" الثريدة المناغية للعصيدة "
لمحمد المختار السوسي
دراسة وتقديم
الدكتور المهدي بن محمد السعيدي
كلية الآداب والعلوم الإنسانية - أكادير
مقدمة :
اعتبر القدماء الشرح من أنواع التأليف الهامة ، وعده ابن خلدون ثاني مقاصد التأليف السبعة ، فقال :
" وثانيها ، أن يقف على كلام الأولين وتآليفهم فيجدها مستغلقة على الأفهام ويفتح الله له في فهمها فيحرص على إبانة ذلك لغيره ممن عساه يستغلق عليه لتصل الفائدة لمستحقها .. " ([1])
وتبعا لذلك ظهرت مؤلفات كثيرة خاصة في الجانب العلمي المرتبط أساسا بعلوم اللغة والشريعة حيث يكون الشارح وسيطا بين النص والمتلقي . ويظهر أن سبب ازدهار التأليف في الشروح أمران :
· أولهما: خروج اللغة في تطورها عن الحد المتواضع عليه المضبوط في كتب اللغة والمعاجم ، عقب اتساع دولة الإسلام واختلاط العرب بالأمم الأعجمية ، فكان من الضروري العمل على تقريب الأدبين الجاهلي والأموي من الناس بتفسير الألفاظ وبيان المعاني والتعليق على الإشارات التاريخية ([2]) .
ثانيهما :منهج التعليم الذي اعتمد بشكل كلي على الشرح لتقريب المعارف للإفهام ،([3]) ولما كان أساس الأدب معرفة اللغة التي تحولت في وقت مبكر من ملكة طبيعية إلى ملكة صناعية تكتسب بالدرس والتحصيل ، انصرف العلماء إلى شرح الشعر الجاهلي الذي كان ديوان ألفاظ اللغة وسجل قواعدها وأساليبها ، وبمرور الزمن اتسع الاهتمام ليشمل الشعر عموما ([4]) .(1/1)
وقد كانت للشرّاح مناهج مختلفة متنوعة خاصة من الذين استهدفوا بشروحهم فئات الطلبة والمتعلمين فكانت هناك شروح متفاوتة في التعمق ما بين كبير و أوسط و صغير وتحولت الشروح من نص وسيط هدفه فتح الأفهام إلى مجموع أدبي يجمع إلى التاريخ التراجم ويعرض إلى جانب المعارف الشرعية الحكايات الطريفة .. أي أنه أضحى مجالا لعرض المعارف واستثمار المحفوظ .
على أن الشرّاح لم يتعرضوا للشعر أو النثر دون منهج مضبوط بل بدءوا بالانتقاء فليست كل الإبداعات صالحة لتبدل الجهود في توضيح ما غمض منها وتفسير ما في ثناياها من قضايا كما أن الشرح ليس نهائيا فيغني اجتهاد شارح ما عن إعادة النظر في النص ، بل هناك نصوص استقطبت الاهتمام ولفتت انتباه العلماء على مر العصور فتتابعت شروحها ، ولعل أجلى مثال لذلك ديوان المتنبي الذي كان أول شرّاحه معاصره ابن جني ، وآخرهم البرقوقي في أوائل القرن العشرين ([5]) الذي لم يجد غضاضة في مراجعة الشروح القديمة والاستدراك عليها ، قال في مقدمة شرحه :
" وَجَّهْتُ عَزيمتي إلى التوسع في هذا الشرح وجعله شرحاً وافياً من كل نواحيه، شرحاً أورد فيه جميع تفاسير الشرّاح ، وأقوال النقاد، وأستوعب مزايا كل الشروح ؛ وليس ذلك أثَرَةً مني واستبدادا بالمتنبي ... ولكنه حب الكمال ، وما يسمونه المثل الأعلى ... فلقد رأيت بعض الشرّاح قد اختصر الطريق ، واكتفى بتفسير الكلمات اللغوية ، وبعضهم قد جعل وَكْدَه الإعراب وما يتعلق بالأبيات من جهة النحو والتصريف ، وآخرين قصروا عنايتهم على إيراد السرقات والأشباه والنظائر . بَيْدَ أن هذه الأشباه - ومثلها الشواهد النحوية التي أوردها العُكْبَرِي ، ومن قبله الإمامان : أبو الفتح بن جني ، والواحدي تحتاج - هي الأخرى - إلى الشرح والتفسير ... ورأيت في بعض عبارات القدَامَى من الشراح غموضاً يجُمل أن يوضح أو يستبدل به غيره ، مما يوائم أذهان هذا الجيل" ([6])(1/2)
وقد ظهر لبعض الدارسين أن مدار اختيار القصائد عند الشرّاح على معيارين اثنين:
· أولهما : التميز من ناحية المبدع أو الغرض مما يثير اهتمام الشارح .
· خصوبة الشعر المنتقى من حيث القضايا اللغوية والمسائل الأدبية والإشارات التاريخية أي أن يمكنه النص الشعري من إبراز ثقافته ومعارفه اللغوية والأدبية ([7]) .
لقد راجت شروح الشعر لدى القدماء كالقصائد المفردة مثل بانت سعاد وبردة البوصيري وهمزيته ولامية العرب ولامية العجم والمختارات كالمعلقات والمفضليات والدواوين مثل ديوان أبي الطيب المتنبي ، وقد أحجم الأدباء المتأخرون عن شرح الشعر وانصرفوا عنه وقد ظن كثير منهم أنه منهج باطل وسوق بائر والظاهر أنهم فعلوا ذلك لضعف ثقافتهم وقلة معارفهم .
1 - قصيدة العصيدة :
كان السوسي متعدد الاهتمامات العلمية و الفكرية فهو وفقيه ومفسر وأديب وشاعر ومدرس ومؤرخ معني بالتاريخ العام ؛ تاريخ الثقافة والفكر والأدب ضمنها بنثره وشعره وقد خلف ديوانا ينيف على ثمانية آلاف بيت في أغراض وموضوعات شتى منها الاجتماعية كالمدح والاخوانيات من تحية وعتاب وتعزية وغير ذلك والذاتية كشعر التأمل وشعر الطبيعة وشعر المنفى والوطنيات في رثاء الشهداء والتنويه بمآثر الأمة والاعتزاز بالإسلام وباللغة العربية ... ([8]) .(1/3)
وقد كانت للسوسي وقفات شعرية مع موضوع آخر من الشعر فيه طرافة وإبداع وفي عمقه معان إنسانية يكتشفها المتأمل ترتبط بحياته وتبرز مواقفه ومنهجه في التفكير ، ولعل القصيدة التي ندرسها اليوم من هذا النمط الذي نجد منه نماذج كثيرة في الشعر العربي قديمه وحديثه يدرجه المؤرخون للأدب في شعر الظرف والمداعبة ذلك هو الشعر الذي يتناول أنماط الأطعمة واصفا بين مدح وهجاء ، وقد حفلت به كتب التراث خاصة الجمهرات الأدبية مثل يتيمة الدهر للثعالبي ومروج الذهب للمسعودي والأغاني لأبي الفرج والعقد الفريد ونفح الطيب ...وغيرها ومن نماذج هذا الشعر قول السريّ الرفاء يداعب أحد أصدقائه ويصف جام فالوذج :
إذا شئت أن تجتاح حقا بباطل
وتغرق خصما كان غير غريق
فسائل أبا بكر تجد منه سالكا
إلى ظلمات الظلم كل طريق
ولاطفه بالشهد المخلق وجهه
وإن كان بالألطاف غير حقيق
بأحمر مبيضِّ الزجاج كأنه
رداء عروس مشرب بخلوق
له في الحشا برد الوصال وطيبه
وإن كان يلقاه بلون حريق
كأن بياض اللوز في جنباته
كواكب لاحت في سماء عقيق([9])
وقد أدرج السوسي في المعسول بعض مقطعات من هذا النوع منها قطعة في وصف "أملو"([10]) نصها :
أملوا علينا من حديث " أملو"
إن حديث " أملو " لا يمل
تمزجه بالعسل المصفى
مع سفنج في الخوان صفا
تأخذ من هذا وذاك أخذه
طيبة تأتى بكل لذّه
ومن أتى إلغ ولم يبتلعِ
من هذه الأكلة لم يستمتعِ([11])(1/4)
كما نظم السوسي قصيدة لم يعن فيها بوصف أكل الحواضر التي تفننت الأيدي الماهرة في تحضيرها حتى تكون لذيذة مستساغة ، وإنما انصرف إلى أكلة بدوية ساذجة بسيطة بساطة الحياة البدوية نفسها تلك هي العصيدة ،قال في الثريدة :" إذا كان هناك في الحضر من يستطيبون الفالوذج والبسطيلة وهما ما هما أناقة والتذاذ .. فإن عندي أنا أيها البدويَّ القحَّ عصيدة من الذرة البيضاء وهي أولى وأوفق بالأمزجة لسذاجتها ولكون لذتها طبيعية لم تدخلها يد الصنعة ومن قر عينا بعيشه نفعه:
نحن بما عندنا وأنت بما
عندك راض والرأي مختلف " ([12])
والعصيدة من الأكل المعروفة بالمغرب منذ القديم وكانت طعام أهل البوادي البعيدين عن رفاغة العيش ورفاهية الحضارة ([13])، كما كانت من أطعمة أهل التصوف والزهد ([14]) ومن المناطق التي انتشر فيها تناولها منطقة سوس فقد ذكر الوزان أن السوسيين كانوا يأكلونها في قصعة وسطها حفرة تملأ بزيت الأركان ([15]) .
وكانت العصيدة مما يتخذ للعشاء في مسقط رأس السوسي قرية " إلغ " ، وصفها بقوله:
" إن العادة في العصيدة في إلغ أن تصنع من جريش الذرة البيضاء ؛ ويصب عليها حالة نضجها الحليب ثم تطبخ طبخا جيّدا بعدما تلت بالمعصد – وهو عود تلت به العصيدة في مطبخها لتا محكما حتى تغلظ ؛ ثم تغرف إلى الجفنة ؛ وتسنم فيها ويحفر في أعلاها حوض مستدير يملأ بالزبدة الدائبة حتى يطفح."([16])
وقد تصدى السوسي لوصف العصيدة لعدة أسباب نجملها فيما يلي :(1/5)
1- سبب مباشر ورد في مقدمة شرحه الموسوم الثريدة والذي يتضمن الإشارة إلى ظروف نظم القصيدة الذي كان إبان مسغبة 1356 وهو منفي إلى مسقط رأسه حيث قضى نحو تسع سنوات قال :" صدرت عن هذا العبد المتشبث بذيل الأدباء قصيدة في وصف العصيدة ولقولها سبب خاص وهو ذلك أنني كنت في عشية يوم من أيام رمضان 1356 هـ جالسا في الدار بإلغ مع الأخ سيدي بلقاسم بن محمد ([17]) من أبناء عمومتنا فعند الإفطار أتينا بعصيدة من ذرة بيضاء فاهتبلنا بها حين لم يتأت لنا سواها لعدم اللحم في الأسواق في تلك المسغبة الشديدة فتجاذبنا خصال هذا النوع من الأطعمة ، فقلت له إنني حين كنت بمراكش كنت كثيرا ما أتشهى العصيدة ، أفلا يحقّ عليّ الآن أن أشكر الله حين تهيأت لي اليوم.
ثم قلت له إن العصيدة من الذرة البيضاء نعمة ما مثلها نعمة ، وإن الالتفات إلى الإشادة بها دين القوافي فلنعالج ذلك ، ولنصف كيف تؤكل وصفا شعريا جذابا ، فافتتحنا القصيدة حتى وصلنا فيها بضعة عشر بيتا فراح إلى بيته ، فأكببت على الباقي فأتممتها زهاء سبعين بيتا ثم نقحتها وهذبتها على حسب وسعي ففي الغد حين رآها الفقيه سيدي بلقاسم أظهر عجبا زائدا ، وقال حقا إن هذه القصيدة أدت دين العصيدة على القوافي ."([18])
2- ارتباط السوسي بالبادية التي نشأ وتربى بها وبكل مظاهر الحياة فيها ، فكان يعتبر نفسه بدويا محافظا على سمة الحياة البدوية في شظف العيش وعدم الاهتبال بالرفاه ، وقد رُويَ أنه وهو وزير كانت العصيدة طعامه حتى نبز بها ، فذكر أنه في بعض اجتماعات الحكومة الأولى نوقشت الميزانية وضمنها أجور الوزراء وكانت في رأي السوسي مرتفعة فاقترح تخفيضها تخفيفا على مالية الحكومة الفتية، فتهانف بعض الحاضرين من أبناء الحواضر الناشئين في بحبوحة الحضارة قائلا : " ما لهذا البدوي وللمال إنما تكفيه العصيدة ."(1/6)
3- اعتزازه بتاريخ البادية وهذا ما دفعه لكتابته في وقت كان دور البادية يخفت وهي التي تمثل الأصالة والماضي الزاهر لتحتل الحواضر مكانها في الأهمية والريادة وهي التي تمثل الحضارة الغربية الجارفة التي تحاول ، في رأي السوسي إفساد كل شيء حتى ماضي الأمة ([19]) لقد كان السوسي مشغولا بالعلاقة بين الحضارة والبداوة فخصص لها فصلا في مذكرته التي سماها "الإلغيات " خلص فيه إلى أن الذي يربطه بالبادية هو ما تميزت به من حركة علمية وصوفية منذ فجر الإسلام بها إلى اليوم ، وكل ما يمت إلى تلك الحركة من مظاهر الصبر والعزم والاعتزاز بالعربية والإسلام ولعل أجلى تلك المظاهر طرق العيش والأحوال الاجتماعية ([20]) .
4- اهتمامه بتاريخ البادية وبجميع تجليات هذا التاريخ خاصة المرتبطة بالثقافة بمعناها العام أي أنماط العيش وطرق التفكير وأنواع الخطاب ، وقد رافق هذا الاهتمام السوسي في كل كتاباته خاصة في جمهرته " المعسول" التي افتتحها بالإشارة إلى جميع مظاهر الحياة في قريته " إلغ " فوصف البيئة الجغرافية والعادات والحفلات والحرف والأطعمة والفرش والألعاب ...ويندرج هذا ضمن مبحث علم الثقافة أو علم الإناسة ( الأنتروبولوجيا ) ([21]).
5- توسيع مجال القول الشعري وترويج سوق الأدب ، وقد كان للسوسي اطلاع واسع على الأدب العربي ، قرأ مصادره من جمهرات ودواوين ورأى الأدب العربي فيها محيطا بكل مظاهر الحياة ، ورأى الأدباء ظرفاء فكهين يطلقون القول في جوانب قلما يهتبل بها أمثالهم، فدعاه ذلك إلى مجاراتهم في الطيِّب من القول ، قال :(1/7)
" للأدباء مسابقات في ميادين شتى يطلقون فيها أفراسهم ويفجرون فيها قرائحهم ، قصد إطالة نفس الأدب في كل جهة ولإيجاد المتعة للنفس الأدبية أينما كانت متوجهة فلذلك كانت لهم الموائد الحافلة والمطاعم المتنوعة حلبات أنضوا في أوصافها المتنوعة قوافي، وأرسلوا فيها عيون الخيالات الشتى .فمن قرأ كتب الأدب للمتقدمين يجد في اليتيمة للثعالبي وفي مروج الذهب للمسعودي وفي غيرها قطعا أو قصائد كبيرة في وصف أنواع المأكولات أو المشروبات فذلك ما حدا بي إلى وصف العصيدة([22])
6- إبراز الأريحية التي كانت تميز الأدباء في سوس عن غيرهم من علماء المنطقة ، لقد كان لأدباء سوس وكلهم فقهاء عالمان ؛ عالم خاص بهم حين يتطارحون الشعر العربي ويتناظرون في الأدب العربي وعلومه بلسان عربي مبين في مجالس وأندية خاصة، وعالم عام ينفتح على المجتمع بواسطة الخطاب الفقهي ([23]). فتعاطي الأدب من هذه الناحية ضرب من المتعة ، قال السوسي :
" إن للأدب روحه وسيرته، وإن للأدباء أقوالا قد يروحون بها عن أنفسهم أحيانا من غير إخلال بشريعة المروءة ولا هتك لسَجف الوقار ، ونعوذ بالله ممن لم يرم في الأدب وأريحيته بسهم ولا مالت له إلى منازعه عين ، فيتجهّم حيث يذوب الأدباء أريحية ويعبس في المقام الذي يقطرون فيه بشاشة ، تخلقا بأخلاق الأجلاف ، وانتباذا عن طريقة الأدباء من أفاضل الأسلاف ، وميلا إلى النُسُكِ الأعجمي ، ونعوذ بالله من قوم خلقوا من الكثافة فلا تجد روح الأدب إليهم متسربا :
عجبا لقوم لم تكن مهجاتهم
لهوى ولا أجسادهم لنحول
دقت معاني الحب عن أذواقهم
فتأولوه أقبح التأويل " ([24])(1/8)
نظم السوسي قصيدة في سبعين بيتا وصف فيها العصيدة وصفا مطولا ملما بطريقة أكلها واصفا ذلك كله وصفا أدبيا ممتعا ، وقد نشر القصيدة كاملة في الجزء الأول من المعسول باعتبارها من أطعمة الإلغيين ([25])،وهناك خلاف بسيط بين قصيدة المعسول والقصيدة المتضمنة في الشرح الذي بين أيدينا ،وذلك ناتج عن إقدام السوسي على تنقيحها عندما عزم على نشرها، قال في المطلع :
لمن جفنة قد أقبلت تتألق
تلوح بلألاء العصيدة يبرق
مسنمة حتى كأن سنامها
شماريخ طود لم يكد يتسلق
وقد فغمت منها الخياشيم نكهة
تطيب بها كل النواحي وتعبق
أهذا أريج المسك أن نفح روضه
أزاهيرها تحت الصبا تتفتق
وعهدي بأنفي ليس يغلط شمّه
فيا طالما شم البعيد فيصدق
ألم ترها كالثغر أشنب باسما
متى جال فيها غرثان يشهق
لها قمة في وسطها حوض زبدة
(كجابية الشيخ العراقي تفهق)([26])
ثم وصف تشوف نفسه إليها ورجاءه أن يكون من تحط أمامه ليشبع منها نهمته، فقال :
فيا ليث شعري من تحط أمامه
فيوضع في الأطراف منها ويعنق
ويخبط فيها باليدين كأنما
تخبّطه وسط الدجنة أولق
يشن عليها غارة مشمعلة
بلقم أكول آمن ليس يرهق
فيأتي على تلك العصيدة كلها
إذ الجفنة الغراء جرداء سملق([27])
وبعد أن وضع الصحن بين يديه يقبل الشاعر على وصف إقباله عليه وإعداد نفسه لتناول محتواه ، فقال :
دلفت إليها والعيون كأنها
نطاق حوالي ركبتي تحملق
حللت لها طوقي وزحزحت معطفي
وألقيت عني ما به أتمنطق
فأغسل حتى مرفقي فربما
ستعمل أيضا معصماي ومرفق(1/9)
وهل فاز في أشغاله غير حازم
يؤيده عزم إذا هم يصدق
وهل فاز باللذات إلا الذي إذا
تأتت له اللذات يفري ويخلق
وأدني إلي القعب يطفح رائبا
كغِرب مليء ماؤه يتدفق
وللمخض فيه نضرة وتلألؤ
كعضب على متنه لمع ورونق
وما أثرت فيه الوطاب ولا دنا
إلى أريه المبيض أرعن يمذق
ولا مخضته العانسات وقد بدا
لشامات زبد من عليه ترقرق
وتعلوه أمثال القباب سميكة
زجاجية لماعة تتألق
فآخذ منه حسوة بعد حسوة
كم يحتسي الفحل الذي يترمق([28])
ويستمر السوسي على هذا النحو واصفا تناول العصيدة وصفا دقيقا مفصلا فيه من المغالاة ما يستطيبه الأدباء ، مثل قوله ([29]) :
وإني في أمثال هذا لباذل
جهود مجد في المهمات يصدق
فأجدح ما في حفرتي جدح عازم
وسبابتي في جانب الحوض تبثق
إلى أن يرى والزُبد يكسوه زرقة
كما بان طرف واسع الجفن أزرق
إذن يبتدي التجديف والكف ترتقي
وتهوي كخطف البرق في الجو يبرق
وقد رصصت فيها الأنامل كلها
فعادت كسطل ليس فيها تشقق
أمططها وأوسعها وهل
يبلغك السؤل الإناء المضيّق ؟
فتأتي وتمضي كالدلاء تواليا
وللسيل في وسط اللهاة تدفق
وللشدق صوت كلما صب وسطه
كما يجد المخنوق روحا فيصعق
فأبقى ولاء هكذا وأناملي
بمنحدر حينا وحينا تسلق
وما فتئت جدحا وحملا كأنها
عفاريت تزجي حملها وتخندق
وبطني ينادي هل هناك بقيّة
فما من معيّ منّي بذلك ضيق(1/10)
وهل من مزيد فالعصيدة هذه
ألذ وأحلى من رحيق يروق
فكان جوابي في سيول كأنها
سيول الروابي والسحائب تغدق
ورائب قعبي فينة بعد فينة
يصب كما حل المزادة أخرق
ثم يختم السوسي القصيدة بحمد الله شاكرا نعمته ، قائلا:
فأعلن حمدا خالصا من طويتي
لمن كان يعطيني النعيم ويرزق
فإن يطعم الفالوذج الحلو فتية
وبسطيلة جمَّاعة ما يفرّق
فقد برئت من كل زور ولم يطف
على وجهها الوضاء طاه يزوق
فجاءت بما لم يأت فيما أتى بالـ
مقنع فيما قاله والمحلق
أدام لنا الله العصيدة ما غدت
مصارين بطن الجائعين تنقق
وما سالت الأرياق إن عنّ ذكرها
وطاف حواليها ثناء محلّق([30])
2 – الثريدة المناغية للعصيدة :
من تآليف محمد المختار السوسي المخطوطة ([31])، وقفت عليه ضمن كناش تلميذه الأستاذ عمر المتوكل الساحلي ([32]) بمدينة تارودانت في 36 صفحة من القطع الصغير ؛ من الصفحة 65 إلى الصفحة98 ([33]) . نسخ الساحلي هذا التأليف من الأصل، الذي قال السوسي في ختامه :
" تمَّ في عشية الاثنين التاسع عشر من ذي الحجة 1358 بعدما كنت أكتب فيه ساعات قليلة في يويمات وأنا أراجع القاموس فكان ذلك سبب مكثي فيه هذه اليويمات ، كتبه العبد خديم الأدباء المختار لطف الله به. و نقله من خطه رضي الله عنه أدام الله النفع به أسير ذنبه الراجي عفو ربه عمر بن إبراهيم الساحلي أمنه الله من نوائب الأيام والليالي وختم له بالحسنى في 25 ربيع الثاني 1364" ([34])(1/11)
أما سبب التأليف فذكر السوسي أن القصيدة نظمت سنة 1356 في شهر رمضان وأنه بدأ الشرح بعد ذلك بسنتين بعدما أخذ عنه تفسيرها مشافهة أحد الطلبة المجاورين لقريته قال عن ذلك:
"جلس إلى السيد محمد التناني المرابط في المدارس المجاورة لإلغ للأخذ عن الإلغيين فجرى ذكر القصيدة فأخذها عني تفسيرا لأبياتها ، فرأيت له همة وطموحا وعزما أكيدا إلى استشفاف معانيها كما أقصد يوم قلتها ، فثلج صدري أن اكتب على القصيدة تعليقا صغيرا جدا لا يتجاوز تفسير الكلمات ، وتفسير المعنى المراد ، ليكون لهذا التلميذ الطّلّعة دليلا خرّيتا إلى تفهم المعاني إجمالا وتفصيلا فباسم هذا التلميذ أقيد هذا التعليق وبهمّته الصادقة انبعثت لإنجازه نفعه الله به وأيده حتى ينال من العلم مراده ، وجائزتي عنده أن لا ينساني من صالح الدعاء "([35])
يظهر من هذا النص أن هدف الشرح تعليمي وأن السوسي لم يرم فيه إلى إبراز قوة عارضته في استحضار الشواهد واستثمار المعلومات ، بل إنه كان على عكس ذلك يتنكب ما يتداعى إلى خاطره عفوا رجاء إفادة من وضع الشرح لأجله ، وقد أشار إلى ذلك بقوله :(1/12)
" انتهى التعليق الوجيز الذي أنجز فيه ما كان مقصودا من تبيين الكلمات اللغوية والمعاني المقصودة في تراكيبها ، ويعلم الله كم أعاني حتى أمكن لي أن أوجز مثل هذا الإيجاز ، لأنني في كل بيت وعند كل معنى وإزاء كل لفظ لغوي أستحضر من الأبيات الفريدة ، والمقطعات المستحسنة ، والأمثال المستلطفة والحكايات المستطرفة للمعروفين بكثرة الأكل والأحاديث والآيات وغير ذلك ، ثم احمل نفسي حملا حتى أتخطّاها مرغمة لأن الأدبيات عند الأديب كالأزهار المونقة في أنظار عشاقها ، فتألف أيديهم اقتطافها كل ما أمكن اقتطافها أو شمّها على الأقل إن لم يمكن إلا شمّها ، فلهذا أحس من نفسي مضضا حين أحملها مرغمة عن التنكب مراعاة لحال من جعلت هذا التعليق باسمه ومراعاة كل مقام من أوجب الواجبات ... " ([36])
هكذا ألزم السوسي نفسه بالتخلي عن المنهج التفصيلي في شرح الشعر ذلك المنهج الذي سار عليه قبله كثير من الأدباء ويتجلى في الاهتمام بالشعر من نواح عديدة كاللغة والمعاني والأخبار والحكايات والسير والتواريخ والقضايا العلمية ، وأخذ بالمنهج الإجمالي الذي عد أول ما بدأت به شروح الشعر([37])، وهو في ذلك أشبه بعمل علماء الطبقة الرابعة خاصة ابن قتيبة والسكري والأحول ومن سار على منهجهم من صناع الشروح من الذين كان الشرح بين أيديهم وسيلة لخدمة النص بتوضيح غامضه وتقريب معناه ، لذلك اتسم شرحه بسمة شروح أولائك العلماء وهي الإيجاز والاختصار ([38]) ، قال الخطيب التبريزي مبرزا هذا الاتجاه في شرحه للمفضليات :
" الغرض من شرح هذه القصائد الإيجاز والاقتصار على ما يعرف به ما في الشعر من الغريب والمعاني ." ([39])(1/13)
وقد صدر السوسي عن هذا التصور حينما اختار عنوان الشرح " الثريدة المناغية للعصيدة " فسماه ثريدة تشبيها له بتلك الأكلة البسيطة ([40]) ، ووجه الشبه كون الشرح بسيطا مثلها لم يتسم بالغنى والتنوع وإنما اكتفى بمداعبة القصيدة مقتصرا على تفسير الغريب وإبراز المعنى دون التطرق للمباحث المنوعة والأدبيات الرائقة. وتبعا لذلك ركز السوسي على جانبين هما:
1) تفسير الغريب : أي المفردات قليلة الاستعمال التي لا يعرفها إلا ذوو البصر باللغة ، وقد اهتم بها علماء اللغة واستخرجوها من القرآن والحديث ([41]) . وكان عمل كثير منهم في الشروح الشعرية مقصورا على هذا الجانب ، وإن اختلفت طرق التفسير ما بين من يفسر اللفظ بلفظ مرادف أو من يفسره بالاستعمال متتبعا تطور اللفظة عبر الزمن أو من يقتصر في اللفظ على استعمال الشاعر وقد سار السوسي على هذا النهج منسجما مع الهدف الذي وضعه أولا في تبسيط المادة العلمية للطالب الذي ألف الشرح لأجله ؛وإن تفاوت اهتمامه بالكلمات فتارة يطيل وتارة يختصر فيبدأ بعرض بيت الشعر ثم يتبعه بالشرح منتقيا الألفاظ التي يراها غامضة لا يستطيع من ألف له الشرح فهمها مشيرا أحيانا إلى ما في استعمال الألفاظ من مجاز يخرجها من دائرة المعجم إلى مجال البلاغة مثل قوله في شرح لفظة " عبق " في البيت التالي :
"وقد فَعَمَت منها الخياشيم نكهة
تطيب بها كل النواحي وتعبق
فغمه الطيب كمنع فغما وفغوما :سد خياشيمه، والخياشيم جمع خيشوم وهو ما في أقصى أنفه، والنكهة بالفتح : ريح الفم خاصة والمقصود هنا مطلق الرائحة مجازا مرسلا. وعبق به الطيب كفرح عبقا وعبقانة وعباقية لزق به، ورجل عبق إذا تطيب بأدنى طيب لم يذهب عنه أياما. هذا نص كلامهم ويستعمل أيضا عبق بمعنى فاح وهو المقصود هنا فيكون فيه نوع من المجاز." ([42])(1/14)
2) شرح المعاني : أدرج الشراح تفسير المعاني ضمن أعمالهم وانصرفوا إلى العناية بشرح معاني الأبيات المفردة أو الجمع أحيانا بين بيتين أو أكثر وربما تركوا غيرها لأنها في نظرهم واضحة لا تحتاج إلى توضيح ، وقد تتبع السوسي أبيات قصيدته بيتا بيتا عارضا ما في كل منها من معاني فاصلا بين كل بيت وآخر بكلمة " ثم قال " وبين شرح الألفاظ وإبراز المعاني بكلمة " المعنى " . كما أنه ركز على تفسير المعنى لغاية إفهام المتعلم بتجميع معاني الكلمات الذي يأتي على شكل نثر للأبيات ، غير أنه يهتم أحيان بشرح الصور الشعرية التي ترد في القصيدة مبرزا ما فيها من دلالات كما في شرح البيت التالي :
ألم ترها كالثغر أفلج باسما
وللشنب البراق فيه تألق
يقول في شرح المعنى :
" إن تلك العصيدة هي عصيدة الذرة بلا شك ولا ريب، وآية ذلك أنها بيضاء لمّاعة تستنير عند رؤيتها كما تلمع أسنان الثغر الفلجاء عند تبسم جميل وضيء الوجه وقد تلألأت الأسنان بالشنب الذي تزداد به الأسنان بياضا. ولاسيما عندما تستدير بها الشفاه اللعساء وهي التي تميل إلى سمرة قليلا. ولا ينسين القارئ أن العصيدة التي توصف هنا هي المصنوعة من الذرة البيضاء لا الحمراء. والعصائد تختلف ألوانها بحسب ما تصنع منه. ولا يبيض منها بياضا ناصعا إلا ما يصنع من الذرة البيضاء بالنظر إلى الأنواع التي تؤخذ منها العصيدة في بلادنا هذه." ([43])
وقد يختلط تفسير المعنى عنده بالإشارة إلى دلالات الكلمات كقوله في شرح معنى "العانسات" في البيت التالي :
ولا مخضته العانسات وقد بدا
لشامات زبد عليه ترقرق([44])
قال في شرح اللفظة :(1/15)
" المرأة العانس التي بقيت في دار أهلها بلا تزوج زمنا كثيرا ، ولا ريب أن طول مكثها في دار أهلها مقبلة على مزاولة شؤونهم وحدها لتفرغهم لذلك.. أدعى لمعرفتها كيف يكون المخض فلا تبقي من الزبد في اللبن شيئا ، بخلاف من لم تكن في مثل لباقتها وحذقها فإنها قد تبقي بعد المخض كثيرا من بقايا الزبد ، والمقصود أن هذا اللبن لم تمخضه اللبقات الحاذقات بهذا العمل" ([45])
حاول السوسي أن يضل مخلصا للمنهج الإجمالي في شرح قصيدته بالاقتصار على شرح الألفاظ وتفسير المعاني والانصراف عن ما يثيره النص من قضايا تفصيلية ، غير أنه لم يستطع الوفاء بالتزامه ، فنجده يقتبس نصوصا لتوضيح ما ذهب إليه في تأليفه ، ومن هذه النصوص :
أ - الشعر : ويحضر في الشرح على صنفين : أولهما لغاية التوضيح بتفسير الشعر بشبيهه أو مرادفه وهو الذي يسميه النقاد بالوجوه والنظائر ([46]) حيث يعمد الشارح عندما يتعرض لبيت شعري إلى إيراد ما أمكنه من أبيات موافقة ،وتنطلق فكرة الشرح بالوجوه والنظائر من مسلمة نقدية بنيت عليها قضية السرقات ووقوع الحافر على الحافر ، ومفادها أن المعاني معروفة والفضل في السبك وطريقة التعبير وتبعا لذلك فالشاعر المتأخر لابد واقع حتى دون شعور منه على معاني طرقها المتقدمون ([47]). وفي هذا المستوى يحضر ذوق الشارح و يتداخل عمله في شرح النص بفكر الناقد الذي يعبر عن أفكار معياريّة ([48]) وقد سار السوسي على خطى سابقيه من الشراح فأدرج في شرح قصيدته أبياتا شعرية للمقنع الكندي والمتنبي وأبي نواس وابن هرمة وإبراهيم الظريف الصوابي وابن وهبون ورشيد اللبناني ومحمد بن الشيخ سيديا الصحراوي ، ومن نماذج إدراج الشعر مثالان اثنان هما :
الأول عند شرح البيت التالي من قصيدته :"
مكللة حتى كأن سنامها
شماريخ طود لم يكد يتسلق(1/16)
قال في الشرح : " وجفنة مكللة إذا امتلأت جدا فعلا عليها ما امتلأت به قال المقنع :
وفي جفنة ما يغلق الباب دونها
مكللة لحما مدفقة ثردا "([49])
· الثاني :
يشن عليها غارة مشمعلة
بلقم أكول آمن ليس يرهق
ورد بالشرح : " شن الماء على الشراب كعسل أو حليب مثلا : فرّقه عليه عند صبّه عليه ، وشنّ الغارة على الأعداء : فرّق الخيل حين طلعت عليهم فجاءتهم الخيل متفرقة ، قال :
يا ليث لي بهم قوما إذا ركبوا
شنوا الإغارة فرسانا وركبانا " ([50])
أما ثانيهما فللاستشهاد ، حيث يفسح الشارح المجال لحافظته ولخواطره المتواردة لتمده ببعض الأبيات المناسبة للمقام فيلحقها بالنص حتى دون تقديم كما نجد عند كتاب الرسائل ، ويظهر هذا المنحى في شرح قوله :"
أهذا أريج المسك أم نفح روضة
أزاهيرها تحت الصبا تتفتق
يقول في شرح المعنى مدرجا بيتين في الغزل :" إن هذه الرائحة الطيبة التي نشمّها وملأت أنوفنا رائحة المسك أم رائحة طيب الأزهار إذا مرت بها ريح الصبا وهي تتفتح تحت ذيل نسيمها؟ وهذا أيضا من تجاهل العارف والمقصود أن لطيب العصيدة الموصوفة شبهًا بطيب المسك وأزهار الرياض.
لولا التشبه كان يولف كلما
مد البليغ كلامه في وصفه
ما كان لي تشبيهها بالمسك أو
بالزهر أين قفا الفتى من أنفه " ([51])
ب - القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف : اعتاد الشراح إيراد آيات قرآنية وأحاديث نبوية شريفة يستشهدون بها على شرح الألفاظ وتفسير المعاني والإشارة إلى الظواهر والقضايا التي يعالجها النص ، وقد أورد السوسي في شرحه آية واحدة وحديثا واحدا ، وردت الآية عند شرح البيت التالي:
وقد وسعت تلك المجالات فاغتدت
بسائط لكن ليس فيهن مورق(1/17)
وقد وردت الآية في سياق شرح دلالة وإبراز معنى التعبير الوارد في الشطر الثاني ، قال السوسي : " إنني حين أتجاوز حوض الزبدة يتسع من الجفنة الفارغ من العصيدة التي أتيت عليها حتى ليكون ذلك المتسع كأنه بسائط منفسحة من أرض بطحاء مستوية وقد جردت من الشجر فليس منها ما له ورق أي ليس فيها نابت أصلا مورق وغير مورق وعبّر عن ذلك بكونها ليس فيها مورق على حد " لا يسألون الناس إلحافا " ([52]) أي لا يسألونهم أصلا ." ([53])
أما الحديث النبوي فورد عند شرح معنى كلمة " الغرب " في البيت التالي :
وأُدني إليَّ القعب يطفح رائبا
كغَرْب مليء ماؤه متدفق([54])
قال في الشرح :" ... والغرب كفَلْس الدلو العظيمة ومنه في حديث الرؤيا المشهور: " فاستحالت غربا " ويفسر به أيضا الغرب في حديث الطائفة من أهل الغرب التي لا تزال على الحق لا يضرها من خالفها " ([55])
ج - الأمثال : أورد السوسي في شرحه أمثالا استشهد بها في سياق شرح الألفاظ، مثل مثلين أولهما " فلان يخلق ويفري" وثانيهما " ما كل من خلق يفري" ، وذلك عند قوله :
وهل فاز باللذات غير([56]) الذي
تأتت له اللذات يفري ويخلُق
تأتى الأمر يتأتى تيسر ،والفري: القطع . والخلق :تقدير الشيء كيف يكون قبل فريه ومن أمثال العرب ؛فلان يخلق ويفري أي يقدر الشيء ثم يتمه ،والأصل في هذا المعنى أن الذي يريد أن يقطع مثل النعال من جلد يقدرها أولا في الجلد ؛وذلك هو الخلْق ثم إذا قطع فقد فرى ،وقالوا أيضا ما كل من خلق يفري أي ما كل من قدّر أنه يفعل شيئا يتمه .
والمثل المشهور " اللهى تفتح اللهى " الوارد في شرح كلمة " اللهاة " من البيت التالي:
فتأتي وتمضي كالدلاء تواليا
وللسيل في وسط اللهاة تدفق(1/18)
واللهاة بالفتح الحلق وتجمع باللهى بالفتح ومن أمثال العرب أن "اللُّهى تفتح اللِّهى " واللهى بالضم جمع لهوة أي عطية ، أي إن العطايا للناس تفتح أحلاقهم بالثناء ." ([57])
3 - استنتاجات :
نخلص من كل ما مر أن قصيدة العصيدة وشرحها الموسوم " الثريدة المناغية للعصيدة " تبرز جوانب متنوعة من شخصية محمد المختار السوسي الفكرية والعلمية ، يمكن إجمالها في ما يلي:
^ الجانب الأدبي الأريحي ، ويتجلى في أن السوسي أريحي يحب الانطلاق في مجالات الأدب الفسيحة ؛ رغم أنه ينتمي إلى طائفة العلماء الذين كان كثير منهم ينظر إلى الأدب بعين الانتقاص ويعتبر التعرض لمثل هذه الموضوعات مما يزري بالمروءة ، وهذه الأريحية هي التي دفعت السوسي إلى نظم قصيدته في هذا الموضوع الطريف الذي لا يتناوله إلا من كان أريحيا ظريفا يعشق الأدب ويرى الاشتغال به خير ما يروح به عن نفسه جامعا بين الإمتاع والإفادة ، ([58]) وتستولي عليه الأريحية عندما يتعرض لشرح بعض الأبيات التي تصف كيفية تناول العصيدة فلا يملك نفسه من التعبير عن شعوره كما في قوله :
أخضخض فيها خضخضات بهمة
يكاد بها حرف الإناء يشَّقَق ([59])
قال في شرح معنى هذا البيت :" إنني بعد أن أصب اللبن أمعن في الجدح فأحرك ما في الحفرة مع العصيدة تحريكا شديدا وأنا مكب على العمل بكل قوتي باذل كل جهدي ، حتى يكاد جانب الجفنة الذي أجدح في جهته يتشقق يا سلام يا سلام.. ! ! ! " ( [60])(1/19)
كما تبرز أريحيته في ما أورده في الشرح من مقطعات هزلية ساخرة كإدراج أبيات في هجاء أكول قال : " وصف الأكول النهم .. ميدان كان الشعراء قديما وحديثا قد وصفوه وصفا بليغا ولعل أبلغ ما نستحضره للمتأخرين قول محمد بن الشيخ سيديا الصحراوي ([61]) في حدَّاد أسود ورد عليهم يدَّعي الشرف النبوي ثم بان أنّه أَفِكَ فيما يقول . فقال فيه وكان اسم الحداد "نحن" :
ما هزَّ عِطْفَيْ كَمِيٍّ يوم هيجا
بين الأواني كذي النونين والحاء
فرد يقوم مقام الجمع وهو لذا
يدعى بمضمر جمع بين أسماء
تخال لقمته العظمى براحته
كراكر الإبل أو جماجم الشاء
يسطوا بأسلحة للأكل أربعة
يد وفم وبلعوم وأمعاء
ما بين طلعتها فيها وغيبتها
في فيه إلا كلمح الطَّرف من راء
فتنهوي كدلوٍّ خان ماتحها
أشطانها فترامت بين أرجاء
فبان أن الذي يحويه من شرف
قد صح لكنه بالهاء لا الفاء ([62])
^ الجانب العلمي الذي يتجلى في دراية السوسي اللغوية ومعرفته العميقة للعربية ، وقد شهد له معاصروه بذلك ([63]) فلم يعتمد في شرح قصيدته إلا على مصدر واحد توفر له في منفاه هو القاموس المحيط ، وكان في أغلب الأحيان يستعين بذاكرته وتحصيله اللغوي لتفسير ما يعرض له من ألفاظ .
^ الجانب التربوي : قضى السوسي طرفا كبيرا من حياته في التدريس والتربية خاصة بمدينة مراكش التي أسس بها مدرسة في زاوية أبيه بحي الرميلة ، وفي عمله في الشرح تظهر شخصيته التربوية، حيث عمل على مراعاة مدارك الطالب الذي ألف لأجله مستنفذا جهده في تبسيط الشروح وتقريب المعاني للأذهان .(1/20)
^ الجانب الفكري ، ويتجلى في اندراج القصيدة وشرحها ضمن اهتمام السوسي بالتاريخ بمفهومه العام المتضمن لتاريخ الأحداث والفكر والأدب مما يجعل كثيرا من كتاباته تندرج ضمن مبحث تاريخ الثقافة أو الأنتربولوجيا فقد اهتم السوسي في مؤلفاته وعلى رأسها المعسول بمختلف مظاهر الثقافة بشكل عام والثقافة عنده " هي كل ما تراكم في مجتمعه عبر العصور والحقب ، وعكس سلوك الجماعة الذي اكتسبته من الحياة ، وفي مجالاتها الواسعة من العلم والمعرفة ، ومن تجارب الآباء والأجداد وخبراتهم ، وانعكس السلوك في مجموعة من الرموز الفكرية والوسائل المادية المتأثرة بتلك المعارف والتجارب.." ([64]) .
وقد دفع السوسي لوصف هذه الثقافة وتسجيل مظاهرها شعوره بأنها في طريقها للتحول والاختفاء ، قال عن ذلك :" التحول في الهيأة الاجتماعية في غالب الأزمنة يعهد منه أن يتتابع ببطء حتى لا يكاد يفطن له إلا الألمعيون ؛ حتى جاء هذا العصر عصر الذرة والصورايخ ؛ فإذا بها تكاد تتحول من حال إلى حال في طرفة عين خصوصا في بعض الأقطار كقطرنا هذا الذي هجم عليه هذا العصر المسرع هجوما مباغتا فإذا به بين عشية وضحاها كأنما انقلب رأسا على عقب."([65])
الثريدة المناغية للعصيدة
لمحمد المختار السوسي
" ملحوظة "(1/21)
للأدباء مسابقات في ميادين شتى يطلقون فيها أفراسهم ويفجِّرون فيها قرائحهم . قصد إطالة نفس الأدب في كل جهة ولإيجاد المتعة للنفس الأدبية أينما كانت متوجهة فلذلك كانت لهم الموائد الحافلة والمطاعم المتنوعة حلبات أنضوا في أوصافها المتنوعة قوافي، وأرسلوا فيها عيون الخيالات الشتى فمن قرأ كتب الأدب للمتقدمين يجد في " اليتيمة" للثعالبي وفي " مروج الذهب" للمسعودي وفي غيرها قطعا أو قصائد كبيرة في وصف أنواع من المأكولات أو المشروبات . فذلك هو ما حدا بي الى وصف العصيدة بهذه القصيدة ، لعله يكون لها ذكر بين ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين خصوصا إن كانت من الذرة البيضاء الغريقة في الزبدة المصفاة .
بسم الله الرحمان الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه
الحمد لله الذي فنن لنا العلوم فجعلها طرائق قددا. ووضع علم الأدب على منصة لن يتزحزح عنها أبدا. والصلاة والسلام على الذي قال : " إن من الشعر لحكمة وإن من البيان لسحرا" . وعلى آله الذين كان كل واحد منهم في حفظ الأشعار العربية بحرا. وعلى أزواجه خصوصا منهن عائشة التي كانت فيما رواه عروة بن الزبير أكثر الناس استحضارا للقوافي وعلى أصحابه الذين كان من عادتهم إن ملوا من مدارسة السنة والقرآن أن يميلوا من مدارسة أشعار العرب إلى المنهل الصافي.
أما بعد ، فإن للأدب روحه وسيرته، وإن للأدباء أقوالا قد يروحون بها على أنفسهم أحيانا من غير إخلال بشريعة المروءة ولا هتك لسجف الوقار. ونعوذ بالله ممن لم يرم في الأدب وأريحيته بسهم ولا مالت له إلى منازعه عين. فيتجهم حيث يذوب الأدباء أريحية ،ويعبس ويبسر في المقام الذي يقطرون فيه بشاشة، تخلقا بأخلاق الأجلاف. وانتباذا عن طريقة الأدباء من أفاضل الأسلاف. وميلا إلى النسك الأعجمي. ونعوذ بالله من قوم خلقوا من الكثافة فلا تجد روح الأدب إليهم متسربا .(1/22)
عجبا لقوم لم تكن مهجاتهم
لهوى ولا أجسادهم لنحول
دقت معاني الحب عن أذواقهم
فتأولوه أقبح التأويل
هذا فقد كانت صدرت عن هذا العبد المتشبث بذيل الأدباء. قصيدة في وصف أكل العصيدة. ولقولها سبب خاص وهو ذلك أنني كنت في عشية يوم من أيام رمضان1356 هـ جالسا في الدار بإلْغ ([66]) مع الأخ سيدي بلقاسم بن محمد ([67]) من أبناء عمومتنا ،فعند الإفطار أتينا بعصيدة من ذرة بيضاء فاهتبلنا بها حين لم يتأت لنا سواها لعدم اللحم في الأسواق في تلك المسغبة الشديدة. فتجاذبنا خصال هذا النوع من الأطعمة. فقلت له إنني حين كنت بمراكش كنت كثيرا ما أتشهى العصيدة ، أفلا يحق علي الآن أن أشكر الله حين تهيأت لي اليوم.
ثم قلت له إن العصيدة من الذرة البيضاء نعمة ما مثلها نعمة ،وإن الالتفات إلى الإشادة بها دين القوافي فلنعالج ذلك، ولنصف كيف تؤكل وصفا شعريا جذابا .فافتتحنا القصيدة حتى وصلنا فيها بضعة عشر بيتا فراح إلى داره ،فأكببت على الباقي فأتممتها زهاء سبعين بيتا. ثم نقحتها وهذبتها على حسب وسعي ففي الغد حين رآها الفقيه سيدي بلقاسم أظهر عجبا زائدا ، وقال حقا إن هذه القصيدة أدت دين العصيدة على القوافي. ثم أشهرناها للأدباء الإلغيين فزعموا أنها فريدة في بابها. إلا من لا يذوق الأدب فرأى أن هذا هو النهم بعينه. هذا ما كان منذ سنتين.(1/23)
ثم جلس إليَّ السيد محمد التناني المرابط في المدارس المجاورة لإلغ للأخذ عن الإلغيين ، فجرى ذكر القصيدة فأخذها عني تفسيرا لأبياتها . فرأيت له همة طموحا وعزما أكيدا إلى استشفاف معانيها كما أقصد يوم قلتها. فثلج صدري إلى أن أكتب على القصيدة تعليقا صغيرا جدا لا يتجاوز تفسير الكلمات، وتفسير المعنى المراد. ليكون لهذا التلميذ الطُلَّعة دليلا خِرِّيتا إلى تفهم المعاني إجمالا وتفصيلا، فباسم هذا التلميذ أقيّد هذا التعليق وبهمته الصادقة انبعثت لإنجازه. نفعه الله به وأيده حتى ينال من العلم مراده. وجائزتي عنده أن لا ينساني من صالح الدعاء. وأن يطلب الله أن لا يحرمني ما حييت من الانخراط في زمرة أهل العلم تعلما وتعليما ،وهذا أوان الشروع في المقصود، سدد الله الخطى، وجعل أفهامنا إلى المعاني العربية العليا أهدى من القطا. وليس عندي الآن من المراجع اللغوية إلا القاموس وحده. وإلا ما كنت أستحضره من أيام اشتغالنا بمزاولة العلوم.
القصيدة :
لمن جفنة قد أقبلت تتألق
تلوح بلألاء العصيدة يبرق
الجفنة كتمرة :القصعة جمعها جفان وجفنات .تألق البرق: لمع وظهر في الجو نوره الذي يمر بسرعة. ولاح يلوح: ظهر متلألئا لامعا ومنه لاح سهيل وهو نجم في السماء، إذا تلألأ. والآلاء:اللمعان ،ومنه تلألأ البرق وبرق الشيء برقا وبريقا وبرقانا: لمع.
{المعنى} لأي إنسان قصعة رأيتها مقبلة آتية ،وقد امتلأت بعصيدة بيضاء اللون للونها لمعان يظهر للعينين. وقد خرج الكلام مخرج التجاهل وذلك من مقاصد البلغاء في أمثال هذه المواقف . ثم قال:
مكللة ([68]) حتى كأن سنامها
شماريخ طود لم يكد يتسلق(1/24)
والإكليل: التاج ،وكللت رأس إنسان إذا جعلت الإكليل على رأسه ، وروضة مكللة محفوفة بالنور والزهر، وجفنة مكللة إذا امتلأت جدا فعلا عليها ما امتلأت به قال المقنَّع:
وفي جفنة ما يغلق الباب دونها
مكللة لحما مدفقة ثردا
ولفظ مكللة وصف لجفنة في البيت قبله. والسنام :ذروة الجمل، والشمراخ :رأس الجبل والطود الجبل ،وتسلق الجدار: تسوره أي علا فوقه، ولا يكون ذلك إلا بمشقة .
{المعنى } إن تلك الجفنة الموصوفة بكونها تتلألأ بما هي ممتلئة به ،قد عمرت جدا حتى كأن أعلاها يشبه أعلى جبل وعر عظيم يصعب على الإنسان أن يطلع عليه ،ولا شك أن العصيدة الموصوفة من شأنها عندنا أن تصبح متجمدة [69]فتحمل منها الجفنة ما حملت فيعلو سنامها بقدر اتساع الجفنة. ثم قال:
وقد فَعَمَت منها الخياشيم نكهة
تطيب بها كل النواحي وتعبق
فغمه الطيب كمنع فغما وفغوما :سد خياشيمه، والخياشيم جمع خيشوم وهو ما في أقصى أنفه، والنكهة بالفتح:ريح الفم خاصة والمقصود هنا مطلق الرائحة مجازا مرسلا. وعبق به الطيب كفرح عبقا وعبقانة وعباقية لزق به، ورجل عبق إذا تطيب بأدنى طيب لم يذهب عنه أياما. هذا نص كلامهم. ويستعمل أيضا عبق بمعنى فاح وهو المقصود هنا فيكون فيه نوع من المجاز .
{المعنى } إن تلك العصيدة التي رأيناها متلألئة من جفنتها وعالية السنام ،لها رائحة طيبة ملأت كل الأنوف وتطيبت بها جميع النواحي . ثم قال :
أهذا أريج المسك أم نفح روضة
أزاهيرها تحت الصبا تتفتق
أرِج المسك ،ومثله من كل طيب كفرح :إذا فاح طيبه بكثرة، والأرج والأريج والأريجة توهج ريح الطيب وكثرته .والأزاهير جمع الجمع ومفرده أزهار ومفرد هذا زهر. وتفتق الزهر تفتحه من كنه وكثيرا ما يتفتح في الصباح.(1/25)
{المعنى} إن هذه الرائحة الطيبة التي نشمها وملأت أنوفنا رائحة المسك أم رائحة طيب الأزهار إذا مرت بها ريح الصبا وهي تتفتح تحت ذيل نسيمها ؟ وهذا أيضا من تجاهل العارف والمقصود أن لطيب العصيدة الموصوفة شبهًا بطيب المسك وأزهار الرياض.
لولا التشبه كان يولف كلما
مد البليغ كلامه في وصفه
ما كان لي تشبيهها بالمسك أو
بالزهر أين قفا الفتى من أنفه
ثم قال :
فهذي إذن من غير شك عصيدة
من الذرة المعطار إن كن تنشق([70])
والذرة بضم الذال المعجمة وتخفيف الراء المفتوحة كثُبَة ؛حب معروف وهذا النوع أنواع مختلف الألوان. والمعطار من أمثلة المبالغة في العطر. ونشق زيد الشيء كتعب وفرح: شمَّه.
{ المعنى } إن هذه العصيدة التي لها هذه الرائحة الطيبة حتى كأنها مسك أو أزهار تفوح عصيدة مصنوعة من الذرة ، لأنها هي المعتادة بمثل هذه الرائحة المتناهية في الطيب - على زعم القائل - ولا تكون سواها إن كنت ممن صحّت منهم حاسة الشم. والمخاطب جرّده القائل من نفسه فخاطبه،وإلا فإنه نفسه هو المقصود. ثم قال :
وعهدي بأنفي ليس يغلط شمه
فيا طالما شمّ البعيد فيصدق
شمّ بأنفه ،أصله شمم كفرح أو شمم كفتل شما وشميما وشمّيمى كحليفى ،والأنف يذكر ولا يؤنث كما في آخر المصباح.
{المعنى} إنها بلا شك عصيدة الذرة فإن حاسة الشم صحيحة. ويعرف كون العصيدة قريبة من قوله في البيت قبل هذا : فهذي إذن.. الخ من الإشارة للقريب. ثم قال :
ألم ترها كالثغر أفلج باسما
وللشنب البراق فيه تألق(1/26)
الثغر بفتح الثاء المعجمة وسكون الغين: الأسنان التي تنفرج عنها الشفتان وأحسن ما يكون الثغر من جميل عند الابتسام. وتلك الحالة هي التي يقصدها الشعراء متى أطلقوا الثغر . والفلج بفتحتين: تباعد ما بين الأسنان تباعدا متناسبا، يقال فلج كفرح فهو أفلج كأحمر وأبيض. والشنب ماء ورقة وعذوبة في الأسنان . شنب كفرح فهو أشنب شنبا .والبرّاق فعال من البريق أي لمّاع كثير الاستنارة والتألق لمعان البرق ومثله وقد تقدمت الكلمة .
{المعنى} إن تلك العصيدة هي عصيدة الذرة بلا شك ولا ريب، وآية ذلك أنها بيضاء لمّاعة تستنير عند رؤيتها كما تلمع أسنان الثغر الفلجاء عند تبسم جميل وضيء الوجه وقد تلألأت الأسنان بالشنب الذي تزداد به الأسنان بياضا. ولاسيما عندما تستدير بها الشفاه اللعساء وهي التي تميل إلى سمرة قليلا. ولا ينسين القارئ أن العصيدة التي توصف هنا هي المصنوعة من الذرة البيضاء لا الحمراء. والعصائد تختلف ألوانها بحسب ما تصنع منه. ولا يبيض منها بياضا ناصعا إلا ما يصنع من الذرة البيضاء بالنظر إلى الأنواع التي تؤخذ منها العصيدة في بلادنا هذه. ثم قال :
تميس بلون الثلج أبيض ناصعا
متى جال فيها لحظ غرثان يشهق(1/27)
ماس يميس كباع يبيع : تبختر في ثيابه وتمايل عند مشيته. والمقصود هنا تموّج البياض المتلألئ شبه البرقان الذي يتراءى للعين كأنه يتحرك من جانب إلى جانب بتبختر الماشي في حلة بيضاء. وأبيض ناصع :خالص البياض نصع كمنع نصاعة ونصوعا. ويستعمل مع كل لون وغيره ويقصد به أن يكون خالصا ونصع لونه اشتد بياضه، هذه عبارتهم. والغرثان كعطشان :الجائع غرث جاع يقال رجل غرثان وامرأة غرثى وشهق كمنع وضرب وسمع . شهيقا وشهاقا وتشهاقا بالفتح :تردد البكاء في صدره وشهيق الحمار نهاقه. والمقصود هنا به الصراخ وإرسال الصيحة التي تصدر بغتة من غير أن يستعد لها صاحبها كالتي يرسلها كل من يبغت بشيء لم يكن ينتظره. وقصد مثل هذا المعنى الخاص إزاء ذلك المعنى اللغوي الذي ذكروه مرتكز على المجاز.ويستعمل هذا المعنى كثيرا في هذه اللفظة في ألفاظ المعاصرين.
{المعنى } إن تلك العصيدة يتموج لونها الأبيض المشبه للثلج في صفاء البياض ومتى وقعت عليها عين جائع لا يملك نفسه حتى تنصدر منه بغتة صيحة عالية من شدة شرهه إليها. ولمّا يغلب عليه انجذابه إليها بما يغمره من حسنها ورونقها وبياضها الناصع الخالص. ثم قال:
لها قمّة في وسطها حوض زبدة
"كجابيّة الشيخ العراقي تفهق"([71])(1/28)
القمة: أعلى الرأس وأعلى كل شيء، جمعها قمم كسدرة وسدر والشطر الثاني مضمن وهو من قافية الأعشى المشهورة وأوله :"نفى الذم عن آل المحلق جفنة ". يصف آل المحلق ويمدح المحلق بضم الميم وفتح اللام وهو رجل من العرب أكرم الأعْشى فأصبح في عكاظ يشيد بمدحه في تلك القصيدة. والجابية حوض الماء ،والشيخ العراقي هو الرجل المسن من أهل العراق ،ولم يكن من أهل بادية العرب فإذا ساقه القدر إلى البادية وأراد أن يسقي إبله في الجوابي التي توجد عادة إزاء آبار البادية ، ينزع من البير بدلوه ويصب في الجابية، ولكنه لعدم مزاولته مثل ذلك في العراق الذي كان من أكثر البلاد ماءً ،تسقيه دجلة والفرات لا يدري المقدار الذي يملأ الجابية فلا يزال يصب فيها حتى يسيل الماء من جوانب الجابية . وفهق الإناء كفرح فهْقا وفهَقا امتلأ ويروى بيت الأعشى أيضا:" كجابية السيح العراقي تفهق". بلفظ السيح بالسين والحاء لا بالشين والخاء، والسيح الماء الجاري الظاهر ساح الماء يسيح جرى فيكون المعنى على هذا كجابية السيل العراقي الذي يتدفق على وجه الأرض من دجلة والفرات .
{المعنى} إن لتلك الجفنة المكللة بالعصيدة رأسا مشرفا عاليا ،يتوسطه من الزبدة المذابة حوض متسع يتدفق من جوانبه .وقد كانت العرب تعرف مثل هذه الحياض في أواسط الجفان كما ذكروه عن جفنة عبد الله بن جُدْعان ويقولون إن إنسانا غرق في حوضها .ثم قال:
فيا ليت شعري من تحط أمامه
فيوضع في الأطراف منها ويعنق
أوضعت الناقة ووضعت في سيرها: أسرعت والعنق بفتحتين : سير مسبطر للإبل ولكل دابة والإعناق الإسراع ومنه الحديث:"المؤذنون أطول إعناقا يوم القيامة" بكسر الهمز على ما في رواية. والمشهور فتحها جمع عُنُق.(1/29)
{المعنى} إنني أتمنى لو عرفت لمن تكون له تلك الجفنة ،ومن هو الذي يحظى بها بين يديه فيأتي على ما فيها. وقد قيل لبعضهم كيف أنت وقصعة من ثريد، فقال: أخب فيها وأضع .أي أجري فيها يمينا ويسارا وأمام .وإلى جواب هذا الأكول النهم نظر القائل في شطره الثاني .وهذا البيت مؤسس على مفتتح القصيدة، حين تساءل القائل عن الإنسان الذي تكون له تلك الجفنة التي رآها مقبلة تأخذ بملاحظ العيون. فتتفتح لها الشهوات وتتحلب لها الأفواه ويدق لها قلب الجائع النهم دقات متوالية . ثم قال:
ويخبط فيها باليدين كأنما
تخبّطه وسط الدُّجُنّة أولق
الخبط الضرب الشديد خبط كضرب ويطلق أيضا على الوطء الشديد بالرجل. وخبطه الشيطان وتخبطه مسه بأذى. وذلك يظهر فيمن مس بجنة فيضرب بيديه إلى كل جهة بغير شعور. والدجنة الظلمة بضم الدال والجيم وتشديد النون المفتوحة، والأولق كالأحمر الجنون.
{المعنى } إنني أتمنى أن أعرف من هو الذي ستكون له هذه الجفنة ،فيقبل عليها بكلتا يديه أكلا لمًّا مكبا عليها كأنه مجنون غير واع ما يصنع ،فيضرب بكلتا يديه ضربا شديدا في كل جهة. ولاريب أن المضطر للعجلة في ظلمة يخبط خبط عشواء أي مثل الناقة العمياء. فكيف إذن يكون من جمع الظلمة وعدم الشعور فإن خبطه يكون أعظم وأشد. وهذه الحالة المتخيلة هي التي يلصقها القائل بالأكول النهم الذي يُعمل كلتا يديه ونعوذ بالله من استيلاء الشره. ومن استحواذ النهم. ثم قال:
يشـ، عليها غارة مشمعلة
بلقم أكول آمن ليس يرهق
شن الماء على الشراب كعسل أو حليب مثلا: فرقه عليه عند صبه عليه، وشن الغارة على الأعداء : فرَّق الخيل حين طلعت عليهم فجاءتهم الخيل متفرقة.قال:
يا ليت لي بهم قوما إذا ركبوا
شنوا الإغارة فرسانا وركبانا(1/30)
وأغار الإنسان على أعدائه إغارة وغارة دفع عليهم الخيل واشمعلت الغارة في العدو انتشرت وتفرقت واللقم بالفتح سرعة الأكل ولقمه أكله سريعا والأكول الكثير الأكل والرهق كالفرح العجلة وأرهقه أعجله.
{المعنى} إن ذلك الذي سيحظى بتلك الجفنة سيمعن فيها إمعانا شديدا. ويصنع بها صنع الأكول النهم الذي يسرع كثيرا في أكله، ثم لا يعجله معجل عن قضاء نهمته فيها . وهو آمن من أن يحول بينه وبينها حائل .والمتصف بهذه الأوصاف جدير بأن لا يبقى ولا يذر.
ثم قال :
فيأتي على تلك العصيدة كلها
إذا الجفنة الغناء جرداء سملق
روضة غناء كثيرة العشب روض أغن كثير الشجر . شبهت الجفنة المزدهرة بمافيها بروضة غناء كثيرة العشب أو بمحلّ كثير الأشجار وأرض جرداء ليس فيها شجر والسملق أرض مستوية ومثل ذلك تكون القصعة إن أكل ما فيها .
{المعنى} إنّ ذلك الأكول النهم المطمئن الآمن من كل ما يحول بينه وبين تلك القصعة ،يأتي على جميع العصيدة فتعود القصعة ملحوسة مقفرة الجوانب كأن لم يكن فيها قط طعام ،بعد أن كانت مكللة الجوانب مزدهرة بتلك العصيدة الجذابة الأخاذة بأرسن النهمين. ثم قال:
فيا فرحي إني سعيد فإنها
تحط أمامي فالرجاء مصدق
تعريف السعيد لكون ما تقدم يشعر بأن من ظفر بتلك الجفنة هو سعيد فلذلك جيء به معرفا هنا. وكذلك الرجاء لأن كل من رأى مثل تلك الجفنة يدور في نفسه رجاء أن تكون له ،فانتظم البيت مع ما قبله بتعريفهما .
{المعنى } إن فرحي لعظيم جدا لأنني كنت ذلك السعيد الذي حظي بتلك الجفنة المكللة، فهاهي ذي تحط بين يدي وتركت وإياها أصنع بها ما أشاء. فقد صدق ظني حين كنت أترجى أن تكون لي فقد حظيت وحدي بتلك النعمة العتيدة. ثم قال :
فيا طالما أجري أحاديثها وكم
أعرّض في نطقي بها وأرقق(1/31)
أجرى فلان الحديث حول شيء إذا أداره حوله وجعله موضوع كلامه . والتعريض بالشيء أثناء الحديث إذا وقع فيه الإيماء إليه من غير تصريح باسمه الخاص . والترقيق :التكنية عنه ،ومرمى معناه هو عين ما فسرنا به التعريض ومن ذلك المثل المشهور : " أعن الصبوح تُرققُ ".
{المعنى} إنني اليوم ظفرت بأعظم الأماني وهي العصيدة التي تفوق كل الأنعم العليا، فقد كنت إلى الظفر بها طلعة دائما حتى إنني كثيرا ما أصيرّها موضوع أحاديثي في المجالس فأصرح بها أحيانا سالكا المسلك الذي قال فيه الشاعر وهو أبو نواس:
فصرح بمن تهوى ودعني من الكنى
فلا خير في اللذات من دونها ستر
وحينا أكتفي بالإشارة إليها سالكا المسلك الذي قال فيه آخر :
أكني ببدر مشرف وبظبية
وأهل الحمى يدرون من كنت أقصد
ثم قال :
فإني لمنهوم إليها وللحشا
إلى سيلها مذ ([72]) أزمنات تشوق
النهم بفتحتين: إفراط الشهوة في الطعام يقال نهِم كفرح وعنى فهو نهم ونهيم ومنهوم والمقصود بالسيل ملتوت العصيدة باللبن ،وأزمنات جمع أزمنة جمع زمان فإنه جمع الجمع .
{المعنى} كيف لا يعظم فرحي حين ظفرت الآن بهذه المنية السَّنية ،فإنني إليها لفي أشواق شديدة منذ زمن طويل تتحلب إليها شفاهي ويقرقر إليها بطني . ثم قال :
فهاهي ذي عندي فيا بطن أبشرن
فعما قليل سيلها يتدفق
التدفق كثرة جريان الماء .
{المعنى } هذه منيتي قد حضرت وهذا الذي كنت أتطلع إليه دائما تيسر، فأبشر يا بطني وابتهج فإن ما تتشوق إليه منذ دهر طويل ستتملى منه وتدرك فيه ما تريد. ثم قال :
فلا كنت إن أبقيت منها بقية
أو أسأرت فيها فضلة حين ألعق ([73])
الإسئار الإبقاء وسؤر الأكل ما فضل عنه بعد أكله ولعق إصبعه لحسها .(1/32)
{المعنى} إنني سأمعن اليوم في هذه النعمة التي ظفرت بها بعد أن تطلعت إليها من زمن طويل وسأكب عليها فلا أبقاني الله إن أبقيت منها في الإناء باقية أو أفضلت منها سؤرا، فلا ألعق أصابعي حتى أدر الجفنة قاعا صفصفا كأن لم تغن بالأمس. ثم قال:
فذي نهمتي جاشت أوارا تحرقا
أفي كل يوم نهمة تتحرق
الأوار كغراب :حر النار، والنهمة كالنهم وقد تقدم تفسيره .
{المعنى } إنني سآتي على كل ما في الجفنة لأن لهيب نهمي المتلظي قد تأجج، ومتى كان جوع الإنسان شديدا والطعام مثل هذا المشتاق إليه موجودا ،فكيف يفضل مما في الجفنة شيء .مع أن مثل هذه الدواعي التي يمرؤ بها الطعام لا توجد في كل وقت والدنيا فرص . ثم قال :
أفي كل يوم فرصة مثل هذه
أفي كل حين لي جُرَاز يُفْلِق
الجراز كغراب السيف القاطع ،وفلق الشيء يفلقه فلقا كضرب وفلق بالتضعيف إذا قسم أجزاءه.
{المعنى } هل يمكن أن توجد في كل وقت مثل هذه الفرصة التي يجب عليّ أن أنتهزها فأقضي لبانتي إلى منتهاها. وهل تكون لي في كل أجزاء عمري سِنّ أتوصل بها إلى مضغ مأكولي، فحين تأتت اليوم لي الفرصة وكانت لي سن بها أستطيب ما أتناوله فإنه يجب علي أن أفرغ وسعي وأعمل ما يجب في أمثال هذه الأحوال . ويقول المسنون: "إن لذة الطعام تذهب مع الأسنان ".ثم قال:
دلفت إليها والعيون كأنها
نطاق حَوَاليْ ركبتيَّ تحملق(1/33)
دلف الشيخ يدلف كضرب دلْفا ودلِفا مشى مشي المقيّد وفوق الدبيب ،ويقال أيضا دلفت الكتيبة في الزحف إلى الأعداء أي تقدمت وذلك بعينه هو المقصود هنا وهو معنى حقيقي. والنطاق ككتاب الحزام الذي يشد به وسط الإنسان كالضمة وبه سميت أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين حين قسمت حزامها فربطت جراب أبيها حين هاجر مع النبي صلى الله عليه وسلم. وحملق فلان إليك بعينه إذا فتحهما جدا إليك حتى يبدو ما احمرّ من جوانبهما .ويسمى ذلك المحمرّ الحملاق .
{المعنى} تقربت من تلك الجفنة زاحفا على ركبتي، والحالة هذه أن عيون من يرمقونني يتعجبون من كل جهة من فعلي حين أزدلف إليها بتلك الهيأة ،وهم يتبعون أبصارهم بإمعان شديد لسير ركبتيّ اللتين أتقدم بهما على تلك الكيفية. ثم قال:
حللت لها طوقي وزحزحت معطفي
وألقيت عني ما به أتمنطق
الطوق ما يستدير بالشيء، ومن هنا طوق العنق أي حليه والمقصود هنا ما يستدير بالعنق من القميص . والمعطف الرداء وتمنطق بالمنطقة أي احتزم بالحزام.
{ المعنى} إنني تهيأت لهذه الجفنة فأبعدت كل شاغل من كسوتي، وهيأت لهاتي لتسع لكل ما يدفعه إليها الفم. فأزلت عن عنقي كلما يشد عليه. كما هيأت بطني لمثل ذلك بزحزحة المنطقة أي الحزام عنه . ثم قال:
فأغسل حتى مرفقي فربما
ستعمل أيضا معصماي ومرفق
عبّر بأغسل بصيغة المضارع تشخيصا لذلك الفعل والمرفق بفتح الميم وكسر الفاء كمجلس وبالعكس كمنبر ملتقى العضد والذراع والمعصم كمنبر موضع السوار في اليد .(1/34)
{المعنى } إنني أبعدت عني ما يحول بيني وبين مرادي مما حولي من كسوتي وما إليها ، كذلك تهيأت لحوض تلك الجفنة المكللة بغسل يديّ إلى المرفقين . وما غسلت إلى المرفقين إلا لأنني ربما أعملت أيضا جميع يدي إلى المرفق حين أمعن في ذلك الطّعام اللذيذ فأخب فيه وأضع وأضرب يمينا وشِمالا. ثم قال:
وهل فاز في أشغاله غير حازم
يؤيده عزم إذا هم يصدق
الحزم ضبط الأمر والأخذ فيه بالثقة ، والعزم إرادة فعل الشيء والقطع على ذلك والتصميم عليه بحيث لا يرتد عنه بأي سبب .
{المعنى } إنني حين نحّيت عني كل ما يشغلني أو يحول دون ما أنا مهتم به. وحين غسلت جميع اليد إلى المرفق احتياطا لعلني أتوقف على المعصم وما وراءه حين يجد الجد ويحمى الوطيس .إنني حين فعلت كل ذلك قد أخذت بالحزم ،ولا يفوز إلا الحازم العازم الصادق في همة الذي يتخذ العُدد قبل الإقدام ،ثم إذا أقدم لا يرتد وإن كان ما كان "المتنبي" :
الرأي قبل شجاعة الشجعان
هو أول ولها المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفس مرة
نالت من العلياء كل أعز مكان([74])
وقال رشيد اللبناني والبيت الثاني لبعضهم:
إذا شئتُ أمرا لم أكن مترددا
وأقبح ما في المرء أن يترددا
أؤسس بالدرع المسرّة التي
تقيني المواضي ثم أقتحم العدا
ثم قال:
وهل فاز باللذات غير([75]) الذي إذا
تأتت له اللذات يفري ويخلُق
تأتى الأمر يتأتى تيسر ،والفري: القطع . والخلق :تقدير الشيء كيف يكون قبل فريه ،ومن أمثال العرب ؛فلان يخلق ويفري أي يقدر الشيء ثم يتمه ،والأصل في هذا المعنى أن الذي يريد أن يقطع مثل النعال من جلد يقدرها أولا في الجلد ؛وذلك هو الخلْق ثم إذا قطع فقد فرى ،وقالوا أيضا ما كل من خلق يفري أي ما كل من قدّر أنه يفعل شيئا يتمه .(1/35)
{المعنى } إنني كنت بنيت أمري على الحزم في استيفاء هذه اللذة النادرة التي هيأتها لي الفرصة ،ولا يفوز باللذات إلا المقدمون الحازمون العازمون الذين متى تيسرت لهم فرصة أمعنوا فيها إمعانا في جسارة وفي بسالة قال سَلَم الخاسر:
من راقب الناس مات غما
وفاز باللذة الجسور
والأصل في بيت الأصل تأتت له اللذات يخلق ويفري ،ولكن وقع التقديم والتأخير لمكان القافية والواو لا تقتضي الترتيب وقد ارتكب ابن هرمة ذلك في قوله:
شديد التأني في الأمور مجرب
متى يعر أمر القوم يفري ويخلق
ثم قال:
فأنفض نفض المعجلين ولم([76]) يمل
إلى فوطة هم بتلك معلق
نفض اليد بعد الغسل تحريكها لينتثر ما يعلق بها من نقط الماء والمعجل الذي يحمله غيره على العجلة والإسراع. والفوطة هي المعروفة عندنا اليوم وهي عربية فصحى جمعها فوط والإشارة في تلك إلى الجفنة التي هي موضوع الكلام .
{المعنى } إنني حين أغسل يديّ متهيئا إلى الجفنة، أنفض يدي كما يفعله العجلان الذي لا يتسع وقته للفضول ،فلا ألتفت إلى الفوطة المعهودة أن يمسح بها الغاسل يده لأن همّتي متعلقة بتلك الجفنة وأنا جميعي منجذب حتى لا يستميل بصري دونها وأمر النهمين أعجل من ذلك. ثم قال:
وهل يذكر الإنسان أمثالها سوى
إذا لم يكن أمر حواليه مرهق
أرهقه الأمر أعجله وحمله على السرعة إلى الشيء فيحمله ذلك على تخطي غيره ،تقول أرهقت فلانا عن كذا إذا أعجلته عنه، وقد تقدم معنى الكلمة.
{المعنى } إنني حين أتخطى الفوطة وأنساها بعد الغسل معذور كل العذر، لأن الفوطة للغاسل إنما المسح بها من الكماليات فقط .والإنسان لا يرد باله إلى الكماليات إلا إذا اتسع له الوقت ولم يكن على عجلة إلى أمر لابد منه . ثم قال:
وأما إذا الإرهاق يغري([77]) فربما(1/36)
تخطى الشجاع الدّرع إذ يتدلق
أغراه على الشيء حرشه إليه وحمله ونشطه إلى الإقدام عليه وتخطى فلان الشيء إذا تجاوزه بخطاه تاركا له وتدلق السيل اندفع .
{المعنى } إن العجلة إذا استولت على الإنسان بشيء اضطره إلى المضي بكل إسراع تنسيه كل شيء ،فلذلك أنا أنسى الفوطة بعد الغسل لانطلاق همي إلى الجفنة .أوَلا ترى الشجاع الباسل الذي يعرف كيف يدخل المعمعة بالاحتياط والحزم ،قد ينسى بالعجلة درعه التي لابد له منها حين يندفع بسرعة لإصراخ مستغيث ،وذلك أن المُقدِم يسمى شجاعا إلا إذا كان يأخذ بالحزم ومن الحزم عدم مفارقته لدرعه وإلا سمي متهورا. ومع هذا فإنه يعذر متى أعجله معجل عن درعه. وكذلك أنا أعذر حين أعجل عن المسح بالفوطة وبهذا البيت مبنى على قبله كبعض الأبيات المتقدمة حين يبنى معنى بعضها على ما قبل. ثم قال :
وأُدني إليَّ القعب يطفح رائبا
كغَرْب مليء ماؤه متدفق([78])
الدنو بضمتين :القرب ودنا يدنو قرب وأدناه قرّبه ،والقعب كفلس القدح الضخم الجامي جمعه أقعب كأفلس وقِعاب كصحاب وقعبة كفردة ،وهو المعهود عند العرب للبن. وطفح الإناء بالماء كمنع امتلأ وارتفع والرائب هو اللبن الذي يمخض ويخرج زبده ويطلق أيضا على الحليب الخاثر الذي لم يمخض بعد والأول هو المقصود هنا بحسب ما سيأتي .والغرب كفَلْس الدلو العظيمة ومنه في حديث الرؤيا المشهور: " فاستحالت غربا " ويفسر به أيضا الغرب في حديث الطائفة من أهل الغرب التي لا تزال على الحق لا يضرها من خالفها. والمليء المملوء وهذا البيت مرتب على البيت فأغسل.. الخ .(1/37)
{المعنى } إنني بعد أن أتهيأ للأكل بإزاحة ما يحول بيني وبين مرامي في الجفنة مما حولي من اللباس وبغسل اليد، أقرّب إليّ الإناء العظيم المتدفق باللبن حتى كأنه دلو عظيمة يتدفق ماؤها بكثرة امتلائها .وإنما عرف لفظ القعب لأنه معهود في العادة أن لا يؤتى بالعصيدة إلا ومعها إناء فيه اللبن وهذا هو الذي يقولون فيه المعهود الذِّهنيُّ. ثم قال:
وللمحض فيه نضرة وتلألؤ
كعضب على متنيه لمع ورونق
المحض من كل شيء على وزن سهل الخالص ويطلق اللفظ بلا تقييد على اللبن وقد محُض كسهُل والنضرة كتمرة بالضاد الساقطة الحسن. والتلألؤ :اللمعان وقد تقدمت اللفظة . والعضب كفلس السيف القاطع متى كان قاطعا باعتناء صاحبه بكثرة شحذه ،كان على العادة مصقولا لأن رب السيف يعهد منه الاعتناء بشحذه ،وللمح هذا المعنى عبّر بالعضب ولم يعبر بالسيف ،ومتن كل شيء ظهره وللسيف ظهران ولذلك ثني المتن . واللمع البريق والاستنارة بلون صقيل .ورونَق كل شيء حسنه ورونَق السيف والضحى ماؤه وحسنه، ويقصدون بالماء هنا ذلك الذي يأخذ بالبصر من الشيء الحسن ويتراءى للعين كأنه ماء يترقرق ويتحرك فافهم.
{ المعنى } إنني أقرب إلى ذلك الإناء وقد علا ما فيه من اللبن حسن وبهجة ،من صفاء بياضه كأنه ظهر السيف الذي اعتني به فصقل فكان له لمعان يبهر وحسن يخلب وبهجة تستوقف الأبصار. ثم قال:
وما أثَّرَت فيه الوِطاب ولا دنا
إلى أرْيِهِ المُبْيّض أَرْعَنُ يمذُقُ
الوطب كفلس سقاء اللبن أي الجلد المعهود للبن جمعه أوطب كأفلس ،ووطاب كصِحاب وأوطاب كأقلام وجمع الجمع أواطب كأفاضل وأماثل. ودنا يدنو قرب والأرْي كفلس العسل والأرعن الأهوج في نطقه والأحمق المسترخي ، يقال رعن مثلثة العين رعونة ورعنا والمقصود به من له رعونة وحمق حتى يعمد إلى اللبن فيمزجه بالماء . والمذق خلط اللبن بالماء .(1/38)
{المعنى } إن ذلك اللبن الصافي اللون لم يظهر منه أثر من رائحة الإناء الذي كان فيه فصفا ذوقه كما صفا لونه ، كما لم يطف حوله من يمزجه بالماء بل بقي على حالته الأصلية وهو مثل العسل الأبيض في المذاق واللون . ثم قال:
ولا مخضته العانسات وقد بدا
لشامات زبد من عليه ترقرق
مخض الحليب أخذ زبدته، ولا يكون ذلك إلا بعد خضخضته. والمرأة العانس التي بقيت في دار أهلها بلا تزوج زمنا كثيرا، ولا ريب أن طول مكثها في دار أهلها مقبلة على مزاولة شؤونهم وحدها لتفرغها لذلك من عدم تزوجها أدعى لمعرفتها كيف يكون المخض فلا تبقي من الزبد في اللبن شيئا ، بخلاف من لم تكن في مثل لباقتها وحذقها فإنها قد تبقي بعد المخض كثيرا من بقايا الزبد . والمقصود أن هذا اللبن لم تمخضه اللبقات الحاذقات بهذا العمل بل مخضته غيرهن ممن لم تكن لهن مرانة فبقي عليه كثير من بقايا الزبد والشامة أثر أسود في البدن مثل الخال على الخد مثلا والمقصود به هنا كل أثر على لون كان ، وهذا من المجاز المرسل من باب إطلاق المقيد في المطلق كما هو معلوم . من عليه من فوقه وعلى هنا اسمية . وترقْرقُ الماء تحركه بجريانه ، وترقرق كل شيء لماع إذا كان يؤتى للناظر إليه أنه يتحرك ويذهب ويجيء .
{المعنى } إن هذا اللبن الصافي الحلو الذي لم يتأثر بإنائه ولا خالطه ماء ،قد زينته في ذلك القعب الذي كان فيه بقايا قطع صغيرة من الزبدة تذهب وتجيء وتأتي عليه وعليها لمعان فيزداد بها وجه ذلك اللبن حسنا إلى حسن وما سبب وجود تلك البقايا من الزبد على ذلك اللبن إلا كونه ممخوضا بأيدي نساء غير حاذقات في جمع الزبد ولذلك غادرت ما غادرت مما نراه يلمع فوق لبن القعب . ثم قال:
وتعلوه أمثال القباب سميكة
زجاجية لمَّاعة تتألّق(1/39)
القباب كصحاب جمع قبة والمقصود بها هنا ما يبنى على الأضرحة لأنها تكون بيضاء مسموكة مستديرة الأعالي . وسمك البناء ككتب رفعه والسميكة المسموكة أي المرفوعة ولمّاع فعال من أمثلة المبالغة من اللمعان وقد تقدم تفسيره كما تقدم تفسير التألق .
{المعنى} إن ذلك اللبن الصافي الحلو المزدان في إنائه ببقايا الزبدة الواضحة على وجهه المترقرقة عليه ، تتراءى فوقه أيضا فقاقيع كأنها قباب مبنية مرفوعة من الزجاج الصافي اللون الذي لا يحجب البصر عما في داخله ، ولها لمعان كثير وبرقان واستنارة كلما جال فيها البصر.
ثم قال:
فأجرع منه جرعة بعد جرعة ([79])
كما يحتسي الفحل الذي يترمَق
هذا البيت مرتب على البيت وأدني القعب ..الخ. الجرعة مثلث الجيم الحسوة من الماء يقال جرعت الماء كفرح ومنع والاحتساء شرب الماء شيئا فشيئا والحسوة القليل منه . والفحل الذكر من كل حيوان والمقصود هنا الجمل فإنه هو المعتاد منه مثل هذا الشرب الذي يذكره الشاعر . وترمق الشارب اللبن شربه قليلا قليلا والماء وغيره حساه حسوة بعد حسوة.
{المعنى } إنني بعدما أدنيَ إليّ ذلك القعب وقد تهيأت للجفنة ، أتناول من ذلك اللبن جرعات آخذها شيئا فشيئا ولاجتراعي صرت كما يكون للفحل من الإبل إذا كان يشرب من الماء شيئا فشيئا وما تصويتي بذلك إلا لألتذ بالسماع كما ألتذ بالذوق:
ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر
ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر
ثم قال:
وما القصد إلا أن أبل مصارني
وإلا فهمِّي ما إليها أحدّق(1/40)
بللت الثوب بالماء إذا جعلته فيه ، والمصير كخفيف المِعْي واحد الأمعاء جمعه مصران ومصارين بمد الراء وإنما خفف هنا لجواز مثله في ضرورة الشعر بل يجوز العكس من أجلها فيمد ما لم يكن ممدودا كدراهم تقول دراهيم كما هو معلوم، والتحديق بالبصر الإمعان في النظر إلى شيء والشخوص إليه مع توسيع الجفن حتى يظهر غالب الحدقة .
{المعنى} إنني ما قصدت بتلك الجرعات المحتساة من ذلك اللبن إلا أن أليّن أحشائي ليتأتى لها أن تلقى الطعام الذي سيتدفق إليها بكثرة باتساع وبتفتح الشهوة، ولم يكن مقصودي أن أشرب لأن همتي مصروفة إلى تلك الجفنة ، ونفسي متجمعة كلها إلى ماتحتوي عليه من عصيدة زهراء تنسي كل شيء :
قواصد كافور تَوارِك غيره
ومن قصد البحر استقل السواقيا
ثم قال:
وأن تغتدي بَدْء الفتوح لِحملَة
ستُشئمُ فيها جائلاتي وتُعرق([80])
أشأم ذهب إلى جهة الشام ، وأعرق ذهب إلى جهة العراق يقال فلان ينجد ويتْهِم أي يتوجه إلى نجد وإلى تهامة ويشئم ويعرق أي يذهب إلى كل جهة ويجوس كل البلاد.
{المعنى} إن مقصود بتلك الجرعات أن أبل مصاريني قبل أن أدخل في المقصود، وأن أضرب بها فالا حسنا، فحريٌّ إن فزت في تلك الجرعات التي أهجم بها على قعب اللبن أن أفوز أيضا حين أتصدى للجفنة التي إليها يساق الحديث، حين أقبل فيها وأدبر وأتقلب يمينا وشمالا وتجول فيها أصابعي في كل صوب وناحيّة. ثم قال:
ومن فاز في بدءٍ فأجدر به إذا
تقدم أن يحظى بفوز يحقق
تقول العرب فلان جدير بكذا :قمن به بفتح الميم وكسرها ، وقمين به وحر به إذا كان له أهلا يستحقه ، وأجدر بفلان أن يفوز أي ما أولاه بذلك . وذلك تعجب من جدارته بالفوز . وحظي فلان بالشيء فاز به .(1/41)
{المعنى} إن ما ضربته فالا قبل تقدمي إلى الجفنة من تلك الجرعات التي تناولتها بادئ بدءٍ إن فزت بالاستمتاع بها . فإنني حقيق أن أفوز ثانيا من تلك الجفنة المكللة ، لأن من فاز أولا جدير أن يفوز ثانيا فوزا محققا وسعود الدهور وحظواته سلسلات فمن وضع يده على حلقة منها فإنه أجدر الناس أن يضع ثانيا يده على أخرى:
رأيت السعود تنتحي كل ماجد
سليل جدود ماجدين أعاظم
فمن كان ذا جد مجيد فانه
جدير بمجد دائم السعد قائم
ثم قال:
فأعلن باسم الله أن حانت الوغى
ومن كان محفوفا به ليس يزلق
إعلان الشيء : إفشاؤه وإظهاره ، وحان الوقت وصل. والوغى بفتح الواو الصوت والجلبة أي كثرة الأصوات واختلاطها ، ولهذا تطلق الكلمة على معمعة الحرب لأنها موطن اختلاط أصوات المتحاربين حتى صارت الكلمة إذا أطلقت لا تنصرف إلا إلى الحرب وذلك هو المقصود هنا . شبه ما يكون من النَّهِم الأَكول الذي يخبط عند أكله باليد في كل جهة بالحرب ووجه الشبه ظاهر . وحف الحائط بالبستان إذا استدار به و البستان محفوف به والزلق معروف ولفظته عربية فصيحة وفعله من باب تعب .
{المعنى} الآن وقد هيأت كل شيء وقد ابتلت الأمعاء ،فوطئ الطريق لما سيتدفق من سيل الملتوت من عصيدة الجفنة ارفع صوتي باسم الله على ما هو معتاد أول الأكل لأن ما كان تحت خفارة الله لا يصيبه زلل ولا يعتوره زلق . وفي البيت إشعار بما سيظهر من الأكل النهم مما سيوصف في الأبيات الآتية من أكل غريب والتهام عجيب حتى كأنه سيل جارف عارم يجرف كل شئ . ثم قال:
فأحفر في حَرْف العصيدة حفرة
موسّعة كالحوض أوْ هي أعمق([81])
حرف كل شيْ كفلس جانبه وطرفه وشفيره وحدُّه وهي كلها بمعنى واحد جمعه حِرف كعنب وعمق البير حدها ومنتهاها من أسفل ، وهذا البير أعمق من تلك إذا كانت أطول منها وأبعد قعرا .(1/42)
{المعنى} أول ما أصنعه بعد أن أتحصن باسم الله أنني أحفر كِفاحًا من أول وهلة حفرة في جانب الجفنة وأوسعها حتى تكون كحوض الماء أو تكون أعمق من الحوض ، وهذا مما يدل على شدة نهم هذا الأكول بهيئته للجدح بادئ ذي بدء . ولا يصنع ذلك إلا من كان يريد المبادرة الى ما يملأ البطن من ملتوت العصيدة ، وإلا فإن العادة جرت بأن يتناول الأكول أولا لقما يغمسها في الزبدة حتى يتأتى له محل يصب فيه اللبن هذا هو المعتاد عند الذين يتناولون بتؤدة، وأما صاحبنا فقد حدف الوسائط وألقى المقدمات واقتضب في قصيدة أكله فبادر الى المقصود توا والنهم يعمي ويصم قال سيدي إبراهيم الظريف الصوابي([82]) :
دعوني من التشبيب بالدار والحمى
وبالخد والثغر الذي يتبسم
فقصدي الأهم مدح أعظم سيِّد
يسود الورى،إن الأهم المقدم
أكون إذا وفيت حق مديحه
كمن قال في التشبيب ما كان يعلم
ثم قال:
وأجعل فيها يمنة ثم يسرة
سدودا صحاحا عاليات توثق
اليمنة بالفتح جهة اليمين واليسرة جهة اليسار والسُّد بفتح السين وضمها الحاجز بين شيئين وتوثيق البناء ومثله تمكينه وتوطيده وصحاح كجبال جمع صحيح .
{المعنى} إنني بعد أن أحفر تلك الحفرة العميقة في طرف الجفنة أضع لها عن يمين وشمال سدودا وحواجز تمنع من تسرب اللبن وهذه السدود أجعلها عالية وثيقة مكينة فكانت هذه الحفرة التي يحفرا موصوفة بكونها موسعة وبكونها عميقة وبكونها ذات سدود ثم هذه السدود أيضا تكون صحيحة وثيقة عالية ولعمري إن مثل هذا السد الهائل العجيب لو كان على وادي مأرب لما اندك بالسيل العرم المذكور في القرآن . ثم قال:
فأملأها محضا فأجدح مثل ما ([83])
يهيئ طينا مشمعل محذق(1/43)
تقدم أن المحض يطلق على اللبن الخالص ، والجدح تقول جدحت السويق كمنع إذا خلطته بالماء ومنه المثل الشهير " جدح جُوَيْنٌ من سويق غيره" وجوين اسم رجل . والمشمعل الرجل الخفيف الظريف ويطلق أيضا على الناقة النشيطة ، والمراد به المسرع في العمل لكونه من لازم الخفة والنشاط و المحذق المعلم أي الذي حذق الصنعة وعرف كيف يصنع .
{المعنى} إنني بعد أن أهيئ تلك الحفرة الواسعة العميقة التي لها سدود وثيقة من كل جهة أملأها باللبن فاقبل على مزج اللبن بالعصيدة كما يصنع عند خوض الطين من كان حاذقا بتلك الحرفة خفيفا نشيطا . ثم قال:
اخضخض فيها خضخضات بهمة
يكاد بها حرف الإناء يشَّقَق ([84])
الخضخضة تحريك الماء والسويق ونحوهما، والضمير فيها راجع إلى الحفرة والضمير في بها راجع إلى الهمة .
{المعنى} إنني بعد أن أصب اللبن أمعن في الجدح فأحرك ما في الحفرة مع العصيدة تحريكا شديدا وأنا مكب على العمل بكل قوتي باذل كل جهدي ، حتى يكاد جانب الجفنة الذي أجدح في جهته يتشقق يا سلام يا سلام..! ! ! ثم قال:
وإني في أمثال هذا لباذل
جهود مجد في المهمات يصدق
الجهود جمع جهد بمعنى الطاقة ، والمجد صاحب الجد أي الاجتهاد يقال جد فهو جاد وأجد فهو مجد .
{المعنى} إنني أبذل كل وسعي حين أجدح ، ومن طبيعتي أنني دائما أبذل جهدي وأستفرغ طاقتي في أمثال هذه المهمات كما يصنعه كل من كان الجد دائما عادته في كل المهمات فيصدق همه في كل حين ثم قال:
أكب وكفي في تلَوٍ وفي استوَا([85])
وسبابتي من جانب الحوض تبْثُق(1/44)
كببت فلانا على وجهه فأكب والإكباب أن يخر ويسقط على وجهه ، ويقال أيضا أَكبَّ فلان على العمل إذا أمعن فيه وجمع عليه همته وهذا هو المقصود هنا . ولويت الخيط ونحوه إذا عطفته ولويت يد الإنسان إذا أدرتها غير جهتها فتلوَّت أي انعطفت واستدارت ، والاستواء ضد الاعوجاج . وبثق الماء من الحوض ككتب بثقا كسر الذي يحجزه ويمنعه فينبثق ويسيل . والسبابة بفتح السين وتشديد الباء الإصبع التي تنفرد عن الأصابع وهي خمسة الإبهام والسبابة والوسطى والخنصر والبنصر.
{ المعنى} إنني أنحني على الجفنة أجدح العصيدة مع اللبن وكفي في حين الجدح تستقيم أحيانا وتنعطف أحيانا وتلك صفة الجادح للسويق ومثله، وبينما أجدح تكون إصبعي المسماة بالسبابة تفتح من حوض الزبدة الذائبة طريقا صغيرة تتسرب منها الزبدة إلى ما أجدحه ، وهذا أيضا مما يدل على أن هذا الأكول يريد أن يخرق العوائد في أكله ، لأن العادة أن الجادح يتناول بأصابعه من الزبدة فيضع على مجدوحه أو يتناول بقبضته بجمع أصابعه . وأما أن يفتح السُّد هكذا ويهتك الحرمات فلا يصنعه إلا من يريد أن يذر القصعة خاوية على عروشها. ثم قال:
إلى أن يُرى والزبد يكسوه زرقة
كما بان طَرْف واسع الجفن أزرق
والطِّرف كفلس العين والكلمة لا تثنى ولا تجمع . وبان أي ظهر وهو من باب باع والجفن ما يستدير بالعين من تلك الجلدة التي تعلق عليها .
{المعنى } إن سبابتي تتسبب في سيلان الزبدة من حوضها إلى ما في الحفرة التي يجدح فيها، فلا تزال تسيل حتى تعلو على بياض اللبن فيكتسي ما جدحته لون الزرقة فيشبه طرْفا أزرق اللون يستدير به جفن واسع . شبَّه ما في الحوض بالطرف وما يستدير به من جميع الجوانب بالجفن . ثم قال:
إذن يبتدي التجديف والكف ترتقي
وتهوي كخطف البرق في الجو يخفق([86])(1/45)
الجدف بالفتح فسكون الضرب باليدين وتحريك المجاديف جمع مجداف وهو العود الذي يتمشى به الزورق يعمد عليه النوتي باليدين فيسير به الزورق ، والتجديف المبالغة في ذلك والتفعيل من كل فعل ثلاثي نص النحويون على أنه قياسي متى أريد التكثير والمبالغة في الفعل . والمقصود هنا حركة اليدين عند الأكل لأن هذا الأكول يُعمل يديه معا كما يفعله الجادف بالزورق ، ويدل ذلك أيضا على الإسراع والهوي الانحدار تقول هوى الطائر يهوي إذا سف ضد علا وحلق . وخطف البرق إذا أومض في الجو ولمع بسرعة وخفق البرق معناه كذلك وبابه كضرب وفتل.
{المعنى } الآن وقد تيسر كل شئ وتهيأت العصيدة كما تقترح المنى يبتدئ العمل في الالتهام فاقبل بشدة نهم ، أتناول بكلتا يديّ كما يصنع الذي يجدف بالزورق ، فتظل اليدان في علو وانخفاض بين الفم والجفنة وهي في غاية الإسراع ، حتى لا يكاد البصر يثبت في روية اليدين إلا كلمح كما يلمح البرق الخافق في الجو خاطفا في غاية السرعة والكف المعرَّفة أريد بها ما هو أكثر من واحدة . ثم قال:
وقد رصصت فيها الأنامل كلها
فعادت كسطل ليس فيه([87]) تشقق
الترصيص ألزق البعض بالبعض وضمّه يقال رصَّه ورصّصه وعاد أي صار واستحال ، والسطل كفلس طسيسة لها عروة هكذا فسروه والمقصود به هنا ما يطلق عليه عندنا اليوم من الإناء الكبير الذي له نصاب ينقل به الماء ولهذا نعرف أن بين مقصودنا اليوم وبين مقصود العرب تقاربا لأننا كما نطلقه على الكبير كما أطلقه عليه الشاعر هنا نطلقه على الصغير ثم نفرق بينهما بآلة التصغير والكلمة كما ترى عربية فصحى فيدخل اللفظة عند الشاعر لمجاز المرسل .(1/46)
{المعنى} إن الكف من كلتا اليدين اللتين أتناول بهما قد ضممتهما وألزقت أصابعهما حتى عادت كل واحدة مثل سطل كبير لا انشقاق فيه فلا يجد ما وضع فيه متسربا والضمير من فيها للكف وقد علمت أن المقصود بها أعم من واحدة وكذلك الضمير المستتر في عادت .
ثم قال:
أمططها لكي([88]) أوسعها وهل
يبلغك السؤل الإناء المضيَّق
المط المدُّ يقال مد الدلو جذبها لتتسع والتمطيط المبالغة في ذلك ، والسؤل : الحاجة .
{المعنى} إن تلك الكف المرصّصة العميقة كالسطل الكبير أزيدها توسعة بتمديد جوانبها لتحمل كثيرا لأن الإناء المضيق لا يمكن أن يشفي الغليل ولا أن تدرك به الحاجة المتطلبة والنتائج على حسب المقدمات والمقاصد تدرك بقدر الوسائل وإنما تمتد الرجل على قدر الرداء. ثم قال:
فتأتي وتمضي كالدلاء تواليا
وللسيل في وسط اللهاة تدفق
الدلاء كصحاب جمع ، دلو والتوالي التتابع والضمير أن في تأتي وتمضي للكف من كل يد والمقصود بالسيل ملتوت العصيدة باللبن، واللهاة بالفتح الحلق وتجمع باللهى بالفتح ومن أمثال العرب أن "اللُّهى تفتح اللِّهى " واللهى بالضم جمع لهوة أي عطية ، أي إن العطايا للناس تفتح أحلاقهم بالثناء . قال ابن وهبون للمعتمد بن عباد حين كان أعجب بقول المتنبي المسمى أحمد بن الحسين:
إذا ظفرت منك العيون بنظرة
أثاب بها مُعْي المطي ورَازِمُه
فأقبل عليه ينشده ويكرره فقال له ابن وهبون :
لئن جاد شعر ابن الحسين فإنما
تجيد العطايا واللهى تفتح اللهى
تنبأ عُجبا بالقريض ولو درى
بأنك تحكي شعره لتألها
وتدفق الماء تقدم تفسيره،(1/47)
{المعنى} إن تينك اليدين اللتين أتناول بهما تأتيان إلى الفم وتمضيان عنه تختلفان علوا وانحدارا ما بين الفم والجفنة ، كما تكون الدلاء إن كانت تختلف إلى البير طلوعا ونزولا تطلع إحداهما في حين أن الأخرى هابطة وِلاءً ، فيتدفق بسببهما في وسط الحلق ما تصبانه في الفم . ومعنى الشطر الأول من هذا البيت كان تقدم في بيت : إذن يبتدئ التجديف ..الخ . ويحمل ما هناك على ذكر الإسراع في أخذ اللقم ويحمل ما هنا على تصوير ذلك تصويرا آخر ، بتشبيه([89]) اليدين اللتين تختلفان بين الفم والجفنة بالدلوين اللتين تختلفان في البير طلوعا وهبوطا على التوالي ويفرق أيضا بينهما بما رتبه الشاعر على ذلك في هذا البيت من تدفق السيل في وسط الحلق بهذا الفعل المتتابع المتسلسل . وإنما حاولنا الفرق بين معنى البيتين لئلا يرد علينا تكرار معنى واحد في موضوع واحد من غير أن يكون ما ذكر ثانيا أبلغ في الموضوع من الأول كما ينتقد على من يشبه محبوبه أولا بالشمس ثم شبهه ثانيا في الموضوع نفسه في ذلك المعنى نفسه بالفجر وهو انتقاد وجيه ولعل ما هنا مع ما ذكرناه يتفصَّى عن هذا الانتقاد. ثم قال:
وللشدق صوت كلّما صب وسطه
كما يجد المخنوق رَوْحا فيصعق
الشدق كحمل وفلس جانب الفم من باطن الخد وجمعه أشداق . والروح بالفتح الراحة، وصعق كفرح أرسل صيحة شديدة ومن ذلك لفظة الصاعقة .
{المعنى } إن لشدق فمي كلما صبت فيه إحدى الكفين ما حملت من ملتوت العصيدة صوتا شديدا كصوت من كان يخنق ثم يحس بانفراج من أصابع الذي يخنقه فيرسل بسرعة صيحة يستفرغ فيها جهده لعلها تأتيه بمن يغيثه ويفكه من خانقه . ثم قال:
إذا ارتفعت مدّت ذُنَابى كأنما
تمدَّد ذَيْل حين يُوضِع أبلَق(1/48)
الذنابى : الذنب والمقصود به ما يسيل من تحت الكف إذا طفحت بالمائع الذي يتدفق منها. وذيل الفرس ذنبه . والايضاع الجري وقد تقدم . والضمير في ارتفعت من الجفنة إلى الفم]عائد على اليد التي[ ([90]) ترسل وراءها من السائل منها ذنبا أبيض من ملتوت العصيدة باللبن كأنه ذنب الفرس الأبيض حين جريه فإنه يستطيل وراءه ، وهذه الأبيات تناول فيها الشاعر وصف الأكول النهم ، وهو ميدان كان الشعراء قديما وحديثا قد وصفوه وصفا بليغا ولعل أبلغ ما نستحضره للمتأخرين قول محمد بن الشيخ سيديا الصحراوي ([91]) في حدَّاد أسود ورد عليهم يدَّعي الشرف النبوي ثم بان أنّه أفك فيما يقول . فقال فيه وكان اسم الحداد "نحن" :
ما هزَّ عِطْفَيْ كَمِيٍّ يوم هيجا
بين الأواني كذي النونين والحاء
فرد يقوم مقام الجمع وهو لذا
يدعى بمضمر جمع بين أسماء
تخال لقمته العظمى براحته
كراكر الإبل أو جماجم الشاء
يسطوا بأسلحة للأكل أربعة
يد وفم وبلعوم وأمعاء
ما بين طلعتها فيها وغيبتها
في فيه إلا كلمح الطَّرف من راء
فتنهوي كدلوٍّ خان ماتحها
أشطانها فترامت بين أرجاء
فبان أن الذي يحويه من شرف
قد صح لكنه بالهاء لا الفاء
ولابن الرومي في هذا الموضوع ولغيره ما نتركه اختصارا. ثم قال:
فأجدح أيضا ثم أجدح ثالثا
بسرعة خفق القلب أيان يَفْرَقُ
الجدح تقدم تفسيره وكذلك الخفق ، وأيان يقصد به الزمان كما يقصد بأين المكان وفرَق فلان خاف والفرَق الخوف .
{المعنى} إنني بعدما ألتهم ما كنت جدحته أولا على تلك الصفة أجدح ثانيا فآتي عليه ثم ثالثا فأبقى هكذا وِلاءً وأنا أجدح فألتهم ثم أجدح فألتهم وذلك كله بسرعة فائقة كسرعة دقّات القلب حين يستحوذ عليه الخوف. ثم قال:
فأبقى وِلاءً هكذا وأناملي(1/49)
بمنحدر حينا وحينا تَسَلَّق
والى الشيء وِلاءً وموالاة تابعه أي يفعله أفعالا متتابعة . والمنحدر بصيغة اسم المفعول المكان المنحدر أي محل الانحدار. والتسلق الطلوع إلى فوق وقد تقدم تفسيره بالتسور أي الطلوع فوق السور.
{المعنى} إني لا أزال هكذا ألتهم فأجدح فألتهم فأجدح وهكذا دواليك ، في حين أن أصابعي تجذب العصيدة فتلقيها على اللبن الذي يصب في الحفرة ، فتجذبها حينا من أعالي الجفنة وحوالي الحوض وحينا تجذبها من الأسافل. ثم قال:
وما فتئت جدحا وحملا كأنها
عفاريت تزجي حملها إذ([92]) تُخَنْدِقُ
ما فتئ : مازال . والعفاريت جمع عفريت وهو النافذ في الأمر المبالغ فيه مع دهاء والمقصود به هنا الجِنَّة وقد غلبت هذه اللفظة عند إطلاقنا لها . وأزجى حمله ساقه ودفعه . والخندق الحفير العظيم وخندق حفر الخندق شبهت الأنامل بعفاريت الجن وتلك الحفرة الواسعة التي يجدح فيها بالخندق والجنة موصوفون بالخفة في أفعالهم وبان لهم من القدرة ما لايقدر عليه الآدميون .
{المعنى } إن تلك الأنامل لا تزال تجدح وتحفر يمنة ويسرة ثم ترفع بتلك السرعة الهائلة وهي شبيهة برجال الجن العفاريت في عملهم العظيم حين تفعل كل ذلك العجيب بسرعة مدهشة . ثم قال:
إلى أن أخوض الحوض ثم أجوزه
ولي بَعدُ إِغْذَاذٌ أَمَامُ ومُعْنَق
والحوض هو ما فيه الزبدة والإغذاذ الإسراع أغذ أسرع . والمعنق أي الاعناق مصدر ميمي من أعنق أي أسرع وقد تقدمت الكلمة .
{المعنى} إن كفي لا تزال في الجدح واللقم بكل سرعة مدهشة إلى أن أصل حوض الزبدة الذي يتوسط الجفنة ثم أتجاوزه إلى أمام وأنا لا أزال ملتهما جادحا ، وأفعالي أخيرا كأفعالي أولا "والشمس رأد الضحى كالشمس في الطفل ".ثم قال:
وبطني ينادي هل هناك بقيّة
فما من مِعىً مني بذلك ضيق(1/50)
المِعَى جمعه أمعاء كضلع وأضلاع :تقدم أنها المصارين .
{المعنى} إنني حينما أتجاوز الحوض وأشرف على البقية الأخيرة مما في الجفنة لا يزال اتساع بطني كما هو ولما تمتلئ الأمعاء فكأنه يقول بلسان حاله زدني زدني إن كان هناك باق . فلا ضيق مني بل لا أزال أتسع لما سيرد إليَّ . ثم قال:
وهل من مزيد فالعصيدة هذه
ألذ وأحلى من رحيق يَُروَّق
الرحيق الخمر وترويق الخمر تصفيتها بعد عصرها واختمارها والرَّاوق ما تصفى به .
{المعنى } تقول البطن المتسعة النهمة ألا يزال هناك ما تزيدونه وتأتون به إليّ فإن هذه النعمة العتيدة لها لذة الخمر التي تصفى ويعتنى بها، فتصفيتها أدعى لازدياد لذّتها ولكون شاربها لا يروى منها .
إذا كنت ندماني فبالأكبر اسقني
ولا تسقني بالأصغر المتثلم
آخر:
وال الكؤوس ملاءً
عشرا فعشرا فعشرا
حتى تراني سكرا
كمن يطائر طيرا
فمسبحي لا يواتي
إلا إذا كان بحرا
ثم قال:
فكان جوابي في سيول كأنها
سيول الروابي والسحائب تُغْدِق
الروابي جمع رابية الهضاب والأكم والأمكنة العليا ، والأرض إن لم تصل أن تكون جبالا . وأغدق المطر كثر وانهمر بشدة .
{المعنى} أن تلك البطن حين تطلبت مني لسان حالها أن أزيدها من ملتوت هذه العصيدة كان جوابي بما كنت أدفقه إليها من الحلق حتى كأنه سيول من الأعالي حين ترسل السحب الأمطار الكثيرة . ثم قال:
ورائبُ قَعْبِي فيْنة بعد فيْنةٍ
يُصَب كما حلَّ المزادة أخْرق(1/51)
أفعل هذا فينة بعد فينة إن كنت أفعله أحيانا وأتركه أكثر من ذلك ، والمزادة راوية الماء وهذا هو المقصود هنا . والأخرق الذي لا يحسن العمل خرق الرجل فهو أخرق وخرقت المرأة فهي خرقاء ، ولذلك ربما يريد أن يحل راوية الماء ليأخذ منها ما يشاء من الماء وفي نيته أن يربطها ثانيا ولكنه لعدم معرفته كيف يزاولها وهي عامرة تتدفق عليه عند الحل فيغلبه ماؤها الكثير، وبهذا الماء الكثير الذي ينصب بكثرة جدا من الراوية شِبْه لبن القعب كلما أفرغ منه في الجفنة .
{المعنى} إنني حين كنت أحدج وألتهم يكون لرائب إناء اللبن كلما أصب منه أمامي في الجفنة صوت وتدفق كثير كما يكون من راوية الماء الممتلئة حين يزيل عنها الوكاء من ليس يعرف كيف يتمكن منها فتفلت منه فيندلق الماء بكثرة متناهيّة ، والمقصود أن هذا النهِم لا يصب أمامه من اللبن إلا الكثير بكل سرعة وذلك ما يدل على إسراعه في أمره لكثرة شرهه وعلى أنه في نهمة عظيمة لا يكتفي بالقليل . ثم قال:
وقد وسعت تلك المجالات فاغتدت
بسائط لكن ليس فيهن مورق
المجال محل الجولان والمقصود به مكان الجدح من الجفنة أمام الأكل والبسيط المنبسط من الأرض وأورقت الشجرة إذا كان لها ورق والضمير من فيهن للبسائط.
{المعنى} إنني حين أتجاوز حوض الزبدة يتسع من الجفنة الفارغ من العصيدة التي أتيت عليها حتى ليكون ذلك المتسع كأنه بسائط منفسحة من أرض بطحاء مستوية وقد جردت من الشجر فليس منها ما له ورق أي ليس فيها نابت أصلا مورق وغير مورق وعبّر عن ذلك بكونها ليس فيها مورق على حد " لا يسألون الناس إلحافا " ([93]) أي لا يسألونهم أصلا وعلى حد "على لاحب لا يهتدى بمناره " . ثم قال:
فتلتاح قبل الجدح والمحض مائح
وبعض لقيمات عليه تَفَرَّق([94])
كبحر شديد مزبد قد تشتَّت
زوارق شتى فوقه وهي تغرق([95])(1/52)
إلتاح بان وظهر . والمحض اللبن وقد تقدم . واللقيمات جمع لقيمة مصغر لقمات والمقصود بها تلك البقايا التي تعلو اللبن أمام الأكل حين يصبه قبل الجدح من بقايا الملتوت المأكول قبله وتفرق أصله تتفرق وأزبد البحر هاج ورمى بزبد بفتحتين وهو ما يظهر أبيض على الماء عندما يتحرك تحركا شديدا . والزورق ما يركبه صيّادو الحوت في كل سواحل البحر أصغر من السفينة جدا . والشتَّى جمع شتيت أي متفرق تقول شتَّ الشيء فرَّقه والتشتت التفرق ومثل هذا التشبيه هو المسمى بالتشبيه المركب .
{المعنى} إن المكان الخالي من العصيدة في الجفنة وهو الذي يلي الآكل وقد اتسع لتوالي الجدحات عليه ، يظهر للرائي حين يصب فيه اللبن عندما أريد الجدح فيه أيضا وقد تموج فيه اللبن واضطربت فوقه بقايا لقم صغيرة من بقايا المجدوح المأكول قبل ، كأن ذلك اللبن في ذلك المكان المتسع بحر شديد هائج كثير الاضطراب وقد علاه زبد من شدة هيجانه وتتبدى من فوق عبابه أفلاك صغيرة منبتة في جميع أرجائه والغرق يكاد يلتهمها ولم يبق منه إلا أعاليها التي هي على وشك الغيبوبة في الماء . ثم قال:
وإني أوالي حملة بعد حملة
كما يغتدي في الزحف جيش مفرق
يغتدي : يصير . والزحف مصدر زحف الجيش إلى الأعداء إذا حمل عليه .
{المعنى} إني أقبل وأدبر في تلك الجفنة بالجدح والالتهام بسرعة كثيرة ، والحالة هذه أنني لا أزال أتابع أعمالي وآتي الجفنة من كل الجهة كما يطوف جيش تفرقت كتائبه العدوَّ إذا شن عليه غارة ملحاحا فتطلع عليه من كل جهة . ثم قال :
فتُنسَف هاتيك الجبال جميعها
وتُعلى صياصيها ويفتح مغلق(1/53)
نسف البناء قلعه من أصله . والصياصي الحصون والمراد بالجبال وبالصياصي ما علا ذرى العصيدة المكللة بها الجفنة . وفتح المغلق كناية عن إدراك الممتنع كأن أواخر الجفنة كان يظن أنها تنغلق أمام الأكل وتمتنع منه بالشبع ولكن هذا الأكول النهم يأتي عليها كما أتى على ما أتى عليه أولا ، وهذا الفتح هنا غير الفتح في البيت الآتي كما لا يخفى . ثم قال:
إلى أن أرى الفتح المبين وإنني
على شبع والجوع خزيان يرمق
والمقصود بالفتح المبين هنا الإتيان على كل شيء والفتح في البيت قبله المقصود به المشارفة على الأواخر كما بيّناه ، وقوله على شبع دال على أنه متمكن في الشبع . وخزيان ذليل مشتهر بالفضيحة يقال خزي كرضى خزيا وخزى وقع في بلية وشهرة فذل بذلك . ورمق ببصره نظر والجملة الأخيرة من البيت المشهور :
فَخالطَ سهل الأرض لم يكدَحِ الصفا
به كدْحة والموت خزيان ينظر([96])
{المعنى } إنني لا أزال ممعنا مكبا على ما في القصعة حتى آتي على كل ما فيها فحينئذ أستولي على لبانتي وأستوفي منْيتي فتمتلئ بطني امتلاءً عظيما فأعانق إذن الشبع وانتفض من معانقة السغب الذي لازمني نهمه من زمن طويل فتقر به عين الشبع ويخزى الجوع بعدما كان يظن أنه يستولي على زمني أبد الآبدين . ثم قال:
ولم يبق إلا جولة وحدها لكي
يلمم ما يبقى هنالك ملِعق
لمَّ الشيء جمعه ولممه مبالغة في ذلك والملعق آلة اللعق وهي السبابة كما هي العادة.
{ المعنى } الآن وقد بلغت منيتي لم يبق أمامي من العمل إلا أن تجول سبابتي في الجفنة فألحس كل ما يعلق بأطرافها ، وعادة بلادنا هذه الاعتناء بلحس الأواني غاية الاعتناء متى استتموا ما فيه وتلك من حسناتهم بخلاف غيرهم ممن وراء الأطلس وقد ورد عن الشارع الحث على ذلك . ثم قال:
فألحس كفي ثم أغسلها وقد(1/54)
رسا بي في ([97])سيف الأمانيِّ زورق
لحس الإناء ولعقه مترادفان . ورسا الفلك في الساحل إذا ألقى فيه مراسيه أي كف عن السير وألقى رئيسه ما يعتاد أن يلقى في البحر فيقف بسببه . وسيف البحر ساحله والأماني جمع أمنية.
لا إنني بعد أن آكل ما في الجفنة وألعقها ألعق أصابعي وأغسل كفي وأنا بالغ كل الأماني ووصلت بي أفلاك السعد إلى ساحل ما أتمناه . ثم قال:
فأعلن حمدا خالصا من طويتي
لمن كان يعطيني النعيم ويرزق
طوية الإنسان ما يطويه من سريرته .
{المعنى} إنني بعدما أستوفي بعدما أستوفي مرادي في الجفنة وألحس كفي وأغسلها أرفع صوتي فأحمد حمدا ، ينبعث من أعماق قلبي ، الله الذي رزقني هذه النعمة الجليلة . وأطعمني هذا الطعام طيبا هنيئا مريئا . فهكذا ذكر أنه كما يفتتح بالبسملة يختتم بالحمدلة ، وهذا مما يدل على أن هذا الأكول وإن أخذته النهمة بأشطانها وسلسله الشره بأحابيله ، مهذب مربى لم يكن مثله ممن يشره وإنما ساقته الأقدار حتى سقط تحت أذيال الشره إلى هذه النعمة اللذيذة ، ثم لم يلبث بعد أن استوفى منها مرامه أن رجع إلى شنشنته :
إن التخلق يأتي دونه الخلق
وما أنا ممن يدخل العشق قلبه
ولكن من يبصر جفونك يعشق
ثم قال:
فإن يطعم الفالوذج الحلو فتية
وبسطيلةً جمَّاعةً ما يُفَرَّق
فإني بحمد الله عندي عصيدة
من الذرة الغراء أولى وأوفق(1/55)
طعم الشيء أي ذاقه أو إزدرده وأساغه شرابا كان أو طعاما وهو من باب فرح قال تعالى في قصة طالوت : "ومن لم يطعمه " . والفالوذج ما يطلق عليه في الحواضر اليوم الحلواء الشبكية وهو أنواع ويقال أن أول ما كان يصنع فيه بلاد الأكاسرة وذلك مذكور في قصة ابن جدعان . والبسطيلة من الأطعمة الحضرية المغربية النفيسة ، وللأجانب باقتراحها على من يستضيفهم حكايات تدل على مقدار اهتبالهم بها اهتبالا غريبا وتجمع فيها عند طهيها أنواع من مستلذات الفواكه والحلويات واللحوم وهذا معنى ما في البيت. جماعة ما يفرق أي كثيرا ما تجمع ما كان معهودا أن يوكل على حدة فيوخذ متفرقا . والذرة الغراء هي البيضاء التي جعلت موضوع القصيدة . وأولى خبر لمبتدأ محذوف أي هي أولى وأوفق .
{المعنى } إذا كان هناك في الحضر من يستطيبون الفالوذج والبسطيلة وهما ما هما أناقة والتذاذا وجمعا لما كان معهودا أن يفرق عند أكله ، فإن عندي أنا أيها البدويّ القحّ عصيدة من الذرة البيضاء وهي أولى وأوفق بالأمزجة لسذاجتها ولكون لذتها طبيعية لم تدخلها يد الصنعة ومن قر عينا بعيشه نفعه:
نحن بما عندنا وأنت بما
عندك راض والرأي مختلف
ثم قال:
وقد برئَت من كل زور ولم يطُف
على متنها ([98]) الوضاءِ طاهٍ يُزَوِّق
طاف الشيء يطوف دار حوله أوزاوله وعالجه وهذا هو المقصود هنا . ومتن كل شيء ظهره وقد تقدم . والوضاء كثير الإضاءة . والطاهي الطابخ طهي اللحم يطهاه وطهاه يطهوه طَهْوًا وطُهُوًا وطُهِيًا وطهاية عالجه بالطبخ ، والطاهي الطباخ وكل معالج للطعام . والتزويق معروف حتى في الشلحة وهي عربية فصحى : زيَّنه وحسَّنه .(1/56)
{المعنى} إن هذه العصيدة أفضل وأعلى من البسطيلة ، وآية ذلك أنها بريئة من الزور الذي يعالج به الطَّباخ البسطيلة فيستعير حلاوتها من غيرها . كما أنه يعالج ظاهرها بتزويق وتزيين لعلها تكتسب بذلك زينة وأين هذه المعالجة بهذا التزوير والتزويق وإدخال التحسينات من هذه العصيدة التي بلغت النهاية في الحلاوة وحسن الذوق والغاية القصوى في الوضاءة فلا يحتاج وجهها المستنير إلى ما يستعير منه حسنا ففاقت البسطيلة من ذوقها العجيب ومن طلاوة محيَّاها الأبيض بنفسه من غير ذرور السكر كما يرى على وجه البسطيلة التي غدت كامرأة تستعير جمال وجهها مما تجعله عليها .
وما الحليُ إلا زينة لنقيصة
يُتَمِّم من حُسْن إذا الحس قصرا
وأما إذا كان الجمال موفَّرا
كحسنك لم يحتج إلى أن يزورا
ثم قال:
فجاءت بما لم يأت فيما أتى به الـ
ـمُقنَّع فيما قاله والمُحَلِّق
الضمير في جاءت إلى العصيدة والمقنع الكندي شاعر جاهلي كان قال من أول قصيدة:
يلومونني في الدَّين قومي وإنما
ديوني في أشياء تكسبهم حمدا
أسد بها ما قد أخلوا وضيعوا
ثغور حقوق ما أطاقوا لها سدا
وفي فرس نجد عتيق جعلته
حجابا لبيتي ثم أخدمته عبدا
وفي جفنة لا يغلق الباب دونها
مكللة لحما مدفَّقة ثردا
وهذا البيت الرابع هو المقصود أي أن هذه العصيدة في جفنتها مكللة مدفقة أكثر مما وصف به الكندي جفنته والمحلق تقدم ذكره والمقصود ما كان الأعشى وصفه به في البيت الذي تقدم أيضا وهو:
نفى الذم عن آل المحلق جفنة
كجابية الشيخ العراقي تفهق
وهذا الوصف قد تقدم للجفنة في أول القصيدة وذكر هنا في نفس العصيدة ومآل المعنى واحد وزين هذا التكرار ذكر المحلق مع المقنع كما لايخفى عن ذي ذوق سليم .(1/57)
{المعنى} إن هذه العصيدة حازت جفنتها من الأوصاف العليا مل لم تحزه كلتا جفنتي المقنع والمحلق من علوها وتدفقها حتى تطفح. ثم قال:
أدام لنا الله العصيدة ما غدت
مصارين بطن الجائعين تنقنق
المصارين تقدم أنها الأمعاء والنقنقة صوت الضفدع استعيرت لصوت البطن إن أثر فيها الجوع.
{المعنى } نطلب الله تعالى أن يديم لنا هذه النعمة المتناهية في اللذة والحلاوة وحسن الذوق وطراوة النظر ما دامت المصارين تصوت في بطن كل ذي جوع .
ثم قال:
وما سالت الأرياق إن عنَّ ذكرها
وفاح([99]) حواليها ثناء مخلق
الأرياق جمع ريق وهو اللعاب . وذلك أن الإنسان إذا كان يسمع ما يستثير شهوته ولم يكن من المهذبين الذين يملكون أنفسهم تسيل أرياقهم تلذذا وذلك هو معنى ما يوصف به من كان هذا وصفه تتحلب شفاهه وعنَّ ذكر الشيء يعن عرض وفاح الطيب يفوح إذا انتشر رائحته والثناء الذكر الحسن يقال أثنيت على فلان إذا مدحته وذكرته بالجميل والمخلق الذي فيه رائحة الخلوق وهو نوع من الطيب.
{المعنى } أدام الله لنا العصيدة ما تشتاق إليها البطون الجائعة ويسيل لعاب النهم متى جرى ذكرها ووصفت وصفا شيقا مثل ما وصفت به في هذه القصيدة .
خاتمة :(1/58)
انتهى التعليق الوجيز الذي أنجز فيه ما كان مقصودا من تبيين الكلمات اللغوية والمعاني المقصودة في تراكيبها ، ويعلم الله كم أعاني حتى أمكن لي أن أوجز مثل هذا الايجاز، لأنني في كل بيت وعند كل معنى وإزاء كل لفظ لغوي استحضر من الأبيات الفريدة ، والمقطعات المستحسنة ، والأمثال المستلطفة والحكايات المستطرفة للمعروفين بكثرة الأكل والأحاديث والآيات وغير ذلك ، ثم أحمل نفسي حملا حتى أتخطّاها مرغمة لأن الأدبيات عند الأديب كالأزهار المونقة في أنظار عشاقها فتألف أيديهم اقتطافها كلما أمكن اقتطافها أو شمها على الأقل إن لم يمكن إلا شمها ، فلهذا أحس من نفسي مضضا حين أحملها مرغمة عن التنكب مراعاة لحال من جعلت هذا التعليق باسمه ومراعاة كل مقام من أوجب الواجبات ولمراعاته أيضا يراني القارئ أبسط الكلام بسطا عند التفسير وأجعله مسهبا مهلهلا ، وإلا فإن الإشارة في غالب ذلك فيها كفاية كما أن مراعاته أيضا هي التي حملتني حتى لا أمتد إلى تبيين ما لا يزال الآن يقصر باعه دونه ولكن مع كل هذا قد يفرط مني بعض الشيء مما يخالف هذا المنهاج وذلك مني سبق قلم لا غير .
كان الأديب سيدي الحسن بن علي الإلغي ([100]) عازما على شرحها شرحا ملائما كان ذكر لي ذلك منذ سنتين ولم أدر هل أنجز فيه ما كان ذكره أو وقف قلمه دونه ([101]). وفي هذا التعليق على كل حال كفاية لهذه القصيدة وقد اخترت أن أسميه " الثريدة المناغية للعصيدة " نفع الله به الشادين وفتح به الباب للمبتدئين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه .
تم في عشيَّة الاثنين التاسع عشر من ذي الحجة 1358 هـ بعدما كنت أكتب فيه ساعات قليلة في يويمات وأنا أراجع القاموس ، فكان ذلك سبب مكثي فيه هذه اليوميات. كتبه العبد خديم الأدباء محمد المختار لطف الله به .(1/59)
ونقله من خطه رضي الله عنه وأدام النفع به أسير ذنبه الراجي عفو ربه عمر بن إبراهيم الساحلي([102]) أمنه الله من نوائب الأيام والليالي وختم له بالحسنى في 25 ربيع الثاني 1364 هجرية.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] - المقدمة ، دار الفكر ط3، 1417-1996،ص :731.
[2] - فخر الدين قباوة – منهج التبريزي في شروحه والقيمة التاريخية للمفضليات ، دار الفكر دمشق سوريا ط2، 1997 ، ص:36 وما بعدها .
[3] - راجع أحمد جمال العمري – شروح الشعر الجاهلي نشأتها وتطورها ، دار المعارف مصر 1981 1/276 .
[4] - وناس بن مصباح – ملاحظات أولية حول الشروح الأدبية ، مجلة الثقافة التونسية ،تصدر عن وزارة الثقافة بتونس عدد41/1986،ص: 36 .
[5] - ظهرت الطبعة الأولى من شرح البرقوقي سنة 1930 والثانية بعدها بثمان سنوات .
[6] - يراجع شرح ديوان المتنبي ، عبد الرحمان البرقوقي دار الكتاب العربي بيروت لبنان 1400-1980 ،1/18 .
[7] - وناس بن مصباح – ملاحظات أولية حول الشروح الأدبية ، ص:39.
[8] - راجع : محمد خليل – محمد المختار السوسي حياته وشعره ، مطبعة بنميد الدار البيضاء 1984 ، ص:
[9] - الثعالبي - يتيمة الدهر ، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد 2/181
[10] - أملو : اللوز المطحون بزيت الأركان وهو مما يتأدم به في سوس خاصة .
[11] - المعسول 1/46 -47 .
[12] - الثريدة المناغية للعصيدة ، ص: 27 .
[13] - الحسين فقادي – من مظاهر التغذية في تاريخ المغرب الوسيط ، مجلة أمل عدد16 سنة 1999 ، ص:37 .وذكر الدكتور بن عيسى باطاهر الأستاذ بجامعة الشارقة ، قبيل بدء الملتقى الدولي الثالث للأدب الإسلامي يوم الاثنين 15 يناير2001 أن الأكلة ذاتها معروفة في اليمن بالكيفية ذاتها وتسمى عندهم الجريش .(1/60)
[14] - ابن الزيات – التشوف إلى رجال التصوف ، تحقيق أحمد التوفيق ، منشورات كلية الآداب الرباط 1404-1984 ، ص:145 وفيه إشارة إلى أن أبا محمد عبد الله الهيجي ( ت قبل 540 هـ ) من صلحاء أغمات وريكة كان قوته من عصيدة الشعير بدون ملح.
[15] - الحسن بن محمد الوزان – وصف إفريقيا ، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر ، الرباط 1980 ، 1/197 .
[16] - المعسول 1/47-48 وراجع وصفا آخر للعصيدة عند بلدي السوسي صالح بن عبد الله الإلغي - المدرسة الأولى مطبعة النجاح الجديدة 1998الدار البيضاء ص:36-37 .
[17] - فقيه أديب شاعر راجع ترجمته بالمعسول 2/364.
[18] - الثريدة ، ص:3.
[19] -سوس العالمة ، ص :أ.
[20] - 2/100 .
[21] - الجزء الأول من ص : 25 إلى ص:62 .
[22] - الثريدة ، ص :1.
[23] - علي أومليل – المختار السوسي السلطة العلمية والسلطة السياسية ، ضمن الذاكرة المستعادة ، منشورات اتحاد كتاب المغرب 1984 ، ص: 13 . وراجع المهدي السعيدي – المدرسة الإلغية وإشعاعها الأدبي في سوس ،رسالة جامعية مرقونة بكلية الآداب بالرباط بإشراف الدكتور علال الغازي نوقشت 1995 ص :440.
[24]- الثريدة ، ص:2 .
[25] - المعسول 1/43.
[26] - الشطر الثاني للأعشى وأوله : نفى الذم عن آل المحلق جفنة ينظر ديوان الأعشىالكبير ميمون بن قيس ، شرح وتعليق محمد محمد حسين ، ط7 ،مؤسسة الرسالة ،بيروت لبنان ، 14031983 ، ص : 275 .
[27] - المعسول 1/48 .
[28] - المعسول1 /49
[29] - المصدر نفسه ، ص :51.
[30] - المعسول/52.
[31] - أشكر أستاذنا الكريم اليزيد الراضي الذي أعارني نسخته من كناش الساحلي المتضمن نص المخطوطة .
[32] - فقيه وشاعر ومقاوم أول مدير للمعهد الإسلامي بتارودانت تنظر ترجمته في المعسول 5/242.
[33] - تم اعتماد ترقيم الكناش في الإحالة على الثريدة في هذه الدراسة .(1/61)
[34] - الثريدة ، ص :97.
[35] - الثريدة ، ص:67.
[36] -المصدر نفسه ، ص :97.
[37] - يراجع أحمد جمال العمري – شروح الشعر الجاهلي نشأتها وتطورها ، دار المعارف مصر 1981 1/194،274 .
[38] - فخر الدين قباوة ، منهج التبريزي في شروحه ، ص : 132 .
[39] - المرجع نفسه ، ص : 350 .
[40] - وهي مؤنث الثريد الأكلة المعروفة التي يهشم فيها الخبز ويصب عليه المرق.
[41] - راجع حول هذا الجانب : أحمد الشرقاوي إقبال – معجم المعاجم ، ص : 5.
[42] - الثريدة ، ص :68.
[43] - المصدر نفسه ، ص :69.
[44] - الثريدة ، ص :97.
[45] - المصدر نفسه .
[46] - راجع حول أصل مبحث النظائر : أحمد الشرقاوي إقبال – معجم المعاجم ، دار الغرب الإسلامي ط2،1993 ، ص:18
[47] - وناس بن مصباح ، ملاحظات أولية حول الشروح الدبية ، ص : 46 .
[48] - المرجع نفسه ، ص :46 .
[49] - الثريدة ، ص:68.
[50] - نفسه ، ص : 72 .
[51] - نفسه ، ص :68 -69 .
[52] - من الآية 273 من سورة البقرة .
[53] - الثريدة ، ص : 97 .
[54] -في المعسول1/49 "يتدفق" بدلا من" متدفق ".
[55] - المصدر السايق ، ص :78 .
[56] -في المصدر السابق "إلا "بدلا من "غير" .
[57] - المصدر السابق ، ص :87 .
[58] - الثريدة ، ص : 66 .
[59] - ورد هذا الشطر في المعسول1/51 كما يلي :" تكاد لديها جفنتي تتشقق".
[60] - المصدر السابق ، ص :84.
[61] - علامة وأديب صحراوي بارز أنظر التعريف به في المعسول3/26 .
[62] - المصدر السابق ، ص:88 -89 ، والمقصود أن المهجو لا ينتسب إلى الشرف ولكن إلى الشره .
[63] - أشار إلى ذلك محمد بن العباس القباج ، ينظر كتابه الأدب العربي في المغرب الأقصىط2 وزارة الشؤون الثقافية 2/ 63 .
[64] - مصطفى الشليح وآخرون – محمد المختار السوسي ، سلسلة أعلام المغرب 1996 ، ص: 164 .(1/62)
[65] - المعسول 1/ أ .
[66]-مسقط رأس العلامة محمد المختار السوسي ، يقع على بعد حوالي 84 كلم شرقا من مدينة تزنيت .
[67] -محمد بن بلقاسم السليماني : ابن عمة العلامة محمد المختار السوسي فقيه مشارط أنظر التعريف به في المعسول2/364
[68] -وردت كلمة "مسنَّمة" بدلا من مكللة في قصيدة العصيدة المنشورة بالمعسول 1/48 .
[69] - "واما الفاسيون فعادتهم عيد الميلاد طبخها غير متجمدة " هامش المؤلف ،ص: 68.
[70] -ورد هذا البيت في المعسول 1/48 على الشكل التالي :
نعم إنها من غير شك عصيدة من الذرة المعطار إن كنت أنشق
[71] - الشطر الثاني من بيت للأعشى أوله : نفى الذم عن آل المحلق جفنة راجع ديوان الأعشى الكبير ميمون بن قيس شرح وتعليق محمد محمد حسين ط7 ، مؤسسة الرسالة لبنان ، 1403-1983 ، ص :275 .
[72] -جاء في المعسول 1/49 "منذ "بدلا من" مذ"وهو كسر للوزن .
[73] -هذا البيت ساقط من القصيدة المثبتة في المعسول 1/48..
[74] - يراجع شرح ديوان المتنبي ، عبد الرحمان البرقوقي دار الكتاب العربي بيروت لبنان 1400-1980 ،4/307.
[75] -في المعسول 1/49 "إلا "بدلا من "غير" .
[76] -في المصدر نفسه "فلم "بدلا من "ولم" .
[77] -في المعسول1/50 " عنَّ "بدلا من" يغري" .
[78] -في المصدر نفسه "يتدفق" بدلا من" متدفق ".
[79] -في المعسول 1/50 جاء هذا الشطر كما يلي : " فآخذ منه حسوة بعد حسوة ".
[80] -في المصدر نفسه ورد هذا الشطر كما يلي :" تغرب فيها غارتي وتشرق".
[81]- في المعسول 1/50 " أو هو أضيق" .
[82] - إبراهيم بن محمد الظريفي التكوشتي الصوابي من علماء القرن الثاني عشر الهجري خريج تامكروت فقيه مؤلف
وأديب توفي في القاهرة عام1136 هـ . أنظر ترجمته في رجالات العلم العربي في سوس :62.(1/63)
[83] - في المعسول 1/50 " كماء " بدلا من : "مثل ما "
[84] - ورد هذا الشطر في المصدر نفسه،ص :51 كما يلي :" تكاد لديها جفنتي تتشقق".
[85] - ورد في المصدر نفسه كما يلي :" فأجدح ما في حفرتي جدح عازم".
[86] -في المعسول1/51 "يبرق" بدلا من" يخفق ".
[87] - في المعسول1/51 "فيها "بدلا من "فيه" .
[88] -ورد في المصدر نفسه "حتى "بدلا من" لكي ".
[89] - في الأصل ، ص :87 فتشبيه والظاهر أن الصحيح ما أثبتناه .
[90] -هناك ارتباك في العبارة هنا ولعل ما أثبتنا صحيح .
[91] - علامة وأديب صحراوي بارز أنظر التعريف به في المعسول3/26 .
[92] -في المعسول :"وتخندق "بدلا من "إذ تخندق".
[93] - من الآية 273 من سورة البقرة .
[94] - في المعسول1/51 " مائج" بدلا من "مائح".
[95] -في المصدر نفسه "تفرقت" بدلا من" تشتت" .
[96]-جاء في هامش مخطوط الثريدة المناغية للعصيدة ، ص :93 " وقبله :
فرشت لها صدري فزل عن الصفا به جؤجؤ عبلٌّ ومتن مخصَّر "
[97] -في المعسول1/52. " على سيف.." بدلا من" في سيف ".
[98] -في المعسول 1/52. "على وجهها" بدلا من" على متنها"
[99] -في المعسول1/52. " وطاف" بدلا من :"وفاح".
[100] - الحسن بن علي الإلغي: أستاذ وفقيه وأديب من الأسرة الصالحيَّة الإلغية أنظر ترجمته في المعسول 2/213 .
[101] - اقتصر شرح الحسن بن علي الإلغي على تفسير الكلمات وقد أثبته السوسي في كتابه مترعات الكؤوس في آثار طائفة من ادباء سوس ، مخطوطة مصورة خاصة ،ص : 358-366
[102] - عمر المتوكل الساحلي أستاذ أديب مؤلف مدير المعهد الإسلامي بتارودانت سابقا توفي صيف 2003، له كتاب المدارس العلمية العتيقة بسوس والمعهد الإسلامي بتارودانت في 4 أجزاء ، راجع ترجمته في المعسول5/242.(1/64)