الملك عبد العزيز آل سعود
وفقه الدعوة
للدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي
وزير الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الملك عبد العزيز آل سعود، رحمه الله، يعتبر من الشخصيات البارزة في التاريخ الإسلامي كله، ومن أعظم ملوك المسلمين في العصر الحديث، فقد أقام ملكاً، وأسس دولة، ووحد شعباً في شبه الجزيرة العربية، وإذا كان الملوك والسلاطين والرؤساء يقودون بلادهم، فإن القلة النادرة منهم من يقيم الدول، ويؤسس الممالك، كما فعل الملك عبد العزيز، ولم يكن الأمر هيناً، أو يسيراً أمامه في العصر الحديث بالذات، وفي مواجهة قوىً دولية كبرى، ومذاهب وتيارات شتى في الحكم والسلطان، نشأت وظهرت في هذا العصر، وأثرت في القادة والشعوب، ولكن الملك عبد العزيز استطاع أن يحقق إنجازاته الكبيرة من أجل دينه وأمته وشعبه، بعيداً عن كل المؤثرات التي تبعده عن غاياته، أو تثير لديه الشك في قدرته على تحقيق أهدافه.
لقد كانت المؤثرات والأحداث في القرن الرابع عشر، شديدة الوَقْع والتأثير في كثير من الحكام المسلمين، ملوكاً وقادة، فغيرت من تفكير بعضهم، وزرعت اليأس في قلوب الكثيرين.
ففي هذا القرن كانت الهجمة الكبرى على البلاد الإسلامية في المشرق والمغرب، وهي محنة الاستعمار بما يحمله من خراب للعامر من ديار الإسلام، ومن إفساد للعقول والنفوس بين شعوب الأمة الإسلامية.
في هذا القرن كان أمير عربي من آل سعود، يشق طريقه إلى غاياته الكبرى في خدمة دينه وأمته، كان في بداية جهاده حين دخل عاصمة ملكه الرياض(1/17)
سنة 1319هـ، وبدأت مهمته الكبرى، وفاء لشعب الجزيرة العربية، ودفاعاً عن أرض الحرمين الشريفين، وحقها في الوحدة السياسية، وعن حقوق أمته الإسلامية وآمالها، وكان مهيأ لأداء هذه المهمة الكبرى، في شبه الجزيرة، بعد أن ران عليها التخلف الديني والدنيوي عشرات السنين، ولم تقم فيها سلطة سياسية موحدة، فاختلّ الأمن، وتبددت الآمال في عودة أرض الحرمين الشريفين إلى عهدها الزاهر، في نشر الدين، واستقبال المسلمين من الحجيج والمعتمرين، فقد قامت في العصر الحديث دول في المشرق والمغرب العربي، وظلت شبه الجزيرة بعيدة عن التطور السياسي، يتنازع السلطان في قبائلها ومناطقها أمراء يتقاتلون على المغانم.
وفي هذه الأجواء بذل أمراء آل سعود جهدهم في جمع القبائل، والمناطق عوضنا عن التشرذم، والتشتت الذي حرم شبه الجزيرة من سلطة موحدة، تخدم مصالح أهلها، وظهر من آل سعود أمراء كان لهم جهدهم وإسهامهم الكبير في طريق الوحدة السياسية، منهم الإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود المتوفى سنة (1250هـ - 1834م) الذي دخل الرياض، وأدخل "في طاعته" معظم أنحاء نجد.
وكان قد سبق في هذا الجهد أحد أمراء آل سعود الكبار، وهو سعود الكبير، الذي امتدت بلاده من عُمان إلى اليمن، وإلى قرب دمشق، وقد توفي - رحمه الله - عام (1229هـ - 1814م) بعد جهاد ومعارك حالفه في أكثرها النصر، وهو يقف في مواجهة الدولة العثمانية، ومن يعمل باسمها من الولاة في مصر وغيرها.
إن الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، سليل الأسرة العربية التي قوي شأنها في نجد، وعملت على توحيد شبه الجزيرة، وقاومت كل من أراد التسلط عليها من غير أهلها، عمل منذ شبابه الباكر على تحقيق الوحدة في شبه(1/18)
الجزيرة، وتزود بتجارب أجداده العظام، فكان مهيأ لتوحيد شعبه، وخدمة أمته الإسلامية، ولقد كتب الكثيرون من العرب والمسلمين، وغيرهم عن عبد العزيز آل سعود، وعن تاريخ حياته ومعاركه التي خاضها من أجل توحيد شبه الجزيرة، وإقامة ملكه، وإحياء الإسلام في ربوع دولته، كتب الكثيرون عن سيف عبد العزيز، وعن انتصاراته، وعن سياساته في مواجهة القوى الدولية الكبرى في عصره، وعن مواجهته لأهل الفرقة، والتشرذم في شبه الجزيرة، حتى أتم الله عليه نصره، فوحد شبه الجزيرة، وأقام ملكه، وأسس دولته على هدي القرآن، وبقوة السلطان.
لم يكن سيف الملك عبد العزيز - رحمه الله - على مضائه إلا آخر أدواته التي يلجأ إليها حين يعرض خصومه عن دعوة الحق أو صوت العقل، أما سلاحه الأعظم في كفاحه من أجل دينه وأمته، فهو كتاب الله - عز وجل - وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولقد خاض الملك عبد العزيز - رحمه الله - أعظم معاركه، ونال انتصاراته بفضل هدي القرآن، قبل أن يكون ذلك بسيف القوة أو السلطان، هذا الجانب من شخصية الملك عبد العزيز، الغني بالميزات، والثري بالمواهب والخصائص، هو الذي نتناوله حينما نتحدث عن الملك وفقه الدعوة.
لقد أعاد الملك في القرن الهجري الرابع عشر، سيرة ملوك المسلمين الصالحين وسلاطينهم، فقد كان كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أساس ثقافته منذ بداية حياته، ووجه الأصلان "العظيمان" في الإسلام: القرآن الكريم والسنة النبوية، مقاصده وغاياته، وحكمت الشريعة أعماله وتصرفاته، ولا نجد ملكا أو قائدا لبلد إسلامي في العصر الحديث كله، يقترب من هذه المنزلة العظيمة التي بوّأه الله إياها طيلة حياته، بفضل وقوفه دائما تحت رايته وخضوعه دائما لحكمه.
يبدو الخطاب الديني والدعوي في حديث الإمام الملك عبد العزيز آل سعود العام، والخاص ظاهرا، ويبدو الالتزام بشرع الله في أعماله، وتصرفاته(1/19)
واضحاً، فقد تميز خطابه الديني والدعوي بالصدق والإخلاص لله، كما تميز بفهم دقيق للإسلام، وإدراك كبير لمقاصد الشريعة وأحكامها، فقد كان لديه من فقه الدعوة ما يغيب أحيانا عن بعض الدعاة.
والنظر إلى مجمل خطب الملك، وأحاديثه، ورسائله التي وجهها إلى عامة الناس، أو إلى الخاصة من أبنائه، وأتباعه، وعماله يكشف لنا عن الداعية المسلم الصالح في ثياب ملك، فقد اجتمع له هدي القرآن، وقوة السلطان، وحقق الله له ما أراد من هداية العباد، وتوحيد البلاد، والتمكين في الأرض، مصداقاً لقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} . [النور 55] .
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء 105] .(1/20)
فقه الدّعوة والدّاعية عند الإمام الملك عبد العزيز
بين الله تعالى في كتابه الكريم: أن الغاية من وجود الإنسان، وخلقه، هي إفراد الله تعالى بالعبادة، وإخلاص الوجه، والعمل له، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات 56] .
وأن تلك الغاية الجليلة، هي جوهر الرسالات الإلهيّة، ولب دعوة كل الأنبياء قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء 25] .
وقال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل 36] .
وجميع الرسل والأنبياء الذين بعثهم الله - تعالى - إلى البشر، وفي كل الأمم جاهدوا في الله حق جهاده، حتى يُعبد الله وحده لا شريك له، وبلغّوا رسالات ربهم، وكانوا هداة معلمين، ولاقوا في سبيل ذلك العناد والكفر والشطط في القول، والتجاوز في الفعل، وغير ذلك، مما قصه الله علينا في القرآن الكريم في مختلف سوره وآياته، حتى إذا كانت رسالة الإسلام الخالدة، ظل الرسول - صلوات الله عليه وسلامه - ثلاث عشرة سنة في مكة المكرمة يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ونبذ عبادة الأصنام والأوثان والأسلاف، ويزكي نفوس القلة التي آمنت معه، ولقي من الأذى، والعنت والظلم ما ورد ذكره في القرآن الكريم، وما تحفل به كتب السيرة، حتى إذا كتب الله له النصر بعد هجرته إلى المدينة النبوية، وقيام دولة الإسلام الأولى، بدأ الإسلام ينشر رايته في داخل شبه الجزيرة، ودخل الناس في دين الله أفواجا.
كانت المدينة النبوية في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، هي منارة الدعوة، وحاضرة الدولة، وخلال عشر سنوات، وقبل انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى(1/21)
تأسست الدولة، ووضع الرسول صلى الله عليه وسلم بسنته القولية والفعلية والتقريرية أسس الدعوة إلى الله عز وجل.
ومن آيات القرآن الكريم التي تتعلق بالدعوة، وأهدافها، ومقاصدها وأساليبها، ومن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوة الناس إلى الحق، وهدايتهم إلى الرشد بالكلمة، والقدوة والأسوة الحسنة، تكوّن فقه الدعوة، وعلى قدر معرفة الداعي إلى الله بالهدي الإلهي، وحكمة الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة والبلاغ، يكون نجاحه في مهمته، وشدة تأثيره فيمن حوله.
قد ينجح في الدعوة إلى الله دعاة من غير العلماء المتخصصين في علوم الشريعة، أو في تعليمها للناس، وإن كان يلزم الداعي إلى الله أن يكون عالما بأركان الإسلام، وفرائضه، وعارفاً بمقاصده، ومتخلقا بأخلاقه بين الناس.
فالدعوة إلى الله بالكلمة الطيبة، وبالقدوة الحسنة تؤتي ثمارها بين المدعوين، أكثر مما يؤتي كثير العلم إذا فاتت الحكمة، أو غابت الموعظة الحسنة، أو القدوة الماثلة أمام الناس.
إن الهدف الأول من الدعوة هو هداية المدعو إلى الحق، ويأتي بعد ذلك تزكية نفسه، حتى يصير في خلقه وسلوكه مسلما مكتمل الإيمان، وقد تضمن القرآن الكريم مع تعدد المقاصد، وتنوع الأساليب، إحاطةً كاملة بمضمون الدعوة إلى الله، إن المضمون يشمل إعداد المسلم على نحو متميز، والترقي به في نفسه، وفي خلقه بحيث تظهر فيه كرامة الإنسان التي منحه الله إياها.
وفي القرآن الكريم توجيه للإنسان إلى قواعد السلوك التي تضمن سعادته في دنياه، وفوزه في الآخرة؛ ولذلك فإن الخطاب الدعوي يجب أن يتضمن كل ما يؤثر في عقل الإنسان وثقافته، وفي نفسه وفي مشاعره، وفي ملكاته جميعاً، باعتباره كياناً واحداً.
إن الدعوة إلى الله موجهة إلى الإنسان باعتباره أكرم مخلوقاته، كرمه الله في خلقه، فسواه فعدله، ونفخ فيه من روحه، يقول تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ(1/22)
وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء 70] وسخر الله له ما في السموات والأرض جميعاً.
هذا هو المدعو إلى الله، والداعي مثله، وقد يزيد بعلمه، وبفقهه، وخطابه للناس.
فالداعية إلى الله ليس مجرد معلم يلقي إلى المتعلم بمعارف لا علم له بها، ولا يكفي أن يكون موجهاً إلى السلوك والطريق المستقيم في جانب واحد، أو وقت واحد، بل تمتد رسالة الداعي إلى الله إلى تكوين شخصية المسلم التي يعيش بها طوال حياته، ويتميز بها في عقله، وثقافته، وفي نفسه، وخلقه، وسلوكه عن غيره.
ولا يكفي في الداعي إلى الله، أن يحترف هذا العمل، بحيث لا يجاوزه إلى غيره، كما يحترف المعلم التعليم؛ لأن تأثير الداعي إلى الله في المدعوين، يتوقف إلى حد كبير على ميزاته النفسية، وقدراته الشخصية، بعد استعداده العلمي في علوم الإسلام وأحكامه، ولذلك فإن الدعاة إلى الله، ليسوا طائفة من المعلمين فحسب، وقد يوفق أحد الدعاة بسبب ميزاته النفسية، وقدراته الشخصية، أكثر مما يوفق العالم بأحكام الشرع، أو الفقيه المتمكن في فروع الفقه ومسائله.
ولم يكن الإمام الملك عبد العزيز آل سعود - رحمه الله - من علماء الفقه المتخصصين، ولكنه بعد أن تعلم في صباه فرائض الإسلام، وبعد أن جالس العلماء، وجلسوا معه سنوات طويلة، تكوّن لديه إدراك عميق لجوهر الدين، ومقاصده العليا، بحيث أصبح يتميز عن بعض الدعاة في عصره، بأسلوب فريد في الدعوة إلى الله، ينصرف فيه الاهتمام الأكبر إلى دعوة الناس لتحقيق المقاصد العليا للإسلام، وإلى تعليم الناس جوهر الدين ومبادئه، في العقائد والأخلاق، ولعل ذلك هو الذي هيأ له أن يكون ملكاً، وداعية إلى الله، وأن يكون معلماً، ووليا لأمر المسلمين، ويسر له أن يجمع بين أمانة الناصح، وحزم(1/23)
المُلك والسلطان، وبهذا تميز عن ملوك عصره، فلم يكون في عصر الملك عبد العزيز من الملوك أو الأمراء أو الرؤساء والقادة، من اهتم بالخطاب الديني والدعوي مثل اهتمامه، ولا يوجد لأحدهم من له خطاب ديني ودعوي يمثل جانباً كبيراً من جوانب شخصيته، وقد انصرف جهد كثير من الدعاة في عصر الملك عبد العزيز إلى تعليم الناس أحكام الشرع في العقائد والعبادات والمعاملات، بسبب شيوع الجهل بالكثير من أحكام الشرع ومسائله، فضلا عن أن مسؤولية السلطان، وولي الأمر، أعم وأشمل من مسؤولية الداعية، فالدعوة إلى الله أحد جوانب الإمامة الكبرى في الإسلام، يُسأل عنها الإمام، حتى ولو لم يكن يؤديها بنفسه؛ لأنه مسؤول عن الرعية وما يشغلها في حياتها من أمور دينها ودنياها، كما ورد في الحديث الشريف "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" متفق عليه.
وسنستعرض نماذج من الخطاب الديني والدعوي للملك عبد العزيز - رحمه الله - ونراعي في تلك النماذج أن تكون من أقوال الملك، وخطاباته في مراحل حياته، وأن تكون من أحاديثه وخطابه العام، وأحاديثه وخطابه لخاصته من الأبناء والجنود والأتباع أو الوافدين عليه، كما نراعي في الاختيار الأماكن التي وجه فيها الملك خطابه الديني والدعوي، والمناسبة التي صدر فيها الخطاب، ذلك أن الملك عبد العزيز - رحمه الله - كان يدعو إلى الله من خلال ولايته لأمور المسلمين، وإمارته عليهم، ومن خلال موقعه الديني، والسياسي، باعتباره ملكاً للملكة العربية السعودية، ونتيجة لذلك كانت دعوته غير محدودة في مكان أو مناسبة دينية، ولا كانت بصفة درس يلقى على الناس، ولكن كان الملك يدعو إلى الله في خطابه العام أو الخاص أيا كان موضوع الخطاب، ومناسبته، وعلى اختلاف المكان، وتنوع فئات المخاطبين، وكان موقعه الديني، وموقعه السياسي، يتيح انتشار خطابه الديني والدعوي في كل مكان من شبه الجزيرة، وخارجها، وإلى كل المسلمين في العالم الإسلامي.(1/24)
ومن خلال النماذج المختارة من الخطاب الديني والدعوي للملك، نضع أيدينا على الخصائص، والمميزات التي تميز بها هذا الخطاب، والتي تدل على إدراك الملك - رحمه الله - لفقه الدعوة، ومقاصدها، أو بعبارة أدق، لمقاصد الإسلام، واستخدامه الوسائل المناسبة الصحيحة التي يحقق بها هذه المقاصد بين شعبه في المملكة، وبين المسلمين جميعاً.(1/25)
المقاصد العليا للإسلام في خطاب الإمام عبد العزيز
أولا: قضية التوحيد:
إن الملك عبد العزيز - رحمه الله - هو سليل الأسرة السعودية التي أقامت حكمها في نجد وسط الجزيرة العربية في النصف الأول من القرن الثاني عشر الهجري.
وفي عهد الإمام محمد بن سعود - رحمه الله - (1139 - 1179هـ) بدأت الإمامة في أسرة آل سعود؛ لأن إمارته كانت ذات صبغة دينية ظاهرة، فقد ناصر الإمام محمد بن سعود دعوة الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - وأكرمه حين لجأ إلى الدرعية عام 1158هـ 1745م وأيده، وعاونه على إقامة شرائع الإسلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
قال الشوكاني رحمه الله: "قام محمد بنصر العلامة محمد بن عبد الوهاب الداعي إلى التوحيد، المنكر على المعتقدين في الأموات، ومازال يجاهد من يخالفه وكانت تلك البلاد قد غلبت عليها أمور جاهلية، وصار الإسلام فيها غريباً".
ولا يخفى ما قام به آل سعود من جهاد في نصرة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولا مجال للتفصيل في شأن ذلك، فقد تناوله المؤرخون والعلماء والكاتبون لسيرة الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب.
ولاشك أن الملك عبد العزيز كان يدرك أن دولة آل سعود، قامت بنصرة دعوة التجديد التي ظهرت في عهد جده الأعلى الإمام محمد بن سعود، وأن دولة آل سعود كانت مزاجاً متآلفاً من هدي القرآن وقوة السلطان.(1/26)
كان الملك يعرف منذ شبابه الباكر، وقبل أن يدخل إلى عاصمة ملكه الرياض عام 1319هـ - 1902م أنه سليل أسرة قامت دولتها، واستقام أمرها على حماية الدين وأهله، والدعوة إليه في بلاد شبه الجزيرة.
وكان أهم ما يميز دعوة المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، هو الدعوة إلى تحقيق التوحيد في شبه الجزيرة العربية، بوصفه جوهر الدين وأصل فرائضه، وشعائره، وقد أدرك ذلك الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، فتميز خطابه الديني والدعوي بالاهتمام بالمقصد الأول، والهدف الأعظم من الدعوة إلى الله، وهو إخلاص العبادة له عز وجل، ذلك أن عقيدة التوحيد الخالص تأصلت في قلب الملك، فكان شديد المراقبة لنفسه في اتباع التوحيد الخالص من كل شائبة، والدعوة إليه.
وكان من عادة الملك أن يتكلم عن التوحيد الخالص في أحاديثه الخاصة والعامة، رغبة منه في أن يشرح للناس حقيقة التوحيد، وإخلاص العبادة لله عز وجل، وكان يحدّث بذلك في المجالس الخاصة في حضور العلماء، وفي المحافل العامة، وفي مواسم الحج أمام الضيوف والوفود.
يقول الملك - رحمه الله - في خطبة له في المأدبة الكبرى التي أقيمت بالقصر الملكي في 7/12/1345هـ:
"المسلم لا يكون إسلامه صحيحا، إلا إذا أخلص العبادة لله وحده، يجب أن يتدبر المسلمون معنى: لا اله إلا الله، فإن لا إله إلا الله نفي لكل معبود سوى الله، وإثبات العبادة لله وحده، فيجب على الإنسان ألا يشرك مع الله في عبادته نبياً مرسلاً، ولا ملكاً مقرباً، ويجب أن يُتبع المسلمون القول بالفعل، أما القول المجرد فلا يفيد، ما الفائدة في رجل يقول: لا إله إلا الله، ولكن يشرك مادون الله في عبادته: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء 48] .(1/27)
هذا الخطاب الدعوي خير ما يمثل الدعوة إلى التوحيد، وفيه من البيان مع الإيجاز ماينفع العالم والمتعلم، كما أن فيه بياناً لحقيقة التوحيد، وتحذيراً من الشرك أياً كانت مظاهره، وتنبيهاً إلى وجوب العمل بمقتضى التوحيد الخالص، وعدم الاكتفاء بالقول المجرد.
ويقول الملك في نفس الخظاب:
"ومن أعظم الأوامر، توحيد الله - جل وعلا - توحيداً منزهاً عن الشرك، إن الله لم يجعل بينه وبين أحد من خلقه واسطة، فهو يقول: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر 60ٍ] ويقول: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَ رِيدِ} [ق16] .
وفي موسم حج 1348هـ أقام الملك مأدبة للحجاج، تحدث فيها إلى الوفود والضيوف، فقال في التوحيد:
"من ٍالمسائل التي يجب أن نعمل بها في هذا الشأن، وتعد في طليعة خدمة الدين الحنيف، أن نطهر الإسلام من الأدران والخرافات التي علقت بالدين، وهو بريء منها، وإنما ألصقها فيه أناس يبتغون من وراء ذلك النفع المادي".
وهذا الخطاب عند تحليله، وبيان هدفه، يشير إلى الشرك الظاهر والخفي، إن الملك يدعو إلى تطهير عقيدة التوحيد من الخرافات والأدران التي علقت بالدين، ويبين أن من أحدثوا تلك البدع والخرافات في الدين لم يحدثوها اجتهادا، وإنما أحدثوها للنفع العاجل، دون خوف من العذاب الآجل، وفي ذلك بلا شك لفت النظر وتوجيه الفكر لدى العامة والخاصة، إلى أن الابتداع في الدين، له أسبابه الدنيوية، وليس فيه من خدمة الدين شيء.
وفي خطاب الملك الذي تناول فيه ما سبق أمامه من أقوال لبعض الحاضرين في موسم حج 1349هـ يقول الملك الذي يدعو إلى التوحيد الخالص في كل مناسبة يجتمع فيها الناس، لاسيما في أيام الحج:(1/28)
"إني والله لا أحب إلا من أحب الله حبا خالصا من الشرك والبدع، وإني والله لا أعمل إلا لأجل ذلك".
ويقول الملك: "إن سبيل رقي المسلمين، هو التوحيد الخالص، والخروج من أسر البدع والضلالات".
دعوة حكيمة لتوحيد الله، عز وجل، ودعوة تفيض بالمودة وبالحب من الداعي للمدعوين، ومؤيدة باليمين حتى تجتمع القلوب على التوحيد الخالص، قلوب الرعية مع قلب ولي الأمر، والإمام الملك، ولاشك أن المدعوين يسرهم أن يبذل لهم الملك الحب ماداموا محبين لله ورسوله، ويبين الداعي أن الحب الخالص هو ما خلا من البدع والشرك، ويبين الملك لرعيته أن سبيل رقيهم، ورقي المسلمين جميعاً هو التوحيد الخالص، ويدعوهم إلى الخروج من أسر البدع والضلالات، وفي حديث الملك بلاغة في التعبير عن أثر البدع والشرك، وأنه مثل أثر السجن، والأسر على عقل المسلم وقلبه.
وفي اجتماع حاشد في شهر المحرم من عام 1351هـ يقول الملك في وضوح: "أجاهد لإعلاء كلمة التوحيد الخالص، والحرص عليها، وأحب أن أراها قائمة، ولو على يد أعدائي، وإن تمت على يدي، فذلك من فضل الله".
إذن: هدف حياة الملك هو إعلاء كلمة التوحيد، وفي إعلائها الخير كله له ولرعيته، ويعبر الملك عن فرط حبه وتمسكه بهذا الهدف بأنه لو تحقق على يد أعدائه لما كان لذلك أثر في نفسه، فالهدف الشريف الكبير ينبغي أن يتحقق، وعندئذ لا عبرة بشخص من يحققه، وهو يتمنى أن يكون إعلاء كلمة التوحيد على يده حتى ينعم بفضل الله، وقد كان ذلك - والحمد الله - ويؤتي الله فضله من يشاء.
حتى النصر في ميادين القتال أو النصر السياسي، سببه عند الملك عبد العزيز قوة الإيمان، وقوة التوحيد، وهو يدعو المسلمين، ويبشرهم بالخير كله إذا اتفقوا، وعملوا بكتاب الله وسنة رسوله، ودعوا إلى التوحيد الخالص.(1/29)
فمن خطبة للملك تناول فيها حقيقة الدعوة السلفية في شهر ذي القعدة سنة 1351هـ.
يروي الأستاذ محمد حامد الفقي رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية، وهو من علماء الأزهر، في كتابه عن أثر دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الإصلاح الديني والعمراني في جزيرة العرب وغيرها، أنه سمع الملك - رحمه الله - يقول بعد إطفاء فتنة الدويش:
"عندي أمران، لا أتهاون في شيء منهما، ولا أتوانى في القضاء على من يحاول النيل منهما بشعرة: الأول كلمة التوحيد: "لا إله إلا الله محمد رسول الله" اللهم صل وسلم وبارك عليه، إني والله وبالله وتالله أقدم دمي ودم أولادي وكل آل سعود فداء لهذه الكلمة، ولا أضن به.
والأمر الثاني: هذا الملك الذي جمع شمل العرب بعد التفرقة".
إلى هذا الحد كانت دعوة الملك إلى التوحيد، كان إدراكه - رحمه الله - عميقاً أشد العمق لأثر هذه الكلمة في نفس الإنسان المسلم وقدرتها على توجيه عمله، وضبط سلوكه في الحياة؛ ولذلك لم يكن الملك يلقي درسا نظرياً في العقيدة، ولا يفيض في بيان الأدلة والحجج بقدر ما كان يدعو الإنسان المسلم إلى العمل بمقتضى عقيدة التوحيد، بعد أن يترسخ في نفسه مفهوم التوحيد الصحيح، وليس ذلك غريباً على سليل أسرة آل سعود، التي أيد أميرها محمد ابن سعود - رحمه الله - دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب المجدد في شبه الجزيرة، ونجد تأثر الملك بهذه الدعوة الإسلامية في كلمته التي ألقاها بمكة المكرمة بمحلة أجياد في 20 من ذي القعدة سنة 1351هـ:
"نحن لسنا أصحاب مذهب جديد وعقيدة جديدة، عقيدتنا هي عقيدة السلف الصالح".
ثم يقول الملك:(1/30)
"هذه هي العقيدة التي قام الشيخ محمد بن عبد الوهاب يدعو إليها، هذه هي عقيدتنا مبنية على توحيد الله - عزّ وجل - خالصة من كل شائبة، منزهة عن كل بدعة".
هذه نماذج من أقوال الملك الدعوية، وخطبه ومواعظه التي تنصب على التوحيد، والدعوة إليه بمفهومه الصحيح، وحث الناس على العمل بمقتضاه.
ويتبين من تحليلها وضوح الهدف، وهو الدعوة إلى أول ركن من أركان الإسلام، وهو إقامة التوحيد في القلوب والنفوس، وإظهار أثره في الأعمال، كما يتضح فيها أن الملك - رحمه الله - كان يخاطب المدعوين بما يسهل عليهم فهمه، دون إغراق في الشرح والتفصيل وبيان الحجج والأدلة، فذلك مما يخاطب به الخاصة، أو يناقش فيه العلماء، أما الداعية حين يكون وليا للأمر، وقائماً على إرشاد الناس في دينهم، فإن ما يناسب دعوته، أن تكون موجهة إلى رعيته كلهم، وأن تكون واضحة وخالية من التفصيل، وأن تتوجه مباشرة إلى المطالبة بالعمل بمقتضاها، وليس مجرد العلم، أو الاقتناع بها، فإن فائدة العلم الكبرى هي في العمل به، وهكذا كانت دعوة الملك إلى عقيدة التوحيد.
وثمة أمر يتصل بجهد الإمام الملك عبد العزيز آل سعود في الدعوة إلى التوحيد، وهو أن الملك أمر بطبع ونشر كتب عديدة، تتصل بالتوحيد، الذي هو قوام الدين وجوهره، فقد أمر بطبع العديد من الكتب الدينية على نفقته الخاصة، منها كتاب العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية، والقواعد الأربع في التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومجموعة التوحيد، وهي مجموعة رسائل كبرى طبعت ثلاث مرات، وعددها إحدى وثلاثون رسالة ألفها شيخ الإسلام ابن تيمية، والشيخ محمد بن عبد الوهاب، والشيخ عبد الرحمن بن حسن، والشيخ سليمان حفيد الشيخ محمد، وغيرهم.(1/31)
ويقول عبد الحميد الخطيب في كتابه الإمام العادل في الجزء الثاني منه: "فإخلاص العبادة لله، وتوحيده الخالص، واتباع آثار السلف الصالح، هو ديدن جلالته، والشيء الذي امتاز به".
ويقول: "لقد شغلت هذه العقيدة، وهذا الإيمان لبه، فأصبح قوامه بها، واستناده عليها، ومنشؤه فيها، هي غايته، وهي مناه في غدواته وروحاته، وفي مجالسه وخلواته".
ثانياً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
يعتبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من التكاليف المفروضة على الأمة الإسلامية، وهو واجب كفائي، ينبغي أن تقوم به طائفة من الناس في كل مجتمع إسلامي، حتى تقوم الأمة بهذا الواجب، وتبرأ ذمة الحاكم والمحكوم منه، يقول الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران104] .
وهذا الأصل القرآني هو أفضل ضمان لصلاح المجتمع الإنساني والمجتمع المسلم بالذات، ذلك أن أتباع أحكام الدين والنهج القويم، في حياة المجتمع، يحتاج إلى التذكير به، والعمل من أجل بقائه، حتى لا يضعف الاتباع، أو يظهر الابتداع، دون أن يتنبه له القائمون على أمر المجتمع، فيشيع المنكر، أو تظهر المخالفة، فلا تنكر من الناس، وهذا الأصل القرآني له من الصور والوسائل في إقامته، ما يكفل قيام المجتمع الإسلامي بهذا الواجب، ويضمن أن يستمر الإصلاح والتقويم في المجتمعات الإسلامية، بما يمنع من شيوع المنكر، واختفاء المعروف بفعل الابتعاد عن التذكير والنصيحة من العلماء والأمراء، وبفعل ما يطرأ على المجتمعات الإسلامية من التغيير، نتيجة اختلاط المسلمين بغيرهم، وسهولة الانتقال والاتصال بين البلاد الإسلامية وغيرها.(1/32)
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتولاه الأمراء والعلماء، وحتى أفراد الناس لهم نصيب في إقامة هذا الواجب، ولو بمجرد الإنكار القلبي، فالأمراء بما يملكون من ولاية وسلطة يستطيعون الأمر بالمعروف وحمل الناس عليه، والنهي عن المنكر، والإنكار على فاعليه وبيان عقوبة الشرع، والتحذير من التعرض لها من ولاة الأمور، وكل فرد من المسلمين يستطيع تغيير المنكوعقابهم، طبقاً لأحكام الشرع، والعلماء هم أقدر الناس على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالتحذير منه، ر بيده إذا كان مسؤولاً عن ذلك شرعا، كالأب والزوج، ويستطيع أن ينصح أو يلزم من يكون مسؤولا عنهم، وعن رعايتهم بحكم الشرع، وإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحتاج إلى فضل علم، فإن مرد ذلك إلى العلماء، وإذا احتاج الأمر في النهي عن المنكر إلى العقوبة، كان مرد ذلك إلى الأمراء، وإلى أولي الأمر.
وهذا الواجب الكفائي بحث العلماء أدلته من القرآن والسنة المطهرة، وتكلموا عن حكمه ومراتب وجوبه، وما يتحلى به القائم به، والأساليب التي تستخدم في إقامة هذا الواجب في المجتمع الإسلامي، وذلك مبسوط في كتب الفقه وأقوال العلماء.
وإذا نظرنا إلى موقف الملك عبد العزيز - رحمه الله - من هذه الفريضة وجدناه قد قام بها على الوجه الذي يرضي الله تعالى، ويتجلى ذلك في أمرين في غاية الأهمية:
أولهما: حرصه على إقامة الحدود الشرعية، وإنفاذ حكم الله تعالى في عباده، مما كان له عظيم الأثر في اختفاء كثير من المنكرات، ونقصان كثير من المخالفات، كالسرقة، والنهب والسطو، وغير ذلك، فحل الأمن والطمأنينة محل الخوف والوجل، وأمن الناس على أموالهم، وأعراضهم، وقد كان - رحمه الله - أنموذجاً فريداً في إنفاذ حكم الله، ولو على نفسه، أو أقرب المقربين إليه.(1/33)
فقد ادعى شخص أن الإمام عبد الرحمن - رحمه الله - توفي، وعليه في ذمته مبلغ من المال، وطالب الملك عبد العزيز بالوفاء عن والده، وذهب معه بعد صلاة الفجر إلى منزل القاضي سعد بن عتيق، ولما عرف القاضي أن بينهما دعوى، لم يدخلهما منزله، بل أجلسهما على الأرض أمام المنزل، وبعد أن انتهى الحكم لصالح المدعي، انصرف راضياً، وعندها أدخل القاضي الملك عبد العزيز إلى منزله، وقال: أنت الآن ضيفي.
وإن المرء ليقف متحيراً أمام هذا الموقف العظيم، من الملك العظيم، أيعجب من تواضعه والجلوس مع الخصم على الأرض؟ أم يعجب من إنفاذ حكم القاضي، أم يعجب من دقة اختياره رجالاً لا يقدمون على الحق شيئاً ولا يحابون أحداً، ولو كان الملك نفسه، مما يدل على أنهم كانوا يعلمون ذلك من الملك، وأنه لا يقدم على حكم الله شيئاً، وهذا استجابة لقول الله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور51] .
وكان - رحمه الله - يرى أن من أجلّ وجوه المعروف إنفاذ حكم الله، وأن من أسوأ وجوه المنكر الحيلولة دون ذلك.
فقد حكم أحد القضاة على امرأة بالرجوع إلى بيت زوجها، ولكنها هربت إلى منزل أحد الأمراء طلباً للحماية.
ولاشك أن عدم إنفاذ حكم الشرع من أعظم المنكرات التي تجر على المجتمع المسلم من المفاسد، والفوضى مالا يعلمه إلا الله تعالى.
فماذا كان موقف الملك عبد العزيز من ذلك؟
لقد أمر بإنفاذ حكم الله تعالى، وإلا فإنه سيقوم شخصياً بدخول المنزل، وإخراج المرأة، لتنفيذ الحكم.
إنه الأمر بالمعروف في أبهى صوره، وإنه النهي عن المنكر في أبلغ وجوهه(1/34)
الثاني: إنشاء هيئات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
لا ريب في أن الملك لا يستطيع القيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمفرده، لاتساع رقعة الدولة، وامتداد أطرافها، ونظراً إلى أن الملك يدرك تمام الإدراك، أن هذه الوظيفة تمثل صمام الأمان للمجتمع المسلم، وحصنه من تفشي المنكرات، وشيوع الرذائل، فقد أصدر أوامره بإنشاء مراكز حكومية، تكون وظيفتها القيام بهذه المهمة الجليلة.
فأنشأ إدارة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الرياض عام 1336هـ، وتولى رئاستها الشيخ عمر بن حسن رحمه الله عام 1345هـ، ثم أنشأ هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مكة المكرمة عام 1344هـ، ثم تتابع تكوين الهيئات في مدن المملكة.
وعندما صدر نظام الهيئة في عام 1347هـ نص على تأسيس مراكز للهيئة في كل من مكة المكرمة، والمدينة النبوية، وجدة، والطائف، وينبع.
وتظهر عناية الملك بهذه الهيئات، وإدراكه لأهميتها، من خلال المهمات التي أوكلها إليها.
فمن ذلك حفظ الآداب العامة، ومنع المجاهرة بالمعاصي، ومحاربة البذاءة، والفحش، والبدع والخرافات، والإلحاد، وحث الناس على الصلاة، ومساعدة رجال الأمن في ضبط الخارجين عن الآداب العامة.
وهذا يدل على فقه واسع لأهداف الدعوة، وإدراك عميق لمقاصد الشريعة، واستيعاب تام للأسباب التي تحفظ على الأمة مصالحها، وتقيها بفضل الله تعالى ما يضعفها، ويحول دون رقيها وتطورها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين.
أما خطاب الملك الديني والدعوي، فقد اشتمل على جملة من الواجب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لقد أمر الملك بالإخلاص في العبادة، ودعا(1/35)
إلى محاسن الأخلاق، ووجه خطابه إلى خاصته وعامة الناس، ونصح عماله الذين يتولون المصالح العامة لهم، ودعا إلى العلم والعمل الصالح، وحذر من تقليد غير المسلمين، فدعا إلى المدنية الصحيحة على هدي الإسلام، ونهى عن التباغض والتظالم والعدوان بين الناس، وخوّفهم عقوبة الدنيا والآخرة.
وهكذا اجتمع في خطاب الملك الدعوي، ما يسع العلماء والأمراء في واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثالثاً: حرص الملك على مصلحة المسلمين، واستعماله الحكمة والموعظة الحسنة:
لقد كان الملك عبد العزيز - رحمه الله - حريصاً على المسلمين، وتحقيق ما ينفعهم في دنياهم وآخرتهم، مشفقاً على شعبه أولاً بحكم مسؤوليته عنهم، فاتخذ الحكمة والموعظة الحسنة أسلوباً له.
ففي خطبة للملك - رحمه الله - في مكة المكرمة في شهر ذي القعدة 1345هـ دعا الملك أهل مكة إلى شكر النعم، ونبههم إلى أن نعيم الدنيا زائل، وقد يكون فتنة وابتلاء للإنسان، وأن نعمة الإسلام والإيمان هي النعمة الكبرى الدائمة، وذكر الإمام الداعية الناس من أهل مكة بأن الإنسان وولده وماله، كل ذلك يذهب، ولا يبقى للإنسان سوى العمل الصالح زاداً في الآخرة.
ولا يصدر هذا الخطاب الدعوي إلا من داعية يعرف ما يصلح المدعوين في دينهم ودنياهم، وتبدو في الخطاب الموعظة الحسنة من ملك يحرص على سعادة شعبه في الدارين، كما تبدو الموعظة الحسنة في خطبة أخرى للملك، تعرض فيها لتفسير فاتحة الكتاب، وذكر فيها المسلمين بما ورد في القرآن الكريم من آيات الترغيب في التوبة، وآيات التحذير من عاقبة العصيان، وحذر من الفرقة والتخاذل، ودعا إلى التعاون والتناصح.(1/36)
ولم يقتصر خطاب الملك الدعوي على الخاصة أو العامة، وإنما وجهه لطائفة من الناس بين أيديها مصالح الناس العامة أو الخاصة.
وفي خطبة للملك جمع لها كبار الموظفين في الدولة نصحهم - وهو ولي الأمر العام - بالعمل بما في كتاب الله، وسنة رسوله، وذكرهم بمسؤولياتهم عن مصالح الناس، وأنهم خدم لهم، ولا تصح التفرقة بين الناس في تنفيذ أحكام الشرع أو الأنظمة المعمول بها، ثم طلب من عماله، أن يحافظوا على الصلوات، وأن يجتنبوا المحرمات، وألا يختلطوا بأشرار الناس، ثم وجه إليهم كلمة أخيرة استشرف فيها ما قاله من قبل خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق عندما تولى الخلافة، قال الملك لعماله والموظفين الذين يأتمرون بأمره: " إذا عملنا بما أمر الله ورسوله به، فثقوا بنا، وإذا عملنا بما يخالف ذلك - لا سمح الله - فلا تثقوا بنا، والله الهادي إلى الصواب".
وفي تحذير للمسلمين من الانخداع بمظاهر المدنية الغربية البراقة، يقول الملك في إحدى خطبه:
"إذا درسنا حالة الأوربيين وجدنا أنهم يعتصمون بالحديد والنار والكهرباء، وما شاكل ذلك، أما نحن فنعتصم بحبل الله".
ويضرب لهم مثلاً بشخص إنجليزي أغرى أحد بدو العراق بمخالفة أحكام الشرع نظير مال يدفع له، ففعل البدوي ذلك، مما جعل من أغراه يواجهه بالحقيقة المرة، وهي أنه ما غلب الأجانب العرب، والمسلمين إلا بمخالفتهم لكتاب الله، طمعاً في عاجل الأجر من الناس دون خوف من حساب الآخرة.
وينعي الملك - في خطبة له أمام حجاج بيت الله الحرام سنة1349هـ - على بعض المسلمين: أنهم ظنوا أن طريق التقدم هو تقليد الأوربيين، مع أن هذا التقليد لم يكن فيما يعد سببا لتقدم الأوربيين وقوتهم، بل كان للأسف فيما(1/37)
لا يسوغ في الإسلام، ويتساءل الملك عن هؤلاء المقلدين، هل استطاع أحد منهم أن يصنع ما ينتجه الغرب من أدوات وأسلحة؟.
لقد كان الملك من دعاة العصر الذين عرفوا أسباب تأخر الأمة الإسلامية، وعلموا بما يجلبه عليهم تقليد الغرب من مصائب في دينهم ودنياهم، ولم يكن الملك غافلاً عن مواطن قوة أعداء الأمة الإسلامية، فنبه إليها، وحذر من الانخداع بالبهارج، والزخارف التي تزينها المدنية الحديثة، ولا تعود على المسلمين بخير.
لقد اتسمت دعوة الملك بالحكمة والوسطية والاعتدال، فلا مانع لديه من أن نستفيد من غير المسلمين العمل الجدي، والاتجاه إلى تحصيل القوة من مصادرها الحقيقية، مع الابتعاد عن التقليد لغير المسلمين فيما يعد مخالفا لشرع الله، عزّ وجل.
لقد كان عصر الملك يموج بتيارات عديدة ثقافية، واجتماعية، غلب كثير منها على بلاد إسلامية عديدة في المشرق والمغرب العربي، مما جعل الدعوة إلى الإسلام عقيدة، ومنهجاً في الحياة، والاحتفاظ بالهوية الإسلامية، والعربية من أهم ما يشغل الملك، واختار لدعوته أنسب المواقف حين يستقبل حجاج بيت الله الحرام ووفود المسلمين؛ لأن المصيبة عامة، والنصح مطلوب للمسلمين جميعاً في كل أنحاء الأرض.
في خطبة للملك في شهر ذي الحجة سنة 1351هـ حمل الملك على دعاة التفرنج، ونعى على المسلمين التخالف والتخاذل، وذكّر وفود المسلمين بأن المصيبة جاءت من تقليد الغربيين في مظاهر حضارتهم، ونبه إلى أن الإسلام بمبادئه في المساواة بين الناس والتناصح، والتعاون، يكفل لنا مصادر القوة، والمنعة، وحذر من تفشي الجهل في الأمم الإسلامية، ومن الميل إلى تغليب الأهواء حتى من الحكام، والزعماء، ودعا إلى الأخذ بمدنية الإسلام، ودستوره، ونظامه، وأمام وفود الحجاج صرح الملك: بأنه لا يطلب خلافة على المسلمين،(1/38)
ولكن يريد جمع كلمة المسلمين، ولا يبغي العلو في الأرض، ولا الرياسة على الناس.
إنها كلمات داعية، يعرف ما أفسد على الأمة الإسلامية في عصره مصالحها، وأضاع عزتها وكرامتها، إنه التخالف، والتخاذل، واتباع الأهواء حتى من الحكام، وتقليد غير المسلمين، ولا نظن أن ملكا من ملوك العرب أو رؤسائهم في عصر الملك عبد العزيز، كان يجرؤ على مصارحة المسلمين بهذه الحقيقة المرة، ولكنه - رحمه الله - كان يتكلم كلام داعية يبحث في أسباب ضعف المسلمين، ويواجه الناس بها في تجرد عن الهوى، أو طلب للعلو في الأرض بالملك، أو طلب الخلافة على المسلمين، ولقد كان أسلوب الملك في دعوته خير وسيلة؛ لكي يستقبل الناس حديثه برضاء النفوس، واقتناع العقول، واطمئنان القلوب.
وفي منشور للملك وجهه إلى مواطنيه سنة 1360هـ دعا الناس إلى سؤال العلماء في كل مايريبهم أمره، ودعا إلى عدم مخالفة الله - عز وجل - وإلى شكر النعمة، والتناصح بين الناس، وحذر من ارتكاب كبائر الذنوب، كشرب الخمر، والزنا واللواط، وذكر عقوباتها الشديدة في الشرع.
وكان الملك في مجمل خطبه - لاسيما أمام وفود الحجاج - يذكّر بالله، ويحث على الطاعات، ويبين الحلال، والحرام، ويحذر من الفرقة، واتباع الأهواء، ويضرب الأمثال، ويستشهد بالآيات من كتاب الله، وبأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان من مزايا حديثه وخطابه، أنه يتحدث إلى الناس بلغة سهلة، ولا يلجأ إلى التطويل والإطناب، وذكر الأدلة، والبراهين؛ لأنه ما كان يوجه خطابه جدلا أو انتصاراً لرأي معين، بل كان يدعو إلى الله بالحكمة، والموعظة الحسنة، أبناء شعبه، ووفود المسلمين من حجاج بيت الله الحرام.
لا يملك الإنسان المنصف إلا الإعجاب بالملك باعتباره داعية للحق، والإعجاب بأسلوبه الدعوي لغة وموضوعا، ذلك أن خطابه الدعوي في الأمر(1/39)
بالمعروف، والنهي عن المنكر، تناول كل ما يشغل الدعاة في المجتمع المسلم، من الدعوة إلى الإخلاص لله، عز وجل في عبادته، وإلى التخلق بأخلاق الإسلام، والتخلص من الرذائل، والمعاصي، وتذكير المخاطبين بما يصلح شأن الأمة الإسلامية، ويرفع عنها كثيرا من الأغلال، كالتخلف، والضعف، وابتعد أسلوب الملك - لاسيما حين يخاطب وفود الحجاج من البلاد الإسلامية - عن المساس بشعب آخر أو بحكام آخرين، وكان ذلك من الملك تمسكاً بأدب الدعوة والدعاة، مع أن الموضوع الذي يتناوله - وهو موضوع عام وله صبغة سياسية - تناوله بعض الدعاة بما يحرج أو يجرح، أو يتسبب في إيقاع الخلاف والفرقة بين البلاد الإسلامية، مما يزيد من تقدير أسلوب الملك، وهو يدعو إلى الله، ويعلم من موقعه المتميز كثيراً مما يستحق النقد والتجريح في بلاد إسلامية عديدة.
رابعاً: قضية وحدة الأمة الإسلامية:
يُجمع الكتّاب العرب والمسلمون وغيرهم ممن تناولوا سيرة الملك عبد العزيز وإنجازاته الكبرى، على أن تحقيق الوحدة بين البلاد العربية، أو بين بلاد العالم الإسلامي، كان من أهم الأهداف التي سعى إليها، وعمل من أجلها طيلة حياته، ولم يكن دخول الملك عبد العزيز الرياض - عاصمة آبائه وأجداده - هو نهاية المطاف، بل كان البداية لتحقيق رغبته في توحيد شبه الجزيرة، فلم يكن يغيب عن حسه الديني أن شبه الجزيرة سبق أن توحدت سياسياً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وعهد خلفائه الراشدين، وأن مكة المكرمة، والمدينة النبوية - في صدر الإسلام - كانتا ثمثلان حاضرة الإسلام الدينية، لم تكن قضية الوحدة غائبة، ولا كانت خافية إلا على بعض الأمراء الذين استولوا على بعض أطراف شبه الجزيرة، وكذلك على القوى الأجنبية عن المنطقة، والتي تريد استغلال تفرقها وانقسامها السياسي.(1/40)
أما الملك عبد العزيز، ومنذ بداية كفاحه العسكري، والسياسي، فقد كانت وحدة شبه الجزيرة مقصده الأول، وكانت وحدة البلاد الإسلامية - والعربية بالذات - ضمن اهتماماته الكبيرة طيلة حياته.
لذلك لم يكن غريبا أن تظهر قضية وحدة الأمة الإسلامية في خطاب الملك الدعوي ظهورا بيّناً، كما أن تحقيق هذه الوحدة كان من أهم مقاصد الملك الدينية، والسياسية، والخطاب الدعوي للملك في شأن قضية الوحدة - وحدة الأمة الإسلامية - يتميز عن خطاب الدعاة في عصره بشأن القضية نفسها، فالملك لم يكن يلقي دروساً في قضية دينية بمنأى عن الواقع، بل كان ولياً لأمر المسلمين في بلاده؛ ولذلك لم يكن همه أن يؤيد خطابه الديني والدعوي بالحجج العلمية أو النقول، وإنما كان يدخل مباشرة - كما نرى في تحليل خطابه - إلى السند القرآني أو الحديث الشريف، وكان يذكّر المسلمين بما يترتب على وحدة الأمة من خير للمسلمين جميعاً، وما يسببه التشرذم والانقسام من ضرر يعود على مجموع الأمة يبدد قواها، وتضمن خطاب الملك الدعوي تنبيهاً للأمة بما يحيط بها من مخاطر، إن هي أعرضت عن تحقيق الوحدة، ورضيت لنفسها التشتت والتفرق، والانقسام، ولاشك أنه كان في موقعه أدرى الناس بخطر التفرق بين المسلمين في عصره.
سنذكر من خطاب الملك الديني، والدعوي في قضية وحدة الأمة، ما يشهد بتفرد الملك بين ملوك عصره، ورؤساء الدول الإسلامية في نظرته إلى وحدة الأمة الإسلامية، فقد كانت نظرة دينية وسياسية متكاملة، وهي في الوقت نفسه تخلو من التعصب لقومية معينة، ولا تعتز بالعروبة - باعتبارها جنساً - بقدر ما يعتز بها بوصفها قيما وأعرافا مستقرة، تتفق مع أصول الإسلام، وأخلاقه، وهذه النظرة تختلف في أساسها العقلي، عما ساد في عصر الملك من النزوع إلى الاتجاه القومي، بعيداً عن التأسيس الديني لقضية الوحدة، لقد كان الملك(1/41)
دون شك أعظم دعاة الوحدة في عصره، الوحدة بمعناها الديني، والسياسي، وليس الوحدة التي مبناها الجنس أو المصالح المؤقتة وحدها. وهي الوحدة الكاملة الشاملة، التي تشمل وحدة الصف، ووحدة القلوب، ووحدة الثقافة، والعمل من أجل رفع راية التوحيد، وخدمة الأمة الإسلامية.
يقول الملك عبد العزيز في خطبة له في 7/12/1353هـ أثناء موسم الحج:
"إن الله تعالى جعل اجتماع المسلمين في الحج الذي هو ركن الإسلام من جهة، وللتعارف والتآلف من جهة ثانية، وقد هدانا الله تعالى إلى الصراط السوي في أمور الدنيا، والآخرة، فقال في كتابه العزيز: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران103] .
ويقول الملك في نفس الخطاب:
"إن أحب الأمور إلينا أن يجمع الله كلمة المسلمين، فيؤلف بين قلوبهم، ثم بعد ذلك يجمع كلمة العرب، فيوحد غاياتهم ومقاصدهم؛ ليسيروا في طريق واحد، يوردهم موارد الخير، وإذ نحن أردنا ذلك فلسنا نروم إتمامه في ساعة واحدة، لأن ذلك إنما يكون مطلبا مستحيلاً، كما أننا لانرمي من وراء ذلك إلى التحكم في الناس".
إن الخطاب الدعوي للملك في شأن وحدة الأمة الإسلامية، ظاهر في كلمات الملك تمام الظهور.
فهو يرمي إلى وحدة الأمة الإسلامية عن طريق تأليف القلوب، ثم وحدة الشعوب بتوحيد مقاصدهم، وغاياتهم.
والملك يعلم أن وحدة الشعوب، ووحدة الأمة، ليست مطلباً يسيراً أو شعاراً يلقى دون عمل وجهد في التحقيق، فالملك يعلم أن الأمر يحتاج إلى إعداد واستعداد، فصرح في خطابه: بأن تلك الوحدة مطلب عزيز، ولا يجوز أن تطلب في ساعة واحدة، وإلا كان ذلك مستحيلاً.(1/42)
وينبّه الملك سامعيه: إلى أن الوحدة تورد البلاد العربية، والإسلامية موارد الخير.
ويضيف الملك في ذلك الخطاب:
"أكثر الناس يقولون: إن الأجانب هم الذين ضربونا في الصميم، ففرقوا بيننا".
وينكر الملك ذلك، مبيناً أن الضرر والخسران لم يأت إلا من أنفسنا، فنحن المسؤولون عن ذلك، نحن نسعى للتفرقة، ونحن نعمل للبغضاء.
إن الملك كما يتضح من خطابه يدعو المسلمين، والعرب إلى الوحدة، وحدة القلوب، ووحدة المقاصد والغايات، وليست وحدة الأشكال، والمظاهر، وهو ينبه إلى أهمية الوحدة، بل ويصرح بأن المسلمين، والعرب هم أول المسؤولين عن عدم تحققها.
ويقول الملك في خطاب له أثناء المأدبة الملكية التي أقامها لحجاج عام 1362هـ - 1943م: "نحمد الله على أن المسلمين نشأت فيهم روح طيبة، وهي روح تبشر بزيادة الخير بين المسلمين؛ لأنه ما بينهم تخالف، ولا تنافر، ولا تخاذل".
في ذلك الوقت (1362هـ/1943م) كانت دعوة الوحدة العربية، هي نداء الشعوب العربية، وقد قرنها الملك الداعية بوحدة المسلمين، وجعلها وحدة قلوب، ومقاصد وغايات، ولم يحولها إلى وحدة أشكال ومظاهر.
ويقول الملك في كلمة تعد دستوراً لكل من يتطلع إلى وحدة العرب والمسلمين:
"رسالة الوحدة العربية، هي رعاية لمصالح كل مسلم، وكل عربي، ولكن رأيي الذي أدين الله به: أنه لا يتم شيء في الدنيا إلا بالعمل الصالح".
إن الملك الداعية هنا ينبه إلى حقيقة: أن الوحدة - وهي مطلب ديني وقومي – لا تكون إلا بالوسيلة المشروعة، وبالعمل الصالح.(1/43)
ويقول الملك - رحمه الله - في خطاب له في السادس من شهر ذي الحجة عام 1364هـ:
"إن كل كلام لا يتبعه فعل فهو باطل، وإنه لا صلاح للمسلمين إلا باتحادهم واتفاق الكلمة على توحيد ربهم، وإن كل خلاف يجر إلى فرقة وانقسام، والدين يأمرنا بالتمسك بشريعة الله".
ليس غريبا أن يتناول الملك عبد العزيز في خطابه الدعوي قضية وحدة الأمة الإسلامية، فهي من الدعوة، حين تكون شاملة لمقاصد الإسلام العليا إلى جانب أحكامه في الشريعة، ولقد أراد الملك - رحمه الله - أن يرسخ لدى جمهور الناس قضية توحيد الأمة، ودعوة الملك في ذلك تتميز عن دعوة العلماء والدعاة؛ لأنه ولي الأمر، ولأنه هو المسؤول عن تحقيق ما أراده الله لهذه الأمة من وحدة وأخوة.
إن حياة الملك تمثل عملا دائبا من أجل الوحدة العربية، والإسلامية، فقد وحد غالب شبه جزيرة العرب، وقضى على ما فيها من تشتت، وتشرذم أوهن قوتها عشرات السنين، وهكذا تطابق قول الملك مع فعله، وتمثلت دعوته وخطابه الديني في أعماله وتصرفاته، وهذا ولاشك من فقه الدعوة؛ لأن القدوة والمثال أمام الناس أبلغ وأوضح من الكلمات، والشعارات، لاسيما إذا أدركنا أنه في مدة حكم الملك عبد العزيز، الذي امتد نحو نصف قرن من الزمان، لم يكن هناك صوت يعلو بالدعوة إلى وحدة العرب أو المسلمين، فقد كان العرب في هذه الفترة يدعون لاستقلال بلادهم التي استحوذ عليها الاستعمار، ولم تكن الوحدة العربية أو الإسلامية ضمن أولوياتهم الدعوية، ولكن توحيد البلاد العربية والإسلامية، والاهتمام بالمسلمين أينما كانوا، كان من أولويات الملك - رحمه الله - يقول في إحدى خطبه:(1/44)
"إن لنا في الديار النائية والقصية إخوانا من المسلمين، والعرب نطلب مراعاتهم، وحفظ حقوقهم، فإن المسلم أخو المسلم، يحنو عليه، كما يحنو على نفسه في أي مكان، وإنني أؤكد لكم أن المسلمين عموماً، والعرب خصوصاً كالأرض الطيبة، كلما نزل عليها المطر أنبتت نباتاً حسناً".
كان ذلك في معرض كلام الملك عن حقوق المسلمين التي في عنق الدول الأجنبية، ويقول الملك في وضوح وبلسان العرب والمسلمين: "ولي الأمل الوطيد في أن الحكومات المحترمة ذات العلاقة بالبلاد العربية، والإسلامية، لا تدخر وسعا في أداء ما للعرب، والمسلمين من الحقوق المشروعة في بلادهم".
هكذا يطلب الملك الداعية من دول العالم، أن ترعى حقوق كل العرب وكل المسلمين.
ولا نكاد نرى خطاباً لملك من الملوك العرب في عصر الملك عبد العزيز، يتكلم فيه باسم العرب، والمسلمين جميعاً في مواجهة دول العالم، ولكن الملك دعا إلى ذلك في خطاب عام، وأمام جماهير العرب، والمسلمين.
هكذا كانت الدعوة إلى وحدة العرب، والمسلمين في خطاب الملك عبد العزيز الديني، والدعوي، ولاشك أن كلماته كانت تكتسب قوة، وتأثيراً من موقعه الديني إماماً للمسلمين في المملكة العربية السعودية، ومن موقعه السياسي، ملكاً بين أقرانه من الملوك، والرؤساء العرب، والمسلمين في عصره.
خامساً: القدوة الحسنة:
نعني بالقدوة الحسنة: أن يكون الداعية ذا سيرة منبثقة مما يدعو إليه، وصاحب سلوك مهتدٍ بما يرشد إليه، لتكون أعماله مزكية لأقواله، وأفعاله مؤيدة لدعوته؛ فإن ذلك من أعظم ملامح فقه الدعوة إلى الله، وأبرز معالم المنهج الذي سار عليه الأنبياء، والمرسلون، فقد كانوا - صلوات الله(1/45)
وسلامه عليهم - أحرص الناس على التمسك بما إليه يدعون، وأشد الخلق امتثالاً لما إليه يرشدون، فهؤلاء أهل مدين يتوعدون نبي الله إليهم شعيباً، والذين آمنوا معه بالإخراج، إن لم يعودوا في ملتهم، فيقول لهم نبيهم شعيبٌ عليه السلام:
{أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} [الأعراف88-89] .
ويقول لهم: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود88] .
حتى إذا كان خاتم الأنبياء، والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، كان إمام الأولين والآخرين في الاعتصام بحبل الله تعالى، والتمسك بوحيه، والتخلق بأخلاق القرآن، والتأدب بآدابه، حتى كان خلقه القرآن، كما وصفته عائشة رضي الله عنها، وقال الله تعالى في وصفه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم4] .
فلا عجب أن أمر الله تعالى كل مؤمن ومؤمنة يرجو الله واليوم الآخر، أن يقتدي به، ويتأسى بشمائله العظيمة:
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب12] .
وقد أدرك الملك عبد العزيز - وهو الداعية المصلح، وولي الأمر - ما للقدوة الحسنة من أثر عظيم في نفوس المدعوّين، وأن الداعية الناجح هو الذي يهدي إلى الحق، ويدل عليه، وإن لم ينطق بلسانه، كما هداه فكره الثاقب، وفقهه الواسع، إلى أن القدوة الحسنة في حقه آكد، وأكثر تأثيراً، وأعمق نفعاً ذلك أن الناس مجبولون على مراقبة أفعال القادة، والكبراء، ومولعون بالاقتداء بهم، والتأسي بأعمالهم؛ لما لهم من المكانة العالية، والمنزلة الرفيعة.(1/46)
من أجل ذلك - وامتثالاً لأمر ربه تعالى - كان - رحمه الله - عاملاً بما يعلم قائما بما يدعو إليه، فكان نموذجاً حيا للمبادئ التي يؤمن بها، مما جعله في قدوته، وأفعاله أكثر تأثيراً، وأبلغ وعظاً منه في كلامه وخطبه.
دعا - رحمه الله - الناس إلى توحيد العبادة لله وحده لا شريك له، وإخلاص الوجه والعمل له - كما أسلفنا - وكان مع خاصة نفسه أحرص الناس إلى توحيد الله تعالى، وعدم صرف شيء من العبادة لغيره، ولم يكن يحابي أحداً، أو يجامله في هذا الأمر الذي يعد أصل الأصول، وجوهر الدين، ولبّ الإسلام، ولو كان من يخاطبه زعيماً من الزعماء، أو قائداً من القادة، فقد التقى يوما زعيماً عربياً، وفي أثناء الحديث أراد هذا الزعيم التوكيد على مسألة معينة، فقال: وحياة رأسك.
فرمقه الملك بعين لا تقر إلا بتوحيد الله تعالى، وقال له: قل والله؛ لأن الحلف بغير الله شرك.
ولم يكن شيء من الأفعال أبغض إليه مما يفضي إلى الإشراك بالله تعالى، أو المساس بمقام التوحيد، يقول علماء عصره الذين أدركوا ما كان عليه الأمر قبل ولايته من استفحال الشرور، وانتشار الشرك، وما صار إليه الأمر بعد ولايته، يقولون:
"منّ الله في آخر هذا الزمان بظهور الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، وما منّ الله به في ولايته من انتشار هذه الدعوة الإسلامية، والملة الحنيفية، وقمع من خالفها، وإقبال كثير من البادية، والحاضرة على هذا الدين، وترك عوائدهم الباطلة، وكذلك ما حصل بسببه من هدم القباب، ومحو معاهد الشرك، والبدع، وردع أهل المعاصي، والمخالفات، وإقامة دين الله".
دعا - رحمه الله - إلى التمسك بدين الله تعالى، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، وقد كان أسوة حسنة، وقدوة حكيمة في كل ذلك.(1/47)
فقد كان وقته عامراً بذكر الله، وطاعته، يروي المؤرخون، ويتناقل معاصروه: أن الملك عبد العزيز كان يستيقظ قبل الفجر بساعة أو أكثر، يملؤها بقراءة القرآن، والتهجد، فإذا أذن الفجر أدى الصلاة في جماعة.
وبعد الفراغ من التسبيح، والأوراد يهجع إلى أن تشرق الشمس.
ويروي أحد من عاصره، وعمل معه، أن الملك عبد العزيز كان يقسم الليل ثلاثة أثلاث، فبعد صلاة العشاء يستمع إلى القرآن، وكان يقرأ عليه أحد المشايخ، وبعد انتهاء قراءة القرآن يذهب إلى المكتب في القصر نفسه، فيعمل ويصرف شؤون الدولة، وبعد ذلك يأوي إلى النوم حتى الثلث الأخير من الليل، ثم ينهض، ويمر في جوارنا - ونحن نيام - وهو ذاهب إلى مكان الوضوء، ثم يعود إلى غرفته؛ ليصلي صلاة التهجد، ويستمر حتى أذان الفجر، فيوقظنا للصلاة.
وكان من فقه الملك عبد العزيز، وسعة علومه: أنه كان حريصاً على دعوة الناس إلى المحافظة على الصلاة في أوقاتها مع جماعة المسلمين، وكان أحرص الناس على ذلك؛ ليقتدي به شعبه.
كان يفرغ من صلاة الفجر، ويلتفت يمينا ويساراً يتفقد المصلين، ويحصي من حضر ومن تخلف عن المسجد، وعندما يشك في غياب أحد دون عذر، يرسل إليه واحدا من حراسه لإحضاره، ويسأله عن عذره، فإذا جاء بشيء مقنع أخلى سبيله، وإلا أمر بمعاقبته، ثم يلتفت إليه قائلاً:
"يا ولدي، الدنيا ليست بدار قرار، فلا تتهاون في صلاتك، ولا تتكاسل عنها، فالصلاة ركن الدين، وصلة الإنسان برب العالمين، من ضيعها ضيعه الله، وباء بغضبه ولعنته".
إنها كلمات فقيه داعية، امتزج فيها حزم ولي الأمر، برفق الوالد الرحيم، وموقف عظيم اجتمع فيه وعظ العالم، وقدوة الراعي، وأسوته، وما أخلق هذا(1/48)
الأسلوب، وأجدره أن يؤتي أكله، وينفذ، ليخالط بشاشة القلوب بدون استئذان.
كان - رحمه الله - حامل لواء الدعوة إلى توحيد صفوف المسلمين بعامة، والعرب بخاصة، فماذا كان موقفه العملي من ذلك؟
لقد كان - رحمه الله - قدوة عصره في ذلك، وأسوة زمانه، فمنذ أن استعاد الرياض عام 1319هـ، وهو يصل الليل بالنهار، ويقطع الفيافي والقفار، ويبذل النفس، والنفيس في سبيل توحيد شبه جزيرة العرب، ولم شعثها، وجمع شتاتها، في تصميم لا يكل ولا يمل، وعزيمة تفل الحديد، وتلين لها الجبال، ولقي في سبيل ذلك من الشدائد، والصعاب مالا يثبت له إلا صناديد الرجال، الذين يبتغون بجهادهم وجه الله تعالى، والدار الآخرة، حتى أتم الله له مراده، وحقق له غايته بتوحيد أغلب شبه الجزيرة تحت راية: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
فكان بذلك أسوة حسنة، وقدوة صالحة لكل داعية يروم وحدة الأمة، ولكل مصلح يدعو إلى توحيد المسلمين، واعتصامهم بحبل الله تعالى، ونبذ الفرقة والتشرذم، والشتات؛ ليعود للأمة الإسلامية مجدها وعزتها وهيبتها.(1/49)
الخاتمة
في الصفحات السابقة استعراض سريع لجوانب من جهد الإمام الملك عبد العزيز - رحمه الله - في الدعوة إلى الله، وحديث عن أهم ما شغل الملك في رسالته الدعوية، وهي قضايا بالغة الأهمية في حياة الأمة الإسلامية، بل إنها قضايا حياتها كلها في كل العصور.
إن قضية التوحيد هي جوهر الأديان، ولب الملل، وأصل الإسلام، وهي ما تميز الأمة الإسلامية عن غيرها من الأمم غير الإسلامية السابقة أو المعاصرة، وبعد ذلك تأتي قضية تزكية النفس، وتقويم السلوك بإقامة فريضة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهذا الواجب هو الوسيلة العظيمة في الإسلام لإصلاح المجتمعات الإسلامية، ومراقبة تطورها إلى الأفضل في كل العصور.
ولم يكن الملك - رحمه الله - مجرد داعية من الدعاة إلى الله، بل كان ولي أمر المسلمين في المملكة العربية السعودية، وهي الولاية العامة، والإمامة العظمى؛ وكان اهتمامه بالأمة الإسلامية كلها، وبالمسلمين جميعاً في أنحاء الأرض، مما يجعل ضمن مهماته النظر في شأن الأمة الإسلامية كلها، وما ينوبها من أحداث؛ ولذلك تضمن خطاب الملك الدعوي: قضية وحدة الأمة الإسلامية، التي أمر الله بها في قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران103] .
وهذه القضايا الثلاث: توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة، والتحذير من الشرك الأكبر، والأصغر، وقضية: تزكية نفوس المسلمين على هدي الإسلام، وقضية العمل على توحيد الأمة الإسلامية، وجمع كلمتها، هي التي استأثرت بجملة خطاب الملك الدعوي في مراحل جهاده كلها، والملك وإن كان ضمن مسؤولياته التوجيه، والإشراف على عمل الدعاة إلى الله، إلا أنه كان نمطاً فريداً(1/50)
من الملوك، والرؤساء، وأولي الأمر في العصر الحديث، حين جمع في قيادة شعبه، وتوجيهه بين أمر السلطان، ونصح الداعية والإمام، لقد فعل ذلك؛ لتميزه في النشأة الدينية الخالصة منذ الصغر، ولأنه سليل الأسرة السعودية التي أقامت دولتها على هدي القرآن منذ البداية، فلم يكن غريباً أن يتميز الملك عبد العزيز، رحمه الله، بين ملوك البلاد الإسلامية، وقادتها بخطابه الديني، والدعوي، وأن يتضمن هذا الخطاب أهم ما يشغل المسلم، الفرد والأمة.
وقد هيأ الله للملك من الكياسة، وحسن السياسة، وفقه الدعوة ما جعله يخاطب في كثير من الأحيان وفود المسلمين، من عامة الناس وخاصتهم - لاسيما في مواسم الحج - فلا يخرج خطابه الدعوي عن الهدف الأصيل، وهو الدعوة إلى الله تعالى على بصيرة، غير ناظر إلى هدف آخر، يتصل بسلطانه أو بشخصه أو حتى بشعبه، فقد تجرد الملك كما مر في الكثير من أقواله عن كل هدف إلا الدعوة إلى الله، وإصلاح حال المسلمين، وإبداء النصح لهم، ولم ينتظر من خطابه الدعوي أجراً إلا من الله عزّ وجل، عملاً بقوله تعالى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ} [سبأ47] .
وهذا أول ما يميز الداعي إلى الله على بصيرة، اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم، وقد دعا الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود إلى الله، وهو ملك، ويده هي العليا، فلا يكون أجره - كما نرجو - إلا من الله عزّ وجل.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم.(1/51)
مصادر ومراجع
...
مصادر الأقوال التي نقلت من خطاب الملك الديني والدعوي
الكتب التي تناولت سيرة الملك المؤسس - رحمه الله - ومن أهمها:
- الإمام العادل الملك عبد العزيز. لعبد الحميد الخطيب.
- الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز. لخير الدين الزركلي.
- الملك الراشد. لعبد المنعم الغلامي.
- توحيد المملكة العربية السعودية. لمحمد المانع - ترجمة عبد الله العثيمين.(1/52)