التوحيد أولاً
تقديم
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي تفرد بأن يعبد ويحمد، وأشهد أن الله -تعالى- هو الإله المتوحد، وأن من ألَّه سواه فقد أشرك وندد، وأن محمداً عبده ورسوله الذي نهى عن الشرك وشدد، فصلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه ومن تعبد.
وبعد فقد كتب فضيلة الشيخ ناصر بن سليمان بن عمر هذه الرسالة القيمة بعنوان "التوحيد أولاً"، وأودعها ما يهم ذكره من عظمة التوحيد وعلو شأنه، وشناعة الشرك وخطره على المجتمعات الإسلامية، وقد أوضح فيها _أثابه الله_ أن التوحيد العملي القصدي الإرادي الطلبي الذي هو توحيد الألوهية هو الذي دعت إليه الرسل، وأنزلت به الكتب، وجردت لأجله سيوف القتال، ووقعت فيه الخصومة بين الرسل وأممها.
وأنه مع هذه الأهمية قد وقع فيه الخلل والنقص، وقد تهاون به الكثير من الجماهير مع ادعائهم التوحيد، وأن الكثير تجاهلوا ببعض ما ينقصه، وتساهلوا في بعض الشركيات زعماً منهم جوازها أو عدم منافاتها للتوحيد، وأفاد أن هذا خطأ كبير، وأن التوحيد هو أساس الدين وهو الشرط الأول لقبول القربات والطاعات، وأنه يستلزم تعظيم الخالق بجميع التعظيمات، وتعلق القلب به، وصرف جميع العبادات له، سواء كانت قلبية كالمحبة والخوف والرجاء والتوكل والتوبة والإنابة ونحوها،أو قولية كالدعاء والاستعانة والاستعاذة والاستغاثة والذكر والحلف، أو بدنية كالركوع والسجود والطواف والعمل البدني، أو مالية كالذبح والنذر، أو تجمع ذلك كله كالطاعة والتعظيم والتعزير والتوقير والولاء والبراء ونحو ذلك مما أشار إليه -جزاه الله خيراً-.
ولا شك أن هذه الرسالة من الأهمية بمكان فنهيب كل مسلم أن يقرأها ويطبقها على نفسه، ويدعو إلى العمل بها بعد معرفتها رجاء أن تصلح أحوال المسلمين، ويعودون إلى توحيد الخالق وتعظيمه وحده، وتصغر المخلوقات في نفوسهم، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين(1/1)
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ" (آل عمران:102).
"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً" (النساء:1).
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً" (الأحزاب:70، 71).
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد:
فقد خلق الله الخلق، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل لعبادته وتوحيده "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" (الذريات:56).وقال _ سبحانه_: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ" (الأنبياء:25).وقد بعث صلى الله عليه وسلم إلى أمة كانت تعيش في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء، الشرك أساس دينها، والأوثان أربابها وسادتها.(1/2)
فجاءهم بالتوحيد الخالص، ونهاهم عن الشرك بأنواعه وأجناسه، ولقي منهم في سبيل ذلك أذى كثيراً، فصبر وصابر صلى الله عليه وسلم حتى أتم الله نوره، ودخل الناس في دين الله أفواجاً "إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً" (النصر:3).وكانت هذه السورة من آخر ما نزل من القرآن، مما يدل على الجهد العظيم الذي بذله المصطفى صلى الله عليه وسلم حتى تحقق له مراد ربه، فأخرج الأمة من الظلمات إلى النور، وهداها إلى صراط مستقيم.
واليوم تشتد الحاجة لإنقاذ الأمة، وإخراجها من ظلمات الجهل والتخلف، إلى نور العلم والإيمان.
ومن أجل ذلك اجتهد الدعاة والمصلحون لتحقيق هذا الهدف العظيم، فبذلت المهج والأرواح، والأموال، وتعددت الجماعات، وتنوعت الأساليب.
ويقف المسلم متسائلاً: لماذا لم تؤت هذه الجهود -على ضخامتها- ثمارها؟ حتى دب اليأس وحل القنوط محل العزم والتفاؤل، إلا ما رحم ربك، وعند التأمل نجد أن لهذا الأمر سبباً، ففي المنهج خلل، وفي الطريق بلل، وقد توصلت إلى أن من أبرز الأسباب لهذه الحال على مستوى الأمة والجماعات والأفراد، القصور والتقصير في تعلم التوحيد وتعليمه وفهمه وتطبيقه، والناس في ذلك بين مقل وبين مكثر، وعلى حسب تشخيص الداء يكون الدواء، وما يعقلها إلا العالمون.(1/3)
من أجل ذلك كله اقترح علي بعض الأحبة أن ألقي الضوء على هذا الموضوع، مشخصاً الداء، ومبيناً الدواء، فجاءت هذه الرسالة "التوحيد أولاً" استجابة لهذه الرغبات الكريمة، وقناعة بأهمية هذا الركن العظيم، لتنهض الأمة من كبوتها، وتصحو من رقدتها، وتستبين سبيل ربها، عندما نراها قد التزمت قولاً وفعلاً كتاب الله، واقتفت سنة نبيها صلى الله عليه وسلم وسارت على منهج سلف الأمة الأخيار، فجعلت "التوحيد أولا" ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
أسأل الله أن ينفع بهذه الرسالة كاتبها وقارئها، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، وذخراً لي يوم الدين.
وصلى الله وسلم على نبينا، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أهمية الكتابة في هذا الموضوع
تتضح هذه الأهمية من خلال العناصر التالية:
1- وجوب النصح للأمة عامة، وللدعاة وطلاب العلم خاصة، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الدين النصيحة -ثلاثاً- فقال الصحابة: لمن يا رسول الله؟ فقال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " (1) .
2- إن الله خلق الخلق وأنزل الكتب، وأرسل الرسل بالتوحيد "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" (الذريات:56)، أي: يوحدون.
3- ضعف العناية بالتوحيد، وجعله من الثانويات، والانشغال عنه بغيره مما هو فرع عنه، وإذا نظرنا إلى الدروس والمحاضرات والكتابات الخاصة بالتوحيد وجدناها لا تتناسب مع أهميته.
4- الخطأ في فهم التوحيد وتجزئته وقصره على بعض أفراده، وسيتضح هذا الأمر من خلال هذه الرسالة.
5- ضعف أثر التوحيد عند كثير من المسلمين، مع أنهم درسوا التوحيد وتعلموه.
6- مطالبة أعداء التوحيد بالكف عن الحديث فيه، وتحجيمه، وحذف بعض المناهج الخاصة به.
7- انتشار البدع، وبعض الشركيات القولية والفعلية.
8- تحول التوحيد إلى علم نظري معرفي فقط، بل هناك من أدخله تحت مسمى الفلسفة والجدليات.
__________
(1) - أخرجه مسلم (1/74) رقم (55).(1/4)
9- جهل كثير من المسلمين لأمور هي من أصول العقيدة، كالولاء والبراء، وشرك الأحياء والأموات، ونحو ذلك.
10- إنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وهل صلح إلا بكون (التوحيد أولاً).
11- إن هناك من يرى أن التركيز على التوحيد والبداءة به قد يكون عائقا أمام وحدة الأمة، وتأليف الشعوب الإسلامية، واجتماع كلمة الدعاة.
فيتحاشى مناقشة أمور العقيدة خوفاً من الفرقة -كما يتوهم- ويجمع الناس على عمومات لا تثبت عند الملمات، وهو يحسب أنه يحسن صنعاً، وقد أساء فهماً فأساء فعلاً.
ومما سبق يتضح لنا أهمية دراسة أن "التوحيد أولاً" مع التنبيه إلى ما يلي:
ا- أن هذه الرسالة تدور على عنوانها، فهي من أولها إلى آخرها تؤصل وتؤكد قضية أن (التوحيد أولاً).
ب- أنني لن أدخل في مناقشة قضايا العقيدة وتفصيلات أقسام التوحيد وما يتعلق به؛ لأن هذا ليس مراداً هنا، وما سيرد من ذلك فمما تقتضيه طبيعة هذه الرسالة وموضوعها.
ج- آثرت جانب الاختصار، وتحاشيت الاستطراد والتطويل؛ حرصاً على ترابط الموضوع، وتسهيلاً لفهمه واستيعابه، وليكون أدعى لانتشاره، وأيسر لقراءته.
د- آمل ألا يتعجل متعجل فيفهم غير ما أردت، أو يحمل العبارة غير ما تحتمل، وكلامي يفسر بعضه بعضاً، وأخذ بعض الجمل والعبارات بمعزل عما قبلها أو بعدها قد يوهم بخلاف المراد، وهذا الفعل ليس من أخلاق المؤمنين، والله المستعان.
التوحيد: تعريفه وأقسامه
أولاً: تعريف التوحيد
1- التوحيد لغة: الإفراد.
ولا يكون الشيء مفرداً إلا بأمرين:
1- الإثبات التام.
2- النفي العام.
فلو قلت: زيد قائم لم تفرده؛ لاحتمال أن يكون غيره قائماً أيضاً.
لكن إن قلت: ما قائم إلا زيد، فقد أفردته بإثباتك القيام التام له، ونفيك العام للقيام عن غيره.
2- التوحيد شرعاً: إفراد الله بحقوقه.
ولله ثلاثة حقوق:
1- حقوق ملك.
2- حقوق عبادة.
3- حقوق أسماء وصفات.
ثانياً: أقسام التوحيد(1/5)
ذكر العلماء أن دلالة الاستقراء للنصوص تفيد أن التوحيد ثلاثة أقسام:
1- توحيد الربوبية.
2- توحيد الألوهية.
3- توحيد الأسماء والصفات.
ومن العلماء -كشيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم- من جعل التوحيد قسمين:
1- توحيد في المعرفة والإثبات: وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات.
2- توحيد في الطلب والقصد: وهو توحيد الألوهية.
توضيح هذه الأقسام
1- توحيد الربوبية:
وهو إفراد الله بالخلق، والملك، والتدبير، وهو -أيضا- توحيد الله بأفعاله.
- ودليل إفراده بالخلق قوله -تعالى-: "هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ" (فاطر: من الآية3)، وقوله: "أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ" (النحل: من الآية17).
ومن مخلوقاته أفعال عباده، كما قال -تعالى-: "وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ" (الصافات:96).
- ودليل إفراده بالملك قوله -تعالى-: "تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ" (الملك: من الآية1)، وقوله: "قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ "(المؤمنون: من الآية88).
- ودليل التدبير قوله -تعالى-: "أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ" (لأعراف: من الآية54)، والمراد بالأمر هنا: التدبير.
أقسام ربوبية الله لخلقه:
ربوبية الله لخلقه على نوعين:
الأول: ربوبية عامة، شاملة لجميع المخلوقات، وهي: أن الله هو المنفرد بخلقها، ورزقها، وتدبيرها.
الثاني: ربوبية خاصة، وهي خاصة بأولياء الله وأصفيائه، وهي تربيته لهم بهدايتهم للدين والإيمان.
قال الشيخ السعدي في تفسيره (1/14):
وتربيته -تعالى- لخلقه نوعان: عامة وخاصة.
فالعامة: هي خلقه للمخلوقات، ورزقهم وهدايتهم لما فيه مصالحهم التي فيها بقاؤهم في الدنيا.
والخاصة: تربية لأوليائه، فيربيهم بالإيمان ويوفقهم له ويكملهم ويدفع عنهم الصوارف والعوائق الحائلة بينهم وبينه.
وحقيقتها: تربية التوفيق لكل خير، والعصمة من كل شر.(1/6)
ولعل هذا المعنى هو السر في كون أكثر أدعية الأنبياء بلفظ (الرب) فإن مطالبهم كلها داخلة تحت ربوبية خاصة اهـ.
عدم كفايته العبد في حصول الإسلام:
هذا التوحيد لا يكفي العبد في حصوله الإسلام، بل لابد أن يأتي مع ذلك بلازمه من توحيد الألوهية؛ لأن الله -تعالى- حكى عن المشركين أنهم مقرون بهذا التوحيد وحده، قال-تعالى-: "وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ" (الزخرف: من الآية87)، وقال: "وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ" (العنكبوت: من الآية63).
فتبين أن الكفار يعرفون الله ويعرفون ربوبيته، وملكه وقهره، ولم تدخلهم تلك المعرفة في الإسلام.
2- توحيد الألوهية
وهو إفراد الله بالعبادة، ومبناه على إخلاص التأله لله -تعالى- في العبادات كلها ظاهرها وباطنها، لا يجعل فيها شيء لغيره، لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، فضلاً عن غيرهما، وهذا التوحيد هو الذي تضمنه قوله -تعالى-: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" (الفاتحة:5) ، وقوله: "فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ" (هود: من الآية123)، وقوله: "وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ" (الحجر:99)، وهو -أيضاً- توحيد الله بأفعال العباد، وهذا التوحيد هو أول الدين وآخره، وباطنه وظاهره، وهو أول دعوة الرسل وآخرها، وهو معنى قول لا إله إلا الله، ولأجل هذا التوحيد خلقت الخليقة وأرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، وبه افترق الناس إلى مؤمنين وكفار، وسعداء أهل الجنة، وأشقياء أهل النار (1) .
ولا بد مع توحيد الألوهية من الإتيان بلازمه من توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات.
3- توحيد الأسماء والصفات
__________
(1) - تيسير العزيز الحميد (ص 36) باختصار.(1/7)
هو إفراد الله بما سمى به نفسه ووصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ،وذلك بإثبات ما أثبته من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل (1) .
أسس هذا التوحيد:
يقوم توحيد الأسماء والصفات على ثلاثة أسس من حاد عنها لم يكن موحداً لربه في الأسماء والصفات:
الأساس الأول: تنزيه الله عن مشابهته الخلق، وعن أي نقص.
الأساس الثاني: الإيمان بالأسماء والصفات الثابتة في الكتاب والسنة، دون تجاوزها بالنقص منها أو الزيادة عليها أو تحريفها أو تعطيلها.
الأساس الثالث: قطع الطمع عن إدراك كيفية هذه الصفات (2) .
أدلة هذا التوحيد:
أما الأسماء فقد دل عليها قوله -تعالى-: "وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا" (الأعراف: من الآية180)، وقوله: "لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى" (الحشر: من الآية24).
وأما الصفات فقد دل عليها إقراره صلى الله عليه وسلم لقول الصحابي في الحديث الذي أخرجه البخاري: "إنها صفة الرحمن" (3)
وقد أنكر ابن حزم صحته، وليس قوله معتبراً، فالإسناد صحيح، وقد أخرجه البخاري.
عدم كفايته في حصول الإسلام.
وهذا التوحيد لا يكفي في حصول الإسلام، بل لا بد مع ذلك من الإتيان بلازمه من توحيد الربوبية والألوهية.
ولم يكن الكفار ينكرون هذا النوع، إلا أن بعضهم قد ينكر بعضه، إما جهلاً، وإما عناداً، كما بينه ابن كثير والشيخ سليمان بن عبد الله في (تيسير العزيز الحميد).
فضل التوحيد
__________
(1) - فتاوى الشيخ العثيمين (2/112-113).
(2) - انظر: منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات للشنقيطي (ص 3،5).
(3) - صحيح البخاري (8/165).(1/8)
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل " (1) متفق عليه.
وفي حديث عتبان -المتفق عليه- قال صلى الله عليه وسلم : " فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله " (2) .
وفي حديث موسى -عليه السلام- مع ربه: قال: "يا موسى لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله " رواه ابن حبان والحاكم وصححه (3) .
__________
(1) - أخرجه البخاري (4/139). ومسلم رقم (28) واللفظ للبخاري.
(2) - أخرجه البخاري (1/110). ومسلم (1/455).
(3) - انظر الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (14/102) رقم (6218) والمستدرك (1/528) وأخرجه أيضا النسائي في اليوم والليلة رقم (834) و (1141). والطبراني في الدعاء رقم (1480) وهذا الحديث وإن صححه الحاكم ووافقه الذهبي، وكذلك صححه الحافظ ابن حجر في الفتح (11/211) إلا أنه من رواية دراج أبي السمح عن أبي الهيثم وفيها ضعف. قال الحافظ ابن حجر نفسه: في حديثه عن أبي الهيثم ضعف. انظر التقريب رقم (1824) والتهذيب (3/208، 209). والحديث ضعفه الأرناؤوط في تخريج شرح السنة (5/55) وفي تحقيقه للإحسان رقم (6218). والله أعلم.(1/9)
ومما يدل على فضل التوحيد خطورة وعظم الإشراك بالله -تعالى- قال -سبحانه-: "إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً" (النساء:48)، والتوحيد هو الإيمان، فمن وحد الله فهو في أمان يوم الفزع الأكبر "الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ" (الأنعام:82).وكلمة التوحيد،هي: لا إله إلا الله، ولا تنفع صاحبها إلا إذا تحققت شروطها، وهذه الشروط هي:
1- العلم بمعناها نفياً وإثباتاً.
2- اليقين، وهو كمال العلم بها المنافي للشك والريب.
3- الإخلاص المنافي للشرك.
4- الصدق المانع من النفاق.
5- المحبة لهذه الكلمة، ولما دلت عليه والسرور بذلك.
6- الانقياد بأداء حقوقها، وهي الأعمال الواجبة، إخلاصاً لله، وطلبا لمرضاته.
7- القبول المنافي للرد (1) .
وأختم بيان فضل التوحيد بهذين الحديثين:
أخرج البخاري في صحيحه بسنده عن قتادة قال: حدثنا أنس بن مالك أن النبي _صلى الله عليه وسلم_، ومعاذ رديفه على الرحل، قال: "يا معاذ، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك (قالها ثلاثاً)، قال: ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صدقا من قلبه إلا حرمه الله -تعالى- على النار، قال: يا رسول الله أفلا أخبر به الناس فيستبشروا؟ قال: إذن يتكلوا، فأخبر بها معاذ عند موته تأثما " (2) .
__________
(1) - انظر فتح المجيد ص89 وكتاب: لا الله إلا الله للشيخ صالح الفوزان.
(2) - صحيح البخاري (1/41). وأخرجه مسلم رقم (32).(1/10)
وللترمذي عن أنس، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يا ابن آدم لو أتيتني بقراب (1) الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة" (2) .
التوحيد دعوة الرسل
قال ابن القيم -رحمه الله-:" وجميع الرسل إنما دعوا إلى "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" (الفاتحة:5)، فإنهم كلهم دعوا إلى توحيد الله وإخلاص عبادته، من أولهم إلى آخرهم، فقال نوح لقومه:"اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ" (الأعراف: من الآية59)، وكذلك قال هود وصالح وشعيب وإبراهيم- عليهم السلام-، وقال -تعالى-: "وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ" (النحل: من الآية36)، وقال: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ" (الأنبياء:25). "
وقد ذكر ابن القيم أن كل الدين يرجع إلى الفاتحة، إذ هي مشتملة على التوحيد بجميع أنواعه.
وهذا سر من أسرار تكرارها في كل صلاة، وقراءتها في كل ركعة، وأن الصلاة لا تتم بدونها "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" (3) وقد بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوته بالتوحيد فكان يدعو قريشاً ويقول لهم: " قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا" (4) .
__________
(1) - بقراب: أي بما يقارب ملؤها.
(2) - سنن الترمذي رقم (3540) وأخرجه أيضا الضياء في المختارة. وحسنه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (4338).
(3) - أخرجه البخاري (1-184). ومسلم رقم (394).
(4) - أخرجه أحمد (3- 492)، (4-63، 341)، (5- 371، 376). وأخرجه أيضا الطبراني قال الهيثمي في المجمع (6-24، 25) عن إسناد الطبراني: رجاله ثقات وقال عن أحد أسانيد أحمد: رجاله رجال الصحيح.(1/11)
وعندما هاجر إلى المدينة وقامت دولة الإسلام استمر يدعو إلى التوحيد حتى لقي ربه صلى الله عليه وسلم ، وسار خلفاؤه على هذا المنهج، بل إن من أول ما قام به أبو بكر هو قتال المرتدين، ولم يؤجل ذلك بدعوى استقرار الأوضاع، ويتساهل في ذلك بحجة أنهم يشهدون أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ماداموا لم يحققوا مدلولهما ومقتضاهما، وقال:" والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة " (1) .
ومع قيام الخلافة فلم يتوقف قتال المشركين ولم تخب الدعوة إلى توحيد الله، حتى ضعفت الخلافة وتفرقت الأمة وأصبحت شيعاً وأحزاباً، وفشا الإرجاء والاعتزال.
واقع الأمة اليوم
بعد أن عرفنا معنى التوحيد وفضله، وأنه دعوة الرسل نقف وقفة مناسبة مع واقع الأمة ليتضح لنا مدى التزامها بالتوحيد أو بعدها عنه، حيث إن بعض طلاب العلم قد لا يتصور خطورة الأمر، نظراً لأنه يعيش بين أناس هم على عقيدة التوحيد، وتقل بينهم البدع والشركيات، فيتوهم أن أغلب المسلمين هم على هذه الحالة، بينما الحقيقة بخلاف ذلك، وإليك بيان ذلك:
1- الرافضة ودورهم الخطير في العالم الإسلامي
لست في حاجة إلى بيان منافاة عقيدة الرافضة للتوحيد، وأنهم يضيقون ذرعاً بدعوة التوحيد، فهذا الأمر أشهر من أن يوقف عنده، وإن تجاهل هذه الحقيقة من لم يترب على هذا المنهج وانجرف في تيار المناهج الأخرى.
وإنما أردت أن أبين أن الرافضة يقومون الآن بدور خطير في أنحاء المعمورة، وبخاصة بعد قيام دولتهم.
__________
(1) - هذا جزء من مقالة أبي بكر- رضي الله عنه- لعمر حين عارض قتال مانعي الزكاة لأنهم يشهدون أن لا إله إلا الله، فأقام أبو بكر- رضي الله عنه- الأدلة على جواز هذا القتال بدليل واضح وبرهان ساطع، فلم يسع عمر بعد ذلك إلا أن قال مذعنا: "فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر- رضي الله عنه- للقتال فعرفت أنه الحق!!" والحديث أخرجه البخاري (2- 110). ومسلم رقم (20).(1/12)
وقد بلغ أثرهم مشارق الأرض ومغاربها، وهذه حقيقة وليست مبالغة، فالمجاهدون في أفغانستان يعانون من تسلط الرافضة على انتصارهم وهم جادون في الحيلولة دون قيام دولتهم، وفي الجمهوريات الإسلامية الأمر أشد وأنكى، وفي السودان استغلوا الظروف فولجوا من خلالها.
وفي إفريقيا يعاني منهم أهل السنة الأمرين، وفي أوروبا وأمريكا أقاموا مؤسساتهم ومراكزهم ونشروا كتبهم وصحفهم، بل لقيت وفداً من الدعاة في أستراليا فإذا هم يشكون من تسلطهم وطغيانهم، وقل أن نجد بلداً إلا ولهم فيه موطئ قدم، فإذا ثبتت لنا هذه الحقيقة، علمنا ما يكاد لدعوة التوحيد ولعقيدة السلف على يد هؤلاء، وأدركنا خطورة الأمر ووجوب المبادرة إلى علاجه، ولن يكون ذلك إلا إذا كان (التوحيد أولاً).
2- الخرافيون وتأثيرهم الذي لا ينكر:
معارك الخرافيين مع التوحيد ليست جديدة، وسعيهم الحثيث لتأصيل البدع ونشر الشرك في بلاد المسلمين يعرفها القاصي والداني، وخدمتهم للاستعمار قديماً وحديثاً ليست بحاجة إلى شرح أو بيان، والذي يتأمل خارطة العالم الإسلامي، ويضع لوناً مميزاً للمناطق التي يكثر فيها هؤلاء يذهل من النتيجة التي سيراها.
وقد نشطوا في الآونة الأخيرة، وأقاموا عدداً من المؤسسات التي تدعوا إلى منهجهم وتنفق على مشاريعهم بسخاء.
ويكفي أن نعلم أن مؤسسة واحدة من مؤسساتهم قد خصصت ما يعادل (500) مليون ريال لإنفاق استثمارها وريعها على ما يدعم منهجهم وعقيدتهم،
وفي إحدى البلاد الإسلامية بلغ عدد المسجلين في الجمعيات الخرافية أكثر من خمسة ملايين عضواً.
3- الخوارج من أول الفرق التي نبتت في هذه الأمة، ولقد عانى منهم الجيل الأول معاناة شديدة، وأعلنوا وقوفهم أمام السلف وحربهم لمنهج أهل السنة والجماعة.
فشقوا عصا الطاعة، وابتدعوا في دين الله ما ليس منه، ووقف لهم السلف وقفة حازمة، ودخلوا معهم في معارك كثيرة، حتى ضعفت شوكتهم وقل أثرهم.(1/13)
ولكنهم كانوا يعودون بين فينة وأخرى، وفي هذا الزمن عادت سوق الخوارج رائجة، وبخاصة مع وجود دولة تدعمهم وتدافع عن مذهبهم وتربي الناس على منهجهم.
4- الشركيات والبدع المنتشرة في العالم الإسلامي، ومن مظاهرها:
دعاء الأموات والاستغاثة بهم، والطواف حول القبور، والذبح للأولياء، ولو ألقينا نظرة سريعة على واقع البلاد الإسلامية لوجدنا في كل بلد قبراً أو أكثر يعبد صاحبه من دون الله، فمثلاً في بعضها يوجد قبر علي بن أبي طالب، وكذلك قبر الحسين، وفي أخرى رأس الحسين، وفي ثالثة قبر زينب والبدوي، وكذلك قبر أبي أيوب في بلد أخرى.
وقبور الصحابة المنتشرة في كثير من البلاد الإسلامية، وقبور بعض الصالحين والأولياء، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد، وذلك في عدة أحاديث صحيحة، منها: ما رواه جندب بن عبد الله، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس، وهو يقول: " ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجداً ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجداً فإني أنهاكم عن هذا" (1) رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم في مرض موته: " لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجداً-يحذر ما صنعوا- " (2) متفق عليه.
ويكفي أن نعلم أنه في بلد من البلاد الإسلامية يزور قبر رجل فيها في كل سنة أكثر من مليوني نسمة، ويرتكب عند هذا القبر من الشركيات والبدع ما لا يعلمه إلا الله، فكم عدد الذين يزورون القبور من أهل البدع في أنحاء العالم الإسلامي؟
5- وجود النصارى في كثير من الدول الإسلامية، بل حتى في دول الخليج، حتى إنه يوجد لهم كنائس معلنة في بعض تلك الدول، والله- جل وعلا- يقول: "وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ" (البقرة: من الآية120).
__________
(1) - أخرجه مسلم رقم (532).
(2) - أخرجه البخاري (1-112). ومسلم رقم (531).(1/14)
6- الوثنيون، وبخاصة عن طريق العمالة الآسيوية، وقصة الهندوس مع المسجد البابري خير شاهد على ما نقول.
7- انتشار السحرة والمشعوذين، حتى وصل الأمر إلى أن رجلا جاء يسأل ويقول: أين بيت الساحرة فلانة؟
وقد أجرت بعض الصحف الخليجية مقابلات مع عدد من هؤلاء السحرة،
وهناك صحف تنشر عناوين وهواتف هؤلاء مع نشر صورهم أحياناً.
وما ينشر تحت زوايا النجوم والأبراج يدخل في هذا الباب.
8- وأخيراً:
انتشار بعض الألفاظ البدعية أو الشركية والأعمال المحرمة المنافية للتوحيد أو كماله؛ كالحلف بغير الله، والاعتقاد أن غير الله ينفع أو يضر، وأعياد الميلاد، وتعليق التمائم، وقراءة الكف، والاعتقاد بأثر الأبراج والنجوم، وهلم جرا.
هذه صورة مجملة عن واقع العالم الإسلامي تبين خطورة الأمر، ووجوب المبادرة إلى إنقاذ هؤلاء، سواء أكانوا ممن وقع في الشرك، وهم يحسبون أنهم مسلمون؛ لأنهم يصلون ويحجون، أم كانوا ممن وقع في البدع والخرافة، ويظنون أنهم من أهل السنة والجماعة.
ولو توجهت هذه الصحوة المباركة إلى العناية الفائقة بهذه القضية لتغيرت الأحوال، وهذا لن يكون إلا إذا كانت هناك أولويات وكان "التوحيد أولاً".
ضعف الولاء والبراء
قال _تعالى_: "وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ" (المائدة: من الآية51)، وقال _سبحانه_:"لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ"(المجادلة: من الآية22).(1/15)
وقال: "وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ" (هود: من الآية113) وقال صلى الله عليه وسلم : " أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله والموالاة في الله، والمعاداة في الله" (1) .
وقال صلى الله عليه وسلم : "من أحب لله وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان " (2) . رواه أحمد عن معاذ وأنس وغيره.
والذي يتأمل في أحوال المسلمين اليوم يلحظ ضعف الولاء للمؤمنين والبراء من الكافرين، وهذا ينافي كمال التوحيد، وقد يصل بصاحبه إلى الكفر "وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ" (المائدة: من الآية51).
ومن علامات ضعف هذا الجانب ما يلي:
1- ضعف نصرة المسلمين بعضهم لبعض، رأينا ونرى التناحر والتدابر والتقاطع حتى وصل في أحوال كثيرة إلى القتال فيما بينهم.
2-التشبه بالكفار في اللباس والعادات، و " من تشبه بقوم فهو منهم ".
3- مجالسة الكفار استئناساً بهم وحبهم، ومن ذلك استقدامهم مع عدم الضرورة إلى ذلك، وخصوصاً أنه يوجد في المسلمين من يقوم مقامهم، في البيوت والشركات والزراعة والتجارة ونحوها.
4- الإعجاب بالغرب، وتمني اللحاق به، وطلب الحماية منه، ونصرته، ومعايشته يومياً عبر وسائل الإعلام، وخصوصاً البث المباشر.
5- السعي لكسر الحاجز النفسي مع اليهود والنصارى.
6- الابتعاث لبلاد الكفار دون حاجة تدعو إلى ذلك.
أخي الكريم: أليست هذه المظاهر مما ينافي ويضاد التوحيد أو كماله؟ فأين المخرج؟
العلمنة تعصف بالعالم الإسلامي
__________
(1) - أخرجه الطبراني في الكبير رقم (10531، 10537) وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (2539).
(2) - أخرجه أبو داود رقم (4681) وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (5965) والسلسلة الصحيحة رقم (380).(1/16)
مما ينافي التوحيد ترك الحكم بما أنزل الله، والحكم بسواه من أنظمة البشر، قال -تعالى-: "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ" (المائدة: من الآية44)، وقال: "فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً" (النساء:65)، وقال: "أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ" (المائدة:50)، والآيات في هذا كثيرة معروفة.
وفصل الدين عند الدولة، وإبعاد حكم الله وشرعه أن يكون حاكماً على الناس هو السائد الآن في أغلب بلاد المسلمين، حيث يحكمون بشرائع وقوانين بشرية ما أنزل الله بها من سلطان، وهناك من يهون من هذا الأمر ويقلل من شأنه مع أنه كفر بواح.
قال العلامة عبد الرحمن بن حسن في (فتح المجيد): فمن خالف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم بأن حكم بين الناس بغير ما أنزل الله، أو طلب ذلك اتباعاً لما يهواه ويريده فقد خلع ربقة الإسلام والإيمان من عنقه، وإن زعم أنه مؤمن، قال -تعالى-: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً" (النساء:60).(1/17)
وهناك أمر آخر ينافي كمال التوحيد، وهو أنه توجد في بعض الدول التي تعلن التزامها بالإسلام أنظمة مصلحية لا تخالف كتاب الله ولا سنة رسوله، كبعض التنظيمات الإدارية والمالية والمرورية والبلدية، وليست الخطورة في وجود هذه التنظيمات، وإنما واقع الناس حيالها، حيث إنهم يعطونها من الاحترام ما لا يعطونه لأمر الله ونهيه، فيعظمون من شأنها ويجرمون مخالفها ويشنعون عليه مما لا يفعلون مثله لو خالف أمر الله وحكمه، بل تجدهم تجاه أحكام الشرع يبحثون له عن الرخص، ويأخذون بأدلة عامة تذهب ريح أحكام الشرع وتقلل من هيبتها، وتهون مخالفتها، فيعظم في نفوس الناس أوامر البشر وأحكامهم، ويضعف عندهم وازع الدين وهيبة الشرع، وهذا فيه من منافاة كمال التوحيد ما فيه، بل قد يصل إلى الخروج عن التوحيد إلى الكفر والشرك "وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (النور:48-51).
الخلل في فهم التوحيد وقصره على بعض أجزائه
سبق وأن بينت أن التوحيد ينقسم ثلاثة أقسام، توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.
وقد بينت مع كل قسم من أقسام التوحيد لزوم القسمين الآخرين وعدم كفاية أحدها دون الآخرين.(1/18)
وعند التأمل في منهج بعض الدعاة والجماعات الإسلامية تجد عنايتها بنوع واحد من أنواع التوحيد وإهمال غيره، وقد وصل الأمر ببعضهم إلى إخراج بعض أقسام التوحيد من التوحيد وعدم اعتباره، بل قد يخطئون أو يبدعون من يعنى بمسائل هي من التوحيد ظناً منهم أنها ليست منه.
وسبب ذلك هو قصر التوحيد على بعض أنواعه دون اعتبار لسواه، ومن ذلك الجهل بعلاقة بعض المسائل والقضايا بالتوحيد، فمثلاً هناك من يعد أن التوحيد هو توحيد الأسماء والصفات، وما يتفرع عنه من الحديث عن الفرق المنحرفة، ويهمل بقية أنواع التوحيد.
وآخرون يعدون التوحيد بعض توحيد الألوهية كالذبح لغير الله، أو دعاء الأموات والنذر لهم والرياء، والحلف بغير الله، ونحوه أما ما عداه فلا يعده من التوحيد أو لا يعيره اهتماما، مثل الحكم بما أنزل الله، وما يترتب على ترك الحكم بما أنزل الله من عبادة الطاغوت أو الزعماء والأعراف ونحوها.
وقسم ثالث يرون أن التوحيد هو إفراد الله بالملك ووجوب التحاكم إليه وحده، ويحذرون من الطواغيت والأرباب من دون الله، ولا يعنون ببقية أقسام التوحيد من شرك الأموات، والحديث عن الفرق الضالة، وانحرافها في توحيد الأسماء والصفات (1) .
وأزيد الأمر إيضاحاً فأقول:
في بعض البلاد الإسلامية إذا تحدث أحد أو صنف فيما يتعلق بالبناء على القبور، والتبرك بقبور الصالحين، والدعاء عندها، قال بعض الدعاة: إن هذا يتحدث في أمور ذوقية، فإن تحدث متحدث عن الفرق وضلالها، قالوا: إنك تبث الفرقة والخلاف.
إما إن تحدث عن وجوب تحكيم شريعة الله ونبذ ما سواها، قالوا: هذا يتكلم عن التوحيد، وآخرون: يصفون من يتحدث عن الأسماء والصفات وخطورة الفرق على الأمة بأنه معني بالتوحيد ومنهجه سليم.
__________
(1) - نشرت إحدى المجلات مقالا تنتقد فيه تدريس الفرق الضالة كالمعتزلة والخوارج وتقول إنها قد انتهت ولا وجود لها الآن، وهذا جهل أو تجاهل.(1/19)
فإن تحدث آخرون عن وجوب الحكم بما أنزل الله، وطالبوا بذلك قالوا لهم: أنتم تتحدثون في السياسة، أو تثيرون الفتنة، وهكذا، والخلاصة أنك تجد كل فريق قد أخذ بقسم من أقسام التوحيد، وقصر التوحيد عليه وفسره به، وأخرج عنه ما عداه.
وهؤلاء كلهم مخطئون، بعيدون عن الصواب، وذلك أن التوحيد أشمل مما ذهب إليه هؤلاء، فمن أخل بقسم من أقسام التوحيد فقد أخل بالتوحيد.
ولابد من فهم التوحيد فهماً شاملاً بأقسامه الثلاثة ومستلزماتها.
قال _سبحانه_: "وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ" (النحل: من الآية36).
وقال _سبحانه_:"لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا" (البقرة: من الآية256).
وقال _سبحانه_: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" (الذاريات:56).
والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
والطاغوت: كل ما عبد من دون الله، قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في (فتح المجيد): قال ابن القيم: "الطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله، فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم أعرض عن عبادة الله إلى عبادة الطاغوت، ومن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طاعة الطاغوت ومتابعته.(1/20)
وقال الإمام محمد بن عبدالوهاب في كتاب التوحيد: واعلم أن الإنسان ما يصير مؤمناً إلا بالكفر بالطاغوت، والدليل قوله-تعالى-: "فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا" (البقرة: من الآية256).
وقال العلامة الشيخ عبدالعزيز بن باز مبيناً شمول التوحيد في رسالته (وجوب التحاكم إلى شرع الله): "والعبودية لله وحده، والبراءة من عبادة الطاغوت والتحاكم إليه من مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، فالله -سبحانه وتعالى- هو رب الناس وإلههم، وهو الذي خلقهم، وهو الذي يأمرهم وينهاهم، ويحييهم ويميتيم، ويحاسبهم ويجازيهم، وهو المستحق للعبادة دون كل ما سواه، قال -تعالى-: "أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ" (الأعراف: من الآية54)، فكما أنه الخالق وحده، فهو الآمر -سبحانه-، والواجب طاعة أمره".
ونخلص من هذا كله أن هناك انحرافاً عند بعض الناس في فهم التوحيد، حيث قصروا الكل على الجزء وفسروه به.
والذي يجب أن نعلمه أن التوحيد شامل متكامل، يكمل بعضه بعضاً، ويأخذ بعضه برقاب بعض، فمن أخذ ببعضه وترك البعض فقد آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض "أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ" (البقرة: من الآية85).
بل إن كلمة التوحيد: (لا إله إلا الله) تشتمل على نفي وإثبات، نفي كل معبود سوى الله من بشر أو حجر أو جن أو شيطان أو غيرها.
وتثبت أن العبودية الحقة لله وحده، والنفي مقدم على الإثبات.(1/21)
وبهذا نخلص إلى أن الحديث عن الفرق وبيان انحرافها وضلالها هو من التوحيد، والحديث في شرك الأموات من الذبح والنذور والدعاء ونحوها هو في صميم التوحيد، والدعوة إلى تحكيم شريعة الله، ونبذ شريعة الطاغوت وما يتفرع عن ذلك من الحديث عن الكفار والأنظمة الوضعية وخطط الأعداء ومؤامراتهم كل ذلك من التوحيد.
ولقد كان سلفنا الصالح يفهمون هذا الفهم الشامل المتكامل، وصنفوا في كل الأقسام والأنواع، فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية كتبه خير شاهد على ما ذكرت من الحديث عن الفرق الضالة، وبيان وجوب التزام منهج السلف في الأسماء والصفات، كما تجد الحديث عن الشرك وأنواعه، وكذلك عن التتار والمغول وما جاؤوا به من أنظمة ونحوها، ووجوب تحكيم شريعة الله والرجوع إليها ونبذ ما سواها.
وهذا ابن القيم يقول في كتابه (مدارج السالكين):
الاعتراض على الله على ثلاثة أنواع سارية بين الناس:
1- الاعتراض على أسمائه وصفاته بالشبه الباطلة.
2- الاعتراض على شرعه وأمره.
3- الاعتراض على أفعاله وقضائه وقدره.
ثم يبين كيفية هذا الاعتراض، وكان مما قال تحت القسم الثاني:
ومنهم أهل الاعتراض بالسياسات الجائرة، التي لأرباب الولايات التي قدموها على حكم الله ورسوله، وحكموا بها بين عباده، وعطلوا لها وبها شرعه وعدله وحدوده.
وقال أصحاب السياسة: إذا تعارضت السياسة والشرع قدمنا السياسة.
فجعلت كل طائفة قبالة دين الله وشرعه طاغوتاً يتحاكمون إليه.
ونجد ابن أبي العز الحنفي في (شرح العقيدة الطحاوية) قد بين أنواع التوحيد ولم يقتصر على نوع دون الآخر، فضلاً عن أن يخطئ من تكلم في أنواع التوحيد.
وشيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب عقد أبواباً في جميع أنواع التوحيد في كتابه الفريد (التوحيد)، ومن رجع إليه وتأمله وجد ذلك جلياً في كتابه، ومن ذلك:
1- باب تفسير التوحيد وشهادة لا إله إلا الله.
2- باب ما جاء في الذبح لغير الله.(1/22)
3- باب ما جاء في الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثاناً.
4- باب ما جاء في السحر.
5- باب من جحد شيئا من الأسماء والصفات.
6- باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أرباباً من دون الله.
7- باب قوله -تعالى-: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ" (النساء: من الآية60).
8- باب ما جاء في منكر القدر، إلى غير ذلك من الأبواب والمسائل التي ساقها في كتابه.
وكذلك من يرجع إلى فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم، وفتاوى سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز، وفتاوى سماحة الشيخ محمد بن عثيمين يجد فيها عنايتهم بجميع أنواع التوحيد من خلال فتاواهم ورسائلهم وكتبهم.
وبهذا نصل إلى النتيجة التالية:
وجوب فهم التوحيد فهماً شاملاً متكاملاً بجميع أنواعه وأقسامه، وعدم قصره على بعض أنواعه وأقسامه، ويستلزم هذا تطبيقه والدعوة إليه وتعليمه،
ولا يجوز لأحد أن يعيب على جماعة أو داعية عني بجانب من جوانب التوحيد دون أن يدعي قصر التوحيد على هذا الجانب أو حصره فيه، ولا أن يهون من شأن ما يقوم به هذا الداعية أو تلك الجماعة، فضلاً عن الوصف بالضلال أو الانحراف، مادام ملتزماً بمنهج السلف الصالح داعياً إليه، والدعاة يكمل بعضهم بعضاً.
ضعف أثر عقيدة التوحيد عند بعض المسلمين
كل أمر معرفي يجب أن يمر بثلاث دوائر:
الأولى: الدائرة العلمية المعرفية.
الثانية: الوجدان والتفاعل.
الثالثة: العمل والتطبيق.
ولنأخذ مثلاً يوضح ذلك:
رجل جاءه خبر بوفاة عزيز لديه، فإنه يتأثر وينفعل ولو داخلياً، ثم يقوم بما يجب عليه تجاه هذا الأمر من صلاة عليه، وتعزية لأهله، والقيام ببعض حقوقه إن لزم الأمر.(1/23)
فعلمه بالوفاة هو الدائرة الأولى، وتأثره وتفاعله هو الدائرة الثانية، وقيامه بما يجب عليه الدائرة الثالثة.
وعلم التوحيد يجب أن يمر بهذه المراحل جميعاً.
فمثلاً: يجب أن يعلم أن الله شديد العقاب، ثم يتفاعل مع هذا العلم فيخاف الله، ومن ثم يبتعد عن المعاصي ويأتي بالأوامر خوفاً من عقابه.
وعند التأمل في واقع كثير من المسلمين يجد الإنسان أنه لا ينقصهم العلم المعرفي، فقد تجد الكثير منهم يعرف التوحيد بأقسامه وتفصيلاته، ولكن عندما نبحث في مدى تأثره وجدانياً لا نلمس أي أثر لذلك، أو قد نجد أثراً ضعيفاً لا يتناسب مع علمه ومعرفته.
فإذا انتقلنا إلى مرحلة التطبيق والعمل ندرك الخلل الكبير والفرق بين علمه وعمله، وهكذا كان بنو إسرائيل فمعهم علم غزير، ولكنهم لم يتأثروا ولم يعملوا.
ومن خلال ما سبق نستطيع أن نفسر كثيراً من الظواهر السلبية في حياة بعض المسلمين، فإنه لا ينقصهم العلم المعرفي، ولكن ينقصهم التفاعل والتأثر والعمل.
ولنضرب أمثلة من الواقع: فلو جئت إلى أحد المسلمين وقلت له: من يرزقك؟ لأجابك: إنه الله- جل وعلا-.
فإذا سألته: وما دليلك؟ أجابك على الفور: "إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ" (الذاريات:58) ، وقد يزيد دليلاً آخر، فيقول: "وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا" (هود: من الآية6).
ثم تأمل حال هذا الإنسان: يكد ليلاً ونهاراً وكأنه خلق لهذه الدنيا، فعبادته ضعيفة، وحقوق الأهل والأقارب مقطوعة، بل وحقوق النفس مضيعة.
ثم قد يقول لك أو لغيرك: إن فلاناً يريد أن يقطع رزقي، وأخشى أن أموت من الجوع، ومن لأولادي من بعدي، ونحو هذه العبارات التي تدل على أن علمه المعرفي لم يتحول إلى حقيقة يتعامل معها في وجدانه وسلوكه، وإنما بقي علماً معرفياً نظرياً.
ومثال آخر: حب الله ورسوله:(1/24)
لا تجد مسلماً إلا ويقول لك: إنه يحب الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم بل إن حبهما أغلى لديه من كل محبوب.
ولكن انظر إلى تصرفه ومعاملاته وحياته لا تجد مصداق ذلك، فهو يقدم محبوب نفسه وشهوته على حب الله وأمره، ولذلك جاء قوله -تعالى- يعالج هذه القضية وهذا الخلل بين التصور والسلوك، فقال _سبحانه_: " قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ" (آل عمران: من الآية31)، وصور هذه الحقيقة الشافعي، فقال:
تعصي الإله وأنت تزعم حبه ... هذا لعمرك في القياس شنيع
لو كان حبك صادقاً لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع
وقل مثل ذلك في سائر مسائل الاعتقاد، وخصوصاً لوازم الأسماء والصفات.
ومن هنا فإنه يجب على العلماء وطلاب العلم العناية بهذه القضية، وخصوصاً من يدرسون التوحيد، فلا يكتفون بتدريسها علماً معرفياً نظرياً، وإنما يجب أن يعنوا بأن يتفاعل معها المسلم وجدانياً "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ" (الأنفال:2).
وكذلك عليهم أن يولوا جانب التطبيق أهمية قصوى؛ لأن العمل هو الثمرة من العلم: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا" (النساء: من الآية136)، "قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً" (الحجرات: من الآية14).(1/25)
وبهذا يتكامل التوحيد ويؤتي ثماره، وهذا معنى قول أبي عبد الرحمن السلمي: "ما كنا نتجاوز عشر آيات حتى نعلم ما فيها من العلم والعمل"، ولنتأمل قوله -تعالى-: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ" (الصف:2، 3).
الغلو في العلماء والتعصب لهم وتقديم أقوالهم
من المسائل التي تتعلق بالتوحيد هو ما نراه من تعصب لأقوال الرجال وغلو في العلماء وتقديم أقوالهم على الكتاب والسنة.
وهذه مسألة خطيرة جداً، ما وجدت في قوم إلا أهلكتهم، وهي تنافي كمال التوحيد، وقد تصل ببعض الأفراد إلى الكفر "اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً" (التوبة: من الآية31).
وقد حذر ابن عباس من عاقبة هذا الأمر، فقال:"يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وتقولون: قال أبو بكر وعمر" (1)
وكذلك نبه الإمام أحمد لهذه المسألة بقوله: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، ويذهبون إلى رأي سفيان، والله -تعالى- يقول:" فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" (النور: من الآية63)، أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك.
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن:
والأئمة -رحمهم الله- لم يقصروا في البيان، بل نهوا عن تقليدهم إذا استبانت السنة؛ لعلمهم أن من السنة شيئاً لم يعلموه وقد يبلغ غيرهم، وذلك كثير كما لا يخفى على من نظر في أقوال العلماء (2) .
__________
(1) - انظر فتح المجيد ص 393 وص 395.
(2) - فتح المجيد ص 398.(1/26)
والمقصود أن هذه مسألة مهمة يجب أن يوليها العلماء وطلاب العلم عناية خاصة، وأن يربوا طلابهم على اتباع الدليل لا تقليد (1) الأشخاص والتعصب لهم والانتصار لآرائهم، فقد عانت الأمة من الحزبية والتعصب والغلو، وآثار هذا الأمر غير خافية.
والغلو باب خطير تلج عن طريقه كثير من الشرور، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حذر من هذا الأمر، فقال في الحديث الصحيح: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله " (2) .
وفي حديث أنس عندما قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم :أنت سيدنا وابن سيدنا، قال: " قولوا بقولكم أو ببعض قولكم، ولا يستهوينكم الشيطان" (3) .
وقال صلى الله عليه وسلم :"إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو" (4) وتربية الناس على التوحيد والعبودية المطلقة لله هو المخرج من هذه الأمراض والمصائب.
معاص أم كفر
__________
(1) - التقليد منه جائز ومذموم وليس هذا مكان تفصيل ذلك.
(2) - أخرجه البخاري (4- 142).
(3) - أخرجه أبو داود رقم (4806) بلفظ "ولا يستجرينكم" وأحمد (3-153، 241) واللفظ له.
(4) - أخرجه أحمد (1-215، 347) والنسائي رقم (3057). والحاكم (1-466). وابن ماجة رقم (3029) وصحح إسناده على شرط مسلم شيخ الإسلام ابن تيمية في الاقتضاء ص (106) وصححه الألباني كما في السلسلة الصحيحة رقم (1283).(1/27)
يتصور كثير من الناس أن المنكرات الموجودة مجرد معاص سواء أكانت من الكبائر أم من الصغائر، والقضية ليست بهذه البساطة والسهولة، فقد يبدأ المنكر معصية، ثم يتحول مع الزمن إلى كفر، ولست ممن يكفر بالمعصية حتى ولو كانت من الكبائر فإن هذا مذهب الخوارج ومن نحا نحوهم، ولكن بعض المعاصي يرتكبها بعض الناس وهم يعلمون أنها كبيرة من الكبائر، ثم تفشو هذه المعصية حتى تصبح أمراً عادياً ولا يستنكر على مرتكبها وسرعان ما تصل الحال بكثير من الناس إلى استحلال هذه الكبيرة، وهذا هو الكفر بعينه؛ لأن من استحل معلوماً حرمته من الدين بالضرورة فقد كفر.
وقد أجري استطلاع في مركز من المراكز وأفاد كثير ممن يرتكب بعض المعاصي أنهم يرون عدم حرمة هذه المعصية وأنها حلال، ولو أخذنا الربا -مثلاً- فالملاحظ تهافت الناس على التعامل بالربا، وعدم هيبتهم من ذلك، بل إن جميع البنوك التي أعلنت زيادة رأسمالها غطت أسهمها بأيام قليلة، بل وبعضها وصلت الأموال المدفوعة إلى ضعف المطلوب عدة مرات، ووصل عدد المساهمين في البنوك إلى عدة ملايين.
والسؤال هنا: هل كل هذه الملايين تعتقد حرمة الربا، ولكن غلبت عليهم شهواتهم فساهموا فيها؟ إننا لا نتصور وقوع ذلك من جميع هؤلاء (1) مع أنه لا يجوز الحكم على فرد بعينه إلا إذا تبينا منه أنه يستحل الربا، حتى لا نكفر فرداً بذنب لم يستحله.
ومن هنا فإن من أبرز أسباب انتشار المنكرات وشيوعها ضعف الناس في فهم التوحيد، وخطورة استحلال المعصية، ولو علموا ذلك لما رأينا ما نراه من منكرات ومآسٍ تنذر بعاقبة وخيمة.
كيف يكون التوحيد أولاً؟
لعلنا من خلال ما سبق اتضح لنا وجوب أن يكون (التوحيد أولاً)، وهنا يأتي سؤال يفرض نفسه: كيف يكون (التوحيد أولاً)؟
__________
(1) - بل وصل الحال ببعضهم إلى أن قال إن الربا ضرورة من ضرورات هذا العصر، وآخر يقول إن البنوك كالدم لجسم الإنسان.(1/28)
والجواب على هذا السؤال الكبير سأختصره في عناصر أساسية تسهيلاً لفهم المراد ومن ثم العمل بذلك.
أولاً: تعلم التوحيد وفهمه وتطبيقه
قال البخاري: "باب العلم قبل القول والعمل".
قال _تعالى_: "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ" (محمد: من الآية19).
وقال صلى الله عليه وسلم :" من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين " (1) .
وقال أبو حنيفة: "الفقه في الدين أفضل من الفقه في العلم".
ومراده من الفقه في الدين: التوحيد، وبالعلم: الأحكام الشرعية في الفروع.
ثانياً تعليمه والدعوة إليه:
وهذه من أهم المسائل التي يجب أن نعنى بها، فلا يكفي أن نتعلمه لأنفسنا، بل إن من ثمرة العلم العمل، ومن العمل تعليم التوحيد والدعوة إليه.
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ دعوته بالدعوة إلى التوحيد، وما بعث الله من نبي إلا دعا إلى التوحيد، فنوح وإبراهيم وهود وصالح وشعيب كلهم دعوا قومهم، فقالوا: "اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ" (الأعراف: من الآية59).
وقال _تعالى_:"وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ"(النحل: من الآية36).
وقال:"وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ" (الأنبياء:25).
ورسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أرسل معاذاً إلى اليمن قال له: " إنك تأتي قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله... " (2)
وفي رواية أخرى: " إلى أن يوحدوا الله " (3) .
__________
(1) - أخرجه البخاري (1- 26). ومسلم رقم (1037).
(2) - أخرجه البخاري (5- 109). ومسلم رقم (19).
(3) - البخاري (8- 164).(1/29)
وإذا كان هذا هو منهج رسول الله فنحن ملزمون باتباعه والالتزام به، قال _تعالى_:"قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (يوسف:108).
وتتمثل الدعوة إلى التوحيد بما يلي:
1- إقامة الدروس المستمرة في المساجد والبيوت.
2- وضع المناهج وتكثيفها في جميع المراحل.
3- الإكثار من المحاضرات والندوات.
4- تربية الأهل والأولاد على تعلم التوحيد.
5- نشر كتب التوحيد في جميع أنحاء العالم فحاجتهم إليها أشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب.
6- استثمار جميع الفرص السانحة لنشر عقيدة أهل السنة والجماعة وسلف الأمة.
7- الرد على المناوئين لدعوة التوحيد، ولكل مقام ما يناسبه، ولابد من مراعاة الحكمة في ذلك حتى لا تقع مفسدة أعظم "وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ" (الأنعام: من الآية108).
ثالثاً: محبة أهله والذود عنهم:
من مستلزمات كون (التوحيد أولاً) محبة التوحيد وأهله والذود عن أعراضهم والرد على مخالفيهم، قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن (1) :"من لم يحب التوحيد لم يكن موحداً" ؛لأنه هو الدين الذي رضيه الله لعباده، كما قال _تعالى_: "وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً" (المائدة: من الآية3).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:" من أحب الله أحب دينه، وما لا فلا".
ومن علامات حب التوحيد: أن يكون هو هم المسلم، يفرح لما يؤدي إلى استكماله، ويحزن إذا رأى ما ينافيه، ويسعى جاهداً لنصرته والذود عنه، وليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكنه ما وقر في القلب وصدقه العمل "قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ" (الأنعام:162، 163).
__________
(1) - انظر مجموعة التوحيد 1-51.(1/30)
رابعاً: بغض أعداء التوحيد:
وبغضهم يقتضي هجرهم والبراءة منهم وكشف تلبيساتهم وتفنيد دعاواهم "وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ" (الأنعام:55).
وليحذر من موالاتهم أو توليهم "وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ" (المائدة: من الآية51).
وبغضهم ينافي مودتهم ومحبتهم "لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ" (المجادلة: من الآية22).
ومخالطتهم ومجالستهم تضعف من بغضهم وعداوتهم إلا من أجل دعوتهم للإسلام.
خامساً: ربط قضايانا المعاصرة بالتوحيد:
من أهم ما يجب أن يعنى به العلماء وطلاب العلم والدعاة أن يربطوا قضايانا المعاصرة بالتوحيد، ويبينوا حالها من حيث الموافقة أو المخالفة.
وبخاصة أن هناك مستجدات تتعلق بالولاء والبراء، وأخرى لها صلة بالفرق الضالة، كأصحاب المدرسة العقلية، والجماعات التي تكفر المسلمين، أو التي تغلو في الصالحين.
وكذلك قضايا الحكم بغير ما أنزل الله، ونشر العلمنة في العالم الإسلامي.
ومن ذلك التغريب والتشبه ونحوهما، وكذلك ما نشأ من بدع ومحدثات في دين الله، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: " من أحدث في ديننا هذا ما ليس منه فهو رد" (1) .
سادساً: جمع الأمة على أساس التوحيد:
من سمات أهل السنة والجماعة أنهم يدعون إلى اجتماع الكلمة ووحدة الصف ونبذ الفرقة والخلاف، والله- جل وعلا- يقول: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا" (آل عمران: من الآية103)، وقال: "أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ" (الشورى: من الآية13).
__________
(1) - أخرجه البخاري (3-167). ومسلم رقم (1718).(1/31)
وقال صلى الله عليه وسلم : "من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات ميتة جاهلية" (1) .
وقال ابن مسعود: "الخلاف شر".
ومما سبق يتضح أن جمع الكلمة وتأليف القلوب مطلب شرعي وهدف سام، ولكن مما يلحظ في هذا الجانب أن هناك من يذكر أن الاجتماع مراد لذاته، بغض النظر عما ينتج منه، وهذا خطأ في الفهم وقصور في التصور؛ لأن الهدف هو الاجتماع على كلمة الحق، والتعاون على البر والتقوى، وذلك لأن الاجتماع والاتفاق إن لم يكن على التقوى والطاعة سيكون على الإثم والعدوان، ولذلك أمر الله بالتعاون على البر والتقوى، فقال: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ" (المائدة: من الآية2).
وقال: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ" (آل عمران: من الآية103)، فجعل الاعتصام على حبل الله (وهو التوحيد).
والذين جعلوا الاجتماع هو الغاية والهدف، تساهلوا في أمر التوحيد، ولم يجعلوه من الأصول التي يجتمعون عليها، بل تجد بعضهم يمنع أتباعه من إثارة قضايا العقيدة، بحجة أن هذا الأمر سيكون عائقاً أمام وحدة كلمة المسلمين، وتوحيد الصفوف، بل لا يخجل بعضهم أن يقول: إن طرح مسائل العقيدة تؤدي إلى الفرقة والخلاف، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
يقول الشيخ عبدالعزيز قاري موضحاً هذه المسألة: "إننا وجدنا أنفسنا أمام طوائف تنتسب إلى العلم والدعوة والتوجيه تخالفنا وتنازعنا في هذا المبدأ، فتقول:
إن قضية التوحيد في هذا العصر ليست هي القضية الأولى، وإن كانت قضية مهمة أساسية، إننا في عصر نحتاج فيه إلى التأليف بين كل من يقول: لا إله إلا الله ؛ لنواجه التحديات والأخطار من إلحاد وغير ذلك.
__________
(1) - أخرجه البخاري (8-87). ومسلم رقم (1849).(1/32)
وآخرون وإن كانوا يتفقون معنا على هذا المبدأ، ولكنك تراهم يناقضونه ويضادونه عملياً، فإذا كشفت عن اعتقاد أحدهم وجدته أحوج ما يكون إلى تصحيح اعتقاده هو أولاً، وهذه مصيبة كبرى إذا كانت فيمن يتصدر للتعليم والدعوة والتوجيه، فكيف يصحح عقائد الناس من هو أحوج منهم إلى تصحيح عقيدته" (1) .
ولا أدري على ماذا يجمعون الناس ولأي شيء يوحدون صفوفهم، مع أنه ثبت فشل مثل هذه التجمعات التي تضم خليطاً من العقائد، فعند المحن والشدائد يتحول الأصدقاء إلى أعداء، والأحباب إلى خصماء، وصدق الله العظيم "الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ" (الزخرف:67)، وإن كان هذا واقعاً في الآخرة فإنه يقع أحياناً في الدنيا كما رأينا وشاهدنا، ولذلك لابد أن تبنى الدعوات والتجمعات على أصول وثوابت منبثقة من عقيدة التوحيد، ملتزمة بمنهج أهل السنة والجماعة، بعيدة عن البدع المحدثة والتنازلات في دين الله المخزية، وتمييع قضايا العقيدة، بحجة جمع الكلمة ووحدة الصف والمصلحة العامة، مما لا يثبت عند التحقيق والتأصيل.
ولذلك فلابد عند التوحيد أن يكون (التوحيد أولاً) وإلا فلا.
ثمرة التوحيد وآثاره
للتوحيد ثمار كثيرة ومنافع عظيمة يصعب حصرها وعدها، فإذا كانت بهيمة الأنعام فيها منافع عظيمة قال الله فيها: "وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ" (يّس:73)، ويقول _سبحانه_ عن نعمه: "وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا" (النحل: من الآية18)، وقال عن الحج: "لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ" (الحج: من الآية28).
__________
(1) - انظر رسالة العقيدة أولا لو كان يعلمون ص 8.(1/33)
إذا كانت هذه النعم يصعب حصر منافعها، ولذلك جاءت كلمة "منافع" في الآيتين بالتنكير، فكيف نستطيع أن نحصر منافع وثمار التوحيد، وهو أعظم نعمة أنعم الله بها على الخليقة، إن ما سواه من منافع ليس إلا فرعاً عنه وأثراً منه "لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ" (إبراهيم: من الآية7).
ولذا سأذكر بعض ثمار التوحيد وآثاره العظيمة في الدنيا والآخرة.
قال شيخ الإسلام -ابن تيمية-:
"وليس للقلوب سرور ولذة تامة إلا في محبة الله -تعالى-، والتقرب إليه بما يحبه، ولا تتم محبة الله إلا بالإعراض عن كل محبوب سواه، وهذا حقيقة لا إله إلا الله ، وهي ملة إبراهيم الخليل -عليه الصلاة والسلام- (1) .
وذكر ابن القيم في (زاد المعاد):
إن توحيد الله أعظم أسباب انشراح الصدر (2) .
وقد ذكر الشيخ السعدي في القول السديد فضائل التوحيد فأطال،وإليك مختصر ما ذكر:
1- أن من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب ولا عذاب.
2- مغفرة الذنوب وتكفيرها.
3- أنه السبب الأعظم لتفريج كربات الدنيا والآخرة ودفع عقوبتهما.
4- أنه يمنع الخلود في النار، إذا كان في القلب منه أدنى مثقال حبة خردل، وأنه إذا كمل في القلب يمنع دخول النار بالكلية.
5- أنه يحصل لصاحبه الهدى والكمال والأمن التام في الدنيا والآخرة.
6- أنه السبب الوحيد لنيل رضا الله وثوابه، وأن أسعد الناس بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه.
7- أن جميع الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة متوقفة في قبولها وفي كمالها وفي ترتيب الثواب عليها على التوحيد.
8- أنه يسهل على العبد فعل الخير وترك المنكرات ويسليه عن المصيبات.
9- إذا كمل في القلب حبب الله لصاحبه الإيمان وزينه في قلبه، وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان.
10- أنه يخفف عن العبد المكاره ويهون عليه الآلام.
__________
(1) - مجموع الفتاوى (28-32).
(2) - زاد المعاد (2- 23).(1/34)
فبحسب تكميل العبد للتوحيد والإيمان وتلقيه المكاره والآلام بقلب منشرح ونفس مطمئنة وتسليم ورضا بأقدار الله المؤلمة.
11- أنه يحرر العبد من رق المخلوقين والتعلق بهم وخوفهم ورجائهم والعمل لأجلهم، هذا هو العز الحقيقي والشرف العالي.
12- أن التوحيد إذا تم وكمل في القلب وتحقق تحققاً كاملاً بالإخلاص التام، فإنه يصير القليل من عمله كثيراً، وتضاعفت أعماله وأقواله بغير حصر ولا حساب، ورجحت كلمة الإخلاص في ميزان العبد بحيث لا تقابلها السموات والأرض.
13- أن الله تكفل لأهله بالفتح والنصر في الدنيا، والعز والشرف، وحصول الهداية والتيسير لليسر، وإصلاح الأحوال، والتسديد في الأقوال والأفعال.
14- أن الله يدفع عن الموحدين أهل الإيمان شرور الدنيا والآخرة، ويمن عليهم بالحياة الطيبة والطمأنينة إليه والطمأنينة بذكره.
كتب ورسائل في التوحيد
هذه إشارة سريعة لبعض الكتب والرسائل والأبواب في التوحيد التي لا يستغني عنها طالب العلم (1) .
1- كتب التوحيد والإيمان في الصحاح والسنن والمسانيد.
2- كتب التوحيد والسنة والإيمان لعدد من علماء السلف كأحمد بن حنبل، وابن مندة، وغيرهما.
3- (أصول معتقد أهل السنة والجماعة) للالكائي.
4- كتب شيخ الإسلام ابن تيمية.
5- (شرح العقيدة الطحاوية).
6- كتب ورسائل شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب، وبخاصة كتاب التوحيد.
7- كتب ورسائل أئمة الدعوة من أحفاد الشيخ وغيرهم.
8- كتب ورسائل علمائنا المعاصرين كابن باز وابن عثيمين وغيرهما
9- الرسائل والكتيبات التي تصدرها بعض دور النشر في منهج أهل السنة والجماعة، وبخاصة سلسلة (دار الوطن).
10- الأشرطة التي تعنى بشرح التوحيد والدعوة إليه.
وختاماً
__________
(1) - أعظم كتاب في التوحيد هو القرآن الكريم وما سواه يرجع إليه.(1/35)
أوصيكم بوصية الله -تعالى- لعباده على لسان رسله، حيث قال: "شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ" (الشورى: من الآية13) ثم أوصيكم بوصية شيخ الإسلام الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب، حيث قال: [مجموعة التوحيد 1- 141]:
"فالله الله يا إخواني تمسكوا بأصل دينكم، وأوله وآخره ورأسه، ورأسه: شهادة ألا إله إلا الله، واعرفوا معناها، وأحبوها، وأحبوا أهلها، واجعلوهم إخوانكم، ولو كانوا بعيدين، واكفروا بالطواغيت، وعادوهم، وأبغضوهم، وأبغضوا من أحبهم أو جادل عنهم، أو لم يكفرهم، أو قال: ما علي منهم، أو قال: ما كلفني الله بهم، فقد كذب هذا على الله وافترى، فقد كلفه الله بهم، وافترض عليه الكفر بهم، والبراءة منهم، ولو كانوا إخوانهم وأولادهم، فالله الله تمسكوا بذلك لعلكم تلقوا ربكم لا تشركون به شيئاً".
اللهم توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين" اهـ.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(1/36)