الحمد الله نحمد وستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادية له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبدوه ورسوله وصفيه وخليه صلى الله عليه وسلم ما تعاقب الليل والنهار وعلى أصحابه الأخيار والتابعين لهم وبإحسان .{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [آل عمران :102 ] {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }[النساء :1]
أما بعد
فأن من طبيعة النفس البشرية أن تميل إلى شهوات الدنيا ولذاتها وقد فُطر الناس عليها وزينت لهم { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}[ آل عمران الآية 14]
وهذه حكمة من حكم الله الجليلة سبحانه وتعالى ليبتلي ويختبر هذا الإنسان الذي أمر وكلف بعبادته حتى يتبين المطيع من العاصي والذي يقدم ما يحبه الله ويرضاه على ما تألفه النفس وتهواه ويجازي كلا بما عمل وقدم يقول عز وجلَّ. { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ } [الملك الآية 2 ](1/1)
فالإنسان مهما حاول أن يتجنب المعاصي والذنوب فإنه سيبقى ذلك العبد الضعيف الذي يضعف أمام الشهوات وتزل به قدمه في المنكرات وقد قال النبي كما عند الترمذي من حديث أنس " كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون(1) " فالإنسان من طبيعته الخطأ والزلل ولكن من رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده أنه يغفر الذنوب ويمحو الزلات ويقيل العثرات جاء في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُم وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ(2) " . رواه مسلم
وسيكون حديثي بإذن الله عز وجل في هذه الورقات عن التوبة وأحكامها وأسأل الله الإخلاص في القول والعمل ومجانبة الخطأ والزلل وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين .
موسى بن ذاكر الحربي
الدمام الموافق 7/11/ 1427هـ
Mossa25@livislam.com
أولا - تعريف التوبة
التَّوبة في اللغة : هي الرُجوعُ عن المعصيةِ إلى الطاعةِ وتابَ إلى اللَّهِ يتوبُ توباً وتوبةً ومَتابا :أَناب ورَجَعَ ، ورَجل تَوَّابٌ: تَائِب إلى اللَّه. وتاب اللَّهُ عليه أَي: عادَ عليه بالمَغْفِرَة
وقال أَبو منصور: أَصلُ تاب عاد إلى اللَّهِ ورَجَعَ وأَنابَ. وتاب اللَّهُ عليه أَي: عادَ عليه بالمَغْفِرَة. وقوله تعالى: {وتُوبُوا إلى اللَّه جَمِيعاً} [النور : 31 ] أَي: عُودُوا إلى طَاعَتِهِ وأَنِيبُوا إليه. واللَّهُ التوَّاب : يَتُوب على عَبْدِهِ بَفَضْلِه إذا تابَ إليهِ من ذَنْبِه (3)
وشرعا : هي الندم على ما مضى من المعاصي والذنوب والعزم على تركها دائما لله عز وجل لا لأجل نفع الدنيا أو أذى ( (4)
__________
(1) 1 رواه الترمذي ح 2547
(2) رواه مسلم ح 6914 2
(3) انظر لسان العرب لابن منظور مادة توب
(4) 2 الآداب الشرعية ابن مفلح 1/74(1/2)
وقال الحسن البصري –رحمه الله – ندم بالقلب واستغفار باللسان وترك بالجوارح وإضمار إلا يعود (1)
وقال الغزالي – رحمه الله- ترك المعاصي في الحال والعزم على تركها في الاستقبال وتدارك ما سبق من التقصير في سابق الأحوال )(2)
وقال ابن القيم – رحمه الله – هي الرجوع مما يكرهه الله ظاهرا وباطنا إلى ما يحبه الله ظاهرا وباطنا ويدخل في مسماها الإسلام والإيمان والإحسان وتتناول جميع المقامات .(3)
ثانيا – فضائل التوبة وثمراتها
كل عبادة أمر الله بها لا بد أن يكون لها فضائل وثمرات ولا شك أن التوبة من أفضل العبادات بل إن ابن رجب - رحمه الله – قال عنها "إنها وظيفة العمر " فمن فضائلها إلا محبة الله للعبد قال الله تعالى {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } [البقرة : 222 ] ومنها فرح الله جل وعلا بها قال النبي صلى الله عليه وسلم " " لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح" رواه مسلم (4) وكل مسلم يتمنى أن يحبه الله ويفرح بتوبته .
__________
(1) 3 المرجع السابق 1/75
(2) 1 مصطلحات في كتب العقيدة دراسة وتحليل 182 محمد بن إبراهيم الحمد
(3) مدارج السالكين 2/236
(4) صحيح مسلم ح 6904 3(1/3)
ومنها السعادة في الدارين قال الله تعالى { وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ [هود : 3 ] قال ابن كثير – رحمه الله –( يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً ) أي في الدنيا (إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) أي في الدار الآخرة قاله قتادة كقوله تعالى { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً
مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [النحل : 97 ](1)
ومنها كثرة الخيرات والبركات ونزول الأمطار وزيادة القوة على الأعداء قال الله تعالى على لسان هود عليه السلام {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ [هود : 52 ]
ومنها تبديل السيئات إلى حسنات قال تعالى { إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }[الفرقان : 70 ]وقد أختلف في معنى التبديل في هذه الآية فقيل المراد به تبديل نفس السيئات إلى حسنات وقيل تبديل الأعمال في الدنيا وهو الصواب فيبدل أحوالهم من المعاصي إلى الطاعات فالزنا سيئة يبدل مكانه العفاف وهو حسنة قال الحسن البصري - رحمه الله – أبدلهم الله بالعمل السيء العمل الصالح وأبدلهم بالشرك إخلاصا وأبدلهم بالفجور إحصانا وبالكفر إسلاما (2)
ثالثا – الفرق بين التوبة والاستغفار
__________
(1) اليسير في اختصار تفسير ابن كثير ص 886
(2) اليسير في اختصار تفسير ابن كثير 1314(1/4)
أحيانا تذكر التوبة مفردة غير مقرون بالاستغفار كما في قوله تعالى {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }[النور : 31 ] وقوله تعالى { يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً }[التحريم :8]
وأحيانا تكون مقرونا بالاستغفار كما في قوله تعالى { وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ }[هود : 52 ] وقوله {وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } [هود : 3 ]
فإذا اقترنا كان معنى الاستغفار طلب وقاية شر ما مضى والتوبة الرجوع وطلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل من السيئات أعماله . وإذا أفردا دخل احدهما في مسمى الأخر مع تضمن الاستغفار طلب المغفرة .فالتوبة رجوع والاستغفار مفارقة (1)
منزلة التوبة من الدين
للتوبة منزلة عظيمة في الدين يقول : ابن القيم - رحمه الله - ويدخل في مسماها (أي التوبة ) الإسلام والإيمان والإحسان وتتناول جميع المقامات (2)
__________
(1) انظر مدارج السالكين لابن القيم 1/236
(2) مدارج السالكين 2/236(1/5)
ولذا نص أهل العلم على وجوب التوبة من الذنوب على الفور واستدلوا بقوله تعالى {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً }[ التحريم : 8 ] وقوله {وتُوبُوا إلى اللَّه جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور : 31 ] فهذا أمر من الله لعموم المؤمنين والأصل في الأمر أنه للوجوب وعلى الفور قال : النووي – رحمه الله – وقد تظاهرت دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على وجوب التوبة اهـ (1)
وقال : ابن القيم – رحمه الله تعالى- قال الله تعالى : {وتُوبُوا إلى اللَّه جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} هذه الآية مدنية في سورة مدينة خاطب الله بها أهل الإيمان وخيار خلقه أن يتوبوا إليه بعد إيمانهم وصبرهم وهجرتهم وجهادهم ثم علق الفلاح بالتوبة تعليق السبب بسببه وأتى بأداة لعل المشعرة بالترجي إذانا بأنكم إذا تبتم كنتم على رجاء الفلاح , فلا يرجو الفلاح إلا التائبون .وقال تعالى { ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون } قسم العباد إلى تائب وظالم وما ثَمَّ قم ثالث ألبته وأوقع اسم الظالم على من لم يتب ولا أظلم منه لجهله بربه وبحقه وبعيب نفسه وآفات عمله اهـ (2) إذا تبين لك هذا عرفت أن التوبة منزلة عظيمة من منازل السائرين إلى الله فمن رغب في اللحاق بركب الصالحين ومرافقة الأنبياء والمرسلين فليفعل كما فعلوا .
لسنا وإن كرمت أوائلنا أبدا على الأحساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل مثل ما فعلوا
قال تعال { وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً } [النساء : 69 ]جعلنا الله منهم
__________
(1) 2 نزهة المتقين 1/30
(2) 1مدارج السالكين 1/142(1/6)
وعن ابنِ عمر رضي الله عنهما قَالَ «كَانَ يُعَدُّ لِرَسُولِ الله في المجلِسِ الوَاحِدِ مائَة مَرَّةٍ مِنْ قَبْلِ أن يَقُومَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الغَفُورُ" (1)
من رحمة الله بعباده أن فتح لهم باب التوبة
من فضل الله ونعمته على العباد أن فتح لهم باب التوبة على مصراعية لطفا بعباده ونعمة عليهم وامتنانا يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إن من قبل المغرب للبابا مسيرة عرضه أربعون عاما أو سبعون سنة , فتحه الله عز وجل للتوبة يوم خلق السماوات والأرض فلا يغلقه حتى تطلع الشمس من منه(2) " رواه الترمذي
فالله سبحانه أرحم بعباده من آبائهم وأمهاتهم .
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه اَنَّهُ قَالَ قَُدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بسبي فإذا امرأة مِنَ السبي تَبْتَغِي إذا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السبي فأخذته فألصقته بِبَطْنِهَا وأرضعته فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " أترون هَذِهِ المرأة طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ " . قُلْنَا لاَ وَاللَّهِ وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أن لاَ تَطْرَحَهُ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " لَلَّهُ اَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا " (3) رواه مسلم . سبحانه ما أعظم فضله و إحسانه يقول تعالى ( والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما ) [سورة النساء :27]
ويقول تعالى لعباده المسرفين في المعاصي { ُقلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [الزمر : 53 ]
__________
(1) رواه الترمذي 3566 وقال حسن صحيح غريب
(2) امع الترمذي ح 3673 وقال حسن صحيح 3
(3) حيح مسلم ح 6927 1(1/7)
قال الفضيل بن عياض – رحمه الله - : لرجل كم أتت عليك ؟ قال ستون سنة ، قال : فأنت منذ ستين سنة تسيرُ إلى ربك يُوشِكُ أن تَبلُغَ !!، فقال الرجل : إنا لله وإنَّا إليه راجعون !!، فقال الفضيل : هل تعرف تفسير ما تقول ؟: قال : لا ، قال : أنت لله عبد وإليه راجع ، فمن علم أنه لله عبد ، وأنه إليه راجع ، فليعلم أنه موقوفٌ ، ومن علم أنه موقوف ، فليعلم أنه مسؤول ، ومن علم أنه مسؤولٌ ، فليُعِدَّ للسؤال جواباً ، فقال : الرجل : فما الحيلةُ ؟ قال : يسيرة ، قال : ما هي ؟ قال : تُحسِنُ فيما بقي يُغفرُ لك ما مضى ، فإنك إن أسأتَ فيما بقي ، أُخذتَ بما مضى وبما بقي .
فيا من زلت قدمه وضعفت نفسه وتغلب عليه شيطانه وهواه ووقع فيما محارم الله . آن لك أن تتوب وترجع إلى مولاك علام الغيوب فالله يفرح بتوبتك وإنابتك قال عليه الصلاة والسلام " لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح" (1) رواه مسلم
من قصص التائبين
__________
(1) صحيح مسلم ح 6904 1(1/8)
توبة الغامدية -رضي الله عنها - تأتي فتقول يا رسول الله إني قد زنيت فطهرني وإنه ردها فلما كان الغد قالت يا رسول الله لم تردني لعلك أن تردني كما رددت ماعزا فوالله إني لحبلى قال إما لا فاذهبي حتى تلدي فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة قالت : هذا قد ولدته قال اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز فقالت : هذا يا نبي الله قد فطمته وقد أكل الطعام فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها فيقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فتنضح الدم على خالد فسبها فسمع نبي الله صلى الله عليه وسلم سبه إياها فقال مهلا يا خالد فو الذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت "(1) رواه مسلم
إن غرّها طائف الشيطان في زمنٍ *** فلم تزل بعدها تعلو و تنتصر
هناك قصة توبٍ تزدهي مثلا *** للتائبين و فيها البرّ و العبر
في كل لفتة حزنٍ نور موعظةٍ *** أليس في سيرة الأصحاب مُدّكر
و رب ذنبٍ دعا لله صاحبه *** إن أخلص العزم أو إن صحّت الفطر
يا من يصرّ على الآثام في صلفٍ *** و الموت خلف جدار الغيب مستتر
الله يفرح إن تاب المسيء ..ألا *** قوموا إلى الله و استغفروه و ابتدروا
لا تأمن العمر والأيام راكضةٌ *** وقد يجيء بما لم تحذر القدر!!
في الدهر زجرٌ وفي الأحداث موعظةٌ *** فما لقلبي المعنّى ليس ينزجر؟!
كم غرّ إبليس والأهواءُ من نفرٍ!! *** وأعظم الذنبِ أنّ الذنبَ يُحتقرُ
__________
(1) صحيح مسلم ح 4386 2(1/9)
توبة مالك ابن دينار - رحمه الله - العابد الزاهد الذي كان في أول أمره على السكر والمكر يقول -رحمه الله - رزقني الله بنتا أحببتها حبا جما ثم توفيت وهي تلعب بين يدي فحزنت حزنا شديدا عليها وطال حزني وأخذت أتذكر أيامي معها ثم من شدة الحزن أحضرت الخمر فشربت حتى خررت صريعا ولما نمت رأيت رؤيا أن القيامة قد قامت ورأيت أهوالها وأن الناس تجري وأنا أجري وأحس بلهيب النار من خلفي فلما التفت وإذا هو ثعبان عظيم ينفث على ظهري وكلما أسرعت في الجري أسرع خلفي واشتد بي الكرب والتعب والخوف حتى رأيت جبلا وحيدا فيه شرفات وفتحات وفيه بنيات فلما رأيته اتجهت إليه فلما رأينني تلك البنيات صرخن يا فاطمة أدركي أباك فقالت أبي وأشارت إلى الثعبان فوقف ثم مدت يدها وصعدت إليها وجلست هي بين يدي وقالت يا أبتاه {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }[الحديد : 16 ] عدة مرات ثم أفقت من نومي وإذا بي أسمع المؤذن ينادي لصلاة الفجر ( حي على الصلاة حي على الفلاح ) فتبت إلى الله وتوضأت واتجهت إلى المسجد وإذا الإمام الشافعي يقرأ في الصلاة قول الله تعالى ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ) فالحمد لله الذي منّ عليّ بالتوبة بعد غفلتي ورقادي قبل يوم مماتي
رب إني لك عدت ***من سراب فيه تهب
فإذا التوبة ألقت*** رحلها عندي رحلت
وإذا الأوزار حطت*** حط قلبي وانتشيت(1/10)
توبة أبي محجن الثقفي - رضي الله عنه - كان يجلد في الخمر ,فلما أكثر عليهم سجنوه وأوثقوه , فلما كان يوم القادسية رآهم يقتتلون فكأنه رأى أن المشركين قد أصابوا من المسلمين فأرسل إلى امرأة سعد يقول لها . إن أبا محجن يقول لك : أن خليت سبيله وحملته على هذا الفرس ودفعت إليه سلاحا ليكونن أول من يرجع إلا أن يقتل .
وكان يقول رضي الله عنه
كفى حَزَناً أن تلتقي الْخَيْلُ بالقنا******** وأُتْرَكَ مشدوداً عليَّ وِثَاقيا
يُقَطِّع قلبي حسرة أن أرى الوغى****** ولا سامعٌ صوتي ولا من يَرَانيا
وأن أشهدَ الإسلام يدعو مُغَوِّثاً******** فلا أُنجدَ الإسلام حينَ دعانيا
سُلَيْمى دعيني أروِ سيفي من العدا***** فسيفيَ أضحى وَيْحَهُ اليومَ صاديا
دعيني أَجُلْ في ساحةِ الحربِ جَوْلَةً**** تُفَرِّجُ من همّي وتشفي فؤاديا
وللهِ عهدٌ لا أَخيسُ بعهده ***** لئن فُرِّجت أَنْ لا أزورَ الحوانيا
فأطلقته فقاتل قتالا عظيما وكان يكبر ويحمل فلا يقف بين يديه أحد وكان يقصف الناس قصفا منكرا . فكان لا يحمل في ناحية إلا انصاع الناس من حوله حتى انتصر المسلمون . فجعل الناس يقولون هذا ملك. فلما جاء سعد قالت : له امرأته كيف كان قتالكم اليوم فجعل يخبرها ويقول لقينا ولقينا حتى بعث الله رجلا على فرس أبلق لولا أني تركت أبا محجن في القيود لظننت أنها بعض شمائل أبي محجن . فقالت والله إنه لأبو محجن .فدعا به وحل قيوده وقال ولا الله لا نجلدك على الخمر أبدا فقال أبو محجن رضي الله عنه . وأنا والله لا أشربها أبدا .(1/11)
وهذا هوا حال المؤمن وإن غلبته نفسه الأمارة بالسوء لكنه لا يصر ويتمادى في معصيته بل حاله كما قال الله تعالى {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [آل عمران : 135 ]
هل من توبة قبل الموت؟
أخي الحبيب هيا إلى طريق الفلاح فإن الله قد قال {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [النور : 31 ] فالموت غائب إذا أتي لا يستأذن غائب يأتي على غِرة لا يميز بين صغير ولا كبير ولا غني ولا فقير. قال مالك بن دينار : دخلت على جارٍ لي وهو في الغمرات يعاني عظيمَ السَّكَراتِ ، يُغمى عليه مرَّةً ويفيقُ أخرى ، وفي قلبه لهيبُ الزَّفرات ، وكان منهمكاً في دنياه ، متخلِّفاً عن طاعة مولاه ، فقلت له : يا أخي تُبْ إلى الله وارجع عن غِيِّكَ ، عسى المولى أن يشفِيكَ مِنْ ألَمِكَ ويعافيك مِنْ مرضِك وسقمِك ويتجاوز بكرمه عن ذنبك . فقال : هيهات هيهات ! قد دنا ما هُو آت ، وأنا ميتٌ لا محالةَ ، فيا أسفي على عمرٍ أفنيته في الباطل .
وصدق الله إذ يقول { أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [ الزمر : 56/57]
قال لحسن البصري - رحمه الله - إن قوما ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا بغير توبة، يقول أحدهم: إني أحسن الظن بربي، وكذب، لو أحسن الظن لأحسن العمل
يا نفس توبي فإن الموت قد حانا
واعصي الهوى فالهوى مازال فتانا
أو ما ترين المنايا كيف تلقطنا
لقطا فتلحق أخرانا بأولانا(1/12)
في كل يوم لنا ميت نشيعه
نرى بمصرعه آثار موتانا
يا نفس مالي وللأموال أتركها
خلفي وأخرج من دنياي عريانا
مازلت في مهلة !
إنك في زمن المهلة والله سبحانه وتعالى يقبل التوبة ما لم تطلع الشمس من مغربها أو تبلغ الروح الحلقوم عندها ينقطع كل أمل ورجاء ويبقى الألم والعناء . قال تعالى {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [النساء : 18 ]
جدير بمن عقد العزم على اللحاق بركت التائبين أن يتعرف على الطريق التي يسلكها والمفاوز التي يقطعها حتى لا يتيه في قفارها وحتى يتمكن من اللحاق بركب التائبين .
و أهل العلم قد ذكروا أن طريق التوبة لها أحكام لا بد للسالك أن يعرفها وسأذكرها إن شاء الله على وجه الإجمال والاقتصار على أهمها :-
أولا – وجوب التوبة من تأخير التوبة
قال ابن القيم – رحمه الله - إن المبادرة إلى التوبة من الذنب فرض على الفور ولا يجوز تأخيرها فمتى أخرها عصى بالتأخير فإذا تاب من الذنب بقي عليه توبة أخرى وهي توبته من تأخير التوبة وقل أن تخطر هذه ببال التائب بل عنده أنه إذا تاب من الذنب لم يبق عليه شيء آخر وقد بقي عليه التوبة من تأخير التوبة (1) وهذه من الطائف التي قلّ من يتفطن لها فتنبه لها واعضض عليها بنواجذ .
ثانيا- أنواع التوبة :
التوبة تأتي على ثلاثة أنواع :-
__________
(1) مدارج السالكين 1/211(1/13)
ألأولى – معينة وهي أن يتوب من ذنب معين فهذه لا تكفر جميع الذنوب وإنما تكفر هذا الذنب المعين الذي تاب منه لقوله عليه الصلاة والسلام " إِنَّما الأعْمَالُ بالنِّيات، وإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِىءٍ ما نَوَى: فَمَنْ كانتْ هِجْرَتُه إِلى دُنْيَا يُصِيبُها، أَوْ إِلى امْرَأَةٍ يَنْكِحُها، فَهِجْرَتُه إِلى ما هاجَرَ إِلَيه" متفق عليه (1) يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – إن من له ذنوب فتاب من بعضها دون بعض فإن التوبة إنما تقتضي مغفرة ما تاب منه أما من لم يتب منه فهو باق فيه على حكم من لم يتب لا على حكم من تاب وما علمت في هذا نزاعا إلا الكافر فإن إسلامه يتضمن التوبة من الكفر فيغفر له بالإسلام الكفر الذي تاب منه (2)
الثانية – عامة من جميع الذنوب وهذه مقتضية لغفران الذنوب كلها وإن لم يستحضرها إلا أن يعارضها معارض كأن لو استحضر هذا الذنب لا يتوب منه أو لاعتقاده حسنه كأهل البدع يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – فما كان لو استحضره لم يتب منه لم يدخل في التوبة .(3)
الثالثة – توبة مطلقة وهي أن يتوب توبة مجملة ولا يستلزم التوبة من جميع الذنوب والفرق بينها وبين العامة أن العامة توبة من جميع الذنوب والمطلقة توبة من ذنب غير معين فهذه لا توجب أي نوع من أنواع الذنوب فيها كما أنها لا تمنع دخوله لكن هذه تصلح أن تكون سببا لغفران المعين كما تصلح أن تكون سببا لغفران الجميع .(4)
ثالثا- شروط التوبة :
للتوبة شروط ذكرها أهل العلم لا بد من تحققها حتى تكون التوبة مقبولة عن الله تعالى و أول هذه الشروط
__________
(1) رواه البخاري (1) ومسلم 4883
(2) مكارم الأخلاق لشيخ الإسلام ابن تيمية 114
(3) المرجع السابق 115
(4) مكارم الأخلاق لشيخ الإسلام ابن تيمية بتصرف 115(1/14)
لإخلاص لله جل وعلا وهذا شرط لجميع العبادات قال تعالى {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ }[البينة : 5 ]
الإقلاع عن الذنب فورا وعدم الإصرار قال الله تعالى { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }[آل عمران : 135 ] وقوله (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي يعلمون أن من تاب تاب الله عليه . قال تعالى {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [التوبة : 104 ]
الندم على الوقوع في الذنب فمن لم يندم لم تصح توبته ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنهما " يا عائشةُ إنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فاسْتَغْفِرِي الله، فإنَّ التَّوْبَةَ مِنَ الذَّنْبِ: النَّدَمُ والاسْتِغْفارُ "(1) .
__________
(1) رواه الإمام احمد وصححه الألباني – رحمه الله – في السلسلة الصحيحة ( 1208) 1(1/15)
أن تكون في الوقت والتوبة لها وقتان وقت عام لجميع الناس إذا جاء انقطعت التوبة وهو يوم القيام فعن مُعَاوِيَةَ رضي الله عنهما قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " لاَ تَنْقَطِعُ الهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ ، وَلاَ تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا " (1) ووقت خاص لكل أحد بحسبه وهو وقت السكرات فإذا نزل الموت بالعبد انقطع أمله في التوبة قال الله تعالى {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً }[النساء : 18 ] و عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إِنَّ الله يَقْبَلُ تَوْبَةَ العْبَدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ " (2)
إرجاع المظالم : يجب على التائب من الذنب إن يرد المظالم إلى أهلها فإن كانت المظلمة مالا ردها فإن لم يعرف أصحابها تصدق بقيمتها عنهم ويكون ضامنا متى عرف أهلها ردها لهم أو تحلل منهم وإن كانت المظلمة غيبة أو نميمة أو رمي محصن ونحو هذا وجب عليه تبيين الحق وأنه كان ظالما لهم قال تعالى{ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [البقرة : 160 ] إلا أن توجد مفسدة أعظم فالقاعة الفقهية تقول درء المفاسد مقدم على جلب المصالح وعليه أن يستغفر لمن ظلمه ويذكر مناقبه كما ذكر مثالبه والله أعلم .
رابعا- مراتب التوبة
__________
(1) 2 رواه أبو داود 2480
(2) واه الترمذي وقال حسن غريب 3675 3(1/16)
لقد أمر الله جميع المؤمنين بالتوبة فقال تعالى { َوتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }[النور : 31 ] فعلم بهذا أن جميع الخلق مأمورون بالتوبة وكل بحسبة فمنهم من أغرق في الذنوب والمعاصي ومنهم من فعل الطاعات وترك المحرمات لكنه واقع في المكروهات مفرط في المستحبات.
فالأولى – توبته واجبة وهو الظالم لنفسه من يفرط في بعض الواجبات ويفعل بعض المحرمات والكافر من باب أولى .وهؤلاء هم المعنيون بقوله تعالى { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }[الزمر : 53 ] قال ابن كثير – رحمه الله – هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاه من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة , وإخبار بأن الله تبارك وتعالى يغفر الذنوب جميعا لمن تاب منها ورجع عنها مها كانت وإن كانت مثل زبد البحر ولا يصح حمل هذه الآية على غير توبة لأن الشرك لا يغفر لمن لم يتب .(1)
والثاني – توبته مستحبة وهي التوبة من فعل المكروهات وترك المستحبات كمن يتوب من ترك السنن الرواتب وقيام الليل وترك صدقة التطوع أو يتوب من فعل المكروهات كالأخذ والمناولة بالشمال والشرب واقفا ونحو ذلك .
خامسا- هل تصح التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره ؟
__________
(1) 1 اليسير في اختصار تفسير ابن كثير ص 1562(1/17)
إن مما أوجبه الله على جميع المكلفين أن يتوبوا من جميع الذنوب صغيرها وكبيرها لكن لو إن مسلم تاب من ذنب وهو مصر على ذنب غيره فهل تقبل توبته ؟ هذه المسألة من المسائل المهمة التي أولها أهل العلم اهتماما وعناية فمنهم من صححها ومنهم من لم يصححها قال ابن القيم - رحمه الله- والمسألة مشكلة ولها غور ويحتاج الجزم بأحد القولين إلى دليل يحصل به الجزم .(1) ثم ذكر ما احتج به كل فريق إلى أن قال – رحمه الله – والذي عندي في هذه المسألة : أن التوبة لا تصح من ذنب مع الإصرار على آخر من نوعه وأما التوبة من ذنب مع مباشرة آخر لا تعلق له به ولا هو من نوعه فتصح , كما إذا تاب من الربا ولم يتب من شرب الخمر مثلا فإن توبته من الربا صحيحة وأما إذا تاب من ربا الفضل ولم يتب من ربا النسيئة وأصر عليه أو بالعكس أو تاب من تناول الحشيشة وأصر على شرب الخمر فهذا لا تصح توبته وهو كمن يتوب من الزنا بامرأة وهو مصر على الزنا بغيرها غير تائب منها .ا هـ (2) وما ذكره ابن القيم – رحمه الله تعالى – أعدل الأقوال وأرجحها
سادسا - توبة من حيل بينه وبين أسباب المعصية .
من حيل بينه وبين أسباب المعصية بحيث لا يتمكن من فعل المعصية كالسارق إذا قطعت أطرافه الأربعة فهل تصح توبته من السرقة فيه قولان للعلماء .
أحدهما : أنها لا تصح لأن التوبة إنما تكون مما يتمكن الإنسان من فعله وهذا عجز ولأن من شروط التوبة العزم على عدم الرجوع في الذنب وهذا لا يمكنه الرجوع شاء أم أبي فهو في حكم المكره .
__________
(1) 1 مدارك السالكين 2/212
(2) المرجع السابق 2/132(1/18)
والثاني : وهو الصحيح أنها تصح لأن الندم توبة وهو قد ندم جاء في مسند الإمام أحمد مرفوعا "فإنَّ التَّوْبَةَ مِنَ الذَّنْبِ: النَّدَمُ والاسْتِغْفارُ "(1) ولأن الشارع نزل العاجز منزلة الفاعل قال رسولُ الله " إذا مرضَ العبدُ أو سافرَ كُتبَ لهُ مثلُ ما كانَ يعملُ مقيماً صحيحاً" رواه البخاري (2) وهو قد عزم على ترك المعصية لو قدر أنه قدر عليها .
أولا- الاستعانة بالله : الاستعانة بالله سبحانه وتعالى أساس كل نجاح وكما قيل :
إذا لم يكن عون من الله للفتى ******* فأول ما يجني عليه اجتهاده
ولذا أوجبها الله علينا في اليوم والليلة خمس مرات فلا تصح الصلاة التي هي ركن من أركان الإسلام إلا بها {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }[الفاتحة : 5 ] فلا يستطيع العبد أن يحقق مقام العبودية إلا بها ولا يتحرر من رق الهوى والشهوات إلا بها ولا يُطلق من ربقة الشيطان إلا بها فالزمها فإنها أعظم معين على تحقيق التوبة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله " ...احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللّهِ. وَلاَ تَعْجِزْ ..." رواه مسلم (3)
ثانيا- المحاسبة : من لم يحاسب نفسه لا يعرف تفريطه وتقصيره في جنب الله يقول ابن القيم - رحمه الله – فإذا صح هذا المقام (أي مقام المحاسبة ) ونزل العبد في هذه المنزلة أشرف على مقام التوبة لأنه بالمحاسبة قد تميز عنده ماله مما عليه فيجمع همته وعزمه على النزول فيه والتشمير إليه إلى الممات (4)
__________
(1) تقدم تخريجه 1
(2) رواه البخاري 2928
(3) رواه مسلم ح 6725
(4) تهذيب مدارج السالكين 63(1/19)
قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }[الحشر : 18 ] وكما قال عمر رضي الله عنه حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا فإن اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل وتهيؤا للعرض الأكبر يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية .
ثالثا– المجاهدة : لا يستطع الإنسان أن يفوز بمرضاة الله ما لم تكن له نفس مجاهدة تواقة إلى الرتب العالية وكما قيل :
بقدر الكد تكتسب المعالي ومن طلب العلا سهر الليالي
تروم العز ثم تنام ليلاً يخوض البحر من طلب أللآلي
تركت النوم ربي في الليالي ... لأجل رضاك يا مولى الموالي
فمن أرد رضا الله والدار الآخرة فلا بد له من المجاهدة وإلا غلبته نفسه وأوقعته فيما حرم الله وقد ضمن الله التوفيق والتسديد لمن سلك سبيل المجاهدة قال تعالى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت : 69 ](1/20)
رابعا – إصلاح البيئة : للبيئة التي يعيش فيها الإنسان دور كبير في سلوكه وإن مما يعين العبد على التوبة وإصلاح نفسه المكان المناسب والرفقة الصالحة ويدل على هذا نصوص كثيرة منها حديث قاتل المائة عندما سئل عن أعلم أهل الأرض ".....فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ. فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ. فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا. فَإِنَّ بِهَا أُنَاساً يَعْبُدُونَ اللّهَ فَاعْبُدِ اللّهَ مَعَهُمْ. وَلاَ تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ ...." الحديث رواه مسلم (1) وعن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الْمَرْءُ علَى دينِ خَليلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخالِلْ " رواه الحاكم (2)
خامسا – التفكر في عظمة الله : إذا تفكر العبد في عظمة الخالق سبحانه وتعالى أورثه ذلك مخافة الله فكيف يعصى من يطوي السماء كطي السجل للكتب كيف يعصى من الأرض جميعا قبضته يوم القيامة ولكن الناس ما قدروا الله حق قدره {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }[الزمر : 67 ] وعن عبدالله بن عمر رضي الله عن أن :رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يأخذ الله عز وجل سماواته وأرضيه بيديه . فيقول : أنا الله . ( ويقبض أصابعه ويبسطها أنا الملك " حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه . حتى إني لأقول : أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ " رواه مسلم (3) إذا تأمل العبد قوة الله وعظمته سبحانه وضعف نفسه وفقرها إلى مولاها سبحانه لا يملك إلا الإذعان لأوامر الله واجتناب نواهيه .
__________
(1) رواه مسلم ح 6957
(2) المستدرك على الصحيحين 7395
(3) رواه مسلم 2788(1/21)
سادسا – النظر في حقارة الذنوب وسوء عواقبها : إن الفطر السليمة تدرك قبح الذنوب وخستها حتى قال أبو سفيان رضي الله عنه وهو يومئذ كافر عندما سأله هرقل عن النبي صلى الله عليه وسلم " فَواللّهِ لَوْلا الحَياءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِباً لَكَذبْتُ" رواه البخاري (1) فأبو سفيان يستحيي من الكذب بفطرته كيف وقد جاء الإسلام بالتنفير من الذنوب كقوله تعالى{ وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً }[الإسراء : 32 ] وقوله {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }[الأعراف : 33 ] بل اختار لها أقبح الأسماء (فاحشة ) للتنفير منها قال ابن منظور الفاحِشة القبيحُ من القول والفعل (2) يقول : ابن القيم- رحمه الله - وهل في الدنيا والآخرة شرور وداء إلا سببه الذنوب والمعاصي فما الذي أخرج الأبوين من الجنة دار اللذة والنعيم والبهجة والسرور إلى دار الآلام والأحزان والمصائب وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء ...و ما الذي أغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء فوق رؤوس الجبال وما الذي سلط الريح العقيم على قوم عاد ... وما الذي رفع قرى اللوطية حتى سمعت الملائكة نبيح كلابهم ثم قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها ...وما الذي رفع فوق قوم شعيب سحاب العذاب كالظلل فلما صار فوق رؤوسهم أمطر عليهم نارا تلظى وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر...وما الذي خسف بقارون وداره وماله وأهله وما الذي أهلك القرون من بعد نوح بأنواع العقوبات ودمرها تدميرا ...(3) اهـ لا شك أنه الذنوب والمعاصي
__________
(1) رواه البخاري 7
(2) باب الفاء مادة ( فحش)
(3) الجواب الكافي بتصرف(1/22)
وأخيرا أسأل الله إن يجعل عملنا خالصا لوجهه الكريم وأن يوفقنا لما يحب ويرضى وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا إتباعه ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه إنه كريم بر رحيم .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه إلى يوم الدين
المقدمة ...............................................................................1
تعريفات وفضائل.....................................................................3
أولا- تعريف التوبة .................................................................3
ثانيا - فضائل التوبة وثمراتها...........................................................4
ثالثا – الفرق بين التوبة والاستغفار ...................................................5
وقفات وعظية .......................................................................7
منزلة التوبة من الدين .................................................................7
من رحمة الله بعباده أن فتح لهم باب التوبة .............................................8
من قصص التائبين ..................................................................10
هل من توبة قبل الموت؟.............................................................13
ما زلت في مهلة !...................................................................14
أحكام تتعلق بالتوبة.................................................................15
أولا – وجوب التوبة من تأخير التوبة ……………………….....……...15
ثانيا- أنواع التوبة .................................................................15
ثالثا- شروط التوبة ................................................................16
رابعا - مراتب التوبة ...............................................................18(1/23)
خامسا : هل تصح التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره ؟ ..........................19
سادسا - توبة من حيل بينه وبين أسباب المعصية .....................................19
أمور تعين على التوبة................................................................21
فهرس الموضوعات ..................................................................25(1/24)