكرر أنه عبد الله تعالى، فيقول: ] إني عبد الله ورسوله [ ]اللهم إنما أنا عبد[، لذا رسخ في أذهان الأمة أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو أحب الخلق إليه تعالى، وهو أكرمهم عليه، وأفضلهم لديه، وأحظاهم بكل خير، ولم يعط أحداً من الخلق ما أعطاه .
__________
(1) صحيح مسلم كتاب الإيمان ، وكذا الهجرة والحج رقم ( 192 ) .(1/5)
محبة المدينة وقاطنيها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -
على اختلاف مظاهر هذه المحبة فلقد أحب الجماد - بما جعل الله تعالى فيه من الإدراك والمعرفة - رسول الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم حسب إمكانيته؛ كاهتزاز الجبل طرباً وانتعاشاً لما صعد عليه - صلى الله عليه وسلم - . فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : صعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أحداً، ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، فضربه برجله، وقال : ] اثبت أحد، فما عليك إلا نبي، أو صديق، أو شهيدان [ رواه البخاري(1). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : خرجتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر أخدمه، فلما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - راجعاً بدا له أحدٌ قال : ] هذا جبلٌ يُحبُّنا، ونُحبُّه ... [ متفق عليه (2).
ومن مظاهر محبة الجمادات له - صلى الله عليه وسلم - : اهتزاز المنبر الشريف تحت النبي الكريم وهو يقرأ فوقه آيةً من القرآن الكريم، وتسبيح الحصباء بين يديه وبصوت عالٍ ومسموع حتى سمع الحاضرون تسبيحها، وكذا تسبيح الطعام وهو يُؤكل بين يديه، وأيضاً استجابة الغيم لأوامره بمجرد الإشارة. فيقول الكاتب إذا كان الجماد – سواء من عالم الأرض أو السماء – يحب ويطيع ويستجيب .. للنبي المصطفى الكريم، فما موقف الإنسان المسلم العاقل المدرك المكلَّف المأمور؟ أيسبقُ الجمادَ – فيكون خيراً منه – أم يدع الجماد يسبقه – فيكون الجماد خيراً منه - .
__________
(1) صحيح البخاري : كتاب فضائل الصحابة : باب مناقب عمر بن الخطاب ، وفي غيرهما .
(2) صحيح البخاري : كتاب الجهاد : باب فضل الخدمة في الغزو ، وفي غيرهما . وصحيح مسلم: كتاب الحج : باب فضل المدينة ، رقم (462) .(1/6)
ومن مظاهر محبة المدينة وقاطنيها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - محبة الحيوان له؛ كسجود الجمل له سجود تحيةٍ وتعظيم وتبجيل،لا سجود عبادة؛ وتأدب الوحش – الذي كان في بيت السيدة عائشة رضي الله عنها – مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعدم إزعاجه وإيذائه له؛ وغيرة الشاة أن يدخلَ جوفَه عليه الصلاه والسلام مال مشبوه، أو طعامُ مشبوه،لأن في ذلك إيذاءً له؛ وأيضاً إخبار الشاة المسمومة له بأنها مسمومة؛ وإسراع فرس أبي طلحة رضي الله عنه بعد ركوبه - صلى الله عليه وسلم - عليه؛ وأيضاً شهادة الذئب له بالرسالة.
ومن مظاهر محبة المدينة وقاطينها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - محبة النبات والأشجار له؛ كحنين الجذع، عندما فارقه ورقى المنبر بعد ما صُنع له في أول جمعة يخطب فيها على المنبر . يقول الشاعر السوداني، بابكر البدوي دشين :
أليس الجذع حنَّ إليه شوقاً ... وحيَّاهُ الحفيُّ من الجمادِ؟
عليه صلاةُ ربِّي كلّ حينٍ ... مع التَّسليم تهمي كالعهادِ
قال - صلى الله عليه وسلم - : ] لو لم أحضنه لحنَّ إلى يوم القيامة [ (1).
ومن مظاهر محبة ساكن المدينة المنورة كإنسان للرسول الكريم كثيرةٌ جداً، فصّلها الكاتب في قسمين :
القسم الأول : على الإفراد، ومنه :
1. فداء الصحابة رضي الله عنهم رسول الله عليه الصلاة والسلام بأرواحهم، وتمني أحدهم أن يصاب دونه، وحمايته من أعدائه أن يصلوا إليه، وأنه لا عذر لهم لو أصيب ولهم عين تطرف .
2. تعظيم كل ما يتصل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كسيفه، ... .
3. تعنيف من أبطأ عن رؤيته عليه الصلاة والسلام .
4. رفض أحدهم رضي الله عنه أن يعلو سطحاً يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحته .
5. محبة ما يحبه رسول الله عليه الصلاة والسلام وكراهية ما يكرهه، ولو كان أمراً على خلاف هوى النفس .
__________
(1) صحيح البخاري ، كتاب البيوع ، باب النجار وكتاب المناقب .(1/7)
6. الحرص على رؤيته صلوات الله عليه وسلامه وقربه مهما كانت الموانع وعدم الابتعاد عنه .
7. التبرك بآثاره - صلى الله عليه وسلم - .
8. تعظيمه عليه الصلاة والسلام وتوقيره وتكريمه،حتى لو كان غائباً.
9. تعظيم سنته - صلى الله عليه وسلم - ، والأدب معها، والعمل على نشرها، والدفاع عنها.
10-الحرص على اللحاق به صلوات الله عليه وسلامه.
11-الحرص على السكن بجوار بيته ومسجده - صلى الله عليه وسلم - .
القسم الثاني : على المجموع
والأحاديث التي وردت في هذا القسم كثيرة جداً، ولكن الكاتب أشار إلى بعض منها للتذكير ونحن بدورنا نوجزها فيما يلي :-
1. موقف الصحابة رضي الله عنهم يوم بدر، معتذرين عمن تخلَّف عن المعركة؛ لو أنهم يعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيلقى قتالاً ما تخلّفوا عنه .
2. هو - صلى الله عليه وسلم - أحب إلى أهل المدينة من عيونهم، وهذه غاية المحبة والتعظيم والإجلال .
3. الصحابة رضي الله عنهم لا يقدِّمون أحداً عليه - صلى الله عليه وسلم - . وهذا تطبيق لأمر الله سبحانه وتعالى، فقد قال جل شأنه في محكم تنزيله : ژ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ژ (التوبة: 120) .
4. حرصهم رضي الله عنهم على قربه - صلى الله عليه وسلم - .
5. التحسر على فقده صلوات ربي وسلامه عليه وغياب مجالسه عن الصحابة رضي الله عنهم .
6. تبجيله - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمه والقيام بحقه.
7. أدبهم في حال جلوسهم عنده صلوات الله عليه وسلامه .
8. التبرك بأعضائه الشر يفه - صلى الله عليه وسلم - ، وبكل ما يتصل به، بل إن من شدة تعظيمهم له - صلى الله عليه وسلم - وتفانيهم فيه لا يرغبون أن تسقط شعرةٌ من شعره الشريف في الأرض . وهذا غاية التعظيم والتوقير والتفاني .(1/8)
من مظاهر محبة المدينة المنورة نفسها كمدينة للرسول الكريم، إضاءة كل شيء فيها؛ من شدة فرحها، ولم يُر يومٌ أضوأ من ذلك اليوم ولا أجمل؛ وحزنت عليه - صلى الله عليه وسلم - يومَ انتقاله إلى الرفيق الأعلى فأظلمت وأظلمَ كلُ شيء فيها، معبرة عن حزنها العميق، الذي لا يدانيه ولا يقاربه حزن، فلبست لباس الإحداد، والله تعالى المستعان .
لذا صارت المنورة، لأنه اسم مفعول، وقد حصل التنوير، ذلك أن الله تعالى جعل نبيّه المصطفى الكريم نوراً، فقال جل شأنه ژ چ ? ? ? ? ? ? ژ (المائدة: 15) .
ونحن نقتبس هنا ما يلي :
ما أمر الفراق يا جيرة الحي ... وأحلى التلاق بعد انفراد
كيف يلتذ بالحياة معنى ... بين أحشائه كوري الزناد
عمره واصطباره في انتقاص ... وجواه ووجده في ازدياد
مما لا شك فيه أن كل محب فارق أحبابه عاش في واقع الأمر مرارة الفراق . أما إذا التقى المتحابان فعلا ما يصعب ذكره ولا يمكن حصره وتدوينه لأن خلجات الصدور الخفية لا يمكن رصدها في حقيقة الأمر .
محبته - صلى الله عليه وسلم - للمدينة المنورة وقاطنيها
يذكر الكاتب أن الرسول الكريم بادل أهلَ المدينة المنورة " الحبَّ بمثله، بل بأكثر. وبادلهم الودادَ بمثله، بل بأزيد، وبادلهم الشوق بمثله ، بل بأعمق، وبادلهم التفاني والتضحية بمثلها، بل بأغزر . فأعطاهم - صلى الله عليه وسلم - أكثر مماأعطوه،ومنحهم أضعاف مامنحوه، وقدم لهم أضعاف ما قدموه، وأكرمهم أضعاف ما أكرموه، وحرص عليهم وعلى وجودِه عندهم أكثر من حرصهم عليه " .
ولقد ظهرت محبته صلوات الله عليه وسلامه للمدينة المنورة وقاطنيها بمظاهر متعددة كثيرة : فلقد أحب عليه الصلاة والسلام جمادها، وأحب نباتها وأشجارها، وجبل أحد، ووداي العقيق، وتراب المدينة الذي فيه شفاء للأمراض من قرح أو دمل وغيرهما .
حب الرسول - صلى الله عليه وسلم - للأنصار(1/9)
لقد أحب الرسول الكريم إنسان المدينة، ومنهم الأنصار الذين هم أحب الناس إليه . عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : جاءت امرأةٌ من الأنصار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعها صبيٌ لها، فكلمها رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه فقال : ] والذي نفسي بيده، إنكم أحبُّ الناس إليَّ [ مرتين .
والأنصار رضي الله عنهم موضع سره وأمانته عليه الصلاة والسلام وهم شعاره بينما الناس دثار، ولقد جعل النبي المصطفى الكريم الحياة حياتهم، والممات مماتهم، وجعل آية الإيمان حبهم رضي الله عنهم، وآية النفاق بغضهم، فلا يبغضهم إلا منافق، ولا يحبهم إلا مؤمن . عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال : سمعت النبي الكريم صلوات الله عليه وسلامه يقول للأنصار : ] لا يحبهم إلا مؤمن ، ولا يبغضهم إلامنافق، من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله [ متفق عليه (1).
ولقد بلغ الأمر ذروته عندما أخبرهم عليه الصلاة والسلام أنه لولا الهجرة لكان - صلى الله عليه وسلم - واحداً منهم. فعن عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ] لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، ولو سلك الناس وادياً أو شِعباً؛ لسلكتُ ودايَ الأنصار وشعبها [ متفق عليه، واللفظ للبخاري (2).
__________
(1) صحيح البخاري : كتاب الايمان : باب علامة الإيمان حب الأنصار ، وفي غيرهما . وصحيح مسلم : كتاب الإيمان : باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنهم من الإيمان ، رقم (128) .
(2) صحيح البخاري : كتاب التمني : باب ما يجوز من اللو . وصحيح مسلم : كتاب الزكاة : باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام ، رقم (139) .(1/10)
ومن شفقة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأنصار رضي الله عنهم ورحمته وعطفه ومحبته لهم : أن أوصى - صلى الله عليه وسلم - من يلي أمراً من أمور المسلمين بهم خيراً، لأنهم أدّوا الذي عليهم، وعلى المسلمين أن يؤدوا إليهم الذي لهم، مقابل ما قدَّموا،حيث قدَّموا أغلى ما عندهم؛ من مال وسكن وأرواح ودماء، فكان الوفاء أن يقابلوا بالأريحية والفضل والتكريم . ومن محبته - صلى الله عليه وسلم - للأنصار أنه يكثر من الدعاء لهم، ولنسائهم، ولأبنائهم، ولذراريهم، ولأتباعهم، ولمواليهم، ... . وهذا فضل من الله تبارك وتعالى أكرم به الأنصار رضي الله تعالى عنهم على لسان نبيه المصطفى الكريم حيث كان هو الذي يدعو لهم، ودعوته صلى الله عليه وسلم مستجابة بإذن الله تعالى، ولهذا نالوا الفضل والتكريم .
ومن محبة النبي الكريم وتكريمه لأهل المدينة أن هدَّد من يُخيف أهلها – بأي نوع من الإخافة – أن يذوب في النار كما يذوب الملح في الماء، وكما ينماع الرصاص في النار، لأنه ملعون، يلعنه الله تعالى وملائكته والناس أجمعون . وقد اعتبر عليه الصلاة والسلام من أخاف أهل المدينة فقد أخافه هو، لذا استحق هذه العقوبة القاسية الشديدة . ذلك لأن الأصل كما يقول الكاتب هو تكريم أهل المدينة ومحبتهم، لا إخافتهم . فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ] لا يكيد أهلَ المدينة أحدٌ ، إلا انماع كما ينماع الملح في الماء [ متفق عليه، واللفظ للبخاري (1).
__________
(1) صحيح البخاري : كتاب فضائل المدينة : باب من كاد أهل المدينة . وصحيح مسلم : كتاب الحج : باب من أراد أهل المدينة بسوء ، رقم (494) .(1/11)
إن مظاهر محبة النبي الكريم للمدينة المنورة كمدينة كثيرة جداً؛ منها تحريمه لها – بكل مظاهر التحريم ـــ، ودعاؤه بتحبيبها لهم بأكثر من محبتهم لمكة؛ وتغيير اسمها التي كانت تعرف به في الجاهلية من يثرب (1) إلى المدينة وطيبة؛ وإسراعه إذا قدم من سفر ورأى جدرانها؛ ودعاؤه بتصحيحها، لأن المدينة كانت أوبأ أرض الله تعالى فصارت أصح بقاع الأرض؛ وأيضاً دعاؤه بنقل الحمى – القاتلة – منها إلى الجحفة لأن أهلها كانوا من اليهود. فاستجاب الله تبارك وتعالى لنبيه الكريم فنقلها عنها .
ومن محبة النبي المصطفى الكريم للمدينة المنورة، دعاؤه بالبركة فيها، وفي صاعها، ومدها، وثمرها، وأرزاقها، ودعاؤه لها بأضعاف ما دعا به إبراهيم عليه السلام لمكة . فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ] اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما بمكة من البركة [ متفق عليه (2) .
ومن فرط محبته عليه الصلاة والسلام لهذه البلدة المنورة المباركة حثه على سكناها، وعلى عدم الخروج منها – ولو ضاقت على الساكن الحياة – لأنه - صلى الله عليه وسلم - يشفع لمن صبر على لأوائها، وأنها تنفي ذنوب ساكنيها، كما يشفع لمن مات فيها،وحذر الخارج منها – رغبة عنها- بأن الله تعالى يبدلها خيراً منه، ويخشى عليه أن يكون من الخبث، والعياذ بالله تعالى .
ونحن نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا فيها الرزق الحسن، ويجعل مثوانا الأخير فيها من غير ابتلاء ومحنة، إنه السميع المجيب، ونردد قول القائل :
__________
(1) يثرب : من الثرب ، ومعناه : الفساد . ومن التثريب ، ومعناه : التوبيخ والملامة . وكلاهما مستقبح في حق المدينة بعد حلول الطَّيِّب - صلى الله عليه وسلم - فيها .
(2) صحيح البخاري : كتاب فضائل المدينة : باب حدثنا عبد الله بن محمد ، وهو عقب باب : المدينة تنفي الخبث . وصحيح مسلم : كتاب الحج : باب فضل المدينة ، رقم (466) .(1/12)
إلَهي نَجني من كلِّ ضِيقٍ ... فأنت إلهُنا مَولى الجميع
وَهَبْ لي في المدينة مستقراً ... ورزقاً ثم دفناً في البقيع
ومن شدة محبته صلى الله عليه وسلم للمدينة؛ أن كره الموت في مكة، مع أنها بلدُه الذي ولد وترعرع ونشأ فيه، وحرصه الشديد على البقاء في المدينة والحياة فيها، وعدم الخروج منها، وعلى الموت فيها . وأصرح ما يدل على ذلك كما يقول الكاتب اطلاع الله تعالى له أنه سيموت في المدينة قوله صلى الله عليه وسلم : ] ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة [ .
ذكر فيها الكاتب أن لمحبة المدينة المنورة للرسول الكريم عاملين :
(1) عامل ظاهري : ومنه الأمر بمحبته - صلى الله عليه وسلم - ، والأمر من الله تعالى بتوقيره واتّباعه، والنهي عن تقديم هوى النفس ورغباتها على هوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورغباته، وأن الله تعالى امتن على المؤمنين إذ بعث فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وجعله رحمة للعالمين، وهو أهل الوفاء والعطاء والإحسان المتصف بصفات الكمال والجمال . فيقول الكاتب كيف مع ذلك كله لا تستطيع المدينة وأهلها محبته عليه الصلاة وأتم التسليم .
(2) عامل خفي : وهو أن المدينة إذا أحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تكون قد أحبت سيدَها بل سيد الخلق جميعاً، وأفضلها، وقطبَ رحاها،وعين وجودِها، لذا فإنها لا تلام على ذلك.
هذا وذكر الكاتب أن محبة الرسول الكريم للمدينة وأهلها فللمقابلة ليكون ( الحب المتبادل )، فأحبهم كما أحبوه، وفداهم كما فدوه ، ومنحهم كما منحوه، وأكرمهم كما أكرموه، وأحسن إليهم كما أحسنوا، وأعطاهم كما أعطوا .(1/13)
ليس هنالك أجمل من القول، ونحن نأتي إلى خواتيم عرضنا لسجل هذه المدينة الطاهرة والبقعة المباركة تاريخاً ومواضع وآثاراً ومحبة للمصطفى الكريم، خاتم الأنبياء والمرسلين، من أن نقول إن هذه البقعة المباركة وحدها يهفو لها كل مسلم، ترنو مشاعره وأحاسيسه وعيناه إلى هذا المكان الحلم، وليسعد وجدانه بالوقوف أمام قبر أشرف الخلق جميعاً.
إن هذا الكتاب سفر قيم بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، ويستحق القراءة بتمعن وتبصر ودراية وحسن إدراك، ليطوف القارئ بين كلمات الحب السامي ويدخل في دائرة الحب المتبادل .
-(1/14)