الثابت والمتغير من أحكام الأسرة في الشريعة الإسلامية (1/2)
بقلم: الدكتور مسعود فلوسي
هناك حقيقتان مهمتان لا ينبغي أن نغفل عنهما ونحن نتحدث عن أي نوع من أنواع الأحكام الشرعية في الشريعة الإسلامية:
أما الحقيقة الأولى فمفادها؛ أن أحكام الشريعة الإسلامية كُلٌّ متكاملٌ وليست تَفَارِيقَ أو أجزاء منفصلة عن بعضها البعض. ولذلك فإن أي تناول لأي قسم من هذه الأحكام، ينبغي أن يكون في إطار رؤية شاملة للمنظومة العامة للتشريع، في أبعادها كلها؛ العقدية والأخلاقية والتشريعية. وهذه المنظومة العامة للتشريع مُنَزَّلَة من الحكيم الخبير، الذي هو الله سبحانه وتعالى، الخالق الرازق المشرع، الذي لا مُشَرِّع سواه، وهو عز وجل قد ارتضى لعباده هذه المنظومة التشريعية وأمرهم أن يلتزموا بها كُلَّها، ولم يَقْبَلْ منهم الالتزام بغيرها، قال سبحانه وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا}(1). وقال عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ}(2). كما لم يقبل منهم أن يتمسكوا ببعضها ويتركوا البعض الآخر، فقال عز من قائل: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}(3).(1/1)
وأما الحقيقة الثانية؛ فإنه من المعلوم قطعا أن أحكام الشريعة الإسلامية إنما جاءت لتحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد، فكل ما هو مصلحة أو سبب إلى مصلحة فقد تواردت الأدلة على طلبه والحث على فعله، وكل ما هو مفسدة أو سبب إلى مفسدة فقد تواردت الأدلة على طلب تركه والنهي عن فعله. لكن المصالح والمفاسد، كما هو معلوم، ليست كلها على درجة واحدة من الثبات؛ فهناك مسالك أو تصرفات تصدر عن المكلفين ترتبط بمصالح أو مفاسد ثابتة لا تتغير بتغير الزمان والمكان وأحوال الأفراد والمجتمعات، وهو ما يقتضي أن يهيئ لها الشارع أحكاما ثابتة تتكفل بجلب ما كان منها مصلحة ودفع ما كان منها مفسدة.. وفي هذا الإطار يندرج تحريم الشرك والنفاق والسحر وشرب الخمر وأكل الميتة ولحم الخنزير والسرقة وأكل الربا واقتراف فاحشة الزنا وقتل النفس والحقد والحسد والغيبة والنميمة وقطع الأرحام وما إلى ذلك من رذائل لأنها مفاسد محققة وثابتة.. وفي الإطار نفسه كذلك يندرج الأمر بالصلاة والزكاة والصوم والحج وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهد وجهاد الكفار المعتدين وإكرام الضيف والصدق والصبر والأمانة والعفة والحياء وغير ذلك مما هو مصالح محققة وثابتة.
هذا النوع من المصالح، والأحكام التي جاءت لتحقيقها؛ يمثل كليات الدين وقواعده وأسسه التي لا يجوز التنكر لها أو استبدالها بغيرها، لأنها كما قال الإمام الشاطبي "كلية أبدية، وُضِعَت عليها الدنيا، وبها قامت مصالحها في الخلق، حسبما بين ذلك الاستقراء، وعلى وفاق ذلك جاءت الشريعة أيضا، فذلك الحكم الكلي باقٍ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها"(4).(1/2)
وإلى جانب هذه المصالح والمفاسد الثابتة، هناك مصالح ومفاسد متغيرة، أي أن الفعل أو التصرف قد يكون في وقت ما أو حال معينة مفسدة، ولكنه في حال أخرى أو في زمن مختلف أو في مجتمع آخر مصلحة. بمعنى أن السلوك قد يكون له أثر نافع في ظل ملابسات معينة، وفي ظل ملابسات مختلفة يتحول أثره إلى ضار. ولذلك فإن الشارع لم يأت بأحكام ثابتة تحكم مثل هذه المسالك والتصرفات، وإنما اكتفى بوضع مبادئ تشريعية عامة تتكفل بجلب كل ما هو مصلحة أو سبب إلى مصلحة، ودفع كل ما هو مفسدة أو سبب إلى مفسدة. والمبدأ العام الذي يحكم هذا كُلَّه هو قولُه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(5).
وقد ترك الشارع الحكيم للمجتهدين من الأمة أمر تقدير هذه التصرفات والحكم عليها بالصلاح والفساد تبعا للواقع وظروف الناس وعاداتهم. وقد استخرج العلماء من جملة أدلة الشرع عددا من المناهج التشريعية الكفيلة بإيجاد الحلول لهذا النوع من المسائل المتغيرة في حياة المكلفين، كمبدأ القياس والاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع والعمل بالاستصحاب. كما استخلصوا أيضا جملة من القواعد الكفيلة بمتابعة هذه المسائل بالحلول الناجعة لها في الواقع، ومنها: درء المفسدة يقدم على جلب المصلحة، التصرف على الرعية منوط بالمصلحة، الضرر يُزال، الضرر لا يُزال بالضرر، يُتََحَمَّل الضرر الخاص لدفع الضرر العام، الضرورات تبيح المحظورات، ما أبيح للضرورة يُقَدَّر بقدرها، المشقة تجلب التيسير... الخ.
أحكام الأسرة المسلمة في ضوء هاتين الحقيقتين(1/3)
في ضوء هاتين الحقيقتين ينبغي أن ننظر إلى أحكام الأسرة في الشريعة الإسلامية، فهي أحكام تمثل جزءا من المنظومة العامة للتشريع الإسلامي الذي لم يرتضِ الله عز وجل للناس دينا غيره، إذ تَحُوطُها عقيدة جامعة وتمتزج بها أخلاق ربانية سامية وترتبط بها أحكام متعلقة بالشؤون الأخرى من الحياة. والمسلم في إطار هذه الأحكام كلها إنما يحكمه مبدأ واحد، وهو أنه عبدٌ لله عز وجل مُكَلَّف بأن يمتثل لأوامره سبحانه وتعالى وينتهي عما نهاه عنه، ولا يملك أن يقبل حكم الله عز وجل في مجال ما من مجالات الحياة ويرفض حكما آخر صادرا عنه سبحانه وتعالى في مجال آخر. كما لا يملك أن يُشَرِّعَ لنفسه أحكاما تناقض ما شرعه الله عز وجل له. ذلك أن موقف الإنسان من ربه عز وجل هو موقف العبودية، وهذه العبودية تقتضي أن يلتزم الإنسان بكل ما يأتيه من ربه على سبيل التشريع، وذلك بعض ما يفيده قول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِي}(6).
وكذلك الأمر بالنسبة للحقيقة الثانية، فالمسائل المتعلقة بالأسرة منها ما هي متعلقة بمصالح أو مفاسد ثابتة ارتبطت بالأسرة منذ وجودها فهي لا تنفك عنها ولا تتغير بتغير الزمان والمكان وأحوال الناس وعادات الأفراد والمجتمعات، ولذلك وضع لها الشارع الحكيم سبحانه وتعالى أحكاما تتكفل بجلب ما كان منها مصلحة ثابتة ودفع ما كان منها مفسدة ثابتة. أما المسائل الأخرى التي قد تكون في بعض الأحيان مصالح بالنسبة للأسرة أو أسبابا لمصالح، وفي أحيان أخرى تتحول إلى مفاسد أو أسبابا لمفاسد، فإن الشارع تكفل بوضع المبادئ العامة التي تضمن جلب ما هو مصلحة ودفع ما هو مفسدة تبعا لملابسات الواقع وتبدل سلوكات الناس وعاداتهم وأعرافهم.
في أي نوعي الأحكام يجوز الاجتهاد؟
إن الذي ينبغي تقريره هنا؛ أن اجتهاد المكلفين في الأحكام الشرعية ينبغي أن ينضبط بهاتين الحقيقتين ولا يخرج عنهما.(1/4)
فبالنسبة للأحكام الثابتة لا يجوز أن يُوضع شيء منها موضع اجتهاد أو نقاش. إلا ما كان من اجتهاد في كيفية تطبيقها ومراعاة أوفق السبل لتحقيق مقصود الشارع من تشريعها.
وبالنسبة للأحكام المتغيرة، ينبغي أن يكون هناك متابعة مستمرة من قبل المجتهدين لأفعال المكلفين وتصرفاتهم في إطار المسائل المتغيرة حتى يتم ملاحظة ما يطرأ عليها من تغيرات ليتم متابعتها بالاجتهادات الكفيلة بجلب ما كان منها مصلحة ودفع ما أصبح منها مفسدة.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله:
"الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة مر عليها، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة، ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم، ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيير، ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه.
والنوع الثاني: ما يتميز بحسب اقتضاء المصلحة له زمانا ومكانا وحالا، كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها، فإن الشارع ينوع فيها حسب المصلحة"(7).
ولابد من التأكيد هنا على مسألة ذات أهمية بالغة، وتتمثل في أن الأحكام الثابتة في مسائل الأسرة أكثر بكثير من المسائل ذات الطبيعة المتغيرة، فالشارع الحكيم قد أحاط الأسرة بالكثير من الأحكام التفصيلية التي من شأنها أن تسد الباب أمام أي اجتهاد بشري فيها. وما ذلك إلا لأن الأسرة ككيان اجتماعي يعتبر اللبنة الأولى في قيام المجتمع، فإذا ما صلح حال الأسرة صلُح حال المجتمع، وإذا ما فسد حال الأسرة فسد حال المجتمع، ولذلك اقتضى الأمر أن يحيط الشارع هذا الكيان بكل أسباب الصحة والعافية المتمثلة في التشريعات التفصيلية، ويمنع من إجراء التجارب التشريعية المختلفة عليه تبعا لتبدل الظروف والأحوال وتباين ثقافات الناس ونزواتهم.(1/5)
في ضوء ما سبق كله، نود في هذا البحث أن نؤشر على بعض مسائل الأسرة التي لها صفة الثبات، والتي أحاطها الشارع الحكيم بأحكام ثابتة لا تتبدل ولا تتغير. ثم نتبعها بذكر مسائل أخرى ليست لها صفة الثبات والديمومة:
نماذج من الأحكام الثابتة في نطاق الأسرة
1. بطلان نكاح المحرمات
حرم الشارع الحكيم على الرجل أن يتزوج من محارمه من النساء، كما حرم على المرأة أن تتزوج من محارمها من الرجال. ذلك أن بقاء الرابطة التي تربط بين الرجل ومحارمه من النساء والمرأة ومحارمها من الرجال رابطةً مقدسة تعلو فوق الشهوات أمرٌ مقصودٌ شرعا وفيه من المصالح ما لا يخفى على أي عاقل.
ولذلك جاء التشريع الحكيم واضحا بتحريم هذا النوع من الزواج على سبيل التأبيد، فقال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}(8). وقد عدد المالكية أصناف النساء اللائي يحرم على الرجل الزواج منهن، وهن ثمان وأربعون امرأة: خمس وعشرون منها على سبيل التأبيد: سبع من النسب: الأم والبنت والأخت والعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت. ومثلهن من الرضاع. وأربع بالمصاهرة: أم الزوجة وبنت الزوجة المدخول بها وزوجة الأب وزوجة الابن. ومثلهن من الرضاع. ونساء النبي صلى الله عليه وسلم، والملاعنة، والمنكوحة في عدة من زوج سابق.(1/6)
وأما المحرمات لا على سبيل التأبيد، فثلاث وعشرون امرأة: المرتدة، وغير الكتابية، والزوجة الخامسة، والمتزوجة، والمعتدة، والمستبرئة، والحامل، والمبتوتة، والأَمَة المُشْتَرَكَة، والأَمَة الكافرة، والأَمَة المسلمة للقادر على طَوْل الحرة، وأَمَة الابن، وأَمَة نفسه، وسيدته، وأم سيده، والمُحرِمة بالحج، والمريضة، وأخت الزوجة، وخالتها، وعمتها، إذ لا يجوز الجمع بينهما، والمنكوحة يوم الجمعة عند الزوال، والمخطوبة بعد الركون للغير، واليتيمة غير البالغة(9).
فأي علاقة زواج تنشأ بين الرجل وأي صنف كمن هؤلاء النساء، هي علاقة باطلة، وأي عقد يبرم هو عقد باطل يجب فسخه ولا يترتب عليه أثر شرعي. وهذا حكم ثابت لا يقبل التبديل والتغيير، إلا في حالة النساء المحرمات على سبيل التأقيت، إذا ذهب سبب التحريم، فيجوز حينئذ العقد والزواج. والحكمة من تحريم هذه الأصناف من النساء، سواء ما كان منهن على سبيل التأبيد أو على سبيل التوقيت، ظاهرة؛ وهي الحفاظ على قداسة الروابط الاجتماعية وجعلها بمنأى عن اتباع الشهوات والخضوع للنزوات وكل ما من شأنه أن يفضي إلى اختلال العلاقات الإنسانية في المجتمع.
2. ولاية الرجل على المرأة في الزواج
مسألة ولاية الرجل على المرأة في الزواج مما أثار الكثير من الجدل والنقاش، وخاصة في عصرنا هذا الذي صار فيه بعض الناس يستنكرون أن تخضع المرأة لولاية أبيها أو أخيها أو من هو ولي لها في الزواج، خاصة المرأة المتعلمة والمثقفة.
والحق أن ولاية الرجل ثابتة على المرأة في الشرع، ليس لأنها لم تكن متعلمة ولا مثقفة، وإنما لأنها امرأة وكفى، بغض النظر عن مستواها التعليمي، أو منصبها الاجتماعي.(1/7)
فالمرأة التي لم يسبق لها الزواج، وإن تقدمت في السن، وإن بلغت ما بلغت من الثقافة والعلم، فهي تظل عديمة المعرفة بطبائع الرجال وأخلاقهم وأصولهم الاجتماعية وسوابقهم الأخلاقية. إضافة إلى أن المرأة بطبيعتها سريعة التأثر بالمغريات والكلام المعسول، وقد تنساق وراء من تتصوره فارس الأحلام وزوج المستقبل ثم لا يلبث أن يظهر على حقيقته وتنكشف سيرته، ولكن بعد فوات الأوان.
لأجل ذلك شرع الشارع الحكيم حكم الولاية، بأن رفض عقد المرأة زواجها بنفسها، مشترطا موافقة وليها وإمضاءه العقد نيابة عنها، وذلك حماية للمرأة من الانخداع بمن يتقدم إليها من الرجال أولا، وحماية لها من نفسها التي قد تنساق للانخداع ثانيا، لأن الولي عادة حريص على مصلحة موليته، مجتهد في معرفة أصول الرجل الذي يتقدم للزواج منها وتربيته وأخلاقه وسيرته خلال حياته السابقة.
أخرج الترمذي وغيره عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِل،ٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِل،ٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِل،ٌ فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا، فَإِنْ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لاَ وَلِيَّ لَهُ»(10).(1/8)
ولا مجال لما يبديه الرافضون لمبدأ الولاية، من أن الولي ربما استغل حقه في الولاية في الإضرار بموليته ومنعها من الزواج ممن ترضى حتى ولو لم يكن فيه ما يُعاب، بل قد يستغلها هذا الولي في تزويجها ممن يريد هو حتى وإن كان فيه الكثير مما يُعاب. إن هذا الاعتراض ربما كان صحيحا ومقبولا لو أن المرأة لم يكن أمامها أي سبيل لرفع الغبن الواقع عليها من وليها، لكن الحديث صريح في أن المرأة من حقها أن ترفع أمرها إلى القاضي إذا رأت أن وليها يريد أن يحرمها من الزواج من رجل دون مبرر مقبول: «فَإِنْ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لاَ وَلِيَّ لَهُ». فالولاية هي ولاية توجيه وتسديد وصيانة، وليست ولاية استبداد وإجبار واستغلال.
والذي أراه ـ والله أعلم ـ أن حكم الولاية من الأحكام الثابتة التي لا تقبل التغيير والتبديل، لأن طبيعة المرأة ثابتة لا تتغير، وحاجتها الفطرية إلى الزواج قد تدفعها إلى التسرع في إبرام عقد الزواج مع من يتقدم إليها لمجرد إعجابها بمظهره وما يصف به نفسه. ولذلك فإن الوسيلة الوحيدة لحمايتها من الوقوع في أخطاء فادحة تعود على حياتها بأوخم العواقب؛ هي إثبات الولاية عليها.
3. قوامة الرجل على المرأة ونفقته عليها
يقرر القرآن الكريم أن {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}(11). وهذا حكم ثابت لا يتبدل بتبدل الظروف والأحوال ولا يتغير بتغير حياة الناس والتطور الذي يطرأ عليها.
فالآية الكريمة جعلت أمر القوامة ثابتا للرجل على المرأة، لاعتبارين اثنين:
الأول: التكوين الطبيعي لكل من الرجل والمرأة {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}. والثاني: التزام الرجل بالنفقة {وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}.(1/9)
فالاعتبار الأول يضع في حسابه أن سرعة انفعال المرأة تجعلها أقل تحملاً من الرجل، وأسرع تصدعاً حينما تواجه الشدائد والمسؤوليات الكبيرة، كما أن طبيعتها العاطفية تسبب في الغالب افتقارها للموضوعية في مواقفها من الأحداث والمشكلات. في حين أن الرجل أقوم منها في الجسم، وأقدر على الكسب والدفاع عن بيته وعرضه، لا شك في ذلك، وهو أقدر منها على معالجة الأمور، وحل معضلات الحياة بالمنطق والحكمة وتحكيم العقل والتحكم بعواطفه، لا شك في ذلك أيضا.
والسبب الثاني للقوامة؛ هو التزام الرجل بالنفقة على أسرته التزاماً لا يرفعه غنى الزوجة ولا اكتسابها المالي بعمل، فالرجل في جميع هذه الأحوال يجب عليه النفقة على زوجته وأولاده، وهي غير مطالبة أن تنفق على الأسرة أي شيء من مالها الشخصي قَلَّ أو كَثُرَ. وطبيعي أن يسهم التزام الرجل بالنفقة في إحقاق القوامة له، لأن من يتكلّف الإنفاق على مشروع ما يكون أحق من غيره بالإشراف عليه.
وهكذا يتضح أن قوامة الرجل على المرأة قوامة ثابتة ثبوت الحياة، لا يلغيها خروجها للعمل ولا أي تغير في أوضاعنا الحضارية(12).
ثم إن هذا المبرر الذي يُثار في الكثير من الأحيان كسبب يُراد به رفع قوامة الرجل عن المرأة، والذي هو عمل المرأة وخروجها من البيت واكتسابها للمال مثلها مثل الرجل، مما يجعلها في غير حاجة إلى قوامته عليها، بل يجعل أمر القوامة نوعا من إعطاء السيطرة للرجل على المرأة دون مبرر.
هذا المبرر أو الاعتراض لا قيمة له من الناحية الشرعية، لأنه قبل أن نقول بأن عمل المرأة واكتسابها للمال يبرر رفع قوامة الرجل عنها، ينبغي أولا أن نتساءل عن حكم هذا العمل نفسه، وهل هو مباح شرعا(13)؟(1/10)
لا شك أن الثابت شرعا هو أن أصل وظيفة المرأة في الإسلام أن تكون في البيت إلا لضرورة، ولذا كفل لها الإسلام النفقة والرعاية، وأسقط عنها بعض الواجبات الدينية التي تحتاج في أدائها إلى الخروج من البيت، إمعاناً منه في قرارها في بيتها. امتثالا لأمر الحق سبحانه وتعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}(14).
لذا فإن خروجها من البيت، لا لضرورة ولكن لأجل أن تعمل كما يعمل الرجل حتى يكون لها دخل مثله، يعتبر خروجاً على أوامر الدين، وتمرداً على تعاليمه لا يقره الإسلام ولا يرضاه، فلا يصلح لأن يكون سبباً في إسقاط شِرْعَةٍ شرَعَها الله وأقامها: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}.
وحتى لو فرضنا وسلمنا بأنها صارت شريكة له في الإنفاق على البيت، فإن هذه المشاركة لا تؤهلها لأن تكون القوَّامة على البيت، لأنها بطبيعتها لا تستطيع مواصلة القيام بأعمال القوامة في كل الأوقات، لأن ما يطرأ عليها من موانع فطرية كالحمل، والولادة، والحيض، تعطل قيامها جسمياً وعقلياً بما تتطلبه القوامة من أعمال. وفي النهاية، ليس هناك إطلاقا ما يبرر الثورة على مبدأ القوامة، لأنه في الواقع ليس نوعا من السيطرة والاستبداد يفرضهما الرجل على المرأة، وإنما هي قيادة كلف الله عز وجل بها الرجل نظرا إلى خصائصه الفطرية التي تؤهله للقيام بها، وهي وظيفة تقوم أساسا على الشورى والتفاهم حول أمور البيت والأسرة. (يتبع)
---
(1) سورة المائدة، من الآية: 3.
(2) سورة آل عمران، الآية: 85.
(3) سورة البقرة، من الآية: 85.
(4) الموافقات، شرح وتحقيق الشيخ عبد الله دراز، دار المعرفةـ بيروت، بدون تاريخ، ج: 2، ص: 298.
(5) سورة النحل، الآية: 90.
(6) سورة النحل، الآية: 90.
(7) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، ج: 1، ص: 346 ـ 349.
((1/11)
8) سورة النحل، الآية: 90.
(9) الفقه الإسلامي وأدلته، للدكتور وهبة الزحيلي، دار الفكر ـ دمشق، ط: 4، 1418 هـ، 1997 م، ج: 9، ص: 6625.
(10) سنن الترمذي، كتاب النكاح عن رسول الله، باب ما جاء لا نكاح إلا بولي، رقم: 1021. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن.
(11) سورة النساء، من الآية: 34.
(12) من مقال للأستاذة خديجة عبد الهادي المحيميد، بعنوان (القوامة وحقيقتها الشرعية). مصدره: حركة تغريب المرأة الكويتية. انظره على الشبكة العنكبوتية العالمية (الأنترنت).
(13) راجع في هذا الموضوع: عمل المرأة واختلاطها ودورها في بناء المجتمع، للدكتور نور الدين عتر، دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث ـ دبي، ط: 1، 1422 هـ، 2001م. قوامة الرجل وخروج المرأة للعمل (العلاقة والتأثير)، للدكتور محمد بن سعد بن عبد الرحمن آل سعود، دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث ـ دبي، ط: 1، 1422 هـ، 2002م.
(14) سورة الأحزاب، من الآية: 33.
الثابت والمتغير من أحكام الأسرة في الشريعة الإسلامية (2/2)
على خلاف ما قد يبدو للكثير من الناس، فإن تعدد الزوجات هو وسيلة من وسائل حماية المجتمع وصيانة أفراده من الانحراف والتشرد والضياع. يدل على هذا قولُه تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا}(1).(1/12)
إن القارئ لهذا النص القرآني الكريم، لا شك أنه سيتساءل عن العلاقة بين الإقساط في اليتامى ـ أي العدل فيهم بإعطائهم حقوقهم ـ وتعدد الزوجات؟ وكيف يكون تشريع تعدد الزوجات مقتضياً وموجباً للعدل في اليتامى؟ والجواب: أن لليتيم حاجات تتجاوز حاجة الجسم من الأكل واللباس والمأوى؛ حاجات عاطفية ونفسية وتربوية لا تقلّ في أهميتها عن الحاجات الجسمية، والواقع العملي وأحكام الشرع (الإسلامي) تظهر أنَّ هذه الحاجات في الغالب تُلبَّى عندما تتزوج أمّ اليتيم فيكون لليتيم في هذه الحالة أب بديل وجوّ أسريّ بديل وإخوة وأخوات من أمه، وتكون علاقة زوج الأم بربيبه أو ربيبته (أولاد الأم من الزوج السابق) مشابهة في الغالب لعلاقته بأولاده لصلبه، حتى إنه يحرَّم عليه شرعاً الزواج بربيبته، كما يحرم عليه الزواج من ابنته.
والواقع يُظهر أنَّ أمّ الأيتام في الغالب لا تتزوَّج إلا في مجتمع يكون فيه الطلب على النساء كثيراً والعرض قليلاً، وهذا الوضع لا يتحقق عادة إلا في مجتمع يشيع فيه تعدد الزوجات. في مثل هذا المجتمع وحده تُتاح فرصة الزواج لكل امرأة مهما كان لديها من موانع الرغبة فيها كزوجة؛ مثل أن تكون أرملة مصبية، أي ذات أولاد. وبالعكس فإنَّ المجتمعات التي لا يشيع فيها تعدد الزوجات، تتحدد فيها فرصة الأرامل في الزواج، حتى إنَّه مع مرور الوقت يصبح زواج الأرملة عيباً أو محرَّماً بحكم التقليد. معنى ما تقدَّم أنَّ شيوع تعدد الزوجات في مجتمع ما، يجعل الطلب على النساء في ذلك المجتمع كبيراً، فحتى الأرملة ذات الأيتام سوف تجد الرجل المناسب الذي يرغب في زواجها، فإذا تزوَّجت فاء ظلّ الأب البديل على أولادها اليتامى ونعموا بالجوّ الأسري كأيّ أطفال عاديين لم يُصابوا بفقد أبيهم، وبذلك يتحقق في هذا المجتمع الوفاء لليتيم بحقوقه، أو كما جاء في الآية الكريمة (الإقساط فيه).(1/13)
وما تقدَّم يشير إلى معنى أوسع للحكمة من تشريع تعدد الزوجات، فكما شاهدنا، فإنَّ المجتمع الذي يشيع فيه تعدد الزوجات يعمل فيه قانون العرض والطلب (وهو قانون طبيعي) عمله في أي مجال آخر، فتتاح فيه الفرصة للزواج لكل امرأة، فلا يبقى فيه عوانس ولا مطلقات ولا أرامل فقدن الأمل في الزواج بعد فقد أزواجهن. وسيعمل هذا القانون الطبيعي ـ ولا بدّ ـ عمله، فيؤثر إيجابياً وبصورة ظاهرة على قيمة المرأة في المجتمع، وبالتالي على حريتها، واستيفائها حقوقها، وأن تؤتى ما كتب الله لها، وأن تعامل من قبل الرجل والمجتمع بالعدل. ولعلَّ هذا ما تشير له الآية الكريمة {ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا}، فتعدد الزوجات ـ في النظر المتعمق ـ يحمي المرأة من الظلم وانتقاص الحق(2).
ثم إن التعدد لم تتم إباحته بإطلاق لكل من يريده، وإنما اشترط الشارع لإباحة التعدد شرطين جوهريين هما:
الأول: توفير العدل بين الزوجات، أي العدل الذي يستطيعه الإنسان ويقدر عليه، وهو التسوية بين الزوجات في النفقة وحسن المعاشرة والمبيت، لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا}، فإنه تعالى أمر بالاقتصار على واحدة إذا خاف الإنسان الجور ومجافاة العدل بين الزوجات.
والثاني: القدرة على الإنفاق(3).
هذا إضافة إلى أن التعدد ليس أمرا يُفرض على المرأة، وإنما هي التي ترضى به أساسا، فهو بالنسبة للزوجة الجديدة تعدد برضاها. أما بالنسبة للزوجة الأولى، فإن الإسلام يعطيها الحق في أن تشترط على زوجها حق الطلاق إن هو تزوج عليها بدون موافقتها(4).(1/14)
إن تعدد الزوجات مباح إذا توفرت شروطه، والواقع العملي يؤكد أن قليلين من الرجال هم الذين يلجؤون إلى التعدد، فهو أمر نادر واستثنائي. وقد أثبتت آخر الإحصائيات التي أجرتها الجامعة العربية أن نسبة تعدد الزوجات في البلاد العربية لا تزيد على 7 إلى 10 في الألف. ولذلك لا داعي للخوف الذي يبديه الثائرون على إباحة تعدد الزوجات حين يدعون أن التعدد من شأنه أن يدمر المجتمع ويساهم في انتشار الفساد وتشرد الأطفال.
5. إباحة الطلاق مع اعتباره أبغض الحلال
من الأحكام الثابتة في الشريعة الإسلامية؛ إباحة الطلاق، واعتباره أبغض الحلال إلى الله.
صحيح أن الإسلام قد أحاط عقد الزواج بكل الشروط والضمانات التي من شأنها أن تجعله عقد الحياة الذي يربط على سبيل التأبيد بين رجل وامرأة.
غير أن الإسلام وهو يحتم أن يكون عقد الزواج مؤبداً يعلم أنه قد يحدث بين الزوجين من الأسباب والدواعي، ما يجعل الطلاق ضرورة لازمة، ووسيلة متعينة لتحقيق الخير والاستقرار العائلي والاجتماعي لكل منهما، وأمراً لا بد منه للخلاص من رابطة الزواج التي أصبحت لا تحقق المقصود منها، والتي لو ألزم الزوجان بالبقاء عليها، لأصبح ذلك سببا لكثير من الشرور والمفاسد، لهذا شُرع الطلاق وسيلة للقضاء على تلك المفاسد، وللتخلص من تلك الشرور، وليستبدل كل منهما بزوجه زوجاً آخر، قد يجد معه ما افتقده مع الأول، فيتحقق قول الله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا}(5). والإسلام عندما أباح الطلاق، لم يغفل عما يترتب على وقوعه من الأضرار التي تصيب الأسرة، خصوصاً الأطفال، إلا أنه لاحظ أن هذا أقل خطراً، إذا قورن بالضرر الأكبر، الذي تُصاب به الأسرة والمجتمع كله إذا أبقى على الزوجية المضطربة، والعلائق الواهية التي تربط بين الزوجين على كره منهما، فآثر أخف الضررين، وأهون الشرين.(1/15)
وفي الوقت نفسه، شرع من التشريعات ما يكون علاجاً لآثاره ونتائجه، فأثبت للأم حضانة أولادها الصغار، ولقريباتها من بعدها، حتى يكبروا، وأوجب على الأب نفقة أولاده، وأجور حضانتهم ورضاعتهم، ولو كانت الأم هي التي تقوم بذلك ومن الأحكام الثابتة المتعلقة بالطلاق كذلك؛ أن الطلاق بيد الرجل لا بيد المرأة، لأن فصم رابطة الزوجية أمر خطير، يترتب عليه آثار بعيدة المدى في حياة الأسرة والفرد والمجتمع، فمن الحكمة والعدل ألا تُعطى صلاحية البت في ذلك، وإنهاء الرابطة تلك، إلا لمن يدرك خطورته، ويقدر العواقب التي تترب عليه حق قدرها، ويزن الأمور بميزان العقل، قبل أن يقدم على الإنفاذ، بعيداً عن النزوات الطائشة، والعواطف المندفعة، والرغبة الطارئة.
والثابت الذي لا شك فيه أن الرجل أكثر إدراكاً وتقديراً لعواقب هذا الأمر، وأقدر على ضبط أعصابه، وكبح جماح عاطفته حال الغضب والثورة، وذلك لأن المرأة خلقت بطباع وغرائز تجعلها أشد تأثراً، وأسرع انقياداً لحكم العاطفة من الرجل، لأن وظيفتها التي أعدت لها تتطلب ذلك، فهي إذا أحبت أو كرهت، وإذا رغبت أو غضبت اندفعت وراء العاطفة، لا تبالي بما ينجم عن هذا الاندفاع من نتائج ولا تتدبر عاقبة ما تفعل، فلو جعل الطلاق بيدها، لأقدمت على فصم عرى الزوجية لأتفه الأسباب، وأقل المنازعات التي لا تخلو منها الحياة الزوجية، وبذلك تصبح الأسرة مهددة بالانهيار بين لحظة وأخرى.(1/16)
ثم إن إيقاع الطلاق يترتب عليه تبعات مالية، يُلزم بها الأزواج: فبه يحل المؤجل من الصداق إن وجد، وتجب النفقة للمطلقة مدة العدة، وتجب المتعة لمن تجب لها من المطلقات، كما يضيع على الزوج ما دفعه من المهر، وما أنفقه من مال في سبيل إتمام الزواج، وهو يحتاج إلى مال جديد لإنشاء زوجية جديدة، ولا شك أن هذه التكاليف المالية التي تترتب على الطلاق، من شأنها أن تحمل الأزواج على التروي، وضبط النفس، وتدبر الأمر قبل الإقدام على إيقاع الطلاق، فلا يقدم عليه إلا إذا رأى أنه أمر لا بد منه ولا مندوحة عنه. أما الزوجة فإنه لا يصيبها من مغارم الطلاق المالية شيء، حتى يحملها على التروي والتدبر قبل إيقاعه، إن استطاعت. لذلك كان من الخير للحياة الزوجية، وللزوجة نفسها أن يكون البت في مصير الحياة الزوجية في يد من هو أحرص عليها وأضن بها.
والشريعة لم تهمل جانب المرأة في إيقاع الطلاق، فقد منحتها الحق في الطلاق، إذا كانت قد اشترطت في عقد الزواج شرطاً صحيحاً، ولم يف الزوج به. كما أباحت لها الشريعة الطلاق بالاتفاق بينها وبين زوجها، ويتم ذلك في الغالب بأن تتنازل للزوج أو تعطيه شيئاً من المال، يتراضيان عليه، ويسمى هذا بالخلع أو الطلاق على مال، ويحدث هذا عندما ترى الزوجة تعذر الحياة معه، وتخشى إن بقيت معه أن تقصر في حقوقه، وهذا ما بينه الله تعالى في قوله: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ}(6).(1/17)
ولها طلب التفريق بينها وبينه، إذا أُعسر ولم يقدر على الإنفاق عليها، وكذا لو وجدت بالزوج عيباً، يفوت معه أغراض الزوجية، ولا يمكن المقام معه مع وجوده، إلا بضرر يلحق الزوجة، ولا يمكن البرء منه، أو يمكن بعد زمن طويل، وكذلك إذا أساء الزوج عشرتها، وآذاها بما لا يليق بأمثالها، أو إذا غاب عنها غيبة طويلة.
كل تلك الأمور وغيرها، تعطي الزوجة الحق في أن تطلب التفريق بينها وبين زوجها، صيانة لها أن تقع في المحظور، وضناً بالحياة الزوجية من أن تتعطل مقاصدها، وحماية للمرأة من أن تكون عرضة للتعسف والظلم(7).
6. أنواع العِدَّة
من الأحكام الثابتة في الشريعة الإسلامية في باب الأسرة أيضا؛ أصناف العدة المتعلقة بكل امرأة تنفصل عن زوجها بوفاة أو طلاق.
هذه الأصناف من العدة لا يدخلها التبديل والتغيير تحت أي مبرر كان. وتفصيلها كما يلي:
أ. الاعتداد بثلاثة أشهر، بالنسبة للمرأة التي لم تحض لصغر، أو التي انقطع عنها دم الحيض لكبر. فهذه عدتها إذا انفصلت عن زوجها بالطلاق هي ثلاثة أشهر قمرية كاملة، عملا بقوله تعالى: {وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ}(8).
ب. وضع الحمل بالنسبة للمرأة الحامل، عملا بقوله تعالى: {وَأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}(9).
ج. الاعتداد بثلاثة قروء، حيضات أو أطهار، بالنسبة للمرأة المنفصلة عن زوجها بالطلاق والتي من عادتها أن تحيض. عملا بقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ}(10).
د. الاعتداد بأربعة أشهر وعشرا بالنسبة للمرأة المتوفى عنها زوجها، عملا بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}(11).(1/18)
هذه الأنواع من العدة ثابتة ومستمرة، والمصلحة من إنفاذها ثابتة ومستمرة كذلك، كما أن المفسدة المتوقعة من عدم مراعاتها محققة أيضا. ولذلك لم يترك الشارع أمر تقدير العدة للمكلفين، وإنما فصل القول فيها وأغلق باب الاجتهاد.
7- . اعتداد المطلقة في بيت الزوجية
من الأحكام الشرعية الثابتة، والتي تخلى الناس عنها كلية، ولم يعد لها وجود في حياتهم؛ وجوب قضاء المرأة المطلقة عدتها في بيت الزوجية، وعدم خروجها منه إلى بيت أهلها. وذلك ما يدل عليه صراحة قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}(12). فالطلاق الرجعي، وإن كان حلا مؤقتا للرابطة الزوجية، إلا أنه يُرجى أن تكون مدة العِدَّة فرصة لكُلٍّ من الزوجين لإعادة النظر في علاقته بالآخر، وكلما كانا متقاربين في المكان كلما كانت عودة المودة بينهما أمرا مرجوا، لكن حين يبتعد كل منهما عن الآخر، ويتعرض كل منهما لما يزهده في الآخر، فإن أسباب المراجعة تنقطع. ولذلك أكد الله عز وجل ضرورة ألا تخرج المرأة المطلقة من بيت الزوجية وأن تقضي فيه مدة العدة. وهذا حكم ثابت مصلحته ظاهرة، وليس فيه مفسدة مطلقا، لأن مراجعة الرجل لزوجته أمر مطلوب شرعا، واتصاله بها في أثناء العدة يعتبر مراجعة تثبت بها عودة العلاقة الزوجية بينهما من جديد.
لكن المؤسف أن المسلمين قد تخلوا عن هذا الحكم الثابت وعصوا الله عز وجل فيه، وصاروا لا يعرفون من الطلاق إلا أنه عودة الزوجة إلى بيت أبيها وانقطاع صلة ما بينها وبين زوجها.(1/19)
8. أنصبة الورثة في الميراث
بَيَّنَ الشارع الحكيم في عدد من آيات التنزيل وفي جملة من أحاديث السنة النبوية الشريفة، أصناف الورثة الذين يستحقون أن يرثوا من تركة المتوفى، كما بَيَّنَ ما يستحقه كل صنف من الورثة من نصيب في التركة، سواء كان من أصحاب الفروض أو ممن يرثون بالتعصيب. وتجري كثير من قوانين الأحوال الشخصية في الدول الإسلامية على توزيع تركة المتوفى بحسب ما نص عليه القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة. ولم يُثِرْ أيٌّ من هذه الأحكام أيَّ جدل أو نقاش، إلا ما كان من حكم استحقاق الأنثى نصف نصيب أخيها الذكر في حال وفاة أحد والديهما.
لقد اتخذ بعض المغرضين من هذا الحكم شاهد إدانة يدَّعون به أن الإسلام قد أهان المرأة وجعلها دون الرجل في القيمة والمكانة الاجتماعية، وهذا ـ على زعمهم ـ مما يتعارض وحقوق الإنسان.
وهذا في الحقيقة فيه الكثير من التجني، وهو ينطوي على جهل كبير بأحكام الشريعة الإسلامية عامة وأحكام المواريث خاصة، فكثير من الناس يتصورون أن المرأة على النصف من الذكر في الميراث، دائما وفي كل الحالات، غافلين عن منطوق الآية الكريمة التي يقول الله عز وجل فيها: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ}(13).
فالأنثى على النصف من الذكر في حال وفاة أحد الأبوين وتركه أولادا، فهؤلاء يرثون للذكر مثل حظ الأنثيين. وهذا حكم ثابت ومقطوع به لا يتبدل ولا يتغير فيما يتعلق بالأولاد.
لكن في أحكام أخرى من أحكام المواريث ليس بالضرورة أن تكون الأنثى مستحقة لنصف نصيب الذكر، فهناك أربع حالات فقط ترث فيها المرأة نصيبا على النصف من نصيب الرجل، في حين أن هناك أكثر من عشر حالات ترث فيها المرأة مثل ميراث الرجل تماما، بل إن هناك حالات كثيرة أخرى ترث فيها المرأة نصيبا أكبر من نصيب الرجل(14).(1/20)
إن أحكام المواريث التي فصلها الشارع ولم يتركها لاجتهاد المجتهدين، هي أحكام ثابتة لا تقبل التغيير والتعديل. والسبيل الوحيد إلى الحفاظ على حقوق الورثة والعدل بينهم في توزيعها، هو سبيل تقسيم التركة على مقتضى ما نص عليه القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وأي تغيير أو تعديل فيها بدعوى المساواة والمماثلة هو ظلم وتجن وتعد لحدود الله عز وجل، لأن فيه دعوى معرفة مصلحة المكلفين أكثر مما يعرفها الخالق الحكيم الذي خلق هؤلاء المكلفين ثم لم يعرف كيف يعدل بينهم، تعالى الله عز وجل عن ذلك علوا كبيرا.
نماذج من المسائل المتغيرة الأحكام في نطاق الأسرة
إن المسائل المذكورة سابقا التي تتميز بصفة الديمومة والثبات مما اقتضى أن يحيطها الشارع بأحكام ثابتة، هي بعض النماذج فقط مما أحاطه الشارع بأحكام ثابتة في مسائل الأسرة، ذلك أن أغلب مسائل الأسرة فصلها القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة ولم يتركها لاجتهاد المجتهدين، ولذلك فإن المسائل المتغيرة في نطاق الأسرة قليلة ونادرة، إلا ما كان من وسائل تطبيق تلك الأحكام الثابتة فهي متغيرة حقا، أما أصول المسائل فهي ثابتة. وقد لاحظ أحد الباحثين انعدام "منطقة الفراغ التشريعي في ميدان الأسرة، دفعا لذريعة التقنين فيها أو تسريب امتيازات أو استطراق مصلحة معينة من خلال التشريع البشري الوضعي، مدعاة التغيير المستمر في المستقبل الذي تحتمه متطلبات الظروف ونوازع النفس متى رق فيها الوازع والرادع"(15)، كما عبر. ولذلك نكتفي هنا بذكر مثالين للمسائل المتغيرة، وهما:
1. مقدار النفقة
إن النفقة واجبة على الرجل تجاه زوجته وأولاده ووالديه في حالة عجزهما عن النفقة على نفسيهما.(1/21)
ووجوب النفقة على الزوجة والأولاد أمر ثابت لا يتبدل ولا يتغير، ولكن مقدار النفقة أمر لم يحدده الشارع، وإنما "جعل الواجب هو تلبية حاجة المرأة بالمعروف. والحاجة تختلف من عصر لآخر، ومن بيئة لأخرى، ومن وسط لآخر، ومن رجل لآخر. فالمدنية غير الريفية، والحضرية غير البدوية، والناشئة في بحبوحة النعيم غير الناشئة في خشونة الشظف، وزوجة الثري غير زوجة المتوسط، غير زوجة الفقير"(16). وقد بين الله عز وجل ذلك بقوله: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}(17).
وأمر تقدير النفقة متروك للقاضي يفصل فيه عند التنازع، بالنظر إلى حال الزوج وظروفه وطبيعة وظيفته ومقدار دخله. وهذا يتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال، ولا يمكن أن تكون النفقة التي يحكم بها القاضي ثابتة وواحدة في كل الحالات التي تُعرض عليه، وإلا صار هناك ظلم قد يحيق ببعض النساء والأطفال، لأن الرجل الغني الذي عَوَّدَ زوجته وأولاده على نمط رفاهي معين من العيش ثم حدث الطلاق بينه وبين زوجته، لا يجوز أن يُحكم عليه بالنفقة بنفس المقدار الذي يُحكم به على فقير لم يُعَوِّد زوجتَه وأولادَه إلا على الضروري من العيش.
2. الشروط في عقد الزواج
من حق كل واحد من الزوجين عند إبرام العقد؛ أن يشترط شروطا إضافية يراها كفيلة بالمحافظة على حقوقه، سواء في أثناء استمرار علاقته مع زوجه، أو عند وقوع الانفصال بينهما. وهي شروط يلزم القاضي كل واحد منهما بالوفاء بها، إذا ما وقع التنازع ورُفِع الأمر إليه.
لكن هذه الشروط لا يجوز أن تتعدى الغرض المقصود منها وهو حماية حقوق كل طرف، فتتحول إلى وسيلة لإضرار أحد الزوجين بالآخر.(1/22)
وذلك مثل أن تشترط المرأة على زوجها أن يدفع لها مبلغا ضخما من المال في حال وقوع الطلاق بينهما، أو تشترط عليه ألا يتزوج عليها مهما كان مبرر الزواج معقولا ومشروعا، أو يشترط الرجل على زوجته أن تتنازل عن حقها في حضانة الأولاد إذا وقع الطلاق بينهما. فمثل هذه الشروط الإضرار فيها مقصود وواضح، وهو أمر لا يقبله الشرع ولا يرتضي حصوله، ولذلك فينبغي عدم إبرام عقد زواج متضمن لمثل هذه الشروط، وإن ذُكِرت في العقد فلا ينبغي للقاضي أن يلتفت إليها إذا ما وقع النزاع وانتهى إلى الانفصال، لأنها شروط تذهب بمقتضى العقد.
موقفنا من دعوات تغيير قانون الأسرة
في ضوء ما سبق يمكن وزن الصيحات الكثيرة الصاخبة الداعية إلى تغيير قانون الأسرة الجزائري، فنقول:
لا شك أن الداعين إلى تغيير قانون الأسرة لهم الكثير من الحق، وخاصة المتخصصين المخلصين منهم، وذلك حين لاحظوا فراغا تشريعيا في المسائل الإجرائية المتعلقة بتنفيذ الأحكام القضائية في مسائل الزواج والطلاق والنفقة والحضانة وما إلى ذلك. إن هذه الدعوات نثمنها ونرى ضرورة وضعها في الحسبان لوضع قانون جديد يأخذ بعين الاعتبار ملاحظات القضاة والمحامين الذين يتعاملون بصفة يومية مع مشكلات الناس وقضاياهم وتواجههم الفراغات التشريعية في الكثير من المسائل المتغيرة الأحكام(18).
أما الدعوات الأخرى التي لا تصدر عن متخصصين في الميدان، وإنما عن أناس لا يخفون ضيقهم بأحكام قانون الأسرة لا لشيء إلا لأنها مستمدة من الشريعة الإسلامية، أو أناس يريدون هدم المجتمع وتقويض العلاقات الأسرية ولا سبيل لهم إلى ذلك إلا بإلغاء بعض أحكام الأسرة التي لها صفة الثبات والديمومة في الشريعة الإسلامية. هذه الدعوات لا ينبغي الإنصات لها أو أخذها بعين الاعتبار لأنها لا تهدف إلى تحقيق مصلحة المجتمع أو رفع الغبن عن المرأة كما تدعي وإنما هدفها قطع آخر الصلات التي تربط مجتمعنا الجزائري بدينه الإسلامي الحنيف.(1/23)
وإذا كان هؤلاء يتمسكون بتغير واقع الحياة وتطور أساليب التفكير وبضرورة مسايرة هذا التطور وهذا التغير، فإن الواجب هو السؤال عن مدى توافق هذا التطور والتغير مع المراد الإلهي، وهل هذا التطور والتغير هو إلى الأحسن في ضوء مقاصد الشارع الحكيم، أم إلى الأسوأ بالنظر إلى تلك المقاصد؟
لا شك أن المتأمل في الكثير مما سمي بالتطور والتغير الذي أنتجه واقع العصر، سيلاحظ أنه إذا كان هناك تطور إلى الأحسن في المجالات المادية من الحياة، فإن هناك تطورا إلى الأسوأ في الكثير من المجالات الأخرى، وخاصة مجال الأخلاق والروابط الأسرية والعلاقات الاجتماعية مما ينذر بأوخم العواقب على الفرد والمجتمع، فكيف نراعي هذا التطور السيئ ونغير في ضوئه الأحكام الإلهية الثابتة التي من شأنها المحافظة على مصالح المكلفين ودفع المفاسد عنهم؟
إننا إذا ما سايرنا هذه الدعوات وانصاع القائمون على سن القوانين لرغبات أصحابها، فلا شك أنه سيأتي علينا يوم نسمع فيه من يدعو إلى إباحة زواج المحارم، وإباحة الزواج بين الرجل والرجل، والمرأة والمرأة، وما إلى ذلك مما هو موجود اليوم في الغرب، كل ذلك بدعوى التطور والتغير المزعوم.
---
(1) سورة النساء، من الآية: 3.
(2) من دراسة للشيخ صالح بن عبد الرحمن الحصين، بعنوان: (تعدد الزوجات وحقوق الإنسان). انظرها على شبكة الأنترنت.
(3) الفقه الإسلامي وأدلته، للدكتور وهبة الزحيلي، ج: 9، ص: 6669 ـ 6670.
(4) انظر: المرأة في الإسلام، للدكتور محمد معروف الدواليبي، دار النفائس ـ بيروت، ط: 1، 1409 هـ، 1999م، ص: 77 ـ 78.
(5) سورة النساء، الآية: 130.
(6) سورة البقرة، الآية: 229.
(7) من دراسة بعنوان (لماذا شرع الإسلام الطلاق؟)، مأخوذة من الشبكة العنكبوتية العالمية "الأنترنت" موقع: (www.islamunveiled.com). بتصرف.
(8) سورة الطلاق، من الآية: 4.
(9) سورة الطلاق، من الآية: 4.
(10) سورة البقرة، من الآية: 228.
((1/24)
11) سورة البقرة، من الآية: 234.
(12) سورة الطلاق، الآية: 1.
(13) سورة النساء، من الآية: 11.
(14) انظر في هذه الحالات، ما كتبه الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه (المرأة بين طغيان النظام الغربي ولطائف التشريع الرباني)، دار الفكر ـ دمشق، ط: 1، 1417 هـ، 1996 م، ص: 106 ـ 107. وانظر كذلك دراسة بعنوان (الميراث بين الرجل والمرأة في الإسلام)، بقلم الأخ أبو بكر، على الشبكة العنكبوتية العالمية "الأنترنت".
(15) من بحث بعنوان (مقاصد التنزيل من تشريعات الأسرة الإسلامية)، للدكتور محمد البشير الهاشمي مغلي، مجلة المجلس الإسلامي الأعلى، العدد الثالث، 1420 هـ، 2000م، ص: 175.
(16) فتاوى معاصرة، للدكتور يوسف القرضاوي، المكتب الإسلامي ـ بيروت، ط: 1، 1421 هـ، 2000م، ج: 1، ص: 570.
(17) سورة الطلاق، الآية: 7.
(18) راجع في هذا الصدد، على سبيل المثال، بحث الدكتور نصر الدين ماروك: ((قانون الأسرة الجزائري بين النظرية والتطبيق))، مجلة المجلس الإسلامي الأعلى، العدد الثالث، 1420 هـ/ 2000 م. ص: 263 ـ 320.(1/25)