الرسالة الثانية: الجمع بين الصلاتين في السفر:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: فإن شيخنا محمد الأمين المصرى رحمه الله قد طلب منا ونحن في الدراسات العليا في الجامعة الإسلامية أن نكتب في حديث قتيبة بن سعيد الآتي إن شاء الله، ذلك لأنه اختلف أهل العلم رحمهم الله في صحته وضعفه، بل حكم عليه الحاكم رحمه الله بالوضع. فرأيت أن أضمّ إلى المسألة الحديثية مسائل فقهيةً، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن معاوية رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من يرد الله به خيرًا يفقّهه في الدّين)).
والفقه فى الدين هو فهم الكتاب والسنة على ما أراده الله بحسب الطاقة البشرية.
فجمعت ما تيسر لي في هذا الموضوع. وبما أن حكم بعض المسائل الفقهية يخفى على كثير من الناس، بل ربما يحصل خصام بين سائق السيارة وبعض الركاب من أجل النزول للصلاة في أول الوقت، وأكثرهم لا يدري أن الجمع جائز في السفر، بل هو السنة إذا جدّ به السير على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله. بما أن الأمر كذلك؛ رأيت أنْ أضمّ إلى هذه الفائدة الحديثية بعض الفوائد الفقهية وأنشرها بين الناس.
أسأل الله أن ينفع بها الإسلام والمسلمين، وأن يجعل عملي خالصًا لوجهه الكريم إنه جواد كريم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
الجمع بين الصلاتين في السفر
قال الإمام البخاري رحمه الله (ج3ص236) مع "الفتح": حدثنا إسحاق قال أخبرنا عبدالصمد قال حدثنا حرب قال حدثنا يحيى قال حدثني حفص بن عبدالله بن أنس أن أنسًا رضي الله عنه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: كان يجمع بين الصّلاتين في السّفر يعني المغرب والعشاء.(1/1)
تخريج الحديث: أخرجه عبدالرزاق (ج2 ص545)، وأحمد (ج3 ص138، 151) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (ج1 ص162).
قال البخاري رحمه الله تعالى (ج3 ص233): حدثنا علي بن عبدالله قال حدثنا سفيان قال سمعت الزهري، عن سالم، عن أبيه، قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يجمع بين المغرب والعشاء إذا جدّ به السّير.
تخريج الحديث: أخرجه مسلم (ج5 ص214) مع النووي، ومالك في "الموطأ" من حديث نافع عن ابن عمر به (ج1 ص161) مع "تنوير الحوالك"، وابن الجارود ص
(87)، وابن خزيمة (ج2 ص81)، والدارمي (ج1 ص335)، وأحمد (ج2 ص7) من حديث نافع عن ابن عمر به، وص (8، 63، 102، 106، 148)، والنسائي (ج1 ص133) وابن أبي شيبة، وعبدالرزاق (ج2 ص544)، والطحاوي في "معاني الآثار" (ج1 ص161)، والبيهقي (ج3 ص159)، وأبونعيم في "الحلية" (ج9 ص161)، والخطيب (ج7 ص27).
هذا وللحافظ العراقي رحمه الله كلام نفيس في شرح حديثي ابن عمر وأنس فدونكه، قال رحمه الله في كتابه "طرح التثريب في شرح التقريب" (ج3 ص121):
باب الجمع في السفر
عن سالم، عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يجمع بين المغرب والعشاء إذا جدّ به السّير.
وعن نافع عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا عجل به السّير جمع بين المغرب والعشاء.
فيه فوائد:
الأولى: أخرجه من الطريق الأولى الشيخان والنسائي من طريق سفيان ابن عيينة بهذا اللفظ، والبخاري أيضًا من طريق شعيب بن أبي حمزة، ومسلم من طريق يونس بن يزيد بلفظ: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا أعجله السّير في السّفر يؤخّر المغرب حتّى يجمع بينها وبين العشاء)، ثلاثتهم عن الزهري، عن سالم.(1/2)
وأخرجه الزهري(1) من طريق كثير بن قاووند، عن سالم، عن أبيه في جمعه بين الظّهر والعصر، حين كان بين الصّلاتين بين المغرب والعشاء ، حين اشتبكت النجوم. وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ((إذا حضر أحدكم الأمر الّذي يخاف فوته، فليصلّ هذه الصّلاة)).
وأخرجه من الطريق الثانية مسلم، والنسائيّ من طريق مالك، عن نافع.
وأخرجه مسلم أيضًا من طريق يحيى القطان، والترمذي من طريق عبدة ابن سليمان، كلاهما عن عبيدالله عن نافع: أنّ ابن عمر كان إذا جدّ به السّير جمع بين المغرب والعشاء بعد أن يغيب الشّفق. ويقول: إنّ
رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا جدّ به السّير جمع بين المغرب والعشاء. لفظ مسلم.
ولفظ الترمذي: إنّه استغيث على بعض أهله فجدّ به السّير، وأخّر المغرب حتّى غاب الشّفق، ثمّ نزل فجمع بينهما، ثمّ أخبرهم أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يفعل ذلك إذا جدّ به السّير. وقال: حسن صحيح.
ورواه أبوداود من طريق أيوب، عن نافع: أنّ ابن عمر استصرخ على صفيّة وهو بمكّة، فسار حتّى غربت الشّمس وبدت النّجوم، فقال: إنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا عجل به أمر في سفر، جمع بين هاتين الصّلاتين فسار حتّى غاب الشّفق، فنزل فجمع بينهما.
رواه النسائي من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا جدّ به السّير، أو حزبه أمر، جمع بين المغرب والعشاء.
ومن طريق ابن جابر، عن نافع، عن ابن عمر في خروجه معه إلى صفية بنت أبي عبيد، وفيه: حتّى إذا كان في آخر الشّفق نزل فصلّى المغرب، ثمّ أقام العشاء وقد توارى الشّفق فصلّى بنا، ثمّ أقبل علينا فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا عجل به السّير صنع هكذا.
__________
(1) ?…صوابه: النسائي. كما في ?تحفة الأشراف".(1/3)
ومن طريق إسماعيل بن عبدالرحمن شيخ من قريش، عن ابن عمر في جمعه بين المغرب والعشاء حين ذهب بياض الأفق وفحمة العشاء، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يفعل.
وأخرجه البخاري في (الحج والجهاد) في "صحيحه"، من طريق زيد بن أسلم عن أبيه، قال: كنت مع ابن عمر رضي الله عنهما بطريق مكّة، فبلغه عن صفيّة بنت أبي عبيد شدّة وجع، فأسرع السّير، حتّى كان بعد غروب الشّفق نزل فصلّى المغرب والعتمة، جمع بينهما، ثمّ قال: إنّي رأيت النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا جدّ به السّير أخّر المغرب وجمع بينهما.
الثانية: قوله في الرواية الأولى: (جدّ به السّير)، أي: اشتدّ به السير. قال في "المحكم": جدّ به الأمر، أي: اشتد.
وقال القاضي عياض في "المشارق": جدّ به السّير، أي أسرع وعجل في الأمر الذى يريده. انتهى.
وما ذكرته أولى لأنّ الذي في الحديث نسبة الجدّ إلى السير، وفي كلام القاضي نسبة الجد إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فاللفظ الواقع في الحديث إمّا أن يراد به الاشتداد كما نقلته عن صاحب "المحكم"، وإمّا أن ينسب الجد إلى السير على سبيل التوسع، والإسراع في الحقيقة إنما هو من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ويكون هذا على حد قولهم: (نهاره صائم، وليله قائم)، فينسب الصيام إلى النهار، والقيام إلى الليل لوقوعه فيهما، وفي الحقيقة إنما هو من الفاعل. فمعنى قوله: (جدّ به السير) جدّ في السير.
ويوافق هذا قوله في رواية أخرى: إذا جدّ في السير.
قال في "الصحاح": الجدّ: الاجتهاد في الأمور، تقول منه: جدّ في الأمر يجدّ ويجدّ، أي: بكسر الجيم وضمها، وأجدّ في الأمر مثله. قال الأصمعي: يقال: إنّ فلانًا لجادّ مجدّ باللغتين جميعًا. وقال في "المحكم": جدّ في أمره يجدّ ويجدّ جدًّا وأجدّ حقق. وقال في "المشارق": الجدّ المبالغة في الشيء. انتهى.(1/4)
ويأتي هذان الاحتمالان في قوله في الرواية الثانية: (عجل به السير). إمّا أن يضمّن (عجل) معنى اشتد، وإمّا أن تكون نسبة العجل الى إلسير مجازًا وتوسعًا. والأصل: (عجل في السير).
الثالثة: فيه جواز الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء في هذه الحالة، وهي الجدّ في السفر والاستعجال فيه.
وتقدم من "سنن النسائي": الجمع بين الظهر والعصر أيضًا، وفي
"الصحيحين" عن أنس رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشّمس أخّر الظّهر إلى وقت العصر، ثمّ نزل فجمع بينهما، فإن زاغت قبل أن يرتحل صلّى الظّهر ثمّ ركب.
وفي رواية للبخاري: كان النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يجمع بين صلاة المغرب والعشاء في السّفر.
وفى رواية لمسلم: كان النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا أراد أن يجمع بين الصّلاتين في السّفر، أخّر الظّهر حتّى يدخل أوّل وقت العصر، ثمّ يجمع بينهما.
وفي رواية له: إذا عجل عليه السّير، يؤخّر الظّهر إلى أوّل وقت العصر، فيجمع بينهما ويؤخّر المغرب حتّى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشّفق.
وفي "صحيح البخاري" تعليقًا، و"صحيح مسلم" موصولاً عن ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يجمع بين صلاة الظّهر والعصر إذا كان على ظهر سير ويجمع بين المغرب والعشاء. لفظ البخاري.(1/5)
ولم يقل مسلم: إذا كان على ظهر سير، وزاد: (قال سعيد بن جبير: فقلت لابن عباس: ما حمله على ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمّته). فزاد في حديثي أنس وابن عباس: الجمع بين الظهر والعصر، وأما اقتصار ابن عمر رضي الله عنهما في الرواية المشهورة عنه على ذكر الجمع بين المغرب والعشاء فسببه أنه ذكر ذلك جوابًا لقضية وقعتْ له، فإنه استصرخ على زوجته فذهب مسرعًا، وجمع بين المغرب والعشاء، فذكر ذلك بيانًا لأنه فعله على وفق السنة. فلا دلالة فيه لعدم الجمع بين الظهر والعصر. فقد رواه أنس وابن عباس ومعاذ وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم.
وفي "صحيح مسلم" وغيره عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في غزوة تبوك، فكان يصلّي الظّهر والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا. وفي لفظ له: جمع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في غزوة تبوك بين الظّهر والعصر، وبين المغرب والعشاء.
زاد في "الموطأ" و"سنن أبي داود" و"النسائي" و"صحيح ابن حبان": فأخّر الصّلاة يومًا، ثمّ خرج فصلّى الظّهر والعصر جميعًا، ثمّ دخل، ثمّ خرج فصلّى المغرب والعشاء جميعًا. قال ابن عبدالبر: هذا حديث صحيح ثابت الإسناد.
وفي "سنن أبي داود" و"الترمذي" و"صحيح ابن حبان" وغيرها، عن معاذ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل زيغ الشّمس، أخّر الظّهر إلى العصر فيصلّيهما جميعًا، وإذا ارتحل بعد زيغ الشّمس عجّل العصر إلى الظهر وصلى الظهر والعصر جميعًا، ثم سار، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخّر المغرب حتّى يصلّيها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجّل العشاء، فصلاها مع المغرب. قال الترمذي: حديث حسن. وقال البيهقي: هو محفوظ صحيح. انتهى.(1/6)
ففي حديث معاذ الجمع بين الظهر والعصر أيضًا، ولم يقيد ذلك بأن يعجل به السفر بل صرّح في رواية "الموطأ" وأبي داود وغيرهما بالجمع وهو غير سائر، بل نازل ماكث في خبائه، يخرج فيصلي الصلاتين جميعًا، ثم ينصرف إلى خبائه.
قال الشافعي رحمه الله في "الأم" بعد ذكره هذه الرواية: هذا وهو نازل غير سائر لأن قوله: (دخل ثم خرج)، لا يكون إلا وهو نازل، فللمسافر أن يجمع نازلاً ومسافرًا. انتهى.
وفي رواية أبي داود والترمذي وغيرهما التصريح بجمع التقديم والتأخير فى الظهر والعصر، وفي المغرب والعشاء، وقد كانت غزوة تبوك في أواخر الأمر سنة تسع من الهجرة.
وقد اختلف العلماء فى هذه المسألة على أقوال:
أحدها: جواز الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء بعذر السفر، جمع تقديم في وقت الأولى منهما، وجمع تأخير في وقت الثانية منهما. وبه قال مالك، والشافعي، وأحمد في المشهور عنه، والجمهور، إلا أن المشهور من مذهب مالك اختصاص الجمع بحالة الجد فى السير، لخوف فوات الأمر أو لإدراك مهمّ، وبه قال أشهب. وقال ابن الماجشون وابن حبيب وأصبغ: إنّ الجدّ لمجرد قطع السفر مبيح للجمع.
وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه" الجمع بين الصلاتين في السفر عن سعد ابن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وأبي موسى الأشعري، وأسامة بن زيد، وغيرهم. وحكاه ابن المنذر عن ابن عباس، وابن عمر، وطاوس، ومجاهد، وعكرمة، وأبي ثور، وإسحاق، قال: وبه أقول.
وقال البيهقي: الجمع بين الصلاتين بعذر السفر من الأمور المشهورة المستعملة فيما بين الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين، مع الثابت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم عن أصحابه، ثم ما أجمع عليه المسلمون من جميع الناس بعرفة ثم بالمزدلفة، وروى في ذلك عن عمر، وعثمان، ثم روى عن زيد بن أسلم، وربيعة، ومحمد بن المنكدر، وأبي الزناد أنّهم كانوا يجمعون بين الظهر والعصر، إذا زالت الشمس.(1/7)
وحكاه ابن عبدالبر عن عطاء بن أبي رباح، وسالم بن عبدالله، وجمهور علماء المدينة.
وحكاه ابن بطال عن جمهور العلماء. وحكاه ابن قدامة في "المغني" عن أكثر أهل العلم.
وحكاه أبوالعباس القرطبي عن جماعة السلف وفقهاء المحدثين.
القول الثاني: اختصاص ذلك بحالة الجد في السفر لخوف فوات أمر أو لإدراك مهم، وهو المشهور عن مالك، كما تقدم. وتمسك هؤلاء بظاهر حديث ابن عمر هذا، وجوابه أن في حديث غيره زيادة يجب الأخذ بها وهي الجمع من غير جدّ في السفر.
قال ابن عبدالبر بعد ذكر حديث معاذ الذي سبق ذكره من "الموطأ" وغيره: في هذا أوضح الدلائل، وأقوى الحجج في الرد على من قال: لا يجمع المسافر بين الصلاتين إلا إذا جدّ به السير. وهو قاطع للإلتباس، قال: وليس فيما روي عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه كان إذا جدّ به السير جمع بين المغرب والعشاء ما يعارضه لأنه إذا كان له الجمع نازلاً غير سائر، فالذي يجد به السير أحرى بذلك، وإنما يتعارضان لو كان في أحدهما أنه قال: لا يجمع المسافر بين الصلاتين إلا أن يجد به السير. وفي الآخر: أنه جمع نازلاً غير سائر، فإما أن يجمع وقد جدّ به السير، ويجمع وهو نازل لم يجد به السير. فليس هذا بمتعارض عند أحد له فهم.
قال: وقد أجمع المسلمون على الجمع بين الصلاتين بعرفة ومزدلفة، فكل ما اختلفت فيه من مثله فمردود إليه. وروى مالك عن ابن شهاب أنه قال: سألت سالم بن عبدالله هل يجمع بين الظهر والعصر في السفر؟ فقال: نعم، لا بأس بذلك. ألم تر إلى صلاة الناس بعرفة. فهذا سالم قد نزع بما ذكرنا وهو أصل صحيح لمن ألهم رشده، ولم تمل به العصبية إلى المعاندة. انتهى.
وحكى أبوالعباس القرطبي عدم اشتراط الجد في السفر عن جمهور السلف، وعلماء الحجاز، وفقهاء المحدثين، وأهل الظاهر.(1/8)
القول الثالث: كالذي قبله في الاختصاص بحالة الجدّ في السفر لكن لا يختص ذلك بأن يكون سبب الجد خوف فوات أمر أو إدراك مهم، بل لو كان الجد لمجرد قطع المسافة كان الحكم كذلك، وهذا قول جماعة من المالكية، كما تقدم.
وفي "مصنف ابن أبي شيبة" عن أسامة بن زيد أنّه كان إذا عجل به السّير جمع بين الصّلاتين. وعن سالم بن عبدالله بن عمر أنّه سئل عن الجمع بين الصّلاتين في السّفر فقال: لا، إلاّ أن تعجلني سير.
وحكى ابن عبدالبر عن الليث بن سعد أنه لا يجمع إلا من جدّ به السير. وقال أبوبكر بن العربي: إن قول ابن حبيب هذا هو قول الشافعي لأن السفر نفسه إنما هو لقطع الطريق. انتهى.
وفيما قاله نظر فإنّ الماكث في المنْزلة ليس قاطعًا للطريق، وكذلك من هو سائر إلا أنه لا استعجال به، بل هو يسير على هينته، فهو أن يجوّز الشافعي لهما الجمع ولا يجوّزه لهما ابن حبيب ومن قال بقوله، ولعل صاحب هذا القول أسعد بحديث ابن عمر من القول الذي قبله، فإن الذي في حديث ابن عمر اعتبار الجد في السفر من غير سبب مخصوص لذلك، ولا يقال: إنما يكون الجد لخوف فوات أمر أو إدراك مهم، فقد يكون الجد لمجرد قطع المسافة والاستراحة من متاعب السفر. وقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((فإذا قضى أحدكم نهمته من سفره فليعجّل إلى أهله?))، لكن زاد حديث معاذ على ذلك ببيان الجمع في زمن الإقامة التي لا تقطع اسم السفر فوجب الأخذ به كما تقدم. والله أعلم.
القول الرابع: أنه لا يجمع بين الصلاتين إلا من عذر، رواه ابن أبي شيبة عن الحسن البصري، وعمر بن عبدالعزيز.
وحكاه ابن عبدالبر عن الأوزاعي وقال: لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا جدّ به السير جمع. قال: وعن الثوري نحو هذا، وعنه أيضًا ما يدل على الجواز، وإن لم يجد السير. انتهى.(1/9)
وفي "مصنف ابن أبي شيبة" عن جابر بن زيد: ما أرى أنْ يجمع بين الصّلاتين إلاّ من أمر. فجعل صاحب هذا القول الجد في السير مثالاً للعذر، والاعتبار بالعذر بأيّ وجه كان، ويقول الجمهور: السفر نفسه عذر ومظنة للرخصة فنيط الحكم بمجرده. والله أعلم.
القول الخامس: منع الجمع بعذر السفر مطلقًا وإنما يجوز للنسك بعرفة ومزدلفة، وهذا قول الحنفية، بل زاد أبوحنيفة على صاحبيه وقال: لا يجمع للنسك إلا إذا صلى في الجماعة، فإن صلى منفردًا صلى كل صلاة في وقتها. وقال أبويوسف ومحمد: المنفرد في ذلك كالمصلي جماعة.
وحكى ابن قدامة في "المغني" هذا عن رواية ابن القاسم عن مالك واختياره. وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن إبراهيم النخعي قال: كان الأسود وأصحابه ينْزلون عند وقت كل صلاة في السفر، فيصلون المغرب لوقتها، ثم يتعشون، ثم يمكثون ساعة، ثم يصلون العشاء.
وعن الحسن وابن سيرين أنّهما قالا: ما نعلم من السنة الجمع بين الصلاتين في حضر ولا سفر، إلا بين الظهر والعصر بعرفة، وبين المغرب والعشاء بجمع. وعن عمر وأبي موسى أنّهما قالا: الجمع بين الصلاتين بغير عذر من الكبائر. وروي هذا مرفوعًا من حديث ابن عباس، رواه الترمذي، وهو ضعيف.
وأجاب هؤلاء عن أحاديث الجمع بأن المراد بها أن يصلي الأولى في آخر وقتها، والأخرى في أول وقتها وهذا مردود بوجهين:
أحدهما: أنه وردت الروايات مصرّحةً بالجمع في وقت إحداهما. فمنها ما تقدم من "صحيح مسلم" من حديث ابن عمر: جمع بيْن المغْرب والعشاء بعْد أن يغيب الشّفق. ومنها قوله في حديث أنس: أخّر الظّهر حتّى يدخل أوّل وقت العصر، ثمّ يجمع بينهما. وحديث معاذ صريح في جمعي التقديم والتأخير في الظهر والعصر، وفي المغرب والعشاء. وهذه الأحاديث لا يمكن معها التأويل الذي ذكروه.(1/10)
الثاني: أن الجمع رخصة فلو كان على ما ذكروه، لكان أشد ضيقًا وأعظم حرجًا من الإتيان بكل صلاة في وقتها، لأنّ الإتيان بكل صلاة في وقتها أوسع من مراعاه طرفي الوقتين، بحيث لا يبقى من وقت الأولى إلا قدر فعلها، ومن تدبر هذا وجده واضحًا كما وصفنا، ثم لو كان الجمع هكذا لجاز الجمع بين العصر والمغرب، والعشاء والصبح. ولا خلاف بين الأمة في تحريم ذلك، والعمل بالأحاديث على الوجه السابق إلى الفهم منها أولى من هذا التكلف الذى لا حاجة إليه.
واحتج هؤلاء بما رواه الشيخان من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، قال: ما صلّى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قطّ صلاةً لغير وقتها إلا ّالمغرب والصّبح بالمزدلفة، فإنّه أخّر المغرب حتّى جمعها مع العشاء، وصلّى الصّبح قبل الفجر. وقالوا: إن مواقيت الصلاة تثبت بالتواتر فلا يجوز تركها بخبر واحد، والجواب عن حديث ابن مسعود أنه متروك الظاهر بالإجماع من وجهين:
أحدهما: أنه قد جمع بين الظهر والعصر بعرفة بلا شك، وقد ورد التصريح بذلك في بعض طرق حديث ابن مسعود فلم يصح هذا الحصر.
وثانيهما: أنه لم يقل أحد بظاهره في إيقاع الصبح قبل الفجر، والمراد أنه بالغ في التعجيل، حتى قارب ذلك ما قبل الفجر، ثم إنّ غير ابن مسعود حفظ عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الجمع بين الصلاتين في السفر بغير عرفة ومزدلفة، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، ولم يشهد.
وقد روى أبويعلى الموصلي في "مسنده" بإسناد جيد(1) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يجمع بين الصّلاتين في السّفر.
والجواب عن قولهم: لا يترك المتواتر بالآحاد، بأنّا لم نتركها وإنما خصصناها، وتخصيص المتواتر بالآحاد جائز بالإجماع وقد جاز تخصيص الكتاب بخبر الواحد إجماعًا، فتخصيص السنة بالسنة أولى بالجواز، والله أعلم.
__________
(1) ?…سيأتي إن شاء الله مع الحكم عليه بأنه ضعيف.(1/11)
وذكر الشافعي قول عمر: جمع الصلاتين من غير عذر من الكبائر. وقال: العذر يكون بالسفر والمطر. وليس هذا ثابتًا عن عمر وهو مرسل.
القول السادس: جواز التأخير ومنع جمع التقديم. وهو رواية عن أحمد. قال ابن قدامة: وروي نحوه عن سعد، وابن عمر، وعكرمة. قال ابن بطال: وهو قول مالك في "المدونة"، وبهذا قال ابن حزم الظاهري، بشرط الجد في السفر، واعتماد هؤلاء على أن جمع التقديم لم يذكر في حديثي ابن عمر وأنس وإنما ذكر فيهما جمع التأخير، وتأكد ذلك بقوله في حديث أنس: فإن زاغت قبل أن يرتحل صلّى الظّهر، ثمّ ركب. ولم يذكر صلاة العصر.
وجوابه: أنه لا يلزم من عدم ذكرها أن لا يكون صلاها مع الظهر. وقد ورد التصريح بجمع التقديم في حديث معاذ وغيره، فوجب المصير إليه، وحمل بعضهم حديث أنس على أنّ معناه صلى الظهر والعصر، قال: لأنه عليه السلام إنما كان يؤخر الظهر إلى العصر إذا لم تزغ الشمس، فكذلك يقدم العصر إلى الظهر إن زاغت الشمس، ذكره ابن بطال.
وقد ورد التصريح بذلك من حديث أنس بسند لا بأس به في "معجم الطبراني الأوسط"، ولفظه: إذا كان في سفر فزاغت الشّمس جمع بينهما في أوّل وقت العصر، وكان يفعل ذلك في المغرب والعشاء.
وحكى ابن العربي أن اللؤلؤي حكى عن أبي داود أنه قال: ليس في تقديم الوقت حديث قائم. ?. وليس ذلك في روايتنا "لسنن أبي داود" من طريق اللؤلؤي، وضعف ابن حزم حديث معاذ في جمع التقديم، وقد بسطت الرد عليه في ذلك في كراسة كتبتها قديمًا سميتها "الدليل القويم على صحة جمع التقديم".(1/12)
الرابعة: غاية ما دلّ عليه هذا الحديث جواز الجمع، فأما رجحانه وكونه أفضل(1) من إيقاع كل صلاة في وقتها، فلا دلالة فيه عليه، فلعله عليه الصلاة والسلام بيّن بذلك الجواز أو فعله على سبيل الترخيص والتوسع، وإن كان الأفضل خلافه. وقد صرح أصحابنا الشافعية بذلك، وقالوا: إنّ ترك الجمع أفضل. وقال الغزالي: إنه لا خلاف في المذهب فيه.
وعللوه بالخروج من الخلاف فإن أباحنيفة وجماعة من التابعين لا يجوزونه، وعن أحمد بن حنبل في ذلك روايتان، وزاد مالك رحمه الله على ما قاله أصحابنا من أنّ الأفضل ترك الجمع فقال: إن الجمع مكروه. رواه المصريون عنه، كما قاله ابن العربي، واحتجّ له بتعارض الأدلة وقال ابن شاس في "الجواهر": وقع في "العتبية": (قال مالك: أكره جمع الصلاتين في السفر)، فحمله بعض المتأخرين على إيثار الفضل لئلا يتسهل فيه من لا يشق عليه. وقال ابن الحاجب في "مختصره": لا كراهة على المشهور. وحكى أبوالعباس القرطبي عن مالك رواية أخرى أنه كره الجمع للرجال دون النساء. وقال الخطابي: كان الحسن ومكحول يكرهان الجمع في السفر بين الصلاتين. انتهى.
فإن أراد بالكراهة التحريم، فهو القول الخاص المحكي في الفائدة الثالثة. وإن أراد التنْزيه فهو موافق لهذا المحكي عن مالك.
الخامسة: لم يبيّن في حديث ابن عمر ولا في غيره من الأحاديث هل كان يفعل ذلك في كل سفر، أو كان يخص به السفر الطويل، وهو سفر القصر، لكن قد يقال: إن الظاهر من الجدّ في السفر أنه إنما يكون فى الطويل، والحقّ أن هذه واقعة عين محتملة، فلا يجوز الجمع في السفر القصير، مع الشك في ذلك. ومذهب مالك أنه لا يختص ذلك بالطويل، ومذهب أحمد بن حنبل اختصاصه به، وللشافعي في ذلك قولان أصحهما اختصاصه بالطويل والله أعلم. ? كلامه رحمه الله.
ولنرجع إلى سرد الأدلة بأسانيدها إن شاء الله:
__________
(1) ?…الذي يظهر لي أن الجمع أفضل، لأنه الوارد عن النبي ? إذا جدَّ به السير.(1/13)
مسلم (ج5 ص215 و216): حدثنا يحيى بن حبيب الحارثي حدثنا خالد -يعني ابن الحارث- حدثنا قرة حدثنا أبوالزبير حدثنا سعيد بن جبير حدثنا ابن عباس أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم جمع بين الصّلاة في سفرة سافرها في غزوة تبوك، فجمع بين الظّهر والعصر، والمغْرب والعشاء، قال سعيد: فقلْت لابن عبّاس: ما حمله على ذلك؟ قال: أراد أن لا يحْرج أمّته.
تخريج الحديث: ذكره ابن خزيمة (ج2 ص82) عقب حديث فيه الجمع، ثم قال بمثل ذلك. وأبوداود (ج1 ص276)، وأحمد (ج1 ص217و351)، والبخاري تعليقًا (ج3 ص234) قال: وقال إبراهيم بن طهمان عن حسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس به. وقد وصله البيهقي (ج3 ص164).
مالك في "الموطأ" (ج1 ص160): عن داود بن الحصين، عن الأعرج ، عن أبي هريرة، أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يجْمع بين الظّهر والعصر في سفره إلى تبوك.
تخريج الحديث: أخرجه عبدالرزاق (ج2 ص545). والحديث رجاله رجال الصحيح إلا أنه اختلف في وصله وإرساله، كما في "تنوير الحوالك". وقد قال ابن عبدالبر في "التمهيد" (ج2 ص337): حديث رابع لداود مرسل من وجه، متصل من وجه صحيح، ثم ذكره مرسلاً ومتصلاً. فهو رحمه الله في الترجمة يحكم له بالصحة.
مسلم (ج5 ص216): حدثني يحيى بن حبيب حدثنا خالد -يعني ابن الحارث- حدثنا قرة بن خالد حدثنا أبوالزبير حدثنا عامر بن واثلة أبوالطفيل حدثنا معاذ بن جبل، قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في غزْوة تبوك بيْن الظّهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، قال: فقلْت: ما حمله على ذلك؟ قال: فقال: أراد أن لا يحْرج أمّته.(1/14)
تخريج الحديث: أخرجه ابن خزيمة (ج2 ص81)، وابن حبان (ج3 ص89)، وعبدالرزاق (ج2 ص545)، والطيالسي (ج1 ص126) من "ترتيب المسند"، وابن أبي شيبة (ج2 ص456)، وابن ماجة (ج1 ص340)، وأحمد ( ج5 ص229 و230 و236)، والبيهقي (ج3 ص 162)، والطحاوي في "معاني الآثار" (ج1 ص160).
قال الإمام أبوبكر بن أبي شيبة في "المصنف" (ج2 ص458): حدثنا بكر بن عبدالرحمن قال ثنا عيسى بن المختار عن ابن أبي ليلى عن أبي قيس، عن هزيل، عن عبدالله بن مسعود، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم جمع بين الصّلاتين في السّفر.
هذا حديث ضعيف، في سنده محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى القاضي وقد ضعّف من أجل سوء حفظه.
تخريج الحديث: أخرجه أبويعلى في "المسند" (ج9 ص284) وسقط من سنده هزيل الراوي عن ابن مسعود، جزمنا بأنه سقط، لأن الحديث مرويّ من طريق أبي بكر ابن أبي شيبة.
وأخرجه البزار كما في "كشف الأستار" (ج1 ص330).
وأخرجه أبوداود الطيالسي ص (49)، قال: حدثنا شعبة، عن أبي قيس قال: سمعت الهزيل، قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم في سفر فأخّر الظّهر، وعجّل العصر، وجمع بينهما، وأخّر المغرب، وعجّل العشاء، وجمع بينهما.
لم يقل شعبة فيه: (عن عبدالله). قال: وروى عن ابن أبي ليلى أنه وصله إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.?
قال أبوعبدالرحمن: فإرسال شعبة للحديث يزيد حديث ابن أبي ليلى الموصول ضعفًا، إذ وصْله يعتبر منكرًا، وأما قول الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد" (ج2 ص159): (إنّ رجال أبي يعلى رجال الصحيح) فوهم واضح، لأنّ محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى ليس من رجال الصحيح كما في "تهديب التهذيب" و"الميزان"، وما رمزا له إلا "بالسنن".
?
جواز الجمع بين الصلاتين وإن لم يجد به السير
تقدمت الأحاديث الدالة على جواز الجمع، وسيأتي مزيد لها إن شاء الله، وقد ورد في السنة المطهرة مايدل على جواز الجمع وإن كان نازلاً.(1/15)
قال الإمام مسلم رحمه الله (ج15 ص40): حدثنا عبدالله بن عبدالرحمن الدارمي حدثنا أبوعلي الحنفي حدثنا مالك وهو ابن أنس عن أبي الزبير المكي أنّ أبا الطفيل عامر بن واثلة أخبره أن معاذ بن جبل أخبره قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عام غزوة تبوك، فكان يجمع الصّلاة، فصلّى الظّهر والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا، حتّى إذا كان يومًا أخّر الصّلاة، ثمّ خرج فصلّى الظّهر والعصر جميعًا، ثمّ دخل، ثمّ خرج بعد ذلك فصلّى المغرب والعشاء جميعًا، ثمّ قال: ((إنّكم ستأتون غدًا إن شاء الله عين تبوك، وإنّكم لن تأتوها حتّى يضحي النّهار، فمن جاءها منكم فلا يمسّ من مائها شيئًا حتّى آتي))، فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان، والعين مثل الشّراك تبضّ(1) بشيء من ماء، قال: فسألهما رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم :((هل مسستما من مائها شيئًا))؟ قالا: نعم، فسبّهما النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقال لهما ما شاء الله أن يقول، قال: ثمّ غرفوا بأيديهم من العين قليلاً قليلاً، حتّى اجتمع في شيء، قال: وغسل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيه يديه ووجهه، ثمّ أعاده فيها، فجرت العين بماء منهمر، أو قال: غزير -شكّ أبوعليّ أيّهما قال- حتّى استقى النّاس، ثمّ قال: ((يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد ملئ جنانًا)).
تخريج الحديث:
الحديث أخرجه ابن خزيمة (ج2 ص82)، وابن حبان (ج3 ص92)، والنسائي (ج1 ص229)، ومالك (ج1 ص160)، والدارمي (ج1 ص356)، والشافعي في "الأم" (ج1 ص66)، وعبدالرزاق (ج2 ص545)، وأحمد (ج5 ص237)، والبيهقي (ج3 ص162).
بعض هؤلاء اقتصر على حكم الجمع بين الصلاتين وهو نازل، وبعضهم ذكر الحديث بتمامه. ونقل الحافظ العراقي رحمه الله في "شرح التقريب" (ج3 ص124و 125) كلامًا حسنًا، وقد تقدم، والحمد لله.
جمع التأخير
__________
(1) ? تبض: تسيل، وضبطه عياض: تبص، أي: تبرق وتلمع.(1/16)
قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى (ج3 ص226): حدثنا أبواليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني سالم عن عبدالله ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا أعجله السّير في السّفر يؤخّر المغرب حتّى يجمع بينها وبين العشاء.
تخريج الحديث:
أخرجه مسلم (ج5 ص214)، وابن خزيمة من حديث نافع بمعناه، والنسائي (ج1 ص229)، والترمذي من حديث نافع به، والشافعي في "الأم" (ج1 ص67) من حديث إسماعيل بن عبدالرحمن بن أبي ذئب الأسدي عن ابن عمر به، وعبدالرزاق
(ج2 ص546، 547) من طرق عن نافع به، وأحمد (ج2 ص4، 12، 51، 54، 77، 85، 150)، والطحاوي (ج1 ص162)، والدارقطني (ج1 ص319)، والبيهقي
(ج3 ص159 و160).
وجملة الذين رووه عن عبدالله بن عمر فيما اطلعت عليه:
(1) سالم ……(2) نافع ……(3) إسماعيل بن عبدالرحمن
(4) أسلم مولى عمر………(5) عبدالله بن دينار والمعنى واحد.
قال البخاري رحمه الله (ج1 ص236): حدثنا حسان الواسطي قال حدثنا الفضل بن فضالة، عن عقيل، عن ابن شهاب عن أنس بن مالك قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشّمس أخّر الظّهر إلى وقت العصر، ثمّ يجمع بينهما، وإذا زاغت صلّى الظّهر ثمّ ركب.
تخريج الحديث:
أخرجه مسلم (ج5 ص214)، وابن خزيمة (ج2 ص83) ، وابن حبان (ج3 ص90) وعنده: (وإذا زاغتْ قبل أن يرتحل صلّى ثم رحل)، وأبوداود (ج1 ص278)، والنسائي (ج1 ص229)، وأحمد (ج3 ص247و265)، وأبونعيم في "الحلية" (ج8 ص321)، والدارقطني (ج1 ص390)، والبيهقي (ج3 ص161).
قال البخاري رحمه الله (ج4 ص270): حدثنا عبدالله بن يوسف أخبرنا مالك، عن موسى بن عقبة، عن كريب، عن أسامة بن زيد رضى الله عنهما أنه يقول: دفع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من عرفة، فنزل الشّعب، فبال ثمّ توضّأ، ولم يسبغ الوضوء، فقلت له: الصّلاة؟ فقال:(1/17)
((الصّلاة أمامك)) فجاء المزدلفة نزل فتوضّأ فأسبغ، ثمّ أقيمت الصّلاة، فصلّى المغرب، ثمّ أناخ كلّ إنسان بعيره في منْزله، ثمّ أقيمت الصّلاة فصلّى، ولم يصلّ بينهما.
تخريج الحديث:
أخرجه مسلم (ج9 ص3) وأبوداود (ج1 ص447) والنسائي (ج5 ص209).
هذا والأحاديث في جمعه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمزدلفة عن جماعة من الصحابة منهم: أبوأيوب وابن عمر كما في "الصحيح" فشهرتها تغني عن تخريجها.
جمع التقديم
قال الإمام البخاري رحمه الله في "صحيحه" (ج4 ص260): باب الجمع بين الصّلاتين بعرفة، وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا فاتته الصّلاة مع الإمام جمع بينهما.
وقال الليث(1): حدثني عقيل عن ابن شهاب قال: أخبرني سالم أنّ الحجّاج بن يوسف عام نزل بابن الزّبير رضي الله عنهما، سأل عبدالله رضي الله عنه كيف تصنع في الموقف يوم عرفة؟ فقال سالم: إن كنت تريد السّنّة فهجّر بالصّلاة يوم عرفة، فقال عبدالله بن عمر: صدق، إنّهم كانوا يجمعون بين الظّهر والعصر في السّنّة. فقلت لسالم: أفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ فقال سالم: وهل تتّبعون في ذلك إلا سنّته؟.
أبوداود (ج1 ص445): حدثنا أحمد بن حنبل ثنا يعقوب ثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني نافع، عن ابن عمر قال: غدا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من منًى حين صلّى الصّبح صبيحة يوم عرفة، حتّى أتى عرفة فنزل بنمرة، وهي منْزل الإمام الّذي ينْزل به بعرفة، حتّى إذا كان عند صلاة الظّهر راح رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مهجّرًا، فجمع بين الظّهر والعصر، ثمّ خطب النّاس، ثمّ راح فوقف على الموقف من عرفة.
هذا حديث حسن لتصريح ابن إسحاق بالتحديث.
__________
(1) ?…قال الحافظ في ?الفتح": وصله الإسماعيلي من طريق يحيى بن بكير، وأبي صالح جميعًا عن الليث.(1/18)
قال الإمام مسلم في "صحيحه" (ج8 ص170): حدثنا أبوبكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم جميعًا عن حاتم قال أبوبكر حدثنا حاتم ابن إسماعيل المدني عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: دخلنا على جابر بن عبدالله. وذكر الحديث وفيه صفة حجة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وفيه: حتّى أتى عرفة فوجد القبّة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتّى إذا زاغت الشّمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطْن الوادي فخطب النّاس -وذكر الخطبة، وبعدها:- فأذّن ثمّ أقام فصلّى الظّهر، ثمّ أقام فصلّى العصر ولم يصلّ بينهما شيئًا. وذكر الحديث.
فلو لم يكن في الباب إلا هذه الأحاديث لكانت كافية في جمع التقديم، كيف وقد تقدم عمومات في الفصل الأول. وستأتي أحاديث صريحة إن شاء الله في ذلك.
قال الإمام أحمد بن الحسين البيهقي رحمه الله في "سننه" (ج3 ص162): حدثنا أبوعمرو الأديب حدثنا أبوبكر الإسماعيلي أنبأ جعفر الفريابي حدثنا إسحاق بن راهويه أنبأ شبابة بن سوار عن ليث بن سعد، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا كان في سفر فزالت الشّمس صلّى الظّهر والعصر جميعًا ثمّ ارتحل.
قال الحافظ في "التلخيص" (ج2 ص49): وإسناده صحيح قاله النووي. وفي ذهني أن أبا داود أنكره على إسحاق.
وعزاه في "بلوغ المرام" إلى أبي نعيم في "المستخرج" ثم قال في "التلخيص" بعد قوله (في ذهني أنّ أبا داود أنكره على إسحاق): ولكن له متابع رواه الحاكم في "الأربعين" عن أبي العباس محمد بن يعقوب عن محمد بن إسحاق الصغاني عن حسان بن عبدالله، عن المفضل بن فضالة، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أنس أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشّمس أخّر الظّهر إلى وقت العصر، ثمّ نزل فجمع بينهما فإن زاغت الشّمس قبل أن يرتحل صلّى الظّهر والعصر، ثمّ ركب.(1/19)
وهو في "الصحيحين" من هذا الوجه بغير هذا السياق وليس فيهما: (والعصر)، وهي زيادة غريبة صحيحة الإسناد، وقد صححه المنذري من هذا الوجه، والعلائي، وتعجب من الحاكم كونه لم يورده في "المستدرك". ?
وقال في "بلوغ المرام": وللحاكم في "الأربعين" بإسناد صحيح، فذكره، وهذا يدل على جزمه بصحة ما في "الأربعين" للحاكم.
وأما في "الفتح" (ج3 ص237) فقد تردد في ثبوتها، فلعله اطلع على سندها بعد ذلك بدليل جزمه في "بلوغ المرام" وفي "التلخيص". ثم قال في
"التلخيص": وله طريق رواه الطبراني في "الأوسط".
حدثنا محمد بن إبراهيم بن نصر بن شبيب الأصبهاني حدثنا هارون بن عبدالله الحمال حدثنا يعقوب بن محمد الزهري حدثنا محمد بن سعد ثنا ابن عجلان عن عبدالله بن الفضل، عن أنس بن مالك أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا كان في سفر فزاغت الشّمس قبل أن يرتحل صلّى الظّهر والعصر جميعًا، وإن ارتحل قبل أن تزيغ الشّمس جمع بينهما في أوّل العصر، وكان يفعل ذلك في المغرب والعشاء. وقال: تفرد به يعقوب بن محمد(1).
__________
(1) ?…قال الحافظ الهيثمي في ?مجمع الزوائد" (ج2 ص160) رجاله موثقون. وأقول: يعقوب بن محمد، قال ابن سعد: جالس العلماء وكان حافظًًا. وقال ابن معين: ما حدث عن الثقات فاكتبوه. وقال أبوزرعة: ليس بشيءٍ يقارب الواقدي. وقال حجاج بن الشاعر: غير ثقةٍ. وقال أبوحاتم: هو على يدي عدل. وقال أحمد: ليس بشيءٍ لا يساوي حديثه شيئًا. إلى آخر ما في ?الميزان" وأما شيخه محمد بن سعدان، فقال أبوحاتم: شيخٌ، كما في ?الجرح والتعديل" لابنه.(1/20)
قال الإمام الترمذي رحمه الله (ج1 ص386): حدثنا قتيبة حدثنا الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الطفيل، عن معاذ بن جبل أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل زيغ الشّمس، أخّر الظّهر إلى أن يجمعها إلى العصر فيصلّيهما جميعًا، وإذا ارتحل بعد زيغ الشّمس، عجّل العصر إلى الظّهر، وصلّى الظّهر والعصر جميعًا، ثمّ سار، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخّر المغرب حتّى يصلّيها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجّل العشاء فصلاها مع المغرب.
قال: وفي الباب عن عليّ، وابن عمر، وأنس، وعبدالله بن عمرو، وعائشة، وابن عبّاس، وأسامة بن زيد، وجابر بن عبدالله.
قال أبوعيسى: وروى عليّ بن المديني عن أحمد بن حنبل عن قتيبة هذا الحديث، وحديث معاذ حديث حسن غريب تفرد به قتيبة عن الليث، ولا نعرف أحدًا رواه عنه غيره، وحديث الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل عن معاذ حديث غريب. والمعروف عند أهل العلم حديث معاذ من حديث أبي الزبير، عن أبي الطفيل، عن معاذ، أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم جمع في غزوة تبوك بين الظّهر والعصر وبين المغرب والعشاء. رواه قرة بن خالد، وسفيان الثوري، ومالك، وغير واحد عن أبي الزبير المكي.?
تخريج الحديث:
أخرجه أبوداود (ج1 ص278)، وقال: لم يرو هذا إلا قتيبة وحده. وابن حبان
(ج3 ص91)، وقال عقبه: سمعت محمد بن إسحاق الثقفي يقول: سمعت قتيبة بن سعيد يقول: عليه علامة الحفاظ، كتبوا عني هذا الحديث أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، والحميدي، وأبوبكر بن أبي شيبة، وأبوخيثمة، حتى عدّ سبعة(1).
وأخرجه أحمد (ج5 ص241)، والدارقطني (ج1 ص392)، والبيهقي (ج3 ص163) وذكر عقبه ما سنذكره إن شاء الله من كلام
__________
(1) ?…قال الخطيب في ?التاريخ" (ج12 ص466): وعندي أن الرجلين اللذين أغفلهما أبوزرعة: عبدالله بن عبدالكريم الرازي، وأبوالحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري.(1/21)
البخاري رحمه الله، والطبراني في "الصغير" (ج ص234) وقال: لا يروى هذا الحديث عن معاذ إلا بهذا الإسناد تفرد به قتيبة.
فائدة:
قال المباركفوري رحمه الله في حديث عبد الله بن عمرو: فلينظر من أخرجه؟ فوجدته في مسند أحمد (ج2 ص181) و ص(204)، وفي
"مصنف ابن أبي شيبة" (ج2 ص458) من طريق حجاج أيضًا. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (ج2 ص108): فيه الحجاج بن أرطأة وفيه كلام.
الطاعنون في حديث قتيبة
تقدم قول الترمذي رحمه الله تعالى: والمعروف عند أهل العلم حديث معاذ من حديث أبي الزبير إلى آخر كلامه رحمه الله.
ذكر الحافظ في "التلخيص" (ج2 ص49) أن أبا داود قال: إنه حديث منكر وليس في جمع التقديم حديث قائم.?
وأقول: ينظر في صحة هذا عن أبي داود فإن الأحاديث الثابتة في جمعه صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوم عرفة في الصحيحين وغيرهما.
قال الحافظ في "التلخيص": وقال أبوسعيد بن يونس: لم يحدثْ بهذا الحديث إلا قتيبة، ويقال: إنه غلط فيه، فغير بعض الأسماء وإن موضع يزيد بن حبيب، أبوالزبير.
الحاكم أبوعبدالله جعله مثالاً للشاذ، فقال رحمه الله بعد ذكره بالسند المتقدم: هذا حديث رواية أئمة ثقات، وهو شاذ الإسناد والمتن لا نعرف له علة نعلله بها، ولو كان الحديث عند الليث عن أبي الزبير عن أبي الطفيل لعللنا به الحديث، ولو كان عند يزيد بن أبي حبيب عن أبي الزبير لعللنا به، فلما لم نجد له العلتين خرج عن أن يكون معلولاً، ثم نظرنا فلم نجدْ ليزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل روايةً، ولا وجدنا هذا المتن بهذه السياقة عند أحد من أصحاب أبي الطفيل، ولا عند أحد ممن رواه عن معاذ غير(1) أبي الطفيل فقلنا: الحديث شاذ. ثم ذكر نحو ما تقدم عن ابن حبان من أنه كتب هذا الحديث عن قتيبة سبعة وأن علامتهم عليه، ثم قال: قائمة الحديث إنما سمعوه من قتيبة تعجبًا من إسناده ومتنه ثم لم تبلغنا عن واحد منهم أنه ذكر للحديث علة.
__________
(1) ?…في الأصل: عن، وهو تصحيف.(1/22)
وقد قرأ علينا أبوعلي الحافظ هذا الباب، وحدثنا به عن أبي عبدالرحمن النسائي وهو إمام عصره عن قتيبة بن سعيد، ولم يذكر أبوعبدالرحمن ولا أبوعلي للحديث علة فنظرنا فإذا الحديث موضوع وقتيبة بن سعيد ثقة مأمون.
حدثني أبوالحسن محمد بن موسى بن عمران الفقيه قال: حدثنا محمد ابن إسحاق بن خزيمة قال سمعت صالح بن حفصويه النيسابوري قال أبوبكر وهو صاحب حديث يقول: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: قلت لقتيبة بن سعيد: مع من كتبت عن الليث بن سعد حديث يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل؟ فقال: كتبته مع خالد المدائني(1).
قال البخاري: وكان خالد المدائني يدخل الأحاديث على الشيوخ.?
ابن أبي حاتم قال رحمه الله في "العلل" (ج1 ص91): سمعت أبي يقول: كتبت عن قتيبة حديثًا عن الليث بن سعد لم أصبه بمصر عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الطفيل، عن معاذ عن النّبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنّه كان في سفر فجمع بين الصّلاتين.
وقال أبي: لا أعرفه من حديث يزيد، والذي عندي أنه دخل له حديث في حديث.
حدثنا أبوصالح: قال حدثنا الليث عن هشام بن سعد، عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل، عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بهذا الحديث.
الحافظ أحمد بن علي بن ثابت الخطيب ذكر الحديث بأسانيد إلى قتيبة ثم ذكر كلام البخاري من طريق الحاكم ثم عقّبه بقوله: قلت: لم يرو حديث يزيد بن حبيب عن أبي الطفيل عن الليث غير قتيبة وهو منكر جدًا من حديثه ويرون أن خالدًا المدائني أدخله على الليث وسمعه قتيبة معه فالله أعلم.? (ج12 ص467).
الحافظ أبومحمد علي بن أحمد بن حزم رحمه الله قال في
__________
(1) ? ? هو خالد بن القاسم، وترجمته في ?ميران الإعتدال". قال الأزدي: أجمعوا على تركه.(1/23)
"المحلى" (ج3 ص174) بعد ذكره هذا الحديث من طريق الليث بن سعد به: فإن هذا الحديث أردى حديث في الباب لوجوه، أولها: أنه لم يأت هكذا إلا من طريق يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل، ولا يعلم أحد من أصحاب الحديث ليزيد سماعًا من أبي الطفيل. والثاني: أن أبا الطفيل(1) صاحب راية المختار، وذكر أنه كان يقول بالرجعة. والثالث: أننا روينا عن محمد بن إسماعيل البخاري مؤلف "الصحيح" أنه قال: قلت لقتيبة... وذكر القصة المتقدمة.
الشافعي رحمه الله: قال رحمه الله: ليس الشاذ من الحديث ما يرويه الثقة ولا يرويه غيره، ولكن الشاذ ما يرويه الثقة ويخالفه عمل الناس مثل حديث معاذ في غزوة تبوك في الجمع بين الصلاتين.? من
"طبقات الشافعية" لأبي عاصم محمد بن أحمد العبادي ص (19).
حاصل ما قاله أهل العلم في هذا الحديث:
صحيح عند ابن حبان.
حسن عند الترمذي.
منكر عند الخطيب وأبي داود إن ثبت عنه.
موضوع عند الحاكم.
الجواب عن هذه المطاعن
الجواب عن المطاعن الثلاث الأولى هو: أن قتيبة رحمه الله تعالى لم ينفرد به بل قد رواه هشام بن سعد كما سيأتي إن شاء الله.
وأما قول أبي سعيد بن يونس: يقال: إن قتيبة غلط فيه إلخ كلامه. فهذا لا يثبت إلا ببرهان.
وأما القصة التي ساقها الحاكم والخطيب واعتمد عليها ابن حزم، فإنّها تدور على شيخ الحاكم محمد بن موسى بن عمران. قال الحافظ في "لسان الميزان": وكان له فهم، ولكنه كان مغفلاً، ذكره الحاكم.? وصالح بن حفصويه راوي القصة عن البخاري ما وجدت ترجمته، ولا نكتفي بقول الإمام ابن خزيمة: وكان صاحب حديث. فثبوت القصة متوقف على صحة السند إلى البخاري رحمه الله.
__________
(1) ?…أبوالطفيل صحابي، ولم يثبت أنه كان يؤمن بالرجعة، والواجب هو الإمساك عن مساوئ السلف.(1/24)
ويبقى على الحديث ثبوت سماع يزيد بن أبي حبيب من أبي الطفيل، فإنه ممكن لأن أبا الطفيل توفي سنة (100) وولد يزيد بن أبي حبيب سنة (53) لكنه لم يأت في حديث آخر ولم يصرح في هذا الحديث بالسماع، وهو يرسل فينبغي أن نتوقف فى سماعه من أبي الطفيل.
وأما قول الحاكم رحمه الله: (فهؤلاء الأئمة ماكتبوه عن قتيبة إلا تعجبًا من سنده ومتنه) فدعوى فإن أئمة الحديث رحمهم الله قد يكتبون الحديث ليتخذوه حجة عند الله، وللتوقف فيه حتى يحصل له عاضد، وللنظر في مذهب المحدث، والظاهر هنا الأول، ذلك لأنّهم لو علموا أن قتيبة واهم في هذا لراجعوه. كيف ويحيى بن معين قد اختبر شيخه أبا نعيم الفضل بن دكين، والبخاري قد رد على بعض شيوخه، كما في مقدمة "الفتح"، وقد ساق الخطيب بسنده إلى قتيبة أنه قال لأحمد بن محمد: ما رأيت في كتابي من علامات الحمرة فهو علامة أحمد بن حنبل، وما رأيت فيه من الخضرة فهو علامة يحيى بن معين.
وأما أبوحاتم رحمه الله فإنه اعتمد على شيئين: أحدهما: أنه لم يجد الحديث في مصر، وإنما حدثه به قتيبة وهذا لا يمنع أن يتفرد قتيبة بحديث عن الليث، والثاني: أنه عللها برواية أبي صالح عن الليث، عن هشام بن سعد. وأبوصالح هو عبدالله بن صالح كاتب الليث، والكلام فيه معروف، وهشام هو ابن سعد مختلف فيه والراجح ضعفه إلا إذا روى عن زيد بن أسلم فهذه الرواية لا تصلح أن تكون معلة لتلك الرواية.
هذا والجواب عن بقية المطاعن تؤخذ مما تقدم، وعلى كل فليس الاعتماد في المسألة على حديث قتيبة ولكن على الأحاديث المتقدمة.
وبعد: فقد ترجح لي ضعف حديث قتيبة لإنكار كبار المحدثين على قتيبة وتوهيمه، ويغني عنه ما تقدم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم جمع جمْع تقديم بعرفة، ولأدلة أخر. والحمد لله رب العالمين.
متابعات وشواهد(1/25)
قال الإمام أبوداود رحمه الله في "سننه" (ج1 ص 27): حدثنا يزيد بن خالد بن يزيد بن عبدالله بن موهب الرملي حدثنا المفضل بن فضالة والليث ابن سعد عن هشام بن سعد، عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل عن معاذ بن جبل أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان في غزوة تبوك إذا زاغت الشّمس قبل أن يرتحل جمع بين الظّهر والعصر، وإن يرتحل قبل أن تزيغ الشّمس أخّر الظّهر حتّى ينْزل للعصر وفي المغرب مثل ذلك إن غابت الشّمس قبل أن يرتحل جمع بين المغرب والعشاء، وإن يرتحل قبل أن تغيب الشّمس أخّر المغرب حتّى ينْزل للعشاء ثمّ جمع بينهما.
تخريج الحديث:
أخرجه الدارقطني (ج1 ص362)، والبيهقي (ج3 ص 162) وأبونعيم في "الحلية" (ج8 ص322).
والحديث في سنده هشام بن سعد، وهو ضعيف، وقد خالفه الحفاظ من أصحاب أبي الزبير كمالك والثوري، وقرة بن خالد وغيرهم فلم يذكروا في روايتهم جمع التقديم قاله الحافظ في "الفتح".
وأما قول الحافظ في "التلخيص": فقد خالفه أوثق الناس في أبي الزبير وهو الليث بن سعد، فينظر فإنه وإن خالفه في المتن من طريق أخرى فقد روى عنه هذه الطريق كما عند أبي داود.
هذا وفي الباب جملة أحاديث كما في "التلخيص"، و"زاد المعاد" (ج1 ص163) وليس لدي وقت لذكرها بأسانيدها، ولكني أعرّج عليها مع بيان ما يظهر لي فيها:
ما رواه أحمد والدارقطني والبيهقي من حديث ابن عباس وفيه حسين ابن عبدالله الهاشمي ضعيف جدًا، وقد اتّهم بالزندقة كما في "ميزان الاعتدال"، وقد اختلف عليه فيه.(1/26)
كذلك ما رواه يحيى بن عبدالحميد الحمّاني في "مسنده"، عن أبي خالد الأحمر، عن الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس. ويحيى بن عبدالحميد الحمّاني حافظ منكر الحديث، وقد وثّقه ابن معين وغيره. وقال أحمد: كان يكذب جهارًا. وقال النسائي: ضعيف(1). وحجاج هو ابن أرطأة ضعيف. والحكم هو ابن عتيبة، لم يسمع من مقسم إلا خمسة أحاديث كما في "تهذيب التهذيب" ليس هذا منها.
وذكره ابن أبي حاتم في "العلل" (ج1 ص183) وقال: قال أبوزرعة: هو خطأ إنما هو أبوخالد عن ابن عجلان، عن الحسين بن عبدالله، عن عكرمة ، عن ابن عباس.?
وروى إسماعيل القاضي في "الأحكام" عن إسماعيل بن أبي أويس، عن أخيه، عن سليمان بن بلال، عن هشام بن عروة، عن كريب، عن ابن عباس نحوه.
وهذا أمثلها وإن كان قد تكلّم في إسماعيل بن أبي أويس.
عبدالله بن أحمد كما في "زوائد المسند" (ج1 ص136): قال عبدالله: حدثني أبوبكر بن أبي شيبة حدثنا أبوأسامة عن عبدالله بن محمد بن عمر ابن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده، أن عليًا رضي الله عنه كان يسير حتى إذا غربت الشمس وأظلم، نزل فصلى المغرب، ثم العشاء على أثرها، ثم يقول: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يصنع.
الحديث أخرجه أبوبكر بن أبي شيبة (ج2 ص458).
الكلام على بعض رجال السند:
عبدالله بن محمد بن عمر: قال الحافظ في "التقريب": مقبول من السادسة. وقال الحافظ الذهبي في "الميزان": قال ابن المديني: هو وسط. وقال غيره: صالح الحديث. وقال ابن سعد: يلقب دافن.
وقال الحافظ في ترجمة والده محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب: صدوق من السادسة، وروايته عن جده مرسلة.
وقال في ترجمة عمر بن علي: ثقة. فهذا الحديث أقل أحواله أن يكون حسنًا لغيره.
وبهذا يتضح ثبوت الأحاديث في جمع التقديم.
__________
(1) ?…كذا في ?المغني" للحافظ الذهبي.(1/27)
هذا وأما ما يفعله بعض الناس ممن لا يبالي بدينه من الجمع بين الصلاتين في الحضر من أجل القات، إنما يفعله من لا يبالي بدينه فإن الله عز وجل يقول: {إنّ الصّلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا} (1).
وفي "الصحيحين" من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم سئل أيّ الأعمال أفضل؟ قال: ((الصّلاة لوقتها)). وقد روى الإمام أحمد، والنسائي، والترمذي، عن جابر رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم جاءه جبريل فقال: قم فصلّه. فصلّى الظّهر حين زالت الشّمس، ثمّ جاءه العصر، فقال: قم فصلّه. فصلّى العصر حين صار ظلّ كلّ شيء مثله، ثمّ جاءه المغرب فقال: قم فصلّه. فصلّى المغرب حين وجبت الشّمس، ثمّ جاءه العشاء فقال: قم فصلّه. فصلّى العشاء حين غاب الشّفق، ثمّ جاءه الفجر فقال: قم فصلّه. فصلّى حين برق الفجر، أو قال: حين سطع الفجر، ثمّ جاءه من الغد للظّهر فقال: قم فصلّه. فصلّى الظّهر حين صار ظلّ كلّ شيء مثله، ثمّ جاءه للعصر فقال: قم فصلّه، فصلّى العصر حين صار ظلّ كلّ شيء مثليه، ثمّ جاءه للمغرب المغرب وقتًا واحدًا لم يزل عنه، ثمّ جاءه العشاء حين ذهب نصف اللّيل، أو قال: ثلث اللّيل فصلّى العشاء، ثمّ جاءه حين أسفر جدًّا، فقال: قم فصلّه. فصلّى الفجر.
وقال الترمذي: إنّ البخاري قال: إنه أصح شيء في الباب. ? "نيل الأوطار".
__________
(1) ?…سورة النساء، الآية: 103.(1/28)
وروى الإمام أحمد، ومسلم، وأبوداود، والنسائي عن أبي موسى، عن النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: وأتاه سائل يسأله عن مواقيت الصّلاة، فلم يردّ عليه شيئًا، وأمر بلالاً فأقام الفجر حين انشقّ الفجر، والنّاس لا يكاد يعرف بعضهم بعضًا، ثمّ أمره فأقام الظّهر حين زالت الشّمس، والقائل يقول: انتصف النّهار أو لم وكان أعلم منهم، ثمّ أمره فأقام العصر والشّمس مرتفعة، ثمّ أمره فأقام المغرب حين وقبت الشّمس، ثمّ أمره فأقام العشاء حين غاب الشّفق، ثمّ أخّر الفجر من الغد حتّى انصرف منها والقائل يقول: طلعت الشّمس أو كادت، وأخّر الظّهر حتّى كان قريبًا من وقت العصر بالأمس، ثمّ أخّر العصر فانصرف منها، والقائل يقول: قد احمرّت الشّمس، ثمّ أخّر المغرب حتّى كان عند سقوط الشّفق، وفي لفظ: فصلّى المغرب قبل أن يغيب الشّفق، أخّر العشاء حتّى كان ثلث اللّيل الأوّل، ثمّ أصبح فدعا السّائل فقال: ((الوقت فيما بين هذين)).
قال صاحب "منتقى الأخبار": وروى الجماعة إلا البخاري نحوه من حديث بريدة الأسلمي.
قال الشوكاني رحمه الله: حديث بريدة صححه الترمذي ولفظه: أنّ رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن وقت الصّلاة، فقال له: ((صلّ معنا هذين الوقتين)) فلمّا زالت الشّمس أمر بلالاً فأذّن، ثمّ أمره فأقام الظّهر، ثمّ أمره فأقام العصر والشّمس مرتفعة بيضاء نقيّة، ثمّ أمره فأقام المغرب حين غابت الشّمس، ثمّ أمره فأقام العشاء حين غاب الشّفق، ثمّ أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر، فلمّا أن كان اليوم الثّاني أمره فأبرد بالظّهر، أو أنعم أن يبرد بها ، وصلّى العصر والشّمس مرتفعة أخّرها فوق الّذي كان، وصلّى المغرب قبل أن يغيب الشّفق، وصلّى العشاء بعدما ذهب ثلث اللّيل، وصلّى الفجر فأسفر بها، ثمّ قال: ((أين السّائل عن وقت الصّلاة))؟ فقال الرّجل: أنا يا رسول الله، قال: ((وقت صلاتكم بين ما رأيتم)).?(1/29)
فهذه الأحاديث تدل على أن الله جعل لكل صلاة وقتًا.
وقد قال محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني: وأمّا الجمع في الحضر فقال الشارح(1) بعد ذكر أدلة القائلين بجوازه فيه: إنه ذهب أكثر الأئمة إلى أنه لا يجوز الجمع في الحضر لما تقدم من الأحاديث المبيّنة لأوقات الصلاة، ولما تواتر من محافظة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على أوقاتها، حتى قال ابن مسعود: ما رأيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلى صلاة لغير ميقاتها، إلا صلاتين جمع بين المغرب والعشاء بجمع، وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها.
وأما حديث ابن عباس عند مسلم: أنّه جمع(2) بين الظّهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر. قيل لابن عبّاس: ما أراد إلى ذلك؟ قال: أراد ألاّ يحرج أمّته. فلا يصح الاحتجاج به لأنه غير معين لجمع التقديم والتأخير كما هو ظاهر رواية مسلم، وتعيّن واحد منهما تحكّم فوجب العدول عنه إلى ما هو واجب من البقاء على العموم
في حديث الأوقات للمعذور وغيره، وتخصيص المسافر لثبوت المخصّص وهذا هو الجواب الحاسم.
وأما ما يروى من الآثار عن الصحابة والتابعين بغير حجة إذ للاجتهاد في ذلك مسرح، وقد أوّل بعضهم حديث ابن عباس بالجمع الصوري واستحسنه القرطبي ورجحه، وجزم به ابن الماجشون، والطحاوي، وقوّاه ابن سيد الناس لما أخرجه الشيخان عن عمرو بن دينار -راوي الحديث- عن أبي الشعثاء قال: قلت: يا أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر وعجل العصر، وأخر المغرب وعجل العشاء. قال: وأنا أظنه. قال ابن سيد الناس: وراوي الحديث أدرى هو بالمراد منه من غيره وإن لم يجزم أبوالشعثاء بذلك.
__________
(1) ?…هو القاضي حسين المغربي صاحب (لاعة)، أحد علماء اليمن شرح ?بلوغ المرام" واسم شرحه ?البدر التمام".
(2) ?…يعني النبي ? .(1/30)
وأقول(1): إنما هو ظن من الراوي، والذى يقال فيه: (أدرى بما روى) إنما يجري في تفسيره للفظ مثلاً. على أن في هذه الدعوى نظر فإن قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه)). يرد عمومها، نعم يتعين هذا التأويل، فإنه صرح به النسائي في أصل حديث ابن عباس ولفظه: صلّيت مع النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالمدينة ثمانيًا جمعًا، وسبْعًا جمعًا، أخّر الظّهْر وعجّل العصْر، وأخّر المغرب وعجّل العشاء.
والعجب من النووي كيف ضعف هذا التأويل وغفل(2) عن متن الحديث المروي، والمطلق في رواية يحمل على المقيّد إذا كانا في قصة واحدة، كما في هذا. والقول بأن قوله: (أراد ألاّ يحرج أمّته)، يضعّف هذا الجمع الصوري لوجود الحرج فيه. مدفوع بأن ذلك أيسر من التوقيت، إذ يكفي للصلاتين تأهب واحد، وقصد واحد إلى المسجد، ووضوء واحد بحسب الأغلب، بخلاف الوقتين فالحرج في هذا الجمع لا شك أخف، وأما قياس الحاضر على المسافر كما قيل فوهم، لأن العلة في الأصل هي السفر، وهي غير موجود في الفرع، وإلا لزم مثله في القصر والقطر.?
__________
(1) ?…الذي يظهر أن القائل: (وأقول) هو الشارح.
(2) ?…الاستدلال برواية النسائي متوقفٌ على جمع الطرق، إذ الرواية في ?الصحيح" ليس فها الجمع الصوري مرفوعًا، والمَخرَجُ واحد، فيُخشى أن يكون أدرجه بعضهم والله أعلم. ولو قيل إن النبي ? فعله في النادر فلا بأس بفعله في النادر لكان أقرب. والله أعلم(1/31)
قال الصنعاني رحمه الله: قلت: وهو كلام رصين وقد كنا ذكرنا ما يلاقيه في رسالتنا "اليواقيت في المواقيت" قبل الوقوف على كلام الشارح، رحمه الله وجزاه خيرًا، ثم قال -أي الشارح-: واعلم أن جمع التقديم فيه خطر عظيم، وهو كمن صلى الصلاة قبل دخول وقتها، فيكون حال الفاعل كما قال الله: {وهمْ يحسبون أنّهم يحْسنون صنعًا} (1)الآية. من ابتدائها وهذه الصلاة المقدمة لا دلالة عليها بمنطوق ولا مفهوم ولا عموم ولا خصوص.?
وذكر العلامة الشوكاني في "نيل الأوطار" نحو ذلك.
ولكن الاستدلال برواية النسائي التي ذكرت الجمع الصوري متوقف على جمع الطرق، إذ الرواية في "الصحيح" ليس فها الجمع الصوري مرفوعًا، والمخرج واحد، فيخشى أن يكون أدرجه بعضهم والله أعلم. فالراجح أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فعله في النادر، وعليه فلا بأس بفعله في النادر لا كما يفعل أصحاب القات.
فجدير بأسارى القات المضيعين للصلوات الذين يخشى أن يصدق على كثير منهم قوله تعالى: {فخلف من بعدهم خلْف أضاعوا الصّلاة واتّبعوا الشّهوات فسوف يلْقون غيًّا}? (2). وقوله تعالى: {فويل للمصلّين الّذين هم عن صلاتهم ساهون} (3). جدير بهم أن يستفيدوا من كلام هؤلاء العلماء اليمنيين وأن يصلّوا كل صلاة في وقتها.
وإن تعجب فعجب أن ترى من أهل العلم من يدافع عن هذه الشجرة الأثيمة التى ألهت كثيرًا من المجتمع اليمني عن أداء الصلوات في أوقاتها، وأضرّت باقتصادهم وبعقولهم، فكم من مجنون يصل إلى الأطباء ويقول الطبيب: سببه القات. نعم، وضيّعت أوقاتهم، فنصف الوقت للقات، تجدهم في مجالسهم يقضمونه كما تقضم المعزى المرعى، ولقد أحسن من قال:
إنّما القات حشيش أخضر فإذا ما أكلته أمّة?
?
ليس يحتاج إليه?البشر
فاعذروهم إنّما هم بقر
__________
(1) ?…سورة الكهف، الآية: 104.
(2) ?…سورة مريم، الآية: 59.
(3) ?…سورة الماعون، الآية: 3- 4.(1/32)
ولأخينا في الله عائض مسمار رسالة في بيان أضرار القات أنصح بقراءتها.
الصلاتان اللتان تجمعان لهما أذان واحد ولكل واحد منهما إقامة
قال الإمام مسلم رحمه الله (ج8 ص170): حدثنا أبوبكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم جميعًا عن حاتم قال أبوبكر حدثنا حاتم بن إسماعيل المدني عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: دخلنا على جابر بن عبدالله، ثم ذكر لهم جابر بن عبدالله حديثه الطويل في صفة حجة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وفيه في عرفة: ثمّ أذّن، ثمّ أقام، فصلّى الظّهر، ثمّ أقام فصلّى العصر، ولم يصلّ بينهما شيئًا. وفيه: حتّى أتى المزدلفة فصلّى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبّح بينهما شيئًا.
واعلم أنّها قد اختلفت الأحاديث في الأذان والإقامة للصلاتين اللتين تجمعان.
قال ابن القيم رحمه الله في "تهذيب السنن" (ج2 ص400): وذهب سفيان الثوري وجماعة إلى أنه يصليهما بإقامة واحدة لهما، كما جاء في بعض روايات حديث ابن عمر.
قال ابن عبدالبر: وهو محفوظ من روايات الثقات: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلّى المغرب والعشاء بجمع، بإقامة واحدة.
قلت: وقد ثبت ذلك عن ابن عباس أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلّى الصّلاتين بالمزدلفة بإقامة واحدة.
وقال مالك: يصليهما بأذانين وإقامتين، وهو مذهب ابن مسعود. وفي
"صحيح البخاري" من حديث ابن مسعود أنه صلى الصلاتين كل واحدة وحدها بأذان وإقامة.
قال ابن المنذر: روي هذا عن عمر رضي الله عنه.
قال ابن عبدالبر: ولا أعلم في ذلك حديثًا مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بوجه من الوجوه، ولكنه روي عن عمر بن الخطاب أنه صلاهما بالمزدلفة كذلك.
ومذهب إسحاق وسالم والقاسم: أنه يصليهما بإقامتين فقط. وحجّتهم: حديث ابن عمر المتقدم، وهو رواية عن أحمد.(1/33)
ومذهب أحمد، والشافعي في الأصح عنه، وأبي ثور، وعبدالملك الماجشون، والطحاوي أنه يصليهما بأذان واحد وإقامتين وحجتهم: حديث جابر الطويل. وقد تكلّف قوم الجمع بين هذه الأحاديث بضروب من التكلف.
وعن ابن عمر في ذلك ثلاث روايات. إحداهن: أنه جمع بينهما بإقامتين فقط. والثانية: أنه جمع بينهما بإقامة واحدة لهما. وقد ذكر أبوداود الروايتين. والثالثة: أنه صلاهما بلا أذان ولا إقامة، ذكر ذلك البغوي: حدثنا الحجاج بن المنهال حدثنا حماد بن سلمة، عن أنس بن سيرين قال: وقفت مع ابن عمر بعرفة وكان يكثر أن يقول: لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير. فلمّا أفضْنا من عرفة دخل الشعب فتوضأ ثم جاء إلى جمع فعرض راحلته ثم قال: الصّلاة. فصلّى المغرب ولم يؤذّنْ ولم يقمْ، ثم سلّم، ثم قال: الصّلاة. ثم صلى العشاء ولم يؤذّن ولم يقمْ.
والصحيح في ذلك كله: الأخذ بحديث جابر، وهو الجمع بينهما بأذان وإقامتين لوجهين اثنين:
أحدهما: أن الأحاديث سواه مضطربة مختلفة، فهذا حديث ابن عمر في غاية الاضطراب كما تقدم، فروي عن ابن عمر من فعله: الجمع بينهما بلا أذان ولا إقامة، وروي عنه الجمع بينهما بإقامة واحدة، وروي عنه الجمع بينهما بأذان واحد وإقامة واحدة، وروي عنه مسندًا إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: الجمع بينهما بإقامة واحدة. وروي عنه مرفوعًا: الجمع بينهما بإقامتين، وعنه أيضًا مرفوعًا الجمع بينهما بأذان واحد وإقامة واحدة لهما، وعنه مرفوعا الجمع بينهما دون ذكر أذان ولا إقامة، وهذه الروايات صحيحة عنه فيسقط الأخذ بها لاختلافها واضطرابها.
وأما حديث ابن مسعود فإنه موقوف عليه من فعله.
وأما حديث ابن عباس فغايته أن يكون شهادة على نفي الأذان والإقامة الثابتين، ومن أثبتهما فمعه زيادة علم وقد شهد على أمر ثابت عاينه وسمعه.(1/34)
وأما حديث أسامة فليس فيه الإتيان بعدد الإقامة لهما، وسكت عن الأذان وليس سكوته عنه مقدمًا على حديث من أثبته سماعًا صريحًا، بل لو نفاه جملة لقدّم عليه حديث من أثبته لتضمنه زيادة علم خفيت على النافي.
الوجه الثاني: أنه قد صح من حديث جابر في جمعه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعرفة: أنه جمع بينهما بأذان وإقامتين، ولم يأت في حديث ثابت قط خلافه، والجمع بين الصلاتين بمزدلفة كالجمع بينهما بعرفة، لا يفترقان إلا في التقديم والتأخير، فلو فرضنا تدافع أحاديث الجمع بمزدلفة جملةً لأخذنا حكم الجمع من الجمع في عرفة.
مسائل وفوائد يحتاجها المسافر
الأولى: كثيرًا ما يسأل عن صلاة المسافر خلف المقيم هل يقصر أو يتم؟
فالجواب: أنه يتابع الإمام، لما رواه الإمام أحمد في
"مسنده" بسند حسن عن موسى بن سلمة قال: كنّا مع ابن عبّاس بمكّة، فقلت: إنّا إذا كنّا معكم صلّينا أربعًا، وإذا رجعْنا إلى رحالنا صلّينا ركعتين، قال: تلك سنّة أبي القاسم صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وأصل الحديث في "صحيح مسلم".
الثانية: قصر الرباعية إلى ركعتين واجب.
قال ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد" (ج1 ص158):
فصل في صلاته صلى الله عليه وعلى آله وسلم في السفر
وكان يقصر الرباعية فيصليها ركعتين من حين خرج مسافرًا إلى أن يرجع إلى المدينة، ولم يثبت عنه أنه أتم الرباعية في سفره البتة، وأما حديث عائشة: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يقصر في السّفر ويتمّ، ويفطر ويصوم. فلا يصح. وسمعت شيخ الاسلام ابن تيمية يقول: هو كذب على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. انتهى.(1/35)
وقد روي: (كان يقصر وتتمّ) الأول بالياء، والثاني بالتاء المثناة من فوق، وكذا (يفطر وتصوم)، أي: تأخذ هي بالعزيمة في الموضعين، قال شيخنا ابن تيمية: وهذا باطل ما كانت أم المؤمنين لتخالف رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وجميع أصحابه فتصلي خلاف صلاتهم، كيف والصحيح عنها: (أنّ الله فرض الصّلاة ركعتين ركعتين، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى المدينة زيد في صلاة الحضر وأقرّت صلاة السفر). فكيف يظن بها مع ذلك أن تصلي خلاف صلاة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم والمسلمين معه.
قلت: وقد أتمت عائشة بعد موت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال ابن عباس وغيره إنّها تأولت كما تأول عثمان، وإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يقصر دائمًا، فركّب بعض الرواة من الحديثين حديثًا وقال: (فكان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقصر وتتمّ هي). فغلط بعض الرواة فقال: (كان يقصر ويتمّ)، أي: هو.(1/36)
والتأويل الذي تأولته قد اختلف فيه فقيل: ظنّت أن القصر مشروط بالخوف في السفر، فإذا زال الخوف زال سبب القصر، وهذا التأويل غير صحيح فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سافر آمنًا وكان يقصر الصلاة. والآية قد أشكلت على عمر رضي الله عنه وعلى غيره، فسأل عنها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فأجابه بالشفاء، وأن هذا صدقة من الله وشرع للأمة، وكان هذا بيان أن حكم المفهوم غير مراد، وأن الجناح مرتفع في قصر الصلاة عن الآمن والخائف، وغايته أنّه نوع تخصيص للمفهوم، أو رفع له، وقد يقال: إن الآية اقتضت قصرًا يتناول قصر الأركان بالتخفيف، وقصر العدد بنقصان ركعتين، وقيد ذلك بأمرين: الضرب بالأرض والخوف، فإذا وجد الأمران أبيح القصران فيصلون صلاة الخوف مقصورةً عددها وأركانها، وإن انتفى الأمران فكانوا آمنين مقيمين انتفى القصران فيصلون صلاة تامة كاملة، وإن وجد أحد السببين ترتب عليه قصره وحده، فإذا وجد الخوف والإقامة قصرت الأركان واستوفى العدد، وهذا نوع قصر، وليس بالقصر المطلق في الآية، فإنْ وجد السفر والأمن، قصر العدد واستوفى الأركان، وسميت صلاة أمن، وهذا نوع قصر وليس بالقصر المطلق، وقد تسمى هذه الصلاة مقصورةً باعتبار نقصان العدد، وقد تسمى تامةً باعتبار إتمام أركانها، وأنّها لم تدخل في قصر الآية، والأول: اصطلاح كثير من الفقهاء المتأخرين، والثاني: يدلّ عليه كلام الصحابة كعائشة وابن عباس وغيرهما. قالت عائشة: فرضت الصّلاة ركعتين ركعتين فلمّا هاجر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى المدينة زيد في صلاة الحضر، وأقرّتْ صلاة السفر.
فهذا يدل على أن صلاة السفر عندها غير مقصورة من أربع، وإنما هي مفروضة كذلك، وأنّ فرض المسافر ركعتان.
وقال ابن عباس: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة. متفق على حديث عائشة، وانفرد مسلم بحديث ابن عباس.(1/37)
وقال عمر رضي الله عنه: صلاة السفر ركعتان، والجمعة ركعتان، والعيد ركعتان، تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقد خاب من افترى. وهذا ثابت عن عمر رضى الله عنه(1) وهو الذي سأل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ما بالنا نقصر وقد أمنّا؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((صدقة تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته)).
__________
(1) ?…بل قال الدارقطنى في ?العلل" وقد سئل عنه فقال: يرويه زبيد بن الحارث الأيامي عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، واختلف عنه فرواه يزيد بن زياد بن أبي الجعد عن زبيد عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة عن عمر. وخالفه سفيان الثوري، وقد اختلف= = عنه، فقال معاذ بن معاذ عن الثوري عن زبيد عن ابن أبي ليلى عن أبيه عن عمر. وخالفهما أصحاب الثوري فرواه زايدة، وأبونعيم، ووكيع، وعبدالرحمن بن مهدي، وعبدالله ابن الوليد العدني، ومهران بن أبي عمر، وأبوحمزة السكري، وغيرهم عن الثوري عن زبيد عن ابن أبي ليلى عن عمر لم يذكروا بينهما أحدًا وقال يزيد بن هارون: عن الثوري عن زبيد عن ابن أبي ليلى سمعت عمر ولم يتابع يزيد بن هارون على قوله هذا ورواه شعبة، وعمرو بن قيس الملائي، وشريك بن عبدالله، ومحمد بن طلحة، وقيس بن الربيع، وأبووكيع بن مليح، وعلي بن صالح بن حيي، وسعيد بن سماك بن حرب، وعبدالله بن ميمون الطهوي، وياسين الزيات، عن زبيد عن ابن أبي ليلى عن عمر. وقال يزيد بن أبي حكيم عن ياسين الزيات عن الأعمش عن زيد بن وهب عن عمر، والمحفوظ عن ياسين عن زبيد عن ابن أبي ليلى عن عمر، وهو الصواب إن شاء الله تعالى.
…قال أبوعبدالرحمن: فعلى هذا يكون الحديث ضعيفًا لأنه منقطع.(1/38)
ولا تناقض بين حديثيه فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما أجابه بأن هذه صدقة الله عليكم ودينه اليسر السمح. علم عمر أنه ليس المراد من الآية قصر العدد كما فهمه كثير من الناس فقال: صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر.
وعلى هذا فلا دلالة في الآية على أن قصر العدد مباح منفيّ عنه الجناح، فإن شاء المصلي فعله، وإن شاء أتم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يواظب في أسفاره على ركعتين ركعتين، ولم يربّعْ قط إلا شيئًا فعله في بعض صلاة الخوف كما سنذكره هناك ونبين ما فيه إن شاء الله تعالى.
وقال أنس: خرجنا مع النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم من المدينة إلى مكّة، فكان يصلّي ركعتين ركعتين، حتّى رجعنا إلى المدينة. متفق عليه.
ولما بلغ عبدالله بن مسعود أن عثمان بن عفان صلى بمنىً أربع ركعات قال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، صلّيت مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمنًى ركعتين، ومع أبي بكر بمنًى ركعتين، ومع عمر بن الخطّاب ركعتين، فليْت حظّي منْ أرْبع ركْعات ركعتان متقبّلتان. متفق عليه.
ولم يكن ابن مسعود ليسترجع من فعل عثمان أحد الجائزين المخير بينهما، بل الأولى على قول، وإنما استرجع لما شاهده من مداومة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وخلفائه على صلاة ركعتين في السفر. ?
الفائدة الثالثة: قال ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد"(1/39)
(ج1 ص161): وكان من هديه صلى الله عليه وعلى آله وسلم الاقتصار على الفرض، ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه صلى سنة الصلاة قبلها ولا بعدها، إلا ما كان من الوتر وسنة الفجر، فإنه لم يكن ليدعها حضرًا ولا سفرًا. قال ابن عمر: وقد سئل عن ذلك فقال: صحبت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلم أره يسبح في السفر، وقال الله عز وجل: {لقد كان لكم في رسول الله أسْوة حسنة(1)} ومراده بالتسبيح السنة الراتبة. وإلا فقد صح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه.
وفي "الصحيحين" عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يصلّي في السّفر على راحلته حيث توجّهت به، يومئ إيماءً صلاة اللّيل إلاّ الفرائض، ويوتر على راحلته.
قال الشافعي رحمه الله: وثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه كان يتنفّل ليلاً وهو يقصر. وفي "الصحيحين" عن عامر بن ربيعة: أنّه رأى النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يصلّي السّبْحة باللّيل في السّفر على ظهْر راحلته. فهذا قيام الليل.
وسئل الإمام أحمد رحمه الله عن التطوع في السفر؟ فقال: أرجو أن لا يكون بالتطوع في السفر بأس.
وروي عن الحسن قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يسافرون فيتطوعون قبل المكتوبة وبعدها. وروي هذا عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وجابر، وأنس، وابن عباس، وأبي ذر.
__________
(1) ?…سورة الأحزاب، الآية: 21.(1/40)
وأما ابن عمر فكان لا يتطوع قبل الفريضة ولا بعدها، إلاّ من جوف الليل مع الوتر. وهذا هو الظاهر من هدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه كان لا يصلي قبل الفريضة المقصورة ولا بعدها شيئًا، ولكن لم يكن يمنع من التطوع قبلها ولا بعدها، فهو كالتطوع المطلق لا أنه سنة راتبة للصلاة، كسنة صلاة الإقامة. ويؤيد هذا أن الرباعية قد خففت إلى ركعتين تخفيفًا على المسافر فكيف يجعل لها سنة راتبة يحافظ عليها، وقد خفف الفرض إلى ركعتين، فلولا قصد التخفيف على المسافر، وإلا كان الإتمام أولى به. ولهذا قال عبدالله بن عمر: لو كنْت مسبحًا لأتممت. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه صلى يوم الفتح ثماني ركعات ضحًى وهو إذ ذاك مسافر.
وأما مارواه أبوداود في "السنن" من حديث الليث، عن صفوان بن سليم، عن أبي بسرة الغفاري، عن البراء بن عازب قال: سافرت مع
رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثمانية عشر سفرًا، فلم أره ترك ركعتين عند زيغ الشّمس قبل الظّهر.
قال الترمذي: هذا حديث غريب. قال: وسألت محمدًا عنه فلم يعرفه إلا من حديث الليث بن سعد، ولم يعرف اسم أبي بسْرة، ورآه حسنًا. وبسرة: بالباء الموحدة المضمومة وسكون السين المهملة.
وأما حديث عائشة رضي الله عنها أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان لا يدع أربعًا قبل الظهر وركعتين بعدها. فرواه البخاري في "صحيحه"، ولكنه ليس بصريح لفعله ذلك في السفر، ولعلها أخبرتْ عن أكثر أحواله وهو الإقامة، والرجال أعلم بسفره من النساء، وقد أخبر ابن عمر أنه لم يزد على ركعتين، ولم يكن ابن عمر يصلي قبلها ولا بعدها شيئًا. والله أعلم.?(1/41)
الفائدة الرابعة: قال ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد" (ج1 ص162): فصل في صلاة التطوع على الراحلة، وكان من هديه صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلاة التطوع على راحلته حيث توجهت به، وكان يومئ إيماءً برأسه في ركوعه، وسجوده أخفض من ركوعه. وروى أحمد وأبوداود عنه من حديث أنس أنه كان يستقبل بناقته القبلة عند تكبيرة الإفتتاح، ثم يصلي سائر الصلاة حيث توجهت به. وفي هذا الحديث نظر، وسائر من وصف صلاته صلى الله عليه وعلى آله وسلم على راحلته أطلقوا أنه كان يصلي عليها قبل أي جهة توجهت به، ولم يستثنوا من ذلك تكبيرة الإحرام ولا غيرها، كعامر بن ربيعة، وعبدالله بن عمر، وجابر بن عبدالله، وأحاديثهم أصح من حديث أنس هذا، والله أعلم.
وصلى على الراحلة وعلى الحمار إن صح عنه. وقد رواه مسلم في
"صحيحه(1)" من حديث ابن عمر، وصلى الفرض بهم على الرواحل لأجل المطر والطين إن صح الخبر بذلك. وقد رواه أحمد والترمذي والنسائي أنه عليه الصلاة والسلام انتهى إلى مضيق هو وأصحابه وهو على راحلته، والسماء من فوقهم، والبلة من أسفل منهم، فحضرت الصلاة، فأمر المؤذن فأذن وأقام، ثم تقدم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على راحلته فصلى بهم يومئ إيماءً، فجعل السجود أخفض من الركوع. قال الترمذي: حديث غريب تفرد به عمر بن الرماح، وثبت ذلك عن أنس من فعله.
__________
(1) ?…الحديث معل: قال الدارقطني في ?التتبع" ص (443) وأخرج مسلم حديث عمرو بن يحيى عن أبي الحباب عن ابن عمر: صلى على حماره. وخالفه أبوبكر ابن عمر عن أبي الحباب فقال: على البعير. وكذلك قال جابر وغيره عن النبي ? وأخرجهما مسلم. ولم يخرج البخاري حديث عمرو بن يحيى وأخرج الآخر، ومن روى أن النبي ? صلى على حماره فهو وهم. والصواب من فعل أنسٍ. والله أعلم.(1/42)
الفائدة الخامسة: المسافر المستمر في السفر كالسائق، حكمه حكم المسافر غير المستمر، لعموم الأدلة، فيجب عليه أن يقصر، وله أن يفطر في رمضان كما يقول الله سبحانه وتعالى: {فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فعدّة من أيّام أخر(1)}.
حد السفر الذي يجب به القصر ويباح به الإفطار
قال شيخ الإسلام رحمه الله كما في (ج24 ص38) من "مجموع الفتاوى": وهذا مما اضطرب الناس فيه. قيل: ثلاثة أيام، وقيل: يومين قاصدين. وقيل: أقل من ذلك. حتى قيل: ميل. والذين حددوا ذلك بالمسافة منهم من قال: ثمانية وأربعون ميلاً. وقيل: ستة وأربعون ميلاً. وقيل: خمسة وأربعون. وقيل: أربعون، وهذه أقوال عن مالك. وقد قال أبومحمد المقدسي: لا أعلم لما ذهب إليه الأئمة وجهًا، وهو كما قال رحمه الله فإن التحديد بذلك ليس ثابتًا بنص ولا إجماع ولا قياس. وعامة هؤلاء يفرقون بين السفر الطويل والقصير، ويجعلون ذلك حدًا للسفر الطويل، ومنهم من لا يسمي سفرًا إلا ما بلغ هذا الحد وما دون ذلك لا يسميه سفرًا.
فالذين قالوا: ثلاثة أيام، احتجوا بقوله: ((يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن)). وقد ثبت عنه في "الصحيحين" أنه قال: ((لا تسافر امرأة مسيرة ثلاثة أيّام إلا ومعها ذو محرم)). وقد ثبت عنه في "الصحيحين" أنه قال:
((مسيرة يومين)). وثبت في "الصحيح": ((مسيرة يوم))، وفي "السنن": ((بريدًا)) فدل على أن ذلك كله سفر، وإذنه له في المسح ثلاثة أيام إنما هو تجويز لمن سافر ذلك، وهو لا يقتضي أن ذلك أقل السفر، كما أذن للمقيم أن يمسح يومًا وليلة وهو لا يقتضي أن ذلك أقل الإقامة.
__________
(1) ?…سورة البقرة، الآية: 184.(1/43)
والذين قالوا: يومين، اعتمدوا على قول ابن عمر، وابن عباس. والخلاف في ذلك مشهور عن الصحابة حتى عن ابن عمر، وابن عباس. وما روي: ((ياأهل مكّة لا تقصروا في أقلّ من أربعة برد من مكة إلى عسفان)). إنما هو من قول ابن عباس. ورواية ابن خزيمة وغيره له مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم باطل بلا شك عند أئمة أهل الحديث. وكيف يخاطب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أهل مكة بالتحديد، وإنما أقام بعد الهجرة زمنًا يسيرًا، وهو بالمدينة لا يحد لأهلها حدًا كما حده لأهل مكة، وما بال التحديد يكون لأهل مكة دون غيرهم من المسلمين.
وأيضًا فالتحديد بالأميال والفراسخ يحتاج إلى معرفة مقدار مساحة الأرض، وهذا أمر لا يعلمه إلا خاصة الناس، ومن ذكره فإنما يخبر به عن غيره تقليدًا وليس هو مما يقطع به، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يقدر الأرض بمساحة أصلاً فكيف يقدر الشارع لأمته حدًا لم يجر له ذكر في كلامه وهو مبعوث إلى جميع الناس، فلا بد أن يكون مقدار السفر معلومًا علمًا عامًا، وذرع الأرض مما لا يمكن، بل هو إما متعذر وإما متعسر، لأنه إذا أمكن الملوك ونحوهم مسح طريق فإنما يمسحونه على خط مستو أو خطوط منحنية انحناءً مضبوطًا، ومعلوم أن المسافرين قد يعرفون غير تلك الطريق، وقد يسلكون غيرها وقد يكون في المسافة صعود، وقد يطول سفر بعضهم لبطء حركته، ويقصر سفر بعضهم لسرعة حركته، والسبب الموجب هو نفس السفر لا نفس مساحة الأرض.
والموجود في كلام النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم والصحابة في تقدير الأرض بالأزمنة كقوله في الحوض: ((طوله شهر وعرضه شهر)) وقوله: ((بين السّماء والأرض خسمائة سنة(1)) وفى حديث آخر: ((إحدى أو اثنتان أو ثلاث وسبعون
__________
(1) ?…هو حديثٌ ضعيفٌ، ولم يثبت شيءٌٌ عن النبي ? في تقدير ما بين السماء والأرض، ولا في تقدير ما بين كل سماءين.(1/44)
سنة))، فقيل: الأول: بالسير المعتاد سير الإبل والأقدام، والثاني: سير البريد، فإنه في العادة يقطع بقدر المعتاد سبع مرات. وكذلك الصحابة يقولون: يوم تام، ويومان. ولهذا قال من حده بثمانية وأربعين ميلاً: مسيرة يومين قاصدين بسير الإبل والأقدام، لكن هذا لا دليل عليه.
وإذا كان كذلك فنقول: كل اسم ليس له حدّ في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى العرف. فما كان سفرًا في عرف الناس فهو السفر الذى علق به الشارع الحكم، وذلك مثل سفر أهل مكة إلى عرفة، فإن هذه المسافة بريد وهذا سفر ثبت فيه جواز القصر والجمع بالسنة والبريد هو نصف يوم بسير الإبل والأقدام وهو ربع مسافة يومين وليلتين، وهو الذي قد يسمى مسافة القصر، وهو الذي يمكن الذاهب إليها أن يرجع من يومه.
وأما ما دون هذه المسافة إن كانت مسافة القصر محدودة بالمساحة فقد قيل: يقصر في ميل، وروي عن ابن عمر أنه قال: لو سافرت ميلاً لقصرت. قال ابن حزم: لم نجد أحدًا يقصر في أقل من ميل، ووجد ابن عمر وغيره يقصرون في هذا القدر، ولم يحد الشارع في السفر حدًا. فقلنا بذلك اتباعًا للسنة المطلقة، ولم نجد أحدًا يقصر بما دون الميل، ولكن هو على أصله، وليس هذا إجماعًا فإذا كان ظاهر النص يتناول ما دون ذلك. لم يضره أن يعرف أحدًا ذهب إليه كعادته في أمثاله.
وأيضًا فليس في قول ابن عمر أنه لا يقصر في أقل من ذلك. وأيضًا فقد ثبت عن ابن عمر أنه كان لا يقصر في يوم أو يومين، فإما أن تتعارض أقواله أو تحمل على اختلاف الأحوال، والكلام في مقامين:
المقام الأول: أن من سافر مثل سفر أهل مكة إلى عرفات يقصر، وأما إذا قيل: ليست محدودة بالمسافة، بل الاعتبار بما هو سفر، فمن سافر ما يسمى سفرًا، قصر، وإلا فلا.(1/45)
وقد يركب الرجل فرسخًا يخرج به لكشف أمر وتكون المسافة أميالاً، ويرجع في ساعة أو ساعتين، ولا يسمى مسافرًا، وقد يكون غيره في مثل تلك المسافة مسافرًا بأن يسير على الإبل والأقدام سيرًا، لا يرجع فيه ذلك اليوم إلى مكانه، والدليل على ذلك من وجوه:
أحدها: أنه قد ثبت بالنقل الصحيح المتفق عليه بين علماء أهل الحديث أنّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حجة الوداع كان يقصر الصلاة بعرفة ومزدلفة، وفي أيام منى، وكذلك أبوبكر وعمر بعده، وكان يصلي خلفهم أهل مكة ولم يأمروهم بإتمام الصلاة، ولا نقل أحد لا بإسناد صحيح ولا ضعيف أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال لأهل مكة لما صلى بالمسلمين ببطن عرنة الظهر ركعتين قصرًا وجمعًا ثم العصر ركعتين: ياأهل مكة أتموا صلاتكم. ولا أمرهم بتأخير صلاة العصر، ولا نقل أحد أن أحدًا من الحجيج لا أهل مكة ولا غيرهم صلى خلف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خلاف ما صلى بجمهور المسلمين، أو نقل أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أو عمر قال في هذا اليوم: ياأهل مكة أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر. فقد غلط وإنما نقل أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال هذا في جوف مكة(1) لأهل مكة عام الفتح.
وقد ثبت أن عمر بن الخطاب قاله لأهل مكة لما صلى في جوف مكة، ومن المعلوم أنه لو كان أهل مكة قاموا فأتموا وصلوا أربعًا، وفعلوا ذلك بعرفة ومزدلفة وبمنى أيام منى لكان مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله بالضرورة، بل لو أخروا صلاة العصر ثم قاموا دون سائر الحجاج فصلوها قصرًا لنقل ذلك، فكيف إذا أتموا الظهر أربعًا من دون المسلمين.
__________
(1) ?…لم يثبت هذا، وثبت عن عمر، كما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله.(1/46)
وأيضًا فإنّهم إذا أخذوا في إتمام الظهر والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد شرع في العصر لكان إما أن ينتظرهم فيطيل القيام، وإما أن يفوتهم معه بعض العصر، بل أكثرها، فكيف إذا كانوا يتمّون الصلوات، وهذا حجة على كل أحد وهو على من يقول: إن أهل مكة جمعوا معه أظهر، وذلك أن العلماء تنازعوا في أهل مكة يقصرون ويجمعون بعرفة على ثلاثة أقوال:
فقيل لا يقصرون ولا يجمعون، وهذا هو المشهور عند أصحاب الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد كالقاضي في "المجرد" وابن عقيل في "الفصول" لاعتقادهم أن ذلك معلق بالسفر الطويل وهذا قصير.
والثاني: أنّهم يجمعون ولا يقصرون. هذا مذهب أبي حنيفة وطائفة من أصحاب أحمد، ومن أصحاب الشافعي والمنقولات عن أحمد توافق هذا، فإنه أجاب في غير موضع بأنّهم لا يقصرون، ولم يقل: لا يجمعون. وهذا هو الذي رجّحه أبومحمد المقدسي في الجمع، وأحسن في ذلك.
والثالث: أنّهم يجمعون ويقصرون، وهذا مذهب مالك. وإسحاق بن راهويه، وهو قول طاووس وابن عيينة وغيرهما من السلف، وقول طائفة من أصحاب أحمد والشافعي كأبي الخطاب في "العبادات الخمس" وهو الذي رجّحه أبومحمد المقدسي وغيره من أصحاب أحمد، فإن أبا محمد وموافقيه رجّحوا الجمع للمكي بعرفة.(1/47)
وأما القصر فقال أبومحمد: الحجة مع من أباح القصر لكل مسافر إلا أن ينعقد الإجماع على خلافه، والمعلوم أن الإجماع لم ينعقد على خلافه. وهو اختيار طائفة من علماء أصحاب أحمد، كان بعضهم يقصر الصلاة في مسيرة بريد وهذا هو الصواب الذي لا يجوز القول بخلافه لمن تبين السنة وتدبّرها، فإن من تأمّل الأحاديث في حجة الوداع وسياقها، علم علمًا يقينًا أن الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أهل مكة وغيرهم صلوا بصلاته قصرًا وجمعًا، ولم يفعلوا خلاف ذلك، ولم ينقل أحد قط عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال بعرفة ولا مزدلفة ولا منًى: ((يا أهل مكّة أتمّوا صلاتكم، فإنّا قوم سفر)). وإنما نقل أنه قال ذلك في نفس مكة كما رواه أهل السنن عنه(1). وقوله في ذلك في داخل مكة دون عرفة ومزدلفة ومنى، دليل على الفرق، وقد روي من جهة أهل العراق عن عمر أنه كان يقول بمنى: يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر. وليس له إسناد.
وإذا ثبت ذلك فالجمع بين الصلاتين قد يقال إنه لأجل النسك، كما تقوله الحنفية وطائفة من أصحاب أحمد، وهو مقتضى نصه فإنه يمنع المكي من القصر بعرفة، ولم يمنعه من الجمع. وقال في جمع المسافر: إنه يجمع في الطويل كالقصر عنده، وإذا قيل: الجمع لأجل النسك، ففيه قولان:
أحدهما: لا يجمع إلا بعرفة ومزدلفة، كما تقوله الحنفية.
__________
(1) ?…تقدم أنه لا يثبت عن النبي ? لأنه من طريق علي بن زيد بن جدعان. مختلفٌ فيه والراجح ضعفه، وقد ثبت عن عمر رضي الله عنه أنه قال لأهل مكة بمكة كما تقدم.(1/48)
والثاني: أنه يجمع لغير ذلك من الأسباب المقتضية للجمع، وإن لم يكن سفرًا وهو مذهب الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد. وقد يقال: لأن ذلك سفر قصير، وهو يجوز الجمع في السفر القصير، كما قال هذا بعض الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، فإن الجمع لا يختص بالسفر، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يجمع في حجته إلا بعرفة ومزدلفة، ولم يجمع بمنى، ولا في ذهابه وإيابه، ولكن جمع قبل ذلك في غزوة تبوك، والصحيح أنه لم يجمع بعرفة لمجرد السفر، كما قصر للسفر بل لاشتغاله باتصال الوقوف عن النْزول، ولاشتغاله بالمسير إلى مزدلفة، وكان جمع عرفة لأجل العبادة، وجمع مزدلفة لأجل السير الذي جد فيه، وهو سيره إلى مزدلفة، وكذلك كان يصنع في سفره، كان إذا جدّ به السير أخّر الأولى إلى وقت الثانية، ثم ينْزل فيصليهما جميعا، كما فعل بمزدلفة، وليس في شريعته ما هو خارج عن القياس، بل الجمع الذي جمعه هناك يشرع أن يفعل نظيره، كما يقول الأكثرون. ولكن أبوحنيفة يقول: هو خارج عن القياس، وقد علم أن تخصيص العلة إذا لم تكن لفوات شرط، أو وجود مانع دل على فسادها، وليس فيما جاء من عند الله اختلاف ولا تناقض، بل حكم الشيء حكم مثله، والحكم إذا ثبت بعلة ثبت بنظيرها.(1/49)
وأما القصر فلا ريب أنه من خصائص السفر، ولا تعلق له بالنسك، ولا مسوغ لقصر أهل مكة بعرفة وغيرها إلا أنّهم بسفر، وعرفة عن المسجد بريد، كما ذكره الذين مسحوا ذلك. وذكره الأزرقي في "أخبار مكة". فهذا قصر في سفر قدره بريد، وهم لما رجعوا إلى منى كانوا في الرجوع من السفر، وإنما كان غاية قصدهم بريدًا، وأي فرق بين سفر أهل مكة إلى عرفة وبين سفر سائر المسلمين إلى قدر ذلك من بلادهم. والله لم يرخص في الصلاة ركعتين إلا لمسافر، فعلم أنّهم كانوا مسافرين، والمقيم إذا اقتدى بمسافر فإنه يصلي أربعًا. كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأهل مكة في مكة: ((أتمّوا صلاتكم فأنّا قوم سفر(1)). وهذا مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم من العلماء، ولكن في مذهب مالك نزاع.
الدليل الثاني: أنه قد نهى أن تسافر المرأة إلا مع ذي محرم أو زوج: تارةً يقدر وتارةً يطلق. وأقل ماروي في التقدير بريد، فدل ذلك على أن البريد يكون سفرًا، كما أن الثلاثة الأيام تكون سفرًا، واليومين تكون سفرًا: واليوم يكون سفرًا. هذه الأحاديث ليس لها مفهوم بل نهى عن هذا وهذا وهذا.
الدليل الثالث: أن السفر لم يحده الشارع، وليس له حد في اللغة، فرجع فيه إلى ما يعرفه الناس ويعتادونه، فما كان عندهم سفرًا فهو سفر. والمسافر يريد أن يذهب إلى مقصده ويعود إلى وطنه، وأقل ذلك مرحلة يذهب في نصفها، ويرجع في نصفها، وهذا هو البريد وقد حدوا بهذه المسافة الشهادة على الشهادة، وكتاب القاضي إلى القاضي، والعدو على الخصم، والحضانة، وغير ذلك مما هو معروف في موضعه، وهو أحد القولين في مذهب أحمد. فلو كانت المسافة محدودة لكان حدها بالبريد أجود، لكن الصواب أن السفر ليس محددًا بمسافة بل يختلف، فيكون مسافرًا في مسافة بريد، وقد يقطع أكثر من ذلك ولا يكون مسافرًا.
__________
(1) ?…تقدم أنه لا يثبت مرفوعًا.(1/50)
الدليل الرابع: أن المسافر رخص الله له أن يفطر في رمضان، وأقل الفطر يوم، ومسافة البريد يذهب إليها ويرجع في يوم، فيحتاج إلى الفطر فى شهر رمضان، ويحتاج أن يقصر الصلاة بخلاف ما دون ذلك، فإنه قد لا يحتاج فيه إلى قصر ولا فطر إذا سافر أول النهار ورجع قبل الزوال، وإذا كان غدوه يومًا، ورواحه يومًا، فإنه يحتاج إلى القصر والفطر، وهذا قد يقتضي أنه قد يرخص له أن يقصر ويفطر في بريد، وإن كان قد لا يرخص له في أكثر منه إذا لم يعد مسافرًا.
الدليل الخامس: أنه ليس تحديد من حدّ المسافة بثلاثة أيام بأولى ممن حدها بيومين، ولا اليومان بأولى من يوم، فوجب أن لا يكون لها حد بل كل ما يسمى سفرًا يشرع. وقد ثبت بالسنة القصر في مسافة بريد، فعلم أن في الأسفار ما قد يكون بريدًا، وأدنى ما يسمى سفرًا في كلام الشارع البريد، وأما ما دون البريد كالميل فقد ثبت في "الصحيحين" من حديث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه كان يأتي قباء كل سبت وكان يأتيه راكبًا وماشيًا، ولا ريب أن أهل قباء وغيرهم من أهل العوالي كانوا يأتون إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولم يقصروا الصلاة هو ولا هم.
وقد كانوا يأتون الجمعة من نحو ميل وفرسخ ولا يقصرون الصلاة، والجمعة على من سمع النداء، والنداء قد يسمع من فرسخ، وليس كل من وجبت عليه الجمعة أبيح له القصر، والعوالي بعضها من المدينة وإن كان اسم المدينة يتناول جميع المساكن كما قال تعالى: {وممّن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النّفاق}(1)?وقال: {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أنْ يتخلّفوا عن رسول الله}(2).
__________
(1) ?…سورة التوبة، الآية: 101.
(2) ?…سورة التوبة، الآية: 120.(1/51)
وأما ما نقل عن ابن عمر، فينظر فيه هل هو ثابت أم لا؟ فإن ثبت فالرواية عنه مختلفة وقد خالفه غيره من الصحابة، ولعله أراد إذا قطعت من المسافة ميلاً ولاريب أن قباء من المدينة أكثر من ميل، وما كان ابن عمر ولا غيره يقصرون الصلاة إذا ذهبوا إلى قباء.
فقصر أهل مكة الصلاة بعرفة، وعدم قصر أهل المدينة الصلاة إلى قباء ونحوها مما حول المدينة دليل على الفرق. والله أعلم.
وقال رحمه الله تعالى في ص (131): وفي "صحيح مسلم" حدثنا ابن أبي شيبة وابن بشار كلاهما عن غندر، عن شعبة، عن يحيى بن يزيد الهنائي: سألت أنس بن مالك عن قصر الصّلاة؟ فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ -شعْبة الشّاكّ- صلّى ركعتين. و لم ير أنس أن يقطع من المسافة الطويلة هذا؟ لأن السائل سأله عن قصر الصلاة، وهو سؤال عما يقصر فيه ليس سؤالاً عن أول صلاة يقصرها، ثم إنه لم يقل أحد إن أول صلاة لا يقصرها إلا في ثلاثة أميال أو أكثر من ذلك، فليس في هذا جواب لو كان المراد ذلك، ولم يقل ذلك أحد، فدل على أن أنسًا أراد أنه من سافر هذه المسافة قصر، ثم ما أخبر به عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فعل من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يبين هل كان ذلك الخروج هو السفر، أو كان ذلك هو الذي قطعه من السفر، فإن كان أراد به أن ذلك كان سفره فهو نص، وإن كان ذلك الذي قطعه من السفر فأنس بن مالك استدل بذلك على أنه يقصر إليه إذا كان هو السفر، يقول: إنه لا يقصر إلا في السفر، فلولا أن قطع هذه المسافة سفر لما قصر.(1/52)
وهذا يوافق قول من يقول: لا يقصر حتى يقطع مسافة تكون سفرًا، لا يكفي مجرد قصده المسافة التي هي سفر، وهذا قول ابن حزم وداود وأصحابه. وابن حزم يحد مسافة القصر بميل، ولكن داود وأصحابه يقولون: لا يقصر إلا فى حج أو عمرة أو غزو. وابن حزم يقول: إنه يقصر في كل سفر. وابن حزم عنده أنه لا يفطر إلا في هذه المسافة، وأصحابه يقولون: إنه يفطر في كل سفر بخلاف القصر، لأن القصر ليس عندهم فيه نص عام عن الشارع، وإنما فيه فعله أنه قصر في السفر، ولم يجدوا أحدًا قصر فيما دون ميل، ووجدوا الميل منقولاً عن ابن عمر. وابن حزم يقول: السفر هو البروز من محلة الإقامة، لكن قد علم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خرج إلى البقيع لدفن الموتى، وخرج إلى الفضاء للغائط والناس معه فلم يقصروا، ولم يفطروا. فخرج هذا عن أن يكون سفرًا، و لم يجدوا أقل من ميل يسمى سفرًا، فإن ابن عمر قال: لو خرجت ميلاً لقصرت الصلاة. فلما ثبت أن هذه المسافة جعلها سفرًا، ولم نجد أعلى منها يسمى سفرًا جعلنا هذا هو الحد. قال: وما دون الميل من آخر بيوت قريته له حكم الحضر، فلا يقصر فيه ولا يفطر، وإذا بلغ الميل فحينئذ صار له سفر يقصر فيه الصلاة ويفطر فيه، فمن حينئذ يقصر ويفطر، وكذلك إذا رجع فكان على أقل من ميل فإنه يتم ليس في سفر يقصر فيه.(1/53)
قلت: جعل هؤلاء السفر محدودًا في اللغة. قالوا: وأقل ما سمعنا أنه يسمى سفرًا هو الميل، وأولئك جعلوه محدودًا بالشرع، وكلا القولين ضعيف. أما الشارع فلم يحده. وكذلك أهل اللغة لم ينقل أحد عنهم أنّهم قالوا: الفرق بين ما يسمى سفرًا، وما لا يسمى سفرًا هو مسافة محدودة، بل نفس تحديد السفر بالمسافة باطل في الشرع واللغة، ثم لو كان محدودًا بمسافة ميل فإن أريد أن الميل يكون من حدود القرية المختصة به فقد كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخرج أكثر من ميل من محله في الحجاز ولا يقصر ولا يفطر، وإن أراد من المكان المجتمع الذي يشمله اسم مدينة ميلاً فقيل له: فلا حجة لك في خروجه إلى المقابر والغائط، لأن تلك لم تكن خارجًا عن آخر المدينة. ففي الجملة كان يخرج إلى العوالي وإلى أحد، كما كان يخرج إلى المقابر والغائط، وفي ذلك ما هو أبعد من ميل، وكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه يخرجون من المدينة إلى أكثر من ميل، ويأتون إليها أبعد من ميل، ولا يقصرون، كخروجهم إلى قباء، والعوالي وأحد، ودخولهم للجمعة وغيرهما من هذه الأماكن.
وكان كثير من مساكن المدينة عن مسجده أبعد من ميل، فإن حرم المدينة بريد في بريد، حتى كان الرجلان من أصحابه لبعد المكان يتناوبان الدخول يدخل هذا يومًا، وهذا يومًا، كما كان عمر بن الخطاب وصاحبه الأنصاري يدخل هذا يومًا وهذا يومًا. وقول ابن عمر: لو خرجت ميلاً قصرت الصلاة. هو كقوله: إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر. وهذا إما أن يريد به ما يقطعه من المسافة التى يقصدها، فيكون قصده إني لا أوخر القصر إلى أن أقطع مسافةً طويلة. وهذا قول جماهير العلماء إلا من يقول: إذا سافر نهارًا لم يقصر إلى الليل.(1/54)
وقد احتج العلماء على هؤلاء بأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلى الظهر بالمدينة أربعًا، والعصر بذي الحليفة ركعتين. وقد يحمل حديث أنس بن مالك على هذا، لكن فعله يدل على المعنى الأول أو يكون مراد ابن عمر: من سافر قصر ولو كانت قصده هذه المسافة، إذا كان في صحراء بحيث يكون مسافرًا لا يكون متنقلاً بين المساكن، فإن هذا ليس بمسافر باتفاق الناس، وإذا قدر أن هذا مسافر، فلو قدر أنه مسافر أقل من الميل بعشرة أذرع فهو أيضًا مسافر، فالتحديد بالمسافة لا أصل له في شرع، ولا لغة، ولا عرف، ولا عقل، ولا يعرف عموم الناس مساحة الأرض، فلا يجعل ما يحتاج إليه عموم المسلمين معلقًا بشيء لا يعرفونه، ولم يمسح أحد الأرض على عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا قدّر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الأرض بالأميال ولا فراسخ، والرجل قد يخرج من القرية إلى صحراء لحطب يأتي به فيغيب اليومين والثلاثة فيكون مسافرًا، وإن كانت المسافة أقل(1) من ميل بخلاف من يذهب ويرجع من يومه، فإنه لا يكون في ذلك مسافرًا، فإن الأول يأخذ الزاد والمزاد، بخلاف الثاني فالمسافة القريبة في المدة الطويلة تكون سفرًا، والمسافة البعيدة في المدة القليلة لا تكون سفرًا.
__________
(1) ?…الظاهر أنه لا يسمى مسافرًا لا لغةً ولا شرعًا، وأعدل الأقوال ما تقدم لشيخ الإسلام رحمه الله أنه إذا خرج مسافة نصف يومٍ يسمى مسافرًا، وكما تقدم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يأمر أهل مكة أن يتموا بعرفة، وهكذا في مزدلفة ومنى، ولكن مزدلفة ومنى عند الذهاب إلى عرفة لأنَّهم متوجهون إلى سفرٍ، وعند الرجوع لأنَّهم راجعون من سفرٍ كما تقدم عن شيخ الإسلام رحمه الله.(1/55)
فالسفر يكون بالعمل الذى سمي سفرًا لأجله، والعمل لا يكون إلا في زمان، فإذا طال العمل وزمانه فاحتاج إلى ما يحتاج إليه المسافر من الزاد والمزاد سمي مسافرًا، وإن لم تكن المسافة بعيدة، وإذا قصر العمل والزمان بحيث لا يحتاج إلى زاد ومزاد، لم يسم سفرًا، وإن بعدت المسافة فالأصل هو العمل الذى يسمى سفرًا، ولا يكون العمل إلا في زمان فيعتبر العمل الذي هو سفر، ولا يكون ذلك إلا في مكان يسفر عن الأماكن، وهذا مما يعرفه الناس بعاداتهم، ليس له حد في الشرع، ولا اللغة، بل ماسمّوه سفرًا فهو سفر.
مسألة:
لا يثبت حديث في الجمع في المطر، وقد جاء حديث مرسل، والمرسل من قسم الضعيف. وأما حديث ابن عباس أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم جمع في المدينة من غير خوف ولا مطر. فليس بصريح في الجمع في المطر.
وقد شرع لنا أن نصلي في رحالنا في المطر كما في حديث ابن عباس وابن عمر وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمر أن يقول المؤذن في الأذان بدل حي على الصلاة حي على الصلاة: صلوا في رحالكم، صلوا في رحالكم. وفي حديث ابن عمر أنّها تقال بعد الأذان، وحديث ابن عباس متفق عليه، وحديث ابن عمر متفق عليه.
وبهذا ينتهي ما يسر الله جمعه، فله الحمد والمنة. ونسأله المزيد من فضله، إنه جواد كريم.
الخاتمة
مسألة الجمع بين الصلاتين في السفر من المسائل الفقهية التى يحتاج إليها كل مسلم، وبحمد الله قد حرصت على جمع الأدلة وذكر أقوال أهل العلم رحمهم الله، وأضفت إليها فوائد يحتاج إليها المسافر، وبحمد الله قد راجعت كثيرًا من كتب الحديث، ومن كتب الفقهاء رحمهم الله، ومن الكذب المفضوح والبهتان الواضح قول بعض الجاهلين: إنني أحرّم قراءة كتاب
"المغني" لابن قدامة وكتاب "المجموع" للنووي.(1/56)
فنحن نقول لكم أيها الجاهلون الحاقدون الحاسدون: نحن نستفيد من كتب علمائنا المحدثين، والمفسرين، والفقهاء، غير مقلدين، وقل أن تعرض مسألة إلا وأنا أرجع إلى "المغني" و"المجموع" لأنظر ماذا قال العلماء رحمهم الله، ولكن إذا رأيت في المسألة آية قرانية أو حديثًا نبويًا أستغني بهما عن قول فلان وفلان، وإذا لم أجد فلست ملزمًا بنقل أقوال الفقهاء رحمهم الله، ولكننا نستعين بالله ثم بأفهامهم على فهم بعض الأدلة، غير مقلدين لهم، لأننا نعتقد أن التقليد حرام. قال الله سبحانه وتعالى: {اتّبعوا ما أنزل إليكم من ربّكم ولا تتّبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكّرون} (1).
وهذه المسألة من تلكم المسائل قد رجعت بحمد الله إلى "المغني" وإلى
"المجموع" ولكني رأيت في الأدلة وفي "زاد المعاد" و"فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" ما يغني والحمد لله.
__________
(1) ?…سورة الأعراف، الآية: 3.(1/57)