الجانب الفكري في شخصية المشتغلين بالعلوم الشرعية - العلوم القرآنية مثالاً
تأليف
محمد بن موسى الشريف?
k
مقدمة
... الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمي الأمين، وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
... فإن الله تبارك وتعالى شرف هذه الأمة بإنزال القرآن العظيم على نبيها - صلى الله عليه وسلم - وهو أحسن كتب الله تعالى نظاماً، وأعظمها بياناً، وأروعها ألفاظاً، وأدقها إيجازاً، وجعل فيه أصول كل شي، وشفاء كل عَيّ، ثم إنه تعالى شرف طائفة من هذه الأمة بأن جعل مصاحفها في صدورها مزية لها، وتكرمة ورفعاً لقدرها، فيا فوز من جعل كتاب الله بين الحنايا، وعمل به قبل نزول المنايا، وتعاهده من النسيان، وابتغى بكل ذلك رضى الرحمن.
... هذا وإن المشتغلين بالقرآن حفظاً ودراسة وفهماً ثروة للأمة وكنز، وفخر وعز، هذا إن جمعوا بين الحفظ والعمل، والحفاظ على الحروف والوقوف عند الحدود، واقتدوا بالسادات العظام، من أسلافنا الكرام، فصاروا مصاحف تمشي على الأرض، وحافظوا على السنة والفرض، ولم يرضوا بالدنايا، ولم يجعلوا الدين مطايا، وكانوا لأنفسهم مجاهدين، ولشهواتهم الحرام قامعين، ولمكانتهم عاملين، وللدنيا مجافين، وللآخرة ناظرين، وللأطماع قاطعين، وعن أموال الناس متعففين، وبالإسلام مستمسكين، وعلى الله متوكلين، ومنه خائفين، وإليه منيبين.
... وصاحب القرآن مطالب بأن يفقه دينه، ويعمل بإسلامه، وينمي روحه، ويعظم يقينه، ويرتقي بثقافته، ويستغني عن الناس بعمله ووظيفته، وذلك حتى يكون بين الناس كالشامة، وقدوة وعلامة، وهو أحق الناس بذلك، وأولاهم بما هنالك.
ـ وفي هذا البحث رأيت أن أتحدث عن الجانب الفكري في حياة المشتغلين بالقرآن حفظاً ودراسةً وفهماً، وذلك للأسباب التالية:(1/1)
1. ضعف الجانب الفكري عند أكثر هؤلاء(1):
... إن كثيراً من المشتغلين بالقرآن جهدوا وجاهدوا حتى يرتقوا بالجوانب الإيمانية والتعبدية والعلمية، وربما أخذوا بشيء من الجوانب الثقافية، أما الجانب الفكري فأكثرهم منه بمعزل، وعنه بمنأى، وذلك لوعورة مسالكه وصعوبة مسائله - في قضايا الفكر خارج القرآن، أما في القرآن العظيم فتساق القضايا الفكرية مساقاً سهلاً ميسور الفهم، كما سيأتي إن شاء الله - أو لعدم الرغبة في الخوض في قضاياه.
2. الاستجابة لأمر الله تعالى بالتفكر:
... إن القرآن الكريم ينادي على قرائه، والمشتغلين به -من باب أولى- بوجوب النظر وإعمال الفكر، هذا وقد وردت كلمة الفكر ومشتقاتها في القرآن قرابة عشرين مرة، فأين هؤلاء من هذا؟!
3. تحقيق توازن الشخصية القرآنية:
... إن المشتغل بالقرآن المقبل على حفظه ودراسته مطالب أن يقود مجتمعه إلى الخير والرشاد، والهدى والفلاح، ولا يكون كذلك إلا إن كانت شخصيته متوازنة في سلوكها، متكاملة في معارفها، آخذة من كل شيء بطرف، مبتعدة عن الغلو والتفريط والسَرَف، ومن غفل من الحفاظ عن الجانب الفكري فلم يهتم به، وأسقطه من حسابه فلم يعرج عليه، فإن شخصيته يعتورها النقص، ويشوبها الخلل، ويعتريها الخطأ والخطل، وربما لا يعود صالحاً لقيادة مجتمعه أو التأثير القوي فيه.
4. تحقيق الخيرية الواردة في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
__________
(1) وكذلك الشأن في غيرهم من المنقطعين للحديث أو الفقه أو اللغة أو غيرها من العلوم والفنون، ولم يُعنوا بما ذكرته آنفاً وما سأذكره لاحقاً، وإنما اقتصرت في الذكر على المشتغلين بالقرآن لأن البحث سيق من أجلهم، فهو في الأصل بحث طرح في مؤتمر قرآني، كما سيأتي ذكره في آخر المقدمة.(1/2)
... إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مدح "حامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه"(1)، وصاحب القرآن إن أراد أن يكون كذلك فلا بد أن يفهم جملة من القضايا مثل الغلو والتساهل، والإفراط والتفريط، والتشدد والسماحة، واللين والجفاء، واليسر والعسر، ويلزم من ذلك معرفة جملة من القواعد الفكرية والضوابط الهادية في هذا الباب.
5. التنبيه على عظم شأن المتفكرين:
... هناك آيات عظمت شأن المتفكرين، وهم الذين يُعملون الفكر في شؤونهم، وأحوال الناس من حولهم، وذلك نحو قوله تعالى: { .. إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } (2)
{ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ } (3)
{ إِن فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } (4).
وصاحب القرآن أولى الناس بالاندراج في هؤلاء.
6. إصلاح الخلل الفكري:
__________
(1) أخرجه الإمام أبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب في تنزيل الناس منازلهم.
(2) سورة النحل: آية 69.
(3) سورة يونس: آية 101.
(4) سورة آل عمران: آية 190-191.(1/3)
... إن الخلل الذي أصاب المجتمعات الإسلامية إنما هو -في أكثره- خلل فكري ناشئ عن التفريط في فهم الضوابط والقواعد المبثوثة في كتاب الله تعالى ومن ثم تطبيقها في المجتمع، وناشئ عن تأخيرنا لكثير من الأولويات الواردة في كتاب الله تعالى وتقديمنا للمفضول ولما حقه التأخير لكونه مندرجاً في باب السنن والتطوعات التي تؤتى وتعمل بعد الفرائض والمهمات الواردة في كتاب الله ـ تعالى ـ فإصلاح هذا الخلل الذي أصاب الجانب الفكري هو مقدمة مهمة لإصلاح المجتمع والأخذ بيده نحو سعادته في الدنيا والآخرة.
... ... بهذه الجوانب الستة ـ وغيرها مما لم أذكره ـ تتضح الأهمية البالغة لمراعاة المشتغلين بالقرآن للجانب الفكري فيه وتفهّم تلك القواعد والضوابط الفكرية ومن ثم العمل بها.
... ... ولهذا كله كتبت هذا البحث، والله الموفق.(1)
وكتبه
محمد بن موسى الشريف
البريد الإلكتروني: mmalshareef@hotmail.com الموقع على الشبكة: www.altareekh.com
المطلب الأول: معنى الفكر وصيغ وروده في كتاب الله تعالى
الفكر لغة:
... فَكَر في الأمر فِكْراً: أعمل العقل فيه، وقيل: تأمل بنظر وروية في الشيء.(2)
الفكر اصطلاحاً: هو "قوة مُطْرِقة للعلم إلى المعلوم، والتفكر جَوَلان تلك القوة بحسب نظر العقل، وذلك للإنسان دون الحيوان، ولا يقال إلا فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلب ... ورجل فِكِّير: كثير الفكرة.
قال بعض الأدباء:
الفكر مقلوب عن الفَرْك لكن يستعمل الفكر في المعاني وهو فَرْك الأمور وبحثها طلباً للوصول إلى حقيقتها".(3)
والتفكير-أيضاً-: هو إعمال العقل في مشكلة للتوصل إلى حلها.(4)
__________
(1) أصل هذه الرسالة هو بحث ألقيته في مؤتمر "الهيئة العالمية لحفظ القرآن الكريم" في الكويت سنة 1428/2007.
(2) "معجم متن اللغة": ف ك ر.
(3) "معجم مفردات ألفاظ القرآن" للراغب الأصبهاني: ف ك ر: 398-399.
(4) "المعجم الوسيط": ف ك ر.(1/4)
وقيل: إن الفكر إعمال العقل في المعلوم للوصول إلى معرفة مجهول.(1)
... والقرآن الكريم يدعو إلى إعمال الفكر في آيات كثيرات، ويسمى هذا الإعمال بأسماء عديدة، فمنها:
التفكر: وقد وردت تصريفات هذه الكلمة في كتاب الله تعالى قرابة عشرين مرة بصيغ مختلفة، دالة على أهميته، ومنزلته في هذا الكتاب العظيم، ودالة على أن الإسلام دين موافق للفطر القويمة، والعقول السليمة، ولا يمكن أن يسوق التفكير السليم فيما ورد في هذا الكتاب العظيم إلا لهذه النتيجة الباهرة الظاهرة.
ومن ذلك التعقل وهو يجري في المجرى نفسه، وقد ورد في كتاب الله تعالى في آيات كثيرة بصيغ مختلفة.
... ومن العجيب أن الله تعالى ذكر الذين يهملون التعقل في باب الإيمان بشر ماذكر به قوماً في كتابه، فقال جلّ من قائل:
{ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ } (2)
... وكان الأستاذ عباس العقاد(3) قد بدأ كتابه "التفكير فريضة إسلامية" بنحو ثلاثمائة آية عن العقل، ووظائفه، وأوصافه، وأساليبه في الفهم والاستدلال.(4)
ومن ذلك النظر، وهو بمعنى الفكر والتأمل، وقد ورد في كتاب الله تعالى على أوجه مختلفة في أكثر من أربعة وثلاثين موضعاً.
__________
(1) "المعجم الوسيط": ف ك ر.
(2) سورة يونس: آية 100.
(3) عباس بن محمود بن إبراهيم العقاد. إمام في الأدب، مصري من المكثرين كتابة وتصنيفاً مع الإبداع. أصله من دمياط. ولد عام 1306/1889 في أسوان وتعلم في مدرستها الابتدائية، وشغف بالمطالعة، وانقطع إلى الكتابة في الصحف والتأليف، وأقبل الناس على ما يكتبه. تعلم الإنجليزية في صباه وأجادها ثم ألم بالألمانية والفرنسية، وظل اسمه لامعاً نصف قرن أخرج فيها ثلاثة وثمانين كتاباً في أنواع مختلفة. توفي بالقاهرة سنة 1383/1964. انظر "الأعلام" : 3/266-267.
(4) "كيف نتعامل مع القرآن": الشيخ محمد الغزالي: 93-94.(1/5)
وجملة "أولي الألباب" وردت في القرآن الكريم في ستة عشر موضعاً. (1)
ومن ذلك التدبر، وقد أمرنا الله تعالى به فقال جل من قائل:
{ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } (2)
وقال تعالى: { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } (3)
... والتدبر مفتقر إلى تفكير طويل؛ وذلك أن التدبر هو النظر في دبر الأمور، أي مآلاتها ونتائجها، وهذا لا يكون إلا بنظر دائم وتفكير طويل.
... هذه الصيغ الواردة في كتاب الله تعالى المعبرة عن قضية التفكير دالة على عظيم منزلته، وجلالة أهميته، وأن القرآن العظيم لا يمكن ولا يتأتّى أن يرد فيه شيء تمجه العقول السليمة، التي كلما أمعنت في التفكر والتدبر في هذا الكتاب زاد يقينها واطمئنانها إلى أنه من عند الله تعالى حقاً وصدقاً.
... والأمر بالتفكير والنظر والتدبر والتعقل في كتاب الله تعالى أمر لافت للأنظار، عجيب في كثرته وتنوعه، وتعدد صيغه، ثم إنه من الغريب بعد ذلك أن تكون الأمة التي كتابها على هذه الشاكلة أمة متخلفة ضعيفة، في ذيل قائمة الأمم في أكثر جوانب الحياة المعاصرة، وهذا دال بوضوح أن المسلمين في هذا الزمان لم يلتفتوا لقضية التفكير الواردة في كتاب الله تعالى على نحو مدهش لافت، لم يلتفتوا إليها كما ينبغي، ولم يولوها الأهمية اللائقة بها، إضافة إلى أثر العقبات التي وضعها أعداؤها أمامهم ووضعوها هم بأنفسهم أيضاً أمامهم.
__________
(1) "كيف نتعامل مع القرآن":93-94.
(2) سورة النساء: آية 82.
(3) سورة محمد صلى الله عليه وسلم: آية 24.(1/6)
... والمشتغلون بالقرآن مطالبون اليوم -أكثر من غيرهم- أن يولوا هذه القضية الاهتمام اللائق، وأن يكثروا من النظر والتدبر والتفكر في هذا الكتاب العظيم، عسى أن يقودهم هذا التفكير والتدبر إلى العمل المثمر والدعوة الواعية العاقلة لغيرهم، وإلى أن يقودوا مجتمعاتهم إلى السيادة والعزة بإذن الله تعالى.
المطلب الثاني: مميزات الخطاب الفكري القرآني
... لما كان القرآن العظيم قد أُسس كثير من جوانب الخطاب فيه على مخاطبة العقل، والمطالبة بإعمال الفكر والنظر والتدبر في الآفاق وفي الأنفس وفي سائر المخلوقات، كما بينت آنفاً، لما كان الخطاب القرآني كذلك كان حقاً على العقلاء أن ينظروا فيه ملياً ليستخرجوا منه الميزات التي تميز بها هذا الخطاب ليستفيدوا منها في حاضرهم ومستقبلهم، ويمكن أن أقول في عجالة إن الخطاب القرآني متميز بالميزات التالية:
1. إنه سهل ميسر للأفهام، ليس فيه تعقيد ولا تقعر، وليس فيه قصور ولا أوهام، وليس فيه لبس ولا خلط، بل هو واضح كل الوضوح، سهل الولوج إلى العقول والأفئدة.
2. إن هذا الخطاب صالح للخاصة والعامة، تفهم كل فئة منه ما وصلت إليها معارفها ومداركها، فهو مشبع للخاصة، مفهم للعامة، كل يغترف منه على قدر علمه وفهمه، فهو ليس
خطاباً فلسفياً معقداً تمل منه الخاصة وتتجافاه أفهام وأذواق العامة.(1/7)
3. إن هذا الخطاب صالح لكل زمان ومكان، وهذا أمر عجيب دال على أن هذا القرآن من عند الله تعالى؛ إذ من المعلوم أن الخطاب الفكري البشري صالح في أكثره لزمان دون زمان، ولمصر دون آخر، وانظر ـ دليلاً على هذا ـ آلاف الكتب والرسائل والمقالات بل عشرات الآلاف منها التي كتبت تفنيداً للفكر الشيوعي وللعقيدة الدهرية؛ لما سقطت دولة هذه العقيدة الباطلة لم يعد لأكثر هذه الكتب التأثير الذي صاحب انتشارها آنذاك، وهذا أمر طبيعي يعتري البشر ونتاجهم، لكن الناظر إلى الرد على الدهريين وطرائق إثبات الألوهية في كتاب الله يعلم علم اليقين أنها واردة على هيئة إعجازية صالحة لكل زمان ومكان.
4. إن الخطاب الفكري القرآني يجمع بين خطاب العقول والقلوب معاً على وجه معجز جليل، وهذا أمر عجيب؛ إذ المعلوم أن الخطاب الفكري يخاطب العقول، أما الخطاب القرآني فيخاطب العقول والقلوب معاً، فتساق في القرآن أعقد القضايا الفكرية مساقاً جليلاً يخاطب العقول، ويؤسس الإيمان، ويغرس اليقين في القلوب، كل ذلك في ثنايا ألفاظ جليلة ذات إيحاءات إيمانية مؤثرة، ووقْعٍ في القلوب عظيم، وهذا مما يمتاز به الخطاب الفكري في القرآن العظيم.
5. الخطاب الفكري في القرآن دال على الله -تعالى- بذاته، فمن تأمل الأدلة العقلية الواردة فيه، وانتظامها، وموافقتها لصرائح العقول وبدائهها، وكيف تلج إلى العقول والقلوب بلا مانع ولا حائل من تعقيد أو خلط أو وهم أو تطويل، من تأمل ذلك كله علم أن هذا القرآن من عند الله تعالى بلا امتراء، ولا مدافعة، ومن أمثلة هذه الآيات قوله تعالى:
{ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } (1)
{ قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا } (2)
{
__________
(1) سورة الأنبياء: آية 22.
(2) سورة الإسراء: آية 42.(1/8)
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } (1)
... ففي هذه الآيات إثبات الألوهية وانفراد الله تعالى بها على وجه سهل ميسور فأين منه تعقيدات المناطقة والفلاسفة وعلماء الكلام.
... تلك كانت بعض مميزات الخطاب الفكري في كتاب الله تعالى، ويتضح من سردها أن هذا الخطاب يمتاز بالوضوح والسلاسة والبعد عن التعقيدين: المعنوي واللفظي، وأنه صالح لكل زمان ومكان، وأنه صالح لخطاب الخاصة والعامة معاً، كل ذلك على هيئة معجزة ونظم فائق، لا يقاربه في ذلك أي خطاب فكري آخر ولا يدانيه.
... وعلى صاحب القرآن أن يحذو في تفكيره حَذْوَ هذا الخطاب الفكري في كتاب الله تعالى حتى يصون خطابه عن الزلل والتعقيد والغموض.
المطلب الثالث: بعض القضايا الفكرية التي تهم صاحب القرآن:
... هنالك قضايا فكرية تهم صاحب القرآن، وعليه أن يُعنى بفهمها والنسج على منوال ذلك التفهم في القضايا الأخرى المبثوثة في كتاب الله تعالى، وذلك أنه لا يمكن ـ في سياق كهذا ـ حصر كل القضايا الفكرية الواردة في كتاب الله تعالى ومناقشتها، إنما يكفي أن أورد أربع قضايا على وجه التمثيل، لأدلل على الأهمية البالغة التي ينبغي أن يوليها صاحب القرآن لقضايا الفكر في كتاب الله تعالى، وذلك حتى يكون على بينة من أمره، ونصاعة في فكره، ووضوح في تصوراته، وهذه القضايا التي اخترتها راعيت فيها الشمول لا الإحاطة، وسآتي عليها بإيجاز لأنها عولجت في مجلدات وكتب ضخمة، وإنما يكفيني أن أمثل بها على وجه من الوجازة كافٍ في التنبيه على عظم الأمر وأهميته.
... وسأمد القول وأُرخي العنان للكلام في قضية واحدة فقط هي قضية التشكيك في إلهية القرآن؛ وذلك لأهميتها وخطورة شأنها،
__________
(1) سورة المؤمنون: آية 91.(1/9)
ولأمثل على كيفية التصدي الفكري لمثل هذه القضايا الخطيرة فيكون ما أورده فيها صالحاً لأن يُتخذ منهجاً للرد على ما سواها.
القضية الأولى:
الأخذ بالوحيين معاً والرد على القرآنيين في ضوء قوله تعالى: { وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (1):
... قد أنزل الله تعالى كتابه الجليل، على هيئة من الإيجاز بالغة حد الإعجاز، وأمر نبيه الأعظم ورسوله الأكرم محمداً صلى الله عليه وسلم أن يبين ما أُجمل في الكتاب، وأن يقيد المطلقات وأن يخصص العام إن احتيج إلى ذلك، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مأذوناً له أن يشرع تشريعاً مستقلاً ليس أصله بوارد في كتاب الله تعالى، وفي هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه".(2)
... وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ادعاء الاكتفاء بالقرآن، وأخبر خبراً معجزاً عن جماعة القرآنيين -الذين يدعون إلى الاكتفاء بالقرآن- فقال بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ... ."(3)
__________
(1) سورة الحشر: آية 7.
(2) أخرجه الإمام أبو داود في سننه: كتاب السنة: باب في لزوم السنة، وسكت عنه الإمام المنذري، وقال الإمام الترمذي: حسن غريب.
(3) المصدر السابق.(1/10)
... وعلى هذا ينبغي لصاحب القرآن أن يفقه خطورة هذه الفئة وأنها فئة كافرة خرجت من الملة بسبب ادعائها الاكتفاء بالقرآن وزعمها ألا حاجة للسنة أو إنكارها لها.(1)
القضية الثانية:
القسوة والشدة في الحدود والقصاص:
... إن العالم من حولنا قد انقلبت كثير من مفاهيمه، ومما زاد الطين بِلّة أن الناس ينظرون لكثير من القضايا من زاوية واحدة أو أكثر، ويغفلون عن النظر الشامل، وهذا من طبائع البشر؛ إذ ليس من شأنهم إلا النقص والغفلة، ولذلك كان لابد أن تتكئ الأفهام وتأوي الأفكار إلى ركن شديد ألا وهو الله جل جلاله، وهو الذي قال في كتابه جل من قائل: { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } (2)
... ومن هذا النظر البشري القاصر ما يردده الكفار والضالون عن الحدود والقصاص في الإسلام، واتهام المسلمين بالوحشية، والقسوة، وأنهم يقطعون الأيدي والرؤوس ويرجمون إلخ ...
وهذا من هؤلاء عجيب، وذلك للأسباب التالية:
1. إن الله تعالى هو الآمر بهذا، ورسوله صلى الله عليه وسلم قد شرع أيضاً طائفة من الحدود والقصاص، فالمسلمون في هذا الشأن يتبعون أوامر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يفعلوا هذا من عند أنفسهم، والمعترضون يعلمون تماماً أن المسلمين لا يكونون مسلمين إلا بتسليمهم بما جاءهم عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم فكيف يطالبونهم بتعطيل الحدود والقصاص.
__________
(1) اشتدت خطورة القرآنيين في هذا الزمان، وعظمت الرزية بهم؛ وذلك لأنهم اتخذوا من شبكة المعلومات "الإنترنت" ومن بعض القنوات الفضائية وسيلة لنشر باطلهم، ولأنهم صاروا يطلبون الحماية لباطلهم من القوى المتجبرة الباغية، وآخر ما ابتلينا به من هؤلاء القرآنيين هو د.منصور، وهو أزهري مفتون، هرب إلى أمريكا، ونشر باطله هنالك، وأنشأ موقعاً في شبكة المعلومات "الإنترنت" وصار ينفث سمومه وباطله بدون حياء ولا وجل.
(2) سورة الملك: آية 14.(1/11)
2. إن أهل الكتاب أنفسهم قد كُتب عليهم هذا؛ فقد قال الله تعالى: { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } (1) فحرّف هذا كله أو بعضه أهل الكتاب كما هو معلوم من شأنهم، وما حادثة اليهوديين الذين زنيا ببعيدة عنا(2).
3. إن كثيراً من منظمات حقوق الإنسان التي تدعي أن الحدود والقصاص قسوة وشدة تغفل أو تتغافل عن حقيقة مهمة جداً ألا وهي إن القاتل ـ على سبيل المثال ـ أزهق روحاً وأيتم أولاداً وأثكل نساء، فإن لم يُقتص منه يقع الظلم العظيم، وتمتلئ نفوس أهل المقتول غيظاً وكمداً، وتسود الفوضى في المجتمع بسبب محاولة أهل المقتول الأخذ بالثأر، فما بالهم يرحمون القاتل ويضيعون حق المقتول وحق أهله ؟!
وقد حاورت في معرض الكتاب في القاهرة بعض هؤلاء -وكانوا مسلمين- فقلت لهم: كيف تعارضون عقوبة الإعدام وقد فرضها الله في بعض الحالات، فحادوا عن الجواب وقالوا: إنما قصدنا محاربة الإعدام السياسي !! وكان هذا حيداً منهم عن الإجابة، إذ القاصي والداني يعلم أن هؤلاء يحاربون عقوبة الإعدام بقطع النظر عن أسبابها، وفي هذا عصيان للخالق ورد لشرعه المطهر، والعياذ بالله.
4. وهؤلاء يغفلون أو يتغافلون عن حقيقة مهمة وهي أثر إقامة الحدود والقصاص في إصلاح المجتمع وإقامته على الجادة، وهذه حقائق أخبر عنها الله تعالى بقوله: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (3) وقال جل من قائل:
{ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا ×pxےح !$sغ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } (4) وما ذلك إلا لأن في شهود العذاب تقويماً وأي تقويم.
__________
(1) سورة المائدة: آية 45.
(2) انظرها في صحيح الإمام البخاري: كتاب الحدود: باب الرجم في البلاط.
(3) سورة البقرة: آية 179.
(4) سورة النور: آية 2.(1/12)
5. إن القسوة في إقامة الحدود والقصاص هي رحمة في الواقع، وهي تماثل قسوة الجراح بِجَوَلان مِبْضعه في جسد المريض لإنقاذه، فهذه الشدة والقسوة أمر مصاحب للحدود والقصاص لكنها في واقع الأمر وحقيقته رحمة.
6. إن تنفيذ القصاص والحدود في الإسلام أمره عجيب، وهو دال على أنه من عند الله تعالى حقاً وتنفيذاً لأمره صدقاً،فإن قطع الرأس -في حالة الساحر على سبيل المثال-(1) أخف الميتات على المحدود وأشدها على الناظر، وبذلك تتحقق الرحمة بموت الميت في ثانية أو نحوها لكن الناظر تظل هذه الصورة الشديدة منطبعة في ذهنه سنوات طوالاً وتقوم سلوكه وتضبط تصرفاته، بينما لو نظرنا إلى الإعدام بالكرسي الكهربائي أو الشنق أو غير ذلك لوجدنا أن الموت يتأخر على الميت دقائق طويلة ويتعذب كثيراً، وربما لا يشاهده أحد من الجمهور ـ كما هو الحال في كثير من الدول ـ فتفوت المصلحتان معاً: التخفيف على المحدود أو المقتص منه، واتعاظ الناس برؤية القصاص أو الحد. (2)
القضية الثالثة: الجهاد في سبيل الله:
... ليست هناك قضية تثار اليوم ضد المسلمين مثل قضية الجهاد في سبيل الله تعالى، والجهاد هو بذل الوسع واستفراغ الطاقة في إيصال دعوة الله تعالى للكافرين، ولقد أثار حولها أعداء الإسلام شبهات كثيرة، وردد بعض بني قومنا بعض هذه الشبهات أو كلها في غفلة شديدة أو عمالة أكيدة، ومما أثاره أعداء الإسلام حول هذه المسألة ما يلي:
أ. ادعاء انتشار الإسلام بالسيف أو الإكراه على الدين:
__________
(1) إنما ذكرت الساحر لأن الحديث نص على ضربه بالسيف، أما السيف في غيره فليس بلازم.
(2) انظر في هذه المسألة ـ مسألة القصاص والحدود ـ "كتاب المعجزة الكبرى: القرآن" للأستاذ محمد أبي زهرة رحمه الله: فصل علم الكتاب: مطلب الزواجر الاجتماعية: 468-486 نشر دار الفكر العربي.(1/13)
... فهذه فرية رددوها كثيراً، وإنما دينهم هو الذي انتشر بالسيف ابتداءً من قسطنطين الذي تبنى النصرانية محرفة مختلطة بالوثنية، ونشر هذا التحريف في أوروبا الشرقية، وما أعمال كولمبوس في أمريكا، وأعمال الإسبان والبرتغال في أمريكا الجنوبية، والإسبان ومن بعدهم الأمريكان في الفلبين، والفرنسيين والألمان والانجليز وغيرهم في إفريقيا، ما أعمال كل هؤلاء وغيرهم في نشر النصرانية بالسيف بخافية عنا، وليست منا ببعيدة، ويصدق في هؤلاء المثل العربي: "رمتني بدائها وانسلت" وذلك لأنه لم يثبت في التاريخ قط أن المسلمين نشروا دينهم بالسيف، ولا أنهم أجبروا أحداً على الدخول في دينهم، ولئن سأل سائل ما هذه المعارك التي جرت بين المسلمين وغيرهم منذ فجر الدعوة وما بعد ذلك ؟ فأقول إن الأمر سهل لمن تأمله، فالإسلام نزل غضاً طرياً، وأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بإبلاغ الرسالة: { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } (1) ولم تكن هناك وسائل لإبلاغ الدعوة سوى وسيلة الاحتكاك المباشر بالشعوب والأقوام لعرض رسالة الإسلام عليهم، ولما كان ذلك متعذراً إلا بإذن حكام أولئك الشعوب فقد توجه المسلمون إليهم بالشروط الثلاثة المعروفة:
1. الإسلام فيصيرون إخواناً لنا، لهم مالنا، وعليهم ما علينا.
2. أو الجزية، وهي رمز للخضوع والسماح للمسلمين بدخول بلادهم والتعريف بالإسلام.
3. أو الحرب، وذلك حتى تزول القوة العسكرية التي تحول بين المسلمين وبين الشعوب، فإذا زالت هذه القوة ودخل المسلمون البلاد فليس لهم أن يجبروا أحداً على اعتناق دينهم، وهذا هو الذي سار عليه المسلمون في معاركهم.
__________
(1) سورة الحجر: آية 94.(1/14)
... وبهذا تجتمع الآيات المطالبة بالجهاد والآيات التي تقضي بأن لكل دينه، وهذا في قوله تعالى: { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } (1) وقوله: { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } (2) مع قوله تعالى ـ على سبيل المثال ـ { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } (3)
ب. الزعم بأن الجهاد إنما هو إرهاب:
... أدخل أعداء الإسلام في نفوس وقلوب الكثيرين أن الجهاد إنما هو إرهاب، ويستوي في ذلك جهاد الطلب وجهاد الدفع ومقاومة الأعداء، أما جهاد الطلب فقد تحدثت عنه في الفقرة السابقة، وأما جهاد الدفع فقد اتفقت الشرائع والقوانين والعقول أن العدو إذا دهم بلداً وجب على أهله المقاومة والدفع، ومن سمى ذلك إرهاباً فقد أخطأ من وجهين:
الأول: أن الإرهاب ليس مذموماً دوماً، فالله تعالى قد قال: { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } (4)، والإرهاب المذموم إنما هو الاعتداء بدون حق على الأنفس والممتلكات، والإرهاب المحمود ما كان فيه الردع والزجر للكافرين عن الولوغ في ديار الإسلام.
الآخر: ليس هناك حتى الآن تعريف واضح للإرهاب، وإنما هو مطية تمتطيها القوى الدولية ليحققوا أطماعهم وأغراضهم، والخلط بين المقاومة والإرهاب إنما هو وسيلة خبيثة لمحاصرة المقاومة الجهادية وإنهائها.
جـ. الادعاء بأن الجهاد إنما هو من أجل السيطرة على الشعوب وثرواتها وتجهيلها:
__________
(1) سورة الكافرون: آية 6.
(2) سورة البقرة: آية 256.
(3) سورة التوبة: آية 29.
(4) سورة الأنفال: آية 60.(1/15)
... وهذا جهل فاضح؛ فالمسلمون لم يجاهدوا قط من أجل الدنيا ومتاعها، ولا من أجل السيطرة والبغي والعدوان، ولا يعد الإسلام هذا جهاداً، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"(1) والإسلام أبقى أهل البلاد المفتوحة في بلادهم وبساتينهم ولم يغصبهم إياها، وسمح لهم بمزاولة شعائر دينهم، ومن أكبر الأدلة على وجود العامل الإنساني في الجهاد الإسلامي، وأنه إنما شرع لغرض جليل أن الشعوب التي فُتحت بلدانها أسلمت قيادتها للمسلمين، بل دخلت في دين الله أفواجاً كما هو معلوم، بل إن الذين لم يقبلوا الإسلام ديناً ارتضوه لغة وحضارة وثقافة؛ إذ أين اللغة القبطية اليوم ؟ وأين اللغة الفينقية والآشورية والكلدانية ؟ قد هجرها أهلها واتخذوا من العربية لغة لهم، وهذا لفرط إعجابهم بها وبأهلها، بينما دخل المستخربون الفرنسيون إلى الجزائر، وعاثوا فيها الفساد وخربوها مائة وثنتين وثلاثين سنة، فكم تنصر من أهلها ؟ إنما هم بضعة آلاف تحت مطارق الترهيب ونواعم الترغيب، ولما خرجوا خرجوا غير مأسوف عليهم، وهذا حدث تقريباً في كل بلد وطئه الاستخراب العالمي، فالفارق بين الجهاد الإسلامي والغصب الاستخرابي "الاستعماري" كبير جداً بل ليس هناك مقارنة.
القضية الرابعة:
التشكيك في إلهية القرآن:
__________
(1) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه: كتاب الإمارة: باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله.(1/16)
... وقد تولى كِبْرها كفار العرب وأهل الكتاب قديماً، والكنسيون والمستشرقون في العصور الوسطى والحديثة، واجتمع الأولون منهم والآخرون على اتهام نبي الإسلام -عليه أفضل الصلاة والسلام- بأشنع التهم وأحطها، واتهموه -فيما اتهموه - صلى الله عليه وسلم - بأنه افترى هذا القرآن، وأنه ليس من عند الله تعالى، وقد بين الله تعالى ذلك بقوله: { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ } (1) وبقوله تعالى: { وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ ... } (2)
... وكان الكنسيون في العصور الوسطى طليعة الغزو الاستخرابي "الاستعماري" للعالم الإسلامي، وطليعة الحروب الصليبية، وكانوا يصدون الناس في بلادهم عن الإسلام بادعاء بشرية القرآن، وأنه من تأليف النبي صلى الله عليه وسلم حاشاه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
... أما العصور الحديثة فقد تولى كِبْر ذلك المستشرقون الذين كانوا -في أكثرهم- جواسيس وطلائع للحروب الاستخرابية الحديثة التي شنها الغرب ضد العالم الإسلامي، وقد جهدوا في القول ببشرية القرآن لتحقيق غرضين:
الغرض الأول: إضلال قومهم وصدهم عن الإسلام.
والغرض الآخر: إضلال المسلمين، وتشكيكهم في دينهم، وزعزعة يقينهم بإلهية القرآن.
... ... هذا وإن حال أكثر هؤلاء قديماً وحديثاً كما قال تعالى: { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } (3) لكن أعماهم التعصب عن قول الحق والإقرار به، وأضلتهم المطامع المادية والأغراض الاستخرابية "الاستعمارية".
... ... وقد جهد العلماء قديماً وحديثاً في بيان أن القرآن من عند الله تعالى جزماً وقطعاً، وأتوا على ذلك ببينات عقلية، ودلائل كافية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
__________
(1) سورة يونس: آية 38.
(2) سورة يونس: آية 37.
(3) سورة النمل: آية 14.(1/17)
... ويسهل علينا اليوم -إن شاء الله تعالى- أن نرد على هذه الفرية بإيضاح قضية الإعجاز العلمي في كتاب الله تعالى؛ إذ في القرآن قضايا علمية لم يكتشفها العالم كله إلا في العصر الحديث، بعضها في القرن التاسع عشر وبعضها الآخر في القرن العشرين، بل لم تزل هناك مكتشفات توصل إليها العلماء في هذا العصر ووجد في القرآن الإشارة إليها أو التصريح بها، وهذا وحده كاف في إقناع الكافرين أن هذا القرآن العظيم إلهي المصدر وليس للنبي صلى الله عليه وسلم سوى تلقيه وإبلاغه.
... والمشكلة أن كل الجهود التي بذلت إلى يوم الناس هذا في باب الإعجاز العلمي من قبل الهيئات والأفراد لم تصل إلى الكافرين على هيئة مقبولة جذابة، فبعض الأبحاث قد ترجمت ونشرت نشراً ضعيفاً لا ينبئ عن الجهود الكثيرة التي بذلت ولا التضحيات التي قدمت.
... وكل هذه الأبحاث -تقريباً- لم تنتقل إلى طور أن تكون "أفلاماً" علمية على هيئة الأفلام الأخاذة التي تصدرها شركة الـ BBC على سبيل المثال، فإذا لم تصل هذه الأبحاث إلى الكافرين على هيئة مقبولة، وكان الكنسيون والمستشرقون على الحال التي وصفت آنفاً في بذل الجهد في إقناع قومهم ببشرية القرآن وصدهم عن سبيل الله كثيراً، إذا كان الحال كذلك فليعلم أننا قصرنا في البلاغ المبين، ولم نستطع -عجزاً- أن نحيل تلك الجهود الضخمة التي بذلت -من ثلاثين سنة بل أكثر- إلى وسائل دعوية إيضاحية للقوم الكافرين.
... وسآتي على جملة من هذه الجهود، وسأوسع القول في هذه القضية لخطورتها، ولأجعل الرد عليها منهجاً يتخذه حافظ القرآن في الرد على أمثال هذه القضية:(1/18)
... وسآتي بردود ثلاثة على هذه القضية المهمة(1)، ابتدئها برد الأستاذ الدكتور محمد بن عبدالله دراز(2) رحمه الله، حيث قال:
"من المعروف أنه منذ الساعات الأولى للتنزيل وتكذيب الكفار واعتراضاتهم تترى على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وما جاء به المستشرقون بعد ذلك بقرون لا يخرج عن كونه ترديداً لما ساقه الكفار من أفكار في القدم مع تطويرها أحياناً بشكل أو بآخر. ومما يشرف الإسلامَ أنه سجل في كتابه العزيز كل النظريات سواء المعقولة أو المخالفة للمنطق التي قال بها أولئك الذين عاصروا النبي - صلى الله عليه وسلم - في محاولاتهم التشكيكَ في أصل القرآن الإلهي؛ ولذلك فما جاء به المستشرقون بعدئذ كان معروفاً منذ القدم.
... إذا السؤال بوضوح تام هو:
هل يمكن أن يكون محمد - صلى الله عليه وسلم - هو واضع القرآن؟
... فلنتفق أولاً على قاعدة عامة وهي أن أي عمل إنساني يرجع أصله إلى تفاعل الإنسان مع الطبيعة أو البيئة التي يعيش بها مؤلفه، أو قد يستوحي فكرته من عمل سابق، أو يكون ثمرة خواطره وتأمله، وبالطبع فإنه يمكن أن يكون عمله نتاجاً لكل هذه العوامل معاً، فلنتفحصها إذاً لنتبين ما إذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد استوحاها للانتفاع بها في تأليف القرآن.
__________
(1) إنما أتيت بهذه الردود الثلاثة لأن كل رد منها أتى بما لم يأت به الآخر تقريباً، ولأستوعب الردود على هذه الشبهة لخطورتها.
(2) فقيه متأدب، مصري أزهري. كان من هيئة كبار العلماء بالأزهر. له عدة كتب حصل على الدكتوراه من السربون من فرنسا. توفي سنة 1377/1958 رحمه الله تعالى. انظر "الأعلام": 6/246.(1/19)
... لا حاجة بنا للقول بأنه لم يكن هناك بين عقائد أهل مكة وطقوسهم -في بدء الإسلام- وبين تعاليم القرآن أي شبه، وليست هناك علاقة بين نظام التوحيد المطلق ـ وهو أكمل فلسفة خلقية وأنقاها جاء بها كتاب المسلمين المقدس ـ وبين الجهل والوثنية وخزعبلات عبادة الأصنام (سورة الأنعام: 140و195)، بين الجهل (سورة المؤمنون: 33، وسورة الفتح:26) والعلم (سورة البقرة: 151، وسورة آل عمران: 164)، بين طغيان المادة ومضاجعة المحارم ووأد البنات (سورة الأنعام: 40، وسورة النساء: 23،22) والدعارة (سورة النور: 33) وإكراه الفتيات على الزواج للاستيلاء على صداقهن (سورة النساء: 9و21)، وأكل أموال اليتامى (سورة النساء: 27)، واحتقار الفقراء والضعفاء (سورة الفجر: 19،17)، وهي ما كانت تتميز به مكة في تلك الأيام وبين الأخلاق الرفيعة التي جاء بها القرآن.
... ومن المعلوم أنه عشية ظهور الإسلام كان هناك من المفكرين من ابتعد عن هذه الجماعة الوثنية وكانوا يتوقون إلى ديانة أكثر منطقاً إلا أنهم لم يكونوا لديهم أدنى فكرة عن كُنْهها، ولم يكن في تفكيرهم ما ينبئ بشريعة القرآن. وكان من بينهم زيد بن عمرو بن نفيل الذي تميز باستقلاله الفذ وكان يقر بشجاعة بجهله عن الطريقة التي يمكنه بها عبادة القدرة الإلهية التي كان يشعر بوجودها بشكل مبهم.(1/20)
... لقد بذلت جهود لإظهار تعاليم القرآن مماثلة لتعاليم الصابئة، وهي طائفة عرفت في مكة في ذلك الحين، ولكن الصابئة كانوا وثنيين مشركين يعبدون النجوم والملائكة، طقوسهم مزيج من الوثنية والمسيحية والمذاهب الأخرى، وكانوا يحجون لا إلى الكعبة ولكن إلى حران في العراق(1) وصلواتهم للنجوم عند بزوغ الشمس وعند الظهر وعند المغيب، وهي الأوقات الثلاثة التي يحرم الإسلام فيها الصلاة(2).
__________
(1) قال المصنف: حران: مدينة تقع اليوم داخل الحدود التركية من شمال سوريا، وقد كانت منذ الألف الثالث ق.م تحتل مكانة دينية بارزة في شمال بلاد وادي الرافدين، وكانت مركز لعبادة الإله القمر (سن) تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. وعند الفتح الإسلامي للعراق تجمع فيها الصابئة الذين نزحوا إليها من جنوبي العراق= (منطقة السواد) واتخذوها مركزاً لعبادتهم ثم عادوا فنزحوا منها في عهد المأمون عندما نكل بهم. وكتب عنها ياقوت الحموي في (معجم البلدان: ج3 ص241-242) أنها "مدينة عظيمة مشهورة من جزيرة أمور وهي قصبة ديار مضر بينها وبين الرها يوم، وبين الرقة يومان، وهي على طريق الموصل والشام والروم. وكانت منازل الصابئة وهم الحرنانيون الذين يذكرهم أصحاب كتب الملل والنحل .. (والنسبة إلى= حران "حرناني" على غير قياس). وكتب عنها الأستاذ أحمد أمين في كتابه "فجر الإسلام" ط7/13" أنها كانت أشهر مراكز الوثنية السريانية وظلت مركزاً للديانة والثقافة اليونانية إلى ما بعد الإسلام.
(2) قال المصنف: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لاتحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها . قال ابن عمر: وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا طلع حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى ترتفع، وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب". "التجريد الصحيح لأحاديث الجامع الصحيح": (1/53).(1/21)
... وزعموا أيضاً أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - ربما تأثر بالجوابين والمهاجرين الذين وفدوا إلى مكة واستقروا في ضواحيها منهم الأحباش والروم العمال وتجار الخمور وكانت لديهم بعض المعرفة بالإنجيل. ومن الواضح أن شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم تتعرف إلى طبقة السوقة من المهاجرين ذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عاش: إما وحيداً في عزلة تامة، أو يرعى الغنم، أو تاجراً كبيراً يروح ويغدو مع القوافل، أو في المجتمع الراقي من قادة المجتمع وزعمائه. وعلى فرض أنه كان على اتصال بأمثال أولئك الناس فقد كان واضحاً أنهم على علم قليل بدينهم (راجع لامنس "الإسلام" ص28)، وأن لغتهم الأجنبية تجعل الاتصال بهم كما ورد في القرآن أمراً مستحيلاً(1).
... وزعموا أيضاً أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - تعرف في رحلاته بالقبائل العربية التي دانت بالمسيحية ومنها أخذ آراءه. ويذهب كثير من العلماء، القدامى منهم والمحدثين، إلى أن مثل هذا الاتصال مع المسيحية أمر غير محتمل. فقد أكدوا أن الطريق التي اتبعته القوافل التجارية التي اشترك بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يقترب من الأراضي المسيحية (سبرنجر -SPRENGER) وينقل عنه هيار HUART في كتابه "مصدر جديد للقرآن" (ص128) ولنفترض مع ذلك أنه تم اتصاله بهم فهل كان يمكنه الأخذ عنهم ؟ كان رد الباحثين الأوروبيين على هذا السؤال بالنفي، إذ قال جورج سال G.SALE في كتابه "ملاحظات محمدية" ص68-ص71:
__________
(1) قال الله تعالى: { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } (النحل: 103).(1/22)
"أنه قد ظهر منذ القرن الثالث الميلادي طغيان من الفساد والخرافات سواء في أوساط الأمراء أو رجال الدين وتبعهم في ذلك العامة الذين كان همهم ينحصر في التربح بأية طريقة ليصرفوا ثرواتهم في اللهو والفجور !!
كما يقول تايلور TAYLOR ISAAC وينقل عنه سنكلير تيسدال SINCLAIR TYSDALL في كتابه "مصدر القرآن" ص136-137، كل ما كان يمكن أن يراه محمد - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه من حولهم كان الخرافة غير المحتملة وعبادة الأصنام المخجلة ونظريات كنسية متغطرسة أو طقوس دينية منحلة وصبيانية".
... ويقول مهايم MOSSHEIM فيما نقله عنه ذات المؤلف في كتابه المذكور:
"في القرن السابع كان الدين المسيحي الصحيح يرزح تحت أطلال من الخرافات غير المعقولة".
... وقد ذكر القرآن هذا التباعد بين الدين المسيحي والمسيحيين آنذاك (سورة المائدة: 14)، وما من شك أن العرب الذين اعتنقوا المسيحية لم يكونوا بحال أحسن من المسيحيين الأصليين. ويقول ماسيه MASSE في كتابه "الإسلام" ص13، إنه "بالرغم من اعتناقهم المسيحية كانت القبائل العربية في سوريا ما قبل الإسلام يحتفظون ببعض الاعتقادات الوثنية".
... وقد قال الخليفة الرابع، عليّ، إن قبيلة تغلب لم تأخذ من المسيحية سوى عادة شرب الخمر، وحيثما تنقل محمد في رحلاته وجد معتقدات ينبغي تقويمها، وانحرافات يجب إعادتها للطريق السوي. ولم يعثر مطلقاً على نموذج أدبي أو ديني يمكن أن يقتدي به أو يتخذه مثلاً في إصلاحاته.
... وزعموا ثانية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ تعاليمه من قراءته للكتب التي سجلت تنزيلات سماوية سابقة. ولكن القرآن ينكر إنكاراً جازماً قاطعاً أن محمداً كان يعرف القراءة أو الكتابة(1).
__________
(1) قال الله تعالى: { وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ } (العنكبوت: 48).
وقال أيضاً: { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ } (الأعراف: 157)، وكذلك: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } (الجمعة: 2).(1/23)
وبالإضافة لذلك لم يكن الإنجيل قد نقل إلى العربية حتى قرون عديدة بعد عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يكن الإنجيل كذلك باللغات الأخرى في متناول عامة الناس وإنما كانت تحت يد الكهنة يحتفظون بها في سرية تامة ويبخلون بعلمهم على الناس فلا يمكنون أحداً من الاطلاع عليها (سورة الأنعام: 91).
وكذلك تلك المعلومات القليلة التي كانت متداولة بين عامة الناس والمأخوذة من الإنجيل غامضة مبهمة، وأكثرها يناقض بعضها بعضاً، حتى لا يصح أن يتخذ أساساً لهذه الدقة والاتساع والوحدة والقوة الموجودة في مادة القرآن هذا فضلاً من أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ليصدق تلقائياً ما كان يصل إلى أسماعه، وأنه إذا ما كان قد أراد نقل كل ما سمعه عن المذاهب المختلفة فأي خليط فظيع كنا نجده في القرآن (سورة النساء: 82) وإذا ما كان أراد أن يختار بين هذه الأقوال فماذا كان سيحتفظ به من هذه الآراء المتضاربة.
... ولا يمكن كذلك قبول مزاعمهم بأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - كان قد تأثر بتعاليم اليهود بعد هجرته للمدينة المنورة حيث اتصل مع أحبار اليهود(1)، إذ أنهم في أبحاثهم ظنوا أنهم وجدوا بعض ما يدل على أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - قد استعان باليهودية في بعض أحكام التشريع الإسلامي وبالذات فيما يخص الحرب وتعدد الزوجات. فحسب مزاعمهم قد تحول الإسلام من المسالمة والتواضع الذين كان عليهما في مكة إلى النزعة الهجومية، كما تحول محمد - صلى الله عليه وسلم - من الزوجة الواحدة إلى تعدد الزوجات بانتقاله إلى المدينة. وفضلاً عما في هذا من تزوير للتاريخ إذ أن هاتين النزعتين كانتا موجودتين في المجتمع المكيّ فإن الظروف الخاصة والاتجاهات النفسية لليهود تجاه المسلمين لم تكن تسمح بذلك.
__________
(1) هذا النص مترجم عن الأصل الفرنسي للبحث، ترجمه نجلا المؤلف الأستاذ محسن محمد عبدالله دراز، والسفير فتحي محمد عبدالله دراز.(1/24)
... أما فيما يخص تعدد الزوجات فإنه كان معمولاً به في الفترة المكية، ويكفي الرجوع إلى التاريخ المقدس لمعرفة أن هذا المبدأ كان مقرراً منذ زمن قديم، فالرسل والأنبياء في عهد التوراة والإنجيل كانوا يطبقونه. وفي المسيحية ذاتها لم يأت تحريم تعدد الزوجات من نص إنجيلي وإنما من العرف اليوناني الروماني ذي الطابع المتحيز لجنسه، ويحث القرآن على الزواج بزوجة واحدة لأسباب أخلاقية وإنسانية ولا يحرم حقيقة اتخاذ زوجة أخرى إلا عندما يخشى الزوج أن يرتكب ظلماً بحق زوجته الأولى (سورة النساء:3) وتعزى زيجات النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أسباب سياسية واجتماعية وتشريعية كما في صحيح التاريخ.
... وأما الجانب الحربي فمن المؤكد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقم بأول عملية مسلحة إلا في الشهر التاسع عشر من هجرته، وكانت لأغراض دفاعية لنصرة المظلومين كما هو مثبت تاريخياً. فمن المعروف أن اضطهاد المسلمين وتعذيبهم في مكة كان فردياً إذ لم يتعرض له سوى أتباع الديانة الجديدة، ثم بعد فترة من الهجرة زاد عنف الكفار وعمّ حتى أصبح اضطهاداً علنياً ومنظماً ضد من بقي من المسلمين فيها. ويسمعنا القرآن صيحات الرجال والنساء والأطفال المعذبين بسبب اعتقاداتهم وطلبهم النصرة من الله سبحانه (النساء:75) وبدأ المسلمون في القصاص من الكفار بصيغة اقتصادية أولاً بمحاولة الاستيلاء على قوافل التجار التي كثيراً ما كانت تهرب منهم. وفي مرة من هذه المرات بعد أن استعد المسلمون للعودة إلى المدينة بدأ جيش الأعداء في التحرك ضدهم، وكان بين المسلمين من يتردد في خوض المعركة نظراً إلى تفوق أعدائهم في العدد والعتاد (الأنفال: 7، وآل عمران:13)، وهذه هي الظروف التاريخية التي اندلعت فيها أول شرارة للنزاع المسلح بين الفريقين.(1/25)
... وكانت هذه هي السياسة التي اتبعها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه الراشدون في جميع معاركهم وهي سياسة الدفاع المشروع عن النفس، وهذا ليس فقط تقريراً للواقع التاريخي وإنما تنفيذاً لأمر صريح من القرآن ذاته { وَلَا تَعْتَدُوا إِن اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } (1). { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } (2).
{ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا } (3).
{ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ çmuZtBù'tB } (4).
{ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ } (5).
{ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (6).
فكان تصرف المسلمين الدفاعي المسلح بناء على ظروف تاريخية دقيقة جاءت بعد الهجرة، وبناء على أوامر ومبادئ أخلاقية لا تقبل النقاش؛ وبهذا ينتفي الزعم بأنها كانت سياسية اتخذت اليهودية مصدراً أو إيحاءاً بل إن ما كان بين المسلمين واليهود من ضغينة في ذلك الوقت كان يجعل ذلك من المستحيل عملياً.
__________
(1) سورة البقرة: آية 190. ...
(2) سورة البقرة: آية 256.
(3) سورة النساء: آية 90.
(4) سورة التوبة: آية 6.
(5) سورة التوبة: آية 7.
(6) سورة الممتحنة: آية 8.(1/26)
... فقد أخبرنا القرآن -حتى قبل الهجرة- أن أهل التوراة غير جديرين بالاستماع إليهم فهم أتباع الشيطان أضلهم وأغواهم (سورة النحل: 63) ويزيد القرآن في إدانتهم في سوره المدنية (سورة البقرة:80،79 وسورة آل عمران:75 وسورة النساء: 161)، وكان معظم أحبار اليهود يخفون الحقيقة الواردة في أسفارهم، ويعملون جهدهم على تضليل الشعب والرسول - صلى الله عليه وسلم - بالذات عنها فكان همهم الأول تزوير النصوص المقدسة (سورة آل عمران: 95-93 وسورة المائدة: 43).
... وعليه فقد اتخذت أغلبية الأحبار موقفاً عدائياً أبعد ما يكون عن أريحية المعلمين وحبهم للخير.
أما أولئك العلماء الإسرائيليون الذين أظهروا اتساعاً في الأفق فقد استقبلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عند حلوله المدينة وأعلنوا اعتناقهم للإسلام فكانت نظرتهم إليه نظرة الأتباع لمعلمهم) (سورة البقرة: 121و146 وسورة الأعراف: 147 وسورة الصف: 6) وبين هاتين الطبقتين -من الذين ناصبوه العداء أو اتبعوه مؤمنين- لم يكن هناك مكان لطبقة ثالثة من المعلمين الأصدقاء.
... وهكذا يتضح أنه لا يمكن أن نعزو القرآن إلى تأثير البيئة على محمد - صلى الله عليه وسلم - .
ويظل هناك سؤال واحد: فيما إذا كان هو الذي وضع القرآن عن طريق التأمل والتفكير واستخدام المنطق. والمنطق -إلى حد ما- يستطيع أن يكشف زيف الوثنية وسخافة الخزعبلات، ولكن أنى له أن يعرف كيف يستعيض عنها بديلاً بالحقيقة الأولى أي بالرجوع إلى الله الواحد الخالق، ولكن الاعتراف بهذا الإله الخالق لا يشكل المادة الوحيدة في القرآن، ثم إن الطريق إلى الإيمان لطريق طويل شاق.(1/27)
... والقرآن يؤكد أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يعرف -قبل نزول الوحي- أي كتاب، حتى ولا معنى الإيمان قال الله تعالى: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (1). ومن المحتمل أنه لم يكن بقادر على هداية الآخرين لأنه لم يكن ليعرف كيف يهدي نفسه في أمور الدين، فقد كان يجهل جميع التفاصيل التشريعية والأدبية والاجتماعية وما يتعلق بالشعائر، وهي التفاصيل التي وردت في تنزيل القرآن. واستطاع محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يعرف الإله الخالق والصفات الإلهية، لا باستخدام المنطق أو دراسة الكتب، ولكن عن طريق الوحي فقط. واستطاع أن يعرف العلاقة بين الله وبين العوالم المرئية منها وغير المرئية، وأن يعين المصير الذي قدر للإنسان بعد وفاته، وذلك كما أُوحي إليه به.
... لقد رأينا كيف إن القرآن لا يمكن أن يكون له أصل من البشر يقتفي أثره سواء من خبرة محمد - صلى الله عليه وسلم - في بيئة عصره أو من قدرته على إنشاء الكتاب الكريم باستخدام المنطق. ورأينا أن القرآن أصله من السماء بدليل الظواهر الغريبة الغامضة التي كانت تسبق دائماً الوحي. والآن لنمعن النظر أكثر وندرس البنية الداخلية التي تثبت أن القرآن من أصل إلهي، وذلك من محتويات القرآن وأسلوبه الأدبي:
أسلوب القرآن:
__________
(1) سورة الشورى: آية 52.(1/28)
... يتميز الأسلوب الأدبي للقرآن تميزاً واضحاً عن جميع الأساليب الأخرى سواء أساليب الشعر أو النثر، العادي منه أو السجع، كما يتميز بجلاء ووضوح عن أساليب عامة الناس أو أسلوب محمد - صلى الله عليه وسلم - بالذات، وعرف محمد ببلاغته وفصاحته النادرة، عرفناها عن طريق أحاديثه العديدة التي تفوه بها بعد تفكير وروية، أو أملاها خارج نطاق القرآن. وفي تلك الأحاديث النبوية جميعاً لا نجد شبهاً مهما كان ضئيلاً بينها وبين الآيات القرآنية التي أنزلت عليه.
... إننا نشعر بقوة التسامي في تلك الآيات المنزلة حتى إنها تتغلغل في نفوسنا. واعتبر الكفار في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أسلوب تلك الآيات ظاهرة غير عادية حتى إنهم دعوه سحراً(1)، بل إن الذين يفهمون العربية في أيامنا هذه يشهدون بميزته السامية الرفيعة دون أن يستطيعوا فهم إعجازها.
... وفي محاضراتنا في الجامع الأزهر بالقاهرة -وهو أقدم جامعة في العالم- عن تفسير القرآن حاولنا توضيح بعض الجوانب التي يتميز بها أسلوب القرآن، ولم يكن تحليلنا يهدف إلى تفسير الإعجاز في التنزيل ولكنه سمح لنا بتبين بعض خصائصه.
... أسلوب القرآن لا يعكس نعومة أبناء المدن الذين اعتادوا الجلوس، ولا خشونة أهل البادية الذين ألفوا الحل والترحال، إنه يستحوذ -بمقاييس صحيحة- على سلاسة الأولين وجزالة الآخرين.
__________
(1) { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ } (الأحقاف: 7).(1/29)
... ووزن المقاطع في القرآن أكثر مما في النثر، وأقل مما في الشعر، والوقفة فيه ليست كوقفة النثر ولا كوقفة الشعر، لكنها ذات تناسق فيه انسجام وفيه إيقاع(1).
... والكلمات فيه مختارة، غير مبتذلة ولا مستهجنة، لكنها رفيعة رائعة معبرة.
... والجمل فيه ركبت بشكل رائع حتى إن أقل عدد من الكلمات تعبر عن أوسع المعاني وأغزرها.
... إن تعابيره موجزة لكنها مدهشة في وضوحها حتى إن أقل الناس حظاً من التعليم يستطيع فهم القرآن دونما صعوبة.
... وهناك -في نفس الوقت- عمق ومرونة وإيحاء وإشعاع في القرآن مما يصلح أن يكون أساساً لمبادئ وقوانين العلوم والآداب الإسلامية وفلسفة الإلهيات ومذاهب الفقه، وفي كل حالة يكاد يكون من المستحيل الاقتصار في تفسير آية آية على معنى واحد، سواء في العربية أو في أية لغة أجنبية، مهما بذل في سبيل ذلك من عناية قصوى.
... وإن كلام القرآن ليبدو فوق طاقة البشر في سمو قانونه النفسي، فالعقل والعاطفة لا يتجانسان معاً، ولكننا نجد في القرآن تجانساً وانسجاماً بديعين بين القوتين المتضاربتين: قوتي العقل والعاطفة، ففي الأخبار والمجادلات والعقائد والقوانين والمبادئ الأدبية الواردة فيه نجد للكلمات قوة الإقناع بالعقل والتأثير على العاطفة. والقرآن كله جلال ومهابة وخشوع لا يضيره شيء.
__________
(1) قال المصنف: يتحدث الدكتور طه حسين عن أسلوب القرآن فيقول: (إن القرآن ليس نثراً، كما أنه ليس شعراً، إنما هو قرآن، ولا يمكن أن يسمى بغير هذا الاسم، ليس شعراً وهذا واضح فهو لم يقيد بقيود الشعر، وليس نثراً لأنه مقيد بقيود خاصة به لا توجد في غيره، وهي هذه القيود التي يتصل بعضها بأواخر الآيات وبعضها بتلك النغمة الموسيقية الخاصة" من كتاب "حديث الشعر والنثر"(ص25).(1/30)
... وأخيراً فإننا عندما ننتقل من تركيب جملة أو مجموعة من الجمل ذات الموضوع الواحد إلى تركيب السورة وتركيب القرآن كمجموع، نجد شيئاً جديداً بالمرة لا يمكن أن يكون من صنع الإنسان.
... إننا نعلم أن القرآن أنزل في أجزاء قصيرة، وأخرى طويلة، خلال مدة ثلاث وعشرين سنة، وأنها رتبت -لا بالتسلسل الزمني ولا حسب موضوعاتها- ولكن بطريقة مستقلة معقدة، تبدو كأنها مفروضة. وكانت كلما نزلت آية وضعت في مكانها المعين وأعطيت رقمها بين السور، دون أن يطرأ على موضعها منذ ذلك الحين أي تغيير أو تبديل. وهكذا فلكل آية ترتيبان: الأول بمقتضى التسلسل الزمني على أساس تاريخ نزولها، والثاني ترتيبها كما تظهر فيه في كيان الكتاب. وقد ظل هذان الترتيبان مرعيين بدقة لكل آية، وكل سورة، والكتاب بأجمعه طيلة مدة التنزيل.(1/31)
... وفي ترتيب التسلسل الزمني كان كل تنزيل يطابق حاجة الساعة ويرتبط مع سابقه ولاحقه في التعليم والتشريع بشكل تدريجي. وعلى سبيل المثال فهذا هو المنهج الأساسي للمراحل المتوالية، فهو يبدأ بالأمر البسيط { اقْرَأْ } (1)، ثم تتدرج إلى تكليف الرسول - صلى الله عليه وسلم - : { ùَOè% فَأَنْذِرْ } (2)، ثم دعوة الأقربين بادئ ذي بدء: { ùِ'ةRr&ur عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } (3)، وامتدت الدعوة بعدئذ إلى أبناء المدينة جميعاً: { ù$tBur كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ } (4)، فإلى أبناء المدن المجاورة: { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا } (5)، وأخيراً إلى بني البشر جميعاً: { ù!$tBur أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } (6)،
... وخذ كذلك المنهج العام لتطور التعاليم بقسميها الكبيرين: الأسس الجوهرية للكتاب في السور المكية أولاً ثم شرح وتطبيق تلك المبادئ العامة في السور المدنية. واستمر هذا المجرى الطويل للأحداث منذ يوم غار حراء عندما أُنذر محمد - صلى الله عليه وسلم - ببساطة أنه سيتلقى تنزيلاً إلهياً، حتى يوم حجة الوداع عندما علم أن مهمته قد انتهت ولم يعد له شيء آخر على وجه الأرض يؤديه. وبعد أن تلقى الوحي طيلة ثلاث وعشرين سنة قبضه الله إليه.
... وهكذا لم يكن في القرآن شيء مرتجل، بل كل ما فيه كان معروفاً من قبل ومصوغاً في مجموعه وتفصيله، من أوله إلى آخره، بما في ذلك وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) سورة العلق: آية 1.
(2) سورة المدثر: آية 2.
(3) سورة الشعراء: آية 214.
(4) سورة القصص: آية 59.
(5) سورة الأنعام: آية 92.
(6) سورة الأنبياء: آية 107.(1/32)
... من كان يستطيع أن يصوغ تلك الخطة الكاملة وينفذها؟ من لذلك سوى الله الذي بعثه بهذه المهمة السماوية؟
... وبالإضافة إلى ترتيب السور حسب التسلسل الزمني، هناك ترتيبها حسب موضعها في القرآن. وهذه الآيات التي جاءت في الترتيب الزمني وفق أحكم طريقة علمية، أخذت من مواضعها ووضعت في أمكنتها الحالية، كل آية في إطار واضح جعل خصيصاً لها، حتى جاءت هذه السور متباينة الطول.
وإنك لتسمع خلال أجزاء الكتاب -على التساوي- إيقاعاً موسيقياً خاصاً (1)، وهناك الأسلوب المشترك المنسجم والخطة المنطقية في تطور الآراء الواردة في الكتاب.
... ومن الواضح أن المؤلف الذي يريد أن يوجد هذه الخطة عليه أن يدرك سلفاً القضايا التي قد تنجم عن الأحداث خلال الثلاث والعشرين سنة القادمة والأسلوب الأدبي والنغم الموسيقي(2) والإيقاع الذي يجب أن يستعمل، والكيان الملائم لجميع التنزيلات التي ستأتي، والمكان الصحيح الذي يجب أن توضع كل آية فيه داخل هذا الإطار.
... وعلينا أن نقر ونعترف بأن ليس هناك إنسان أو أي مخلوق آخر بقادر على معرفة المستقبل بمثل هذه التفاصيل أو على الإتيان بمثل هذا الكتاب وليس هناك من يستطيع إبداع القرآن سوى الله العليم الخبير.(3)
الرد الثاني:
فَنّد الأستاذ الدكتور شوقي أبو خليل -حفظه الله- هذه الشبهة على هيئة محاكمة فيها قاض ونائب عام وأورد فيها الإسلام متهماً فقال ما يلي:
أمر القاضي الحاجب أن ينادي الإسلام.
الحاجب: "الإسلام".
__________
(1) لا أحب استعمال كلمة الموسيقى تأدباً مع كتاب الله تعالى ونفوراً من هذه الآلات المحرمة لكن استعمال جَرْس القرآن ووقْع القرآن أحبّ.
(2) لا أحب استعمال كلمة الموسيقى تأدباً مع كتاب الله تعالى ونفوراً من هذه الآلات المحرمة لكن استعمال جَرْس القرآن ووقْع القرآن أحبّ.
(3) "دراسات إسلامية" 84-95.(1/33)
يدخل الإسلام، فيقف النائب العام ويوجه ادعاءه إلى المتهم الذي وقف وهو بشوق كي يرد التهمة التي ستوجه إليه في الجلسة الأولى.
النائب العام: القرآن من عند محمد(1)، من تأليفه، وأنت تدعي أنه من عند الله. فكيف تثبت عقلاً، وبموضوعية، ودون الاستناد إلى نصوص دينية أنه من عند الله وليس من عند محمد؟
القاضي يخاطب الإسلام: هل عندك من جواب؟
الإسلام: أيها القاضي، كتاب موجود، نريد أن نبحث معاً عن مصدره بمثل ما أراد النائب العام، بالعقل والموضوعية، ويمكنني أن أضع لمصدره ثلاثة احتمالات لا رابع لها إطلاقاً فهو إما:
1- من تأليف محمد - صلى الله عليه وسلم - كما يدعي النائب العام.
2- وإما من تأليف العرب.
3- وإما من مصدر آخر (س) مجهول سنبحث عنه معاً.
... ولنر هذه الاحتمالات الثلاثة واحداً تلو الآخر.
أ. من تأليف محمد: يمكنني أن أفند هذا الاحتمال بما يلي:
__________
(1) قال المصنف: ورد في كتاب:
The Readers Companion To Word Literature, By: Homsrein, Persy, Brown: P.298
"Mohammed or Muhammed Religious Leader and Author of the Koran"
والترجمة هي: "محمد زعيم ديني ومؤلف للقرآن".
ويشترك في هذه الشبهة كثيرون مثل : يوليوس فلهاوزن في كتابه "تاريخ الدولة العربية"، ص:8طبعة: مشروع الألف كتاب، بإشراف إدارة الثقافة العامة بمصر. والدكتور بروز أستاذ الفقه الإنجيلي في جامعة بيل. ودرمنجهم.
حتى د.لوبون وقع في هذا الخطأ صفحة 111 في "حضارة العرب" حيث ورد: "تأليف القرآن".(1/34)
1. إن أسلوب القرآن يخالف مخالفة تامة أسلوب كلام محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فلو رجعنا إلى كتب الأحاديث التي جمعت أقوال محمد، وقارناها بالقرآن، لرأينا الفرق الواضح والتغاير الظاهر في كل شيء، في أسلوب التعبير، وفي الموضوعات، فحديث محمد - صلى الله عليه وسلم - تتجلى فيه لغة المحادثة والتفهيم والتعليم والخطابة في صورها ومعناها المألوف لدى العرب كافة، بخلاف أسلوب القرآن الذي لا يُعرف له شبيه في أساليب العرب.
2. يستشعر القارئ في فطرته عند قراءة كتب الأحاديث شخصية بشرية وذاتية تعتريها الخشية والمهابة والضعف أمام الله، بخلاف القرآن الذي يتراءى للقارئ من خلال آياته ذاتية جبارة عادلة حكيمة خالقة بارئة مصورة، رحيمة لا تضعف حتى في مواطن الرحمة. فلو كان القرآن من كلام محمد لكان أسلوبه وأسلوب الأحاديث سواء. ومن المسلَّم به لدى أهل البصر الأدبي والباع الطويل في اللغة. أنه من المتعذر على الشخص الواحد أن يكون له في بيانه أسلوبان يختلف أحدهما عن الآخر اختلافاً جذرياً.
3. محمد - صلى الله عليه وسلم - أمي(1)
__________
(1) قال المصنف: قال تعالى: { وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ } (العنكبوت: 48).
وأمية النبي - صلى الله عليه وسلم - ثابتة، ولقد بحثناها مفصّلة في كتابنا: "آراء يهدمها الإسلام"، تحت عنوان: "فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي" ص91، الطبعة الثالثة.(1/35)
ما درس ولا تعلم ولا تتلمذ، فهل يعقل أنه أتى بهذا الإعجاز التشريعي المتكامل دون أي تناقض، فأقر بعظمة هذا التشريع القريب والبعيد، المسلم وغير المسلم حتى أصبح مصدراً من مصادر التشريع في أوروبة، فكيف يستطيع هذا الأمي -وهل يتأتى له- أن يكون هذا القرآن بإعجازه اللغوي الفريد الغريب، وإعجازه التشريعي المتكامل اجتماعياً واقتصادياً ودينياً وسياسياً، هل يمكن لهذا الكتاب أن يكون من عنده ؟!
4. إن نظرة القرآن الكاملة الشاملة المتناسقة للكون والحياة والفكر والمعاملات والحروب والزواج والعبادات والاقتصاد لو كانت من صنع محمد لما كان محمد - صلى الله عليه وسلم - بشراً. إن هذه التنظيمات وهذه التشريعات والآراء تعجز عن القيام بها لجان كثيرة لها ثقافات عالمية وتخصص عميق مهما أتيح لها من المراجع والدراسات والوقت. فرجل أياً كان عبقريته، وأياً كانت ثقافته، ليعجز عن أن يأتي بتنظيم في مسألة واحدة من هذه المسائل، فما بالك بكلها مع تنوعها وتلون اتجاهاتها؟ وهل يتسنى لأمي أن يأتي بهذه النظرة الشاملة في الكون والحياة والفكر ...؟
5. لماذا يؤلف محمد - صلى الله عليه وسلم - القرآن ثم ينسبه إلى غيره ؟ فالعظمة تكون أقوى وأوضح، وأسمى فيما لو جاء بعمل يعجز عنه العالم كله، ولكان بهذا العمل فوق طاقة البشرية فَيُرْفَع إلى مرتبة أسمى من مرتبة البشر، فأي مصلحة أو غاية لمحمد - صلى الله عليه وسلم - في أن يؤلف القرآن -وهو عمل جبار معجز- وينسبه لغيره؟(1/36)
6. في القرآن أخبار الأولين بما يغاير أخبارهم في الكتب المتداولة أيام محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وفيه إعجاز علمي في الكون والحياة والطب والرياضيات(1) وذلك بالعشرات بل والمئات، فهل يعقل أن هذا الأمي قد وضعها ؟
وكيف عرف الأمي أن الأرض كروية بشكل بيضوي(2) ؟
وكيف عرف الأمي نظرية انتشار الكون(3) ؟
وكيف عرف الأمي أن عناصر المادة في الكون واحدة(4) ؟
كيف عرف الأمي أن كمية الهواء في الأجواء تقل إلى درجة أن الإنسان يضيق صدره فيها(5)؟
وكيف أن الشمس والقمر يسبحان في هذا الفضاء(6)؟
وغير ذلك عشرات وعشرات(7) ؟
كيف عرف الأمي هذه الحقائق العلمية وهي التي عرفت اليوم في المخابر الحديثة والأقمار الصناعية؟
7. في القرآن عتب ولوم لمحمد - صلى الله عليه وسلم - في مواضع عديدة مثل:
__________
(1) قال المصنف: قال تعالى: { وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا } (الكهف:25). فثلاثمائة سنة من سني الميلاد، تساوي بالتمام والكمال والحساب الدقيق ثلاثمائة وتسع سنين من السنين الهجرية، فالزيادة (تسعاً) جاءت من التقويم الهجري. فكيف عرف محمد الأمي حساب ذلك ؟ .. أجب نفسك لِلَّهِ
(2) { وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } (النازعات: 30).
(3) { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } (الذاريات: 47).
(4) { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا } (الأنبياء: 30).
(5) { يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ } (الأنعام: 125).
(6) { وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى } (الرعد: 2).
(7) قال المصنف: راجع كتابنا "الإنسان بين العلم والدين" تلمس المواضع الكثيرة التي ورد فيها إعجاز علمي اكتشفه العلم في القرن العشرين.(1/37)
سورة كاملة عنوانها "عَبَسَ" من آياتها: { عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى } (1)
{ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ } (2)
{ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } (3)
{ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ } (4)
{ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى } (5)
{ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (6)
{ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا } (7)
{ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ } (8)
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (9)
__________
(1) سورة عبس: آية 1-10.
(2) سورة التوبة: آية 43.
(3) سورة آل عمران: آية 161.
(4) سورة الأنفال: آية 67.
(5) سورة التوبة: آية 113.
(6) سورة الأنفال: آية 68.
(7) سورة الكهف: آية 23-24.
(8) سورة الأحزاب: آية 37.
(9) سورة التحريم: آية 1.(1/38)
... هذا العتب وغيره كثير، فهل يعقل أن يؤلف محمد - صلى الله عليه وسلم - الكتاب ثم يوجه العتب إلى نفسه ؟ وحوادث عديدة قام بها محمد - صلى الله عليه وسلم - آنياً مع أصحابه ثم تبدلت في نص القرآن فلم يجد في نفسه غضاضة، فلو كان القرآن من عنده لما قام بها ودوَّنها، لغيَّرها وعمل الأنسب دون تسجيل الحادثة.
8. ودليل آخر: كانت تنزل بمحمد - صلى الله عليه وسلم - نوازل وأحداث من شأنها أن تحفزه إلى القول، وكانت حاجته القصوى تلح عليه بحيث لو كان الأمر إليه لوجد له مقالاً ومجالاً، ولكن كانت تمضي الليالي والأيام تتبعها الليالي والأيام ولا يجد في شأنها قرآناً يقرؤه على الناس.(1)
أيها القاضي:
هب أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - استوحى أصول دينه العظيم من الأرض لا من السماء فماذا يستتبعه هذا الغرض مما يصادم العقل والواقع؟
النتيجة الغريبة هي أن قرآناً بشرياً استطاع أن يقوم بدعوة لتوحيد الله في أسلوب من القول والتوجيه لم تستطعه كتب السماء نفسها، أفهذا منطق(2) ؟!
ب.
الاحتمال الثاني: أن القرآن من عند العرب:
فطر العرب على حب البلاغة والأدب والشعر والخطابة، فأقاموا لها مواسم سنوية، وكذلك الغزو فهو بحاجة إلى روح معنوية دافعة لأنه محتاج إلى شعراء وخطباء وبلغاء(3) يرفعون من شأن قبيلتهم، ويحطون من قيمة قبيلة عدوهم.
__________
(1) مقارنة الأديان: جـ3 ص50.
(2) الدعوة الإسلامية: دعوة عالمية. لمحمد الراوي ط: دار العربية. ص: 68/169.
(3) قال المصنف: كم من جواب كان سبباً لعفو لبلاغته واستحسانه.(1/39)
ومن ناحية ثانية فإن إعجاز الرسل كان إعجازاً آنياً، ينقضي لحينه. فرؤية معجزة خارقة للعادة ولقوانين الكون يستفيد منها من رآها عند حدوثها، ولحكمة بالغة جاءت معجزات موسى في السحر، لأن زمانه زمن ذاع فيه السحر وانتشر، فبذَّهم(1) موسى في مضمار عملهم. وحكمة بالغة أن عيسى جاءت معجزاته في الطب، لأن زمنه ذاع فيه الطب وانتشر، فبذَّهم في ميدان عملهم، ومضمار سبقهم.
والقرآن: جاء إعجازه لقوم يباهون بالفصاحة والبلاغة والأدب والشعر والخطابة فبذَّهم وسبقهم في مضمار تنافسهم. فكيف يكون القرآن من عند العرب والتحدي قائم باقٍ لهم في أن يقلدوا سورة منه؟ فجاء إعجازه خالداً خلود الزمن. ولو استطاع العرب صنع قرآن لفعلوا، كي يحافظوا على عبادة الأصنام التي سفهها قرآن محمد، فالقرآن ليس من عند العرب قطعاً لأنهم دهشوا بأسلوبه وبلاغته وتشريعه فرضخت عقولهم له، ودخلوا في دين الله لعجزهم عن تقليده.
لو كان القرآن من عند العرب لاستجابوا للتحدي القائم: { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } (2).
{ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } (3)
{ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ } (4).
يقول الرافعي:
__________
(1) أي فاقهم.
(2) سورة البقرة: آية 23-24.
(3) سورة الإسراء: آية 88.
(4) سورة الطور: آية 33-34.(1/40)
"فمن ثم لم يقم للعرب قائمة بعد أن أعجزهم القرآن من جهة الفصاحة التي هي أكبر أمرهم ومن جهة الكلام الذي هو سيد عملهم"(1).
وقال: "وحكمة هذا التحدي وذكره في القرآن إنما هي أن يشهد التاريخ في كل عصر بعجز العرب عنه وهم الخطباء اللدّ(2) والفصحاء اللُّسن ... حتى لا يجيء بعد ذلك فيما يجيء من الزمن مولد(3) أو أعجمي كاذب أو منافق أو ذو غفلة فيزعم أن العرب كانوا قادرين على مثله وأنه غير معجز"(4).
إن خروج القرآن عن أساليب العرب دليل على إعجازه وعلى أنه ليس من كلام الناس ولا من كلام محمد ولولا هذا الأسلوب ما أفحم العرب لأنهم رأوا جنساً من الكلام غير ما تؤديه طباعهم. ولما حاول بعضهم معارضته "كمسيلمة" الذي أخذ يقلده فجاء بشيء لا يشبهه ولا يشبه كلام نفسه فأخطأ الفصاحة من كل جهاتها(5).
ويمكن أن أنهي هذا البند بأن التحدي قائم والإعجاز ظاهر. وليس القرآن من عند العرب.
جـ.الاحتمال الثالث والأخير أن يكون من مصدر آخر(س):
إذا عجز العرب عن التحدي وهم أصحاب اللغة، فهل يعقل أن يكون من صنع بشر غيرهم ؟ من باب أولى أنه ليس من صنع الفرس أو الروم أو الأحباش.
ليس من عند العرب وليس من عند الأقوام المجاورة الأخرى بالضرورة. فمن أين هو إذن ؟ هل هو من عند بشر وقد عجز أفصح العرب -وهو بلسانهم- عن تقليده ؟ قطعاً أنه فوق مقدور البشر. فوق طاقتهم، فمن أين جاء إذن ؟ لنضعك أيها القاضي حكماً.
__________
(1) إعجاز القرآن للرافعي ص218 ط3.
(2) قال المصنف: اللدّ: الخصم الشديد. مختار الصحاح: 595.
(3) قال المصنف: مولد: عربي غير محض. مختار الصحاح: 735.
(4) قال المصنف: إعجاز القرآن للرافعي ص22 ط3.
(5) قال المصنف: روح الدين الإسلامي (عفيف طبارة) ص24 ط6.(1/41)
وجوه الإعجاز فيه كثيرة: فصاحة في كل المواضيع والمواضع، بلاغة غريبة، سلامة من التناقض والخطأ، غزارة في المعاني، أنباء ومعجزات غيبية، تشريع متكامل متناسق، بعد هذا كله من أين يمكن أن يكون ؟؟
القرآن والكهان:
حضر الإسلام ودخل القاعة. مرفوع الرأس. واثق الخطى. وابتدأت الجلسة الثانية ووقف النائب العام(1) ليقول: الإسلام والقرآن وما فيه من تأليف الراهب بَحِيرى. أعطاه محمداً أثناء وجوده في بلاد الشام: "إن محمداً سافر مع عمه إلى بلاد الشام مرة، وتعرف في بصرى براهب نسطوري في دير نصراني وتلقى منه علم التوراة"(2).
القاضي: ما دفاعك أيها الإسلام ؟
الإسلام: سيادة القاضي
لي ملاحظة بسيطة صغيرة أوردها في دفاعي ضد هذه الشبهة.
إن اسم الكاهن الذي زعموا أنه كان يملي أو يعطي قصص القرآن للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، كان يختلف دائماً باختلاف مرجع ومصدر هذه الشبهة أو الإشاعة المفتراه، فإن كان المرجع مسيحياً فالراهب هو سرجيوس أو "بَحِيرَى" وفي مرات أخرى هو "ورقة بن نوفل".
__________
(1) قال المصنف: صاحب الشبهة هو "نورمان دنيال" عميد كلية الملكة بجامعة أكسفورد في كتابه: (الإسلام والغرب من سنة 1100-1350 ميلادية).
(2) قال المصنف: حضارة العرب ص 102. وفي تاريخ العرب العام لـ "ل.ا.سيديو" الطبعة الثانية 1969 (عيسى البابي الحلبي وشركاه) ورد: "ونحن حين نقدر القرآن نقول إن محمداً لم يبتغ في تأليفه أن يمنح البشرية أدباً أفضل مما في الإنجيل ... ". وقال: "أُلْهم محمد المبادئ اليهودية والنصرانية فأقام ديناً بعيداً عن الخوارق ..." وقال: "فبلغ ـ محمد ـ بصرى، فاجتمع فيها ببحيرى الذي كان اسمه لدى النصارى، جرجيس أو سرجيس، فنال حُظْوة عنده". ص58.(1/42)
وإذا كان المرجع يهودياً فصاحب القرآن "حاخام" إسرائيلي مجهول الاسم -ولا ندري لماذا !- كما جاء في رواية (بيدرودي ألفونسو) الذي ينتهي في أصله ونسبه إلى بني إسرائيل(1).
يا أيها القاضي لنتفكر في هذه النقاط الثماني التالية:
1. روايات عدة: أو اختلاف الروايات يدل على أن الشبهة والتهمة لم يتفق عليها ولم تكن مُحْكمة. فمرة بَحِيرى، وتارة وَرَقَة، وكرة حاخام بيدرودي ألفونسو ... أليس هذا كافياً لرد التهمة ؟
2. إن عمر محمد - صلى الله عليه وسلم - كان تسع سنوات(2) فقط عندما ذهب مع عمه أبي طالب إلى الشام، فهل يعقل أن يعي ويستوعب هذا الطفل الأمي ما يمليه له بَحِيرى؟
ولما عاد ثانية مع ميسرة خادم خديجة في تجارة لها كان عمره خمساً وعشرين سنة(3)، لم يتكلم ميسرة إلا بما رأى من عناية الله بمحمد، ولم يجتمع محمد في هذه التجارة مع أي كاهن أو راهب، فلماذا نتغافل عن معجزات الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - وهو في تجارته لخديجة ؟ ولماذا نظن أنه أخذ تشريعاً في هذه الرحلة ؟
__________
(1) قال المصنف: ما يقال عن الإسلام ص 261.
(2) قال المصنف: الكامل في التاريخ: جـ 1ص23، والطبري: جـ2 ص278، الروض الأنف: جـ1 ص206، عيون الأثر: جـ1 ص40، وفي الوفا بأحوال المصطفى لابن الجوزي جـ1 ص131: "لما خرج أبو طالب إلى الشام خرج معه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المرة الأولى وهو ابن اثنتي عشرة سنة".
(3) قال المصنف: الروض الأنف: جـ1 ص212، عيون الأثر: جـ1 ص47، البداية والنهاية: جـ2 ص295.(1/43)
ويحضرني تساؤل: محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو في التاسعة لا نقبل عقلاً أنه يستوعب قرآناً، خاصة وأنه أمي، ولكن من المحتمل وهو في الخامسة والعشرين أنه وعى هذا التشريع، والرد العقلي الموضوعي يكون: إن محمداً - صلى الله عليه وسلم - عندما كان في التاسعة كان أمياً، وهو في الخامسة والعشرين أمي أيضاً، ثم كيف رتب هذه التجارة مع خديجة بنت خويلد ـ ولم تكن زوجته بعد ؟ ـ وهل كان من الممكن أن يخرج إلى بلاد الشام خلسة لو لم تكلفه خديجة بتجارتها ليأخذ من بَحِيرى القرآن ؟
وما هي الصلة السابقة بين محمد - صلى الله عليه وسلم - وبَحِيرى ؟ ولماذا انتقى بَحِيرى محمداً بالذات وأعطاه هذا التشريع، ولم يعطه لابنه أو قريبه أو يدعيه لنفسه ؟
لماذا يعطي المجد والخلود والشهرة والقوة والنصر وخير البشرية وإنقاذها إلى هذا العربي اليتيم ولم يَدّعِه لنفسه ؟ أليس هو -أقصد الراهب بحيرى- أولى بذلك من يتيم أبي طالب ؟؟؟
3. إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبق -في رحلته الأولى- إلا وقتاً قصيراً مع بَحِيرى بوجود أناس كثر، فعامل الزمن يجب التنبه له، فهل يكفي لهذا الأمي الصغير يوم أو يومان أو ثلاثة كي يعي القرآن كله جملة وتفصيلاً ؟
ولو أنه أخذ شيئاً من بحيرى لقالت قريش لمحمد لما ادعى النبوّة: إن بحيرى أعطاك هذا، ولكان ذلك ورقة رابحة بيد قريش(1)، لأنه لن يستطيع إنكار ما أخذ بوجود قومه، وهذا ما لم تقله قريش في حربها الإعلامية ضد النبي وضد القرآن، وهي التي أشاعت ما أشاعت، وعملت ما عملت للوقوف في وجه النبي والقرآن !!
__________
(1) قال المصنف: ولقال ذلك هرقل وملك غسّان أيضاً عندما دعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام ديناً سماوياً موحىً به من الله إليه.(1/44)
4. رفضنا عقلاً وبرهنا بموضوعية أن القرآن لن يكون من عند بشر مطلقاً، فَبَحِيرى بشر، وورقة بن نوفل بشر، وحاخام الفونسو بشر ... كلهم بشر فلن يكون من عندهم، ولو بقي محمد عندهم آلاف السنين لما أتوا بمثله ولما أعطوه بالتالي هذا التشريع المعجز.
5. لم يعاصر بَحِيرى أو ورقة التسلسل الزمني للحوادث الواردة في القرآن الكريم، فأين بَحِيرى أو ورقة أو ... من سؤال يُسأله رسول الله فنرى الإجابة قد وجدت في حينها وجاء القرآن يشرحها ويحدد موقفه منها، وهذا يدحض دحضاً قاطعاً كون القرآن من عند هؤلاء فلو كان جزء منه من عندهم لكانت الحوادث التي جرت بعدهم وتكلم بها النبي من عنده لها أسلوب يغاير أسلوبهم، أي لكان في القرآن أسلوبان متغايران وهذا ما لا نراه في القرآن قطعاً.
6. في القرآن الكريم آيات لا توافق عقيدة المسيحية فكيف يكتبها بَحِيرى أو ورقة ؟ وآيات توضح نفسية اليهود الخبيثة فكيف يكتبها "حاخام" ؟.
آيات لا توافق المسيحية:
1. { وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا } (1).
2. { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا } (2).
__________
(1) سورة النساء: آية 157.
(2) سورة النساء: آية 171.(1/45)
3. { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِن اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي ں@ƒدنآuژَ خ) اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } (1).
4. { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ } (2).
5. { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي ں@ƒدنآuژَ خ) إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ } (3).
فأين التوحيد لله المطلق في العقيدة الإسلامية من التثليث في عقيدة بحيرى ؟!
وآيات تندِّد باليهود ونفسيتهم:
1. { الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } (4).
2. { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا (#qن9$s%... } (5).
__________
(1) سورة المائدة: آية 72.
(2) سورة المائدة: آية 116
(3) سورة الصف: آية 6.
(4) سورة البقرة: آية 146.
(5) سورة المائدة: آية 64.(1/46)
3. { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } (1).
4. { قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } (2).
5. { وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (3)(4).
7. هل الراهب بَحِيرى كاذب؟ أو ورقة كاذب؟ كيف نرضى بعالم دين، عكف واعتكف في صومعته وديره للعبادة ومعرفة الله عقلاً وروحاً أن يكذب؟ والكذب نقيصة لا نقبل بها لإنسان عادي، فكيف لناسك متعبد؟ كيف يقول أحدهم إن القرآن من عند الله نزل على قلب محمد بن عبدالله وهو من عنده؟
هل يرضى صاحب الشبهة "نورمان دنيال" أن يكون عالم دينه كاذباً ؟ وما مصلحته في هذا الافتراء ؟(5)
الرد الثالث:
وقال الدكتور فضل عباس، حفظه الله، مناقشاً "الموسوعة البريطانية" التي ادعت بشرية القرآن:
جاء في الموسوعة:
__________
(1) سورة الجمعة: آية 5.
(2) سورة البقرة: آية 61.
(3) سورة المائدة: آية 61-62.
(4) قال المصنف: راجع تفسير الآيتين في أحد التفاسير، مثلاً "التفسير الحديث" لمحمد عزة دروزة، جـ11 ص139.
(5) "الإسلام في قفص الاتهام": 23-38.(1/47)
"إلا أن المسلمين تختلف نظرتهم عن ذلك، فهم يعتقدون أن محمداً استلم كل كلمة في القرآن مباشرة من ربه، فالقرآن يرفض بعنف الاتهامات التي تشير إلى أن النبي حصل على القرآن من مصادر أخرى غير الخالق.
إن المستشرقين الذين قاموا بتحليل محتويات القرآن استخلصوا بأن كثيراً من المادة القصصية والمذكورة فيها أشخاص وحوادث في التوراة، هي غير مشتقة من التوراة بل من مصادر نصرانية ويهودية متأخرة. كما أن أوصاف يوم القيامة والجنة هي موضوعات تتفق مع تعاليم الكنيسة السريانية المعاصرة. وأن اعتماده على نقل هذه المعلومات لم يكن اعتماداً حرفياً، بل أخذ من آثار شفهية".
رغم ما في هذا الكلام من إثارة، وبعد عن الصواب، وطمسٍ للحقيقة، وتجنٍ على الأحداث، أقول رغم كل هذا إلا أننا سنظل ملتزمين بمنهجيتنا الهادئة الهادفة، والتي كان ينبغي أن تكون هادرة، ولكن إذا كانت الحقيقة هادمة للأباطيل سواء كانت هادئة أم هادرة، فلنبق على ما ألزمنا أنفسنا به.
إن هذه القضية إذا أريد لها بحث يتسم بالعمق، ويتصف بالشمول، ويلم بالقضية من جميع أطرافها فإنه بحاجة إلى كتاب خاصٍّ لا إلى قضية في فصل، ولكننا سنحاول، مع اعترافنا بصعوبة المحاولة، وهذه الصعوبة ليست ناشئة عن صعوبة الردّ ومنهجية النقد، بل هي ناشئة عن احتواء هذا الموضوع المتشعب في صفحات قليلة تمليها طبيعة البحث، ويحتمها ظرفه، فنحن نعالج قضايا كثيرة كان لزاماً علينا أن لا نخرج عن الإطار الذي وضعناه من قبل، وهو أن لا نسترسل فكراً وقلماً. فنقول وبالله التوفيق:(1/48)
دراسة مصدر القرآن تحتِّم على كل باحث -غايته الإنصاف- أن يلمَّ بجميع الاحتمالات التي يمكن أن تكون مصدراً لهذا القرآن، هذا القرآن إما أن يكون من عند الله وحياً أوحاه الله بوساطة الروح الأمين جبريل، حيث نزل به على قلب الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - ، وإما أن لا يكون كذلك. وهنا لابد من افتراض أمرين: فإما أن يكون النبي اكتسبه من غيره، وإما أن يكون ناتجاً عن تأملاته الشخصية، وخواطره الفكرية، وسبحاته الروحية.
الافتراض الأول: اكتسابه من غيره:
وحري أن نبحث هذين الافتراضين الأخيرين:
فالافتراض الأول أن يكون القرآن اكتسبه النبي من آخرين، واكتتبه من غيره من الناس، وهذا الافتراض سيحملنا على التطواف في مناطق كثيرة جغرافية وثقافية ودينية، تُرى من أين اكتسب هذا القرآن؟ من أي بيئة من هذه البيئات الثلاث التي أشرنا إليها؟ ولعل أول ما يقع في النفس ويخطر في البال أن يكون المجتمع الذي عاش فيه النبي هو المصدر لهذا القرآن، فإن لم يكن فهناك احتمال آخر وهو أن يكون هذا القرآن مكتسباً من بعض اليهود والنصارى الذين هُيئت لهم فرص العمل في المجتمع المكي.
وهناك احتمال ثالث يقول: لم لم تكن التوراة والإنجيل الأساس لهذا القرآن ؟ فإذا خرجنا من هذه البيئة جغرافياً، وجدنا احتمالاً رابعاً يدّعي أن الرسول أفاد هذا القرآن في كثير من نصوصه وقضاياه من تلك الرحلات التي كان يقوم بها تجارياً إلى الشام مرة وإلى اليمن أخرى، وقد كان هناك نصارى في هذين البلدين. وهناك احتمال خامس يدّعي أن هذا القرآن تأثر ببيئة ثقافية أخرى، وهي البيئة الشرقية، فأخذ من الزرادشتية أو الصابئة كثيراً من قضاياه وأحكامه. وهذه الافتراضات كلها في مكة بالطبع.(1/49)
أما في المدينة فلماذا لا يكون القرآن قد تأثر في كثير من تشريعاته بما أخذه عن اليهود هناك، وهذا الاحتمال يبرهن عليه مدّعوه بأن هنالك قضايا كثيرة سواء منها ما يتصل بالأحكام والتشريعات، أم بشخصية الرسول قد طرأ عليها تغير ملموس محسوس في المدينة.
تلك هي الاحتمالات الناشئة عن هذا الفرض وهو أن القرآن اكتتبه النبي واكتسبه من غيره وسنجد أن العرب في جاهليتهم يلتقون مع المستشرقين، وربما كان العكس أكثر صحة، وهو أن هؤلاء المستشرقين رغم ثقافاتهم يلتقون مع العرب الذين ناصبوا القرآن العداء، إلا أنه والحق يقال رغم أن هؤلاء المستشرقين أكثر ثقافة، فإن هؤلاء العرب في جاهليتهم كانوا أكثر دقة وإنصافاً، وعلى سبيل المثال، فلقد كان العرب وهم الذين يعايشون النبي الكريم، يعرفون عنه أكثر مما يعرفه المستشرقون والمبشرون، ولقد نقل القرآن لنا بأمانة ما قالوه، { وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا } (1) هكذا قالوا "اكتتبها" ولم يقولوا "كتبها"، وما أعظم الفرق بين الكلمتين، فاكتتبها تعني أنه طلب من غيره أن يكتبها له، وكتبها ليس كذلك. هذا ما قاله العرب في جاهليتهم.
__________
(1) سورة الفرقان: آية 5-6.(1/50)
أما ما قاله كثير من المستشرقين فكان بعيداً عن الواقع، فلقد قالوا إن النبي هو الذي كان يكتب هذه القضايا، وحاولوا أن يثبتوا ذلك، فزعموا أن النبي كان يكتب، واستدلوا لذلك بما كان في مرضه عليه الصلاة والسلام، حينما طلب أن يكتب للمسلمين كتاباً، وهذا منطق غريب إن جاز أن نسميه منطقاً، فنحن نعلم أن الرؤساء ومن ماثلهم لا يتولون الكتابة بأنفسهم، فضلاً عن أن النبي كان في مرض يعيقه في كثير من الأحيان حتى عن أن يؤدي الصلاة إماماً في المسلمين، ولكن المستشرقين يأبون إلا أن يذكروا كل ما يجول في خواطرهم، ويوحي به بعضهم إلى بعض، ولنرجع إلى هذه الاحتمالات التي تحدثنا عنها من قبل:
1. في مكة: الاحتمال الأول:
أن يكون المجتمع الذي عاش فيه النبي عليه وآله الصلاة والسلام هو مصدر القرآن، وهذا يتطلب منا دراسة لهذا المجتمع من حيث العقائد والأخلاق والاهتمامات والمشاغل والظروف. وهذه الدراسة ينبغي أن تكون دراسة متأنية مستمدة من حقائق الواقع والتاريخ، ليست مبنية على رأي فطير خالٍ عن الموضوعية، فكيف كان هذا المجتمع؟(1/51)
قبل أن نجيب نحن، نحب أن نعرض لرأي مستشرق فرنسي، عرف في الأوساط الثقافية والعلمية بعقليته، ومنهجيته، ولكن هذه العقلية والمنهجية، يظهر أنها تهيمن على صاحبها حينما يكون الأمر بعيداً عن الإسلام والمسلمين، فإذا كان الأمر يتصل بالإسلام والمسلمين، وجدنا كل ذلك يتلاشى، ذلكم العالم هو إرنست رنان. حيث يصور المجتمع العربي، بصورة يتمناها أبناء العصر الحديث، فالمجتمع العربي كما يصوره رنان لم يعرف الخرافات كما عرفتها المجتمعات الأخرى، بل كان مجتمعاً موحداً يعبد الله الواحد، ثم إنه كان يصدر عن عقيدة التوحيد في كل تصرفاته وأخلاقه، فلقد كان الدين شغله الشاغل، ولقد كان هذا المجتمع ممتلئاً حماسة لقضايا الدين، ولا عجب في ذلك، فهو مجتمع التقت فيه الحضارات والديانات جميعها، وعلى هذا فإن النبي الكريم لم يأت بجديد لهذا المجتمع، بل كان كل ما جاء به منتزعاً من هذا المجتمع، ومنبثقاً عن مقرراته. وهذا ما يريد أن يصل إليه رنان، ولكن هل هذه الصورة التي ذكرها رنان هي الصورة الحقيقة لهذا المجتمع؟
ولماذا نبعد كثيراً، والقرآن نفسه يحدثنا عن سمات هذا المجتمع الدينية والخلقية، ثم أليس أهل المجتمع أنفسهم أعرف وأصدق من رنان؟، ثم أليس الذين كانوا يعاصرون هؤلاء العرب كانوا أصدق وأعرف من رنان كذلك؟ القرآن إذن والمجتمع نفسه، ومن يعاصرون هذا المجتمع، كل أولئك يقولون غير ما يقوله رنان.
أ. أما القرآن ففي آيات كثيرة ومواضع متعددة يبين أحوال هذا المجتمع ناعياً عليهم، معنفاً لهم، مندداً بهم. لنستمع إليه في القضايا الدينية أولاً، { أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } (1) .
{
__________
(1) سورة النحل: آية 17.(1/52)
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ... } (1).
{ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } (2).
{ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } (3).
{ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } (4).
{ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } (5).
{ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } (6).
{ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ... } (7).
{ أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } (8).
ونحن لا نود أن نستقصي الآيات، فليس هذا من غرضنا هنا، ولكن هذه الآيات وغيرها تثبت بما لا مجال فيه لريب، بأن دعوى رنان من أن هذا المجتمع كان موحداً إنما هي خيال المريض.
أما في المجال الخلقي فنقرأ قول الله:
{ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } (9)
ـ ونقرأ في أمر تحرير الرقيق:
{
__________
(1) سورة الأعراف: آية 194-195.
(2) سورة النمل: آية 60.
(3) سورة النمل: آية 61.
(4) سورة النمل: آية 62.
(5) سورة النمل: آية 63.
(6) سورة النمل: آية 64.
(7) سورة النحل: آية 20-21.
(8) سورة ص: آية 5.
(9) سورة النحل: آية 58-59.(1/53)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ } (1).
{ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } (2) .
ـ ونقرأ في قضية أخرى:
{ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ } (3).
كما نقرأ:
{ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ } (4).
{ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا } (5).
{ وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ } (6).
{ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا } (7).
ـ حتى في العهد المدني نجد صورة لأخلاق المجتمع العربي:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا } (8).
{ وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } (9).
{ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ } (10).
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تبين لنا بوضوح وجلاء، أن القضية الخلقية لم تكن في هذا المجتمع أحسن حظاً من القضية الدينية.
ب. أما عن اهتمامات هذا المجتمع فنرجح أن الدين كان أقل تلك الاهتمامات، وبرهان ذلك ما نجده في أشعار هؤلاء وقد كان الشعر أقدس شيء عندهم، وبخاصة الشعراء المحلقين المفلقين، فإننا لن نجد في أسفارهم أثراً للحياة والاهتمامات الدينية، بل هذه أسواقهم كانت بلا شك تعكس الصورة الصادقة عنهم، ولم نر هذه الأسواق تحفل من قريب أو بعيد بالقضايا الدينية، اللهم إلا في بعض التصرفات الخاصة.
__________
(1) سورة البلد: آية 13-14.
(2) سورة النساء: آية 92.
(3) سورة التكوير: آية 8-9.
(4) سورة الإسراء: آية 31.
(5) سورة الإسراء: آية 32.
(6) سورة الفرقان: آية 72.
(7) سورة الإسراء: آية 26.
(8) سورة النساء: آية 19.
(9) سورة النساء: آية 22.
(10) سورة النساء: آية 7.(1/54)
وإذا تركنا هذه الأسواق، وهي مجتمعاتهم الكبيرة إلى مجتمعاتهم الصغيرة وجدنا أن هذه المجتمعات لم تكن تحفل بالقضايا الدينية ومسائل العقيدة، يذكر التاريخ بأنَّ النضر بن الحارث، وقد كان من الألداء في الجاهلية للإسلام، كان يريد أن يصدّ الناس عن سماع القرآن، بما يقرؤه لهم، وكان من المفترض أن يتحلقوا حوله ليقرأ لهم من بعض الكتب الدينية المعروفة عند الأمم، ولكنه كان لا يفعل شيئاً لهم من هذا بل كان يقص عليهم أخبار الفرس وحكايات أبطالهم، ويعبر القرآن عن هذا بقوله: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ } (1) لقد كان المجتمع العربي تسوده روح القبيلة، لذلك كان فخرهم بهذه القبيلة، وما هو ضروري لها من مال وولد، حتى لقد كانت القبيلة تهيمن عليهم في كل شيء يقول قائلهم:
وهل أنا إلا من غَزِيّة إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد
وكان دستورهم هذا القول المشهور "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً"، وبقي كذلك حتى جاء الإسلام فعدّله بما يتفق مع العدالة الجديدة والروح الجديدة للدين الجديد، حيث بين الرسول عليه وآله الصلاة والسلام وقد سئل "ننصره مظلوماً فكيف ننصره ظالماً" فقال: "تحجزَهُ أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره"(2). ويحكي لنا القرآن فخرهم هذا: { وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } (3)
وفي آية أخرى { وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآَنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } (4).
__________
(1) سورة لقمان: آية 6.
(2) قال المصنف: رواه البخاري: كتاب الإكراه: باب يمين الرجل لصاحبه.
(3) سورة سبأ: آية 35.
(4) سورة الزخرف: آية 31.(1/55)
وهكذا ندرك أن المجتمع الذي عاش فيه النبي عليه وآله الصلاة والسلام كان في غفلةٍ عن التصورات القرآنية الجديدة، فضلاً عن أن يعطيها ويمنحها، وها هو وقف في طريقها يصدّ الناس عنها { لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } (1).
وكثيراً ما يقولون { إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ } (2) فلو كانت معطيات القرآن مكتسبة منهم لقالوا (هذه بضاعتنا ردت إلينا).
جـ. وأما معاصرو هذا المجتمع فلم تكن نظرتهم بأدق من نظرة العرب إلى أنفسهم، فلقد كانوا يصفونهم بالأميين، ليس هذا فحسب بل يستبيحون حقوقهم، والقرآن يحدثنا عن اليهود حينما قالوا { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ } (3)، ولم تكن نظرة الفرس والروم إلى العرب، بأحسن من نظرة اليهود كذلك، وها هم يستعدون بعضهم على بعض، ويضربون بعضهم ببعض، ولذلك كانوا يسخرون منهم وهم يدّعون أنهم سينتصرون عليهم بعد أن جاء الإسلام، لأنهم كانوا يعرفون العرب قبل الإسلام.
إذن شهادة القرآن وشهادة المجتمع العربي، وشهادة أولئك الذين يجاورون هذا المجتمع، كلها ترد بحزم ومنطق دعوى رنان. وهنا يمكن أن يطرح سؤال خلاصته "صحيح أن المجتمع بحالته العامة وبأغلبيته كان كذلك، ولكن لا يستطيع أحد أن ينكر أنه كان هناك من يسمون الحنفاء يعيشون في هذا المجتمع، وكانوا يتمردون على عبادة الأصنام، وبعض الأعراض الجاهلية. ولقد اشتهرت لهم أشعار كانوا يتحدثون فيها عن قضايا الدين واليوم الآخر والجنة والنار، فلم لا يكون أولئك مصدراً للقرآن أخذ عنهم وتأثر بهم وقبس منهم، ورجع إليهم؟
__________
(1) سورة فصلت: آية 26.
(2) سورة الزخرف: آية 22.
(3) سورة آل عمران: آية 75.(1/56)
وللإجابة عن هذا التساؤل نقول: نعم كان هناك من يسمون حنفاء يدّعون أنهم على ملة إبراهيم عليه السلام، ولكن من حقِّنا أن نتساءل: ماذا كان تأثير هؤلاء في المجتمع الجاهلي؟ وما هي القواعد والعقائد التي أرسوها في هذا المجتمع؟ وهل سجل التاريخ والواقع معركة كلاميّة فضلاً عن معركة حربية كانت بين هؤلاء الحنفاء وبين غيرهم من أبناء المجتمع الجاهلي؟ لا ريب ذلك كله لم يكن منه شيء. ثم إن واحداً من هؤلاء الحنفاء لم يدّع الإلهام فضلاً عن الوحي.
أما أشعارهم التي كانت تتحدث عن بعض العقائد فإن ذلك كله لا يحمل شبهة -فضلاً عن دليل- بأن القرآن قد أفاد من هؤلاء.
أما أولاً: فليس القرآن كله إخباراً عن اليوم الآخر، أو بعض قضايا الألوهية، وإنما فيه الأحكام والتشريعات التي لانجد لها أثراً في أشعار هؤلاء.
وأما ثانياً: فلأن هذه الأشعار إذا خضعت للنقد فسيظهر أن كثيراً منها سيتطرق إليه الشك، بل سنجد أن هذه الأشعار هي التي تأثرت بالقرآن، كما تأثرت به العصور التالية فيما بعد.
وأما ثالثاً: وهو ما يعوّل عليه كثيرون من شعر أمية بن أبي الصلت، فإن أمية مع أنه لم يدّع النبوة فإن شعره كان مزيجاً مما أخذ من القرآن وغيره، وهذا ما لاحظه (هوارت)؛ فقد لاحظ أن أمية عندما يتكلم عن وصف النار يقلد أسلوب التوراة، وعندما يشرع في وصف الجنة يستخدم عبارات القرآن، وعندما يقص التاريخ الديني يلجأ أحياناً إلى الأسطورة الشعبية، وإلى ما يشبه الأساطير الميثولوجية (أو أساطير الآلهة اليونانية) حيث يتمثل الشخص أحياناً في صورة إنسان، وأحياناً في صورة حيوان أو نبات(1).
وأما رابعاً: فلقد كان العرب يرصدون النبي في كل كلمة وموقف، وكانوا سيجدون خير فرصة سانحة لهم للتشهير لو وجدوا جزئية واحدة تدل على هذا التأثر.
__________
(1) قال المصنف: مدخل إلى القرآن الكريم/ د. محمد عبدالله دراز ص144.(1/57)
فإذا تركنا الحنفاء جانباً وجدنا أن من الممكن أن ينشأ سؤال آخر. لقد كان هناك من يسمون الصابئة في المجتمع الجاهلي، ولقد أشار إليهم القرآن الكريم في أكثر من آية، فلم لا يكون القرآن قد أفاد من هؤلاء؟ والجواب عن هذا التساؤل أيسر من سابقه، فالصابئة كانوا يحجون إلى حران في العراق بدل الكعبة، وكانوا يعبدون النجوم والكواكب وكانت طقوسهم الدينية عند طلوع الشمس وعند زوالها وغروبها، وهي الأوقات التي حرم الإسلام العبادة فيها، وكانوا يبيحون الزواج من بعض المحارم، ومَن هؤلاء عقائدهم وعباداتهم يبعد كل البعد أن يقبس القرآن منهم شيئاً.
وبعد فالمجتمع بكل عناصره وفئاته لا يصلح أن يكون مصدراً لهذا القرآن الذي جاء يصحح له قواعده وعقائده، ولابد أن نبحث عن احتمال آخر.
الاحتمال الثاني:(1/58)
أن يكون هذا القرآن مكتسباً من اليهود والنصارى الذين هُيئت لهم فرص العمل في المجتمع المكي. وهذا الاحتمال رده القرآن، فهؤلاء الذين اضطرتهم ظروف الحياة للعمل في مكة ليقوموا ببعض الحرف، أيعقل أن يكونوا هم مصدر القرآن؟ إن أبسط قواعد المنطق تجيب بالسلب فهل ثبت أن الرسول الكريم كان كثير التردد على هؤلاء، وأوقاته كلها كانت بين رحلة لتجارة، أو رعي لغنم، أو جلوس مع قوم لما تتطلبه الأمور الحياتية واليومية؟ وكان في مدته الأخيرة قبل النبوة يخلو بنفسه، وكثيراً ما يتردد على غار حراء يقضي فيه الليالي ذوات العدد، وعلى هذا فلم يكن يملك من الوقت ليكثر التردد على هؤلاء الحرفيين وهم قلة. ثم إنَّ قريشاً كان يمكن أن تأخذ من هؤلاء ما ترد به على النبي، لو كان عند هؤلاء شيء يؤخذ. والقرآن -كما قلت- يحسم الأمر في هذا الاحتمال، فالقرآن الذي أدهش العرب أسلوباً، وأعجزهم نظماً، يستحيل بداهة أن يوحي به هؤلاء الذين لا يحسنون النطق بالعربية، فضلاً عن أن يجيدوا التعبير فيها. يقول القرآن { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } (1)
وعلى هذا فهذا احتمال لا يثبت أمام أبسط القواعد العقلية، وأيسر مسلمات المنطق.
الاحتمال الثالث:
لم لم تكن التوراة والإنجيل الأساس لهذا القرآن؟
وهذا الاحتمال حينما ننظر فيه نظرة عاجلة نجده لا يقوى على الثبات، فهذان الكتابان من المعلوم أنهما لم يترجما إلى العربية، إلا بعد قرون من بعثة النبي الكريم عليه وآله الصلاة والسلام. هذه أولاً.
__________
(1) سورة النحل: آية 103.(1/59)
وأما ثانياً: فلقد جاء هذا القرآن يختلف في كثير من مسائله وقضاياه ومقرراته، وأحكامه وتصوراته عما قرر في هذين الكتابين، صحيح كانت هناك قضايا مشتركة، وهذا أمر بديهي لابد منه، فالقرآن كتاب سماوي جاء لإرساء كثير من المقررات الدينية وترسيخها في النفوس، ولابد أن تكون هناك جوانب مشتركة بينه وبين هذه الكتب. ونحن نرى أن كتب الأدب على اختلاف لغاتها وأعصارها وأمصارها نجد بينها سمات مشتركة، وكذلك كتب الاقتصاد، رغم اختلاف أصحابها وتعدد مذاهبهم بين اقتصاد حرٍّ وغير حرٍّ، ولكن هناك سمات مشتركة بين هذه المباحث.
والناظر في القرآن الكريم يجد اختلافات جوهرية في قضايا كثيرة: في قضية الخَلْق، وفي القصص وما يتفرع منها كالطوفان، وفي قضايا التشريع ففي قضايا الخلق مثلاً نجد أن الأصول التي اتفقت عليها التوراة والقرآن أقل من القضايا المختلف فيها. يقول موريس بوكاي:
"يدعي كثير من المؤلفين الأوروبيين أن رواية القرآن عن الخلق قريبة إلى حد كبير من رواية التوراة، وينشرحون لتقديم الروايتين بالتوازي. إني أعتقد أن هذا مفهوم خاطئ فهناك اختلافات جلية، ففيما يتعلق بمسائل ليست ثانوية مطلقاً من وجهة النظر العلمية نكتشف في القرآن دعاوى لا يجدي البحث عن معادل لها في التوراة. كما أن التوراة من ناحية أخرى تحتوي على معالجات تفصيلية لا معادل لها في القرآن"(1).
وفي مسألة الطوفان نجد ما يذكره القرآن مختلفاً اختلافاً تاماً عما ذكرته التوراة:
__________
(1) قال المصنف: الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة ص157.(1/60)
"فعلى حين تتحدث التوراة عن طوفان عالمي لعقاب كل البشرية الكافرة، يشير القرآن على العكس إلى عقوبات عديدة نزلت على جماعات محددة جيداً ... فالقرآن يقدم كارثة الطوفان باعتبارها عقاباً نزل بشكل خاص على شعب نوح، وهذا يشكل الفرق الأول، أما الفرق الثاني فهو أن القرآن على عكس التوراة لا يحدد زمن الطوفان، ولا يعطي أية إشارة عن مدة الكارثة نفسها .. والقرآن يحدد بشكل صريح محتوى سفينة نوح فقد أعطى الله أمراً لنوح بأن يضع في السفينة كل ما سيعيش بعد الطوفان، بالإضافة إلى الأسرة التي قطع منها الابن الملعون، ولا تشير التوراة إلى هؤلاء من بين ركاب السفينة وإنما تقدم ثلاث روايات عن محتوى السفينة" (1).
بل في قضية غرق فرعون نجد القرآن يذكر جديداً لم تعرض له التوراة ألبتة، وهذا "فيما نراه في مشهد عبور بني إسرائيل البحر الأحمر حيث غرق فرعون وجنوده -كما روى سِفْر الهجرة- ولكن رواية القرآن تكمل هذا العرض بتفصيل غير متوقع، وهو أيضاً غير عادي أعني النجاة البدنية لفرعون الذي أفلت بأعجوبة من الغرق { فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية } (2).
أما في قضايا التشريع والمسؤولية الأخلاقية، فما أعظم الفرق، والحق أن البون شاسع تماماً بين مبادئ القرآن وبين غيره. وننقل هنا كلاماً طيباً لأستاذنا الدكتور محمد عبدالله دراز -رحمه الله- ونؤثر أن ننقله بنصله على طوله لما له من فائدة في موضوعنا الذي نتحدث عنه يقول:
__________
(1) قال المصنف: الكتب المقدسة/ موريس بوكاي ص246.
(2) قال المصنف: الظاهرة القرآنية ص 203.(1/61)
"فإذا كان هدفه -القرآن- الأول هو أن يحافظ على التراث الأخلاقي الذي نزلت به الكتب المقدسة السابقة ويؤيده، فإن له رسالة أخرى لا تقل عنه أهمية وقدسية، ألا وهي إتمام وإنهاء الصرح الإلهي الذي بناه الرسل والأنبياء على مر العصور. يقول الرسول الكريم "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، ويقول "مثلي ومثل الأنبياء كرجل بنى بيتاً" أو كما يقول القرآن ذاته إن هدفه أن يوضح للناس أقوم الطرق في السلوك والاعتقاد.
ما هو الجديد والتقدمي إذن في تعاليم القرآن الأخلاقية؟ هذا هو ما سنوضحه في ملاحظات مختصرة تهم كل باحث منصف.
1. في مجال الفضيلة الشخصية:
في هذا المجال الفردي نجد على الأقل قاعدة جديدة ومبدأ جديداً في القرآن فالقاعدة الجديدة هي تحريم الخمر، والقضاء على مصادرها بمنع تناول أي مشروب مسكر(1).
__________
(1) { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (المائدة:90).(1/62)
وأما المبدأ الجديد الذي نقصده هنا فهو "النية" باعتبارها لب العمل الأخلاقي. فلكي يحمس موسى قومه كان يغريهم بآمال أرض الميعاد، وبالنصْر على الأعداء، وبالبركة والرخاء في كل شؤون الحياة الدنيا، وجاء المسيح لكي يفتتح عهداً جديداً في الدعوة الدينية، فيوضح لنا الإنجيل أن النعيم والسعادة الموعودة ليست في هذه الدنيا. فآمال النفوس وطموح الأرواح عليها منذ ذلك الحين أن تنصرف عن الحياة الدنيوية وتتجه إلى السماء. وأخيراً يأتي القرآن الكريم وإذا هو بمنهجه البناء يجمع بين هذين الوعدين ويوفق بينهما لا باعتبارهما الباعث المحرك للإنسان وإنما باعتبار أن الهدف الذي ينبغي على الإنسان الفاضل أن يقصده ليس في ملكوت السماء ولا في ملك الدنيا، إنما هو أعلى من هذا كله، إنه في الخير المطلق أي في ابتغاء وجه الله تعالى الذي يجب استحضاره في القلب عند أداء العمل الإنساني بتنفيذ أوامره(1).
2. الفضيلة في العلاقات بين الأفراد:
__________
(1) { وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ } (البقرة:272)، { وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى } (الليل: 19-20)(1/63)
وها هو تقدم آخر يرتبط بالقاعدة الأخلاقية التي تحدد علاقاتنا بإخوتنا، فبأحكام التوراة وأحكام الإنجيل استقامت شجرة الفضيلة وبزغت فروعها وأوراقها، أما في المجال القرآني فإن هذه الشجرة الخضراء سوف تزهر وتؤتي ثمارها فبالإضافة إلى كنز العدل والمحبة الذي عُني القرآن بحفظه، أوجد فصْلاً رائعاً فيما يمكن تسميته بالحضارة الأخلاقية. إنه تفنين حقيقي في الأدب(1) والذوق الاجتماعي(2) والتحشم في المظهر(3).
3. 4. الفضائل الجماعية والفضائل العامة:
ونقطة بارزة في القانون الأخلاقي في الديانة الموسوية، ألا وهي هذا الحاجز العالي والقائم بين الإسرائيلي وغير الإسرائيلي فأي خير يسديه الإسرائيلي -إذا لم يكن مقتصراً على شعبه- ينبغي ألا يتعدى وطنه ولا يشمل الغريب المقيم معه: (للأجنبي تقرض بربا ولكن لأخيك لا تقرض بربا) "تثنيه: 23 : 20".
(الأجنبي تطالب وأما ما كان لك عند أخيك فتبرئه يدك منه): "تثنية: 15 :3".
(وإذا افتقر أخوك عندك وبيع لك فلا تستعبده استعباد عبد): "لاويين: 25 :39".
(ولا تتسلط عليه بعنف ... وأما عبيدك وإماؤك الذين يكونون لك فمن الشعوب الذين حولكم ... وأيضاً من أبناء المستوطنين النازلين عندكم منهم تقتنون): "لاويين: 25: 43-45".
__________
(1) { وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا } (النساء:86)، وانظر سورة النور آية 27-28، وآية 58-59، وآية 61-62، وسورة الحجرات آية2، وسورة المجادلة آية 11،9،8.
(2) { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ } (الحجرات: 12)
(3) @è%ur { لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ } (النور: 31)،(الأحزاب: 33،32)(1/64)
أما قانون الأخلاق المسيحي فله الفضل في إسقاط هذا الحاجز الذي كان يفصل بين الإنسان وأخيه الإنسان: (لأنه إذا أحببتم الذين يحبونكم فأي أجر لكم؟ .. وإن سلمتم على إخوتكم فقط فأي فضل تصنعون؟) "متى 5: 46-47) ولكن في مقابل ذلك لا نجد هنا هذا الالتحام الاجتماعي وهذا الشعور بالمسؤولية الجماعية الذي تتضمنه النصوص العبرية مثل: هذه الكلمات:(قصها على أولادك): "تثنية6 :7".
(فتنزعون الشر من بينكم): "تثنيه13 :15".
(فتحفظون جميع فرائضي وجميع أحكامي وتعلمونها لكي لا تقذفكم الأرض): "لاويين20 :22".
والفضيلة الاجتماعية المسيحية كما تقدمها الأناجيل، تتعلق بالعلاقات بين الأفراد أكثر من دلالاتها على الروح الجماعية بصفة أساسية. فقد كانت الروح الجماعية في الماضي تستهدف غرضين: صالح الجماعة من ناحية وتمييزها عن صالح الغير من ناحية أخرى. ولكن المحبة المسيحية بامتدادها خارج الحدود الإقليمية وبرغبتها في احتواء الإنسانية كلها، قد أحسنت صنعاً بإبطال هذا الطابع العنصري، واستبداله بأخوة عالمية. ولكنها لم تركز اهتمامها بالقدر الكافي لتقوية الرابطة المقدسة للجماعة بصفة خاصة.
ألا يمكن في الوقت الذي نراعي فيه عملياً وقلبياً محبة عالمية أن تخلق في ظل هذه الأسرة العالمية الكبرى أُسرة أصغر وأكثر ترابطاً، وأكثر إدراكاً لكيانها، وكأنها مجموعة من الخلايا تكوٍّن كياناً عضوياً داخل الجسم الكبير؟(1/65)
إن هذا الجمع الموفق بين الفضيلة العامة والفضيلة الجماعية هو الذي أبرمه القرآن الكريم، إذ يعلمنا في الواقع أن خارج الأخوة في الله توجد الأخوة في آدم(1)، إن اختلاف المشاعر الدينية لا يجوز أن يحول بيننا وبين أن نبادل إخواننا في الإنسانية المحبة والإحسان(2)، وإن قسوة الكفار علينا لا ينبغي أن تدفعنا إلى العدوان ولا لأن نكون غير مقسطين في معاملتهم(3). ولقد حرم على المؤمنين أن يتعاملوا بالربا مع أي إنسان(4) وبيّن أن التقي العادل في محيط الجماعة الإسلامية هو كذلك خارجها(5)، وإذا كان للمسلم في بعض الظروف أن يبدي عناية خاصة في فك أسر إخوانه(6)، فإن عتق العبيد بوجه عام يعتبر إما التزاماً عليه وإما عملاً يستحق التقدير، ويحث القرآن عليه(7)
__________
(1) { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } (الحجرات: 10)، { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ } (الحجرات: 13).
(2) { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (الممتحنة: 8).
(3) { وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا } (المائدة: 8).
(4) { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (البقرة: 278).
(5) { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ } (آل عمران:75).
(6) { وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا } (النساء: 75).
(7) { وَفِي الرِّقَابِ } (البقرة: 177)، { فَكُّ رَقَبَةٍ } (البلد: 13)..(1/66)
دائماً.
4. الفضيلة في المعاملات:
"نضيف إلى كل ما تقدم فصلاً آخر في الأخلاق الإسلامية جديداً كل الجدة. لأن اليهودية والمسيحية في وقت تأسيسها لم تتح لهم الفرصة لإقامة علاقات مع دول معادية، فدعوة عيسى السلمية المحلية كانت تناقضها في اتجاه مضاد الحروب التي قادها موسى ضد الأمم المجاورة والتي انتهت بالقضاء عليها بسرعة.
ولقد اختلف الوضع تماماً بالنسبة لمحمد - صلى الله عليه وسلم - خلال العشر سنوات التي كان فيها على علاقات دائمة مع أمم وديانات مختلفة، تارة مسالمة وتارة معادية.(1/67)
إن هذه الظروف الخاصة التي جعلت المرشد الروحي والأخلاقي - صلى الله عليه وسلم - سياسياً وقائداً، اقتضت تشريعاً أخلاقياً لظروف السلم والحرب الشرعية لا تقوم إلا من أجل دفع العدوان(1) ويجب أن تتوقف بمجرد انتهائه(2). وهناك بعد ذلك المبدأ الذي يحترم المواثيق المبرمة مع العدو مهما كانت فرص عقدها غير متكافئة فالمعاهدة الموقعة بين الأطراف واجبة الاحترام حتى لو كانت في غير صالحنا(3). وحتى إذا بدأ العدو في نقض اتفاقه فلا يحق لنا أن نهاجمه على غرة، بل يجب أولاً إعلانه بإلغاء عهده معنا بطريقة واضحة، بحيث يتيسر له العلم بقرارنا(4)(5).
هذا بخلاف القواعد التي حددتها السنة والتي نجحت ـ إن لم يكن في القضاء على هذه الآفة ـ فعلى الأقل في التخفيف من نتائجها القاسية"(6).
__________
(1) { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا } (البقرة: 190).
(2) { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } (الأنفال: 61).
(3) { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ... } (النحل: 90-92).
(4) { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ } (الأنفال: 158).
(5) قال المصنف: ولقد أخطأ جولدزيهر عند ترجمة هذه الآية وكذلك كازموسكي وأيضاً سفاري فترجموها بمعنى (عامله بمثل معاملته الخائنة) وهذا يتناقض مع نهاية نفس الآية { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ tûüدYح !$sƒّ:$# } .
(6) قال المصنف: مدخل إلى القرآن الكريم/ د. محمد عبدالله دراز ص106-113.(1/68)
وهكذا فمع تفرد القرآن بقضايا كثيرة إلا أننا نجد القضايا المشتركة بينهما فيها كثير من أوجه الخلاف، وليس غرضي هنا بالطبع المقارنة بين ما جاء في القرآن وفي التوراة من حيث موافقة العلم وشهادة التاريخ؛ لأن ذلك ليس من صميم هذا البحث فهناك كتب كثيرة تحدثت عن تلك القضايا، وفصلت في تلك المسائل تفصيلاً شافياً كافياً.
الاحتمال الرابع: أن يكون اكتسبه من رحلاته إلى الشام واليمن:
وهذا ما ذهب إليه جولدزيهر، ولا شك أن هؤلاء الذين كان يلاقيهم النبي في أسفارهم لم يكونوا إلا من العرب المتنصرين فمن الثابت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذهب أبعد من سوق حباشا في تهامة، وسوق غراش في اليمن. أما بصرى الشام فلقد ذهب لها بادئ ذي بدء في صغر سنه، وكان أكثر الذين يلاقيهم في طريقه من العرب، وهؤلاء العرب كانوا بين عابدي وثن، وبين معتنقي النصرانية، وعباد الأوثان ليس عندهم ما يزيد على مجتمع مكة، وعلى هذا فمعرفتهم عن الدين والأنبياء معرفة محدودة ساذجة، وقد أشرنا في بعض قضايا هذا الكتاب من قبل بأن القصص القرآني لم يكن للعرب معرفة فيه، اللهم إلا معرفة إجمالية لبعض هذا القصص، وذكرنا هناك شواهد من القرآن نفسه؛ ولو كان في صحة هذه الشواهد أدنى ارتياب لوجدنا من ينكر هذا على القرآن، نجد هذا في مثل قوله سبحانه: { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } (1).
{ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } (2).
__________
(1) سورة آل عمران: آية 44.
(2) سورة هود: آية 49.(1/69)
أما العرب الذين اعتنقوا النصرانية فلم يكن عندهم على الأرجح شيء أكثر من إخوانهم الوثنيين، ولهذا يقول سيدنا عليّ عن نصارى تغلب: لم يأخذوا من النصرانية إلا شرب الخمر، ولو ذهبنا إلى أبعد الاحتمالات وافترضنا أصعب الفروض وأبعدها فإننا لن نجد عند هؤلاء ما يعطونه مهما كان قدره وقيمته.
لقد كان هؤلاء لا يلوون على شيء، اللهم إلا حكايات وخرافات وأباطيل وأساطير جاء القرآن يندد بها ويعنف عليها. يقول ج/ سال:
"إذا قرأنا التاريخ الكنسي بعناية فسنرى أن العالم المسيحي قد تعرض منذ القرن الثالث لمسخ صورته، بسبب أطماع رجال الدين، والانشقاق بينهم، والخلافات على أتفه المسائل، والمشاجرات التي لا تنتهي، والتي كان الانقسام يتزايد بشأنها، وكان المسيحيون في تحفزهم لإرضاء شهواتهم واستخدام كل أنواع الخبث والحقد والقسوة قد انتهوا تقريباً إلى طرد المسيحية ذاتها من الوجود، بفعل جدالهم المستمر حول طريقة فهمها. وفي هذه العصور المظلمة بالذات ظهرت، بل وثبتت أغلب أنواع الخرافات والفساد، ولقد وجدت الكنيسة الشرقية نفسها بعد مجمع "نيقيه" ممزقة بسبب الخلافات بين أنصار أريوس وسابليوس ونسطور، ويوتيخيوس، ولقد رأى رجال الدين أن يمنح ضباط الجيش بعض الحماية، وبهذه الحجة كان العدل يباع علناً مما شجع كل نوع من أنواع الفساد والرشوة.(1/70)
أما بالنسبة للكنيسة الغربية فقد بلغ الخلاف بين دماز Damase وأرزيسيان Uricien على كرسي الأسقفية بروما في شدته حد اللجوء إلى العنف والقتل. لقد قامت هذه الانشقاقات أساساً نتيجة أخطاء الأباطرة ولا سيما الإمبراطور فسطنس. وزادت حدة في ظل حكم جستنيان، الذي اعتقد أنه ليس هناك أي جرم في قتل أي رجل يخالفه في فهم العقيدة، هذا الفساد في الأخلاق وفي العقيدة الذي ساد بين الأمراء وبين رجال الدين، استتبع بالضرورة فساد الشعب عامة، حتى أصبح شغل الناس الشاغل على اختلافهم هو جمع المال بأية وسيلة مهما كانت لإنفاقه بعد ذلك في الترف والرذيلة".
ولقد كتب تايلور في كتابه: "المسيحية القديمة" المجلد الأول ص266 يقول:
"إن ما قابله محمد وأتباعه في كل اتجاه لم يكن إلا خرافات منفرة، ووثنية منحطة ومخجلة، ومذاهب كنسية مغرورة، وطقوساً دينية منحلة وصبيانية، بحيث شعر العرب ذوو العقول النيِّرة بأنهم رسل من قبل الله، مكلفين بإصلاح ما ألم بالعالم من فساد ..." وعندما وصف راهب مؤرخٌ الآلام والعذاب الذي أوقعه الفرس بشعب فلسطين في زمن محمد لم يتردد في أن يقرر أن الله لم يصب المسيحين هناك بقسوة الزنادقة الظلمة إلا بسبب ظلمهم وشرورهم. وعندما أراد موشايم Mosheim وصف هذا العصر، رسم صورة للمقارنة أبرز فيها التعارض بين المسيحيين الأوائل والأواخر، وخرج بأن الديانة الحقيقية في القرن السابع كانت مدفونة تحت أكوام من الخرافات والأوهام السخيفة، حتى أنه لم يكن في مقدورها أن ترفع رأسها.
وكأن هذه الصفحات قد كتبت لتفسر الآية القرآنية الوجيزة من سورة المائدة: { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } (1)
__________
(1) سورة المائدة: آية 14.(1/71)
فهذه الآية الكريمة تشير مجرد إشارة إلى البعد المادي الذي كان بين المسيحية والمسيحيين في عصر الرسول، وتعلن أن الانشقاق الناتج من هذا البعد سيمتد إلى يوم القيامة"(1).
الاحتمال الخامس: أن يكون متأثراً بالبيئة الشرقية: الزرادشتية أو الصابئة:
أما الصابئة فقد تحدثنا عنهم من قبل -عند الحديث عن الاحتمال الأول- وأما الزرادشتية فإنه مجرد تحمل وتكلف وشطط أن يُدّعى أن القرآن اكتسب منها شيئاً لمجرد اتفاق في جزئية أو جزئيتين. يقول أستاذنا محمد عبدالله دراز رحمه الله:
"لقد ذهب الدكتور سنكلير تسدال "Sinclair Tisdal" إلى حد الادعاء بأن بعض المبادئ الإسلامية مستقاة من الزرادشتية. وخصص فصلاً كاملاً لعناصر هذا المذهب الذي يرى أنها موجودة في القرآن والسنة. ومن غير مناقشة مصدر أو حتى تشابه الأفكار التي أوردها تحت هذا العنوان نلاحظ فيما عدا فكرة الحور أنها لا تنسب إلى القرآن وإنما إلى بعض الأثر المشكوك فيه. إنها فكرة النور "نور محمد"، وفكرة "عزرائيل" ملك الموت وفكرة "السراط" جسر جهنم الخ" (2).
2.
في المدينة:
تلك هي الفروض المحتملة، أن يكون أحدهما مصدراً للقرآن في العهد المكي، ولكنها لم تقو على الوقوف أمام حقائق الواقع وحوادث التاريخ، وأحكام العقل، أفنجد شيئاً من ذلك في العهد المدني يا ترى؟
وبادئ بدء نقرر أنَّ القرآن كان قد نزل أكثره في مكة، ولما هاجر النبي إلى المدينة كان كل القصص القرآني الذي يوجد بينه وبين التوراة شبه ما قد نزل في مكة، فلا يمكن أن يقال إذن أن القصص القرآني الذي نجد شبيهاً له في التوراة قد اقتبسه الرسول من اليهود في المدينة، إذ هناك إجماع لا يقبل الشك على أن ذلك كان في مكة، ولم يكن منه شيء في المدينة إلا ما يتفق مع ظرف المسلمين في موطنهم الجديد.
__________
(1) قال المصنف: مدخل إلى القرآن الكريم/ د. محمد عبدالله ص 136-138.
(2) مدخل إلى القرآن الكريم/ هامش ص 139.(1/72)
أما غير القصص من أحكام وأخلاقيات، فلقد جاء القرآن يعنف صراحة أولئك الذين اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً، فهم يضاهون قول الذين كفروا من قبل، وهم سمَّاعون للكذب أكَّالون للسحت:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } (1)
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة:
{ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } (2).
أما ما ادّعي من أن هناك تغيراً في الأحكام وفي بعض العبادات كالصلاة، فقد تحدثنا عنه من قبل في بعض قضايا هذا الكتاب، فلا نرى ضرورة للحديث عنه ثانية.
الافتراض الثاني: أن يكون ناتجاً عن تأملاته الشخصية:
وبعد هذا التطواف فإن هذا القرآن لم يكن مكتتباً ولا مكتسباً من فرد أو جماعة أو بيئة ثقافية أو دينية. بقي الافتراض الثاني وهو أن يكون هذا القرآن ناتجاً عن تأملات الرسول الشخصية، وخواطره الفكرية، وسبحاته الروحية. وهذا الافتراض لن نتعب أنفسنا في رده، ولن نطيل على القارئ كذلك.
__________
(1) سورة التوبة: آية 34.
(2) سورة آل عمران: آية 93.(1/73)
وإذا كان الناس يختلفون حول القرآن، فإننا لن نجد اختلافاً حول شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، كيف وهؤلاء الذين ناصبوه العداء لم يجدوا أي مطعن شخصي يمكن أن يوجهوه إليه، فهو الصادق الأمين، وهو الجواد الشجاع، وخير ما يمثل لنا صفاته هذه الكلمات التي قالتها السيدة خديجة قبل أن تعلم أنه رسول الله "والله إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتُكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق"(1) ولقد كان هرقل ذكياً كل الذكاء حينما سأل تجار مكة وهم في بلاد الشام، ولم يكونوا من المؤمنين به، حينما سألهم عن أخلاقه، فما استطاعوا أن يجدوا مطعناً، فاستنتج من ذلك فكره الحصيف هذه النتيجة: "ما كان ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله".
ثم إن التأملات الشخصية لا تطلع صاحبها على أخبار الماضي وقضايا المستقبل، إن هذا الافتراض يصعب على عاقل أن يتصوره.
__________
(1) قال المصنف: رواه البخاري كتاب بدء الوحي باب كيف كان بدء الوحي على النبي - صلى الله عليه وسلم - 1/3.(1/74)
ثم إن هناك شيئاً آخر يجمل أن نشير إليه وهو أننا حينما نتدبر القرآن نجد أمراً هو من الأهمية بمكان في ردّ هذا الافتراض، وهو ما نجده في القرآن من تصحيح لأحكام كثيرة، أو عتاب على حوادث وقعت من الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - نجد هذا مثلاً في قصة المجادلة -وقد مرت معنا من قبل- كما نجدها في إذنه للمنافقين(1)، وفي صلاته عليهم(2) وفي موقفه من أسرى بدر(3) وفي تحريمه بعض الأطعمة على نفسه: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (4).
هذا كله في المدينة، أما في مكة فنجد مثل ذلك في قصة ابن أم كلثوم { عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى } (5).
وفي مثل قوله سبحانه { وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } (6).
وفي قوله: { وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } (7).
{ وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ } (8).
__________
(1) في قوله تعالى: { عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ } (التوبة: 43).
(2) قوله تعالى: { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } (التوبة: 84).
(3) { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ } (الأنفال: 67).
(4) سورة التحريم: آية 1.
(5) سورة عبس: آية 1-2.
(6) سورة الأنعام: آية 52.
(7) سورة الإسراء: آية 73.
(8) سورة الإسراء: آية 74-75.(1/75)
وهذا كثير حتى روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله حينما صحح له الوحي بعض الأحكام "أردنا أمراً، وأراد الله أمراً، والذي أراده الله خير"(1) أفبعد ذلك كله يمكن أن تكون نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - مصدر القرآن.
خلاصة لهذه القضية:
ويجمل بنا الآن بعد هذا التطواف في هذه القضية الخطيرة(2) الشأن أن نلخص خلاصة لهذه القضية الخطيرة:
1. إن القصص القرآني قد ذكر بعضه في الكتابين السابقين، وبخاصة التوراة، ولكن هذا الذكر لا يدل على اتحاد أو تشابه تام، بل هناك فروق جوهرية أشرنا إلى بعضها من قبل، وهذه الفروق تارة تكون في تغيير في الحدث نفسه، كما في قضية الطوفان والخلق، ووسائل الانتقال التي استعملها إخوة يوسف في رحيلهم من الشام إلى مصر، وفي مسألة غرق فرعون، وقد تكون أحداثاً زائدة على ما جاء في التوراة نفسها كمناجاة نوح لابنه، والحوار بين إبراهيم وبين أبيه وقومه في أمر الكواكب، وأمر الشاهد في قضية يوسف، وشأن البقرة في حديث موسى عليهم السلام.
__________
(1) قال المصنف: انظر تفسير القرطبي جـ5 ص87.
(2) قال المصنف: يراجع الوحي المحمدي: النفسي الوحي النفسي ص87.(1/76)
2. إن هناك قصصاً قرآنياً خلت منه التوراة تماماً، وهذا القصص كان بعيداً عن أوساط الكنيسة السُريانية، وكان للعرب فيه بعض المعرفة الإجمالية، لأنه يتعلق بهم بيئة ووراثة، فهو إخبار عن أمم عربية مضت، وكانت تسكن المواطن العربية، وهذه المعرفة قد عفا عليها الزمن وأحاطها طول الأمد بحكايات من نسيج الخرافة والوهم، فجاء القرآن الكريم يفصل فيها حقائق وحوادث بعيدة كل البعد عن خيال الخرافة، وخرافة الخيال. وهذا اللون من القصص الذي لم تذكره التوراة كما كان بعيداً عن الكنيسة السريانية كان بعيداً كذلك عن اليهود، والنصارى غير السريان(1).
3. إن أخبار القيامة والجنة في القرآن الكريم تتشابه في بعض الجزئيات والأحداث مع ما بقي من الكتب السماوية عند أصحابها، ولكن لا يستطيع منصف أياً كان اتجاهه أن يدّعي ادعاءً مقبولاً بأن هذه الأحداث نفسها التي عبر عنها القرآن بأسلوبه، وأعطى منها معلومات كثيرة، كانت تتردد فيه.
إن أخبار البعث والنشور في القرآن وما يتبعها من تصوير وتجسيم هي مما انفرد به القرآن، اللهم إلا في بعض الجزئيات التي تشترك فيها الديانات السماوية جميعاً. ولقد تقدم لنا من قبل ما قاله هوارت في نقد شعر أمية بن أبي الصلت.
4. لقد فصلنا من قبل في الدعوى القائلة إن النبي أخذ هذه الأحداث عن طريق الأخبار الشفهية، وقلنا إن ذلك لا يتفق مع حال النبي أولاً، ولا مع حال الذين أخذ عنهم ثانياً، ولا مع طبيعة الوحي الذي جاء به الرسول ثالثاً، وما أصدق هذه المقولة البدهية: (فاقد الشيء لا يعطيه).
__________
(1) قال المصنف: وقد أفدنا كثيراً مما كتبه الأستاذ محمد عبدالله دراز في كتابه: "مدخل إلى القرآن الكريم" وقد عرض لهذه القضية نفسها في كتاب أوسع من كتابه هذا وهو "النبأ العظيم".(1/77)
5. إن القرآن الكريم لا يشتمل على القصص وحده، ولا على أخبار يوم القيامة فحسب، فهناك القضايا التشريعية والخلقية، والإشارة إلى حقائق كونية وأمور عقدية كانت بلا ريب في مساحتها أضعاف الأخبار القصصية، وهذه بالطبع لم تكن مستقاة من أخبار شفهية ولا كتابية كذلك، ولم يكن باستطاعة الرسول الأمي أن يأتي بها كذلك من عند نفسه. هذه القضايا نجدها في تنظيمات الإرث والقصاص، وشؤون العبادة، وأطوار خلق الإنسان، وبعض أطوار النبات والحيوان وكلها من الأمور التي إن درست بتجرد لا يشك ولا يرتاب أحد بأصالتها وكونها أخباراً سماوية بعيدة عن طوق البشر.
هذان افتراضان نرجو أن نكون قد استوعبنا القول فيهما، وأكرر هنا ما قلته في هذه القضية وهي أنها بحاجة إلى كتاب خاص وسفر مستقل، فنرجو أن نكون قد وفقنا الله فيما قلناه على قلته وإيجازه، وإذا لم يكن واحد من هذين الافتراضين مقبولاً فلم يبق إلا شيء واحد، وهو أن يكون هذا القرآن وحياً أوحَاه الله للنبي عليه وآله الصلاة والسلام وصدق الله العظيم:
{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (1)(2)
__________
(1) سورة الشورى: آية 52.
(2) "قضايا قرآنية في الموسوعة البريطانية: نقد مطاعن ورد شبهات": (192-216).(1/78)
وأختم الحديث عن هذه القضية بكلام عظيم جرى على لسان أحد الباحثين الغربيين ويُدعى "جاري ميلر"(1) وهو ممن درس القرآن ليرد عليه فهُدي بتلك الدراسة وأعلن إسلامه، وإليكم ما قاله:
1. لا يوجد مؤلف في العالم يمتلك الجرأة ويؤلف كتاباً ثم يقول هذا الكتاب خال من الأخطاء ولكن القرآن على العكس تماماً يقول لك لا يوجد أخطاء بل يتحداك أن تجد فيه أخطاء ولن تجد.
2. لا يستعرض القرآن أيضاً من الأحداث العصيبة التي مرت بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مثل وفاة زوجته خديجة أو وفاة بناته وأولاده، بل الأغرب أن الآيات التي نزلت تعقيباً على بعض النكسات في طريق الدعوة، كانت تبشر بالنصر، وتلك التي نزلت تعقيباً على الانتصارات كانت تدعو إلى عدم الاغترار والمزيد من التضحيات والعطاء، لو كان أحد يؤرخ لسيرته لعظم من شأن الانتصارات، وبرر الهزائم، ولكن القرآن فعل العكس تماماً، لأنه لا يؤرخ لفترة تاريخية بقدر ما يضع القواعد العامة للعلاقة مع الله والآخرين.
__________
(1) قرر الدكتور جاري ميلر المبشر الكندي النشيط وأستاذ الرياضيات والمنطق في جامعة تورنتو عام 1977 أن يقدم خدمة جليلة للمسيحية بالكشف عن الأخطاء العلمية والتاريخية في القرآن الكريم، بما يفيده وزملاؤه المبشرين عند دعوة المسلمين للمسيحية ولكن الرجل الذي دخل بمنطق تصيد الأخطاء وفضحها، غلب عليه الإنصاف وخرجت دراسته وتعليقاته أفضل مما يمكن أن يكتبه معظم المسلمين دعاية للكتاب الحكيم، ذلك أنه أحسن "تدبر القرآن"، وكان أول ما أذهله: هو صيغة التحدي التي برزت له من في مواضع كثيرة من مثل: "ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً"، "فأتوا بسوره من مثله"، "عشر آيات"، دخل الرجل الحلبة متحدياً وخرج منها منبهراً بما وجده.(1/79)
3. توقف ميلر عند قوله تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيد } (1) ، مشيراً إلى التجربة التي أجراها أحد الباحثين في جامعة تورنتو عن "فعالية المناقشة الجماعية"، وفيها جمع أعداداً مختلفة من المناقشين، وقارن النتائج فاكتشف أن أقصى فعالية للنقاش تكون عندما يكون عدد المتحاورين اثنين، وأن الفعالية تقل إذا زاد هذا العدد.
4. هناك سورة كاملة في القرآن تسمى سورة مريم وفيها تشريف لمريم عليها السلام بما لا مثيل له في الكتاب المقدس، بينما لا توجد سورة باسم عائشة أو فاطمة، وكذلك فإن عيسى عليه السلام ذُكر بالاسم 25 مرة في القرآن في حين أن النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر إلا 5 مرات فقط.
5. يرى المنكرون للوحي وللرسالة أن الشياطين هي التي كانت تملي على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما جاء به، والقرآن يتحدى: { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ } (2)، فهل تؤلف الشياطين كتاباً ثم تقول لا أستطيع أن أؤلفه، بل تقول: إذا قرأت هذا الكتاب فتعوذ مني؟
6. لو كنت في موقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو وأبي بكر محاصرين في الغار، بحيث لو نظر أحد المشركين تحت قدميه لرآهما، ألن يكون الرد الطبيعي على خوف أبي بكر: هو من مثل "دعنا نبحث عن باب خلفي"، أو "أصمت تماماً كي لا يسمعك أحد"، ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال بهدوء: { ںw ÷bt"ّtrB cخ) ©!$# $oYyètB } (3)، "الله معنا ولن يضيعنا"، هل هذه عقلية كذاب أو مخادع، أم عقلية نبي ورسول يثق بعناية الله له؟
__________
(1) سورة سبأ: آية 46.
(2) سورة الشعراء: آية 210-211.
(3) سورة التوبة: آية 40.(1/80)
7. نزلت سورة المسد قبل وفاة أبي لهب بعشر سنوات، وكان أمامه 365 × 10 = 3650 فرصة لإثبات أن هذا الكتاب وهم، ولكن ما هذا التحدي؟ لم يسلم أبو لهب ولو بالتظاهر، وظلت الآيات تتلى حتى اليوم، كيف يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - واثقاً خلال عشر سنوات أن ما لديه حق، لو لم يكن يعلم أنه وحي من الله؟
8. وتعليقاً على قوله تعالى: { $tB |MZن. !$ygكJn=÷ès? |MRr& ںwur y7مBِqs% } (1) تعقيباً على بعض القصص القرآني، يقول ميلر: "لا يوجد كتاب من الكتب الدينية المقدسة يتكلم بهذا الأسلوب، إنه يمد القارئ بالمعلومة ثم يقول له هذه معلومة جديدة !! هذا تحد لا مثيل له؟ ماذا لو كذبه أهل مكة -ولو بالادعاء- فقالو: كذبت كنا نعرف هذا من قبل، ماذا لو كذبه أحد من الباحثين بعد ذلك مدعياً أن هذه المعلومات كانت معروفة من قبل؟ ولكن كل ذلك لم يحدث.
وأخيراً يشير د. ميلر إلى ما ورد في الموسوعة الكاثوليكية الجديدة تحت موضوع "القرآن"، وكيف أنها ورغم تعدد الدراسات والمحاولات للغمز في صدق الوحي القرآني، "مثل أنه خيالات مريض أو نفث شياطين، أو كان يعلمه بشر، أو أنه وقع على كتاب قديم، ... الخ"، إلا أنها انتهت إلى: "عبر القرون ظهرت نظريات كثيرة حول مصدر القرآن إلا أن أيّ من هذه النظريات لا يمكن أن يعتد به من رجل عاقل". ويقول د. ميلر إن الكنيسة التي كان بودها أن تتبنى إحدى هذه النظريات التي تنفي صدق الوحي لم يسعها إلا أن ترفض كل هذه النظريات، ولكنها لم تملك الجراءة على الاعتراف بصدق نظرية المسلمين.
... وقد أفضت في ذكر النقول في هذه القضية لسببين:
1. لأهميتها في زماننا هذا وثورانها من حين إلى آخر.
2. ولأجعلها نموذجاً للرد على شبهات فكرية أخرى.
__________
(1) سورة هود: آية 49.(1/81)
تلك كانت بعض القضايا الفكرية أوردتها مثالاً لما ينبغي أن يحيط به المشتغل بالقرآن من هذه القضايا المهمة التي تساعده على بناء شخصية قرآنية متكاملة قادرة على التعامل مع حوادث عصرها، وفهم تراثها، والاستفادة منه في مستقبلها، والله الموفق.
خاتمة
... الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
... فقد كان هذا البحث تعريجاً سريعاً على قضية كبيرة ضخمة، حقها أن تطرق في مجلدات، وإنما وضعت هذه الأوراق العجلة استجابة لمقتضيات عصر السرعة هذا، وتحقيقاً لطلب القائمين على المؤتمر(1)، وهذه الوريقات لا تغني المشتغل بالقرآن عن الرجوع إلى أَمّات المصادر والمراجع، وإنما هي تبصرة للمبتدي وتذكرة للمؤتسي المنتهي، وقياماً بشيء من حق القرآن العظيم، وذوداً عن حوضه الكريم، والله تعالى أسأل أن ينفع بهذا البحث، وأن يثيبني عليه يوم العرض، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
وكتبه
محمد بن موسى الشريف
mmalshareef@hotmail.com
www.altareekh.com
فهرست المصادر والمراجع
ـ القرآن الكريم.
ـ "الإسلام في قفص الإتهام": د.شوقي أبو خليل.
... نشر دار الفكر. دمشق. طبعة سنة 1420.
ـ "دراسات إسلامية في العلاقات الدولية والاجتماعية": د. محمد عبدالله دراز.
... نشر دار القلم. الكويت. الطبعة الخامسة 1424هـ.
ـ سنن أبي داود.
ـ صحيح البخاري.
ـ صحيح مسلم.
ـ "قضايا قرآنية في الموسوعة البريطانية: نقد مطاعن، ورد شبهات": الدكتور فضل عباس.
... نشر دار البشير. عمان. الطبعة الثانية 1410هـ.
__________
(1) وهو مؤتمر أقيم في الكويت عقدته الهيئة العالمية لتحفيظ القرآن الكريم، تحقيقاً لمتطلبات ملتقاها العلمي السنوي بعنوان "حفاظ القرآن الكريم أمان لمجتمعاتهم" بتاريخ 17/11/1428هـ.(1/82)
ـ "كيف نتعامل مع القرآن" الكريم: الشيخ محمد الغزالي. سلسلة المعهد العالمي للفكر الإسلامي. نشر دار الوفاء. المنصورة. الطبعة الأولى سنة 1412هـ.
ـ "معجم مفردات ألفاظ القرآن": الراغب الأصفهاني. تحقيق الأستاذ نديم مرعشلي. نشر دار الفكر. بيروت.
ـ "معجم متن اللغة": الشيخ أحمد رضا. نشر دار مكتبة الحياة. بيروت. 1379/1960.
ـ "المعجم الوسيط": مجمع اللغة العربية. القاهرة.
فهرست الموضوعات
الموضوع ... رقم الصفحة
مقدمة: ... 3
وفيها السبب الحافز لكتابة البحث، وهو: ... 4
ـ ضعف الجانب الفكري عند أكثر المشتغلين بالقرآن. ... 4
ـ الاستجابة لأمر الله تعالى بالتفكر. ... 5
ـ تحقيق توازن الشخصية القرآنية. ... 5
ـ تحقيق الخيرية الواردة في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. ... 6
ـ التنبيه على عظم شأن المتفكرين. ... 6
ـ إصلاح الخلل الفكري. ... 7
المطلب الأول: معنى الفكر، وصيغ وروده في كتاب الله تعالى. ... 9
المطلب الثاني: مميزات الخطاب القرآني. ... 14
المطلب الثالث: بعض القضايا الفكرية التي تهم صاحب القرآن. ... 18
القضية الأولى: قضية الأخذ بالوحيين معاً والرد على القرآنيين. ... 19
القضية الثانية: القسوة والشدة في الحدود والقصاص. ... 21
القضية الثالثة: الجهاد في سبيل الله تعالى. ... 25
القضية الرابعة: قضية التشكيك في إلهية القرآن. ... 31
خاتمة. ... 134
فهرست المصادر والمراجع. ... 135
فهرست الموضوعات. ... 137(1/83)