e
مقدمة
الحمد لله رب العالمين الحمد لله الذي أتم علينا النعمة , وأكمل لنا الدين وهدانا إلى صراط مستقيم .
ودعا الناس إليه فقال تعالى :
{ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (الأنعام:153) والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الأطهار الأبرار الأخيار وبعد .
فلقد أنعم الله تعالى على الإنسان ورحمه وشرفه بإرسال الرسل وإنزال الكتب التي ختمها بالقرآن العظيم روحاً, ونوراً , وهدى , وفرقاناً , وبصائر ليقيم حياته على منهج الصراط المستقيم فقال تعالى :
{ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (المائدة:15 ، 16)
،وجعل كتابه ورسوله فضلاً ورحمة تستدعى الشكر والفرح : { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } (يونس:58)
, وضمن كتابه ما به سعادة الإنسان ـ ليس حقوق الإنسان وحسب ـ بل سعادة الإنسان في الدارين .
وأعلمه أنه ربه , وإلهه , ووليه , والمنعم عليه , وراحمه , ومعلمه طريق الحياة الطيبة في الدنيا وطرق السعادة فيها إن هو اتبع منهج العليم الحكيم الخبير . وأعلمه أنه سيحيه حياة طيبة إن هو التزم بذلك وطبقة : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (النحل:97)(1/1)
, وأنه لن ينال إلا الحياة النكدة والمعيشة الضنك إن هو أعرض عن ذلك اختار لنفسه طريقا آخر : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } (طه:124) .
لكن ناساً كثيرون ركبهم الغرور , واستكبروا على الإسلام , وشرعوا من الدين ما لم يأذن به الله وقالوا { وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ } ( الأنعام : 93 ) وكذبوا :
{ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } ( المائدة : 77 ), يجرون وراء السراب يحسبونه ماءً ولا ماء إلا في شريعة الله فاستفاقوا فإذا يدهم والحصير !! وإذا بالظلم , والبغي , والعدوان , وانتهاك حقوق الإنسان , في كل مكان , وهى النتيجة الحتمية لمن ينهى وينأى عن القرآن , قال تعالى : { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } ( الأنعام :26) لعلهم بعد إهلاك أنفسهم في رحلة العذاب , وحياة التصحر , يرجعون إلى منهج الله الذي به وحده الحياة: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } (الأنفال :24 ).
فمن أجل أن نبصر العالم , ومن أجل أن يستفيق بنو قومنا , كتبت هذا البحث 0.
أولا : أهمية البحث : ـ(1/2)
أ- لقد انتشرت في العالم دعوى خاطئة فحواها أن الإسلام لا ينهض علي تحقيق السعادة ولا يقوي علي مسايرة الزمان فأضحي لا يعدو علي الصمود أمام القانون الوضعي المعاصر الذي وضعه الغرب وفق مصالحة التي طمع أن يحققها علي أرض الشرق الإسلامي وسارت هذه الدعوى وانتشرت في البلاد الإسلامية انتشار النار في الهشيم وانطلت هذه الأكذوبة علي كثير من أنباء جلدتنا ممن يتكلمون بألسنتنا ويصلون بصلاتنا ، والأعجب من ذلك أنه قام فريق منهم يتنكرون للشريعة الإسلامية واصفين إياها بالنقص وعدم الكمال واسمين النظم الوضعية – غربية وشرقية – بالتام والكمال فساروا أبواقا للغرب يتحدثون بألسنتهم ويسيرون علي منوالهم(1/3)
ب- ولقد كان للنظام الجنائي الإسلامي النصيب الأوفر والسهم الأعظم من هذه الدعوى الكاذبة فلقد وصف التشريع الجنائي الإسلامي فيما وصف – بأنه نظام لا يحمل شيئاً من الرحمة واللين بقدر ما يحمل من القسوة وعدم احترام آدمية الإنسان , فهو قانون عار من القيم الأخلاقية ولا ينطوي علي الأخلاق الفاضلة ، هكذا وصف النظام الجنائي الإسلامي فعقوبته قاسية وأحكامه شديدة فهي دائرة بين القتل والرجم والقطع والجلد إلي أخر ذلك من العقوبات المقدرة والمفروضة. وانطلاقاً من هذه النظرة الخاطئة والتصوير المبني علي الجهل بحقيقة الشريعة مع تضافر سبب آخر للغرب وهو تحقيق مصالحه في الشريعة الإسلامية تم استيراد قوانين وشرائع غربية للأمة الإسلامية دون رغبة من أفراد الأمة ولا طلب منها ودون أن تستشار في هذا الشأن وكأن الأمر لا يخصها ولا يتعلق بدينها . وقام المستشرقون من أبناء الغرب والمستغربون من أبناء الشرق يهللون لرأيهم الذي اعتنقوه بناءاً علي ما لديهم من فكر غربي يتعلق بحقوق الفرد والجماعة , وهي الفكرة التي تغلب مصلحة الفرد علي مصلحة الجماعة أو الفكرة التي تلغي الفرد وتجعله ترساً في آلة صماء فعلية أن يسير وفق ما يريد المجتمع فحقوقه مهدرة وشخصية منعدمة ولقد تم بالفعل إقصاء الجانب الجنائي من الشريعة الإسلامية عن الحكم به في ميدان الواقع عدة عقود وحتى الآن , ولعل السبب في ذلك أو أهم الأسباب علي الأقل تلك النظرة المغلوطة والتصوير الخاطئ عن الشريعة الإسلامية في هذا الجانب من التشريع الجنائي .(1/4)
2- مما يوجب علي المعنيين بالدعوة إلي الله تعالى أن يكشفوا الزيف ويرفعوا هذا الظلم الواقع علي الشريعة الإسلامية , موضحين للعالم حقيقة هذا الدين الممثلة في قوله تعالى : { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ }(1)
وقوله تعالى { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }(2)إذا أنها تشتمل علي جانب الأخلاق والقيم مبنية علي الرحمة والعفو والتسامح لا علي الفحش والقسوة وإهدار كرامة الإنسان إذ يقول - صلى الله عليه وسلم - { إنما بعثت لا تمم صالح الأخلاق }(3)
ومن هنا كانت هذه الدارسة من الأهمية بمكان إذ أوضح فيها الجانب الأخلاقي في التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً هذا الجانب - بما أحتوي عليه من أخلاق - بما وضعته البشرية من قوانين في هذا المجال موضحاً بذلك الوجه المشرق للإسلام عموماً وعلي الخصوص النظام الجنائي فيه وما احتوي عليه من أخلاق وفضائل كريمة وقيم نبيلة .
__________
(1) سورة الحج جزء من الآية رقم 78
(2) سورة البقرة آيه رقم 158
(3) 3 ) مسند أحمد عن أبي هريرة جـ 2 صـ 381(1/5)
وتظهر أهمية البحث فوق ذلك : أنها تظهر الوجه الكالح للنظم الوضعية وما جرته علي البشرية من ويلات حينما أقحمت نفسها قيما ليس لهابه من علم وحكمت في قضية ليست لها بأهل , فليس لها من العلم ولا لديها من الأهلية ما يرشها لأن تكون حاكمة أو صانعة قانوناً يصلح لعموم الزمان والمكان شاملاً لكل الأفراد , وعندئذ ضلت وأضلت فذاق الناس مرارة هذه النظم ,وما جنوا من ورائها إلي الدمار الأخلاقي والضياع الحضاري ,وإن اكبر مصدر للسوء أن يتحاكم الناس إلي غير الحق ، إلي قوانين جائرة وضعتها قوي ظالمة وقوي جاهلة وبذلك عجزت النظم أن تحقق ما طمع فيه أربابها , وصانعوها من آمال عظام وأهداف كبار ,
ودل علي عجز هذه النظم ما خلفته ورائها من أنين البشر وضياع الأمن وذهاب العدل , وعدم المساواة , وإهدار كرامة الإنسان ، والجري وراء الشهوات وإرضاء النزوات , وكثرة الجرائم الخلقية , من سرقه وزناً وهتك أعراض وسفك دماء .
ومما يظهر لنا شده عجزها ويكشف لنا عن عورها أن أحوال البشر في ظل هذه القوانين لا تزداد إلا سوءاً فصارت الأحوال من سيئ إلي أسوأ وما كانت هذه الدارسة مني إلا لكشف ما وقع علي الشريعة الإسلامية من افتراءات علي هذا النظام الجنائي ولست مدعياً أني قد أتيت بذلك علي كل شبهة ، ورفعت كل افتراء . فهذه مهمة لا يقدر عليها مثلي ولكن حبي لديني واعتزازي بشريعة الإسلام وإيماني العميق بأنه لا يصلح الناس إلا شريعة الله تعالى ، كل ذلك حداني إلي البحث عن الجانب الأخلاق في التشريع الجنائي الإسلامي , ليعلم أعداؤنا أنه من الإنصاف أن نُحّكم شريعة الله لا نحكم أهواء البشر وميولهم ، وليعلم أبناء الإسلام أن الشريعة الإسلامية هي معقد الرجاء والأمل الوحيد لنقل البشرية من محيط المادية الآسن إلي محيط الربانية بما اشتمل عليه من خلال كريمة
ثانيا : سبب الاختيار :(1/6)
أ- إنه لمن باب الاعتراف بالفضل والجميل لأهله أن اعترف بسبب اختيار هذا الموضوع وذلك عندما كنت مقيداً ضمن طلاب الدراسات العليا في السنة الثانية بالكلية إذ كان يدرس لنا مادة النظم الإسلامية آنذاك فضيلة الأستاذ الدكتور حلمي عبد المنعم صابر ( يرحمه الله تعالى ) وكان فيما أشار علينا بحثه مستقبلاً – ضمن عدة موضوعات طرحها في ورقات أعدها كأطروحة للبحث هذا الموضوع ( الجانب الأخلاقي في التشريع الجنائي بين الإسلام والنظم الأخرى ) (دراسة مقارنة ) وانطلقت من خلال هذه الفكرة فكانت بمثابة الغرسة التي غرسها رجل يريد أن ينعم الناس في ظلالها ويأكلوا من ثمارها فصاحب الغرس هو فضيلة الدكتور – يرحمه الله تعالى وهذا أحد أسباب اختيار الموضوع .
ب- وسبب آخر وهو طبيعة المرحلة التي تحياها الأمة , وهي مرحلة المغالبة والتنازع علي البقاء فكل الأمم في هذه الآونة تظهر أنفس ما لديها وأقوي ما عندما فكان من واجبي أن أظهر اكرم ما رأيته في شريعة الله تعالى مرا غما أعداء الله ورسالته مظهرا لهم جمال الإسلام وسماحته في الشريعة ومما ساعدني في ذلك
1- الإيمان بعظمة الرسالة الإسلامية
2- الاعتزاز باعتناقها
3- والأمل في تأيد الله إياها(1/7)
وفي هذه الحالة التي تحياها الأمة الإسلامية من التراجع والتخلف والفراغ والغياب الحضاري , الذي يأذن بامتداد ( الآخر) ليغطى جميع مساحات الحياة ,, بثقافته وحضارته ومنتجاته الفكرية وفلسفته للكون والإنسان والحياة – في هذه الفترة التي تحياها الأمة بهذا الشكل - يجب أن تكون تلك الأزمات على اشتدادها ألا تخيف الأمة الإسلامية ومفكريها , بل من الواجب أن تبعث لديهم استنفاراً , وتخلق فيهم بصيرة وتحدياً يجمع الطاقة , ويلم الشتات , ويثر الفاعلية , ويحرض القوى الكامنة وينبه القطاعات الغافلة في الأمة , لتطلع من جديد , وهكذا يتم التداول في الأيام , وما تكاد الأمة تبلغ الشيخوخة حتى تولد من جديد , وتتمكن من تجاوز الأزمات وتستأنف المسير. فهذه الحالة التي تحياها كانت سبباً مباشراً في كتابة هذا البحث.
والأهم من كل ما تقدم في أن أهمية البحث تكمن في إزالة خلط الأوراق في هذا الركام من دعاوى سخيفة تتقول على الشريعة الإسلامية بالظلم وهضم الحقوق وإضاعة الكرامة الإنسانية , ووصفها في تارة أخرى بالقسوة والوحشية ومن أهم الجوانب التي تزيل هذه الشبة المثارة حول الشريعة الإسلامية . هي المقارنة بين الإسلام والقوانين والشرائع الأخرى وهذا سبب آخر للبحث في هذا الموضوع .
ثالثا : الدارسات السابقة في الموضوع :
لم تكن هناك من دراسات سابقة في هذا الموضوع تحمل عنوان ( الجانب الأخلاقي في التشريع الجنائي بين الإسلام والنظم الأحرى ) ولكن وجددت دراسات تحمل نفس الفكرة ومحتوياتها في طياتها
@ من هذه الدارسات كتاب الأستاذ المرحوم عبد القادر عودة والذي اسماه التشريع الجنائي الإسلام مقارناً بالقانون الوضعي
فأظهر فيه أهم الفروق التي تميز الشريعة الإسلامية عن القانون الوضعي والكتاب وإن لم يكن يحمل اسم الجانب الأخلاقي غير أنه يشتمل علي كثير من الأخلاقيات مثل قيمة العدل والمساواة والعفو وإصلاح الجاني(1/8)
غير أن هذا البحث الذي بين أيدينا اعتني بكثير من النقاط التي لم يتناولها بحث الأستاذ عبد القادر عودة رحمه الله تعالى مثل توضيح قضية الالتزام الأخلاقي ومفهومها وتوضح الجانب الأخلاقي في المسئولية الخلقية والجانب الأخلاقي التي انفردت بها الشريعة الإسلامية عن غيرها من النظم مع ذكر تلك الجوانب التي كانت عاملاً مشتركاً بين الإسلام والنظم الأخرى
وإني إن كنت معترفاً بأني أفدت من كتاب الأستاذ المرحوم عبد القادر عورة غير أن هذا البحث لم يكن صورة ثانية للكتاب المذكور(1/9)
ولقد وجددت كتب أخري تقترب من منهج البحث مثال ذلك الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي للأستاذ الإمام محمد أبو زهرة غير أنه لم يكن علي مستوي الكتاب السابق وإن كان يحمل نفس الفكرة مظهراً الجانب المشرق للشريعة الإسلامية وكذلك وجددت كتب ومؤلفات ورسالات دكتوراه تحمل جزئية من جزئيات البحث مثل المسئولية , ولقد ذكرت هذه المراجع في نهاية البحث كمصادر لبحثي هذا وأما ما وجد عند قدامى المسلمين – فالمادة موجودة في بطون كتب الفقه – أعنى ( الجانب الأخلاقي في التشريع الجنائي ) – بكل فروعها ومذاهبها غير أن القدامى من المسلمين لم يكن لديهم هذا الفصل الذي عرفته الدراسات الحديثة من فصل الجانب الأخلاقي عن الجانب التشريعي ، ولعل السبب في هذا –من وجهة نظري – أن كل أعمالهم إنما هي أعمال أخلاقية مع فهمهم الإسلامي بشموله لكل أنواع النظم والمعارف ، فالأخلاق لا تنفصل عن أي علم من العلوم أو نظام من النظم .فالإسلام كله وحدة واحدة ونظام شامل ولقد بحثت فيما ذكره علماء المسلمين القدامى فوجدت فيما تركوه لنا من تراث فقهي كم هائل من الجوانب الأخلاقية – في التشريع الجنائي الإسلامي ، برزت هذه الجوانب الأخلاقية عند تطبيق الشريعة إسلامية على أرض الواقع يوم أن كانت تحكم شريعة الله الناس ، فما كان منى في هذا البحث إلا أن أخرجت النصوص التي تركها لنا علماؤنا في كتبهم وأظهرت الجانب الأخلاقي الذي تشتمل عليه 0
رابعا : منهجي في البحث ... :(1/10)
لقد كان منهجي في البحث يغلب عليه المنهج الاستنباطي التحليلي وإن كان يوجد عدة مناهج أخرى قد استخدمتها في هذا البحث . مثل المنهج النصي والتاريخي . غير أنه يغلب علي طابعه العام المنهج الاستنباطي التحليلي . معتمداً على ذكر الآية أو الحديث أو الواقعة التي حدثتً مستخرجاً منها الجانب الأخلاقي وكذلك عند المقارنة بالنظم الوضعية اعمد إلى ذكر النص الوضعي ثم أقوم بتحليله واستنباط الجوانب الأخلاقية التي يحملها في طياته ، مراعيا بذلك ضوابط المنهج العلمي في المقارنة بين النظامين الإسلامي والوضعي فلم اصدر حكماً على نظام من النظامين إلا بعد ذكر المقدمات التي تؤدى بطبيعتها إلى النتائج حتى لا يكون مصادرة مني على نظام من النظامين وفي الدراسة – ولله الحمد – لم اكن مظهراًً تعصبي لديني وبغضبى للنظم الوضعية وما تحمل ، متوخياً في ذلك الأمانة العلمية – والإنصاف في الحكم بعد بيان ما في النظامين ( الإسلامي والوضعي ) من جوانب أخلاقية ؛فما اتفقت فيه الشريعة الإسلامية أوضحته ولم أجحد فضل ما وصلت إليه النظم الوضعية وما كانت فيه متسقة مع الشريعة الإسلامية ،
خامسا : خطة البحث :
لقد كان الغرض من هذا البحث هو بيان الجانب الأخلاقي للتشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالنظم الوضعية . ولقد حققت ذلك من خلال بابين يشتمل عليهما البحث :
الباب الأول : تناولت فيه الأصول الأخلاقية في التشريع الجنائي بين الإسلام والنظم الأخرى . واشتمل هذا الباب على ثلاث فصول .
الفصل الأول : تحدثت فيه عن الإلزام الخلقي بين الإسلام والنظم الأخرى ، واشتمل هذا الفصل على أربعة مباحث :
المبحث الأول : تعريف الإلزام .
المبحث الثاني : مصدر الإلزام في الشرع الإسلامي .
المبحث الثالث : مصدر الإلزام في النظم الوضعية وفيه مطلبين .
والمبحث الرابع : وتناول الحديث عن خصائص الإلزام في التشريع الجنائي الإسلامي ومميزاته عن النظم الأخرى .(1/11)
الفصل الثاني : ويتناول الجانب الأخلاقي للمسئولية الجنائية بين الإسلام
والنظم الأخرى ويشتمل على خمسة مباحث .
1- المبحث الأول: في تعريف المسئولية .
2- المبحث الثاني : في الجوانب الأخلاقية في أسس المسئولية الجنائية .
3- المبحث الثالث : سبب المسئولية الجنائية .
4- المبحث الرابع : ويتناول الجانب الأخلاقي للمسئولية الجنائية الفردية والجماعية دراسة مقارنة . بين الإسلام والنظم الأخرى .
5- المبحث الخامس : الجوانب الأخلاقية في موانع المسئولية الجنائية دراسة مقارنة
الفصل الثالث : الجانب الأخلاقي في الجزاء الجنائي بين الإسلام والنظم الأخرى ويشتمل هذا الفصل على مبحثين :
المبحث الأول : تعريف الجزاء وبيان الجانب الأخلاقي فيه .
المبحث الثاني : أهداف الجزاء وبيان الجانب الأخلاقي لهذه الأهداف .
مقارناً بين الإسلام والنظم الأخرى .
الباب الثاني : ويتحدث عن . الجوانب الأخلاقية في العقوبات الجنائية بين الإسلام والنظم الأخرى . ويشتمل هذا الباب على ثلاثة فصول .
الفصل الأول : الجانب الأخلاقي في عقوبات القصاص بين الإسلام والنظم الأخرى . وفيه أربعة مباحث .
الأول : تعريف القصاص
الثاني : الجانب الأخلاقي في تعريفه وحكمة مشروعيته
الثالث : الجانب الأخلاقي في تنفيذ عقوبة القصاص
الرابع : مقارنة بين الإسلام والنظم الأخرى في الجوانب الأخلاقية للقصاص .
الفصل الثاني : الجانب الأخلاقي لعقوبات الحدود ( دراسة مقارنه ) وفيه سبعة مباحث
1ـ الجانب الأخلاقي لعقوبة الزنا بين الإسلام والنظم الأخرى .
2ـ الجانب الأخلاقي لعقوبة السرقة بين الإسلام والنظم الأخرى .
3ـ الجانب الأخلاقي لحد الرابة بين الإسلام والنظم الأخرى .
4ـ الجانب الأخلاقي لعقوبة شرب الخمر بين الإسلام والنظم الأخرى .
5ـ الجانب الأخلاقي لعقوبة القذف بين الإسلام والنظم الأخرى .
6ـ الجانب الأخلاقي لعقوبة جريمة الردة بين الإسلام والنظم الأخرى .(1/12)
7ـ الجانب الأخلاقي في عقوبة البغي بين الإسلام والنظم الأخرى .
الفصل الثالث : الجانب الأخلاقي لعقوبة التعازير في الإسلام وفيه مبحثان :
الأول: تعريف التعزير ودليل المشروعية .
الثاني: الجانب الأخلاقي لعقوبة التعزير في الشريعة الإسلامية .
ثم خاتمة تبين أهم القضايا التي عرض لها البحث واهم النتائج التي توصل إليها . ثم بعد ذلك فهارس موضوعات البحث .
سادساً :أهم المشاكل التي قابلتني في البحث :
لقد كان فضل الله على عظيماً في الأول والأخر ، أن يسر لي مثل هذا الموضوع لأن أنال شرف البحث فيه فلله الحمد ولله الفضل .
ولكن هذا البحث قد واجهتني فيه بعض الصعاب ومن هذه المشاكل أنني وجدت نفسي مضطراً للقراءة في مجال لم يكن لي به سابق علم ولا تجربة فوجدتني مضطراً لقراءة النظام الجنائي في الشريعة الإسلامية ثم قراءة النظام الجنائي في النظم الوضعية على ما بها من فلسفات وضعية ونظم بشرية وقد تطول القراءة في كثير من الكتب ولم أخرج منها بشيء ، وخاصة ما يتعلق بأصحاب النظريات التي كان لها أثر في وضع القوانين الوضعية الحاكمة في كثير من الدول العربية والإسلامية والغربية والشرقية ، ولكنى تغلبت على ذلك بالاستعانة بالله أولاً بأن يرزقني حسن الفهم وحسن الصياغة . ثم بالمثابرة في القراءة والإطلاع .
. ومشكلة ثانية قابلتني في هذا البحث : وهو طول خطته والتي كان من الواجب على أن التزم بها . وحينما وضعت خطة هذا البحث أولاً لم أكن متصوراً أنه سوف يكون على هذا النحو من الإطالة مما جعلني أختصر فيه اختصاراً ملتزماً ببيان الجانب الأخلاقي .
سابعاً : شكر وتقدير :
.(1/13)
وهنا لابد من توجيه كلمة الشكر وعبارة عرفان إلى فضيلة الأستاذ الدكتور/ أحمد أحمد غلوش المشرف على هذا البحث . وذلك لتفضله على بالتوجيه والنصح والإرشاد ، فلقد كان له الفضل بعد الله عز وجل في إخراج هذا البحث على هذا النحو الذي سار عليه في فصوله وأبوابه ومباحثه ... فلقد كان فضيلة الأستاذ الدكتور . له بالغ الأثر في إعدادي للبحث باعثاً في كتاباتي الأمل .ولقد كان معي كريماً جواداً واسعاً الصدر سمحاً فاضلاً ولا نزكيه على الله عز وجل . والله اسأل أن يجعل عمله هذا في ميزان حسناته فجزاه الله خيراً على ما قدم من أعمال صالحة ، وأخلاق رفيعة . وهذا الشكر الذي أقدمه إنما هو بعض حق لفضيلة الأستاذ الدكتور / أحمد أحمد غلوش وبهذا أخبرنا ديننا الحنيف في قوله صلى الله عليه وسلم ( من لم يشكر الناس لم يشكر الله )(1)أتوجه إلي ربى بالشكر والحمد الجميل والثناء الحسن ، فله الحمد في الأولي والآخرة . واسأله سبحانه وتعالى أن يلهمني رشدي ويشرح لي صدر ، ويحلل عقدة من لساني ، ليفقهوا قولي . ويرزقني إخلاصا في القول وصواباً في العمل . ويغفر لي تقصيري في عرضي لجمال الإسلام وإظهار محاسنه فهذه قدرتي العاجزة أمام عفوه وكرمه ، وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
ثامنا ً : التعريف بأهم المصطلحات :
إن من مقتضيات قواعد البحث العلمي أن يستهل الباحث دراسته بتحديد بعض المفاهيم وتوضيح بعض المصطلحات التي يقوم عليها بحثه إيضاحاً يبين صورتها ويحدد سماتها، وسيراً علي قواعد البحث العلمي أقدم لبعض المصطلحات التي يقوم عليها عنوان البحث .
أولاً : تعريف الأخلاق :
أ ـ في اللغة : -
الأخلاق جمع خُلق والخُلُق يراد به السجية , والطبع , والمروءة , والدين .
وتخلق بغير خُلُقه تكلفه .. وخالقهم : عاشرهم بخلق حسن(2)
__________
(2) القاموس المحيط الفيروز آبادي جـ3 صـ 236 ، 237 بتصرف ط دار الجيل(1/14)
وعلم الأخلاق علم موضوعه أحكام قيميه تتعلق بالأعمال التي توصف بالحسن أو القبح(1)
والمعاني اللغوية السابقة تشير إلى الأخلاق بأنها مجموعة من الصفات والمعاني المستقرة في النفس البشرية أو التي تحاول أن تتمسك بها والصفات التي يأمر بها دينها .
وعلم الأخلاق . علم له موضعه الذي يبحث في القيم والسلوكيات البشرية.
ب ـ تعريف الأخلاق في الاصطلاح : -
لقد تباين تعريف الأخلاق لدي العلماء المعنيين بهذا العلم وذلك حسب اتجاه كل فريق.
1 - تعريف الأخلاق في اصطلاح العلماء المسلمين :
يعرفها الإمام الغزالي بقوله : " الخلق عبارة عن هيئة في النفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهوله ويسر من غير حاجة إلي فكرٍ وروية ... فإن كانت الهيئة التي تصدر عنها الأفعال الجميلة المحمودة عقلاً وشرعاً سميت تلك الهيئة خلقاً حسناً وإن كان الصادر عنها الأفعال القبيحة سميت الهيئة التي هي المصدر خلقاً قبيحاً "(2)وقريب من هذا التعريف قال به ابن مسكويه(3)
وعرفها من العلماء المعاصرين فضيلة الدكتور على عبد الحليم بقوله : " هي مجموعة القيم والمبادئ التي تنظم سلوك الإنسان التي حددها الوحي ووضع لها من الضوابط ما يحقق الغاية من وجود الإنسان علي الأرض "(4)
والغاية من وجود الإنسان تحقيق العبودية لله والتي يترتب عليها سعادة الفرد في الدنيا والآخرة.
2- معني الخلق عند الاتجاهات غير الإسلامية :
? عند أصحاب الاتجاه النفعي: عرفوها بأنها السلوك الذي يحقق اللذة والمنفعة
? الاتجاه الاجتماعي : هي السلوك الذي يخدم الجماعة علي حساب الفرد
__________
(1) المعجم الوجيز مجمع اللغة العربية صـ 209 ط وزارة التربية والتعليم
(2) إحياء علوم الدين للإمام الغزالي ج3 صـ 56 دار الحديث
(3) تهذيب الأخلاق لابن مسكويه صـ51
(4) فقه الدعوة إلي الله د/ علي عبد الحليم محمود نقلاً عن طرق التدريس الحديثة د/ ماجد يحيي العويسان ج2 ص9(1/15)
? أصحاب الاتجاه العقلي : يرون أنها السلوك المحاكي للمثل التي تخيلوها(1)
وبهذه التعريفات السابقة للأخلاق يتضح لنا أن الأخلاق الإسلامية إنما مصدرها الوحي وأن لها غاية وهي تحقيق الكمال البشري للإنسان وأنها مضبوطة بضوابط الشريعة التي لا تؤثر فيها الميول الشخصية، ولا النزعة الجماعية، ولا الأفكار المثالية التي يستحيل أن تطبق على أرض الواقع.
ثانيا ً:- تعريف التشريع :
1- في اللغة :
التشريع مصدر شرّع ـ بتشديد الراء ـ مأخوذ من الشريعة يقول صاحب مقاييس اللغة ( والشين والراء والعين أصل واحد وهو شيء يفتح في امتداد يكون فيه. ومن ذلك الشريعة, وهي مورد الشاربة الماء, واشتق من ذلك الشرعة في الدين )(2)
وجاء في لسان العرب ( الشريعة هي الموضع الذي ينحدر منه الماء وهي مشتقة من التشريع وهو إيراد الإبل شريعة لا يحتاج معها إلي نزع بالعلق ولا سقي في الحوض فيقال في المثل. أهون السقي التشريع .
وقال الليث: وبها سمي ما شرع الله للعباد شريعة من الصوم والحج والنكاح وغيره والشريعة ما سن الله من الدين وأمر به .
قال الفراء. في قوله تعالي :
{ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ }(3)علي دين وملة ومنهاج , وشرع الدين يشرعه شرعاً سنه،
وفي التنزيل : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً }(4)أي أظهر(5)
__________
(1) منهج التربية عند الإخوان المسلمين،د/ على عبد الحليم نقلا عن المصدر السابق ج2 ص9
(2) معجم مقاييس اللغة لابن فارس دار الجيل بيروت ط1 سنة 1991
(3) سورة الجاثية أية رقم (18)
(4) سورة الشورى أية رقم (13)
(5) لسان العرب لابن منظور ج4 صـ 238 دار المعارف مصر سنة 1981
(4) الإسلام عقيدة وشريعة د/ محمود شلتوت ص 73 دار الشروق(1/16)
2 – في الاصطلاح : لقد كثرت التعاريف لمصطلح التشريع - وكما هو معلوم أن ذلك مرجعه إلي اختلاف المعرّفين حول الجهة التشريعية الصادر عنها التشريع والتي تكون مصدراًً للإلزام بالأمر والنهي . ومن هذه التعريفات :
* اذكر الأتي
أ-عرفها فضيلة الإمام محمود شلتوت بقوله : " إن الشريعة اسم للنظم والأحكام التي شرعها الله أو شرع أصولها أو كلف المسلمين إياها, ليأخذوا بها في علاقتهم بالله وعلاقتهم بالناس " ثم يفصّل التعريف فيقول وإنها علي كثرتها ترجع إلي ناحيتين : ـ
1. ناحية العمل الذي يتقرب به المسلمون إلي ربهم ... وهذه الناحية المعروفة في الإسلام باسم ( العبادات ) .
2. وناحية العمل الذي يتخذه المسلمين سبيلاً لحفظ دمائهم ودفع مضارهم فيما بينهم وبين أنفسهم, وفيما بينهم وبين الناس, علي الوجه الذي يمنع المظالم وبه يسود الأمن والاطمئنان , وهذه الناحية هي المعروفة في الإسلام باسم (المعاملات وتشمل الأسرة والميراث وما يتعلق بالأموال والعقوبات)(1)
وهذا التعريف علي ما به من الحسن وإيضاح لمعني الشريعة في الإسلام غير أنه اشتمل علي قصور في التعريف حيث اشتمل القسم الأول في التعريف على أنه مقصود به التقرب إلي الله تعالي، ولا شك إن القسم الثاني إنما المراد منه أيضاً التعبد لله عز وجل وإرضاؤه والتقرب إليه سبحانه بفعله مع ما تميز به من حفظ الدماء ودفع المضار.
فنستطيع أن نقول هي مجموعه النظم والأحكام من الأوامر والنواهي والإرشادات التي يشرعها الله تعالي للأمة علي يد رسوله - صلى الله عليه وسلم - لإصلاحهم في العاجل والآجل.
ب ـ ولقد عرفها بعض علماء القانون الوضعي بقوله : " سن القواعد القانونية بواسطة السلطة المختصة في الدولة, وفقاً للإجراءات التي يرسمها الدستور )(2)
(
__________
(2) المدخل إلي علم القانون / د . علي سيد حسن صـ 125 دار النهضة العربية . ط سنة 1983 مصر(1/17)
فالتشريع هو مجموعة الأوامر والنواهي والقواعد التي يضعها فرد أو جماعة, وتختارها بواسطة من له السلطان لتحتكم إليها وتسير علي ضوئها في الحياة )(1)
فيبرز من خلال التعريف أن المشرع هو أحد الأفراد أو مجموعة الأفراد التي يرتضيها من له السلطان . في سلطة أرضية وتشريع وضعي .
ثالثاً : تعريف النظام
1- في اللغة:
لفظ النظام مفرد جمعه نظم وهو مصدر الفعل الثلاثي نظم وهو يد علي تأليف شيء وتكثيفه تقول نظمت الخرز نظماً, ونظمت الشعر والنظام الخيط يجمع الخرز(2)
والانتظام الاتساق(3)والجمع أنظمه وأناظيم, ونظم، ..وهو السيرة والهدي والعادة(4)
من التعريف اللغوي السابق للنظم يتضح أن مدلول هذه الكلمة يتسع الأمور الحسية مثل نظم اللؤلؤ وكذلك يشمل الأمور المعنوية مثل نظم الأبيات الشعرية وكذلك تشمل الطرق والعوائد التي يسير عليها الناس ( فالنظام مطلقاً يعني جمع جزيئات أمر ما في إطار منسق , وفق تفكير مسبق للوصول إلي هدف أو أهداف معينة )(5)
2 ـ في الاصطلاح
أ- لدي علماء الإسلام ( هي مجموعه القواعد والمبادئ والعادات التي تقوم عليها الحياة في ظل الإسلام والتي تحدد للإنسان حركه نشاطه في كافة المجالات ومختلف العلاقات وفي كل جانب من جوانب الحياة المتشعبة )(6)
ويعرف النظم الدكتور /علي عبد الواحد وافي بقوله :
__________
(1) الفقه الإسلامي / د. محمد سلام مد كور .- ص 8 مكتبة النهضة المصرية ط سنة 1954
(2) معجم مقاييس اللغة لابن فارس ج5 صـ 443 دار الجيل بيروت
(3) مختار الصحاح صـ 667 ط الحلبي
(4) القاموس المحيط الفيروز آبادي جـ صـ
(5) النظام الاقتصادي في الإسلام / د. أحمد أحمد غلوش صـ 25 بدون اسم الطبعة 0
(6) نظرات في نظم الإسلام وثقافته / د. مصطفي أبو سمك صـ 29 المؤسسة العربية الحديثة(1/18)
" مجموعة من القواعد والاتجاهات العامة التي تشترك في إتباعها أفرد مجتمع ما ويتخذونها أساساً لتنظيم حياتهم الجمعية وتنسيق العلاقات التي تربطهم ببعض وتربطهم بغيرهم "(1)
وهذا التعريف إنما هو تعريف عام لكل النظم غير أن التعريف الأول خصص بكونه إسلامياً وربط به وهو يعني أن النظام ربط بالمشروعية الإسلامية التي يلتزم بها المسلمون .. فليس للإمام أن ينشئ حكماً من عند نفسه بعيداً عن شريعة الله ..
__________
(1) علم الاجتماع / د. علي عبد الواحد وافي(1/19)
التعريف بأهم المصطلحات
إن من مقتضيات قواعد البحث العلمي أن يستهل الباحث دراسته بتحديد بعض المفاهيم وتوضيح بعض المصطلحات التي يقوم عليها بحثه إيضاحاً يبين صورتها ويحدد سماتها، وسيراً علي قواعد البحث العلمي أقدم لبعض المصطلحات التي يقوم عليها عنوان البحث .
أولاً : تعريف الأخلاق :
أ ـ في اللغة : -
الأخلاق جمع خُلق والخُلُق يراد به السجية , والطبع , والمروءة , والدين .
وتخلق بغير خُلُقه تكلفه .. وخالقهم : عاشرهم بخلق حسن(1)
وعلم الأخلاق علم موضوعه أحكام قيميه تتعلق بالأعمال التي توصف بالحسن أو القبح(2)
والمعاني اللغوية السابقة تشير إلى الأخلاق بأنها مجموعة من الصفات والمعاني المستقرة في النفس البشرية أو التي تحاول أن تتمسك بها والصفات التي يأمر بها دينها .
وعلم الأخلاق . علم له موضعه الذي يبحث في القيم والسلوكيات البشرية.
ب ـ تعريف الأخلاق في الاصطلاح : -
لقد تباين تعريف الأخلاق لدي العلماء المعنيين بهذا العلم وذلك حسب اتجاه كل فريق.
1 - تعريف الأخلاق في اصطلاح العلماء المسلمين :
يعرفها الإمام الغزالي بقوله : " الخلق عبارة عن هيئة في النفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهوله ويسر من غير حاجة إلي فكرٍ وروية ... فإن كانت الهيئة التي تصدر عنها الأفعال الجميلة المحمودة عقلاً وشرعاً سميت تلك الهيئة خلقاً حسناً وإن كان الصادر عنها الأفعال القبيحة سميت الهيئة التي هي المصدر خلقاً قبيحاً "(3)وقريب من هذا التعريف قال به ابن مسكويه(4)
__________
(1) القاموس المحيط الفيروز آبادي جـ3 صـ 236 ، 237 بتصرف ط دار الجيل
(2) المعجم الوجيز مجمع اللغة العربية صـ 209 ط وزارة التربية والتعليم
(3) إحياء علوم الدين للإمام الغزالي ج3 صـ 56 دار الحديث
(4) تهذيب الأخلاق لابن مسكويه صـ51(1/1)
وعرفها من العلماء المعاصرين فضيلة الدكتور على عبد الحليم بقوله : " هي مجموعة القيم والمبادئ التي تنظم سلوك الإنسان التي حددها الوحي ووضع لها من الضوابط ما يحقق الغاية من وجود الإنسان علي الأرض "(1)
والغاية من وجود الإنسان تحقيق العبودية لله والتي يترتب عليها سعادة الفرد في الدنيا والآخرة.
2- معني الخلق عند الاتجاهات غير الإسلامية :
? عند أصحاب الاتجاه النفعي: عرفوها بأنها السلوك الذي يحقق اللذة والمنفعة
? الاتجاه الاجتماعي : هي السلوك الذي يخدم الجماعة علي حساب الفرد
? أصحاب الاتجاه العقلي : يرون أنها السلوك المحاكي للمثل التي تخيلوها(2)
وبهذه التعريفات السابقة للأخلاق يتضح لنا أن الأخلاق الإسلامية إنما مصدرها الوحي وأن لها غاية وهي تحقيق الكمال البشري للإنسان وأنها مضبوطة بضوابط الشريعة التي لا تؤثر فيها الميول الشخصية، ولا النزعة الجماعية، ولا الأفكار المثالية التي يستحيل أن تطبق على أرض الواقع.
ثانيا ً:- تعريف التشريع :
1- في اللغة :
التشريع مصدر شرّع ـ بتشديد الراء ـ مأخوذ من الشريعة يقول صاحب مقاييس اللغة ( والشين والراء والعين أصل واحد وهو شيء يفتح في امتداد يكون فيه. ومن ذلك الشريعة, وهي مورد الشاربة الماء, واشتق من ذلك الشرعة في الدين )(3)
وجاء في لسان العرب ( الشريعة هي الموضع الذي ينحدر منه الماء وهي مشتقة من التشريع وهو إيراد الإبل شريعة لا يحتاج معها إلي نزع بالعلق ولا سقي في الحوض فيقال في المثل. أهون السقي التشريع .
__________
(1) فقه الدعوة إلي الله د/ علي عبد الحليم محمود نقلاً عن طرق التدريس الحديثة د/ ماجد يحيي العويسان ج2 ص9
(2) منهج التربية عند الإخوان المسلمين،د/ على عبد الحليم نقلا عن المصدر السابق ج2 ص9
(3) معجم مقاييس اللغة لابن فارس دار الجيل بيروت ط1 سنة 1991(1/2)
وقال الليث: وبها سمي ما شرع الله للعباد شريعة من الصوم والحج والنكاح وغيره والشريعة ما سن الله من الدين وأمر به .
قال الفراء. في قوله تعالي :
{ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ }(1)علي دين وملة ومنهاج , وشرع الدين يشرعه شرعاً سنه،
وفي التنزيل : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً }(2)أي أظهر(3)
2 – في الاصطلاح : لقد كثرت التعاريف لمصطلح التشريع - وكما هو معلوم أن ذلك مرجعه إلي اختلاف المعرّفين حول الجهة التشريعية الصادر عنها التشريع والتي تكون مصدراًً للإلزام بالأمر والنهي . ومن هذه التعريفات :
* اذكر الأتي
أ-عرفها فضيلة الإمام محمود شلتوت بقوله : " إن الشريعة اسم للنظم والأحكام التي شرعها الله أو شرع أصولها أو كلف المسلمين إياها, ليأخذوا بها في علاقتهم بالله وعلاقتهم بالناس " ثم يفصّل التعريف فيقول وإنها علي كثرتها ترجع إلي ناحيتين : ـ
1. ناحية العمل الذي يتقرب به المسلمون إلي ربهم ... وهذه الناحية المعروفة في الإسلام باسم ( العبادات ) .
2. وناحية العمل الذي يتخذه المسلمين سبيلاً لحفظ دمائهم ودفع مضارهم فيما بينهم وبين أنفسهم, وفيما بينهم وبين الناس, علي الوجه الذي يمنع المظالم وبه يسود الأمن والاطمئنان , وهذه الناحية هي المعروفة في الإسلام باسم (المعاملات وتشمل الأسرة والميراث وما يتعلق بالأموال والعقوبات)(4)
__________
(1) سورة الجاثية أية رقم (18)
(2) سورة الشورى أية رقم (13)
(3) لسان العرب لابن منظور ج4 صـ 238 دار المعارف مصر سنة 1981
(4) الإسلام عقيدة وشريعة د/ محمود شلتوت ص 73 دار الشروق(1/3)
وهذا التعريف علي ما به من الحسن وإيضاح لمعني الشريعة في الإسلام غير أنه اشتمل علي قصور في التعريف حيث اشتمل القسم الأول في التعريف على أنه مقصود به التقرب إلي الله تعالي، ولا شك إن القسم الثاني إنما المراد منه أيضاً التعبد لله عز وجل وإرضاؤه والتقرب إليه سبحانه بفعله مع ما تميز به من حفظ الدماء ودفع المضار.
فنستطيع أن نقول هي مجموعه النظم والأحكام من الأوامر والنواهي والإرشادات التي يشرعها الله تعالي للأمة علي يد رسوله - صلى الله عليه وسلم - لإصلاحهم في العاجل والآجل.
ب ـ ولقد عرفها بعض علماء القانون الوضعي بقوله : " سن القواعد القانونية بواسطة السلطة المختصة في الدولة, وفقاً للإجراءات التي يرسمها الدستور )(1)
( فالتشريع هو مجموعة الأوامر والنواهي والقواعد التي يضعها فرد أو جماعة, وتختارها بواسطة من له السلطان لتحتكم إليها وتسير علي ضوئها في الحياة )(2)
فيبرز من خلال التعريف أن المشرع هو أحد الأفراد أو مجموعة الأفراد التي يرتضيها من له السلطان . في سلطة أرضية وتشريع وضعي .
ثالثاً : تعريف النظام
1- في اللغة:
لفظ النظام مفرد جمعه نظم وهو مصدر الفعل الثلاثي نظم وهو يد علي تأليف شيء وتكثيفه تقول نظمت الخرز نظماً, ونظمت الشعر والنظام الخيط يجمع الخرز(3)
والانتظام الاتساق(4)والجمع أنظمه وأناظيم, ونظم، ..وهو السيرة والهدي والعادة(5)
__________
(1) المدخل إلي علم القانون / د . علي سيد حسن صـ 125 دار النهضة العربية . ط سنة 1983 مصر
(2) الفقه الإسلامي / د. محمد سلام مد كور .- ص 8 مكتبة النهضة المصرية ط سنة 1954
(3) معجم مقاييس اللغة لابن فارس ج5 صـ 443 دار الجيل بيروت
(4) مختار الصحاح صـ 667 ط الحلبي
(5) القاموس المحيط الفيروز آبادي جـ صـ(1/4)
من التعريف اللغوي السابق للنظم يتضح أن مدلول هذه الكلمة يتسع الأمور الحسية مثل نظم اللؤلؤ وكذلك يشمل الأمور المعنوية مثل نظم الأبيات الشعرية وكذلك تشمل الطرق والعوائد التي يسير عليها الناس ( فالنظام مطلقاً يعني جمع جزيئات أمر ما في إطار منسق , وفق تفكير مسبق للوصول إلي هدف أو أهداف معينة )(1)
2 ـ في الاصطلاح
أ- لدي علماء الإسلام ( هي مجموعه القواعد والمبادئ والعادات التي تقوم عليها الحياة في ظل الإسلام والتي تحدد للإنسان حركه نشاطه في كافة المجالات ومختلف العلاقات وفي كل جانب من جوانب الحياة المتشعبة )(2)
ويعرف النظم الدكتور /علي عبد الواحد وافي بقوله :
" مجموعة من القواعد والاتجاهات العامة التي تشترك في إتباعها أفرد مجتمع ما ويتخذونها أساساً لتنظيم حياتهم الجمعية وتنسيق العلاقات التي تربطهم ببعض وتربطهم بغيرهم "(3)
وهذا التعريف إنما هو تعريف عام لكل النظم غير أن التعريف الأول خصص بكونه إسلامياً وربط به وهو يعني أن النظام ربط بالمشروعية الإسلامية التي يلتزم بها المسلمون .. فليس للإمام أن ينشئ حكماً من عند نفسه بعيداً عن شريعة الله ..
__________
(1) النظام الاقتصادي في الإسلام / د. أحمد أحمد غلوش صـ 25 بدون اسم الطبعة 0
(2) نظرات في نظم الإسلام وثقافته / د. مصطفي أبو سمك صـ 29 المؤسسة العربية الحديثة
(3) علم الاجتماع / د. علي عبد الواحد وافي(1/5)
المبحث الأول
تعريف الإلزام بين الإسلام وغيره من النظم
أولاً : في اللغة :
الإلزام مصدر للفعل لزمَ ومضارعه يلزم واسم الفاعل لازم ،واسم المفعول ملزوم وملزم .ولزم الشيء يلزمه لزماً ولزوماً ... ولزاماً ،والتزمه : ألزمه إياه فالتزمه .
واللّزام الفعيل جداً ... قال الله تعالى :
{ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً } أي لازما - أي عذاباً لازماً لكم(1)
ومن خلال التعريف اللغوي للإلزام يتضح أنه يوجد :
1 ـ ملزمَ للشيء : وهو جهة ومصدر الإلزام وهو اسم الفاعل لازم .
2 ـ ( ملزوم بالشيء وملزم به ) وهو الواقع عليه الإلزام والمأمور بتنفيذه ـ وهو اسم
المفعول من الفعل لزمَ.
3 ـ النتيجة الحتمية لأسم الفاعل واسم المفعول وهي الأوامر المراد تحقيقها.
ثانياً : تعريف الإلزام في الاصطلاح :
أ ـ في الشرع الإسلامي :-
وردت عده تعريفات للإلزام - لدي علماء لإسلام - ومنها :
1- الإلزام . هو أن تحكم علي الإنسان بحكم ما فإما واجب أو غير واجب(2)
2 - يقول الراغب الأصفهاني أن " الإلزام ضربان "(3)
أ - إلزام بالتسخير - إما بتسخير من الله أو بتسخير من الإنسان .
ب - وإلزام بالحكم والأمر نحو قوله تعالى: " { أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ }(4)
__________
(1) راجع في ذلك أ – لسان العرب ابن منظور دار صادر ج 12 ص542 مادة ( لزم )
ب – كتاب العين الخليل بن أحمد الفراهيدى دار الهلال ج7 ص372
ج – المفردات في غريب القراّن / الراغب الاصفهانى ص453 المكتبة التو فيقيه القاهرة
(2) الأحكام في أصول الأحكام ابن حزم الأندلسي . ج1 صـ 56 سنة 1978 تحقيق / محمد احمد عبد العزيز
(3) المفردات في غريب القرآن / الراغب الأصفهاني صـ 453 المكتبة التوفيقية القاهرة
(4) سورة هود جزء من الآية رقم 28
(5) سورة الفتح جزء من الآية 26 (6) سورة الفرقان جزء من الآية رقم 77(1/1)
وقوله تعالى: { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقوى }(1)وقوله تعالى: { فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً }(2)
وقوله تعالى : { وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمّىً }(3)
وكذلك مما ورد في تعريف الإلزام أنه ( إلزام المكلف بتصديق ما قرره الله من الحق وتنفيذ ما شرعة من الأحكام. والأخذ بما وصي به من مكارم الأخلاق والعزوف عما نهي عنه من مساوئها "(4)
ب ـ تعريف الإلزام عند الفلاسفة :
أولاً :هو الرابطة الحقوقية التي يكون بها فعل الشيء أو عدم فعله واجباً علي الشخص تجاه الآخر. فهو إذن علاقة حقوقية بين شخصين يسمي أحدهما دائناً ... ويعتبر من جهته إلزاما والثاني مدين ويعتبر ملتزماً
ثانياً : الإلزام الخلقي : وهو النوع الثاني من معاني الإلزام في اصطلاح الفلاسفة وهو لا ينشأ عن عقد , بل ينشأ عن طبيعة الإنسان من حيث هو قادر علي الاختيار بين الخير والشر.
فما كان فعله أو عدم فعله ممكناً من الناحية المادية ثم وجب حكمه من الناحية الخلقية كان إلزامياً .
ثالثاً: مفهوم الإلزام عند كانت :
إذا كان الإلزام مطلقاً كالأمر المطلق الذي تكلم عليه ( كانت ) كان له بحرية الاختيار علاقة وثيقة, لأنه لا معني للأمر المطلق إذا كان سلوك الإنسان نتيجة لطبيعته, فالإلزام إذاً قانون الحرية ولا معني للإلزام إلا إذا أوجب الإنسان علي نفسه فعل الشيء أو عدم فعله من ذاته وبملء حريته.
رابعاً: تعريف الإلزام عند دوركايم يعتبر الإلزام عند دوركايم صورة من صور القسر الاجتماعي ويمكن الجمع بين مفهوم الإلزام وبين الحتمية الاجتماعية(5)
__________
(3) سورة طه جزء من الآية رقم 129
(4) القرآن في التربية الإسلامية – الشيخ نديم الجسر صـ 102 بحث منشور في مجلة مجمع البحوث
الإسلامية . بعنوان – التوجيه الإسلامي للشباب سنة 1391
(5) اعتمدت علي تعريف الإلزام عند الفلاسفة بالأتي :
1- موسوعة لالاند الفلسفية المجلد الثاني ط 1 سنة 1996 صـ 898 منشورات عويدات بيروت –
تعريب خليل أحمد خليل
2- المعجم الفلسفي تأليف جميل صليبا . دار الكتاب اللبناني صـ 121، صـ 122 ط1 سنة 1971 بيروت
3- المعجم الفلسفي . مجمع اللغة العربية – لقاهرة صـ 20(1/2)
لدي دوركايم 0
تعريف الإلزام عند القانونيين :
الإلزام والالتزام بمعني واحد إذ أن كل التزام يستلزم وجوده وجود ثلاثة أشياء :
1ـ ملتَزمَ به : وهو العقد الناشئ بين طرفين أو الفعل أو عدمه .
2ـ وملتَزِم : وهو الفاعل للالتزام .
3 ـ وملتَزم له : وهو جهة إصدار الأوامر أو الفعل(1)
وبالرجوع إلي المعاني اللغوية للإلزام نجد هذه المفردات قريبة من تعريف الإلزام في اللغة .
ولقد عرف القانونيون الالتزام بقولهم : " الالتزام وضع قانوني المقصود منه قيام أشخاص معينين بعمل أو امتناع عن عمل ذي قيمة مالية أو أدبية )(2)
ومنها أيضاً : رابطة قانونية توجب علي شخص معين أن ينقل حقاً عينياً أو أن يمتنع عن عمل(3)
ومن خلال التعاريف السابقة للإلزام الخلقي نجد قصوراً احتوت عليه هذه التعريفات وهذا القصور ممثل في الآتي :
1 ـ أنه تعريف غير جامع .
2 ـ أنه لا علاقة له بالدار الآخر والسعادة الدنيوية . ويتضح ذلك في النقاط التالية :
أ ـ أن التعريف لدي الفلاسفة اتجه إلي مصدر الإلزام القائل به كل اتجاه فلدي
دوركايم ـ اتجه به إلي المجتمع وجعله الحتمية الاجتماعية، إذا فما كان عن
إرادة الله وأمره ليس إلزاما,وما كان عن طبيعة الإنسان ملزماً نفسه لا يكون إلزاماً.
ب ـ والتعريف كذلك لدي كانت فيه قصور ـ إذ جعل كل جهة آمرة للإنسان
خارج الإنسان لا يعد ذلك إلزاما.ً
ج ـ وفي التعريف الثاني لدي الفلاسفة نجد أنهم جعلوه غير ناشئ عن عقد بل ناشئ
عن طبيعة الإنسان وحريته.
وبذلك فما كان صادراً عن الإرادة العليا بموجب العقد التشريعي لا يكون إلزاما. وهو مخالف لما أعده الشرع إلزاماً من هذه الجهة .
قال تعالى :
{
__________
(1) الالتزام في الشرع الإسلامي صـ 22 أحمد إبراهيم بك دار الأنصار
(2) مصادر الالتزام عبد المنعم فرج الصده صـ 20 دار النهضة العربية
(3) الالتزام في الشرع الإسلامي أحمد إبراهيم بك مرجع سابق صـ 22(1/3)
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ
بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ }(1)
ونستطيع أن نعرف الإلزام في الشرع الإسلامي بقولنا
" هو كل تكليف صادر من الله عز وجل إلي الإنسان للعمل به وتطبيق ما شرعه من أحكام وما أوصي به من فضائل لينال به السعادة في العاجل والآجل , وكل إلزام التزم به الإنسان من قبل نفسه في طاعة ربه واجتناب مناهيه "
المبحث الثاني
مصدر الإلزام في الشرع الإسلامي
المطلب الأول تمهيد
اتفقت كلمه المسلمين علي أن مصدر الأحكام الشرعية والأوامر التكليفية إنما مصدرها هو الله سبحانه وتعالى . واتفقوا كذلك علي أنه لا حاكم إلا الله ولا حكم إلي ما حكم الله تعالى به. وهذا هو رأي المسلمين قاطبة, وهو الرأي الذي نطقت بها اتجاهات الفكر الإسلامي بأنواعها المختلفة, فلقد أقر الجميع أن العقل لا حكم له, وإن اختلفت هذه الاتجاهات الفكرية في إمكانيات العقل.
__________
(1) سورة الأعراف الآية رقم ( 172 )(1/4)
أيمكن أن يدرك الأحكام ويبينها, ويكشف عنها, ويهدي صاحبه إليها دون أن يتوقف ذلك علي ورود الشرع وبيانه؟ ـ وهؤلاء هم المعتزلة(1)
أم أن أدلة الشرع تستقل بذلك والعقل ( لا يدرك وجوب واجب في حكم التكليف عقلاًـ ومدارك موجبات التكليف الشرائع, ولا نتوصل بقضية العقل قبل استقرار الشريعة إلي درك موجب, ولا حظر, ولا مباح, ولا ندب)؟(2)وهؤلاء هم الأشاعرة(3)
__________
(1) المعتزلة :- هم فرقة إسلامية نشأت في أواخر العصر الأموي وازدهرت في العصر العباسي واعتمدت علي العقل المجرد في فهم العقيدة الإسلامية لتأثرها ببعض الفلسفات المستوردة مما أدي إلي انحرافها عن عقيدة أهل السنة والجماعة وقد أطلق عليها أسماء مختلفة – المعتزلة القدرية والعدلية وأهل العدل والتوحيد – ومن مبادئهم الاعتماد علي العقل كلياً في الاستدلال العقلي لعقائدهم ومن أثار ذلك أنهم حكموا بحسن الأشياء وقبحها عقلاً- الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب – الدكتور مانع بن حماد الجهني ط 3 – ج1 – صـ 69 وما بعدها صادرة عن الندوة العالمية للشباب الإسلامي .
(2) الشامل في أصول الدين الإمام الجو يني تحقيق الدكتور/ علي سامي النشار منشأة المعارف ط سنة 1969 صـ 115
(3) تعريف الأشاعرة :هم فرقة كلامية إسلامية تنسب لأبي الحسن الأشعري الذي خرج علي المعتزلة . وقد اتخذت الأشاعرة البراهين والدلائل العقلية والكلامية وسيلة في محاججة خصومها من المعتزلة والفلاسفة وغيرهم ، لإثبات حقائق الدين والعقيدة الإسلامية ومن أبرز أئمة المذهب، القاضي أو بكر الباقلاني ( 328 – 403 ) وأبو حامد الغزالي من (450 – 505 هـ ) إمام الحرمين الجويني من ( 419 – 478 هـ) - المرجع السابق – الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة / دكتور مانع بن حماد الجهني ط3 الناشر دار الندوة العالمية للطباعة ج1 صـ 87 وما بعدها .(1/5)
فالمعتزلة الذين قالوا إن للأفعال حسناً وقبحاً عقليين أي يدركها العقل, لم يذهبوا إلي أكثر من اتخاذ الوصفين أساساً لحكم الله سبحانه يصدر علي موقفها ـ فالعقل لا دخل له في إنشاء الأحكام وإصدارها(1),
وهذا محل اتفاق بين جميع الاتجاهات الإسلامية ,ومصدر هذا الاتفاق الذي نطق به جموع علماء المسلمين وفقهائهم ,هو القرآن الكريم. فهو المصدر الفكري الذي استقي منه المسلمون هذا الحكم الذي نطقوا به, ولقد بين القرآن الكريم أن مصدر الحكم والإلزام بالأمر هو الله سبحانه وتعالى , وجعل ذلك عقيدة يجب أن يعتقدها أهل الإسلام جميعا.
قال الله تعالى : { ..... تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ .... }(2)
والآية السابقة يفهم منها نفى الألوهية عن غير الله تعالى فلا يستحق الألوهية أحد سواه.
وكذلك نهت الآية القرآنية عن اتخاذ الأرباب من دون الله تعالى كما وصف سبحانه وتعالى ـ المحللين والمحرمين من غير الله تعالى بالكفر.
فقال تعالى: { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً
وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ
زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }(3)
كما وصفهم الله تعالى - بالشرك - فقال تعالى :
{
__________
(1) راجع في ذلك المشروعية الإسلامية العليا المستشار علي جريشة صـ 29 دار الوفاء
(2) سورة آل عمران آية 64 . (2) سورة التوبة آية 37
(3) سورة الأنعام آية رقم 148 (4) سورة النحل آية رقم 35(1/6)
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ }(1)
وقال تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ
وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ } (4)
فلا خلاف بين علماء المسلمين في أن مصدر الأحكام الشريعة لجميع أعمال المكلفين هو الله سبحانه وتعالى (5)
{ فهو الذي خلق الإنسان ووضع النظام الأخلاقي وهو الذي يعلم الظاهر والباطن والسر والعلن { إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ } "(2)
وهو الذي يراقب الناس في سلوكهم وأعمالهم { إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ }(3)
وأنه يسجل كل شئ .فقال سبحانه وتعالى :
{ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ }(4)(2)
__________
(1) انظر في ذلك : أ- د/ سامية عبد الرحمن عبد السلام القيم الأخلاقية دراسة نقدية في الفكر الإسلامي والفكر المعاصر
– ط1 مكتبة النهضة المصرية ص29
ب- مبادئ القسم العام من التشريع الجنائي دراسة مقارنة دكتور رأفت حلاوة .- مطبعة الأزهر بدون
رقم طبعة . صـ 19
(2) سورة الأعلى الآية 7 (7) الفجر الآية رقم 14
(4) يس الآية رقم 12
(2) انظر في ذلك الاتجاه الأخلاقي في الإسلام دراسة مقارن د/ مقداد يلجن ط أولى 1973 م الخانجي
القاهرة
(3) سورة يوسف الآية رقم 40
(4) سورة الأعراف جزء من الآية رقم 54
(5) سورة الزخرف الآية رقم 43 (6) سورة الأنعام آية رقم ( 162 – 163 )(1/7)
فهذه الخصائص التي انفرد بها الحاكم - سبحانه وتعالى - من خلق وتدبير وعلم ومراقبة وتسجيل كل شئ وإحصائه، هذه الصفات وغيرها التي ثبتت لله تعالى - هي التي أهلته لأن يكون هو مصدر الأحكام دون غيره من المخلوقين وجعلته حقاً خالصاً لله تعالى ولا يجوز لأحد غيره .
ولذلك نجد أن القرآن الكريم كثيراً ما يؤكد ويقرر الحاكمية لله عز وجل
فقال تعالى :
{ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ }(1)
فاستحقاق نفوذ الحكم لا يكون إلا لمن له الخلق , فإنه النافذ حكمه. المالك علي أمور الناس أجمعين. قال تعالى : { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } (4)
ويجعل الله تعالى - صلى الله عليه وسلم - قدوتنا في هذا الأمر في خضوعه لله رب العالمين وتمسكه بشرعة سبحانه فيلقي إليه الأمر الجازم بأن يستمسك بهذا الشرع :
{ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (5)
بل يأمره أن يطبق ذلك تطبيقاً ويعلنه إعلاناً ويكون أول القائمين به :
{ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } (6)
إذا فمصدر الإلزام في الإسلام هو بارئ الخلق وفاطرهم ومدبر أمورهم والقائم علي شئونهم(1)(1/8)
ولقد تقرر فيما سبق أن(1)مصدر الإلزام الوحيد في الإسلام ـ هو الله وحده ـ ولا شريك له في حق التشريع وإلزام العباد, اللهم إلا إذا كان هذا الإلزام بموجب الله تعالى .
ولقد أعلم الله تعالى عباده بمراده عن طريق الوحي الإلهي للأنبياء والرسل قال تعالى :
{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (2)
والوحي الذي أوحي الله به إلي عباده قسمان : ـ
الأول : القرآن الكريم
الثاني : سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -
المطلب الثاني
القرآن الكريم مصدر التشريع
1- تعريفه :
للعلماء تعريفات كثيرة في بيانهم لمعني القرآن الكريم نورد منها الآتي :
* عند الأصوليين :
( اللفظ المنزل علي محمد - صلى الله عليه وسلم - للإعجاز بسورة منه المتعبد بتلاوته المنقول بالتواتر "(2)
__________
(1) انظر في ذلك :
أ- الأخلاق بين الفلسفة وعلم الاجتماع د/ السيد محمد بدوي دار المعرفة صـ 72
ب- المسئولية والجزاء في القرآن . محمد إبراهيم الشافعي صـ 23 بتصرف . دار النهضة
المصرية الطبعة الأولي .
ج- مبادئ القسم العام من التشريع الإسلامي الجنائي . رأفت عبد الفتاح حلاوة صـ 19 بتصرف
(2) سورة الشورى الآية رقم 52
(2) المقاصد العامة للشريعة الإسلامية صـ 55 دار الحديث دكتور يوسف حامد العالم وكذلك انظر النبأ العظيم
نظرات جديده في القرآن الكريم / دكتور محمد عبد الله دراز صـ 10 دار الرابطين الإسكندرية ط1(1/9)
ويعرفه الشيخ عبد الوهاب خلاف بقوله : "هو كلام الله نزل به الروح الأمين علي قلب رسول الله _ محمد بن عبد الله ( عليه الصلاة والسلام ) بألفاظ العربية ومعانيه الحق ليكون حجة للرسول علي أنه رسول الله ودستوراً للناس يهتدون بهداه وقربة يتعبدون بتلاوته , وهو المدون بين دفتي المصحف المبدوء بسورة الفاتحة والمختوم بسورة الناس , المنقول إلينا بالتواتر ويشافهه الناس جيلاً عن جيل , محفوظاً من أي تغير أو تعديل "(1)
مصداق قوله تعالى : فيه { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }(2)
وهذا التعريف السابق يشتمل علي عدة مميزات, يتضح من خلالها وظيفة القرآن الكريم والغاية من إنزاله, ومنها :-
1ـ أنه حجه للرسول - صلى الله عليه وسلم - وتأيد له أنه من عند الله مرسل
2ـ دستور لهذا الأمة تحتكم إليه .
وهاتان الوظيفتان من أهم ما يتميز به التعريف السابق .
2 ـ وظيفة القرآن(3)الكريم :
للقرآن الكريم وظائف كثيرة كما أشار إليها التعريف السابق ,وظيفة الحكم فمنذ نزول القرآن وهو في مكة أشار إلي الوظيفة الأولي له،
فقال الله تعالى :
{ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ }(4)
وقال تعالى :
{
__________
(1) علم أصول الفقة . الشيخ عبد الوهاب خلاف صـ 73 الطبعة السابقة 1376 هـ - 1956
(2) الحجر الآية رقم 9
(3) سمي قرأناً لكونه مقروءا أي متلواً بالألسن ، وسمي كتاباً لكونه مكتوباً أي مدوناً بالأقلام فكلتا التسميتين من
تسمية الشيء بالمعني الواقع عليه وفي تسميته بهذين الاسمين إشارة إلي أن من حقه العناية به في موضعين
لا في موضع واحد ، أي يجب حفظة في الصدور وفى السطور .
انظر هذا المعني في كتاب النبأ العظيم / دراز صـ 5 ، 6 – دار المرابطين الإسكندرية
(4) الشورى الآية رقم 10(1/10)
اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ }(1)
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينبه إلي وظيفة القرآن الكريم بقوله :
{ فبه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم . وحكم ما بينكم }(2)
ولقد أدرك السابقون الأولون قدر ذلك الكتاب وفهموا وظيفته الأولي من قوله تعالى:
{ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } )(3)
المطلب الثالث
السنة النبوية
1 - تعريفها : ـ
للسنة تعريفات عند الفقهاء والمحدثين والأصوليين وعند علماء الدعوة والمشتغلين بهاـ ونذكر منها الآتي:-
أولاً : السنة عند الفقهاء.
هي (ما واظب عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يدل دليل من الكتاب والسنة على وجوبه)(4)
أو هي ( الطريقة المسلوكة في الدين من غير افتراض ولا وجوب فالسنة ما واظب عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الترك أحياناً . فان كانت المواظبة المذكورة علي سبيل العبادة فسنة الهدى أي إقامتها حسنة، ولا يتعلق بتركها كراهة ولا إساءة كسنن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قيامه وقعوده ولباسه وأكله )(5)
__________
(1) سورة الأعراف رقم 3
(2) الحديث أخرجه الترمذي في فضائل القرآن . من رواية الحارث عن علي بن أبي طالب وقال عنه الترمذي
. هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه وإسناده مجهول وفي الحارث مقال أ . هـ
وحكم عليه الشيخ الألباني بالضعف في السلسة الضعيفة برقم 1776
(3) انظر في ذلك المشروعية الإسلامية العليا . المستشار علي جريشة دار الوفاء صـ 92
(4) شذرات من علوم السنة ج1 دكتور محمد الأحمدي أبو النور صـ 42 طبعة المجلس الاعلي للشئون
الإسلامية ع1 سنة 1986
(5) انظر كتاب التعريفات . للشريف علي بن محمد الجرجاني . دار الكتب العلمية بيروت صـ 82 ،83(1/11)
ثانياً : عند المحدثين : ( هي كل ما يضاف إلي النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير أو
صفة خلقية أو خلقية(1)
ثالثاً : عند علماء الأصول :
هي المصدر الثاني للتشريع وهو لفظ يقابل الكتاب والإجماع والقياس(2)
(وهم الذين عنوا في أبحاثهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حيث هو مشرع عن الله أو بإقرار من الله عز وجل ومن حيث هو الذي يضع القواعد للمجتهدين من بعده ويبين للناس ما أنزل إليهم , ويمثل ما جاء عنه : الأصل الثاني للأدلة بعد كتاب الله عز وجل , وغاية الأصوليين هي أدلة الأحكام وأصولها من الكتاب والسنة والإجماع والقياس فالسنة عندهم أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وتقريرا ته التي ثبتت عنه بعد البعثة )(3)
2- حجية السنة النبوية :
السنة النبوية : أصل من أصول التشريع الإسلامي وحجة علي جميع المسلمين فلقد اتفق العلماء على اعتبار السنة المحمدية المطهرة ثانية المصادر في الميدان التشريعي، ولقد نص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة علي حجية السنة علي صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم ـ ونشير إلي ذلك بشيء من التفصيل : ـ
أ ـ نصوص القرآن الكريم الدالة علي حجية السنة النبوية المطهرة :
فالمتأمل في آيات القرآن العزيز يجد أن الله ـ سبحانه وتعالى يأمرنا باتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - اتباعاً لا تشوبه معصية اتباع المطيع المسلّم , بل ويجعله أساس حب الله تعالى .
قال تعالى :
{
__________
(1) مكانة السنة في التشريع الإسلامي الشيخ / مصطفي كمال النازري بحث مقدم إلي المؤتمر العالمي للسيرة
النبوية – المؤتمر العاشر – مجمع البحوث الإسلامية ج2 صـ 72
(2) المصدر السابق صـ 70
(3) شذرات من علوم السنة / دكتور محمد الأحمدي أبو النور – مرجع سابق صـ 42(1/12)
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }(1)
ولقد حذر القرآن الكريم من مخالفة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ صغر ذلك أم كبرـ فإن فيه الهلاك والضياع وجلب الفتن علي النفس البشرية، فقال تعالى :
{ لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }(2)
( وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو سبيله ومنهجه وسنته وطريقته وشريعته كما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : { من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد }(3)
وجعل الله تعالى طاعة الرسول هي علامة الإيمان بالله عز وجل , وينتفي الإيمان بعدم التسليم له والإذعان لحكمه والخضوع لأمره فقال الله تعالى :
{ فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً }(4)
وقال تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }(5)
__________
(1) سورة آل عمران جزئ من آية رقم 35
(2) سورة النور جزء من الآية رقم 63
(3) انظر تفسير بن كثير تفسير الآية الكريمة السابقة ج2 ص342
(4) سورة النساء الآية رقم 65
(5) النساء أية رقم 59(1/13)
ويفاد من الآية السابقة نفي الإيمان عمن لا يتحاكم إلي الله وإلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فأفادت بأن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرنا القرآن بإتباعها باعتبارها مصدراً من مصادر التشريع الرباني فلقد
( أمر الله بطاعة الله وطاعة رسوله وذلك بمعني طاعة الشريعة فإن الله هو منزل الشريعة ورسوله مبلغها والحاكم بها في حضرته(1)سبحانه وتعالى )
* يقول العلامة ابن القيم في توضيحه للآية الكريمة السابقة : " وأعاد الفعل ـ قوله تعالى ( وأطيعواْ ) مع أن حرف العطف يغني عن إعادته ـ إعلاماً بأن طاعة الرسول تجب استقلالاً من غير فرض ما أمر به علي الكتاب بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقاً سواء كان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه فإنه أوتي الكتاب ومثله معه , ولم يأمر بطاعة أولي الأمر استقلالاً , بل حذف الفعل , وجعل طاعتهم ضمن طاعة الرسول إيذاناً بأنهم إنما يطاعون تبعاً لطاعة الرسول , فمن أمر منهم بطاعة الرسول وجبت طاعته , ومن أمر بخلاف ما جاء به الرسول فلا سمع ولا طاعة "(2)
وفي النص السابق لابن القيم يتضح لنا الآتي : ـ
1ـ أن الله تعالى جعل طاعة الرسول من أوامر ونواهي واجبة التنفيذ وجعلها طاعة مستقلة وإن لم يدل الكتاب الكريم علي معني ما أمر به - صلى الله عليه وسلم - أو نهي عنه .
2ـ أن هذه الطاعة المطلقة منا خاصة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وليس لأحد هذه الطاعة المطلقة .
__________
(1) انظر تفسير التحرير والتنوير / محمد بن محمد الطاهر بن عاشور ج5 صـ 96 ،97 الدار التونسية للنشر 1984م
(2) إعلام الموقعين بن القيم ج1 صـ 48 دار الحديث(1/14)
قال الشاطبي رحمة الله : " كما أنه إذا شرع حكماً أو أقر أو نهي فهو كما قال عليه الصلاة والسلام لا يفرق في ذلك بين ما أخبر به الملك عن الله وبين ما نفث في روعه وألقت في نفسه ،أو رآه رؤية كشف واطلاع علي مغيب علي وجه خارق للعادة , أو كيفما كان , فذلك معتبر يحتج به , وينبني عليه في الاعتقادات والأعمال جميعاً , لأنه - صلى الله عليه وسلم - مؤيد بالعصمة وما ينطق عن الهوى )(1)
ولقد من الله تعالى علي حبيبه محمد - صلى الله عليه وسلم - بما علمه وبما آتاه من الوحي والمنزلة التي أنزله إياها .
فلقد وضع الله رسوله من دينه وفرضه وكتابه الموضع الذي أبان جل ثناؤه أنه جعله علي الدين فقال الله تعالى :
{ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ
وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً }(2)
فالحكمة التي امتن الله تعالى علي رسوله هي السنة النبوية المطهرة .
روي الشافعي ذلك عن أئمة ثقات إذ قال رحمه الله تعالى : " سمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول : الحكمة . سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "(3)
وهو قول جماعة من التابعين والسلف أمثال الحسن وقتادة ومقاتل بن حيان وأبو مالك(4)
ب ـ الأدلة من السنة النبوية علي حجية السنة النبوية المطهرة :
__________
(1) الموافقات في أصول الأحكام : لأبي اسحق الشاطبى ج4 صـ 52
(2) سورة النساء جزء من الآية رقم (113 )
(3) انظر الرسالة للشافعي صـ 78 بتحقيق أحمد محمد شاكر دار التراث
(3) انظر في ذلك تفسير بن كثير ج1 صـ 175 طبعة بيروت(1/15)
وردت مجموعة من الأحاديث النبوية تبين حجية السنة وتجعلها مصدراً من مصادر الإلزام لدي المسلمين وعنصر من عناصر التشريع الإسلامي والتي لا تنفك أن تكون مثل القرآن الكريم الكتاب الخالد , ومن جملة هذه الأحاديث ما يأتي : ـ
1ـ أخرج البخاري : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : { فمن رغب عن سنتي فليس مني }(1)
2ـ ما رواه أبو داود في سننه عن المقداد بن معد يكرب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : { ألا إنني أوتيت الكتاب ومثله معه , ألا يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته يقول عليكم بالقرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه , ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي, ولا كل ذي ناب من السباع , ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها , ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه , فإن لم يقروه فعليه أن يعقبهم بمثل قراه }(2)
3ـ عن حسان بن عطية قال
{ كان جبريل ينزل علي النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسنة كما ينزل عليه بالقران }(3)
4ـ عن أبي أمامه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : { ليدخلن الجنة بشفاعة رجل ليس بنبي مثل الحييّن أو مثل أحد الحييّن ربيعة ومضر فقال قائل يا رسول الله , وما ربيعة من مضر فقال : إنما أقول ما أقول }(4)
__________
(1) صحيح البخاري ك النكاح – باب الترغيب في النكاح ومسلم ك النكاح باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إلية
(2) سنن أبي داود ك السنة باب في لزوم السنة . وسنن الترمذي ك، العلم باب ما نهي أن يقال عند النبي - صلى الله عليه وسلم -
سنن ابن ماجة المقدمة باب تعظيم حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -
(3) سنن الدار مي في المقدمة باب السنة قاضية علي الكتاب والحديث برقم ( 594 ) دار الدعوة
(4) مسند الإمام احمد (باقي مسند الأنصار . باب حديث أبي أمامة الباهلي . وقال شاكر إسناده صحيح ج16 صـ
238 ط دار الحديث بالقاهرة والحديث برقم (22116)(1/16)
فالحديث الأول إنما يدل علي نفى الإيمان عمن لم يتبع سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وفي الحديث الثاني والثالث يتضح أن السنة توحي إليه - صلى الله عليه وسلم - من ربه وأنه لا يقولها من خاطره إنما يؤمر بها، وبعد عرض الآيات القرآنية الواردة في حجية السنة المطهرة والأحاديث النبوية التي دلت علي ذلك يتضح لنا بجلاء أن السنة النبوية هي أصل من أصول التشريع الإسلامي ولا ينكر ذلك إلا جاحد أو من ليس له أدني معرفة بالشرع الإسلامي ( فثبوت حجية السنة المطهرة واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية , ولا يخالف في ذلك إلا من لاحظ له في الإسلام )(1).
وعن مكحول قال : " القرآن أحوج إلي السنة من السنة إلي القرآن " .
وقال الإمام أحمد : " إن السنة تفسر الكتاب وتبينه "(2)
وروي الأوزاعي عن يحي بن أبي كثير قال : " السنة قاضية علي القرآن ،وليس القرآن بقاض علي السنة "(3)
ج ـ منزلة السنة من القرآن الكريم :
السنة هي الأصل الثاني من أصول التشريع والقرآن هو الأصل الأول للدين فالقرآن مقدم علي السنة وهي تالية له .( لأنه وحي بلفظه ومعناه ومقطوع به جملة وتفصيلاً , وهو عمدة الملة , وكلى الشريعة , وأصل أصولها ، أما السنة فلفظها غير متعبد به , والمقطوع به جملتها لا تفصيلها ثم هي بيان للكتاب ولا شك في أن البيان مؤخر من المبيّن )(4)
__________
(1) إرشاد الفحول / للعلامة محمد بن علي بن محمد الشوكاني .- دار المعرفة بيروت : لبنان : [ د . ت]
(2) انظر : مقدمة الإمام القرطبي ( الجامع لأحكام القرآن ط1 ص 37 ، 38
(3) سنن الدار مي المقدمة باب 49 السنة قاضية علي كتاب الله والحديث برقم 593 ط دار الدعوة
(4) أصول التشريع الإسلامي . الأستاذ / علي حسب الله ط 6 صـ 45(1/17)
ويؤيد ذلك ما ورد من الآثار والأخبار كحديث معاذ بن جبل حينما بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلي اليمن فقال : " { بما تحكم ؟ قال : بكتاب الله قال فإن لم تجد ؟ قال : فبسنة رسول الله قال فإن لم تجد ؟ قال : أجتهد رأيي ولا آلو. فقال الرسول : الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضي الله }(1)
وروي من الآثار أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
( كتب إلي شريح إذا أتاك أمر فاقض بما في كتاب الله، فإن أتاك ما ليس في كتاب الله فاقض بما سن فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )(2)
وفي رواية عنه ( إذا وجدت شيئاً في كتاب الله فاقض به لا تلتفت إلي شيء غيره )
فمن خلال هذه الأدلة السابقة يتضح لنا أن مكان السنة من حيث الترتيب تأتي في المنزلة التالية بعد القرآن مباشرة، فليست قبله ولا شئ قبلها غير القرآن الكريم .
د ـ وظيفة السنة النبوية :
__________
(1) سنن أبي داود ك الأقضية باب اجتهاد الرأي في الفقهاء . رواه أحمد في باب مسند الأنصار حديث معاذ بن
جبل / وقال المحقق ( إسناده حسن أقول هذا رغم أن كثيراً من العلماء ضعفوه . وقال البخاري غير صحيح
وقال الترمذي ليس بمتصل . وإنما ضعفوه لجهالة عمرو بن الحارث بن أخي المغيرة بن شعبة ولم يسلّم
المحققون بأنه مجهول . ج 16 ص 164 والحديث برقم 21609 ) ط دار الحديث القاهرة تحقيق / حمزة
أحمد الزين . د/ أحمد شاكر وسنن الترمذي ك الأحكام باب ما جاء في القاضي كيف يقضي برقم 1327 دار
الحديث ج3 ص 607 وقال أبو عيسي إسناده ليس بمتصل عندي .
وفى سنن الدار مي . ك المقدمة – باب الفتيا وما فيه من الشدة
(2) انظر الموافقات للإمام الشاطبى ج2 صـ 3 ،4 ( المسألة الثانية)، وكذلك السنة ومكانتها في التشريع، دكتور
مصطفي السباعي مطبعة المكتب الإسلامي ص 377(1/18)
كانت حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ البعثة النبوية وحتى لحوقه بالرفيق الأعلى بياناً وتفسيراً للقرآن الكريم وذلك من خلال أقواله وأفعاله وتقريراته - صلى الله عليه وسلم - .
فكان الوحي ينزل عليه لمعالجة القضايا والحوادث الصغيرة والتي تظهر ذاتياً من خلال حركة الحياة اليومية , فكانت السنة النبوية مبينة وموضحة وشارحة لآيات القرآن , رافعة لما أبهم منه على الصحابة . مقيدة لمطلقه , فهذه هي وظيفة السنة إجمالاً , ويحسن بنا أن نوردها بشيء من التفصيل :
1 ـ قد تأتي السنة موافقة للكتاب الكريم دالة على الحكم كما دل عليه فتكون حينئذ واردة مورد التأكيد ، مثال ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : { إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ }
وقال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعت أغبر يمد يديه إلي السماء يارب يارب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسة حرام , وغذى بالحرام فأني يستجاب له }(1)
2 ـ وقد تأتي السنة مبينه لمجمل الكتاب، مثال ذلك : الأحاديث الواردة في بيان كيفية الصلوات وأعداد الركعات ومقادير الزكاة وأنواع المعاملات .
من هذه الأحاديث قوله - صلى الله عليه وسلم - { صلواْ كما رأيتموني اصلي }(2)
وقوله : { خذوا عني مناسككم }(3)
__________
(1) صحيح مسلم ك الزكاة باب قبول الصدقة في الكسب الطيب ، و سنن الترمذي .
ك تفسير القرآن . باب سورة البقرة .
(2) صحيح البخاري في الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة ج2 صـ 111 حديث رقم 631
(3) صحيح مسلم في كتاب الحج باب رمي جمرة العقبة يوم النحر(1/19)
3 ـ تأتي السنة لتوضيح ما أشكل علي المسلمين فهمه : وغمض معناه من ذلك: تفسيره - صلى الله عليه وسلم - في قول تعالى : { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }(1)4) فقال - صلى الله عليه وسلم - لعدي بن حاتم :
{ إنما هو بياض النهار وسواد الليل }(2)
4- ومن السنة ما جاء مورد التخصيص مثال ذلك تخصيصه - صلى الله عليه وسلم - الظلم بالشرك في
قوله تعالى : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ }(3)
5 ـ تقيد مطلقه . كما في قوله تعالى :
{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
(المائدة:38)
فإن قطع اليد لم يقيد في الآية الكريمة لوضع خاص ولكن السنة قيدته بأن يكون من الرسغ
وكذلك آيات حد الزنا ذكرت جلد الزاني مائه جلدة فحددت السنة بأن الجلد لغير المحصن وأما حد المحصن فهو الرجم حتى الموت .
6 ـ تخصيص العام : مثال ذلك في قوله: - صلى الله عليه وسلم -
{ يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب }(4)مخصصاً بذلك قوله سبحانه وتعالى :
{
__________
(1) سورة البقرة آية رقم 187
(2) صحيح البخاري . كتاب تفسير القرآن . باب قوله تعالى وكلوا واشربوا ، صحيح مسلم ك الصيام .
باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر .
(3) سورة الأنعام آية رقم 82 .
(4) صحيح البخاري ك الشهادات باب الشهادة علي الأنساب والرضا ع وفي صحيح مسلم ك الرضاع
باب تحريم الرضاع من ماء الفحل .(1/20)
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } (النساء:24) فهو عام مخصص بالحديث الشريف .
7 ـ قد تأتي السنة النبوية بحكم جديد ليس بمشار إليه في القرآن الكريم وفي هذا النوع الأخير إشكالية بين العلماء المعنيين بهذا الفن بين مؤيد للقول بأن السنة تنشئ حكماً جديداً وبين معارض لذلك .
ولكن جمهور العلماء علي أن السنة تنشئ حكماً جديداً مستقلاً عن القرآن الكريم . قال الإمام الشوكاني حاكياً رأي الجمهور : " أعلم أنه قد اتفق من يعتد به أهل العلم على أن السنة المطهرة مستقلة بتشريع الأحكام , وأنها كالقرآن في تحليل الحلال وتحريم الحرام . وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال " ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه " أي أوتيت القرآن ومثله من السنة التي لم ينطق بها القرآن . كتحريم لحوم الحمر الأهلية وتحريم كل ذي ناب من السباع وغير ذلك مما كان من هذا الباب ...
ثم أخذ الإمام الشوكاني - رضي الله عنه – يفند رأى القائلين بعدم الاستقلال بضعف الدليل الذي استدلوا به بقوله ... " أما ما يروى من طريق ثوبان في الأمر بعرض الأحاديث على القرآن فقال يحي بن معين إنه موضوع . وضعته الزنادقة وقال الشافعي : ما رواه أحد عمن يثبت حديثه في شيء صغير ولا كبير "(1)
__________
(1) أنظر إرشاد الفحول / للعلامة محمد بن علي بن محمد الشوكاني دار المعرفة صـ 33(1/21)
ولقد أختصر الإمام الشافعي : رحمه الله تعالى وظيفة السنة في البيان بقوله : " فلم أعلم من أهل العلم مخالفاً في أن سنن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ثلاثة وجوه فاجتمعوا منها على وجهين ، والوجهان يجتمعان ويتفرعان .
أحدهما : ما أنزل الله فيه نص كتاب فبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ما نص الكتاب .
والأخر : ما أنزل الله فيه جملة الكتاب فبين عن الله معنى ما أراد وهذان الوجهان اللذان
لم يختلفوا فيهما .
والوجه الثالث : ما سن رسول الله فيما ليس فيه نص كتاب ، فمنهم من قال جعل الله بما
افترض من طاعته وسبق في علمه من توفيقه لرضاه أن يسن ما ليس فيه
نص كتاب .
ومنهم من قال : لم يسن سنة قط إلا ولها أصل في الكتاب كما كانت سنته ليتبين عدد الصلاة وعملها على أصل جملة فرض الصلاة )(1)
والخلاف كما ذكر العلماء(2)إنما هو خلاف شكلي فقط والرأيان في نهاية الأمر يلتقيان على أن السنة النبوية مصدر من مصادر التشريع ، وهى المصدر الثاني بعد القرآن الكريم(3)
__________
(1) أنظر الرسالة للشافعي – بتحقيق العلامة أحمد محمد شاكر دار التراث صـ 91
(2) ذكر هذا الخلاف القائم بين العلماء آلمانعين لاستقلال السنة بالتشريع والمجيزين لذلك . العلامة الشاطبى في كتابه الموافقات في أصول الأحكام ج3 المسألة الأولي في البيان والإجمال صـ 175 دار الفكر العربي .
(3) لقد اعتمدت في هذا المطلب علي المراجع الآتية غير ما ذكرت بعضة في الحواشي
1- الموافقات للشاطبي 2- السنة النبوية بين إثبات الفاهمين ورفض الجاهلين / رؤف شلبي
3- كتاب المؤتمر العالمي الرابع للسيرة والسنة النبوية والمؤتمر العاشر لمجمع البحوث الإسلامية
الجزء الثاني الصادر في 18 صفر 1406 هـ
4- دفاع عن السنة : دكتور محمد محمد أبو شهبه مجمع البحوث الإسلامية
5- السنة ومكانتها في التشريع / دكتور مصطفي السباعي مطبعة المكتب المصري الإسلامي
6- أصول التشريع الإسلامي / الأستاذ علي حسب الله بدون اسم الدار
7- الوجيز في أصول الفقه / دكتور عبد الكريم زيدان ._ مؤسسة الرسالة ط5
8- الوجيز في أصول الفقه / عبد الجليل القرنشاوي . محمد فرج سليم جامعة الأزهر
9- تاريخ التشريع الإسلامي / مناع القطان مكتبة وهبه ط4 .(1/22)
المطلب الرابع
الإجماع مصدراً للأحكام
يعد الإجماع مصدراً من مصادر التشريع الإسلامي . وهو مصدر منشئ للأحكام التي ليست لها سند شرعي في الكتاب والسنة ويحسن بنا أن نتحدث عن تعريفه ، وحجيته ، ثم نتحدث عن أهميته وضرورته .
أولاً: تعريف الإجماع :
عرفه جمهور الأصوليين بأنه ( اتفاق المجتهدين من هذه الأمة بعد وفاة نبيها . في عصر من العصور على حكم من الأحكام الشرعية(1)معتمدين في ذلك نص من القرآن أو السنة – أو قياس عليهما )(2)
وتكثر التعريفات حول الإجماع لدى الفقهاء فمنهم الموسع لدائرته ومنهم المضيق .
فمنهم من يفسره على ما ذكرنا ومنهم من يجعله يشمل جميع الأحكام العقلية والوقائع الحسية، ونستخلص من هذه المناقشات أن الإجماع يشمل جميع الأحكام القانونية(3)
ومن خلال التعريف السابق للإجماع : بأنه ( اتفاق المجتهدين من هذه الأمة )
فهذا قيد في التعريف فلا بد أن يكون الإجماع شاملاً كل المجتهدين ولا يكون هناك اعتراض عليه من أهل الاجتهاد في مكان ما ، وهذا استلزام لوجود الإجماع كمصدر من
مصادر الإلزام له قوة ينشئ بها حكماً من الإحكام ليس له سند تفصيلي في الكتاب والسنة.
ولكن بعض الفقهاء لم يعتد بهذا القيد الموجود في التعريف السابق فأمكن وقوع الإجماع
من بعض المجتهدين إن لم يكونوا جميعهم . ( فلقد اكتفى الإمام مالك – رضى الله عنه –
__________
(1) انظر في ذلك فلسفة التشريع في الإسلام / صبحي محمصاني صـ161 .- دار العلم للملاين بيروت ط الثالثة
سنة 1961م وانظر كذلك لك الموسوعة الجنائية في الفقه الجنائي الإسلامي الجزء الثاني المجلد الأول
صـ 153 مركز السنهوري دار الشروق .
(2) الجريمة في الفقه الإسلامي / محمد أبو زهرة صـ 170 دار الفكر
(3) فقه الخلافة وتطورها الجزء الأول / د. عبد الرازق أحمد السنهوري العدد الخامس .
سلسلة المجلس الأعلى للشئون الإسلامية صـ 48 .(1/23)
إمام دار الهجرة – بإجماع أهل المدينة واعتبر بأهل المدينة وحدهم – فبهم ينعقد الإجماع
، إذ أن أهلها اعلم بالوحي وبأحوال الشريعة وأن إجماعهم من ثم يعمل به وحده .
إذ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - { إنما المدينة كالكير تنفى خبثها }(1)
وعلى الرغم من اعتبار مالك بإجماع أهل المدينة إلا أنه لم يفرض هذا الإجماع على الأمة(2)
( فالمذكور في كتب المالكية أن عمل أهل المدينة يكون حجة عند مالك إذا كان أساسه النقل لا الرأي , وروى عن مالك أنه يكون حجة مطلقاً)(3)
ثانياً : حجية الإجماع والدليل عليها :
أ ـ من القرآن الكريم : وردت آيات من القرآن الكريم ـ ظنية الدلالة ـ تدل علي حجية إجماع المسلمين . وذلك مثل :
1ـ قوله تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ }(4)
__________
(1) الموطأ باب ما جاء في سكن المدينة والخروج منها والحديث برقم 3615
(2) راجع في ذلك . فلسفة التشريع / محمصاني صـ 161
تنوير الحوا لك في شرح موطأ مالك ج2 صـ 201 ، 202
إعلام الموقعين / ابن القيم ج1 صـ 297
(2) تاريخ المذاهب الإسلامية محمد أبو زهرة صـ 296 دار الفكر العربي
(4) سورة آل عمران الآية رقم 110(1/24)
2ـ وقوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ }(1)
3ـ وقوله تعالى : { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً }(2)
4ـ وقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }(3)
فهذه الأدلة كلها ظواهرها لا تدل علي الغرض صراحة وأقواها الآيتين الأخيرتين (3, 4) فإن في الدليل رقم(3) ( ما يوجب إتباع سبيل المؤمنين فإن ثبوت الوعيد فيها علي المخالفة يدل علي وجوب المتابعة )(4)
وفي الآية المذكورة سابقاً الدليل رقم ( 4) ذكر السيد رشد رضا أنها من أقوي الأدلة علي الإجماع(5)
__________
(1) سورة البقرة الآية رقم 143
(2) سورة النساء الآية رقم 115
(7) سورة النساء الآية رقم 59
(4) المقاصد العامة للشريعة الإسلامية / د يوسف حامد العالم صـ 65 دار الحديث
(5) أنظر في ذلك بالتفصيل – تفسير المنار / محمد رشيد رضا ج5 صـ 201 دار المعرفة بيروت(1/25)
وقال الفخر الرازي : ( أعلم أن الآية الشريفة مشتملة علي أكثر علم أصول الفقه , وذلك لأن العلماء زعموا أن أصول الشريعة أربعة الكتاب , والسنة , والإجماع , والقياس , وهذه الآية مشتملة علي تقرير الأصول الأربعة(1)
ب ـ حجة الإجماع من السنة النبوية المطهرة :
لقد ذكرنا سابقاً الآيات التي تدل حجية الإجماع وإن كانت هذه الدلالة القرآنية دلالة ظنية , إلا أن السنة النبوية قد وردت بها مرويات كثيرة ( وتظاهر الروايات عن - صلى الله عليه وسلم - بألفاظ مختلفة مع اتفاق المعني , كلها تدل علي عصمة هذه الأمة من الخطأ , إن كانت هذه المرويات ـ النبوية ـ لم تصل إلي درجة التواتر .
إلا أن هذه المرويات اشتهرت علي لسان الصحابة والتابعين وسلف الأمة وظلت منقولة لمن بعدهم , لم يدفعها أحد من أهل النقل فظلت مقبولة من موافقي الأمة ومخالفيها , ولم تزل الأمة تحتج بها في أصول الدين وفروعه , ويستحيل في مستقر العادة , توافق الأمم من اعصار متكررة علي التسليم بما لم تقم الحجة بصحته , مع اختلاف الطباع وتفاوت الهمم والمذاهب في الرد والقبول )(2)
فمن هذه المرويات والأحاديث
1ـ { لا تجتمع أمتي علي الضلالة }(3)
2ـ { لا تجتمع أمتي علي الضلالة لم يكن الله يجمع أمتي علي ضلالة }
3ـ { سألت الله ألا يجمع أمتي علي ضلالة فأعطانيها }
ومن أقوال الصحابة قول عبد الله بن مسعود : " ما رآه المؤمنون حسناً فهو عند الله حسن وما رآه المؤمنين قبيحاً فهو عند الله قبيح "(4)
__________
(1) انظر مفاتيح الغيب ( التفسير الكبير ) لفخر الدين الرازي تفسير الآية – المسألة الثانية منها
(2) انظر المقاصد العامة للشريعة – يوسف العالم – صـ 66 بتصرف بعض الشيء
(3) سنن الدارمى( المقدمة ) باب ما أعطي النبي صلي الله عليه وسلم – من الفضل 0
(4) فلسفة التشريع في الإسلام – صبحي المحمصا ني صـ 160 دار العلم الحديث بيروت(1/26)
وبعد أن عرفنا أن الأمة من لدن الصدر الأول وحتى الآن أجازت الإجماع واعتبرته المصدر الثالث من مصادر التشريع الإسلامي فهذا في حد ذاته يعتبر إجماع صدر عن الأمة كلها إذ ينفي العقل عادة أن يخطئ جميع المجتهدين إذا اتفقوا علي أمر من الأمور دون أن ينتبه إليه واحد منهم .
ثالثا- الأساس التشريعي للإجماع :
يري الفقهاء أن الإجماع لا بد له من سند يقوم عليه , وذلك بمعني أن القواعد التي يضعها الإجماع يجب أن تبني علي سند من مصدر آخر{ فالأساس الذي يقوم عليه سند الإجماع هو القرآن الكريم ـ أو السنة النبوية المطهرة , أو القياس }(1)
فالإجماع الذي يصدره المجتهدون من هذه الأمة هو في ذاته خاضع للمصدرين الأولين القرآن الكريم ـ المصدر الأول ـ والسنة النبوية ـ المصدر الثاني ـ أو يعتمد علي قياس هذين الأصلين في مسألة مشابهة .
* أهمية الإجماع
(وتظهر فائدة الإجماع هنا إذا كان السند الدال علي حكم معين ظني الدلالة وليس قطعي الدلالة . فإذا انعقد الإجماع علي الاستدلال به كان ما انتهي إليه الإجماع في هذا الحكم قطعياً ووجب الأخذ به ـ ذلك لأن الإجماع قوي السند وزكاه إلي درجة أن صار مدلوله قطعياً لا يجوز إنكار ما اشتمل عليه من حكم : إذ أن الإجماع علي دلالة نص جعله في مرتبة الأمر الذي من الدين بالضرورة )(2)
* وأمر أخر يظهر لنا أهمية الإجماع كمصدر للتشريع الإسلامي .
هو أن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة لا يتسعان للتدليل علي كل مسألة من مستجدات الحياة , إذ أن النوازل اليومية والمستجدات الحياتية لا تقف عند حد من الحدود.
فلا بد من وجود عنصر مستمر وفياض , يعطي من خلاله مطالب الحياة اليومية ،
(
__________
(1) الجريمة / محمد أبو زهرة صـ 170
(2) أصول الفقه / محمد أبو زهرة / دار الفكر صـ 193(1/27)
مما يستلزم وجود مصدر دائم يدخل عنصر المرونة والتطور في أحكام الشريعة الإسلامية وهذا المصدر هو الإجماع ـ فالإجماع يمكن أن يعتبر بحق ـ المصدر المباشر للتشريع بعد الكتاب والسنة , وهو الذي يمكنه التطوير الدائم مع تقدم العصور وتغير الظروف ـ رغم تبعيته الظاهرة لهذين المصدرين )(1)
* إن اهتمام الفقهاء بأن يكون للإجماع سند مستمد من مصادر الشريعة ـ القرآن والسنة، والقياس ـ يمكن أن يفهم منه الآتي :-
1 ـ أن الإجماع دوره أن يكون بمثابة المصدر المباشر للتشريع ( أو التقنين ) أو صياغة
الأحكام المستمدة من الكتاب والسنة ووضعها في الصورة المناسبة للجيل الذي يعاصره.
2 ـ إذا كان الإجماع بمثابة أداة فنية ضرورية لصياغة أحكام الشريعة ونموها وملاءمتها
مع حاجات المجتمع وظروفه، أمكن كذلك اعتباره أداة لإقرار الأحكام الناتجة أو
المستمدة من التوافق الضمني أو اللا إرادي ـ الذي استقر بمضي الزمن في صورة العرف 0
رابعاً : مدي حجية الإجماع :
معلوم أن نصوص القرآن الكريم وصريح السنة النبوية إذا أثبتت حكما شرعياً أصبح هذا الحكم معلوم من الدين بالضرورة ما دام أن هذا الحكم الصادر عن هذين المصدرين حكم عام ليس بخصوص واقعة فريدة بعينها فإن هذا الحكم لا يجوز أن يعطل , أو يلغي , لأن النص إنما هو ثابت مع اختلاف المكان وتغاير الزمان .
أما الإجماع فالحكم الذي يقرره المجتهدون في عصر من العصور يمكن أن يلغي أو يعدل بإجماع لاحق , ( فكل جيل يمكن أن يقرر بالإجماع ما يراه مناسباً له ولو خالف إجماع الأجيال السابقة , بل له أن يعدل عما تقرر بإجماعه في تاريخ سابق )(2)
__________
(1) فقه الخلافة وتطورها ج1 – أصول الحكم في الإسلام د/ عبد الرازق السنهوري العدد الخامس صـ 51 سلسلة :
المجلس الأعلى للشئون الإسلامية .
(2) فقه الخلافة وتطورها ج1 ( أصول الحكم في الإسلام ) . د / عبد الرازق السنهوري ع5 صـ 5 .
مطبوعات المجلس الأعلى للشئون الإسلامية(1/28)
شريطة أن يكون هذا التغير الذي يحدث للإجماع السابق بالإجماع اللاحق مستند إلي المصلحة ,فإذا تغيرت المصلحة التي يبني عليها الإجماع ( السابق ) تغير الإجماع تبعاً لها .
*مثال ذلك : ( لو أجمع المسلمون في وقت من الأوقات علي ضرورة قتل الأسري أو استرقاقهم نظراً لمصلحة تستدعي ذلك كالمعاملة بالمثل . ثم أجمعواْ في وقت أخر على خلاق ذلك نظراً لزوال الحالة السابقة )(1)
*مثال أخر أجمع الصحابة علي عدم جواز التسعير لكنه انخرق هذا الإجماع في حياة التابعين وأجازوا أن يسعر الحاكم أو ولي الأمر حفاظاً علي مصلحة المسلمين : فلقد اقتضت المصلحة أن يتغير الحكم الذي سار عليه الصحابة .
ففي الحديث ـ روي أنس قال : { غلا السعر علي عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله لو سعرت لنا ؟ فقال : إن الله هو القابض الرازق الباسط المسعر , وإني لأرجو أن ألقى الله ولا يطلبني أحد بظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال }(2)
قال بن القيم يرحمه الله تعالى : ( أما التسعير فمنه ما هو ظلم محرم ومنه ما هو عدل جائز ... فإذا كان الناس يبيعون سلعهم علي الوجه المعروف من غير ظلم منهم وقد ارتفع السعر إما لقلة الشيء أو كثرة الخلق فهذا إلى الله فإلزام الناس أن يبيعوا بقيمة معينة إكراه يغير حق، فإن امتنع أرباب السلع من بيعها , مع ضرورة الناس إليها إلا بزيادة علي القيمة المعروفة , فهنا يجب بيعها بقيمة المثل ... فالتسعير هنا إلزام بالعدل الذي ألزمهم الله به )(3)
__________
(1) ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية الأستاذ / محمد سعيد رمضان البوطي صـ 61
(2) سنن أبى داود ك البيوع والإجازات باب التسعير رقم 3451 والشوكاني في نيل الأوطار ج5 صـ 247
(3) انظر في ذلك : الطرق الحكيمة في السياسة الشرعية لابن القيم مطبعة المدني صـ 252 ، 253(1/29)
ولقد حدد العلماء حرمة التسعير التي تحدث عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا حدث بها غبن للتجار وأهل الصناعات وأخل ذلك بربحهم ولم يكن برضا منهم.
قال :...." ووجهه هذا أن به يتوصل إلي معرفة مصالح البائعين والمشترين , ويحصل للباعة في ذلك من الربح ما يقوم بهم ولا يكون فيه إجحاف بالناس )(1)
وبذلك أدركنا من هذا المثال الذي ذكرناه بأن الإجماع قد يلغى بإجماع لاحق به إما لمصلحة أو تغير العرف أو لحاجة ماسة بظروف الناس ومعاشهم . وهذا يضفي على مصادر الإلزام في الإسلام صفة المرونة والتجديد المستمر الذي يحتاج إليه الإنسان بحسب حاجات المعاش وتقلب الزمان ... ولكن كما ذكرنا من قبل أن الإجماع خاضع للمصدرين الأساسين القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة .
وبهذا نكون قد تحدثنا عن مصادر الإلزام في الشريعة الإسلامية
1- القرآن الكريم 2 – السنة النبوية المطهرة 3- إجماع الأمة
__________
(1) انظر المرجع السابق صـ 263 وانظر كذلك :
تغيير الأحكام في الشريعة الإسلامية / د/ إسماعيل كوكسال مؤسسة الرسالة ط1 سنة 2000 صـ 103(1/30)
المبحث الثالث
مصدر الإلزام في النظم البشرية الوضعية
تمهيد :
ذكرت في المبحث السابق مصدر الإلزام في الدين الإسلامي الحنيف وفي هذا المبحث نقوم بالبحث عن المصادر التي اعتبرها الفكر الوضعي مصدرا للإلزام في نواحي التشريع والأخلاق .
* والإلزام عنصر أساسي في المسألة الأخلاقية علي الخصوص ، وفي الناحية التشريعية علي العموم . فهو المحور الذي تدور حوله المسألة الأخلاقية ، فهو بمثابة الركيزة الأولي للفكرة الأخلاقية .
وزوال فكرة الإلزام تقضي علي جوهر الحكمة العقلية والعلمية التي تهدف الأخلاق لتحقيقها ، فإذا إنعدمت في الأخلاق فكرة الإلزام إنعدمت بالضرورة فكرة المسؤولية ، وإذا إنعدمت فكرة المسؤولية إنعدمت كذلك بالضرورة فكرة الجزاء ، وبذلك تكون المسألة الأخلاقية نُسفت من جذورها، وذلك بانعدام فكرة الإلزام الخلقي .
وإذا كنت أتحدث في هذا البحث عن فكرة الإلزام في الفكر الوضعي إلا أنني أردت الإشارة إلى وجود بعض النظريات الغربية التي تدعي وجود أخلاق بلا إلزام ، إلا أن هذا الرأي لا نعطيه أي اهتمام من كتاباتي عن ( مصدر الإلزام ) وما ذلك إلا لأنها نظرية تحمل في ثنايا ادعائها دليل بطلانها فهو ( اتجاه يحمل في ثناياه معني التناقض الواضح . لأن القول بأنه مذهب أو اتجاه ، يوحي بأنه مؤسس علي مبادئ أو مسلمات يقبلها العقل ، تبني عليه النظريات التي يؤمن بها أصحابها ..... فإذا قيل بعد ذلك ، إن هذا المذهب ليس لديه قاعدة ملزمة تتأسس عليها نظرياته ، كان هذا معني التناقض والاضطراب بعينه فالقول بالمذهبية بلا إلزام قول مردود )(1)
وفي هذا المبحث الثالث .. من الفصل الأول .. سأذكر بإجمال مصادر الإلزام لدي النظم الوضعية . ثم الحديث عن كل نظام علي حده ، ذاكراً السمات العامة التي تميز هذا النظام أو ذاك ، وأهم رجاله المشهورين 0
__________
(1) دراسات في فلسفة الأخلاق : د/ محمد عبد الستارنصارصـ36(1/1)
ثم أذكر بعد ذلك أهم الانتقادات الموجهة إلي النظام المذكور .
بالنظر فيما كتبه كبار المفكرين الغربيين . نجد أن مصدر الإلزام لديهم يختلف من مفكر لآخر فكوّن ذلك عده اتجاهات يتضح لنا من خلالها مصادر الإلزام لدي هؤلاء المفكرين الغربيين ....... ونلاحظ أنه يوجد اتجاهين أساسيين في مسألة الإلزام الخلقي ،
*الإتجاه الأول : وهو أصحاب الرأي القائلين بأن مصدر الإلزام سلطة خارج الإنسان : فليس الإنسان هو صاحب المصدرية ، وإنما الإلزام يأتي من سلطة خارجة عنه : ثم ينقسم هذا الإتجاه إلي قسمين
1- القسم الأول : وهم القائلون بأن مصدر الإلزام سلطة عليا إلهية
2- القسم الثاني : وهم القائلون بأن مصدر الإلزام هو المجتمع(1)
* الإتجاه الثاني : يذهب أصحاب هذا الإتجاه إلي أن مصدر الإلزام هو الإنسان ذاته فالإنسان هو مصدر القيم والأخلاق، ويختلف أصحاب هذا الاتجاه فيما بينهم إلي أقسام ثلاثة :-
1ـ القسم الأول :-يرى أصحاب هذا الرأي أن مصدر القيم والأخلاق هو اللذة والمنفعة
2ـ القسم الثاني :- يرى فريق آخر أن مصدر الإلزام هو العقل
3ـ القسم الثالث :- ويرى أن الضمير هو مصدر الإلزام(2).
وسأجعل ذلك في مطلبين أساسيين ذاكراً في كل مطلب اتجاه من الإتجاهين وتحت كل مطلب نقاط تشمل الأقسام الموجودة .
المطلب الأول
عرض المذهب القائل بأن مصدر الإلزام سلطة خارج الإنسان
القسم الأول : مصدر الإلزام هو الدين
__________
(1) إنظر هذا القسم بمعناه – الأخلاق النظرية د / عبد الرحمن بدوي صـ 94 .- نشر المطبوعات الكويت
(2) الاتجاه الأخلاقي في الاسلام – مقداد يلجن ط1 مكتبة الخانجي بمصر صـ 219(1/2)
ذهب فريق من الحكماء والفلاسفة إلي أن مصدر الإلزام ليس هو الإنسان ، إنما هو سلطة خارج الإنسان ، وهو الدين السماوي ، فهم يعتبرون أن الوحي أو النقل هو مصدر التشريع والإلزام بالقواعد التشريعية والأخلاقية وليس للإنسان دخل في ذلك وأطلق علي هذا المذهب ( مذهب النقليين ) ولقد نادي بهذا الإتجاه حكماء وفلاسفة ورجال الدين الكنسي .
ويقرر أندريه كرسون هذا الرأي ويعتبره محل اتفاق في الأديان فيقول : " سواء نظرنا إلي الشريعة الموسوية ( يعني شريعة موسى عليه وعلي نبينا السلام ) أم إلي الشريعة المسيحية فإننا نجد مبدأ لا نزاع فيه هو أن الإنسان لا شأن له باكتشاف القواعد الأخلاقية "(1)
ويحسن بنا عرض هذا المذهب في النقاط التالية :
أولاً :- نظره عامة إلي المذهب :
* لقد كان من الطبيعي في ظل نزول رسالات الله تعالي إلي البشر عن طريق الوحي السماوي أن يستمسك الناس بشرع الله تعالي وأوامره ونواهيه إليهم .... و علي حين فترة من الوحي وانقطاع من الرسالة إنحرفت البشرية شيئاً فشيئاً ، وهكذا كان شأن البشرية في الماضي .
وبالنظر إلي تاريخ هذا المذهب القائل بأن مصدر الإلزام هو الدين نجد أن القائلين بهذا هم رجال الدين الكنسي وظل ذلك حتى قرابة القرن الثالث عشر الميلادي .
وحتى ذلك الحين لم يكن للعقل مجال لدي هؤلاء المفكرين في مصدرية الإلزام فمصدر الإلزام هو الوحي . ولقد انقسم القائلون بأن مصدر الإلزام هو الدين ـ إلي فريقين .
*الفريق الأول :-
(
__________
(1) مذهب النقليين هو مذهب بعض اللاهوتيين المسيحيين وملخصة أن العقل لا يكشف عن حقيقة الاشياء وإنما يكشف
عنها الوعي والالهام وقد أنكرت الكنيسة سنة 1838م وتوسع فيه أخيراً وأطلق علي النظريات التي تضع الحقائق النقلية فوق الحقائق العلمية . إنظر المعجم الفلسفي . مجمع اللغة العربية . الهئية العامة للشئون الأميرية صـ 180(1/3)
طائفة المحافظين : وهم الذين تركوا " النص " دون أن يتدخلوا فيه بالتأويل والتفسير . ولا شك أن هؤلاء كانوا يقدسون النص . ولا يفضلون العقل ومعطياته عليه . فهم يرجعون الخير إلي ما أمر الله به والشر إلي ما نهي الله عنه وليس للعقل عندهم دور في تقدير حسن الأفعال وقبحها "(1)
*الفريق الثاني :-
وهم جماعة المفكرين من الدين الكنسي المتحررين الذين أعطوا العقل أهمية كبري بجانب وجود النص الديني ، ولقد ظهر هذا الأمر بعد ترجمة كتب اليونان وفلاسفة المسلمين في القرن الثالث عشر الميلادي ولقد قامت معركة شرسة بين رجال الدين الكنسي المحافظين وبين الفريق الذي أراد إعطاء العقل نفس الصيغة التي أداها للدين وكادت هذه العركة تؤدي ( بالقضاء علي الوحدة بين المفكرين الكنسيين .
هذه المشكلة تتلخص في إحياء تعاليم أرسطو في القرن الثالث عشر الميلادي والتي لم تكن فلسفة أرسطو معروفة لدي الغربب بعد – وعندما إنتشرت المعرفة باللغة اليونانية ونقلت أفكار ابن رشد إلي اللاتينية وقرأت أعمال أرسطو بتوسع . الفي المفكرون أنفسهم أمام حقيقة مؤداها أن أرسطو كان بإستطاعته وضع أساس سليم لكل شيء )(2)
وهنا قامت الحرب بين الكنيسة وبين رجال الدين المتحرريين ، فقام مجموعة منهم يوفقون بين أراء المحافظين والمتحررين . إيماناً منهم بقيمة العقل وأحقية النص بالحكم وكان من بين هؤلاء المفكر الكنسي العظيم توما الاكويني .
ثانياً : اشهر القائلين بالمذهب :
__________
(1) دراسات في فلسفة الاخلاق . تأليف / محمد عبد الستار نصار . بجامعة الأزهر طبع دار العلم صـ 352
(2) انظر كتاب الموسوعه – مخطوط بدار الكتب المصرية المجلد اخامس صـ 839 المشرف العام
نقولا ناهض . الناشر / إسترن بيليشر أند دستدو . قبرص – الطباعة مؤسسة خليفة سنه 1998م(1/4)
يعد المفكر الكنسي القديس . توما الاكويني(1)من أهم القائلين بأن الدين مصدر الإلزام والتوجية ، وكان له رأي عظيم في العقل والنقل .
كان يقترب فيه بعض الشئ من منهج الاسلام وموقفه من قضية العقل والنقل ، لقد كان
( رأي رجال الكنيسة المحافظين "النصيين" أن العقل عندما يتعارض مع الإلهام يكون مخطئاً، ولقد كان الإلهام مصدراً من مصادر التشريع عندهم ، هذا فضلاً عن رأي المتطرفيين منهم فقد بدأو يشكون في إمكان قدرة العقل علي إثبات خطأ الإلهام ، وحدث صراع بين المحافظين والمتحررين كاد يودي بحياة الفكر الكنسي ، والوحدة الدينية فكان توفيق – ( توما الاكويني ) في المسألة حيث جمع بين وجهتي النظر المختلفتين فقد توصل إلي إثبات أن العقل وحده ناقص بسبب قصور القوة البشرية .
فالإنسان يفتقر إلي الحقيقة الملهمة ليفسر بعض الاشياء التي لا يمكن أن يفسرها بالعقل)(2)
وذكر توما الاكويني كذلك أن هناك توافق بين نتائج العقل ونتائج الإيمان فالعقل حقيقة والإيمان حقيقة وأن توافق الحقائق بعضها مع البعض ضروري .
ثالثاً : أهم ما يحتوي عليه المذهب :-
__________
(1) توما الاكويني : ( 1224- 1274 ) قديس وفيلسوف ولاهوتي من أصل إيطالي . نذر نفسة في بداية شبابه
للخدمة في دير ( مون كاسان ) 1239 . درس الفنون في جامعه نابولي . وفي عام (1244) رافق توما
الأب العام للرهبنة ( جان لوندتدبنك ) إلي باريس، وقد عاني كثير من حسد إخوانه له. وله أكثر من عشرين
مصنفاً= = ورساله . ( أعلام الفلاسفة جـ1 ) مذهبه اسس مذهباً وسمي التوماوية . هو مذهب يأخذ بواقعية
أرسطو التي ترد المعرفة أساساً إلي الإحساس ، وحاول التوفيق بين النقل والعقل ، بين الأرسطية والمسيحية
، وتأثر بالفلسفة الاسلامية وإن عارضها في بعض الجوانب انظر في ذلك ( المعجم الفلسفي – مجمع اللغة
الربية صـ 75 الهيئة العامة للشئون الاميرية )
(2) انظر كتاب الموسوعه جـ 5 صـ 839 سابق(1/5)
1- لم يذهب هذا الرأي إلي أن القوانين الإلهية صحيحة والقوانين الانسانية خاطئة بل حاول أن ينسق بينهما
2- اعتبر بوجود أربع مصادر للإلزام من بينها الدين كمصدر من مصادر الإلزام وهذه المصادرهى:
أ القانون الإنساني : وفيه يضع الإنسان القوانين علي نمط القانون الطبيعي
ب - القانون الطبيعي : وهو لا يمكن أن يتعارض مع القانون الانساني
الذي يصاغ بمهارة مع القانون الطبيعي .
جـ- قانون الساطات الحاكمة .
د- القانون الأبدي وهو يعمل بإنسجام مع القانون الطبيعي فإذا صنعت الدولة قوانينها وفقاً لكل هذه القوانين فإنها تكون عادلة في نظر الله . وأولئك الذين يطيعونها يحظون برضا السلطات الحاكمة ورضا الرب(1)
القسم الثاني : القائلون بأن المجتمع هو مصدر الإلزام الخلقي :
ذهب فريق من العلماء والباحثين الغربيين إلي أن مصدر الإلزام الخلقي للإنسان سلطة خارجة عنه ، وتتمثل هذه السلطة في المجتمع .
(فالعرف الإجتماعي يفرض علي الإنسان ما يستحسنه من الخير وما يستقبحة من الشر)(2)ينهي عن المثول إليه ،
* أولاً :- أشهر القائلين بهذا الرأي
1- أوجست كونت(3)(
__________
(1) نفس المعطيات السابقة راجع / كتاب الموسوعه . المشرف العام . نقولا ناهض مشرف الاتجاهات الفلسفية /
د/ يوسف فرحات بدار الكتب، الطباعة - مؤسسة خليفة 1998 جـ 5 صـ 839
(2) المسؤلية الخلقية والجزاء عليها صـ 36 د / أحمد عبد العزيز الحلبي .
(3) اوجست كونت ( فيلسوف فرنسي تربي علي الدين الكاثوليكي وتعلم في مسقط رأسه انتسب وهو في السادسة عشرة
من عمره إلي كلية العلوم التقنية التقي سنه 1818م (بسان سيمون ) فصار تلميذاً له وعمل أمينا لسره - وانتقل عنه
بعد سته أعوام وعمل مفكراً مستقلاً – وفي سنه 1826 ‘عادة إلي التدريس عين سنه 1832م معيداً لمادة التحليل
والميكانيكا وطال بتأسيس كرسي تاريخ عام للعلوم الوضعية يشغله هو ، فصل من العمل سنه 1844م . مذهبه : لا
يؤمن إلا بالوضعية التجريبية وهو مكرس الوضعية الحديثة مع استاذه سان سيمون اختار كونت لمجتمعه ديناً انتقائياً
يقوم علي عبادة الإنسان التي يجب تأليهها . واستبدل التصور الخيالي عن الله بالتصور الوضعي،
إنظر في ذلك موسوعه أعلام الفلاسفة جـ2 صـ 303 . صـ 305 دار الكتب العلمية . / زوني إيلي ألفا .(1/6)
1798 – 1857)
2- إميل دور كايم(1)( 1858 – 1917 )
3- ليفي بريل(2)( 1823 – 1903 )
ثانياً : نظرة عامة إلي المذهب .
ظهر مذهب القائلين بأن المجتمع هو مصدر الإلزام في القرن التاسع عشر وعرف أنصار هذا المبدأ في الفكر الغربي بأنصار المذهب الوضعي(3)
__________
(1) التعريف ( دور كايم )
(2) التعريف بليفي بريل : ( 1823 – 1903 )
فيلسوف فرنسي من أتباع أوجست كون رئيس لجنة منفذي وصاياه ترأس اللجنة الوضعية وساهم في تحرير السايسة الوضعية ( 1873 ) وفي عام 1878 أسس المجلة الغربية وأصبح أستاذاً للتاريخ العام للعلوم في الكوليج دي فرانس عام ( 1903 )
انظر موسوعة الاعلام الفلسفية جـ2 صـ337 تأليف زوني ايلي ألفا مراجعة د/ جورج نخل دار الكتب العلمية بيروت .
(3) التعريف بالوضعية : هي المذاهب التجريبية التي لا تعترف إلا بالواقع المحسوس . فهي ترد المعرفة إلي التجربة
( إستخدم المنهج التجريبي المحسوس ) وترجع تسميته هذا المذهب إلي ( أوجست كونت ) وقد مهد لهذا الاتجاه في
الفلسفة ديفيد هيوم ( 1711 – 1776 ) – أنظر(المدخل إلي الفكر الفلسفي صـ 16 ) يوزيف بوخينسكي ترجمة
د/ محمود حمدي زقزوق .- دار الفكر العربي سنة 1416هـ ، 1996 م
ومن دواعي قيام المنهج الوضعي في الغرب - ما يأتي
1ـ ( أسلوب التفكير اللاهوتي الذي إنتهجته الكنيسة ) فكان تفكيرها لا يتفق مع العقل ولا الحقيقة العلمية .
فكانت الوضعية تهدف إلي إلزالة الخراقات التي نسجتها الكنسة حول الفكر الدتيني =.
2 ـ إضطهاد الكنيسة للإسلوب العلمي في التفكير فلقد إحتكرت مجال التفكير وحرمت كل تفكير يخالف تقاليد البابوية
وسادت النزعة النصية وتحكيم الكتاب المقدس في مجالات الحياة كلها .
3 ـ التدخل القصري لسلطان الكنيسة في كل مجالات الحياة
4 ـ التحالف بين النظامين الاقطاعي واللاهوتي ضد المفكرين الغربيين
لهذه الأسباب قام النظام الوضعي في الغرب وكان لهذا النظام أسس قام عليها :
1- ... إعتبر الاحساس وحده مصدراً للمعرفة
2- ... إعتبار النموذج الطبيعي سلطة مرجعية للعلوم الانسانية
( انظر في ذلك: منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية محمد محمد إمريان من ص 33: ص 57
2- الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالإستعمار الغربي/ د/ محمد البهي ص 266 إلي ص 270 مكتبة وهبة(1/7)
وقد أسس هذا المذهب ( اوجست كونت ) (1798 – 1857 ) وصار لهذا المذهب في الفكر الأوربي بخاصة والغربي بعامة تأثير علي مناحي الحياة – العلمية والإجتماعية والسياسية والإقتصادية والأخلاقية والدينية وظهر من بين رجال الفكر الوضعي ( المذهب الوضعي ) مؤسسين لمدرسة العلوم الإجتماعية والتي ظهرت في القرن التاسع عشر ونادت هذه المدرسة بأن مصدر الإلزام للفرد هو المجتمع، والذين تحدثوا بأن المجتمع هو سلطة الإلزام ومصدره ليس كل من أيد ونادى بالوضعية، فوجد في المذهب الوضعي من ينادي بأن سلطة الإلزام ومصدره هو الإنسان ذاته . وليست سلطة خارجة عن الإنسان ومن هؤلاء :-
1- وليم جميس :رائد الحركة البرجماتية – وسيأتي الحديث عنه .
2- ديفيد هيوم . مؤسس الوضعية في علم الفلسفة .
أما الأول فنادي بأن المنفعة هي مصدر الإلزام والثاني قال بأن العاطفة أو الشعور باللذة هي مصدر الإلزام(1)
ثالثاً :- أهم ما يحتوي عليه المذهب :-
1- ( رفض واجبات وقواعد العقل العلمي الخالص وقبول الواجب الخلقي حين يصدر عن المجتمع علي إعتبار أن المجتمع هو الكائن الأخلاقي الأعظم الذي تصدر عنه الحياة الأخلاقية )(2)
فالمجتمع هو مصدر الإلزام وهو الذي يحق له وحده دون غيره أن يحكم علي القيمة الأخلاقية بالخير أو الشر ولقد أخذ درو كايم يدلل علي ذلك بقوله : " إن الأمور الأخلاقية لها قيمة لا تقاس بسائر القيم الأنسانية . وآية ذلك أننا نضحي بنفوسنا من أجلها ، مما يدل علي أنها لا نظير لها .
__________
(1) راجع معناه في الأتي: أ- قضايا معاصرة في ضوء الإسلام د/ حلمي عبد المنعم صابر
ب- ديفيد هيوم / زكي نجيب محمود .- دار المعارف بمصر صـ 14
جـ - علم الإجتماع الأخلاقي د/ حسين عبد الحميد رشوان . المكتب العلمي للنشر والتوزيع
سنه 2000 م صـ 166
(2) علم الإجتماع الأخلاقي . د/ حسين عبد الحميد رشوان . المكتب العلمي . صـ 192(1/8)
ولكي تكون الأمور الأخلاقية منقطعة النظير هكذا فلابد أن تكون العواطف التي تعين قيمتها لها نفس الطابع ... ( أي منقطعة النظير ) ... ثم يدلل علي رأيه بقوله ... والعواطف الجماعية ( أي رأي المجتمع ) هي التي يتوفر فيها هذا الشرط ... فإنها تخاطب ضمائرنا بلهجة مختلفة تماماً عن لهجة العواطف الفردية المحضة : إنها تخاطبنا بصوت عال وبسبب أصلها كان لها سلطاناً وقوة خاصين(1)
2- تقوم الأخلاق الوضعية ( عموماً ولدى أصحاب مدرسة العلوم الاجتماعية خصوصاً ) على أساس العلم الوضعى فهى تقوم على الملاحظة والتجربة لا الخيال وهى تنظر الى الإنسان كما هو كائن بالفعل ، لا على النحو الذى يتخيل أن يوجد عليه .
فهى لا تعتمد إذن على التحليل التجريدى لما ينطوى عليه قلب الإنسان من مشاعر خاصة بل تعتمد على الأدلة التى برهنت بها الإنسانية على وجود ميولها وبواعثها المألوفة ، التى حفزتها إلى العمل من خلال القرون التى قص علينا التاريخ أخبارها(2).
وبذلك إعتبرت مدرسة العلوم الاجتماعية وروادها أن المصدر الوحيد لمعرفة الأخلاق هو الحس والتجربة وما عدا ذلك فلا يعد بمصدر حقيقى لها .
ولقد عبر دوركايم عن هذا الأساس حين قال : " إن العالم لايستطيع أن ينهج منهجاً أخر غير إعتبار الإحساس نقطة بدء لدراسته "(3)
ولم يكن هدف الفكر الوضعى . أن يجعل الحس أو الواقع ـ وهما بمعنى واحد ـ جزء من طرق المعرفة بل أراد أن يجعلها كمصدر فريد للمعرفة اليقينية وكل ما يأتى وراء الطبيعة أو الحس أو الواقع خداع للحقيقة وليس حقيقة(4)
__________
(1) الأخلاق النظرية د/ عبد الرحمن بدوي وكالة مطبوعات الكويت صـ 97 . بتصرف وزيادة
(2) أنظر. فلسفة أوجست كونت، وليفي بريل دار الكتب ترجمة محمود قاسم – السيد محمد
(3) منهج البحث الإجتماعي – سابق صـ 51
(4) الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي . د/ محمد البهي مكتبة وهبة صـ266،267(1/9)
وكذلك كان اوجست كونت . فهو لا يسمح الإ بالمعارف الواقعية المتصله بالوقائع الحقيقية ... فالمنفعة والواقع هما اصطلاحان يستغرقان مضمون المصطلح المسمى وضعى ... أما اللاهوت والميتافيزيقيا اللذان يزعمان أيضاً تعريفنا بطبيعة الآشياء فهما نظامان وهميان ... وبذلك ذهب أوجست كونت إلى إنكار التعاليم السماوية والمعتقدات الموحى بها من الأديان السماوية ويعدها خيالية، وزعم أنه إذا كان هناك دين يحقق بطريقة يقينية نهائية الفطرة الدينية الأولية التى لاغنى عنها فى الطبيعة البشرية فهو المذهب الوضعى أو دين الإنسانية - يقصد بذلك أن الإنسان يتخذ إلهاً له من قبل نفسه )(1)
3ـ إحلال النسبى محل المطلق فى الأخلاق . وهذا الأمر بمثابة النتيجة الحتمية
لأمرين ، تحدث بها دعاة المدرسة الإجتماعية:
*الأول القول بنسبية المعرفة والإستشهاد عليها بمراحل العقل . الثلاث التى تحدث بها اوجست كونت وهى : أن التفكير الإنسانى أو العقل الإنسانى مر بثلاث أدوار لتفسير الظواهر الكونية .
المرحلة الأولى : مرحلة الطفولة العقلية : وهى عبارة عن أن العقل البشرى كان يفسر ما يحدث فى الطبيعة معتمداً على الخيال والوهم ( يفسر ذلك كونت ) بالأسباب الخارجة عن الطبيعة كالآلهة والشياطين .
المرحلة الثانية : مرحلة المراهقة العقلية ( والتى واكبت عصر النهضة الأوربية )
ففى هذه المرحلة ـ يقول ـ بأن العقل رد تفسير الأحداث إلى معان مجردة – ( كالعلّيه والإضطرار) وبهذا خالف الدور اللاهوتى السابقة .
__________
(1) العلم والدين في الفلسفة المعاصرةت إمميل يوثر ترجمة / أحمد فؤاد الأهواني الهيئة المصرية العامة
للكتاب صـ 41 ، 51(1/10)
المرحلة الثالثة : - ويشير أنها كانت فى عصر الثورة الفرنسية وهى المرحلة التى عاشها أوجست كونت .ففى هذه المرحلة أرجع العقل تفسير الأحداث والظواهر الى التفسير الموضعى مبتعداً عن المرحلتين الأسابقتين – الأولى اللاهوتيه – والثانية التجريدية ووصل بذلك إلى المرحلة التجريب الحسية )(1)
وبذلك ( اعتبر كونت نسبية الأخلاق ضرورة نظرية وعقلية تقتضيها المعرفة عموماً طبقاً للمذهب الوضعى فالإنسان لما وضع فيه من عقل وقدرة محدودة لا يستطيع الوصول إلا إلى النتائج النسبية )(2)
الأمر الثانى :-
جعلهم المجتمع هو أساس لمصدر الإلزام بالقواعد الأخلاقية أدى ذلك إلى لزوم القول بنسبية الأخلاق وعدم إطلاقها وهى نتيجة منطقية ، فما دام المجتمع هو مصدر إنشاء القواعد فليس من المنطقي أن تكون هذه القواعد متشابهة فى كل المجتمعات ، ما دامت المجتمعات نفسها الصادر عنها الحكم وصاحبة المصدرية تختلف من حيث الزمان والمكان ،
( وهكذا تختلف الأخلاق حسب البناء الإجتماعى من مجتمع لآخر كل له أخلاقه الخاصة التى حددتها الظروف المعيشية . إذا يقول كونت: " وليس فى استطاعتنا أن نبث فى نفوس شعب مبادئ أخلاقية دون أن يشيع بينهم حرب من التفكك "
__________
(1) راجع في ذلك: أ- التفسير في العلوم الإجتماعية د/ عٌلا مصطفي أنور دار الثقافة والنشر والتوزيع الفجالة صـ 119
ب- علم الاجتماع د/ عبد الحميد لطفي . جامعه عين شمس . مؤسسة الثقافة الجماعه ( الاسكندرية ) صـ265
جـ ـ قضايا معاصرة في ضوء الإسلام د/ حلمي عبد المنعم صابر صـ 67 ، 68
(2) علم الإجتماع الأخلاقي / د/ حسين عبد الحميد رشوان – المكتب العلمي صـ 188 ، 189(1/11)
ولذلك رفض كونت المطلقات التى نادى بها عمانويل كانط . فهى فكرة زائفة لا يقبلها العالم الوضعى الذى يقتصر على النسبية ، لأن المطلق لا وجود له في هذا العالم .)(1)
المطلب الثاني
مصدر الإلزام ... هو الإنسان
والقائلون بأن مصدر الإلزام هو الإنسان ذاته . إنقسموا فيما بينهم إلي عدة أقسام نأتي علي ذكرها فيما يلي علي هذا النحو : ـ
1- نظرة عامة إلي المذاهب
2- أشهر القائلين به
3- أهم السمات والخصائص للمذهب
4- تقرير المذهب
أولاً : القائلون بأن مصدر الإلزام هو اللذة والمنفعة :
1ـ نظرة عامة الي المذهب :
هذا المذهب الذي زعم أن اللذة ( أو المنفعة أو المصلحة ) وهما بمعني واحد هي مصدر الإلزام بالأخلاق والقيم ، مذهب له جذوره التاريخية فهو ليس وليد القرن التاسع عشر أو القرن العشرين ، إنما قبل ذلك بقرون فهو قبل ذلك بعشرين قرن تقريباً .
أ- مذهب اللذة في العصور القديمة :- ظهر هذا المذهب قبل الميلاد ( فأول من دعا إلي المذهب هو أرسطيفوس القورينائى(2).(
__________
(1) فلسفة أوجست كونت وليفي بريل . دار الكتب .- ترجمة محمود قاسم – السيد محمد بدوي صـ 301 ، 302
وكذلك :- علم الإجتماع الأخلاقي .- د/ حسين عبد الحميد رشوان (سابق ) صـ 189
(2) التعريف به : فيلسوف يوناني شهير عاصر أفلاطون وسقراط ولد في مدينة القيروان من مدن برقة وفلسفتة :- أسس الفيلسوف المدرسة القوربنائية ومذهب اللذة الذي مفاده ، أنة ينبغي أن يكون هدف الانسان من أعمالة حصول الللذات الحقيقية الراهنة ، لا مجرد تجنب الآلام أما الغرض من الفضائل لديه فليس السعادة الأبدية لأن هذه ةالأخيرة تحتوي علي أنواع اللذات والشهوات لذلك فالحاضر هو مقياس السعادة - موسوعة - أعلام الفلسفة ج1 صـ 71 دار الكتب العلمية بيروت اعداد / زوني ايلي ألفا .(1/12)
حوالي 435 – 355 ق. م ) ....... ومذهب أرسطيفوس هذا هو مذهب اللذه المحض ، واللذة أياً كانت دون تميز بين درجات أو تفضيل بعضها علي بعض ويدعو إلي الإستمتاع بكل لذة يتيسر للإنسان الظفر بها ، دون أن يمسك عن واحدة في سبيل أكبر منها .
* وتدرك اللذة ـ في نظره ـ بالإنطباعات الذاتية التي تحدث في الجسد ويجب أن تكون حاضرة مستشعرة فهو لا يعترف باللذة الماضية أو المستقبلة فهما ليس من اللذة بشيء(1)ثم جاء من بعده بعقدين من الزمان تقريباً أبيقور(2)(341 – 27 ق. م )
وأسس المدرسة الأبيقورية .
__________
(1) انظر : الأخلاق النظرية . عبدد الرحمن بدوي صـ 241 ، 242 بتصرف
(2) أبيفور ( 341 ق. م – 271 ) حياته يفخر ابيفور بنفسة كونه تلقي تربية ذاتية ، فتعلم الفلسفة ثم إنتقل إلي
آثثينا وأنشأ مدرسة عظيمة الشهرة عرفت باسم ( حديقة أبيقور فزاول التعليم فيها حوالي ست و ثلاثين سنة
حتي وفاته سنة 271ق .م
فلسفته ؛ الأصل عنده هو وتلاميذه أن أصل المعرفة هو الحس . ومقياس الخير هو اللذة ومفارقة الآلم
( انظر . موسوعة أعلام الفلسفة جـ1 صـ 53
(2) انظر : تاريخ الأخلاق . د/ محمد يوسف موسي . مكتبة . محمد علي صبيح سنه 1953م ، صـ 107
وكذلك انظر . المشكلة الخلقية – ذكريا إبراهيم – مكتبة مصر صـ 122 ، 123
(4) هذه جزء من رسالة كتبها أبيقور إلى مانيفيه أوردها د / عبد الرحمن بدوى في كتايه الأخلاق النظرية
صـ243
(5) ) انظر في ذلك : المشكلة الأخلاقية والفلاسفة . تأليف أندرية كرسون ترجمة
وتعليق د / عبد الحليم محمود وأبو بكر ذكري .- دار إحياء الكتب العربية صـ 85 ، 95 (معناه )
وكذلك أنظر معني النص السابق . تاريخ الفلسفة اليونانية . يوسف كرم ط دار العلم صـ 221(1/13)
وكان متفقاً مع من سبقه إلا أنه عدل بعض الشيء في النظرية السابقة فرأى أن اللذة وإن كانت غاية السلوك البشري إلا أنها أحياناً تجر وراءها عواقب سيئة فعمل علي وضع شروط من خلالها يعمل علي تقنين اكتساب الملذات فوضع قواعد أربع بُني عليها المذهب الأبيقوري .
1- خذ اللذة التي لايعقبها ألم .
2- إجتنب الألم الذي الذي لا يستتبع شيئاً من اللذات .
3- أرفض اللّذة التي تفقدك لذة أعظم منها أو تسبب لك ألماً أكثر مما فيها من اللذة .
4- تقبل الآلم الذي يخلص من ألم أشد أو يعقبه لذة أكبر(1)
لقد جعل أبيقور مصدر الإلزام هو اللذة وذلك حين قال ( نحن نجعل من اللذة مبدأ السعادة وغايتها ... وإليها نسعي دون إنقطاع ، وفي كل شيء العاطفة هي القاعدة التي تستخدم في قياس الخير )(2)فعمل الأخلاق عنده ( تعليم بني الإنسان فن الحصول علي اللذة وتحاشى الألم )(5) ... فاللذة عند ابيقور لذة مادية حسية، ولا يؤمن بما وراء المادة وهذا هو الفكر الأخلاقي – في مسألة الإلزام عند أبيقور .
ب ـ مذهب اللذة في العصر الحديث وأشهر القائلين به :-
والآن نطوي مدة طويلة من الزمن لنقف مرة أخري مع مذهب اللذة الذي نادي به كثير من المفكرين الغربيين في عصر النهضة الأوربية 0
أولاً : توماس هوبر ومبدأ المنفعة .
لقد اختفي المذهب فترة مؤقتة من الزمان لم يجد فيها ممثلين له ثم عادت إلي الحياة روحه مرة أخرى ( ففي العصر الوسيط لم يكن له ممثلين ولكنه عاده إلي الظهور مرة ثانية في عصر النهضة الأوربية )(3)
__________
(3) مقدمة في علم الأخلاق د/ محمود جمدي زقزوق دار العلم صـ 63
(2) التعريف :- ( توماس هوبز ) 1588- 1679 م فيلسوف إنجليزي درس في جامعة أوكسفورد وتخرج منها ليصر
مؤدباً لأحد أبناء عائلة كافنديش . سافر لفترة إلي إيطاليا ثم إلي فرنسا فتعرف علي( جا ليلي ومرسين وغاسندي )
وعاد إلي بلاده والتي ما لبث أن غادرها سنة 1640 بسبب خوفة من المشاكل السياسية . استقر في باريس وعاد مرة
اخري إلي بلدة وفي عام 1667 م صدر قانون يدين الإلحاد ويحكم ضمناً علي كتاب هوبز (التنين ) فحماه الملك علي
ألا يعود إلي النشر مرة اخري في مؤلف جديد: فلسفة : التزم بالمذهب الحسي الأناني المنفعه الفردية * انظر في ذلك
موسوعة اعلام الفلاسفة صـ 549 ج2
(3) تاريخ الأخلاق د/ محمد يوسف موسي .- مكتبة محمد علي صبح صـ 252 بتصرف(1/14)
ظهر هذا المذهب بضراوة وقوة علي يد الفيلسوف الإنجليزي ( توماس هوبز )(1)( 1588- 1676م )
* فأهم ما يحتوي عليه رأي ( هوبز ) في مصدرية اللذة للأخلاق :
1- الإيمان الكامل بأن الغريزة "الأثرة " هي أقوي الغرائز الفطرية ومن ثم ينبغي أن
تكون أساساً يقوم عليه الأخلاق .
2- أن العواطف النبيلة الخيرة – يزعم أنها – ترجع إلي صفة الأنانية(2)
فالأساس الذي أقام عليه توماس هوبز مذهبه هو الأثرة وحب الذات وإقتناص اللذة والشهوات لها ولو كان ذلك علي حساب الآخرين فليس في مذهبه هذا مكان لمن حوله من المجتمع . أفراداً أو جماعات حتي إنه أراد أن يقبح فضائل الأخرين ويصبغها بصبغة المذهب الآسن الذي ابتدعه للناس .
فزغم أن العواطف النبيلة وأفعال الخير التي يقوم بها البعض تجاه الأخرين كالكرم والإيثار النجدة وكل فعل (خيري يهتم بشئون الآخرين ) إنما هي أعمال نفعية محضة نقوم بها لأننا نعلم أنها تعود علينا بالنفع عاجلا أو آجلاً(3)
ثانياً : جرمى بنتام(4)ـ ومذهب المنفعة ( 1748 ـ1832م ) :
__________
(1) المصدر السابق صـ 252 بزيادة بعض الشيء
(4) جيرمي بنتام ولد في لندن سنة 1748 توفي سنة 1832 فيلسوف إنجليزي اعتنق المنذهب النفعي . له كتاب
مدخل إلي مبادئ الأخلاق والتشريع وسافر إلي فرنسا ففي عام 1792 تلقي الجمعية التشريعية هناك لقب
مواطن فرنسي ووضع مشروعاً لسجن نمزجي (1803 ) فنال مكافئة علي كتاباته حول الإرادة الكولو نيالية
والإصلاحات التي يتعين إجراؤها في إدارة السجون ودعا إلي الإصلاح الدستوري وأسس حزب مبني علي
المذهب النفعي فمذهبه أن الناس يتبعون اللذة ويجتنبون الألم بالطبع إلا أنها كانت مشهورة بالنفعية العامة
إنظر في ذلك: تاريخ الفلسفة الحدبثة د/ يوسف كرم صـ 343 دار المعارف مصر وانظر كذلك موسوعة
أعلام الفلاسفة الجزء الأول صـ 245 ، 246 بتصرف .(1/15)
يعد جرمي بنتام واحد من أكبر المفكرين التجريبيين الغربيين الذين تحدثوا عن المسألة الأخلاقية وخلفه من بعده تلميذه ( جيمس مل(1)(1773 - 1836 ) وخلف جيمس ابنه جون استيورت مل ( 1806 - 1873 ) م
جاء جرمي بنتام وأحيا بعد توماس هوبز مذهب النفعية والأثرة التي نادي بها هوبز .
ولكن كان لبنتام بصمات علي هذا المذهب . فلقد نادي كذلك هو الأخر بالمذهب القائل بأن مصدر الإلزام هو اللذة... فهو واحد من هؤلاء المفكرين الذن ساهمو في بناء هذا المذهب – ( الذي أبعد البشرية عن الحق ) - المذهب النفعي التجريبي .
يعد بنتام وتلاميذه من بعده ممن ساهموا في وضع نظام قانوني بشري نفعي قام علي اللذة والمنفعة .
يعد فكر بينتام لبنة في الجسر الممتد من تاريخ الفكر الغربي الحديث إلي تاريخ الفكر الغربي القديم لدي اليونان فهو نتاج للفكر اليونانى وثمرة المذهب الأبيقوري ( 341 – 270 ق .م ) إذ لا نجد كبير فرق بين المذهب النفعي لدي جرمي بنتام ومذهب اللذة لدي ( أبيقور ) عدا بعض التعديلات التي وضعها بنتام(2)
* أهم ما يحتوي عليه مذهب المنفعه لدي ( جرمي بنتام )
1- أن اللذة والخير والسعادة والمنفعة كلها بمعني واحد فالمنفعة عنده كل سبب في إيجاد لذة .
__________
(1) جيمس مل ( وجون استيوارت مل ) جون استيورت مل ،هو بن جيمس مل ( 1806 – 1873 ) إنضم إلي
فريق الشباب الذين كانوا يعملون علي نشر سياسة وأفكار بيتنام وجيمس مل ، وأنتجت عضواً بمجلس
النواب سنة 1865 وبقي فيه ثلاث سنوات كتب في كثير من المجلات والجرائد منها ( وستمنستر ) والتي
كان يحررها بتنام وجيمس مل ( أبوي) وكان موافقاً لمذهب بيتنام في النفعية ز وقام بشره وتكتمل ما نقص
منه ( تاريخ الفلسفة الحديثة د/ يوسف كرم – دار النعارف بمصر صـ 343 )
(2) انظر إلي الشروط التي وضعها أبيقور والمعايير التي وضعها ( بنتام ) ومدي الإنفاق الذي بينهما .(1/16)
2- مطالبة الإنسان بالعمل علي تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس 3 - المذهب لا يهتم بالمقاصد أو النوايا ( لدي الفاعل ) إنما يهتم بالنتائج المترتبة علي حدوث الفعل ( المهم أن يكون لأكبرعدد من الناس )
4- أن علم الأخلاق يقوم علي أساس الحساب والموازنة بين اللذات، فاللذة إنما تفضل علي غيرها إذا فاقت غيرها وفقاً للماعيير السبع التي وضعها ( رمي بنتام ) وهي كالأتي :
(أ – ب) الشدة والدوام (ج – د ) اليقينية - والقرب
(ذ – ر ) مدي خصوصيتها ومدي نقائها
ز -) مداها – يعني عدد الأشخاص الذين شملتهم هذه اللذة(1)
5 ـ هذا المذهب –فيما أري – يشتمل علي متناقضات ..
منها " أننا نجد (بنتام) يدعو إلي المنفعة العامة ويغلب عليها كل كلامه في المسألة الأخلاقية ، بينما نجده ذاته في وقت آخر لا يريد من الأنانيين أن يتخلوا عن أنانيتهم وأثرتهم .وهذا يحمل معني التناقض الواضح في المذهب النفعي لدي( جرمي بنتام)(2)
وكانت هذه هي أحد المؤاخذات التي أخذها عليه تلميذه (استيورت مل )
__________
(1) راجع تفصيل المذهب في المراجع التية
1- ... الفلسفة وقضايا العصر جـ 1 د/ أحمد حمدي محمود . جمعها جون . ر. بورر . ميلتون جولد بينجر مطبوعات الهيئة المصرة العامة للكتاب : صـ 166 إلي صـ 177 بتصرف شديد ( تحت مقال المذهب لنفعي بقلم جرمي بيتام )
2- ... الأخلاق النظرية / د. عبد الرحمن بدوي من صـ 247 : صـ 250 بتصرف
3- ... المشكلة الهخلقية / زكريا إبراهيم ز- مكتبةمصر صـ 165 صـ 166 ًـ 167بتصرف
(2) الأخلاق النظرية صـ 251 قال ( جرمي بنتام ) ( ....... لكن الناس سيرغبون في خدمتك .
إن وجدوا في ذل مصلحة لهم .......)
(2) الفلسفة الخلقية – نشأتها وتطورتها د/ توفيق الطويل – مكتبة المعارف بالاسكندرية طـ 1 ص ـ 196 صـ198(1/17)
6 ـ اصطبغت الأخلاق بالصبغة التجريبية فكل ما لايقع تحت الحس والشعور لا يتعد به في نظر المذهب النفعي ولعل السبب في ذك هو التأثير السلبي الذي تركته الكنيسة موقفها من العلم والعلماء فكان رد الفعل العكسي والذي صنعه بنتام وهو إبعاد الأخلاق عن كل
ما هو ديني خشية أن يوصف منهجة بالميتافيزيقية أو اللاهوتية .(1)
ثالثاً : الفلسفة البرجماتية(2)وأنصارها ومصدر الإلزام الأخلاقى عندهم: –
__________
(1) 4 البرجماتية . مصطلح مشتق من الكلمة اليونانية (pragma) ومعناهاالعمل وأول من إستخدم مفهوم البرجماتية بالمعني
المعروف الآن هو الفيلسوف الأمريكي تشارلس شاندرز بيرس ( 1839 – 1914 ) فقد استخدم هذا المصطلح في
( 1878 ) وقد أطلق علي اتجاه فلسفي قريب الصلة بمذاهب النسبية والنفعية والوضعية .
(2) والفكرة الأساسية التي يقوم عليها هذا الإتجاه : هي أن الأفكار كلها أي النظريات والفلسفات لا تجد معايير قيمتها =
= وحقيقتها إلا في إمكانيات تطبيقاتها العملية المفيده للحياة ( فما هو مثمرهو وحده الحق ) ولهذا فإن المعرفة والفكر ليسا إلا أدوات للعمل ومن أعلام الحركة – بيرس – وليم جيمس (انظر في ذلك :-- مدخل الفكر الفلسفي . يوزيف بوخينسكي ترجمة د/ محمود حمدي زقزوق .- دار الفكر العربي سنة 1416هـ ، 1996 م صـ 58 ، 59(1/18)
يعتبر وليم جيمس(1)أحد رواد الحركة البرجماتية وكذلك الفيلسوف الأمريكي تشارلس ث بيرس(2)
* ومذهب البرجماتية في الأخلاق – هو وليد لمذهب المنفعة الغربي الذي نادي به الغرب – فهو يعتبر أن المنفعة هي الأساس في مصدرية الإلزام و لقد أكد أعضاء هذا المذهب
( أن الإنسان هو الخالق الوحيد للقيم في ذلك العالم وليس للأشياء من قيمة خلقية إلا بإعتباره هو )(3)
فالإنسان هو مصدر الإلزام بالأخلاق وليس شيء أخر غير الإنسان ولكنه اختيار من الإنسان مبدأ المنفعة فالأخلاق عنده نفعية .
* أهم النقاط التي يحتوي عليها المذهب البرجماتي ( في الأخلاق ) :
__________
(1) وليم جيمس :- ولد في نيويورك (1843 م) وتوفي في 1910 . فيلسوف أمريكي تقوم فلسفته علي نظرية في ديناميكية الحقيقة . فليس هناك شيئ في هذا العالم قد بلغ صورته النهائية ، والعالم لا يحتوي علي جواهر وهو في صيرورة دائمة وتعد فلسفة وليم فلسفة لاعقلية وهو يطلق عليها ( المذهب التجريبي المتطرف ) وله عده نظريات ومحاضرات في علم التشريح والنفس والفلسفة وله عدة مؤلفات أنظرفى ذلك 1- مدخل إلي الفكرالفلسفي يوزيف بوخينسكي صـ 48 2- تاريخ الفلسفة الحديثة د/ يوسف كرم ـ 416
(2) تشالرس بيرس . واحداً ممن تأثر بهم وليم جيمس . تخرج في جامعه هارفارد سنة 1863وعمل فيها وقتاً قصيرا وله كتاب وحيد [ المنطق الكبير ] وعدة مقالات ولد سنة 1839م (انظر تاريخ الفلسفة الحديثة يوسف كرم )
(3) انظر في ذلك الجانب الأخلاقي في فلسفة وليم جيمس وموقف الاسلام منها رسالة ماجستير محمد مجاهد نور الدين – كلية الدراسات الإسلامية بالقاهرة صـ 74 سنة 1410 هـ(1/19)
1- أن معيار الحق في القول والخير في الفعل هو العمل المنتج لا الحكم العقلي والمراد بذلك : قصر الحكم الخلقي علي النتائج المترتبة من حدوث الفعل غير ملتفت إلي المقاصد والنوايا حين صدور الفعل الخلقي، فالعبرة في هذا المذهب بالنتائج لا الحكم العقلي(1).
وهذا المذهب يلتقي مع ما ذكرة بنتام في مذهبه ( رقم 3 ـ من محتويات المذهب البنتامي ) المذكور سابقاً .
2ـ إنكار علم الأخلاق العقلي المطلق الذي نجده متضمناً مواعظ وإرشادات عن الفضائل وترك الرزائل . أو تلقي الإنسان لقواعد خالده وقوانين ثابتة وطاعتها .
يقول جيمس إن مثل هذا العلم لا دلالة له ولا معني وأن العلاقات الأخلاقية الحقيقية توجد في عالم إنساني محض )(2)
3ـ أن الخير – أو الحق – كورقة النقد الزائفة . تظل صالحة للإستعمال حتي يثبت زيفها )(3)
القسم الثاني : العقل مصدر الإلزام
تمهيد :
ذكرت في القسم الأول من هذا المطلب . أنه قد إتجهت بعض أراء الفلاسفة بالقول بأن مصدر الإلزام هو اللذة أو المنفعة أو السعادة والمترادفات الثلاثة كما أشرت من قبل بمفهوم متقارب(4).
__________
(1) انظر في ذلك 1- تاريخ الفلسفة الحديثة يوسف كرم صـ 396
2- الحماية الجنائية للأخلاق / د/ هلالي عبد اللاه أحمد .- دار النهضة صـ 106 ، 107
(2) وليم جيمس - بقلم / محمود زيدان ( نوابغ الفكر الغربي ) دار المعارف بمصر بدون رقم الطبعة
(3) وليم جيمس إرادة الإعتقاد ترجمة د / محمود حسب الله صـ 101 صـ 183
(4) اللذة والمنفعة والسعادة ) ذكر بنتام انها عنده بمعني واحد وهي قريبة الصلة والهدف . فاللذة مذهب أخلاقي
يري أن دوافع النشاط الإنساني تنحصر في إلتماس اللذة وتجنب الألم فاللذة هي الخير السمي وللتفرقة بين
اللذة والسعادة والمنفعة يقال : إن اللذة وجدان يصاحب تحقق الللذات ككل . دون نظر إلي إشباع الرغبات
المؤقتة وبرغم الألم الناشئ عن رفض إشباعها أو إرضائها ويتفرع المذهب إلي . 1- مذهب اللذه أو المنفعة
الفردي أو الأناني . ويميل هذا المذهب القورينائية والأبيقورية قديماً وهوبز حديثاً 2- مذهب المنفعة العامة
ويمثلها جيرمي بنتام : [ انظر ذلك في المعجم الفلسفي لأعضاء مجمع اللغة العربية .- مطبعة الهيئة العامة
لمطابع الشئون الأميرية 1979م ، 1399هـ صـ 178(1/20)
فأصحاب هذا الاتجاه يرون أن الخير والشر مجرد شىء ملموس و محسوس . ومن ثم فقد ذهبوا يقيسون نتائج الأفعال بمعيار تجريبي أطلقوا عليه اسم حساب اللذات كما هو المعروف عند بنتام والأبيقوريين .
وظل هذا الرأي له اتباع حتي يومنا هذا وتأثرت به بعض المدارس التشريعية في القانون الوضعي .
ولكنه لم يكن ( مذهب النفعية ) هو الرأي الوحيد الموجود في الساحة الفكرية الغربية . علي مر تلك العصور الماضية ، فلقد زاحمه رأي آخر . قسيمه في شغل مساحة فكرية لدي المذاهب الفكرية الوضعية.
( فلقد ظهر رأي يقضي بأن العقل هو أساس الحكم والتوجية . ومصدر الإلزام في المجتمع . فهو يرفض أن تكون الأخلاق رهناً ببعض الإعتبارات العملية المتعلقة بالنتائج أو الإثارة ، بل هي رهن بما لدينا من إحساس بالإلزام )(1)
وأود أن أشير قبل الحديث تفصيلاً عن المذهب العقلي . إلي نقطة مهمه وهي :- أن مذهب اللذه لم يقم بنفي دور العقل وأهميته في مسألة الإلزام . إذ أن الدور الأساسي في التوجيه هو اللذة والمنفعة وكذلك تقريباً كل المذاهب التي إنتهجت إتجاهاً مغايراً لم تنف دور العقل في التوجيه وحتي هؤلاء الذين قالوا بأن مصدر الإلزام ( لاهوتي ) من أصحاب النظريات الغربية لم يبعدوا العقل عن مسألة الإلزام .
* وسوف نعرض رأي أصحاب المذهب العقلي كالأتي :-
1 ـ نظرة عامة في تكوين المذهب العقلي .
2 ـ أشهر القائلين بالمذهب العقلي .
3 ـ أهم محتويات المذهب .
أولاً : نظرة عامة في تكوين المذهب العقلي :-
__________
(1) محاضرات في فلسفة الأخلاق د / إمام عبد الفتاح إمام – دار الثقافة بالقاهرة سنة 1974 صـ 135(1/21)
لقد كان للمذهب العقلي القائل بأن العقل هو مصدر الإلزام وصاحب التوجيه جذور قديمة فلم تكن هذه النظرية وليدة العصر الحديث ففي القديم عند اليونان ( نجد أن العقل هو أساس الأخلاق وهو الآمر الناهي فإن الفكرة المركزية التي أختصرت فيها أراء أفلاطون الأخلاقية في الموروث اليوناني الصحيح المنقول إلي الثقافة العربية هي نظرية أفلاطون في قوي النفس الثلاث .
فالنفس عنده تتجاذبها ثلاث قوي:-
1- قوة شهوانية :- ومركزها البطن وهي تطلب الملذات .
2- قوة غضبية:- ومركزها القلب تنفعل بالغضب وما في معناه .
3- قوة عاقلة :- ومركزها الرأس وظيفتها المعرفة .
ولكل واحدة من هذه القوى الثلاث ( تسمي نفوساً ) فضيلة خاصة بها
ففضيلة النفس الشهوانية ( العفة)
وفضيلة النفس الغضبية ( الشجاعة)
وفضيلة النفس العقلة ( الحكمة )
والحياة الخلقية الفاضلة تحصل للإنسان ككل عندما تكون كل من النفس الشهوانية والنفس الغاضبية . تحت القيادة للنفس العقلة .
فالفضيلة العليا التي هي العدالة تتحقق بتحكيم العقل فالعقل إذن أساس الأخلاق )(1)
هذا هو رأي أفلاطون ومن ساروا خلفة في مدرسته الأفلاطونية – فظهر مما نقل عنهم أن العقل هو أساس0 الأخلاق .
فكان هذا بمثابة الرصيد التاريخي للمذهب العقلي الحديث .
? تطور المذهب في العصر الحديث
في العصر الحديث ـ كان النزاع محتوماً بين الكنيسة ورجال العلم مما ساعد أصحاب المذهب العقلي والوضعي علي جهة العموم بتنحية الدين اللاهوتي الغربي جانباً والإستغناء عنه لدي المفكرين الغربيين .
__________
(1) انظر في ذلك نقد العقل الأخلاقي العربي . محمد عايد الجابري صـ 108(1/22)
وأصبح للعقل مكانة أشبه ما تكون بمكانة تنصيبه مكان الدين والإله عندهم ( وبذلك وطّد العقل لذاته بادئ الأمر مركزاً قوياً بين الأفكار الدينية . إلا أنه هذا التوطيد للعقل لم يأت إلا بعد عناء شديد لاقاه ، وذلك بسبب نشر قيمة العقل وأهميته فىالتوجيه... ولقد أخذت العقول تزداد فراراً وإرتياباً في أمر( الدين المسيحي ) لما قامت به الكنيسة من إضطهاد كل من يمس تراثها بتعديل أو تكذيب )(1)
ومن أثر ذلك الضغط الشديد ظهر في المقابل تمرد عنيف ضد الكنيسة وظهرت أفكار صريحة بمعادة الكنيسة وتهميش دورها ( فظهرت للمرة الأولي أفكار دينية خارجة خروجاً ظاهراً علي القرون الوسطي . ودخل علي الدين من التيار الإنساني رفض للمفهوم التقليدي في إنحطاط الطبيعة البشرية وعجزها.
كذلك دخله من العلم الجديد روح ترمي إلي إخضاع جميع الإعتقادات والعادات إلي مقاييس العقل والمنفعة في هذه الحياة . ونقد التقليد الديني نقداً عنيفاً )(2)
وظل العقل يأخذ مكانته لدي الفكر الغربي الحديث بشكل منظم عاماً تلو الآخر
( ففي نهاية القرن السابع عشر كان معظم القادة الدينيين في إنجلترا قد إتفقوا علي أن جوهر الدين إنما هو مجموعة العقائد يمكن إثباتها بالعقل الطبيعي وحده دون عون أو مساعدة )(3)
ويظهر لنا بذلك أن الفكر البشري بدأ يتحرر من السلطان الديني الكنسي فأنكر الوحي السماوي واستغني بالعقل البشري
(
__________
(1) انظر معناه : تكوين العقل الحديث . تأليف جون هرمان راندل ترجمة . جورج طعمه . مراجعة برهان
الرجاني تقديم محمد حسين هيكل ج1 صـ 413 مؤسسة فرانلين للطباعة والنشر بدون رقم طبعه
(2) تكوين العقل الحديث / جون هرمان راندل صـ 414 ج1
(4)المصدر السابق نفسه ببتصرف شديد بنفس المحتوي صـ 424(1/23)
فلم يجدوا ثمة ضرورة للإحتفاظ بالوحي فظهر في كل فئة ـ أي المؤمنين بالدين فضلاً عن غيرهم الملحدين ـ فئات لم يتمسكوا الإ بما في الإنجيل المجرد ومفهوم ذلك عندهم أن الله ـ سبحانه وتعالي ـ لم يضف شيئاً إلي قائمة الواجبات التي يحكم بها العقل وبناءاً علي ذلك فلا النبوة ولا المعجزات والعجائب يكونان أساساً صالحاً للإعتقاد بالوحي المسيحي ...وذهب الفكر الغربي في هذه الفترة إلي أبعد من ذلك .
" فأعلنو أن المسيح كان مؤمناً بالله منكراً للوحي وكان هذا الأمر ذائعاً في فرنسا وألمانيا وانجلترا "(1)
فالعقل في أوربا بعدما أن حُبس مذهبه ورجاله . وليس له إطلالة يطل عليها من خلالها فالأن بفضل ضغوط الكنيسة ومنهجها في قتل العلماء والمفكرين أصبح العقل أداة المعرفة الحق لدي الجهة المقابلة التي لم ترض يوماً بغير حكم العقل والإعتراف بغير المادة والتجربة ، لقد أضحي الغرب يتغني بكل رجل ينسلخ من دين النصرانية أو بالأحرى من الدين الكنسي .
يقول فولتير : " كل رجل عاقل صالح يجب أن يرهب من الفرقة المسيحية . ان إسم المؤمن بالله المنكر للوحي ( وهو اسم كبيرـ لا نحيطة بمقدار كاف من الاحترام ) هو الاسم الوحيد الذي يجب أن نتخذه تسمية لنا والإنجيل الوحيد الذي يجب أن نقرأه هو كتاب الطبيعة الكبير الذي كُتب بيد الله . والديانة الوحيدة التي يجب التبشير بها هي عبادة الله والسعي للخير )(2)
وبذلك بدأت الأفكار التي تؤيد العقل كأساس للمعرفة الحقيقية وكمصدر للإلزام وتوجيه الأحكام تنشط وتأخذ مكاناً رحباً بين الأفكار الأخري والتي تعج بها الساحة الغربية وبدأ هؤلاء المفكرون يكرسون جهودهم لبناء المذهب العقلي والذي يعتمد علي العقل كأساس في مسألة الإلزام الخلقي، وأذكر الآن أهم رجال المذهب ومؤسسية في العصر الحديث .
__________
(1) المرجع السابق ص424بتصرف
(2) نفس المرجع صـ 226.(1/24)
ثانياً:- أشهر القائلين بالمذهب العقلي(1)
القائلون بالمذهب العقلي كثيرون وبخاصة في العصر الحديث حتي هؤلاء الذين قالوا بأن مصدر الإلزام هو المجتمع فلقد سموه ( بالعقل الجمعي )(2)إلا أنني أود الإختصار في ذكر أشهر القائلين وأذكر واحداً يمثل هذا الاتجاه فكان أبرز هؤلاء المفكريين القائلين بأن العقل هو مصدر الإلزام المفكر الألماني " عموائيل كانت "(3)
__________
(1) تعريف المذهب العقلي بوجه عام ز هو مذهب يقول بسلطان العقل ويرد الأشياء إلي أسباب معقولة . ويطبق في العلم والفلسفة والاخلاق والسياسة .
وبوجه خاص لدي أصحاب هذا المذهب ( نظرية تفسر في ضوء أولية ( ضرورية تري أنه لا سبيل إلي معرفة بدونها – لأن الحواس لا تستطيع أن تزودنا إلا بمعلومات غامضة ومؤقته ويقابله المذهب التجريبي فالمذهب العقلي نظرية ترد الحكم إلي الذهن لا إلي الإراده فلا تفسح المجال للظواهر الوجدانية ولا الإرادية في الاعمال المذهبية ) انظر في ذلك المعجم الفلسفي – مجمع اللغة العربة صـ 178 مطبعة الهيئة العامة للشئون الأميرية .
(2) العقل الجمعي هو ( أمر من الجماعة بمثابة الضمير من الفرد فيصدر أحكاماص مباشرة علي القيم الأخلاقية لأعمال معينة يرضي ويسخط أو يثور ويتألم وبه قال دور كايم ) المرجع السابق صـ 121
(3) التعريف – بكانت : ولد عموئل كانت عام ( 1724 ) في المدينه البروسية كونربرج والتي كانت تتبع الإتحاد السوفيتي السابقة ، والتي تغير اسمها الس بلجراد وامضي حياته في هذه المدينة . ينحدر من من أسرة فقيرة تؤمن بالعقيدة النقوبية المتشددة التي تمثل نزعة أصولية غارقة في الروح الجرمانية .
ثم التحق بالمدرسة الثانوية ثم أتم دراسته في جامعة ( كونجربرج ) وعمل بها محاضراً وهو في الحادية والثلاثين . ظل بها إلي أن تقاعد بأثر المرض الذي أصابه سنه 1799 ومات في الثاني عشر من شباط (1804) انظر في ذلك أ- رزاد الفلسفة الحديثة تأليف / ريتشارد ساخت صـ 260
ب- موسوعة أعلام الفلسفة تأليف / ذوني غيلي ألفا جـ2 صـ 244(1/25)
3) (1724 – 1804) م
وكان سبب اختياري لكانت كممثل للمذهب العقلي أنه أثر بالفعل في المدارس والمذاهب الموجودة في عصره والتي تلته بعد ذلك ولقد كان له عظيم الأثر في القانون الوضعي الألماني ( فلقد تأثرت به المدرسة التقليدية الحديثة )(1)فلقد تأثرت بفكرة العدالة التي نادي بها هذا الفيلسوف الألماني .
( لقد تأثرت به الإتجاهات الفكرية السائده التي تعتبر في جوهرها كانتية الطابع . إن الطابع الرئيسي للعصر الحاضر في الفلسفة هو السير في الاتجاه التجريبي ويجب أن نسلم بأن هذا من بعض الوجوه يوحي بالتقليل من تقدير أثر (كانت ) الذي كان عقلياً بمزاجه وتدريبه ، ولكن الوضعية الحديثة وهي أشد صور التجريبية تطرفاً تلتقي مع الكانتيين في نقطة واحدة علي الأقل، فكلاهما يفسر القبلية علي أساس الفروض السابقة التي تستحيل بدونها المعرفة البشرية)(2)
__________
(1)
(4) انظر في ذلك : النظرية العامة للجزاء الجنائي د/ أحمد عوض بلال .- ط1 .- دار النهضة المصرية : 1995 .- صـ 158 وسيأتي الحديث عنها تفصيلاً في فصل الجزاء
(2)
(5) فلسفة القرن العشرين – مجموعه مقالات في المذاهب الفلسفية المعاصرة جميعها . داجوبرت .د . رونز ترجمة عثمان نوته ز مراجعة زكي نجيب محمود . – مؤسسة سجل العرب سنه 1963 ( مجموعة الالف كتاب )(1/26)
ولعل سبب هذا التأثير في الفلسفات الأخرى محاولة كانت للتوفيق بين المذاهب المعاصرة ـ توفيق بين التجريبية الوضعية وبين المدرسة النقلية التي تعتمد علي أثار الوحي والمدرسة العقلية والتي تزعمها ..إذ أنه ( كان لا يحفل بإيجاد مبدأ أساسي للأخلاق ذي مضمون محدد لأنه بينما يحاول تعميق فكرة الأخلاق يستهدف غرضاً يقوم خارج الأخلاق... أنه يود أن يربط بين المثالية الأخلاقية وبين التصور المثالي للعالم القائم علي أساس نظرية المعرفة ، ومن هذا المصدر يأمل أن تنبثق فلسفة أخلاقية قادرة علي إرضاء الفكر الناقد )(1)
ثالثاً :- أهم ما يحتوي عليه المذهب :
يحتوي المذهب العقلي في الإلزام الخلقي علي الآتي وأقتصره في نقاط : ـ
1ـ مصدر الإلزام الخلقي : هو العقل
يقول كانت : " لما كان العلم كلياً وضرورياً أى صادر عن العقل . فيلزم أن الفلسفة الخلقية لا تقوم علي التجربة الظاهرة ولا علي حس باطن – بل علي العقل وحده – فإن العقل هو الذي يمدنا بمعني الواجب الذي هو الركن الركين في الأخلاق)(2).
فكانت يري ألا قيام للأخلاق إلا علي هدي العقل وحده فهو مصدر الإلزام الخلقي ومن ثم فلا يعترف بقاض غيره ، فهو الكفيل الوحيد بأن يوصلنا إلي المعرفة الصحيحة التي تظهر علي حقيقة الأشياء والمذهب العقلي لا ينكر التجربة والحس المادي إلا أنه لم يجعل لهما الصدارة في أولوية توجية الحكم لدي الأفراد يقول كانت..." رغم أن معرفتنا بأسرها تبدأ بالتجربة إلا أن هذا لايعني أنها كلها مستمدة من تجربتنا... ثم يتسائل. هل لدينا فعلاً أفكاراً معينة ومعرفة بأفكار معينة لا يستطاع القول بأنها مستمدة من التجربة ؟
__________
(1) فلسفة الحضارة صـ 230 تأليف . البيرت اشقتير ترجمة د/ عبد الرحمن بدوي .
مراجعه / زكي نجيب محمود ز وزارة الثقافة المؤسسة المصرية .
(2) تاريخ الفلسفة الحديثة د/ يوسف كرم .- دار المعارف صـ 214(1/27)
يجيب علي ذلك : نعم لدينا مثل هذه الأفكار ويتعين علي عدم اعتبارها مجرد لغو أو أشياء بلا مضمون . لأن هذه الأفكار لا غني عنها للفكر الإنساني... ومن ثم فلا بد أن يكون لها مصدر آخر... وهذا المصدر الآخر لابد أن يكون العقل بالذات(1)
2ـ يري كانت أن الطابع السامي للأخلاق لا يمكن الإحتفاظ به إلا إذا جعلناها غاية في ذاتها وليست أبداً وسيلة إلي غاية حتي لو برهن السلوك العملي الأخلاقي علي أنه مفيد وعملي(2)
فإن الدافع إليه يجب أن يكون دافعاً ذاتياً محضاً حتي ولو كانت هذه الغاية فائدة تجني أو تنفع يبتغي فكلا النفع والفائدة في هذا الشأن غير أخلاقي عند كانت .
ونستطيع أن نقول بأن الحكم الخلقي علي الفعل عند كانت إنما ينظر إلي النية والمقاصد وليس مترتباً علي النتائج أو النجاح . كما هو الوضع عند بنتام ووليم جيمس في مذهب المنفعة واللذة .
( فالإرادة الخيرة لا تستمد خيريتها مما تصنعه أو مما تحققه بل هي عالية على جميع آثارها وهي تستمد خيرتها من صميم نيتها... فالنية بمثابة العنصر الجوهري للأخلاقية... والإرادة تظل خيرة ولو عجزت مادياً عن تحقيق مقاصدها. ما دامت قد استخدمت كل ما في وسعها من طاقة، وشتى الوسائل الموجودة بين يديها(3)
__________
(1) فقرات متقطعة – من كتاب – رواد الفلسفة الحديثة تأليف –ريتشارد شاخت صـ 269 ، 270 ،271 –
ترجمة أحمد حمدجي محمود
(2) فلسفة الحضارة . مرجع سابق صـ 226
(3) انظر في ذلك بتصرف 1- كانت أو الفلسف النقدية د/ ذكريا ابراهيم صـ 133 .- مكتبة مصر
ب- الأخلاق والسياسة / محمد مختار الزقزوقي .- مكتبة الأنجلو سنة 1998 صـ 107 ، 108(1/28)
3ـ إن الباعث على الفعل الأخلاقي هو الواجب لذاته ( فالسلوك لا يكون أخلاقياً إلا إذا انبعث عن الواجب أو الإحترام للقانون الأخلاقي في ذاته وينتج عن ذلك أن الخضوع للتقاليد، أو العادات، أو تجارب الماضي، أو الشريعة الإلهية، أو للتبعية للسلطة ـ إلهية أو بشرية . كل ذلك مهما بلغ في السمو لا يضفي علي السلوك صبغة أخلاقية )(1)
وهذا العنصر الثالث يؤدي بنا إلي عنصر رابع في الفلسفة العقلية لدي كانت وهو أن كانت قرر 0
4ـ ( بأن الأخلاق ليست في حاجة إلي الفكرة القائلة بوجود كائن آخر يعلو علي الإنسان حتي يكون في وسع الإنسان أن يتعرف علي واجبة )(2)
ومعني ذلك أن الإنسانية ليست في حاجة إلي الدين من أجل قيام الأخلاق بل لابد أن تقوم بذاتها بمقتضى طبيعة العقل نفسه فيقول : " أما معاني الله والنفس والدين والحرية والخلود والتي كانت الفلسفة السلفية تقيم الأخلاق عليها .
فلا سبيل إلي إعتبارها أساساً لها( الأخلاق ) بعد أن نقد العقل النظر بإستحالة العلم بها علي أنه يمكن الإيمان بها إذا أدى بنا إليها تحليل المعاني الأخلاقية نفسها فهنا ـ تبني الميتافيزيقيا علي الأخلاق بدلاً من أن تبنى الأخلاق علي الميتافيزيقيا(3).
إن أخلاقية كانت إنما تتحرر من سلطان الميتافيزيقيا، وأثر الوراثة والفطرة(4)والعادات والتقاليد والقدوات .
5 ـ استخلص كانت من قانون الواجب الذي ذكره ثلاث قواعد رئيسة هي : ـ
أ ـ ( أعمل دائماً بحيث يكون في استطاعتك أن تجعل من قاعدة فعلك قانوناً
__________
(1) الأخلاق بين الفلسفة وعلم افجتماع د/ السيد محمد بدير .- دار المعرفة : 1995م . صـ 96 بتصرف .
(2) علم الأخلاق دراسة مقارنة من زاوية علم الإجتماع د/ قباري محمد اسماعيل . جامعة الاسكندرية ج2
صـ 167 . الهيئة المصرية العامة للكتاب
(3) تاريخ الفلسفة الحديثة / يوسف كرم .- دار المعارف صـ 214
(4) معناه – علم الأخلاق – د/ قباري . مرجع سابق صـ 142(1/29)
كلياً)(1)وهي قاعدة التعميم أو الشمول فهو لا يبيح في الفعل الأخلاقي ألا
يكون عاماً فالأمر الأخلاقي عنده مطلق شامل لا يجوز أن تدخله قاعدة
الإستثناء .
ب ـ قاعدة الغائية ومضمونها ( أعمل دائما ً بحيث تعامل الإنسانية دائما في
شخصك وفي أشخاص الأخرين كغاية لا مجرد وسيلة )(2)
ج ـ قاعدة الحرية وهي تنص علي ضرورة خضوع الإنسان للقانون بإعتباره
هو مشرعه(3)
هذه هي خلاصة و محتوي المذهب العقلي الذي نادى به كانت الألماني 0
القسم الثالث : الضمير مصدر الإلزام الخلقي
وبعد الحديث عن القسمين الأولين : من القائلين بأن مصدر الإلزام هو الإنسان ذاته وليس سلطة خارج الإنسان ) نأتي إلي القسم الثالث من القائلين بان الإنسان هو مصدر الإلزام . وجعلوا مصدر الإلزام فيه هو الضمير .
فلقد ذهب فريق من العلماء والفلاسفة الغربين مؤيدين بأن مصدر الإلزام هو الضمير أو الحاسة الخلقية ( وهما سواء عندهما ) وسوف أتناول الحديث عن المذهب في نقاط محددة في الأتي :-
أولاً : تعريف الضمير :-
أ ـ مفهوم الضمير في اللغة العربية :
الضمير . اسم مفرد ـ الجمع ضمائر وهو السر داخل الخاطر(4)
قال الليث : " الضمير الشيء الذي تضمره مع قلبك "
تقول أضمرت صرف الحرف إذا كان متحركاً فأسكنته ،
وأضمرت في نفسي شيئاً ..... أخفيته .
__________
(1) القيم الأخلاقية دراسة نقدية في الفكر الإسلامي والفكر المعاصر / د. سامية عبد الرحممن عبد السلام .- ط1 .
: 1992 . صـ 94، 95
(2) كانت أو الفلسفة النقدية ذكريا ابراهيم صـ 144
(5) القيم الأخلاقية صـ 95 وكذلك المصدر السابق ومقدمة في علم الأخلاق/ محمود حمدي زقزوق صـ 127
والأخلاق في النظرية / عبد الرحمن بدوي صـ 269 دار القلم بيروت(1/30)
ويذكر الدكتور عبد الرحمن بدوي معلقاً [ هذا ولم نعثر علي إستعمال كلمة ضمير بمعنى الشعور المميز بين الخير والشر في كتب اللغة العربية ولا في كتب الأدب ولا في كتب الفلاسفة المسلمين ، بل استعمال هؤلاء لكلمة الضمير هو دائماً بالمعني اللغوي العادي . أي ( السر داخل الخاطر ،وما هو مضمر في النفس ).
والضمير في النحو . ماكني عن متكلم أو مخاطب او غائب ]
فمصطلح الضمير الذي جعله فلاسفة الغرب مصدراً للإلزام لم يكن معرفاً لدي فلاسفة المسلمين وعلماء اللغة حتي عهد قريب .
ويذكر فضيلة الدكتور / عبد الحليم محمود عن عدم وجود المصطلح عند المسلمسن بقوله ( إذا بحثنا في معاجم اللغة العربية عن معني كلمة " الضمير " فإننا لا نجد من بين معانيها المعني الأخلاقي الذي يفهم من هذه الكلمة في العصر الحاضر ونستعملها فيه ونطلقها عليه ، وهي لم ترد بهذا المعني في القرآن أو الحديث أو في الشعر العربي القديم
أنه معني حديث أخذناه عن الغرب في العصر الحديث , وقد استعمله الغرب كثيراً وأشاد به حينما أراد أن يضع للأخلاق أساساً ومقياساً , منفصلة عن الدين , وكان ذلك على الخصوص حينما أراد الغرب أن يتخلص من سيطرة الكنيسة , وأن يخرج علي سلطانها , ويثورعلي قواعدها وأوضاعها ويفصل بين الدين والدولة , وكان الدين إذ ذاك أساساً ومقياساً للأخلاق ولا مناص ـ إذ أريد التخلص من الدين ـ من البحث عن أساس وقياس للأخلاق، فلابد لاستقرار المجتمع وأمنه وهدوئه من أن تستقر الأخلاق وتقوم علي دعامة قوية , وإلا انهار المجتمع وناله الفساد من جميع أقطاره، وتلفت زعماء الثورة يميناً وشمالاً ـ لعلهم يجدون ـ ما يقوم مقام الدين وقد تحللوا منه بالنسبة للأخلاق ـ فوجدوا ـ كسراب يتأنق ـ الضمير فتشبثوا به وأثنواْ عليه , ورفعوا من شأنه واعتبروه أساساً ومقياساً للأخلاق )(1)
__________
(1) انظر الاسلام والعقل / د. عبد الحليم محمود . دار الكتب الحديثة القاهرة صـ 63 ، 64(1/31)
ومن خلال ما سبق يتضح لنا أن استعمال مصطلح " الضمير " لم يكن معروفاً لدي علماء المسلمين بالمعنى الفلسفي الذي يقصده الغرب الآن وأن هذا المصطلح وليد حاجة الغرب إليه بعد الثورة الفرنسية ـ علي ماذهب إلية صاحب القول السابق المرحوم عبد الحليم محمود أو وليد القرن الثالث عشر الميلادي علي ماذهب إليه الدكتور عبد الرحمن بدوي
ب ـ تعريف الضمير لدي علماء الغرب :
يلاحظ عدم اتفاق فلاسفة الغرب علي تعريف محدد للضمير وإنما ذهب أصحاب كل اتجاه فلسفي إلي تعريف للضمير بما يخدم اتجاههم هذا ، حتى القائلين بأن الضمير مصدر الإلزام لم يكن تعريفهم للضمير على المستوي الذي يقتنع به غير القائلين بمصدريته ومسئوليته عن التوجيه.
ولكن علي كل حال نذكر بعض هذه التعريفات التي ذكروها :
يعرف معجم لالاند الضمير بقوله : " الضمير الأخلاقي هو خاصية العقل في إصدار أحكام معيارية تلقائية ومباشرة علي القيمة الأخلاقية لبعض الأفعال الفردية المعينة، وحين يتعلق هذا الضمير بالأفعال المقبلة . فإنه يتخذ شكل صوت يأمر أو ينهي , وإذا تعلق بالأفعال الماضية فإنه يترجم عن نفسه بمشاعر السرور أو الألم , وهذا الضمير يوصف تبعاً للأحوال المختلفة، يوصف بالواضح، الغامض , المريب , المخطئ ".
وتلحظ في هذا التعريف السابق أنه جعل حكم الضمير .. لبعض الأفعال الفردية المعينة فهو ليس حكماً علي كل الأفعال . وليس حكماً كذلك علي الجماعة أو الأمة أو مجموع الناس .
ويعرفه بعضهم ( بأنه معرفة الخير والشر)(1)
__________
(1) الاخلاق النظرية - عبد الرحمن بدوي ص56
(2) نفس المرجع ص 8 5
(3) المرجع السابق ص 9 5
(4) الحدس هو الإدراك المباشر لموضوع التفكير وله أثره في العمليات الذهنية المختلفة فيلحظ في الأداراك الحسي
ويسمي حدساً عقلياً , ويكون أساساً للبرهنة والاستدلال , ويسمي حدساً عقلياً , بالحدس تدرك حقائق التجربة كما
تدرك به الحقائق العقلية . وبه تكشف عن أمور لا سبيل إلي الكشف عنها من طريق سواه , وهو بهذا شبه بالرؤية
المباشرة والالهام . أنظر المعجم الفلسفي مجمع اللغة العربية ص 0 7
(5) انظر المعجم الفلسفي . اصدار مجمع اللغة العربية . الناشر الهيئة العامة للشئون الأميريةالقاهرة ,(1/32)
ويعرفه البعض الآخر بقوله ( الضمير هو ملكة الإقرار والاستهجان )(2)
ويعرف القديس توما الاكويني بقوله ( الحكم الصادر من العقل ) (3)
ولقد عرّف الضمير الأخلاقي أيضاً بأنه ( خاصة يصدر بها الإنسان أحكاماً بها الإنسان أحكاماً مباشرة علي القيم الأخلاقية لأعمال معينة . فإن تعلق بما وَقَعَ – صَاحبَةَ ارتياح أو تأنيب، وإن تعلق بما سيقع كان آمراً أو ناهياً وقد عني به الحدسيون(4) وعدوه قوة فطرية تدرك الخير والشر حدسياً من غير خبرة سابقة وأنكر الطبعيون ذلك , ورجعوا به إلي التجربة وربطوا الحكم علي أخلاقية الأفعال بنتائجها )(5)
ومن خلال التعريفات السابقة ندرك أن الضمير عبارة عن عاملين أساسيين اسهما في تكوين ما يسمي بمصطلح الضمير الأخلاقي :
العامل الأول : ( مجموعة من الإسهامات العقلية والنفسية والاجتماعية سواء أكانت هذه الإسهامات فطرية كما يقول بعض أم مكتسبة كما يقول البعض الآخر ـ إلا أن هذه الإسهامات في حقيقتها هي التي كونت ما يسمي بمصطلح الضمير الأخلاقي .
العامل الثاني : المكون للضمير والمشكل له ملكة التميز بين الخير والشر(1)
وينتج عن هذا أن الضمير يتشكل بحسب البيئة الإجتماعية والحاله النفسية والمزاج العقلي والمعرفي لدي الفرد والأسراة والمجتمع فالضمير وليعد كل هذه الإسهامات المشار إليها .
__________
(1) راجع في ذلك بتوسع الأخلاق بين الفلسفة وعلم الاجتماع د / السيد محمد بدوي الاستاذ / بجامعة الاسكندرية
من ص 7 2 1 إلي ص 8 4 1
الأخلاق النظرية عبد الرحمن بدوي من ص 0 6 إلي ص 6 7 سابق
دراسات في فلسفة الأخلاق الدكتور / محمد عبد الستار نصار من ص 9 8 1 إلي 194 دار العلم
الحماية الجنائية للأخلاق دراسة مقارنه . هلالي عبد الله أحمد دار النهضة ص 50 ص 51(1/33)
المبحث الرابع
خصائص التشريع الجنائي الإسلامي ومميزاته عن النظم الأخرى في الإلزام الخلقي
أولاً : ربانية المصدر
ذكرت فيما مضى في هذا الفصل مصدر الإلزام في الإسلام ومصدره في النظم الوضعية فمصدر الإلزام في الشرع الإسلامي هو الله العليم الخبير , وذلك عن طريق الوحي السماوي المُنزل علي النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - . وكذلك ما كان طريقة سنته - صلى الله عليه وسلم - والمصادر اللاحقة بهذا المصدر الأساسي بعد تقرير الوحي للأخذ بهذه المصادر التابعة له .
وقد سبق الحديث عن ذلك ...
وهذه من أهم خصائص الإلزام في الإسلام إذ أنه رباني المصدر . أي صادر عن الله تعالى . فما من أمر ملزم , واجب الأخذ ,إلا وأساس مصدره هو الله رب العالمين – فهو المشرع الحقيقي سبحانه وتعالى .
فليس من مصدر للإلزام في الشرع الإسلامي سوي الله تعالى . حتى ولو كان المشرع والآمر الناهي هو النبي - صلى الله عليه وسلم - أو العقل أو المجتمع أو الضمير أو السلطان والحاكم كل هؤلاء إنما واجب الانصياع إليهم لا لذواتهم و إنما لإيجاب الله تعالى طاعتهم .
يقول الإمام الغزالي يرحمه الله تعالى : " أما استحقاق نفوذ الحكم فليس إلا لمن له الخلق والأمر , فإنما النافذ حكم المالك علي مملوكه , ولا مالك إلا الخالق , فلا حكم ولا أمر إلا له , أما النبي - صلى الله عليه وسلم - والسيد والسلطان والأب والزوج فإذا أمروا وأوجبوا لم يجب شيء بإيجابهم . بل بإيجاب الله تعالى طاعتهم )(1)
وبهذا يتضح أن الإلزام رباني المصدر وإن تعددت فيه الجهة الآمرة من المصادر التابعة للمصدر الأساسي الرباني .
ومن ثمرات هذه الميزة التي امتاز بها التشريع الجنائي الإسلامي من جهة الإلزام .
أ ـ أن هذا المصدر للإلزام معصوم من التناقض والتحيز والهوى :
__________
(1) انظر في ذلك : المستصفي للإمام أبي حامد الغزالي ط1 صـ100(1/1)
وهذه مميزات لا نجدها في مصادر الإلزام التي تحدثت بها النظريات والنظم الوضعية .
فما دام جهة التكليف والإلزام بفعل الشيء هو الله تعالى رب الناس فإنه بذلك تتحقق العصمة من التناقض والاختلاف لمسألة الإلزام والسبب الذي جعل الإلزام في الشريعة الإسلامية ( القانون الإسلامي ) مبرأ من التناقض والاختلاف أنه مستمد من جهة يستحيل في شأنها التناقض والاختلاف , فأنه صادر عن الذات العلية والتي من شأنها أنها ( لا تتقيد بقيود الزمان التي تفصل الوجود الواحد إلي ماضي وحاضر ومستقبل وإلي مستيقن ومظنون ومجهول . وإلي حاضر مشهود ومغيب مخبوء ... وكذلك لا تتقيد بقيود المكان التي تفصل الوجود الواحد إلي قريب وبعيد ومنظور ومحجوب ... ومحسوس وغير محسوس . سبحانه وتعالى . يعلم من خلق ويعلم ما يصلح حال الجميع )(1)
وكذلك لا يتأثر مصدر الإلزام (سبحانه وتعالى ) بالبيئة وأوضاعها وأحوالها . ولم يتأثر كذلك بالمورثات الثقافية المطروحة لدي فكر هذه البيئة أو تلك , وكذلك لم يتأثر بنتاجها العقلي ومعطياتها العلمية. ولم يتحيز واضع المنهج سبحانه وتعالى ( لجنس دون جنس ولا للون دون لون ولا فريق دون فريق . لأنه رب الجميع وكلهم عباده . فلا يتصور تحيزه لفئة دون الأخرى . ولا لجيل دون غيره , ولا لشعب علي حساب غيره من الشعوب )(2)
__________
(1) في ظلال القرآن / الأستاذ سيد قطب . ج1 صـ 217 دار الشروق
(2) الخصائص العامة للإسلام . دكتور / يوسف القرضاوي صـ 444 مكتبة وهبة(1/2)
لقد ظهرت قيمة الربانية في الإلزام الإسلامي ،واتضحت أكثر عندما وقعت النظم الوضعية فيما سلمت منه شريعة الإسلام الخالدة . من تضارب وتناقض وتحيز . إذ أن كل رأي ذهب مذهباً بخلاف الآخر, وظن أن رأيه هو الصواب ورأي غيره هو الخطأ , وأصبحت كل مدرسة ترمي غيرها بالجهل وعدم الفهم , وصار الفكر البشري إلي حالة من الفوضى العقلية , فما أقره اليوم أنكره في الغد , وما قرره علمياًً بالأمس رماه بالخرافة اليوم.
و أصبحت المؤثرات الثقافية ذات أثر شديد في الحكم علي الأشياء والبيئة كذلك كان لها دور في توجيه الأمور والحكم عليها . ونتج عن ذلك عدة أراء متباينة في مسألة الإلزام الخلقي .
يبن قائل إن الدين الكنسي هو مصدر الإلزام بأناجيله الأربعة ـ المحرفة التي كتبت بأهواء البشرية وظلت الكنسية مسيطرة علي هذا التفكير راغمةً الناس علي قبوله , زاعمة أن لها الحق الإلهي المطلق في الأمر والنهي . وتحكم فئة من القساوسة والرهبان في رقاب الناس . وزيفوا الربوبية الحقة ،والتشريع الصحيح .
فنادت بالدين مصدراً للإلزام إلا أنه دين محرف بعيد عن أصله السماوي ومصدره الإلهي دين من صنع البشر, لا يقبل أي حقيقة علمية أو عقلية إن عارضته ,
واستطاعت الكنيسة أن تحد من الصراع والتناقض بعض الشيء وذلك من خلال ما قام به رجالها من التوفيق بينها وبين العلم والعقل ولقد كاد القديس توما الإكويني يقترب من خط سير الإسلام لكنه لم يستطع أن يكمل المسيرة معه وما ذلك إلا لأنه سار علي ضرب العقل وحده بغير برهان الوحي فلا محالة من ضلالة .
فلقد جعل ( الإلهام ) مصدراً من مصادر التبليغ وجعله بمرتبة الوحي السماوي .
وكذلك اعتبر( توما الإكويني) المصدر الإنساني كالمصدر الإلهي وهذا الأخير اعتبره كالمصدر القانوني . فليست القوانين الإلهية هي التي يحكم عليها بالصواب(1)
__________
(1) انظر ذلك محتويات المذهب صـ(1/3)
ب ـ ومن ناحية أخرى نادت المدرسة العقلية بأن مصدر الإلزام هو العقل وحده :
وهو القادر علي هداية الناس والحاكم الذي لا حاكم قبله ولا بعده ولا مثله . نادي بذلك علماء المدرسة العقلية وعلي رأسهم ( كانت ) الألماني .
* وكفرت المدرسة العقلية بالله عز وجل ونادت بأن العقل قادر علي إيجاد الأخلاق في المجتمع بل هو القادر وحده وكفرت بما دونه(1)وقطع كل فكرة تربطنا بالله سبحانه يقول كانت : " إن الله مادمت حقيقة تظل مجهولة لنا فلا يمكن أن نتخذه أساساً للأخلاق "(2)
وهذا المأخذ وحده يجعل هوة واسعة بين الفكر الكانتي ( أو المدرسة العقلية ) والإسلام , مما يدفعنا بالقول بأنه لا مقارنة بين الاثنين ونستطيع أن نقول مما يؤخذ علي المدرسة العقلية بشأن هذه النقطة أمرين .
1ـ إنكارها للألوهية
2ـ إيمانها بالعقل إلي درجة التأليه ،وغلوها في ذلك بأن جعلته الهادي وحده دون الوحي
والإسلام يؤمن بدور العقل وأهميته في تسيير حركة الحياة ومستجدات العصر – كل عصر – لكن لا يكون العقل بمنأى عن الوحي السماوي ..
فالعقل والوحي كل منها محتاج إلي الآخر ولا تستقيم الحياة بدون واحد منهما وبذلك ندرك ( أن العقل لن يهتدي إلا بالشرع والشرع لم يتبين إلا بالعقل، فالعقل كالأس والشرع كالبناء , ولن يغني أساس ما لم يكن بناء , ولم يثبت بناء ما لم يكن أساس , وعلي هذا فالشرع عقل من خارج , والعقل شرع من داخل , وهما متعاضدان , بل متحدان ولكونهما متحدين قال الله تعالى :
{
__________
(1) راجع في ذلك أهم محتويات المذهب العقلي صـ
(2) الأخلاق بين الفلسفة وعلم الاجتماع . السيد محمد بدوي صـ 96(1/4)
نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } النور:35) آي نور العقل والشرع(1)
فالعقل في الإسلام لا يُناقض الشرع والذي أرشد إليه الكتاب الكريم ( القرآن ) بشأن العقل هو احترامه واعماله في ظواهر الكون ( وترك الوحي للعقل في مجال التشريع أن يجول ويصول في فهم النصوص . فيفرع علي الأصول ويقيس علي الفروع ويستنبط الأحكام ويكيف الوقائع ويرعى القواعد في جلب المصالح ودرء المفاسد ورفع الحرج وتحقيق اليسر)(2)
كثيراً ما أشاد القرآن الكريم بالعقل ونوه إلي قدرته علي استيعاب القضايا . فمادة العقل وأداته من الفكر والتذكير كثيرة في القرآن الكريم فكلاً من العقل والوحي رديف الآخر وشقيق الثاني , ولا يمكن أن يتعارض الوحي مع العقل لأن مصدرها واحد وهو الله رب العالمين . ويؤكد الغزلي عدم تناقض وحي العقل الصريح ووحي الشرع الصحيح لاتفاق مصدرهما وهو الله فيقول : " ظن قوم أن العلوم العقلية مناقضة للعلوم الشرعية وأن الجمع بينهما غير ممكن , وهذا الظن صادر عن عمى في عين البصيرة لذا نرى أن من يدعوا إلي التقليد في الأمور الدينية ويعزل العقل بالكلية , هو جاهل , والمكتفي بمجرد العقل عن أنوار الكتاب والسنة مغرور "(3)
__________
(1) معا رج القدس . أبو حامد الغزالي صـ 59 * ويراجع في ذلك . رسالة التوحيد للإمام محمد عبده بتحقيق د / محمد
عمارة صـ 31 ، 32 (كتاب الهلال ويراجع كذلك : الفكر الإسلامي الحديث . محمد البهي صـ 124 ، 125 .
مكتبة وهبة نفس المعطيات السابقة
(2) الخصائص العامة للإسلام صـ 57 الدكتور يوسف القرضاوي
(3) إحياء علوم الدين ج3 صـ 17 أبو حامد الغزالي(1/5)
فالوحي السماوي , لا يستقيم بدون العقل والعقل البشري لا يصلح وحده بغير هدي السماء , وما ذهب إليه ( كانت ) من جعل العقل مصدر الإلزام قول مردود ليس له من الجهة العلمية ما يقوم به إذ أن الأدلة متضافرة على أن العقل قاصر ومتطور بحب الزمان المكان و البيئة .
ولو كان العقل قادراً علي الوصول – وحده – إلي الحقيقة الثابتة – لرقي إليها جملة واحدة ولكن هذا الأخير استحال بالمعرفة اليومية المتجددة للعقل – فما كان اليوم في طور الظن والتخمين – يصبح غداً - في طور الحقيقة الثابتة – أو الخرافة العلمية فالعقل غير قادر علي إبراز الحقيقة جملة واحدة .
وبذلك أدركنا أن العقل البشري لا يصلح أن يكون حاكماً علي الأفراد دون أن يكون رديفه الوحي السماوي , فالوحي والعقل صنوان لا ينفصلان .
موقف المذاهب الوضعية من ( الربانية ) كمصدر للإلزام
1ـ موقف أصحاب المدرسة الاجتماعية .
ذهب الفريق الذي رأي أن مصدر الإلزام هو المجتمع – إلي أن الدين والغيب خرافة ولا يؤمن رجال هذا المذهب بالغيب وما وراءه، واعتبر أن مصدر المعرفة هو الأساس فغير المحسوس ولا يعترف به ( ولقد فصلنا القول في ذلك في محتوي المذهب ( رقم 2) مما يغني عن الإعادة هنا)(1)
لقد استبعد أوجست كونت وليفي بريل ودور كايم الدين كمصدر من مصادر المعرفة – ( فرجل الدين الذي يحدث الناس عن الغيب لهو أشبه بذلك المهرج الذي يصعد على خشبة المسرح ليضحك الناس بينما بطونهم تئن من الجوع )(2)لقد أفرزت المدرسة الاجتماعية إلهاً بشرياً فكل إنسان يجعل من نفسه إلهاً وكفرت بوحي السماء وعدته هرطقة وخرافة .
__________
(1) أنظر في ذلك بالتفصيل صـ
(2) قضايا معاصرة في ضوء الإسلام . حلمي عبد المنعم صابر / دار عالم الكتب صـ 61(1/6)
وبذلك نزعت صفة الربانية من المنهج الوضعي القائل بأن المجتمع هو مصدر الإلزام فوقعت في التناقض والتحيز وحرمت من خيرات وثمرات الربانية العائدة علي البشرية فجعلت الإنسان يتحكم في الإنسان وجعلت الإنسان كالآلة في ترس المجتمع ليس له أن يعبر عن رأيه ولا أن يغير وإنما عليه أن يخضع لصوت الجماعة ورأي المجتمع .
2ـ موقف أصحاب ( اللذة ) من الربانية .
عرضنا لرأي أصحاب اللذة والمنفعة والسعادة , وذكرنا أن هذه المترادفات بمعنى واحد , وذكرت أهم ما يحتوى عليه هذا المذهب القائل بأن مصدر الإلزام هو اللذة ولنعرض الآن لرأيهم في الدين كمصدر من مصادر الإلزام ( أو بالأحرى مصدر الإلزام ) .
- ذكرنا أهم الشخصيات التي تحدثت بهذا الرأي قديماً ابيقور وحديثاً توماس هوبز وفي التاريخ المعاصر جيمس مل، وجرمي بنتام، ووليم جيمس الأمريكي، لقد ذهب هؤلاء إلي إنكار الوحي ونور السماء .
* فقديماً : - أنكر أبيقور وجود آلهة لها قيومية ورقابة علي حياة الناس – وفلسفته فلسفة إلحادية لا تؤمن بإله ولا بالبعث ولا ثواب ولا عقاب وأن الموت نهاية مطلقة لحياة الإنسان جسماً وروحاً –يقول ابيقور : " إن شيئين يعملان عملاً خطيراً علي شفاء الإنسان هما :-
1 – الأيمان بأن للآلهة قيومية ورقابة علي حياة الناس - ويلاحظ هنا في كلام أبيقور أنه يقصد الآلهة الأسطورية الخرافية والوثنية التي كانت سائدة في البيئة اليونانية .
2- الفزع من الموت : الذي يتهددنا في كل آونة ويقترب منا علي مر الزمن .(1/7)
إن من يعتقد أن الآلهة لا يلبث أن تتركز عنده فكرة واحدة هي تحري ما يريدون ، والعمل علي إرضائهم ، والخضوع لهم ، وهو في قيامه بذلك ينسي حياته أن ينظمها . وكذلك فإن من يخاف الموت يشعر – في كل لحظة – بهم يستولي عليه شيئاً فشيئاً فيزداد الفزع لذا يجب تحرير النفس من هاتين الفكرتين المؤرقتين . )(1)
وبذلك اتضح لنا فكرة الإلحاد التي نادى بها أبيقور فالعالم عنده ليس في حاجة إلي إله
( تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً ) ولقد ذهب إلى هذا المذهب دعاة النفعية واللذة ، في القديم والحديث علي السواء ، اللهم عدا ما ذكر عن ( جرمي بنتام ) فكان صاحب مسحة دينية في مذهبه،وعلي الرغم من ذلك كان يخشى أن يوصف بأنه لاهوتي أو ميتافيزيقي(2)
( راجع في ذلك رقم (5) من محتويات المذهب ).
وأنصار اللذة في الوقت المعاصر – أشبه ما يكونوا بفكر جدهم الأكبر أبيقور – فلهم تصور غريب في شكل الإله الذي يتحدثون عنه - فصفاته التي تحدثوا عنها – لا تؤهله لأن يكون إلهاً فأي شيء هو ، لقد كانت أراء وليم جيمس في مسألة الدين والإله أراء متضاربة فنجده في فتره ينفي أن يكون هناك إله – فهو لا يؤمن إلا بالحس فيقول : " الذي يبحث فيما وراء الطبيعة مثله مثل أعمى يبحث في حجرة مظلمة عن قطة سوداء لا وجود لها ."(3)
وتارة أخرى يجعل الاعتقاد من الممكن أن يتحقق لكن عن طريق التجربة وذلك عن طريق ما يترتب عليه من نتائج نافعة .
__________
(1) المشكلة الأخلاقية – أندرية كريسون . ترجمة عبد الحليم محمود صـ 555 ، 56
وكذلك الفكر الأخلاقي في دراسة مقارنة ز محمد عبد الله الشرقاوي دار الجيل صـ 103 ، 104
(2) راجع صـ من هذا الفصل
(3) قضايا معاصرة في ضوء الإسلام / د. حلمي عبد المنعم صابر صـ 66(1/8)
ويقول وليم جيمس أيضاً ... " لذلك ينبغي لنا كفلاسفة ومن أجل تحقيق غايتنا من إيجاد نظام أخلاقي واحد : أن نفترض وجود الإله وأن نتمنى إنتصار الدين علي اللادينية "(1)
في هذه العبارة الأخيرة يلاحظ – قوله الشكي – ( أن نفترض ) فالأمر عنده ليس يقين – وأن هذا الأمر إنما هو من أجل تحقيق غاية وهي قيام نظام أخلاقي واحد . وبلا شك ( هو نظام وليم جيمس ) فهو نفعي بكل المقاييس حتى في اتخاذ الإله . الذي يريده ، ويزعم وليم جيمس ( أنه من الخطأ التمسك الدائم بالمعتقدات ، فالإيمان الراسخ عنده يحجب عن الإنسان المعرفة الصحيحة )(2)
هذا هو رأي أصحاب اللذة القائلون بأن اللذة هي مصدر الإلزام فلا يؤمنون إلا بالمادي المحسوس النافع فقط وبغير ذلك لا يؤمنون.
2ـ الاحترام وسهولة الإنقياد .
من أثار الربانية وثمراتها في المجتمع أنها تضفي علي النظام والمنهج الإسلامى قدسية واحتراماً لا يظفر بها أي نظام أو منهج من صنع البشر)(3)
مما يعطي للقانون طول البقاء وسرعة التنفيذ وعدم المراوغة والاحتيال عليه فمن أثار الربانية تنشأ الرقابة الذاتية ولا يحتاج القانون إلي قوة أو يد من حديد تقيمه بالقهر والغلبة , بل يقوم ويتحقق في سهولة ويسر , وما ذلك إلا لأن مصدر الإلزام بالقانون – مرضي عنه .
قال الله تعالى :
{
__________
(1) الجانب الأخلاقي في فلسفة وليم جيمس وموقف الإسلام منه – محمد مجاهد نور الدين صـ 146
رسالة ماجستير . جامعة الأزهر كلية الدراسات الإسلامية بنين القاهرة .
(2) نقد المذاهب المعاصرة د / إبراهيم مصطفى إبراهيم الجزء الأول صـ121ـ نشر دار الوفاء للطباعة إسكندرية
(3) الخصائص العامة – يوسف القرضاوي صـ 43 – مكتبة وهبة(1/9)
جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ }(1)
قال بن القيم : " الرضا سكون القلب تحت مجاري الأحكام "(2)
وسبب هذا الرضا من الإنسان عن الله عز وجل – لأنه آمن بكماله وأبقي بعدله ورحمته واطمأن إلي علمه وحكمته . فهو الرب الذي لا يحجب شيئاً عن المخلوقين من الخير , فالخير منه وإليه والشر ليس إليه , سبحانه وتعالى لا يشرع إلا ما فيه صلاح البشرية وسعادة الإنسانية ولما أيقن الإنسان بذلك رضي به رباً وبشرعه ديناً وبنبيه رسولاً. فسارع إلي تطبيق أحكامه وتنفيذ شرعه, ولا أدل علي التنفيذ في تطبيق الأحكام مما صنعه المسلمون في عهد النبوة , ونجاح أهل الإيمان في الإصلاح في كل زمان و مكان .مثال ذلك : عند نزل القرآن الكريم بشأن تحريم الخمر وعدم شربها وعدها سبب الشقاء والبغضاء فأمر بتركها والانتهاء عنها ... ( رأينا الرجل يحطم كأسه ويسفك ما عنده من خمر في الطريق حتى تفيض طرقات المدينة بما كان عند الناس منها فعن أنس قال : كنت أسقي أبا عبيده وأبي بن كعب فجاءهم آت فقال إن الخمر حرمت . فقال أبو طلحة: قم يا أنس فأهر قها فأهرقتها)(3)
ولم يقف سرعة التطبيق عند ذلك الحد فحسب بل امتدت لتشمل الحالة الاقتصادية في نفس الأمر الإلزامي فأراد رجل أن يبيع ما عند من مخزون الخمر – إذ كانت من أهم عناصر التجارة فأشار النبي - صلى الله عليه وسلم - فرفض ذلك .
__________
(1) سورة البينة جزء من الآية رقم 8
(2) الفوائد لابن القيم صـ 89 المكتبة القيمة
(3) أنظر بتوسع . الإيمان والحياة / دكتور يوسف القرضاوي صـ 190(1/10)
وقال - صلى الله عليه وسلم - { إن الذي حرم شربها حرم بيعها }(1)قال الراوي :" ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها " فمن خلال هذا النص والذي يليه يتضح سرعة التنفيذ والرضا به وهذا من أهم ما يميز الإلزام في الشريعة الإسلامية الغراء .
3ـ التحرر من عبودية الإنسان للإنسان ( ولكل مظاهر الخضوع ) .
وهذا من أهم ثمرات الربانية التي أختص بها الإلزام الإسلامي فلا الإنسان يتحكم في الإنسان مثله ولا يخضع له خضوعاً مطلقاً وكأن له حق مقدس في الخضوع فلا الإنسان ولا الهيئات ولا المؤسسات ولا السلطان ولا الحاكم له حق علي الإنسان إلا بإيجاب الله تعالى طاعتهم ( وطاعتهم في غير معصية ) ( ولولا ذلك لكان لكل مخلوق أوجب علي غيره شيئاً للموجب عليه أن يقلب عليه الإيجاب إذ ليس أحدهما أولى من الأخر )(2)
والرأي القائل : بأن مصدر الإلزام هو المجتمع يخالف الإسلام في هذا الأمر فالإسلام أعترف بالرأي العام . قال الله تعالى :
{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ }(3)
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - { مثل القائم علي حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا علي سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا علي من فوقهم ، فقالوا : لو إن خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا ،
__________
(1) جامع العلوم والحكم بن رجب الحنبلي صـ 464 دار الإيمان – المنصورة
(2) المستصفي . لأبي حامد الغزالي ج1 صـ 100.
(3) سورة آل عمران جزئ من الآية رقم (110)(1/11)
فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً ، وإن أخذوا علي أيديهم نجوا ونجوا جميعاً }(1)
وهذه صور إلزام المجتمع للأفراد التي رسمها الإسلام الحنيف قبل أن يتحدث عن ذلك رجال المدرسة الاجتماعية بقرون عديدة ولكن إلي أي حد أعطى الإسلام هذه السلطة للمجتمع ؛ لقد أبان الإسلام حدود هذه السلطة من زاوية أخري فقال - صلى الله عليه وسلم - :
{ من رأي منكم منكراً فليغيره بيده فأن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان }(2)
وقال الله تعالى :
{ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }(3)
لم يجعل الإسلام المجتمع مصدراً للإلزام فيلغي شخصية الفرد ويغطي عليها. وإنما احترم إرادة الأفراد وحريتهم وفي المقابل احترام شعور الجماعة وجعل لإرادة المجتمع مكاناً مقدساً – فلا الفرد يطغي علي المجتمع ولا المجتمع يلغي شخصية الفرد .
أما ما قال به رجال المدرسة الاجتماعية (بأن إرادة الإنسان الحرة التي يعتز بها ليست إلا وهماً , لأن المرء لا يملك لنفسه شيئاً وإنما هو مسير بغرائز وقوى )(4)
__________
(1) صحيح البخاري عن النعمان بن بشير . ك الشركة باب هل يقرع في القسمة ج2 . صـ 749
والحديث برقم (2493 ) دار الحديث القاهرة
(2) صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه . ك الإيمان . باب كون النهي عن المنكر من الإيمان
ج1 صـ 76 دار الحديث
(3) سورة الأعراف آية رقم (163)
(4) سموم الاستشراق والمستشرقين في العلوم الإسلامية الأستاذ / أنور الجندي صـ 133 مكتبة التراث الإسلامي ،
بدون رقم طبعة سنة 1984(1/12)
فلا ريب أن هذا الرأي يتعارض مع رأي الإسلام والفطرة البشرية السلمية، فإنه بذلك يحاول هدم الإرادة الفردية وحرية الإنسان ويزج به في آتون الخضوع والحتمية فيجعل الإنسان عبداً للمجتمع ويزكوا المجتمع علي حساب إرادة الفرد،
إن تعبير أصحاب هذه المدرسة عن دور الفرد بقولهم: " إن الإنسان مادة فحسب , وأن مبادئ الأخلاق التي هي ظواهر اجتماعية إنما تملى علي الأفراد دون أن يكون لهم دخل في بناءها أو فضل في الإيمان بها)(1)
إن هذا التعبير هو نفس تعبير الجبرية القائلة بنفي الفعل حقيقة عن العبد وإضافته إلي الرب .
غير أن هذه المدرسة كفرت بالرب وأحلت محله إلها آخر وهو المجتمع . وجعلت الإنسان مجبوراً علي فعل يمليه عليه المجتمع , أو أن هذا القول أشبه ما يكون برأي الجبرية الحديثة .(2)
__________
(1) سموم الاستشراق . أنور الجندي صـ 133 مرجع سابق
(2) الجبرية الحديثة . هي مبدأ يفيد عموم القوانين الطبيعية وثبوت تأثيرها في الأشياء دون تخلف ، مع نفي المصادفة ، بحيث يرد كل شئ إلي العلة والمعلول ويعتمد الاستقراء في استنتاج المستقبل للأشياء ، بما في ذلك سلوك الإنسان الذي يخضع لظروف طبيعية وعوامل نفسية تؤثر علي إرادة الإنسان ولا تستطيع إرادته مقاومتها . وتختلف عن الجبرية القديمة في كونها تعتمد على ضرورة كامنة في الطبية نفسها، في حين تر الجبرية القديمة خضوع الطبيعة لقوي خارجية . انظر في ذلك . المعجم الفلسفي مجمع اللغة العربية- القاهرة صـ 66 . الهيئة العامة للشئون الأميرية ويراجع رأي الجبرية القديمة – في 1- الملل والنحل – الشهر ستاني في صـ 87 ج1 2- تاريخ المذاهب الإسلامية – محمد أبو زهرة صـ 102 دار الفكر(1/13)
وبذلك يذهب (دور كايم) إلي الجبرية المطلقة للفرد في إطار المجتمع وإقراره بعجزه عن تغير المجتمع وضرورة الخضوع له , وهو ما ترفضه الشريعة الإسلامية، فهي ترفض تحكم الإنسان في الإنسان , أو تحكم الفرد في المجتمع أو المجتمع في الفرد .
ثانياً: الشمول :-
( الشمول ) خاصية من أبرز خصائص الإلزام الجنائي على الخصوص – والأوامر الإسلامية بصفة عامة – ولسنا بصدد تعريف وتبين نظام الشمولية الإسلامي . ولكنا نتحدث بشأن الإلزام الخلقي الجنائي .. ووضع الشمولية فيه .
فالأوامر و النواهي التشريعة الجنائية . إنما هي أوامر والتزامات لكل أفراد الجماعة المسلمة . والخطاب موجه لكل فرد بالغ عاقل , لكل مسلم توفرت لدية صفات الأهلية والتكليف .
وكذلك هذه الشمولية التي نعنيها إنما هي شمولية للزمن . فالتشريع منذ العهد النبوي هو التشريع نفسه إلي الآن لم يتغير وسيظل ولن يتغير, فهذه الرسالة صالحة لكل الأجيال الحاضرة والماضية والقادمة علي السواء في كلٍ – صادرة عن عليم خبير- يعلم ما كان وما يكون وما هو كائن إلي يوم القيامة , لا يؤثر علي علمه مرور الزمن ,
وعلي ذلك كان التشريع صادراً لكل الأفراد والجماعات والبيئات، صدر هذا التشريع للغني والفقير , للرجل والمرأة , للعالم والأمي للساسة والدهماء , لكل قطاعات الناس وأنواع البشر وهذا هو شمول الزمان والأفراد ,
ويظهر لنا نوع آخر للشمولية التي امتاز بها الإلزام في التشريع الإسلامي وهو :-
شمولية الإلزام للإتجاهات الإنسانية .
- الاتجاه العقلي .. الاتجاه الديني أو الروحي
- الاتجاه النفسي .. الاتجاه المادي .(1/14)
- أما بالنسبة للمذاهب الوضعية فلم يقدر لها أن تحظى بمثل ما حظيت به الشريعة الإسلامية في هذا الشأن , فشأن كل مذهب من هذه المذاهب أن يهتم بجانب معين واتجاه محدد فهو إما عقلي أمثال المدرسة العقلية، مهملين بذلك الروح وأهميتها، وإما مذهب اللذة والمنفعة وإن كانت لديهم مسحة عقلية إلا أنها هجرت الروحانية والدينية واهتمت بالمادة وأغرقت نفسها فيها.
ثالثاً : الجمع بين الثبات والمرونة :
والشريعة استطاعت بهذه الخاصية أن تحافظ علي وجودها فهي ثابتة لا تتغير ولا تتبدل من حين لآخر ومن مجتمع لثانٍ وإنما هي ثابتة أبداً وهذا الثبات هو الذي حافظ علي وجود الشريعة دائمة باقية فهي لم تتآكل لمرور الزمن عليها , وكذلك في الجهة المقابلة لم تكن جامدة صلبة لم تراع تطورات العصر وآليات العلم . بل سارت مع التقدم العلمي بالشكل المناسب الذي يجعلها دائماً متجددة متطورة , إلا أنها محافظة علي عنصر الأصالة فيها .
( وهذا من روائع الإعجاز في هذا الدين وآية من آياته عمومه و خلوده , وصلاحيته لكل زمان ومكان . ونستطيع أن نعدد مجال الثبات ومجال المرونة في شريعة الإسلام ورسالته فنقول: إنه الثبات علي الأصول والكليات, والمرونة في الفروع والجزئيات، الثبات علي القيم الدينية والأخلاقية,والمرونة في الشئون الدنيوية والعلمية )(1)
وهذا الثبات هو الذي حفظ حدود الشريعة الإسلامية وأبقي معالمها . فالشريعة تحتوي علي أصول وقواعد كلية لا تتبدل وتحتوي علي فروع وجزئيات , تتبدل من حين إلي آخر حسب متطلبات العصر وحاجة الأمة ونضرب لذلك مثالاً من التشريع الجنائي الإسلامي .
ففي أصوله بقي محافظاً عليها مثل الحدود ( الزنا السرقة – القذف – شرب الخمر إلي أخر هذه الحدود ) وكذلك منها الواجبات المأمور بها والمنهيات التي نهي عنها مثل الربا, الكذب, وشهادة الزور وغير ذلك .
__________
(1) الخصائص العامة للشريعة الإسلامية / يوسف القرضاوي صـ 200مكتبة وهبة(1/15)
لقد كانت الشريعة الإسلامية ذات ميزة عظيمة علي المذاهب الوضعية فنصوص الشرع الإسلامي – تحتوي علي الشمولية هذه في مضمون النص ذاته فتجد في نصوص التشريع الجنائي علي سبيل المثال ما يؤكد حديثنا هذا قال الله تعالى :
{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }(1)
في هذا النص التشريعي نجد أن الله تعالى ذكر القانون وفيه الحكم المرتب علي الجريمة الخلقية . وذكر مصدر هذا التشريع – وهو الله تعالى – ونلاحظ أن النص القرآني موجه إلي الجماعة باعتبار أن المجتمع هو القائم علي تنفيذ شرع الله , ثم نجد التشريع السماوي كذلك يربط الدنيا بالآخرة .ولا يقصر الجزاء على أنه دنيوي فحسب , بل هو دنيوي وأخروي . ويفتح باب التوبة مخاطباً بذلك قلب الإنسان العاصي ليفتح له باب الهداية والبعد عن المعاصي ... وليس هذا النص وحده المشتمل علي خاصية الشمول بل النصوص القرآنية علي وجهه العموم تحمل هذا المعنى , قال الله تعالى :
{ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِين }(2)
__________
(1) سورة المائدة الآية رقم (38، 39)
(2) سورة النور آية رقم (2)(1/16)
ولقد عبر الإمام حسن البنا أحد علماء الإسلام تعبيراً جيداً حين وصف الرسالة الإسلامية بالشمول بقوله . ( إنها الرسالة التي امتدت طولاً حتى شملت آباد الزمن وامتدت عمقاً حتي استوعبت شئون الدنيا والآخرة وامتدت عرضاً حتي انتظمت أفاق الأمم )(1)
وخاصية الثبات التي تميزت بها الشريعة الإسلامية تقابلها النسبية الأخلاقية التي تحدث بها أكثر المدارس والأفكار الوضعية فجعلت الأخلاق ليست ثابتة بل متطورة نسبية تختلف من مكان إلي مكان ومن زمن إلي آخر ومن مجتمع إلي ثان .
فالأخلاق ليست ثابتة بل هي متغيرة ولقد نادي بهذا المذهب علماء المدرسة الاجتماعية
( أوجست كونت – دور كايم – ليفي بريل ) وغيرهم ممن تابعوهم وحذوا حذوهم . فأحلوا مكان المطلق . واعتبروا أنه لا يمكن قيام أخلاق مطلقه ثابتة، والقول بذلك يعد خرافة يقول أوجست كونت : " إن موقف الإنسان إزاء الظواهر الأخلاقية لابد أن يتغير من مرحلة إلي أخري , ومادامت الإنسانية في تقدم مستمر فإن هذه القوانين لابد أن تتغير أولاً ثم لا بد لها أن تساير التطور , ويكون نصيبها ا لتطور المستمر , والإصلاح المطرد
وحيث أن وجود الجنس الإنساني يعتمد إلي درجة كبيرة علي عدد كبير جداً من الظروف الطبيعية والفلكية والبيولوجية والاجتماعية , وإذا كانت هذه الظروف تتغير باستمرار أيضاً ولتبقي علي وتيرة واحدة , فلا يمكن أن تستغرب ... أن أخلاقنا يجب أن تتغير باستمرار أيضاً فهي إذاً نسبية مع مركزنا ومع تكويننا "(2)
__________
(1) انظر مجموعة الرسائل للإمام الشهيد حسن البنا . دار الدعوة
(2) أوجست كونت / د. مصطفي الخشاب مدرس بكلية الآداب جامعة فؤاد الأول مطبعة البيان العربي مؤلفات
( الجمعية المصرية لعلم الاجتماع ) صـ 126(1/17)
ولقد أشرنا فيما سبق إلي أراء أصحاب المدرسة في النسبي والمطلق بما يغني عن إعادته هنا , ولقد نادى أوجست كونت بنقض نظرية ( كانت الألماني ) ليقيم عليها نظريته فهي فكرة زائفة لا يقبلها العالم الوضعي الذي يقتصر علي النسبية , لأن المطلق لاوجود له في هذا العالم.(1)
وممن ذهبوا إلي القول بالنسبية الأخلاقية كذلك – أصحاب اللذة – والاتجاه النفعي ولقد ذكر وليم جيمس أن ( الخير أو الحق كورقة النقد الزائفة تظل طالحة للاستعمال حتى يثبت زيفها)(2)
فالأخلاق عنده ليست ثابتة بل متغيرة من حال لآخر , ولقد عارضت الشريعة الإسلامية هذه الآراء السابقة بنسبية الأخلاق . إذاً القول بنسبية الأخلاق وعدم ثباتها يودي إلي نسف المسألة الأخلاقية ونشر الإباحية والخلاعة والمجنون وهو ما صار إليه العالم الغربي حالياً بالفعل .
وكذلك القول بنسبية الأخلاق يتضمن القول بعدم قبول القوانين الخالدة السابقة وعدم احترام القدوات الموجودة فينا وفي ذلك مخالفة لصريح القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وعمل الأمة الإسلامية قال تعالى :
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِين }(3)
قال تعالى :
{
__________
(1) انظر في ذلك أ- فلسفة أوجست كونت وليفي بريل – محمود قاسم صـ 301 ، 302 مرجع سابق
ب- علم الاجتماع الأخلاقي د/ حسين رشوان – صـ 189 سابق
جـ - أوجست كونت دروس في الفلسفة الوضعية د/ محمود قاسم صـ 5 تحت عنوان منهج الوضعية وأنواعها.
(2) وليم جيمس ( إرادة الاعتقاد ) ترجمة د/ محمود حسب الله صـ 101 سابق وكذلك وليم جيمس بقلم / محمود زيدان
دار المعارف صـ 182
(3) سورة الأنعام آية رقم 90(1/18)
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً }(1)
قال تعالى :
{ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ }(2)
وقال تعالى :
{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } (5)
هذه هي القدوات في نظر الشارع الإسلامي .. أما بالنسبة إلي المذاهب الوضعية النفعية فلا قيمة لها .(3)
وإذا كانت المدارس الوضعية والنظم البشرية السابقة تمثل أقصى اليمين بالنسبة لخاصية الثبات والمرونة التي تميزت بها الشريعة الإسلامية في مسألة الإلزام الخلقي في التشريع الجنائي الإسلامي إلا أننا نجد مدرسة أخرى تمثل أقصى اليسار ,
وهذه المدرسة هي المدرسة الكانتية . التي نادي بها ( كانت الألماني ) وأتباعه من بعده وبذلك خط هذا المفكر خطاً جديداً ومنهج مبتكر في الأخلاق العصرية الحديثة . فجعل شرط الفعل الأخلاقي أن يكون عاماً كلياً يشمل جميع الأفراد . في الوجود كله . ولا يبيح الإستثناءات في هذا النوع الأخلاقي .
__________
(1) سورة الأحزاب آية رقم (21)
(2) سورة الممتحنة آية رقم 4
(5) سورة الممتحنة آية رقم 6
(3) انظر ذلك بالتفصيل ( البند رقم (2-3 ) من محتويات مذهب وليم جيمس بالبحث(1/19)
يقول كانت : " إعمل دائماً بحيث يكون في استطاعتك أن تجعل من قاعدة فعلك قانوناً كلياً للطبيعة."(1)
وهذه القاعدة اعتبرها (كانت) هي القاعدة الأساسية لسائر القواعد الأخلاقية الأخرى. فهي المحل الأوحد للسلوك الأخلاقي . فإن كان في وسع الفرد أن يجعل من القاعدة التي يستند إليها في فعل ما يريده . قانوناً عاماً لا يتعارض مع الواقع الخارجي كان مطابقاً للواجب
( فيكون فعل أخلاقي ) .
أما إذا أدى تعميمي للقاعدة إلى ضرب من التناقض كان الفعل حينئذ متعارضاً مع القانون الأخلاقي . فالقاعدة العامة لا يجوز فيها الاستثناء .لدى (كانت) . فالقتل مثلاً هو محرم، عمل غير أخلاقي , اتفقت كل الشرائع السماوية والنظم الأرضية علي ذلك ... ولكن ليس من الممكن أن تنكر هذه القاعدة ويكون فيها حالات استثنائية .
مثال ذلك . ما هو موقف القانون الأخلاق من دفع الرجل الرجل عن سرقة ماله أو عن عرضه وشرفه , أليس هذا من الواجب؟
ولو أدي ذلك إلي قتل الباغي المعتدي . أليس ذلك عملاً أخلاقياً ؟
لقد امتازت الشريعة الإسلامية بالثبات . ولكن هذا الثبات لا يعني التحجر بل ثبات مصحوب بالمرونة : لقد راعت الشريعة (حين ألزمت المكلفين ) أحوال المكلف وأعفته من بعض التكاليف في حالات استثنائية وهي ما تعرف لدي علماء أصول الفقه بالضرورة. ويحسن بنا لإبراز ميزة الإلزام في التشريع الجنائي الإسلامي في هذه النقطة أن نذكر بعض الأمثلة.
1- أن المبادئ الخلقية المسلّم بها كثيراً ما تكسر وخاصة في أوقات الحروب والأزمات الطاحنة. وربما كان كسر القاعدة العامة لدفع ضرر أكبر من الضرر الناتج عن كسر القاعدة العمومية التي يسير عليها التشريع الإسلامي .
__________
(1) كانت الفلسفة النقدية صـ 142 د/ذكريا إبراهيم(1/20)
فعندما يتصارع قانونان فإنه يتعذر الفصل بينهما إلا بالنظر إلي الآثار والنتائج المترتبة عليها . فالإسلام هنا يعمل بقانون ( المنفعة والمصلحة ) فأكثرهما نفعاً وأقلهما ضرراً ـ يكون هو الأولي بالإتباع .
مثال ذلك :
أننا نجد القاعدة العامة في الإسلام أنه لا يجوز إراقة دم أو قتل نفس إلا بحقها.
هذا على جهة العموم . وبالأخص دم الفرد المسلم فقد خصت نفسه بالحرمة .
يقول - صلى الله عليه وسلم - : { أن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا }(1)
ولقد ذكر الله تعالى حرمة النفس عامة يقول تعالى :
{ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ }(2)
والذي نريد طرحه هنا، هل يجوز كسر هذه القاعدة العامة ؟
الإجابة علي ذلك تتضح من خلال ما ذكره العلماء بشأن مسألة التترس في الحرب . وصورة هذه المسألة ( أن يأسر العدو جنوداً من الجيش الإسلامي ويتترس بهم . ويستتر خلفهم ) ففي هذه الحالة هل يجوز ضرب الكفار ومن معهم من المسلمين ؟ وما حكم دم المسلم هنا ؟ وألا يعد كسراً للقاعدة العامة السابقة في حرمة النفس؟ هذه التساؤلات السابقة تدل علي الوقوع في حرج فعلي، فكيف يكون وضع الأمر الإلزامي بالقاعدة ( السابقة ) ؟
وهذه المسألة أجاب عنها الفقهاء المسلمون قديماً مراعين في ذلك أخف الضررين موازين بين المنفعة والمضرة ، والمصلحة وعدمها فقالوا :" إن تترسوا بمسلم ولم تدع الحاجة إلي رميهم . لكون الحرب غير قائمة أو لإمكان القدرة عليهم بدونه أو للأمن من شرهم . لم يجز رميهم فإن رماهم فأصاب مسلماً . فعليه ضمانه... وإن لم يخف على المسلمين . لكن لم يقدر عليهم إلا بالرمي . فقال الأوزاعي والليث : لا يجوز رميهم .
__________
(1) صحيح مسلم ك الحج . باب حجة النبي صلي الله علية وسلم
(2) الأنعام جزء من الآية رقم (151) والإسراء جزء من الآية رقم 33(1/21)
لقوله تعالى { هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً }(1)
قال الليث: " ترك فتح حصن يقدر علي فتحه أفضل من قتل مسلم بغير حق . "(2)
وأكد ذلك الإمام مالك بن أنس عليه رحمه الله بقوله : "عندما سئل عن قوم من المشركين في البحر في مراكبهم وأخذوا أسارى المسلمين ، فأدركهم أهل الإسلام . فأرادوا أن يحرقوهم ومراكبهم بالنار ومعهم الأسارى في مراكبهم ؟
فقال مالك : لا أرى أن تلقى عليهم النار ونهى عن ذلك واستدل بالآية السابقة وقال إنما صرف النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أهل مكة لما كان فيهم من المسلمين . ولو تزيل الكفار عن المسلمين لعذب الكفار . وهذا تأويله والله أعلم )(3)
وهذا أيضاً رأي سحنون من المالكية . هذا هو رأي الفقهاء في المسألة إن لم تدع الحاجة إلي رميهم أما إذا دعت الحاجة إلي رميهم للخوف على المسلمين وديار الإسلام من بطش العدو فيغدوا رأيهم بخلاف ذلك .
__________
(1) سورة الفتح جزء من الآية رقم ( 25 )
(2) المغني لابن قدامه المقدسى ج 13 كتاب الجهاد فصل ( وإن تترسوا بمسلم ) ص 141 دار هجر للطباعة يتحقق
د / عبد الله عبد المحسن التركي د / عبد الفتاح الحلو
(3) المدونة الكبرى للإمام مالك بن أنس ررواية الإمام سحنون ج 3 ص 47 , 48 دار النصر للطباعة الإسلامية
بالقاهرة تحقق السيد علي عبد الرحمن الهاشم / طبع علي نفقة الشيخ / زيد بن سلطان(1/22)
قال ابن قدامه : " فإن دعت الحاجة إلي رميهم للخوف علي المسلمين – جاز رميهم – لأنها حال ضرورة ويقصد الكفار(1)– فلو تركناهم لانهزم المسلمون وعلت راية الكفار فالرأي الراجح لدى أئمة المسلمين – جواز رميهم لأنهم سيقتلون من المسلمين أكثر منهم ... والجزيئات محتقرة بالإضافة إلي الكليات وبه قطع العراقيون ... ويتوق المسلمين بقدر الإمكان . لأن مفسدة الإعراض أكثر من مفسدة الإقدام .
ولا يبعد قتل طائفة للدفع عن بيضة الإسلام .(2)وبذلك جاءت الضرورة فأباحت ما كان محظوراً وهي تقدر بقدرها كما راعي ذلك العلماء .
مثال آخر :علمنا أنه لا يجوز الاعتداء علي حرمة المسلم مادام أنه لم يستحل حراماً – فقال - صلى الله عليه وسلم - { كل مسلم علي المسلم حرام دمه وماله وعرضه }(3)
__________
(1) انظر في ذلك . المغني لابن مقدامة . سابق صـ 141 ج 13
(2) الوسيط في المذهب . للإمام / محمد بن محمد الغزالي ج7 صـ 23 وكذلك نفس المعطيات السابقة انظر ( البيان
والتحصيل لأبي الوليد بن رشد القرطبي ج3 صـ 52 دار إحياء التراث العربي والإسلامي .
دولة المغرب العربي تحقيق د / محمد حجي – الشيخ / عبد الله إبراهيم الأنصاري .
(3) صحيح مسلم ك البر باب تحريم ظلم المسلم وأبو داود في ك الأدب باب الغيبة ج4 صـ 291
دار الحديث برقم (2564 )(1/23)
إلا أن هذه القاعدة تنكسر في موطن آخر أشار إليه الإمام مالك بن أنس . وذلك في ساعة انتزاع الشهادة من المجرم وإن لم يثبت شئ عليه أولاً ... ( فمن المعلوم لنا أن الشرع قد عني عناية كبيرة بإقرار النظام الاجتماعي، والحفاظ عليه ، وأن يعمل بكل وسيلة علي أن يؤمن لكل فرد مقدرته علي أن يمارس حقوقه علي ملكيته، فلا بد لنا أن نلجأ إلي إجراءات أقل تشدداً يخضع لها المتهم – ولكن لا لكي يغتصب منه اعترافا بما لم يفعل مجردا من أية صحة بأن يكون صادراً عن إكراه ـ ولكن بأمل أن نحمل هذا المتهم أن يرشدنا إلي دليل واضح )(1)
وهذا أمر واضح من خلال فعل الصحابة أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بدر الكبرى ، ( في حالة الحرب ) والتي تعطينا انطباع أيضاً لجواز كسر القاعدة العامة – ففي قصة الغلامين اللذان أمسك بهما المسلمون وجاءوا بهما إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي فجعل القوم يسألونهما : لمن أنتما ؟ وهم يرجون أن يكونا من سقاة العير .
فقال : الغلامان : نحن من سقاة قريش . بعثونا نسقيهم من الماء فظنوا أنهما يكذبان فجعلوا يضربونهما ثم يسألونهما فيقولان نحن لقريش ، فلما أوجعوهما ضرباً قالا نحن لأبي سفيان فتركوهما – فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صلاته قال :
{ إذا صدقاكم ضربتموهما ، وإذا كذباكم تركتموهما ! }(2)
وفي هذا دليل علي انتزاع الدليل من المشتبه فيه وذلك صيانة وحفظا للمجتمع، وذلك بناء علي قاعدة أخف الضررين،
__________
(1) انظر في ذلك دستور الأخلاق في القرآن – دكتور دراز صـ 49 هامش بتصرف بعض الشيء
(2) انظر – صور من حياة الرسول / أمين دو يدار ج2 صـ62 مطابع وزارة الأوقاف(1/24)
3 ـ وحرمة المال في الإسلام كحرمة الدم . لاشتمال الحديث عليهما . والإسلام وضع فيه قاعدة عامه . قال الله تعالى : { وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }(1)
وفي الحديث : { لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه }(2)
فهذه قاعدة عامة في الأموال إلا أنه يجوز كسر هذه القاعدة في حالات رفع الضرر العام . ولقد طبق العلماء ذلك ومن هذه النماذج .
(وجوب نقض الحائط المملوك لفرد إذا مال في الطريق العام دفعاً للضرر)(3)
فقد أباح الإسلام نقض الأمر العام حتى ولو لم يرض المالك بانتهاك حرمة ماله، ولو كان بغير طيب نفسه ، فلو سئل المالك لما أباح نقض أو هدم الحائط لأنه يتعارض مع مصلحته، وهو يجوّز للناس جميعاً إذا كانوا علي حالته أن يرفضوا. – أيصح هذا أن يكون قانوناً عاماً كلياً كما أشار بذلك ( كانت ) فالأخلاق الإسلامية ليس فيها من خير مطلق لا تجوز التضحية به إلا رضا الله عز وجل.
4ـ جواز الكذب والترخيص فيه في بعض الحالات والظروف التي تقتضى ذلك، ونجد في ذلك إشارة صريحة لدي علماء الإسلام وفي أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك بقوله :
{ ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ويقول خيراً وينمي خيراً }(4).
__________
(1) سورة البقرة الآية رقم 188
(3) سبق تخريجه
(3) الأشياه والنظائر . لابن نجيم ( في الفقه الحنفي ) صـ 87
(4) صحيح مسلم ك البر باب تحريم الكذب 0سابق
(5) إحياء علوم الدين ج3 صـ 134 ط مصطفي الحلبي(1/25)
وهذا مفاده أن الكذب جائز هنا , بل يكون واجباً إذا كانت المعرفة الصحيحة ستفضى إلي تضيع خير أعظم وعلى الآخرين بخاصة ولقد ذكر الإمام الغزالي ذلك فقال ( اعلم أن الكذب ليس حراماً لعينه , بل لما فيه الضرر علي المخاطب أو علي غيره ... فهما كان في الصدق سفك دم امرىء مسلم قد اختفى من ظالم فالكذب فيه واجب , فمهما كان لا يتم مقصود الحرب أو إصلاح ذات البين إلا بالكذب فالكذب مباح)(1)
وتضيف السنة التقريرية ـ إباحة ذلك في حالة الحرب والانتقام من العدو .
فبعد غزوة بدر بعام وقع حادث مقتل ( كعب بن الأشر ف ) وهي صورة من المكر واضحة لم تشهدها حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - من قبل، وذلك لتحقيق(2)الهدف لأن عملية اغتيال كعب بن الأشر ف ( والذي كان يهدد المسلمين وقائدهم إعلاميا لدي العرب وذلك بإنشاء الشعر في أعراض المسلمين فكان لابد من قتل بن الأشر ف هذا ) فكانت عملية ضرورية لحماية الدولة الإسلامية . وبذلك حافظ التشريع الإسلامي علي الثوابت الضرورية وواءم بين المتغيرات الملحة وجمع بين خاصية الثبات والمرونة في آن واحد .
مما ضمن حفظ هذا النظام وقيامه بمهمته علي أكمل وجه.
__________
(1)
(1) انظر الحديث تفصيلاً في سيرة بن هشام ج3 صـ 12
وكذلك المنهج الحركي للسيرة النبوية . منير الغضبان ج2 صـ 35(1/26)
المبحث الأول
تعريف المسؤولية الجنائية بين الإسلام والنظم والأخرى
المطلب الأول
تعريف المسئولية
أولاً : تعريف المسئولية في اللغة :
المسئولية أصلها اسم مفعول من سأل , زيد عليه ياء مشددة وتاء مربوطة وتسمى هذه الصيغة مصدراً صناعياً(1)
وهى مأخوذة من الفعل سأل . يسأل .. سؤالاً
أسم الفاعل . سائل من سأل يسأل وسل
واسم المفعول منها مسئول(2)
وردت مادة سأل في لغة العرب على عدة معاني منها :ـ
1- سأل بمعنى الطلب. ومنه قوله تعالى :
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّه كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }(3)
فأصله تتساءلون . ومعناه تطلبون حقوقكم به .
ومنه قوله تعالى { وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ }(4)
قال الزجاج أي كلاً يطلب القوت ويسأله ( فهي بمعني الطلب)
2- سأل بمعني دعاء . تأتي بمعني الدعاء
قال تعالى { سَأَلَ سَائِل } (المعارج: من الآية1)
أي دعاء داع قال الجوهري أي سأل من عذاب واقع.(5)
3-ويأتي السؤال بمعنى بيان الحجة والمؤاخذة ومنه قوله تعالى في القرآن الكريم (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُون) قال الزجاج سؤالهم سؤال توبيخ وتقرير لإيجاب الحجة عليهم .
__________
(1) هذ رأي بعض النحويين بأن المصدر الصناعي ما كان مزيداً عليه ياء النسب وتاء النسب وتاء النقل .
انظر النحو الوافي . عباس حسن ج3 صـ 187
(2) المعجم الوسيط . مجمع اللغة العربية . إبراهيم أنيس دار المعارف مصر ولسان العرب بن منظور ج11
دار صادر صـ 318 . ومعجم مقاييس اللغة العربية لابن فارس ج3 صـ 124
(3) سورة النساء آية رقم 1
(4) سورة فصلت آية رقم 10 (5) لسان العرب .ج11 . ص318 . دار صادر(1/1)
4-و يأتى السؤال بمعنى الاستعطاء .وقال بن برى: سألته الشيء .بمعنى استعتيطه إياه.وسلته أسأله فهو مثل خفته أخافه فهو تخوف.(1)
أ ـ معنى السؤال في القرآن الكريم :
وتدور مادة سأل في القرآن الكريم حول عدة معاني .
1- الطلب وعرض الحاجة قال تعالى :
{ يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ }(2)
* يعنى يطلب من في السماوات والأرض المغفرة
2- المخاصمة والمجادلة . لقوله تعالى : { عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ }(3)أي يتخاصمون .
3- المؤاخذة والحساب قال تعالى { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } (4)
4- الاسترشاد . كقوله تعالى : { ْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } (5)
5- السؤال والاستفتاء كقوله تعالى { يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ } (6)
6- المراجعة في الكلام والاعتراض { فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } (7)(4)
والمعنى الأقرب إلي معنى المسئولية من هذه المعاني . السؤال بمعنى الطلب والسؤال بمعنى المؤاخذة والحساب . فهما المعنيان اللذان يدلان على المسئولية والمجزاة على نتيجة الفعل . والمحاسبة عليه إما خيراً وإما شراً .
وقد تناول القرآن الكريم الحديث عن بعض القضايا التى لها علاقة مباشرة بالمسئولية وبإيضاح هذه القضايا تزداد المسئولية إيضاحا وبياناً .
__________
(1) لسان العرب بن منظور ج11 صـ 319 دار صادر مادة السين المهملة
(2) سورة الرحمن آية (29) (3) سورة النبأ آية رقم 1
(4) سورة الأعراف آية رقم 6 (5) سورة الأنبياء آية رقم 7
(3) سورة البقرة آية رقم 219 (7) سورة هود آية رقم (46)
(4) انظر قاموس القرآن أو إصلاح الوجوه والنظائر في القرآن . الحسين محمد الدامغاني . تحقيق عبد العزيز سيد الأهل . ط5 سنة 1985 دار العلم للملاين بيروت صـ 223 صـ 224(1/2)
1- وهذه القضايا يحس بنا أن نقف على معناها للوقوف على معنى المسئولية . وهذه القضايا هي :
1- الخلافة 2 ـ التكليف 3 ـ الأمانة 4ـ العهد والميثاق
وهذه القضايا إنما هي تثبت المسئولية عن طريقة اللزوم . ولقد وردت هذه القضايا في مواضع كثيرة في القرآن الكريم نكتفي بالإشارة إلي كل واحدة منها بموضع في القرآن الكريم .
1- الخلافة : قال الله تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ }(1)أي إني جاعل { أقواماً يخلف بعضهم بعضاً }(2)ولقد أسند الله تعالى إلي البشرية أمر الخلافة في الأرض .
فالخلافة :( بمعنى المستخلف عن الله تعالى في تنفيذ أحكامه .والقيام بما ألزمه الله إياه)(3)من الأحكام والأوامر . ولقد أعطي الله عز وجل هذا الإنسان المستخلف ( من المقومات ما تعينه على القيام بهمة الخلافة في الأرض وأهم هذه المقومات الاستطاعة البشرية – وهذه أولى المقومات والثانية أن الإنسان أعطى القدرة على تسخير وتذليل ما في هذا الكون من صعاب وقدرة المخلوق البشرى في السيطرة عليها )(4) ومادام الإنسان مستخلف في الأرض لإنفاذ أحكام ربانية ألزمه الله تعالى بها .. فلابد من وراء هذا الإلزام مسئولية وهذه هي العلاقة بين الخلافة والمسئولية فالخلافة إلزام والمسئولية نتيجة لزومية أو حتمية لموضوع الخلافة في الأرض .
2 - التكليف : قال الله تعالى :
{
__________
(1) سورة البقرة آية رقم 30 (2) انظر تفسير بن كثير ج1 ص 69
(2) المسئولية الأخلاقية وأثرها في التربية الإسلامية ط1 سنة 2003 أحمد بن حسين المجان السعدي صـ 35 دار
الاعتصام
(3) انظر في هذا المعني السابق . القضاء والقدر في الإسلام/ د . فاروق الدسوقي ج1 صـ 243 دار الدعوة(1/3)
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ }(1)
فالآية فيها نص على تكليف العباد بالأوامر والأعمال التي في وسع المكلف ,وفي مقتضى إداركه وبنيته(2)فالتكليف له شروط .. وهى الأصلية والقدرة أو الاستطاعة وبناءاً على هذا التكليف والذي هو عبارة عن (خطاب بأمر أو نهى )(3)
أو "طلب يتعلق بفعل أمر أو تركه أو تخير بين فعله وتركه(4)فالتكليف بناءاً على ذلك يشمل الإلزام الذي هو طلب فعل على طريق الحتم .فيترتب على فعل الشيء المكلف به إما الإثابة إن كان المكلف مطيعاً وإما المعاقبة إن المكلف عاصياً، ويتضح بذلك أن القرآن الكريم أوضح المسئولية من طريقة التكليف والذي هو أعم من الإلزام . أو بالأحرى أن الإلزام ضرب من التكليف . فالعلاقة بين التكليف والمسئولية علاقة لزومية . فإذا ثبت التكليف ثبت بالضرورة المسئولية .
3 -الأمانة :
قال الله تعالى : { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً }(5)
فواضح من الآية القرآنية الكريمة أن الأمانة والتي حملها الإنسان إنما هي شئ خصص به الإنسان عن بقية المخلوقات العلوية والسفلية , خصص بها عن الملائكة وعن الجن .عن السماوات والأرض والجبال وهذا إشارة إلي من يسكن هذه الأماكن .
ولسنا هنا بصدد تحديد مفهوم الأمانة .والتنازع حول ماهيتها إلا أنه يكفينا ما أشار به العلماء من تعريفات . فلقد ذكر الحافظ ابن كثير بعض التعريفات . التي ذكرت في معنى الأمانة بقوله .
(
__________
(1) سورة البقرة آية رقم 286
(2) الجامع لأحكام القرآن الأمام القرطبي جـ3 صـ429
(3) انظر روضة الناظر لابن قدامة ج1 صـ 136
(4) الموسوعة الفقهية . الكويتية ج6 صـ 245
(5) سورة الأحزاب آية رقم (72)(1/4)
قال العوفي عن ابن عباس يعنى بالأمانة – الطاعة ... وقال على بن أبي طلحة الأمانة الفرائض . )وذكر كذلك رأى (مجاهد وسعيد بن جبر والضحاك والحسن البصري وغير واحد أن الأمانة هي الفرائض )ويذكر كذلك الحافظ بن كثير . رأى قتادة وقوله بأنها هي ( الدين والفرائض والحدود )(1) ... وهذه على ما هو واضح تعتبر جملة التكاليف الشرعية وبذلك عرفها الإمام الفخر الرازي . في تفسيره عند تفسير آية سورة الأحزاب والأمام الزمخشرى في تفسيره للآية الكريمة ذكر أنها الطاعة (الأمانة الطاعة معظم أمرها وفخر شأنها )
إلا أننا نجد الحافظ ابن كثير يجمع بين هذه الأقوال جميعها بقوله ( وكل هذه الأقوال لا تنافي بينها , بل هي متفقة وراجعة إلي أنها التكليف وقبول الأوامر بشرطها ، وهو إن قام بذلك أثيب وإن تركها عوقب فقبلها الإنسان على ضعفه وجهله وظلمه إلا من وفقه الله)(2)
ولقد ذكر الإمام الحافظ ابن كثير في النص السابق كلاماً جيداً فجمع بين أراء السابقين في معنى الأمانة وذكر أنه لا يتعارض بعضه مع البعض وذكر أنها أي الأمانة ( قبول الأمر بشرطها ) أي بشروط التكليف من الأهلية والقدرة والإرادة ثم ذكر – رحمه الله تعالى – النتيجة الحتمية للقيام بالأمانة أو لعدم القيام بها فقال ( وهو إن قام بذلك – أي الإنسان – أثيب وان تركها عوقب ) وذلك يدل على مدى ربط الأمانة بالمسئولية ، والمسئولية بالأمانة مثلها كالإلزام والتكليف والخلاقة وغيرها من القضايا المرتبطة بالمسئولية في القرآن الكريم . ( فالقول عن الأمانة أنها قبول التكليف بشرط تحمل الجزاء معناه قبول المسئولية وتبعاتها وهذا يتضمن جعل الإنسان حراً مختاراً لأن ذلك هو الأساس الذي يقوم عليه التكليف )(3)
__________
(1) تفسير القرآن العظيم للحافظ بن كثير ج3 صـ 342
(2) المرجع السابق صـ 342
(3) القضاء والقدر . دكتور فاروق الدسوقي ج1 صـ 105 دار الدعوة الإسكندرية .(1/5)
4 - العهد والميثاق قال الله تعالى { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً }(1)
وقال الله تعالى :
{ وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً }(2)
وواضح من خلال التعبير القرآني الربط بين العهد والمسئولية بين طلب الله عز وجل من الإنسان ومحاسبته الإنسان على عمله تجاه عهد الله وميثاقه
ب- المسئولية في السنة النبوية:
وردت المسئولية في الحديث النبوي الشريف بمعنى الطلب وكذلك وردت بمعنى الحساب
1- ورودها بمعنى الطلب :قال - صلى الله عليه وسلم - { كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته }(3)
ورودها بمعنى المحاسبة :
قال - صلى الله عليه وسلم - { لصاحب حائط من الأنصار . أطعمنا بصراً , فجاء بعذق فوضعه فأكل , فأكل رسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه . ثم دعا بماءً بارد فشرب فقال لتسألن عن هذا يوم القيامة قال فأخذ عمرُ العذق فضرب به الأرض ,حتى تناثر اليسر قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال يا رسول الله إننا لمسؤولون عن هذا يوم القيامة ؟ قال نعم إلا من ثلاث خرقة كف بها عورته أو كسرة سد بها جوعته, أو حجر يتدخل فيه من الحر أو القر }(4)
ثانياً: تعريف المسئولية في الاصطلاح الإسلامي :
تعريف المسئولية في التشريع الجنائي الإسلامي.أورد علماء الإسلام عدداً من تعريف المسئولية نذكر أهمها ثم نختار تعريفاً جامعاً مانعاً . فمن أهم هذه التعريفات ما يأتي :
__________
(1) سورة الإسراء آية رقم 34
(4) سورة الأحزاب آية رقم (15)
(2) صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر رض الله عنها . كتاب الإمارة باب فضيلة الأمام العادل ج3 والحديث برقم1829
(4) الحديث أخرجه الأمام أحمد في المسند عن أبى عسيب رضي الله عنه ج 5 صـ 81(1/6)
1- عرفها الدكتور مقداد يالجن بقوله :" هي تحمل الشخص نتيجة التزاماته وقراراته واختياراته العملية من الناحية الإيمانية والسلبية أمام الله في الدرجة الأولى , وأمام المجتمع في الدرجة الثابتة "(1)
2- ويعرفها فضيلة الدكتور محمد بيصار في إطارها العام بقوله :" حالة للمرء يكون فيها صاحاً للمؤاخذة على أماله ملزماً بتبعاتها المختلفة " ثم يعرض فضيلته بعد ذلك التعريف العام . تعريفات وتقسيمات لأنواع المسئوليات , فلقد قسم المسئولية إلي عدة أنواع :
أ- المسئولية الدينية : وهى التزام المرء بأوامر الدين ونواهيه. وقبول لما يترتب على مخالفتها , بحيث يكون ملتزماً بما ينتج عن هذه المخالفة من جزاءات محدودة وعقوبات مقررة . ثم يذكر فضيلته بعد ذلك المسئولية الاجتماعية بقوله:
ب- المسئولية الاجتماعية : ( وهى التزام المرء بقوانين المجتمع الذي يعيش فيه وبتقاليده ونظمه , سواء كانت وضعية أو أدبية ,وتقبله لما ينتج عن مخالفته لها من محتويات شرعها المجتمع للخارجين على نظمه , أو تقاليده وآدابه ثم يذكر الدكتور بيصار بعد ذلك تعريفاً للمسؤولية الأخلاقية بقوله : ( هي حالة تمنح الإنسان من القدرة أمام نفسه ما يعينه على تحمل تبعات أعمالها وآثارها .
ثم يعلق فضيلته على مصدرية المسؤوليات الثلاث السابقة بقوله :
" مصدر النوع الأول من المسئولية هو الدين بما جاء من مبادئ وما سن من أحكام أو خط من تشريعات وكما أن مصدر النوع الثاني هو المجتمع بما أتفق عليه من نظم وبما سار فيه من تقاليد وآداب
__________
(1) الاتجاه الأخلاقي في الإسلام. مقداد يالجن صـ 237(1/7)
فكذلك مصدر هذا النوع الأخير من المسئولية وهو المسئولية الأخلاقية ما أودع في الإنسان من قوة فطرية تسمى الضمير . الذي يكون له من السلطان ما يجعل منه مصدراً للمسئولية ورقيباً على الفعل ... "(1)
وإننا من خلال التعريف الأول والذي قدمه الدكتور . مقداد يالجن نلحظ أنه تعريف عام للمسئولية . وأثبت في التعريف الإلزام والذي يعتبر العنصر السابق للمسؤولية الأول في المسألة الأخلاقية 0
وكذلك نلحظ من خلال التعريف أيضاً الإشارة إلي أنواع المسئولية في الإسلام من حيث الزمان ، مسئولية دنيوية ومسئولية أخروية أمام الله وذلك في الدار الآخرة ، و أمام المجتمع . وذلك في الحياة الدنيا إلا أننا نجد قصوراً في هذا التعريف السابق وهو خلوه من الشرط الذي تقوم عليه المسئولية وهو الأهلية التي يجب أن تتوفر في الشخص لكي يتحمل التزاماته التي التزم بها . فيذكر في التعريف مثلاً " أهلية الشخص لتحمل نتيجة التزاماته ... "
ومن خلال التعريف الثاني وهو الدكتور محمد بيصار نلاحظ الآتي :
أ- أنه أحدث نوعاً من الفصل بين المسؤوليات الثلاث من حيث مصدر كل مسئولية وهذا غير ممكن في الشرع الإسلامي فجميع المسئوليات في الشرع الإسلامي إنما مصدرها هو الشارع سبحانه وتعالى .
فليس للمجتمع حق مسائلة الأفراد – إلا بإيجاب الله تعالى ذلك الحق للمجتمع أو للحاكم أو الخليفة القائم بشئون الأمة . فالمصدر هو الشارع سبحانه وتعالى . فهو مصدر كل المسئوليات الدينية والاجتماعية والأخلاقية والجنائية والمدنية وغيرها .
__________
(1) انظر العقيدة والأخلاق وأثرهما في حياة الفرد والمجتمع . د/ محمد بيصار أستاذ الفلسفة وعلم العقيدة جامعة
الأزهر ط4 سنة 1973 مكتبة الأنجلو المصرية صـ 225 صـ 226 .(1/8)
ويصح أن نقول إن كل مسؤولية في الإسلام إنما هي مسئولية أخلاقية فالمسئولية الاجتماعية إنما هي أخلاقية ولا تتعارض معها في شئ وكذلك المسئولية المدنية والجنائية إنما هما أخلاقيتان ومرجع ذلك كله إلي المسئولية الدينية إنما هو أمر حتمي في التشريع الإسلامي .
" فأن كل مسئولية هي مسئولية أخلاقية ... وإذن فليس من المستغرب أن نرى القرآن الكريم يقدم لنا المسئولية الدينية في صورة مسئولية أخلاقية محضة والمؤمن لا يمكن أن تكون لديه إحدى المسئوليات دون الأخرى بمعنى أن كل مسئولية تجر معها المسئولية الدينية ... ويمكن القول في سبيل تحقيق أخلاق القرآن الكريم يجب أن تنتهي كل مسئولية إلي نوع من المسئولية الدينية أو على الأقل تتبعها هذه الأخلاق ترى في الواقع .خ أنه لا الالتزامات الفردية . ولا المؤسسات الاجتماعية بقادرة على أن تكون مصادر للتكليف ؟ والمسئولية بواسطة نوع من تفويض السلطة الإلهية "(1)
ب- نجد كذلك في التعريف الذي قدمه الدكتور محمد بيصار قصوراً بأنه لم يشر إلي أنواع المسئولية والتي تتميز بها المسئولية في الشرع الإسلامي عن غيرها من النظم الوضعية , فالمسئولية الإسلامية دنيوية وأخروية , وإلي ذلك أشار الدكتور مقداد بالجن في تعريفه الذي قدمناه سابقاً .
3- ومن التعريفات التي قدمها علماء الإسلام.
تعريف الدكتور : على عبد الواحد وافي . في كتابه [ المسئولية والجزاء ] ولقد قسم المسئولية كذلك ثلاثة أقسام . وهى كالآتي
أ- المسئولية القانونية : فيقول " فمن هذه الظواهر تسمر يتصل بالقوانين الوضعية للأمة
__________
(1) انظر دستور الأخلاق في القرن . محمد عبد الله دراز صـ 141 صـ 142 مؤسسة الرسالة(1/9)
وتشرف عليها الهيئات التي ينشئها المجتمع لحماية هذه القوانين وتطبيق ما تقرره , وينقسم هذا القسم جميع المسئوليات المتحدة من الدستور وقانون العقوبات والقوانين المدنية والتجارية والمدرسية والمالية والبحرية والإدارية والدولية الخاصة والعامة ... وما إلي ذلك ؟
كما ينتظم جميع أنواع الجزاء المترتبة على هذه المسئوليات سواء أكانت عقاباً أو مثوبة(1)
فجعل المصدر الملزم والسائل عن المسئولية الجنائية ( أو القانونية عموماً ) هو الهيئة التي أنشأها المجتمع وهى هيئة بشرية أرضية ولم بشر من قريب ولا بعيد أحقية الشارع ـ سبحانه وتعالى ـ في الإلزام والمسائلة ؟
وكذلك كان له نفس التفريق في المسئوليات الأخرى .
ب- المسئولية الاجتماعية : وجعل مصدرها الوحيد هو العقل الجمعي وكذلك المسئولية الأخلاقية . فيقول : فكل منها ينبعث عن العقل الجمعي(2)
4- وذكر فضيلة الدكتور محمد إبراهيم الشافعي تعريفا للمسئولية يقول : " إنها تعنى الاستعداد الفطري الذي جبل الله عليه الإنسان ليصلح للقيام برعاية ما كلفه به من أمور متعلقة بدينه ودنياه فإن وفي ما عليه من الرعاية حصل له الثواب وان كان غير ذلك حصل له العقاب "(3)
5- وذكر الدكتور حسن صالح العناني تعريفاً للمسئولية بقوله: "كون الناس جميعاً مأمورين من قبل الله سبحانه بأن يرتضوا مجموعة القيم والمبادئ والتعالىم التي بلغها لهم خاتم النبيين منهاجاً لحياتهم , فيرضاها الصفوة من الخلق مختارين ويأباها غيرهم ويكون على أساسها الجزاء عدلاً وفضلاً "(4)
__________
(1) المسئولية والجزاء / علي عبد الواحد وافي صـ 3 دار النهضة مصر
(2) انظر بالتفصيل المرجع السابق صـ 4
(3) المسئولية والجزاء في القرآن د محمد إبراهيم الشافعي صـ 38 رسالة دكتوراه
(4) المسئولية والجزاء في السنة المطهرة / حسن صالح العناني رسالة دكتوراه جامعه الأزهر – كلية الأصول – القاهرة(1/10)
ونلحظ من خلا التعريفيين السابقين الرابع والخامس أنهما يثبتان ما يترتب على المسئولية من جزاء ثوب وعقاب .
وفي التعريف كذلك إشارة إلي مصدر الإلزام والمسائلة وهو الله سبحانه وتعالى 0
وهذه التعريفات السابقة إنما هي تعريفات للمسؤولية عموماً عدا ما ذكره الدكتور بيصار والدكتور على عبد الواحد وافي . من تقسيمات للمسئولية ولنذكر الآن بعض التعريفات للمسئولية الجنائية . لدى علماء الإسلام .
* تعريف المسئولية الجنائية :-
عرف الأستاذ عبد القادر عودة يرحمه الله تعالى المسئولية الجنائية بقوله : "هي أن يتحمل الفرد – الإنسان – نتائج الأفعال المحرمة التي يأتيها مختار وهو مدرك لمعانيها ونتائجها
فمن أتى فعلاً محرماً وهو لا يريده كالمكره أو المغمى عليه لا يسأل عنه جنائياً . ومن أتى فعلاً محرماً وهو يريده ولكنه لا يدرك معناه كالطفل أو المجنون لا يسأل أيضاً عن فعله."(1)
ومعلوم بالضرورة أن إطلاق لفظ المسئولية يفيد عموم المسئوليات ويشمل جميع أنواعها . الاجتماعية والجنائية والأخلاقية والمدنية والبحرية ... إلي أخر أنواع هذه المسئوليات .
فالتعاريف التي ذكرها علماء الإسلام والتي أوردنا عدداً منها . إنما هي تعاريف للمسئولية بجميع أنواعها , فهي تعاريف عامه عدا ما ذكر بعض العلماء تحت قيد معين مثل التعريف السابق للأستاذ المرحوم عبد القادر عودة 0
وعلمنا كذلك مما سبق أن كل مسئولية ترجع حتماً في الإسلام إلي المسئولية الدينية وتكون تابعه لها .
وكذلك لا يوجد نوع من التصادم والتضاد بين أنواع المسئوليات ,والمسئولية الأخلاقية على الخصوص . ذات عامل مشترك بين جميع المسئوليات في الشرع الإسلامي , فما من مسئولية إلا وهى تحقيق ضمن أهدافها هدفاً أخلاقياً سامياً 0
__________
(1) التشريع الجنائي الإسلامي . عبد القادر عوده ج1 صـ 392 مؤسسة الرسالة(1/11)
فكل مسئولية جنائية إنما هي مسئولية أخلاقية , والجميع يرجع في مصدره إلي المسئولية الدينية , وصاحب الإلزام في الجميع هو الشارع سبحانه وتعالى .
*ونستطيع أن تعرف المسئولية الجنائية في الإسلام بقولنا . أنها " أهلية الإنسان لأن يتحمل نتائج الأفعال المحرمة التي نهى الشارع الحكيم عن إتيانها . فيأتها مختاراً مدركاً لمعانيها فيحاسب عليها أمام الله وأمام المجتمع "
والفارق بين التعريف السابق الذي ذكرته . وتعريف الأستاذ عبد القادر عودة ـ يرحمه الله تعالى – يظهر من وجهين :
1- أن التعريف الذي ذكره الشهيد عودة يشتمل على قصور في بدايته حيث لم يذكر شرط الأهلية لصلاحية الإنسان للمسئولية ولقد بدأ التعريف بقوله " أن يتحمل الفردُ – الإنسانُ ـ نتائج الأفعال المحرمة "
فهذا يشتمل على قصور حيث يوهم أن الشخص يتحمل نتائج وتبعة أفعاله ولو لم تتوافر فيه الصلاحية . اللازمة لتحمل هذه النتائج والتبعات 0 بينما ذكرنا في التعريف الثاني هذه الصلاحية إشارة إلي أهلية الشخص 0
2- أن تعريف الأستاذ الشهيد لم يشر صراحة إلي خصائص المسئولية الجنائية الإسلامية وأنواع المسائلة .والمحاسبة , إذ أنها مسئولية في الدنيا والآخرة على السواء .
بينما ذكرت في التعريف الثاني ما يشير إلي ذلك .
وذلك ليس معناه أنه - يرحمه الله تعالى – لم يدرك هذين القيدين علماً . ولكن إشارة إلي خلو التعريف فقط من هذين القيدين صراحة 0
المطلب الثاني
تعريف المسئولية في النظم الأخرى
أولاً : تعريف المسئولية الجنائية في القانون الوضعي :
عرف القانونيون المسئولية الجنائية بتعريفات قريبة المضمون من تعريفات العلماء للمسئولية الجنائية إلا أنه لا تنعدم الفروق بين التعريفيين الإسلامي والوضعي ولقد عرفها القانونيون بالآتي :(1/12)
1-التزام الشخص بتحمل النتائج التي رتبها القانون على أعماله غير المشروعة أي العقوبات التي ينص عليها القانون(1)أوهى :
2- صلاحية الشخص لتحمل الجزاء الجنائي الناشئ عما يرتكبه من جرائم(2)أو الامتناع عن فعل مخالف لنص القانون (3)
ويلاحظ في تعريف القانونين للمسئولية الجنائية :
أ – أن مصدر المسائلة هي الهيئة القانونية وحدها.
ب- أن المسئولية الجنائية في القانون إنما هي مسئولية دنيوية فقط ولا تعترف
بالمسئولية الأخروية .
3- ولقد عرفتها بعض الاتجاهات القانونية بقولهم : " إنها مجموعة العناصر النفسية الباطنية التي تسمح باعتبار الإنسان مذنباً لارتكاب جريمة يترتب عليها تطبيق العقوبة "(3)
ويلاحظ على تعريف هذا الاتجاه أنه يميل نحو المعنى الضيق للمسئولية الجنائية ويحصرها على أنها حالة كامنة في الشخص , وهى مجموعة العناصر النفسية التي تنطوي عليها هذه الشخصية , وبناءاً عليها يعتبر الشخص مذنباً فيحاسب ولو لم يرتكب جريمة جنائية .
ثانياً – المسئولية عند الفلاسفة :
لقد تحدث كثير من الفلاسفة بوجهه عام , فكل فيلسوف أقر بمبدأ الإلزام – على مصادره المتعددة – أقر بطريقة اللزوم بالمسئولية ومن أنكر الإلزام جملة أنكر المسئولية كذلك جملة وعلى حسب رأى كل فيلسوف في مصدر الإلزام كان عطاؤه في موضوع المسئولية ومن هنا ندرك أن حديث الفلاسفة عن المسئولية لم يكن حديثاً موحداً
__________
(1) المسئولية الجنائية عن الجرائم الاقتصادية / د . عبد الرؤف مهدي صـ 16 .- رسالة دكتوراه ط منشأة المعارف
. الإسكندرية
(2) مبادئ القسم العام من التشريع الجنائي دراسة مقارنة بالشريعة الإسلامية / د. رأفت عبد الفتاح حلاوة 1996 –
مكتبة الأزهر للطباعة . دمنهور صـ 113
(3) الدعائم الفلسفية للمسئولية الجنائية دار النهضة العربية صـ 493 رسالة دكتوراه(1/13)
* وعلى قدر إختلاف الفلاسفة وتباين أراءهم حول موضو ع الحرية والإرادة كذلك كان حديثهم عن المسئولية .
ويمكن أن نلخص سبب اختلاف أراء الفلاسفة في المسئولية إلي قرب كل فيلسوف أو بعده من : 1 – الإقرار بالربانية . كمصدر للإزام أو بعده عنها .
2- الإقرار بحرية الإنسان وقدرته على الاختيار أم القول بجبريته .
ونستطيع أن نذكر اتجاهات الفلاسفة نحو موضوع المسئولية إلي ثلاث اتجاهات .
(1) اتجاه من الفلاسفة ذهب أصحابه إلي القول بأن الإنسان مسئول قانونياً واخلاقياً ومن أشهر هؤلاء الفلاسفة . [ جريمى بنتام . عماوئيل كانت (الألماني ) وبكاريا ]
وسوف نتعرض لهذا الرأي تفضيلاً إن شاء الله تعالى في المبحث القادم 0
(2) الاتجاه الثاني من الفلاسفة : وهو الذي أقر بالمسئولية الناتجة عن فعل الضرر اللاحق بالآخرين ولكنه لا يعترف بالمسئولية الأخلاقية إذا يرى هذا الفريق أن الإنسان مجبور وليس حر فهو مسير وليس مخير وبناءاً على ذلك فلا يسأل أخلاقياً 0
فهم يعلنون بإحلال فكرة المسئولية القانونية أو الاجتماعية محل المسئولية الأخلاقية فيخضعون المجرم رغم كونه مسيراً غير مختار للمسئولية الجنائية على أساس أن المسئولية القانونية ليست وسيلة لتحقيق العدالة ... إنما هي مجرد وسيلة لدفاع المجتمع عن نفسه ضد خطر يهدده بوقوع جريمة أخرى .مستقبلاً من نفس المجر أومن غيره(1)
وهذا الاتجاه السابق ينكر المسئولية الأخلاقية وكذلك أيضاً المسئولية الأخروية , فليست هناك مسئولية ربانية وإنما أنكر كذلك الدين وما أدى إليه من مسئوليات0
* وسوف تتناول هذا الرأي بالتفصيل عند حديثنا عن أساس المسئولية الجنائية في النظم البشرية وعُرف أنصار هذا الاتجاه بأصحاب المدرسة الوضعية ولقد ذكرنا رأيهم عن مصدر الإلزام 0
__________
(1) انظر كتاب حق الدولة في العقاب / د مصطفى عبد الفتاح الصيفي .-ط2 طبعة فريده .- دار النهضة العربية سنة
1985 صـ 71 ، 72(1/14)
3- الاتجاه الثالث : وهو اتجاه منبثق عن رأى الوضعين متأثر بآراء أوجست كونت وأنصار المدرسة الوضعية وأصحاب مدرسة العلوم الاجتماعية إلا أن هذا الرأي حيال مسألة المسئولية كان أكثر تحرراً من أراء أصحاب الاتجاه السابقة .وأصحاب هذا الاتجاه انسلخوا من كل مسئولية ... وجعلوا الإنسان حراً إلا أن هذه الحرية التي نادوا بها إنما هي حرية مطلقة يغير قيود ولا ضوابط .
فأنكروا المسئولية الفردية والمسئولية الاجتماعية والقانونية والمسئولية الأخروية فلا واحدة من هذه المسئوليات ثابتة لديهم.
ونعرض لرأي لبعض زعماء هذا الاتجاه الفلسفي فيما يأتي .
أ- رأى الفيلسوف كارل ماركس(1)
يعتبر كارل ماركس وأحداً من أهم فلاسفة القرن التاسع عشر نادى بالفكر المادي الإلحادي , وله نظرية مادية تأثر فيها بالفيلسوف أوجست كونت فهو يدعى أن المادة توجد قبل العقل ... ولا يكتفي بذلك فحسب بل ويجعل المادة أكثره أهمية واعتبارا من العقل ونتج عن ذلك أنه أنكر بقاء العقل والروح بعد الجسم ورفض كذلك الفكرة الأساسية في الدين وهى الإيمان بالله تعالى كموجود أزلي مستقل تماماً ومتجرد تماماً عن المادة ...
فالمذهب المدركس يعتبر كل دين لعنة،فماركس يحدثنا أن " كل دين محذر للشعب "(2)
ولقد ترتب على إنكار الماركسية لكل دين سماوي وكل ماله علاقة بالدين – أدي ذلك – إنكار كل التعاليم الأخلاقية وكل ماله صله بالأخلاق والقيم 0
__________
(1) كارل ماركس . فيلسوف يهودي ألماني عاش بين سنتي سنة 1818 ، 1883 م وهو عالم اجتماع وفيلسوف
وصاحب المذهب المادي التاريخي أو صاحب فلسفة التاريخ المادية بالاشتراك مع ( إنجلز )
( الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعارة صـ 275
(2) انظر الفكر الإسلامي الحديث . / د. محمد البهي .- مكتبة وهبة صـ 285(1/15)
وأنكر المذهب الشيوعي كل التراث الخلقي الذي توارثته الأجيال والشعوب الإنسانية منذ أقدم العصور . ولانجلز(1)موقف صريح وواضح في هذا الشأن حيث يقول : "نحن نرفض أن نزعن لأية عقيدة خلقية باعتبارها قانوناً خلقياً خالداً وغير قابل للتبديل والتغير .. ونرفض أن نعتبر بأن هناك مبادئ خلقية أبدية تتجاوز عصور التاريخ وتتجاوز كل إختلاف بين الشعوب . وعلى العكس من ذلك نقرر أن جميع التعاليم الخلقية القديمة هي عند تحليلها ليست إلا ناتجاً اصطنعه المستوى الاقتصادي الذي بلغه المجتمع في عصر معين ... فالاختلاف التي يعترف بها المجتمع ليست إلا النظام الخلقي الذي تعتز به طبقة معينه نظاماً يبرر طغيان الطبقة الحاكمة ويذود عن مصالحها " 0
وهذا ليس رأى انجلز وهو أحد رواد الفكر الماركسي وحده ، بل هو رأى زعيم الحركة وقائدها ماركس فيقول : " إن القانون والأخلاق والدين ليست في نظرنا إلا أوهاماً برجوازية ... وإن النظام الخلقي في مجتمع هو ديانته وقوانينه وليس إلا جزءاً من بناء زائل أقامته ظروف الإنتاج ويعكس مصالح الطبقة السائدة "(2)0
وبذلك اعتبرت الماركسية أحد الحركات الفكرية الوارثة للإلحاد اليوناني والفارسي ، وبمعنى أدق رائدة الحركة الإلحادية في العصر الحديث . فالدين لدى الماركسية لاوجود له ،والأخلاق إنما هي أكذوبة كبرى .
__________
(1) تعريف لانجلز :- منظر وعالم ‘اجتماع وفيلسوف ألماني ولد في ( بارمن ) تعرف علي كارل ماركس وكان صديقاً
له ، عين إنجلز سكرتير اللجنة المركزية لفدرالية الشيوعيين في بروكسل في ربيع ( 1848 ) ، ولد في عام 1820
وتوفي عام 1895 م
(2) عالم الإسلام المعاصر من مجموعه مقدمات العلوم والمناهج / أنور الجندي .- ط1 .- دار الأنصار صـ 567 ،
568 ، ج3 بتصرف شديد .(1/16)
وتنكرت للقيم والمثل العليا ( فصراع الدين والميتافيزيقا مع الماركسية صراع أوربي . ومن إنتاج العقلين الأوربية وحدها . وتحت ضغط الحياة الأوربية وما فيها من قلق واضطراب , فهو يمثل حلقة من حلقات العقلية الأوربية ... والماركسية كمذهب فلسفي يؤمن بالحس وقيمته في التوجيه . وهو ضد الدين والعقل معاً .(1)
ومن خلال عرضنا لرأى كارل ماركس وأقطاب النظام الماركسي يتجلى لنا بوضوح حقيقة هذا النظام بوجهه الكالح ورأيه الهدام للنظام الأخلاقي وما يحتوى عليه من مسئوليات أخلاقية .
فإلغاؤه للدين والأخلاق والقانون كما يقول ماركس فأنه بذلك يهدم كل مسئولية نابعة عن أي نظام من هذه النظم الثلاثة.
فالمسئولية لدى النظام الماركسي إنما هي – أن وجدت بالفعل –مسئولية متهتكة بالية.
فأي سائل يصدر عنه الحكم ويكون له حق المسائلة ؟ هل هو الدين أو الإله ؟ لقد حكموا عليه بالعدم ( سبحانه وتعالى )هل هو الخلق الفاصل - ؟ فلقد أعدوا وذلك وهماً هل هو القانون ... أعدوه هو الأخر كذبة كبرى من افتراءات المجتمع ... هذا هو رأى ماركس وزعماء الحركة الماركسية الإلحادية 0
ب ـ المسئولية في الفلسفة الوجودية :
المذهب الوجودي , أو الفلسفة الوجودية تعد واحدة من أعظم الفلسفات الأوربية المعاصرة وتأثرت بالعقلية الأوربية وأثرت فيها ولا تتجاوز الإنصاف إن قلنا إن المذهب الوجودي واحداً من أكبر الفلسفات التي شكلت العقلية الأوربية المعاصرة وارتبطت هذه باسم الفيلسوف الوجودي والأديب الفرنسي ( جان بول سارتر )(2)
__________
(1) انظر الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي / محمد البهي .- مكتبة وهبة صـ 285 بتصرف
(2) تعريف : جان بول سارتر : هو أديب وفيلسوف فرنسي ولد عام 1905 يعد أشهر الوجوديين في فرنسا واقترنت
الوجودية باسمة . وهو مادي ملحد تعد فلسفة سارتر تعبيراً عن يأس إنسان ما بعد الحرب وبصفة خاصة يأس الإنسان
الفرنسي الذي هزمته النازية سر هزيمة ، كما يمكن اعتبار هذه الفلسفة أيدلوجية لإنسان يفتقر إلي المعتقدات والأسرة
والهدف والحياة انظر . تاريخ الفلسفة الحديثة يوسف كرم صـ 457(1/17)
0
"والوجودية اتجاه فلسفي يجعل الإنسان محور التفلسف فيهتم الوجوديون بحرية الفرد إلي التوحيد أي إلي حد التوحيد بينها الحرية وبين وجوده ومن ثم لا يستطيع الإنسان أن يتخلي عن حريته وإلا تخلي عن ذاته "(1)
وموضع المسئولية في الفلسفة الوجودية موضع شائك مبهم غير واضح المعالم .. فتحدثنا في وقت أنه ( أي الإنسان ) حر ومسئول ..بينما هي أيضاً تحدثنا بنفي هذه المسئولية من طريق آخر . فإننا أمام المذهب الوجودي يظهر لنا أن فكرته في الإنسان أنه يختار , وأنه مسؤول عن نفسه ولا يكتفي بهذا , بل تمتد المسئولية عنده فتغدوا كل ما استطاع الإنسان أن يختار بمحض حريته .. وبذلك تتوسع عند سارتر فتشمل العالم بأجمعه وعلي حد هذا التصوير تكون المسئولية عند الوجوديين عبارة عن شعور المرء بأنه الفاعل الذي تسبب في حدوث شئ ما أو حدث ما 0(2)
هذا ما بدا لنا عن فكر الوجودية من هذه الزاوية .. إلا أننا نستطيع أن نحدد هذه المسئولية وبأكثر دقة . إذا ما أدركنا أن الوجودية تتنكر لكل القيم وكل المصادر التي تأمر الإنسان بهذه القيم سواء ما فرضه العرف الاجتماعي أو ما أملاه المعتقد الديني أو أوجبته سلطة سياسية 0(3)
__________
(1) انظر : فلسفة التربية واتجاهاتها ومدارسها . محمد منير مرسي ( عالم الكتب القاهرة ) سنة 1984 صـ 220
(2) انظر مشكلة الحرية زكريا إبراهيم .- ط3 .- دار المعرفة للطباعة .- صـ 189 ، 190 وكذلك : المسئولية
الأخلاقية والجزاء عليها د/ أحمد عبد العزيز الحلبي صـ 80 مكتبة الرشد بالرياض .
(3) فلسفة التربية وإتجاهتها ومدارسها : ط دار الكتب . القاهرة سنة 1984 صـ 220(1/18)
فالإنسان لا ينبغي أن يخضع لواحد من هذه الهيئات الثلاث لمجرد الامتثال أو التبعية فالحرية والتي كثيراً ما تغني بها الوجودية إنما تغني الإنسان لا يخضع لأي سلطة أو هيئة أياً كانت هذه الهيئة أو تلك السلطة وإلا أصبح الإنسان كما يقول الفيلسوف الوجودي (سورين كيركجورد)(1)أداه في يد الآخرين , أو دمية يحركها المجتمع كما يهوي , ولذلك فإن الإنسان الأخلاق الحق : هو الذي يختار قيمه وحريته .. ويقول أيضاً : اختار ذاتك قبل أن تختارها لك الآخرون )(2)
وهذا يعني سقوط كل سلطة تقوم خارج الإنسان لأمره بقيمة أخلاقية ولو كانت هذه السلطة هي الدين أو الألوهية فهي في زعم سارتر أنها غير موجودة وأحل حرية الإنسان مكانها فنصب الإنسان إلها حاكماً لا يقبل حكم غيره ولا سؤال من سواه !!
( فالفرد يتحول عند الوجودية إلي إله يخلق نفسه والعالم كل لحظة .. ويعترف سارتر بأن ما ورد علي لسان أحد الأبطال ديستو فسكي من عبارة قائله بأن " الله إذا لم يكن موجوداً فكل شئ مباح " هي نقطة البداية بالسنة للوجودية )(3)
وبذلك ندرك حقيقة التناقض الذي وقعت فيه الوجودية حينما قررت المسئولية تارة أخري فهي كما يقول الدكتور ذكريا إبراهيم وأن أقرت بالمسئولية إلا أنها يوجه إليها انتقادات فيذكر منها أنها :
1 ـ لا تتعدى الشعور النفسي فهي مسئولية بدون سائل يصدر الحكم ويوقع الجزاء كما في الفلسفات الأخرى إذ تكون المسئولية أمام الله تعالى ,أو المجتمع ,أو الضمير0
ومعلوم أن الوجودية ألغت كل هذه المسؤوليات بعدم سماحها للإنسان أن يُسأل من سلطة خارجية
__________
(1) التعريف بـ ( سورين كركجورد )
(2) علم الاجتماع الأخلاقي د. حسين عبد الحميد رشوان / جامعة الإسكندرية - المكتب العلمي للنشر والتوزيع صـ 179
(3) نظرية القيم في الفكر المعاصر .- د/ صلاح قنصوه ط2 دار التنوير للطباعة والنشر : لبنان .- ص 195 بتصرف شديد وكذلك ص 159 فقوتين من هاتين الصفحتين(1/19)
2 ـ أنها مسئولية غامضة . إذ كيف تقع المسئولية الشاملة إذا كانت إدارة الإنسان تتبع بالضرورة ما نحن عليه بالفعل , إنها توحي بعدم وضوح القول بالحرية وعدمه 0
فهي أشبه ما تكون بالمسئولية القائمة علي الجبر والإلزام(1)
المطلب الثالث
المميزات الخلقية للمسئولية الجنائية بين الإسلام والنظم الأخرى
تمهيد :
* عرضنا فيما سبق لتعريف المسئولية بوجه عام في الشرع الإسلامي للمسئولية الجنائية بعد ذلك بوجه خاص وكذلك عرضنا تعريف المسئولية الجنائية في القانون الوضعي والمسئولية بوجه عام لدي الفلاسفة 0
ومما سبق بدا القاعدة مميزات تميزت بها الشريعة الإسلامية في جانب المسئولية بوجه عام شاملة في ذلك المسئولية الجنائية بالضرورة .
ومن أهم المميزات الخصائص الخلقية التي تتميز بها الشريعة الإسلامي عن النظم الوضعية في جانب المسئولية الجنائية أنها متصفة بالصبغة الدينية ومتصفة بصفات السائل بماله من صفات الكمال المطلق 0
وثاني هذه الصفات التي امتازت بها المسئولية الجنائية في الشريعة الإسلامية أنها ثنائية بمعني أنها مسئولية في الدنيا ومسئولية في الآخرة 0
وثالث هذه المميزات الخلقية أن المسئولية في الإسلام ومنها المسئولية الجنائية تشمل دوائر مسائلة أكثر من المسئولية في النظم الوضعية 0
وهذا الأمر يحتاج إلي مزيد بيان وإيضاح فلنجعله في نقطتين أساسيتين :-
أولاًً :- اتصاف المسئولية الجنائية بالصفة الدينية:
__________
(1) مشكلة الحرية / د ذكريا إبراهيم صـ 190 ، 191(1/20)
لقد امتازت المسئولية الجنائية في الشريعة الإسلامية بصفة أخلاقية لم توصف بها المسئولية الجنائية في النظم الأخرى ( الوضعية ) علي عمومها وهذه الصفة هي المسئولية الدينية فالمسئولية الجنائية إنما هي مسئولية دينية في الإسلام فالمسئولية الدينية أصل جميع المسئوليات .. وكل ما ينظم المجتمع وفئاته كافة لا بد أن يكون مستنداً إلي أصل ديني يرجع إلي كتاب الله تعالى وإلي سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو إلي ما سواهما من مصادر الشريعة المعتبرة "(1)وهذا بخلاف ما احتوت عليه المسئولية بوجه عام في النظم الوضعية وعلي الخصوص المسئولية الجنائية . فلقد انطوت علي تقصير في هذا الشأن وذلك أنها لم تسند المسئولية الجنائية إلي المسئولية الدينية . بل إنها في بعض النظم الوضعية وعند بعض الفلاسفة لم يعترف بها . فالمسئولية الدينية لم تكن محل اهتمام لدي كثير من الفلاسفة الماديين . ولقد سبق الحديث عن المسئولية عند الفلاسفة . وأوضحنا رأى الفلسفتين الماركسية والوجودية بما يغنى عن إعادة الحديث مرة ثانية هنا .
فلقد أنكر الماركسيون والوجوديون المسئولية الدينية بكل أبعادها . وكذلك أنكرت المدرسة الوضعية والتي كونت بزعامة المفكر الاجتماعي والفيلسوف الكبير ( أوجست كونت ) . أنكرت هذه المدرسة – المسئولية الأخلاقية برمتها وكذلك أنكرت كل مسئوليه أخرى . عدا المسئولية القانونية .
__________
(1) المسئولية الأخلاقية وأثرها في التربية الإسلامية أحمد حسين الموجان السعدي ط11- دار الاعتصام القاهرة صـ40(1/21)
وكذلك خلا تعريف المسئولية الجنائية في القانون الوضعي من الإشارة إلي المسئولية الدينية وجعل مصدر المسائلة هو القانون أي الهيئة القائمة عليه – فلقد عرفها القانون – (بأنها صلاحية الشخص لتحمل الجزاء الجنائي الناشئ عما يرتكبه من جرائم مخالفاً لنص القانون )(1)0
وبذلك جعلت النظم الوضعية -التي أقرت منها المسئولية -أن مصدر المسائلة هو الإنسان، فالبشر هم السائلون للبشر ، وليست جهة أخرى سائله ويظهر أثر الجانب الأخلاقي هنا في النتائج المترتبة عن أثر المسئولية في كلا الاتجاهين وأول هذه النتائج مدى تحقيق العدل الناتج عن الحكم بعد المسائلة ، فعلى قدر كمال ودرجة علم السائل تكون المسئولية بنتائجها الإيجابية وعلى قدر عجز السائل وعدم إدراكه أو نقص هذا الإدراك بغياب بعض الجزئيات عنه تكون النتائج السلبية أثراً من أثار المسئولية .
فعلي سبيل المثال نذكر في تحقيق قيمة العدل مثلاً
هل يستطيع الحاكم البشري أن يلتزم بالعدل دائماً ولا يحيد عنه أبداً ؟
إن القاضي يقضي بما ظهر له من أدلة .. وبما اتضح له من صحيح وبراهين وقد يكون أحد المتخاصمين ألحن بحجته من أخيه فيقضي له بنحو ما سمع فقد يدرك الحق أو لا يدركه , إلا أنه قضي بما ظهر له من برهان وبينة 0
فقال - صلى الله عليه وسلم - موضحاً تلك الحالة البشرية المحضة التي لم تؤيد بالوحي السماوي { إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له علي نحو ما أسمع منه فمن قطعت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه فإنما أقطع له به قطعة من النار }(2)
والحديث فيه دلالات منها :
__________
(1) مبادئ القسم العام من التشريع الجنائي دراسة مقارنة بالشريعة الإسلامية د / رأفت حلاوة صـ 113- مكتبة القاهرة
(2) الحديث مسلم : عن أم سلمة رضي الله عنها باب الأقضية باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة ج3 والحديث برقم
1713(1/22)
أن الفرد البشري لا يستطيع أن يدرك أبعاد القضية كلها فقد تخفي عليه الحقيقة وقد يحكم بعد المساءلة بغير الوجه الحقيقي ـ الواجب الحكم به ـ وذلك لما ظهر له من خلفيات أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلي بعضها بقوله : { لعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له .. } .
2 ـ وثاني النتائج المترتبة علي وصف المسئولية الجنائية بأنها مسئولية دينية أن الرابطة بين السلطات الحاكمة السائلة والأفراد المسئولين رابطة دينية ناشئة عن العقيدة الإسلامية وهي رابطة الأخوة في الله قال الله تعالى { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ }(1)
وينتج عن ذلك الفهم الصحيح لمكانة الحاكم أو السائل الذي يقوم بمسائلة الجاني ومحاسبته ومدي أحقيته في المسائلة .
إن الحاكم أو السائل البشري في الدين الإسلامي إنما هو مستخلف عن الله تعالى في إقامة الدين وما يشتمل عليه من أحكام , والأمة كلها منوطة بإقامة الدين , وتحقيق الخلافة , إلا أنه يصعب عليها القيام مجتمعة بتولي الحكم والمسائلة ،فأنابت منها من يقوم بهذا الحق فيها فكان الحاكم نائباً عن الأمة في تنفيذ الأحكام وإقامة الشرائع(2)
وليس له دور أكثر من ذلك في موضع المسائلة علي عمومها ، والمسئولية الجنائية تابعة لها , فالسائل والمسئول يستمدان ذلك من شرع الله عز وجل .
مثال ذلك قال الله تعالى : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }(3)
وعلي النص السابق تقاس كل الأحكام القرآنية وموضع مصدر المسائلة 0
__________
(1) سورة الحجرات جزئ من الآية رقم 10 وانظر في ذلك معني الفقرة السابقة حقوق الإنسان بين الشريعة والقانون
( كتاب الأمة ) ع 88 السنة الثانية والعشرون صـ 122
(3) أصول الدعوة / عبد الكريم زيدان .- نفس الفكرة بتصرف بسيط
(3) سورة المائدة رقم (38)(1/23)
في ظل الصفة الدينية والتي تمتاز بها المسئولية الجنائية في التشريع الإسلامي نجد أن إرادة البشر تتساوى فلا تعلو إرادة فوق أخري ويتساوى صفهم فلا يتقدم أحدهم بين يد الله تعالى ورسوله .. وهنالك لا تعفي بعض الشخصيات من المسائلة بحجة أن لها مركزاً قانونياً أو أنها من طبيعة النظام الحاكم أو الشرع ،فالكل مسئول أمام التشريع الإسلامي في ظل مسئولية إسلامية . وما ذاك إلا لأن الشريعة الإسلامية أوقفتهم متساوين في المسئولية عما ارتكبوا من جرائم 0
فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطي القود من نفسه وعمر الصحابي الجليل يعطي القود من أحد ولاته . ويعطي القود من نفسه
ولقد أثبتت الروايات التاريخية لنا ما يدل علي ما ذكرنا آنفا من قود المجني عليه واستفاءه حقه , ولو كان ذلك من أعلي سلطة في المجتمع .. حتي ولو كان ذلك هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - كان في بدر يعدل الصفوف ويقوم بتسويتها وبيده سهم لا ريش له يعدل به الصف فرأي رجلاً اسمه سواد بن غزية وقد خرج من الصف فطعنه - صلى الله عليه وسلم - في بطنه وقال :"استو يا سواد " فقال يا رسول الله قد أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني فكشف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطنه وقال استقد فاعتنقه وقبل بطنه(1)
__________
(1) انظر في ذلك إمتاع الأسماع بما للرسول من أبناء والأموال والحقوق والمتاع / للشيخ : أحمد بن علي المقريزي
صححه – محمود محمد شاكر .- مطبعة لجنة التأليف والترجمة سنة 1941 جـ1 صـ 79 ، 80
وكذلك السيرة النبوية علي محمد الصلابي ج2 ص 30 دار الإيمان الإسكندرية(1/24)
وفي عهد الفاروق عمر رضي الله عنه قصة أشبه ما تكون بما ذكرنا في عهد النبوة حكي إبراهيم النخعى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نهي الرجال أن يطوفوا مع النساء فرأي رجلاً يصلي مع النساء فضربه بالدرة فقال الرجل والله إن كنت أحسنتُ لقد ظلمتني , وأن كنت أسأت فما علمتني , فقال عمر أما شهدت عزمتي , فقال ما شهدت لك عزمة فألقي إليه الدرة وقال له : أقتص فقال : لا أقتص اليوم . قال :فأعف عنى . قال: لا أعفو . فافترقا علي ذلك ثم لقيه من الغد فتغير لون عمر فقال :له الرجل : ياأمير المؤمنين كأني أرى ما كان منى قد أسرع فيك ؟ قال : أجل قال :فاشهد أنى قد عفوت عنك )(1)
وهكذا تجعل الصبغة الربانية القداسة والاحترام للنظام ولا تجعل قداسة لأشخاص وإن كانوا أصحاب السلطة. بل تضعهم دائما موضع المساءلة والمسئولية(2).فقال - صلى الله عليه وسلم - :
{ كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته }(3)
ومن خلال تلك التسوية التي أرساها الإسلام في المسئولية الجنائية أحال بين السلطة الحاكمة وأفرادها ، وبين أن يتحكموا في رقاب العباد والعلو عليهم وقهرهم وكل لون من ألوان التسلط والإستبداد ، ومنع بعض الإدارات أن تعلو على الإدارات الأخرى . أما في النظم الوضعية فالأمر يختلف عنه في الإسلام. فالنظم الوضعية أباحت للفرد أن يشرع فهو الذي يضع القانون كما علمنا سلفاً . وبناءاً على ذلك أنه هو مصدر المسائلة . فهو السائل . سواء أكان السائل هو واضع القانون أم الهيئة القائمة على تنفيذ القانون أم المجتمع .
__________
(1) الأحكام السلطانية والولايات الدينية / الماوردي .- دار بن خلدون صـ 256
(2) المشروعية الإسلامية / المستشار علي جريشة .- دار الوفاء صـ 161
(3) صحيح مسلم باب فضيلة الإمام العادل عن بن عمر رضي الله عنهما في الإمارة .- ج3 ، الحديث برقم 1829(1/25)
ولكن كل هذه الجهات ليس لها مرجعية أخرى غير الإنسان الفرد البشرى فلقد تنكرت الفلسفات الوضعية لكل ما هو ديني سماوي من تنزيل رب الناس – سبحانه وتعالى ـ
فهدمت بذلك ما تكلمنا عنه من قيم ثلاث في هذا الموضوع
? هدمت قيمة العدل .
? هدمت قيمة الأخوة .
? هدمت قيمة المساواة بين البشر .
ثانياً : ثنائية المسئولية في الشريعة الإسلامي :
الشعور بالمسئولية جانب عظيم وأساس من جوانب البناء الأخلاقي فالمسئولية
ركن من أركان الأخلاق . ولقد أشعرت الشريعة الإسلامية أنباءها بأنهم مسئولون ومحاسبون علي أعمالهم وإن دقت نياتهم وإن خفيت أعمالهم فكل بكل مجزي ومحاسب 0
ولقد شاركت النظم الوضعية الشريعة الإسلامية بعد عناء بحث وجهد طويل وكادات أن تقترب من خط سير الشريعة الإسلامية في بعض نواحي المسئولية .
علمنا سلفاً أن بعض النظم الوضيعة أنكرت المسئولية الدينية وأنكرت كذلك المسئولية الأخروية فضلاً عن أنها أنكرت كل ما يتعلق بالدين والإله بل أنكرت المسألة الغيبية بكاملها 0
إلا أننا لا نعدم من أهل النظم الوضعية من أقر بوجود مسئولية أخلاقية .
غير أننا لم نجد في أقطاب النظم الوضعية من جعل المسئولية الأخلاقية داخلة في تكوين المسئولية الجنائية وكذلك لم تتصل المسئولية الجنائية بالمسئولية الدينية وإنما لكل واحدة من هذه المسئوليات جانب خاص تعالجه من وجهه نظر أصحاب الفكر الوضعي . فالدين شئ والقانون شئ آخر والأخلاق شئ ثالث .(1/26)
أما الأمر في الشريعة لإسلامية فهو بخلاف ذلك فكل ما هو جنائي إنما هو ديني وكل ما هو ديني هو أخلاقي .. وليس الأمر كذلك في النظم البشرية وإننا لنجد هذا الترابط بين المسئوليات في الإسلام واضحاً من خلال إقرار الشريعة الإسلامية بمبدأ ثنائية المسئولية على وجه العموم والمسئولية الجنائية على جهة الخصوص إذا أنها جزء من المسئولية في الإسلام. ولقد امتازت المسئولية الجنائية في الشريعة الإسلامية بأنها ذات شقين وهو ما تعبر عنه بقولنا ثنائية المسئولية :
ونقصد بثنائية المسئولية أن الشارع الحكيم قرر مساءلة عباده في موطنين .
الأول : المسئولية في الحياة الدنيا . ويقيم هذه المساءلة الحاكم أو الخليفة أو من أنابته الأمة نيابة عنها في حراسة الدين وسياسة الدنيا(1)وما هو إلا سائل بما أنزل الله تعالى من أحكام وتشريعات .
والنظم الوضعية تقترب مع الشريعة الإسلامية في خط سيرها في هذا النوع من المسئوليات المسئولية الدنيوية وإن كانت تجعل مصدر المسائلة هو الفرد البشرى كما تقدم الحديث عن ذلك .
بيد أن الشريعة الإسلامية تتميز عن النظم الوضعية هنا في جانب عظيم من الجوانب الأخلاقية في المسئولية الجنائية . ألا وهو المسئولية الأخروية وهو الموطن الثاني من مواطن المسائلة للعباد في الشريعة الإسلامية.
الثاني : المسئولية في الدار الآخرة .
وهذا النوع من المسئوليات – في حين احتفاء الشريعة الإسلامية به وجعلها المسئولية الأخروية هي الأساس والمسئولية الدنيوية إنما هي لتنظيم العلاقات بين الأفراد على نحو مؤثر وضامن لحقوق الناس(2)إلا أننا لا نجد للمسئولية الأخروية في النظم الوضعية ذكر وخاصة في القانون الوضعي . فلم يشير من قريب ولا من بعيد إلي المسئولية الجنائية في الدار الآخرة .
__________
(1) الأحكام السلطانية / الإمام الماوردي .- دار بن خلدون صـ 5
(2) أصول الدعوة /د : عبد الكريم زيدن .- ط3 .- دار بن عمر : الإسكندرية ،صـ 66(1/27)
* التأصيل الشرعي للمسئولية الجنائية في الدار الآخرة .
المسئولية الجنائية واحدة من المسئوليات التي تحدث عنها القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة على وجه العموم ، فهي داخله في هذا العموم تحدثت عنه الآيات والأحاديث . والنظام الجنائي واحداً من النظم الإسلامية والمكونة للشريعة الإسلامية ، وحينما أذكر الآيات القرآنية التي تؤصل مفهوم المسئولية الأخروية بوجه عام . فإن هذا الأمر بالضرورة يشمل المسئولية الجنائية .
( 1 ) الأدلة من القرآن الكريم .
قال الله تعالى : فوربك لنسألهم أجمعين . عما كانوا يعملون(1)
وقال ابن مسعود : في تفسير الآية " والذي لا اله غيره ما منكم من أحد إلا سيخلو الله به يوم القيامة ). فيقول : ابن آدم ماذا أغرك بي منى ؟ ابن آدم ماذا عملت فيما علمت ؟ ابن آدم ماذا أجبت المرسلين ؟
وقال أبو جعفر عن أبى العالية – في تفسيرها – يسأل العباد كلهم عن خلتين يوم القيامة . عما كانوا يعبدون . عما إذا أجابوا المرسلين(2)
والسؤال إنما يكون في الدار الآخرة كما هو واضح من سياق الآيات الكريمة وكما أشار إلي ذلك المفسرون .( كافرهم ومؤمنهم . إلا من دخل الجنة بغير حساب )(3)
وقال الله تعالى : { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ }(4)
وقال ابن كثير . الآية كقوله تعالى { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِين }
__________
(1) سورة الحجر آية رقم 92 ، 93
(2) مختصر تفسير بن كثير ج2 صـ 319
(3) الجامع لأحكام القرآن . القرطبي ج10 ص 60
( 4) سورة الأعراف آية رقم 6
(4) مختصر تفسير بن كثير ج2 صـ 6
(6) سورة النحل جزء من الآية رقم 93
(7) مختصر تفسير بن كثير ج3 ص 345
(8) الصافات آية رقم 23(1/28)
وقوله : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا ؟ لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ } فيسأل الله الأمم يوم القيامة عما أجابوا رسله فيما أرسلهم به ويسأل الرسل أيضاً على إبلاغ رسالته )(1)
وقال الله تعالى : { وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }(2)
قال ابن كثير : ( ... يسألكم يوم القيامة عن جميع أعمالكم فيجازيكم عليها على الفتيل والنقير والقطمير)(3)وقوله تعالى { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُون }(4)أي قفوهم حتى يسألوا عن أعمالهم وأقوالهم التي صدرت في الدار الدنيا . قال ابن عباس يعنى ( احبسوهم إنهم محاسبون وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { أيما داع دعا إلي شيء كان موقوفاً معه يوم القيامة لا يغادره ولا يفارقه . وإن دعا رجلَ رجلاً }(5)والآيات القرآنية التي تدل على المسئولية في الآخرة في القرآن الكريم كثيرة ولكن هذه الآيات نكتفي بها لتأصيل المسئولية من القرآن الكريم وتفسير العلماء لها .
2- المسئولية الأخروية في السنة النبوية .
وردت أحاديث كثيرة تدل صراحة على المسئولية في الدار الآخرة . وأن كل إنسان مسئول ومحاسب أمام الله عز وجل ومجزى بأعماله إن خيراً فخير وإن شراً فشر ولا نستطيع حصر الأحاديث التي وردت فيها المسئولية في الدار الآخرة وإنما نذكر هنا بعض الأحاديث التي تدل صراحة على المسئولية في الدار الآخرة .
__________
(5) مختصر تفسير بن كثير ج3 صـ 177
(2)سنن الترمذي باب صفة القيامة . باب في القيامة ج4 صـ 612 وقال حسن صحيح
(3) صحيح مسلم في القيامة باب تغليظ وتحريم الدماء
(4) صحيح مسلم في القيامة باب تغليظ وتحريم الدماء والأموال(1/29)
1- عن أبى برزة رضى الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : { لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه وعن علمه فيما فعل وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه . وعن جسمه فيما أبلاه }(1)
2- عن أبى بكر رضى الله عنه0أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -قال في الحديث الطويل { ... وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم فلا ترجعن بعدى كفاراً ، أو ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض ... }(2)
3- عن الأعمش عن أبي وائل عبد الله قال : قال : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { أول ما يقضي بين الناس يوم القيامة في الدماء } .(3)
4- عن عبادة بن الصامت رضى الله عنه قال : { كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في مجلس فقال تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً ، ولا تزنوا ولا تسرقوا ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، فمن وفي منكم فأجره على الله ، ومن أصاب شيئاً من ذلك فستره الله عليه فأمره إلي الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه }(4)
والأحاديث الواردة بذكر المساءلة يوم القيامة سواء بذكر لفظ المسائلة أم معناها من جهة الحساب والطلب . والمؤاخذة على الأفعال والقضاء في ساحة العرض أحاديث كثيرة أكثر من يحويها مبحث كهذا إلا أننا سنقتصر على ذكر ما سبق من أحاديث في هذا الشأن 0
وبعد أن عرضنا الأدلة على ثبوت المسئولية الجنائية الأخروية في الشريعة الإسلامية من خلال التأصيل القرآني والنبوي .. يأتي التساؤل الطبيعي ما هو الأمر الأخلاقي الناتج عن إقرار الشريعة الإسلامية بالمسئولية الجنائية في الدار الآخرة مع إقرارها بالمسئولية في الحياة الدنيا المعبر عنها ( بثنائية المسئولية )
__________
(1) صحيح مسلم في الحدود باب الحدود كفارات لأهلها(1/30)
أقر الإسلام بالمسئولية الجنائية الأخروية فمن أمره أتباعه بالإيمان باليوم الأخر – وهو أحد أركان الإيمان الحق . فالإيمان بالمسئولية الأخروية واحد من مفردات الإيمان باليوم الأخر- والذي أمر المؤمنون به وكان علامة الإيمان – قال الله تعالى : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ }(1)وفي الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال للسائل عن الإيمان ( الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه واليوم الأخر وبالقضاء والقدر ..)(2)
ولقد كان للإيمان بالمسئولية الأخروية والاعتقاد بها أثر أخلاقي كبير في حياة الناس ولا سيما في الجانب الجنائي أو ما يتعلق بالمسئولية الجنائية ومن أهم هذه الآثار التي أفرزتها عقيدة الإيمان بالمسئولية الأخروية ما يأتي .
أولاً : أنها تحد من الجريمة .
أن تنمية المسئولية الجنائية الأخروية على أساس العقيدة الإسلامية لدى الفرد والمجتمع . تحول دون تحول الأرض إلي مسرح حيواني غارق في حيوانية بانتشار الجرائم .... القوى يأكل الضعيف ))(3) وتجعل الأرض بدلاً من ذلك وعاءاً حضارياً قائماً على أسس من الأخلاق الإسلامية الفاضلة . ذلك بفضل شعور الفرد والمجتمع بالمسئولية الأخروية أمام الله تعالى .
وأنه مجازى كل إنسان بما كسبت يداه ولقد حكى القرآن الكريم لنا أثر الإيمان بالمسئولية الأخروية والخوف من الله تعالى . في الامتناع عن الجرائم وعدم إتيانها .
__________
(1) سورة البقرة جزئ من الآية رقم 177
(2) صحيح مسلم باب بيان الإيمان من الإسلام ج1 ص 36
(3) المسئولية الأخلاقية وأثرها في التربية / أحمد بن حسين المرجان السعدي .- ط3 دار الاعتصام صـ143(1/31)
قال تعالى { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ }(1)
هكذا صور القرآن الكريم في هذه الصورة الرائعة أثر الخوف من الله عز وجل ومراقبته في ارتكاب الجرائم ، فلقد منع الخوف من الله الرجل الصالح ( هابيل ) من قتل أخيه والاعتداء عليه قال عبد الله بن عمرو : "وأيم الله إن كان لأشد الرجلين ولكن منعه التخريج يعني الورع "(2)
(وهكذا يرتسم نموذج من الوداعة والسلام والتقوى , في أشد المواقف استجاشة للضمير الإنساني أو حماسة للمعتدي عليه ضد المعتدي , وإعجاباً بهدوئه واطمئنانه أما نذر الاعتداء , وتقوي قلبه وخوفه من رب العالمين إذا أنت مددت يدك إلي لتقتلني , فليس من شأني ولا يدور بنفسي أصلاً ولا يتجه إليه فكري إطلاقا , خوفا ًمن الله رب العالمين لا عجزاً عن إتيانه )(3)
وهكذا نلمس في اعتقاد الأفراد والمجتمعات المسئولية الأخروية أنه يصبح حائلاً منيعاً وحصناً شديداً عن ارتكاب الجرائم الأخلاقية فما دام استشعر الفرد أنه مسئول أمام الله تعالى مؤمناً بذلك . فإنه سوف يعمل جاهداً لاتقاء هذه المسئولية 0
لقد عملت الأخلاق الإسلامية علي إحياء جانب الخوف من الله تعالى واستشعار المسئولية الأخروية فتكون هي شاغل المسلم ومحل اهتماماته وشعاره الدائم قال الله تعالى :
{
__________
(1) سورة المائدة الآيتان رقم 27 ، 28
(2) مختصر تفسير بن كثير ج1 ص 507
(3) في ظلال القرآن / سيد قطب .- دار الشروق ج2 صـ 876(1/32)
قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }(1)
ثانياً : أن الإيمان الجنائية الأخروية وهي جزء من الإيمان باليوم الآخر يجعل الإنسان متقيداً بقانون الله حريصاً عليه ويمنحه ضميراً يقظاً مراقبا لله فيما يعمل ويقول ويفكر(2)
وهذا الأمر من أعظم الجوانب الأخلاقية التي أهتم بها الإسلام 0
إن إقرار الإسلام بالمسئولية الأخروية أكسب الشريعة صبغة خاصة تميزت بها عن كل النظم الوضعية التي هي من صنع البشر وكذلك وفرت جهداً كبيراً في سبيل تحقيق القانون علي أكمل وجه وأتم صورة وذلك من خلال عدة نقاط نستطيع أن نبرزها في هذا الإطار:
أ- إيقاظ ملكية المراقبة لله عز وجل والعمل علي إحيائها عند الأفراد والأمم وذلك بما عبر عنه بمصطلح الضمير أو الحاسة الأخلاقية لدى علماء العصر .
فالشعور بالمسئولية هو الذي ينمي إيقاظ القلب الإنسان ( أو الضمير )
فعقيدة المؤمن في الله أولاً . وعقيدة الحساب والجزاء ثانياً تجعل ضميره في حياة دائماً وفي صحو أبداً 0(3)
والله سبحانه وتعالى حيثما أراد أن يربي المؤمنين علي الدين القويم الذي يحقق سعادتهم وفلاحهم في الدارين ناغي فيهم ملكات الادارك والتعليم وناشد العقل , وأيقظ الحس والشعور . منبهاً إياهم إلي خطورة موقف المسئولية يوم القيامة ليأخذ كل منهم حذره من هذا الموقف الشديد ليربي فيهم ملكة المراقبة له والخوف منه قال الله تعالى :
{
__________
(1) سورة الأنعام الآية رقم 15 وسورة الزمر آية رقم (13)
(3) الإيمان والحياة / يوسف القرضاوي .- مؤسسة الرسالة . صـ 193(1/33)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(1)
وهذا المفهوم الذي أراده القرآن كريم أ ن يرسيه في أذهاناً ( مفهوم المراقب) هو ذات المفهوم الذي أشعرنا به النبي الأكرم - صلى الله عليه وسلم - قال : { إن الله يدنى المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره فيقول أتعرف ذنب كذا وكذا فيقول نعم ويقول علمت كذا وكذا فيقول نعم فيقرره ثم يقول إني سترتها عليك في الدنيا فأنا أغفرها لك اليوم فيعطى كتاب حسناته وأما الكافر فينادى على رؤس الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين }(2)
وما كان هذا التعليم النبوي إلا ليعلم الناس أنهم مسئولون ويستشعرون تلك المسئولية . والحديث فيه دلالة على أن الله سبحانه وتعالى قد يغفر لعبده المؤمن الذي أقر بما صنعت يداه وأما ما يتعلق بحقوق العباد فهو إلي العباد قال الحافظ ابن حجر في ذلك : قد استشعر البخاري هذا فأورد في كتاب المظالم هذا الحديث ومعه حديث أبى سعيد " إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار يتقاضون مظالم كانت بينهم في الدنيا ، حتى إذا هذبوا وتقوا أذن لهم في دخول الجنة " الحديث 0
__________
(1) سورة المجادلة آية رقم (7)
(2) صحيح البخاري رواه البخاري في عدة مواضع منها : كتاب المظالم باب قول الله ( ألا لعنة الله علي الظالمين ) من
رواية عبد الله بن عمر(1/34)
فدل هذا الحديث على أن المراد بالذنوب في حديث ابن عمر ما يكون بين المرء وربه سبحانه وتعالى دون مظالم العباد(1)فإذا علم الإنسان أنه مسئول عن كل مظلمة ظلمها لأخيه أمام الخلائق ومجزى بها تحرى أن يقع في ظلم لأحد وعمل على محاسبة نفسه في الصغيرة والكبيرة في السر والعلن . وهذه هي أعمال الضمير أو المراقبة لله عز وجل وأثارها إن الضمير الذي يربيه الإيمان برقابة الله وحساب الآخرة ضمير حي يقظ مرهف الحساسية . يحاسب المؤمن قبل أن يقوم على العمل : ماذا تعمل ؟ ،ولماذا تعمل ؟،ولمن تعمل ؟ ويحاسبه بعد العمل(2)0
قال الحسن البصري في قوله تعالى : { وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ }(3)إن المؤمن والله ما نراه إلا يلوم نفسه . ما أردت بكلمتي ، ما أردت بألكتي ، ما أردت بحديث نفسي وإن الفاجر يمضى قدماً ما يعاتب نفسه .(4)من خلال ما تقدم ترتسم لنا صورة المؤمن الذي أراد القرآن الكريم بناءه فهو مراقب لربه محاسب لنفسه متيقظ لأمره متدبراً في عاقبته . إن الإيمان بالمسئولية الأخروية تمنح الفرد المسلم أخلاقيات عظيمة تجعله يقف قلقاً إذا ما أصاب جريمة ، متوجساً خيفة من سوء العاقبة إذا ما أحاط بخطيئة ، مما يجعله محاولاً عدم الاقتراب مرة أخرى من فعل المعصية نادماً على ما سلف منه وبدر .
هذه الحالة خاصة بالمؤمن الذي اعتقد بالمسئولية الأخروية أما غير المؤمن بها فهو لا يعبأ بشيء من حماقاته وجرائمه التي ارتكبها في حق الآخر ما دام أن القانون لم يظهر على فعله ولم يطلع على جريرته .
__________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري / بن حجر ج16 دار الغد العربي صـ 373 شرح الحديث ك الأدب باب ستر
المؤمن نفسه
(2) الإيمان والحياة / د: يوسف القرضاوي .- مؤسسة الرسالة صـ 195
(3) سورة القيامة رقم 2
(4) مختصر تفسير بن كثير ج3 صـ 534 تفسير الآية(1/35)
ولقد أوضح لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن يقع عليه ، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه قال به هكذا }(1)لقد فاقت الشريعة الإسلامية كل النظم في بناءها الجانب الأخلاقي للمسئولية الجنائية فأعددت البناء بخطوات ثابتة ومراحل متتابعة إلي أن وصلت إلي بناء الفرد المسلم الذي أرادته ، وتضع معالم البناء الأخلاقي للمسئولية الجنائية الأخروية بالمراحل الآتية :
1- فرض الإيمان بالمسئولية الأخروية 0
2- العمل على إيقاظ ملكة المراقبة الناتجة عن الإيمان بالمسئولية 0
3- الوصول بالشخصية الإسلامية إلي حد المحاسبة على ما فرطت في جنب الله ولم تقف الشريعة الغراء عند هذا الحد في بناء الجانب الأخلاقي بل أضافت عاملاً أخر من أهم الجوانب الأخلاقية والذي أبرزته عقدية المسئولية الأخروية وهو ما نجعله تحت النقطة الثانية
ب- الاعتراف بالجرائم ورد المظالم
هذه مرحله عظيمة وغاية كبيرة وصلت إليها الشريعة الإسلامية في بنائها للشخصية الإسلامية فوصلت بها إلي درجة الكمال البشرى ، لم تكن الأخلاق التي أرادتها الشريعة أخلاق نظريه بل خرجت من هذا الإطار النظري إلي مجال أوسع وأرحب وهو الإطار العلمي . فخرج الإنسان من حد الوقوف على الندم والتوجع على ما أرتكب من معاصي إلي دائرة الاعتراف بالجناية أمام السلطان ورد الحقوق والمظالم إلي أصحابها .
__________
(1) الحديث أخرجه الترمذي من حديث بن مسعود – في صفة القيامة – باب 49 – ج4 صـ 658 دار الحديث القاهرة(1/36)
* إن الذي بلغ بالإنسان إلي هذه الدرجة ليس هو القانون الجاف مقطوع الصلة بالدار الآخرة، فليست قوانين الجماعات ولا سلطان الحكومات بكافين وحدهما لإقامة مدنية فاضلة تحترم فيها الحقوق . تؤدى الواجبات على وجهها الكامل ، فإن الذي يؤدى واجبه رهبة السوط أو السجن أو العقوبة المالية ، لا يلبث أن يهمله متى اطمأن إلي أنه سيفلت من طائلة القانون )(1)وإنما الذي بلغ الإنسان تلك الدرجة العالية من السمو الأخلاقي هو الدين ـ القانون الإيماني ـ هو الذي استطاع أن يسيطر على كيان الإنسان ويخاطب عواطفه ومشاعره ويختلط بلحمه ودمه ، فيصير تطبيق القانون جزء من كيان الإنسان من أجل ذلك كان التدين الحق خير ضمان لقيام التعامل بين الناس على قواعد العدالة والنصفة ، وكان لذلك وجود الإيمان ضرورة اجتماعيه، كما هو فطرة إنسانية 0(2)
وبهذا الإيمان استطاعت الشريعة الإسلامية منذ عهدها الأول أن تنسج الإنسان على منوالها ، وتصنع منه خلقاً آخر غير الذي عرفته تلك النظم البشرية الوضعية 0
بهذا الإيمان وجدنا المؤمن إذا زلت قدمه فاقترف جرماً ـ وهو بطبعته بشر يخطئ ويصيب – سرعان ما يستيقظ ضميره ويدفعه دفعاً حتى يذهب إلي يد العدالة ، فيعترف بالجريمة ويطلب العقوبة لنفسه تطهيراً من الإثم ، وأوزار العصيان ، رجاء أن تكون كفارة له عن ذنبه وشفيعاً له إلي ربه ، لا يمنعه من الاعتراف أن فيه جلد ظهره أو قطع يده أو إزهاق روحه 0(3)ونضرب لذلك مثالين من فعل الصحابة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) الدين ( بحوث ممهدة لدراسة الأديان ) د : محمد عبد الله دراز دار القلم صـ 99
(2) نفس المصدر السابق صـ 100
(3) الإيمان والحياة / د .يوسف القرضاوي صـ 198(1/37)
1- عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريده عن أبيه قال : جاء ماعز بن مالك إلي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله طهرني فقال ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه قال : فرجع غير بعيد ثم جاء فقال : يا رسول الله طهرني فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه قال : فرجع غير بعيد ثم جاء فقال يا رسول الله طهرني فقال رسول الله مثل ذلك حتى إذا كانت الرابعة قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيم أطهرك ؟ فقال من الزنى فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبه جنون ؟ فأخبر بأنه ليس بمجنون . فقال أشرب خمراً . فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر قال فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أزنيت ؟ فقال : نعم فأمر به فرجم ، فكان الناس فيه فرقتين . قائل يقول : ما توبة أفضل من توبة ماعز إنه جاء إلي النبى - صلى الله عليه وسلم - فوضع يده ثم قال : اقتلني بالحجارة . قال فلبثوا بذلك يومين أو ثلاثة ثم جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم جلوس فسلم ثم جلس. فقال : استغفروا لماعز بن مالك. قال : فقالوا : غفر الله لماعز بن مالك . قال : فقال : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم } .(1).
فهذا رجل مسلم ماعز بن مالك الأسلمي فيقول يا رسول الله ظلمت نفس وزنيت ....، ويصر الرجل على الاعتراف بالجريمة بعدما يرده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرة تلو الأخرى . فيأمر رسول الله برجمه ( إقامة الحد عليه ) فيتقبله صابراً محتسباً راغباً في عفو الله)(2)
__________
(1) صحيح مسلم كتاب الحدود باب حد الزنا
(2) الإيمان والحياة د/ يوسف القرضاوي .- مؤسسة الرسالة صـ 198(1/38)
2 ـ جاءت امرأة من غامد من الأزد فقالت يا رسول الله طهرني فقال ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه فقالت أراك تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك قال وما ذاك ؟ قالت إنها حبلى من الزنى فقال أنت ؟ قالت : نعم فقال لها حتى تضعي ما في بطنك قال فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت قال فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال قد وضعت الغامدية فقال إذا لا نرجمها وندع ولدها صغيراً ليس له من يرضعه فقال رجل من الأنصار فقال إلي رضاعه يا نبي الله قال فرجمها .
في رواية أخرى ( لمسلم { ( اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبر فقال هذا يا نبي الله قد فطمته . وقد أكل الطعام فدفع الصبي إلي رجل من المسلمين ثم أمر بها .. }(1)
__________
(1) وردت القصة في اكثر من حديث بصيغ متعددة في صحيح مسلم . كتاب الحدود ( حد الزنا )(1/39)
)إن استشعار الأفراد المسئولية الأخروية حدا بهم إلي الاعتراف بما ارتكبت جوارحهم من أثام أو مصائب . حتى ولو كانت العقوبة هي الرجم أو الجلد ، أو أي عقوبة قدرها الشارع الحكيم . فأنهم يأتون للاعتراف دون جبر من أحد أو خوف من سطوة عدا سلطان الله العلي القدير . جاءوا ونفوسهم غير كارهة على الإتيان . فلقد رد النبي الرجل مرة ثم مرة ثم أخرى وكذلك صنع مع المرأة علها ترجع عن اعترافها . ومع ذلك ( فلقد فعلوا ذلك قصداً جاءوا يطلبون عقابهم . كيما يشبعوا حاجة ظاهرة إلي التوبة ويتحملون في ثبات أشد الآلام فظاعة ، دون أن يجدوا في ذلك شقاء بل إنهم يستشعرون فيه سعادة عميقة وشافيه ، ويرونه وسيله إلي أن يتخلصوا نهائياً من دنسهم الأخلاقي)(1)وهذا العمل الأخلاقي إنما هو مراد القانون الإلهي من اتباعه ومنفذوه ، إنها الغاية التي ينشدها القانون ممن ارتكبوا المعاصي والأثام أن يقوموا بعمليه إصلاح لما أفسدوه من أخلاق في المجتمع وكيان أنفسهم . فلا يكفي أن يعترف الإنسان بالجريمة والخطأ أمام نفسه فحسب إذن لابد من مشرع أعظم من ذلك الاعتراف الداخلي إنه الاعتراف أمام السلطان وإرجاع الحقوق إلي أصحابها .
((1/40)
فالظلم عمل إيجابي شرير مفسد ولا يكفي أن يكف الظالم عن ظلمه ويقعد ، بل لابد أن يعوضه بعمل إيجابي خير مصلح ... على أن الأمر في المنهج الرباني أعمق من هذا ... فالنفس الإنسانية لابد أن تتحرك فإذا هي كفت عن الشر والفساد ولم تتحرك للخير والصلاح بقى فيها فراغ وخواء قد يرتدان بها إلي الشر والفساد ، فأما حين تتحرك إلي الخير والصلاح . فأنها تأمن الارتداد إلي الشر والفساد ، بهذه الإيجابية وبهذا الامتلاء ... إن الذي يربى بهذا المنهج هو الله(1)فالقانون الذي أنزله الله . عز وجل . والمنهج الذي ارتضاه لعباده بقوله تعالى:" ورضيت لكم الإسلام دينا " ذلك المنهج هو الذي يستطيع أن يبلغ بالنفس الإنسانية إلي تلك الدرجة الرفيعة والمكانة السامية ( فالمنهج الرباني لا يأخذ الناس بالقانون وحده . وإنما يرفع سيف القانون ويصلته ليرتدع من لا يردعه إلا السيف . فأما اعتماده الأول فعلى تربية القلب وتقويم الطبع . وهداية الروح ... فالخوف ينبغي أن يكون من الله ، فهذا هو الخوف اللائق بكرامة الإنسان . أما الخوف من السوط والسيف فهو منزلة هابطة لا تحتاج إليها إلا النفوس الهابطة ... والخوف من الله أولى وأكرم وأذكى . على أن تقوى الله هي التي تصاحب الضمير في السر والعلن وهى التي تكف عن الشر في الحالات التي لا يراها الناس ولا تتناولها يد القانون ولا يمكن أن يقوم القانون وحده مع ضرورته بدون التقوى لأن ما يفلت من يد القانون حينئذ أضعاف ما تناله ولا لمجتمع يقوم على القانون وحده ، بلا رقابه غيبيه وراءه ، وبلا سلطة الهيئة يتقيها الضمير )(2)
__________
(1) في ظلال القرآن .- سيد قطب ج2 صـ 886 دار الشروق بتصرف
(2) في ظلال القرآن .- سيد قطب ج2 صـ881 دار الشروق وانظر كذلك أيضاً المرجع السابق ج1 صـ 253 دار
الشروق .(1/41)
وتستطيع أن ندرك في النهاية هذا المطلب أن شعور الفرد وعلمه بالرقابة الإلهية والمسئولية الجنائية الأخروية ـ أحد أفراد المسئولية ـ يكون ذلك حاجزاً له عن ارتكاب الجريمة . ويكون له كذلك عظيم الأثر في إصلاح الفرد وتهذيب السلوك وحماية الجماعة من انحرافات الأفراد . إن العلم بالمسئولية واعتقادها إنما بوجه النفس البشرية إلي فعل الإصلاح والبعد الدائم عن الإفساد . وما ذلك إلا لأن الفرد أو المجتمع يعلم أنه موقوف بين يدي القادر المقتدر ، مسئول عن كل صغيره وكبيره .
* أما النظم الوضعية فقد استبعدت المسئولية الأخروية من نطاق المسئولية الجنائية واسقطتها من حسابها . فكان جزاؤها بما كفرت بمنهج الله أن ذاقت الويلات بيد القانون الذي صنعته ، وتحطمت القيم وبدأ الناس يبحثون فيه عن الثغرات التي من خلالها يستطيعون أن يضللوا العدالة البشرية . فعم الظلم الناس ،واستشرى الفساد وأشرف العباد على الهلاك .. وما ذاك إلا لأن الناس أبوا شرعة الله أن تكون حاكمة وارتضوا منهج البشر العاجز عن تحقيق الهداية عن شرعوا فضلاً عن تحقيقها لمن شُرع له ، وكل ذلك بفضل إنكار أقطاب النظم الوضعية والمناهج الفلسفية ـ المسئولية الأخروية .
( ولعمر الحق إن مجتمعنا في الدنيا إذا كان نظامه للأخلاق لا يقوم إلا على هذه العقيدة ( إنكار الدار الآخرة ) وهذه العقلية . فلا بد أن تتقلب كل تصوراته المعنوية وقبمه ظهراً لبطن ... إذ لا يقوم كل نظامه للأخلاق والأعمال إلا على الأثرة والأنانية وحب الذات . ولا يكون البر والصلاح والخير في نظره إلا عبارة عن المتعة المادية والفائدة الدنيوية . ولا يكون الآثم والذنب والشر في نظره إلي عبارة عن الخسارة المادية الدنيوية )(1)
__________
(1) الإسلام . سعيد حوي .- مكتبة وهبة الجزئ الرابع صـ 112(1/42)
وهكذا انقلبت الموازيين ومعايير القيم وموازيين الحكم على الأشياء . وغدت الحسنات سيئات وأصبحت الجرائم أخلاق وأضحي كل شيء له قيمه إنما يقاس ويقدر بحسب ما يقدم من منافع دنيوية ولا علاقة بالآخرة . وهذا ( من التأثير اللازم نحو ذهن الإنسان من عقيدة اليوم الأخر ، أو عدم إيمانه بها . إنه لا يطمح ببصره إلا على النتائج المترتبة على أعماله في هذه الدنيا ، ولا يحكم على شيء بالمنفعة أو المضرة إلا باعتبار هذه النتائج فحسب )(1)فالزنا مثلاً إذا كان وسيله لتحقق اللذة ومتعة للنفس ولم يتعارض مع حرية الإنسان أصبح بذلك حلالاً . وإذا أحدث مضرة بمتعه . أوجب شراً دنيوياً فحسب أصبح أثماً ذلك في نظر هؤلاء الزاعمين .
__________
(1) الإسلام سعيد حوي .- ج4 ً135 مكتبة وهبة(1/43)
المبحث الثاني
الجانب الأخلاقي في أساس المسئولية الجنائية بين الإسلام والنظم الأخرى
تمهيد :
إن لكل شيءٍ أساساً يبنى عليه وحتى يكون البناء فلا بد من وجود الأساس فما لا أساس له فمهدوم ,
ولقد اختلط على بعض الكتاب أساس المسئولية الجنائية – كأحد أفراد المسئولية العامة – فاختلاط الهدف بالسبب وبالأساس . والحقيقة أن لكل واحد من هذه المصطلحات معنى محدد وتعلق معين بالمسئولية الجنائية .
وحتى لا نقع في هذا الخلط ونتحاشاه , فلا بد لنا من الوقف على معنى الأساس . في اللغة , وعند الفلاسفة , ومن خلال تعريف هذا المصطلح نستطيع أن نميز الأسس التي تقوم عليها المسئولية الجنائية تقوم بذكر الجوانب الأخلاقية التي اشتملت عليها هذه الأسس مقارنين بذلك بين لإسلام والنظم الوضعية 0
ولنجعل ذلك في عدة مطالب : ـ
المطلب الأول : تعريف الأساس .
المطلب الثاني : أسس المسئولية الجنائية في الإسلام .
المطلب الثالث: أسس المسئولية الجنائية في النظم الأخرى .
المطلب الرابع : الجوانب الأخلاقية في أسس المسئولية الجنائية بين الإسلام والنظم
الأخرى .
المطلب الأول
تعريف الأساس
أولاً : تعريف الأساس في اللغة :
الأساس جمع أس الحائط مثل قفل وأقفال
وربما قيل أساس مثل عس وعساس وجمعه أسس مثل عناق وعنق .
وأسست الشيء تأسيساً جعلت له أساساً(1)
والأساس قاعدة البناء التي يقوم عليها – الشيء – وهو أصل كل شيء ومبدؤه ومنه أساس الفكرة وأساس البحث (2)
ثانياً الأساس عند الفلاسفة :
الأساس يمكن فهمه بمعنيين :
أ- ما يمنح لشيء ما وجوده أو علة وجوده .( فنقول إن العالم المعقول أساس الملموس ومن ثم هو : ما يسوغ راياً ما , يجد القبول الفكري المشروع لإقرار . أو لمجموعة أقوال مقررة سواء أكانت نظرية أم عملية .
__________
(1) ... المصباح المنير .- أحمد محمد الفيومي مادة أ س
(2) المعجم الوسيط مجمع اللغة العربية .- القاهرة .- ج1 صـ 17(1/1)
ب ـ المعنى الثاني : المنظومة المشكلة من الأفكار والمقترحات ( الأعم والأقل عدداً ) الذي يمكن أن يستخلص منه تجمع كامل من المعارف والتعاليم(1)
والأساس الأخلاقي :هو المبدأ الذي تستخدمه القوانين الأخلاقية في مذهب فلسفي معين(2)
ونستطيع الآن من خلال التعريفات السابقة أن نقول أن أساس المسئولية هو الشيء الذي تبنى عليه المسئولية وتقوم عليه ويكون هو علة بناءها ووجودها.
إذاً : لما كانت المسئولية معقولة المعنى غير ملموسة كان أساسها مجموعة الصفات المتوفرة في الفرد المسئول والتي عليها يكون الفرد أهلاً للمسئولية وانعدامها تنتفي المسئولية عن الفرد
والصفات التي يقوم عليها أسس المسئولية الجنائية ترتبط بها المسئولية , من حيث الوجود والعدم ارتباط العلة بالمعلوم .ولكنه يميز بين تلك الصفات ( أساس المسئولية ) وبين المسئولية ذاتها .
أن الأهلية أو الصفات التي تؤسس عليها المسئولية أهم وأشمل وجوداً في الإنسان من المسئولية.
* فقد يكون الإنسان أهلاً للمسئولية ومتوفر فيه تلك الصفات إلا أنه غير مسئول فعلاً وذلك لعدم ارتكابه سبباً للمسائلة ... غير أن هذه الصفات إنما جعلته مسئولاً بالقوة أو مستعداً للمسائلة إذا ما وقع منه ما يوجب ذلك .
__________
(1) موسوعة لاند الفلسفية ج1 صـ 441 ، 142 .- منشورات عويدات : بيروت
(2) المعجم الفلسفي مجمع اللغة العربية صـ 10(1/2)
فقد توجد أسس المسؤلية . ولا تجب المسائلة غير أنه إذا وجب المسؤلية على فرد تحتم وجود الأساس أو الصفات فقد يوجد الأساس ولا يوجد البناء . ولكنه إذا وجد البناء فلا بد أن يوجد الأساس ... فأسس المسئولية – ( إنما هي صفات في الإنسان ينظر فيها لصلاحيته للقيام بالعمل سواء باشره أم لا .. أما المسئولية فلا مجال للبحث عن توافرها أو وجودها في الإنسان أو عدم توفرها ووجودها إلا إذا وقع العمل فعلاً )(1)ولنبدأ الآن في عرض أسس المسئولية الجنائية في الشريعة الإسلامية ثم إتباعها بالنظم الأخرى ،
المطلب الثاني
أسس المسئولية الجنائية في الإسلام
تتكون أسس المسئولية الجنائية في الشرع الإسلامي من عدة صفات يجب أن تتوفر في الشخص مناط ومحل المسائلة الجنائية ، فإذا توفرت هذه الصفات أصبح الفرد مؤهلاً لأن يوقف ويسأل ويحاسب في الدارين . الدنيا والآخرة ، وإذا انعدمت هذه الصفات أو واحدة منها أصبح الفرد غير أهل للمسئولية الجنائية وهذه الصفات التي تكون أسس المسئولية الجنائية هي .
أولاً : الأهلية :ـ
الأهلية أساس من أسس المسئولية الجنائية ( على الخصوص ) والمسئولية في الإسلام عموماً بدونها لا يكون الإنسان مسئولاً .
1- تعريف الأهلية : ويقصد بالأهلية في اللغة : الصلاحية للأمر(2).. ومنه ( المسئولية ) وهى مصدر صناعي لكلمة أهل .( ويقال فلان أهل لعمل كذا إذا كان صالحاً للقيام به )(3)
تعريف الأهلية في الإصلاح .
أ- عند فقهاء الشرع الإسلامي :"صلاحية الإنسان لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه"(3)
__________
(1) عوارض الأهلية عند الأصوليين / د . صبري محمد معارك .- كلية الشريعة جامعة القاهرة سنة 1981
بدون دار النشر . صـ 90 .
(2) المعجم الوسيط .- مجمع اللغة العربية صـ 32 . مختار الصحاح صـ 31 والقاموس المحيط ج3 صـ 342 .
(3) التعريفات للجرجاني صـ 22
(3) الالتزام في الشرع الإسلامي / أحمد إبراهيم بك صـ 109(1/3)
ب- عند القانونين : ( أنها قدرة الشخص المماثلة في الملكات الذهنية والنفسية التي تؤهله لإدراك معنى الجريمة ومعنى العقاب , والاختيار بين مسلكي الإقدام على الإجرام أو الإحجام عنه)(1)
أوهى – ( صلاحيته تتوفر للشخص لكسب الحقوق ,وتحمل الواجبات(2)الأهلية عند فقهاء الشرع الإسلامي , فهي تعنى في ضوء التعريفات السابقة , حالة من الصحة والنضج العقليين تمكن الإنسان من احترام ما يراه المشرع جديراً بالحماية الاجتماعية والأخلاقية .
ولقد ركز مفهوم الأهلية على الملكات الذهنية والنفسية للفاعل(3)والتي بناءاً عليها يكون أهلاً للمسئولية 0
2- أقسام الأهلية :
تنقسم الأهلية في الشرع الإسلامي إلى قسمين .( وكذا القانون يوافقه هذا التقسيم ).
أ- أهلية وجوب : وهى كما ذكرنا ( صلاحية الشخص لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه معاً أوله , أو عليه )
وأهلية الوجوب تنقسم فروعها وتتعدد بحسب انقسام الأحكام ومبنى أهلية الوجوب في الشرع الإسلامي الذمة(4)أي أن هذه الأهلية لا تثبت إلا بعد وجود ذمه صالحة(5)
__________
(1) شرح قانون العقوبات القسم العام ج3 المسئولية والجزاء / د محمود أحمد طه .- دار النهضة ط1 صـ 52
(2) مصادر الإلزام / عبد المنعم فرج الصده صـ 160 دار النهضة العربية (6)شرح قانون العقوبات سابق
(4) الذمة معناها في اللغة / العهد والضمان والامتياز ( المصباح المنير ) مادة ( ذمم ) وفي الاصطلاح فإنها . وصف
يصير الشخص به أهلاً للإلزام والالتزام فالفرق بين الأهلية والذمة أن الأهلية أثر لوجود الذمة .- انظر في ذلك
الموسوعة الفقهية ( الكويت ) وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية ج7 سنة 1985 صـ 152
(5) كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البر دوي / علاء الدين عبد العزيز أحمد البخاري ج4 صـ 237 ط دار
الكتاب العربي(1/4)
وهى خصوصية ميز الله تعالى بها الإنسان على غيرة من سائر المخلوقات , وجعله بها موضع التكليف دون غيره , وهى ليست العقل وحده , بل العقل متضمن – فيها هو وسائر القوى الإنسانية )
وبالجملة فالذمة هي خاصة من خواص الإنسان ترجع إلى تركيبه من بدن ونفس ناطقة , وعقل وقوى ظاهرة وباطنة , على هيئته التي أقامه الخالق عليها , وهى ثابتة للإنسان لا تفارقه لحظة ما حتى تفارقه الحياة ,
بل اعتبروها باقية حكماً بعد موته(1)
وتنقسم أهلية الوجوب إلى نوعين :
النوع الأول : أهلية وجوب ناقصة وتتمثل صفى الجنين في بطن أمه باعتباره نفساً مستقلة عن أمه ذا حياة خاصة , فانه صالح لوجوب الحقوق له – لا عليه لأن ذمته لم تكتمل مادام في بطن أمه .
النوع الثاني : أهلية وجوب كاملة .
وهى تثبت للإنسان منذ ولاته فإنه تثبت له أهلية الوجوب كاملة لكمال ذمته من كل وجه فيكون صالحاً لوجوب الحقوق له وعليه – فلا يوجد إنسان عديم أهليه الوجوب(2)
ب- أهلية أداء
وهو القسم الثاني من أقسام الأهلية . وهى ( صلاحية الإنسان لصدور الفعل منه على وجه يعتد به شرعاً(3)وهذه الأهلية هي صلاحية الإنسان أن يسأل عن فعله الذي قام به ويَحاسب عليه . فإذا ثبت هذه الأهلية لإنسان أصبح أهلاً للمسئولية (العامة ) والمسئولية الجنائية بالطبع داخلة تحتها.
وإذا إنعدمت هذه الأهلية من إنسان إنعدمت كذلك أساس المسئولية ونستطيع أن نقول عن هذا النوع من الأهلية هو محل البحث والدراسة هنا0
أنواع أهلية الأداء وحالات الإنسان منها :
أهلية الأداء نوعان : ـ
__________
(1) الالتزام في الشرع الإسلامي / أحمد إبراهيم بك صـ 109 سابق
(2) انظر في ذلك : الوجيز في أصول الفقه د/ عبد الكريم زيدان صـ 92 مؤسسة الرسالة .
(3) ... التلويح علي التوضيح . لمتن التنقيح في أصول الفقه . تصنيف سعد الدين مسعود بن التفتازاني الشافعي ج2 صـ 163 مطبعة صبيح
(3) ... المرجع السابق ج2 صـ 164(1/5)
أهلية أداء قاصرة – وهى التي تثبت بقدرة قاصرة(1)
ومثال ذلك المميز الذي لم يبلغ الحلم . وهذا يصدق على الصبي في دور التميز قبل البلوغ . ويصدق على المعتوه . فإن المعتوه ليس مختل العقل ولا فاقد الشعور – حتى تنعدم منه الأهلية كلية , ولكنه ضعيف العقل ناقصه(2)
ب- أهلية أداء كاملة وهى التي تثبت بقدرة كاملة )
وهو من بلغ الحلم عاقلاً فأهلية الأداء الكاملة تتحقق ببلوغ الإنسان عاقلاً :فلا بد من توفر شرط حتى يكون الإنسان صاحب أهلية أداء كاملة والتي تعد أساس المسئولية :
وهذا الشرط هو العقل والبلوغ .
أولاً : العقل .
وبالفعل يستطيع الإنسان أن يفهم ما يؤمر ويكلف به وبغيره لا يستطيع أن يدرك مرامي الأشياء ولا يميز بين الحسن والقبيح ويكون إلزامه في هذه الحالة نوع من الحرج والمشقة وأمر للإنسان أن يأتي بما لا قدره له به ( إذ لا قدرة لها أصلاً , وإلزام ما لا قدرة له عليه منتف عقلاً وشرعاً )(3)فالعقل هو شرط تحقيق الأهلية للإنسان – فإذا إنعدم العقل انتفت الأهلية ( أساس المسئولية )
__________
(1) انظر علم أصول الفقه / عبد الوهاب خلاف .- مكتبة الدعوة الإسلامية ط8 صـ137
(3) كشف الأسرار عن أصول اليزدوي – مرجع سابق ج4 صـ 248
(2) الحديث نصه ( رفع القلم عن ثلاث . عن الصبي حتى يحتلم والمجنون حتى يفيق والنائم حتى يستيقظ ) الحديث
أخرجه أبو داود عن علي رضي الله عنه في الحدود باب المجنون يسرق ج4 صـ 14 وورد في جامع الأصول لابن
الأثير الجرزي وقال عنه محقق ( عبد القادر الأرناؤط . إسناده حسن . وهو حديث صحيح بطرقه انظر جامع
الأصول ج3 صـ 507
(3) نفائس الأصول في شرح المحصول .- للإمام القرافي . مكتبة نزار مصطفي الباز مكة المكرمة صـ 1688
إلى صـ 1692 بتصرف(1/6)
فإذا كان الفرد ملزماً فلا بد أن يكون عاقلاً ومدركاً معنى الملزم به فاهما لمعناه حتى إذا خالفه يكون مسئولاً عنه ,فلا مسئولية عليه ومنه كذلك تكليف الغافل والساهي والنائم إنهم في هذه الحالة أشبه ما يكونوا بغير العاقل . ( فتكليف الغافل غير جائز للنص المعقول . قال الرازي أما النص فقوله – - صلى الله عليه وسلم - : { رفع القلم عن ثلاث }(1)وأما المعقول فهو أن فعل الشيء مشروط بالعلم به . إذ لو لم يكن كذلك لم أمكننا الاستدلال بأحكام على كون الله تعالى – عالماً ,
وإذا ثبت هذا فلو حصل الأمر بالفعل حال عدم العلم به لكان ذلك تكليف مالا يطاق قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي . إذا أمر الله عباده بفعل أو نهى عن ارتكاب معصية لم يتوجه الخطاب والتكليف بالفعل على الساهي والناسي , ... والصبي والمجنون لا يدخلان تحت الخطاب المقتضى للتكليف . لن الشرع ورد برفع التكليف عنهما(2)
فالإنسان لا يكون مؤهلاً لتحميل المسئولية عموماً إلا إذا كان عاقلاً كملُ عقل وتكاملت قواه الفكرية وظهرت فيه علامات تدل على ما أودع الله فيه من طاقات , وما ذود به من ملكات قادرة على الوصول إلى المعرفة الحقة والإدراك الصحيح – هنالك يكون الإنسان مؤهلاً لتحمل المسئولية , ويحمل تبعة أفعال التي يأتها مختاراً مدركاً لها .ومن هذه الملكات والقدرات – بل وعلى رأسها العقل . الذي جعله الله تعالى مناط التكليف, وأساس
تحمل المسئولية . يقول الآمدى :( اتفق العقلاء على أن شرط المكلف أن يكون عاقلاً فاهما للتكليف , لأن التكليف خطاب , وخطاب من لا عقل له ولا فهم محال كالجماد والبهيمة(3)
__________
(3) الأحكام في أصول الإحكام / سيف الدين أبي أل الحسن علي بن علي الإحدى الآحدي ج1 صـ 138 . مؤسسة
الحلبي وشركاه سنة 1378 هـ 1967م(1/7)
ويقول الغزالي ( وشرط المكلف أن يكون عاقلاً ينهى الخطاب – فلا يصح خطاب الجماد والبهيمة ... )(1)
ثانياً : البلوغ :
والبلوغ هو الحد الذي يعرف به العقل , (فلما كان العقل أمراً خفياً لا يدرك بالحس الظاهر ربط الشارع الأمور المترتبة عليه ( مثل التكليف والأهلية ) بأمر ظاهر يدرك بالحس هو مظنة العقل . وذلك هو البلوغ(2)
فإذا بلغ الإنسان حد البلوغ مع اعتدال القدرة العقلية أو الملكة الذهنية صار المرء بذلك ذا أهلية يتحمل بها المسئولية إن وجدت أسبابها لم يكن الإنسان أهلاً لحمل وصف الأهلية له , لأنه لم يحصل بعد على المؤهلات التي تؤهله للمساءلة , وفى هذا المعنى أثار صاحب كتاب كشف الأسرار بقوله :( أقام الشرع البلوغ الذي تعتدل لديه العقول في الأغلب مقام اعتدال العقل حقيقة تيسراً على البعاد وصار توهم الكمال بعد هذا الحد , وتوهم بقاء القصور بعد هذا الحد ساقطي الاعتبار. لأن السبب الظاهر متى أقيم مقام المعنى الباطن دار الحكم معه وجوداً وعدماً وأيد هذا كله قوله - صلى الله عليه وسلم - : { رفع القلم عن ثلاث – عن الصبي حتى يحتلم – والمجنون حتى يفيق – والنائم حتى يستيقظ }(3)
__________
(1) المستصفى لأبي حامد الغزالى صـ67 دار الكتب العلمية بيروت رتبها وحققها محمد عبد السلام عبد الشافي وانظر
كذلك نفائس الأصول في شرح المحمول جـ 4 صـ 1694بايع
(2) علم أصول الفقه / عبد الوهاب خلاف . مكتبة الدعوة ثبات الأزهر صـ 134
(3) الحديث سبق تخريجه صـ 151(1/8)
والمراد بالقلم الحساب ، إنما يكون بعد لزوم الأداء فدل على أن ذلك لا يثبت إلا بالأهلية الكاملة . وهى اعتدال الحال بالبلوغ عن العقل )(1)فإن ثبت البلوغ مع اكتمال القدرة العقلية لدى شخص فإنه بذلك ثبتت لديه الأهلية الكاملة والتي بناءاً عليها يصبح الفرد أهلاً لتحمل المسئولية إذا أرتكب ما يوجبها من مخالفة للشارع الحكيم ، ويطالب بكافة الحقوق والواجبات المالية ، وسواء أكانت هذه الحقوق لله أم للعباد ، صارت متعلقة به محاسب ومسئول عن أدائها أو تقصيره فيها . ( وهذا كله إذا اكتمل نموه العقلي مع اكتمال نموه البدني أما إذا وصل إلي سن البلوغ ولم يكتمل نموه العقلي ، بأن بلغ معتوهاً أو سفيهاً فأنه تجرى عليه أحكام الصبي المسير خلافاً لأبى حنيفة في السفيه )(2)
وندرك من خلال النص السابق أن الإنسان إذا لم يبلغ حد البلوغ فلا يكون أهلا لتحمل المسئولية ولم تثبت له أهلية الأداء الكاملة ولو كان حسياً مميزاً . ( يفهم مالا يفهمه غير المميز لأنه .غير فاهم على الكمال ، كما يعرف كامل العقل من وجود الله تعالى وكونه متكلماً مخاطباً مكلفا بالعبادة . ومن وجود الرسول الصادق المبلغ عن الله تعالى ، وغير ذلك مما يتوقف عليه مقصود التكليف )(3)
* علامات البلوغ
__________
(1) كشف الأسرار عن أصول البزدوي سابق جـ4 صـ249
(2) الفتاوى الهندية ج5 صـ 56 ط المكتبة الإسلامية
(3) الأحكام في أصول الأحكام للأمدي سابق صـ 139 . الحلبي(1/9)
البلوغ مرحله من مراحل عمر الإنسان تنقل الفرد من حالة إلى حاله ويحصل البلوغ بظهور أمارات وعلامات تدل عليه كالاحتلام فى الذكر والأنثى ، والحيل والحيض في الأنثى . ففي هذه الحالة يتم النضج العقلي والبدني ويصير الفرد مكلفاً ( وقد أجمع العلماء على أن الاحتلام في الرجال والنساء يلزم به العبادات والحدود وسائر الأحكام ... وهو إنزال الماء الدافق سواء كان بجماع أو غيره ، وقد أجمع العلماء على أن الحيض بلوغ في حق النساء )(1)4 ) والاحتلام والحيض يختلف من شخص إلى آخر ومن بيئة إلى أخرى ، فالبيئات الحارة غير الباردة غير المعتدلة في إظهار أمارات وعلامات البلوغ لدى الجنسين ( الذكور والإناث ) 0
ولما كان ظهور أمارات البلوغ مختلف من فرد لأخر حدد العلماء ذلك بحد آخر أكثر ضبطاً وذلك بالسنين .
( فقدره أبو حنيفة بثماني عشرة سنه للفتى . وسبع عشرة سنه للفتاه وقدره الصاحبان والشافعي وأحمد . بخمس عشرة سنه والمشهور عند المالكية تقديره بثماني عشرة سنة لكل من الذكر والأنثى )(2)ونخلص مما سبق إلى أن العقل هو منحة الله تعالى إلى الإنسانية وبه تكريم الإنسان وبناءاً عليه يصدر التكليف فهو من عناصر الحجة وبه يكون الإنسان مناط التكليف ومحلاً وأهلاً للمسئولية
__________
(1) ... انظر فتح الباري بشرح صحيح البخاري / بن حجر العسقلاني ج8 دار الغد العربي صـ 229 ( تعليقا علي
شرح الحديث رقم 2664
(2) ... انظر المصدر السابق صـ 230 وكذلك الجامع لأحكام القرآن القرطبي ج5 صـ 34، 35 ، وكذلك الموسوعة
الفقهية ( الكويت ) سابق ج7 صـ 160(1/10)
وبديهي ألا يتصور نفاد التكليف بغير العقل والبلوغ ، ( فالشريعة الإسلامية لا يثبت التكليف فيها إلا على من أوتى عقلاً كاملاً . بأن كان بالغاً عاقلاً ... فقد قام التكليف في الإسلام على العقل الكامل . لا على مجرد التميز وبما أن الجريمة هي معصية منهي عنها ، فإنه لا يخاطب بهذا النهى إلا من أوتى عقلاً كاملاً )(1)
ثانياً : العلم بالحكم الشرعي
اعتبر الإسلام أن العلم بالحكم الشرعي الصادر عن الله تعالى ( الشرع الحكيم )
واحداً من الأسس التي تنهض عليها المسئولية الجنائية على الخصوص – والمسئولية عموماً فصار العلم بذلك وصوله إلى المكلف بمنزلة العقل والبلوغ في تحمل المسئولية ولقد أوضح القرآن الكريم هذا الأصل الأخلاقي الرائع في أكثر من موضع من آيات الذكر الحكيم . قال الله تعالى : { .. وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً }(2)
وقال تعالى : { وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُون ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ } (4)
وقال تعالى :
{ ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُون }(3)
وقال تعالى :
{ رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } (6)
ومن خلال النصوص السابقة نعلم أن المشرع الحكيم لم يكن ليسأل أحداً من البشر عن إجرامه ومخالفته لأوامره إلا إذا كان عنده علماً سلفاً بتحريم ذلك الأمر وتحريمه ،
__________
(1) الجريمة الأمام / محمد أبو زهرة دار الفكر العربي صـ 302 البند رقم (423)
(2) سورة الإسراء جزء من الآية رقم (15) (4) سورة الشعراء آيتان رقم ( 208 ، 209 )
(3) سورة الأنعام آية رقم ( 131) (6) سورة النساء آية رقم ( 165)(1/11)
وصار ذلك قاعدة عامه لدى الأمة كلها وعلمائها ، فلكي يكون الإنسان مكلفاً فلا بد من اشتراط العلم بالمكلف به . ( فالأصل في الأعمال قبل ورود الشرائع سقوط التكليف إذا لا حكم عليه قبل العلم بالحكم ، إذ شرط التكليف عند الأصوليين العلم بالمكلف به )(1)
وإلى اشتراط العلم للمؤاخذة على التكاليف أشار الغزالى إلى ذلك بقوله ( أن يكون معلوماً أو في حكم المعلوم بمعنى أن يكون العلم ممكناً ، بأن تكون الأدلة منصوبة ، والعقل والتمكن من النظر حاصلاً )(2)
فلقد أشار الشاطبي – رحمه الله تعالى –في النص الذي أوردناه سابقاً أن بلوغ العلم للمكلف شرط للمجازاة والمحاسبة ، وبغيره يسقط التكليف وزاد الإمام الغزالى الأمر وضوحاً – في النص السابق – فذكر أنه متى كان الحصول على معرفة الحكم ممكناً صار الإنسان مكلفاً ولو لم يصله الحكم . لأن التقصير من جهته هو لا من جهة المشرع.
وهذا الذي ذكره الغزالى ينطبق على من كان مقيماً في دار الإسلام لأنه متمكن من العلم بسؤال أهله . فمن كانت هذه حالته ولم يجهد نفسه في البحث عن الحكم ، وعلم الفرائض عليه من الأوامر والنواحي كان آثما ، ولا يعذر بالجهل في دار الإسلام . قال الله تعالى : { ًفَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ }(3)
قال الأمام القرطبي : ( هذه الآية أصل في وجوب طلب العلم )(4)
__________
(1) الموافقات للإمام الشاطبي ج4 صـ 172 دار الفكر
(2) المستصفي في علم الأصول – الغزالي صـ 71 دار الكتب العلمية بيروت
(3) سورة التوبة (122) (4) الجامع لأحكام القرآن القرطبي ج8 293(1/12)
وقال الله تعالى { ْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ }(1)فإن من تأتى له ذلك لا يعذر بالجهل ، ويلزمه العمل بالأحكام ، ويؤاخذ على الترك ، حتى تعارف الأصوليون على قاعدة هي ( الجهل لا يعد عذراً في دار الإسلام ، لان العلم مفروض على من فيها ، فلا يعذر مقيم فيها بجهله الأحكام الظاهرة من الدين التي لا رخصة في جهلها وهى الثابتة بالكتاب والسنة ، المتوترة أو المشهورة ، والتي انعقد عليها إجماع الأمة )(2)0
ومرد هذا إلى أن الشريعة الإسلامية لا تلزم أحداً ولا يعد مسئولاً أمامها إلا بعد العلم بالحكم الذي أصدرته قال الله تعالى :
{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً }
وقال الله تعالى { ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون }
(( فليس من سنن الله تعالى – ولم يكن من شأنه في تربية خلقه أن يهلك القرى ( الأمم ) ولا يعذبها ... بظلم منه ولا بظلم منها وهم غافلون عما يجب عليهم أن يتقوا به هذا الهلاك . بل يتقدم ذلك إرسال رسول يبلغها ما يجب أن تكون عليه من الصلاح والحق والعدل والفضائل )(3)
ثم تكون المحاسبة والمساءلة بعد ذلك ، ومن ثم ( فهذا نص على أن النذارة لا تلزم إلا من بلغته لا من لم تبلغه ، وأنه تعالى لا يعذب أحداً حتى يأتيه رسول )(4)
__________
(1) سورة النحل آية رقم (43)
(2) الوجيز في أصول الفقه / د/ عبد الكريم زيدان صـ 112 مؤسسة الرسالة بيروت سنة 1400هـ
(3) تفسير المنار / محمد رشيد رضا ج8 صـ 109 دار المعرفة بيروت بتصرف
(4) الفصل في الملل والنحل والأهواء والنحل للإمام . بن حزم الظاهري دار الجيل ج4 صـ 105(1/13)
ومعلوم أن الجزاء مترتب على المسئولية وانتفاء أحدهما ينفى الأمر بالضرورة العقلية ، ولقد اتفق جمهور العلماء على أن الله تعالى لم يكن ليعذب أحداً ويجعله في مكان المسائلة في الدنيا . ما لم تبلغه الدعوة والعلم بالحكم التكليفي ، ولقد أورد ذلك الاتفاق الأمام الشوكاني والأمام القرطبي في تفسير قوله تعالى :
{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً }(1)
فقال (( ذكر الله تعالى – أنه لا يعذب عباده إلا بعد الإعذار إليهم بإرسال رسله وإنزال كتبه ، لأنه لم يتركهم سدي ، ولا يؤاخذهم قبل إقامة الحجة عليهم والظاهر ، أنه لا يعذبهم في الدنيا ، ولا في الآخرة إلا بعد الإعذار إليهم بإرسال الرسل ، وبه قالت طائفة من أهل العلم . وذهب الجمهور إلى أن المنفى هنا عذاب الدنيا لا عذاب الآخرة ))(2)ومثل هذا الكلام أورده الأمام القرطبي .(3)
ومعلوم أن الجزاء على العقوبات المقررة في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة إنما هو جزاء صادر من الله تعالى لمن عصاه وتعدى حدوده وارتكب معصيته ، فالجزاء بإقامة الحدود مرفوع ومقدماته من المساءلة مرفوعة أيضاً ما لم يصل العلم إلي المكلف وهذا رأى جمهور الأمة واتفاق أهل العلم الذي حكاه الإمامين الجليلين الشوكاني والقرطبي ،
__________
(1) سورة الإسراء جزء من الآية رقم (15)
(2) فتح القدير ( الجامع في الرواية والدراية ) – الشوكاني مطبعة الحلبي سنة 1964 ج3 صـ 214
(3) تفسير القرطبي ج10 صـ 236 ، 237 انظر المضمون السابقة بتفصيل أكثر . دار الحديث(1/14)
ولقد كانت في السلف الأول ما يدل على ما ذهب إليه جمهور الأمة وعلماءها أورد الإمام ابن حزم واقعة حدثت في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال ( قد كان جعفر بن أبى طالب وأصحابه رضى الله عنهم بأرض الحبشة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة والقرآن ينزل والشرائع تشرع ، فلا يبلغ إلى جعفر وأصحابه أصلاً ، لانقطاع الطريق جملة من المدينة إلى أرض الحبشة ، وبقوا كذلك ست سنين فما ضرهم ذلك في دينهم شيئاً إذا عملوا بالمحرم وتركوا المفروض )(1)
والشريعة الإسلامية حين تضع هذا الشرط كأساس من أسس المسئولية ( بعامه ) والجنائية على الخصوص في محل بحثنا – فإنها بذلك راعت جوانب أخلاقية عظيمة أرادت أن تحققها في تعاملها مع النفس البشرية ، وتستطيع أن تورد ذلك في عدة قيم .
(1) قيمة العدل :
فلقد أوجب الله على نفسه أن يُعلم الناس قبل أن يحملهم مسئوليتهم ، لأنه ( سبحانه ) يرى من الظلم(2)تعذيب القرى التي تغفل عن واجباتها لأنها لم تعرفها )(3).
وقال تعالى { ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ } (4)
وقال تعالى { وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُون ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ } (5)
(( فأخبر الله تعالى عن عدله بأنه لا يؤاخذ الأمم ولا يسألهم ما لم تصل إليهم الإنذارات )) (6)
__________
(1) الفصل في الملل والأهواء / ابن حزم دار الجيل بيروت جـ4 صـ105
(2) ... يري الإمام بن كثير والشيخ محمد رضا أن الضمير في الآية الكريمة عائد إلي الله أو إلى الناس ، ورجع الشيخ
محمد رشيد رضا بأنه عائد إلي الله تعالي ، أنظر تفسير المنار ج8 صـ 109
(2) دستور الأخلاق / محمد عبد الله دراز صـ 165 الرسالة
(3) سورة الأنعام (131) (5) الشعراء (208 ،209 (6) مختصر تفسير بن كثير جـ 2 صـ(1/15)
ويظهر أثر العدل أكثر ويزداد وضوحاً حين ندرك أن العقل البشرى ، بل وكل وسائل الإدراك والمعرفة لدى الإنسان لا يستطيع أن تدرك الحقيقة وحدها بغير إعانة من الله تعالى (( فنقف أمام عظمة العدل الذي يرتب للناس حجة على الله – سبحانه – لو لم يرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين – هذا مع احتشاد كتاب الكون المفتوح ، وكتاب النفس المكنون بالآيات والشواهد على الخالق ، ووحدانيته ، وتدبيره ، وتقديره ، وقدرته وعلمه ، ... ومع امتلاء الفطرة بالأشواق والهواتف إلى الاتصال ببارئها والإذعان ، والتناسق والتجاوب والتجاذب بينها وبين دلائل وجود الخالق في الكون والنفس ... ومع هبة العقل الذي يملك أن يحصى الشواهد ويستنبط النتائج .. ولكن الله – سبحانه – بما يعلم من عوامل الضعف التي تطرأ على هذه القوى كلها ، فتعطلها ، أو تفسدها أو تدخل في حكمها الخطأ والشطط ، قد أعفى الناس من حجية الكون ، وحجية الفطرة ، وحجية العقل ، ما لم يرسل إليهم الرسل )(1)
فهذا هو العدل الإلهي في بنى البشر لا يظلمهم ويتصرف في ملكه حسب علمه ومشيئته وهذا هو العدل الذي ذهب أهل السنة إلى تعريفه بقولهم ( العدل وضع الشيء في موضعه وهو التصرف في الملك على مقتضى العلم والمشيئة ، والظلم بضده )(2) فالعدل جانب أخلاقي عظيم عملت الشريعة الإسلامية على إيجاده في المسئولية الجنائية ,فلا يسأل أحد عن شيء لم يصل إليه حكمه , وكذلك لم تدعه إلي حكم العقل القاصر الذي لا يستطيع أن يهدى صاحبه إلي الحق والخير ,
2- تجليات وظهور فضيلة الرحمة بالناس ,
فليس من قصور الشريعة الإسلامية إعنات الناس وتكليفهم ما ليس في وسعهم ولا ما ليس من شأنهم أن يدركون وحدهم ,والذي يعلم هذه الحقيقة المكنونة في نفس البشرية ويعلم قدراتها , ليس أحد إلا بارئ النفس البشرية ,
__________
(1) ... في ظلال القرآن – سيد قطب ج2 صـ 810 دار الشروق
(2) ... الملل والنحل / الشهر ستاني ج2 صـ 42(1/16)
قال تعالى : { ِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }(1)
فالذي خلق هو الذي يأمر لأنه أعلم بما يصلح النفس , وهو الذي يكلف , وبناءاً عليه هو الذي يحاسب ويرفع التكليف أو يثبته.
وهذا من رحمة الله بالخلق أن جعل أساس المسئولية إيصال الحكم الشرعي الصادر من الله - العالم يمكنون النفس إليهم – وجعل وصول الحكم دافعاً للمسئولية ,
(فشاءت رحمة الله وفضله وبره ألا تدع – الإنسان – لما أودع فيه من فطرة هادية .. وعقل هاد – فقد يضلان – بل تفضل عليه ربه فأرسل إلية الرسل تتري )(2)
وهذا من عظيم فضل الله ونعمه على خلقه
ثالثاً: حرية الاختيار
تحدثنا فيما سبق عن بعض الأسس التي تبنى عليها المسئولية الجنائية في الشريعة الإسلامية , والتي من شأنها إن تثبت لدى الإنسان وكان الإنسان موصوفاً بها أصبح مؤهلاً لتحمل المسؤلية إذا ما ارتكب ما يوجب المساءلة والجزاء فكان من هذه الأسس كما ذكرنا سابقاً .
1- الأهلية من العقل والبلوغ
2- العلم بالحكم ,
وتزيد الشريعة الإسلامية أساساً ثالثاً لتكتمل به أساساً ثالثاً لتكتمل به أسس المسئولية الجنائية وتم به بناءها الأخلاقي في تشريعها الجنائي , فلقد اشترطت الشريعة في مساءلة الفرد أو بنى الإنسان أن يكون قد أتى الفعل المحرم وهو مختار له , وذلك بعدما أن اشترطت كذلك أن يكون مدركاً ( بالعقل , والبلوغ ) وبعدما أن اشترطت أن يكون عالماً فجاءت بالشرط الثالث لتكتمل به منظومة الأسس الأخلاقية للمسئولية الجنائية 0
* وبداية أريد أن أوضح نقطه مهمة وهى – أن مسألة الحرية و الجبر, من المسائل الشائكة ذات الموضوعات التي إتسمت بالجدل بين علماء المسلمين منذ ظهور المذاهب الكلامية في العصور الأولى ,
__________
(1) سورة الأعراف آية 54
(2) في ظلال القرآن ـ سيد قطب جـ2 صـ811 دار الشروق(1/17)
ولقد عنيت الكتب(1)والدراسات المتخصصة في بحث هذا الموضوع فلسنا في حاجة هنا ألي عرض الموضوع ومناقشته , ولكننا نذكر هنا رأى أهل السنة في إثبات حرية الاختيار للإنسان .
والاختلاف الذي حدث بين العلماء قديماً وحديثاً في مسألة الجبر والاختيار لم يكن له أي تأثير على التشريع الإسلامي , فخلافهم هذا لم يعدو حد القول , فلم يخرج إلى دائرة العمل .
لم يتأثر التشريع الإسلامي بما تحدث به أصحاب الإختلاف في هذه المسألة ولهذا فليس من شأن دراستنا هذه أن تهتم بهذا الجانب من الخلاف الذي دار بين العلماء قديما وحديثاً يقول الشيخ الإمام أبو زهرة في هذا الصدد :
( وإنه يجب أن نقرر أن العلماء مع اختلافهم في مسألة الجبر والاختيار لم يكن لذلك أثر في التكليف وتقرير العقاب الدنيوي والحساب الأخروي(2)لذاً لم يكن من الضروري علينا بحث المسألة عند العلماء والمسلمين لعدم تأثيرهم على ما نحن بصدد دراسته وبحثه 0
__________
(1) من الكتب التي عالجت هذا الموضوع : أ- الملل والنحل – الشهر ستاني
ب- الفصل في الملل والهواء والنحل بن حزم الأندلسي ج- الإبانة في أصول الديانة – لأبي الحسن الأشقر
د- شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل / بن حزم من الكتابات الحديثة في هذا الشأن كتاب /
القضاء والقدر في الإسلام د /فاروق الدسوقي .
(2) الجريمة /الإمام محمد أبو زهرة دار الفكر العربي صـ320 البند رقم 447(1/18)
غير أن رأي أهل السنة والجماعة في هذه المسألة – هو القول بأن الإنسان لديه من القدرات ما يستطيع من خلالها أن يختار إما طريق الجبر أو طريق الشر, وإنه مجزى ومسئول عن اختياراته التي يقوم بها .واستدلوا على رأيهم هذا بصريح القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة فالله عز وجل (خلق الإنسان كامل المسئولية وشرع له التكاليف الدينية ورتب عليها المثوبة والعقوبة , على أساس إرادته الحرة وامتلاكه المطلق للاتجاه ذات اليمن أو ذات الشمال )(1)
فقال الله تعالى { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً }(2)
وقال تعالى : { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ }(3)وبناءاً على هذه النصوص القرآنية وغيرها الكثير – قامت الأخلاق والتشريع والحياة الإسلامية الواقعية ضاربة صفحاً عن لجاج الفلسفة والكلام , وسارت بثقة على أساس أن الحرية ثابتة ومن ثم اعتمدت مبدأ المسئولية والجزاء ..
وحينما قررت الشريعة الإسلامية حرية الاختيار للإنسان وجعلته أساسًا من أسس المسئولية ( فالمكره والمغلوب على آمره لا يحاسب ) فإنها بذلك راعت خط سيرها الأول الذي سارت فيه مسألة أسس 0
المسئولية الجنائية موجهة عنايتها إلي اهتمامها بالجوانب الأخلاقية
فلقد راعت ( بإقرارها – لحرية الامتياز لدى الإنسان ) فطرة الإنسان وغيره عن بقية المخلوقات وذلك ( لأنها فطرة الله التي فطر الإنسان عليها ولأنها حق طبيعي له ومن المفروض أن يتمتع بها الإنسان لمجرد كونه إنساناً ضرورة للحياة الإنسانية , وإنما يتميز بها الإنسان على سائر الكائنات الحية الأخرى .
__________
(1) حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة / الشيخ محمد الغزالى صـ93 ط3 دار الكتب الإسلامية
(2) سورة الإنسان آية رقم (3)
(3) سورة البقرة صدر الآية رقم (286)(1/19)
فإن كانت الحيوانات محكومة بغرائزها. فإن الإنسان ذو إرادة وقصد , ولا تتحقق إرادته إلا في جو من الحرية(1)على الاختيار والمفاضلة بين هذا العمل أو ذاك ,
وحينما تراعى الشريعة في الإنسان هذا الجانب النفسي الذي يشعر به الإنسان من أنه يجب أن يكون له حرية الاختيار في إتيان أمر أو عدم إيتانه حتى يكون مسئولاً عنه إنها حينذاك تكون شريعة قائمة على العدل هذا من ناحية ومن جهة أخرى تكون موافقة لفطرة الإنسان غير محاربة لها :فلا يوجد تصادم بين القانون وبين النفس البشرية وما جبلت عليه .
فإن كان من منطق القرآن الكريم وآياته قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ }(2)
وقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } (3)
(فإننا في ظل هذا الجو القرآني لا نستطيع أن نتصور أن الله سبحانه وتعالى أقر شريعة الواجب الإنساني بما تستبعه من مسئولية وجزاء – دون أن يكون قد زود الإنسان من قبل بوسائل العمل ,الضرورية لأدائه )(3)وإن من أهم هذه الوسائل هي حرية الاختيار ,وحرية الاختيار إذا ثبتت للإنسان فإنها ينبني عليها أمور أخلاقية عظيمة.
نستطيع من خلالها أن نقرب النوع الإنساني إلي مشروع أخلاقي أعظم , وأكثر فائدة , وأما إذا ما نفيناها عن الإنسان واعتبرنا أنه مجبر وليس لدية حرية اختيار , فإننا بذلك نكون قد وضعناها حجر عثرة في طريقة الإصلاح الأخلاقي ,
__________
(1) معالم الثقافة الإسلامية / عبد الكريم عثمان . مؤسسة نوار الرياض صـ 58
(2) النساء جزء من الآية رقم (40) (3) سورة يونس جزء من الآية رقم (44)
(3) دستور الأخلاق في القرآن الكريم / د محمد عبد الله دراز صـ 209 الرسالة(1/20)
* فإنما يترتب على قول الشريعة ( بحرية الاختيار – كأساس للمسؤولية الجنائية ارتباط ذلك بوجوب أن يبذل كل شخص مجهوداً كي يطابق سلوكه هذه الأوامر والنواهي ... وحينما يؤمن الناس بحرية الاختيار فإن لهذا الإيمان قيمة أخلاقية كبيرة إذ هو أساس نسبتهم الخطأ إلى الجاني وتوجيههم اللوم إليه ومن ثم – فهذا الإيمان – هو أساس لكل محاولة يبذلها الجاني لإصلاح نفسه(1)
ومن هنا ندرك مرة أخرى مدى أهمية القول بوجود حرية الاختيار لدى الإنسان , فإنها فطرة إنسانية كما أنها كذلك ( ضرورة اجتماعية يفترض وجود القانون(2)فسبحان من هو أعلم منهم بأنفسهم , وشرع لهم ما يسعدهم ويصلح شئونهم , ويوافق فطرهم , وهم بذلك مجادلون 0
__________
(1) ... انظر ( في التيسير والتخير بين الفلسفة العامة وفلسفة القانون د/ رؤوف عبيد دار الفكر العربي ط2 سنة 1976
صـ 298 بتصرف بعض الفقرات
(2) ... ) المرجع السابق صـ 298
(2) ... انظر في ذلك حقائق الإسلام وأباطيل خصومة / عباس محمود العقاد .- المكتبة العصرية – صيدا بيروت
صـ 153
(4) الفضائل الخلقية في الإسلام / أحمد عبر الرحمن إبراهيم دار الوفاء صـ 38(1/21)
* ولقد قرر الإسلام حق الفرد بحرية الاختيار وقرر كذلك وجوب الإيمان بالله وتصرفه في خلقه كما يشاء سبحانه وليس بين حق الله وحق العباد تعارض كما يزعم البعض – فيحدوه ذلك إلى الإيمان بواحدة وترك الأخرى فذهب البعض إلى أن الله يفعل ما يشاء وهو الخالق للأفعال , والإنسان مجبور على تحقيق الفعل ( وهم الذين قالوا بالجبر ) والفريق الثاني القائل بحرية الإنسان حرية مطلقة يفعل ما يشاء هكذا وقع الغرب في تناقض مشين ولكن الإسلام وفق بين الأمرين بغير إسراف في نقطه ولا تمحل في أخرى فيقول الأستاذ / العقاد (حق الإنسان والإيمان بالله رب العالمين ( أي الذي أتى بهما الشرع الإسلامي مجتمعين في تقرير حرية الاختيار . ) كلاهما معجزة إلهية تجلت بها قدرة الله على غير مثال سابق )(1)ففي الإسلام لا تنتفي الحرية بإثبات إرادة الله النافذة ولا بتوكيد علمه الشامل . ولا تنتفي أيضاً بالاعتراف بضغط الميول الفطرية أو تأثيرات البيئة الاجتماعية والثقافية)(2)0
كما ذهب إلى ذلك أصحاب المدرسة الوضعية , والتي سيأتي الحديث عنها بعد – ( إن شاء الله تعالى ) والقرآن الكريم أوضح ذلك بصراحة فقرر أن المؤثرات الخارجية لا تمنع الإنسان من التفكير , فإنها على رغم قوتها إلا أنها تظل عاجزة (عن أن تمارس إكراها واقعياً على قراراتنا ... فإن أكثر فصائح الحكمة إقناعاً , وأقوى دعوات الشر إغراءً لا تحدث أدني تأثير في سلوكنا دون أن يكون لإرادتنا انبعاث حر , لتقبلها , أو لرفضها , والقرآن يقرر على لسان الشيطان )
{(1/22)
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }(1)
ويقول الله تعالى : { نَذِيراً لِّلْبَشَرِ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ }(2)(3)
وبعد هذا العرض الموجز لحرية الاختيار في نظر الشرع الإسلامي نكون قد أدركنا عدة أمور هامة
1- أن القول بحرية الاختيار إنما هو فطرة فطر الله البشر عليها فلابد من الاعتراف بها وعدم إنكارها .
2- أن الاعتراف بحرية الإنسان لا يتنافى مع القول بإثبات إرادة الله تعالى القاهرة .
3- أن الاعتراف بضغط الميول وسلطان البيئة لا يؤثر في حرية الإنسان وإرادته .
4- أن التوفيق الذي جاء به الإسلام بين حرية الإرادة ووجوب الإيمان بالفاعلية الإلهية إنما هي معجزة إسلامية كبرى في تحقيق التوازن .
5- ضرورة القول بحرية الاختيار لأهمية ذلك في تهذيب السلوك وإصلاح الجاني .
المطلب الثالث
أسس المسؤولية الجنائية في النظم الأخرى
تمهيد :
تحدثنا في المطلب السابق عن أسس المسئولية الجنائية في الشرع الإسلامي وذكرنا في ذلك أسس , تقوم المسئولية الجنائية عليها , ويصبح الإنسان مؤهلاً لأن يكون محلاً للمسئولية إذا ما توفرت فيه هذه الصفات التي ذكرنها سابقاً : وهى
1- الأهلية – العقل والبلوغ
2- العلم بالحكم التشريعي
3- حرية الإرادة .
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 22 (2) سورة المدثر ( 37 ، 38 ) (3 ) دستور الأخلاق . دراز صـ 202 بتصرف(1/23)
والنظم الوضعية في عصرنا الحاضر استطاعت بعد جهد كبير أن تسير أو تقترب من خط سير الشريعة الإسلامية , فالتقت النظم الوضعية على نفس الأسس التي قررتها الشريعة الإسلامية منذ وقت مبكر منذ أربعة عشر قرناً من الزمان .
وعلى الرغم من اقتراب النظم الوضعية ( من الشرع الإسلامي ) واقرارها نفس الأسس للمسئولية الجنائية – التي وضعتها الشريعة الإسلامية إلا إنها مازالت هناك بعض الفوارق التي تفرق بين التشريعين – الإسلامي , الوضعي ولسنا الآن في إيضاح مميزات أحد التشريعيين وإنما أجعل لذلك مطلباً مستقلاً – إن شاء الله تعالى .
* وهذا المطلب الذي بين أيدينا أحاول أن أعالج فيه عدة نقاط متعلقة بالأسس التي تقوم عليها المسئولية الجنائية في نظم البشرية الوضعية وهذه النقاط نعالجها على النحو التالي :
1- لمحة تاريخية عن الأهلية كأساس من أسس المسئولية الجنائية – لدى النظم الوضعية .
2- نظرة على الأساس الثاني – ( العلم بالحكم ومد تطبيقه لدى النظم الوضعية .
3- حرية الإرادة والنزاع الدائر بين النظم الوضعية حولها كأساس من أسس المسئولية الجنائية – ومدى تأثير المدارس المتنازعة حولها – في القانون الوضعي .
أولاً : الأساس الأول : الأهلية :
أحاول في السطور القادمة أن ألقى الضوء على – الأهلية كأساس من أسس المسئولية الجنائية في النظم الأخرى – البشرية – ومدى تطبيق هذا الشرط في تلك النظم , وهذا يتطلب منا أن نلقي لمحة تاريخية عن تطبيق هذا الأساس .
لقد قمنا في المطلب السابق بتعريف الأهلية في اللغة والاصطلاح الشرعي والقانوني مما يغني عن إعادته مرة ثانية هنا.
$ لقد كانت النظم الوضعية والحضارات القديمة تقوم بمساءلة عديمي الأهلية وناقصيها , فكانت تسائل المجون والصبي – المميز وغير المميز وكانت تسائل الحيوان ,(1/24)
$ فقي العصور الوسطي والتي كانت بدايتها من سنة 6 7 4 وحتى سنة 3 5 4 1 م وهو تاريخ فتح المسلمين للقسطنطية كانت أوربا تعيش وضعاً مغايراً لما تعيشه الآن - في حالتها الفكرية – فقد كانت تعيش حالة من الظلام الفكري . وظل هذا الظلام ينكشف شيئاً فشيئاً حتى قيام الثورة الفرنسية عام 9 8 7 1 م .
فقي الفترة الزمنية الماضية – العصور الوسطي ( كانت أوربا تجعل الإنسان والحيوان بل والجماد محلاً للمسئولية الجنائية , وكانت الجماد يعقب كالحيوان علي ما نسب إلية من أفعال ضارة – كما يعاقب الإنسان علي ما ينسب إليه من أفعال محرمة , وكانت العقوبة تصيب الأموات كما تصيب الأحياء ولم يكن الموت من الأسباب التي يعفي الميت من المحاكمة والعقاب .
ولم يكن الإنسان مسئولاً عن عمله فقط كذلك كان يسأل عن عمل الآخرين ولو لم يكن له سلطان فعلي علي هذا الغير , فكانت العقوبة تتعدى المجرم إلي أهله وأصدقائه .
وكان الإنسان يعتبر مسئولاً عن عمله جنائياً , سواء أن كان رجلاً أو طفلاً مميزاً أو غير مميز , وسواء أن كان مدركاً أو فاقد الإدراك )(1)
ونضرب مثالاً لما تحدثنا عنه من مؤاخذة الأمم الأوربية في العصور الوسطى . الشخص غير العاقل ومسائلته جنائياً .
( ففي عهد الملك هنري مرض رجل من الأشراف واشتد مرضه فكان يهذي من شدة المرض فرأى في المنام أنه حاول اغتيال الملك , وما أن أبلغ أحد الأشخاص ذلك إلى الملك حتى قدم الرجل للمحاكمة فحكم عليه بالإعدام(2).
__________
(1) التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون / عبد القادر عوده ج1 صـ 380 ، 381 الرسالة بتصرف بعض الشيء
(2) النظرية العامة للقانون الجنائي صـ 130 د رمسيس بهنام سنه 1995 منشأة المعارف(1/25)
وهذه مجرد رؤيا رآها الرجل في منامه وهو في حالة مرض ولا دخل له في تلك الرؤيا – فهي من جهة . خارجة عن إرادته ومن جهة ثانية لم يكن سليم الإدارك الذهني والنفسي , فهذه صورة من صور المؤاخذة التي كانت تحفل بها الأمم الأوربية في العصور الوسطى .
ومن حيث مؤاخذة الطفل والصبي , ناقصي الأهلية , فكانت كثير من الأمم وأهل الحضارات , يقومون بمساءلة الصبي والطفل , ولقد كانت هذه المؤاخذة ذات مظهرين .
الأول . أن يؤخذ – الطفل ـ مع أسرته لجريرة ارتكابها أحد أفرادها .وقد عمل به اليابانيون والصينيون القدماء .
الثاني :أن يؤاخذ وحده على عمل ارتكبه أو لابسه في صورة ما وقد عمل به اليونانيون والصينيون , والرومان وبعض الأمم الأوربية في العصور الوسطى )(1)
ونضرب بعض الأمثلة لذلك .
ففي العصور القديمة نجد لدى الرومان . تقرر شريعة الألواح الإثني عشر . وهذه الألواح هي منظومة القانون التي وضعها حكام الرومان – وهى أساس التشريع الروماني القديم فهي تنص على توقيع عقوبات على الطفل في بعض الجرائم . وخاصة في حالة السرقة وحالة السطو على محصولات زراعية .
وفى العصور الوسطى . نجد الأمم الأوربية تطبق عقوبات قضائية تلحق بالأطفال إذا اقترفوا بعض جرائم خطيرة مثل القتل مثلاً ففي هذه الحالة يكون الطفل (( فاقداً لحماية القانون )) أي مباح الدم وقد يحكم عليه بالنفي خارج البلاد(2)
__________
(1) المسئولية والجزاء / علي عبد الواحد وافي صـ 43 ، 44
(2) المرجع السابق صـ 47 ، 48 بتصرف .(1/26)
- وفى العصور الحديثة لم تكن القوانين لتصل إلى درجة العدل والكمال التشريعي فلقد حاكمت كذلك الطفل . وأخذت بمساءلة الصبي ( ففي عام ( 1629 م ) شنق في إنجلترا غلام في سن الثامنة لوضعه النار عمداً في محصولين زراعيين ... وفى القرن الثامن عشر أصدرت المحاكم الإنجليزية حكماً بالإعدام على غلام في سن الثامنة وعلى فتاه في سن الثالثة عشرة لجريمة القتل أو الحرق )(1)
- وبعد حقبة من التطور بدأ قصر المسئولية على الإنسان البالغ العاقل السوي وهو نهايته ما بلغه التطوير الفكري ...
فأخذت المسئولية شيئاً فشيئاً تنحصر ولا تطبق إلا على من لديه الشروط التي تؤهله لأن يكون محلاً للمساءلة الجنائية ,
( وقد ظلت هذه المبادئ سائدة فى القوانين الوضعية – وما كرس وقعد لها من فكر بشرى – ونظريات فلسفية أرضية , - حتى جاءت الثورة الفرنسية سنة 1789 . فزعزعت هذه الأوضاع الجائرة , وأخذت تحل محلها من ذلك الحين مبادئ جديد , تقوم على أساس العدالة وعلى جعل الإدراك والاختيار أساساً للمسئولية فأصبح الإنسان العاقل وحده هو محل لمسئولية ... ورفعت المسئولية عن الأطفال الذين لم يميزوا )(2)
ثانياً : العلم بالحكم : ( في النظم الوضعية )
__________
(1) ... انظر في ذلك دستور الأخلاق في القرآن – محمد عبد الله دراز صـ 224 الرسالة
وكذلك المسئولية والجزاء / علي عبد الواحد وافي صـ 48 دار النهضة المصرية .
(2) التشريع الجنائي الإسلامي / عوده ج1 صـ 381 ، 382 الرسالة(1/27)
لم تكن الشرائع الوضعية ولا النظم البشرية تعرف شرط العلم بالحكم كأساس من أسس المسئولية الجنائية إلا في وقت متأخر في العصر الحديث . ومعلوم أن – شرط العلم بالحكم الصادر – واعتباره أساس من أسس المسئولية الجنائية يعتبر ذلك رمزاً لإقامة العدل ؛ فمتى لا يعلم الإنسان الحكم الصادر بشأن جرم معين ولا قيمة هذا الجزاء أو تلك العقوبة ، ثم يؤاخذ بما ليس لديه به سابق علم ؛ فإن ذلك لا يمثل العدالة التي تحاول الأخلاق القيام بها . فكانت النظم البشرية خاصة ( - قبل قيام الثورة الفرنسية – تعاقب الناس على أشياء لم تكن محرمة في دين الله ولا ممنوعة عليهم ، وكان من يتولى إصدار العقوبة حراً في توقيع أية عقوبة تخطر على باله )(1)
وهذا يدل على عدم ضبط أسس المسئولية الجنائية في تلك النظم الوضعية ، ذلك مما أدى إحساس الناس بالظلم وعدم تحقيق العدالة في الأحكام الصادرة من الهيئات المختصة بذلك ، فكان لهذه الهيئات نفوذ واسع في مسئولية من يشاءون بما يشاءون من غير رقابة عليهم .
وليست هذه المسئولية محدده بأسس وضوابط أو شروط وقواعد معينه ، ( حيث كان القضاة يتمتعون بسلطات لا حدود لها تجاه من يمثلون أمامهم . وكانت القوانين معدة بطريقة غامضة – تسمح لهم بالبحث – تحت ستار تفسيرها عن روح القانون – ولكن هذا البحث لم يكن سوى وسيلة لإدارة العدالة بالطريقة التي تروق لهم – فكان ذلك باباً مفتوحاً للتميز بين المتقاضين تبعاً لمراكزهم الاجتماعية – مقدار ما يدفعونه من رشوة للقضاء )
- فينتج عن ذلك عدة أمور :
1- تبرم الناس من القانون والمساءلة . وذلك لإحساسهم بالظلم
__________
(1) 1 ) كمال الشريعة الإسلامية وعجز القانون الوضعي مستشار / سالم البهنساوي دار الوفاء صـ 55 ط الأولي 2003 (2) انظر في ذلك : علم العقاب / د. محمد نجيب حسني صـ 104 وما بعدها وكذلك : النظرية العامة للجزاء الجنائي
د/ أحمد عوض بلال دار النهضة صـ 152(1/28)
2- تفاوت المساءلة من شخص إلى آخر . مما أدى إلى انتفاء المساواة في المسئولية .
3- نزع حق من حقوق الإنسان وهو العلم بالحكم قبل إتيان الجريمة وقبل أن يكون محلاً للمسئولية .
فكان نتيجة لهذا الظلم وإحساس الناس به أن قامت القوى الفكرية مناهضة لتلك الأعراف العالية وكانت الثورات الفكرية لها أثرها الملموس في هذا الشأن – ولعل أعظم تلك الثورات هي الثورة الفرنسية سنة 1789م وبناءاً عليها تم إنشاء قانون فرنس جديد , حمل مبدأ –العلم بالحكم – قبل المساءلة وصاغ ذلك في قاعدة قانونية – صارت بعد ذلك قاعدة أساسية في معظم الدول الأوربية – وهذه القاعدة هي ( أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص في القانون ) ومن هنا أصبح أنه لا يجوز معاقبة أحد على شئ لم ينص عليه القانون على تجريمه وحظره ،ولا يجوز أن يوقع القضاء أو المحاكم عقوبة تزيد عن العقوبة المقررة لهذا الفعل في القانون . و( استقر الفقه الأوربي الحديث على أنه لا جريمة إلا بقانون ولا عقوبة إلا بنص : ... ولأن أساس العقوبة هو مخالفة الأوامر القانونية الثابتة – ولا تتصور مخالفة إلا إذا وجد النص الآمر أو النص الناهي المانع )(1)..
وبذلك نستطيع أن نقرر أن النظم الوضعية والقوانين البشرية استطاعت في نهاية سيرها أن تلحق بالشريعة الإسلامية في منهجها الذي وضعته للمساءلة إلا أنها لم تستطيع أن تأتى بذلك المجتمع الذي جاءت به الشريعة الإسلامية جملة واحدة وإنما كان تحقيق ذلك على فترات متباعدة وبعد خوض تجارب كثيرة وفى نهاية كل تجربة – كان وضع قانون بدل قانون آخر ترتب عليه اعتراضات فكرية ومدارس فلسفية , وهذا بخلاف ما قامت عليه الشريعة الإسلامية .
__________
(1) يراجع في ذلك 1- الجريمة الإمام محمد أبو زهرة صـ 133 ، 134 دار الفكر
2- كمال الشريعة الإسلامية – سالم البهنساوي صـ 55 دار الوفاء(1/29)
مثال ذلك: ما ذكر بشأن تطبيق الاتحاد السوفيتي – السابق – هذه القاعدة فإنه لم يأخذ بهذه القاعدة إلا بعد أن قضى على من يشتبه في عدم إيمانهم بالشيوعية , فلأول مرة منذ إعلان النظام الشيوعي في سنة 1917 م يصدر قانون أسس التشريع الجنائي السوفيتي في 25/12/ 1958م. ونص على هذه القاعدة . أي أنه قبل عام 1959 كان الاتحاد السوفيتي يعاقب الناس على أفعال غير ممنوعة في القانون .(1)
ثالثاً : حرية الإرادة والاختيار :
. حرية الاختيار والإرادة هو الأساس الثالث الذي اعتمدته الشريعة الإسلامية . وجعلته من أسس المسئولية الجنائية , ولقد سبق أن تحدثنا عن هذا الأساس من وجهة نظر الشريعة الإسلامية .
. ولقد حدث اختلاف فكرى بين الفلاسفة المسلمين حول موضوع حرية الإرادة , ومدى هذه الحرية , ونصيب النفس البشرية منها .
كان مما قرره العلماء بشأن هذا الاختلاف الذي صار أمر الفلاسفة المسلمين إليه أنه لم يكن له تأثير على التشريع الإسلامي ، فلم يكن له من حظ ولا نصيب في الناحية العملية التطبيقية في الشريعة الإسلامية .
. في النظم الوضعية احتدم الخلاف ودار الصراع بين الفلاسفة على مر العصور وتنائي البلدان , عدا أن ذلك الخلاف القائم في النظم الوضعية كان مغايراً للذي قام بين الفلاسفة المسلمين . فكان له نتائج وآثار على القانون الوضعي , فما من مدرسة فكرية أو فلسفية ذات فكر معين في التاريخ البشرى أيا كان حجمها , إلا وكان لها تأثير أو على الأقل أثر ولو ضعيف على النظام القانوني الموضوع , الذي وضعته الأفكار البشرية .
بيد أنى أود أن أشير هنا إلى شئ مهم . وهو أننا لا نبحث في مثل هذه الدراسة الموجزة موضوع الحرية من ما صاحبه من إشكاليات لدى الفلاسفة القدامى والمحدثين فإن مثل هذه الدراسة ليس مكانها هنا .
__________
(1) انظر بالتفصيل ( في أصول النظام الجنائي الإسلامي دراسة دار المعارف صـ65 ، 75 د/ محمد سليم العوا(1/30)
وإنما أردت فقط معرفة آراء أشهر الباحثين من الفلاسفة المحدثين والذي كان لرأيهم تأثير وفاعلية في صياغة القوانين البشرية الوضعية ثم نقف بعد ذلك على مدى اقتراب هذه الفلسفات وبعدها من منهج الشريعة الإسلامية في سياستها نحو المسئولية الجنائية.
وبداية نستطيع أن نقول إن مشكلة الحرية والحديث حولها , إنما هي مشكلة مزمنة , تعد من أقدم المشكلات الفلسفية والتي طالما احتدم حولها الصراع المذهبي , ( فقد واجهت الباحثين من قديم الزمان , ومازالت تؤرق كل المفكرين حتى اليوم ... إن هذه الإشكالية هي قفل الميتافيزيقيا الذي علاه الصدأ من كل جانب )(1)
ومفهوم الحرية الذي يدور كلامنا حوله هنا نعنى به ( تلك الخاصة التي تميز بها الكائن الناطق من حيث هو موجود عاقل يصدر في أفعاله عن إرادته هو لاعن إرادة أخرى خارجة عنه , ... والحرية بحسب معناها الاشتقاق . عبارة عن انعدام التعسر الخارجي .وقد أصطلح التقليد الفلسفي على تعريف الحرية بأنها : اختيار الفعل عن روية مع استطاعة فاعله عدم اختياره )(2)
ومفهوم الحرية يعتبر من أكثر المفاهيم ثراءاً من حيث دلالاتها اللغوية .مما يمكننا من التميز بين نوعين من الحرية :
1- ( حرية التنفيذ : وهى تلك المقدرة على الفعل أو الإمتاع عنه دون الخضوع لأي ضغط خارجي . فهي قدرة على المباد أه مع انعدام كل قسر خارجي.
2- حرية التصميم : وهى عبارة عن ملكة الاختيار . أي القدرة على تحقيق( اختيار ) الفعل دون الخضوع لتأثير قوى باطنه ـ سواء كانت تلك القوى ذات طابع عقلي كالبواعث والمبررات , أم ذات طابع وجداني , كالدوافع ولأهواء)(3)
.
__________
(1) نقد المذهب المعاصرة دكتور / إبراهيم مصطفي إبراهيم دار الوفاء الإسكندرية صـ 112
(2) المرجع السابق وانظر كذلك مشكلة الحرية . د/ زكريا إبراهيم صـ 22
(3) مشكلة الحرية . د/ زكريا إبراهيم صـ22(1/31)
وبعد أن عرفنا طبيعة البحث الذي ندور حوله , ومفهوم الحرية , وخطورة هذا المفهوم ومدى الصراع الذي وقع فيه الفلاسفة حول هذا المفهوم نقوم في السطور التالية لعرض رأى أهم المدارس الفلسفية ومدى تأثيرها وفاعليتها في النظم القانونية ,
لقد انقسمت أراء الفلاسفة الغربيين حول مفهوم الحرية إلى عدة اتجاهات . بين مؤيد ومعارض للإقرار بأن للإنسان حرية في صنع ما يريد . وهذه الاتجاهات .
أولاً : المذهب التقليدي – (القائل بحرية الاختيار )
ذهب أصحاب هذا المذهب التقليدي – ( المدرسة التقليدية .) إلى أساس المسئولية هو حرية الاختيار , فعندما يأتي الإنسان الفعل حراً مختاراًُ وتكون لديه القدرة على اختيار الفعل وإيتانه يكون بذلك مؤهلاً لتحمل المسئولية وإذا أتى ما يخالف القانون فإنه يساءل آنذاك .
فلقد ذهب أقطاب المدرسة التقليدية إلى القول ( بأن جميع الناس لهم حرية الاختيار بين الخير والشر بين الإحجام عن ارتكاب الجريمة والأقدام على ارتكابها . ولا تفاوت في حرية الاختيار , فمن الواجب إذا المساواة في العقوبة بينهم جميعاً(1)
فأصحاب هذا المذهب التقليدي تتمثل نظرتيهم هذه في نقطتين :
الأولى : أن الإنسان لديه حرية مطلقة في الاختيار ولديه مؤهلات تؤهله لهذا الأمر .
الثانية : أن هذه الحرية الموجودة لدى الإنسان حين قدومه على فعل معين إنما هي ( حرية متساوية عند جميع الأشخاص ولذا وجبت المساواة التامة في مدى المسئولية بين جميع الجناة عندما يكونون كاملي الإدراك ) ... .(2)
__________
(1) انظر في ذلك / حق الدولة في العقاب د/ مصطفي عبد الفتاح الصيفي ط2 سنة 1985 دار النهضة صـ 54
(2) التيسير والتخيير د/ رؤف عبيد دار الفكر العربي صـ 260(1/32)
وهذا القول – الذي ذهب إليه أنصار هذه المدرسة – بناءاً عليه لا تعترف هذه المدرسة بمبدأ تفريد العقوبة والذي نادت به القوانين الوضعية المعاصرة . فهي لم تغاير في المعاملة بين جانٍ وآخر بحسب ظروف كل منهما .
وإنما أرادت هذه المدرسة تطبيق مبدأ المساواة في كل شئ بين الجناة حتى لو كانت العوامل النفسية والدوافع والميول والتأثيرات الخارجية مختلفة من فرد إلى آخر فكل هذه المؤثرات لم تكن ذات أثر لتغير العقوبة والمسئولية من فرد إلى آخر فسوت بذلك بين اللامتساوين مما أدى إلى عدم تحقيق العدالة التي كانت تنشدها هذه المدرسة الفلسفية .
ولعل السر الذي دفع هؤلاء الفلاسفة وحداهم إلى هذا القول . يكمن في الظروف التي نشأت فيها هذه المدرسة والمناخ الذي ظهرت فيه.
(ففي العصر الحديث . برزت في الحضارة القانونية الأوربية هذه المدرسة الفلسفية والتي عرفت في تاريخ الفقه العقابي بالمدرسة الكلاسية أو التقليدية وكان الزعيم لهذه المدرسة هو الفيلسوف شيرازى بيكاريا )(1)* في إيطاليا وظهر كذلك جريمى بنتام(2)في إنجلترا وكذلك فويرباخ (3) في ألمانيا ...
وفى ذلك الوقت الذي بدأت المدرسة التقليدية في الظهور إنما أرادت ( أن تتفادى التعسف الذي وقع فبه القضاة(3)وذلك بما أعطوا من حرية لمساءلة الجاني وإيقاع عقوبة عليه ولو لم يكن منصوص عليها من قبل فوقعت في الطرف المقابل مما كان يفعله القضاة .
__________
(1) انظر في ذلك القانون الجنائي علي راشد . دار النهضة سنة 1974 صـ 25
* التعريف بـ شيرازكاريا هو : (
(2) جيرمي بنتام سبق تعريفه
(3) فو برباخ : هو (
(3) لقد اعتمدت في كتابة هذه الفقرة ز من عدة كتب 1- المسئولية والجزاء علي عبد الواحد وكذلك النظرية العامة
للجزاء الجنائي أحمد عوض بلال دار النهضة صـ 995 وكذلك(1/33)
ومن خلال عرضنا لرأى أصحاب المدرسة التقليدية في حرية الاختيار وجعلها أساساً تنهض عليه المسئولية الجنائية . ندرك أنها بالضرورة لا تؤمن بـ (ضرورة التسليم بأن هذه المسؤولية تنتفي كل مرة لا يتحقق فيها لمرتكب الجريمة حرية الاختيار , أيا كان سبب عدم تحقيقها ).(1)
وهذه المدرسة الفكرية ذات العمق الفلسفي كان لها كبير الأثر في تحويل الفكر الأوروبي من حالة قديمة إلى هيئة أخرى . فتأثر بها ( القانون الفرنسي الصادر سنه 1791م ...
وكذلك تأثر بها تقنين نابليون الصادر سنه 1810م ...
وأثرت هذه المدرسة أيضاً في الشرائع التي وضعت بعد الثورة الفرنسية في كافة أنحاء أوربا) .(2)
المدرسة التقليدية الحديثة :
تجعل هذه المدرسة حرية الاختيار أساساً من أسس المسئولية الجنائية كما ذهب إلى ذلك أنصار المدرسة التقليدية القديمة , غير أن أقطاب هذه المدرسة كان لهم انتقادات وجهت إلى المدرسة الأولى فكان بناءاً عليها أنها ( لم تسو بين جميع الناس أمام مبدأ حرية الاختيار والمساواة فيه – فأعلن زعماؤها أن للحرية عدة درجات تختلف من حيث الكم ومن شخص إلى آخر , بل وتختلف في الفرد نفسه من وقت إلى آخر , وعلى هذا تكون المسئولية كاملة إذا أتيح للجاني ( التمتع بحرية اختيار كاملة , بينما تنقص ( المسئولية ) بقدر تناسب ونقصان هذه الحرية . وتبرير ذلك لدى أقطاب المدرسة وفلا سفتها : أنه إذا كان مناط المسئولية هو مقدرة الفرد على مقاومة الدوافع الشريرة التي تحيط به فتغريه بارتكاب الجريمة .
وهذه المقدرة تتفاوت من شخص إلى آخر , تفاوتها بالنسبة لنفس الشخص من وقت لأخر(3)
__________
(1) حق الدولة في العقاب / د. مصطفي عبد الفتاح الصيفي صـ 58
(2) في التيسير والتخيير . د رؤف عبيد صـ 260 بتصرف شديد
(3) حق الدولة في العقاب / مصطفي الصيفي صـ 58(1/34)
ولقد قامت أفكار هذه المدرسة بناءاً على فكرة العدالة آتى نادى بها كانت الألماني ( فلقد نادى بمبدأ العدالة المطلق كأساس وهدف للعقوبة فتقرير العقوبة ليس وسيلة لتحقيق منفعة , بل هو فقط تطبيق لجزاء عادل(1)..
إلا أنه لم يقم فكر هذه المدرسة على فكرة العدالة المطلقة التي نادى بها كانت وحدها . وإنما على فكرة أخرى معها وهى فكرة المصلحة الاجتماعية
( فزاوجت المدرسة بين فكرتي العدالة التي نادي بها كانت فلا يجب أن تتعدى المسئولية والعقوبة ما تتطلبه العدالة ولا أن تتجاوز ما تقضيه المصلحة الاجتماعية(2)
والخلاصة أن أراء هذه المدرسة ( التقليدية الحديثة ) تتفق مع أراء المدرسة التقليدية الأولى في القول بأن أساس المسئولية الجنائية هو حرية الاختيار الموجود لدى الإنسان غير أن أصحاب المدرسة التقليدية الأولى جعلوا هذه الحرية متساوية في كل الأفراد مادام أنه تثبت فيهم حرية الاختيار ولا تراعى للمؤثرات بينما نجد أصحاب المدرسة التقليدية الحديثة يراعون الفروق الناتجة عن المؤثرات الداخلية والخارجية على الإنسان.
ثانياً : المدرسة الوضعية : ( القائلون بالجبر )
. تحدثنا فيما سبق ( في الفصل الأول .) عن الظروف التي نشأت فيها المدرسة الوضعية , وتحدثنا عن أشهر ممثليها .ونضيف هنا , أن الفكر الوضعي لم تظهر أفكاره فجأة في تاريخ الفكر الإنساني بل سبقها ومهدت لها دراسات طويلة ... وعوامل عديدة فمن عوامل نشأت هذه المدرسة ( أنها ترجع أساساً ألي ما لوحظ من عدم فاعلية النظام الجنائي القائم حينئذ, وضعف أثره في مكافحة ظاهرة الإجرام.
وقد أورث ذلك أزمة في المذاهب المجردة الميتافيزيقية . في الوقت الذي بدأ فيه تطبيق منهج الملاحظة والتجربة في دراسة السلوك الإنساني , وبخاصة الحياة النفسية ,
__________
(1) الحقيقة بين الفلسفة العامة والإسلامية د/ هلالي عبد اللاه أحمد ط1 .- دار النهضة : 1987 صـ 642
(2) المرجع السابق صـ 643 بتصرف شديد(1/35)
كما بدأت تظهر دراسات جديدة في العلوم الاجتماعية تعتمد على الدراسة الإحصائية للظواهر الاجتماعية .)(1)
هذه هي أهم العوامل التي أدت إلى ظهور المدرسة الوضعية , لنبدأ الآن في عرض أراء هذه المدرسة وأشهر القائلين بها . والآثار المترتبة على رأيها ..
1- تأسيس المذهب :
يعتبر العالم الفيلسوف الفرنسي أوجست كونت واحداً من أشهر بل وأول المؤسسيين للمدرسة الوضعية ( وقوام هذه الفلسفة الوضعية أنها تقوم على :ـ
أ ـ إنكار المبادئ أو القوانين المطلقة المسلم بها سلفاً
ب ـ الاعتماد في استخلاص الحقائق على مشاهدة الوقائع وترابطها وعلى التجربة الواقعية باستخدام الحواس , وفى عبارة أخرى – العبرة بالعلم التجريبي لا بالاجتهاد العقلي )(2)
وبناءاً على هذه الأسس التي وضعتها المدرسة الوضعية في معرفة الحقائق العلمية أننا إذا أردنا أن نتعرف على حقيقة في النفس الإنسانية أو متعلق بها فلا يجدي في هذه المعرفة علم النفس , بل لابد من دراسة ( علم وظائف الأعضاء في الجسم أما علم النفس . فلا بد جدوى منه في هذا المجال , ... ..
وعلى كل حال فإن هذه المدرسة تتضمن الدعوة إلى استخدام العلم التجريبي والطريقة الاستقرائية , وليس مجرد العقل والاجتهاد الاستنباطي لكشف الحقائق(3)
2 ـ أساس المسئولية الجنائية لدى المدرسة الوضعية :
__________
(1) في التيسير والتخير / رؤوف عبيد صـ 273 ، 274 دار الفكر العربي بتصرف
(2) القانون الجنائي . المدخل وأصول النظرية العامة ط2 سنة 1974 د/ علي راشد دار النهضة صـ 36
(3) القانون الجنائي / علي راشد مرجع سابق صـ 36 بتصرف(1/36)
من أهم الركائز التي تقوم عليها هذه المدرسة أنها المدرسة أنها لا تؤمن بحرية الاختيار لدى الإنسان واعتباره مسئولاً على تلك الحرية التي أثبتها له المدرستان السابقتان, فهي تقوم على مبدأ جبرية الإنسان . فالإنسان مسير في نظرها وليس مخير ( فكل نشاط يصدر عن الإنسان هو نتيجة حتمية لعوامل خارجية وعوامل داخلية , فما القول بحرية الاختيار إلا وهماً شخصياً يكذبه الواقع العضوي والنفسي ،ومحاولة للهروب من التعمق في دراسة أسباب الجريمة بإلقاء اللوم كله على الجاني .(1)
بذلك أنكرت المدرسة الوضعية حرية الاختيار لدى الإنسان . محددة موقفها من مبدأ الحرية , فأعلنت إيمانها بالجبرية ورفضها لمبدأ الحرية .
3 ـ الآثار المترتبة على قول المدرسة الموضعية بالجبرية .
أ ويترتب على إنكار حرية الاختيار . إنكار المسئولية الجنائية في صورتها التقليدية والاستعاضة عنها بما يمكن تسميته بالمسئولية الاجتماعية التي لا يلزم تبريرها اللجوء إلى مبدأ ميتا فيزيقي (غيبي ) كالاعتقاد في الإرادة الحرة والاختيار(2).. فلا مسئولية على المجرم وإلا كان هناك تعرض بين كونه مسئولاً جنائياً أو أخلاقياً وبناءاً على ذلك أعلنوا أنها مسئولية اجتماعية فهي مجرد وسيلة لدفاع المجتمع عن نفسه ضد خطر يهدده بوقوع جريمة أخرى مستقبلاً من نفس المجرم أومن غيره .
ب- ويترتب على ما سبق بيانه بشأن جبرية الإنسان وعدم حريته أن مساءلة الإنسان ليست ذات جدوى , وليس لها أثر في التربية والتهذيب ولا يؤمل من الشخص المجرم أن يتحول عن إجرامه الذي هو عليه لما لديه من صفات وراثية إذن فليس لقيمة التربية والرسل والمصلحين شأن ولا أثر في إصلاح الفساد .
__________
(1) الحقيقة بين الفلسفة العامة والإسلامية / هلالي عبد اللاه صـ 656 سابق
(2) انظر في ذلك المصدر السابق صـ 657 . وكذلك : حق الدولة في العقاب/ مصطفي عبد الفتاح الصيفي صـ 71 ، 72 بتصرف(1/37)
4ـ آثار المدرسة على الفكر البشرى .
ما من شك أن هذه المدرسة تأثرت بها النظم البشرية والقوانين الوضعية في بعض قوانينها . فمما تأثرت بآراء هذه المدرسة النظريتين الشهريتين في الفكر الغربي الحديث والمعاصر . , الدار وانية والماركسية .
( ومما يجب الإقرار به أن هذه الفلسفة هي التي أوحت إلى ( تشارلس دارون ) باستخدام الأسلوب العلمي في دراسته لأصل الأنواع وبناء نظرية النشوء والارتقاء .والى( كارل ماركس ) بتطبيق الأسلوب الاستقرائي في دراسة تطور المجتمعات .. وبناء نظريته في الاشتراكية(1)
فهذه هي الآراء البشرية وما انتهت إليه النظم البشرية من حديثها حول حرية الإرادة فانقسمت الآراء بين قائل بالحرية وبين قائل بالجبرية وكان لكلا الرأيين أثر في النظم والقوانين التي وضعتها الأفكار البشرية .
__________
(1) القانون الجنائي المدخل وأصول النظرية العامة ج2 سنة 1974 دار النهضة العربية / د. علي راشد صـ 37(1/38)
المطلب الرابع
مقارنة الجوانب الأخلاقية في أسس المسئولية الجنائية بين الإسلام والنظم الأخرى
تمهيد :
سبق أن تحدثت عن أسس المسئولية الجنائية في الإسلام والنظم الأخرى وعرضنا بالتفصيل لهذه الأسس التي تنهض عليها المسئولية الجنائية في كلا النظامين ، وفي السطور القادمة بقى علينا أن نبرز الخصائص التي يمتاز بها أحد الاتجاهين عن الأخر ، وكلا النظامين عن الثاني،
ومعلوم أن الشريعة الإسلامية كان لها فضل السبق في الاتصاف بهذه الأسس ولقد أقرت بها منذ وقت طويل..، وفي تلك الآونة التي ارتقت فيها الشريعة الإسلامية منذ نزولها ..كانت النظم الوضعية ليس لديها أدنى معرفة عن مثل هذه الأسس والجوانب الأخلاقية ... ونهاية نستطيع أن نقول إن الجوانب الأخلاقية ، والمميزات والخصائص التي تمتاز بها الأسس التي يتم عليها المسئولية الجنائية في الشرع الإسلامي ..واضحة المعالم نستطيع أن ندركها في عدة نقاط. :
أولاً : سبق الشريعة الإسلامية للنظم الوضعية والقوانين البشرية في وضع الأسس آلتي تنهض عليها المسئولية الجنائية، فلم تنشأ الشريعة الإسلامية يوم نشأت ناقصة، أو وليده صغيره، ثم نمت وكبرت واكتملت بعد ذلك ، وإنما كانت الشريعة يوم كانت كاملة غير ناقصة .
وهذه الأسس التي وضعتها الشريعة الإسلامية إنما راعت بها ومن خلالها النفس البشرية . وما بها من ضعف فكان التشريع موائما لحالات الضعف التي تنطوي عليها النفس البشرية منذ أول الأمر ، منذ أول يوم نزلت فيه الرسالة واكتمل فيه التشريع .
قلم يظل التشريع الإسلامي عدة قرون في تطور مستمر حتى يصل إلي الصورة التي هو عليها الآن ، وإنما كان الوصول إلي الصورة التي بين أيدينا الآن عن طريق تكليف الله تعالى إلي عباده . بما أمر ونهي متفضلا عليهم بمراعاة أحوالهم ،(1/1)
فقال تعالى : { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }(1)
والكلام في الآية الكريمة ( جملة مستأنفة سبقت منه تعالى بعد تلقيهم لتكاليفه سبحانه بالطاعة والقبول . بما عليهم في ضمن التكليف من محاسن أثار الفضل والرحمة ابتداء لا بعد السؤال )(2).
وهذا النص السابق يعطى لنا خاصية أخرى وقيمة أخلاقية كبرى للشريعة الإسلامية في وضعها أسس المسئولية بهذه الصور المثالية الرائعة .
فكانت هذه الأسس الموضوعة إنما هي موضوعةً ابتداءاً منذ أن كانت الشريعة الإسلامية ولم تكن وليدة التجارب البشرية. وعلى العكس من نشأة الشريعة كانت نشأة القوانين والنظم الوضعية ففي العصر الحاضر والوقت الذي نحياه الآن يكاد يقترب القانون الوضعي والتفكير البشرى ، من منهج الشريعة الإسلامية .
__________
(1) البقرة آية 286
(2) روح المعاني / أبي الفضل شهاب الدين محمود الألوسى . ج3 ص69 دار التراث –
المركز الإسلامي للطباعة والنشر .(1/2)
وإنما نقول يكاد يقترب .( ولم نقل وصلت إلي ما وصلت إليه الشريعة ) فما زال بينهما بون شاسع وفرق كبير ... وبنظرة تاريخية إلي الحالة التي كانت تعيشها الأمم الماضية في الأزمان الغابرة نجد أن مسألة الأسس التي تنهض عليها المسئولية الجنائية ، لم تكن معروفة لدى تلك الشعوب ، ولم تصل الشعوب إلي درجة تنظير هذه الأسس ، فلم تكن وصلت إلي درجة العمل ولا درجة النظرية والتخمين الفكري .... ثم تدرج الفكر البشرى شيئاً فشيئاً حتى صار وتحول إلي الصورة التي هو عليها الآن .( إذن كان القانون يتطور بتطور الجماعة فتزداد قواعده ، وتتسامى نظرياته كلما ازدادت حاجات الجماعة وتنوعت . وكلما تقدمت الجماعة في تفكيرها وعلومها وآدابها . فالقانون الوضعي كالوليد ينشأ صغيراً ضعيفاً ثم ينمو ويقوى شيئاً فشيئاً حتى يبلغ أشده ، وهو يسرع في التطور والنمو والسمو كلما تطورت الجماعة التي يحكمها وأخذت بخطي الرقى والسمو ،
ويبطئ في تطوره ونموه كلما كانت الجماعة بطيئة النمو والتطور ، فالجماعة إذن هي التي تخلق القانون الوضعي وتصنعه على الوجهة الذي يسد حاجاتها وينظم حياتها ، وهو تابع لها وتقدمه مرتبط بتقدمها )(1)0
هذه هي نشأة القانون ، وأما الشريعة الإسلامية ( لم تنشأ هذه النشأة ولم تسير في هذا الطريق ، لم تكن الشريعة قواعد قليلة ثم كثرت، ولا مبادئ متفرقة ثم تجمعت ، ولا نظريات أولية ثم تهذبت ، ولم تولد الشريعة طفلة مع الجماعة الإسلامية ثم سايرت تطورها ونموها ، وإنما ولدت شابة مكتملة ونزلت من عند الله سبحانه وتعالى شريعة كاملة شاملة جامعه مانعة(2)
قال الله تعالى :
{
__________
(1) التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي ج1 ص14 عبد القادر عودة الرسالة
(2) المرجع السابق ص15(1/3)
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً }(1)0
فإذا كانت أسس المسئولية الجنائية واحدة من
( النظريات والمبادئ التي يباهي بها العصر الحديث ، وتزهي بها فلسفات القانون وأنظمته ،فإن الشريعة الإسلامية كان لها فضل السبق في ذلك كله فهي التي أرست قواعدها ،وقامت بذلك تطبيقا وفقهاً وتشريعاً وقضاءاً )(2)
ولقد حفل تاريخ الشريعة الغراء بذلك ... ( فالدليل إذن على توفير هذه المميزات هو الواقع الذي لا يكذب، وليس بعد منطق الواقع حاجة لدليل أو استدلال )(3)0
0 ثانياً : قوة الأسس الإسلامية وكمالها وضعف الأسس البشرية الوضعية وعجزها
ذكرت فيما سبق أن من أسس المسئولية الجنائية في الشريعة الإسلامية – العلم بالحكم . وكذلك هو أحد الأسس في النظم الوضعية في الوقت الحالي .. فلا تنهض المسئولية الجنائية إلا على هذا الأساس – مع الأسس المذكورة الأخرى وسبق الحديث تفصيلاً عن ذلك بما يغنى عن الإعادة هنا 0
ولكنه إذا ما كانت الشريعة والنظم البشرية يقرران هذا الأساس كشرط للمسئولية الجنائية . إذاً فما الفارق بين الاثنين وما وجه تميز الشريعة الإسلامية على النظم الوضعية في ذلك ؟
__________
(1) سورة المائدة آية رقم (3) جزء منها
(2) شريعة الإسلام صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان د/ يوسف القرضاوى ص58 وهبه
(3) التشريع الجنائى ج1 ص25(1/4)
وفي هذا الشأن يحسن بنا أن نذكّر مرة أخرى ( حتى يتبين لنا الفارق ) بمصدر الإلزام في الاتجاهين – فالإتجاه الإسلامي يذكر أن مصدر الإلزام هو المشرع الحكيم – العليم الذي لا تخفي عليه خافية ..، والفكر الوضعي يذهب في أغلب اتجاهاته إلي أن مصدر الإلزام هو العقل أو اللذة أو الضمير – وكل هذه الثلاثة بالطبع تعتمد اعتمادا رئيسياً على العقل وحتى هؤلاء الذين نادوا بأن مصدر الإلزام سلطة خارجية عن الإنسان وهي المجتمع ... فإن رأيهم هذا لم ينف دور العقل الفردي في التوجيه وإصدار الحكم وإن كانوا قد غلّبوا العقل الجمعي على العقل الفردي .
نهاية ... نود أن نشير إلي المصدر الذي اعتمده كلا الاتجاهين – الإسلامي – والوضعي . وهذا له أهمية كبرى في محل بحثاً هذا .
ففي الشريعة المصدر الملزم هو المشرع الحكيم .... وفي النظم البشرية .. العقل هو الهادي ومصدر الإلزام وهذا الأمر ينطبق على الأساس الذي نتحدث عنه وهو العلم بالحكم . والسؤال هو ما هو مصدر العلم في كلا الاتجاهين .؟
ومن خلال الإجابة على هذا السؤال يتضح لنا الصلة بين العنوان الذي صدرنا به الموضوع وبين مصدرية العلم بالحكم .. فمصدر العلم بالحكم في الشريعة – أي الجهة التي يصدر عنها الحكم بأن هذا حلال أم حرام – هو سبحانه وتعالى . فليس لأحد إصدار حكم بالتحريم أو التحليل إلا الله سبحانه وتعالى ،(1/5)
وفي كون الأساس ( الإعلام بالحكم) صادراً عن الله تعالى فإن ذلك فيه جوانب أخلاقية عالية . وقيم رفيعة – ومميزات جمة عظيمة امتازت بها الشريعة الإسلامية سبق أن تحدثت عن بعضها عن بعض الجوانب(1)كتحقيق قيمة العدل . والرحمة . وهنا أيضا تبرز قيمة العدالة أكثر وضوحاً،فمعلوم أنه على قدر ا(2)لإحاطة والعلم بالشيء أو عدم ذلك يكون مدى موافقة الحق والصواب في المسألة أو عدم موافقة الحق والصواب ، والله سبحانه وتعالى متصف بكل كمال مطلق ، وعلمه بالأشياء والكائنات وما كان وما يكون ، وما هو كائن إنما هو متحقق ،لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض .علمه مطلق كامل شامل أزلي , ولا أدل على ذلك من واقع التشريع الذي شرعه سبحانه وتعالى لعباده وارتضاه لهم، وليس أحد أعلم بما تصلح به النفس البشرية كباريها سبحانه وتعالى ،
فقال عز وجل . { ِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى }(3).
ونستطيع أن نقول إن من المميزات الأخلاقية التي تمتاز بها الشريعة الإسلامية في أساس المسئولية هو ( العلم الكامل الشامل المحقق للعدل والرحمة ، والمصلحة والحكمة ، المبرأ من النقائص كالظلم ، والخطأ ، والهوى والمحاباة والنسيان والباطل بوجه عام – ونحو ذلك من الصفات التي لا يستطيع البشر في أنظمتهم البشرية – أن ينجو أو يتخلصوا منها حين يستقلون بتشريعات من عند أنفسهم – بمعزل عن هداية الوحي الإلهي(4)
قال تعالى : في وصف تشريعه { صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ }(5)
__________
(1) انظر الفصل الثاني صـ58، 59
(3) سورة النجم آية رقم (32)
(2) انظر في ذلك . حقوق الإنسان بين الشريعة والقانون ( كتاب الأمة – ع 88 لسنة22 ص117
(5) سورة البقرة آية رقم 138 .(1/6)
وقال تعالى : في نفي الخطأ والنسيان عن تشريعه { قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى }(1)
قال الحافظ ابن كثير ( أي لا يشذ عنه شئ ولا يفوته صغير ولا كبير ، ولا ينسى شيئاً ، يصف علمه تعالى بأنه بكل ششيءٍ محيط وأنه لا ينسى شيئاً ،تبارك وتعالى وتقدس وتنزه فإن علم المخلوق يعتريه نقصين أحدهما عدم الإحاطة بالشيء . والأخر نسيانه بعد علمه فتنزه نفسه عن ذلك 5) وقال في نفي الظلم وتحقيق العدل في تشريعاته { وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ } (غافر 31)
وقال تعالى مبيناً أن الحياة في صورها المثلى إنما هي منهاجه وشريعته
{ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً }(2)
وعلى ذلك فلا يتصور في أنظمة الإسلام – ومنها النظام الجنائي – أن يداخلها أو يتلبس بها شئ من النقائص التي عددناها، والتي تقترن بالأنظمة البشرية بوجه عام ( ومنها المسئولية الجنائية ) نظراً لقصور العقل البشرى عن بلوغ الكمال فلقد اكتفت النظم الوضعية _ كما بينا سابقاً – بالعقل وآمنت به وعلت به إلي درجة التقديس والتأليه ، ففيه الغنية الكاملة لأن يكون مصدراً للإلزام بناءاً على ذلك هو مصدر الحكم والتوجيه وإصدار القرار فيما يحل وفيما يحرم .
__________
(1) سورة طه آية رقم (52)
(5) تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج3 صـ 151
(2) سورة الإسراء جزء من الآية رقم (9)(1/7)
نعم .. لقد اتفقت النظم الوضعية أخيراً مع الشريعة الإسلامية على هذا الشرط كأساس للمسئولية الجنائية ولكنه بقيت نقطة جوهرية وعامل أ ساسي يظل بمثابة خط الفيصل والحد الثابت بين الشريعة الإسلامية والنظم الوضعية وهو أن مصدر التوجيه والإعلام وإصدار الأحكام ليس هو العقل وإنما هو الوحي السماوي ( فإن عقل الإنسان مهما كانت قوته ومهم تعددت ملكاته واتسعت آفاقه لا يستطيع أن يقوى وحده على تحمل مسئولية التكاليف التي كلف الله عز وجل بها الإنسان وذلك لما يكتنفه من غرائز وما يحوط به من عواطف ومشاعر وما يتأثر به من عوامل بيئية ونفسية . وما يراد عليه من ثقافات وأفكار ... كل ذلك يؤثر في قوى العقل ومداركه ويجعله يميل مره يمنة ومرات يسره )(1)
__________
(1) المسئولية والجزاء – د/ محمد إبراهيم الشافعي رسالة دكتوراه ص235 ط1 سنة 1982(1/8)
ولقد رأينا كيف كانت انحرافات النظم الوضعية في تطبيق هذا الأساس وجعله شرط لأهلية الإنسان للمسئولية الجنائية(1)ويقول الدكتور بيصار مؤكداً طبيعة العقل البشرى وأنه غير قادر للنهوض بهذا الأساس العظيم – والذي قامت به الشريعة الإسلامية ( غير أن العقل مهما بلغت الثقة به محدود الطاقات والملكات فلا يدخل في دائرة إمكانه إذن إدراك كل شئ ، أو الحكم على جميع الأشياء بما يميز حقيقتها من زائفها أو على جميع العقائد بما يبين صحيحها من فاسدها .. إنه مهما أتى من مقدرة على الاستيعاب والإدراك والإحاطة بأطراف المسائل وتكيفها على ضوء ما يلابسها من خواطر خارجية أو خواطر باطنية فسيظل بعيداً عن تناول كثير من الحقائق بل بمنأى عن أكثرها استعصاءاً على الفهم، وأغمضها سراً وسيكون هذا وذاك , بل كان هذا وذاك فعلاً ، وعلى ضوء ما يجرى في تاريخ الفكر الإنساني ، مدعاة لوقوعه في كثير من الأخطاء ، وركوبه متن العديد من الأخطار)(2)
ثالثا : الجوانب الأخلاقية في حرية الاختيار ( كأساس من أسس المسئولية الجنائية )
لقد سبق أن تحدثت عن موقف الشريعة الإسلامية وبيان رأيها في مسألة حرية الاختيار كأساس من أسس المسئولية الجنائية ، ثم أردفنا ذلك بالحديث عن بيان رأي النظم الوضعية في هذه المسألة وخرجنا من ذلك بنتيجة وهي اختلاف النظم الوضعية والمدارس الفلسفية بعضها عن بعض في هذه المسألة بين قائل بحرية الاختيار وإثباتها للإنسان على جهة الإطلاق والتسوية وذلك ممثل في المدرس التقليدية الأولي , وبين قائل ثان يقول بحرية الاختيار ولكن هذه الحرية ليست متساوية لدي كل الأفراد , وإنما تختلف من شخص إلي آخر بحسب المؤثرات الخارجية والعوامل النفسية , والعواطف والميول ,
__________
(1) 3 ) انظر صـ من الفصل الثاني في الرسالة
(2) العقيدة والأخلاق وأثرها في حياة الفرد والمجتمع د/ محمد بيصار ط4 سنة 1973 ص59(1/9)
وهذه هي المدارسة التقليدية الحديثة . وبين قائل ثالث يقول بانتفاء حرية الاختيار والقول بهذه الحرية هو ضرب من الوهم والخيال , وإنما الإنسان مجبور ومسير وليس له أدني حرية في اختيار الأفعال التي يأتيها , وأصحاب هذا الرأي هم أقطاب المدرسة الوضعية ولقد سبق الكلام تفصيلاً عن الآراء جميعاً
والآن مع بيان الجوانب الأخلاقية بين الشرعية الإسلامية والنظم الوضعية في مسألة حرية الاختبار – كأساس للمسئولية الجنائية – وتستطيع أن نتدرج الجوانب الأخلاقية في هذا الموضع – في التقاط التالية
1- وسطية الشريعة الإسلامية – في حرية الاختيار – وموافقتها للفطرة البشرية أدركنا من خلال بعض الجوانب الأخلاقية السابقة التي تميزت بها الشريعة الإسلامية أنها قد تميزت بسبقها كل النظم الوضعية في الوصول إلي الحقيقة – وذلك منذ أول يوم كانت فيه الشريعة الإسلامية , وهذا أمر واضح , وخاصةً فيما يتعلق بموضوع حرية الاختيار وما دار حوله من جدل فلسفي , فلقد ظهرت مذاهب فلسفية تؤيد اتجاهاً معيناًً ونحت به إلي أقصى اليمين , وظهرت مدرسة فلسفية أخرى تؤيد اتجاهاً فلسفياً آخر ومالت به إلي أقصي اليسار وكانت هناك مدراسة ثالثة أخذت خطاً وسطياً كادت أن تقترب في سيرها من خط السير الذي ركبته الشريعة الإسلامية , إلا أنها لم تستطع أن تواكب الشريعة فكرياً وحركياً ، بينما نجد المدرستين الآخرين كانتا عاجزتين عن بلوغ أصول المعرفة الحقة في هذا الشأن الفكرى الغامض .(1/10)
* ونحن عندما نقف أمام الجوانب الأخلاقية التي أرستها الشريعة الإسلامية نجد هذه الجوانب ثابتة منذ أول يوم كانت فيه الشريعة الغراء ، هذا من جانب، ومن زاوية أخرى نجد أن الشريعة عندما تكلمت عن حرية الإرادة نجد وضوحاً وتكاملاً ووسطية، وتوافق فطرى لم تصل إليه مفاهيم الفلسفات التي تصدت للحرية حتى الآن مع ارتقاء العقل البشرى إلي مرحلة الرجولة والرشد، فما زال الفكر الوضعي مضطرباً في هذه المسألة الشائكة، والوسطية التي انتهجتها الشريعة الإسلامية في حرية الاختيار ( والتي هي أخص خصائص المنهج الإسلامي ) ( لقد نبعت وتنبع من وسطية مكانة هذا الإنسان في هذا الوجود فلا هو سيد هذا الوجود حتى تكون حريته مطلقه فيه – ولا هو المتلاشي الذي لا خلاص له إلا بالفناء في الكل أو المطلق حتى يكون الجبر المطلق هو قدرة في هذا الميدان، وإنما هو الخليفة الذي استخلفه الله لحمل أمانة الحرية والاختيار، حتى يصح تكليفه بتبعات حملها، وحتى يكون حسابه وجزاؤه على ما قدمت يداه عدلاً لائقاً بذات العدل – سبحانه وتعالى فلابد لذلك أن يكون حراً مختاراً ، ولكنها حرية واختيار الخليفة – المحكوم بالنظام الأعظم الذي خلقه خالق هذا الوجود . فهي الحرية الوسط – والاختيار الوسط بين (مطلق الجبر) وبين (مطلق الاختيار) وبهذا المعيار نستطيع أن نزن قدر الحرية الإنسانية ، وبهذا المنظار يجب أن نرى آفاق الاختيار الإنساني في مختلف الميادين . فالفرد حر، الحرية التي لا تنفي ولا تنفض حرية المجموع، والجماعة حرة ، الحرية التي لا تحو الفرد إلي مسمار أصم في ترس الآلة الاجتماعية )(1)
__________
(1) معالم المنهج الإسلامي د/ محمد عمارة صـ90 دار الرشاد ط3 سنة 1418 ، سنة 1998(1/11)
هذا هو المنهج الذي سارت عليه الشريعة الإسلامية في فهمها لحرية الإرادة واختيارها كأساس للمسئولية الجنائية ، وها هي نظرة الشريعة في الحرية والجبرية ( فهي حرية الخليفة المحكومة – في الفاعلية والنطاق – بالقدرة والاستطاعة التي ركبها الخالق الأعظم في هذا الإنسان – وبنطاق وحدود وآفاق عهد الإنابة والتوكل والاستخلاف .فهو لن يستطيع تجاوز نطاق فعل القدرات المخلوقة له – كما لا تستطيع ذلك الأسباب المخلوقة في الطبيعة – ولا ينبغي لحريته أن تتجاوز بفعلة نطاق عهد الاستخلاف )(1)
ولقد سبق الحديث عن رأي الشريعة الإسلامية في مسألة حرية الاختيار وتم إيجازها في عناصر(2)وكان من ثمرات الوسطية التي انتهجتها الشريعة الإسلامية في مسألة حرية الاختيار تحقيق عدة فضائل خلقية كثيراً ما استفاد منها النظام الجنائي الإسلامي .بل وكانت من أهم خصائصه ومميزاته التي امتاز بها على النظم الوضعية . ومن هذه الجوانب الأخلاقية .
1- مراعاة الفطرة البشرية – ونفسية الجاني – حال ارتكاب الجريمة :
ونقصد بمراعاة الشريعة الإسلامية للفطرة البشرية هنا . أن الشريعة حين آمنت بالوسطية في حرية الاختيار – بمعنى أنها لم تقل بالحرية المطلقة ولا بالجبرية المطلقة .. فإنها بذلك اعترفت بحق الإنسان في الاختيار والتمييز، وأثبتت له القدرة والاستطاعة على ذلك ، وكان لزاماً عليها مادامت انتهجت الوسطية أن تؤمن كذلك بالجهة المقابلة – أي الجبر – فآمنت بأن الإنسان في بعض مواقفه مجبور ولكن إلي اي مدى تمتد هذه الجبرية في حياة الإنسان ؟
__________
(1) السابق صـ91
(2) أنظر صـ من الفصل الثاني .(1/12)
إنها جبرية غير مطلقة ، إنما هي جبرية في حدود ضيقة وحالات معينة اعترفت بها الشريعة الإسلامية ( وبهذه الوسطية الجامعة – قد اتخذت السبيل العدل في قضية (الجبر) و(الاختيار) ، فليس هناك (جبر مطلق ) وإلا إنعدمت الحكمة والتكليف ومبررات الحساب والجزاء ، وتساوى المؤمن والكافر والمحسن والمسيء .... وليس هناك اختيار مطلق ، وإلا لما كان الإنسان خليفة، ولما كانت حريته هي حرية الفعال لما يريد الذي لا تحد حريته آفاق الحلال والحرام ...)(1)
فأثبتت الشريعة الحرية للإنسان . ولكن هذه الحرية ليست مطلقة وإنما هي حرية محدودة بإمكانيات الإنسان . (وذلك لأن قدرته واستطاعته محدودة ولأن إرادته مخلوقة لله تعالى، وكذلك لأن الإرادة الحرة هي الأخرى حرة في حدود. فالخيال الذي يحركها محدود بحدود قدراته المخلوقة على التخيل. وهذه الإرادة عندما تختار فهي إنما تختار من بين بدائل ليست جميعاً من صنعك أنت. فاختيار حر، نعم . ولكنه أيضا محكوم بالبدائل القائمة، والتي تحدد نطاق وآفاق هذا الاختيار، بل إنك عندما تتخلق فيك هذه الإرادة الحرة . فهي إنما تتأثر وهي تتخلق بمكونات فيك ليست من خلقك ولا من ثمرات حريتك، وبعوامل وملابسات وظروف موضوعية تحيط بك وليست من صنعك )(2)وعلى الرغم من هذه الظروف والملابسات يستطيع الإنسان أن يختار وأن يكون حراً في اختياره.
__________
(1) معالج المنهج الإسلامي د/ محمد عمارة ص91 سابق
(2) معالج المنهج الإسلامي يتصرف ص29 سابق .(1/13)
هذا ما قصدناه بمراعاة الشريعة للفطرة البشرية، وذلك بخلاف ما ذهبت إليه المدارس الوضعية والنظم البشرية في لجاجها وخوضها معركة الحديث عن الحرية وإرادة الإنسان في الاختيار، فلقد ذهبت المدرسة التقليدية الأولى إلي أن الإنسان لدية حرية الاختيار حرية مطلقة ومتساوية لدى كل الناس أجمعين ومثلت المدرسة بذلك أحد طرفي النقيض للشريعة الإسلامية . ولقد ذهب أنصار المدرسة الوضعية إلي القول بالجبرية المطلقة وهي بذلك مثلت الطرف الثاني المناهض والمغاير لما ذهبت إلية الشريعة الإسلامية .
وكان توفيق المدرسة الحديثة.(أو التقليد الحديثة) بمثابة محاولة التقارب من خط سير الشريعة الإسلامية إلا أنها لم يكن لديها من المؤهلات ما ينهض بها للسير الدائم مع الشريعة الإسلامية – إلا أنه من الملاحظ من خلال رأي المدرسة الحديثة أن فكرها يتجه اتجاها يقربه من الشريعة الإسلامية. فيتخذ من الملامح ولو في شكله ما يقوى شبهه بنظام الإسلام... وذلك فقط من خلال اتفاقها مع الشريعة الإسلامية حين أثبتت للإنسان حرية الاختيار ولم تجعلها حرية مطلقة ولا متساوية كما ذهبت إلي ذلك المدرسة التقليدية الأولى وكذلك وافقت الشريعة الإسلامية حين راعت ظروف الجاني.
وقالت ( إن للحرية درجات تختلف من حيث الكم من شخص إلي آخر، بل صفي الفرد نفسه من وقت إلي آخر)(1)وذلك بحسب المؤثرات الخارجية والداخلية...وإذا كانت هذه هي النقطة الوحيدة التي التقت فيها النظم الوضعية مع الشريعة الإسلامية كأساس من أسس المسئولية الجنائية، إلا أنه مازال يوجد كبير فرق بين أرقى النظم الوضعية فكراً وبين الشريعة الإسلامية مما يجعل الشريعة الإسلامية تحظى على الدوام بالكمال والتمام ،
__________
(1) أنظر حق الدولة في العقاب د/ مصطفي عبد الفتاح الصيفي ط2 سنة 1985 ص57 دار النهضة(1/14)
وحين أقرت الشريعة الإسلامية بحرية الاختيار أقرت كذلك بالمؤثرات الخارجية والعوامل الداخلية التي قد تؤثر على سلوك الإنسان أو تدفع به إلي ارتكاب الجريمة. وقدرت لكل عامل من هذه العوامل قدره. فاعتبرت أن الإنسان يملك المؤهلات التي تؤهله للاختيار. ثم نبهت الشريعة الإسلامية الإنسان وحذرته من هذه العوامل التي تؤثر عليه أو تكون عاملاً مساعداً لارتكاب الجريمة..ثم تأمره لئلا يألوا جهداً في دفع هذه المؤثرات ودفع تلك العوامل فإن هو استطاع قهر هذه المؤثرات الخارجية والداخلية كان له عظيم الأجر والمثوبة وإن وقع فريسة للمعصية على ما أوتى من عوامل ومؤهلات تؤهله لأن يكون بمنأى عن الجريمة أصبح مسئولاً , إلا أن هذه المسئولية تراعى فيها الشريعة الإسلامية التخفيف0
أما إذا كانت المؤثرات ضعيفة أو عديمة الجدوى ووقع الإنسان في حبائل الغواية ودرك الضلال وارتكب الجريمة فإنه بذلك يكون مسئولاً وتشدد عليه المسئولية.
وقبل أن نضرب لذلك مثالاً عملياً من واقع التشريع الإسلامي يحسن بنا أن نجمل ما مضى في نقاط محددة.
? أقرت الشريعة بحرية الإنسان ، حرية غير مطلقة.
? أدركت طبيعة الإنسان,وأنه لدية من الجهد ما يستطيع به دفع الغواية والبعد عن الرذيلة مهما كانت المؤثرات .
? أدركت أن بعض الناس لديهم مؤثرات ودوافع والبعض الأخر ليست لديه تلك المؤثرات .
? رتبت الشريعة الإسلامية المسئولية من حيث تخفيفها وتشديدها بناءاً على المؤثرات والدوافع .
ونضرب الآن مثالاً تتضح عليه العناصر السابقة التي اهتمت بها الشريعة الإسلامية.
مثال :
إذا ارتكب شخص ما جريمة الزنى وهو حر مختار بغير إكراه من أحد .(1/15)
فإن الإنسان الجاني في هذه الحالة إما أن يكون متزوجاً أو غير متزوج (محصن أو غير محصن ) ( هنا تراعى الشريعة الإسلامية ضغط الميول الجنسية بالنسبة للشاب .... وتجعلها من دواعي التخفيف في المسئولية والعقوبة وكذلك راعت الشريعة ضعف الميول الجنسية لدى الشيخ الكبير)(1)أو الرجل المحصن فشددت العقوبة والمسئولية مع أنها في البداية أوضحت للشاب طريقة النجاة من هذه المؤثرات، وذلك عن طريق غض البصر وحفظ الفرج وكسر شهوة الفرج بالصيام وهو ما يعرف بالتربية الوقائية، وكذلك أوضحت الشريعة الإسلامية أن هذه الجريمة من أخطر الجرائم الأخلاقية المستهجنة وأن النفس البشرية صاحبة الفطرة السليمة تستقبحها .
وفي نهاية هذا الموضوع نستطيع أن تقول إن الشريعة الإسلامية راعت الفطرة البشرية من كل أقطارها وكذلك راعت المؤثرات التي تؤثر في السلوك الإنساني بغير ما تخضع الإنسان لهذه الظروف فتجعله كالترس الذي يتحرك جبراً عنه في دوران الآلة المتحركة. بل إن للإنسان كيانه وقدراته التي يستطيع من خلالها أن يكون إنساناً حراً يميز بين الخير والشر،
وكذلك جعلت ( العلاقة بين المؤثرات والدوافع وبين شدة المسئولية علاقة عكسية. بمعنى إذا قويت الدوافع والمؤثرات ضعفت المسئولية وما ترتب عليه من آثام وعقوبات. وكلما ضعفت الدوافع والميول كلما قويت المسئولية والآثام وبالطبع شددت العقوبات)(2)
وهذه جوانب أخلاقية عالية راعتها الشريعة الإسلامية ومن خلال ذلك يتحقق عدة قيم أخلاقية ومن أهمها : - تحقيق العدالة والمساواة
وهاتان القيمتان الأخلاقيتان غير موجود تين في النظم الوضعية ومهدرتين كأثر من أثار الفكر الوضعي على الجانب الأخلاقي في التشريع الجنائي ،
__________
(1) الفضائل الخلقية في الإسلام د/ أحمد عبد الرحمن إبراهيم ص63
(2) المصدر السابق ص63 يتصرف دار الوفاء . المنصورة .(1/16)
فالمدرسة التقليدية الأولى مثلاً حينما ( أقرت بحرية مطلقة للإنسان وسوت بين جميع الناس في الحريات وبناءاً على ذلك كانت مسألتهم واحدة، فلم تفرق بين فرد وآخر في المسائلة، وهو ما يعرف بتفريد العقوبة لدى علماء القانون ... أدى ذلك إلي عدم تحقيق العدالة فالعدالة لا تحقق إلا مع مراعاة جميع الظروف والملابسات الواقعية الشخصية والموضوعية المتنوعة – التي أطاحت بالجاني وقت ارتكاب جريمته . ففارق كبير بين مجتمع يحكمه تشريع يقدّر نوازع الإرادة البشرية حق قدرها، ويتصدى لعلاج انحرافاتها في رفق ومرونة حكيمة، وبين تشريع يسلط على المجتمع – بحجة تحقيق الردع العام أو الخاص- سياطاً من الإرهاب لا تصنع فضيلة حقيقية ، بل نفوساً انطوائية متحفزة للعدوان كلما أتيحت لها فرصته وهي متاحة أبداً )(1)
وكذلك حينما أنكرت المدرسة التقليدية الظروف المحققة. وجعلت الناس كلهم أمام حرية الإرادة درجة واحدة – وبناءاً على ذلك سوت بينهم في المسئولية، أدى ذلك إلي تحقيق عدم المساواة ( فلا شك أنة إذا كان المجرمون مختلفين في ظروفهم وفي مدى حريتهم وفي اختيار طريقة الجريمة – فإن تحملهم جميعا نفس العقوبة يعنى أن شدة ألم العقوبة يختلف من مجرم لأخر، وهذا يعنى عدم المساواة)(2)
__________
(1) أنظر في ذلك: في التسير والتخير د/ رؤوف عبيد ص262 ، ص263 يتصرف
(2) مبادئ علم الإجرام وعلم العقاب دكتوره/ فوزية عبد الستار ط5 دار النهضة العربية سنة 1985 ص281
* وكذلك أنظر السلوك الإجرامي – النظريات ترجمة وتعليق د/ عدلي السمرى دار المعرفة الجامعية سنة 1994 ص41(1/17)
وبذلك أغفلت المدرسة التقليدية أهم العوامل الأخلاقية التي تراعى الفطرة الإنسانية وذلك حين ( أغفلت ما يسمى بالظروف المحققة – أو الأعذار عن ارتكاب المجرم لجريمته – الأمر الذي يمكن معه تجاهل محددات الفعل الإنسان في الدوافع البشرية)(1)
مما أدى إلي عدم تحقيق العدالة والمساواة. وهذا ليس تجنياً على المدرسة التقليدية منا، بل هو اعتراف كثير من العلماء والمحققين بل هو رأي كبار أقطاب المدرسة التقليدية نفسها.
فبإذاء ما ذهب إليه البعض من أن المساواة في معاملة جميع المتهمين سوف يؤدى إلي الظلم يقول بكاريا ( إن بعض الظلم سوف يحدث بالتأكد، ولكنه ليس ظلماً كلياً، كما كان عليه الحال في القديم)(2)
وبذلك نرى أن أصحاب المدرسة التقليدية يرضون بتحقيق جزئية من العدالة ويكتفون بها ما دام أن ذلك يخرجهم آتون الظلم الذي كانت تعيش فيه البشرية قبل ظهور تلك المدرسة ألا وهي فترة تحكم القضاة والكنيسة وهذا تصريح صريح واضح من أحد كبار المفكرين الذين قامت على أكتافهم المدرسة التقليدية، هذا يتعلق بوضع المدرسة التقليدية الأولى. في شأن حرية الإرادة كأساس من أسس المسئولية الجنائية.
وأما المدرسة التقليدية الحديثة والتي قامت معارضة لما قالت به المدرسة التقليدية الأولى في شأن إغفالها للمؤثرات الخارجية والعوامل الداخلية فلقد سبق الحديث عن رأيها واتجاهها، بما يغنى عن إعادته هنا مرة أخرى.
ولكن لابد من وقفة مرة أخرى أمام رأي المدرسة التقليدية الحديثة والتي نعتبرها أقرب إلي الشريعة الإسلامية من سالفتها.
فعلى الرغم من اعترافات المدرسة الحديثة بالمؤثرات والميول والعواطف إلا أنها
__________
(1) الأيدلوجيا وقضايا علم الاجتماع . نبيل السمالوطى دار المطبوعات الجديدة . الإسكندرية ص261 .
(2) السلوك الإجرامي النظريات ترجمة وتعليق د/ عدلي السمرى دار المعرفة الجامعية سنة 1994 صـ 39(1/18)
أخطأت خطأ كبير وذلك عندما جعلت ذلك أمراً عاما ًغير مضبوط بضوابط معينة ومحددة مما أدى إلي إحداث ظلم في المسئولية الجنائية من طريق آخر...
(ففكرة الاختيار التي قالت بها المدرسة يصعب وضع مقياس علمي لها نتعرف به على مقدارها،وحالات انتفائها كما أن تفسير حرية الاختيار على منطق هذه المدرسة. يخفف العقوبة على معتادي الإجرام. حيث إنهم قد ألفوا الجريمة واعتادوها،وليس لديهم مقدرة على مقاومتها )(1)وبذلك رأت المدرسة أن هذا يعتبر مؤثر قوى يعذر به الجاني
( فالمجرم المعتاد على الإجرام هو الذي تقل لدية القدرة على مقاومة الجريمة لأنه ألف ارتكابها. ولم تتضح في ذهنه العوامل المنفرة منها، أما المجرم الذي يرتكب الجريمة لأول مرة فإنه غالباً لا يستفيد من هذا النظام، وبذلك نصل إلي نتيجة غير منطقية وغير عادلة. وهي أن المجرم الأكثر خطورة توقع عليه عقوبة أخف مما توقع على المجرم الأقل خطورة، وهي نتيجة تتعارض مع السياسة العقلية السليمة.
فهذه هي خلاصة رأي المدرسة التقليدية الحديثة حول حرية الاختيار وجبرية الإنسان فهو حر ويتأثر بمؤثرات، غير أن هذه المؤثرات غير مضبوطة ولا معروفة وذلك بعكس ما ذهبت إليه الشريعة الإسلامية . حيث نجد أنها حددت تلك المؤثرات التي قد تؤثر على الإنسان وتوقعه في حبائل المعصية ثم نهته عن الاقتراب منها. أو العمل على تقويتها وإنماءها داخل النفس البشرية لأن ذلك حتما سوف يؤدى إلي ارتكاب المعصية حتماً فهي اعترفت من ناحية بالمؤثرات، ومن ناحية أخرى حذرت منها، أو الاقتراب من دائرتها. ومن جهة ثالثه اعترفت بأن لدى الإنسان القدرة على اختيار. أحد الأمرين، ولقد ضربنا مثالاً على ذلك بجريمة الزنا وعلاج الإسلام لها.
__________
(1) النظرية العامة للجزاء الجنائي في التشريع الإسلامي والقانون الوضعي دراسة مقارنة
رسالة دكتوراه / محمد علي عبد الرحمن وفا . 1398 ، 1978 صـ11(1/19)
فمن المؤثرات التي ضبطها الإسلام ورصدها النظر فقال الله تعالى: { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ .... }(1)وقال تعالى : { وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }(2)
فلقد راعت الشريعة المؤثرات. وأمرت الإنسان بالابتعاد عنها كما رأينا واضحاً من خلال الأوامر القرآنية الصارمة. من غض البصر وإخفاء الزينة وعدم إبدائها إلا للمحارم الذين ذكرهم القرآن، أو غير أولى الإربة من الرجال، والابتعاد عن حركات الإثارة وتأجيج العاطفة. إلي آخر ما أمرت به الأوامر القرآنية... فلقد اعتمد طريق الوقاية بدلاً من طريق العقوبة
(
__________
(1) النور آية 30
(2) النور أية 31.(1/20)
وهو لا يحارب الدوافع النظرية، والفكرة السائدة في منهج التربية الإسلامية في هذه الناحية ... هي تضيق فرص الغواية، وإبعاد عوامل الفتنة وأخذ الطريق على أسباب التهيج والإثارة، مع إزالة العوائق دون الإشباع الطبيعي بوسائله النظيفة المشروعة... فهو يرعى معها تقليل فرص النظرات السانحة والإلتفاءات العابرة.. التي طالما أيقظت في النفوس كامن الشهوات والرغبات ..)(1)
فغض البصر الذي أمر القرآن الكريم به إنما هو عامل وقائي من عوامل التربية الجنسية التي قام بها الإسلام. لتطهير المشاعر واتقاء أسباب الجريمة التي تنشأ من خلال تلك المؤثرات العارمة، وعملية غض البصر التي أمر الإسلام بها هي موجهه إلي الجانبين الرجال والنساء على السواء .. وبناءاً عليه تكون النتيجة الكريمة وهي حفظ الفرج الابتعاد عن جريمة الزنا .. ذلك الفعل الفاحش ..
(فحفظ الفرج هو الثمرة الطبيعية لغض البصر أو الخطوة التالية لتحكيم الإرادة... ويقظة الرقابة والاستعلاء على الرغبة في مراحلها الأولى ... ومن ثم يجمع بينهما في آية واحدة. بوصفها سبباً ونتيجة، أو باعتبارها خطوتين متواليتين في عالم الضمير وعالم الواقع، كلتاهما قريب من قريب)(2)
ويقول الحافظ بن كثير.. معلقاً على ذلك ( ولما كان النظر داعية إلي فساد القلب قال بعض السلف النظر سهم سمّ إلي القلب. ولذلك أمر الله بحفظ الفرج. كما أمر بحفظ الأبصار التي هي بواعث إلي ذلك )(3).
وعندما راعت الشريعة الإسلامية تلك المؤثرات التي تؤثر في سلوك الفرد سلباً وإيجاباً راعت كذلك في تشريعاتها وقت انعدام تلك المؤثرات – وفي هذه الفترة. فلا داعي إذاً لتطبيق ما أمرت به من الاحتشام وترك النظرات لأنها في هذه الحالة لا تتأثر بهذه المؤثرات .
__________
(1) في ظلال القرآن ج4 – صـ2507 ، وكذلك صـ2509 يتصرف شديد.
(2) في ظلال القرآن – ج4 ص2512 دار الشروق.
(3) تفسير القرآن العظيم . ابن كثير ج3 ص273(1/21)
ومن ثم فالقرآن الكريم يبيح ترك الاحتشام في موضعين .
الأول:
عند أمن الفتنة.. وهي لا تؤمن إلا إذا كانت النفس البشرية والفطرة الإنسانية مخلوقة ومجبولة على أن تكون مأمونة في هذا الموطن ... وهؤلاء هم صنف معين . وهم لا يعلمهم إلا الذي خلقهم وفطرهم على هذا الشأن فعدّدهم القرآن الكريم واستثناهم وهم المحارم الذين لا تتوجه ميولهم عادة ولا تثور شهواتهم ، ويستثنى من ذلك النساء المؤمنات .ويستثنى كذلك ( ما ملكت أيمانهن ) ،
ويستثنى كذلك ( التابعين غير أولى الإربة من الرجال ) وهم الذين لا يشتهون النساء لسبب من الأسباب كالجب والعنة والبلاهة. والجنون وسائر ما يمنع الرجل أن تشتهي نفسه المرأة ، وكذلك يستثنى ( الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء) وهم الأطفال الذين لا يثير جسم المرأة فيهم الشعور بالجنس.
الثاني:
والموضع الثاني هو عند فروغ النفس من الرغبة من الشهوة فروغ الجسم من الفتنة المثيرة للشهوة(1)قال الله تعالى ك { وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }(2).
قال : بن كثير في قوله تعالى : { وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
(قال : سعيد بن جبير ومقاتل بن حبان والضحاك وقتادة هن اللواتي انقطع عنهن الحيض ويئسن من الولد ... (اللاتي لا يرجون نكاحاً) أي لم يبقى لهن تشوق إلي التزويج .
(
__________
(1) تفسير الظلال المرحوم سيد قطب ج4 ص2513 وكذلك ص2533 يتصرف شديد
(2) سورة النور آية رقم (60) .(1/22)
فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن ) أي ليس عليهن من الحرج في التستر كما علي غيرهن من النساء )(1)
وبذلك راعت الشريعة الإسلامية في أوامرها ونواهيها. عوامل الإثارة ومواطن الضعف وأسبابها فقامت على علاجها، وجعلت الحكم يدور مع العلة وجوداً وعدماً، فإن كانت الإثارة كان النهي وإن عُدمت الإثارة عُدم النهي، وما ذاك إلا لعلم المشرع بمكنون النفس البشرية، وما انطوت عليه من أسرار لا يعلمها إلا خالقها سبحانه وتعالى .
هذا ما كان بين المدرسة التقليدية الحديثة وبين الشريعة الإسلامية من مفارقات في حديثيهما عن حرية الاختيار ومراعاة كلاًً منها للمؤثرات والدوافع والميول وتأثير ذلك على حرية الإرادة لدى الإنسان .
كما ذكرنا من قبل أن هذه المدرسة هي أقرب المدارس البشرية إلي الشريعة الإسلامية ونهاية فكر البشر. فانظر إلي الفروق التي تباعد بينها وبين الشريعة الإسلامية، فكلما كثرت المفارقات وتعددت اوجه التباين ، كلما ارتقت الشريعة إلي سلم الكمال ودرجات التمام .
أما إذا نظرنا إلي ما ذكرته المدرسة الوضعية للمقارنة بينها أخلاقياً وبين الشريعة الإسلامية فإننا نلاحظ عدم اشتراكهما في نقطة واحدة بشأن حديثهما عن حرية الاختيار مما يوجب علينا عدم عقد النية أو حتى مجرد الهم للمقارنة بين الشريعة والمدرسة الوضعية.
ولكن نذكر هنا أهم النقاط المأخوذة على المدرسة الوضعية في قولها بالجبرية المطلقة وعدم حرية إرادة لإنسان:-
1- سلامة الأساس الذي أسست عليه هذه المدرسة أفكارها وهو قطعها بأن الإنسان عامة والمجرم خاصة مسير لا مخير.
2- استبعاد هذه المدرسة فكرة (العدالة) أساساً للعقاب وإحلالها فكرة النفعية المطلقة محلها.
3- استبعاد المسئولية الأخلاقية وسبق الحديث عن ذلك .(2)
__________
(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج3 ص293 .
(2) أنظر ص78 من الفصل الثاني – (رأي المدرسة الوضعية ).(1/23)
4- كما ترتب على قولها بالجبرية وبالمبادئ السابقة أن تنكرت لأهم المبادئ الأساسية في المسئولية الجنائية والتي من بينها على سبيل المثال قصر وصف (المجرم) على المخاطب البالغ العاقل. دون الصغير والمجنون وقصر العقوبة بالتالي على الأول دون الآخرين وسوت هذه المدرسة من الخضوع للتدابير الجنائية بين الصغير والكبير وبين المجنون والعاقل.
5- المدرسة تفتقر إلي دليل علمي سليم تستند إليه حيث قسمت المجرمين إلي خمسة أقسام وهو تقسيم مبنى على التحكّم ويحتاج إلي دليل علمي(1).
المبحث الثالث
سبب المسئولية (الجنائية) بين الإسلام والنظم الأخرى
تمهيد:
بعد أن تحدثت عن أسس المسئولية الجنائية بين الإسلام والنظم الأخرى وذكرت هذه الأسس بالتفصيل ، وأن هذه الأسس إذا ما توفرت في شخص أصبح مؤهلاً للمساءلة عن أعماله, وإذا انعدمت هذه الأسس كلها أو بعضها في شخص لم يكن مؤهلاً للمسئولية ، إذاً بوجود هذه الأسس يمكن مسائلة الشخص، وبانعدام هذه الأسس لا يمكن مسائلة هذا الشخص ، وهذا ما يطلق عليه لدى الأصوليين بالشرط .
فالشرط : هو ما يتوقف وجود الحكم الشرعي على وجوده ويلزم من عدمه عدم الحكم2، فليزم من عدمه عدم الشروط، ولا يلزم من وجوده .
__________
(1) .. اعتمدت في رصد هذه المأخذ علي المصادر الآتية .
(أ ) ... . الأحكام العامة للنظام الجنائي في الشريعة الإسلامية والقانون د/ عبد الفتاح مصطفي الصيفي دار النهضة صمن 33- إلى ص37 يتصرف .
(ب ) ... – النظرية العامة للجزاء الجنائي في الشريعة صص15 سابق عبد الرحمن وفا.
مبادئ علم الأجرام د/ فوزية عبد الستار ص296 ، 297 سابق
مبادئ علم الأجرام د/محمد خلف ط3 سنة 1978 الشركة العامة للنشر والتوزيع صـ146 ـ 147(1/24)
فأسس المسئولية هي شروط المسئولية ولكن ليست هي أسبابها، فقد يتوفر الأساس (الشرط) ولكن ليس بالحتمية أن يترتب على وجوده المسائلة، فلا يلزم من وجوده وجود الحكم وإن كان يترتب على عدمه عدم الحكم(1).
فمثلاً ليس بالضرورة في كون الإنسان حراً مختاراً مدركاً عالماً بالحكم أن يكون مسئولاً مسئولية حساب وجزاء، فقد يكون كذلك ،غير أنه لم يرتكب من الأفعال ما يستدعى المسائلة.
أما الذي يلزم من وجوده المسئولية ومن عدمه عدم المسئولية فهذا هنا هو السبب فلقد عرّف الفقهاء السبب بقولهم (هو ما جعله الشارع علامة على مسببه، وربط وجود المسبب بوجوده، وعدمه بعدمه، بحيث يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم فهو أمر ظاهر منضبط جعله الشارع علامة على حكم شرعي هو مسببه، ويلزم من وجوده وجود السبب ومن عدمه )(2)
إذا فما هو سبب المسئولية الجنائية في الشريعة الإسلامية والنظم الأخرى؟
أولاً:-
? سبب المسئولية الجنائية في الشريعة الإسلامية:
لقد اعتبرت الشريعة الإسلامية الغاية الكبرى التي يجب أن يحققها الإنسان هي رضا
الله سبحانه وتعالى، فغاية الأماني هي أن يرضى الله تعالى علينا، والغاية التي حدثتنا الشريعة لتحقيقها وأوجبتها علينا هي عبادة الله سبحانه وتعالى ولقد تعبدنا الله سبحانه وتعالى بأوامر ونواهي، فإذا ترك الإنسان الأوامر التي أمر بها، وارتكبت النواهي التي نهي عنها فبذلك استوجب العقاب ،
__________
(1) أصول الفقه عبد الوهاب خلاف ص118 مكتبة الدعوة الإسلامية شباب الأزهر ص81 .
* وكذلك أصول التشريع الإسلامي للأستاذ/ على حسب الله ص391 ط6 سنة1982
(2) علم أصول الفقه الأستاذ / عبد الوهاب خلاف ص117 مكتبة الدعوة شباب الأزهر(1/25)
مما يستلزم بالضرورة قبله المسائلة فسبب المسئولية في الشريعة الإسلامية هي عصيان الأوامر والنواهي الإلهية (فارتكاب المعاصي أي إتيان المحرمات التي حرمته الشريعة وترك الواجبات التي أوجبتها)(1)هي سبب المسئولية .
فمن توفرت فيه أسس المسئولية الجنائية (شروطها) وأصبح أهلاً للمسئولية ثم إرتكب سبب المسئولية بالفعل وهي عصيان الله تعالى في حدٍ من حدوده تعالى فإنه قد استوجب المسئولية .
فعلى سبيل المثال: حرم الله أكل أموال الناس بالباطل، وحرم التعدي على أموال الغير بكل أشكاله، ليأمن الناس على أموالهم، وجعل السرقة ضمن أكل أموال الناس بالباطل وأحد أشكاله، فحرمه وشرع عقوبة لمن فعلها. فمن توفرت لدية أسس المسئولية الجنائية من الإدراك والحرية والإرادة والأهلية الكاملة والعلم بالحكم ثم سرق فإنه بذلك يعد مسئولاً مسئوليةً حقيقية بالفعل ومحاسب على فعله ومجازى به.
ونستطيع أن نجمل القول في سبب المسئولية الجنائية في الشريعة الإسلامية بأنه مخالفة الجهة الآمرة ، مخالفة مصدر الإلزام بما لم يلزمه ، فبناءاً على مخالفة الجهة الملزمة، ترتب عليه المسائلة .
ثانياً:-
? سبب المسئولية الجنائية في النظم الأخرى.
لقد تحدثت سابقاً عن أسس المسئولية الجنائية لدى النظم البشرية، وأدركنا أن الأساس أو الشرط بخلاف السبب.
وكذلك فرقت النظم الوضعية بين الشرط والسبب، كما فعلت ذلك الشريعة الإسلامية، وإن كانت الشريعة الإسلامية لها فضل السبق في ذلك بقرون عديدة، وعلى الرغم من ذلك إلا أنه استطاعت النظم البشرية أن تساير الشريعة الغراء في التفرقة بين الأسس والأسباب .
إذاً فما هو سبب المسئولية الجنائية لدى النظم البشرية؟
__________
(1) التشريع الجنائي الإسلامي ج1 ص403 مؤسسة الرسالة . عبد القادر عودة.(1/26)
لقد ذكرت أن سبب المسئولية الجنائية في الشريعة الإسلامية هو مخالفة وعصيان أوامر الله سبحانه وتعالى ، وعدم الوقوف على حدوده، وتنفيذ شرعه فإلزامه لم يكن محقق عند من عصاه .
كذلك اعتبرت النظم الوضعية سبب المسئولية الجنائية هو مخالفة القانون وارتكاب الخطيئة التي نص القانون على عدم الاقتراب منها (فالعصيان الذي هو سبب المسئولية في الشريعة الإسلامية يقابله الخطأ والخطيئة في تعبير القوانين الوضعية ، ولكن التعبير بالعصيان أدق في دلالته على المقصود وهو مخالفة أمر الشارع فهو أضبط من التعبير بالخطأ والخطيئة، فضلاً عن أن التعبير الأخير يؤدى إلي الخلط بين لفظ الخطأ بمعنى غير العمد وبين الخطأ بمعنى مخالفة أمر الشارع)(1)والقانون إنما هو من وضع بشر.
المبحث الرابع
الجانب الأخلاقي في المسئولية الجنائية الفردية والجماعية
بين الإسلام والنظم الأخرى
إن من أعظم الجوانب الأخلاقية التي يجب تحقيقها والسعي للوصول إليها في كل نظام أو مجال يخدم به الإنسان إنما ذلك هو العدالة والرحمة .
وإن من دواعي تحقيق هاتين الصفتين في التشريع الجنائي أن يحمل كل فرد تبعة أعماله وآثار جريرته التي ارتكبها .. ويعاقب بقدر ما أساء إلي المجتمع .. فلا يحمل أحد إثم أخر ولا يحمل الفرد إثم الجماعة ولا الجماعة وزر الفرد فإذا كان كل شخص مسئول عن أعماله ونتائج أفعاله صار بذلك النظام الحاكم بهذا محققاً للعدالة والرحمة التي يجب أن يسارع كل نظام إلي تحقيقهما.
ولكن هل هناك من شرائع شذت عن هذا الإطار في سيرها التشريعي فحمّلت الإنسان إثم ما لم تعمل يداه ؟ .. أو أشركته في جريمة لم يساهم هو فيها ولو بنصيب ضئيل؟
فهذا ما نراه في المطالب التالية بعون الله وتوفيقه.
المطلب الأول
المسئولية الجنائية الفردية بين الإسلام والنظم الأخرى
أولاً : -
__________
(1) التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي . عبد القادر عوده ج1 ص403.(1/27)
? المسئولية الفردية (الجنائية) في الشريعة الإسلامية
لقد أوضحت الشريعة الإسلامية في نظمها عامة بما في ذلك (النظام الجنائي ) أن المسئولية إنما هي مسئولية شخصية (فردية) كل إنسان مسئول عن نتيجة أعماله، ولقد ورد في القرآن الكريم أكثر من آية تدل صراحة على هذا المعنى الأخلاقي الرائع والذي به تتحقق العدالة والرحمة قال تعالى:
{ وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً }(1)
قال ابن كثير في تفسير الآية.. كقوله تعالى :
{ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً }(2)يعنى أنه لا يغنى أحد عن أحدٍ وإنما على كل نفس ما عملت لا يحمل عنها لغيرها ولهذا قال تعالى :
{ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } (أي في ختام أية النساء السابقة )أي من علمه وحكمته، وعدله ورحمته كان ذلك)(3)
فلكل عمله ولكل جزاءه ولكل تبعة ما قام بفعله (فلا يحمل أحد ذنب أحد ولا يجني جان إلا على نفسه )(4)
وهذه هي قاعدة القرآن الكريم العامة التي سار عليها في كل تشريعاته في تحميل الأفراد والأمم المسئوليات الناتجة عن أفعالهم ..
وليس في الإسلام ما يشير إلي أن أحداً يتحمل وزر أحد، أو يحاسب بدلاً منه حتى ولو كان ذلك باختياره هو فضلاً عن أن يكون ذلك رغماً عنه فبين الله تعالى ذلك بقوله :
{ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }(5)
__________
(1) سورة النساء آية رقم (111).
(2) جزء من الآية رقم 15 الإسراء . وكذلك جزء من الآية رقم (164) الأنعام
(3) تفسير القرآن العظيم لابن كثير – ج1 ص524 ببيروت
(4) تفسير القرآن العظيم لابن كثير – ج3 ص28 ببيروت
(5) سورة الأنعام الآية رقم (164)(1/28)
قال الإمام القرطبي 0 قال ابن عباس نزلت في الوليد بن المغيرة قال لأهل مكة: اتبعون واكفروا بمحمد وعلىّ أوزاركم فنزلت هذه الآية )(1)وفيها إعلام من الله تعالى أنه لا أحد يحمل وزر أحد ( ونتج عن هذا كله - بوضوح - أن الثواب والعقاب لا يمكن أن يتأتى فيهما أي تحويل، أو امتداد ، أو اشتراك ، أو التباس، حتى بين الأباء والأبناء)(2)
قال الله تعالى :
{ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ }(3)فذكر الله سبحانه وتعالى أن الأمم السابقة وآباءنا الذين ارتحلوا قبلنا وذهبوا في الماضين ( لها ما كسبت ) من عمل تجزى به . (ولكم ما كسبتم) من عمل تجزون به، ولا يجزى أحد بعمل غيره " ولا تسألون" يوم الحساب والجزاء (عما كانوا يعملون ) سؤال حساب وجزاء، ولا يسألون عما تعملون كذلك ، بل يُسئل كل عن عمله هو يجازى به دون غيره فلا ينتفع أحد بعمل غيره ولا يتضرر به من حيث هو عمله ، إلا أنه قد ينتفع أو يتضرر بعمل غيره إذا كان هو سبباً له لأنه أرشده إليه وكان قدوة له فيه )(4)
فهذه الصورة الواضحة في عدم مؤاخذة أحد بذنب أحد إنما هو منهج الشريعة الإسلامية في محاسبة الخلق وبذلك يتحقق العدل في الناس، ومعلوم أن النظام التشريعي الجنائي واحداً من تلك النظم التي تتكون منها الشريعة الإسلامية فلا يشذ في مساره عما سارت عليه الشريعة الإسلامية ،
__________
(2) الجامع لأحكام القرآن – الإمام القرطبي ج10 صـ235 دار الحديث القاهرة سنة 111996 ج2
(3) دستور الأخلاق في ـ دراز صـ 149 الرسالة . سابق لقرآن
(3) سورة البقرة آية رقم 134 وكذلك نفس الآية 141 من السورة .
(4) تفسير القرآن الحكيم – الشهير بالمنار – محمد رشيد رضا ج1 صـ 478 دار المعرفة بيروت .(1/29)
بل إن القرآن الكريم ليرتقى درجة أخرى فوق تلك الدرجة الأخلاقية الرائعة والغير مسبوقة في تاريخ التشريع البشرى الوضعي وذلك حين بين سبحانه وتعالى أن العمل بغير ذلك القانون إنما هو الظلم الذي يتنافى مع تحقيق العدالة الواجب تحققها ( فالقرآن يصور لنا أن أخذ البريء بالمذنب، لا على أنه مضاد للشريعة فحسب بل هو كذلك غير متوافق مع الفكرة الأساسية للعدالة الإنسانية )(1)
قال الله تعالى { قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظَالِمُونَ) }(2)هذا هو قانون القرآن الكريم في المؤاخذة على الأعمال فهي مؤاخذة شخصية .
ثانياً: -
*المسئولية الفردية الجنائية في النظم الوضعية.
لقد علمنا أن من القواعد الأولية في الشريعة الإسلامية أن المسئولية الجنائية شخصية فلا يُسئل عن الجرم إلا الذي ارتكب الفعل المجرّم .
وفي النظم الوضعية على اختلاف وجهاتها ، وتباين آراءها وتناءى ديارها لم تحظ بما حظت به الشريعة الإسلامية من تطبيق دقيق لهذا المبدأ الأخلاقي السامي في المسئولية الجنائية.وإذا كانت الحضارات القديمة، الرومية ، اليونانية والفارسية لم تقم بتطبيق مبدأ شخصية المسئولية (الجنائية ) فإن الحضارات العمرانية الحديثة لم تكن أحسن حظاً بكثير من الحضارات القديمة،
__________
(1) في دستور الأخلاق دراز ص151.
(2) سورة يوسف آية رقم 79(1/30)
ولعل السر في ذلك ما أوضحه الشيخ أبو الحسن الندوي حيث يقول . ( ليست الحضارة الغربية في القرن العشرين المسيحي وليدة هذه القرون المتأخرة التي تلت القرون المظلمة في أوربا ، أو الحديثة كما يتوهم كثير من الناس ، بل يرجع تاريخها إلي آلاف السنين فهي سليلة الحضارة اليونانية والحضارة الرومية، قد خلفتهما في تراثهما السياسي والعقلي والمدني ، وورثت عنهما كل ما خلفتا من نظام سياسي وفلسفة اجتماعية وتراث عقلي وعملي ، وانطبعت فيها ميولهما ونزاعاتهما وخصائصهما، بل انحدرت إليها في الدم .. فقد كانت الحضارة اليونانية أول مظهر رائع للعقلية الأوربية)(1)
( وبذلك أصبحت الحياة في أوربا في القرنين التاسع عشر والعشرين نسخة صادقة من الحياة في يونان وروما الوثنيتين الجاهليتين )(2).
ولعله من أبرز أسباب الاجتماع على نمط فكرى وعملي واحد اتسمت به الحضارات الغربية من أول فجرها إلي يومنا هذا بل النظم الوضعية بعامة هو بعدها عن المنهج السماوي و اكتفائها بالعقل وإعلانها من شأنه، إن الخلفية الثقافية الأوربية على مر الدهور إنما هي خلفية متشابهة ومتشابكة لا تنفصل وذلك مما أدى حتماً إلي نمط سلوكي موحد، أو متشابه على احسن الفروض، ويحسن بنا الآن أن نذكر بعض النماذج التي توضح لنا مدى تحقيق مبدأ شخصية المسئولية(بعامة والجنائية على الخصوص) في النظم الوضعية.
ونلخص ذلك في النقاط التالية:
أ في شرائع اليونان والرومان.
لم تكن الشرائع اليونانية والرومانية تطبق مبدأ شخصية المسئولية الجنائية ( كواحدة من المسئوليات) في قوانينها فتعدت المسئولية لديها إلي غير الجاني ، وبذلك حوسب من لم يقم بالفعل ، ولم تكن له به صلة، وهو ما يوصف بالظلم وعدم تحقيق العدل .
__________
(1) أنظر في ذلك ( ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين – أبو الحسن النووى دار العلم (كويت) ط14 ص153
(2) المصدر السابق ص170(1/31)
فنجد على سبيل المثال أن الحضارة اليونانية العريقة ( قررت العقوبة الجمعية في جريمتين:
? الخيانة الوطنية.
? انتهاك حرمة الأشياء المقدسة.
فتقضى في هاتين الحالتين بالإعدام على المجرم نفسه وعلى جميع أفراد أسرته وهم عصبته أي أقرباؤه من ناحية الذكور، لا فرق في ذلك بين صغارهم وكبارهم ، ذكورهم وإناثهم، أصحائهم ومرضاهم، عقلائهم ومجانينهم وتقضى بعد تنفذ حكم الإعدام ، على جثثهم نفسها بالحرمان من الدفن والطقوس الدينية وبدفنها في خارج حدود البلاد )(1).
فهذه صورة من صور المسئولية الجماعية لدى واحدة من أعرق الحضارات الغربية القديمة والتي كانت ميراثاً للحضارة الأوربية الحديثة الآن .
وكذلك الحضارة الرومانية لم تكن أحسن حالاً من أختها اليونانية فلم تستطيع أن تنأى بنفسها من الوحل الذي غاصت فيه الحضارة اليونانية.
فلقد قامت الدولة الرومانية بتطبيق المسئولية الجماعية وذلك قبل عصر المسيحية وبعد عصر المسيحية ، - على السواء – فلم تستطع المسيحية الحقيقية أن تؤثر في الحضارة الرومانية بل لم تستطع أن تحافظ على نصوصها فحرفت واتبعت في خط سيرها منهج الدولة الرومانية من تحميل الغير خطأ المجرم فصارت بذلك ديانة عامة لدى الرومان، ونضرب لذلك مثاليين أحدهما في الحضارة الرومانية قبل المسيحية، والثاني بعد المسيحية.
المثال الأول :
(
__________
(1) أنظر في ذلك بالتفصيل المسئولية والجزاء د/ على عبد الواحد وافي دار نهضة مصر ص58(1/32)
كانت الشرائع الرومانية تحكم في بعض الجرائم بمصادرة الأملاك وغنى عن البيان أن هذه العقوبة ينال أثرها ورثة المجرم . بل جميع أفراد أسرته. وخاصة لأن الملكيات في ذلك العهد كانت ملكية جمعية لا فردية . فكان المالك الحقيقي هو الأسرة نفسها باعتبارها هيئة أي شخصاً معنوياً فمصادرة الأملاك كانت إذاً ضربا من العقوبة الجمعية تؤخذ به الأسرة في مجموعها لجريرة ارتكبها أحد أفرادها أو بعضها )(1).
المثال الثاني :
والدولة الرومانية في عهد المسيحية لم تكن أقل حدة في تطبيق هذا المبدأ من ذي قبل ، بل كانت أشد صرامة – واكثر تعميقاً في تطبيقية في شئون الحياة.
(فقد أقرت هذه المسئولية في جميع مظاهرها التي تنال الأنفس والحريات وفي مظاهرها التي تنال الأموال. فلقد كان القانون في الدولة الرومانية - والذي أصدره الإمبراطور اركاديوس(2)سنة (397) م بصدد جريمة الخيانة الوطنية .
__________
(1) المسئولية والجزاء . د/ على عبد الواحد وافي – سابق ص59.
(2) التعريف بالإمبراطور اركاديوس هو قيصر أول الإمبراطوريين البيزنطيين ولد في أسبانيا سنة 332 بعد الميلاد
توفي في القسطنطينية سنة 408 ميلادية وكان أكبر أولاد ثيودسيوس الكبير أخر من ملك الإمبراطورية الرومانية كلها
وكان أبوه قد قسمها بين ولديه اركاديوس و أرنوريوس فأعطي اركاديوس الممتد من بحر الإدرياتيك إلي دجلة شيكثيا
إلي أثيوبيا فكانت مصر له وحسب من ملوك الدولة الخامسة والثلاثين من ملوكها . انظر دائرة المعارف تأليف المعلم
/بطرس البستاني دار المعرفة لبنان ج3 صـ162
(3) المسئولية والجزاء د/ على عبد الواحد وافي ص59(1/33)
وهو نفس القانون الذي احتفظ به الإمبراطور جوستنيان ( إمبراطور الدولة الرومانية الشرقية (527 – 565 ) مقرراً - أن العدالة المطلقة تقضى بأن يصيب أبناء المقترف لجريمة الخيانة الوطنية العقاب نفسه الذي يصيب والدهم ، ولكن الإمبراطور لماله من سلطة مطلقة ، يرى الإبقاء على حياتهم على أن يحرموا من الميراث والتملك ويحال بينهم وبين مواطن الشرف ومظانه ، ولا يسمح لهم بالاشتراك في الطقوس الدينية )3)
ولقد تأثرت الديانة المسيحية المحرفة تأثراً شديداً بشريعة الرومان في تطبيق المسئولية الجماعية فهي ( تقوم أهم عقائدها على مسئولية جمعية واسعة النطاق، فهي تقرر أن النوع الإنساني قد انتقلت إليهم جميعاً خطيئة أبيهم آدم إذ أكل من الشجرة ، وظلوا متحملين مسئوليتها حتى فداهم المسيح بدمه فغفر الله لهم)(1)
ونقرأ ذلك في نص القضية العقدية عند النصارى. ما ورد في العهد الجديد . ( لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل أبنه الوحيد لكى لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية لأنه لم يرسل الله ابنه إلي العالم ليدين به العالم ، بل ليخلص به العالم )(2)
وكذلك تقرأ ( لأن ابن الإنسان أيضا لم يأت ليُخْدَم بل ليَخْدُم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين)(3).
وهذه الفكرة التي نادت بها المسيحية المحرفة. والتي أصلت بها المسئولية الجماعية إنما هي فكرة مستمدة من الفكر الهندي القديم، وكان ذلك سائداً أيضاً في الفكر البوذي الهندي.
__________
(2) المسئولية والجزاء د : على عبد الواحد وافي صـ70
(2) العهد الجديد- إنجيل مرقص الإصحاح العاشر الفقرة (16،17)
(3) العهد الجديد إنجيل مرقص الإصحاح العاشر الفقرة ( 45).(1/34)
فكان الهنود ( يعتقدون أن {كرشنا} المولود البكر الذي هو نفس الإله {فشنو} الذي لا ابتداء له ولا انتهاء،تحرك حنواً كى يخلص الأرض من ثقل حملها فآتاها وقدم نفسه ذبيحة عن الإنسان، ويصورنه مصلوباً مثقوب اليدين والرجلين، ويصفون {كرشنا} لذلك بالبطل الوديع المملوء لاهوتاً لأنه قدم نفسه ذبيحة من أجل البشر)(1).
ونفس الفكرة على وجه التحديد كانت عقيدة لدى البوذية . فإذا كان المسيح هو مخلص العالم . وكل ذنوب العالم تقع عليه ليخلص العالم . فإن نفس العقيدة برمتها موجود عند البوذيين – فالإله بوذا يقول ( فلتكن الذنوب التي ارتكبت في هذه الدنيا عليَّ ليخلص العالم من الخطيئة)(2).
هذه هي نظريات العالم الغربي ، بل كل النظم الوضعية والشرائع البشرية القديمة وقريب
من نفس الخط سارت فيه الحضارات القديمة وسارت كذلك اليهودية المحرفة ونسبت ذلك إلي الوحي السماوي ، فدونته في كتبها المقدسة {التوراة المحرفة} ، وعلى الرغم من الأوامر السماوية السابقة على اليهودية والتي جاءت بعدها أقرت بمبدأ المسئولية الفردية ونفت أن يكون أحد متحملاً لوزر أحد من الناس ، بل هو ضمن شريعة موسى عليه السلام ولكنهم حرفوها ، ففي القرآن الكريم يحكى الله تعالى عن صحف إبراهيم وموسى عليهما السلام أنها تنفي أن يحمل أحد جريمة أحد فقال الله عز وجل :
{ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى *وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى *
أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى }(3)
__________
(1) أنظر في ذلك / مقارنة الأديان ج2 د/ أحمد شلبي ط9 سنة1990 مكتبة النهضة المصرية ص167.
(2) مقارنات الأديان [ الديانات القديمة ] الإمام محمد أبو زهرة دار الفكر العربي صـ52.
(3) سورة النجم الآيات رقم (36، 337، 38، 39)(1/35)
إلا أنه ورد في شريعة اليهود المحرفة، وفكرهم الوضعي الذي ارتضوه بديلا عن نهج السماء( أن الشعب الكنعاني قد حل به غضب الإله، وحقت عليه لعنته وضرب على أفراده الرق إلي الأبد ، لجريمة سخرية أبيهم حام بأبيه نوح عليه السلام حينما رآه وقد إنكشفت سوأته على أثر شربه مرة نبيذ العنب الذي أفقده وعيه)(1)
وهذا النص كما ورد في كتابهم المقدس {المحرف} هو ( فشرب الخمر فسكر وتعرى داخل خبائه. فأبصر حام أبو كنعان عورة أبية فأخبر أخويه خارجاً، فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتافهما. ومشيا إلي الوراء . وستر عورة أبيهما. ووجههما إلي الوراء فلم يبصرا عورة أبيهما. فلما استيقظ نوح من خمره علم ما فعل ابنه الصغير . فقال ملعنون كنعان عبد العبيد يكون لأخويه وقال مبارك الرب إله سام وليكن كنعان عبداً لهم )(2).
فهذه القصة على ما فيها من تزوير واتهام أخلاقي واضح لنبي الله نوح عليه السلام تقرر كذلك ( تحميل الأبناء والأجيال اللاحقة تبعة ذنب جدهم حام على ما اقترفه )(3)وهكذا تأثرت اليهودية بالمورثات الغربية خاصة اليونانية. بما في ذلك النزعة العنصرية . والتي تميزت بها عن كل الطوائف.
ب- في العصر الحديث والمعاصر:-
لم تسلم الأمم الحديثة والمعاصرة من أن تصاب بما أصيبت به الحضارات الغربية السابقة
من قيامها بمبدأ المسئولية الجماعية حين تريد أن تعاقب المجرم على جريمةٍ معينة قام بها. ويصعب علينا هنا أن نرصد كل ما ذكر بشأن المسئولية الجماعية. التي تأخذ بها النظم البشرية المعاصرة .
__________
(1) المسئولية الخلقية والجزاء عليها / أحمد عبد العزيز الحلبي ص58 مكتبة الرشد
(2) سفر التكوين- الإصحاح التاسع الفقرات من (21- 26)
(3) أنظر في ذلك المسئولية الخلقية سابق ص58 . وأنظر كذلك المسئولية والجزاء- وافي- سابق ص69 نهضة مصر(1/36)
ولكن أذكر هنا أهم هذه المظاهر ( فلقد بقيت أثار كثيرة لهذه المسئولية في نظم الأمم المتدينة في العصر الحاضر نفسه. فلا تزال تحكم بمصادرة الأملاك في كثير من الجرائم الخطيرة .
ولا تزال في شئونها الإدارية وغيرها تأخذ بعض أفراد الأسرة بجرائم بعض )(1).
فالقانون المصري مثلاً يعتبر مدبري التجمهر مسئولين جنائياً عن أية جريمة يرتكبها أحد المتجمهرين. مع أن التطبيق الدقيق للمبدأ يستوجب عدم مسئوليتهم إلا إذا كانوا قد اتفقوا على ارتكاب هذه الجريمة أو حرضوا عليها ...وكذلك .. في تحميل أصحاب المحلات العمومية مسئولية بعض الجرائم التي يرتكبها الغير في هذه المحلات.
وكذلك في اعتبار الأب ولى الأمر مسئولاً عن جريمة الصغير الذي حكم بتسليمه إليه إذا ارتكب الصغير جريمة ثانية في خلال سنةٍ من تاريخ الأمر بتسليمه كما هو نص المادة69 من قانون العقوبات المصري)(2).
وملخص موقف النظم من تطبيق مبدأ شخصية المسئولية. فإنها لم تطيق ذلك قبل قيام الثورة الفرنسية 1789م ثم أصبحت تطبق هذا المبدأ شيئاً فشيئاً حتى أصبحت الآن أشبه ما تكون مطبقة لهذا المبدأ الآن وإذا كانت القوانين الوضعية الحديثة قد أخذت أخيرا بمبدأ شخصية المسئولية الذي جاءت به الشريعة الإسلامية من { أربعة عشرة قرناً}
فإن الظاهر مما سبق أن القوانين الوضعية لم تصل في تطبيق هذا المبدأ إلي الحد الذي وصلت إليه الشريعة الإسلامية ، وأن دائرة تطبيقه في القانون أضيق من دائرة تطبيقه في الشريعة الإسلامية)(3).
__________
(1) المسئولية والجزاء / وافي ص64 . وأنظر كذلك ص65، 67، 68. فقد ذكر عدد من الحالات التي
يوضح فيها أخذ النظم المعاصرة بمبدأ المسئولية الجماعية وإهدار شخصية المسئولية.
(2) التشريع الجنائي الإسلامي – عبد القادر عوده ج1 صـ 396 بتصرف مؤسسة الرسالة .
(3) المصدر السابق نفسه .(1/37)
ونستطيع أن نقول إن ما قررته النظم الوضعية القديمة بشأن عدم إعمال مبدأ المسئولية الشخصية إنما هو مخالف لرأي الشريعة الإسلامية . مغاير لها .. يتعارض مع تحقيق مبدأ العدالة والرحمة ، المنشود تحقيقهما من وضع القانون.
وكذلك الشأن بالنسبة للنظم الحديثة والمعاصرة – وإن كانت في الآونة الأخيرة تحاول التجمل بهذا المبدأ .. مدعيةً تحضرها .. إلا أنه في الحقيقة لم تستطع أن تلحق بركب الشريعة الغراء... وربما كان ذلك سببه تأثرها بالمورثات القديمة والتي لم تستطع أن تنخلع منها جملةً واحدة فيظهر أثر تلك المورثات مرة أخرى بشدة حين يتعلق الأمر بكيان السلطة الحاكمة ، أو بسلطة دولة ما – أو بكيان دولة ما .
فإنها آنذاك لم تتورع في تلك الحالة أن توقع الجزاء على الجاني وغير الجاني على الظالم والمظلوم .. وذلك خصوصاً إذا كان في مكنتها إيقاع ما تريد من جزاء . ولا يحرك ضميرها أو يوخز حسها أي شيء ما دامت أنها تريد تحقيق سيادتها وكيانها ولو كان ذلك بالظلم الغاشم الذي يذهب ضحيته آلاف، بل ملايين بريئة لم يكن لها جريرة فيم فُعل من جريمة بها .
المطلب الثاني
المسئولية الجنائية الجماعية بين الإسلام والنظم الأخرى والجانب الأخلاقي فيها
لقد تحدثت في المطلب السابق عن المسئولية الجنائية الفردية في الإسلام والنظم الأخرى وأوضحنا رأي التشريع الإسلامي ومدى استمساكه بمبدأ المسئولية ، وموقف النظم الوضعية من ذلك .
وفي هذا المطلب الذي بين أيدينا أتوجه بالحديث إلي المسئولية الجنائية الجماعية ومقارنة ذلك بين الإسلام والنظم الوضعية.
ويحسن بي أن أسير في هذا الموضوع حسب التقسيم الماضي ، فأشرحه في نقطتين ثم أبين المميزات التي يختص بها أحد النظامين عن الآخر.
أولاً : المسئولية الجنائية الجماعية في الإسلام(1/38)
علمنا في الحديث عن المسئولية الفردية في الإسلام أن الشريعة الإسلامية عملت - من يوم أن كانت - بمبدأ شخصية المسئولية، وأن كل إنسان يحاسب عن عمله وقوله، ويتحمل تباعاته دون أن يتحمل وزر غيره من الناس ولو كان ذلك أقرب الخلق إليه. وذكرت القواعد القرآنية التي تقرر هذا المفهوم وذكرت أيضا أنه من الظلم البين الواضح أن نحمّل ‘أحداً وزر أحدٍ من الناس، ففي ذلك تضيع للعدالة وإذهاب بالرحمة ونتيجة هذا الحكم السابق .. تكون الإجابة على الموضوع الذي بين أيدينا – فالإسلام لا يأخذ بموضوع المسئولية الجماعية فيحمّل الناس ما لم تصنع أيديهم وما لم يكسبوا من عمل.
وإذا كان بعض الكتاب والمفكرين يري أن الإسلام يأخذ بمبدأ المسئولية الجماعية – في الناحية المالية(1)، وكذلك في إلحاق الوزر والعقاب عليه مستدلا بآيات القرآن الكريم وأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه بذلك قد جانب الصواب وباعد الحق في القول . وإن لم يقصد الإساءة إلي الشريعة الإسلامية بوسمها بالظلم وعدم تحقيق العدل، ومجانبة الرحمة ، غير أننا نري الحق في غير ما قال .
وذلك للأسباب الآتية .
1. أنه سوى بين الشريعة وبين النظم الأخرى في أخذها بمبدأ المسئولية الجماعية وذلك لم يكن.
2. انه وحّد بين مفهوم المسئولية الجماعية في الشريعة الإسلامية والنظم الأخرى وهذا غير صحيح.
ولكن المسئولية الجنائية الجماعية (كواحدة من المسئوليات الإسلامية لها مفهوم مغاير للمسئولية الجنائية الجماعية في النظم الأخرى.
فلابد أولاً من تحقيق شروط معينة سابقة على المسائلة الجنائية وأري هنا لكي نستطيع إيضاح مفهوم المسئولية الجنائية الجماعية في الشريعة الإسلامية فلابد من الوقوف أمام ثلاث نقاط نوضح من خلالها مفهوم المسئولية الجنائية الجماعية في التشريع الإسلامي.
__________
(1) ذهب إلي هذا الرأي الدكتور / على عبد الواحد وافي في كتابة المسئولية والجزاء أنظر ص60، 61، 62 .
وكذلك ص70.(1/39)
النقطة الأولي: إيجاب الإسلام وفرضّيته للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
فلقد أمر الإسلام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجعله أساس لتكريم هذه الأمة فقال الله تعالى:
{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ.. }(1)
وقال تعالى:
{ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }(2)
وقال تعالى { : وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } (3) .
من خلال الآيات السابقة يجب ( على كل مسلم أن يحمل هذا الإسلام عقيدة وشريعة ويعلم أنه مأمور بتبليغه إلي الناس جميعاً ، لأنه من واجبه أن ينشره في دنيا الناس. حتى يستظلوا بظلاله الوارفة وينعموا بأمنه وآمانه .
ولن يتحقق هذا الأمن والأمان إلا إذا شعر كل مسلم بأن في عنقه أمانة ثقيلة .. بل إن هذه مسئولية كل مسلم بقدر مشترك بين الجميع )(3).
ولقد صرح كثير من العلماء بفرضية { الدعوة إلي الله } والتي تشمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
__________
(1) آل عمران جزء من الآية رقم (110).
(2) آل عمران آية رقم (104) (3) التوبة آية رقم (122)
(3) الدعوة قواعد وأصول- جمعه أمين عبد العزيز . دار الدعوة الإسكندرية سنة 1988 .ص19، 20.(1/40)
يقول ابن تيميه رحمة الله تعالى (.. وقد تبين بذلك أن الدعوة نفسها أمر بالمعروف ونهي عن المنكر .....وقد تبين بهذا أن الدعوة إلي الله تجب على كل مسلم لكنها فرض على الكفاية ، وإنما على الرجل المعين من ذلك ما يقدر عليه إذا لم يقم به غيره . وهذا شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتبليغ ما جاء به الرسول..)(1).
ولقد بين الإمام الغزالي. أهمية هذا الفرض في الشريعة الإسلامية بقوله:" فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين. وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين ولو طوى بساطه وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمّت الفترة، وفشت الضلالة ، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد.. )(2).
فأصبح الإنسان – فرداً وجماعة . مسئولاً عن هذه الفريضة في المجتمع الذي يعيش فيه، أو يمكن أن تصل إليه دعوته، مسئولاً عن تحقيق كل معروف بالأمر . وكذلك مسئول عن النهي عن كل منكر رآه أو سمع عنه , وعليه أن يغير ما استطاع إلي ذلك سبيلاً
قال - صلى الله عليه وسلم - { من رأي منكراً فليغره بيده , فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه , وذلك أضعف الإيمان }(3)
والأحاديث والآيات وأقوال السلف في هذا الباب كثيرة ونكتفي هنا بما ذكرناه .
النقطة الثانية : مسئولية من لم يقم بهذا الفرض .
__________
(1) مجموع الفتاوى لابن تيميه ج15 ، ص166 يتصرف كتاب التفسير
(2) أحياء علوم الدين- الغزإلي ج2 ص477 دار الحديث تحقيقه سيد إبراهيم
(3) الحديث – صحيح مسلم . رواه أبو سعيد الخدرى . ( في الإيمان . باب كون النهي عن المنكر من الإيمان )(1/41)
وهذه هي النقطة الثانية والتي تقرب المسافة بيننا وبين المسئولية الجنائية الجماعية في الشريعة الإسلامية وهي : إن لم يقم الإنسان بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصبح مسئولاً لاعن أفعال الآخرين التي ارتكبوها – ولكنه مسئول عن إهماله في تركه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، مما أدى إلي ارتكاب الأفراد للجرائم التي نهي الشارع عنها ... فأصبح بذلك مشاركاً سلبياً للجريمة فحين يعاقبه الإسلام ... فإنه لا يعاقبه على فعل الغير الذي لم يكن له فيه دخل , وإنما يعاقبه على إهماله وتركه للنهي عن المنكر الذي وقع تحت سمعه أو على عينه وهو راض به فكان مشجعاً في حدوثه .
ومن هنا نفهم العلاقة بين الجاني والساكت علي الجريمة .. إنها مشاركة سلبية . ولقد ورد في ذلك آيات كثيرة وأحاديث عديدة توضح ذلك الأمر .
قال تعالى :
{ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }(1)
قال ابن كثير في تفسير الآية ( وقال على بن أبى طلحه في رواية له عن ابن عباس في تفسير الآية . أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين ظرانيهم فيعمهم الله بالعذاب ... ثم قال ابن كثير معلقاً على هذا الرأي بقوله ... وهذا تفسير حسن جداً .(2)
وهذا هو تفسير حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس للآية الكريمة – فلقد أوضحت الآية أن الله عز وجل يأمرنا ( باتقاء نوع من أنواع الفتن الاجتماعية التي تكون تبعة عقوبتها مشتركة بين المصطلى بناره فعلاً , وبين المؤاخذ به لتقصيره في درئه , وإقراره على فعله(3)
__________
(1) سورة الأنفال آية رقم (25).
(2) تفسير ابن كثير ج2 دار الجبل ببيروت ص286.
(3) تفسير القرآن الحكيم الشهير بالمنار . محمد رشيد رضا ج9 دار المعرفة ببيروت ص637 .(1/42)
ولقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك في اكثر من حديث له .. فقال - صلى الله عليه وسلم - { كلا والله لتأمرن بالمعروف , ولتنهون عن المنكر , ولتأخذن على يد الظلم , ولتأطرنه على الحق أطرا , ولتقصرنه على الحق قصرا , أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم }(1)فالمفهوم من هذا الحديث أن الإنسان إن لم يقم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخذ على أيدي الظالمين , وأصحاب الجرائم بأنواعها فإنه سوف يكون ضمن الطائفة التي يهلكهما الله عز وجل بشؤم المعصية وبأثر الذنب .
وهنالك ( لن نُسأل عما قدمت أيدينا فحسب . بل سوف نسأل أيضاً بصورة ما عن تصرفات الآخرين فنحن مسئولين عن انحراف مسلك أقراننا حين نتركهم يسيئون دون أن نتدخل بجميع الوسائل المشروعة التي نطبقها – لنمنعهم من الإساءة . وشبيه بهذا أن العمل الاجتماعي السلبي , أوعدم المبالاة – تجرم بنفس درجة العمل الإيجابي فالامتناع هو المشاركة السلبية في الجريمة)(2)ولقد كان للقرآن الكريم مثال عملي بيّن أوضح من خلاله الدائرة العلمية التنفيذية للحديث السابق فقال الله تعالى :
{ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُون * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ }(3)
__________
(1) الحديث أخرجه أبو داود في السنن عن ابن مسعود – في الملاحم باب الأمر والنهي . ج5 ص122 والحديث برقم 4337 دار الحديث القاهرة.
(2) دستور الأخلاق في القرآن . د/ محمد عبد الله دراز ص155 الرسالة.
(3) سورة المائدة آية رقم 78،79(1/43)
وقال الله تعالى . { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ(1)
والآيات القرآنية تدل دلالة صريحة على أخذ الذين لاينهون عن المنكر عند حدوثه , فإن العذاب ومساءلة الحساب يقع على الجميع بغير تفرقة بين هذا . وان كان هناك خلاف حول الفئة الثالثة في الآية المذكورة في سورة الأعراف وهي الفئة الساكتة . عن النهي إلا أننا نميل إلي أن هذه الفئة كانت ضمن من هلك لأنها فئة ظالمة بتركها للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا هو أحد قولين مشهورين للعلماء .(2)
( وبهذا نرى أن المسئولية الفردية على هذه الدرجة من الامتداد تتفق , بل وتكاد تندمج في المسئولية الجماعية ولكنها ليست هي - على وجه التحديد - لأن الجماعة هنا ليست سوى جملة من الضمائر الفردية المعينة , تعلم القاعدة الأخلاقية , وتدرك في الوقت نفسه الأعمال التي انتهكت بها هذه القاعدة . فهي تترك المذنبين من أعضائها مطمئنين , أي أنها لاتبإلي حتى بأن تتخذ حيالهم موقف اللوم الصريح(3)
وكذلك نلمح في الشريعة الإسلامية إنها تسأل كل من ساهم في الجريمة وان لم يفعلها سواء ارشد الناس إليها أو رضيها وأحبها أم كان قدوة يقتضي به فيها فقال الله تعالى:
{ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
__________
(1) سورة الأعراف أية رقم 165
(2) يراجع الخلاف بين العلماء عند تفسيرهم للآية الكريمة من سورة الأعراف رقم 165 والتي قبلها – (أ) ابن كثير في
تفسيره ج2 ص247 والتي بعدها ، والشيخ رشيد رضا ذكر كذلك الخلاف الدائر حولها فليقرأ ذلك من شاء
(3) دستور الأخلاق في القرآن – محمد عبد الله دراز ص155، 156.(1/44)
وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ }(1)
ولقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - مسئولية كل داع إلي الضلالة وان لم يفعلها وذلك بسبب ما يقتدى به الناس على مر العصور وكر الأيام . فقال - صلى الله عليه وسلم - { من دعا إلي هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه , لا ينقص ذلك من أجورهم شياً , ومن دعا إلي ضلالة كان عليه من الإثم مثل آتام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً }(2)
وفي الحديث أيضاً قوله - صلى الله عليه وسلم - { .. ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقّّّّّص من أوزاهم شئ }(3).
وفي جريمة القتل بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المسئولية مشتركة بين الجاني الحقيقي والجاني الأول الذي سنها للناس أجمعين , فقال - صلى الله عليه وسلم - { ليس من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها . وربما قال سفيان : من دمها , لأنه أول من سن القتل أولاً }(4)
قال الحافظ بن حجر في شرح الحديث
( ووجه التحذير أن الذي يحدث البدعة قد يتهاون بها لحقه أمرها في أول الأمر , ولا يشعر بما يترتب عليها من المفسدة , وهو أن يلحقه إثم من عمل بها من بعده , ولو لم يكن هو عمل بها , بل لكونه كان الأصل في إحداثهما(5)
النقطة الثالثة : ارتفاع المسئولية عمن قام بهذه الفريضة وإن لم يعمل بها .
__________
(1) سورة النور آية رقم (19).
(2) أخرجه الأمام مسلم في صحيحه من حديث أبى هريرة (في العلم ) باب من سنن سنة حسنة أو سيئة
ج4 ص2060 والحديث برقم 2674
(3) أخرجه الأمام مسلم – الزكاة باب الحث على الصدقة ج2 ص705 برقم 1017.
(4) صحيح البخاري كتاب الاعتصام باب أثم من دعا إلي ضلاله والحديث برقم 7331 ج4 ص2286 ،
المكتبة العصرية ببيروت
(5) فتح الباري – ابن حجر ج19 دار الغد العربي القاهرة.(1/45)
حينما أوجب الإسلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجعله فريضة . ولم يحمل الإنسان فوق ما يستطيع في القيام بهذه الفريضة فلم يكلف الإنسان مسئولية هداية البشر إلي الطريق المستقيم – طريق الإسلام – بل اكتفى فيه بالتذكرة
{ فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى }(1)
وقال تعالى : { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ }(2)
وقال تعالى : { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ }(3)
فمن قام بهذا الحق حق التذكير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه بذلك سقطت أسباب المسئولية التي نحن بصدد الحديث عنها, ولقد دلل القرآن الكريم على ذلك في أكثر من آية فقال الله تعالى:
{ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ
وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ }(4)
وقال الله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }(5)
__________
(1) سورة الأعلى – آية رقم 9
(2) سورة (ق) آية رقم 45.
(3) سورة الخاشية آية رقم 21،22
(4) سورة الأعراف آية رقم (165).
(5) سورة المائدة آية رقم 105 ..(1/46)
ففي الآيتين الأخيرتين يخبرنا الله تعالى معلماً إيانا أننا مها قمنا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإننا غير مسئولين عما يحدثه الناس بعد ذلك، والآيات الأولى تخبرنا بأننا ليس مطلوب منا أن نجبر الناس على الهداية للحق , ( ولكن ليس معنى هذا أن تتخلى الأمة المسلمة عن تكاليفها في دعوة الناس كلهم إلي الهدى ... والهدى هو دينها وشريعتها ونظامها ... وأن كون الأمة المسلمة مسئولة عن نفسها أمام الله . ولايضرها من ضل إذا اهتدت هذا لا يعنى أنها غير محاسبة عن التقصير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
إن هذه الآية لا تسقط عن الفرد ولا عن الأمة التبعة في كفاح الشر , ومقاومة الضلالة ومحاربة الطغيان ... )(1)إلا حين اهتداء الأمة وقيامها بواجبها ( ومن أصول الهداية الدعوة إلي الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإذاً لا تكونون مهتدين إلا إذا بلغتم دعوة الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر )(2)
ولقد بين حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - المراد من الآية الكريمة ( آية المائدة ) في الآمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فمن حديث أبى أمية الشيباني قال أتيت أبا ثعلبة الخشنى فقلت له كيف تصنع بهذه الآية ؟ فقال أية آية قلت قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }(3)
قال أما والله لقد سألت عنها خبيراً سألت عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال :
{
__________
(1) . ) في ظلال القرآن – سيد قطب ج2 ص992 الشروق يتصرف شديد
(2) تفسير المنار- الشيخ / محمد رشيد رضا . ج7 ص310.
(3) المائدة آية 105.(1/47)
بل إئتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة ودع عنك أمر العامة فإن من ورائكم أياماً الصبر فيهن مثل القبض على الجمر للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم }(1)
وبعد عرض النقاط الثلاث والتي لها صلة وطيدة بالمسئولية الجماعية في الشريعة الإسلامية , فإننا بذلك أدركنا مدى التفاوت بين المسئولية الجماعية في الشريعة الإسلامية والمسئولية الجنائية الجماعية في النظم الوضعية .
إذ أن المسئولية الجماعية هنا ليست من باب تحميل الإنسان أوزار الآخرين وليست منافية للعدالة التي جاءت الشريعة الإسلامية لتحقيقها , بل إن هذا النوع من المسئولية إنما هي مسئولية توصف بالمسئولية الأخلاقية بالدرجة الأولى .
إذ أنها تدعم الفضيلة وتقضى على الرذيلة , ومن خلالها – بهذا الشكل الإسلامي الذي يثبت عليه – تبنى المجتمع على الخير ومدافعة الشر ، وهذا المجتمع ينشأ أفراده على مكارم الأخلاق , ومحاسن الفضيلة ومحاربة الفساد وكره الرذيلة ..
ولقد أراد الإسلام المحافظة على أبناءه وكيانه وترابط ووحدته , فجعل كل إنسان له حق الرقابة على أخيه الإنسان وخوله ذلك , و أعطاه الحق في الأمر والنهي وجعله مسئول إن لم يقم بهذا الواجب تجاه إخوانه في الإنسانية , يسائل عنهم, ويحاسب إن فرط في حقهم , وأهمل شؤونهم فيوم أن يترك المجتمع هذه الفريضة فإن المسئولية سوف تكون مسئولية جماعية يسأل الله - سبحانه وتعالى - كل المجتمع عن عدم القيام ويرسل عليهم عقابه قال - صلى الله عليه وسلم - :
{
__________
(1) أخرجه أبو داود في السنن- كتاب الملاحم . باب الأمر والنهي ج4 ص123. وأخرجه الترمذي في السنن- كتاب التفسير ج5 وقال عنه هذا حديث حسن غريب وكذا ذكره الحافظ ابن كثير في تفسير الآية وغراه لابن ماجة وابن حاتم عن عتبة بن أبى حكيم.(1/48)
والذي نفسي بيده لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر , أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم }(1)
هذه هي عقوبة التفريط . أما المسئولية الجنائية في النظم الأخرى فبينها وبين المسئولية الجنائية في الإسلام بون شاسع وفرق هائل يدركه كل من لديه رجاحة عقل , وحكمة وفهم سديدين .
أما المسئولية الجنائية الجماعية تهدر فيها العدالة ويحمل فيها الإنسان أوزار الآخرين بغير ضرورة, وليس فيها من معنى الأخلاق شئ هذا إن لم تكن هادمة للأخلاق , ومدمرة لها.
وواضح أن المسئولية الجنائية الجماعية التي تحدثت عنها من خلال النقاط الثلاث ... إنما هي مسؤولية أخروية وقد تكون النتيجة عن المساْءلة أعنى الجزاء – عاجلاً في الدنيا – بإنزال عقاب على أمة الأمم في وقت ما من الأوقات بسبب ما ارتكبت من جرائم أخلاقية.
ثانياً : العاقلة وبيان منزلتها من المسئولية الجنائية الجماعية في الشريعة الإسلامية :
تمهيد :
تحدثت فيما سبق عن موقف الإسلام من شخصية المسئولية الجنائية ومدى تطبيق الإسلام لهذه القاعدة . وهل في الإسلام بما يسمى بالمسؤولية الجماعية . ؟ وما مفهوم ذلك في الإسلام .. ؟ وبعد بيان رأي الشريعة الإسلامية في المسئولية الجماعية بقيت هناك مسألة كان لا بد من الحديث عنها وذلك لإيضاح لبس وقع فيه بعض المفكرين الذين زعموا أن الإسلام يطبق ما تقوم به النظم الوضعية من تطبيق نظام المسئولية الجماعية ,
*** نعم يوجد بعض المواقف في الشريعة الإسلامية يحاسب فيها الإنسان في صورة مسئولية جماعية . ولكنها في حقيقة الأمر ليست هي مسئولية جماعية .. إنما هي مسئولية ممتدة من المسئولية الفردية الذاتية التي هي تعد من خصائص المسئولية في الشريعة الإسلامية .
__________
(1) الحديث سنن الترمذي في الفتن . باب ما جاء في الأمر بالمعروف ج4 ص468 والحديث برقم 3169(1/49)
فحينما نسأل عن أعمال غيرنا نسأل عن انعكاسات مواقفنا الإيجابية أو السلبية . وهو ما أوضحناه قبل ذلك(1)
ونزيده إيضاحاً هنا بقول ابن العربي في تفسير لقوله تعالى :
{ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }(2)
قائلاً هذا حكم من الله تعالى نافذ في الدنيا والآخرة , وهو ألا يؤخذ أحدٌ بجرم أحدٍ . بيد أنه يتعلق ببعض الناس من بعض أحكام في مصالح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون على البر والتقوى , وحماية النفس والأهل عن العذاب ,
كما قال تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ }(3)
والأصل في ذلك كله أن المرء كما يفترض عليه أن يصلح نفسه باكتساب الخير فواجب عليه أن يصلح غيره بالأمر به والدعاء إليه والحمل عليه , وهذه فائدة الصحبة , وثمرة المعاشرة ، وبركة المخالطة , وحسن المجاورة , فإن أحسن في ذلك كله كان معاً في الدنيا والآخرة , وان قصر في ذلك كله كان معاقباً في الدنيا والآخرة فعليه أولاً إصلاح أهله وولده , ثم إصلاح خليط وجاره , ثم سائر الناس بعده بما بيناه من أمرهم , ودعائهم وحملهم , , فإن فعلوا آخر وإلا استعان بالخليفة لله في الأرض عليهم – فهو يحملهم علي ذلك قسراً ، ومتي أغفل الخلق هذا فسدت المصالح ، وتشتت الأمر ، واتسع الخرق ، وفات الترقيع ، وانتشر التدمير )(4)
__________
(1) أنظر في ذلك – النقطة الثانية في المطلب الثاني (السابق).
(2) جزء من الآية رقم 164 الأنعام
(3) جزء من الآية رقم 6 في سورة التحريم.
(4) أحكام القرآن – لأبى بكر محمد بن محمد المعروف بابن العربي المتوفى سنة 543 ه دار الكتب العلمية ببيروت
سنة 1988ج2 ص300(1/50)
ولقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قرر مبدأ شخصية المسئولية وأنه لا يجني أحد علي أحد ولا يسئل فرد عن جريمة أخر لم يكن له فيها تدخل من قريب ولا بعيد – فقال - صلى الله عليه وسلم - . لأبى رمثة(1)حيث دخل عليه ومعه اابنه فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : { ما هذا منك ؟ فقال ابني : قال - صلى الله عليه وسلم - إنه لا يجنى عليك ولا تجنى عليه }(2)
فإذاً قرر النبي ما قررته الشريعة الإسلامية من شخصية المسئولية الجنائية وأنه لا يحمل أحد وزر آخر , ولا شخص جريمة ثان – فإن ذلك يعد قاعدة عامه في الشريعة الإسلامية
ولكنه بقيت مسألة كانت مسار شبهة حول تحقيق مبدأ المسئولية الفردية في نظام الجنايات الإسلامي ( على وجه الخصوص ).
والمسألة هي . تحمل العاقلة للدية في حالة القتل الخطأ وشبه العمد ولقد ذكر الدكتور / على عبد الواحد وافي نصاً في كتابه (المسئولية والجزاء ) وأوضح من خلال النص الذي ذكره . أن الدية وإيجابها على العاقلة حسب تقرير الشريعة الإسلامية , تعد شبه في مجال تطبيق مبدأ المسئولية الفردية ، وأود هنا نقل ما ذكره فضيلة الدكتور بنصه حتى لا أكون متجنياً عليه إذا يقول في ذلك تحت عنوان (مظاهر من المسئولية الجمعية في الشريعة الإسلامية ) ... .
((
__________
(1) أبو رمثه التميمى بن تميم الرباب .ويقال التيميمى من ولد امرئ القيس وأختلف في اسمه فقيل – حبيب بن جبان وقيل
جبان بن وهب وقيل رفاعة بن بترنى وقيل يترعى بن عوف (راجع الاستيعاب بها مش الأصابه لابن حجر ج4 ص70.
(2) الحديث أخرجه أبو داود في الريات باب لا يؤخذ أحد بجريرة أحد ج4 ص168 .
وكذلك أخرجه ابن ماجة – في سننه ك/ الديات باب لا يجنى أحد على أحد – وكذلك في سنن الدارمى في الديات(1/51)
ولكنها – أي الشريعة – أبقيت مع ذلك على المسئولية الجمعية في بعض مظاهرها المالية , فمن ذلك أنها قررت أن معظم الجرائم التي تجب فيها الدية - وهي ما يغرم في بعض أنواع القتل العمد وغير العمد - وبعض الجرائم التي يجب فيها الأرش ... ولا يحتمل غرمها المجرم وحده بل تحتمله عاقلته في مجموعها .))(1)
ومن خلال النص السابق الذي أوردناه نلحظ أمرين : ـ
الأول : أنه جعل ذلك ضمن إطار الشبه التي ساقها في تحميل الغير وزر الجاني .
الثاني : نلاحظ عدم الفهم الصحيح لموضوع العاقلة ( أو الدية في حالة الخطأ )
حيث ذكر أن الدية في حالة العمد وغير العمد تحملها العاقلة وهذا غير صحيح ، إذ لم يرد في الشريعة الإسلامية ذلك على الإطلاق , وإنما الدية في حالة القتل الخطأ وشبه العمد تكون على العاقلة ، وفي حالة العمد يكون القصاص أو الدية إذا عفي ولى القتيل و رضي بالدية .
ويحسن بنا أن نعرض لمسألة ( العاقلة ) لنرى هل يحمل الإسلام وزر الجاني لغيره من الأفراد والجماعات أم لا ؟
وأود أن أشير قبل بدئي في بحث مسألة الدية وتحميلها للعاقلة – أنني لن أتوسع في بحث المسألة مثلما تناولتها كتب الفقه الإسلامي . وإنما أتناولها من زاوية معينة : ألا وهي لماذا كانت الدية في مسألة القتل الخطأ وشبه العمد على العاقلة ولم تكن على الجاني ؟ وهل هي من باب المسئولية الجمعية – أي تحميل الإنسان إثم ما لم يرتكبه ؟ أم لها فلسفة أخرى في الفقه الإسلامي ؟
وما هو الجانب الأخلاقي الذي راعاه الإسلام عندما أقر إيجاب الدية على العاقلة .؟ وهل في ذلك تحقيق للعدالة والتي كثيرا ما نادى الإسلام للقيام بتحقيقها ولاسيما في مجال الجنايات ؟ إذاً فدراستنا للدية والعاقلة ليس إلا من باب إظهار الجانب الأخلاقي حول المسئولية الجنائية في الشريعة الإسلامية وأسأل الله العون والسداد .
__________
(1) المسئولية والجزاء د/ على عبد الواحد وافي دار نهضة مصر – القاهرة ص60.(1/52)
النقطة الأولى : دية الخطأ وتحميلها للعاقلة .
ويحسن بنا في عرض هذه المسألة أن نجعلها في نقاط محددة حتى لا نسترسل في بحثها .
1ـ تعريف الدية:
للعلماء في تعريف الدية تعريفات كثيرة كلها متقاربة في المعنى نذكر من هذه التعريفات الآتية .
* عرفها البعض بكونها . مقدار من المال يعطى للمجني عليه أومن يحل محله
من قبل الجاني أو عاقلته أو بيت المال بسبب جنايته على معصوم(1)
*وعرفها الإمام القرطبي بقوله : " ما يعطى عوضاً عن دم القتيل إلي وليه "(2)
وكذلك عرفها الإمام الجصاص . بأنها " اسم لمقدار معلوم من بدل النفس "(3)
وعرفها الحافظ في الفتح بقوله : " ما جعل في مقابلة النفس "(4)
وعلى هذا التعريف سار كذلك الفقهاء بقولهم : " الدية ما يؤدى في مقابلة متلف
ليس بمال وهو النفس "(5)
2ـ دليل مشروعية الدية من الكتاب والسنة .
أ- من القرآن الكريم .
__________
(1) الدية في الشريعة الإسلامية دراسة مقارنة د/ موسى عبد العزيز موسى رسالة دكتوراه . جامعة الأزهر .
كلية الشريعة بالقاهرة . ص84.
(2) الجامع لأحكام القرآن الأمام القرطبي – ج5 ص316 دار الحديث القاهرة
(3) أحكام القرآن –الجصاص ج2 ص238 دار المصحف.
(4) فتح الباري يشرح البخاري . ابن حجر ج18 ط دار الغد العربي – ص269 في تعليق على
كتاب الديات من صحيح البخاري.
(5) أورد هذا التعريف الأمام السرخسي في كتابة المبسوط ج26 ص59 . ووافقه في هذا التعريف الأمام الزيلعى في
كتابه تبين الحقائق شرح الدقائق ج8 ص382.(1/53)
قال الله تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً }(1)
قال الإمام الشافعي _ يرحمه الله تعالى – في هذه الآية – ( فأحكم الله جل ثناؤه في تنزيل كتابه أن على قاتل المؤمن دية مسلمة إلي أهله .. وأبان على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - كم الدية . وكان نقل عددِ من أهل العلم عن عدد لا تنازع بينهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى في دية المسلم مائة من الإبل ...
وكان هذا أقوى من نقل الخاصة وقد روى من طريق الخاصة وبه نأخذ ( في المسلم يقتل خطأ مائة من الإبل )(2)وقال الإمام أبو بكر بن العربى :" أوجب الله تعالى الدية في قتل الخطأ جبراً . كما أوجب القصاص في العمد زجراً "(3)وفي شأن دية قتل العمد قال الله تعالى : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ }(4)
__________
(1) سورة النساء آية رقم 92
(2) أحكام القرآن – لأبى عبد الله محمد بن إدريس الشافعي سنة 204 ه دار الكتب العلمية ج1 ص282.
(3) أحكام القرآن – أبو بكر محمد بن الله المعروف – بابن العربي دار الفكر ج1 ص474.
(4) سورة البقرة .الآية رقم 178(1/54)
قال مجاهد وابن عباس ( فمن عفي له من أخيه شئ ) فالعفو أن يقبل الدية في العمد . كذا روى عن أبى العالية وأبى الشعثاء ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحسن وقتاده ومقاتل بن حيان(1)
وفي ذكره سبحانه وتعالى عن أخذ الدية وتعبيره باللفظ القرآني البديع الذي يحمل معاني أخلاقية رائعة وقيم رفيعة لم تعرف إلا من خلال منهج رباني وذلك حين قال في آية النساء { وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ }(2)
ومثلها قوله تعالى في سورة البقرة { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ }(3)
فالتعبير بهذا الأسلوب الأخلاقي الرفيع والذوق العالي . إنما هو تعبير ( يومئ إلي وجوب حسن الأداء بألا يكلفوا أسرة المقتول شطط التقاضي والمطالبة . فيجمعوا عليها ألم الفقد , ومضاضة الشكوى والتظلم(4)
وذلك في قولة تعالى { ودية مسلمة إلي أهله } ويتضح الأمر الأخلاقي أكثر في قوله تعالى { فإتباع بالمعروف أداء إليه بإحسان } ( أي إذا ترك ولى الدم القصاص من القاتل ورضى بالدية فعليه إتباع بالمعروف في المطالبة – وعلى القاتل أداء بإحسان من غير مماطله وتأخير عن الوقت )(5)
(ب) دليل المشروعية من السنة .
ذكرت أحاديث كثيرة تبين مشروعية الدية التي أمر بها القرآن الكريم ومن هذه الأحاديث النبوية قوله - صلى الله عليه وسلم - : { ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها }(6)
__________
(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير. دار الجيل بيروت جـ1 صـ199
(2) جزء من الآية رقم 92 النساء .
(3) سورة البقرة جزء من الآية رقم 178.
(4) زهرة التفاسير . الإمام محمد أبو زهرة دار الفكر العربي ج4 صـ 180 .
(5) الجامع لأحكام القرآن الإمام القرطبي ج3 صـ .
(6) سنن أبي داود ك الديات باب الدية كم هي والحديث برقم 4574 ج2 صـ 593 ، 594 دار الجنان بيروت .(1/55)
ومن الأحاديث الثابتة والتي وردت في مشروعية الدية حديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه . من حديث أبى هريرة قال :
( اقتتلت امرأتان من هزيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فاختصموا إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ومن معهم فقال حمد بن النابغة الهذلي : يا رسول الله كيف اغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل فمثل ذلك يطل فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنما هذا من إخوان الكهان من أجل سجعه الذي سجع(1)
ومن خلال الآيات الدالة على مشروعية الدية وكذلك الأحاديث يتضح لنا أن الديات تنقسم إلي قسمين :
القسم الأول : دية وجبت ابتداء وهي دية الخطأ . فإن الخطأ يوجب الدية ولا يوجب القصاص . فكانت الدية هي الأصل في العقاب وهذه هي محل بحثا في هذا الموضوع القسم الثاني : الدية تكون بدل القصاص وتكون في أحوال ثلاث :
1- أن يرضى ولى الدم أو المجني عليه بالدية
2- أن يتعذر استيفاء القصاص .
3- أن توجد شبة تمنع القصاص .)(2)
3- حكمة مشروعية الدية في القتل الخطأ ابتداءً .
إذا كانت الشريعة الإسلامية جاءت لتحقيق العدالة بين كل الناس وليس بين فئة معينه من الخلق وذلك تنفيذاً لقول الله العالي القدير حيث يقول :
{ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً }(3)
وجعلت القصاص دلالة على تحقيق العدل بين الناس فقال تعالى :
{
__________
(1) صحيح مسلم ك القسامة باب دية الجنين ووجوب الدية في قتل الخطأ .
(2) انظر هذا التقسيم للعلامة محمد أبو زهرة – العقوبة دار الفكر العربي صـ 422
(3) سورة النساء آية رقم ( 105)(1/56)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ }(1)
فإنها رأت أن تحقيق العدالة يستلزم عدم تطبيق القصاص في كل حالات القتل والجروح , بل استثنت بعض الأحوال فلم تطبيق فيها القصاص راعية بذلك تحقيق العدالة وعدم الظلم , وهذه الحالة هي حالة الخطأ .
( فإنها بذلك ترفع المسئولية الجنائية عن الجاني في حالة الخطأ لأنه لم تتوفر لدية الأسس التي تنهض عليها المسئولية الجنائية حسب رؤية الشريعة الإسلامية – ومعلوم أن الإرادة والقصد عاملان من أهم الأسس التي تؤهل الإنسان للمساءلة , وفي حالة الخطأ لم يكن للإنسان إرادة ولا قصد لفعل الجريمة ,
( حيث لم يقصد الفاعل إحداث ما وقع من الضرر , وحيث لم تكن لدية النية في أن يفتك بغيره , فيكون من الظلم في تلك الحال أن يفعل به ما لم يرد هو أن يصيب به غيره , وما قد وقع منه بدون إرادته )(2)
والإسلام حين أعفي غير العاقل والصبي من المسؤولية الجنائية لارتفاع الأهلية فإنه كذلك أعفي المخطئ من المسئولية لأنه في تكليفه على الخطأ إنما هو من باب تكليف ما لا يطاق والله عز وجل نفي هذا النوع من المؤاخذة .
فقال تعالى :
{
__________
(1) سورة البقرة جزء من الآية رقم (178)
(2) الدية في الشريعة الإسلامية دراسة مقارنه د/ موسى عبد العزيز موسى . جامعة الأزهر ص89.(1/57)
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }(1)
والآية الكريمة فيها ( نص على أن الله لا يكلف أحداً ما لا يقدر عليه ولا يطيق ولو كلف أحداً مالا يقدر عليه ولا يستطيعه لكان مكلفاً له ما ليس في وسعه )(2)
وهذا جانب أخلاقي رائع راعى فيها ربنا سبحانه وتعالى حالات النفس البشرية . وإنه ( أصل عظيم في الدين وركن من أركان شريعة المسلمين شرفنا الله سبحانه وتعالى على الأمم بها , فلم يحملنا إصراً . ولا يكلفنا في مشقةِ أمر اً)(3)
غير أن عدم مشروعية القصاص في مثل الحالة السابقة ليس معناه إهدار دم المجني عليه إذا أن القاعدة أنه لا يطل دم في الإسلام ولذلك وحبت الدية صوناً لعدم إهدار دم المجني عليه ولم يطبق القصاص إذ لم يقصد الجاني فعل الجريمة :ويقول الإمام الزيلعى : " ولما كان إيجاب العفو عن المخطئ استثناء لأنه معذور , ومرفوع عنه الخطأ , وذلك من وجه، ومن وجهه آخرلما كانت النفس الآدمية محترمة فلا وجهه إلي إهدارها وكان في إيجاب كل العقوبة عليه إجحاف له فيضم إليه العاقلة تحقيقا للتخفيف .وإنما كانت العاقلة أخص بالضم إليه لأنه إنما يقصر في الاحتراز – لقوة فيه عن ارتكاب الخطأ )(4)
__________
(1) سورة البقرة الآية رقم 286 .
(2) أحكام القرآن – أبو بكر الصديق الجصاص ج2 صـ 277 دار المصحف .
(3) أحكام القرآن بن العربي ج1 صـ 264 دار الفكر العربي .
(4) تبين الحقائق شرح الرقائق/ فخر الدين الرازي عثمان الزيلعي الحنفي ج6 صـ 177 دار المعرفة بيروت ط2 .(1/58)
فهذه الجناية غير المقصودة والتي كانت عن طريق الخطأ أوجب الشرع الإسلامي فيها الدية للإهمال وعدم الاحتياط , ولضرورة صون الدم عن الإهدار ( ولو لا ذلك لتخاطأ كثير من الناس مما أدى إلي التفانى )(1)
فهذه هي الحكمة من عدم مسائلة الجاني عن جناية الخطأ , وإيجاب الدية بدلاً من القصاص وذلك تحقيقاً للعدالة ودفعاً للظلم ...
النقطة الثانية : في العاقلة :
أولاً: تعريف العاقلة في اللغة :
وهي التي تحمل الدية عن القاتل يقول ابن منظور : " والعقل الدية . وعقل القتيل يعقله عقلاً وداه , وعقل منه(2).
( وعقل من باب ضرب أي ثنى وظيفه مع ذراعه فشدهما في وسط الذراع , وذلك الحبل هو العقال والجمع عقل ,وعاقلة الرجل عصبته وهم القرابة من قبل الأب الذين يعطون دمه عن قتله خطأ .)(3)
ثانياً : في الاصطلاح :
وقال الحافظ في الفتح : " العاقلة بكسر القاف جمع عاقل وهو دافع الدية وسميت الدية عقلاً تسمية بالمصدر لأن الإبل تعقل بفناء ولى المقتول .. ثم كثر الاستعمال حتى أطلق العقل على الدية ولو لم تكن إبلا .وعاقلة الرجل قرابته من قبل الأب وهم عصبته(4)
(وتسمى العاقلة الآن العائلة بالهمزة وهو من تحريف العامة )(5)
__________
(1) المرجع السابق صـ 177.
(2) لسان العرب ج11 صـ 462 دار الصادر بيروت سنة 1375هـ 1956م
(3) مختار الصحاح صـ 447 دار النهضة مصر.
(4) فتح الباري بشرح صحيح البخاري ج18 صـ 342 ط دار الغد العربي القاهرة.
(5) تفسير المنار – محمد رشيد رضا ج 5 صـ 337 دار المعرفة بيروت.(1/59)
ونرى من خلال التعريفات اللغوية السابقة والتعريفات الاصطلاحية أن العاقلة هي مجموعة من الناس تحمل الدية عن الجاني في حالة الخطأ أو شبه العمد . سواء أكانت هذه العاقلة هم قرابته من جهة الأب ( العصبات ) أم كانت أقاربه مع أهل النصرة من المحلة التي يعيش فيها وأهل ديوانه والعقل بمعنى الدية يكون في مال الجاني إذا كانت الجناية عمداً ويكون على العاقلة إذا كانت الجناية خطئاً فالعقل عقلان فعقل العمد في مال الجاني دون عاقلته قل أو كثر , وعقل الخطأ على عاقلة الجاني قل ذلك العقل أو أكثر , لان من غرم الأكثر غرم الأقل(1)
*ونود أن نشير إلي بعض الأمور المتعلقة بالعاقلة والتي كانت محل اتفاق بين العلماء . والتي لها شأن في إبراز الجانب الأخلاقي في تحمل العاقلة لدية الخطأ ,
1- أن العاقلة لا تحمل العمد سواء كان مما يجب القصاص فيه أولا يجب , ولا خلاف في أنها لا تحمل دية ما يجب فيه القصاص . وأكثر أهل العلم على أنها لا تحمل العمد بكل حال(2)
2- إنها لا تحمل الصلح ولا الاعتراف : وهو أن يقر الإنسان على نفسه بقتل خطأ أو شبه عمد فتجب الدية عليه ولا تحمله العاقلة – ولا نعلم فيه خلافاً ... ولأنه لو وجب عليهم لوجب بإقرار غيرهم ولا يقبل إقرار شخص على غيره , ولأنه يتهم في أن يواطئ من يقر له بذلك ليأخذ الدية من عاقلته فيقاسمه إياها .(3)
3-وكذلك لا خلاف بين أهل العلم في أن العاقلة لا تكلف من المال ما يجحف بها ويشق عليها , لأنه لازم لها من غير جنايتها، ولأنه لو كان الإجحاف مشروعاً كان الجاني أحق به،ولأنه موجب جنايته وجزاء فعله فإذا لم يشرع في حقه ففي حق غيره أولى.(4)
__________
(1) الآم للشافعي ج7 صـ 461 ط دار الغد العربي ط1 1411هـ 1991م.
(2) المغني بن قدامه المقدسي ج9 دار الغد العربي صـ 446.
(3) المرجع السابق نفسه صـ 448.
(4) المصدر السابق نفسه صـ 461 .(1/60)
ويتضح لنا من خلال النظر في النقاط السابقة أن الشريعة الإسلامية تعمل على تضيق الدائرة التي تطبق فيها تحميل الدية على عاقلة الجاني ,وذلك لأن الأصل أن يتحمل الجاني تبعة جنايته قال تعالى : { وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى }
( لكنه خص من عموما ذلك لما فيه من المصلحة )(1)
وهنا تظهر مرونة الشريعة الإسلامية وعدم جمودها وتصلبها حيال القواعد العامة التي جاءت بها , وتظهر من جهة أخرى – أهمية الاستثناءات التي جاءت بها الشريعة الإسلامية للمحافظة على الجوانب الأخلاقية التي تسعى إلي تحقيقها وهذا ما سنراه في السطور القادمة من إظهار الحكمة من جعل الدية على العاقلة .
النقطة الثالثة : الجانب الأخلاقي من إيجاب الدية على العاقلة في جناية الخطأ .
لقد احتوت الشريعة الإسلامية على مبادئ سامية وأخلاق رفيعة , وتوافقت مع الفطرة البشرية بشكل عجيب رائع قلما نجد شرعة من الشرائع حققت الجانب الأخلاقي مثلما حققته الشريعة الإسلامية وتتجلى لنا هذه المميزات الأخلاقية التي استعلت بها الشريعة الإسلامية على غيرها من النظم البشرية والنحل الوضعية عند معرفة الهدف وإيضاح الحكمة من إيجاب الشريعة الإسلامية دية الخطأ على عاقلة الجاني ,
وعند معرفة الهدف والإطلاع على الحكمة التشريعية نلاحظ أن ( دائرة الأخلاق الإسلامية المنظمة لعلاقة الإنسان بغيره أوسع من دائرة القانون , فتوجد قواعد خلقية كثيرة لا يتناول القانون مخالفتها لا بجزاء تنفيذي ولا بجزاء تأديبي , كقاعدة صنع المعروف أو إمداد المحتاج بما يساعده علي رفع حاجته. والواقع أن الضعف من خصال البشر , والنفس أمارة بالسوء وبلوغ الكمال ـ في التشريع الوضعي ـ غير مستطاع)(2)
__________
(1) فتح الباري ج18 دار الغد العربي صـ 342 .
(2) النظرية العامة للقانون د/ رمسيس بهنام سنة 1295 منشأة المعارف بالإسكندرية صـ 95.(1/61)
وتظهر كذلك براعة التشريع الإسلامي وقدرته على موائمة النفس البشرية وتحقيق أكبر قدر من الأخلاق العملية . في إقرارها مبدأ الاستثناءات التي سمحت بها الشريعة الإسلامية عند تطبيق قواعدها العامة الكلية ,
ولقد تحدثت عن هذا الموضوع سابقاً(1)بما يغني عن إعادته مرة أخرى , وإن إيجاب الشريعة الإسلامية دية الخطأ على العاقلة ليس من باب تحميل الإنسان أوزر الآخرين . وإنما هي حالة استثنائية لتحقيق أخلاق فاضلة أرادتها الشريعة الإسلامية ولم يكن من سبيل لتحققها إلا بهذه الطريقة التي وائمت بين كل الجهات ,وذلك بخلاف ما ذهبت إليه بعض النظم الوضعية من عدم كسر قاعدة التعميم – ونادى بذلك الفيلسوف الألماني الكبير ( عما ويئل كانت )(2)ولقد تأثرت من القوانين الوضعية بالمدرسة الكانتية وأفكارها ,
*وحينما أخذت الشريعة الإسلامية بجواز كسر قاعدة التعميم في بعض الحالات الضرورية والتي لا تتحقق الأخلاق الإ بهذا النوع من الاستثناءات ، فإنها بذلك لم تتسم بالمغالاة أو الحدة والصرامة في تطبيق أحكامها ومبادئها . مما يجعلها أكثر قدرة على مواكبة العصور ومجاراة الأزمان مع احتفاظها بثوابتها الأساسية , وهذا مثال عملي بين أيدينا يوضح لنا مدى وسطية الشريعة الإسلامية ومراعاتها للحالات الاستثنائية مع المحافظة على الثوابت .فالعاقلة حين حمّلت دية الخطأ لم يكن ذلك من باب الإجحاف والظلم وتحميل الإنسان جريرة ما لم تكسب يداه .
* ونريد أن تزيد المسألة إيضاحاً .
فلو أننا كنافي موضع القضاء والحكم على هذه الجناية ( القتل الخطأ ) وقدّم إلينا الجاني ماذا يكون حكمنا عليه ؟
وأرى أن الحكم في هذه القضية لا يعدوا أن يكون واحداً من ثلاث احتمالات .
__________
(1) راجع في ذلك صـ 94 فلقد بحثنا فيها المسألة بالتفصيل – الفصل الأول
(2) راجع في ذلك – رأي كانت فيما سبق – وسبق كذلك التعريف به .(1/62)
الأول : أن يحكم عليه بالسجن مدة معينة ( حسب حكم القانون الوضعي ) سواء أكان هذا السجن مع الأشغال الشاقة أو عدمها .وفي هذا إجحاف وظلم بالجاني وتحميل له جريرة ما لم يقصد وما لم تتجه إليه نيته وإرادته ,
ومعلوم أن في مسائلته على الخطأ إنما هو من باب تحميل مالا يطاق ,وهذا لم يكن من شأن الشريعة الغراء فلم تصدر مثل هذا الحكم ولله الحمد والمنة .
الثاني : وإذا كنا أدركنا أن تحميل الجاني جناية الخطأ ومؤاخذته إنما هو من باب الظلم وعدم تحقيق العدل , وتحميل مالا يطاق فالاحتمال الثاني في الحكم في هذه القضية .
أن يهدر دم المجني عليه وبذلك نجمع على ولى المقتول مصبتين :
الأولي: فقد عزيز كان له دور فعال في المجتمع
الثانية : ربما ترك صغاراً أو ضعافاً أو كلاً فاجتمع بذلك أمرين على ولى المقتول أحلاهما مر ،
وبذلك يذهب الدم هدراً - فتعم الفوضى ويكثر التخاطؤ بين الناس ( وعليه يظل صدر ولى المجني عليه يغلى غيظاً وحنقاً على القاتل ، فيفكر مرة وألف أخرى في الانتقام من الجاني ،
فتعم الفوضى ويكثر الهرج وما ذلك إلا بسبب عدم تحقيق العدالة ، وتضييع الحقوق )(1)إذا هذا الحكم لا يصلح لإقامة مجتمع فاضل قائم على العدالة والحق . فلابد من بحث عن حكم ثالث ورأى أخر للحكم على القضية التي بين أيدينا فما هو ... ؟ ليس من حكم باق إلا الاحتمال الثالث وهو ما فرضته الشريعة الإسلامية وهو أن تحمل العاقلة دية القتل الخطأ تدفع إلي ولى المجني عليه .
وعلنا في السطور القادمة نستطيع أن نوفي هذا الموضوع حقه بذكر الأهداف الأخلاقية التي أرادت الشريعة الإسلامية تحقيقها من خلال إيجاب الدية على العاقلة. وللعلماء في ذلك كلام نفيس ونصوص بليغة آثرت .. ذكر بعضها هنا .
(
__________
(1) انظر في هذا المعني العقوبة الإمام محمد أبو زهرة صـ 37 دار الفكر العربي القاهرة(1/63)
فلوجوب الدية على العاقلة وجوه سائغة مستحسنة في العقول أحدها : أنه جائز أن يتعبد إلي الله ندباً بإيجاب المال عليهم لهذا الرجل من غير قتل كان منه – كما أوجب الصدقات في مال الأغنياء للفقراء )(1)
فمسألة العاقلة إنما هي – من أحد الوجوه – مسألة تعبدية يخضع الناس فيها لحكم الله العليم – ولا سيما وهو الذي أعطاهم المال وخولهم فيه ( فالأموال ليست أموالكم في الحقيقة وما أنتم فيها إلا بمنزلة النواب والوكلاء )(2)
الهدف الثاني : ( أن موضوع الدية على العاقلة إنما هو من باب النصرة والمعونة )(3)والذي وجب على العاقلة لم يجب تغليظاً ، ولا أن وزر القاتل عليهم ولكنه مواساة محضة واعتقد أبو حنيفة أنها باعتبار النصرة فأوجبها على أهل ديوانه )(4)مستدلاً بفعل عمر بن الخطاب رضى الله عنه بأنه جعل العاقلة على أهل الديوان(5)–
( ألا ترى أنهم يتناصرون على القتال والحماية والذب عن الحريم . فلما كانوا متناصرين في القتال والحماية أمروا بالتناصر والتعاون على تحمل الدية ليتساووا في حملها كما تساووا في حماية بعضهم بعضاً عند القتال )(6)
ومسألة العاقلة بهذا الشكل التي أوضحته الشريعة ليس من باب تحميل الآخرين أوزار الجاني – وإنما هي مسئولية قائمه على أساس أخلاقي,وهو مؤازرة العاقلة قريبهم ومناصرته وايعانته على ما وقع فيه من خطأ .
(
__________
(1) أحكام القرآن الإمام أبو بكر الجصاص صـ 195 ج3 دار المصحف تحقيق محمد الصادق قمحاوي
(2) الجامع لأحكام القرآن الإمام القرطبي ج7 صـ 238
(3) أحكام القرآن الإمام أبو بكر الجصاص ج3 صـ 195 دار المصحف
(4) الجامع لأحكام القرآن – القرطبي ج5 صـ 317 دار الحديث
(5) مجموع الفتاوى ا بن تيميه ج 19 صـ 255 ، 256
(6) أحكام القرآن الجصاص ج3 صـ 195 سابق(1/64)
وتحميل العاقلة أولاً والجماعة ثانياً نتيجة خطأ الجاني يحقق التعاون والتناصر تحقيقاً تاماً, بل إنه يجدده ويؤكده في كل وقت ، فكلما وقعت جريمة من جرائم الخطأ اتصل الجاني بعاقلته واتصلت العاقلة بعضها ببعض وتعاونوا على جمع الدية وإخراجها من أموالهم . ولما كانت جرائم الخطأ تقع في كل يوم فمعنى ذلك أن الاتصال والتعاون والتناصر بين الأفراد ثم الجماعة كل أولئك يظل متجدداً مستمراً )(1)
وبذلك تضم إلي الشريعة الإسلامية نقطة أخرى تزيد من رصيدها الأخلاقي في التشريع الجنائي الإسلامي – وبذلك فرضت الشريعة التناصر وجعلته حقاً للجاني.
الهدف الثالث :
( أن في إيجاب الدية على العاقلة زوال الضغينة والعداوة من بعضهم لبعض إذا كانت قبل ذلك ، وهو داع إلي الألفة وصلاح ذات البين .
ألا ترى أن رجلين لو كانت بينهما عداوة فتحمل أحدهما عن صاحبه ما قد لحق به لأدى ذلك إلي زوال العداوة وإلي الألفة وصلاح ذات البين, كما لو قصده إنسان بضرر فعاونه وحماه عنه انسلت سخيمة قلبه وعاد إلي سلامة الصدر والموالاة والنصرة )(2)
الهدف الرابع : أوجبت الشريعة الإسلامية الدية على العاقلة تحقيقاً لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المبدأ الذي فرضه الله على الأمة الإسلامية ، فكما أنه مفترض ( على المرء أن يصلح نفسه باكتساب الخير فواجب عليه أن يصلح غيره بالأمر به والدعاء إليه والحمل عليه )(3)
__________
(1) التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي . الشهيد عبد القادر عوده ج1 صـ 676 مؤسسة
الرسالة
(2) أحكام القرآن الجصاص ج3 صـ 195 سابق
(3) أحكام القرآن ا بن العربي ج2 صـ 300(1/65)
والعاقلة لا شك لها دور كبير في توجيه الفرد وتشكيل أفكاره ، فهي تأخذ منه وتعطيه ,إذاً وجب عليها أن تحمل الغرم بالغنم ,إن القتل الخطأ إنما هو ناتج عن إهمال وسوء تقدير وعدم احتياط وهذا كله سببه سوء التربية والتوجيه ، وعدم القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . ( والمسئول عن تربية الفرد وتوجيهها هم المتصلون به بصلة الدم . كما أن الفرد ينقل دائماً عن أسرته ويتشبه بأقاربه ، فكان الإهمال وعدم الاحتياط هو في الغالب ميراث الأسرة ...
ولما كانت الأسرة تأخذ عن البيئة والجماعة فيكون الإهمال وعدم الاحتياط في النهاية ميراث الجماعة فوجب لهذا أن تتحمل أولاً عاقلة الجاني نتيجة خطئه ، وأن تتحمل الجماعة أخيراً هذا الخطأ كلما عجزت العاقلة عن حمله )(1)
( وإنما كانت العاقلة أخص بالضم إليه لأنه إنما يقصر في الاحتراز لقوة فيه عن ارتكاب الخطأ ، فالغالب أن الإنسان لا يحترز في أفعاله إذا كان قوياً فكأنه لا يبالي بأحد, وتلك القوة تحصل بأنصاره غالباً وهم قد اخطئوا بنصرتهم له وقصروا عن حفظه فكانوا أولى بالضم إليه في دفع الدية )(2)
وبذلك تحقق الشريعة الإسلامية جانباً أخلاقياً مهماً تعمل من خلاله على المحافظة على المجتمع من الهلاك والتدمير الأخلاقي وتمنع كذلك تحقيق سنة كونية بعمل فريضة قرآنية – الأخذ على أيدي الظالمين وعناصر الفساد في المجتمعات – فوجبت الدية عليهم ( زجراً لهم من غلبة سفهائهم وحثا لهم على الأخذ على أيدي سفهائهم ، لكي لا يقع منهم مثل هذه الواقعة ( هذا في شبه العمد وكذلك الخطأ ) –
__________
(1) التشريع الجنائي الإسلامي / عبد القادر عوده ج1 صـ 675 ، 676 الرسالة
(2) تبين الحقائق شرح الدقائق / فخر الدين عثمان بن علي الزيعلي الحنفي ج6 صـ 177 دار المعرفة ط2(1/66)
لأن مثل هذا الأمر عظيم قلما يبتلى به المرء من غير قصد إلا بإهمال وعدم احتياط وقلة مبالاة تكون منه ، وذلك بنصرة من ينصره )(1)
الهدف الخامس : ( لو أخذنا بالقاعدة العامة فتحمل كل مخطئ وزر عمله لكانت النتيجة أن العقوبة على الأغنياء وحدهم وهم قله و لامتنع تنفيذها على الفقراء وهم الكثرة – وذلك بسب أن الدية تستغرق مال الفقير ، بل ولا يكفيها ، ويتبع هذا أن يحصل المجني عليه على الدية كاملة إن كان الجاني غنياً ، وعلى بعضها إن كان متوسط الحال . أما إذا كان الجاني فقير وهو كذلك في أغلب الأحوال فلا يحصل المجني عليه من الدية على شئ. وهكذا تنعدم العدالة والمساواة بين الجناة ، كما تنعدم بين المجني عليهم . فكان ترك القاعدة العامة إلي هذا الاستثناء واجباً لتحقيق العدالة والمساواة )(2)
الهدف السادس : أن الدية مال عظيم وفي إيجابه على الجاني إجحاف به فأوجب الشارع
عليهم الدية مؤجلة على وجه يجعل ما يؤديه كل منهم في السنة قليلاً ليكون الأداء ميسراً
عليهم )(3)
وبعد أن ذكرنا الأهداف التي من أجلها سوغت الشريعة الإسلامية الاستثناء من القاعدة العامة ( ألا تزر وازرة وزر أخرى ) فإننا بذلك ندرك أن تحمل العاقلة لدية الخطأ ليس من هذا الباب – إنما هو من أجل تحقيق جوانب أخلاقية رائعة رأت الشريعة في تحقيقها جانب نفع أعظم للأمة .
وإيجاب الدية لهذه الأهداف والأسباب السابقة التي ذكرناها يؤدى إلي حفظ الدماء فيتضافر كل فرد من أفراد العاقلة على حفظ دماء الآخرين ، ومنع سفكها ، والأخذ بالحيطة والحذر في كل الأمور
__________
(1) المبسوط للإمام السرخسي ط السعادة ج266 صـ 96
(2) التشريع الجنائي في مقارنا بالقانون الوضعي ج1 صـ 674 ، 675 الرسالة
(3) الدية في التشريع الإسلامي دراسة مقارنة / د موسى عبد العزيز موسى . صـ 408
وكذلك المبسوط للسرخسي ج 26 صـ 96(1/67)
وفي النهاية نستطيع أن نقرر أن ( نظرية العاقلة واشترطها في تحمل الدية في الخطأ ليس من باب تحميل غير الجاني مسئولية الجاني وإنما هي من باب المواساة المعنوية في جناية صدرت من غير قصد )(1)
المبحث الخامس
الجوانب الأخلاقية في موانع المسئولية الجنائية بين الإسلام والنظم الأخرى
تمهيد :
لقد تحدثنا في المبحث الثالث عن أسس المسئولية الجنائية بين الإسلام والنظم الأخرى . وذكرنا فيه عدة أسس تنهض عليها المسئولية الجنائية ، وأدركنا أنه مهما تحققت هذه الأسس في الإنسان أصبح الإنسان مؤهلاً لتحمل المسئولية – فإنه إذ بدر منه فعل يخالف به القانون الذي يحكم به فإنه آنذاك يكون مسئولا مسئولية كاملة لأنه توفرت فيه الشروط والأسس التي جعلته صالحاً للمسئولية . من حرية واختيار ، وعلم مسبقاً بالحكم ، وإدراك كامل مؤهلاً بأسباب الأهلية التي تحدثنا عنها سابقاً . ثم تحدثنا عن أسباب المسئولية الجنائية ...
فإنه إذا توفرت الشروط ثم توفرت الأسباب فإن المسئولية آنذاك تكون واجبة على الجاني ، مسئولية جزاء وحساب وهذا أشبه ما يكون بقانون عام في التشريع الجنائي الإسلامي ، لكنه قد يخرق هذا القانون العام بقانون آخر ... استثنائي ، ألا وهو قانون الإباحة في الشريعة الإسلامية ، وكذلك موانع المسؤولية الجنائية وهذا الأخير ما نتحدث عنه الآن ،
( فقد يقع السبب ( المعصية ) مصحوباً بإذن من الشارع فيخرج بهذا الإذن من نطاق المسئولية والتجريم ، إلي رحاب الإباحة مثال ذلك .
__________
(1) الإسلام عقيدة وشريعة الشيخ / محمود شلتوت صـ 323 دار الشروق(1/68)
* الزوج الذي يضرب زوجته لنشوزها ... فالضرب في حد ذاته جريمة يُعاقب عليها وسبب للمُسألة الجنائية ، ولكن لما كان ذلك بإذن الشارع للزوج في قوله تعالى : { وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ... }(1)0 أصبح ضرب الزوج لزوجته الناشز استعمالاً للحق أعطاه الشارع له وبهذا الحق زالت صفة التجريم )(2)وبذلك أصبح مباحاً هذا الأمر الذي يعد في غير هذا الموطن من الجرائم التي تعاقب عليها الشريعة الإسلامية بالقصاص
* ومثال آخر كذلك لأسباب الإباحة : دفع الصائل الذي يعتدي على ضروريات الإنسان . وكذلك الذي يقتل إنساناً بأمر الحاكم الشرعي . فهذا ما يعرف بأسباب الإباحة في الشريعة الإسلامية ( وأساس أسباب الإباحة وجود صفة في الفعل لا يجعله محرماً )(3)،
فالفعل في ذاته أصبح في باب الإباحة خارجاً من دائرة التجريم وأما موانع المسئولية فإنها لم تكن كذلك لنفس السبب الذي وجد في الإباحة وإنما ( لسبب أخر وهو وجود صفه في الفاعل )(4)كان من شأن هذه الصفة أن جعلت الإنسان ناقص الشروط التي تؤهله للمسائلة الجنائية . والحديث في هذا المبحث إنما يدور حول موانع المسئولية الجنائية في الشريعة الإسلامية وأبرز الجوانب الأخلاقية التي راعتها الشريعة حين حددت هذه الموانع ويحسن بنا أن نعرف المانع ما هو ؟
الموانع جمع مانع والمانع هو / ( الذي يلزم من وجوده العدم ، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته ،(5)
__________
(1) جزء من الآية رقم 34 من سورة النساء .
(2) موانع المسئولية الجنائية في الشريعة الإسلامية / محمود عبد الله سيد أحمد الغول سنه 1988
رسالة دكتوراه صـ 75 ، 76
(3) التشريع الجنائي الإسلامي / عبد القادر عوده ط1 صـ562 ، 563
(4) السابق نفسه صـ 563
(5) الفروق للإمام القرافي ج1 صـ 60 دار المعرفة بيروت(1/69)
وعرفه الأستاذ / عبد الوهاب خلاف أكثر إيضاحا بقوله ( هو ما يلزم من وجوده عدم الحكم ، أو بطلان السبب ، فقد يتحقق السبب الشرعي وتتوافر جميع شروط ولكن يوجد مانع يمنع ترتيب الحكم عليه )(1)
وهذا التعريف الذي ذكره الأصوليون إنما هو يعطى نفس المعطيات والمعاني التي ذكرها علماء القانون مؤخراً في تعريفهم للموانع بأنها ( الأسباب التي تحول دون توفر أهلية الشخص للمسئولية الجنائية ... الحالات التي تتجرد فيها الإرادة من القيمة القانونية فلا يعتد بها القانون ولا تصلح محلاً للوصف السابق )(2)
فالموانع التي ذكرها الإسلام إنما هي الصفات السلبية لأسس المسئولية الجنائية والتي ذكرناها سابقاً في مبحث أسس المسئولية الجنائية وهذه الموانع هي :
الجهل – والإكراه – والسكر ( ذهاب العقل )
وسوف نتناول هذه الموانع في النقاط التالية :
أ ـ التعريف بها . ب ـ السبب الذي جعلها من الموانع .
ج ـ الجانب الأخلاقي في ذلك . د ـ أمثلة نماذج من الشريعة الإسلامية .
هـ - مقارنة بين الشريعة الإسلامية والنظم الوضعية في موانع المسئولية .
المطلب الأول
الجهل وأثره في رفع المسئولية الجنائية في الشريعة الإسلامية
تعريف الجهل :
أ – في اللغة : لقد عرف الجهل بأنه ضد العلم ونقيضه والجاهل ضد العالم ، والجمع جهل ، وجهل ، وجهل ، وجهال أو جهلاء ، والمجهول عكس المعلوم ، وأرض مجهولة أو مجهل : أي لا أعلام بها ولا جبال فلا يهتدي فيها ، وإذا كانت فيها إشارات أو معارف فليست بمجهولة ، والجمع مجاهل . وهي خلاف المعالم(3)
__________
(1) علم أصول الفقه / عبد الوهاب خلاف صـ 120 ، 121 مكتبة الدعوة شباب الدعوة الأزهر ط8
(2) شرح قانون العقوبات د/ نجيب حسني القسم العام صـ ة503 ط سنة 82
(3) لسان العرب لابن منظور ج11 صـ 128 ، 129 بتصرف . دار صادر مادة جهل حرف اللام وكذلك
معجم مقاييس اللغة لابن فارس ج1 صـ 489 ومعجم تيمور الكبير تأليف أحمد تيمور ج3 صـ 58
دار الكتب والوثائق القومية بالقاهرة سنة 2002(1/70)
وقال الراغب الأصفهاني : " الجهل على ثلاثة أضرب .
الأول : - خلو النفس من العلم وهو الأصل . أي أنه فطرى قال تعالى :
{ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً ... }(1)
الثاني : - اعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه
الثالث : - فعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل ، سواء اعتقد فيه اعتقاداً صحيحاً أو فاسداً
مثال ذلك قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ
فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ... } (3)(2)
ب – في الإصلاح : -(3)وردت عدة تعريفات أوردها العلماء في تعريفهم للجهل ونختار منها هذا التعريف الذي ذكره الإمام السبكى معرفاً الجهل بأنه ( انتقاء العلم بالمقصود , بأن لم يدرك أصلاً أو أدرك على خلاف هيئته )(4)ولقد اخترنا هذه التعريف لشموله على جميع حالات الجهل التي ذكرها العلماء من جهل بسيط ، مركب ، ظن ، وشك
* والجهل البسيط : - هو كما ذكرنا من قبل ( خلو النفس من العلم دون اعتقاد بكونها عالمة ) وهذا النوع ليس بعيب – فإنه فطرى – ولكن العيب هو التقصير في إزالة الجهل ورواء هذا الجهل التعلم )(5)
الجهل المركب : - اعتقاد الشيء جزماً على غير ما هو عليه ، وهذا الجهل يصعب
__________
(1) جزء من الآية رقم 78 النحل
(3) جزئ من الآية رقم 6 سورة الحجرات
(2) المفردات في غريب القرآن الراغب الأصفهاني صـ 108 المكتبة التوفيقية بالقاهرة
(3) انظر تعريفات العلماء في (أثار الجهل والنسيان في الفقه الإسلامي ) / محمد جميل محمد مصطفي
صـ 35 إلي صـ 45 ج1 : رسالة دكتوراه بكلية الشريعة والقانون بالقاهرة
(4) انظر المرجع السابق صـ 39
(5) كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البز دوي / علاء الدين عبد العزيز أحمد البخاري ج4 صـ 330(1/71)
إزالته لأن صاحبه يعتقد أنه عالم فلا يشتغل بالعلم . وهذا هو العيب(1)
الثالث والرابع : - الظن والشك : وكل هذه الأقسام اشتمل عليها التعريف الذي ذكرناه بأنه ( انتقاء العلم بالمقصود . بأن لم يدرك أصلاً أو أدرك على خلاف هيئته وهذا التعريف أيضاً يمتاز بأنه يتصف بالإيجاز
السبب الذي جعل الجهل من موانع المسئولية الجنائية في الشريعة الإسلامية .
ذكرنا فيما سبق أن المسئولية الجنائية تقوم على أسس ، فإذا سلمت هذه الأسس أصبح الإنسان مؤهلاً لتحمل المسئولية الجنائية وكان الإنسان بذلك ليس لديه من العيوب التي من شأنها أن تكون مانعاً للمسئولية الجنائية ،
والعلم واحد من أسس المسؤولية الجنائية ونقيض العلم الجهل , فالجهل بذلك يعد واحدا من موانع المسؤولية الجنائية في الشريعة ,ولكنها لم تجعل الجهل على إطلاقه مانعا للمسؤولية الجنائية , وإنما اشترطت لذلك شروطا إن تحققت كان الجهل عذرا مقبولا ومانعا حقيقيا من موانع المسؤولية في الشريعة
وبداية نذكر ما يجب على الإنسان معرفته على يعذر بالجهل به ما دام أنه مسلم في دار الإسلام :
لقد أعتبر الإسلام الجهل بالأحكام الشرعية ليس عذراً للتخلص من آثارها بشكل مطلق وإنما قيد ذلك بقيود ، قال ابن عابدين ( لا شك في فرضية علم الفرائض الخمس لأن صحة العمل موقوفة عليه ، وعلم الحلال وعلم الحرام ، وعلم الرياء لأن العابد محروم من ثواب عمله بالرياء ، وعلم الحسد والعجب ... وعلم البيع والشراء والنكاح ، والطلاق ، لمن أراد الدخول في هذه الأشياء ، وعلم الألفاظ المحرمة والمكفرة ... ولعمري هذا من أهم المهمات في هذا الزمان . لأنك تسمع كثيراً من العوام يتكلمون بما يكفرهم وهم عنه غافلون )(2)
__________
(1) المصدر السابق نفسه ج4 صـ 330
(2) حاشية ابن عابدين ج1 صـ 42(1/72)
وهذا الذي ذكره ابن عابدين يتضح لنا من خلاله وجوب تعلم هذه الفرائض والتي لا غناء لأحد من المسلمين ولا حياة له بدون معرفتها ولقد أوضح الأمام الشافعي هذا النوع من العلوم التي لا يجوز الجهل بها في حق المسلم في ديار الإسلام . فقال – رحمة الله تعالى – ( العلم علمان ... الأول – علم العامة فلا يسع بالغاً غير مغلوب على عقله جهله ... وذلك مثل الصلوات الخمس ، وأن لله على الناس صوم رمضان ، وحج البيت إذا استطاعوه ، وزكاة في أموالهم .. وأنه حرم عليهم الزنا ، والقتل ، والسرقة ، والخمر ... وكان في هذا المعنى مما كلف به العباد أن يعقلوه ويعلموه ويعطوه .... وهذا الصنف كله موجود نصاً في كتاب الله ؛ وموجود عاماً عند أهل الإسلام ينقله عوامهم عن من معنى من عوامهم . يحكونه عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولا يتنازعون في حكايته ولا وجوبه ، وهذا العلم العام الذي لا يمكن فيه الغلط من الخبر ولا التأويل ولا يجوز فيه التنازع )(1)
هذا هو النوع الأول من العلوم والمعارف التي لا يجوز للمسلم أن يكون بها جاهلاً ولا يعذر بالجهل بها ، ثم أشار إلي النوع الثاني من العلوم فقال :
( أما النوع الثاني : ما ينوب العباد من فروض الفرائض ( أي ينزل بهم ويعرض لهم ) ، وما يخص به من الأحكام وغيرها مما ليس فيه نص كتاب ، ولا في أكثره نص سنة ، وإن كانت في شئ منه سنة فإنما هي من أخبار الخاصة لا أخبار العامة )(2)
نريد أن نوضح الأمور التي يعذر فيها المسلم بالجهل ويكون الجهل فيها مانعاً من موانع المسئولية الجنائية ، فنقول : يعذر الجاهل بجهله إذا كان الجهل شيئاً خارجاً عن إرادة المكلف وله حالات .
__________
(1) الرسالة للإمام الشافعي باب العلم صـ 237 ط مركز الأهرام للترجمة والنشر ( سلسلة تقريب التراث .
إعداد ودراسة د / محمد نبيل غنايم
(2) الرسالة / الشافعي صـ 237 سابق(1/73)
الأولى : - إذا كان الجهل بالخطاب وعدم العلم به عائداً إلي قصور في الخطاب ، لا في المكلف ، ونذكر لذلك مثالين :
أ- إذا كان الجهل ناشئاً عن قصور في الخطاب بعدم تبليغ الدعوة كأن كان حديث العهد بالإسلام . فإذا خالف شيئاً من أوامر الشرع وكانت هذه حالته فإنه يعذر بذلك ، ولا يكون مسئولاً – وذلك لمانع الجهل الذي هو نقص فيه .
قال ابن قدامه – ( إن ادعى الزاني الجهل بالتحريم وكان مما يحتمل جهله كحديث العهد بالإسلام والناشئ ببادية قبل منه لأنه يجوز أن يكون صادقاً )(1)
فحديث العهد بالإسلام والناشئ في بادية ولم يصله الخطاب معذور بالجهل لأن هذا الجهل خارج عن إرادة الإنسان – وليس هو مقصر في عدم رفعه ، ولكن إذا أشتهر الخطاب في دار الإسلام فلا يعد الجهل به عذراً أو مانعاً من موانع المسئولية إذ أنه وجب على المكلف أن يبحث عن أصول دينه .
كما أشار إلي ذلك الأمام الشافعي سابقاً – ولقد أشار إلي ذلك صاحب كشف الأسرار بقوله ( إذا انتشر الخطاب في دار الإسلام فقد تم التبليغ من صاحب الشرع ، إذ ليس في وسعه التبليغ إلي كل واحد ، إنما الذي في وسعه الإشاعة ، ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل نفسه مبلغاً إلي الكافة ببعث الكتب والرسل إلي ملوك الأطراف حتى كان يقول ألا هل بلغت؟ ، اللهم فاشهد . فعلم أن التبليغ يتم باشتهار الخطاب واستفاضته ، فمن جهل من بعد شهرته فإنما أتى من قبل تقصيره . )(2)
ب- إذا كان الجهل سببه خارجاً عن إرادة الإنسان لظروف البيئة المحيطة به– مثال ذلك:
من أسلم في دار الحرب وجهل بعض الأحكام فإنه يعذر لأن دار الحرب ليست بمكان استفاضة وإشاعة الأحكام الإسلامية ، ولأنه إذا عذر حديث العهد بالإسلام بجهله مع أنه ناشئ في بلاد الإسلام فأولى بهذا العذر الذي نشأ في ديار غير إسلاميةـ بلاد الكفر –
(
__________
(1) المغني لابن قدامه ج8 صـ 185
(2) كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي سابق ج4 صـ 347(1/74)
فإن الخطاب النازل خفي في حقه لعدم بلوغه إليه حقيقة بالسماع ، ولا تقديراً باستفاضته وشهرته ، لأن دار الحرب ليست بمحل استفاضة أحكام الإسلام ، فيصير الجهل بالخطاب عذراً غير مقصود ... وإنما جاء الجهل بسبب انقطاع ولاية التبليغ )(1)واستدل رحمه الله تعالى بقصة أهل قباء فإنهم صلوا صلاة الظهر إلي بيت المقدس بعد نزول فرض التوجه وجوز لهم رسول الله ذلك لأن الخطاب لم يبلغهم .
الثانية –
إذا كان سبب الجهل شبهة خارجية لا دخل للمكلف فيها ويتعذر ويشق الاحتراز عنها عادة . قال الإمام القرافي في توضيح هذا : " اعلم أن صاحب الشرع قد تسامح في جهالات في الشريعة فعفا عن مرتكبيها ، وأخذ بجهالات فلم يعف عن مرتكبيها ، وضابط ما يعفي عنه من الجهالات : الجهل الذي يتعذر الاحتراز عنه عادة وما لا يتعذر الاحتراز عنه ولا يشق لم يعف عنه ولذلك صور :
أحدها :- من وطئ امرأة أجنبية بالليل يظنها امرأته أو جاريته عفي عنه لأن الفحص عن
ذلك مما يشق على الناس ،
وثانيها :- من أكل طعاماً نجساً يظنه طاهراً فهذا جهل يعفي عنه لما في تكرار الفحص
عن ذلك من المشقة والكلفة ، وكذلك المياه النجسة والأشربة النجسة لا إثم على
الجاهل بها .
وثالثها :- من شرب خمراً يظنه جلاباً ( أي شراب عمل ) لا إثم عليه في جهله بذلك .
رابعها :- من قتل مسلماً في صف الكفار يظنه حربياً فإنه لا إثم عليه في جهله به لتعذر
الاحتراز عن ذلك في تلك الحالة ، ولو قتله في حالة السعة من غير كشف عن
ذلك أثم .
خامسها :- الحاكم يقضى بشهود الزور مع جهله بحالهم لا إثم عليه في ذلك لتعذر
الاحتراز عن ذلك . ثم قال قس على ذلك ما ورد عليك )(2)
3- الجانب الأخلاقي في العذر بالجهل :
__________
(1) السابق نفسه ج4 صـ 346
(2) الفروق للإمام العلامة شهاب الدين الصنهاجي المشهور بالقرافي ج2 صـ 149 ، 150
دار المعرفة بيروت ، الفرق الرابع والتسعون(1/75)
لقد سبق أن أوضحنا المواطن التي يعذر فيها المسلم أو غيره بالجهل والأحكام التي لا يعذر فيها – الإنسان – بالجهل والأحكام الإسلامية ـ لم تأت بغير هدف لتحقيقه – وإنما هي أحكام هادفة ومعللة بعلل، وتهدف إلي تحقيق غايات سامية، ولتحقيق مصالح العباد(1)ومثال ذلك واضح في كثير من الأحكام الإسلامية قال الله تعالى :
{ وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً } (2)
وقال الله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ
رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }(2)
ولقد ذكرنا- سابقاً بعض الجوانب الأخلاقية التي أراد الإسلام تحقيقها حين جعل العلم واحداً من أسس المسئولية الجنائية – فذكرنا من ذلك الرحمة والعدالة ، ونريد أن نذكر بعض الجوانب الأخلاقية التي من أجلها جعل الإسلام الجهل واحداً من موانع المسئولية الجنائية ، فمن هذه الجوانب الأخلاقية .
أ- مراعاة الحالة النفسية لدى الإنسان :
( لقد راعى الإسلام الحالة النفسية للإنسان العلم بالحكم ، فإنه حين يكون عالماً بالحكم المتعلق بارتكاب جريمة ما فإنه بذلك يكون لديه من التهديد بارتكاب العقوبة – ما يكون كباعث مانع من ارتكاب الجريمة )(3)
__________
(1) انظر في ذلك الموافقات للشاطبي ج2 دار الفكر وكذلك السياسة الشرعية – الشيخ القرضاوي
صـ 273 مكتبة وهبة
(2) الإسراء آية 32
(3) المائدة 90
(2) فلسفة التشريع الجنائي الإسلامي / السيد طلبه السيد صـ 22 سنة 1978 رسالة ماجستير كلية الشريعة والقانون القاهرة(1/76)
ومن ذلك يظهر دور العلم في الوقاية من الجريمة ودور الجهل في ارتكاب الجريمة ، والسبب الذي من أجله دفع الشارع الحكيم المسئولية الجنائية بعذر الجهل وأثبتها بالعلم بالحكم الصادر منه . والشريعة بهذا لم تكن مشجعة للجهل ، ولا تسعى لإرساء قواعده في المجتمع الإسلامي .
بل هي على العكس من ذلك تماماً فقد سعت جاهدة لإزاحة هذا الجهل – الفطري البسيط – فضلاً أن يكون جهلاً مركباً يضر بأصحابه مما حداها أن ترفع من شأن العلم والعلماء في كثير من آيات القرآن الكريم ، وأحاديث جمة غفيرة للنبي - صلى الله عليه وسلم - فجعلت طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة ،
وكثرت الآثار في ذلك وتواترت لدى علماء الأمة وعامتها ، وإنما كان جعل الجهل بالحكم مانعاً من موانع المسئولية إنما هو من باب إعذار الجاهل الذي لم يعلم الحكم ، ولا عجب من ذلك ، فلقد جعلت الشريعة العلم بالحكم واحداً من أسس المسئولية الجنائية في التشريع الإسلامي .
*وكذلك نستطيع أن نقرر أنه من فسدت عقليته فصار جاهلاً بالأحكام – بسبب خارج عن إرادة المكلف – كأن يكون السبب تجهيل إعلامي بنشر الرذيلة وتحسينها في أعين الناس ، وطمس معالم الفضيلة وانزواءها . وذلك ممكن بوسائل الإعلان المختلفة ولا سيما في بلاد الكفرة – وبذلك تصير الشخصية جاهلة ، لا تعرف الحق ولا الفضيلة ، إذا في هذه الحالة لا تطبق الشريعة الإسلامية على مرتكب الجرم الحد ما لم يعلم ( فلا يصح إنزال الحد على من فسدت عقليته ، وغابت معاني الفضيلة عنه بل ويعد تطبيق الحد حياله ضرباً من ضروب القسوة والانتقام ، فما المصلحة في عقاب شخص على ( زنا ) ارتكبه وقد ترعرع عقله في بيئة ضالة وفاسدة يمجد فيها المنحرفون خلقياً وتروى أحاديثهم بشتى وسائل الإعلام على أنهم من علية القوم )(1)
__________
(1) الجريمة والعقوبة في الشريعة الإسلامية د/ عبد الرحيم صدقي - ط1 سنة 1408 مكتبة النهضة المصرية صـ 93(1/77)
ب – وبالإضافة إلي ما سبق نستطيع أن نقرر كذلك أن الإسلام حينما رفع المسئولية عن الجاهل – بالشروط السابقة – فإنه قد راعى بذلك انعدام قصد المعصية عند المجرم – وكما ذكرنا سابقاً أن المعصية هي السبب الذي بناءاً عليه تتم المسئولية الجنائية ، وبالجهل أو فعل الجرم عن جهل ينعدم قصد العصيان ، فبانعدام السبب تنعدم المسئولية ، وبذلك يربط الإسلام دائماً الحساب والجزاء بالعصيان لله عز وجل ، وهو جانب أخلاقي لم يكن للنظام البشرى من استطاعة للرقى إليه ،
4- نماذج وأمثله من الشريعة الإسلامية :
وجدت في الشريعة الإسلامية . نماذج كثيرة ذكرها العلماء والفقهاء بينوا من خلالها موقف الشريعة الإسلامية من مدى اعتبار الجهل عذراً يعذر به الجاهل ويكون مانعاً من موانع المسئولية الجنائية ، فلقد كانت كتب(1)الفقه على الخصوص ثرية في بحث هذه المسألة وأذكر الآن بعض النماذج :
( 1 ) الجهل بتحريم الزنا :
(
__________
(1) من أراد الاستزادة فليرجع إلي كتب الفقه الإسلامي ومنها علي سبيل المثال
أ ... معني المحتاج ج3 صـ 146 ط مصطفي الحلبي سنة 1337 هـ
ب- شرح فتح القدير ز لابن الهمام الحنفي ج5 الحلبي صـ 350 وما بعدها وكذلك المبسوط لشمس الدين السرخسي
جـ 24 صـ 32 مطبعة السعادة بمصر د/ حاشية الدسوقي ج4 صـ 352 ط المكتبة التجارية الكبرى
جـ ـ المغني بن قدامه ج8 صـ 184 صـ 185 مكتبة الرياض الحديث والأشباه والنظائر – للسيوطي ط الحلبي
صـ 220 * المحلي بن حزم ج11 صـ 188 مسألة رقم 2194 طبعة إدارة المطبعة بمصر 1352 هـ
(*) المحلل بن حزم ج11 صـ 188 المسألة رقم 2194 طبع إدارة المطبعة المنبرية بمصر سنة 1352هـ(1/78)
اتفق الفقهاء على أن العلم بالتحريم شرط في حد الزنا ، فإن كان من صدر منه الفعل غير عالم بتحريم الزنا لقرب عهده بالإسلام أو بعده عن المسلمين ، كما لو نشأ ببادية بعيدة عن دار الإسلام لم يجب عليه الحد للشبهة ، ولما روى عن سعيد بن المسبب ( أن رجلاً زنى باليمن فكتب في ذلك عمر – رضى الله عنه – ( إن كان يعلم أن الله حرم الزنا فاجلدوه ، وإن كان لا يعلم فعلموه – فإن عاد فاجلدوه ) (*)
وروى عن عمر أيضاً ( أنه عذر رجلاً بالزنا بالشام ادعى الجهل بتحريم الزنا ) وكذلك روى عنه عن عثمان – رضى الله عنه ( أنه عذرا جارية زنت وهي أعجمية وادعت أنها لم تعلم التحريم ) وذلك لأن الحكم في الشرعيات لا يثبت إلا بعد العلم . وما ذكر من نقل الإجماع – السابق – بخلاف من نّشأ في دار الإسلام بين المسلمين ، أوفي دار أهل الحرب المعتقدين حرمته م دخل في دارنا فإنه إذا زنى يحد ولا يقبل اعتذاره )(1)
( 2 ) الجهل بالحكم في شرب الخمر :
والجهل بتحريم الخمر مثل الجهل بتحريم الزنا ، وبنفس الشروط الواردة فيه التي ذكرناها ، فيشترط العلم بالتحريم في قول أكثر أهل العلم فإن جهل فلا شئ عليه ولا يحد
وذلك لأنه غير عالم بتحريمها ، ولا قاصداً إلي ارتكاب المعصية(2)
( 3 ) الجهل بالحكم في السرقة :
(
__________
(1) الموسوعة الفقهية . إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت ط 2 سنة 1423 ، 2003 ج24 وما بعدها
وانظر كذلك معناه في المحتاج إلي معرفة ألفاظ المنهاج – الخطيب – علي متن المنهاج للنووي ج4 صـ 146
مصطفي الحلبي 1958
(2) انظر في ذلك . أ- المبسوط للسرخسي ج24 صـ 32 مطبعة السعادة
ب ... حاشية الدسوقي علي شرح الكبير / محمد عرفه الدسوقي ج4 صـ 352 ط المكتبة التجارية الكبرى .
جـ - المغني لابن قدامه ج8 صـ 185 مكتبة الرياض الحديثة(1/79)
وكذلك لا يقام الحد على السارق إذا كان يجهل الحكم بالتحريم، فالجهالة بالتحريم ممن يعذر بالجهل شبهة تدرأ الحد )(1)
أما العلم بالتحريم والجهل بالعقوبة فمعلوم لدى العلماء أنه لا يعد شبهة من الشبهات التي تدرأ الحدود وذلك لحديث ماعز الأسلمي رضى الله عنه عندما اعترف على نفسه بالزنا وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجمه فأخذه أصحابه فرجموه فلما كان مس الحجارة قال يا قوم ( ردوني إلي رسول الله فإن قومي قتلوني – غرونى من نفسي ، وأخبروني أن رسول الله غير قاتلي فرجموه )(2)فهذه بعض النماذج الفقهية التي نتبين من خلالها أن الجهل بالحكم يعد في الشريعة الإسلامية واحداً من موانع المسئولية الجنائية .
وبذلك كانت الشريعة – ( فوق ما لها من فضل السبق في تحديد هذه الموانع - ) مراعية لحالات الإنسان وظروفه النفسية والعقلية ، والمؤثرات الخارجية والداخلية الدافعة إلي ارتكاب الجريمة، فلم تحمل الإنسان ما يكون إجحافاً به ، أو ليس من قدرته الإتيان به فالحمد لله صاحب المنة والفضل على عبيده .
المطلب الثاني
الإكراه وأثره في رفع المسئولية الجنائية في الشريعة الإسلامية .
__________
(1) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع علاء الدين الكساني الحنفي سنة 587 ط1 سنة 1910
مطبعة الجمالية بالقاهرة ج7 صـ 80 مضمونه
(2) سنن أبي داود ك الحدود . باب رجم ماعز بن مالك ، والحديث برقم ( 4420 ) ج4 صـ 551(1/80)
يعتبر الإكراه واحد من موانع المسئولية الجنائية في الشريعة الإسلامية فالإنسان المكره عديم الإرادة مسلوب الحرية ، فإذا ما أتى جناية من الجنايات تحت وطأة المكره فإن الشريعة تعتبر فعله هذا ناقص الشروط التي بناءا عليها تبنى المسئولية الجنائية . فمعلوم أن الاختيار وحرية الإرادة يعدان شرطاً للمسئولية الجنائية في الشريعة الإسلامية – ولقد ذكرنا ذلك عند حديثاً عن أسس المسئولية الجنائية ، والإكراه بعكس الاختيار وحرية الإرادة ، ويدور بحثنا في هذا المطلب حول النقاط التالية .
أولاً : تعريف الإكراه :
1ـ الإكراه في اللغة :
الإكراه مأخوذ من كرهته أكرهه من باب تعب(1)
وأقامه فلان على كره ، أي اكرهه على القيام ،(2)
والكره : بالفتح والضم – الإباء والمشقة ، وقيل بالضم : ما أكرهت نفسك عليه ، وبالفتح ما أكرهك(3)غيرك عليه وجاء في الدر المختار : الإكراه في اللغة : حمل الإنسان على شئ يكرهه(4)ومن خلال التعريف اللغوي يتضح أن الإكراه فعل شئ بغير حرية ورضا ( فالكره والكره معنى قائم بالمكره ينافي المحبة والرضا ويستعمل كل واحد منها مقابل الآخر )(5)
2- في الاصطلاح :
لم تخرج التعريفات الاصطلاحية لدى الفقهاء المسلمين عن هذا المعنى اللغوي السابق فقد عرفه صاحب كتاب كشف الأسرار بأنه ( حمل الغير علي أمر يكرهه ولا يريد مباشرته بتخويف يقدر الحامل علي اتباعه ويصير الغير خائفا به )(6)
وعرفه ابن عابدين بأنه ( فعل لا يحق يوجد من المكره ( بالكسر ) فيحدث في المكره
(
__________
(1) المصباح المنير ج2 صـ 643
(2) مختار الصحاح ز الرازي صـ 568 ، صـ 569
(3) القاموس المحيط ج4 صـ 293 دار الجيل بيروت
(4) رد المحتار علي الدر المختار لابن عابدين ج5 صـ 96 مطبعة عيسي الحلبي
(5) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع علاء الدين الكاساني ج9 صـ 4479 مطبعة الإمام
(6) كشف الأسرار –البزدوى جـ4ص383(1/81)
بالفتح ) – معني يصير به مدفوعاً إلي الفعل الذي طلب منه)(1)
فإذا كان الأصل اللغوي لمعني الإكراه هو حمل الشخص علي فعل يكرهه فإنه في الشريعة الإسلامية ( لدي اصطلاح الفقهاء المسلمين ) متلاق مع هذا المعني اللغوي تمام التلاقي, فالإكراه في الشريعة الإسلامية ( حمل الشخص علي فعل أو قول لا يريد مباشرته ) وبذلك يتبين أن الإكراه والرضا لا يمكن أن يتلاقيا )(2)
وليس كل إكراه في الشريعة الإسلامية يصبح مانعاً من موانع المسئولية الجنائية , بل وضع الفقهاء المسلمون لذلك ضوابط وشروط : وفرقوا بين الإكراه الذي ينعدم به الاختيار والحرية والإكراه الذي لا يفسد به الاختيار ولا يتأثر به .
( و في هذه الدراسة لسنا بصدد الحديث التفصيلي عن موانع المسئولية الجنائية من حيث اختلاف العلماء فيها تفصيلاً إنما أذكر ذلك علي جهة الإجمال لا التفصيل )(3)
ثانياً : أنواع الإكراه في الشرعة الإسلامية والجانب الأخلاقي فيها :
ولقد ذكر الفقهاء أن الإكراه ليس مرتبة واحدة , بل هو أنواع فقسموه علي النحو التالي:
__________
(1) ردّ المحتار على الدر المختار لابن عابدين جـ5 صـ 122وما بعد ها
(2) الجريمة للإمام محمد أبو زهرة دار الفكر العربي صـ37 يتصرف
(3) لمزيد من التوسع والوقوف على رأى الفقها في ذلك فليراجع الآتي
أ- كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام اليزدوى للشيخ عبد العزيز البخاري جـ4 صـ383 وما بعدها
ب- رد المحتار على الدر لابن عابدين ج5 صـ122 وما بعدها
ج-نبين الحقائق في شرح كنر الدقائق – للإمام الزيلعى جـ5 صـ181 وما بعدها
د- المعنى لابن قدامه جـ8 دار الغد صـ313 وما بعدها
هـ- حاشية الدسوقي على الشرح الكبير / شمس الدين محمد عرفه الدسوقي جـ2 صـ368 وما بعدها .. .
مطبعة عيسى الحلبي سنة 57 .(1/82)
الأول إكراه ملجئ وهو يعدم الرضا ويفسد الاختيار وهو يتحقق بالتهديد النفسي أو تهديد بتلف عضو أو بعضه أو ضرب مبرح )(1)
وهذا النوع يسمي إكراهاً تاماً لأنه يجعل المكره – في يد المكره كالآلة في يد الفاعل والسيف في يد الضارب
يقول الإمام السرخسي في ذلك ( ولكن الأصح أن تأثير الإكراه في جعل المكره آلة للمكره , فيصير الفعل منسوباً إلي المكره بهذا الطريق وجعل المكره آلة بالإكراه ينعدم الاختيار منه أصلا , ولكن يفسد اختياره به لتحقيق الإلجاء,فالمرء مجبول علي حب حياته , وذا يحمله علي الإقدام علي ما اكره عليه , فيفسد اختياره من هذا الوجه , والفاسد في معارضة الصحيح كالمعدوم , فيصير الفعل منسوباً إلي المكره لوجود الاختيار الصحيح منه والمكره يصير كالآلة لانعدام اختياره حكما في حال معارضة الاختيار الصحيح)(2)
والشريعة الإسلامية علي الرغم من اعترافها بهذا النوع من الإكراه ( الملجئ ) وجعلها المكره كالآلة في يد المكره علي الفعل غير أنها راعت معني أخلاقي رائع حينما حددت الجرائم التي يمكن أن يؤثر فيها الإكراه الملجئ والجرائم التي لا يمكن أن يؤثر فيها الإكراه حتى ولو كان ملجئاً فالجرائم بالنسبة للإكراه علي ثلاثة أنواع :
1- نوع لا يؤثر عليه الإكراه فلا يبيحه الإكراه ولا يرخص فيه
2- نوع يبيحه الإكراه فلا يعتبر جريمة
3- نوع يرخص به الإكراه فيعتبر جريمة ولكن لا يعاقب علية)(3)
النوع الأول من الجرائم :
__________
(1) راجع في ذلك : رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين جـ5 صـ122 حلبي و كشف الأسرار جـ4
صـ383 . وكذلك الأشباه والنظائر لابن نجيم الحنفي صـ282 دار المعرفة بيروت
(2) المبسوط لشمس الأئمة السرخسي جـ24 ًـ309
(3) رد المحتار على الدر المختار جـ5 صـ 126 ط عيسى الحلبي .(1/83)
وهو الذي لا يؤثر الإكراه فيه فلا يعتد بحالة المكره في ارتكابه وذلك مثل قتل الغير بغير حق أو قطع عضو من أعضائه أو ضربه ضرباً مهلكاً أو مفضياً إلي الهلاك .
مثال لهذا النوع من الإكراه , هو أن يقوم المكره بإكراه المكره بأن يقتل فلاناً وإلا قتله هو, في هذه الحالة لا يجوز ارتكاب مثل هذه الجريمة تحت مسمي الإكراه ( فهو يحرم علي الشخص فعله ويأثم بإتيانه)(1)
ولقد نهي النبي عن إباحة دم المسلم وماله فقال - صلى الله عليه وسلم - كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضة)(2)
وقال الله تعالى : { وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ }(3)
وقال تعالى :
{ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً }(4)
والظاهر أن الفقهاء يرون أن كل جريمة يمكن أن تباح أو يرخص بها للإكراه إلا قتل الإنسان و الاعتداء عليه اعتداءاً مهلكاً , فإنه كبيرة والتساهل فيها يؤدي إلي خطر جسيم ,
ولذلك يتشددون في هذه الناحية ويجمعون علي عدم تأثير الإكراه)(5)
__________
(1) التشريع الجنائي الإسلامي المرحوم عبد القادر عودة جـ1 صـ568 الرسالة
(2) صحيح مسلم في ك البر تحريم ظلم المسلم . وسنن أبو داود في ك الأدب باب الغيبة
(3) سورة الأنعام جزء من الآية رقم (151)
(4) سورة الأحزاب (58)
(5) التشريع الجنائي الإسلامي .عودة ج1 صـ569(1/84)
فلا يزيل المسئولية الجنائية ولا يؤثر فيها إذا ما ارتكب الجريمة والعلة الأخلاقية التي عللت بها الشريعة الإسلامية هذا الأمر هو أن الأساس في الترخيص وزوال الإثم بالإكراه أن المكره إكراهاً تاماً يفعل ما يفعل محافظة علي حياته من غير أن يكون في الصادر عنه إتلاف لحياة غيره فكان الترخيص – تحت الإكراه – لدفع ضرر اكبر عن نفسه بضرر أقل يقع علي غيره أما بالإكراه علي قتل الغير أو قطع عضو من أعضائه فإنه ليس في الترخيص دفع ضرر كبير باحتمال ضرر يسير , بل فيه دفع ضرر متوقع بضرر واقع وثابت يماثله أو يزيد عليه ( ولا يصح ارتكاب ضرر كبير واقع لدفع ضرر مثله متوقع )(1)
والذي ذكرناه – من حيث عدم الإكراه ودفع الإثم والعقوبة عن المكره إنما هو معني أخلاقي متوائم مع القطرة البشرية السليمة , فما هي الحكمة التي من أجلها أجيز قتل إنسان بغير حقن لنجاة إنسان آخر , إنه ليس هناك من معني وراء ذلك إلا الأنانية وحب الذات وهذا منطق غير أخلاقي حرصت الشريعة الإسلامية علي ألا يكون موجوداً بين أبناءها , فكان حكمها ألا يزال الضرر المتوقع بضرر ثابت ولا يزال الضرر بالضرر)(2)
وقال - صلى الله عليه وسلم - { لا ضرر ولا ضرار }(3)
وقال - صلى الله عليه وسلم - { لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه }(4)
__________
(1) الجريمة , أبو زهره دار الفكر صـ379 يتعرف وانظر الأشباه والنظائر لابن نجم الحنفي
القاعدة الخامسة (الضرر يزال ) صـ 85 دار المعرف
(2) أنظر في ذلك : الأشباه والنظائر لابن نجم صـ85 وما بعدها دار المعرفة بيروت
(3) سنن ابن ماجة ك الحكام باب من بنى في حقه ما يضر بجاره جـ2 صـ754, صـ784 والحديث برقم
( 2341)وقال ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم صـ296 حديث حسن
(4) صحيح مسلم في ك الأيمان باب الدليل على أن من خصال الأيمان . جـ1 صـ67(1/85)
في هذا محافظة علي أموال الغير وعرضه ( فالأموال والنفوس معصومة فكل فعل ضار بالإنسان أو بماله مضمون علي فاعله إذا لم يكن له حق فيه)(1)
والنوع الثاني من الجرائم واثر الإكراه الملجئ فيه ( فهو الذي يباح للإنسان فعله ويأثم بتركه إذا كان في حالة ضرورة أو إكراه ملجئ – كشرب الخمر والدم وأكل لحم الخنزير)(2)
فلقد رفعت الشريعة الإسلامية المسئولية الجنائية عن الفاعل تحت وطأة الإكراه أو الضرورة لهذا الجرائم التي حذرت من إتيانها في حاله عدم الاضطرار قال تعالى :
{ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ }(3)
ففي هذا الموطن تتبع الشريعة الإسلامية سياسة القاعدة الفقهية اتباع أخف الضررين فبقاء علي حياة الإنسان أباحت الشريعة الإسلامية ما هو ضاربه في سبيل نجاته من ضرر أكبر وهو الموت جوعاً في حاله الضرورة , أو تحت وطأة المكره ظلماً الذي يكرهه علي شئ معين وإلا أضر بحياته أو قطع عضواً من أعضائه، وعلي ذلك ( فالمكره علي الشرب لا يجب عليه الحد إذا كان الإكراه تاماً ( فقد شرب غير آثم ) و لأن الحد شرع زاجراً عن الجناية في المستقبل , والشرب خرج من أن يكون جناية بالإكراه وصار مباحاً أو واجباً عليه , وإذا كان ناقصاً يجب , لأن الإكراه الناقص لم يوجب تغير الفعل عما كان عليه قبل الإكراه فلا يوجب تغير حكمه)
__________
(1) التشريع الجنائي الإسلامي صـ76جـ1 عودة
(2) رد المحتار على الدر المختار لا بن عابدين جـ5 صـ126 عيسى الحلبي
(3) سورة الأنعام جزء من الآية رقم (119)(1/86)
والنص السابق الذي ذكره الإمام الكاساني في كتابه بدائع الصنائع يتضح لنا من خلاله أن فقهاء المسلمين لم يغفلوا نسبة حرية الإرادة والاختيار لدي الإنسان حين قدومه علي ارتكاب الجناية وبناءاً علي وجود الإرادة وعدمها تتحدد درجة المسئولية الجنائية في الشريعة الإسلامية، ونري في النص السابق التفريق بين الإكراه التام ( الملجئ ) والإكراه الناقص فالأول لا يكون معه مسئولية وذلك لانتقاء الإرادة والحرية انتفاءاً كاملاً , وفي الحالة الثانية لا يعتد بهذا النوع من الإكراه لأنه غير ملجئ إلي ارتكاب مثل هذه الجريمة،
إن مثل هذا التفريق الدقيق لم يكن أحد يعلمه أو يتحدث به إلا فقهاء المسلمين , مما يعطي لنا خلفية فكرية دقيقة عن الحالة الفكرية التي كانت يحياها المسلمون الأوائل وعلي الخصوص في مجال التشريع الجنائي ولا شك أن مثل هذا التصوير كان له تأثير في الناحية الأخلاقية في تطبيق الحدود علي الخصوص والشريعة الإسلامية علي وجهه العموم .
النوع الثالث: من الإكراه وأثره في الجرائم ( وهو الذي يرخص للشخص في فعله ويثاب علي تركه كإجراء كلمه الكفر وشتم النبي صلي الله عليه وسلم وترك الصلاة وكل ما ثبت بالكتاب الكريم)(1)
فالإكراه في هذه الأحوال لا يسقط النهي ولكن يرخص للمكره مع ذلك أن يجيب من اكرهه)(2)قال الله تعالى :
{ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ *
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ
وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }(3)
__________
(1) موسوعة الفقه الإسلامي جـ23 المجلس الأعلى للشئون الإسلامية القاهر سنة 1993 صـ53
(2) الجريمة آبو زهره صـ376
(3) سورة النحل الآية رقم (106, 105)(1/87)
فهذه أنواع ثلاثة ذكرها الفقهاء المسلمون تحت النوع الأول من الإكراه( التام أو الملجئ ) ومن خلال الأنواع الثلاثة والتأمل فيها ندرك عناية الشرعية بالمحافظة علي أخلاقيات المجتمع وصيانة حرماته
والنوع الأول : الذي ذكرناه لم تعتد الشريعة بالإكراه فيه ولم تقر المكره علي فعله .
ولقد فصلنا في ذلك القول
والنوع الثاني : إباحته لدفع الضرر الأكبر بالضرر الأصغر
وفي النوع الثالث : رخصت للمكره بالفعل ظاهراً فقط حماية للنفس من الهلاك وصيانة للعرض ( إذ أن القاعدة تقرر سلامة الأبدان مقدمة علي صحة الأديان )
والنوع الثاني من أنواع الإكراه إكراه غير ملجئ أي ناقص لا يعتد بأثره في ارتكاب الجرائم ( ويتحقق بالتخويف بالحبس مدة مديدة وهي ما زاد علي يوم وبالضرب اليسير الذي لا يخاف فيه تلف النفس وهذا النوع معدم للرضا غير مفسد للاختيار لعدم الاضطرار إلي مباشرة ما اكره عليه)(1)
ثالثاً: شروط الإكراه .
لقد راعي الفقهاء المسلمون عند تطبيق الحد علي المكره أو عند محاسبته عما ارتكبه من جرائم درجة اختياره وإرادته , ومدي رضاه بما وقع منه، ووضعوا شروطاً يجب توافرها في الإكراه حتى يعتد به ويكون له أثره الذي ترفع به المسئولية الجنائية وهذه الشروط ملخصة في الآتي:
أ- أن يكون الشيء المكره به متلفاً نفساً أو عضواً أو موجباً غماً يعدم الرضا وهذا أدني
مراتبه وهو يختلف باختلاف الأشخاص فإن الأشراف يغمون بكلام خشن والارازل
ربما لا يغمون إلا بالضرب المبرح
ب- قدرة المكره علي تحقيق ما هدد به بولاية أو تغلب أو فرط هجوم
ج- عجز المكره عن دفعه بهرب أو استغاثة أو مقاومة
د- خوف المكره إيقاعه ( أي إيقاع ما هدد به ) في الحال بغلبة ظنه ليكون ملجئاً
ل- أن يكون عاجلاً
م- أن يكون معيناً – مثال اقتل زيداً أو عمراً – ليس بإكراه
__________
(1) راجع في ذلك رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين جـ5 صـ122. ط عيسى الحلبي .(1/88)
هـ- أن يحصل بفعل المكره عليه التخلص من المتوعد به فلو قال اقتل نفسك
وإلا قتلتك فليس بإكراه
و- كون المتوعد مما يحرم تعاطيه علي المكره
ي- كون المكره ممتنعاً عما عليه قبله إما لحقه كبيع ماله أو لحق شخص آخر كإتلاف مال الغير أو لحق الشرع كشرب الخمر والزنا )(1)
فهذه هي الشروط التي اعتبرها العلماء قيوداً لتحقيق الإكراه التي يسوغ بها رفع المسئولية الجنائية في الشريعة الإسلامية ولقد أثرت ذكر هذه الشروط كما هي موجودة في بطون كتب الفقه – والتي قد أشرات إليها في الهامش – وذلك لما يتوفر فيها من حسن الصياغة واحتوائها على كل شروط الإكراه الذي يرفع المسئولية – مما يحملنا على كف أيدينا من إعادة صياغتها أو زيادة عليها وإن دل فإنما يدل على مدى تقدم الشريعة الإسلامية وسبقها كل النظم والشرائع بقرون طويلة وسنيين عديدة قاطعة على النفس البشرية ادعائها صنع الجريمة تحت وطأة الإكراه أو الضرورة الملجئة ، ومن ناحية أخرى معطية للإنسان حقوقه من حرية الاختيار عند مسائلته ليكون الحساب عدلاً لا ظلم فيه ولا جور .
رابعاً : نماذج وأمثلة من الشريعة الإسلامية .
ذكر في حديثنا عن أنواع الجرائم التي لا يؤثر الإكراه فيها، والتي يؤثر فيها ويكون الإكراه سبباً لرفع المسئولية – عدة نماذج – ومثلنا لكل نوع من أنواع الجرائم الثلاث بأمثلة . ولكن ذلك لم يكن تفصيلياً ونود أن نذكر مثالاً – نبين من خلاله – موقف الشريعة الإسلامية من الإكراه على جريمة من أبشع الجرائم الأخلاقية وهذه الجريمة هي جريمة الزنا ،
__________
(1) أنظر في ذلك :
(أ) الأشباه والنظائر جلال الدين عبد الرحمن السيوطي مطبعة عيسى الحلبي صـ229 , صـ230
(ب) وانظر كذلك ردّ المحتار على الدر المختار ابن عابدين جـ5 صـ123 عيسى الحلبي
(ج) وانظر في ذلك : المغنى لابن قدامه بالشرح الكبير جـ8 صـ313 , 314 دار الغد العربي(1/89)
ولقد كان هناك خلاف فقهي دائر بين العلماء حول تصنيفهم لهذه الجريمة هل هي من النوع الأول من الجرائم والتي لا يؤثر الإكراه فيها ؟ بمعنى إذا أتاها الإنسان مكرها ً فلا يعتد بهذا الإكراه فلا يدرأ به حداً ولا يرفع به إثماً ؟
أم هي من النوع الثاني من الجرائم التي يؤثر الإكراه فيها ؟ فيدرأ بها الحد ويرفع به الإثم ؟ فهذا ما سنعلمه إن شاء الله تعالى ولقد خصصت جريمة الزنا دون غيرها من الجرائم لعدة أسباب
( 1 ) لمدى عناية العلماء بذكرها وتفصيل الحديث حولها . فكثيراً ما شغلت أفكار العلماء
وتصور الفقهاء الأوائل
( 2 ) أن جريمة الزنا جريمة مستقبحة أخلاقياً لدى العقلاء وإن لم يرد الشارع بها .
( 3 ) هذه الجريمة في حالة الإكراه تكون بمثابة المسألة الشائكة والتي يصعب القطع فيها
برأي، لذا وجدنا اختلاف العلماء حولها بهذا الشكل الأتي الذي يجعلها تحت نوعين
من الجرائم:
( 4 ) ذكرنا لهذه الجريمة على الخصوص يطل بنا على الجانب الأخلاقي الذي سعت
لتحقيقه الشريعة الإسلامية الغراء ، فيظهر لنا مدى الفارق بين الشريعة السماوية
والنظم الوضعية البشرية الأرضية . وبداية نود أن نقرر هنا أن الإكراه إنما هو
نوعان كما تحدثنا عنه سابقاً .
( 1 ) إكراه ملجئ .
( 2 ) إكراه غير ملجئ
والزنا من أبشع الجرائم في حياة البشر ،واعتبره الإسلام من الكبائر وحاربه وشنع على مرتكبه ، وجعل عقوبته من اشد العقوبات في الإسلام . فكان الرجم حتى القتل للمحصن ، والجلد مائة جلدة لغير المحصن . وكان ذلك كله من الحفاظ على الأعراض وحياتها ولئلا تختلط الأنساب وإبعاداً للمجتمع عن الانغماس في الفاحشة وتفشي الرذيلة .
قال الله تعالى: { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً }(1)
__________
(1) سورة الإسراء آية رقم 32(1/90)
وقال تعالى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ
اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }(1)
* والإنسان قد يتعرض للإجبار على فعل هذه الفاحشة تحت وطأة ظروف ملحة أو وطأة سلطان جائر أو عدو غاشم ، فما موقف الإسلام من ذلك ؟ هل يحاسب المكره على هذه الجريمة ولا يلتفت إلي انعدام الاختيار والرضا لدية ؟
أم أنه يعذر المكره ويسقط عنه الحد لأنه لم يفعل ذلك عن طواعية واختيار ، فالجواب على هذه التساؤلات إنما تكون الإجابة عليها حسب أنواع الإكراه التي ذكرناها سابقاً .
أولاً : - إذا كان الإكراه غير ملجئ – ( وسبق تعريفه وبما يتحقق ) فإنه في هذه الحالة لا يعتد به ولا يكون له أثر في إباحة الفعل ولا رفع العقاب هذا إن كان المكره رجلاً .
وحكاه ابن العربي إجماعاً فقال : " ولو اكره رجل بالسجن على الزنا ما جاز له ذلك إجماعاً "(2)واستدل العلماء على ذلك بما اختاره نبي الله يوسف عليه السلام . السجن على ارتكاب فاحشه الزنا عندما هدد بالسجن أو الفعل ، فأبى ذلك وصبر على السجن . قال الله تعالى على لسان يوسف عليه السلام :
{
__________
(1) آيه رقم 2 من سورة النور
(2) أحكام القرآن لا بن العربي جـ3 صـ 1074(1/91)
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ }(1)... وعلى هذا فإن أكره على الزنا بما دون تلف النفس أو العضو أو نحو ذلك ، فإنه لا يجوز له الإقدام عليه ، وان أقدم أثم وعليه الحد ، لأن الإكراه الناقص لا يفسد الاختيار ، وعليه أن يصبر على البلاء ولا يقدم على الزنا للحرمة الشديدة )(2)
وفي ذلك- وتحت الإكراه غير الملجئ- لا يكون ضرراً كبيراً ، بل هو ضرر يسير فعليه أن يدفع الضرر الأكبر بالأصغر ( والتهديد له بالحبس أو القيد الذي لا يتلف النفس أو العضو لا يكون إكراهاً ، لعلة قدرته على الصبر وتحمل الأذى اليسير ، وبإقدامه على الزنا يكون قد ارتضى لنفسه اعظم أنواع الفحشاء ليحمى نفسه من ضرر يسير فلا شبهة تسقط الحد عنه )(3)
أما المرأة إن ارتكبت جريمة الزنا وهى مستكرهة فإنه لا حد عليها وان كان الإكراه غير ملجئ . ( ولكن بالطبع مع تحقق بقية شروط الإكراه السابقة ذكرها ) فقد جاء في البدائع للكاسانى ما نصه ( أما حق المرأة فلا فرق بين الإكراه التام والناقص ويدرأ الحد عنها في نوعى الإكراه ، لأنه لم يوجد فيها فعل الزنى ، بل الموجود هو التمكين ، وقد خرج من أن يكون دليل الرضا فيدرأ عنها الحد )(4)
__________
(1) سورة يوسف آيه رقم 33
(2) الإكراه وأثره في الرضا بالتصرفات رسالة دكتوراه د/ فخري خليل أبو صفية صـ102 كلية الشريعة والقانون
بالقاهرة سنة 1399 , 1979
(3) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع / الكاسانى جـ9 صـ4491 الناشر مطبعة الإمام لصاحبها ذكريا على يوسف
(4) المراجع السابق نفسه صـ4491(1/92)
وعبارة الكاسانى السابقة توضح سبب خروج العلماء عن الاختلاف في شأن المرأة وهو عدم وجود أمارة منها تدل على الرضا ( وذلك بعكس الرجل في انتشار آلته )فأنه لم يوجد منها إلا التمكين وهو لا يمكن أن يكون دليلاً على الرضا . فالعلة عند العلماء إنما هي مرتبطة بمسألة الرضا وحرية الاختيار.
فالعلماء متفقون على أنه لا حد على امرأة مستكرهة(1)مستدلين بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - { إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه }
وفي رواية { رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه }(2)
وقال أبو بكر بن العربي في هذا الحديث ( والخبر إن لم يصح سنده فإن معناه صحيح باتفاق العلماء )(3)
وقال الله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ }(4)
قال الحافظ بن حجر ( أي لهن ) واستشكل تعليق المغفرة لهن لأن التي تكره ليست آثمة ، أجيب باحتمال أن يكون الإكراه المذكور كان دون ما أعتبر شرعاً ، فربما قصرت عن الحد الذي تعذر به فتأثم فناسب تعليق المغفرة ..... قلت أو ذكر المغفرة والرحمة لا يستلزم تقدم الإثم فهو كقوله :
{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }(5)(6)
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن القرطبي جـ10 صـ193 دار الحديث القاهر وانظر في ذلك المعنى قدامه جـ10 صـ 82
دار الغد العربي القاهرة
(2) الحديث ذكره الإمام السيوطى في الجامع الكبير جـ2 برقم 2210 وعزاه إلي الطبرانى ولم اقف عليه
(3) أحكام القرآن لابن العربي جـ3 صـ1181
(4) سورة النور جزء من الآية 33
(5) سورة البقرة الآية رقم (173)
(5) فتح الباري بشرح صحيح البخاري / الحافظ بن حجر جـ180 طبعة دار الغد العربي صـ437
بتصرف بعض الفقرات .(1/93)
ولقد استدلوا كذلك بما رواه البخاري { أن عبداً من رقيق الإمارة وقع علي وليدة من الخمس فاستكرهها حتى إقتضها فجلده عمر الحد ونفاه ولم يجلد الوليدة من أجل أنه استكرهها }(1)
وفي الحديث أن عمر رضي الله عنه أتي بامرأة زنت ، فسألها فأقرت فأمر برجمها .
فقال علي : لعل لها عذراً ، ثم قال لها ما حملك علي الزنا ؟ قالت كان لي خليط ، وفي إبله ماء ولبن ، ولم يكن في إبلي ماء ولا لبن ، فظمئت فاستسقيته فأبي أن يسقيني حتى أعطية نفسي ، فأبيت عليه ثلاثاً ،فلما ظمئت وظننت أن نفسي ستخرج أعطيته ما أراد ، فساقني .
فقال عليّ : الله أكبر { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }(2)
قال ابن القيم : " قلت والعمل علي هذا ، لو اضطرت المرأة إلي طعام أو شراب عند الرجل فمنعها منه إلا بنفسها ، وخافت الهلاك فمكنته من نفسها فلا حد عليها ثم قال .. هذه حكمها حكم المكرهة علي الزنا ، التي يقال لها : إن مكنت من نفسك وإلا قتلتك "(3)
ثانياً : إذا كان الإكراه علي الزنا ملجئاً .
وهى الحالة الثانية من أنواع الإكراه علي الزنا : ولقد اتفق العلماء بشأن المرأة المكرهة علي الزنا – ( سواء أكان الإكراه ملجئاً أم كان غير ملجئ كما سبق بيانه . أما الرجل المكره علي الزنا إكراهاً يتصف بالتمام والإلجاء فقد اختلف العلماء بشأن هذا الإكراه هل يعتد به فيكون مسوغاً لرفع الحد والإثم ، أم لا يعتد به .
__________
(1) صحيح البخاري ك الإكراه باب اذا استكرهت المرأة على الزنا
(2) سورة البقرة(173)
(3) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية . لابن القيم الجوزية صـ62 مطبعة المدني ط سنة 1992(1/94)
ولعل السبب الذي أدي إلي اختلاف العلماء في ذلك ، هو نظرهم إلي درجة الرضا والاختيار الموجودة لدى المكره على الفعل هل يتصور إتيان الجريمة بغير رضا أم لا ؟ فمن تصور إتيان الجريمة بغير رضا فقد جعل الإكراه على الزنا جائزاً وبه يرفع الإثم ويدرأ الحد . هذا مع وضعنا في الاعتبار شروط الإكراه التي أشرنا إليها سابقاً – فإن تخلف شرط من الشروط لم يكن الإكراه ملجئاً ،
فالرجل إذا اكره على الزنا – سقط الحد عنه في الصحيح والراجع من آراء العلماء . وذكر أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن الرأي المعارض لذلك فقال ( وقال بعض علمائنا أن الإكراه لا يسقط الحد . ثم رد على هذا الرأي بقوله . وهو ضعيف ثم علل ذلك بقو له ( إن الله لا يجمع على عبده العذابين ، ولا يصرفه بين البلائين ، فإنه من أعظم الحرج في الدين )(1)وابن الماجشون في مذهب المالكية يلزم المكره على الزنا الحد خلافاً للمذهب .
ويقول في توجيه ما ذهب إليه ( أن الزنا شهوة خلقية لا يتصور عليها إكراه ) ويؤيد هذا الرأي رواية في أحد آراء الأحناف التي ذهبوا إليها بإيجاب الحد(2)
ويرد أبو بكر بن العربي وشمس الأمة الإمام السرخسي على الروايات القائلة بإيجاب الحد على المكره بقولهم . يقول ابن العربي مفنداً ما ذهب إليه ابن الماجشون ( ولكنه غفل عن السبب في باعث الشهوة وأنه باطل ، وإنما وجب الحد على شهوة بعث عليها سبب اختياري ، فقاس الشيء على ضده فلم يحل بصواب من عنده )(3)
__________
(1) أحكام القرآن، ابن العربي جـ3 صـ1074
(2) انظر في هذا المعنى : المبسوط للسرخسي جـ24 صـ88
(3) أحكام القرآن لابن العربي جـ3صـ1166(1/95)
ويقول الإمام السرخسي ( إن الحد مشروع للزجر ولا حاجة إلي ذلك في حالة الإكراه لأنه منزجر إلي أن يتحقق الإلجاء وخوف التلف على نفسه ، فإنما كان قصده بهذا الفعل رفع الهلاك عن نفسه لا اقتضاء الشهوة ، فيصير ذلك شبهة في إسقاط الحد عنه ، وانتشار الآلة لا يدل على انعدام الخوف ، فقد تنتشر الآلة طبعاً ، بالفحولة التي ركبها الله تعالى في الرجال ، وقد يكون ذلك طوعاً ، ألا ترى أن النائم تنتشر آلته طبعاً من غير اختيار له في ذلك ولا قصد )(1)
والراجح كذلك في مذهب الحنابلة سقوط الحد عن الرجل(2)فقد جاء في المغنى لابن قدامه ما نصه ( وإن اكره الرجل فزنى فقال أصحابنا عليه الحد ... ثم قال ... وقال الشافعي وابن المنذر لا حد عليه لعموم الخبر ( أي – رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه )(3)
ولأن الحدود تدرأ بالشبهات والإكراه شبهه فيمنع الحد ، كما لو كانت امرأة ... يحققه أن الإكراه إذا كان بالتخويف أو بمنع ما تفوت حياته بمنعه كان الرجل فيه كالمرأة فإذا لم يجب عليها الحد لم يجب عليه ، وقولهم إن التخويف ينافي الانتشار لا يصح لأن التخويف يترك الفعل ، والفعل لا يخاف منه فلا يمنع ذلك، ثم عقب بقوله وهذا أصح الأقوال إن شاء الله تعالى )(4)
__________
(1) المبسوط للسرخسي جـ24 صـ89 مطبعة السعادة
(2) راجع في ذلك الإكراه و أثره في التصرفات بالرضا رسالة دكتوراه د/فخرى خليل ابو صفية سنة 1979
كلية الشريعة والقانون بالقاهرة صـ136
(3) الحديث سبق تخريجه
(4) المغنى لابن قدامه المقدسي بالشرح الكبير جـ10 صـ82 الناشر دار الغد العربى(1/96)
وبعد عرضنا لأراء الفقهاء حول مسألة الإكراه على الزنا نلمح من خلال ما عرضناه أن السبب الذي حدا بالفريقين – ( القائلين بإيجاب الحد ، والقائلين بسقوطه ) إلي ما ذهبوا إليه هو الحفاظ على الجانب الأخلاقي . فرأى الفريق الذي أوجب الحد أن ( مفسدة الزنا وما ينتج عنه أشد ضرراً على المجتمع ، ولذلك لم يرخصوا فيه ، وطالبوا المبتلى بعدم الإقدام عليه ، وإلا كان أثماً وعليه أن يصبر على قتل نفسه أو إتلاف عضوه )(1)
وفي ذلك اهتمام بالأخلاق وصيانة لحرمات المجتمع من الضياع ، ولكنه ليس هو الرأي الأرجح وإن كان قد يأخذ به أصحاب العزائم ومن لديهم القدرة على تحمل الأذى ، أومن علا إيمانهم فأخذوا بالعزيمة في هذا الأمر فأفتوا أنفسهم بالشدة لا بالرخصة . وأما الجانب الأخلاقي الذي عمل أصحاب الرأي الصحيح على تحقيقه فقد أوردناه سابقاً في ذكرنا لرأى ابن العربي والسرخسي ، وابن قدامه المقدس ،
ونستطيع أن نذكر هنا أنه من مراعاة الجوانب الأخلاقية التي عمل الفقهاء على إبرازها أن المبتلى في هذا الموضوع واقع بين مفسدتين أحلاهما مر كما يقولون .
الأولى : مفسدة الزنا ، وما ينتج عنه من ضياع النفس وهو قتل في المعنى ومن إفساد بالفراش ،
الثانية : مفسدة هلاك النفس أو إتلاف عضو من أعضاء الجسم وهذا اعتداء على حق الحياة وعلى سلامة الجسم .
__________
(1) الإكراه وأثره في التصرفات بالرضا د/ فخري خليل أبو صفية ص282(1/97)
فهنا عليه أن يختار ويوازن بين المفسدتين ليدفع بالأخف الأثقل وبالأصغر الأكبر والله عليه رقيب وله محاسب ، فله أن يدفع بالضرر الأخف الضرر الأكبر . ويبرز لنا فضيلة الدكتور / فخري أبو خليل جانباً أخر فيقول ( إن ما ذكر من مفسدة الزنا والضرر الذي يلحقه بالمجتمع وضياع الأخلاق ، وحرمة الفراش لا شك فيه ، فيما لو كان الزنا يتم برضى الطرفين ، وأما في حالة الإكراه ، فالأمر يحتاج إلي نظر ( فالمكره ) يفتح الراء على جريمة الزنا رجل لا رغبة له فيه ، وأن ارتكبه فإنما يرتكبه وهو معدوم الرضا ، فهو إذا يتمتع بأخلاق كريمة ، ويحافظ عليها وما أقدم على الزنا إلا خوفاً من الهلاك أو الإتلاف المحقق ، والإبقاء على حياة مثل هذا الرجل ، أصلح للمجتمع من قتله ... وأما من أكرهه أو أكرهته على هذا فهم الذين ينتهكون حرمة الأخلاق ، وحرمة الفراش فبعقابهم نتلاشى ما ينتج عن الزنا من قتل في المعنى وضياع في الواقع)(1)
قال الله تعالى : { وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ }(2)
قال "الطيبى " يستفاد منه الوعيد الشديد للمكرهين لهن ... وتقديره انتهوا أيها المكرهون فإنهن مع كونهن مكرهات قد يؤاخذن لولا رحمة الله ومغفرته فكيف بكم أنتم ؟(3)
*الإكراه في النظم الوضعية ومقارنته مع الشريعة الإسلامية .
التقت النظم الوضعية مع الشريعة الإسلامية في معظم الشروط التي وضعتها مسبقاً الشريعة الإسلامية ، غير أن الشريعة الإسلامية تخالف النظم الوضعية في عدة نقاط مهمة في هذا الموضوع منها :
__________
(1) الإكراه وأثره في التعريفات د/ فخري أبو خليل صـ282 سابق
(2) جزء من آية 33 النور
(3) فتح الباري : ابن حجر جـ18 صـ438 دار الغد العربي(1/98)
أن النظم الوضعية تقضى بامتناع مسئولية الجاني المكره في أية جريمة مهما كان نوعها أو كانت جسامتها متى توافرت شروط الإكراه أو حالة الضرورة(1)
والشريعة الإسلامية تخالف النظم الوضعية هنا إذا أنها لا ترفع المسئولية عن المكره بقتل الغير أو ضربه ضرباً مفضياً إلي الهلاك . وهو ما تحدثت عنه تحت عنوان جرائم لا يؤثر فيها الإكراه . وهذا يعد فرقاً جوهرياً بين النظم الوضعية والشريعة الإسلامية في هذا الشأن .
المطلب الثالث
السكر وأثره رفع المسئولية الجنائية
لقد اعتبرت الشريعة الإسلامية غياب العقل واحداً من موانع المسئولية الجنائية فالمجنون زائل العقل- لمرض أو عارض- إنما هو غير محاسب ولا مسئول لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -
{ رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يحتلم والمجنون حتى يفيق والنائم حتى يستيقظ }(2)
والسكر نوع من غياب العقل إذ عرفه العلماء بقولهم ( هو ستر الإدراك بتناول المواد التي تحدثت ذلك سواء أكانت جامدة ويعتبر الشخص سكران إذا فقد وعيه ، وصار لا يعقل شيئاً قط ، حتى إنه لا يعرف الرجل من المرأة ؛ )(3)
أو هو بتعبير الإمام الكاسانى( غيبة العقل من تناول الخمر أو ما يشبه الخمر)(4)
والسؤال الذي يكون عليه مدار المطلب الذي نحن بصدده هو هل السكر يعد مانعاً من موانع المسئولية الجنائية ؟ وللإجابة على ذلك أقول إن تناول المسكرات لا تعدوا أن تكون بأحد طريقين اثنين .
__________
(1) محاضرات في الفقه الجنائي الإسلامي . المستشار محمد بهجت عتيبة صـ84
(2) سنن أبي داود عن على ك الحدود باب المجنون يسرق جـ4 صـ14 وسبق تخريجه
(3) الجريمة أبو زهرة صـ367
(4) بدائع الصنائع جـ5 صـ118(1/99)
الأول : أن يكون تناول السكر لضرورة للإبقاء على ضرورة من ضروريات الحياة التى لا يمكن أن تتم الحياة بدونها . وذلك مثل أن يتناول المسكر في حالة عدم وجود الماء فيطفئ به عطشاً قائلاً أو يزيل به غصة، أو كان تناول المسكر في حالة إباحته كأن يتناوله لأجراء عمليه أو غير ذلك . فإنه في هذه الحالة السابقة ترفع عنه الشريعة الإسلامية المسئولية الجنائية وتعتبر المسكر في هذه الحالة مانعاً من موانع المسئولية الجنائية .
الطريق الثانية لتناول المسكرات :
وهو السكر الناشئ عن طريق محظور أي لم يبيحه الشرع ولم يرخص فيه بل حرمه ومنعه وهو طريق تناول المسكر بغير عذر شرعي . ويكون تناوله في هذه الحالة للتلهى والتلذذ وبقصد إشباع الشهوات . وتصرفات السكران في هذه الحالة هل تعد محسوبة عليه فيؤاخذ بها ويحاكم عليها وتقع عليه المسئولية ؟ أم لا يحاسب عليها فيكون السكر هنا مانعاً من موانع المسئولية الجنائية ؟ خلاف وقع بين الفقهاء المسلمين في هذه المسألة وساروا في ذلك فريقين –
الفريق الأول: يقول إن السكران مؤاخذ بأفعاله مؤاخذة كاملة وهذه النظرية تقوم على أمرين .
1-الأمر الأول: أن الإثم لا يبرر الإثم، فالسكر إثم لا يبرر ما يترتب عليه من آثام، فمن سكر وقذف فقد ارتكب إثم السكر وإثم القذف . ومن هنا إذا سكر الإنسان وارتكب جناية عوقب عليهما . يقول الإمام السرخسي ( إذا قذف السكران رجلاً حبس حتى يصحو ثم يحد للقذف ، ثم يحبس حتى يجف عليه الضرب ، ثم يحد للسكر لأن حد القذف فيه معنى حق العباد فيقدم على حد السكر ، ولا يوالي بينهما في الإقامة لئلا يؤدى إلي التلف )(1)
ونلمح جانباً أخلاقياً آخر هنا في إقامة الحد غير المفضي إلي الهلاك والطريق التي يقام بها الحد . فليس إقامته انتقام ولا تشفي بقدر ما هي تطهير من الذنوب وردع للجاني عن جنايته .
__________
(1) انظر في ذلك الجريمة . الشيخ أبو زهره صـ367 يتعرف(1/100)
2- الأمر الثاني : أنه لا عذر فيما يترتب على سكره من إثام وضياع حقوق . لأنه أقدم مختاراً ويعلم أن السكر يفقد الوعي فهو كما يقول الأحناف ( أدخل الآفة على نفسه )(1)وهذا الرأي السابق له واجهته الأخلاقية في الشريعة الإسلامية فهو يتجه بالمجتمع نحو الفضيلة ، فعندما يعلم الفرد أنه غير مسئول عن تصرفاته حال السكر فإن ذلك سوف يكون دافعاً لارتكاب جريمة السكر ولا يقلل من ارتكابها، وفي الحالة تكون هذه النظرية القائلة بعدم مسئولية السكران الذي أدخل السكر على نفسه إنما نفتح باباً على المجتمع يكاد أن يجر بعض الجرائم الخلقية على الأفراد والجماعات .
رأى الفريق الثاني : ذهب أصحابه إلي أن السكران ولو بطريق محظور حظره الشارع فإنه غير مسئول عن جنايته في حال سكره . وهذا رأى ابن حزم(2)وابن القيم الجوزية رحمهما الله تعالى وأيدهما ابن تيميه .
__________
(1) حاشية ابن عابدين جـ3 صـ170 وتيقن الحقائق للزيلعى جـ3 صـ198
(2) أنظر في ذلك بالتفصيل : المحلى لابن حزم جـ10 صـ344 إلي صـ347 دار الحيل بيروت .
وإعلام الموقعين لابن القيم جـ4 صـ347 والفتاوى الكبرى لابن تيميه جـ3 صـ80(1/101)
الفصل الثالث
الجانب الأخلاقي في الجزاء الجنائي بين الإسلام والنظم الأخرى
تمهيد : يعد الجزاء عنصراً أساسياً للمسئولية كما كانت المسئولية نتيجة حتمية للإلزام , فالمحاور الثلاث هي الأسس والركائز الأخلاقية في النظام الجنائي .
فالجزاء الجنائي إنما هو ضروري ليتم مواجهة الجناية بما يكافئها من حكم وتشريع ،
والجريمة سلوك شائن ومنكر , يضر بالفرد والمجتمع , كما أن فعل المعروف من أهم عوامل نهوض المجتمع وأكبر دافع للتقدم ، فالجزاء ضروري لإقامة حياة فاضلة , فالإنسان الصالح إذا لم يشعر بوجود مكافأة على عمله الطيب فإنه يتوقف , ويندم إذا فاز المفسدون , وأدى به العمل الخير إلي فقدان الآمال التي عمل لها , كما أن المجرم إن تُرك وشأنه على ما ارتكب من أعمال شائنة فإنه سيتمادى في سلوكه الإجرامي , ويكون عنصراً فاسداً , ويصبح أشد فساداً إن ترك ولم يعاقب , وبذلك تكون قد ساهمنا في خلق فرد أشد شراسة على المجتمع , وذلك لأننا نسمح لنوازع الشر عنده أن تربو على نوازع الخير وتطغى عليها ,
وبذلك سيتحول إلي شخص خطر على المجتمع, متخذاً من الأعمال الإجرامية سبيلاً له في الحياة . ومعلوم أن النفس البشرية تحب أن تجلب المصالح لنفسها عن طريق الحق أم عن طريق الشر والظلم ،فقد تأتى النفس البشرية بما يحقق شهوتها ويبعث على سرورها إلا أن ذلك فيه مضرة بالآخرين , فيأتي القانون لينظم هذه المسألة ويضبط للإنسان سلوكه الذي يتوائم مع مصلحة الجماعة وحماية الأخلاق .(1/1)
ولقد الزم الشرع الإسلامي كل إنسان بنتائج عمله وحاسبه عليها فيجعل الثواب للطائعين والعقاب للمخالفين . ولو لم يفعل ذلك إذاً لتساوى العاصي والطائع , والظالم والعادل , حينئذ يتساوى الخير والشر , فإذا حدث ذلك : فقد اتسع الرقع على الراقع , وانخرم النظام , وهلك العباد , واستشرى الفساد ,وضاعت معالم الأخلاق الفاضلة , إلا أن ذلك كله لم يكن ليحدث في ظل وجود العنصر المهم لصيانة الحياة بصورة أخلاقية نبيلة وهو الجزاء ، فهو أحد عناصر ثلاثة تقوم عليها المسألة الأخلاقية الإلزام ، المسئولية ، والجزاء .
المبحث الأول
المطلب الأول
تعريف الجزاء
أ ـ تعريف الجزاء في اللغة : الجزاء مصدر ترجع مادته إلي الجيم والراء والياء (جزى)(1)
( وجزى الشيء جزاء كفي وأغنى والجزاء المكافأة على الشيء ،ذكره صاحب لسان العرب وقال ... جزاه به وعليه به وعلية جزاءً وجازاه مجازاة وجزاءا
ًقال أبو الهيثم : " الجزاء يكون ثوباً ويكون عقاباً قال الله تعالى :
{ قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِين َ }
قال معناه : فما عقوبته إن بان كذبكم بأنه لم يسرق . أي ما عقوبة السرق : والجزاء القضاء وجزى هذا الأمر أي قضى )(2)
تقول تجازى دينه ويدينه تقاضاه . واجتزاه طلب منه الجزاء ... وجزى الشيء يجزى كفي وعنه قضى(3)
ومن معاني الجزاء في اللغة : ما فيه الكفاية من المقابلة إن خيراً فخير وإن شراً فشر(4)
__________
(1) معجم مقاييس اللغة لابن فارس . تحقيق عبد السلام هارون ج1 صـ 455
(2) لسان العرب لابن منظور د1 دار المعارف مصر صـ 619 ، 620 ،ـ 621
(3) القاموس المحيط /المطبعة الحسينية المصرية سنة 1330 0ج3 صـ 312
(4) معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية د/ محمود عبد الرحيم عبد المنعم ج1 صـ 526 دار الفضيلة وانظر كذلك
المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية بالقاهرة . صـ 122 ج1 سنة 1380 سنة 1960م(1/2)
قال تعالى : { فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً } " وقال تعالى : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } ومن خلال المعاني اللغوية السابقة نلمح تعدد دلالة مفهوم الجزاء في اللغة العربية .فقد يكون واحداً من المعاني
الآتية :-
الجزاء بمعنى القضاء ، والجزاء بمعنى الكفاية ،والغناء ،والمعاني السابقة متقاربة المدلول تعنى مقابلة شئ لشيء سابق إما على سبيل الإحسان والثواب , وإما على سبيل الإساءة والعقاب . وعلى ذلك ( فالجزاء أعم من العقوبة حيث يستعمل في الخير والشر , والعقوبة خاصة بالأخذ بالسوء(1)
ب ـ تعريف الجزاء في الاصطلاح :
لقد عرّف العلماء والجزاء بعدة تعريفات . فكل فريق من العلماء عرّفه من خلال الزاوية التي يهتم بدارستها ... فكان لعلماء الإجتماع تعريفات ولعلماء الفلسفة والأخلاق تعريفات تهتم بجانب معين , وكذلك كان لعلماء القانون تعريفات أخرى ونود أن نعرف هنا موقف الإسلام من هذه التعريفات ، وأي هذه التعريفات يتلاءم مع موضعنا الذي نبحث فيه وهو ( الجانب الأخلاقي ) في التشريع الجنائي . وأي هذه التعريفات يحقق لنا اكبر عائد من الأخلاق التي تضمن بقاء المجتمع وصيانته في ظل أخلاق كريمة , وفضائل رائعة ،ولنبدأ الآن ببيان بعض التعريفات .
أولاً : تعريف الجزاء في الشريعة الإسلامية 0
لم يكن تعريف الجزاء في الشريعة الإسلامية خارجاً عن الدلالة اللغوية السابقة التي ذكرناها في معنى الجزاء .
فورد الجزاء في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة بالمعاني الآتية :
__________
(1) معجم مصطلحات والألفاظ الفقهية د/ محمود عبد الرحيم عبد المنعم دار الفضيلة ج1 صـ 526(1/3)
أ ورد الجزاء في القرآن الكريم بمعنى المكافأة قال تعالى : { وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَ }(1)فالجزاء هنا بمعنى المكافأة قال الحافظ ابن كثير . ( أى ليس بذ له ماله في مكافأة من أسدى إليه معروفاً فهو يعطى في مقابلة ذلك ..)(2)ورد لفظ الجزاء في السنة النبوية بمعنى المكافأة أيضاً فقال صلى الله عليه وسلم { لإمراة أرادت ذبح ناقة لها بعد ان قرّت عليها من المشركين ( بئس ما جزيتها)(3)أى كافأتيها }
المكافأة مقابلة الحسن بالحسن والسئ بالسئ وورت آيات قرآنية كثيرة وأحاديث نبوية تدل على هذا المعنى . بل هذا المعنى { المكافأة } وهو المعنى الذي دار حوله مفهوم الجزاء في اكثر آيات القرآن الكريم . وقد تكون هذه المكافأة بمعنى الإثابة على الخيرات أو العقوبة على فعل المنكرات والفواحش .
وقال الله تعالى { َليجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى }(4)
__________
(1) سورة الليل الآيتان رقم ( 19 ، 20 )
(2) تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج4 صـ 556 دار المعرفة بيروت .
(3) سنن أبي داود من حديث عمران بن حصين ك النذور باب النذر فيما لا يملك ج3 صـ 239 والحديث
برقم 3316
(4) سورة النجم جزء من الآية رقم 31 (2) سورة المائدة جزء من الآية رقم 34(1/4)
وورد الجزاء بمعنى العقوبة في قوله تعالى { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (2) وكذلك قوله تعالى { جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }(1)قال ابن كثير ( آي مجازاة على صنيعها السئ في أخذهما أموا ل الناس بأيديهم (4)
[ب]ورد كذلك الجزاء في القرآن الكريم والسنة النبوية بمعنى الكفاية
قال الله تعالى { وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى }(2)أي كفاية (6) من طهر نفسه من دنس الشرك (7) ولقد ورد لفظ الجزاء في السنة النبوية بمعنى الكفاية فعن الحسين بن علّى رضى الله عنهما أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال . ( يجزي عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم , ويجزئ عن الجلوس أن يردّ أحدهم(3) أى يكفي ويغنى
[ج] ورد الجزاء بمعنى القضاء قال الله تعالى ( واتقوا يوماً لا تجزى نفس عن نفس شيئاً )(4)فمراد قولة تعالى ( لا تجزى نفس ) أى لا تقضى ولا تؤدى (10) نفس
__________
(1) سورة المائدة جزء من الآية رقم 38 (4) تفسير بن كثير ج2 صـ 56 بيروت (5) سورة طه جزء من الآية رقم 76
(2) مفردات القرآن للأصفهاني صـ 100 المكتبة التوفيقية (7) تفسير بن كثير – تفسير الآية
(3) سنن أبو داود ك الأدب باب ما جاء في رد الواحد علي الجماعة والحديث برقم 210 وقال الأرناؤوط في جامع الأصول ج6 صـ 598 ( إسناده حسن )
(4) سورة البقرة جزء من الآية رقم 48 (10) انظر تفسير وبيان مفردات القرآن للدكتور / محمد حسن الجمصي صـ7(1/5)
وفي السنة النبوية ورد هذا المعنى قال صلى الله عليه وسلم لأبى برزة بن نيار رضى الله عنه حين أراد ان يضحى بالجذعة فقال ( إذبحها ولن تجزئ عن أحد بعدك(1)11) ) والمعنى تقضى عنك ولا تقضي عن أحد بعدك (12)
وبعد إيراد معنى الجزاء في الشريعة الإسلامية ( القرآن والسنة ) وأقوال العلماء والمفسرين . يتضح لنا أن هذه المعانى تلتقى مع الدلالات اللغوية لمعنى كلمة الجزاء ,والذي نعنى به في هذه الدراسة هو المعنى الأول من هذه الدلالات اللغوية والشرعية وهو معنى المكافأة والمثوبة على فعل الشئ إن خيراً فخير وان شراً فشر .
ونستطيع أن نجمل تعريف الجزاء في التعريف الآتى
( مكافأة ومثوبة العبد من الله أو الناس على عمل الخير ومعاقبته على فعل الشر , ويكون الجزاء في الدنيا من الله أو الناس , وفي الآخرة من الله وحده)
والتعريف السابق يشتمل على عدة عناصر يتكون من خلالها التعريف الذي ذكرناه وهي:
1- انه يشتمل على الإثابة ( المكافأة ) والعقوبة ولا يختصر على العقوبة فقط .
2- ان هذه المكافأة بنوعيها قد تكون في الدنيا من الله عز وجل أومن أحد من الناس ممن خولهم الله عز وجل إقامة شرعه وحدوده
3- ان الجزاء من الله في الدنيا قد يكون بواحد من عدة أشياء . مثل تأنيب الضمير والشعور بالفرح أو الإساءة وكذلك ما يصيب الإنسان من مصائب أو ينزل به من نوازل وإبتلاءات . وكذلك أيضاً ما يظهره الله تعالى من مدح وذم على السنة الخلق.
__________
(1) 11) رواة البخاري ك الأضاحي باب سنة الأضحية (12) النهاية في غريب الحديث لابن الأثير ج1 صـ 270(1/6)
4- ان الجزاء في الإسلام عام وشامل , دنيوي وأخروي , والأخروي إنما يكون المجازى فيه المحاسب هو الله سبحانه وتعالى وحده .وهذا تعريف عام للجزاء في الإسلام , ولو أردنا أن نخصص هذا التعريف فنجعله في دائرة دراستنا الجنائية فيمكن أن نعرف بأنه [ ما شرعه الله عز وجل من عقوبة مهنية - في الدنيا والآخرة -لمن خالق أمره وإرتكب ما يستوجب ذلك بحد أو تعزيز , فخالف أمره وأتى نهيه عاصياً لله عز وجل في حالة تؤهله للمسئولية والمحاسبة ]
من خلال هذا التعريف السابق نلمح الآتى
1- أن مصدر الجزاء هو الله تعالى
2- أن سبب الجزاء مخالفة أوامر الله وعصيانه
أن الجزاء في الإسلام نوعان دنيوى وأخروى .
3- مراعاة أسس المسئولية أثناْء القيام بالفعل شرط لإيقاع الجزاء
ثانياً الجزاء في النظم الأخرى
أ الجزاء عند الفلاسفة :
أنه من الأهمية بمكان أن ندرك أن فكر كل فيلسوف أوكاتب أومصلح إجتماعى يشكل ترجمة حقيقه علمية لما يعتقده هذا الفيلسوف أو ذلك , والفكر عبارة عن مجموعة القيم التي تسود عصراً من العصور , وينطق بها بعض كتابه ومصلحيه , والفلاسفة القدامى والمحدثين على السواء في هذا الموضوع .
ونود في هذه السطور أن نوضح رأى الفلاسفة في مسألة الجزاء الجنائي , سواء أكان عند الفلاسفة القدامى أم المحدثين , ولقد أوضحنا سابقاً رأى الفلاسفة في مسألة الربانية ومدى إيمانهم بها وفصلنا القول في ذلك عند حديثا عن ( موقف الفلاسفة من ربانية المصدر ) في الفصل الأول وكذلك عند حديثا عن ثنائية المسئولية وموقف الفلاسفة من ذلك . المسئولية الدنيوية والمسئولية الأخروية , ولكنا نورد عرضاً لآرائهم عن الجزاء في سرعة غير مخلة وذلك لما يقتضيه البحث .
ونورد أراء الفلاسفة في مسألة الجزاء الجنائي – في نقطتين(1/7)
1- الجزاء عند الفلاسفة القدامى . ذهب فلاسفة اليونان أمثال سقراط أفلاطون وأرسطو إلي تقرير جزاء بعد الموت , وكذلك جزاء وجدانى تحس به النفس البشرية فأشار أفلاطون في آرائه إلي أهمية إعتقاد وقوع جزاء بعد الموت مبنياً أن الحياة الأخرى تظهر النفس العادلة(1)في حلل من البهاء , وتنير له طريق الحياة .وقد بلغات ثقته في العدل الإلهي(2)
__________
(1) العدالة في نظر أفلاطون بخلاف العدالة في نظر الإسلام فالعدالة عنده تعني الخضوع للقانون – حتي ولو كان القانون ظالماً يخدم طبقة الحكام وكذلك من شروط تحقيق العدالة عند افلاطون المحافظة علي الفوارق بين الناس وليست العدالة هي السعى إلي الغاء هذه الفوارق . راجع في ذلك الفكر الأخلاقى دراسة مقارنة د/ محمد عبد الله الشرقاوى ، دار الجبل ببيروت صـ70 وما بعدها . وكذلك انظر كتاب / الجمهورية لأفلاطون ترجمة د/ فؤاد زكريا الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1985 ص363 وما بعدها ، ص85 وما بعدها .
(2) الألوهية في نظر اليونان غيرها عند المسلمين . فإنهم يؤمنون بتعدد الآلهة فكل مظهر من مظاهر الحياة اله خاص به مثل اله الحب واله الجمال واله المطر واله الخير واله الشر ، الخ .. أنظر في ذلك ( العقل الأخلاقى العربى دراسة تحليلة نقدية د/ محمد عابد الجابرى ص260 وما بعدها ..وكذلك تطور الفكر السياسى ( الأغريقي الأقدمون) د/ على أحمد عبد القادر مكتبة نهضة الشرق القاهرة ط1 سنة 1970 ص13،12(1/8)
والجزاء الأخروى درجة من الجزم جعلتها قانونه في الأخلاق , إذا أنه يرى أنه لابد أن يكون مصير النفوس الخيرة أحسن , وأن يكون مصير النفوس الشريرة أسوأ(1)ولكن الدار الآخرة في فكر أفلاطون ( وهو فكر متخيل ) كان لها شكل آخر عن الدار الآخرة لدى المسلمين , فالإسلام حينما تحدث عن الدار الآخرة ذكر أنها حياة حقيقية أبدية فقال تعالى { وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ }(2)وقال الله تعالى ... خالدين فيها مادامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك ... .)(3)
ولكن الدار الآخرة في فكر أفلاطون لها وضع مغاير فهي محدودة بمدة زمنية حددها أفلاطون ... فيقول في محاورته مخاطباً جلوكون (وإذاً فلو آمنت معى بأن النفس خالدة وقادرة على تحصيل كل خير واقتراف كل شر , لاستطعنا أن نلتزم دائماً الطريق العلوي لتوخينا العدل والحكمة في كل شئ , عندئذ نسلم أنفسنا ونسلم الآلهه لا في اقامتنا هنا فحسب بل عندما نتلقي جائزة العدل كالمنتصر في المباريات , يتلقوا الهدايا من أصدقائهم , وبهذا تتحقق لنا السعادة لا علي الأرض وحدها بل أيضاً في تلك الرحلة التي تدوم ألف سنة والتي قصصت عليك نبأها , وهذا أمر يتعلق بالدار الآخرة علي الطريقة الأسطورية اليونانية القديمة(4)
__________
(1) أنظر في ذلك المسئولية الخلقية والجزاء عليها د/ أحمد عبد العزيز الحليبيى ص371
(2) العنكبوت جزء من الآية (64)
(3) جزء من الآية (107) وجزء من الآية (108) من سورة هود
(4) العقل الأخلاقى العربى / سابق محمد عابد الجابرى ص 266(1/9)
وفي نهاية القول ندرك أن أفلاطون كان يؤمن بالجزاء الأخروي لكن هذا الإيمان بالدار الآخرة كان له شكل خاص ووضع معين ولم يرق إلي لما أقره الإسلام منذ بدء الخليفة في مسألة الدار الآخرة إلا أنه كان ابعد نظراً من غيره فكان يؤمن بالجزاء الوجداني مع الجزاء الأخروي وكذلك كان يعترف بالجزاء الإجتماعي كمقوم للمجرم ومثيب للمحسن
وعند ارسطو :(1/10)
اعتقد أرسطو أن المكافأة واجبة وأن سبيل بلوغ ثوابها بعد الموت هو عمل الخير وخدمة القرابين ، ولم يكن أرسطو أحسن حظاً ولا أعمق فكراً من أستاذه أفلاطون فقد كانت العقيدة الوثنيتة التي يؤمن بها هؤلاء الفلاسفة – اليونانيون –هي التي حددت ورسمت لهم طريقهم الفكري ونرك ذلك واضحاً من خلال سياق الرسالة التي أرسل بها أرسطو إلي والدة الإسكندر(1)( ياوالدة الإسكندر إذا كنت مشفقة علي العظيم إسكندر فلا تكسبي ما يبعدك عنه ولا تجلبي علي نفسك ما يحول بينك وبينه حين الإلتقاء في زمرة الأخيار واحرصي علي ما يقربك منه وأول ذلك توليك بنفسك الطاهرة أمر القرابين )(2)
وهكذا نري أن مفهوم الدار الآخرة والألوهية عند فلاسفة اليونان لم يكن متفقاً تماماً مع ما جاء به الإسلام الحنيف من التوحيد الخالص ونفي الشركاء عن الله تعالي , وكذلك مفهوم الدار الآخرة مغاير تماماً في الإسلام عنه في عقيدة اليونان
__________
(1) الإسكندر هو الملقب بذي القرنين ( وليس المذكور في القرآن الكريم ) بن فيلبس المكددوني ولد في سنة 356 ق. م ويلقبة الفرنجة بالكبير ولما بلغ الثالثة عشرة من عمره قرأ علي أرسطو وأخذ عنه مدة ثلاث سنين وكلف بحبة ولما بلغ العشرين جلس على عرش أبيه بعد وفاته وكان شجاعاً موفقاً في حروبه وقد بنى الإسكندرية وتزوج بابنة ملك همذان سنة 327 ق.م وقد أمر الإسكندر اليونان وأهإلي أسيا بأن يسجدوا له = = ويعبدونه فأجابه إلي ذلك بعض فلاسفة اليونان وتأبي عليه بعضهم فعذبهم وأتهم بمؤامرات ومات سنة 323 ق,م وقد نشأ عن فتوحه إنتشار الأدب اليوناني في البلاد التي فتحها السلطان ( دائرة المعارف للبستاني ج3 ص 545 وما بعدها دار المعرفة بيروت )
(2) العقل الأخلاقي العربي / د. محمد عابد الجابري صـ 266 نقلاً عن كتاب الجمع بين رأي الحكميين لأبي نصر الفارابي صـ 110(1/11)
* ولقد كان يوجد بجانب هؤلاء الفلاسفة الذين أقروا بالجزاء الأخروي فلاسفة من القدامي لم يعترفوا بالجزاء الأخروي بل أنكروه تماما ،ً فكانت شائعة لديهم النظرة
الإ لحادية ولقد ذكرنا إنكارهم للألوهية كأمر عام في هذا الموضع وعلي رأس هؤلاء الفلاسفة القدامي الفيلسوف ابيقور مؤسس(1)المدرسة الأبيقورية
2- الجزاء عند الفلاسفة المحدثين :
لم تكن نظرة المتأخرين من فلاسفة أهدي سبيلاً ولا أقوم طريقاً من نظرة إخوانهم السابقين عليهم , بل كانت نظرة أسوأ في حق الجانب الأخلاقي بل كانت نظرتهم هذه سبباً مهماً في اختفاء الأخلاق وضياعها من الساحة السلوكية ، فهي نظرة لا تبحث إلا عن اللذة وما يحققها : ولقد انقسم الفلاسفة المحدثين في فكر هم عن الجزاء الأخروي إلي فريقين .
الفريق الأول
آمن فريق من الفلاسفة بفكرة الجزاء الأخروى وكان من هؤلاء الفلاسفة . على سبيل المثال توما الأكوينى(2)وكذلك وليم جيمس(3) وان كنا عرضنا لما في رأيه من تضارب حول مسألة الإيمان بالألوهية
2- الفريق الثانى من الفلاسفة المحدثين – فلقد ذهب كثير من الفلاسفة المحدثين والمعاصرين إلي إنكار الجزاء الأخروى بوجه عام, ونظرتهم هذه إنما هي مبنية على عقيدة اللذة وتحقيق المنفعة العاجلة التي كثيراً ما لهثوا ورائها لتحقيقها ، فنتج عن ذلك عدم إيمانهم بالدار الآخرة ، ولا بأي أمر غيبي ، ومن هؤلاء الفلاسفة علي سبيل المثال ( توماس هوبز ) الفيلسوف ، (1588 – 1676 )م وكذلك رواد المذهب النفعي أمثال جريمي بنتام (1748 – 1832 ) وجون استيورت مل ( 1806 – 1873 ) وجيمس مل ( 1773 – 1836 )(3)
__________
(1) انظر تعريف ابيقور صـ ورأيه في الدار الأخرة من الفصل الأول
(2) انظر صـ من الفصل الأول (3) انظر صـ ، من الفصل الأول .
(3) ذكرنا سابقاً بالتفصيل التعريف بهؤلاء الفلاسفة وآرائهم في مسألة الألوهية انظر في ذلك مبحث مصدر الإلزام في النظم البشرية الفصل الأول(1/12)
وكذلك رواد المدرسة الوجودية المتحللة أمثال كارل ماركس الفيلسوف اليهودي 1818 – 1883 ) وجان بول سارتر 1905(1)
وكذلك وليم جيمس الفيلسوف الأمريكى (1843-1910) رائد الفلسفة البرجماتيه ,
فإن هؤلاء وغيرهم من التجربيين علقوا جزاء الفعل الخلفي على ما يكافئه من منفعة أو مضرة ينالها الفاعل . ومعلوم أن هذا الفكر ليس وليد العصر الحديث وإنما له جذور تاريخية ، فهو إمتداد لفكر أبيهم الأكبر ابيقور وملاحدة اليونان .
ويعود سبب عدم قول هؤلاء الفلاسفة بجزاء بعد الموت مع نشأتهم في مجتمعات نصرانية تدين بالجزاء الأخروي إلي الجفوة التي حدثت بينهم وبين الكنيسة ، مما حدا بهم إلي مجانبة الوحى والإستناد على العقل والتجربة .
وبهذا العرض الموجز نكون قد أتينا على أراء الفلاسفة من قدامي ومحدثين حول رأيهم في الجزاء الأخروي بوجه عام بما في ذلك بالضرورة ( الجزاء الجنائي )
( ب ) الجزاء عند أهل الكتاب .
? الجزاء عند اليهود :
__________
(1) انظر كذلك في تعريف هؤلاء المسئولين عند الفلاسفة الفصل الثاني(1/13)
إذا أردنا التعرف على الفكر اليهودي في مسألة الجزاء بوجهه عام ( بما في ذلك الجزاء الجنائي ) نجد بعض النصوص توضح لنا مدى إيمانهم بفكرة الجزاء والحساب , فقد ورد في التوراة ( العهد القديم ) ما يأتي ( من ضرب إنساناً فمات يقتل قتلاً ولكن الذي لم يتعمد بل أوقع الله في يده فأنا أجعل لك مكاناً يهرب إليه , وإذا بغى إنسان على صاحبه ليقتله بغدر فمن عند مذبحي تأخده للموت , ومن ضرب أباه أو أمه يقتل قتلاً ومن شتم أباه أو أمه يقتل قتلاً وإذا تخاصم رجلان فضرب أحدهما الآخر بحجر وبلكمة , ولم يقتل بل سقط في الفراش , فإن قام وتمشى خارجاً على عكازه يكون الضارب بريئاً إلا انه يعرض عطلته وينفق على شفائه)(1)وورد كذلك (( إذا زنى رجل مع امرأة . فإذا زنى مع امرأة قريبه فإنه يقتل الزاني والزانية , وإذا اضجع رجل مع امرأة أبيه فقد كشف عورة أبيه إنهما يقتلان كلاهما . دمهما عليهما , وإذا اتخذ رجل امرأة وأمها فذلك رذيلة بالنار يحرقونه وإياها لكي لا يكون رذيلة بينكم(2)وهكذا نجد أن نصوص العهد القديم قد أوضحت وأثبتت الجزاء الدنيوي الذي يجب أن يقع على مرتكب الجرائم ولكن هل يوجد لدى اليهود إيمان بالجزاء الأخروي لهذه الجرائم أم لا ؟
فهذا ما نذكره في النقطة التالية :-
__________
(1) سفر الخروج إصحاح 21 الفقرات 12، 13
(2) سفر اللاوبين إصحاح 18 – فقرة (20)(1/14)
الجزاء الأخروي عند اليهود : لم يكن للدار الآخرة حظاً من ذكرِ ولا نصيباً من فكر لدى اليهود ، فبالنظر في أفكارهم المقدسة لا نكاد نجد فيها نصاً واحداً عن الدار الآخرة كباعث على الفعل وترك المحظورات الشرعية والجرائم الخلقية ولا نكاد نجد فيها تعليلاً واحداً من أجل الدار الآخرة أو الجزاء الأخروي ( وهكذا لا تصادف منذ آدم حتى موسى , إلي آخر عهده , أية إشارة في أى مكان – إلي حياة ما بعد الموت , كأنما لم يكن لعقيدة الحياة الأخرى مكان في أديانهم)(1)
وهكذا نجد الفرق واضحاً بين الجزاء القرآني والجزاء عند اليهود حيث تتسع دائرة الجزاء في الإسلام فتشتمل الدنيا والآخرة , وتضيق دائرة الجزاء عند اليهود لتنحصر في دائرة ضيقة وهي الحياة الدنيا , وهذا على خلاف ما ذكره القرآن الكريم عن نبى الله موسى عليه السلام من قوله تعالى { وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْك }(2)الآية وحكاية عن إبراهيم عليه السلام في قوله تعالى { وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ } (4)
2- الجزاء ( عند النصارى )
تحدثنا في النقطة السابقة عن الجزاء في التشريع اليهودى – أتباع موسى عليه السلام الذين حرفوا التوراة – وظهر أن تشريعهم كأنه مقطوع الرابطة بالدار الآخرة وجعل الجزاء كله دنيوى ، أما عند النصارى أتباع – عيسى عليه السلام – فقد كان موضوع الجزاء عندهم على النقيض مما ذهب إليه اليهود في تقرير الجزاء
(
__________
(1) انظر تفصيل ذلك باستفاضة دستور الأخلاق في القرآن الكريم العلامة / محمد عبد الله دراز صـ 277 إلي 280
(2) سورة الأعراف جزء من الأية 156 (4) سورة الشعراء آية ( 87 ، 88 )(1/15)
فبنظرة إلي أسفار( العهد الجديد ) سوف نستمع إلي نغمة جديدة كل الجدة ، هنا يحس المرء بشعور جلى بأنه قد انتقل من طرف إلي أقصى طرف مقابل له . إن صلاتنا بالعالم الراهن بكل ما فيها من غنى وعظمه سوف تتقطع ، فهي بالنسبة إلينا قيود ينبغي أن تتحرر منها نظراتنا لا تعود مثبته على الأرض ، بل إنها دائماً موجة إلي السماء ... وهكذا نجد أن الأمل الإنجيلي مكانه دائماً هو الآخرة ، في حياة ما بعد الموت ، اللهم فيما عدا موضعاً واحداً وعد فيها المسيح بمكافأة مزدوجة ، وهي إضافة نجدها في إنجيل مرقص الإصحاح العاشر ، الجملة ( 30 ) – وكذلك بعض الفقرات في رسائل القديس بولس )(1)
( ج ) تعريف الجزاء عند القانونين :
النقطة الأولي : تعريف الجزاء : يعرف الجزاء في القانون الوضعي بأنه ( الأثر المادي الزاجر الذي تلحقه سلطات الدولة بالفرد لمخالفته القاعدة القانونية ) وبمعنى أخر هو ( رد الفعل الذي يقرره الشرع نتيجة الإخلال بالقواعد القانونية )(2)
وهذا التعريف هو تعريف الجزاء أو العقوبة بوجه عام لدى علماء القانون الوضعي . والجزاء لدى فقهاء القانون يتنوع باعتبار القاعدة القانونية المنتهكة ، والذي يخصنا أن نبحث في الجزاء الجنائي والذي يعرفونه بأنه ( رد الفعل الاجتماعي الذي يرتبه الشرع على مخالفة الأمر أو النهي الذي تنص عليه القاعدة الجنائية )(3)
__________
(1) دستور الأخلاق في القرآن – دراز صـ 281 ، 382
(2) شرح قانون العقوبات – القسم العام . المسئولية والجزاء ج3 / محمود أحمد طه صـ 197 ط2 دار النهضة
(3) المسئولية والجزاء المصدر السابق صـ 199(1/16)
والمراد بالقاعدة القانونية الذي يترتب الجزاء على مخالفتها إنما هي القواعد والنصوص التي صاغها الشرع القانونى الوضعي . وهذه القواعد تتضمن الأمر أو النهي عن فعل ويتوجه الخطاب فيها إلي كافة الخاضعين للقانون .(1)
والقاعدة القانونية إنما هي أسم يطلق على كل ما ألزمت به الدولة رعاياها في كل مجال من المجالات – والقاعدة الجنائية إنما هي خاصة بالتشريع الجنائي . فهي أخص من القاعدة القانونية ( فالقاعدة القانونية التي وضعتها سلطات الدولة – أو الشرع – تشتمل على جزاء لمن قام بمخالفة ما نصت عليه أمراً كان أم نهياً.)(2)
( النقطة الثانية ) أهم العناصر التي يشتمل عليها التعريف عند القانونين .
ومن خلال التعريف السابق للجزاء الذي ذكرناه لدى القانونين نجد أنه يحتوى على العناصر الآتية :
1- أن جهة إيقاع الجزاء هو المجتمع : وذلك بتفويض الدولة لجهة معينه فتكون هي المختصة والمعنية بإيقاع الجزاء على مرتكب الجريمة وهذه الجهة هي ما تعرف باسم الهيئة التنفيذية في الدولة .
2- أن مصدر هذا الجزاء ( مصدر التشريع ) هو الشرع البشرى الذي ينظم القاعدة الجنائية الآمرة .
3- سبب إنزال الجزاء على الجاني هو : مخالفة للقاعدة الجنائية التي نصت عليها الهيئة التشريعية. هذه هي أهم العناصر التي اشتمل عليها التعريف السابق للجزاء عند القانونين .
المطلب الثالث
الجانب الأخلاقي بين التشريع الإسلامي والقانون في تعريفهما للجزاء الجنائي
__________
(1) كمال الشريعة الإسلامية وعجز القانون الوضعي المستشار سالم البهنساوي صـ 23 ، 24 بتصرف دار الوفاء
(2) المسئولية والجزاء / محمود أحمد ط2 ج3 دار النهضة(1/17)
يتضح لنا من خلال عقد مقارنة بين التعريفيين السابقين للجزاء الجنائي ( لدى التشريع الإسلامي والقانون الوضعي ) أن هناك عدة فوارق أساسيه بين التعريفيين ، هذه الفوارق إذا ما انحازت إلي جانب تعريف من التعريفيين أضفت إليه خصائص أخلاقية امتاز بها عن التعريف الآخر .ونحاول الآن إبراز أهم الخصائص التي يمتاز بها كلا التعريفيين عن الآخر وأيهما يحقق أخلاقاً فاضلة أكثر للمجتمع البشرى .
1- ذكرنا أن القانون الوضعي يختص تعريفه بأنه جهة إيقاع الجزاء هو المجتمع وفي الإسلام نجد كذلك أن الجهة المنفذة للجزاء الجنائي هو المجتمع . فالناس مسئولون عن تحقيق قانون الله تعالي فيهم ( والأمة الإسلامية مخاطبة في القرآن الكريم بتنفيذ أحكام الشرع وإعلان كلمة الله في الأرض وإقامة المجتمع الإسلامي الفاضل دل على ذلك نصوص كثيرة في القران الكريم دونها قوله تعالى { ... وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) وقوله تعالى (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ }(1)فهذه النصوص وأمثالها تدل على مسئولية جماعة المسلمين عن تنفيذ أحكام الإسلام ، وما دامت الأمة مسئوله عن تنفيذ أحكام الإسلام فلابد من إنابتها مجموعة منهم لتنفيذ ذلك لتعذرها تنفيذ بصفتها الجماعية )(2)ولكن الإسلام لم يقف عند هذا الحد الذي وقف عنده القانون الوضعي – من جعل المجتمع هو المنفذ لإنزال الجزاء على الجاني . ففي الإسلام خاصية أخرى لا توجد في القانون الوضعي(3)وهي ثنائية الجزاء . ففي التشريع الإسلامي كنظام عام نجد تقريراً لمبدأ ثنائية الجزاء – وذلك نتيجة طبيعية لما قررناه من قبل من ثنائية المسئولية . والجزاء الجنائي إنما هو جزء من نظام الجزاء العام في الإسلام .
__________
(1) النور الآية 8
(2) أصول الدعوة / عبد الكريم زيدان صـ 197 دار عمر بن الخطاب الإسكندرية
(3) انظر في ذلك : أصول الدعوة سابق صـ 66(1/18)
* والأصل في هذه المسألة أن الله سبحانه وتعالى (( جعل أجزية الإسلام وعقوباته في الدار الآخرة لا في الدنيا ، ولكن مقتضيات الحياة وضرورة استقرار المجتمع وتنظيم علاقات الأفراد على نحو وأضح مؤثر وضامن لحقوق الناس كل ذلك دعا إلي أن يكون مع الجزاء الأخروي جزاء دنيوي )(1)وهذا الأصل الذي انفرد به التشريع الإسلامي – ( ثنائية الجزاء ) له دوره الكبير في الإنماء الأخلاقي وتفعيلها وحماية المجتمع من عوامل الفساد الخلقي ( والنظام الإسلامي لكى يضمن أعلى درجة من الخضوع للقانون الجنائي الإسلامي قرر لكل قاعدة قانونيه ( جنائية ) جزاءين اثنين وذلك ليضمن عدم انتهاكها أو الخروج عليها .
( أ ) جزاء دنيوي يتمثل في العقوبات الشرعية للفرد والسلطة عند الخروج على القانون الإسلامي .
( ب ) وجزاء أخروي يتمثل في العقاب الأليم في نيران الجحيم ، الذي توعدت به نصوص القرآن والسنة النبوية كل خارج على أحكام القانون الإسلامي ... ولا شك أن القاعدة القانونية المقترنة بجزاءين اثنين تصادف خضوعاً وطاعة لها من الأفراد والسلطة أكبر بكثير من تلك المقترنة بجزاء واحد وهو الجزاء الدنيوي فقط ... )(2)
__________
(1) انظر في ذلك : أصول الدعوة سابق صـ 66
(2) حقوق الإنسان بين الشريعة والقانون : كتاب الأمة عدد 88 السنة 220 ربيع أول 1423 د منير حميد البياني
صـ 126 ، 127 بتصرف
(2) أصول الدعوة / عبد الكريم زيدان سابق صـ 67 بتصرف(1/19)
وحين ينجح القانون أو التشريع في إخضاع الناس لأحكامه فإنه بذلك قد استطاع أن يقلل من حجم الجرائم الأخلاقية التي يرتكبها المجتمع وذلك خدمة أيما خدمة لتحقيق الجانب الأخلاقي في المجتمعات البشرية . ( والجزاء الأخروي – وتقريره – يترتب عليه خضوع المسلم لأحكام الشريعة خضوعاً اختياريا في السر والعلن خوفاً من الله تعالى والحياء منه أم بدافع الاحترام له – حتى ولو استطاع الإفلات من عقاب الدنيا ، وذلك لأن العقاب الأخروي ينتظره ولا يستطيع الإفلات منه ... وهكذا تنزجر النفوس )(1)
وتعلو القيم وتصان الفضيلة فمبدأ ثنائية الجزاء هذا الذي قررته الشريعة الإسلامية عائد على الأخلاق بحمايتها وصونها بأعظم النتائج التي يتعذر على القانون الوضعي الحصول على مثلها .
* وشئ آخر يؤخذ على القانون الوضعي حين جعل الجزاء الجنائي جزاءاً دنيوياً فقط ، ولا علاقة بين القانون والدار الآخرة . فلا يؤخذ على هذا القانون أنه يفتح باباً واسعاً من التحايل والهروب من تطبيق الجزاء فحسب وإنما يؤخذ عليه شئ آخر لا يعد أقل أهمية من ذلك ، وذلك هو وصف القانون الوضعي بالمادية البحتة ، فهنا تختفي نعمة الضمير وما تحقق من مكاسب أخلاقية للمجتمع ( إذا يصبح أمر الجزاء هنا مجرد إجراءات تأديبية وعقابية لا مجال فيها إلا إلي تطبيق القانون على الأحوال المختلفة للمسئولية أمام هذا القانون )(2)
1- الأمر الثاني : أن مصدر الجزاء في القانون الوضعي هو الشرع الذي وضع القاعدة الجنائية الآمرة بفعل أو لا تفعل
__________
(2) المسئولية والجزاء في السنة المطهرة / حسين صالح عناني صـ 444 وانظر كذلك / الوجيز لدراسة القانون / أحمد سلامة .- دار النهضة صـ 26(1/20)
2- بينما مصدر الجزاء في الشريعة الإسلامية هو المشرع العليم الحكيم الله سبحانه وتعالى . وهذا يشكل فرقاً جوهرياً بين الشريعة الإسلامية والنظم الوضعية بصفة عامة . وهو ما نستطيع أن نغير منه بربانية مصدر الجزاء في الإسلام وبشرية مصدر الجزاء الوضعي . وينتج عن هذا الأمر عدة أثار يجب علينا الوقوف عليها
( أ ) يترتب على كون الجزاء الجنائي ذو مصدر بشرى أن المعاقب ( الجاني ) يشعر في ذاته أنه معاقب من قبل الهيئة الواضعة للجزاء أي معاقب من قبل البشر(1)
مما يجعله غير راض عن مقدار الجزاء الواقع عليه واضعاً له بالتجاوز وعدم العدالة . ووصف الجزاء بربانية المصدر يرفع ذلك الحرج النفسي الذي يعانيه المجني عليه ، مما يجعله يقبل على الجزاء وهو في حالة من الرضا والاطمئنان بتحقيق العدالة . ولقد فصلنا القول في ذلك عند حديث عن ربانية المصدر في فصل الإلزام الخلقي .
(
__________
(1) انظر في هذا المعني : العقوبة / محمد أبو زهرة صـ 34 دار الفكر العربي * تحدثنا سابقاً عن الجوانب الأخلاقية التي تنتج عن ربانية الإلزام وتشبهها إلي حد كبير ربانية الجزاء والعقاب انظر في ذلك مبحث الربانية من الفصل الأول من الرسالة(1/21)
ب ) حين يكون الجزاء ( الجنائي ) مصدره بشرياً فإن ذلك يدل على تورط العقل البشرى فيما لا قبل له به فإنه لا شك حين يقرر ثواباً وعقاباً لجريمة معينه فإنه حتماً سوف يتأثر بعوامل ومؤثرات عديدة قد تحدثنا عنها سابقاً ، ( وحين تورط الإنسان في ذلك وأقحم نفسه في فلسفة للجزاء ثواباً أو عقابا كان طبيعيا تطيش الموازين وتختل الأحكام وما من شك أن غرائب وعجائب تتناقض مع بعضها من جهة , وتتناقض من جهة , وتتنافي مع الحق والعدل والخير الذي هو المقصود الأسمى من وظيفة التفكير من جهة أخرى هذا ..فضلاً عما يفضي إليه هذا السلوك من افتيات البعض من الناس على نظرائهم من بنى جنسهم دون أي وجهه من حق أو صواب )(1)
وهذا كله يدل على أن الجزاء في القانون الوضعي لا يقوم بتحقيق المتورط به من زجر المجرمين , , وتحقيق العدالة , وشفاء غيط المجني عليه , وذلك كله بسبب إمتداد البشر إليه بالحذف والإثبات . وذلك . بعكس الشريعة الإسلامية بعد تشرع الجزاء فيها ملك لله رب العالمين.
[ج] .. التغير وعدم الثبات : وهذا الوصف يكون دائماً لازماً لكل ما هو بشرى . فإذا كان الجزاء كان مصدره ومشرعة بشراً فإنه حتماً ستكون هذه صفاته .
__________
(1) لمسئولية والجزاء في السنة المطهرة / حسين صالح العناني صـ 439 * رسالة دكتوراه كلية أصول الدين بالقاهرة .(1/22)
وذلك بعكس التشريع الجنائي الإسلامي فإنه الجزاء فيه جزاء ثابت لا يتغير بتغير الأفراد والجماعات والمؤسسات ,( فالقواعد الآخرة في الشريعة الإسلامية والنصوص الآمرة والناهية لا تقبل التغير من الأفراد ولو أجمعوا على ذلك قال الله تعالى { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً }(1)أما القانون الوضعي فإن القاعدة الجنائية إنما هي محل تعديل وتغير أو حذف بالكلية إذا ما اتفقت الهيئة التشريعية على ذلك , فبقرار من البرلمان يجوز التعديل في القانون رأي الأغلبية العدية وهي 51% من الأصوات(2)
وأمر التغير هذا ليس بالأمر الهين اليسير , بل هو أمر مضر بالمجتمع ضرراً أخلاقيا بالغاً . ففرق كبير بين مجتمع يعيش الفضيلة على أنها أمر ثابت لا يتغير ولا يقبل التحويل والتبديل , ومجتمع آخر يعيش كل يوم بأخلاق غير أخلاق الأمس , فمالا شك فيه أن هذا الأخير بفكره هذا يحدث هزةً عنيفة في أخلاق المجتمعات , مما يجعلها تستهين بأمر الأخلاق , غير عابئة بها إن تغيرت , أو تحولت , أو حتى محيت من الأساس , ومما يعين علي تنظيم المجتمع الاستقرار والثبات في المنهج ، فإنه يحفظ المجتمع الإسلامي من اضطراب نظامه ، وتغيره حيناً يعد حين . ما يستلزمه هذا من تكيف معه ..... فكان هذا رحمة من الله ولك بخلاف التنظيم الوضعية فالقاعدة فيها غير ثابتة وليس لها ( مقياس ثابت محكم فما هو حلال اليوم قد يصبر حراماً عزراً ، وبذلك تختلف موازين الحياة ومقاييس الخير والشر وتتكون يتلون الإنسان وتحول ميوله وعواطفه ، فتظل الحياة الإنسانية في اضطراب دائم.
__________
(1) سورة الأحزاب آية رقم 36
(2) كمال الشريعة وعجز القانون الوضعي ز المستشار سالم البهنساوي صـ 24 بتصرف(1/23)
3- الأمر الثالث : أن سبب الجزاء وإنزاله على الجانى هو مخالفة القاعدة الجنائية هذا في القانون الوضعي . ( وهو نفس سبب المسئولية الجنائية ) أما في الشريعة الإسلامية فسبب إنزال الجزاء على الجاني هو عصيان الله عز وجل ومخالفة أوامره وإيتان نواهيه – وبهذا تمتاز الجزاءات في الشريعة الإسلامية عنها في القوانين الوضعية إذ أنها تتصف بالحل والحرمة – ( فالأحكام تبنى على مبدأ الحلال والحرام وهو مبدأ أقوي أثراً وأكثر فاعلية من مبدأ الجائز والممنوع في الأنظمة البشرية , لأن وصف الشيء بالحل والحرمة مرتبط بالجزاء الأخروي , فيفضي إلي أقصى درجة من الطاعة والالتزام , ظاهراً وباطناً , من قبل الأفراد والسلطات الحاكمة )(1)
وذلك عائد على الأخلاق بأحسن النتائج ومثل هذا لاوجود له في الأنظمة البشرية بوجه عام وبهذه الأمور الثلاثة ذكرنها نجد الإسلام يختص بخصائص لم تكن لتتوفر في القانون الوضعي الذي صنعته يد البشر ,وهذه الخصائص إنما هي حماية للأخلاق وصيانة للفضيلة وعامل من عوامل قيام القانون على الوجهة الأكمل المراد تحقيقه ,
4- شمولية الجزاء وتنوعه في الشريعة الإسلامية
__________
(1) حقوق الإنسان بين الشريعة والقانون كتاب الأمة ع 88 سنة 22 صـ 122 سابق(1/24)
وبعد أن تحدثنا عن الجانب الأخلاقي في تعريف الجزاء الجنائي بين الإسلام والنظم الوضعية فإننا نودّ ذكر خاصية مهمة امتاز بها الجزاء في الإسلام عنها في النظم الوضعية وهذه الميزة التي امتاز بها الإسلام في هذا الجانب هي أن الجزاء الدنيوي الذي تحدث عنه الإسلام متعدد ومتنوع , فهو يعالج الجريمة والمجرم على نحو متكامل , فالجزاء شامل حسي ومعنوي , باطني وظاهري , كل ذلك في الجزاء الدنيوي وهذا إضافة إلي الجزاء الأكبر الجزاء الأخروي , ولقد بينت السنة وذكرت أكثر من نوع من الجزاء كرر فعل على الجريمة مقابلة في ذلك ما ذكره أهل الوضعية وأقطاب العلوم والفنون ( فذكرت السنة أنواع من الجزاء اهتم بها كثير من أصحاب العلوم وأرباب الفنون أمثال الاجتماعين والأخلاقيين والفلاسفة وغيرهم :- كل ذلك احتوت عليه السنة النبوية وإن كانت لم تذكر هذه الجزاءات تحت تلك المسميات الحديثة أمثال قولنا الجزاء الطبيعي , والاجتماعي , والأخلاقي والقانوني وغيرها من تعريفات غير أنها استوعبت تلك التعريفات استيعاباً شاملاً وتضرب لذلك أمثلة توضح من خلالها ( أن السنة النبوية لم تدع شاردة ولا واردة . سواء عرفتها التخصصات الإنسانية أو لم تعرفها إلا وذكرت خير ما فيها كجزئية من جزئيات الجزاء الشامل )(1)
النوع الأول: عرّف الاجتماعيون الجزاء الاجتماعي بقولهم ( احترام الجماعة وإكبارها لصانعي الخير وفاعلي المعروف ,
قال الله تعالى { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }(2)
__________
(1) المسئولية والجزاء في السنة المطهرة / حسن صالح العناني صـ 445 سابق
(2) سورة النور جزء من الآية رقم 2(1/25)
والمقصد من ذلك أن يكون هناك رادع اجتماعي للجاني ( فإن إقامة – الجزاء – في مشهد عام تحضره طائفة من المؤمنين يكون أوجع وأوقع في نفوس الفاعلين)(1)وكذلك نجد نماذج أخرى أعدها الإسلام لجزاء اجتماعي للجاني فمن هذه الجزاءات على سبيل المثال :
أ- عدم قبول شهادة من ارتكب جناية القذف فقال الله تعالي { وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }(2)فرد شهادة الجاني إنما هي عقوبة أدبية اجتماعية خطيرة قلما يخيب الغرض من إنزالها بالجاني , وتكون زاجراً لغيره من المجتمع ( فيكفي أن يهدر قول القاذف فلا يؤخذ له بشهادة , وأن يسقط اعتباره بين الناس ويمشى بينهم متهما لا يوثق له بكلام )(5)
وأوردت السنة لنبوية الجزاء الاجتماعي وأشارت إليه فقال - صلى الله عليه وسلم - ( لا تجوز شهادة خائن , ولا زان ولا زانية ولا ذي غمر على أخيه)(3)وهذا الحديث بين ما ذكرته الآية الكريمة السابقة ويزيدها موضوعاً , ويضيف الجزاء لجرائم تحريم الزواج من الزانية والزنى : وهذا جزاء اجتماعي أيضاً قال تعالى :
{ الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ
وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ }(4)
__________
(1) في ظلال القران سيد قطب ج4 صـ 2488 دار الشروق وانظر تفسير بن كثير ج3 صـ 254 بيروت
(2) سورة النور جزء من الآية رقم 4 (5) في ظلال القرآن ج4 صـ 2491 الشروق
(3) سنن أبو داود ك الأقضية . باب من ترد شهادته ج3 صـ 306 والحديث برقم 3601 الغمر فقي الحديث
مراده الحقد انظر ( النهاية في غريب الحديث بن الأثير ج3 صـ 384
(4) سورة النور الآية رقم 3(1/26)
قال سيد قطب ( الآية تفيد نفور طبع المؤمن من نكاح الزانية ، ونفور طبع المؤمنة من نكاح الزاني ، واستبعاد وقوع هذا الرباط بلفظ التحريم الدال علي شدة الاستبعاد ..... وهذه وحدها عقوبة اجتماعية أليمة كعقوبة الجلد أو أشد وقعاً )(1)
وقال قتادة ومقاتل بن حيان ( حرّم الله تعالي علي المؤمنين نكاح البغايا) وذهب الإمام أحمد إلي ذلك بقوله لا يصح العقد بين الرجل العفيف علي المرأة البغي ما دامت كذلك حتى تستتاب فإن تابت صح العقد عليها وإلا فلا ، وكذلك (لا يصح تزويج المرأة الحرة بالرجل الفاجر )(2).... ولقد أورد الحافظ ابن كثير جملة من الأقوال والآثار في تفسير هذه الآية توضح ذلك .(3)
فهذه عقوبة اجتماعية لزجر الجاني من العود إلي الجريمة مرة أخري ، ولزجر من تسول له نفسه الاقتراب من هذه الجريمة وما تجاوز الإسلام في فرض هذه العقوبة ، ولم يكن قاسياً – غير أنه في إقراره هذه العقوبة كان متسقاً تمام الاتساق مع الفطر الصالحة . قال بن القيم ( وقبح هذا مستقر في فطر الخلق وهو عندهم غاية المسبة )(4)فسبحان من وافق شرعه خلقة { أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } (5)
جـ - عقوبة التشهير :-
__________
(1) سيد قطب في ظلال القرآن ج4 صـ 2488
(2) تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج3 صـ 254 ، 255 بيروت
(3) انظر المصدر السابق
(4) زاد المعاد لابن القيم تحقيق الأرناوؤط ج5 صـ 114 (5) سورة الملك آية رقم 14
(6) السياسة الشرعية لابن تيميه صـ 121 (7) الأحكام السلطانية الماوردي صـ 246 بتصرف دار بن خلدون(1/27)
وهذه العقوبة إنما الغرض منها هو الغرض من عقوبة تطبيق الحدود في مكان عام . وكذلك رد شهادة القاذف زوراً . ذلك أيضاً ليحذره الناس – إذا اشتهر أمره – فتزول عنه الثقة ، ويعزر العاصي كما يقول ابن تيميه ( بتسويد وجهه , وإركابه على دابة مقلوباً كما روى عن عمر بن الخطاب- رضى الله عنه – أن أمر بذلك في شاهد الزور , فإن الكاذب سوّد الوجه , فسود وجهه , وقلب الحديث ، فقلب ركوبه)(6) ويجوز كذلك أن يصلب الجاني فقد ورد – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلب رجلاً على جبل يقال له أبو ناب ... ويجوز أن يجرد من ثيابه إلا قدر ما يستر عورته ... ويجوز أن يحلق شعره(7)
وصور الجزاء الاجتماعي التي ذكرها الإسلام كثيرة بل تستطيع أن تقول إن كل عقوبة تعزيرية ( أخلاقية) لم يذكر فيها نهي شرعي ، تجوز للحاكم مادامت أنها تحقق مصلحة اجتماعية ,
* وكذلك لم يهمل الإسلام جزاء صانعي المعروف اجتماعيا فقال - صلى الله عليه وسلم - { من صنع إليكم معروفاً فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكفئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه } .
النوع الثاني الجزاء الأخلاقي : اشتملت الشريعة الإسلامية على نوع آخر من الجزاء فوق ما ذكرناه من الجزاء الاجتماعي – وهو الجزاء الأخلاقي بحسب مسمى علماء الأخلاق . والذي عرفوه بأنه هو ( ما تشعر به من طمأنينة القلب وراحة النفس عند عمل الخير أو ما تحس به من الضيق والقلق والحزن والنعاس عند ارتكاب الشرور والآثام(1)وهو النوع من الجزاء لم تخل الشريعة الإسلامية منه .
__________
(1) سنن أبي داود في الزكاة . باب عطية من سأل بالله عز وجل ج1 صـ 524 دار الحيان بيروت والحديث
برقم 1672 قال الأرناؤوط في جامع الأصول ج1 صـ 692 إسناده صحيح مطبعة الملاح .(1/28)
فنجد في نصوص السنة النبوية ما يثلج الصدر في هذا الموضوع الذي تحدث عنه الأخلاقيون غير أنها أحكمت الحديث حوله فلم تدع فيه شاردة ولا واردة إلا ذكرنها .. ذلك مما يدع إلي التعجب ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - { البر حسن الخلق والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس }(1)
وقال - صلى الله عليه وسلم - { البر ما اطمأن إليه القلب , واطمأنت إليه النفس }(2)فلقد عبرت السنة عن الجزاء الأخلاقي والذي ينتج عن العمل الصالح يقول - صلى الله عليه وسلم - ( حسن الخلق ) و( ما اطمئن إليه القلب ) و (ما اطمأنت إليه النفس )
( فهذه الكلمات وما تشمله من رضا النفس وطمأنينة القلب وبشاشة الوجه في كلمة جامعة تشمل السلام والجمال , والكمال مع النفس والغير)(4) إنما هي الجزاء الأخلاقي على فعل الخير . ولقد ذكر القرآن الكريم هذا الجزاء القلبي الناتج من أفعال وسلوكيات الإنسان فقال تعالى { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ }(3)
قال ابن كثير ( ذلك ازكى لهم) أي (أطهر لقلوبهم وأتقى لدينهم كما قيل من حفظ بصره أورثه الله نوراً في بصيرته ) (1)
__________
(1) صحيح مسلم في البر والصلة باب تفسير البر والإثم والترميذي في سننه كتاب الزهد . باب ما جاء في البر والإثم
وقال هذا حديث حسن صحيح ج4 صـ 597 ط دار الحديث القاهرة والحديث برقم 2381
(2) رواه الإمام أحمد عن وابصة بن معبد رضي الله عنه ج4 صـ 228 وقال بن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم
صـ 246 إسناده جيد (4) المسئولية والجزاء في السنة النبوية د / حسن صالح العناني سابق صـ 447
(3) سورة النور آية رقم 30
(1) تفسير بن كثير ج3 صـ 273 بيروت دار الجيل(1/29)
وقال - صلى الله عليه وسلم - { النظرة سهم مسموم من سهام إبليس فمن تركها من خوف الله أثابه الله جل وعز إيماناً يجد حلاوته في قلبه }(1)فهذه الجزاءات السابقة من طمائنية القلب والنفس وحسن الخلق وطهارة القلب وزكاته ,وإيجاد حلاوة الإيمان فيه (0 كل هذه الجزاءات ) إنما هي لأهل الطاعة يجدونها في قلوبهم
* وفي الجهة المقابلة لهذا الجزاء نجد عقوبة قلبية تصيب الإنسان في قلبه وضميره جزاءاً له على ما اقترف من السيئات رما ارتكب من الموبقات فقال - صلى الله عليه وسلم - في مقابلة الحالة الأولى ( والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس ) فكل ماحاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس) فكل ماحاك في صدر الإنسان مما يؤلمه نفسياً من هم وحزن وضيق إنما هو عقوبة له على مصائب ارتكابها فقال - صلى الله عليه وسلم - { إذ كثرت ذنوب العبد ولم يكن له ما يكفرها ابتلاه الله تعالى بالحزن ليكفرها }(2)
__________
(1) رواه الحاكم في المستدرك ج4 صـ 314 وقال عنه العجلوني في كشف الخفاء ج2 صـ 455 أقره العراقي ، وقال العراقي لا يعلم فيه مجروحاً
(3) ذكره الحافظ بن كثير في التفسير وعزاه إلي الإمام أحمد في المسند ج4 صـ 126 دار المعرفة
(2) الآية سورة البقرة جزء من الآية رقم 284(1/30)
وروى الضحاك عن عائشة رضى الله عنها كانت تقول في قوله تعالى: { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير }(1)من هم بسيئة فلم يعلمها أرسل الله عليه من الهم والحزن مثل الذي هّم به من السيئة فلم يعملها فكانت كفارته )(2)وأود أن أوضح أن الهم الذي أشارت إليه السيدة عائشة في قولها ( من هم ) ( إنما المراد به هم العزم على الفعل السيء وحاول ذلك ولم ينجح في الوصول إليه ، والراجح أنه يأثم ولكن دون إثم الفاعل)(3)فهذه الجزاءات القلبية ( وما تشملها من المستويات المتعددة من القلق والحيرة والاكتئاب والحزن إنما هي وفق حالات الذنب والخطأ )(7) التي ارتكبها الإنسان في سلوكياته اليومية .
النوع الثالث : الجزاء الطبيعي : ولقد عرفه العلماء بأنه ( ما لاقاه من الأذى أو المضرة , أو تلقاه من المتعة والمسرة نتيجة لاعمالنا)(4)
ولقد اتسع الجزاء في الشريعة الإسلامية ليشمل هذا النوع الثالث من الجزاءات التي تحدث عنها الوضعيون . تحت مسمى الجزاء الطبيعي , وذلك بجانب الأنواع الأخرى كما رأينا سابقاً ,
__________
(1) جامع البيان عن تأويل القرآن / لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري ج3 صـ 149 ط3 مصطفي الحلبي 1968
(2) الأساس في التفسير للأستاذ / سعيد حوي مجلد أول صـ 668 دار السلام ط أولي 1400هـ
(3) المسئولية والجزاء في السنة النبوية رسالة دكتوراه د/ حسن صالح العناني صـ 447
(4) انظر في ذلك الأخلاق النظرية أبو بكر ذكري صـ 113 وكذلك المعجم الفلسفي / جميل صليبيا صـ 399
دار الكتاب اللبناني بيروت ج1(1/31)
ولقد وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم تخبر عن هذا النوع من الجزاء قال تعالي { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ }(1)
وقال تعالى { فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } (3)
قال ابن كثير في قوله تعالى (( وما أصابكم من مصيبة )) أى مهما أصابكم أيها الناس من المصائب فإنما هي عن سيئات تقدمت لكم )(2)فكل مصيبة تصيب الإنسان لها سبب مما كسبت يد هذا الإنسان بل ، ويعفوا الله عن كثير – سبحانه وتعالى – فهذا جزاء قرره الإسلام واشتمل عليه ،
ولقد ذكرت السنة النبوية هذا الجزاء فقال - صلى الله عليه وسلم - { ما من مصيبة تصب المسلم إلا كفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها }(3)ولقد ذكر البخاري قبل هذا الحديث قول الله تعالى :
{ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً }(4)
قال ابن المنير : الحاصل أن المرض كما جاز أن يكون مكفراً للخطايا فذلك يكون جزاء لها..
وقال ابن بطال : ذهب أكثر أهل التأويل إلي أن معنى الآية أن المسلم يجازى على خطاياه في الدنيا بالمصائب التي تقع له فتكون كفارة لها(5)
__________
(1) سورة الشورى آية رقم 30 (3) سورة العنكبوت آية رقم 40
(2) بن كثير ج4 صـ 125
(3) صحيح البخاري ك المرض باب كفارة المرض والحديث برقم 5640
(4) سورة النساء جزء من الآية 123
(5) فتح الباري لابن حجر ج5 دار الغد العربي صـ 495 ، 496 ( شرح كتاب المرض(1/32)
وبعد فهذه أنواع الجزاء التي اختص بها التشريع الإسلامي بوجه عام ، والتشريع الجنائي بوجه خاص ، ونلاحظ أن نظرة الوضعين إلى الجزاء أقل وأضيق من النظرة الشاملة التي يراها التشريع الإسلامي ،
فكل أهل فن من الفنون تحد ثوا عن نوع من الجزاء ، فالمهمتين بالدراسات الأخلاقية ذكروا التعريف الأخلاقي واهتموا بالجزاء المتعلق بعلمهم أو فنهم ، وكذلك الاجتماعيين ، وعلى غرارهم كان الطبيعيون ، والإسلام لا يتقيد حين يطلعنا على أنواع الجزاءات بهذه الاصطلاحات السابقة – ( وإنما يعنى الإسلام بتجليه الحقائق النفسية والإنسانية متكاملة في إطارها الاصطلاحي النافع من أيسر الطرق وأقصرها وأبعدها عن التشدد والحرج)(1)
وتظهر لنا أثار تلك الخاصية التي امتاز بها الإسلام عن النظم الوضعية حين يدرك المرء أن كل ما يصبه من جزاء ( طبيعي ، واجتماعي ، وأخلاقي ) إنما هو بمراد الله عز وجل ؛ ومقصود ومستهدف أن ينزل عليه هذا الجزاء ، إنما نزل عليه جزاءاً له بما كسبت يداه من خطايا وما انطوت عليه نفسه من شرور وأثام حين ذلك يدرك – أن كل صغيرة وكبيرة إنما هي محصية عليه ومجازى بها . عندئذ لا يحاول الإنسان أن يتهرب من جزاء أو عقوبة صدرت ضده ، وذلك لأنه يعلم أنه مجزى لا محالة في ذلك ، بأي أنواع الجزاء كان . وذلك بخلاف ما هو كائن في النظم الوضعية .
__________
(1) انظر في ذلك المسئولية والجزاء في السنة المطهرة سابق صـ 448 بتصرف(1/33)