الجنادرية
مهرجان الثقافة والفكر
ملاحظات ومشاهدات وانطباعات وذكريات
تأليف
د. مازن مطبقاني
الطبعة الأولى
1425هـ/2004م
بسم الله الرحمن الرحيم
فهرس المحتويات
المقدمة
هل نتعلم من الجنادرية؟
نموذجان للمؤتمرات العلمية في العالم العربي.
الدعوة ومنهاهجها والمسرح وقضاياه (مهرجان الجنادرية لعام 1410هـ )
أيام الجنادرية: المسلمون والغرب
الجنادرية وندوة الإسلام والغرب
الجنادرية: الإسلام والشرق
هذا هو الإسلام: تقرير عن المناشط الثقافية في مهرجان الجنادرية الثامن عشر
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
…كم للحرس الوطني من مفاخر، ومن أبرزها المهرجان الوطني للتراث والثقافة، فقد كان ومازال مهرجاناً ثرياً بما فيه من موضوعات وبمن يحضره من كبار العلماء والمثقفين في العالم الإسلامي، وأكاد أزعم أنه لم يحظ مهرجان شعبي بمثل هذا الحضور، أليس حضور كبار العلماء من المملكة ومن خارجها يدل دلالة واضحة على أهمية هذا المهرجان. وأذكر من حضوره والمشاركين فيه من كبار العلماء في المملكة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، والشيخ محمد العثيمين رحمه الله، والدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، وابن منيع وغيرهم كثير. أما من أنحاء العالم الإسلامي فقد حظي المهرجان بحضور الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، والشيخ يوسف القرضاوي، ومحمد قطب، وراشد الغنوشي، وفتحي يكن وغيرهم، وحضره شخصيات عالمية من بينها ولي العهد البريطاني الأمير شارلز، وحضره من كبار الباحثين الغربيين من أمثال جون اسبوزيتو وبول فندلي، وصموئيل هتنقتون. ومن كبار الشخصيات المسلمة العالمية من أمثال مراد هوفمان، وخالد يحي بلانكنشب وغيرهما.(1/1)
…أما فعاليات المهرجان الثقافية فإنها تناولت موضوعات أدبية بحته في عدد من الدورات ففي الدورة الأولى(1405هـ) كان من بين الموضوعات "بين الأدب الشعبي والأدب الفصيح" كما عقدت ندوة حول الأدب السعودي. وفي المهرجان الثاني كان من بين الموضوعات القصة القصيرة في الجزيرة العربية، كما تناولت إحدى الندوات الخصومات الأدبية بدايتها ودوافعها وغايتها.
…ونال التراث الشعبي اهتماماً واسعاً في المهرجان الثالث حيث عقدت عدة ندوات ومحاضرات حول الموروث الشعبي العربي وعلاقته بمخيلة المبدع، وجوانب أخرى في الموروث الشعبي. ونال الأدب والمسرح اهتمامات الدورات الأخرى مثل الدورة السادسة التي تناولت المسرح، والفن المسرحي في العالم العربي، كما تناولت لغة المسرح وموضوعاته، وخصت التجربة المسرحية في السعودية بندوة. وكان الاهتمام بالشعر ولغته والخيال فيه أحد محاور المهرجان السابع.
…ولكن مما يلفت الانتباه حقاً الموضوعات الفكرية العميقة التي تدل على حسن الاختيار من القائمين على المهرجان، ومواكبة الاتجاهات الفكرية العالمية، والعناية بقضايا الأمة الإسلامية بصفة خاصة. وتناولت هذه الموضوعات أموراً عقدية، وتشريعية وسياسية واقتصادية واجتماعية.
…فيحمد للمهرجان عنايته بقضايا الأمة حيث كانت قضية فلسطين أحد موضوعات المهرجان الرابع تحث عنوان "فلسطين صراع حضاري"، كما عقدت ندوة بعنوان "الحركات الإسلامية المعاصرة بين الإفراط والتفريط" وفي الاتجاه نفسه كان الحديث في المهرجان السادس حول "منهج الإسلام في الدعوة" و"الثوابت والمتغيرات في ثقافة الأمة"،و "أزمة الفكر السياسي العربي في التعامل مع القضايا الكبرى".(1/2)
…ولمّا كانت الحضارة السائدة اليوم هي الحضارة الغربية، وتأثر هذه الحضارة في بدايتها بالإسلام بل اعتمادها على منجزات الحضارة الإسلامية، فإن موضوع العلاقة بين الإسلام والغرب هو موضوع حيوي لا بد من تناوله، فخصصت له دورتان هما الحادية عشرة والثانية عشرة، ودعي في هاتين الدورتين بعض كبار المثقفين والمفكرين في الغرب من أمثال جون اسبوزيتو، وبول فندلي والأمير تشارلز.
…ومن متابعة المهرجان للقضايا الفكرية العالمية الكبرى ظهور العولمة، وانتشار فكرة فوكوياما حول نهاية التاريخ ، ونظرية صموئيل هاتنقتون "صراع الحضارات" فدعي عدد من الباحثين للحديث في هذه القضايا.
…وقد أتيحت الفرصة لي لحضور عدد من هذه الدورات أولها الدورة السادسة عام 1410هـ ، ثم لما كانت الدورة الحادية عشرة حول الإسلام والغرب، سعيت بجد لأكون من بين الحاضرين، ووجهت إلي دعوة كريمة من إدارة المهرجان، وتوالت الدعوات الكريمة لي في السنوات التالية حتى تم اختياري في عام 1423هـ لأكون عضواً في لجنة المشورة.
…وخلال هذه السنوات كتبت مقالات لصحيفة المدينة المنورة، كما أعددت تقارير علمية حول بعض دورات الجنادرية، وهي في الحقيقة تستحق دراسة أوسع وأعمق، ولكني أحببت أن أقدم بين يدي القارئ الكريم هذه الخواطر والأفكار آملاً أن أكون قد وفيت بعض حق الجنادرية علي وعلى المثقفين في بلادنا المباركة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
……………………
……………مازن مطبقاني
……… الرياض في 27رجب 1425هـ
…
هل نتعلم من الجنادرية؟(1/3)
لقد سنّت الجنادرية سنة حسنة منذ بدايتها بدعوة التيارات الفكرية المختلفة لندواتها وفعالياتها المختلفة بالرغم من حرص بعض الاتجاهات على الاستئثار بالحضور والمشاركة ،لكن القائمين على هذا المهرجان الكبير والحمد لله يتمتعون ببعد نظر وسعة أفق فنجحوا أيما نجاح في مشروعهم. وقد صرّح كثير من حضور الجنادرية أنهم لم يلتقوا مثل هذا الحشد في أي ملتقى فكري عربي أو غير عربي. وقد يقول مثل هذا القول من يحضر الجنادرية مرة واحدة فكيف بمن حضرها عدة سنوات.
وقد بدأتُ حضور الجنادرية ومناشطها المختلفة منذ عام 1410هـ، حين كانت الندوة الكبرى الأدبية بعنوان (الموروث الشعبي وعلاقته بالإبداع الفني والفكري في العالم العربي)، كما تضمنت الندوة الكبرى ندوات فكرية منها: "الاتجاهات الفكرية في العالم العربي وأثرها على الإبداع"، وندوة "أزمة الثقافة العربية" وندوة "منهج الإسلام في الدعوة"، وغيرها من الندوات. وقد كان من توفيق الله عز وجل أن كلّفت من قبل عمادة البحث العلمي بحضور الندوات وكتابة تقرير علمي عن المناقشات. فاستمعت أولاً لأفهم وأستفيد، وثانياً لأعد تقريراً وافياً عن المناقشات والمحاضرات. وقد جاء التقرير في أكثر من أربعين صفحة وذلك لتعدد المحاضرات والندوات.
وقد كنت والجنادرية كما قال الشاعر (وجد قلباً خالياً فتمكنا..) فمنذ ذلك المهرجان وأنا حريص على الحضور، وقد كانت الدعوة ترسل باسمي خطأ إلى جدة فلم يتيسر لي حضور بعض السنوات، حتى كانت الندوات حول الإسلام والغرب فكتبت إلى القائمين على المهرجان برغبتي في الحضور لأفيد من حضور الندوات وكان المسؤولون غاية في الكرم فاستجابوا لطلبي وبدأت تصلني الدعوة في كل عام.(1/4)
ذكرت أن الدرس الأول من الجنادرية هو دعوة جميع الاتجاهات الفكرية في العالم العربي الإسلامي لحضور الندوات والمشاركة في الندوات والمناقشات. وقد عرف عن ندوات الجنادرية دائماً سعة الأفق، وبعد النظر، والتسامح مع جميع الآراء. فقد عرف القائمون على الجنادرية أن من أبرز العوائق التي تقف في وجه وحدة الأمة وتماسكها هو هذا التشرذم الذي أحدثته الانقسامات الفكرية في العالم العربي منذ الغزو الاستعماري الغربي الذي أنشأ المدارس الأجنبية في البلاد العربية، بالإضافة إلى البعثات العلمية التي أثرت في عدد من المبتعثين فعادوا يحملون أفكاراً غريبة على هذه الأمة من قومية مغرقة في التعصب إلى اشتراكية وشيوعية وغيرها.
ولم تقف الانقسامات على ما حدث بسبب الاستعمار، فإن محاولة الغرب التأثير الفكري في العالم العربي استمر حتى بعد انحسار الوجود الغربي العسكري في البلاد العربية، فظهرت الدعوات إلى العلمانية ومحاربة الدين وأن الدين إنما هو أفكار محنطة جامدة، حتى كان من صور محاربتهم للدين الإسلامي أن أصدر أحدهم كتاباً بعنوان (نقد الفكر الديني) الذي نسب هزيمة العرب الساحقة في حرب (1967م) 1387هـ إلى تمسك الشعوب العربية بالدين، ولو أنصف لعرف أن غياب الدين هو السبب في هزيمتنا؛ فالعرب في تلك المعركة كانت تقودهم الأفكار العلمانية والقومية بل إن الحرب على الدين كانت على أشدها في تلك الأيام ولم يقف في وجه المد العلماني القومي الغوغائي سوى الملك فيصل رحمه الله تعالى وبعض القيادات العربية الإسلامية القليلة. فكانت إذاعة المملكة العربية السعودية تدعو إلى التضامن الإسلامي، وكان موسم الحج مناسبة لنشر الكتب وتوزيعها وبخاصة تلك التي توضح خطورة الاتجاهات الفكرية المعادية للإسلام.(1/5)
وهاهي الجنادرية تدعو إلى الانفتاح والحوار الحقيقي الذي يتشدق به كثيرون، ولكنه انفتاح لدى هؤلاء على الغرب وعلى الفكر الغربي، أما إذا كان الحوار مع الداعين إلى الإسلام على بصيرة فإنهم لا يسمحون لهم إلاّ بأقل القليل من المساحة في صحافتهم أو إذاعاتهم أو قنواتهم الفضائية المختلفة. وكنت حين أستمع إلى الاتجاهات المختلفة من منبر الجنادرية الفكري أقول في نفسي حبذا لو أعددنا ميثاقاً أو بياناً، أو ألفنا لجنة متابعة حتى لا يتوقف الانفتاح وسعة الأفق على الأيام القليلة التي نقضيها في الجنادرية. فتمنيت أن لا تنتهي الجنادرية حتى تكون الدعوة قد وجهت من عدة صحف عربية لكتاب من المملكة أو من أي دولة عربية للمشاركة في الكتابة ممن يختلفون عن مشارب هذه الصحف أو وسائط الإعلام المختلفة. كما لاحظت أن بعض القنوات الفضائية تستضيف أشخاصاً معينين فإحدى تلك القنوات دعت عدداً من المتحدثين من جنسية معينة للحديث فيها مع أن هذه القنوات أصبحت عربية ليس في إدارتها وتوجيهها ولكن في تمويلها فنحن العرب نسهم في التمويل عن طريق البضائع التي يعلن عنها في هذه القنوات.
نعم لاحظت أن ضيوف الجنادرية وبعض الاخوة من الصحفيين العاملين في الصحف المختلفة تجذبهم بعض الشخصيات المعروفة ويركزون عليها مع وجود شخصيات مهمة من مختلف الاتجاهات. كما أن أصحاب كل اتجاه كانوا يجتمع بعضهم مع بعض. وهذا مصداق لحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم (الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف).(1/6)
وهنا لا بد من الإشادة بالتلفزيون السعودي والإذاعة السعودية على سعة أفقهم ونشاطهم الكبير في أثناء المهرجان؛ فقد كانوا حريصين جداً على استضافة أكبر عدد ممكن من الضيوف ليتحدثوا في شتى مجالات تخصصهم، بالإضافة إلى الحديث عن انطباعاتهم عن الجنادرية وفعالياتها المختلفة. وأذكر من المدينة المنورة الأخ أحمد أبو عزة الذي كان يتنقل في أرجاء الجنادرية يجري الحوار بأسلوب المحاور المتمكن. ولا بد من ذكر الأستاذ عبد الملك عبد الرحيم، فقد استعد هذا العام بإعداد استديو مصغر في إحدى غرف الفندق مع المهندس سليمان الخليفة وأخذ ينتقل في أرجاء الصالة الرئيسية لفندق قصر الرياض ويدعو بعض الأساتذة لتقديم ندوات حول شتى الموضوعات. وقد أعجبني أسلوبه في اختيار الموضوعات والتشاور مع الضيوف حول محاور الموضوع. ثم ينطلق بقوة واقتدار في إجراء الحوار. وأذكر الأستاذ جبريل أبو ديّة على نشاطه أيضاً في قاعة الملك فيصل للمؤتمرات، وكذلك الأستاذ سليمان العييدي الذي كان له أيضا استديو خاص به في الفندق.
…ذكرت في الأسطر السابقة أن الدرس الأول الذي يمكن أن نتعلمه من الجنادرية كل عام هو درس التسامح بدعوة جميع الاتجاهات الفكرية سواء شاركت في الندوات والمحاضرات أو لم تشارك. وقد وجدت أن العديد من الكتّاب قد نوهوا بهذا الأمر ومنهم على سبيل المثال لا الحصر الدكتور يوسف نور عوض في مقالته يوم الجمعة قبل الماضي حيث كتب يقول: "لو كان للجنادرية فضل واحد هو تحريك العقل العربي بعد سكون طويل لكان ذلك فخراً لها، ولكن للجنادرية فضائل كثيرة أهمها روح التسامح التي تعلو فوق التضاد والاختلاف؛ ذلك أن الجنادرية هي المهرجان الثقافي الوحيد في العالم العربي الذي تلتقي قه الاتجاهات المختلفة دون حساسية ودون أن يكون هناك إكراه في الرأي أو القول أو التوقعات…"(1/7)
…ولما كان موضوع الندوة الكبرى لهذا العام حول الثقافة العربية ومستقبلها وعلاقتها بالثقافات الأخرى فقد تعددت الرؤى والآراء حول الثقافة العربية من حيث تعريفها ومدلولاتها وسماتها وآفاقها. ولقد كان أبرز الدروس في بحث هذا الموضوع الحديث عن جذور الثقافة العربية وأبرز مقوماتها أو الأساس فيها ألا وهو الإسلام. فبعد قرون من الخضوع للاستعمار في معظم البلاد العربية الإسلامية وتوالى الهجمة الغربية على العالم الإسلامي تارة باسم التحضير والتحديث وتارة (آخر صرعة) باسم العولمة والانفتاح على الآخر. فقد آن الأوان أن يعرف العرب المسلمون أن لهم ثقافة تميزهم عن غيرهم من الأمم، وأن عليهم أن يتمسكوا بجذور هذا الثقافة ألا وهو الإسلام، وأن يكونوا أكثر وعي من أي وقت مضى بضرورة التمسك بثوابت هذا الثقافة ومقوماتها الأساسية.
…وقد أكد هذا الدرس أكثر من متحدث ومن هؤلاء الكاتب اللبناني منح الصلح الذي قال :"إن الثقافة العربية ما كانت لتكون ما هي عليه الآن لولا الإسلام الذي أينع في لغتها، ووحد جدول موضوعاتها وطموحاتها، وفتحها لأهل الأديان الأخرى…" وقال الدكتور سعيد حارب عن الثقافة الإسلامية إنها لم تكن في يوم من الأيام ثقافة غازية، بل كانت دائماً ثقافة (مثاقفة) "تأخذ أجود ما لدى الآخرين، وإن جزءاً من ثقافتنا لم يكن وليد بيئتنا وحدها بك كان وليد بيئات أخرى أخذناه و "جلينا" بريقه وأعدنا صياغته وقدمناها للحضارة البشرية بمقوماته الإيمانية الإسلامية وصياغته العربية…"
…وتناول الدكتور أحمد صدقي الدجاني- رحمه الله تعالى- الواقع الثقافي العربي وأشار إلى وجود ثلاثة تيارات ووصف أحدها بأنه كمن ذهب إلى النهر ليستقي منه فغرق فيه، وهذه إشارة إلى التيار التغريبي، والتيار الثاني تيار الانعزال والانكماش، بينما التيار الثالث هو التيار الذي يتمسك بمقومات الثقافة العربية الإسلامية ويعرف كيف يتعامل مع الثقافات الأخرى.(1/8)
…ومما يؤكد الجذور الإسلامية لثقافتنا العربية الإسلامية ما تحدث به المحاضرون في الندوة الثانية بعنوان: (الثقافة العربية والثقافات الأخرى)، وكان المتحدثون كل من الدكتور حسن الشافعي، والدكتور عبد العزيز التويجري، والأستاذ نبيل شبيب. فقد ذكر الدكتور الشافعي أن الثقافة العربية تستمد تكوينها من مصادر ثلاثة هي: الإسلام، واللغة العربية، والتجربة التاريخية. فأما الإسلام فقد قال إنه "المحتوى الحضاري للسان العربي فضلاً عن كونه رسالة إلهية ..و لا ينكر أثره على التاريخ العربي أحد…"
…وقد كانت محاضرة الدكتور عبد العزيز التويجري محاولة مركزة لتأصيل بعض المفاهيم عن جذور الثقافة العربية فقال التويجري "إن الثقافة العربية الإسلامية تحمل سمتين: سمة الثبوت في ما يتعلق بالمصادر القطعية، وما جاءت به من عقائد وتشريعات وقيم ومناهج، وسمة التغيير فيما يتعلق باجتهادات المسلمين وإبداعاتهم القابلة للصواب والخطأ، وبالتالي الاختلاف. فالجانب القطعي في الثقافة العربية الإسلامية يتسم بما يتسم به الإسلام من خصائص بصفته ديناً ومنهجاً للحياة، وتتجلى هذه الخصائص في العالمية والشمولية والواقعية والموضوعية والتنوع …"(1/9)
…فهذا الدرس العظيم الذي قدمته الجنادرية هذا العام وقدمته في الأعوام الماضية، وستقدمه في الأعوام القادمة بإذن الله بأننا أمة تميزت بهذا الدين العظيم، وهو الأساس في ثقافتنا وفي وجودنا. وأن هذا الإسلام العظيم لا يخشى الحوار مع الآخر بل هو يدعو إلى هذا الحوار والتعايش {وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا}، وأن ما بين الأمم والثقافات تدافع وليس تصارع. وأن الإسلام يدعو إلى عقيدته وطريقته ومنهجه وشريعته بالحكمة، ويجادل بالتي هي أحسن، في الوقت الذي تتخذ شتى الثقافات الأخرى من الوسائل ما يفوق الحصر لفرض هيمنتها على الأمم الأخرى. وصراع صناعة السينما بين أوروبا وأمريكا معروف لكل متابع. حتى إن شبكة السي إن إن وصفت فيلماً ألمانياً مرشحاًً للفوز ببعض الجوائز أنه فيلم أمريكي (هوليوودي) من إنتاج ألماني.
…وأتوقف في هذا الدرس عند مقالة رائعة كتبها أستاذ فاضل من وحي الجنادرية وهو الدكتور خليل بن عبد الله الخليل حين تحدث عن التيارات الثقافية في العالم العربي، بأنها تشكلت وفقاً لقوالب جاهزة يعرفها من عاش تلك الفترة من الستينيات الميلادية حين قُسّم العالم العربي إلى (تقدمي) و (رجعي)، وتحولت هذه المصطلحات فيما بعد إلى (معتدلين) و (أصوليين) وغير ذلك من التصنيفات. وألقى باللائمة على أننا نكثر من الحديث عن عداوة الغرب للعرب والمسلمين وتآمره علينا ..وغير ذلك، ولكن يبقى أننا ينبغي أن ننفتح على أنفسنا، ونحارب عيوبها التي أصبح بعضها مزمناً. وأكتفي بنقل فقرة أختم بها هذا الدرس من دروس الجنادرية.(1/10)
…يقول الدكتور خليل: "يا ترى لماذا لا يسمح السياسيون للفكر الإسلامي ولا يتسامحون مع قياداته المعتدلة المتنورة ..باعتبارهم مفكرين، ولا مع مؤسساته باعتبارها مؤسسات وطنية وشعبية؟ من الذي حرم الجامعات في الدول العربية والإسلامية من فوائد الحرية الأكاديمية في البحوث والتعليم والتوجيه؟ ومن الذي ألغى أنشطة الطلاب اللاصفية تحت إشراف موجهين مختصين ….من الذي ألغى عقول الكثير من العرب وألزمهم الرضوح لإعلام رسمي ميت؟ ومن الذي فسح المجال للانتهاكات الحضارية والتجاوزات القانونية، فزرع بذلك بذور التطرف والعنف؟ إن الغرب بالتأكيد لم يفعل ذلك وإنما صنعه العرب لأنفسهم قبل العولمة وبعدها"(1).
دروس الجنادرية كثيرة جداً، وثمة درس مهم لم ألتفت إليه في الأعوام الماضية رغم حضوري فعاليات مهرجان الجنادرية؛ ألا وهو ما تحتويه قرية الجنادرية التراثية من معالم حضارية وتراثية مهمة. فهذه القرية التي تضم تراث وتاريخ شبه الجزيرة العربية بأكمله تؤكد عظمة ما قام به الملك عبد العزيز رحمه الله تعالى من توحيد معظم أجزاء الجزيرة العربية في كيان واحد كان يطلق عليه الأستاذ محمد حسين زيدان "الكيان الكبير".
فحين تكون النشاطات التراثية لأجزاء المملكة العربية السعودية مجتمعة في مكان واحد فترى تراث الشمال بالقرب من تراث الجنوب إلى الشرق والغرب تهتز أحاسيسك بالفخر والاعتزاز بهذه الوحدة العظيمة. ويزداد إحساسك بعظمة هذا الدين الذي جعل الأمة الإسلامية كلها أمة واحدة كما جاء في قوله تعالى:{وان هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون}، وتتذكر تلك الآيات الكريمة التي تدعو إلى الوحدة ومنها قوله تعالى {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} وقوله تعالى {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}، فما بيننا نحن المسلمين من عوامل الوحدة لا يوجد في أي أمة أخرى أو شعب آخر.
__________
(1) 1- الجزيرة ، 15ذو القعدة 1418هـ(1/11)
وبالإضافة إلى الشعور بالوحدة والتقارب بين أجزاء هذا الكيان الكبير، يجد الإنسان نفسه أمام عبقريات بشرية استطاعت بإمكانات بسيطة أن تلبي احتياجاتها الحياتية. فالصنائع التي تضمها قرية الجنادرية كانت تؤكد على أننا لم نعرف الاستيراد إلاّ قليلاً. ومن المناظر التي استوقفتني كثيراً منظر أحد الحدادين يقف في حفرة صغيرة وبيده أدواته وأمامه الكير أو موقد نار وهو يصنع بعض الأدوات الضرورية التي يحتاجها المزارعون والبناءون في أعمالهم؛ فقد كنّا نصنع الفؤوس والمساحي والمجارف ونصنع الأمشاط الحديدية، كما كنّا نصنع أدوات النجارين وغيرها من الأدوات. قد يقول قائل هذه الأدوات بدائية، فأقول إذا استطعنا أن نصنع هذه الأدوات حينذاك فلماذا لا نصنعها اليوم؟ والحديد من العناصر المهمة فقد وجد العلماء أن أصل جميع العناصر موجودة في الأرض إلاّ الحديد فلا بد أنه أتى من خارج الأرض، وهذا مصادق لقوله تعالى {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد}، ولأهمية الحديد فقد جاءت سورة كاملة باسمه هي سورة الحديد.
وكان المسلمون يصنعون من الحديد السيوف والدروع وغيرها من الأدوات. وقد توصل السلطان محمد الفاتح إلى صناعة أضخم مدفع في العالم صنعه له المهندس المسلم أوربان الذي زعم بعض المستشرقين أنه كان نصرانياً وأن السلطان أغراه بالمال، بينما الحقيقة أن أوربان كان مهندساً مسلماً.(1/12)
وفي الجنادرية صنائع كثيرة مثل النجارة والحدادة وصناعة الأحذية، وقد لفت انتباهي حديث المهندس والكاتب الصديق عبد الحق بشير العقبي عن عودة مهنة إصلاح الأحذية وأن هذا مؤشر اقتصادي مهم. وقد لاحظت شخصياً أن أجد الإقبال كان شديداً في موسم عيد الفطر المبارك لهذا العام على منتوجات أحد مصانع الجلود في المدينة المنورة. وأما صناعة الأثاث فقد غزتنا منتوجات خشبية من بعض الدول وهي من النشارة والرخيصة جداً حتى إن بعض هذه المصنوعات يتكسر قبل استعماله مهما كان استعماله رقيقاً، بينما لدينا بعض المدن العربية الإسلامية المشهورة بصناعة الأثاث المتين والجميل.
ومسألة الصناعة أمر مهم فإننا يجب أن نستشعر التحدي بأن نفكر بأننا لو لم نجد كل هذه المنتوجات التي تغرق أسواقنا من أنحاء الدنيا فما ذا نصنع؟ والدليل على إرادة التحدي أن بعض البلاد العربية الإسلامية ما تزال تجد فيها بعض طرازات السيارات التي مر عليها أكثر من ثلاثين سنة بينما لا تجد هذه السيارات في البلاد التي صنعتها. وقد قدمت إحدى القنوات الفضائية الأمريكية فقرة عن إعادة تشغيل بعض السيارات القديمة (من أيام الحرب العالمية –الأوروبية- الثانية) في بنجلاديش. فإذا كانت لدينا عقول وسواعد ومواهب تستطيع المحافظة على الموديلات القديمة، فإننا بلا شك لدينا من يستطيع أن يصنع السيارات الجديدة. وقد دخلت كل من ماليزيا وإندونيسيا عالم صناعة السيارات، وقد سبقت إندونيسيا إلى صناعة الطائرات فهي سادس دولة في هذا المجال.(1/13)
وأود أن أنتقل إلى دروس أخرى يمكن أن نتعلمها من الجنادرية؛ فقد كتب الدكتور عبد العزيز السويل في ملحق الأربعاء أن المهرجان يستضيف مئات العلماء والمفكرين من أنحاء العالم العربي، ويمكن أن نعقد لهم الندوات في الجامعات السعودية المختلفة في هذه الفترة. وقد أشار إلى أن هؤلاء يسوف يعرضون تجاربهم العلمية والفكرية على طلاب الجامعات السعودية وأساتذتها ويمكنهم أن يتعلموا منّا كما تعلمنا من الكثير منهم في الماضي. فحبذا لو استضافت جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وجامعة الملك سعود بعض الضيوف في المجالات الأدبية، والفكرية، والاجتماعية، والاقتصادية، والإعلامية المختلفة.
ومن الدروس المهمة التي تقدمها الجنادرية أن المحاضرات والندوات التي تقوم رئاسة الحرس الوطني بطباعتها ما زالت محدودة التوزيع مع أن موضوعاتها مهمة جداً ومطلوبة لدى المثقفين، وقد عرضت بعض المطبوعات التي حصلت عليها على بعض الزملاء في كلية الدعوة بالمدينة المنورة فأبدوا رغبتهم في الحصول عليها.
أما الملاحظات التي كنت أود لو اهتمت بها وسائل الإعلام لدينا فهو عرض الندوات والمحاضرات على شاشة التلفزيون السعودي؛ فقد كتب الدكتور سالم سحاب يطالب بأن يخصص وقت لعرض هذه الندوات والمحاضرات. وقد كتب أحد الزملاء في وقت لاحق بأن عرض بعض الندوات والمحاضرات عرضاً خاطفاً قد يسيء إلى الندوات والمحاضرات أكثر مما يخدمها لأنه يبتر الفكرة الواحدة .(1/14)
ذوكنت أود لو أن الصحف قدمت عرضاً متوازناً لندوات ومحاضرات الجنادرية، فإحدى الصحف مثلاً اهتمت مثلاً بالناقد المغربي محمد برادة وأصرت أنه نظراً لأهمية محاضرته فقد نشرتها كاملة، ولست منتقداً نص المحاضرة التي وصف فيها الاتجاه الإسلامي بالفكر المتحنط …ولكن كان ثمة محاضرات وندوات أخرى أهم منها ومن ذلك على سبيل المثال الندوة التي تناولت التطرف بالرغم من أنها كانت أكثر الندوات حضوراً، لكنها لم تنل التغطية الإعلامية لتي تناسب هذا الإقبال الجماهيري الكبير. وكذلك كانت التغطية الإعلامية لمحاضرة الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي متواضعة أيضاً بالرغم من أهمية الموضوع الذي تحدث فيه، بالإضافة إلى التناول الإسلامي الجميل الذي عالج به المتغيرات السياسية الدولية والأمن العربي المعاصر.
نموذجان للمؤتمرات العلمية في العالم العربي
نظّم الحرس الوطني بالمملكة خلال مهرجان الجنادرية الحادي عشر ندوة كبرى بعنوان (الإسلام والغرب)، ودعي للمشاركة فيها عدد كبير من الباحثين العرب والمسلمين والأوروبيين والأمريكيين، واستمرت فعاليات الندوة أسبوعاً كاملاً تخللها عدد من النشاطات الأخرى .
وقد سعدت بحضور ندوتين سابقتين من ندوات الجنادرية إحداهما كانت حول منهج الدعوة إلى الله بالإضافة إلى الندوات الخاصة بالمسرح العربي. وقد حضرت هذه الندوة بتكليف من عمادة البحث العلمي بجامعة الإمام محمد بن سعود وإعداد تقرير علمي عن مجريات الندوات مما مكنني من التعرف عن قرب على ندوات الحرس الوطني. وأما الندوة الأخرى فأذكر منها بعض المحاضرات مثل الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الأمريكية التي قدمها الدكتور عبد العزيز السويل. وتابعت ندوات الجنادرية الأخرى من خلال الإذاعة ووسائل الإعلام الأخرى. ولذلك سأعدها أحد النموذجين الذين سأتحدث عنهما في هذه المقالات.(1/15)
تميزت ندوات الجنادرية بجدية الموضوعات، وحسن اختيارها وجدارتها بالبحث والنقاش، كما تميز المشاركون بتنوع خلفياتهم ومشاربهم. وهذه البلاد تجعل العقيدة الإسلامية منطلقها في جميع الأمور ومنها الندوات والمؤتمرات وذلك لأن الله عز وجل قد اختار الجزيرة العربية لتكون حرماً لهذا الدين كما جاء في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم (لا يجتمع في جزيرة العرب دينان)، فلا غرو أن يكون الجانب الإسلامي هو الأكثر عرضاً.
ومع ذلك فعملاً بالمنهج القرآني في سعة الأفق والحلم والحكمة في دعوة المخالفين؛ فقد تعددت المشارب في ندوات الجنادرية عموماً. ويهمني أن أركز على الندوة "الإسلام والغرب" لقربها من اختصاصي العلمي؛ فقد تحدث فيها من الأمريكيين صاموئيل هاتنقتون، ورالف برايبانتي وخالد بلانكشب، ومن الأوروبيين مراد هوفمان، ومن العرب المسلمين فهمي جدعان وعبد الجليل التميمي وملحم كرم، ومن المملكة أبو بكر باقادر وعبد العزيز السبيل. ومع ذلك فقد كتب أحدهم في إحدى الصحف العربية التي تصدر من بريطانيا في الأيام الأولى لانعقاد الندوة ينتقد غلبة الاتجاه الإسلامي ويرجع ذلك إلى نفوذ بعض أعضاء اللجنة الاستشارية الذين ينتسبون لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ولكن الحرس الوطني كان أبعد نظراً من هؤلاء الذين لو أتيحت لهم الفرصة لاختيار من شاؤوا لما تركوا لغيرهم مكاناً أبداً والأمثلة أكثر من أن تحصى.(1/16)
وكان النقاش مفتوحاً بطريقة رائعة رغم العدد الكبير الذي يحضر الندوات ورغبة الكثيرين في التعليق أو طرح الأسئلة، ولم يضق مديرو الندوات بالمداخلات أو بالأسئلة. ففي إحدى الفقرات وكانت حول الجذور التاريخية للعلاقات بين الإسلام والغرب تحدث الدكتور عبد الجليل التميمي ويبدو أنه أخذته الحماسة في امتداح جهود الباحثين الغربيين (المستشرقين) في إبراز بعض النماذج المضيئة من التراث الإسلامي مثل ابن خلدون، ولما طلبت التعليق أشرت إلى أن الباحثين الغربيين أشادوا أكثر بالنماذج السيئة في التراث الإسلامي، وإنني راجعت دائرة المعارف الإسلامية التي يصدرها المستشرقون فوجدت التركيز على كثير من النماذج السيئة من أمثال ابن عربي، والراوندي، وثورة الزنج، والإسماعيلية، وإضفاء هالة من الأهمية على هؤلاء وإعطائهم مساحة أكبر مما يستحقون.
وتميزت ندوات الجنادرية بالاهتمام بالضيوف، فبالرغم من الطابع العلمي الصارم للندوات إلاّ إن الكرم العربي الإسلامي واضح جداً في معاملة الضيوف وتحمل كافة المصروفات، بل نقل الضيوف من الخارج على حساب الحرس الوطني.
وكانت التغطية الإعلامية جيدة لندوات الجنادرية، لكن كان من الصعب على الجمهور في المدن الأخرى متابعة الندوات كما أشار إلى ذلك الدكتور سالم سحاب في مقالة له بأنه كان يود لو أعد برنامج يوضح الأوقات التي ستنقل فيها الندوات والمحاضرات ليتمكن المشاهدون من مشاهدتها أو تسجيلها إن لم يتمكنوا من المشاهدة في وقت عرضها. أما الندوات السابقة فحبذا لو أعطى الحرس الوطني حق توزيع تلك المحاضرات بعد طبعها في كتب، فهي ما تزال توزع عن طريق إدارة المهرجان فقد لا تصل إلى كل المهتمين بهذه الندوات .(1/17)
وقد كانت ندوة الجنادرية لهذا العام فرصة لحصولي على دعوة لحضور المؤتمر العالمي الثاني حول المنهجية الغربية في دراسة العلوم الإنسانية والاجتماعية في العالم العربي وتركيا في تونس. وهو النموذج الثاني الذي سأتناوله فيما يأتي. وسبب حصولي على الدعوة هو النقاش الذي دار بعد محاضرة الدكتور عبد الجليل التميمي رئيس مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات المنظمة لهذا المؤتمر. فقد أزعجه تدخلي ومناقشتي إياه في مسألة إعجابه بالمستشرقين فأوضحت له تخصصي في دراسة كتابات المستشرقين وقيامي في العام الماضي بزيارة العديد من الجامعات الأمريكية ومراكز البحوث والمعاهد المتخصصة في الدراسات العربية والإسلامية بدعوة من وكالة إعلام الولايات المتحدة بالقنصلية الأمريكية بجدة، وكان من أسباب دعوة التميمي لي لحضور المؤتمر في تونس هو أنه يريد منّي أن أطلع على نموذج من المؤتمرات العلمية العالمية التي يعقدونها هناك لأرى مستوى المدعويين والطرح العلمي. ووعدته بالاستجابة لدعوته.
ومن العجيب أنه لولا أن منّ الله عليّ بحضور ندوات الجنادرية لما لقيت الأستاذ التميمي ولما عرفت عن المؤتمر الذي تعقده مؤسسته، وهذا من التقصير الحاصل في العلاقات الثقافية بين البلاد العربية، وكذلك يشير إلى جانب من الجوانب التي سأتحدث عنها في النموذج الثاني من المؤتمرات العلمية في العالم العربي بعد قليل.
…تناولت في الأسطر السابقة ندوات الجنادرية بصفتها أحد النموذجين الذين اخترت الحديث عنهما من المؤتمرات العربية، وأوضحت مدى ما تتمتع به ندوات الجنادرية من الجمع بين الالتزام بالإسلام والحرص على قيمه ومثله وأخلاقه، والتفتح على وجهات النظر الأخرى والحرص على العرض المتوازن للاتجاهات كافة بما فيها تلك التي اعترى فهمها للإسلام بعض الشوائب أو النقص أو حتى التي تعادي الإسلام بطريقة خفية بسبب الجهل أو العمد.(1/18)
…وفي هذه الصفحات أتناول نموذجاً آخر لمؤتمر عقد في تونس نظمته مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات بالتعاون مع مؤسسة كونراد إديناور للبحث العلمي الألمانية. وكان المؤتمر بعنوان: "المؤتمر العالمي الثاني حول المنهجية الغربية في العلوم الإنسانية والاجتماعية في العالم العربي وتركيا"، في الفترة من 2إلى 6 مايو 1996م الموافق 15-19 ذي الحجة 1416هـ.
…شارك في المؤتمر باحثون من الدول العربية الآتية: سوريا ولبنان، والأردن، ومصر، وتونس، والمغرب، والجزائر، والسعودية، وشارك باحثون من فرنسا وإيطاليا وروسيا وبلغاريا. وبلغ عدد البحوث التي قدمت اثنان وثلاثون بحثاً . وأود أن أقدم أولاً بعض الملاحظات العامة حول هذا المؤتمر وأخلص في نهاية الحديث إلى خصائص هذا النموذج .ومن هذه الملاحظات:
1-تحدث معظم الباحثين المغاربة من تونس والجزائر والمغرب باللغة الفرنسية، وكذلك كان حوارهم وجدالهم ونقاشهم باللغة الفرنسية، وأخص من هؤلاء متخصصاً في اللغة العربية، وثانياً أستاذاً للتاريخ الإسلامي بجامعة الزيتونة، بينما تحدث الأوروبيون بلغاتهم مع أن بعضهم يجيد اللغة العربية تماماً.
2- تضمن المؤتمر حفلة غناء وطرب وقد أشار أبو القاسم سعد الله في كتابه " أفكار جامحة" (ص254) إلى أن هذه بعض المؤتمرات السابقة كانت تتضمن رقصاً شرقياً.
3- تطلب مؤسسة التميمي نسخ البحوث من الباحثين، ولكن ما يوزع على المشاركين هو فقط ملخصات البحوث بينما المتعارف عليه إعطاء المشاركين نسخاً كاملة من البحوث في بداية المؤتمر حتى يتسنى لهم قراءتها والتعليق عليها في أثناء الجلسات أو بعدها. بل إن الحصول على نسخة كاملة من أي بحث تعد من الأمور الصعبة جداً وكأنه سر خطير.(1/19)
4- أشار أحد الباحثين إلى أن حضور المؤتمرات إنما هو لتجديد التعارف ولقاء الأصدقاء، وليس لتقديم بحوث علمية جادة، وقد وصف أبو القاسم سعد الله بعض من يحضر مؤتمرات التميمي بأنهم سيقدمون علماً بل هم من الصنف (الباير)، كما أشار إلى حضور بعض الأجانب الذين لا علاقة لهم بالموضوع فقط ليطلعوا على ما يدور في مؤتمراتنا.
5-المشاركون في ندوات مؤسسة التميمي والمؤسسة التي سبقتها بإشراف الدكتور عبد الجليل التميمي هم مجموعة لا تتغير كثيراً، ومن خلال استعراض الأسماء المشاركة في المؤتمرات السابقة ومنذ أكثر من عشرين سنة نجد أنهم هم هم تقريبا.ً
6- يتم تسجيل جميع ما يدور في المؤتمر من بحوث ونقاشات وهو أمر يحد إلى حد كبير من حرية الباحثين في النقاش.
7-لاحظت أن رئاسة المؤتمر وهي رئاسة المؤسسة تقوم بإجراء تعديلات على البحوث عند إعدادها للنشر بطريقة تسلطية لا تتفق مع الأمانة العلمية، وبخاصة إذا كانت لا تتفق وميول المؤسسة.
ونظراً لكثرة البحوث التي قدمت فإنني سأختار أبرز النقاط التي أثيرت في بعض هذه البحوث وما دار حولها من نقاش. فمن هذه البحوث ما قدمه رئيس المؤسسة الدكتور عبد الجليل التميمي بعنوان: "هموم الباحث العربي والتونسي بصفة خاصة والمشاريع العلمية المعطلة." تناول فيه مسألة البحث العلمي في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية وضعف الاهتمام بهذا الجانب على مستوى العالم العربي، وأكد ضرورة إعطاء أهمية ووزناً أكبر لدور البحث العلمي في منظومة التنمية الشاملة، وبالرغم من مرور أكثر من أربعين سنة على استقلال الدول العربية فإن "المؤسسات العربية ومختلف منظماتها لم تنجح في إصدار دائرة معارف عربية واحدة للعلوم الإنسانية والاجتماعية مثلا، أو دائرة معارف لتاريخ الأمة العربية على الرغم من تشكيل مئات اللجان بهذا الخصوص والتي باءت جميعها بالفشل."(1/20)
ومن الملفت للانتباه أن ضعف الاهتمام بالبحث العلمي من أبرز أسباب ظاهرة خطيرة وهي هجرة الأدمغة العربية إلى الغرب، حيث إن العالِم لا يستطيع أن يواصل مشواره العلمي دون أن تتوفر له أدوات البحث والمؤتمرات والندوات والدوريات، فإن لم يجدها فإنه يبحث عنها في أي مكان من العالم.
…ونبّه التميمي إلى مسألة خطيرة وهي أن فرنسا "هي الدولة الأجنبية الوحيدة التي تقدم دعمها بصورة متواصلة ومكثفة سعيا منها لدعم حضورها المعرفي والبحثي." وتجدر الإشارة هنا إلى القناة الفرنسة الثانية بدأت تبث عدداً من الساعات لنشر الثقافة الفرنسية وما فيها من جوانب مادية وإباحية وبالمجان، واستغرب التميمي من عزوف المؤسسات التجارية والبنوك عن تقديم أي دعم مادي للبحث العلمي، في حين أن بعض هذه المؤسسات تدعم قطاع الرياضة بالتبرعات السخية. ويعلل ذلك بقوله: "ويرجع ذلك إلى ضعف المكونات الحضارية لهذه الشخصيات(المتبرعين)."
…ولفت انتباهي في محاضرة التميمي انتقاده للمؤسسات العربية التي تقدم الدعم لبناء المساجد وتعزيز الحضور الديني للجاليات الإسلامية، ويرى التميمي أن هذا الدعم يجب أن يتوجه لدعم البحث العلمي سواء في أوروبا أو في العالم العربي للدفاع عن الثوابت والقيم الحضارية العربية. ولكن ربما لا يعرف التميمي أن ثوابت الأمة العربية وقيمها هي الثوابت والقيم الحضارية الإسلامية ومنها بناء المساجد والوجود الديني، ولم يقل أحد بأن الإسلام ينحصر في المسجد بل الإسلام هو الحياة كلها: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين }.
قدمت في الأسطر السابقة موجزاً لمحاضرة الدكتور التميمي حول هموم البحث العلمي في العالم العربي في مجال الدراسات الإنسانية والاجتماعية، وهو موضوع يستحق أن تعقد له ندوات ومؤتمرات ليس للخروج بتوصيات براقة ولكن حبذا لو اشترك في ذلك بعض المسؤولين الحكوميين لتكون التوصيات بمنزلة القرارات .(1/21)
…وقدم الدكتور على فهمي من مركز الدراسات العربية بالقاهرة محاضرة حول الأدوات البحثية الغربية في العلوم الاجتماعية ومدى ملاءمتها للعالم العربي، وأكد في محاضرته أن التجربة قد أثبتت عدم ملاءمة كثير من هذه الأدوات للعالم العربي. ولكن ما لم يتناوله الدكتور فهمي استخدام مناهج البحث الاجتماعي الغربي، وهي التي كان يجب البحث فيها، كما إن أدوات البحث الاجتماعي لم تكن مجهولة تماماً لدى المسلمين فعملية المسح الاجتماعي عرفت منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وعرفت في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين كان يقوم بالعس ليلاً ليتفقد أحول الرعية. كما إن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أرسل إلى القبائل من يقوم بإحصاء النفوس وما يملكون من ماشية وعدد ضيوفهم ليقدر لهم الأعطيات، وكانت الثقة كبيرة بين الدولة والأفراد فما كان من المتوقع أن يمتنع أحد عن تقديم المعلومات الصحيحة والدقيقة. أما في عصرنا الحاضر وكما أشار الدكتور فهمي فإن من أكبر الصعوبات الحصول على المعلومات من الجمهور.
…وتناول الدكتور مسعود ضاهر من الجامعة اللبنانية مركز الدراسات العربية المعاصرة بجامعة جورجتاون بواشنطن العاصمة، فتحدث عن المركز منذ إنشائه عام 1975م حتى الآن. وأشار إلى نشاطات المركز من عقد الندوات والمحاضرات، ونشر الكتب، والبرامج الجامعية التي تخرج فيها ثلاثمائة دارس يحملون درجة الماجستير في الدراسات العربية المعاصرة ويعملون في القطاع الحكومي وفي الشركات. وأشاد الدكتور ضاهر بالمركز في قوله: "ويشعر الأستاذ الزائر أن نشاط هذا المركز عن الوطن العربي يعادل نشاط عدد كبير من الجامعات العربية مجتمعة." كما أشاد بحسن التنظيم في المركز. وأود أن أضيف بأننا ينبغي أن نفيد من تجربة الغربيين في دراسة العالم الإسلامي، وليس المقصود هنا التقليد ولكن الاقتباس في التنظيم حيث إن لنا أهدافنا الخاصة التي تختلف عن أهدافهم.(1/22)
…وكانت محاضرة الدكتور نور الدين الصغير من قسم التاريخ بجامعة الزيتونة بعنوان "الإسلاميات التطبيقية والانثربولوجيا الدينية." دعا فيها إلى ضرورة "إثراء معارفنا بمختلف وسائل التجديد الفكري والاعتماد على البحوث الأنثروبولوجية الدينية والمعرفية والعامة." وتناول مسألة "المقدس والمحرم" وأشار إلى بعض الشخصيات التي ظهرت في التاريخ الإسلامي وتجرأت على مناقشة "المقدس" (النص القرآني) و(الحديث النبوي)، ومن هؤلاء ابن الراوندي وأحد خلفاء بني أمية، وانتقد بعض المصطلحات الإسلامية مثل “دار الإسلام " و"دار الكفر" وأن هذا المصطلح "عشعش في أذهان المسلمين زمناً طويلاً". ورددت عليه في هذا بأن المصطلح ليس فيه ما يعيب فما ذا كان الغربيون يسمون ديار المسلمين؟ بل ماذا يطلقون علينا حتى اليوم؟ لماذا نخجل من مصطلحاتنا؟ ألسنا عندهم العالم الثالث، الدول النامية، وهم ربما يقولون الدول المتخلفة. ولكنهم يجعلون أنفسهم "العالم الحر" فنكون نحن في "العالم غير الحر" حسب تصنيفهم.
…وقد كان ملفتاً للانتباه أن الدكتور عبد العظيم رمضان الذين يدعي أنه "يساري وتقدمي" غضب من اتهام أحد خلفاء بني أمية (الوليد بن يزيد) بأنه مزّق المصحف، فقال لا يمكن أن يكون هذا صحيحاً فالوليد يعد من العلماء. وقد أكد لي هذا أن الفطرة حتى لدى التقدمي واليساري تستيقظ أحياناً للدفاع عن مقدسات الأمة كما لاحظت قوله في أثناء غضبه من المحاضر (سيدنا رسول الله)
وكان لي حديث مع الدكتور الصغير خارج قاعة المحاضرات، فقلت له إنكم تريدون نزع القداسة عن القرآن الكريم والحديث الشريف فما بالكم تضفون القداسة على كلام البشر؟ ماذا يفيدكم نزع القداسة عن القرآن الكريم أو الحديث الشريف؟(1/23)
…وقدّمت بحثاً بعنوان "منهجية التعاون العلمي بين العالم العربي والغرب:الواقع والمثال"، بدأت الحديث بالبسملة وكدت أكمل بالحمد والثناء على الله عز وجل لولا أنني خفت أن يمنعوني من تقديم موضوعي. أما المحاضرة فقد أوضحت فيها الجوانب الإيجابية والجوانب السلبية للتعاون العلمي الحالي. فمن الجوانب الإيجابية الاهتمام الكبير بالدراسات العربية الإسلامية في الغرب، وتوفر بعض الباحثين الغربيين الذين خرجوا على النظرات التقليدية في محاربة الإسلام والمسلمين. وكذلك من الجوانب الإيجابية وجود عدد من الأساتذة المسلمين إما من أصل أمريكي أو من العالم الإسلامي يقدمون صورة صحيحة عن الإسلام عقدية وشريعة وتاريخاً واقتصاداً00الخ. وكذلك من الإيجابيات قيام كراس للدراسات الإسلامية في الجامعات الكبرى مثل كرسي الملك فهد في جامعة لندن (مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية)، وكرسي الأمير نايف في جامعة موسكو، وكذلك السماح بإنشاء المعاهد الإسلامية، ومراكز البحوث مثل معهد العلوم العربية والإسلامية في واشنطن التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وكذلك المعهد العالمي للفكر الإسلامي بهرندن بفرجينيا، والمراكز الإسلامية المتعددة في الغرب والتي أسهمت المملكة إسهاماً مباركاً في الكثير منها.
…أما الجوانب السلبية فتتمثل في أن كثير من الجامعات الغربية والأمريكية ما تزال تحتفي بالمتغربين من أبناء العالم الإسلامي، وتوفر لهم فرص التدريس والبحث وحضور الندوات والمؤتمرات في الغرب، وتكاد الفرص تقتصر على هؤلاء، بل إن الغرب وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية احتضنت الماركسيين واليساريين العرب بعد زوال الشيوعية ـ بعضهم تلقى الماركسية في أمريكا نفسها مثل صادق جلال العظم.(1/24)
وهكذا فإن من أبرز ملامح هذا النموذج -المؤتمر العالمي في تونس- عدم التوازن في عرض وجهات النظر وإن مثل هذه المجموعة تضيق بالنقد إذا وجه إليهم، ويعدون أنهم المتنورون وأن غيرهم في ظلام وتخلف. وتلك نرجسية عجيبة؛ فإن ما يزعمونه من التنوير وبعد الأفق أن تقبل آراءهم وتسير في ركابهم وإلاّ فإنهم مستعدون لإخراج كل ما في جعبتهم من التهم الجاهزة والشتائم . ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.
الدعوة ومناهجها والمسرح وقضاياه : تقرير عن مهرجان الجنادرية لعام 1410هـ
كان عنوان هذه الندوة هو (الموروث الشعبي وعلاقته بالإبداع الفكري والفني في العالم العربي) وتم تناول هذا المحور في عدد من الندوات، كلف أحد العلماء والباحثين بتقديم ورقة عمل وكلّف ثلاثة آخرون بمناقشته وكانت الندوات كالآتي:
الندوة الأولى
الفن المسرحي في العالم العربي :تاريخه وعوامل ظهوره
تحدث الدكتور علي الراعي عن المسرح حديثاً تاريخياً، وذكر من الفرق المسرحية الرائدة- في نظره- فرقة فاطمة وأشار إلى دورها في مقاومة الاحتلال والتحرير. ولكن الحقيقة أن هذا غير صحيح في حالة هذه الفرقة التي كانت تجد اهتماماً من الاستعمار وتيسر لها سبل العمل وقد زارت الفرقة الجزائر وقدمت مسرحيات "مجنون ليلى" و" العباسة أخت الرشيد" وهي من تأليف جرجي زيدان وفيها طعن في الإسلام والمسلمين. كما أنها كانت امرأة متبرجة. فهل مثل هذا المسرح يقاوم احتلالاً؟
الندوة الثانية
لغة المسرح بين الفصحى والعامية(1/25)
وقد قدم الورقة الدكتور على عقلة عرسان وناقشه كل من الدكتور محمد بن سعد بن حسين وعلى العلاق. وقد كانت ورقة قوية في الدفاع عن الفصحى في المسرح، وبرر ذلك بأن لغة المسرح هي لغة الثقافة والأدب، وأنه لا صعوبة في فهم اللغة العربية، فالعربي وإن لم يتحدث الفصحى لكنه يفهمها لأنه يعرف القرآن الكريم والحديث الشريف، وقد أورد حجج الداعين إلى العامة وفندها. وأشار المحاضر إلى عدم تشدد العرب في الإعراب في كلامهم العادي، وذكر بعض الشواهد ومنها قول أحدهم" ما رأيت مثل الأصمعي يقول:" إن معظم كلام العرب الدرج"، وقول آخر "العرب تجتاز الإعراب اجتيازاً"، وقول آخر "العرب ترفرف على الإعراب ولا تتفيأ فيه"، وقول الجاحظ "العرب تشامُّ الإعراب ولا تحققه".
وتكلم المعقب الأول على العلاق فلم يخرج عن تأييد الفصحى، ولكنه جعل هذا الأمر صعباً، أما الدكتور محمد بن سعد بن حسين فقد أثنى على دفاع الدكتور علي عقله عرسان عن الفصحى وقدم التساؤلات الآتية ما رسالة المسرح؟ وأجاب أليست توجيه الناس إلى الصالح ومن مسؤوليات المسرح إصلاح لغة العرب، وتساءل أيضاً: "هل عجزت الفصحى عن القيام بحقوق المسرح وأشار إلى نجاح الفصحى في المسرح، وأن الفصحى يلتقي عندها كل العرب.
وتحدث بعض الجمهور فكان منهم الدكتور الغذامي الذي أعاد الحديث عن مسألة الإعراب وسمّى ذلك "اللعبة الطويلة"، و"الصراع مع اللغة"، أما الدكتور محمد آل زلفة فبرر استخدام العامية بأن الأمية متفشية في العالم العربي، وأنها لن تضار الفصحى.(1/26)
وكانت الجلسة الثالثة بعنوان (الشكل والمضمون في المسرح العربي وعلاقته بالتراث) تحدث فيها الدكتور عز الدين إسماعيل، وناقشه محمد يوسف نجم، وعز الدين المدني، وعبد الرحمن زيدان، وجلال الشرقاوي. وأكد بأن العمل الإبداعي الجديد لا يكون استنساخاً أو تكراراً للمادة التراثية، بل يكون إعادة تشكيل لهذه المادة في إطار يخالف أو يغاير الإطار القديم وذلك من أجل تحقيق غايات معرفية تلائم الواقع والمرحلة التي يعيشها المثقف..
الندوة الثالثة
التجربة المسرحية في المملكة العربية السعودية
وتحدث فيها الدكتور سعد الصويان، وناقشه كل من الدكتور علي أحمد الغامدي، والأستاذ راشد الشمراني والدكتور نعيمان عبد الرحمن عثمان. وقد أكد الصويان على أهمية الموروث الشعبي، وأن ابن الصحراء يميل إلى الفن وأن لديه نزعة فنية قوية وذكر صوراً من حياة البادية وهي الشعر الشعبي. وقد وجه النقد للصويان من عدة جوانب منها أنه غير متخصص في المسرح وأن لم يستخدم العربية الفصحى وغير ذلك. وتحدث عزيز ضياء (رحمه الله) عن المسرح فطالب بإشراك المرأة حيث قال: "وهناك عنصر غائب هو المرأة الأم، الأخت، الابنة، الشقيقة، الحبيبة، الصديقة... ورد عليه بعضهم بأن موضوع المرأة ليس ضرورياً فهناك مسرحيات عالمية ناجحة ومشهورة ليس فيها مشاركة للمرأة.
الندوة الرابعة
(نحو مسرح إسلامي)
كان المتحدث الرئيس الدكتور نجيب الكيلاني وناقشه كل من الدكتور عبد القدوس أبو صالح والدكتور حسن الأمراني. وقد تحدث الكيلاني عن الأدب الإسلامي بعامة وشروطه من حيث الالتزام باللغة العربية الفصحى والعفة والالتزام بالإسلام عقيدة وشريعة، وأشار إلى أن المسرح الإسلامي ليس وعظاً وخطابة. وكان من موضوعات هذه الجلسة مشاركة المرأة، فأشار أحد الحضور إلى أنه ترجمت مسرحيات من اللغات الأجنبية ليس للمرأة فيها دور ومن ذلك مثلاً قصة هيمنجواي (الرجل العجوز والبحر) وغيرها.
الندوة الخامسة(1/27)
(الاتجاهات الفكرية في العالم العربي وأثرها على الإبداع)
…دار الجلسة الدكتور أحمد التويجري وقدم ورقة العمل الدكتور محمد مصطفى هدارة، وناقشة كم من خلدون الشمعة ومحمد إبراهيم الشوش. وكانت مقدمة التويجري رائعة حيث تحدث عن الإبداع في الإسلام، وأكد أن هذه سمة بارزة من سمات هذا الدين وذكر بأن القرآن الكريم قد نعى على المقلدين في قوله تعالى {وقالوا إنّا وجدنا آباءنا على أمة وإنّا على آثارهم لمقتدون}، ولم يخفت الإبداع والتجديد في هذه الأمة إلاّ عندما ابتعدت عن دينها وأصرت على الجمود والتقليد.
ثم تحدث الدكتور هدارة وأشار إلى التيارات التي وفدت إلى عالمنا العربي ومنها العقلانية والفلسفة المادية والجدلية الماركسية والاشتراكية الواقعية، وكيف كان لكل هذه التيارات تأثيرها في الإبداع العربي، وخص بالحديث تيار الحداثة وفرق بين مصطلحين الحداثة والتحديث، وقد كال المتحدث للحداثيين ضربة قاضية بيّن فيها منابعهم الفكرية وأهدافهم الهدّامة من طرح التراث وقطع صلة الأمة بماضيها. وأكد على أن الأمة بخير وأن الإسلام موجود وباق ومثل للشعر الإسلامي بقصيدة لشاعر مغربي.
وعقدت العديد من الندوات الفكرية العامة وهي كالآتي:
ندوة
وحدة أوروبا وأثرها على المستقبل العربي
وقدم ورقة العمل سيد ياسين، وناقشه كل من سيف هاشل السكري، وهيثم الكيلاني وأدار الندوة الدكتور عبد الله القويز. وقد تناول المتحدث في ورقته أهمية دراسة ما يحدث في أوروبا، وأن الحكومة المصرية وجهت مركز الدراسات الاستراتيجية في مؤسسة الأهرام وغيره من مراكز البحوث لدراسة هذا الموضوع. وقدم المحاضر عرضاً تاريخياً للخطوات الأوروبية على طريق الوحدة والاتحاد، فذكر ما حدث من اتفاق خمس دول أوروبية في 25 مارس 1957م ثم تكوين الجماعة الاقتصادية الأوروبية عام 1967م.
وأشار إلى أن اتحاد أوروبا المزمع عقده في أواخر عام 1992م يمكن النظر إليه من خلال الأمور الآتية:(1/28)
التمهيد لحضارة عالمية جديدة
تجاوز عصر الوفاق إلى عصر التعاون في صالح الإنسانية
استبعاد الخيار العسكري لحسم الصراع العربي الإسرائيلي، وخضوع روسيا لابتزاز أمريكا بخصوص حقوق الإنسان وبخاصة هجرة اليهود إلى فلسطين.
إحكام أمريكا سيطرتها على دول الخليج.
سقوط الأنظمة الشمولية.
تحدث المناقش الأول فأشار إلى الخلفية التاريخية للعلاقات بين أوروبا والعالم العربي، وقال إنها تتلخص في أمرين الحروب الصليبية وإسرائيل التي زرعتها أوروبا في العالم العربي.
أما المناقش الثاني فتحدث قائلا: "إن الاهتمام النظري بما يحث في العالم أمر موجود ولكن على الصعيد العملي لا وجود له"، وذكر أن الحوار الخليجي الأوروبي لا يمكن أن يكون بديلاً للحوار العربي الأوروبي بل يجب أن يكون رافداً له.
وتحدث من الحضور الدكتور محمد عمارة الذي أكد على الرابطة الدينية التي تجمع شعوب أوروبا وأن هذا الاتحاد يجب أن يكون العالم الإسلامي على حذر منه، ونبه إلى الخطوات التي اتخذتها أوروبا في هذا المجال.
وتحدث الدكتور علي النملة مثيراً ثلاثة أسئلة هي:
1-حملات التنصير الموجهة إلى الدول النامية ومحاولة الكنيسة تكثيف حملاتها، وأن التنصير لن يقتصر على هذه الشعوب بل سوف يصل إلى المسلمين الذين يعيشون في أوروبا.
2-مسؤولية البلاد العربية في التأثير وتساءل هل نحن خاضعون للتأثر فقط. وذكر من الأعمال الإيجابية إرسال مليون نسخة من المصحف إلى أوروبا الشرقية.
3- الاهتمام بالدراسات الاستشراقية وتوحيد الجهود في مواجهة هذه الدراسات.(1)
__________
(1) 1- رغم مرور أكثر من أربع عشرة سنة على هذه الملاحظات القيمة من معالي الدكتور علي النملة –وزير العمل والشؤون الاجتماعية- لكن لم نتقدم كثيراً في توحيد الجهود في دراسة الاستشراق بل ما حدث هو تأخر هذه الدراسات حتى وصل قسم الاستشراق في كلية الدعوة إلى مرحلة الاحتضار ويوشك أن يلفظ أنفاسه.(1/29)
…وقد أعد الدكتور توفيق القصير تعليقاً محكماً مدعماً كلامه بالأرقام والإحصائيات حول اقتصاديات أوروبا الشرقية والغربية وروسيا وأمريكا، وكيف أن اجتماع هذه الأرقام سيكون قوة هائلة في وجه العالم الإسلامي، وأشار إلى أن أوروبا الموحدة هي أوروبا النصرانية في موقفها من العالم الإسلامي قديماً وحديثاً.
ندوة (أزمة الثقافة العربية)
قدم ورقة العمل في الندوة الدكتور محمد عمارة وفيما يأتي ملخصها:
بدأ الدكتور عمارة بتعريف مصطلحي أزمة وثقافة، فعرّف الأزمة بأنها: الشدّة والضيق والمأزق الذي يمنع المصاب به إنساناً أو أمة أو ثقافة أو حضارة من الحركة الحرة، والنمو الطبيعي والحيوية المعبرة عن الطاقة الطبيعية لضحية هذا الضيق وفريسة هذا المأزق.
أما كلمة ثقافة فهي كل المعارف والعلوم والفنون والآداب التي مكون موضوعها وتكون مقاصدها عمران النفس الإنسانية وتهذيبها وتنمية أدوات شعورها واستشعارها لما خلق الله لها في هذا الكون من مصادر النفع وآيات الجمال. وللثقافة شق آخر هو التمدن الذي يشمل المعارف والعلوم والتطبيقات التقنية التي موضوعها ومقاصدها عمران الواقع.
والعربية تعني أيضاً الإسلامية بالمعنى الحضاري الشامل ذلك أن معيار العروبة هي اللغة العربية.
ويرى عمارة أن جوهر الأزمة هو في فقرة ثقافتنا في الإبداع وإفراطها في المحاكاة والتقليد. والإبداع ليس مرادف للإنتاج فنحن منتجون، وإنما الإبداع هو التجديد والإضافة لما ورثناه، والإبداع هو الابتداع ولكن ليس في أمر الدين فهذا منهي عنه، أما في علوم الدنيا والحضارة فأمر مطلوب.
والأمة في أمر الحضارة وموقفها من الإبداع أو التقليد تنقسم إلى ثلاثة أقسام
الأول: قسم استفتى الأموات في شؤون الأحياء ووقف عند المقابر ليستفتوا أصحابها في عصر لم يعيشوه.
الثاني: قسم ذهب لاستفتاء الغرب، فالأول يهاجر إلى التاريخ، والثاني يهاجر هجرة جغرافية ليأخذ من الآخر بحلوه ومره وخيره وشره.(1/30)
ومثّل هذان الفريقان كفريقين يشدان الحبل فتصبح طاقتهما في الإبداع قليلة ومحصلة جهودهما صفر. هذا هو جوهر أزمة الثقافة. والثالث: هو التيار الوسطي المعبّر عن منهج الإسلام فهو ليس مع هؤلاء ولا مع أولئك، يجمع ويؤلف ما يمكن الإفادة منه. فالعقلانية ليست النصوصية فهي تجمع بين الحكمة والشرعية وبين العقل والتعقل، ومن أبرز أعلام هذا التيار الأفغاني ومحمد عبده وابن باديس والكواكبي. فهؤلاء انطلقوا من منابع الإسلام الجوهرية ووقفوا من الغرب موقفاً متميزاً. فهم مثلاً يرون أن العلوم التطبيقية موروث إنساني مشاع، أما العلوم الإنسانية ففيها خصوصيات حضارية تتميز فيها كل حضارة عن الحضارة الأخرى.
وتحدث عمارة عن معالم هذا الانقسام فذكر أن التيار الذي ينسحب إلى الماضي ومنها مؤسسات تعليمية، وقسم آخر هو الطرق الصوفية، وفريق ثالث وهم النصوصيون الذين وقفوا عند ظواهر النصوص.
أما التيار الثاني وهو المتغرب وذكر عمارة أن التغريب لم يحدث إلاّ بعد حملة نابليون فالصليبيون عندما زالت قلاعهم وانهزموا قيل عنهم :" إنهم مثل البهائم لا تعرف إلاّ القتال." أما عندما جاء نابليون فلم يأت بالمدفع وحده ولكنه جاء بالبيان، والكلمة، والصحيفة، والبعثات العلمية، فكان هدفه احتلال العقل المسلم مع الأرض، وإذا ما احتل العقل المسلم أصبح الغرب هو القبلة وأصبح يتحكم في حياتنا دون جيش احتلال.
وذكر بعضاً من الذين برزوا في تيار التغريب ومنهم يعقوب صروف الذي يسميه الجبرتي "يعقوب اللعين" صاحب مشروع التغريب مشروع "الاستقلال" يعني أن تستقل الأمة عن تراثها وماضيها وعن محيطها الإسلامي وتلتحق بالغرب. وشارك في هذا التيار مجموعة من الموارنة الكارهين للإسلام بحكم صراعهم مع العثمانيين وهم الذين أسسوا (الأهرام)، و(المقطم)، و(المقتطف) وغيرها، فقد كانوا يريدون اقتلاع الإسلام ولم يكن لديهم صياغة بديلة لأنه لا يوجد في نصرانيتهم هذه الصياغة.
ندوة(1/31)
(منهج الإسلام في الدعوة)
…أدار الندوة معالي الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي وقدم ورقة العمل الأستاذ الشيخ محمد قطب وناقشه كل من د. حسّان حتحوت والشيخ راشد الغنوشي.
…ويمكن تلخيص المحاضرة بالنقاط الآتية:
أولاً: الإسلام يخاطب الإنسان كله؛ عقله ووجدانه وحسه، فيستثير الوجدان بالإشارة إلى بديع خلق الله، ثم ينبه العقل ليساءل أليس الله هو خالق الكون ومدبره والمسيطر عليه ومالكه؟
ثانياً: الإسلام يهتم بالعقيدة فمن دروس أسماء الله الحسنى أن يعلم أن الله هو الرزاق، فإذا طلب الغنى فيطلبه من الرزاق، وإذا طلب الصحة طلبها من النافع، وإذا طلب المكانة والرفعة فلا يتوجه إلاّ لله عز وجل.
ثالثاً: إزالة الأوهام التي تعوق عن إخلاص العبادة لله ومحاربة الجاهلية ويرى الأستاذ محمد قطب أن أوروبا الآن في جاهلية، والجاهلية في نظره ليست في عدم امتلاك العلم والتقنية، ولكن في البعد عن منهج الله. فالعلم بصورته الأوروبية منقطع عن الله سبحانه وتعالى، فهذا العلم يقدم الكائنات والكون على أنه لا موجه لها، ثم ما لديهم من اعتقاد بحتمية قوانين الطبيعة، ويرى الأستاذ الأخذ من الحضارة الأوروبية في الأمور التي تنفعنا ونطرح ما يخالف الاعتقاد الصحيح.
رابعاً: الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة}، فهو بهذا يسعى إلى الدخول إلى النفوس من مداخلها وفتح هذه المداخل بإقامة مودة بيننا وبين الناس والتأكيد على أننا نريد لهم الخير ونحبهم ونريد أن نشركهم فيما أنعم الله به علينا. وإننا إذا لم نتخذ الحكمة في ذلك، فإننا نقع في إثم تنفير الناس مما ندعوهم إليه وقد خاطب الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك}.
…وبالتالي فلسنا مكلفين أن نفتح مغاليق القلوب فهي بيد الله {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء}.(1/32)
خامساً: إن الأداة الكبرى المثمرة في منهج الدعوة هي التربية، فالوعظ مطلوب ومنصوص عليه، ولا غنى عن الموعظة لأنها جزء من الدعوة. يقول الصحابي وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم (يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة)، هذا للصحابة وهم الذين كانوا يتطلعون إلى كل كلمة تخرج من فيه صلى الله عليه وسلم لأنها طريقهم إلى الجنة، فإّذا جعلنا دعوتنا كلها وعظاً ضجر الناس.
…والتربية الأهم هي التي تكون بالقدوة فلا بد أن يكون الداعية قدوة فيما يدعو إليه، سئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت (كان خلقه القرآن)، ولذلك جاء التحذير من العمل المخالف للقول{يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}
…وكان تعليق الشيخ راشد الغنوشي كما يأتي: "إن الدعوة الإسلامية منذ المجدد الكبير الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ومن تلاه من مشايخ ودعاة وحركات، أولئك الذين قصدوا محاربة الانحطاط، أي عجز الأمة عن مواجهة الواقع، وعن مواجهة الانحراف، عجزها عن توظيف طاقاتها الهائلة، عملوا على تربية الأمة ليجعلوا منها الأمة التي أراد الله لها أن تكون خير أمة أخرجت للناس، وعهد إليها أن توجد مناخاً يكون فيه الخير منتصراً والشر مدحوراً.
…هؤلاء الدعاة بذلوا جهدهم في إخراج الأمة من انحطاطها بالإصلاح العقدي، وجعل العقيدة سليمة موجهة للسلوك إلى الخير.
…ولكن ماذا حققت الدعوة منذ قرن ونصف عبر كل رجالاتها وهيآتها، عبر كل الجهود أعادت الاعتبار للإسلام كقوة فكرية موجهة لواقع الأمة بعدما أُقصي الإسلام عن مجالات الحياة في السياسة، والاقتصاد، والاجتماع وحُجِر في زاوية ضيقة عمد الاحتلال على طرده حتى من هذه الزاوية.(1/33)
…لقد عملت الدعوة على الحد من هذا التغرب، واستطاعت أن تجعل حضور الإسلام يتزايد يوماً بعد يوم، ولكنها لم تحقق مشروعها الكبير في توجيه الفكر والسياسة العالمية، فجهودها في هذا المجال ما تزال محدودة ولكن كيف لهذا المشروع أن يتحقق طالما ظلت مواردها منتهبة وأراضيها منتهبة، وكرامة الإنسان ليست متحققة. أحسب أن عمل الحركة لا يزال أغلبه لم يؤد. فأغلب ما تحقق هو على صعيد الرفض والدفع والاحتجاج ولا يزال جهدها في بناء الأنموذج الإسلامي وفي صياغة الفكر والأدب وفي إنتاج مشاريع للحياة ما تزال كل هذه الجهود محدودة.
…إن هدم الباطل أكبر من بناء الحق، وهذا من ثورات البلاد الإسلامية للتحرر من الاحتلال ويأتي النظام الذي تولى الحكم فلا يحقق أبسط حقوق الإنسان. إن جهادنا على الأعداء ممتاز ولكن جهدنا في البناء محدود. وهنا نضع أيدينا على نقص هام في مضمون الفكر الإسلامي ذلك أن حظها من التجدد محدود. فالإسلام حينما يتفاعل مع الحياة ومع المشكلات يولد فكراً وثقافة. فالفكر الإسلامي(مضمون الدعوة) لا يزال يحتاج إلى تطوير، إلى إنتاج ثقافة إسلامية مستوعبة للإسلام ومستوعبة لعصرها.
…تحتاج الدعوة إلى مزيد من التفاعل مع الواقع وتسخير الخير للدعوة فترى الدعوة قضايا المجتمع وترى مشكلاً هاما فتركز الطاقات عليه فمثلاً إذا رأت أن الناس يعانون من الفقر فتعمل على محاربته أو أن الديكتاتورية تحكمهم فتعمل على أن تهيئ لهم الحرية. إن أبلغ تعريف للإسلام هو أنه ثورة تحررية كبرى. ألم يأت الإسلام كما جاء في القرآن يحل لهم الطيبات ويرفع عنهم الأغلال، فلو ترك الناس والإسلام لاعتنقوه.
…إن أعدى أعداء الإسلام الاستبداد ولذلك تعمنا الفرحة كلما بلغنا أن طاغوتاً قد سقط ونشعر بالبهجة أن شعباً تحرر. إن الحرية هي الطريق إلى الإسلام ولذلك لا بد أن يوجد الداعي الأريب."(1/34)
…وتحدث بعد ذلك الدكتور حسان حتحوت عن تجربة الدعوة الإسلامية في أمريكا، فذكر أن الفرصة للدعوة هناك حقيقية إن ضيعناها ضيعنا خيراً كثيراً وإن استفدنا منها نجني خيراً كثيراً. وأوضح أن الإسلام ليس جديداً في الولايات المتحدة. وأوضح الدكتور حسّان أن العمل الإسلامي في أمريكا يهدف إلى توضيح صورة الإسلام عند الأمريكيين، فإما قبلوه ديناً أو على الأقل نحيّد عداوتهم للإسلام أو نجعل العداوة مودة والخطوة الأخيرة أن يقبلوا الإسلام.
أيام الجنادرية :المسلمون والغرب
…أصبحت الجنادرية (المهرجان الوطني للثقافة والتراث) وندواتها الثقافية معلماً بارزاً من معالم الخريطة الثقافية لبلادنا الحبيبة، فلا يكاد يجتمع مثل هذا العدد من العلماء والمثقفين والمفكرين والأدباء إلاّ في رحاب الجنادرية، في قلب الجزيرة العربية النابض وفي أحضان الرياض المضيافة فينهل الجميع من كرم الحرس الوطني برعاية سامية من صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء ورئيس الحرس الوطني واهتمام شخصي مبارك من سمو نائبه الكريم الأمير بدر ابن عبد العزيز، وعناية شخصية من معالي الشيخ عبد العزيز التويجري بالإضافة إلى العدد الكبير من المسؤولين في الحرس الوطني الذين يضيق المجال عن ذكر أسمائهم.(1/35)
…تبدأ أيام الجنادرية منذ اللحظة التي يتوافد فيها المشاركون والضيوف إلى الرياض، فيجتمعون في بهو الفندق المخصص لنزول الضيوف في مجموعات تكبر أو تصغر وفقاً للمساحة المتاحة (وانتقال المقاعد من مكان إلى مكان ليكفي عدد المجتمعين)، فهنا مجموعة تناقش قضايا في الأدب والشعر، وهناك مجموعة تتناول قضايا في التاريخ والسياسة، وثالثة تهتم بقضايا اجتماعية، وأخرى تتحدث في ذكريات الجنادرية للأعوام الماضية ... وهكذا. بالإضافة إلى اللقاءات التي تعقد في منازل بعض إخواننا من أهل الرياض أو ضيوف الرياض من إخواننا العرب المسلمين الذين يحرصون على إظهار كرمهم العربي الإسلامي الأصيل.
…وينشط في بهو الفندق مندوبو الإذاعة والتلفاز والصحافة ليفوزوا بلقاء مع هذا الضيف أو ندوة مع عدد من الضيوف أو لقاء تلفازي وغير ذلك من النشاطات، وقد علمت أن رابطة الأدب الإسلامي العالمية استجابت لممثلي التلفاز السعودي بالاشتراك في عدد من الندوات التلفازية حول قضايا الأدب الإسلامي ومصطلحه. وإنها لفرصة للإشادة بإخوتنا في التلفاز لاهتمامهم بهذا الموضوع ذلك أن الشيء من معدنه لا يستغرب فإن هذه البلاد الكريمة دستورها الإسلام وتسعى إلى تشجيع هذا الاتجاه المبارك.
…ولا بد أن أذكر الأستاذ عبد الملك عبد الرحيم الذي يعمل في الإذاعة السعودية منذ أكثر من عشرين سنة ويشهد الجميع له بالنشاط والكفاءة والإخلاص في العمل. كما لقيت بعض الشباب السعودي الذين يعملون في إذاعة القرآن الكريم فأعجبني تمكنهم في الفنون الإذاعية وقدرتهم على إدارة الندوات دون إعداد طويل. وكم كنت أتمنى لو حفظت أسماء بعض هؤلاء للإشادة بهم في هذه المقالة.(1/36)
…وكان من مزايا الجنادرية (12) (وهي كثيرة) فرصة الالتقاء بين الكتاب والمفكرين وزملائهم من أنحاء العالم العربي الإسلامي وبين الكتاب ورؤساء تحرير صحفهم. ومن رؤساء التحرير الذين كان لهم وجود بارز في مقر إقامة ضيوف المهرجان رئيس تحرير هذه الصحفية الأستاذ أسامة أحمد السباعي فهو إعلامي مخضرم عرف هذه المهنة دراسة وتدريساً وتطبيقاً.
و جمعتنا أيام الجنادرية برؤساء تحرير بعض الصحف ومنهم الأستاذ يوسف الدمنهوري رئيس تحرير جريدة الندوة الذي وجد في هذه اللقاءات فرصة لدعوة عدد من رجال الفكر والقلم للمشاركة في الكتابة لجريدة الندوة، وكان مرحاً في لقائه ومشجعاً بقوله: "الندوة جريدتك فلا تبخل عليها بعطائك الفكري"، ومن رؤساء التحرير البارزين الذين استضافتهم الجنادرية هذا العام الدكتور محمد الهاشمي الحامدي رئيس تحرير "المستقلة"، فهو ليس غريباً عن هذه البلاد وصحافتها. فقد أشرف على بعض الصفحات في إحدى الصحف السعودية التي تصدر في الخارج، وقد تحدث عن حبه للمملكة وما يكن لها من تقدير واحترام وتحدث عن مكانة المملكة في العالم الإسلامي واهتمامه بأخبارها.
…أما ندوات الجنادرية حول الإسلام والغرب فقد تميزت بطرح الأفكار التي تهم الساحة الثقافية العربية الإسلامية، وأظهرت هذه الندوات مرة أخرى سعة أفق القائمين على تنظيم هذه الندوات وبعد نظرهم؛ حيث ضمت قائمة المشاركين أسماء من اتجاهات فكرية متعددة ومشارب مختلفة. وأرجو أن يكون في مشاركتهم هنا درس لهم في أن يتسع صدرهم في الندوات والمؤتمرات التي يعقدونها في بلادهم وجامعاتهم ومراكز بحوثهم لمن يخالفهم في الرأي. وأما الندوات وما دار فيها من نقاشات فأتناولها في الأسطر القادمة.…(1/37)
…قد يظن البعض أن حفلات الافتتاح ما هي إلاّ مناسبات للخطابة وعبارات المجاملة حتى إنك ترى بعض الحضور منشغلاً عن الاستماع لما يقال، بل يعجبني عندما تصطادهم كمرات التلفزيون وهم منشغلون. ولكنّي وجدت حفلة افتتاح النشاط الثقافي لمهرجان الجنادرية للثقافة والتراث الثاني عشر ليست كذلك. فقد كانت كلمة سمو الأمير بدر بن عبد العزيز نائب رئيس الحرس الوطني ورئيس اللجنة العليا للمهرجان ثرية بالمعاني العظيمة والأفكار الجميلة التي كانت ندوات الأيام التالية محاولة لتحقيقها.
…فكان مما قاله سموه:" إن الحرس الوطني ينطلق في تنظيمه لهذا المهرجان من قناعة تامة بأن الاعتناء بالماضي ودراسته ضرورة يتطلبها التطلع الصادق في تأكيد الهوية للمستقبل القريب والمنظور..." وما مهرجاننا الثقافي هذا وما دروسنا، ومناهجنا، ومحاضراتنا، وبرامجنا الإذاعية و التلفازية إلاّ تأكيد لهذا الأمر الخطير(المهم). فالماضي الذي نعتز به ونسعى إلى الإفادة منه واستلهامه في أعمالنا اليوم وغداً هو الماضي الذي كانت الأمة الإسلامية هي العالم الأول فيه عدة قرون لم يشاركها في الأولية أحد- كما أشار الشيخ الغزالي رحمه الله في إحدى محاضراته-. الماضي الذي لم يعرف الحروب "العالمية" ولا سباق التسلح، ولا القنابل الذرية، ولا إبادة الشعوب، ولا نازية ولا شيوعية ولا فاشية، الماضي الذي عرفت فيه البشرية لأول مرة معنى التسامح الحقيقي مع الآخر، الماضي الذي عرف المسلمون فيه المحبة الحقيقية فيما بينهم حتى تركوا لنا إنتاجاً فكرياً ضخماً.
…نعم إننا نعتني بالماضي لأن في ذلك تأكيد لهويتنا العربية الإسلامية التي يجب أن نتمسك بها في عالم يسعى إلى تذويب الثقافات والهويات في هوية واحدة هي الهوية الغربية، ويسعى إلى تحطيم الحواجز النفسية الضرورية لتمسكنا بالقيم والأخلاق الإسلامية.(1/38)
…وقد أدرك الروائي العربي المعروف الطيب صالح أهمية هذه الكلمات حينما أبدى أسفه لوصوله متأخراً عن حفلة الافتتاح فكأنه يقول بأن هذه الكلمات الرائعة لا بد لها أن تلمس أذهاناً وعقولاً وقلوباً تعيها فتحولها إلى برامج عمل تعود معها الأمة إلى هويتها عودة حقيقية بدلاً من أن تتنازعها التيارات والأفكار شرقاً وغرباً.
…وكان من الحديث عن ماضي هذه الأمة العظيم قيام أمير ويلز الأمير شارلز بتأسيس معهد باسمه للعمارة يهتم فيه بالعمارة الإسلامية ومحاولة استلهامها في العمارة الحديثة. فأوضح الأمير الانسجام بين الزخرفة الإسلامية والكون ، وأشاد بالعمارة الإسلامية التي ابتعدت عن افتعال الصراع مع الطبيعة بل حرصت على الإفادة من عناصر البيئة. وتحدث ثلاثة من أعضاء المعهد عن جوانب مختلفة من العمارة الإسلامية وتخطيط المدن. وكم كنت أود لو أتيحت لي الفرصة للتعقيب بأن أذكر أن الإسلام أمر المسلم أن لا يرتفع في البناء على جاره حتى لا يحجب عنه الشمس والهواء. كما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعان بمن كان يعرف التخطيط فخططا مدينة الكوفة فكان أضيق طريق فيها لا يقل عن أربعة أمتار (سبعة أذرع)، وجعلا المسجد هو مركز المدينة ثم قسمت المدينة إلى عدة أحياء.
…وقد أحسنت الجمعية السعودية للعمران بتنظيم سلسلة من المحاضرات عن العمارة الإسلامية، ولكن كان من الصعب على الإنسان أن ينشغل بأكثر من موضوع في وقت واحد. وحبذا لو نشرت هذه المحاضرات أو ملخصات لها، فإننا نحتاج إلى وعي عميق بفنون العمارة الإسلامية.(1/39)
وكانت الندوة الأولى حول "صورة الإسلام في الغرب، وصورة الغرب في الإسلام"، وقد تحدث في هذه الندوة كل من هلموت شيفر وزير الدولة للشؤون الخارجية في حكومة ألمانيا الاتحادية، وهو رجل دبلوماسي فحاول أن يقدم صورة جميلة لصورة الإسلام والمسلمين في ألمانيا. ولعل في ذلك كثير من الصحة فإن بقية الأوروبيين والأمريكيين يرون أن ألمانيا أكثر تسامحاً من غيرها. وقد ذكر الوزير المستشرقة الكبيرة آن ماري شيميل وحصولها على أعلى جائزة لقاء أعمالها في التقريب بين الإسلام والغرب. ومع ذلك فإن من المناسب أن أذكر أن كلاوس كينكل -وزير خارجية ألمانيا- حينما كان رئيساً للاتحاد الأوروبي دعا حكومة بنجلاديش أن تسمح للمارقة تسلميه نسرين بمغادرة البلاد وبحرية الكلام، كما أشير إلى مقالة للكاتب فهمي هويدي التي تناول فيها التنسيق بين ألمانيا وفرنسا حول مواجهة ما يطلقون عليه "الأصولية الإسلامية"
أما بول فندلي فغني عن التعريف فيكفيه أنه يقف منذ مدة طويلة في وجه ضغوط جماعات الضغط اليهودية دفاعاً عن مصالح أمريكا-حتى فقد بسبب ذلك منصبه في الكونجرس- التي تتطلب عدم المساس بالدين الإسلامي أو بالمسلمين. وكانت دعوته واضحة بأن على المسلمين أن يعرفوا ما فعله أعداؤهم فينافسوهم في العمل على الدفاع عن أنفسهم ومعتقداتهم.
…وتناول مصطفى العقاد الصعوبات والعراقيل التي يواجهها في سبيل إنتاج فيلم يوضح صورة الإسلام والمسلمين في الغرب. وذكر طرفاً مما عاناه في إنتاج فيلم الرسالة أو عمر المختار. وأكد على دور السينما. وهو محق جداً في أهمية دور السينما فإنك لا تكاد تمر عليك خمس دقائق من مشاهدة القنوات التلفازية في أمريكا دون أن تسمع ذكراً لليهود. فأين أموالنا من دعم هذا القطاع المهم جداً مع الأخذ في الاعتبار أن يوجد مع العقاد من يقدم له النصوص الصحيحة الصادقة.(1/40)
…وتحدث الأخ الدكتور عبد العزيز السويل فأشار إلى الصور المتبادلة بين الطرفين وإصرار الغرب على الاحتفاظ بصورة نمطية سيئة للعرب والمسلمين وإشاعتها في وسائل الإعلام المختلفة. ولكن ينبغي أن ندرك أن الإعلام الغربي مسؤول أيضاً عن نشر صورة نمطية سيئة للغرب بما يذيعه من أخبار الفساد والفجور والجريمة.
وانطلاقا من قضية الصور النمطية التي يصنعها الآخرون، فإننا أحياناً نصنع بعض هذه الصور فهذه مقالة الأستاذ سعيد السريحي قد أثارت كثيراً من الجدل لأنه انتقد فيها اهتمام العالم العربي الإسلامي بالشعر والأدب وإهمال العلوم التطبيقية والتقنية، فتولى الرد عليه الدكتور فيها مصطفى عبد الواحد مشيراً إلى أنّ الاهتمام بالأدب والشعر لا ينافي مطلقاً الاهتمام بالعلوم والتقنية. وذكر في معرض ردّه أنّ أحدهم زار مكتبة عباس محمود العقاد رحمه الله فوجد أن الشعر يحتل قرابة نصف أرفف المكتبة، فلمّا سأله عن ذلك قال له: "الأمة الفعالة أمة قوّالة".
…تذكرت هذا حينما فكرت بالطريقة التي تهتم الولايات المتحدة الأمريكية ببعض الطروحات الفكرية. فقبل عدة سنوات نشرت جريدة الشرق الأوسط في صفحتها الأولى خلاصة مقالة للمستشرق برنارد لويس وبعض التعليقات التي صدرت حولها قبل أن تنشر في العدد القادم من مجلة "شؤون خارجية"، وفي هذا الإطار اهتمت الدوائر العليمة والأكاديمية بأطروحة ميشال فوكوياما حول نهاية التاريخ التي نشرها في مجلة (مصالح قومية)National Interest حيث أُرسلت المقالة إلى عدد من الباحثين والأكاديميين للكتابة حولها. وفعلت الشيء نفسه مع مقولة صموئيل هاتنقتون حول صراع الحضارات.(1/41)
…وهاهو الحرس الوطني في ندواته الرائعة يهتم بالأدب والشعر والفكر، ويخصص أسبوعاً أو أكثر للاحتفاء بمئات الضيوف من المفكرين والأدباء والعلماء من أنحاء العالم العربي الإسلامي، وبعدد من كبار الباحثين العالميين. وهو يحتفي بالعلم والفكر طوال العام تخطيطاً للجنادرية ولنشر محاضراتها وندواتها بالإضافة إلى النشاطات الفكرية الأخرى مما يجعل الحرس الوطني بحق مؤسسة حضارية وليس عسكرية فحسب.
…ومن الاهتمام بالثقافة والفكر عرض الطروحات الفكرية العالمية بهدف دراستها ونقدها ولوضع النظرة الإسلامية مقابلها. ولعلنا بهذا العمل نُعِدُّ أنفسنا ليكون لنا طروحاتنا الخاصة التي نأمل أن ننطلق بها إلى العالم ليدرسها ويناقشها ، كما نفعل نحن بالطروحات التي ينشرها بين الحين والآخر.
…وقد أعجبني في تناول أطروحة فوكوياما التساؤلات التي أطلقها الدكتور أبو بكر باقادر، وهو حين يثير التساؤلات تظهر كأنها تساؤلات عفوية، ولكن لا يغيب عن ذهن السامع أنّ وراء تلك العفوية عمقاً علمياً، واتساع أفق وبعد نظر. ومن تلك التساؤلات قوله: "إلى أي مدى يؤرقنا تساؤل فوكوياما حول الدين؟ وأضاف بأن علينا أن نأخذ المبادرة ليكون لنا خطابنا الخاص للإجابة عن هذه الأسئلة وسواها مما يطرحه فوكوياما وغيره. ولا شك أن خطابنا الخاص هو ذلك الذي ينطلق من فهم عميق ودقيق للكتاب والسنّة.(1/42)
…وقد أعجبني أيضاً تناول الدكتور أحمد موصللي - من الجامعة الأمريكية في بيروت- حيث قال ما نصّه:" إلاّ أن الهدف الحقيقي للصحوة الإسلامية هو ضخ هذه المبادئ -الحرية والمساواة والعدل- مجدداً في الحياة السياسية مع ربطها بالمفهوم الإسلامي الشامل لله والكون والإنسان. فالإسلام قادر على استيعاب الجوانب الإيجابية للديموقراطية الليبرالية إلاّ أنه قادر في نفس الوقت على رفض الجوانب السلبية للديموقراطية. فالمسلمون قادرون اليوم على تطوير آليات الشورى والحرية والمساواة، وهم قادرون على رفض العبث الأخلاقي والقيمي وعلى التركيز المفرط على الملذات المادية والدنيوية. إن شريعة الإسلام وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم تزود المسلمين بمعايير تمنع عنهم الانهيار الأخلاقي والمعنوي، وبسبب رؤية المسلم لوظيفته في الأرض عبر استخلافه، فإن انهيار الأيديولوجيات الاشتراكية والشيوعية وصعود الديموقراطيات الليبرالية يعني أن على المسلم الاستفادة من هذا التغيير في المسار التاريخي للأيديولوجيات التي تثبت فشلها واحدة تلو الأخرى بسبب بعدها عن حقيقة الإنسان وتطلعاته..."
وأما مسألة الرد على فوكوياما فإن أحد ضيوف المهرجان قال في إحدى جلسات الاستراحة: "لماذا يعتقد الغرب دائماً على أنه قادر على تشكيل الشعوب بالطريقة التي يريدها؟ إن الله عز وجل قد جعل الناس مختلفين كما جاء في القرآن الكريم في قوله تعالى {ولو شاء ربّك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم} الآية(هود 118-119)، وقد صرحت وسائل الإعلام الغربية عقب حرب تحرير الكويت بأن الولايات المتحدة الأمريكية ستجد في نشر الديموقراطية في العالم. ومازلت أذكر أن الأمم المتحدة أرسلت عدداً كبيراً من جنودها للإشراف على الانتخابات في كمبوديا؛ فكنت ترى الناس يسيرون في الأدغال للوصول إلى صناديق الاقتراع.(1/43)
…ولا بد أن أذكر أن كلمة الرئيس كلينتون إلى المهرجان قد أشارت إلى قضية مهمة وهي استمرار الحوار بين العالم الإسلامي والغرب. وهو أمر حيوي إذا أراد الغرب أن يعرف الإسلام معرفة حقيقية فإن الوسائل الحالية يجب تطويرها لإعطاء فرصة أفضل لنماذج معتدلة من العالم الإسلامي لتشارك في النشاطات العلمية والأكاديمية في الغرب، والتقليل من الاعتماد على النماذج التي لا تمثل الفكر الإسلامي الصحيح.
وأنتقل إلى الندوة الخاصة بالاقتصاد وأذكر من المعلومات التي أوردها أحد المحاضرين بأن الشركات المتعددة الجنسيات تسيطر على جزءٍ كبيرٍ من الاقتصاد العالمي، وأنها لا تسمح لغيرها بأن ينمو بطريقة طبيعية. وعلى دول العالم العربي الإسلامي أن تعمل لمواجهة مثل هذه التحديات العالمية إن أرادت أن يكون لها مكان في الخارطة الاقتصادية العالمية.
………
الجنادرية وندوة الإسلام والغرب
…مرحى للحرس الوطني وألف مرحى على هذه الجهود المباركة والأياد البيضاء على الحركة الثقافية في بلادنا الغالية، فهذا يأتي مصداقاً لتصريح سمو الأمير بندر ابن عبد العزيز بأن الحرس الوطني ليس مؤسسة عسكرية فحسب بل هو مؤسسة ثقافية حضارية كذلك، والذي يأتي بتوجيهات كريمة من صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز نائب رئيس مجلس الوزراء ورئيس الحرس الوطني.
…فما أن يقترب موعد ندوات الجنادرية السنوي حتى يتطلع الكثيرون من أساتذة الجامعات والمثقفون عموماً إلى حضور هذه الندوات والالتقاء بالنخبة الطيبة من العلماء والمفكرين والأدباء والشعراء الذين يدعون لحضور هذا المهرجان التراثي الكبير وفعالياته المتميزة. وإنه لينطبق على أساتذة الجامعات في شوقهم لهذه الندوات ما قاله الشاعر : لا يعرف الشوق إلاّ من يكابده.(1/44)
…وكانت الندوة الكبرى لهذا العام بعنوان (الإسلام والغرب)، وهو موضوع يقع في صلب تخصص فئة من الباحثين والأساتذة في المدينة المنورة يعملون في قسم الاستشراق، هذا القسم الفريد من نوعه في العالم الإسلامي الذي أنشأته جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية قبل أكثر من عشر سنوات.(1)
وحظيت بدعوة كريمة من الحرس الوطني للحضور فوجدتني في شوق كبير لأكون في أوائل الصفوف للاستماع للمحاضرات والندوات لأفيد مما يلقى من علم ولأحظى بلقاء بعض المحاضرين أو بعض الجمهور الذي أعرف أنه سيكون موجوداً هناك.
…استهلت الندوات بمحاضرة الشيخ الدكتور جعفر شيخ إدريس بتقديم الرؤية الشرعية لموقف الإسلام من الحضارات والأديان الأخرى(2). وقد كانت محاضرة رائعة يهمني أن أتوقف عند حديثه عن دين الإسلام بأنه دين السلام وأضاف الشيخ حفظه الله ولكنه (الإسلام) يستعد للصدام، فلا بد من إعداد الأمة الإسلامية نفسها بأن تكون لها الهيبة والرهبة في نفس الآخرين. وهذا ما يؤيده الأمر الرباني في قوله تعالى {وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم}، ويؤيده أيضاً حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير) .
…وتأكيداً لهذا المفهوم عند الأمم الأخرى أذكر أن صورة غلاف إحدى مجلات (الطيران) التي تصدر بالغة الإنجليزية كانت لطائرة مقاتلة وكتب تحتها (القوة من أجل السلام) وإن هذا الموضوع جدير بأن يفرد له ندوة أو ندوات للبحث في كيفية وصول الأمة الإسلامية إلى القوة في المجالات جميعها: القوة الإيمانية والقوة العلمية والقوة العسكرية...الخ.
__________
(1) 1- أنشئ القسم عام 1403هـ (1983) فيكون مر عليه الآن (عام 1425) اثنان وعشرون عاماً
(2) 2- أفدت كثيراً من هذه المحاضرة في كتابي الغرب من الداخل دراسة للظواهر الاجتماعية، الطبعة الثانية ، الرياض ، 1425هـ(1/45)
…وقدّم معالي الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي وزير الشؤون الإسلامية محاضرة ضافية حول جهود المملكة في خدمة الدعوة الإسلامية في الغرب. وهي جهود مباركة تتمثل في المعاهد العلمية، ومراكز البحوث وفي الكراسي العليمة، وفي المساهمات في إنشاء المراكز الإسلامية، وكذلك في أكاديميات الملك فهد. وقد امتدت المحاضرة والتعليقات والمداخلات حتى وقت الندوة التالية. وكان بودي أن أتقدم بفكرة مفادها أن يكون للعلماء السعوديين وأساتذة الجامعات وجوداً أكثر فعالية في الجامعات الغربية. فلماذا لا يكون لهم وجود اكبر في الجامعات الغربية تدريساً وإشرافاً على البحوث العلمية ومشاركة في الندوات والمؤتمرات. وقد زرت واشنطن في الصيف الماضي ووجدت أن المعاهد المشهورة من مثل: معهد بروكنجز، ومعهد الشرق الأوسط، ومعهد الولايات المتحدة للسلام، ومعهد جون هوبكنز وغيرها لم تعرف مشاركة العلماء السعوديين في نشاطاتها. وفي مقابلة مع رئيس معهد الشرق الأوسط أجاب عن أحد أسئلتي بأن المعهد يرحب بمشاركة الأساتذة السعوديين وإنه معجب بالمستوى الأكاديمي للأساتذة السعوديين الذين التقاهم في زيارته الأخيرة إلى المملكة. ومما يدعو إلى التفكير في مثل هذا الاقتراح أن المعاهد المذكورة تستعين أحياناً بمن لا يمثل الإسلام والمسلمين تمثيلاً صحيحاً حيث إن بعضهم إمّا أن يكون ذو اتجاه علماني أو شيوعي أو غير ذلك من الاتجاهات التي لا تمثل البلاد الإسلامية تمثيلاً صحيحاً.
…وقد وقعت وزارة التعليم العالي قبل سنوات مع مؤسسة فلبرايت على تبادل الباحثين بين المملكة والولايات المتحدة الأمريكية، ولكن هل من الممكن زيادة عدد هذه المنح حتى يكون للأستاذ السعودي وجوداً أفضل في الجامعات الغربية؟(1/46)
…ومن الأمور الطريفة في بداية المهرجان أن جريدة الجزيرة قد أعدت ملفاً عن العلاقة بين الإسلام والغرب ووزع مع العدد الذي صدر في يوم افتتاح المهرجان، ولكن هذا الملحق رغم ما فيه من مشاركات متميزة لم يوزع في الأيام التالية.
كان الحديث في الأسطر السابقة حول محاضَرَتيْ معالي الدكتور عبد الله التركي وفضيلة الدكتور جعفر شيخ إدريس الذي يعمل في معهد العلوم الإسلامية والعربية التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في واشنطن والذي كانت مداخلاته في الندوات التالية تنم عن فهم عميق للإسلام ولعلاقته بالغرب.
…وأول الندوات كانت حول العلاقات التاريخية بين الإسلام والغرب، وقد وفق القائمون على هذا المهرجان في اختيار هذا الموضوع وكم وددت أن لو خصصت أكثر من جلسة لهذه القضية الحساسة. وأبدأ بمشاركة الدكتور عبد العزيز العبيدي فقد نجح أيما نجاح في تجلية هذه العلاقات في زمن الحروب الصليبية وبخاصة أن أوروبا قد جردت هذه الحملات التي اتسمت بكثير من الوحشية والعنف من جانب أوروبا والتسامح من جانب المسلمين. وأود أن أضيف أن أوروبا ما تزال تهتم بالحروب الصليبية فقد صدرت في السنوات الماضية العديد من الدراسات، وأنتجت عدة أفلام عنها، كم أشار الدكتور حسن عزوزي في مقالة له في أحد أعداد صحيفة (المسلمون) إلى إصدار أعداد خاصة من بعض المجلات الفرنسية حول هذه الحروب تشيع فيها روح الفخر بهذه الحروب.
…وأكد الدكتور العبيدي أن أوروبا أفادت كثيراً من هذه الحروب الصليبية في تعرفها على حضارة الأمة الإسلامية، كما قدمت هذه الحروب دروساً بليغة للمسلمين يجب أن يتذكروها دائماً وهي أن مواجهة أعداء الأمة والنجاح في هذه المواجهة لا يمكن أن يتم دون العودة الصحيحة للإسلام والوحدة الإسلامية.(1/47)
…أما ورقة الدكتور عبد الجليل التميمي فاهتمت بجانب الدراسات العربية الإسلامية في الغرب وإبراز هذه الدراسات لبعض الرموز المضيئة في التاريخ الإسلامي، ولكن كان على الدكتور التميمي أن يذكر أن هذه الدراسات اهتمت كذلك بالجوانب السلبية كاهتمام المستشرقين بالحلاج الذي قضى المستشرق الفرنسي لوي ماسنيون حياته في دراسته (وقلده الشاعر المصري المعاصر صلاح عبد الصبور)، وابن عربي والحسن ابن الصباح وغيرهم. والذي يراجع دائرة المعارف الإسلامية التي كتبها المستشرقون يدرك كيف أنهم حرصوا على أن تكون هذه الموسوعة إبرازاً لأسوأ ما في تاريخ المسلمين.
…وتحدث الدكتور فهمي جدعان عن العلاقة بين أوروبا و الإسلام وبخاصة محاولة المسلمين التفاعل مع حداثة أوروبا وما بعد الحداثة ، ورجعت إلى ملخص النص المنشور للمحاضرة فوجدت أن المحاضر لم يوفق في تناول هذا الموضوع بل كان في بعض الأحيان يجور في الحكم على الإسلام، ولا يشفع له أن حاول أن يدعو المسلمين إلى الاستقلال عن أوروبا .
…وبالنسبة لملاحظتي أن هذه الندوة كانت تستحق أكثر من ندوة فسبب ذلك أن هذه الجذور التاريخية هي الأساس الذي يجب مناقشته قبل الانطلاق للحديث عن العلاقة المعاصرة بين الإسلام والغرب. وباستعراض موجز أقول بأن هذه العلاقة بدأت حينما أسس المسلمون دولتهم في الجزيرة العربية وكانت الدولة الرومانية إحدى الدولتين العظميين في العالم حينذاك وكانت تخطط للهجوم على الدولة الإسلامية الوليدة، ولكن المسلمين أدركوا أنه ما غزي قوم في عقر دارهم إلاّ ذلوا، فبادروا هم بالخروج من الجزيرة العربية لتأمين الطريق للدعوة الإسلامية وتحرير الشعوب التي كانت الخاضعة للدولة الرومانية ولم يشفع لهم أنهم أبناء دين واحد.(1/48)
…وكان النصر للإسلام فأمن للشعوب التي خضعت لدولته الحياة الكريمة، وحرية التدين، وحرية التصرف في أموالهم، وسمح لهم بالمشاركة في النهضة الحضارية. وهو أمر لم يحدث عندما عادت أوروبا في الحروب الصليبية وكانت في قمة التخلف فأفادت هي من حضارة المسلمين.
…وعادت أوروبا مرة أخرى في حملاتها الاستعمارية التي كان يدفعها فلسلفة أوروبا بتفوق العرق الآري ورسالة الرجل الأبيض في تحضير الشعوب، وكانت النتيجة أن جعلت البلاد الاستعمارية همها الأول محاربة الإسلام بمحاربة التعليم ومنع المسلمين من النهضة، وجعل بلادهم مجرد مصدر للثروات الطبيعية التي تأخذها أوروبا لتعيدها مصنعة بأغلى الأسعار. كما حرصت أوروبا على صبغ هذه المستعمرات بالصبغة الأوروبية فاصطفت مجموعة من أبناء المسلمين إما عن طريق الابتعاث أو عن طريق المدارس الأجنبية التي أنشأتها في البلاد الإسلامية ومكنت لهؤلاء أن يستولوا على مقاليد توجيه الأمة بالرغم من أن الذين قاوموا الاحتلال هم العلماء والمجاهدون وليسوا المناضلين العلمانيين الوطنيين القوميين.
…وعندما بدأت اليقظة الإسلامية المعاصرة بعد عشرات السنين من سيطرة الاتجاهات القومية العلمانية أو اللادينية، اتخذت بعض الجهات المتنفذة في أوروبا والولايات المتحدة من هذه اليقظة العدو الأول فحاربتها بشتى الوسائل ومنها حرب النعوت والألقاب فأطلق على الصحوة :" الأصولية” و" التشدد" و"التطرف" و" التمرد" وغير ذلك، وعقدت عشرات الندوات والمؤتمرات لدراسة هذه الظاهرة كأنه ليس من حق المسلمين العودة إلى دينهم.
…والذي يدعو إلى التوسع في بحث جذور العلاقات التاريخية أن اليابان عندما أرادت أن تقوي علاقاتها مع دول جنوب شرق آسيا التي تضررت من الاحتلال الياباني ما كان من اليابان إلاّ أن اعتذرت عن كل ما ارتكبته في حق هذه الشعوب، فهل تفعل أوروبا ذلك بالنسبة لدول العالم الإسلامي؟(1/49)
وعندما حان موعد الندوة المعنونة:"الخطر الإسلامي على الغرب بين الوهم والحقيقة"، ازدحمت المدرجات بالحضور منذ وقت مبكر، وامتلأت القاعات الخارجية كلُّ ذلك لحضور هذه الندوة، ويعود سبب الازدحام إلى أمرين: أولهما أن أحد المتحدثين هو البروفيسور صموئيل هتنقتجون الذي كتب قبل عامين تلك مقالة أثارت كثيراً من الجدل وما تزال حول ما أسماه صدام الحضارات الذي يتلخص في أن الصراع القادم -بعد انتهاء الحرب الباردة - لن يكون بين دول بقدر ما سيكون بين الحضارة الإسلامية المتحالفة مع الكونفوشوستية ضد الحضارة الغربية التي تمثلها أمريكا وأوروبا. فالجمهور يريد أن يرى هتنقتون وما سيقوله حول موضوع الندوة.
…والسبب الآخر هو وجود البروفيسور جون اسبوزيتو صاحب كتاب الخطر الإسلامي وهم أم حقيقة، والذي نشرت مجلة "المجتمع" الكويتية فصلاً منه، كما استضافت اسبوزيتو في عدد من الأعداد التالية. والبروفيسور اسبوزيتو كان يعمل في كلية الصليب المقدس قبل أن ينتقل إلى جامعة جوروجتاون بواشنطن العاصمة، ويترأس مكتب التفاهم الإسلامي النصراني الذي كان يطلق عليه عندما كان تابعاً لمعهد هارتفورد اللاهوتي بمكتب العلاقات ثم الاهتمامات الإسلامية النصرانية.
…كانت الندوة تستحق هذا الاهتمام فالمتابع لما يكتب في الغرب عن الإسلام منذ عدة سنوات يدرك أن هذه القضية هي فعلاً من القضايا الخطيرة. وقد وجدت أن مجلس الشؤون الخارجية بمدينة نيويورك الذي يصدر مجلة (الشؤون الخارجية) التي فجر من خلالها هتنقتون موضوع الصدام بين الحضارات تصدر نشرة بعنوان (التقرير حول سياسات المسلمين)، وكان عددها الصادر في يناير /فبراير 1996 يتضمن مقالة ل دانيال بايبس بعنوان "خطر الإسلام الأصولي"، وتحدث عن هذا الخطر من خلال المحاور الآتية: الأيديولوجية المثالية المتطرفة، والاستبداد، ومعادة الديموقراطية، ومعادة السامية، ومعاداة الغرب ومعاداة التعايش مع الآخرين.(1/50)
والعودة إلى جذور الأشياء يقودنا إلى الفهم الحقيقي لواقعها المعاصر، فما زلت أذكر مقالة قصيرة كتبها القس سبايت بمكتب العلاقات الإسلامية النصرانية عام 1990م، بعنوان "من سيكون الشبح المخيف الجديد؟"، وجاء في المقالة أن أولئك الذين كانوا يجدون ما يتحدثون عنه دائماً بأنه الخطر الذي يواجه أمتهم لن يجدوا بعد انهيار الشيوعية في أوروبا الشرقية (قبل سقوط الاتحاد السوفيتي) ما يتشدقون بالحديث عنه؛ فلذلك يخشى أن يجعلوا الإسلام هذا الشبح المخيف الجديد أو الفزّاعة . ويستدل سبايت على ذلك بما كتبه كرس كروتهامر Chris Kruthammer - الذي أصبح كاتباً شهيراً ونجماً إعلامياً - مشبهاً الخطر الإسلامي بـ "الانتفاضة الكونية" .
…وعجبت حينها لقس في معهد لاهوتي يعترض أو يستنكر جعل الإسلام هدفاً لهذه الحرب الإعلامية الخطيرة. ولكن لعل هذا يعود إلى أن هؤلاء النصارى ومنهم اسبوزيتو يدركون أن القائمين على نشر فكرة أو أكذوبة "الخطر الإسلامي" إنما يخططون لأبعدَ من ذلك وهو محاربة النصرانية أيضاً فليس حباً في الإسلام يدافعون عنه ولكنهم عن أنفسهم يدافعون.(1/51)
…وتحدث صموئيل هتنقتون فكانت محاضرته بعيدة كل البعد عمّا قاله في مقالته المشهورة، حيث ركز على قضية تكاد تكون قد أشبعت بحثاً منذ جمال الدين الأفغاني ومحمد عبدة ومن جاء بعدهما وهي قضية التحديث والتغريب. وبالرغم من أن علماء الأمة الإسلامية لا يرون تعارضاً بين الأخذ بوسائل المدينة المعاصرة مع المحافظة على الشخصية الإسلامية والقيم الإسلامية. وقد أشار الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله في تفسيره لآيات {أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون} الآية، بأن المقصود من المصانع ليس كما فهمها المفسرون الأوائل بل هي المعامل التي تصنع وسائل المدنية، ولكنه أكدّ على أن تكون مبنية على العدل والحق وعدم ظلم العمال أو إشاعة الروح الاستهلاكية في الناس. وقد استشهد المحاضر بكلام للأمير بندر بن سلطان حول التنمية في المملكة العربية السعودية بأننا استطعنا أن نأخذ بكثير من وسائل الحضارة دون أن نفقد هويتنا، بل ازددنا والحمد لله محافظة عليها. وهكذا فكثير من الحضور كانوا يقولون ليس هذا هتنقتون صاحب مقولة صراع أو صدام الحضارات.
…وتحدث البروفيسور جون اسبوزيتو مشيراً إلى أن الخطر الإسلامي على الغرب ليس حقيقة؛ وذلك لأن الحركات الإسلامية التي تميل إلى العنف إنما هي أقلية وأن غالبية العالم الإسلامي التي تتمسك بالإسلام لا تشكل خطراً على الغرب. ويؤكد اسبوزيتو إلى أن الحركات الإسلامية في البلاد المختلفة لا تشكل خطراً لعدم وجود تنسيق بينها كما يزعم كروتهامر. ولعل مما يميز طروحات اسبوزيتو مطالبته بالاعتدال في التعامل مع الحركات الإسلامية والدعوة إلى سياسات تتيح لهم مشاركة أكثر فاعلية في البلاد المختلفة.(1/52)
…وعودة إلى مسألة الخطر الإسلامي فهي ليست وليدة السنوات الخمس الأخيرة أو منذ بدأ انتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين، وإنما هي قديمة منذ ظهرت الحركات الإسلامية التي نادت بتحرر البلاد العربية الإسلامية من الاحتلال الأجنبي ودعت إلى المحافظة على الهوية الإسلامية . فدارس التاريخ الحديث والمطلع على الوثائق الغربية سواءً الأمنية أو السياسية يجد أن هذه التقارير -وكذلك الدراسات الأكاديمية- كانت تشير إلى أن الحركات الإسلامية هي الأشد خطورة على الاستعمار، وكانت تنعت هذه الحركات بأنها تثير العداء للأجنبي وأنها لا تؤمن بالتحديث (التغريب)، وأنها تحارب تعليم المرأة وغير ذلك من الافتراءات القديمة المتجددة. (ما أشبه الليلة بالبارحة) .
…وهذه القضية لا يمكن لمقالة واحدة أن تستوعبها ولكن لنختم بالتساؤل: أما آن لهؤلاء الذين يروجون أكذوبة الخطر الإسلامي أن يعرفوا أن الإسلام رحمة للعالمين، وأن البشرية التي تقودها الحضارة المادية الغربية في حاجة للإسلام ؟
الجنادرية: الإسلام والشرق
أصبحت الجنادرية علماً على أشياء كثيرة منها الملتقى الفكري السنوي الثري بموضوعاته وأعلامه حتى ليكاد يتميز عن كثير من المؤتمرات التي تعقد في أنحاء العالم الإسلامي.(1) ونظراً لأنني عايشت هذا المهرجان الكبير في جانبه الثقافي منذ المهرجان التاسع فإنني حريص جداً على حضوره سنوياً .
ولمّا كان المهرجان قد اختار محور النقاش في السنوات الماضية حول الإسلام والغرب فكانت محاضرات وندوات تلك السنوات تعد مرجعاً بحق في القضايا التي تناولتها. وكم كنت أود أن يكون لهذا المهرجان الكبير نتائج محسوسة في أرض الواقع بأن يتم البدء في إنشاء كليات للدراسات الأوروبية والأمريكية حتى نتوصل إلى المعرفة الحقيقية بالغرب الأوروبي والأمريكي، أو مراكز بحوث متخصصة أو أقساماً علمية.
__________
(1) 1- انظر فصلاً سابقاً عن المقارنة بين الجنادرية ومؤتمرات تقعد في تونس(1/53)
وهاهي ندوة الجنادرية لهذا العام تختار محوراً مهماً جداً أَلَا وهو الإسلام والشرق. وقد يبدو لأول وهلة أن الاختيار غريب نوعاً ما لأن الإسلام انطلق من الشرق والشرق هو منبع الديانات السماوية كلها. ولكن المحاضرات والندوات التي عقدت في رحاب الجنادرية بقاعة الملك فيصل للمؤتمرات أكدت أن هذا الاختيار كان موفقاّ ورائعاً.
لقد تناولت إحدى الندوات موضوع الجذور التاريخية للعلاقة بين الإسلام والشرق؛ فتحدث فيها ثلاثة محاضرون تناول أحدهم دخول الإسلام إلى الهند والعلاقة بين الهند والإسلام على مر التاريخ، كما تناول باحث آخر تطبيق الشريعة الإسلامية في ماليزيا، بينما تناول الباحث الثالث العلاقة بين الإسلام والصين ودول جنوب شرق آسيا الأخرى. وكان من التعليقات البارزة في هذه الندوة ما تقدم به الدكتور محمد آل زلفة عضو مجلس الشورى بأن أثنى على الجهود السعودية في الدعوة الإسلامية في دول شرق آسيا، ولكنه أضاف بأن المطلوب أن يتم تكثيف هذه الجهود من خلال إعداد الدعاة في أقسام متخصصة لدراسة دول شرق آسيا في النواحي التاريخية والجغرافية واللغوية والثقافية، حتى إذا ذهب الدعاة إلى هناك كانوا على استعداد تام لمعرفة البيئة التي يعملون فيها.
وفي محاضرة أخرى تناول الدكتور عبد الله العبيد جهود المملكة العربية السعودية في الدعوة الإسلامية في الشرق، فقدم معلومات قيمة عن هذه الجهود وجلّى كثيراً من هذه الجهود المباركة وإن كانت محاضرة واحدة لا تكفي للحديث عن هذه الجهود.(1/54)
وكان من بين الندوات ندوة بعنوان "ندوة الأسس المعرفية والفلسفية للإسلام والفكر الديني في الشرق"، ومن بين الندوات المهمة الندوة التي عقدت تحت عنوان "الاستراتيجيات الاقتصادية الوطنية الدولية في الشرق ودور الإسلام فيها"، والتي تطرقت للتقدم الاقتصادي في دول شرق آسيا حتى لقّبت قبل أعوام بنمور آسيا ولمّا بدأت تحتل مساحة مهمة في الاقتصاد العالمي وبدأت منتوجاتها الصناعية تغزو الأسواق العالمية تعرضت لهزات اقتصادية صعبة أدت إلى انخفاض قيمة العملات في معظم دول جنوب شرق آسيا ولم تسلم حتى اليابان من هذه الهزات.
وقد تناولت هذه الندوة قضايا مهمة من بينها ضرورة تشجيع التبادل التجاري بين الدول الإسلامية العربية ودول شرق وجنوب شرق آسيا وبخاصة الدول الإسلامية فيها. وقد كانت جولة صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء رئيس الحرس الوطني إلى الصين وبعض دول شرق آسيا إشعاراً بأهمية تقوية الصلات بهذه الدول. وإن هذه الزيارة المباركة تعيد إلى الأذهان الزيارات المباركة التي قام بها الملك فيصل رحمه الله إلى دول أفريقيا حينما كان جلالته يرحمه الله ينادي بدعوة التضامن الإسلامي التي أثمرت في إنشاء منظمات إسلامية عالمية فاعلة منها رابطة العالم الإسلامي، ومنظمة المؤتمر الإسلامي التي نظمت لقاءات القمة بين زعماء العالم الإسلامي.
وعقدت ندوة أخرى بعنوان "العولمة والوطن العربي"، كما قدم الدكتور عبد الهادي أبو طالب محاضرة بعنوان "التقريب بين المذاهب الإسلامية واحتواء الصراعات المذهبية".
ولا شك أن يتفاعل المثقفون مع نشاط فكري كبير كهذا، وتظهر بعض الأفكار والاقتراحات والنقد وكذلك الحديث عن حضور الندوات والمحاضرات مما أرجو أن أتناوله في الأسطر القادمة.(1/55)
أشاد كثير من الحضور إن لم يكن معظمهم باختيار موضوع الإسلام والشرق، وكان من ابرز هؤلاء الشيخ الأستاذ فتحي يكن الذي ألقى كلمة رائعة في هذا المضمون ذكر فيها أن اهتمامنا بالغرب سنوات طويلة أنسانا أو كاد أهمية الشرق بالنسبة للعالم الإسلامي الذي هو شرقي في الأصل. وأشادوا بالمحاضرات والندوات التي قدمت ولكنهم رأوا أن الموضوع مازال يحتاج الكثير من البحث والدراسة، وذلك من خلال وضع خطة منهجية لدراسة هذه العلاقة العضوية القوية بين الإسلام والشرق وبخاصة العالم العربي والدول الإسلامية في أواسط آسيا وشبه القارة الهندية والصين وجنوب شرق آسيا وحتى اليابان وكوريا.
أولاً لا بد من الإشادة مكرراً بمهرجان الجنادرية التي يتيح الفرصة لكثير من المثقفين في هذه البلاد أن يحضروا إلى الرياض وبخاصة وهي تحتفل باختيارها عاصمة الثقافة العربية لعام ألفين، فلئن كانت الفرصة قد فاتت البعض في الاحتفالات التي سبقت الجنادرية فقد جاءت الجنادرية تعويضاً لهم عن عدم المشاركة. وحبذا لو كان من ضمن نشاطات الجنادرية إقامة ركن للمؤلفات السعودية داخل مقر سكن ضيوف المهرجان الذين لم تتح لهم الفرصة أن يزوروا مقر الجنادرية أو لتكون فرصة لهم في أثناء إقامتهم في الرياض أن يتعرفوا على المؤلفات السعودية، وكان بالإمكان تخصيص قاعة من قاعات الفندق لمثل هذا المعرض.
ومن الملاحظات المبدئية أن البعض رأى أن ندوة العولمة لم تكن ضمن قريبة الصلة جداً بموضوع الإسلام والشرق إلاّ إذا تمّ بحثها بما يراه الغرب من خلال العولمة وما يراه العالم الإسلامي وعلاقة الإسلام بالشرق في مواجهة العولمة أو الهيمنة الغربية.(1/56)
كذلك كان من الملاحظات أن السؤال الذي يحتاج إلى إجابة في مهرجان هذا العام والأعوام الماضية والأعوام التالية وهو أنه ما دامت الجنادرية أهلاً لتكون فرصة لاتخاذ توصيات قابلة للتطبيق، فهل ينبغي أن تنتهي الندوات والمحاضرات بأن تكون مطبوعة في كتب ولا تأخذ ما تستحق من اهتمام في أرض الواقع؟ ومن ذلك الدعوة لإنشاء كليات للدراسات الأوروبية والأمريكية فإن الغرب قد أنشأ آلاف الأقسام العلمية ومراكز البحوث والمعاهد لدراسات دول العالم المختلفة ومنها البلاد العربية والإسلامية. ونحن أولى بأن نهتم بهذا الجانب فنحن أمة الشهادة ولا يمكن لنا أن نحقق الشهادة الحقة دون معرفة رصينة بدول العالم الأخرى.
وأيضاً معرفة البلاد الإسلامية من خلال معرفة لغاتها وجغرافيتها وتضاريسها ومناخها وعاداتها وتقاليدها وأنظمتها وتاريخها يساعد على التقارب الحقيقي بين المسلمين. فقد لفت انتباهي أن أحد المشاركين في ندوة من الندوات اعتمد على المصادر الصينية المترجمة إلى اللغة الإنجليزية، فكم كان الأمر أجمل لو كان هناك من يعرف اللغة الصينية أو اللغات الصينية ليكون بحثه أكثر أصالة.(1/57)
وثمة نقطة مهمة وهي أن الحرس الوطني يقوم بدعوة عدد من العلماء الأفاضل الذي لهم باع طويل في مجال تخصصهم فيمضون أسبوعين تقريباً ليشاهدوا الجنادرية ويحضروا بعض المحاضرات والندوات ويمضون بقية أوقاتهم في زيارات لبعض المعالم الحضارية في مدينة الرياض وما حولها. فهل بالإمكان أن يتم التنسيق مع وزارة التعليم العالي ليقوم بعض هؤلاء العلماء بإلقاء المحاضرات على الطلاب أو عقد لقاءات لبعضهم مع طلاب الدراسات العليا. فإن أكثر من استأثر بوقت العلماء بعض الشباب من الصحفيين. فهل كان بالإمكان إقامة الندوات والمحاضرات في إحدى قاعات جامعتي الملك سعود أو الإمام محمد بن سعود الإسلامية وتقوم الجامعة بإتاحة الفرصة للطلاب المتخصصين في مجال الندوة ليحضروا هذه المحاضرات والندوات؟
وقد قرأت لأستاذي الدكتور محمد العيد الخطرواي رأياً قبل حضوره الجنادرية مفاده أن بعض الوجوه تتكرر كل عام دون أن يتفاعلوا حقيقة مع هذا المهرجان الكبير فلا تجدهم كتبوا كلمة واحدة عن المهرجان مع أنهم من أرباب القلم أو لعل بعضهم من أرباب القلم السابقين.
مزيداً من التوفيق لهذا المهرجان الكبير وشكراً للحرس الوطني وعلى رأسه صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز على هذه الجهود الرائعة التي يحق لنا جميعاً أن نفخر بها.
هذا هو الإسلام :الثقافية في مهرجان الجنادرية الثامن عشر
6-12ذو القعدة 1423هـ
لمّا كنت أحد أعضاء لجنة المشورة في مهرجان الجنادرية فقد وجهت إلي الدعوة لحضور مناشط المهرجان المختلفة، وكان من أبرزها النشاط الثقافي الذي كان محوره الأساس لهذا العام تحت عنوان (هذا هو الإسلام)، وقد حرصت على حضور معظم المحاضرات والندوات وبخاصة تلك التي تقع خارج الدوام الرسمي.
وفيما يأتي بيان موجز بالمحاضرات والندوات ولمحة عن بعض النشاطات الأخرى.
المحاضرات والندوات:(1/58)
…عقدت هذه المحاضرات والندوات جميعها في قاعة الملك فيصل للمؤتمرات بفندق إنتركونتنتال
المحاضرة الأول بعنوان "هذا هو الإسلام"، تحدث فيها معالي وزير الشؤون الإسلامية الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ، وذلك يوم الجمعة 7/11/1423هـ الساعة الخامسة والنصف مساءً.
الندوة الأولى: بعنوان "حقيقة الإسلام"، تحدث فيها كل من معالي الدكتور عبد الله بن محمد المطلق، والدكتور حمزة يوسف والدكتور خالد المذكور. وذلك يوم الجمعة الساعة السابعة والربع مساءً.
الندوة الثانية بعنوان "الإسلام والعالم"، تحدث فيها كل من الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان، والدكتور محمد علي تسخيري، والدكتور إسحاق أحمد الفرحان. وذلك يوم السبت على الساعة السابعة والربع مساءً.
الندوة الثالثة بعنوان "العرب والمسلمون في الإعلام الغربي"، شارك فيها كل من معالي الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، والدكتور جون اسبوزيتو، ومعالي الأستاذ جميل الحجيلان. وذلك يوم الأحد على العاشرة صباحاً
الندوة الرابعة بعنوان "الجهاد في الإسلام"، شارك فيها كل من د. جعفر شيخ إدريس، والدكتور عائض بن عبد الله القرني. وذلك يوم الأحد على الساعة السابعة والربع مساءً.
الندوة الخامسة بعنوان "المؤسسات الخيرية"، شارك فيها كل من الدكتور عبد الرحمن السيمط، والشيخ عقيل بن عبد العزيز العقيل. وذلك يوم الاثنين الساعة العاشرة صباحاً.
الندوة السادسة بعنوان "موقف الإسلام من الإرهاب"، شارك فيها كل من معالي الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، وعطاء الله مهاجراني، والدكتور مراد هوفمان. يوم الاثنين الساعة السابعة والربع مساءً.
الندوة السابعة بعنوان "دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بناء المجتمع"، شارك فيها كل من الشيخ إبراهيم عبد الله الغيث، والدكتور عبد الله الفوزان، والشيخ سلمان بن فهد العودة. يوم الثلاثاء الساعة العاشرة صباحاً.(1/59)
الندوة الثامنة بعنوان "الفضائيات العربية بين النقد والتقويم"، شارك فيها كل من الدكتور عبد القادر طاش- رحمه الله-، ود.حمدي حسن أبو العينين، والأستاذ جاسم العزاوي. يوم الثلاثاء، الساعة السابعة والربع مساءً.
محاضرة بعنوان "الاستراتيجيات الغربية في العالم الإسلامي"، قدمها الدكتور بول فندلي.يوم الثلاثاء الساعة الخامسة والنصف مساءً.
ملامح عامة عن النشاط الثقافي لهذا العام.
…أولاً : تميز نشاط هذا العام بموضوع مهم جداً وهو محاولة الرد على الحملات الغربية ضد الإسلام والمسلمين، من خلال عدد من الندوات والمحاضرات لتجلية حقائق الإسلام.
ثانياً : أجابت هذه المحاضرات عن كثير من التساؤلات وردت على الاتهامات، ولكن لمّا كانت مناشط الجنادرية في معظمها باللغة العربية مع وجود ترجمة فورية ولكن لا يذاع منها إلاّ مقتطفات قصيرة.
ثالثاً: من أبرز نجاحات أي ندوة أو محاضرة أن تثير قضايا وتساؤلات لتكون مجالاً للتفكير والعمل، وقد نجحت نشاطات هذا العام بإثارة سؤال خطير وهو متى ننطلق لندرس غيرنا من الشعوب والأمم ولتكن البداية بدراسة شعوب أوروبا وأمريكا.
رابعاً: التعرف على كثير من العلماء القادمين من أنحاء العالم الإسلامي الذين يفاد عادة من الجلوس إليهم والحديث معهم.
موجز لبعض المحاضرات والندوات التي حضرتها:
محاضرة بعنوان: هذا هو الإسلام استمعت في هذه المحاضرة لمعالي وزير الشؤون الإسلامية. وكان حديثه عاماً عن الإسلام في النواحي العقدية والعبادات والمعاملات، وكانت المشاركة أشبه بدرس مدرسي حتى إن بعض الحضور لم يعجبه أن خلت المحاضرة من التعمق في حقائق الإسلام وحاجة البشرية إليه في هذا الزمن الذي يتخبط فيه العالم باتباع الأنظمة الوضعية. وقد رد معالي الوزير بأن من يكلف بالحديث عن موضوع ضخم كهذا فلا بد أن يختار أحد المنطلقات، وقد رأى أن الحديث عن الإسلام في أساسياته هو المناسب لمثل هذه الندوة.(1/60)
ندوة حقيقة الإسلام. بدأ الحديث فيها الشيخ محمد المطلق عن التوحيد ثم أكمل بالحديث عن الأركان الخمسة الأخرى، وكانت أيضاً أقرب إلى الدروس المدرسية والمعلومات التي يحصل عليها الطلاب في المراحل المتوسطة والثانوية. أما المتحدث الثاني والثالث فلم تتح لي فرصة الاستماع إليهما أو قراءة ما قالاه.
ندوة الإسلام والعالم. تميزت هذه الندوة بالعمق وسعة الأفق والتحليق في حقيقة عالمية الإسلام، وقد أبدع المحاضرون الثلاثة في تجلية حقيقة عالمية الرسالة الإسلامية. وبحث كل من الدكتور أبو سليمان والتسخيري موجودة في الإنترنت مع صعوبة في نقلها ولكنها موجودة ويمكن قراءتها هناك.
ندوة العرب والمسلمون في الإعلام الغربي تحدث فيها كل من السفير جميل الحجيلان، وجون اسبوزيتو، والدكتور أحمد طالب الإبراهيمي.
وأتوقف عند حديث الحجيلان عن العوائق والعقبات التي تقف في وجه الدبلوماسية العربية في الرد على الحملات المغرضة ضد الإسلام والمسلمين ومنها ضرورة الاستئذان في كل صغيرة وكبيرة، وكم كنت أود أن أذكر له عبارة للشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله- لو أن أربعين سفارة عربية إسلامية في باريس مثلاً ارتدت نساؤهم الحجاب، وامتنعوا عن تقديم الخمور في سفاراتهم، وتمسكوا بالشعائر الإسلامية من صلاة وصيام لكان لهم أبعد الأثر في المجتمعات الغربية، ناهيك عمّا يتحملونه من مسؤولية الدعوة إلى دين الله عز وجل بله الدفاع عنه.
أما جون اسبوزيتو فتحدث عن الإعلام الغربي وموقفه من الإسلام والمسلمين، وأن هناك من يبذل الجهود المضنية لتجلية صورة الإسلام الحقيقية، وتساءل في آخر محاضرته أين المتخصصون العرب والمسلمون في الدراسات الأوروبية والأمريكية وقد قال بالحرف أعطوني متخصصين في دراسة التوراة والإنجيل والنصرانية واليهودية لنبدأ حواراً حقيقياً، وأشار إلى عدد الكتب التي ألفها حول الإسلام والمسلمين.(1/61)
أما الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي فكان قوياً في حديثه حيث استعرض العداء التاريخي ضد الإسلام في الغرب، وأن موقفهم الآن ينطلق من هذه العداوات التاريخية، وقال في نهاية محاضرته ما نصه: "وأخيراً فإن الحوار مع الطرف الآخر يفترض معرفته وأقترح توجيه الطلبة إلى الدراسات الغربية، فنؤسس في جامعاتنا كراسٍ "للاستغراب" حتى نتعلم لغات الغرب ونلّم بأحواله ماضياً وحاضراً" وأضاف قائلاً(ليس في نص المحاضرة) "لو استطعت أن أقنع شاباً واحداً في هذه القاعة أن يتخصص في الدراسات الغربية لعددت هذا نجاحاً لهذه المشاركة"
وطلبت الكلمة ولكن كان عدد المتدخلين كثير فلم تتح لي الفرصة وكنت أود أن أقول "إن جامعة الإمام كانت الرائدة في الجامعات العربية الإسلامية وسبقت غيرها بما لا يقل عن خمسين سنة، ولكن هذا القسم يوأد اليوم حين يتم إغلاقه وتحويله إلى مجرد مركز بحوث، بينما كان الأولى أن يتطور ليتحول إلى كلية للدراسات الأوروبية والأمريكية، ألسنا بحاجة إلى أن نعرف الغرب كما يعرفنا. ألسنا أمة الشهادة؟ وكيف لنا أن نشهد على الأمم لو لم نملك المعرفة؟ هاهي الصين تنشئ سبعة مراكز أو معاهد لدراسة الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا التي تشترك مع أمريكا في التاريخ والتراث والدين والمنابع الفكرية والثقافية لديها أكثر من معهد لدراسات الولايات المتحدة الأمريكية. ومنها معهد لندن لدراسة الولايات المتحدة الأمريكية ويقدم برنامجين للحصول على الماجستير والدكتوراه في الدراسات حول الولايات المتحدة في الجوانب السياسية، والاقتصادية والاجتماعية، وفي الأدب الأمريكي وغيره من القضايا التي تخص الولايات المتحدة، يا ليت قومي يسمعون؟
ندوة الجهاد في الإسلام. تحدث فيها كل من الدكتور عائض القرني، والدكتور جعفر شيخ إدريس، وكانت الورقتان متميزتين(1/62)
ندوة العمل الخيري. في الوقت الذي تشن وسائل الإعلام الغربية ويشاركها الهجوم حكومات بعض الدول الكبرى على العمل الخيري الإسلامي، كان لا بد أن تعقد ندوة لهذا الأمر شارك فيها كل من الدكتور عبد الرحمن السميط والأستاذ نهاد عوض، والشيخ عقيل العقيل وتميزت الورقات الثلاث بالحديث عن الواقع الذي يعيشه العمل الخيري، وكان ينبغي أن تترجم هذه الأوراق لما فيها من مواقف رائعة للعمل الخيري الإسلامي وضرورة الذب عن هذا العمل؛ فإن الأمة الإسلامية قد فطرت على عمل الخير كما يوجهها إلى ذلك القرآن الكريم والحديث الشريف.
ندوة الإرهاب في الإسلام. وتضمنت ورقتين إحداهما للدكتور عبد الله التركي وقد وزعت الورقة على الصحفيين، وهناك ورقة أخرى لعطاء الله مهاجراني وزير الثقافة السابق في إيران.
ندوة الفضائيات العربية بين النقد والتقويم. قرأ الدكتور عبد القادر طاش ورقته التي أعدها على عجل ووزعت على الصحفيين وهي مسودة أولى كان الأولى بالدكتور أن لا يقبل توزيعها وما كان يليق بالجنادرية أن تفعل ذلك. وركزت الندوة على سلبيات الفضائيات العربية، والحقيقة أن السلبيات أكثر من الإيجابيات ولكن كنت أود أن أستمع إلى الحلول المناسبة لهذه السلبيات فلا ينفع مواصلة البكاء، فعلينا وعلى الدعاة أن يمارسوا العمل الإعلامي وأن يطرقوا أبواب الإعلام وأن يتعلموا هذه الصنعة. وكان هناك حديث عن هامش الحرية في الإعلام، وقضية الحرية مهمة ولكن ثمة قضايا أخرى كثيرة, حبذا لو دعي إلى إيجاد ميثاق شرف بين الدول العربية الإسلامية تحمي الأمة من سفاسف الإعلام، وسخافات القنوات الفضائية أسوة بالاتفاقيات الدولية المختلفة كاتفاقيات الطيران وغيرها.(1/63)
محاضرة الاستراتيجيات الغربية في العالم الإسلامي. قدمها بول فندلي تناول فيها التغير الملحوظ في الإدارة الأمريكية في السنتين الماضيتين وتقييد الحريات ومصادمة دستور الولايات المتحدة الأمريكية وتحول أمريكا إلى شرطي العالم، وأوضح أن العداء متأصل للإسلام والمسلمين في صفوف بعض رجال السلطة الأمريكية، وركز الباحث على دور المسلمين في تغيير الصورة والحصول على حقوقهم، وكان مما قاله أن ثمة سلبية منتشرة بين صفوف المسلمين في العمل السياسي والثقافي والإفصاح عن هويتهم. ففي رأيه لا يزيد عدد الناشطين من المسلمين عن ثلاثة بالمائة ولو كان هذا العدد ثلاثين بالمائة لرفع كثير من الظلم والحيف عن الإسلام والمسلمين، وأوضح كثيراً من الطرق التي يمكن للمسلمين أن يتبعوها لينشطوا في الساحة الأمريكية.
وكنت أود أن يتحدث الباحث عن حقيقة الاستراتيجية الغربية وليس الأمريكية فقط في مد الهيمنة الغربية على العالم الإسلامي عقدياً واقتصادياً وسياسياً وثقافياً واجتماعياً وأخلاقياً. وأن العولمة التي انطلقت من الولايات المتحدة الأمريكية هي لنشر الأمركة وافتراس الشعوب الأخرى والسيطرة على ثروات الشعوب. ولكن ربما كان حرصه على مصالح قومه قد منعته من التصريح بمثل هذه الأمور.
الخاتمة
…ذكرت أنني أصبحت والجنادرية كمن وجد قلباً خالياً فتمكنا، كما أصبحت من أهل الجنادرية بمشاركتي بلجنة المشورة للعام 1423هـ. والحقيقة أنني أحببت النشاط الثقافي فيها وشاركت فيه ورصدته في عدة سنوات وكتبت عنه التقارير الصحفية والتقارير العلمية. شعرت في أثناء حضور هذه الندوات بأنني أعيش جواً علمياً مفتوحاً توفرت فيه جميع شروط الحوار العلمي الحر.
…ومهما قيل عن الجنادرية فهي خلاصة مجهود كبير يستحق منّا أن نشيد به ونثني عليه وندعو للقائمين عليه بالتوفيق والسداد والرشاد.(1/64)
…ففيما مضى نماذج من بعض السنوات لأنني لم أتمكن من حضور ندوات الجنادرية كلها، ولكني تابعت معظمها أو على الأقل بعد عام 1410هـ وحتى المهرجان الأخير عام 1423هـ
…وأود أن أؤكد في هذه الخاتمة على أنه ينبغي أن تفيد الجامعات والمحافل الثقافية من الأعداد الكبيرة من ضيوف المهرجان، وأن يتم طباعة محاضرات وندوات الجنادرية لدى دار نشر متخصصة ليكون في ذلك مورد دخل يفيد نشاطات الجنادرية للسنوات القادمة.
…(1/65)