الثبات
الدكتور صالح الرقب
الجامعة الإسلامية- غزة
الطبعة الأولى
1423هـ-2002م
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
-(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) الأنفال:45.
-(وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)آل عمران:147.
-(وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) الإسراء:74.
-(قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) النحل:102.
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده اشلله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أنّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله.
أمّا بعد....
فإنّ المسلمين اليوم يعيشون في زمن كثرت فيه الفتن، وعمَّت فيه من البلايا والمحن والنوازل والخطوب الجسام الشيء الكثير، وكل ذلك بسبب بعدهم عن منهج الإسلام شريعة وعقيدة، وتفشي المعاصي والمنكرات في بلادهم، ثمّ لتسلط الأمم الكافرة فكرياً وعسكرياً واقتصادياً.(1/1)
وإنّ مما يحرص عليه المسلم هو التمسك بالدين في جميع مناحي الحياة، فبه النجاة والعصمة من الفتن والشرور والمكائد في هذا العصر وممّا يحزّ في النفس أن نرى اليوم نفراً من بني جلدتنا قد ارتموا في أحضان الكفار، وتنازلوا عن دينهم مداهنة لأعداء الله تعالى؛ فما زادهم الكفار إلا عتواً ونفوراً عن الإسلام، واستخفافاً، وامتهاناً للمسلمين. لمّا عمد علماء السوء إلى تحليل ما حرّم الله تعالى بأدنى الحيل كان ذلك سبباً في الصدّ عن دين الله تعالى، وامتناع الكثيرين من الدخول فيه.
وإنّ ممّا يجب للمسلم أن يسأل الله عز وجل أن يثبت قلبه على الدين وألا يصرفه عنه، كما صرف عنه قلوب كثير من الخلق، قال تعالى (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظنّ وإن هم إلاّ يخرصون)الأنعام 116.
معنى الثّبات :-
الثبات لغة:
الثبات في اللغة معناه الرسوخ على الأمر( رسخ الشيء ثبت وبابه خضع وكل ثابت راسخ ومنه:الراسخون في العلم)، والمداومة علية وعدم التحول أو التزحزح إلى غيره. جاء في مختار الصحاح:" ث ب ت ثبت الشيء من باب دخل وثباتا أيضا، وأثبته غيره، وثبته أيضا وأثبته السقم إذا لم يفارقه وقوله تعالى ليثبتوك أي يجرحوك جراحة لا تقوم معها وتثبت في الأمر واستثبت بمعنى ورجل ثبت بسكون الباء أي ثابت القلب ورجل له ثبت عند الحملة بفتح الباء أي ثبات وتقول لا أحكم بكذا إلا بثبت بفتح الباء أي بحجة والثبيت الثابت العقل".(1)
الثبات اصطلاحاً:
نعني بالثّبات الاستمرار في طريق صراط الله المستقيم، والالتزام بمقتضيات هذا الطريق، والصبر على القيام به، وتحمّل الأذى في سبيل ذلك والمداومة على الخير، والسعي الدائم للاستزادة.
__________
(1) - مختار الصحاح:أبو بكر محمد الرازي 1/35.(1/2)
وعرّف الإمام حسن البنّا الثبات بقوله:"أن يظلّ الأخ عاملاً مجاهداً في سبيل غايته، مهما بعدت المدة، وتطاولت السنوات والأعوام، حتى يلقى الله على ذلك، وقد فاز بإحدى الحسنين، فإمّا الغاية وإمّا الشهادة في النهاية(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)الأحزاب:23".(1) ومن معاني الثبات ما يتعلق بالقلب،أي ثبوت القلب على حبه لله ، مع كونه مقيما عليه لا يروم عنه انتقالا، ولا يبغي عنه زوالا، قد اتخذ له في سويداء قلبه وطناً، وجعله له سكناً تزول الجبال الراسيات وقلبه على العهد لا يلوي ولا يتغير.(2) وإذا فترت همة المرء المسلم، فهنالك حدّ معين لا يقبل التنازل عنه أو التقصير فيه، وإن زلّت قدمه فلا يلبث أن يتوب، وربما كان بعد التوبة خيراً ممّا كان قبلها، ذلك هو حال المتصف بخلق الثّبات.
حماس بدايات الطريق:-
__________
(1) - مجموعة الرسائل ص363، المؤسسة الإسلامية
(2) - بائع الفوائد 2/320.(1/3)
كثيراً ما نجد شباباً يحنون إلى بدايات طريق الهداية والدعوة التي كانوا فيها أكثر نشاطاً وحيوية، ويتدفقون حماساً، ويبالغون في الحرص على دقائق السنن، ويبتعدون عن دائرة الشبهات فضلاً عن الحرام، ثمّ تملّ النفوس وتكلَّ وتفتر الهمم، ويتقاعس عن العمل، ويكتفى بعض الشباب بأن يكونوا من عامة المسلمين، بل بعضهم ممّن ينقلب على أعقابه، فيغدون يعادون الدعوة ويسخرون من أهلها، ويحذرون من سبيلها، إنّها إذاً معركة تقرير المصير بين الارتداد على الأعقاب والثبات. وأمثال هؤلاء ينقصهم الإخلاص، ولم يستبين لهم هدف أو غاية ولكن بالإخلاص تهون المتاعب في طريق الدعوة، وتصغر المشاق في طريق هداية القلب، ومن كان له هدف صحيح وغاية عظيمة واصل جهده ليله بنهاره حتى يصل مبتغاه، ويحقق هدفه، قال عليه السلام: "من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل آلا إن سلعة الله غالية آلا إن سلعة الله الجنة"(1) وعكس حالة الإخلاص: إرادة شيء من عرض الدنيا، فقد تكون دعوته أو يكون جهاده أو تعلمه أو تعليمه لأجل شيء من الدنيا، فإذا لم يحصل له مراده جزع وسخط، وسقط في أول الطريق؛ فالوقود إذاً فاسد، والمركبة تالفة. قال الله تعالى:(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)الحج:11،وقال:(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ في اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا في صُدُورِ الْعَالَمِينَ) العنكبوت:10.
صور ومواطن الثبات:-
__________
(1) - رواه الحاكم 7851، 4/ 334، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، والترمذي 2450. 3/633.(1/4)
صور ومواطن الثبات كثيرة، نكتفي بذكر بعضها:
أولاً : الثبات في الفتن: ذكر بعض أحاديث في الفتن:-
1-عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بادروا الأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً،ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا".(1)
2- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يتقارب الزمان ويقبض العلم وتظهر الفتن ويلقى الشح ويكثر الهرج، وقالوا: وما الهرج يا رسول الله ؟ قال: القتل ".(2)
3-عن أسامة ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم أشرف على أطم من آطام المدينة ثم قال هل ترون ما أرى إني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر".(3)
__________
(1) - مسلم1/110، 118 باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن، الترمذي 219،4/487، باب ما جاء ستكون فتن كقطع الليل المظلم.
(2) - البخاري 989،1/350، باب ما قيل في الزلازل والآيات، مسلم 4/2057،2672، باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان.
(3) - البخاري2/664، 1779، باب آطام المدينة ،6651،6/2589، باب الغرفة والعلية المشرفة في السطوح وغيرها، مسلم2885،4/2211، باب نزول الفتن كمواقع القطر.(1/5)
4-عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ثم ستكون فتن القاعد فيها خير، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، ومن وجد فيها ملجأً فليعذ به".(1) وفي رواية:" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إنها ستكون فتن ألا ثم تكون فتنة القاعد فيها خير من الماشي فيها والماشي فيها خير من الساعي إليها ألا فإذا نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه قال: فقال رجل يا رسول الله أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض، قال يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاء اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت، قال، فقال رجل يا رسول الله أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصّفين أو إحدى الفئتين فضربني رجل بسيفه أو يجئ سهم فيقتلني، قال:يبوء بإثمه وإثمك ويكون من أصحاب النار".(2)
5-عن أم سلمة رضي الله عنها قالت:استيقظ رسول الله ليلة فزعاً يقول:سبحان الله ماذا أنزل الله من الخزائن وماذا أنزل من الفتن ؟ من يوقظ صواحب الحجرات لكي يصلين فرب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة".(3)
__________
(1) - البخاري 6703، 6/2605، باب خروج النار وقال أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم أول أشراط الساعة نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، مسلم 2886،4/2211، باب نزول الفتن كمواقع القطر.
(2) - رواه مسلم باب نزول الفتن كمواقع القطر2887، 4/2211.
(3) - البخاري،115،1/54 باب العلم والعظة بالليل،6657، 6/2591،باب لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه.(1/6)
6- عن عبد الله بن عمرو قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا منزلا، فمنّا من يصلح خباء،ه ومنا من يتنضل، ومنّا من هو في جشرة، إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة جامعة فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنّه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإنّ أمتّكم هذه جعل عافيتها في أولها وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها وتجيء فتنة، يرقق بعضها بعضاً، وتجيء الفتنه فيقول المؤمن هذه مهلكتي، ثم تنكشف، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن:هذه..هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله وباليوم الآخر".(1)
7- "عن عروة بن الزبير قال حدثني كرز الخزاعي قال: قال أعرابي ثم يا رسول الله هل لهذا الإسلام من منتهى قال: نعم من يرد به خيراً من عرب أو عجم أدخل عليهم، قال: ثم ماذا يا رسول الله؟ قال: ثمّ تقع فتن كالظلم، قال: كلا والله يا رسول الله ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى والذي نفسي بيده لتعودن فيها أساود صبا يضرب بعضكم رقاب بعض، فخير الناس يومئذ مؤمن معتزل في شعب من الشعاب يتقي الله ويذر الناس من شره".(2)
8- "عن علي رضي الله عنه قال ثم جعلت في هذه الأمة خمس فتن فتنة عامة ثم فتنة خاصة ثم فتنة عامة ثم فتنة خاصة ثم تأتي الفتنة العمياء الصماء المطبقة التي تصير الناس فيها كالأنعام".(3)
ومن أنواع الفتن :
- فتنة المال:
__________
(1) - أحمد 6793 ، 2/191، مسلم 1842 ، 3/1742، باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول.
(2) - رواه ابن حبان 5956 ، 13 /287
(3) - رواه الحاكم في المستدرك 8350، 4/485 ، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.(1/7)
قال تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) الأنفال:28.وقال تعالى: )إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) التغابن:15، قال مقاتل: أي بلاء وشغل عن الآخرة قال ابن عباس فلا تطيعوهم في معصية الله تعالى،وقال الزجاج: أعلمهم الله عز وجل أن الأموال والأولاد مما يفتنون به وهذا عام في جميع الأولاد فإن الإنسان مفتون بولده لأنه ربما عصى الله تعالى بسببه، وتناول الحرام لأجله، ووقع في العظائم إلا من عصمه الله تعالى.(1) وقال تعالى: ومنهم من عاهد الله لئن أتانا من فضله لنصدقنّ ولنكونّن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون ) التوبة:75،76. وقال تعالى: ( فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الزمر:49. وفى الترمذي من حديث كعب ابن عياض قال سمعت رسول الله يقول:" إن لكل أمة فتنة،وفتنة أمتي المال".(2)
فتنة الجاه والمنصب:-
__________
(1) - إغاثة اللهفان: ابن قيم الجوزية 2/160.
(2) - الترمذي،2336 ، باب ما جاء أن فتنة هذه الأمة في المال، وقال هذا حديث حسن صحيح.(1/8)
قال تعالى: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً)الكهف:28ومن فتنة الجاه:الوظيفة،والمنصب، فكم من متواضع ركب أسباب التكبر بسبب وظيفته ومنصبه، وكم من عفيف استغل وظيفته فصار نهماً إلى المال بأي طريق جاءوكم من ورع في أدنى الشبهات فلمّا أصبح صاحب منصب أو جاه صار لا يتورع عن ارتكاب المحرمات، بل أصبح يزين الباطل لأقرانه ورؤسائه، ويستحل محارم الله بأدنى الحيل، ويتكبر على عباد الله تعالى.
وعن خطورة الفتنتين السابقتين -المال والجاه- قال صلى الله عليه وسلّم: "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه".(1) والمعنى أن حرص المرء على المال والشرف أشد فساداً للدّين من الذئبين الجائعين للغنم.
فتنة الزوجة:-
__________
(1) - رواه ابن حبان في صحيحه 3228، باب ما جاء في الحرص وما يتعلق به ، ذكر الإخبار عما يجب على المرء من مجانبة الحرص على المال والشرف، إذ هما مفسدان لدينه،الإمام أحمد في المسند 3/456-460، وهو في صحيح الجامع 5496.(1/9)
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) التغابن:14 وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه ".(1) قال ابن القيم في الآية: وقال تعالى(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ)، وليس المراد من هذه العداوة ما يفهمه كثير من الناس أنها عداوة البغضاء والمحادة، بل إنّما هي عداوة المحبة الصادة للآباء عن الهجرة والجهاد، وتعلم العلم والصدقة، وغير ذلك من أمور الدين وأعمال البر، كما في جامع الترمذي من حديث ابن عباس وقد سأله رجل عن هذه الآية؟ قال هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة فأرادوا أن يأتوا النبي فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم أن يأتوا رسول الله فلما أتوا رسول الله ورأوا الناس قد فقهوا في الدين همّوا أن يعاقبوهم، فأنزل الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ..الآية، (2).
فتنة الأولاد:-
__________
(1) - البخاري502 ، 11/196، باب الصلاة كفارة .مسلم 141، 1/128،باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا وإنه يأرز بين المسجدين.
(2) - سنن الترمذي 3317، 5/419، باب ومن سورة التغابن. قال الترمذى:هذا حديث حسن صحيح(1/10)
قال تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) الأنفال:28.وقال تعالى: )إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)التغابن:15، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) المنافقون:9، وقال صلى الله عليه وسلّم (الولد مجبنة مبخلة محزنة)(1).
إنّ متع المال والأولاد هي في نفس الأمر استدراج، وانتظار لا إكرام، وزيادة خسارة، ولهذا قال الله تعالى على لسان نوح: (قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً) نوح:21.
فتنة الاضطهاد والطغيان والظلم :-
__________
(1) - رواه الحاكم 4769،3/179، وقال:هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ابن ماجة في سننه باب بر الوالد والإحسان إلى البنات،3665،أبو يعلى 2/305، وهو في صحيح الجامع 7037.(1/11)
يمثلها أروع تمثيل قول الله عز وجل:( قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود،إذ هم عليها قعود، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد، الذي له ملك السموات والأرض والله على كل شيء شهيد) البروج:4-9. وروى البخاري عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة فقال عليه السلام:( قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد، من دون لحمه وعظمه ، فما يصده ذلك عن دينه"(1). ولذا فإنّ المسلم يستعيذ من فتنة الطغاة الظالمين، قال الله تعالى: (فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) يونس:85، وقال: (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (المؤمنون:28، وقال (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) القصص:21، (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امرأة فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً في الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)التحريم:11
وقال الشاعر(2):-
وصرخت في وجه الطغاة مغاضباً كفوا عن التعذيب والإيلام
ولله لمّا قطعتم لحمي أذىً وطحنتم قبل الممات عظام
ما زغت عن هدي النبي محمد كلا ولا نافقت للحكام
__________
(1) - البخاري رقم 3416، 3/1322.
(2) - وليد الأعظمي: أغاني المعركة ص 49-50.(1/12)
وممّن فتنه الحكاّم الظلمة ما حصل للإمام أحمد بن حنبل، ففي رمضان عام220هـ-على يد المعتصم-كانت محنة الإمام أحمد في القرآن،حيث ضرب بالسياط حتى شوي جسمه، وزال عقله، ولكنّه ثبت، ولم يجبهم ما طلبوه فأطلقوا سراحه. قال هلال بن العلاء: "شيئان لو لم يكونا في الدنيا لاحتاج الناس إليهما محنة أحمد بن حنبل، لولاها لصار الناس جهمية، ومحمد بن إدريس الشافعي فإنّه فتح للناس الأقفال".(1)
فتنة الدجال:-
__________
(1) - حلية الأولياء للأصفهاني: 9/181.(1/13)
إنّ من أعظم فتن المحيا فتنة الدجال قال صلى الله عليه وسلّم:"يا أيها الناس إنها لم تكن فتنة على وجه الأرض منذ ذرأ الله آدم أعظم من فتنة الدجال..يا عباد الله، أيها الناس: فاثبتوا فإني سأصفه لكم صفة لم يصفها إياه قبلي نبي.."(1) وكون فتنة الدجال الكذاب أعظم الفتن لما اقترن بدعواه للإلهية بعض الخوارق، وأتى بشبهات فتن بها الخلق. ثمّ أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة اللهم إنّي أعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع يقول اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال.(2) وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال:" من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال".(3) وفي أشدّ ما يلقاه المسلمون من الفتن حين يخرج الدجال، ويعيث يمينًا وشمالاً، فإنّ الوصية الأساسية لرسول الله صلى الله عليه وسلم التي يوصي بها أمته حينذاك "يا عباد الله اثبتوا ".(4) أي لازموه وداوموا عليه.
إنّ التقلبات التي تصيب القلوب سببها الفتن، فإذا تعرض القلب لفتن السّراء والضّراء فلا يثبت إلاّّ أصحاب البصيرة الذين عمّر الإيمان قلوبهم،وأخلصوا توحيدهم ودينهم لله تعالى .
__________
(1) - رواه ابن ماجة 2/1359 انظر صحيح الجامع 7752.
(2) - رواه مسلم رقم 588،589، 1/412.
(3) - رواه مسلم809 في صلاة المسافر، باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي.
(4) - رواه الحاكم 8508 ، 4/538،8614، 4/575،الترمذي 2240، 4/510، باب ما جاء في فتنة الدجال.سنن ابن ماجة 4070،2/1356.(1/14)
وعن مراحل ثبات القلوب وزيغها أمام الفتن يقول النبي صلى الله عليه وسلّم:"عرضت الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء،وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى يصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض،والآخر أسود مربداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً،ولا ينكر منكراً،إلا ما أشرب من هواه".(1) ومعنى(عرض الحصير):أي تؤثر الفتن في القلب كتأثير الحصير في جنب النائم عليه. ومعنى(مربداً) بياض شديد قد خالطه سواد، مجخياً: أي مقلوباً منكوساً.
ثانياً : الثبات أمام الأعداء( الثبات في الجهاد) :
__________
(1) - رواه الإمام أحمد 23328 ،5/386،504، ومسلم 144،1/129، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا وإنه بأرز بين المسجدين، واللفظ له.(1/15)
ومن صور الثبات:الثبات في ساحة المعارك كما ثبت الرّبيّون من الأنبياء وأتباعهم، وكان قولهم:(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا)آل عمران:147( قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) البقرة:250، وقال:(ْوَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) النساء:66، وقال: (إذ يوحي إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي في قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) الأنفال:12، وقال:(يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) إبراهيم:27 وقال: (قل نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) النحل:102 وقال:(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ) الأنفال:11، وقال:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) محمد:7(1/16)
وكما ثبتت الفئة الصابرة تحت إمرة طالوت الذين قال الله فيهم:(وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا) البقرة:250، وفي ذلك توجيه للمؤمن أن يلتجئ إلى الله طالبًا منه التثبيت، وخوطب أبناء هذه الأمة بأمر الله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا)الأنفال:45، يقول سيد قطب في ظلاله:"فأمّا الثبات فهو بدأ الطريق إلى النّصر فأثبت الفريقين أغلبهما، وما يدري الذي آمنوا أنّ عدوهم يعاني أشدّ مما يعانون، وأنّه يألم كما يألمون، ولكنه لا يرجو من الله ما يرجون، فلا مدد له من رجاء في الله يثبّت أقدامه وقلبه! وأنهم لو ثبتوا لحظة أخرى فسينخذل عدوهم وينهار، وما الذي يزلزل أقدام الذين آمنوا وهم واثقون من إحدى الحسنيين: إما الشهادة وإما النصر؟ بينما عدوهم لا يريد إلاّ الحياة الدنيا، وهو حريص على هذه الحياة التي لا أمل له وراءها، ولا حياة له بعدها، ولا حياة له سواها!؟".(1)
واعلم أخي المسلم أنّ الكبائر في ديننا الفرار من الزحف، ولذلك كان من الوصايا التي أوصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل:"وإياك والفرار من الزحف وإن هلك الناس، وإذا أصاب الناس موتان، وأنت فيهم فاثبت".(2) لأنّ الثبات يزيد المؤمنين قوة، ويوقع في نفوس العدو خوفاً ورهبة وتزعزع المواقف التي يخذل الصديق ويشمت العدو، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمّق هذا المعنى يوم الأحزاب، وهو ينقل التراب، وقد وارى التراب بطنه، وهو يقول:"لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزل السكينة علينا، وثبت الأقدام إن لاقينا، إنّ الأعداء قد بغوا علينا، إذا أرادوا فتنة أبينا"(3)
__________
(1) - في ظلال القرآن ج/1515.
(2) -رواه أحمد 22128 ، 5/238،
(3) - رواه البخاري2680، 3/1043،2870، 3/1103 باب حفر الخندق. باب الرجز في الحرب ورفع الصوت في حفر الخندق.(1/17)
إنّّه مطلوب من صنّاع القرار مهما كان دورهم أو موقعهم في هذه الأمة أن يثبتوا بدأً من أعلى سلطة فيها، سواء كانت صلاحيتها سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية،أو دعوية، عليهم جميعا أن يثبتوا على المبادئ التي أرساها الدين،ليقيموا على شرعة الله ومنهاج القويم- أسس حياتهم وتفاصيل، ومعاملاتهم، وحركتهم، وبناء مواقفهم ومطلوب منهم الثبات على ولاء المؤمنين، ومعاداة الأعداء الذين يكيدون الأمة الإسلام،أو يظاهروا عليها أعداءها،وهذا الأمر من أهمّ عوامل النّصر والتمكين، فلو أحسن المسلمون حكاما وقادة، وعاملين، وشعوبا وجماعات وحركات إسلامية استخدام هذا السلاح القويّ لهزموا عدوهم شرّ هزيمة. المؤمنون هم أصبر الناس على البلاء، وأثبتهم في الشدائد، وأرضاهم نفساً في الملمات، عرفوا قصر عمر الدنيا بالنسبة لعمر الخلود فلم يطمعوا أن تكون دنياهم جنة قبل الجنة (قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى)النساء: 77. (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور)آل عمران: 185. وعرفوا سنة الله في هذا النوع من الخليقة (الإنسان) الذي ابتلي بنعمة حرية الإرادة، والاستخلاف في الأرض، فلم يطمعوا أن يكونوا ملائكة أولي أجنحة (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه(الإنسان:2، (لقد خلقنا الإنسان في كبد). البلد: 4.
وعرفوا من سنن أنبيائهم ورسلهم أنهم أشد الناس بلاء في الحياة الدنيا، وأقل الناس استمتاعاً بزخرفها، فلم يطمعوا أن يكونوا خيراً منهم، ولهم فيهم أسوة حسنة (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم، مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله، ألا إن في نصر الله قريب)
البقرة214
قال ابن القيم: يا مخنث العزم...الطريق تعب فيه آدم، وناح فيه نوح، وألقي في النار إبراهيم، وتعرض للذبح إسماعيل، ونشر بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحيى.
ثالثاً : الثبات على منهج الإسلام:-(1/18)
قال تعالى: )ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) الجاثية:1، وقال:(ِفَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ في مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ) المائدة:48
وقال الله تعالى:( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً ) الأحزاب:23، إنّ الرجال الصّادقين مبادئهم ثوابت، وهي عندهم أغلى من أرواحهم وما يملكون، لديهم إصرار لا يلين، لا يعرفون التنازل.قال الخواص الصبر الثبات على أحكام الكتاب والسنة.(1)
إنّ صاحب الثبات على دين الله شمعة مضيئة في الطريق المظلم لا يتغيّر ولو تغيّر كلّ الناس، ولا يتبدل بتبدل الأحوال؛ بل إنّه قد جعل كل حياته بذل وتضحية لله تعالى، تراه فتى متحمساً. فشاباّ متوقداً نشاطاً. فكهلا متحفزاً لفعل الصالحات. فشيخاً يسارع في الخيرات، ويسابق في أبواب البر والمعروف.
رابعاً : الثبات عند الممات:
__________
(1) - عدة الصابرين:ابن القيم 1/9.(1/19)
لقد أمر الله تعالى بالثبات علي الإسلام إلى الممات، فقال:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)آل عمران:102وهو وصية نبي الله إبراهيم إمام الحنفاء لبنيه، ويعقوب من بعده كما قال تعالى:(وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) البقرة:132. فالمؤمنون الصالحون يثبتهم الله تعالى عند الممات، وقال الله فيهم:(إنّ الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون ) فصلت:30.إنّ أهل الصّلاح والسنّة يوفقهم الله عز وجل للثبات عند الممات، فينطقون بالشهادتين. وقد يُرى من هؤلاء من تهلهل وجهه، أو ظهرت منه رائحة طيبة،وهذا نوع استبشار عند خروج أرواحهم (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) إبراهيم:27. وأمّا أهل الكفر والفجور فإنّهم يحرمون الثبات في أشدّ الأوقات كربة فلا يستطيعون التلفظ بالشهادة عند الموت، وهذا من علامات سوء الخاتمة،(وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ في غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) الأنعام:93 ، قد يقال للرجل عند موته : قل لا إله إلا الله، فيحرك رأسه يميناً وشمالاً،يرفض قولها، أو لعله لا يدري ما يقول،وآخر عند موته:يدندن بألحان أو كلمات أغنية. لأنّ هذه الأمور شغلتهم عن ذكر الله في الدنيا، واستولت على قلوبهم.(1/20)
خامساًً:الثبات بالمداومة على الطاعات:-
من أهمّ صور الثّبات المداومة على الطاعات، فالمطلوب في بعضها المثابرة والمداومة عليها، قال صلى الله عليه وسلّم:" من ثابر على ثنتي عشرة ركعة من السنة بنى الله له بيتًا في الجنة".(1) وفي رواية تقول أم حبيبة راوية الحديث ، ويقول كل من عمرو بن أوس والنعمان بن ثابت-من رجال السند: "ما تركتهنَّ منذ سمعتهنَّ ".(2).وتقول عائشة - رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"وكان يقول أحب العمل الله ما داوم عليه صاحبه".(3) "وكانت عائشة إذا عملت العمل لزمته".(4) وحين سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: " أدومه وإن قلّ"، وكان آل محمد صلى الله عليه وسلم إذا عملوا عملاً أثبتوه".(5)
سادساً:الثبات في الشدائد والابتلاءات:-
__________
(1) - مسلم 728، 1/502، باب فضل السنن الراتبة قبل الفرائض وبعدهن وبيان عددهن، رواه الترمذي 414، 2/273 باب ما جاء فيمن صلى في يوم وليلة ثنتا عشرة ركعة من السنة وماله فيه من الفضل، وابن ماجة1140،1/361 باب ما جاء في ثنتي عشرة ركعة من السنة.
(2) - رواه مسلم 728،11/502، باب فضل السنن الراتبة قبل الفرائض وبعدهن وبيان عددهن.
(3) - رواه مسلم 1156، 2/811 باب صيام النبي صلى الله عليه وسلم رمضان واستحباب أن لا يخلي شهرا عن صوم.
(4) - رواه مسلم 782،1/541، باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره.
(5) - رواه مسلم 1156 ، 2/811،باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره.(1/21)
إنّ الحياة لا تخلو من الشدائد، فهي كثيرة التكاليف،محفوفة بالأخطار والمشقّات.ذلك أنّ طبيعة الحياة الدنيا، وطبيعة البشر فيها، تجعلان من المستحيل أن يخلو المرء فيها من كوارث تصيبه،وشدائد تحل بساحته، فكم من يخفق له عمل أو يخيب له أمل. أو يموت له حبيب. أو يمرض له بدن أو يفقد منه مال، (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) البقرة:155، ثمّ إنّ المؤمن لابد أن يبتلى في دينه وإيمانه من أجل اختباره وامتحانه،ولن يتوقف الابتلاء عنه، بل دائم هو التعرض له،إذ الدنيا كلها دار ابتلاء،(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) البقرة:155،(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) محمد:31، (لَتُبْلَوُنَّ في أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) آل عمران:186،وما عليه إلا أن يثبت صابراً محتسباً،مع علمه أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له،وقد يكون الابتلاء محبة من الله تعالى (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) سورة صّ:42-44، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن(1/22)
العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده ثم صبره على ذلك حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله تعالى".(1) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم :"إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضى فله الرضا ومن سخط فله السخط".(2) وفي رواية أحمد " ثم إذا أحب الله قوما ابتلاهم فمن صبر فله الصبر ومن جزع فله الجزع".(3)
قال الشاعر يصف الدنيا:
جبلت على كدر وأنت تريدها صفواًً من الآلام والأكدار! ومكلّف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار
__________
(1) - أحمد في المسند 22392 ، 5/272، أبو داود 309، 3/183، أول كتاب الجنائز، باب الأمراض المكفرة للذنوب، ابن ماجة 4030، 22/1338.
(2) - الترمذي 2396، 4/601، باب ما جاء في الصبر على البلاء.
(3) - المسند 23691، 5//429.(1/23)
... يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عجباً لأمر المؤمن،إنّ أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له".(1) وإذا كان هذا سنّة الله عز وجلّ في الحياة عامة، وفى النّاس كافّة، فإنّ أصحاب الرسالات خاصة أشد تعرضاً لنكبات الدنيا وويلاتها، إنّهم يدعون إلى الله فيحاربهم دعاة الطاغوت، وينادون بالحق فيقاومهم أنصار الباطل، ويهدون إلى الخير فيعاديهم أنصار الشر، ويأمرون بالمعروف فيخاصمهم أهل المنكر...وبهذا يحيون في دوّامة من المحن، وسلسلة من المؤامرات والفتن، سنة الله الذي خلق آدم وإبليس، وإبراهيم ونمرود، وموسى وفرعون، ومحمداً وأبا جهل قال الله تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) الأنعام: 112، قال الله تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً)الفرقان:31،هذا هو شأن الأنبياء.وشأن ورثتهم. والسائرين على دربهم. والداعين بدعوتهم. مع الطغاة الصادين عن سبيل الله (وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد) البروج:8. يقول ابن القيم في هذا المجال كلمة جامعة بليغة:"إنّ أول الأمر ابتلاء وامتحان، ووسطه صبر وتوكل،وآخره هداية ونصر".ونجد هذا في قوله تعالى:(أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) العنكبوت:2
سابعاً: الثبات في أيام الصبر:-
__________
(1) - ابن حبان 2896، 7/155، ذكر إثبات الخير للمسلم الصابر ثم الضراء والشاكر ثم السراء.(1/24)
وهي التي وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:" الصبر فيهنَّ مثل القبض على الجمر".(1) وفي رواية:" يأتي على الناس زمان الصابر فيه على دينه،كالقابض على الجمر".(2) ومن ذا الذي يثبت قابضًا على الجمر؟! لذلك بشّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنّ الثابت من هؤلاء له أجر خمسين من الصحابة:" فإنّ وراءكم أيام الصّبر، صبر فيهن كقبض على الجمر للعامل فيهنّ أجر خمسين يعمل مثل عمله".(3) وعن أبي سعيد الخدري: ثمّ إنّ ناساً من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ثمّ سألوه فأعطاهم حتى إذا نفد ما عنده قال:" ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم ومن يستعفف يعفّه الله ، ومن يستغن يغنه الله،ومن يصبر يصبره الله، وما أعطي أحد من عطاء خير وأوسع من الصبر"، قال تعالى:(وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)الأنفال:17، قال ابن الهيثم: "البلاء يكون حسنا، ويكون سيئا وأصله المحنة، والله عز وجل يبلو عبده بالصنع الجميل ليمتحن شكره، ويبلوه بالبلوى التي يكرهها ليمتحن صبره".(4)
أسباب عدم الثبات واليقين:-
1- النشأة الأسرية:
قد ينشأ المرء بين أبوين سمتهما عدم الثبات أو اليقين، وحينئذ يسري ذلك إلى نفسه، فإذا به صورة منهما، وهنا يتجلّى دور التزام الآباء بأخلاق وآداب الإسلام، وثباتهم على القيام بتكاليفه،ولو روعي ذلك لجنّب الآباء أبناءهم الانحراف والزيغ، دون الحاجة إلى خطب، أو مواعظ.
2- صحبة أقران السوء:
__________
(1) - رواه الترمذي3058،5/257.
(2) - رواه الترمذي2260، 4/526.
(3) - أخرجه الحاكم في المستدرك 7912،وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وابن حبان في موارد الظمآن1851 باب لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة،والبيهقي في السنن الكبرى10/91.
(4) - تفسير القرطبي 1//3387.(1/25)
وهي الصحبة العارية من هذا الخلق الإسلامي، وقد يعيش المرء في وسط غير ملتزم بهذا الخلق الإسلامي، فإذا به يحاكي ويتأسى لاسيما إذا كان ضعيف الشخصية، غير واثق من نفسه،ومن تصرفاته وسلوكه، وهنا يأتي دور الارتماء بين أحضان الصحبة الطيبة الملتزمة بالمنهاج الإسلامي، إنّ هذا لو وقع، لتنبّهت المشاعر والأحاسيس، والجوارح، ولثبت المرء وما زلت قدمه عن الحق.عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إنّما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك، ونافخ الكير، فحامل المسك إمّا أن يحذيك، وإمّا أن تبتاع منه، وإمّا أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إمّا أن يحرق ثيابك،وإما أن تجد ريحا خبيثة".(1) وعن علي رضي الله عنه في قوله تعالى: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)الزخرف:67 قال:"خليلان مؤمنان، وخليلان كافران، فتوفي أحد المؤمنين وبشر بالجنة فذكر خليله،فقال: الّلهم إن فلانا خليلي كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك ،ويأمرني بالخير، وينهاني عن الشر، وينبئني أني ملاقيك، اللهم فلا تضله بعدي حتى تريه مثل ما أريتني، وترضى عنه كما رضيت عني، فيقال له اذهب فلو تعلم ماله عندي لضحكت كثيرا وبكيت قليلا، قال، ثم يموت الآخر، فتجتمع أرواحهما، فيقال ليثن أحدكما على صاحبه، فيقول كل واحد منهما لصاحبه نعم الأخ ونعم الصاحب ونعم الخليل، وإذا مات أحد الكافرين وبشر بالنار، ذكر خليله، فيقول: اللهمّ إنّ خليلي فلانا كان يأمرني بمعصيتك ومعصية رسولك ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير، ويخبرني ملاقيك اللهمّ فلا تهده بعدي حتّى تريه مثل ما أريتني، وتسخط عليه كما سخطت علي قال: فيموت الكافر الآخر فيجمع بين أرواحهما، فيقال ليثن أحدكما على صاحبه...".(2)
__________
(1) - البخاري 1995 ، 2/741، باب في العطار وبيع المسك، مسلم 2628،4/2026، باب استحباب مجالسة الصالحين ومجانبة قرناء السوء.
(2) - تفسير ابن كثير 4/135.(1/26)
3- الغفلة أو النسيان:
وقد تؤدي الغفلة، أو النسيان بالإنسان إلى عدم الثبات، وحينئذ يجب أن يتعلم من ذلك درسًا لا ينساه على مدار الزمان فلا يتكرر منه هذا الخطأ، يقول ابن القيم:" فمن كانت الغفلة أغلب أوقاته كان الصدأ متراكباً على قلبه، وصداه بحسب غفلته، وإذا صدئ القلب لم تنطبع فيه صور المعلومات على ما هي عليه، فيرى الباطل في صورة الحق والحق في صورة الباطل، لأنّه لمّا تراكم عليه الصدأ اظلم فلم تظهر فيه صورة الحقائق كما هي عليه فإذا تراكم عليه الصدأ وأسود وركبه الران فسد تصوره وإدراكه، فلا يقبل حقاً ولا ينكر باطلا".(1)
__________
(1) - الوابل الصيب 1/60.(1/27)
قال تعالى في الغفلة:(وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا في غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ) الأنبياء:97، وقال: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ في غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) مريم:39،وقال في النسيان:(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ) الكهف:57، )قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) طه:126(وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا) الجاثية:34،يقول ابن تيمية:" بنسيانه لربه تعالى ولما أنزله،قال تعالى:(ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون)، وقال تعالى في حق المنافقين:( نسوا الله فنسيهم)..وقوله:(ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم) يقتضي أن نسيان الله كان سبباً لنسيانهم أنفسهم، وأنهم لمّا نسوا الله عاقبهم بأن أنساهم أنفسهم".(1) وصدق صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الخطاءين التَّوَّابُونَ".(2).وعلاج الغفلة والنسيان دوام التذكير، وذكر الله عز وجل، قال تعالى: (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً) الكهف:24(وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)سورة الذاريات:55،(فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى) سورة الأعلى:9.وتقدير العواقب المترتبة على عدم التثبت في الدنيا والآخرة: فإنّ هذا التقدير من شأنه أن يبعث الإنسان من داخله، ويحمله على الثبات والصمود وعدم التراجع .
__________
(1) - مجموع الفتاوى : 16/348.
(2) - رواه الترمذي2499، 4/659 وابن ماجة، 4251،2/1420،الحاكم 7617، 4/272 .(1/28)
4- الإعجاب بالنفس:
ومن أسباب اضطراب القلب وعدم ثباته:هو الإعجاب بالنفس والاتكال على العمل، والعجب بالنفس أمره خطير قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لو لم تكونوا تذنبون لخشيت عليكم ما هو أكبر منه العجب".(1)
وكم من معجب بنفسه لم يجتهد في تزكيتها،وأهمل تربيتها ومحاسبتها، ولم يتزود لوعورة الطريق وآلامها، فأنهار وضعف مع أول محنة أو شدة لاقته، والذي يطرد خاطر العجب:مجاهدة النفس،وإلزامها التواضع، وإلجامها عن الغرور والعجب، واستخراج حظ الشيطان منها( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)العنكبوت:69 (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) التوبة:16، وأن يعلم أنّ الأعمال بالخواتيم، وليس بواقع الحال ذلك ؛ فإذا كان كذلك لم يغتر بظاهر صلاح حاله،وظل مستيقظا حذراً، (يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) الحديد:14
__________
(1) - مجمع الزوائد، 10/369، باب ما جاء في العجب عن أنس، رواه البزار وإسناده جيد.(1/29)
وعن عبد الله بن مسعود قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق:" إنّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه في أربعين يوما ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الله إليه الملك فينفخ فيه ويؤمر بأربع يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد فوالذي لا إله غيره إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ثمّ يسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النّار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ثمّ يسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل الجنة فيدخلها".(1) وعن أنس رضي الله عنه أنّ رسول الله عليه السلام قال "لا عليكم أن لا تعجبوا بأحد حتى تنظروا بم يختم له، فإنّ العامل يعمل زمانا من عمره أو برهة من دهره بعمل صالح لو مات عليه دخل الجنة، ثم يتحول فيعمل عملا سيئا، وإن العبد ليعمل البرهة من دهره بعمل سيئ لو مات عليه دخل النار، ثم يتحول فيعمل عملا صالحا، وإذا أراد الله بعبد خيرا استعمله قبل موته " قالوا يا رسول الله وكيف يستعمله؟قال:"يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه"(2).يقول ابن القيم:" لما كان العمل بآخره وخاتمته لم يصبر هذا العامل على عمله حتى يتمّ له، بل كان فيه آفّة كامنة ونكتة خذل بها في آخر عمره، فخانته تلك الآفة، والداهية الباطنة في وقت الحاجة،فرجع إلى موجبها، وعملت عملها، ولو لم يكن هناك غش وآفة لم يقلب الله إيمانه".(3)
5- الحماس، أو العاطفة الإسلامية الجياشة المتأججة:
__________
(1) - رواه الترمذي 2137، 4/446، باب ما جاء أن الأعمال بالخواتيم، قال أبو عيسى وهذا حديث حسن صحيح.
(2) - مجمع الزوائد 7/211، باب الأعمال بالخواتيم، رواه الإمام أحمد في المسند12235، 3/120.
(3) - الفوائد ص213.(1/30)
ذلك أنّ الحماس أو العاطفة ما لم تكن موزونة بميزان الشرع،ومحكومة بلجام العقل، فإنّها تسلب صاحبها الإدراك التام والوعي والبصيرة، وقد يستعجل بلوغ الغاية أو الهدف، فإذ به يخطئ كثيراً، ثمّ ما يلبث أن يتراجع ولا يثبت، فيسقط قبل الوصول. فالحماس يجب أن يكون منضبطا بالوعي المبصر،والبصيرة الواعية،(قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) يوسف:108
6- اليأس:-
اليأس من معوقات الثبات في النفس.فقد ييأس بعض الناس من هداية قلبه فيكون هذا سبباً للزيغ والانحراف.وقد ييأس من هداية الناس فيفضي ذلك إلى ترك العمل الصالح، والجهاد والدعوة إلى الله تعالى ،وهذه هاوية أخرى ولا ثمرة من اليأس إلا الهم والغم وقلة العمل. قال الله تعالى:(ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون)يوسف:87، (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) الرعد:31قال البراء بن عازب:إنّ الرجل يصيب الذنب فيلقي بيديه،ويقول قد بالغت في المعاصي ولا فائدة في التوبة فييأس من الله فينهمك بعد ذلك في المعاصي فالهلاك اليأس من الله".(1) وقال جعفر بن محمد: ولا تيأس فإنّ اليأس كفر، لعل الله يغني عن قليل، ولا تظنن بربك ظنّ سوء، فإنّ الله أولى بالجميل.(2)
وقال الشاعر:-
إذا اشتملت على اليأس القلوب وضاق لما به الصدر الرحيب
وأوطأت المكاره واطمأنت وأرست في أماكنها الخطوب
ولم تر لانكشاف الضرّ وجهاً ولا أغنى بحيلته الأريب
__________
(1) - تفسير القرطبي 2/362.
(2) - البيهقي في شعب الإيمان 10016،7/207.(1/31)
أتاك على قنوط منك غوث يمن به اللطيف المستجيب
وكلّ الحادثات إذا تناهت فموصول بها الفرج القريب
وقال شاعر آخر:
ولربّ نازلة يضيق بها الفتى ذرعاً وعند الله منهاالمخرج
كملت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكان يظنها لا تفرج
والبديل لليأس هو: الأمل في الله تعالى، والصبر، فهما خلقان حميدان يحملان المرء على مواصلة السير نحو تحقيق المقاصد، ومن قلّ صبره لم يصل إلى مراده،وما من طريق إلا وسالكه يحتاج إلى الصبر.والإمامة في الدين ثمرة من ثمرات استقرار القلب وثباته،ولا ينال ذلك إلا بالصبر،(وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) السجدة:24. (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب) سورة البقرة:214.
7- الجهل بأساليب أو طرق الثبات، أو الابتعاد عنها:
وقد يجهل بوسائل أو طرق الثبات، أو يبتعد عنها، فيؤدي ذلك إلى عدم الثبات،وسرعة والانحراف عن الحق، والسقوط في طريق الغواية.
8- ضعف الرّؤية الإيمانية لمفهوم الصراع بين الحقّ والباطل: ...(1/32)
حينما يستعلي الباطل وتكون له الغلبة الظاهرية، ثمّ بسبب غياب الرؤية المستقبلية، وضعف الإيمان بالوعد الإلهي بالنصر والغلبة لأصحاب الحق، وبأنّ الحرب سجال:( )وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) الأنفال:59، (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) آل عمران:140. إنّ غلبة الباطل في جولة معينة لا يعني أنّ هذه الغلبة مطلقة ودائمة، أو بأنّ الحق لن يستطيع مقاومته، وعليه بالتالي أن يخضع ويستسلم، كلاّ بل على أصحاب الحق أن يستعيدوا ثقتهم أولاً في ربهم عز وجل، ثم في أنفسهم ثم يستعدوا للجولة القادمة، وهذا ما يُلمّح إليه قوله تعالى بعد ذلك: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ في سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) الأنفال:60.
9- الهروب من القروح:(1/33)
ومن ذلك الهروب من القروح ومن الطرق الشائكة وآلامها، والنجاة من الابتلاءات من أجل تحقيق النصر، (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) آل عمران:14، (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) البقرة:214.
وهذا الأمر يدعو أو يدفع البعض إلى البحث عن الوسائل السهلة والناعمة، حتى وإن أدّى بها إلى الوقوع في أحضان قوى الطاغوت ومسايرتها وفق الشروط التي تفرضها وتقترحها. وهؤلاء يريدون منه عدم الثبات على الحق، بل يريدون منهم الميل والسقوط (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً) النساء:27.
10- التشوق إلى تحقيق النصر والتمكين بأي وسيلة ممكنة:
ومنه التشوق إلى تحقيق النصر والتمكين بأي وسيلة ممكنة، وفي أسرع الآجال، ولا شك أن نشوة النصر تفقد الإنسان الكثير من الاتزان، وتغيّب عنه المقاييس الإيمانية التي يزن بها الأمور، فتختلط عليه الأمور لتصبح الأهداف وسائل والوسائل أهدافاً، أو بعبارة العصر يصبح الاستراتيجي والمرحلي شيئاً واحداً.
11- إيجاد بعض الخصوم:(1/34)
ومنه إيجاد بعض الخصوم المصطنعين المعوّقين، وذلك من أجل عرقلة المسيرة الصحيحة،وتحريفها عن اتجاهها الأصيل، فتصبح المعركة الكبرى مع هذه الفئات المصطنعة، وتُنسى المعركة المصيرية والجوهرية مع قوى الطاغوت، التي تتحول في هذه الحالة إلى حكم يُحتكم إليه، ويعترف له الجميع بالشرعية. في الوقت الذي كان من المفروض على الجميع أن يكون واعياً ومتسلحاً بمجموعة الرؤى والتصورات الإيمانية الصحيحة، التي هي ضروريّة من أجل الثبات والحفاظ على المبادئ.
12- الجهل بالسنن الربانية:-
ومن بين الأسباب التي تجعل البعض يضعف فيخضع ويتنازل،أو ينقاد للواقع الجاهلي القائم ولا يثبت: الجهل بالسنن الربانية، فإنّ الله سبحانه وتعالى خلق الكون وما فيه لحكمة وغاية لأنه الحكيم الخبير, وأجراه على سنن وقوانين، منها الثابت ومنها المتغير وهو كله خاضع لحكمه ومشيئته النافذة,والذي يهم ملاحظته من السنن: السنن الشرعية المتعلقة بالأمر والنهي الرباني، سنن اجتماعية متعلقة بنشوء الدول وقيام الحضارات وسقوطها, واتجاهات المجتمعات السلوكية والاقتصادية والفكرية...وسوف نعرض لثلاث سنن مهمة في هذا الجانب:-(1/35)
أ- سنة الابتلاء:وهي سنة جارية وملحوظة في أحداث السيرة النبوية, فقد أوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم, وابتلي أصحابه ووقع عليهم بلاء عظيم خاصة في المراحل الأولى من الدعوة, فصبروا وصابروا، حتى أنجاهم الله ونصرهم, يقول تعالى:(أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)العنكبوت:2-3 (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) البقرة:214 فالابتلاء سنة ربانية كما تقرر الآيات,ويبتلى الصالحون, بل الأنبياء " فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أي الناس أشدّ بلاء؟ قال: الأنبياء, ثم الأمثل فالأمثل, فيبتلى الرجل على حسب دينه, فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة".(1)
__________
(1) - رواه ابن حبان،7/161،2901، باب ذكر الأخبار بأن المرء عندما امتحن بالمصائب عليه زجر النفس عن الخروج إلى ما لا يرضي الله جل وعلا دون دمع العين وحزن القلب.(1/36)
وهكذا جرت سنة الله في ابتلاء المؤمنين لتمحيصهم ورفع درجاتهم, وتمييز الصادق من غيره, ويكون هذا الابتلاء تربية على الثبات في المحن والمواقف الصعبة, بل وحتى في السراء وإفاضة الخيرات والنصر تكون ابتلاء وفتنة, ليتميز الصادق والملتزم بدينه ممن تبطره نشوة النصر, وتنسيه نعمة السراء فضل الله عليه, فيتجاوز أمر الله وينساه, قال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) الأنبياء:35، (وَقَطَّعْنَاهُمْ في الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)الأعراف:168(هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً) الأحزاب:11 ،وقد نجح المؤمنون الأوائل في أنواع الابتلاءات, وقاموا بما أوجبه الله عليهم من الصبر على البلاء, والمدافعة للأعداء, وبذل الأسباب المشروعة في رفع البلاء, وعدم الاستكانة والرضى بالواقع حتى يسر الله لهم الخروج من المحنة, كما كانت فتنة السراء والنصر بعد الهجرة إلى المدينة وظهور الدين ميدانا آخر فنجحوا في الجميع ولله الحمد, فتحقق لهم بذلك التمكين في الأرض ونشر الدين حتى أظهره الله على الدين كله, وكان هذا بعون من الله ثم بجهد منهم وعمل, وأخذ بالأسباب المعنوية والمادية المؤدية إلى ذلك, فما أحوج المسلمين اليوم وهم يجابهون أعداءهم إلى فقه هذه السنة الربانية حتى يجتازوا الفتنة والابتلاء بنجاح, ويحققوا النصر على عدوهم في الواقع,لكن لن يحصل ذلك حتى تنتصر المبادئ,وتستجيب النفوس لداعي الحق, وتحصل عندهم الرغبة والإرادة للنصر, والتمكين للدين الذي قَدّر الله أنه سيظهر على الدين كله لو كره المشركون, لكن لا بد من جهد وعمل وأخذ بالأسباب وإرادة قوية حتى تتحقق السنة الربانية والوعد الإلهي.(1/37)
ب- سنة المدافعة للباطل وأهله:
إنّ الصراع بين الحق والباطل سنة ربانية جارية كما قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) الأنعام:112، فالأنبياء وهم أكرم الخلق وأعدل الخلق وُجدَ لهم أعداء وخصوم, يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق. وقد أمر الله المؤمنين بالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله, وتضعف شوكة الباطل وتنكسر, وحتى تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى, قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً) النساء:76، ففي هذه الآية وآية سورة الفرقان التي ذكرناها قبل إشارة إلى ضعف الباطل وأهله إذا قام أهل الحق بواجبهم في مدافعتهم وقتالهم, لأن الله مع الذين اتقوا فقوله في الآية الأولى:(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً) الفرقان:31،وفي الآية الثانية:(إن كيد الشيطان كان ضعيفاً) إشارة إلى ضعف كيد الشيطان الذي يتولاه الكفار والمشركون, فإذا كان وليهم ضعيفا فهم أضعف وأذل, وهذا يعطي المؤمن قوة على العمل بما أوجبه الله عليه من مدافعة الباطل وأهله, كما يعطيه ثقة في نصر الله له, ومن ثم يعتز بدينه ويتمسك به.(1/38)
وهذا هو الذي قام به الصحابة رضي الله عنهم في العهد المكي, فقد وقع عليهم الاضطهاد الشديد من المشركين في مكة, ولم يكن بمقدورهم المواجهة العسكرية ولم يؤمروا بالجهاد بعد, وإنما أمروا بالصبر والتحمل, فصبروا رضي الله عنهم وتحملوا تلك المرحلة, ولكن مع الصبر والتحمل كانوا يسعون لإزالة هذا الواقع وعدم استمراره, فجاءت الهجرة الأولى إلى الحبشة, ثم ذهابه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف, ثم العرض على القبائل في المواسم, كلها بحث عن مخرج من ذلك الواقع حتى قيض الله طائفة من الأوس والخزرج لقبول دعوة الحق, ثم المبايعة على النصرة ليلة العقبة, وأعقب ذلك الهجرة إلى المدينة, فخرج المسلمون من الاضطهاد ونصرهم الله بإخوانهم في المدينة عندما قاموا بالأسباب الموجبة لذلك.
والملاحظ أنّ الصحابة تحملوا مرحلة الاضطهاد وواجهوها بالصبر ولكن مع عدم الاستكانة والرضى بالواقع, فأخذوا يعملون لإزالة ذلك الواقع حتى تمكنوا من رفعه وإزالته, وهو درس بالغ ينبغي أن يفهمه المسلمون اليوم فهم بحاجة إلى الصبر لمواجهة الواقع الذي يعيشونه، غير أنه لا ينبغي أن يتحول صبرهم إلى استكانة ورضى بالواقع واستسلام له فإن هذا خلاف سنة الله في المدافعة بين الحق والباطل.(1/39)
ج – سُنّة التمكين:- وهذه السُّنة بحاجة إلى فقه المسلمين لها, والعمل على نشر هذا الفقه بينهم, لأنه وسيلتهم في الانتصار على العدو إذا أخذوا بأسباب التمكين والثبات على المنهج الرباني, فالتمكين في الأرض هبة من الله وفق مشيئته لمن سلك الأسباب الشرعية المؤدية إليه, قال تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)آل عمران:26، فالتمكين بيد الله سبحانه وتعالى وتحت مشيئته, وقد قضى بعدله ورحمته أن التمكين الدائم هو لأهل طاعته, لكن لا يحصل إلا بتحقق شروط والقيام بواجبات وانتفاء موانع.(1/40)
قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) النور:55، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات, هم الذين صححوا معتقدهم وأقاموه على وفق ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, وطريقة السلف الصالح وفهمهم , ثم قاموا بعمل الواجبات الشرعية والالتزام بها, وابتعدوا عن الشرك وتوابعه هؤلاء قد وُعدوا من الله وعداً لا يخلف, بأنه يستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم من أتباع الرسل عليهم السلام, ويمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وهو الإسلام.وتمكين الدين يكون: بتمكينه في القلوب وبنشره وتعليمه, وبتمكينه من تصريف أمور الحياة والهيمنة عليها وذلك بمراعاة أحكامه وتنفيذها في الواقع, فإذا فعلوا ذلك فقد اكتسبوا شروط التمكين وحصل لهم الأمن والاستخلاف, وانتفى عنهم الخوف. ثمّ كرّر الله سبحانه الشرط الأساسي في الاستخلاف وأكّد عليه بقوله: (يعبدونني لا يشركون بي شيئا) ثم قال سبحانه وتعالى في الآية التي بعدها:(وأقيموا الصلاة وآتو الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون)، هذه هي عُدّة النصر ومتطلبات التمكين, كما قال جل شأنه:(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ في الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) الحج:41 فهذا هو واجب من مكنه الله وأعطاه سلطة وقدرة أن يقوم بتنفيذ شرع الله وحراسته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى يستمر تمكين الله تعالى له, فإن الأمور كلها بيد الله ويعطيها سبحانه وتعالى من(1/41)
يستحقها ممن قام بعبادته وحده, ونفذ شرعه في واقع حياته, فالتمكين ليس من أجل الحكم والملك والغلبة وقهر الآخرين والاستئثار بالدنيا, إنما هو من أجل استخدامه في الإصلاح والبناء, وتحقيق المنهج الذي ارتضاه الله لعباده, ودفع الظلم والفساد وتحقيق العدل بين العباد.
وقد يحصل التمكين المؤقت لمن يمتلك أسبابه المادية لكنه لن يكون تمكينا تاما ولن يكون مستمرا بل تنتابه الشرور والمنغصات, ولن يكون فيه الأمن الحقيقي ولا البركة في الأرزاق والأولاد، قال تعالى:(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) طه:.124
وهذه السنن الثلاث:-الابتلاء,المدافعة للباطل,التمكين- بينها ترابط فإنّ أهل الإيمان الحق يبتلون في أنفسهم وأهليهم, ويعاديهم أهل الباطل من الكفرة والمنافقين والظالمين, فإذا ثبتوا على الحقّ ودافعوا أهل الباطل،وبذلوا وسعهم في كشفهم, وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر كتب الله لهم التمكين والنصر وأبدلهم بعد خوفهم أمناً, ومن بعد شدتهم رخاءً, وهذه السرّاء من الابتلاء الذي يختبرون به, فلا بد من مراعاة حق الله, وحق عباده, والقيام بذلك في كل حال, في السراء، وفي الضراء, حتى يدوم لهم التمكين والنصر في الدنيا, ويستحقون الجزاء الأخروي في جنات النعيم، وإن هم أعرضوا وأخلوا بشروط التمكين فإنّ سنة الله الأخرى تنتظرهم وتحيق بهم, وهي سنة الاستبدال عندما تفقد الأمة صلاحية الاستمرار قال تعالى:(وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)محمد 38,والمتأمل في وقائع السيرة النبوية وسير الدعوة يرى التعامل مع هذه السنن والوعي بها واضحاً حتى كتب الله لهم النصر والتمكين.
الوسائل المعينة على الثبات :-(1/42)
لقد كثرت حوادث السقوط، أو الردة والنكوص على الأعقاب والانتكاسات حتى بين بعض العاملين للإسلام، مما يحمل المسلم على الخوف من أمثال تلك المصائر، ويتلمس وسائل الثبات للوصول إلى بر الأمان،وشاطئ النجاة. إنّ حاجة المسلم اليوم لوسائل الثبات أعظم من حاجة أخيه المسلم أيام السلف، والجهد المطلوب لتحقيقه أكبر؛ لفساد الزمان، وندرة الأخوان الناصحين، وضعف المعين، وقلة الناصر.وقوة إمكانات المكر ووسائل القهر، ومن رحمة الله عزّ وجل بنا أن بيّن لنا في كتابه وعلى لسان نبيه وفي سيرته وسائل كثيرة للثبات. نعرض بعضاً منها:
أولاً : الإقبال على القرآن تلاوة وتدبراً وعملاً:-(1/43)
إّنه لا نجاة للأمة من الفتن والشدائد التي حلّت بها، والثبات على الدّين إلا بالاعتصام بالكتاب، لأنّ من تمسك به أنجاه الله تعالى، ومن دعا إليه هُدِيَ إلى صراط مستقيم. والقرآن العظيم وسيلة الثبات الأولى،(إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) الإسراء:9، وهو شفاء لعلل السقوط والشقاء (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً) الإسراء:82، (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) طه:2، والقرآن الكريم مثبت للقلوب (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً) الفرقان:32(لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) الحشر:21، وهو حبل الله المتين، والنور المبين، من تمسك به عصمه الله تعالى من الزلل، ومن اتبعه أنجاه الله تعالى من السقوط، وثبّته على الحق،ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم.قال الله تعالى:(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)آل عمران:103وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من تمسك به هُدِي إلى صراط مستقيم هو حبل الله المتين وهو الصراط المستقيم ".(1)
__________
(1) - رواه الترمذي 2906، 5/172، باب ما جاء في فضل القرآن.(1/44)
ونصّ الله على أنّ الغاية التي من أجلها أنزل هذا الكتاب منجماً مفصلاً هي التثبيت، فقال تعالى في معرض الرد على شُبه الكفار:( وقال الذين كفروا لولا نزّل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً) الفرقان:32
لماذا كان القرآن مصدراً للتثبيت ؟؟
1- لأنه يغرس الإيمان وينميه، ويزكي النفس، ويقوي الصلة بال له(وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) التوبة:124.
2- لأنّ آيات القرآن تتنزل برداً وسلاماً على قلب المؤمن، فلا تعصف به رياح الفتنة، ويطمئن قلبه بذكر الله .(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) الرعد:28
3- لأنّه يزود المسلم بالتصورات والقيم الصحيحة، التي يستطيع من خلالها أن يُقوِّم الأوضاع من حوله، ويمده بالموازين الدقيقة، التي تهيئ له الحكم على الأمور فلا يضطرب حكمه،ولا تتناقض أقوله باختلاف الأحداث والأشخاص،(وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً)الفرقان:33.
ثانياً : التزام شرع الله، والعمل الصالح :(1/45)
قال الله تعالى:( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ) إبراهيم :27 قال قتادة -وكذا روي عن غير واحد من السلف- ".: " أما الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح، وفي الآخرة في القبر".(1)، وقال سبحانه:( ولو أنّهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشدّ تثبيتاً)النساء:66 (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ)البلد:17،(إِنَّ الإنسان لَفي خُسْر إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) العصر:2-3، فعمل الصالحات والطاعات،والتواصي بذلك تزكي النفس، وتهذب القلب، وهي كفارة للذنوب،ومبعدة عن مواقع الزلل والزيغ،قال الله تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) البقرة:45 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) البقرة:153، وقال تعالى:(اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) العنكبوت:45.
ثالثاً : تدبر قصص الأنبياء والصالحين، ودراستها للتأسي والعمل :-
قال تعالى:( وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين) هود:120. فما نزلت تلك الآيات على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم للتلهي والتفكه وإنّما لغرض عظيم هو تثبيت فؤاد رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأفئدة المؤمنين معه.ففي قصص الأنبياء،والصحابة،والصالحين وعلماء الأمة الأتقياء ما يزيد المرء ثباتاً واستقراراً.
__________
(1) - تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/421.(1/46)
- فلو تأملت أخي المسلم: قول الله عز وجل في سيدنا إبراهيم عليه السلام الذي واجه طغيان الطغاة:( قالوا حرقوه وأنصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين) الأنبياء:68-70، ألا تشعر بمعنى من معاني الثبات أمام الطغيان والعذاب يدخل نفسك وأنت تتأمل هذه القصة ؟
- لو تدبرت أخي المسلم: قول الله عز وجل في قصة موسى عليه السلام:( فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنّا لمدركون قال كلّا إنّ معي ربي سيهدين)الشعراء:61-62 ألا تحسّ بمعنى آخر من معاني الثبات عند مطاردة وملاحقة الظالمين،أي الثبات في لحظات الشدّة وسط صرخات اليائسين وأنت تتدبر هذه القصة؟.
- لو استعرضت أخي سائل الثبات: قصة سحرة فرعون، ذلك المثل العجيب للقلة التي ثبتت على الحقّ بعدما تبين.ألا ترى أنّ معنىً عظيماً من معاني الثبات يستقر في النفس أمام تهديدات الظالم وهو يقول:( آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعنّ أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنّكم في جذوع النجل ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى ) طه /71. إنّه ثبات القلة المؤمنة الذي لا يشوبه أدنى تراجع وهم يقولون:( لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاضٍ ، إنما تقضي هذه الحياة الدنيا ) طه:72 .
- وهكذا قصة المؤمن في سورة يس ومؤمن آل فرعون،وأصحاب الأخدود، وغيرها،يكاد الثبات يكون من أعظم دروسها جميعا.(1/47)
- وهذا عروة بن الزبير أحد فقهاء التابعين في الإسلام، مثل صالح للمؤمن الصابر الراضي، المقدر لنعم الله، فقد رووا أن رجله وقعت فيها الأكلة فقرر الأطباء قطعها حتى لا تسري إلى ساقه كلها ثم إلى فخذه، وربما ترقت إلى الجسد فأكلته، فطابت نفسه بنشرها. فعرضوا عليه أن يشرب شيئاً يغيب عقله حتى لا يحس بالألم ويتمكنوا من قطعها فقال: ما ظننت أن أحداً يؤمن بالله يشرب شيئاً يغيب عقله حتى لا يعرف ربه عز وجل ولكن هلموا فاقطعوها، فقطعوها من ركبته وهو صامت لا يتكلم، ولا يعرف أنه أنّ (اشتكى)!! وشاء القدر أن يبتلى الرجل على قدر إيمانه، ففي هذه الليلة التي قطعت فيها رجله سقط ابن له -كان أحب أولاده إليه- من سطح فمات، فدخلوا عليه فعزوه فيه، فقال: اللهم لك الحمد، كانوا سبعة فأخذت واحداً وأبقيت ستة، وكان لي أطراف أربعة فأخذت واحداً وأبقيت ثلاثة، فإن كنت أخذت فلقد أعطيت، ولئن كنت قد ابتليت لقد عافيت!!
رابعاً:الدعاء: من صفات عباد الله المؤمنين أنّهم يتوجهون إلى الله عز وجل بالدعاء أن يثبتهم، فالدعاء من أقوى ما يعين المسلم على ذلك عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنّ الدعاء سلاح المؤمن".(1) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو لأصحابه بالثبات، ومن ذلك دعائه لعبد الله بن رواحة: "وأنت فثبتك الله يا ابن رواحة، قال هشام فثبته الله أحسن الثبات، قتل شهيداً،وفتحت له الجنة ودخلها".(2)
__________
(1) - مسند أبو يعلى 1812، 3/346.
(2) - المنتظم لابن الجوزي 3/350.(1/48)
ومن كان حريصاً على الدعاء يلهج به في كل وقت كان تذكيراً له لاتخاذ أسباب الثبات والحذر من أسباب الزيغ والانحراف؛ والدعاء فيه تذكير بمحاسبة النفس عن كل مؤثر على مسيرة القلب، ومن الأدعية في ذلك:(ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا )، (ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا)، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا) آل عمران:147، ولما كانت "قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك ".(1) ونجد كثيرًا من الأدعية تركز على معنى الثبات،ومن ذلك دعاء عبد الله بن مسعود:"الله إني أسألك إيمانًا لا يرتدّ ونعيمًا لا ينفد "،(2) وقال شداد بن أوس: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا كلمات ندعو بهنّ في صلاتنا: الله إني أسألك الثبات في الأمر وأسألك عزيمة الرشد".(3) ولقد استعان يوسف عليه السلام في الثبات أمام ف كيد النساء بالدعاء، فتوجه إلى الله (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ) يوسف:33.
خامساً : ذكر الله :-
__________
(1) - أحمد 6569،2/168، رواه الإمام أحمد ومسلم 2654، 4/2045، باب تصريف الله تعالى القلوب كيف شاء،
(2) - أحمد 3797، 1/400. 4340، 1/454.
(3) - أحمد 4/123-125، الترمذي، باب منه ،3470،5/476، ابن حبان1974، ذكر جواز دعاء المرء في صلاته بما ليس في كتاب الله جل وعلا.(1/49)
قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) الأنفال:2، ذكر الله من أعظم أسباب التثبيت..تأمل في هذا الاقتران بين الثبات وذكر الله في قوله عز وجل:( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً)الأنفال:45. فجعله من أعظم ما يعين على الثبات في الجهاد، .(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي في قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) الأنفال:12(1/50)
ولقد استعان يوسف عليه السلام بذكر الله في الثبات أمام فتنة المرأة ذات المنصب والجمال لما دعته إلى نفسها ؟ ألم يدخل في حصن " معاذ الله " فتكسرت أمواج جنود الشهوات على أسوار حصنه ؟،(وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ في بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) يوسف:23.وكذا تكون فاعلية الأذكار في تثبيت المؤمنين. وإذا غفل المؤمن عن ذكر الله تعالى جثم الشيطان الرجيم على قلبه، وانبسط عليه، وبذر فيه أنواع الوساوس، التي هي أصل الذنوب كلها،، قال تعالى: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) المجادلة:19، فإذا ذكر العبد ربه عز وجل، واستعاذ به انخنس وانقبض. قال قتادة: "والله ما نسي قوم ذكر الله عز وجل إلا باروا وفسدوا".(1) يقول ابن القيم:" إن دوام ذكر الرب تبارك وتعالى يوجب الأمان من نسيانه الذي هو سبب شقاء العبد في معاشه ومعاده، فإنّ نسيان الرب سبحانه وتعالى يوجب نسيان نفسه ومصالحها (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) الحشر:19، وإذا نسي العبد نفسه أعرض عن مصالحها ونسيها واشتغل عنها فهلكت وفسدت ولا بد، كمن له زرع أو بستان أو ماشية أو غير ذلك ومما صلاحه وفلاحه بتعاهده والقيام عليه فأهمله ونسيه، واشتغل عنه بغيره وضيع مصالحه، فإنّه يفسد ولابد".(2)
سادساً : الحرص على سلوك طريق أهل السنة والجماعة :
__________
(1) - إغاثة اللهفان: ابن القيم 2/243.
(2) - الوابل الصيب 1/67.(1/51)
إنّ الطريق الوحيد الصحيح الذي يجب على كل مسلم سلوكه هو طريق السلف الصالح أهل السنة والجماعة، طريق الطائفة المنصورة والفرقة الناجية،أهل العقيدة الصافية،والمنهج السليم، واتباع السنة والدليل،والتميز عن أعداء الله ومفاصلة أهل الباطل. عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قال: النبي صلى الله عليه وسلم:" ثم خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" قال عمران: لا أدري أذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعد قرنه قرنين أو ثلاثة، وعن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ثم خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته".(1)
__________
(1) - رواه البخاري، 2507، 2/1139،كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد.(1/52)
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة ".(1) وعن بن مسعود رضي الله عنه قال لي النبي صلى الله عليه وسلم يا عبد الله بن مسعود؟ فقلت: لبيك يا رسول الله ثلاث مرار قال:" هل تدري أي عرى الإيمان أوثق؟ قلت الله ورسوله أعلم، قال: أوثق الإيمان الولاية في الله بالحب فيه والبغض فيه، يا عبد الله بن مسعود؟ قلت لبيك يا رسول الله ثلاث مرار، قال: هل تدري أي الناس أفضل؟ قلت الله ورسوله أعلم، قال: فإن أفضل الناس أفضلهم عملا إذا فقهوا في دينهم يا عبد الله بن مسعود قلت لبيك وسعديك ثلاث مرار، قال: هل تدري أي الناس أعلم؟ قلت الله ورسوله أعلم، قال:" فإن أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلفت الناس وإن كان مقصرا في العمل، وإن كان يزحف على إسته واختلف من كان قبلنا على اثنتين وسبعين فرقة، نجا منها ثلاث وهلك سائرها، فرقة:وازت الملوك وقاتلتهم على دين الله ودين عيسى بن مريم حتى قتلوا وفرقة: لم يكن لهم طاقة بموازاة الملوك، فأقاموا بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى بن مريم فقتلتهم الملوك ونشرتهم بالمناشير، وفرقة: لم يكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بالمقام بين ظهراني قومهم، فدعوهم إلى الله وإلى دين عيسى بن مريم، فساحوا في الجبال وترهبوا فيها، فهم الذين قال الله (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها -إلى قوله- فاسقون) فالمؤمنون الذين آمنوا بي وصدقوني، والفاسقون الذين كفروا بن وجحدوا بي".(2)
__________
(1) - رواه البوصيري في مصباح الزجاجة 4/180، وقال:هذا إسناد صحيح رجاله ثقات رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس أيضا، ورواه أبو يعلى الموصلي.
(2) - رواه الحاكم 2/252، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.(1/53)
وإذا أردت أن تعرف قيمة هذا في الثبات فتأمل وسائل نفسك :لماذا ضلّ كثير من السابقين واللاحقين وتحيروا ولم تثبت أقدامهم على الصراط المستقيم ولا ماتوا عليه ؟ أو وصلوا إليه بعدما انقضى جل عمرهم وأضاعوا أوقاتاً ثمينة من حياتهم ؟؟. فترى أحدهم يتنقل في منازل البدع والضلال من الفلسفة إلى علم الكلام والاعتزال إلى التحريف والتأويل إلى التفويض والإرجاء، ومن طريقة في التصوف إلى أخرى...فإن أردت الثبات فعليك بسبيل المؤمنين.
سابعاً : التربية السليمة :
تعد التربية الإيمانية العلمية الواعية المتدرجة عامل أساسي من عوامل الثبات. فالتربية لإيمانية:هي التي تحيي القلب والضمير بالخوف،والرجاء والمحبة،المنافية للجفاف الناتج من البعد عن نصوص القرآن والسنة والعكوف على أقاويل الرجال.
* التربية العلمية: القائمة على الدليل الصحيح المنافية للتقليد والأمعية الذميمة. قال الإمام الزهري: كان من مضى من علمائنا يقولون إن الاعتصام بالسنة نجاة والعلم يقبض قبضا سريعا فنشر العلم ثبات الدين والدنيا وفي ذهاب العلم ذهاب ذلك كله".(1)
* التربية الواعية: التي لا تعرف سبيل المجرمين وتدرس خطط أعداء الإسلام وتحيط بالواقع علماً وبالأحداث فهماً وتقويماً ، المنافية للانغلاق والتقوقع على البيئات الصغيرة المحدودة .
* التربية المتدرجة:التي تأخذ بيد المسلم شيئاً فشيئاً ، ترتقي به في مدارج الكمال البشري بتخطيط موزون ،دون الارتجال والتسرع والقفزات التي تحطّمة .
ثامناً : الثقة بالطريق:
لا شك أنه كلما ازدادت الثقة بالطريق الذي يسلكه المسلم، كان ثباته عليه أكبر. ولهذا وسائل منها:-
__________
(1) - حلية الأولياء 3/369.(1/54)
1- استشعار أن الصراط المستقيم الذي تسلكه ليس جديداً، ولا وليد زمانك، وإنّما هو طريق قديم قد سار فيه من قبلك الأنبياء والصديقون والعلماء والشهداء والصالحون، فتزول غربتك،وتتبدل وحشتك أنساً،وكآبتك فرحاً وسروراً، لأنك تشعر بأن أولئك كلهم أخوة لك في الطريق والمنهج.
2- الشعور بالاصطفاء، قال الله عز وجل: ( الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى) النمل :59، وقال:( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) فاطر:32.وقال:( وكذلك يجتبك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث) يوسف:6.وكما أنّ الله اصطفى الأنبياء فللصالحين نصيب من ذلك الاصطفاء، وهو ما ورثوه من علوم الأنبياء .
3- ماذا يكون شعورك لو أنّ الله تعالى خلقك جماداً، أو دابة، أو كافراً ملحداً،أو داعياً إلى بدعة وضلاله،أو فاسقاً، أو مسلماً غير داعية لإسلامه، أو داعية في طريق ذي عوج ؟ ألا ترى أنّ شعورك باصطفاء الله لك، وأنْ جعلك داعية من أهل الحق من عوامل ثباتك على المنهج ؟
تاسعاً : ممارسة الدعوة إلى الله عز وجل :
إنّ النفس البشرية إن لم تتحرك تأسن، وإن لم تنطلق تتعفن، ومن أعظم مجالات انطلاق النفس: الدعوة إلى الله، فهي وظيفة الرسل، ومخلصة النفس من العذاب، فيها تتفجر الطاقات، وتنجز المهمات (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ) الشورى:15 .وليس يصحّ شيء يقال فيه:"فلان لا يتقدم ولا يتأخر" فإنّ النّفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية.(1/55)
والدعوة إلى المنهج الصحيح تكون ببذل الوقت، وكدّ الفكر، وسعي الجسد، وانطلاق اللسان، بحيث تصبح الدعوة همّ المسلم وشغله الشاغل الذي يقطع الطريق على محاولات الشيطان بالإضلال والفتنة. زد على ذلك ما يحدث في نفس الداعية من الشعور بالتحدي تجاه العوائق، والمعاندين وأهل الباطل، وهو يسير في مشواره الدّعوي، فيرتقي إيمانه، وتقوى أركانه. فتكون الدعوة بالإضافة لما فيها من الأجر العظيم وسيلة من وسائل الثبات،والحماية من التراجع والتقهقر، لأنّ الذي يُهاجم لا يحتاج للدفاع، والله مع الدعاة يثبتهم ويسدّد خطاهم، والداعية كالطبيب لا يحارب المريض إنّما يحارب المرض بخبرته وعلمه، وبمحاربته في الآخرين فهو أبعد من غيره عن الوقوع فيه.
عاشراً : الالتفاف حول العناصر المثبتة :-
... إنّ من العناصر المثبتة الالتفاف حول العلماء الربانيين، وهم المشهود لهم بالصدق والتقوى، أولئك السائرين على نهج أئمة أهل السنة والجماعة،إنّ الالتفاف حولهم عامل معين على الثبات،وعدم الزيغ والانحراف في وقت الفتن والشدائد والابتلاءات، وكيف لا وهم أنصار شرع الله، والذين يبينون للناس الحق من الباطل، والهدى من الضلال، فلا بد من الالتفاف حولهم بحضور دروسهم ومجالسهم العلمية، وزيارتهم باستمرار ومشاورتهم، حتى لا تنقطع علاقاتنا بهم، وحتى لا يجد أعداء الإِسلام فجوة يستطيعون الدخول عن طريقها للنيل من الإِسلام،، ولا يترك المجال لأعداء الإِسلام كي يبثوا سمومهم ومقالاتهم المشبوهة، لزعزعة الثقة بين العلماء والمجتمع بصفة عامة، وبين العلماء وشباب الصحوة بصفة خاصة.(1/56)
وإنّّ البحث عن العلماء والصالحين والدعاة المؤمنين، والالتفاف حولهم معين كبير على الثبات.وقد حدثت في التاريخ الإسلامي فتن ثبت الله فيها المسلمين بالعلماء الصالحين والدعاة العاملين. وعندما يتعرض المسلم لفتنة ويبتليه ربه عز وجل ليمحصه، يكون من عوامل الثبات أن يقيّض الله له رجلاً صالحاً يعظه ويثبّته، فتكون كلماته الطيبة دواءً شافياً ينفع الله تعالى بها، تقوي عزائمه وتثبته على الحق. والصديق الصالح من أكبر المعينات على استقرار القلب، ولقد مثَّله النبي عليه السلام بحامل المسك، والمؤمن مرآة أخيه، وكل قرين يقتدي بقرينه؛ فاختياره صالحاً سبب من أسباب الثبات. قال الله تعالى: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه). تلك العناصر الصالحة التي من صفاتها ما أخبرنا به عليه الصلاة والسلام : "إنّ من الناس ناساً مفاتيح للخير مغاليق للشر".(1) فإن هذا يفيد الإنسان كثيرًا، ويدعوه إلى محاكاتهم، والنسج على منواله، لتقلّ العثرات، وتسلم الخطوات.
__________
(1) - حديث حسن رواه ابن ماجة رقم 237 عن أنس مرفوعاً، وابن أبي عاصم في كتاب السنة 1/127 وانظر السلسلة الصحيحة للألباني رقم 1332.(1/57)
عن ابن عمر رضي الله عنه مرفوعاً:"عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة فإنّ الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، من سرته حسنته وساءته سيئته فذلكم المؤمن..".(1) ومن ذلك:ما قاله علي بن المديني رحمه الله تعالى:" أعز الله الدّين بالصديق يوم الردة، وبأحمد يوم المحنة ". وتأمل ما قاله ابن القيم رحمه الله عن شيخه شيخ الإسلام في التثبيت: "وكنّا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت بنا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله عنا، وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه وفتح لهم أبوابها في دار العمل ، وآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها ".(2) وهنا تبرز الأخوة الإسلامية كمصدر أساسي للتثبيت فإخوانك الصالحون والقدوات والمربون هم العون لك في الطريق، والركن الشديد الذي تأوي إليه فيثبتوك بما معهم من آيات الله والحكمة..الزمهم وعش في أكنافهم وإياك والوحدة فتتخطفك الشياطين فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية .
الحادي عشر : الثقة بنصر الله تعالى وأن المستقبل للإسلام:-
__________
(1) - الحاكم 387، 1/197، وقال:هذا حديث صحيح على شرط الشيخين فإني لا أعلم خلافا بين أصحاب عبد الله بن المبارك في إقامة هذا الإسناد عنه ولم يخرجاه وله شاهدان. الترمذي 4/465،2165 ، باب ما جاء في لزوم الجماعة ، قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح.
(2) - الوابل الصيب ص97.(1/58)
إنّنا نحتاج إلى الثبات كثيراً عند تأخر النصر، حتى لا تزل قدم بعد ثبوتها، قال تعالى:( وكأيّن من نبي قاتل معه ربيّون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة ) آل عمران /146-148 .
ولمّا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يثبّت أصحابه المعذبين أخبرهم بأن المستقبل للإسلام في أوقات التعذيب والمحن، جاء في حديث خباب بن الأرت مرفوعاً عند البخاري أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: "وليُتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف الله والذئب على غنمه ".(1) فعرض أحاديث البشارة بأنّ المستقبل للإسلام على الناشئة مهمّ في تربيتهم على الثبات.
نعم إنّ المستقبل لهذا الدين لأنه منهج حياة للبشرية، يشتمل على كل المقومات المنظمة لشتى جوانب الحياة البشرية، ولقد كافح الإسلام -وهو أعزل- لأن عنصر القوة كامن في طبيعته، وكامن في بساطته ووضوحه وشموله،وملائمته للفطرة البشرية، وتلبيته لحاجاتها الحقيقية، وأعداؤه يحاربونه لأجل ذلك، ولأنه يقف عائقاً أمامهم عن تحقيق أهدافهم الاستعمارية الاستغلالية، ولكن، الذي لا شك فيه أنه سينتصر كما انتصر في السابق، وسيكون المستقبل لهذا الدين.(2)
__________
(1) - رواه البخاري في أكثر من موضع من صحيحه، منها: 3639 ،3/1398، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكة ، 6544، 6/2546، باب من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر.
(2) - انظر المستقبل لهذا الدين ص 5.(1/59)
فمن طبيعة المنهج الذي يرسمه الإسلام، ومن حاجة البشرية إلى هذا المنهج نستمد نحن المسلمين يقيننا الذي لا يتزعزع في أن المستقبل للإسلام، وأنَّ له دوراً كبيراً في هذه الأرض، دوراً في قيادة البشرية، خاصة بعد أن أثبت الواقع البشري إفلاس كل النظم والمذاهب في مناهجها وتشريعاتها وعقائدها، إن الإسلام مدعو لأداء دوره في المستقبل القريب، أراد أعداؤه أم لم يريدوا.(1)
الثاني عشر: الإيمان بالقدر يهون على المؤمنين البلاء :-
__________
(1) المصدر السابق 92-93.(1/60)
إنّ ما ينزل بالمؤمنين من المصائب والشدائد ليس ضربات تقع هكذا ضربة لازب، ولا هي خبط عشواء، ولكنّه يصبهم وفق قدر الله المعلوم، وقضائه المرسوم، ووفق حكمته وكتابته: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) الفرقان:2 (سُنَّةَ اللَّهِ في الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً) الأحزاب:38، (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُورا) الأحزاب: من الآية38، (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)القمر:49، فآمن المؤمنون الصادقون بأنّ ما أصابهم لم يكن ليخطئهم، وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم...(ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها، إن ذلك على الله يسير) الحديد: 22 .وعرفوا أن من صفة الله تعالى أن يقدر ويلطف، ويبتلي ويخفف، ومن ظن انفكاك لطفه الله تعالى عن قدره فذلك لقصور نظره (إن ربي لطيف لما يشاء، إنه هو العليم الحكيم) يوسف: 100. وعرفوا من لطف ربهم تعالى أنّ هذه الشدائد دروس قيمة لهم، وتجارب نافعة لدينهم ودنياهم، تنضح نفوسهم، وتصقل إيمانهم، وتذهب صدأ قلوبهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما مثل العبد المؤمن حين يصيبه الوعك أو الحمى كمثل حديدة تدخل النار فيذهب خبثها، ويبقى طيبها".(1). وما أبلغ ما قال الرافعي: "ما أشبه النّكبة بالبيضة، تحسب سجناً لما فيها وهي تحوطه، وتربيه وتعينه على تمامه، وليس عليه إلّا الصبر إلى مدة، والرضى إلى غاية، ثم تنقف البيضة، فيخرج خلق آخر.وما المؤمن في دنياه إلاّ كالفرخ في بيضته: عمله أن يتكون فيها، وتمامه أن ينبثق شخصه الكامل فيخرج إلى عالمه الكامل".
الثالث عشر: معرفة حقيقة الباطل ومخططاته وعدم الاغترار به مهما تجبّر وتكبّر:
__________
(1) - الحاكم 1/499 ،1289، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.(1/61)
قال الله عز وجل:( لا يغرنّك تقلب الذين كفروا في البلاد ) آل عمران:196، تسرية عن المؤمنين وتثبيت لهم.وقوله عز وجل:( فأما الزبد فيذهب جفاء) الرعد:17،عبرة لأولي الألباب في عدم الخوف من الباطل والاستسلام له.ومن طريقة القرآن فضح أهل الباطل وتعرية أهدافهم ووسائلهم (وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين) الأنعام:55،حتى لا يؤخذ المسلمون على حين غرة، وحتى يعرفوا من أين يؤتى الإسلام. وكم سمعنا ورأينا حركات تهاوت، ودعاة زلت أقدامهم، فتساقطوا وفقدوا الثبات لمّا أتوا- بسبب جهلهم بأعدائهم-من حيث لم يحتسبوا.
الرابع عشر: استجماع الأخلاق المعينة على الثبات:-
ومن ذلك:-(1/62)
1- العلم الشرعي: إنّ العلم الشرعي مطلب مهم في الثبات على الحق ومواجهة الفتن. فالمسلم يجب أن يكون على علم وبصيرة من أمر دينه وإذا فقد المسلم العلم الشرعي تخبط وزاغ،ولم يثبت، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه:"إنّ نور النبوة وشمس الرسالة يحصل به الهدى والصواب، ويزول به عن القلوب الشك والارتياب.(1) وقال:"إذا انقطع عن الناس نور النبوة وقعوا في ظلمة الفتن، وحدثت البدع والفجور ووقع الشر بينهم".(2) قال الله تعالى: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فيؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) الحج:54، (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) سبأ:6، (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) المجادلة: من الآية11، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: " يتقارب الزمان ويقبض العلم وتظهر الفتن ويلقى الشح ويكثر الهرج، قالوا:وما الهرج يا رسول الله ؟ قال: القتل".(3) وقال عليه الصلاة والسلام: "إنَّ من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل".(4) وعن عبد الله بن عمرو بن العاص يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ثم إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا، وأضلوا ".(5)
__________
(1) - درء تعارض العقل والنقل 2/103.
(2) - مجموع الفتاوى 17//310.
(3) - سبق تخريجه.
(4) - البخاري 6423 ،66/2497، باب إثم الزناة وقول الله تعالى ولا يزنون ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا .
(5) - البخاري100، 1/50، باب كيف يقبض العلم، مسلم 2673، 4/2059، باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان.(1/63)
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم:"انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم ولتفشوا العلم ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً ".(1) وعن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ثمّ مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير، أصاب أرضاً، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى، إنّما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به".(2) وقال ربيعة لا ينبغي لأحد عنده شيء من العلم أن يضيع نفسه".(3)
__________
(1) - المصدر السابق.
(2) - البخاري 79، 1/42، باب فضل من علم وعلم.
(3) - المصدر السابق: باب رفع العلم وظهور الجهل.(1/64)
2- الصبر:إنّ الصّبر من أقوى الأخلاق المعينة على الثبات، والصبر المطلوب هو:عدم استعجال النتائج قبل أوانها، وألا يخطو المرء خطوة قبل أن يحين وقتها،ومنه: الظهور بالاستقامة والتجلد،وعدم التقهقر عند مواجهة المحن والشدائد، ومنه: ألاّ يساور القلب اليأس والوهن إذا تأخر ظهور النتائج المرجوة بعد بذل الجهد المطلوب، ومنه ألا تزل الأقدام عن طريق الحق إذا ما تعرض لرهبة وخوف، أو رغبة وطمع، مع الهدوء ورجاحة العقل وركود القلب وسكون الإرادة القوية.(1)يقول ابن القيم:"ومن أنواع الصبر:الصبر على أقضيته،والصبر على أوامره والصبر عن نواهيه، والصبر مع الله: هو الثبات معه على أحكامه يدور معها حيث دارت، فيكون دائما مع الله لا مع نفسه، فهو مع الله بالمحبة والموافقة".(2)
__________
(1) - تذكرة الدعاة: أبو الأعلى المودودي، مؤسسة الرسالة- بيروت- ص42-43.
(2) - عدة الصايرين 1/37.(1/65)
ولقد مدح الله تعالى الصّابرين فقال الله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)البقرة:153وقال:(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) البقرة:155 وقال:(وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ في سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)آل عمران:146،وقال:(وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) الأنفال:46، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"وما أعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر".(1).وأشدّ الصبر عند الصدمة الأولى،قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنما الصبر ثم الصدمة الأولى"،(2)وإذا أصيب المرء بما لم يتوقع تحصل النكسة،ويزول الثبات إذا عدم الصبر.ولما أصيب المسلمون في أحد لم يكونوا ليتوقعوا تلك المصيبة لأنّ الله وعدهم بالنّصر، فعلمهم الله بدرس شديد بالدماء والشهداء:( أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم) آل عمران:165 ماذا حصل من عند أنفسهم ؟ فشلتم وتنازعتم في الأمر، وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبّون لأنّ منكم من يريد الدنيا،ولم يصبر. وثبت في الترمذي عن أبي ثعلبة الخشني عن النبي عليه السلام قال: "حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع العوام فإن
__________
(1) - البخاري 1400، 2/435، كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة.
(2) - - البخاري1223،1/430 ،باب زيارة القبور، وانظر مثله:1240، 1/430، باب الصبر ثم الصدمة الأولى،مسلم 926،22/637، باب في الصبر على المصيبة ثم الصدمة الأولى.(1/66)
من ورائكم أياماً:الصبرُ فيهن مثل القبض على الجمر للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم"(1).وتأمل فيما قاله ابن الجوزي رحمه الله:"رأيت كبيراً قارب الثمانين، وكان يحافظ على الجماعة، فمات ولد لابنته، فقال:ما ينبغي لأحد أن يدعو، فإنّه ما يستجيب الله له. ثمّ قال: إنّ الله تعالى يعاند فما يترك لنا ولداً، تعالى الله عن قوله علواً كبيراً ".(2)
السادس عشر:التأمل في نعيم الجنة وعذاب النار وتذكر الموت:-
إن ّالجنّة بلاد الأفراح، وكشف الأحزان،ومأوى رحال المؤمنين والنفس مجبولة على عدم التضحية والعمل والثبات إلا بمقابل يهوّن عليها الصعاب، ويذلل لها عقبات ومشاق الطريق. فالذي يعلم الأجر تهون عليه مشقة العمل، وهو يسير ويعلم بأنّه إذا لم يثبت فستفوته جنة عرضها السموات والأرض، ثم إن النفس تحتاج إلى ما يرفعها من الطين الأرضي ويجذبها إلى العالم العلوي.
__________
(1) - رواه الترمذي2260، 4/526.
(2) - الثبات عند الممات لابن الجوزي ص34.(1/67)
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الجنة في تثبيت أصحابه، ففي الحديث الحسن الصحيح مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بياسر وعمار وأم عمار وهم يؤذن في الله تعالى فقال لهم: "صبراً آل ياسر صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة"(1) وكذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول للأنصار:" إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض".(2) وكذلك من تأمل حال الفريقين في القبر والحشر، والحساب والميزان، والصراط، وسائر منازل الآخرة. كما أن تذكر الموت يحمي المسلم من التردي، ويوقفه عند حدود الله فلا يتعداها. لأنه إذا علم أن الموت أدنى من شراك نعله، وأن ساعته قد تكون بعد لحظات، فكيف تسول له نفسه أن يزل، أو يتمادى في الانحراف، إنّ تذكر الموت وتوقع فجأته في كل وقت تجعل المرء دائم الاستعداد للقائه، حريصاً على ثبات قلبه، واستمرار عطائه، ولأجل هذا قال صلى الله عليه وسلم:"أكثروا من ذكر هادم اللذات".(3) قال ابن قيم الجوزية:"فإذا فكر في الآخرة وشرفها ودوامها وفي الدنيا وخستها وفنائها:أثمر له ذلك الرغبة في الآخرة والزهد في الدنيا وكلما فكر في قصر الأمل وضيق الوقت:أورثه ذلك الجد والاجتهاد وبذل الوسع في اغتنام الوقت، وهذه الأفكار تعلى همته، وتحييها بعد موتها وسفولها، وتجعله في واد والناس في واد".(4)
سؤال الثبات من الله تعالى:-
__________
(1) - الحاكم 3/432، 5645 ، ذكر مناقب عمار بن ياسر رضي الله عنه.الطبراني: المعجم الأوسط 1508، 2/141. وهو حديث حسن صحيح، انظر تخريجه في فقه السيرة تحقيق الألباني ص103.
(2) - مسلم1061، 2/738،باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوى إيمانه، البخاري3581 ، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار اصبروا حتى تلقوني على الحوض.
(3) - رواه الترمذي 2/50، 4/639، الحاكم 790، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وصححه الألباني في إرواء الغليل 3/145
(4) - الفوائد 1/198(1/68)
إن الثبات على الدين نعمة من نعم الله تعالى، وليس هناك نعمة أعظم على الإنسان من أن يثبته الله بقوله الثابت، حتى يفارق هذه الحياة وهو على ذلك، فيلقى الله بحسن الخاتمة، وهذه غاية ما يطلبه المسلم أن كان من ذوي الألباب.
ولأنّ مسألة الثبات على الدين قضية تشغل فكر المسلم فإنه يلزمه أن يكثر من الدعاء بها، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من قول: "يا مقلب القلوب ثبّت قلبي على دينك".(1) وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخشى على نفسه أن يداهن الجاهلية أو يلين لها، ولذلك خاطبه ربه عز وجل بفضله عليه بالتثبيت لأنه أخلص ولاءه لله تعالى: (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ) الإسراء:74-75.
__________
(1) - أحمد في المسند 12128، الترمذي 2140، 4/448، باب ما جاء أن القلوب بين إصبعي الرحمن، قال أبو عيسى وفي الباب عن النواس بن سمعان وأم سلمة وعبد الله بن عمرو وعائشة، قال الترمذي، وهذا حديث حسن.الحاكم 1926،1/607، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وله شاهد بإسناد صحيح عن أنس بن مالك.(1/69)
والدارس لكتب السير والتاريخ يجد من تقلبات البشر الشيء الكثير، فلقد ذكر ابن كثير رحمه الله في كتاب "البداية والنهاية".(1) قصة عجيبة حصلت لشاب مسلم حول موضوع الثبات على الدين أو الانتكاسة عنه والعياذ بالله يذكر رحمه الله: أن المسلمين كانوا في إحدى الغزوات متجهين نحو العدو وكان معهم شاب صالح كثير العبادة كان لا يفتر عن قراءة القرآن الكريم، فلما نزلوا قرب موطن العدو أبصر هذا الشاب من نافذة أحد المنازل فتاة -من فتيات الروم-جميلة جداً فوقع حبها في قلبه، وتعلق بها كثيراً، فما كان منه إلا أن ذهب إليها وصاحبها ففقده المسلمون من الجيش فلما سألوا عنه وجدوه قد ذهب إلى تلك الفتاة وعاش معها وترك المسلمين وجيشهم، فلما رآه المسلمون قد أطل عليهم من نافذة المنزل الذي ذهب إليه، عندها فاغتم المسلمون بسبب ذلك غما شديدا وشق عليهم مشقة عظيمة فلما كان بعد مدة مروا عليه وهو مع تلك المرأة في ذلك الحصن فقالوا يا فلان ما فعل قرآنك ما فعل علمك ما فعل صيامك ما فعل جهادك ما فعلت صلاتك، فقال اعلموا أني أنسيت القرآن كله إلا هذه الآية (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) سورة الحجر 2. فهذه نهاية شاب انتكس، وتحول من حال الثبات على الدين إلى حال أخرى بسبب نظره إلى الحرام. ذكر ابن الجوزي أن هذا الشقي كان من المجاهدين، فلما كان في بعض الغزوات والمسلمون محاصروا بلدة من بلاد الروم إذ نظر إلى امرأة من نساء الروم في ذلك الحصن فهويها فراسلها ما السبيل إلى الوصول إليك؟ فقالت أن تتنصر وتصعد إلي فأجابها إلى ذلك.
المتذبذب يفتن الناس:-
__________
(1) - البداية والنهاية 11/64.(1/70)
والثبات مظهر بارز للاستقامة؛ لأن المتذبذب المتقلب لا يقدر على الثبات، ولا يقوى على الاستقامة، وهو في الوقت نفسه فتنة لغيره من الناس، ولقد حذّر الصحابي حذيفة بن اليمان رضي الله عنه العلماء العبّاد لأّنهم قدوة:" يا معشر القراء استقيموا، فإن أخذتم يمينًا وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيدًا"(1). ولو أنّ ضلال وانحراف المتذبذب يقتصر عليه وحده لهان الأمر، ولكن يُفتتن بضلاله آخرون .وقد كان من وسائل أهل الكتاب- وخاصة من اليهود- في إثارة الفتنة في صفوف المسلمين: التظاهر بالدخول في الإسلام، ثم الردّة عنه ليرتدّ معهم آخرون وخاصّة ضعاف الإيمان، أو الذين أسلموا حديثاً، (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) آل عمران:72، فالسعيد من وفقه الله تعالى للثبات، وخُتم له بخير، ومات وهو يعمل عمل أهل الجنة، ورزقه الله التثبيت حين السؤال في القبر وفي الآخرة، (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) إبراهيم:27
__________
(1) - البخاري 6853،6/2656، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول الله تعالى واجعلنا للمتقين إماما.(1/71)
وعند التأمل في أحاديث الحوض من صحيح مسلم تجد أناسًا مُنعوا منه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول صلى الله عليه وسلم: "أنا فرطكم على الحوض من ورد شرب ومن شرب لم يظمأ أبدا وليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم ق فيقول إنهم مني فيقال إنك لا تدري ما عملوا بعدك فأقول سحقاً سحقاً لمن بدل بعدي".(1)، وفي رواية أخرى" وسيؤخذ أناس دوني فأقول يا رب مني ومن أمتي فيقال أما شعرت ما عملوا بعدك والله ما برحوا بعدك يرجعون على أعقابهم" قال بن أبي مليكة أحد رواة يقول اللهمّ إنّا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو أن نفتن عن ديننا"(2)، (وكلمة) "ما برحوا يرجعون" توحي بالتراجع البطيء المتواصل المؤدي إلى الهاوية،وربّما يصعب الرجوع بعد طول الاستدارج، فهنيئاً لمن استدرك نفسه لئلا تزل قدمه بعد ثبوتها.
الإسلام إيمان وثبات:-
إن ّالإسلام إيمان وثبات، ويوضّح ذلك القول الجامع لرسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان حقيقة الإسلام عندما سأله أحد أصحابه:قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك؟ قال صلى الله عليه وسلم: " قل آمنت بالله ثم استقم ".
أخي المسلم:-
__________
(1) - مسلم 2290،4/1793، باب إثبات حوض رآه صلى الله عليه وسلم وصفاته .
(2) - مسلم 2293 ، 4/1794، باب إثبات حوض رآه صلى الله عليه وسلم وصفاته.(1/72)
أثبت على الحق ولو كنت وحدك، ولابدّ أن تعرف أنّ طريق النصر، طريق طويل وشائك، ومليء بالقروح والجروح، وعليه فإنّ الثبات عليه مع الاستمرار فيه هو:عين اليقين وعين الصواب، واعلم أنّ هذه التضحيات هي الثمن الطبيعي للنصر المرتقب، وانظر في قوله تعالى:(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) البقرة:214، وقد سأل رجل الشافعي رضي الله عنه: أيّهما أفضل للرجل: أن يُمكّن أو يبتلى؟ قال الشافعي:لا يُمكّن حتى يبتلى، فإنّ الله ابتلى نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فلمّا صبروا مكنّهم فلا يظنّ أحدّ أنّه يخلص من الألم البتة. وارتباط النصر والتمكين بالبلاء إنّما هو يكون تحقيقاً لصلاحية أهل الحق في مهمة دفع الباطل سواء كان بتكفير ذنوبهم أو برفع درجاتهم. عن مصعب بن سعد بن مالك عن أبيه قال: قلت ثم يا رسول الله أي الناس أشد بلاء، قال:الأنبياء ثم الأمثل، فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبا اشتد بلاءه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة (1)، هذا باعتبار أنّ الأنبياء والأمثل، فالأمثل -الثابتون عند البلاء-هم:القائمون بدفع الباطل، ومجاهدة أهله.
فهرس الموضوعات
مقدمة ... 2
الثبات اصطلاحاً: ... 4
حماس بدايات الطريق:- ... 5
أولاً : الثبات في الفتن: ذكر بعض أحاديث في الفتن:- ... 6
ومن أنواع الفتن : ... 9
- فتنة المال: ... 9
__________
(1) - ابن حبان 161، 2901، ذكر خبر ثان يصرح بصحة ما ذكرناه. الحاكم 121،1/100، الترمذي 2398، 4/601، باب ما جاء في الصبر على البلاء. وقال:هذا حديث حسن صحيح.(1/73)
فتنة الجاه والمنصب:- ... 9
فتنة الزوجة:- ... 10
فتنة الأولاد:- ... 11
فتنة الاضطهاد والطغيان والظلم :- ... 11
ثانياً : الثبات أمام الأعداء( الثبات في الجهاد) : ... 14
ثالثاً : الثبات على منهج الإسلام:- ... 17
رابعاً : الثبات عند الممات: ... 18
خامساًً:الثبات بالمداومة على الطاعات:- ... 19
سادساً:الثبات في الشدائد والابتلاءات:- ... 20
سابعاً: الثبات في أيام الصبر:- ... 22
أسباب عدم الثبات واليقين:- ... 23
2- صحبة أقران السوء: ... 23
3- الغفلة أو النسيان: ... 25
4- الإعجاب بالنفس: ... 26
5- الحماس، أو العاطفة الإسلامية الجياشة المتأججة: ... 28
6- اليأس:- ... 28
7- الجهل بأساليب أو طرق الثبات، أو الابتعاد عنها: ... 30
11- إيجاد بعض الخصوم: ... 32
12- الجهل بالسنن الربانية:- ... 32
الوسائل المعينة على الثبات :- ... 38
أولاً : الإقبال على القرآن تلاوة وتدبراً وعملاً:- ... 39
ثانياً : التزام شرع الله، والعمل الصالح : ... 41
ثالثاً : تدبر قصص الأنبياء والصالحين، ودراستها للتأسي والعمل :- ... 41
خامساً : ذكر الله :- ... 45
سادساً : الحرص على سلوك طريق أهل السنة والجماعة : ... 46
سابعاً : التربية السليمة : ... 48
ثامناً : الثقة بالطريق: ... 49
تاسعاً : ممارسة الدعوة إلى الله عز وجل : ... 49
عاشراً : الالتفاف حول العناصر المثبتة :- ... 50
الحادي عشر : الثقة بنصر الله تعالى وأن المستقبل للإسلام:- ... 52
الثاني عشر: الإيمان بالقدر يهون على المؤمنين البلاء :- ... 54
الثالث عشر: معرفة حقيقة الباطل ومخططاته وعدم الاغترار به مهما تجبّر وتكبّر: ... 55
الرابع عشر: استجماع الأخلاق المعينة على الثبات:- ... 55
السادس عشر:التأمل في نعيم الجنة وعذاب النار وتذكر الموت:- ... 59
سؤال الثبات من الله تعالى: ... 60
المتذبذب يفتن الناس: ... 62
الإسلام إيمان وثبات: ... 64
فهرس الموضوعات ... 66(1/74)