بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم:
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه, الحمد لله الذي أنزل الكتاب المحكم المعجز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد, ذلك الكتاب الذي لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد، لا تنفد معجزاته الخبرية, قال عز من قائل: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) [سورة البقرة:120]. وقال: (لتجدنّ أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدنّ أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى(1)ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون. وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين) [سورة المائدة :82-83].
وصلى الله وسلم وبارك على محمد النبي الأمي، الذي حذَّرنا من اتخاذ الرؤوس الجُهّال, فعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس, ولكن يقبض العلم بقبض العلماء, حتى إذا لم يُبْقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً, فسُئِلوا, فأفتوْا بغير علم فَضَلُّوا وأضلُّوا)(2).
ولقد عدَّ الرسول صلى الله عليه وسلم ذهابَ العلم وفشوَّ الجهل من علامات قرب الساعة, فقال فيما صحَّ عنه: (إن من أشراط الساعة أن يقل العلم ويكثر الجهل... الحديث)، والعلم هو السنة، والجهل هو البدعة.
أما بعد...
__________
(1) هؤلاء كانوا نصارى بالحبشة آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم وصدقوه - كما جاء في سبب نزولها -، وهي لا تتناول بحال من الأحوال كل النصارى, بل من آمن منهم.
(2) متفق عليه، مسلم (2673).(1/1)
فإن الأمور التي عمَّت بها البلوى في هذا العصر أكثر من أن تحصى، وأوضح من أن ينبَّه عليها, ولكن من أخطر تلك الأمور تلك الدعوة التي رفعها بعض المنهزمين بإيعاز من المستشرقين في أواخر القرن الميلادي الماضي, وقد جاراهم فيها بعض الصلحاء المستغفلين من الدعاة, ألا وهي (دعوى التقارب الديني)، أو (وحدة الأديان)، أو الدعوة إلى (الحزب الإبراهيمي)، أو جمع أهل الأديان السماوية على (الملة الإبراهيمية)، ونحو ذلك من هذا الهُراء.
لقد لاقت هذه الدعوة في الآونة الأخيرة - بعد أن كسدت سوقها فترةً - رواجاً خاصاً في السودان, حيث عقدت عدة مؤتمرات وندوات لمناقشة كيفية التوصل إلى دين عالمي جديد، يجعل الناس - كل الناس - يعيشون في وئام وسلام، خاصةً في البلد الواحد, دون أدنى اعتبارٍ لدينهم وتراثهم وثقافتهم, فـ"الدين لله, والوطن للجميع، وما لله لله وما لقيصر لقيصر"!!
هذا الدين العالمي الجديد يوالي فيه المسلم أخاه النصراني واليهودي والمجوسي والوثني!!! إذ جميعهم من آدم وحواء عليهما السلام!!
وهذا بحث بعنوان: (التقارب الديني: خطره, أسبابه, دعاته)، يتكلَّم عن تاريخ هذه الدعوة, عن بَطَلَتها, وعن الأٍسباب الحقيقة للقيام بها, عن مخالفتها الصريحة البينة الواضحة لما جاء به الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلىكلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) [سورة آل عمران:64].
وقال صلى الله عليه وسلم: (لو كان موسى حياً لما وسعه إلا أن يتبعني).
كتبته نصيحة لله ولرسوله، ولدينه، ولدعاة هذه الدعوة، ولعامة المسلمين, ليهلك من هلك عن بينة، ويحي من حيّ عن بينة.(1/2)
واللهَ أسألُ أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأن يُريَنا وجميعَ إخواننا المسلمين الحق حقاً, ويرزقنا اتباعه, ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه, , والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل, وصلى الله وسلم على رسوله القائل : (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة)، وفي رواية: (حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك).
وآخر دعوانا أنِ الحمدُ لله رب العالمين.
بسم الله الرحمن الرحيم
وحدة الأديان أو التقارب الديني
الغرض الأساسي والهدف الأول من هذه الدعوة هو: إبعاد الإسلام، وإقصاؤه عن الحياة, وإذابة معتقداته؛ ليعيش أصحاب الملل المختلفة في البلد الواحد في محبة ووئام وسلام, وتزول عنهم الخلافات الدينية، ويختفي منهم الولاء الديني، ليصبح الولاء للوطن الذي هو للجميع, فالدين لله والوطن والجميع!!!
متى ظهرت هذه الدعوة في العالم الإسلامي؟ ومن هم بطلتها؟
بدأت هذه الدعوة - أول ما بدأت - في الربع الأخير من القرن الماضي, بإيعاز من بعض القُسُس، فهي ثمرة من ثمار الغزو الفكري والاستعمار الأوربي الذي جثم على صدر الأمة الإسلامية في ذلك الحين, ثم توالت الصيحات فيما بعد.(1/3)
يقول الشيخ محمد محمد حسين رحمه الله : "أما التوفيق بين الأديان -بين المسيحية والإسلام على وجه الخصوص - فقد بدأ في العصر الحديث باتفاق قسيس إنجليزي اسمه (إسحاق تيلور) مع الشيخ محمد عبده وبعض صحبه في أثناء نفيه بدمشق 1883م على التوحيد بين الدِّينيْن. ثم ظهرت الدعوة من جديد في السنوات الأخيرة حين قام جماعة من المعروفين بميولهم الصهيونية بعقد مؤتمر للتأليف بين الإسلام والنصرانية في بيروت 1953م، ثم في الإسكندرية 1954م، وقد كثرت الأقاويل في أهداف هذه الجماعة, وفي مصادر تمويلها, وأصدر الحاج أمين الحسيني بياناً أثبت فيه صلة القائمين على هذه الدعوة بالصهيونية العالمية"(1).
أبرز بطلة(2)هذه الدعوة:
[1] الشيخ محمد عبده (1849-1905)م:
هو أول من سُخِّر للدعوة لتلك الفكرة، كما وضح لنا من قبل، يقول فضيلة الدكتور سفر الحوالي: "وقد يكون أخطر آثار محمد عبده التي تعد ركيزة من ركائز العلمانية في العالم الإسلامي: إضعاف مفهوم (الولاء والبراء)، و(دار الحرب ودار الإسلام)؛ إذ كان الشيخ أعظم من اجترأ عليه من المنتسبين للعلماء, لا بتعاونه مع الحكومة الإنجليزية الكافرة فحسب, ولكن بدعوته الصريحة إلى موالاة الإنجليز وغيرهم - بحجة الأول التعاون مع الكافر ليس محرماً من كل وجه- وبدعوته إلى التقريب بين الأديان.
حقيقة إن الرأي العام الإسلامي قد ثار على بعض فتاوي الشيخ التي أباح بها موالاة الكفار، ولكن تأثيرها في الأمة لا شك فيه في تلك الفترة الحرجة التي تتميز بغبش الرؤية واختلاط المفهومات"(3).
[2] الشيخ عبد الرحمن الكواكبي (ت 1902م):
__________
(1) الاتجاهات الوطنية: 2/319-320.
(2) قال صلى الله عليه وسلم في مدح سورة البقرة: (ولا تستطيعها البطلة)، أي: السحرة الباطلين.
(3) العلمانية لسفر الحوالي، ص578-579.(1/4)
دعا للعلمانية ونَبْذِ الدين صراحةً, كما دعا للتعايش السلمي مع اليهود والنصارى، وترك الدين جانباً، قال: "يا قوم - وأعني بكم الناطقين بالضاد من غير المسلمين - أدعوكم إلى تناسي الإساءات والأحقاد, وما جناه الآباء والأجداد, فقد كفىما فعل ذلك على أيدي المثيرين, وأُجِلُّكم من أن لا تهتدوا لوسائل الاتحاد وأنتم المتنورون السابقون، فهذه أمم أستراليا وأمريكا قد هداها العلم لطرائق الاتحاد الوطني دون الديني، والوفاق الجنسي دون المذهبي، والارتباط السياسي دون الإداري، دعونا نتدبر حياتنا الدنيا، ونجعل الأديان تحكم الأخرى فقط، دعونا نجتمع على كلمات سواء, ألا وهي: فلتحيا الأمة, فليحيا الوطن فنحيا طلقاء أعزاء"(1)، وهذا هو نفس ما يدعو إليه دعاة وحدة الأديان الحاضرين.
[3] الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي، (ت1873م):
هو من الذين دعوا إلى ذلك بكتاباتهم وفكرهم، بعد أن فعلت فيه الثقافة الغربية الفرنسية فعلها. يقول الشيخ محمد محمد حسين: "تكلم الطهطاوي في مقدمة كتابه (مناهج الألباب) وبيّن أن الوطن جامعة تجمع ساكنيه على اختلاف الأديان، حين قال: فجميع ما يجب على المسلم للمسلم، يجب على أعضاء الوطن, من حقوق بعضهم على بعض, لما بينهم من الأخوة الوطنية فضلاً عن الأخوة الدينية، فيجب أدباً لمن يجمعهم وطن واحد, التعاون على تحسين الوطن وتكميل نظامه، فيما يخص شرف الوطن وغناه وثروته، لأن الغنى إنما يُتحصل من انتظام المعاملات, وتحصيل المنافع العمومية. وهي تكون بين أهل الوطن على السوية لانتفاعهم جميعاً بمزية النخوة الوطنية", ثم أيد رأيه بكلام للإمام ابن حجر في أن ظلم الذمي حرام, وعقب عليه بقوله:(وهذا يؤيد ما قلناه من أن أخوة الوطن لها حقوق, لا سيما وإنها يمكن أن تؤخذ من حقوق الجار, خصوصاً من يقول: بأن أهل الحلة كلهم جيران".
__________
(1) طبائع الاستبداد – عبد الرحمن الكواكبي – مصر طبع 51350 –ص112-نقلاً عن العلمانية ص580.(1/5)
يقول الشيخ محمد محمد حسين معلقاً على كلام الطهطاوي السابق: "هو أثر من آثار الحضارة الغربية وتصورها للوطن الجامع لمصالح ساكنيه على اختلاف أديانهم وأجناسهم واقتباس من المجتمع الفرنسي بعد الثورة الذي قضى على الرابطة الدينية وأقام في مكانها رابطة المصلحة الوطنية أو ما أسماه الطهطاوي "المنافع العمومية" التي تقوم على الحرية والإخاء والمساواة بين أبناء الوطن الواحد. ولذلك فالطهطاوي يعقد في كتابه فصلاً "في أن معظم وسائل تقدم الوطن في المنافع العمومية رُخْصَةُ المعاملة مع أهالي الممالك الأجنبية واعتبارهم في الوطن كالأهلية" يثني فيه على الملك رمسيس فخر الدولة المصرية في الأزمان الجاهلية ومصباح تاريخها الذي اعتنى بتاريخه مؤرخو اليونان, لأنه أول مصري قربهم إلى بلاده, واستمال قلوبهم بتوظيفهم برياسة أجناده، وخالف عوائد أسلافه"(1).
قلت: لله در ابن خلدون حين قال: "والمغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه وبخلقه وسائر أحواله وعوائده".
سبحان الله, فإن السنوات الخمس التي قضاها هذا الشيخ الأزهري (1826-1831هـ) في باريس فعلت فيه الأفاعيل وجعلته مسخاً مشوهاً لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. وهذه حال جُل المبعوثين ألاّ من رحم ربك, وإن تعجب فاعجب من ذلك المبعوث الذي عاد من أمريكا لتوّه فإنه يسير دائماً على طريق الخواجات بين جدة والطائف!!
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في تنبؤه: (لتتبعنّ سَنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)!!
[4] الشيخ أحمد لطفي السيد وطه حسين:
__________
(1) المصدر السابق ص 19-ص20.(1/6)
إنهما من تلاميذ محمد عبده الأوفياء. أكملا الشوط الذي كان قد بدأه في عملية التغريب والعلمنة وإزالة الحاجز بين المسلمين والكفار, يقول الشيخ سفر الحوالي: "وقد كان من أهداف أعداء الإسلام ما أوصى به مؤتمر القاهرة التبشيري المنعقد 1906م من وجوب إنشاء جامعة علمانية على نمط الجامعة الفرنسية لمناهضة الأزهر والذي قالوا أنه يهدد كنيسة المسيح بالخطر وقد قام الأذيال بتنفيذ المهمة إذ أنه بعد انتهاء المؤتمر بسنتين تقريباً أسس سعد زغلول وأحمد لطفي السيد وزملاؤهم الجامعة المصرية, وكان النص الأول من شروط إنشائها هو ألا تختص بجنس ولا دين, بل تكون لجميع سكان مصر على اختلاف جنسياتهم وأديانهم حتى تكون واسطة للألفة بينهم"(1).
[5] الشيخ علي عبد الرازق:
وهو من الشخصيات الخطرة التي مهدت لقيام هذه الدعوة , إنه شيخ مفتون, ألف كتاباً أسماه "الإسلام وأصول الحكم".
يقول عنه الشيخ سفر حفظه الله: "جمع عبد الرازق في كتابه بين أسلوب المستشرقين في تحوير الفكرة واقتطاع النصوص وتلفيق الواهيات وبين طريقة الباطنية في التأويل البعيد, وسرد نبذاً من سير الطواغيت, ونتفاً من أقوال متملقيهم وعمد إلى مغالطات عجيبة كل ذلك ليدلل على أن الإسلام كالمسيحية المحرفة علاقة روحية بين العبد والرب لا صلة لها بواقع الحياة.
ولم يَفُتِ الشيخ أن يدلنا على أحد مراجعة الرئيسية لنستكمل ما قد يكون فضيلته عجز عن بيانه , فهو يقول في الكتاب نفسه: " واذا أردت مزيداً في البحث فارجع إلى كتاب الخلافة للعّلامة(!!) السير تومس آرنلد ففي الباب الثاني والثالث منه بيان ممتع ومقنع".
[6] الدكتور محمد عمارة:
__________
(1) العلمانية ص607.(1/7)
هو كذلك من دعاة تجميع الخلق تحت دين جديد واحد، يقول عنه الأستاذ جمال سلطان: "في نظره أن اليهود والنصارى اليوم مؤمنون مسلمون موحدون ولا يضرهم في شيء من إيمانهم تكذيبهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبرسالته، فإذا ما وقف أهل الكتاب من أتباع شرائع الرسل الذي سبقوا محمد صلى الله عليه وسلم عند التصديق برسالة رسلهم(1), وأبوا التصديق برسالة محمد ونبوته مع توحيدهم(2)وعملهم الطاعات!! فإن هذا التوقف لا يخرجهم عن إطار الدين الواحد, ولا حظيرة التدين بالإسلام. فموقفهم هذا هو انحراف! والفرق بين من يؤمن بمحمد وبكل الرسل وبين الذي يجحدون بنبوة محمد ورسالته مع توحيدهم وعملهم الطاعات كمثل الفرق بين إيمان المؤمن الخلي من البدع وبين إيمان من تشوب البدع إيمانه"(3).
[7] الدكتور حسن حنفي:
يذهب الدكتور حنفي إلى أنه ليس هنالك دين في ذاته بل هناك تراث يمكن تطويره وتطويعه حسب الظروف والملابسات: "الأول التراث القديم لا قيمة له في ذاته كغاية أو وسيلة, ولا يحتوي على أي عنصر من عناصر التقدم، وأنه جزء من تاريخ التخلف أو أحد مظاهره, وأن الارتباط به نوع من التغريب ونقص في الشجاعة وتخل عن الموقف الجذري ونسيان للبناء الاجتماعي الذي هو إفراز منه, وفي حين أن الجديد علمي وعالمي يمكن زرعه في كل بيئة"(4).
[8] الدكتور حسن الترابي:
من أبرز بطلة هذه الدعوة الدكتور حسن عبد الله الترابي.
__________
(1) وهل هم مصدقون برسالة رسلهم؟ لو صدقوا بها لآمنوا ولكنهم كافرون بالجميع.
(2) أي توحيد هذا الذي يقول: إن الله ثالث ثلاثة؟ و أي طاعات يأتي بها اليهود والنصارى. سبحانك هذا إفك عظيم.
(3) محمد عمارة – الإسلام والوحدة الوطنية ص50-ص82
(4) د. حسن حنفي –التراث والتجديد ص22 والصفحات التي تليها نقلاً عن جمال سلطان- غزو من الداخل ص66.(1/8)
وواضح جداً أن المتولين لكبر هذه الدعوة هم على شاكلة واحدة ومن نوع خاص, إنهم العصرانيون المتغربون المبهورون بالحضارة الغربية المادية بعد أن أُشربوها على أمزجة فرنسية إنجليزية فالطيور على أشكالها تقع, و(الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف).
فالقاسم المشترك بين محمد عبده, ورفاعة الطهطاوي, ومحمد عمارة، وحسن حنفي، وحسن الترابي ومن شاكلهم من العصرانيون هو الانهزام النفسي والإفراط في حب الغرب وموالاته, ويعتبر د. الترابي أخطر هؤلاء جميعا لأسباب منها:
[1] أن أولئك السابقين له لم تتعد مجهوداتهم الجانب النظري بينما نجد أن د. الترابي خطا خطوات عملية في هذا المجال, لأنه أتيحت له إمكانات دولة لم تُتح لسابقيه فقد استطاع الترابي أن يُسخر السلطة في السودان لخدمة هذا لغرض وقد أعان على ذلك أمران:
الضغوط السياسية والاختناقات الاقتصادية المضروبة على الحكومة السودانية الحالية من الدول الغربية ومن والاها.
* استمرار الحرب التنصيرية في جنوب السودان، والتي كبدت الحكومة الكثير من المال والرجال.
هذان الأمران جعلا كثيراً من المسئولين وغيرهم لا يفطنون لخطورة هذه الدعوة لظنهم أنها تخفف عنهم الضغط وترفع عنهم هذه الكوابيس!!.
[2] مقدرة د. الترابي الفائقة على المراوغة فمرة:
* يظهر الأول هذه الدعوة مجرد مناورة سياسية لصرف أنظار النصارى, وكف أذاهم وليست دعوة دينية.
* وأخرى يظهر أنه يريد مجرد دعوتهم للإسلام ومحاورتهم وإزالة الشبه العالقة بأذهانهم.
* ومرّة يثير بعض الشبه التي تخفي على كثير من الناس.
وهكذا عدم الوضوح والمراوغة يكمنان وراء دعوة الترابي العريضة لقيام جبهة المؤمنين أو الحزب الإبراهيمي!!
[(1/9)
3] وجود أقلية ضئيلة من النصارى في السودان, وجدت ظروفاً مساعدة (حرب الخليج, النظام العالمي الجديد, موقف طلاب السلطة المعارضين للنظام في السودان) تجعل كذلك كثيراً من الأخيار ينخدعون برفع هذا الشعار.
وتتمثل مجهودات الترابي في هذا المجال في: عقد المؤتمرات، التنظير لهذه الدعوة (الحركة الإسلامية والحوار)، إثارة الشبه، إجراء المقابلات في وسائل الأعلام المختلفة لخدمة هذه القضية، الدعوة لقيام الحزب الإبراهيمي، تكوين جمعية تعرف بالجمعية السودانية لحوار الأديان، مشاركتهم النصارى في أعيادهم والطواف على كنائسهم، بناء الكنائس وتجديد وترميم القديم منها، فتح المجال أمام النصارى في الأعلام, خاصة يوم الأحد في الفترة الصباحية في التلفاز إذ أن لهم حوالي أربع ساعات، إدخال مادة مقارنة الأديان في المعاهد العليا.
يقول د. الترابي داعياً إلى وحدة الأديان(1):" إن الوحدة الوطنية تشكل واحدة من أكبر همومنا, وأننا في الجبهة الإسلامية نتوصل إليها بالإسلام على أصول الملة الإبراهيمية, التي تجمعنا مع المسيحيين بتراث التاريخ الديني المشترك(!!) وبرصيد تاريخي من المعتقدات والأخلاق إننا لا نريد الدين عصبية عداء ولكن وشيجة إخاء في الله الواحد"(2).
"وبناء على هذه الجبهة الدينية(3)مطلب ديني يرتكز على مبدأ وحدة الأديان السماوية (قلنا اهبطوا منها جميعاً فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) [سورة البقرة: 38]"(4).
__________
(1) السودان الحديث6/ جمادي الأمة 1415هـ – 11/8/1994م.
(2) مجلة المجتمع – العدد (736) بتاريخ 8/10/1985م.
(3) بين اليهودية والنصرانية والإسلام.
(4) كلمة د. الترابي في مؤتمر الإديان الأخير الذي عقد بالخرطوم بتاريخ 8/10/1994م بعنوان الحوار بين الإديان: التحديات والافاق د. حسن الترابي.(1/10)
وقال: "إن قيام جبهة المؤمنين هو مطلب الساعة وينبغي ألا تحول دونه المخاوف والتوجسات التاريخية، فنحن نعلم أن الكثير من الحروب التي شنت باسم الدين والاضطهاد الذي وقع باسم الدين كان الدين منه براء؛ لأن الأديان السماوية لا تدعو لنشر رسالتها - رسالة الفضيلة والسلام - بحد السيف(1)، أو بالقنابل والمدافع ونحن نقرأ تاريخ الحروب الصليبية التي شنت على الشرق فنراها حملات استعمارية(2)استخدم فيها بعض ملوك أوربا شعار الصليب واسم المسيحية ليحققوا توسعاً استعمارياً تتعبأ فيه جماهيرهم المؤمنة ويمدهم بالموارد وبكنوز الشرق التي كانوا يحلمون بها"(3).
__________
(1) لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها وقد صلح أولها بالتمسك بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أجمعت عليه الصحابة من بعدهم, وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم, وخلفاؤه وصحبه في أول الأمر يدعون الناس إلى الدخول في الإسلام ويرغبونهم فيه, فإن أبوا فإن كانوا أهل كتاب طلبوا منهم الجزية فإن دفعوها تركوا على دينهم وهذا معنى قوله تعالى [لا إكراه في الدين] لا كما يستدل بها حسن وغيره من العصرانيين في غير موضعها: وإن رفضوا الجزية قوتلوا فمن مات منهم فهو في النار ومن أسر فهو رقيق أما غير أهل الكتاب فلا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف. ولماذا يستحي هؤلاء من فرض الإسلام للجهاد؟ والجهاد نوعان جهاد طلب أي نطلب منهم الدخول في الإسلام وإلاّ قوتلوا، وجهاد دفاع- دفع الصائل-والجهاد ماض إلى قيام الساعة.
(2) الحملات الصليبية كان الباعث الأول لها الدين, الانتقام من المسلمين ثم بعد ذلك المصالح المادية, وهذا معلوم.
(3) المصدر السابق.(1/11)
قلت: العجب كل العجب من جرأة الترابي وتهاونه بوصف اليهود والنصارى الحاليين بأنهم مؤمنين, تبريراً لدعواه التجمعية هذه, التي تريد أن تجمع بين الأضداد, ولو وصفهم بأنهم مسلمون لكان ذلك أقل خطراً عليه, أما أن يصفهم بأنهم مؤمنون فهذا أمر في غاية النكارة والغرابة، فإذا كان اليهود والنصارى مؤمنين فمن الكافر إذاً ؟! ولماذا قال الله تعالى: (إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين) [البينة: 6].
دعنا نستمع إلى كلام أهل العلم الأثبات, ودعك من هذه الترهات, لنعلم هل هي حقيقة أن اليهود والنصارى الحاليين مؤمنون كما زعم الطهطاوي ومحمد عمارة والترابي؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "أن الذي يدين به المسلمون من أن محمداً صلى الله عليه وسلم بُعث إلى الثقلين: الإنس والجن, أهل الكتاب وغيرهم, وأن من لم يؤمن به فهو كافر مستحق لعذاب الله مستحق للجهاد, وهو مما أجمع عليه أهل الإيمان بالله ورسوله، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي جاء بذلك وذكره الله في كتابه وبينه الرسول صلى الله عليه وسلم أيضا في الحكمة المنزلة عليه من غير الكتاب، فإنه تعالى أنزل عليه الكتاب والحكمة ولم يبتدع المسلمون شيئاً من ذلك من تلقاء أنفسهم كما ابتدعت النصارى كثيراً من دينهم, بل أكثر دينهم, وبدلوا دين المسيح وغيّروه, ولهذا كان كفر النصارى لما بعث محمد صلى الله عليه وسلم مثل كفر اليهود لما بعث المسيح عليه السلام"(1)، "وإذا تناولت النصارى كان حكمهم في ذلك حكم اليهود، والله تعالى إنما أثنى على من آمن من أهل الكتاب كما قال تعالى: (وإنّ من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب) [سورة آل عمران: 199]"(2).
__________
(1) الجواب الصحيح لمن يدل دين المسيح لشيخ الإسلام ابن تيمية-مطابع المجد التجارية-ص/126.
(2) المصدر السابق ص/264-365.(1/12)
* وقال العلامة ابن القيم رحمه الله في وصف أهل الكتابيين اليهود والنصارى: "وهم نوعان: مغضوب عليهم، وضالون. فأما الأمة الغضيبة: فهم اليهود أهل الكذب والبهت والغدر والمكر والحيل, قتلة الأنبياء, وأكلة السحت وهو الربا والرشا، أخبث الأمم طوية وأرداهم، سجية وأبعدهم عن الرحمة وأقربهم من النقمة، عادتهم البغضاء ودينهم العداوة والشحناء, بيت السحر والكذب والحيل، لا يرون لمن خالفهم في كفرهم وتكذيبهم الأنبياء حرمة, ولا يرقبون في مؤمنٍ إلاّ ولا ذمة, ولا لمن وافقهم عندهم حق ولا شفعة, ولا لمن شاركهم عندهم عدل ولا نصفة, ولا لمن خالطهم طمأنينة ولا أمنة, ولا لمن استعملهم عندهم نصيحة, بل أخبثهم أعقلهم, وأحذفهم أغشهم, وسليم الناصية - وحاشاه أن يوجد بينهم - ليس بيهودي على الحقيقة, أضيق الخلق صدوراً, وأظلمهم بيوتاً, وأنتنهم أفنية وأوحشهم سجية, تحيتهم لعنة, ولقاؤهم طيرة, شعارهم الغضب, ودثارهم المقت.(1/13)
والصنف الثاني: المثلثة أمة الضلال وعباد الأصنام، الذين سبوا الله الخالق سبّاً ما سبّه إياه أحد من البشر، ولم يقروا بأنه الواحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، ولم يجعلوه أكبر من كل شيء, بل قالوا فيه ما (تكاد السموات يتفطرن منه وتنشّق الأرض وتخر الجبال هدّاً). فقل ما شئت في طائفة أصل عقيدتها أن الله ثالث ثلاثة, وأن مريم صاحبته, وأن المسيح ابنه, وأنه نزل عن كرسي عظمته, والتحم ببطن الصحابة وجرى له ما جرى إلى أن قتل ومات ودفن, فدينها عبادة الصلبان ودعاء الصورة المنقوشة بالأحمر والأصفر في الحيطان, يقولون في دعائهم: يا والدة الإله ارزقينا, وأغفري لنا وارحمينا! فدينهم شرب الخمور, وأكل الخنزير, وترك الختان, والتعبد بالنجاسات، واستباحة كل خبيث من الفيل إلى البعوضة. والحلال ما حلّله القس, والحرام ما حرمه, والدين ما شرعه, وهو الذي يغفر لهم الذنوب وينجيهم من عذاب السعير"(1).
__________
(1) هداية الحياري في أجوبة اليهود والنصارى ص8.(1/14)
ويقول الترابي كذلك: "نعلم أن إشاعة السلام بين الأديان ليس أمراً قصيّ المنال, لكن التحدي الذي نواجهه هو أن نتجاوز التعصب الديني(1)الذي لا يرى الآخر إلاّ عدواً متربصاً(2)أو خطراً محدقاً, ولكي نفعل ذلك فلا بدّ من تكثيف الحوار وتأسيس المنابر المشتركة(3), لا لمناقشة القضايا اللاهوتية، ولكن لمناقشة ما يمكن أن نفعله سوياً لإشاعة المثل والقيم الدينية في عالم ينزلق يوماً بعد الآخر في مستنقع الجاهلية الآسن، ونحن في هذا المقام نزجي الشكر لكل الجهات التي ظلت تنادي الحوار بين الأديان, كما نشكر لبعض الكنائس المسيحية الأخرى مبادرتها وسعيها لإقامة الحوار الديني, فلا بديل للحوار سوى التدابر والصراع, وقلّما أفلحت دعوة دينية في إبلاغ خطابها الذي هو خطاب السلام والعدل في أجواء الكراهية والحرب"(4).
__________
(1) أرجو أن يوضح لنا د. الترابي ما هو الفرق بين التعصب الديني والالتزام بالدين؟ هل هناك فرق أم هما سواء؟ والذي أخشاه أن يكون المراد من التعصب الديني هو نفس المراد من الأصولية والمتشددين والإرهاب الديني ونحو ذلك. في اعتقادي أنه لا فرق البتة, فقط هذه الكلمة تفوه بها مفكر إسلامي وقائد حركة إسلامية وتلك شاعت في الأعلام الغربي ثم تلقفها منهم تلاميذهم النجباء الأوفياء في دار الإسلام.
(2) إذا رأي المسلم في اليهودي والنصراني خلاف ذلك فهو مغفل ساذج جاهل.
(3) في هذه الأيام نوفمبر1994م يعقد مؤتمر حوار ديني بين المسلمين والنصارى في مدريد قوامه يهود وجماعة ياسر عرفات لخدمة عملية السلام!! فهل يا ترى من اختلاف في الأهداف بين مؤتمرات الحوارات التي ينادي بها اليهود والنصارى من جهة وتلك التي يسعى لها الترابي من جهة أخرى؟ في اعتقادي أن لا فرق البتة وانما هدف الجميع أن يتعايش الكل في الوطن الواحد.
(4) المصدر السابق.(1/15)
يتضح من كلام د. الترابي السابق أن الهدف من الحوار ليس مناقشة القضايا اللاهوتية ودعوة القوم للدخول في الإسلام وإزالة الشبه العالقة بأذهانهم! وذلك لأن القوم مؤمنون!! محبون للخير والمثل والقيم الدينية!! ولكن الغرض الحقيقي من هذه الدعوة هو مناقشة كيفية تعايش اليهود والنصارى والمسلمين في وفاق ووئام ومحبة وسلام، ليكونوا إخوة متحابين يوالي بعضهم بعضاً خاصة في الوطن الواحد.
لقد ختم د. الترابي كلمته بقوله: (ختاماً نتمنى لهذا المحفل الديني الجليل أن يدفع جهود التفاهم بين الأديان خطوة واسعة نحو الأمام)(1).
وقد لفتت كلمة محفل واستعمالها بدلاً من كلمة مؤتمر أو اجتماع أو نحو ذلك انتباهي لأن كلمة محفل أصبح لها ظلال معينة وهي مرتبطة بالماسونية فلا يقال محفل إلاّ ويتبع بالماسوني! فهل يا ترى جاءت عفواً أم أن وحدة الهدف الجامعة لجميع الدعوات العالمية والإنسانية كالدعوة إلى وحدة الأديان والماسونية هي الدافع إلى استعمال هذه الكلمة تيمناً بالمحافل الماسونية؟!!
الأسباب للقيام بمثل هذه الدعوة:
أهم الأسباب التي أدت إلى قيام هذه الدعوات هي:
[1] الجهل بالدين, وهذا هو السبب الرئيس والأول لأن من له أدنى معرفة بالدين وأصوله ونواقصه لا يمكن أن يتصدى لمثل هذه الدعوة.
[2] الانهزام النفسي، فالمغلوب والمهزوم أن لم يحفظه العلم ويتولاه الله لا يمكنه التمييز بين الحق والباطل.
[3] الخوف من الكفار ومن سطوتهم.
[4] المنافع والمصالح الزائلة. يروى أنه كان في بلاد الشام إمام يقول في الخطبة الثانية من يوم الجمعة: "اللهم صلِّ على محمد وعيسى وأخيهما موسى"! فقال له رجل من الحاضرين: "وذي الكفل, أم ليست له سفارة عندها مصاري؟!".
التشابه بين دعوة التوحيد للأديان وبين الحركات العالمية المنحرفة:
__________
(1) المصدر السابق.(1/16)
الحركات العالمية والإنسانية التي تدعي أنها تريد أن تجمع البشر على أساس الجنس والوطن أو الإنسانية دون اعتبار للدين كثيرة جداً منها على سبيل المثال: الماسونية، العالمية أو الإنسانية، الصهيونية، الروحيون، الشيوعيون، الروتاري، الأسود (الليونز)، التسلح الخلفي، شهود يهوه، التنصير، التغريب، العلمانية، النظام العالمي الجديد، والدعوات القومية والوطنية عموماً.
"والدعوات المبنية على هذا التصور كلها دعوات هدّامة؛ لأنها تهز بعنف عوامل التجمع والتآلف التي تقوم عليها المجتمعات البشرية, ثم تعجز أن تقيم بدلاً منها عوامل أخرى للتجمع وأساليب أخرى للتعاون والتآلف ينتظم بها العمران, فهي تشكك الناس في ولائهم الديني والوطني, وتفقدهم ثقتهم في كل قوانينهم ومؤسساتهم, ثم تتركهم في الفوضى والقلقلة, وسط أنقاض ما هدمت من عقائد وما قطعت من وشائج"(1).
مخالفات الدعوة إلى توحيد الأديان أو التقريب بينها للإسلام:
الدعوة إلى توحيد الأديان أو الترتيب بينها أو محاورة أصحابها للعيش معهم في أمن وسلام وطمأنينة واحترام تصطدم مع الإسلام وتتعارض معه تعارضاً بيناً واضحاً.
ومن أبرز مخالفاتها للإسلام وأشدها خطراً على المنادين بها والداعين إليها, وعلى من وافقهم في ذلك, إنها تقوم على نقضين من نواقض الإسلام(2)
__________
(1) محمد محمد حسين – الإسلام والحضارة الغربية.
(2) نواقض الإسلام وهي الأمور التي تزيل حكمه وتبطله وتفسده عشرة هي.
1- ... الشرك (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء).
2- ... اتخاذ الوسائط إلى الله (وما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى).
3- ... عدم تكفير المشركين أو الشك في كفرهم أهل تصحيح مذهبهم.
4- ... اعتقاد أن غير هدى النبي أفضل من هديه وحكمه.
5- ... بغض شيء مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
6- ... الاستهزاء بأمر من أمور الدين: (قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم).
7- ... السحر ومنه الصرف والعطف أهل الحل والعقد (إنما نحن فتنة فلا تكفر).
8- ... مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين (ومن يتولهم منكم فإنه منهم).
9- ... اعتقاد أما بعض الخلق يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
10- ... الإعراض عن دين الله بعدم تعلمه والعمل به.(1/17)
ومبطلاته, هذا بجانب مخالفات أخرى شديد خطرها على عقيدة المسلم.
والناقضان هما:
* أن من لم يكفّر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم كفر.
* أن من تولى الكفار وتعاون معهم وظاهرهم على المسلمين كفر.
وسنتحدث بشيء من التفصيل عن هذين الناقضين, ونبين الصلة الوثيقة بين الدعوة إلى توحيد الأديان وجمعها في دين واحد وبينها, ثم نردف ذلك إن شاء الله بالمخالفات الأخرى.
المخالفة الأولى: من لم يكفّر المشركين أوشك في كفرهم أو صحّح مذهبهم فقد كفر:
الإسلام هو الحق المحض فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ قال تعالى: (فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون) [سورة يونس: 32]. جاء في تفسيرها: "ظاهر هذه الآية يدل على أن ما بعد الله هو الضلال لأن أولها (فذلكم الله ربكم الحق)، وآخرها (فماذا بعد الحق إلاّ الضلال) فهذا في الإيمان والكفر"(1).
وقال القرطبي: "وقال علماؤنا: حكمت هذه الآية بأنه ليس بين الحق والباطل منزلة ثالثة في هذه المسألة التي هي توحيد الله تعالى"(2).
وقال تعالى:(وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً) [سورة الإسراء: 81]. جاء في تفسيرها: الإسلام، وقيل القرآن، قاله مجاهد بن جبر، والصواب تعميم اللفظ بالغاية الممكنة فيكون التفسير: جاء الشرع بجميع ما انطوى فيه (وزهق الباطل) بطل الباطل"(3).
وقال تعالى: (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل) [سورة الحج: 26].
وقال لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
ووصف رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله بأنه هو حق وصدق فالإسلام هو الحق والله هو الحق وما سواه باطل يجب الكفر به وإنكاره.
__________
(1) الجامع لاحكام القرآن ج8/335.
(2) المصدر السابق ص336.
(3) المصدر السابق ج10/315.(1/18)
والذي لا يكفّر اليهود والنصارى والمجوس وعباد الأوثان والملاحدة وغيرهم أو يشك في كفرهم أو يصحح مذاهبهم أو مذاهب بعضهم فقد شك في القرآن وشك في صدق الله ورسوله, وذلك أن لله تعالى حكم وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم بأن ما سوى الإسلام باطل محض.
فكفر اليهود والنصارى والمشركين عامة شهد به القرآن، ونطقت به السنة، وأجمعت عليه الأمة، مع كل ذلك نجد بعض الناس في هذا العصر الذي كثُرت فيه الرزايا, وعظُمت فيه البلايا, وعمّ فيه الجهل, وتفشت فيه البدعة يزعم أن اليهود والنصارى مؤمنون, ويدعو إلى قيام جبهة عريضة وحزب واسع يضم أتباع كل الأديان على أساس الملة الإبراهيمية يسمى الحزب الإبراهيمي!!
جاء في تفسير قوله تعالى: (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون) [سورة آل عمران: 83]. "أن كعب بن الأشرف وأصحابه(1)اختصموا مع النصارى إلى النبي صلى الله عليه وسلم كلا الفريقين برئ من دينه، فقالوا: ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك، فنزلت (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض) يعنى يطلبون"(2).
__________
(1) من اليهود.
(2) الجامع لاحكام القرآن ج4/127.(1/19)
قال الإمام ابن حزم رحمه الله وهو يتكلم عن النصارى وقد جمع بينهم وبين المجوس لتعدد الآلهة عند جميعهم بل المجوس لهم إلهان أحدهما يخلق الخير والثاني يخلق الشر أما النصارى فلهم ثلاثة "النصارى وإن كانوا أهل كتاب, ويقرون بنبوة بعض الأنبياء عليهم السلام فإن جماهيرهم وفرقهم لا يُقِرون بالتوحيد مجرداً, بل يقولون بالتثليث، والمجوس أيضاً وإن كانوا أهل كتاب(1)لا يقرون ببعض الأنبياء عليهم السلام ولكنّا أدخلناهم في هذا المكان لقولهم بفاعلين لم يزالا فالنصارى أحق منهم بالإدخال(2)هاهنا لأنهم يقولون بثلاثة(3)لم يزالوا"(4).
وقال ابن القيم وهو يتكلم عن المتناقضات في الإنجيل: "وأما الإنجيل فهي أربعة أناجيل أُخذت عن أربعة نفر اثنان منهم لم يريا المسيح أصلاً , واثنان رأياه واجتمعا به وهما متى ويوحنا, وكل منهم يزيد وينقص ويخالف إنجيله إنجيل أصحابه في أشياء, وفيها ذكر القول ونقيضه"(5).
دعاة توحيد الأديان في هذا العصر!! :
وسنعرض في هذه الصفحات لأهم الشبه التي ذكروها أو تلك التي يمكن أن تعِنّ لهم فنقول وبالله التوفيق:
* ... قوله تعالى: (لكم دينكم ولي دين) [سورة الكافرون: 6]:
__________
(1) قال ابن حزم: (وممن قال إن المجوس أهل كتاب على بن أبى طالب وحذيفة وسعيد بن المسيب وقتادة وأبو ثور وجمهور أصحاب أهل الظاهر وقد بينا البراهين الموجبة لصحة هذا القول في كتابنا المسمى: (الإيصال إلى فهم كتاب الخصال الجامعة لمحصل شرائع الإسلام في الواجب والحلال والحرام) قال المحقق: ذكره بوركلمان في ذيل الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم ج1/197.
(2) في رؤوس الفرق المخالفة للإسلام.
(3) الله وعيسى ومريم, الأب والابن والام.
(4) المصدر السابق ص109.
(5) هداية الحياري ص112.(1/20)
ربما يفهم البعض من هذه الآية إقرار أهل الأديان المخالفة للإسلام على دينهم فهل هذا حقاً هو المراد من الآية؟ أم أن الآية نسخت بالآيات التي أمرت بقتال الكفار؟ أم إنها محكمة باقية الحكم لا نسخ فيها ولا تخصيص لأهل الكتاب؟
دعونا نستمع إلى العلامة ابن القيم رحمه الله يبّين لنا المراد من ذلك, قال رحمه الله في تفسير سورة الكافرون: "قوله (لكم دينكم) مطابق لهذا المعنى: أي لا أشارككم في دينكم ولا أوافقكم عليه بل هو دين تختصون أنتم به لا أشرككم فيه أبداً فطابق آخر السورة أولها فتأمله.(1/21)
ثم قال: وأما المسألة الحادية عشرة وهي أن هذه الأخبار بأن لهم دينهم وله دينه, هل هو إقرار فيكون منسوخاً أو مخصوصاً؟ أو لا نسخ في الآية ولا تخصيص؟ فهذه مسألة شريفة من أهم المسائل المذكورة وقد غلط في السورة خلائق وظنوا أنها منسوخة بآية السيف لاعتقادهم أن هذه الآية اقتضت التقرير لهم على دينهم، وظن آخرون أنها مخصوصة بمن يقرون على دينهم وهم أهل الكتاب، وكلا القولين غلط محض فلا نسخ في السورة ولا تخصيص، بل هي محكمة عمومها نص، وهي من السور التي يستحيل دخول النسخ في مضمونها فإن أحكام التوحيد الذي اتفقت عليه دعوة الرسل يستحيل دخول النسخ فيه وهذه السورة أخلصت التوحيد, ولهذا تسمى سورة الإخلاص كما تقدم، ومنشأ الغلط ظنّهم أن الآية اقتضت إقرارهم على دينهم ثم رأوا أن هذا الإقرار زال بالسيف, فقالوا: منسوخ وقالت طائفة: زال عن بعض الكفار، وهم من لا كتاب لهم فقالوا هذا مخصوص, ومعاذ الله أن تكون الآية اقتضت تقريراً لهم أو إقراراً على دينهم أبداً بل لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الأمر وأشده عليه وعلى أصحابه أشد على الإنكار عليهم تعييب دينهم وتقبيحه والنهي عنه والتهديد والوعيد كل وقت وفي كل ناد، وقد سألوه أن يكف عن ذكر آلهتهم وعيب دينهم ويتركوه وشأنه, فأبى إلاّ مضياً على الإنكار عليهم وعيب دينهم، فكيف يقال إن الآية اقتضت تقريره لهم؟ معاذ الله من هذا الزعم الباطل وإنما الآية اقتضت البراءة المحضة كما تقدم وأن ما هم عليه من الدين لا نوافقهم عليه أبداً؛ فإنه دين باطل فهو مختص بكم لا نشرككم فيه ولا أنتم تشركوننا في ديننا الحق، فهذه غاية البراءة والتنصل من موافقتهم في دينهم، فأين الإقرار حتى يدعى النسخ أو التخصيص؟ أترى إذا جوهدوا بالسيف كما جوهدوا بالحجة لا يصح أن يقال لكم دينكم ولي دين؟ بل هذه آية قائمة محكمة ثابتة بين المؤمنين والكافرين إلى أن يُطهِر الله منهم عباده وبلاده, وكذلك حكم هذه(1/22)
البراءة بين أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم أهل سنته وبين أهل البدع المخالفين لما جاء به، الداعين إلى غير سنته إذا قال لهم خلفاء الرسول وورثته لكم دينكم ولنا ديننا لا يقتضى إقرارهم على بدعتهم بل يقولون لهم هذه براءة منهم وهم مع هذا منتصبون للرد عليهم ولجهادهم بحسب الإمكان"(1).
* ... نريد أن نوحدهم على أصول الملة الإبراهيمية (!!):
هذا هو ما قاله د. الترابي إنه يريد أن يوحد جميع الأديان التي هي على أصول الملة الإبراهيمية.
وقبل الخوض في هذه المسالة لابدّ من التأكيد على أن إبراهيم علية السلام لم يكن يهودياً ولا نصرانياً كما أخبرنا الله عز وجل (ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً) [سورة آل عمران: 67].
ومن ثم فانّ اليهود والنصارى الحاليين ليسوا على ملّة إبراهيم بل هم ممن سفه نفسه لأنهم رغبوا عن ملّة إبراهيم (ومن يرغب عن ملّة إبراهيم إلاّ من سفه نفسه) [سورة البقرة: 130].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وإذا كان كذلك فاليهود والنصارى ليسوا على ملّة إبراهيم, وإذا لم يكونوا على ملّة إبراهيم فإن من عبد إله إبراهيم كان على ملّته قال تعالى: (وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملّة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم) [سورة البقرة:136/137]. فقوله: (قل بل ملّة إبراهيم) يبين أن ما عليه اليهود والنصارى ينافي ملّة إبراهيم.
__________
(1) بدائع الفوائد للعلامة شيخ الإسلام ابن قيم الجوزية المتوفي 751هـ ج1/140-141.(1/23)
* قوله تعالى: (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين, وما يفعلوا من خير فلن يُكفروه والله عليم بالمتقين) [سورة آل عمران: 113]:
من الآيات التي يستدلون بها على جواز التقارب مع اليهود والنصارى هذه الآية, حيث ينزلونها على أهل الكتاب الحاليين. والآية ليس لها علاقة بأهل الكتاب الحاليين, وإنما هي خاصة بأولئك الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم, كعبد الله بن سلام وغيره من الصحابة الذين كانوا يهوداً فأسلموا وحسن إسلامهم, و(ليسوا سواء) معناها ليس أهل الكتاب وأمه محمد صلى الله عليه وسلم سواء, ثمّ تمّ الكلام واستُؤنف بعد ذلك من أهل الكتاب وهم الذين اتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم وآمنوا به وصدقوه.
قال الإمام القرطبي رحمه الله: "(ليسوا سواء) وتمّ الكلام والمعنى ليس أهل الكتاب وأمة محمد صلى الله عليه وسلم سواء.
وذكر أبو خيثمة زهير بن حرب حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا شيبان عن عاصم عن زر عن ابن مسعود قال: أخّر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة صلاة العشاء, ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال: (إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله تعالى في هذه الساعة غيركم)،قال: وأنزلت هذه الآية(ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة) إلى قوله: (والله عليم بالمتقين)، وروى ابن وهب مثله.(1/24)
وقال ابن عباس: قول الله عز وجل: (من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون) من آمن مع النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن إسحاق: لما أسلم عبد الله بن سلام وثعلبة بن شعبة وأسيد بن عبيد, ومن أسلم من يهود, فآمنوا وصدقوا ورغبوا في الإسلام ورسخوا فيه قالت أحبار يهود وأهل الكفر منهم: ما آمن بمحمد ولا تبعه إلاّ شرارنا, فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم: (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون) إلى قوله: (وأولئك من الصالحين)(1).
* قوله تعالى: (لا إكراه في الدين) [سورة البقرة: 256]:
يقول د. الترابي في محاضرته التي ألقاها في مؤتمر التقارب الديني السابق: "ولقد جاءت الرسالة المحمدية بالمبادئ الخالدة ألاّ إكراه في الدين لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي". والعصرانيون يستدلون بهذه الآية لإبطال أمرين هامين هما:
[1] جهاد الطلب: وهو أن يجاهد المسلمون الكفار طالبين منهم الدخول في الإسلام.
[2] إقامة حدّ الردة: فهم لا يرون إقامته إلاّ إذا كان المرتد محارباً شاكاً للسلاح, أما الردة الفكرية البحتة, كما يقول الترابي, فلا حدّ فيها.
يقول راشد الغنوشي في حوار له مع مجلة الشراع اللبنانية في رده على سؤال: ماذا بالنسبة للردة؟ "إن الردة لا تقام عليها الحدود, والحساب عليها يكون في الآخرة... وأبو بكر الصديق رضي الله عنه حين حارب المرتدين فعل ذلك لانقلابهم السياسي على الإمام وليس لموقفهم العقائدي"(2).
قلت: هذا من المغالطات المردودة فأبو بكر هو القائل: "والله لأُقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة"... "والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه".
فلنرجع إلى المراد من قوله تعالى: (لا إكراه في الدين) فقد وردت فيها أقوال ستة:
[
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن ج4/175.
(2) مجلة الشرع ص32 – عدد أكتوبر 1994م.(1/25)
1] إنها منسوخة بآية القتال.
[2] ليست منسوخة وإنما هي خاصة بأهل الكتاب إذا دفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون, أما أهل الأوثان فيكرهون على الدخول في الإسلام.
[3] إنها نزلت في الأنصار أي لا علاقة لها بأهل الكتاب.
[4] إنها نزلت في رجل من الأنصار بعينه.
[5] إنها نزلت في النهي عن أن تقول لمن أسلم تحت السيف مكرهاً.
[6] إنها نزلت في السبي من أهل الكتاب إذا كانوا كباراً.
وأقرب هذه الأقوال للصواب الثلاثة الأول وقد قال به ابن مسعود وكثير من المفسرين.
قال الإمام القرطبي رحمه الله: "اختلف العلماء في معنى هذه الآية على ستة أقوال:
الأول: قيل إنها منسوخة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أكره العرب على دين الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلا بالإسلام قاله سليمان بن موسى قال نسختها: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين) وروي هذا عن ابن مسعود وكثير من المفسرين.
الثاني: ليست منسوخة وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصة وأنهم لا يكرهون على الإسلام إذا أدوا الجزية والذين يكرهون أهل الأوثان فلا يقبل منهم إلاّ الإسلام فهم الذين نزل فيهم: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين) هذا قول الشعبي وقتادة والحسن والضحاك, والحجة لهذا القول ما رواه زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لعجوز نصرانية: أسلمي تسلمي أن الله بعث محمداً بالحق قالت: أنا عجوز كبيرة والموت أقرب إليّ ! فقال عمر: اللهم أشهد وتلا: ( لا إكراه في الدين).(1/26)
الثالث: ما رواه أبو داود عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في الأنصار كانت تكون المرأة مقلاةً فتجعل على نفسها أن عاش لها ولد أن تهوّده, فلما أجليت بنو النضير كان فيهم كثير من أبناء الأنصار فقالوا لا ندع أبناءنا فأنزل الله تعالى: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) قال أبو داود: المقلاة التي لا يعش لها ولد, وفي رواية: إنما فعلنا ما فعلنا ونحن نرى دينهم أفضل مما نحن عليه أما إذا جاء الله بالإسلام فنكرههم عليه؛ فنزلت: (لا إكراه في الدين) من شاء التحق بهم ومن شاء دخل في الإسلام وهذا قول سعيد بن جبير والشعبي ومجاهد، إلا أنه قال: كان سبب وجودهم في بني النضير الاسترضاع قال النحاس: قول ابن عباس في هذه الآيات أولى الأقوال لصحة السند وأن مثله لا يؤخذ بالرأي"(1).
وقال ابن عطية رحمه الله في تفسير هذه الآية: "الدين في هذه الآية المعتقد والملّة بقرينة قوله: (قد تبين الرشد من الغي) والإكراه الذي في الأحكام من الأيمان والبيع والهبات وغير ذلك ليس هذا موضعه وإنما يجئ في تفسير قوله تعالى: (إلاّ من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان) فإذا تقرر أن الإكراه المنفي هذا هو تفسير المعتقد من الملل والنحل, فاختلف الناس في معنى الآية, فقال الزهري: سألت زيد بن أسلم عن قوله تعالى: (لا إكراه في الدين) فقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين لا يكره أحداً في الدين فأبى المشركون إلاّ أن يقاتلوهم فاستأذن الله في قتالهم فأذن له قال الطبري: والآية منسوخة في هذا القول.
قال: ويلزم على هذا أن الآية مكية وأنها من آيات الموادعة التي نسختها آية السيف.
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن ج3/28.(1/27)
وقال قتادة والضحاك بن مزاحم: هذه الآية محكمة خاصة في أهل الكتاب الذين يبذلون الجزية ويؤدونها عن يد صاغرة قالا: أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتل العرب أهل الأوثان لا يقبل منهم إلاّ لا اله إلا الله أو السيف, ثم أُمر فيمن سواهم أن يقبل الجزية ونزلت فيهم (لا إكراه في الدين)"(1).
قلت: غاية ما تفيده الآية أن أهل الكتاب إذا دفعوا الجزية عن يد وصغار تركوا على دينهم هذا إن لم يكونوا محاربين للإسلام والمسلمين أما إن كانوا محاربين للإسلام معاندين لأهله فلا يقبل منهم إلاّ القتال.
* قوله تعالى: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون, وإذا سمعوا ما أنزل إلي الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين. وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين. فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين) [سورة المائدة: 82-85]:
يستدل د. الترابي وغيره من المنادين بوحدة الأديان وبقيام الحزب الإبراهيمي الذي يؤلف بين اليهود والنصارى والمسلمين بقوله تعالى: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون) ولا يصلون بينها وبين الآيات التي تليها زعماً منهم أن هذا الوصف ينطبق على نصارى اليوم بينما نجد أن هذه الآيات نزلت في النجاشي وأصحابه رضي الله عنهم حينما آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وصدقوه وآووا أصحابه وحافظوا عليهم عندما هاجروا إليهم.
__________
(1) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للقاضي أبي محمد عبد الحق بن غالب ابن عطية الاندلسي ج (481-281).(1/28)
قال الأمام القرطبي رحمه الله: "وهذه الآية نزلت في النجاشي وأصحابه لما قدم المسلمون عليهم في الهجرة الأولى حسب ما هو مشهور في سيرة ابن إسحاق وغيره خوفاً من المشركين وفتنتهم وكانوا ذوي عدد ثم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي المدينة بعد ذلك. فلم يقدروا على الوصول إليه, حالت بينهم وبين رسول صلى الله عليه وسلم الحرب فلما كانت وقعة بدر وقتل الله فيها صناديد الكفار, قال كفار قريش: إن ثأركم بأرض الحبشة, فأهدوا إلي النجاشي وابعثوا إليه برجلين من ذوي رأيكم لعله يعطيكم من عنده فتقتلونهم بمن قتل منكم ببدر, فبعث كفار قريش عمرو بن العاص وعبد الله بن أبى ربيعة بهدايا, فسمع النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري وكتب معه إلي النجاشي فقدم على النجاشي فقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دعا جعفر بن أبى طالب والمهاجرين وأرسل إلي الرهبان والقسيسين فجمعهم ثم أمر جعفر أن يقرأ عليهم القرآن, فقرأ سورة مريم, فقاموا تفيض أعينهم من الدمع فهم الذين أنزل الله فيهم (ولتجدنّ أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى... )وقرأ إلي (الشاهدين) [رواه أبو داود]".
* قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) [سورة البقرة: 62]:
هذه الآية الكريمة هي كذلك من الآيات التي يستدل بها دعاة وحدة الأديان والمنادون بقيام حلف مع الكفار اليهود والنصارى الحاليين, متوهمين أن الجميع سواء مؤمنون بالله واليوم الأخر ويعملون الصالحات.(1/29)
قال الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية: "(إن الذين آمنوا) صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم قال سفيان: المراد المنافقون كأنه قال: الذين آمنوا في ظاهر أمرهم فلذلك قرنهم باليهود والنصارى والصابئين(1)ثم بين حكم من آمن بالله واليوم الآخر من الجميع.
فإن قال قائل: لم جمع الضمير في قوله: (لهم أجرهم) وآمن لفظ مفرد ليس بجمع وإنما كان يستقيم لو قال له أجره؟
فالجواب أن"مَن" يقع على الواحد والتثنية والجمع فجائز أن يرجع الضمير مفرداً ومثنى ومجموعاً قال الله تعالى: (ومنهم من يستمعون إليك) على المعنى ومنهم من يستمع إليك على اللفظ.
روى عن ابن عباس أن قوله: (إن الذين آمنوا والذين هادوا) الآية.., منسوخ بقوله تعالى: ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه) وقال غيره: ليست بمنسوخة وهي فيمن ثبت على إيمانه من المؤمنين بالنبي صلى الله عليه وسلم"(2).
* قوله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) [سورة الممتحنة: 8].
وهذه الآية الكريمة من الآيات التي يستدل دعاة وحدة الأديان بها وهي بريئة من دعوتهم تلك. إذ غاية ما تأمر به الآية الإحسان إلي الضعفة والنساء الذين يعيشون في الدولة الإسلامية ذات السيادة والقوة.
والمسلم مأمور بالعدل مع المسلمين وغير المسلمين, ومأمور كذلك بالإحسان والرفق بالجميع كل ذلك شريطة سلامة الداخل أي عدم الميل بالقلب إليهم.
__________
(1) هم عبدة الكواكب.
(2) الجامع لاحكام القرآن ج 1/432-436(1/30)
وقد وردت أقوال في المراد بهذه الآية هي(1): إنها منسوخة بقوله تعالى: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)، أو إنها كانت في أهل الصلح ولما فتحت مكة انتهى العمل بها، أو إنها خاصة بأصحاب العهود حتى ينتهي عهدهم، أو إنها خاصة بالعجزة والضعفة من النساء والصبيان، أو إنها خاصة بضعفة المسلمين الذين لم يتمكنوا من الهجرة من مكة، أو إنها محكمة, وهي خاصة بالضعفة والعجزة إلي يوم القيامة, وهذا هو الأقرب.
قال الإمام القرطبي: "هذه الآية رخصة من الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم"، ثم قال: "وقال أكثر أهل التأويل هي محكمة واحتجوا بأن أسماء بنت أبى بكر سألت النبي صلى الله عليه وسلم هل تَصِل أمها حيت قدمت عليها مشركة؟ قال: (نعم) [أخرجه البخاري ومسلم], وقيل إن الآية فيها نزلت, روى عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه: أن أبا بكر الصديق طلق امرأته قتيلة في الجاهلية وهي أم أسماء بنت أبى بكر فقدمت عليهم في المدة التي كانت فيها المهادنة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش فأهدت إلى أسماء بنت أبى بكر الصديق قرطاً وأشياء فكرهت أن تقبل منها حتى أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فأنزل الله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين)"(2).
قلت: اليهود والنصارى اليوم, خاصة الحكومات والمؤسسات والمنظمات كلهم محارب للإسلام يتربصون به وبأهله الدوائر ويكيدون لهم المصائب.
__________
(1) أنظر الجامع لا حكام القرآن ج18/59 وأضواء البيان ج8/149-150.
(2) الجامع لأحكام القرآن ج18/59.(1/31)
أما الأفراد الضعفاء والمساكين فيجوز برّهم والإحسان إليهم, وهذا من أقوى الأسباب لتقريبهم إلى الإسلام ومن أمثلة ذلك ما فعله الصحابة مع تلك الظعينة(1)صاحبة المزادتين التي وردت قصتها في صحيح البخاري, حيث لم يقتلوها ولم يأسروها أو يستبيحوا ماءها, بل استاقوها بمائها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ من مزادتيها قليلاً ودعا فيه وردّه ثم استقوا وقال لها: (اعلمي أن الله هو الذي سقانا ولم ينقص من مزادتيك شيئاً)، وأكرموها وأحسنوا إليها وجمعوا لها طعاماً وأرسلوها في سبيلها، فكانت تذكر ذلك وتدعو قومها إلى الإسلام(2).
وشبيه بهذا ما فعله الأنصار رضوان الله عليهم مع أسرى بدر, وكذلك ما فعله الصحابة مع ثمامة بن أثال قبل أن يسلم لما جِئ به أسيراً ورُبط في سارية من سواري المسجد, فبعد أن أصبح عاجزاً عن القتال أحسنوا إليه غاية الإحسان, فكان يُراح عليه كل يوم بحليب سبع نياق حتى فُكّ أسره فأسلم عن طواعية(3).
ومن أمثلة العدل الرائعة بين المسلمين والكفار وعدم ظلمهم والتعدي عليهم مع القدرة على ذلك ما قاله وصنعه عبد الله بن رواحة مع أهل خيبر عندما أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم يُخرِصُ(4)عليهم, فعرضوا عليه الرشوة ليخفف عنهم فقال كلمته المشهورة: "والله لأنتم أبغض الخلق إلىّ, وجئتكم من عند أحب الخلق إلىّ, ولن يحملني بغضي لكم ولا حبي له أن أَحِيف عليكم, فإما أن تأخذوا بنصف ما قدرت, وإما أن تكفوا أيديكم ولكم نصف ما قدرت. فقالوا له: "بهذا قامت السموات والأرض", أي: بالعدل والقسط وبقوا على هذه الحال إلى أن أجلاهم الخليفة الراشد والإمام العادل عمر رضي الله عنه وأرضاه.
نكتفي بهذا القدر فالشبه عند مرضى القلوب لا حدّ لها.
المخالفة الثانية: البراءة من الكفار وعدم موالاتهم:-
__________
(1) المرأة المسافرة.
(2) أضواء البيان ج8/152.
(3) المصدر السابق.
(4) بُقدّر إنتاجهم.(1/32)
من مخالفات الدعوة إلى تقارب الأديان البيّنة الواضحة للإسلام مناقضتها ومعارضتها لعقيدة الولاء والبراء لدى المسلم.
لقد نهى الله ورسوله عن مولاة الكفار وأهل الأهواء وحذّر من أن يتخذهم المسلمون أولياء، قال تعالى: (لا يتخذِ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين) [سورة آل عمران: 28]، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودّوا ما عنتم قد بدتِ البغضاء من أفواههم وما تخفي صدروهم أكبر قد بينّا لكم الآيات لعلكم تعقلون) [سورة آل عمران: 118].
وقال: (لا تجدُ قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيّدهم بروح منه ويُدخلهم جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألاّ أن حزب الله هم المفلحون) [سورة التوبة: 32].
قال العلاّمة ابن القيم رحمه الله في تفسير سورة الكافرون: "إن هذه السورة سورة براءة من الشرك كما جاء في وصفها، ومقصودها الأعظم البراءة المطلوبة بين المُوحدين والمشركين, ولهذا أتى بالنفي في الجانبين تحقيقاً للبراءة المطلوبة مع تضمنها للإثبات بأن له معبوداً يعبده, وأنتم بريئون من عبادته, وهذا يطابق قول أمام الحنفاء: (إنني برآء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين) [سورة الزخرف: 26-27].
تعريف الولاء والبراء:(1)
الولاء: الموالاة ضد المعاداة فهي تعني الحب والنصرة والتولي.
البراء: التبري والبعد والعداوة.
__________
(1) انظر الولاء والبراء للدكتور محمد سعيد ص87 والصفحات التي تليها.(1/33)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معرفاً الولاء والبراء: الولاية ضد العداوة, وأصل الولاية المحبة والتقرب, وأصل العداوة البغض والبعد. والولي: القريب، يقال: هذا يَلي هذا, أي يقرُب منه ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر)(1)أي لأقرب رجل إلى الميت.
فإذا كان ولي الله هو الموافق المتابع له فيما يحبه ويرضاه ويبغضه ويسخطه ويأمر به وينهي عنه,كان المعادي لوليه معادياً له كما قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء تُلقون إليهم بالمودة) [سورة الممتحنة: 1]. فمن عادى أولياءه فقد عاداه، ومن عاداه فقد حاربه ولهذا جاء في الحديث: (ومن عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة)(2).
بعض صور الموالاة المنهي عنها:
الموالاة صورها كثيرة, ومظاهرها متعددة، خاصة في هذا العصر، ولكن سنقصر حديثنا على بعض الصور التي لها علاقة مباشرة بدعوة التقارب الديني, فنقول:
[1] الرضى بكفر الكافرين أو عدم تكفيرهم أو الشك في كفرهم أو تصحيح مذاهبهم:
فهذه الدعوة ما قامت إلاّ باعتبار أن الإسلام والمسيحية واليهودية التي يدين بها اليهود والنصارى اليوم أديان سماوية، ومذاهب يجوز للمرء أن يعتنق أيّاً منها, بينما الحق خلاف ذلك فان الدين الحق عند الله هو الإسلام (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين).
[2] اتخاذهم أعواناً وأنصاراً وأولياء:
__________
(1) متفق عليه.
(2) البخاري.(1/34)
فالدعوة إلى التقارب مع اليهود والنصارى والتعايش معهم في حبٍّ وسلامٍ وإنشاء حلف بجمع بين المسلم والكافر من أقوى أسباب التولي. قال الإمام القرطبي في تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودّوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بيّنا لكم الآيات إن كنتم تعقلون) [سورة آل عمران: 118]: "نهى الله عز وجل المؤمنين بهذه الآية أن يتخذوا من الكفار واليهود وأهل الأهواء دخلاء ولجاء يفاوضونهم في الآراء ويسندون إليهم أمورهم، ويقال: كل من كان على خلاف مذهبك ودينك فلا ينبغي لك أن تحادثه"(1).
يقول سيد قطب رحمه الله مبيناً نوع الولاية التي نهى الله عبادة المؤمنين عنها: "إن الولاية المنهي عنها هنا(2)ولاية التناصر والتحالف معهم, ولا تتعلق بمعنى اتّباعهم في دينهم، فبعيد جداً أن يكون بين المسلمين من يميل إلى اتباع اليهود والنصارى في الدين(3)، إنما هو ولاء التحالف والتناصر الذي كان يلتبس على المسلمين أمره فيحسبون أنه جائز لهم بحكم ما كان واقعاً من تشابك المصالح والأواصر، ومن قيام هذا الولاء بينهم وبين جماعات من اليهود قبل الإسلام وفي أوائل العهد بقيام الإسلام في المدينة حتى نهاهم الله عنه وأمر بإبطاله, يوضح ذلك قوله تعالى بشأن المسلمين الذين لم يهاجروا: (ما لكم ومن وَلا يتهم من شيء) أي ولاية التناصر والتعاون وليس ولاية الدين".
__________
(1) الجامع لاحكام القران ج4/178.
(2) في قوله تعالى: (يا أيها الذين أمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم أن الله لا يهدي القوم الظالمين) المائدة/51.
(3) لان دينهم يقوم على ضلالات وسخافات لا يقبلها عقل ولا شرع نحو قولهم إن الله ثالث ثلاثة وإن عزيراً ابن الله وإن المسيح ابن الله واتهام اليهود لمريم عليها السلام بأنها زانية وأن عيسى ابن زنا وما إلى ذلك من هراء.(1/35)
"نقول هذا لأن البعض يخلط بين دعوة الإسلام للسماحة في معاملة أهل الكتاب والبرِ بهم في المجتمع المسلم الذي يعيشون فيه. وبين الولاء الذي لا يكون إلاّ لله ولرسوله وللجماعة المسلمة, ناسين ما يقرّره القرآن الكريم من أن أهل الكتاب بعضهم أولياء بعض في حرب الجماعة المسلمة وأن هذا شأن ثابت لهم وأنهم لن يرضوا عن المسلم إلاّ أن يترك دينه ويتبع دينهم".
"وسذاجة أي سذاجة وغفلة أيّة غفلة أن تظن أن لنا وإياهم طريقاً واحداً نسلكه للتمكين للدين أمام الكفار الملحدين!! فهم مع الكفار الملحدين إذا كانت المعركة ضد المسلمين، فَلْندع من يغفل عن هذا ولنكن واعين للتوجيه القرآني (لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء)"(1).
قلت: رحم الله سيداً ما أبصره بمفاهيم الولاء والبراء! نعم أنها والله السذاجة والغفلة ليس إلاّ هي التي تزين لدعاة توحيد الأديان دعوتهم هذه.
[3] مودتهم ومحبتهم:
الحب في الله والبغض في الله من أظهر علامات الإيمان قال تعالى: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم) [سورة المجادلة: 22]، والعمل على إيجاد صيغة للتعايش والتسالم مع الكفار يولدان والمحبة والإلفة.
جاء في ميثاق الحوار الديني في السودان ما يأتي:
"3- وأن نتعاون جميعاً لصياغة مجتمع سوداني موحّد تسوده المحبة ويظلله السلام، فالإسلام والمسيحية كلاهما يحثان على المحبة والفضيلة والتراحم والسلام والعدالة والمساواة واحترام الإنسان ورعاية حقوقه واحترامه".
وجاء أيضاً:
"6- وألاّ نجعل من اختلاف الدين سبباً للفتنة والفرقة والشتات والاحتراب".
[4] مداهنتهم ومداراتهم ومجاملتهم على حساب الدين:
__________
(1) في ظلال القرآن ج2/909-910 نقلاً عن الولاء والبراء ص235.(1/36)
أما عن المداهنة والمداراة والمجاملة على حساب الدين فحدِّثْ ولا حرج! فدعاة وحدة الأديان قد وصلوا فيها إلى الغاية القصوى. فقد وصف د. الترابي اليهود والنصارى الحاليين بأنهم مؤمنون!! ووصف التبشير بأنه عمل إنساني!! ودعا إلى المحافظة على جميع الديانات!! ووصف جماهير اليهود والنصارى إبّان الحروب الصليبية بأنها مؤمنة!!(1).
وهذه المداهنة والمداراة سببها الأول الانهزام النفسي وسببها الثاني الهروب من تهمة: متشدّد أو متعصب أو أصولي!!
[5] توليتهم أمراً من أمور المسلمين:
جاء في جريدة السودان الحديث العدد (1725) بتاريخ 6 جمادي الأولى 1415 هـ الموافق 11/10/1994م على لسان الفريق البشير: "إن عدد المسيحيين في المناصب العليا القيادية بالدولة السودانية زاد بنسبة كبيرة حيث يتبوأ منصب نائب رئيس الجمهورية مسيحي ويبلغ عدد الوزراء والولاة والمحافظين من المسيحيين 70 شخصاً إضافة إلى أربعين عضواً في المجلس الوطني".
والولاية إعزاز, والحق أن يعامل المسيحيون وغيرهم في ظل الدولة الإسلامية معاملة أهل الذمة، وحقوق وواجبات هذه المعاملة معروفة ومعلومة.
[6] الرضا بأعمالهم والتشبه بهم:
لقد بالغ الكثير من المسلمين اليوم في التشبه بالكفار بل أصبح هو الأصل في السمت والدّلّ والمظهر وأصبح الشاذ هو من لا يتشبه بهم.
[7] البشاشة لهم وطلاقة الوجه وانشراح الصدر وإكرامهم وتقريبهم:
لقد حدث من ذلك لأئمة الكفر ما لم يحدث مثله حتى في بلادهم, فقد اسْتُقبِل البابا في السودان أثناء زيارته المشهورة إستقبالاً حاشداً ونُصب له صليبٌ ضخمٌ رفع بالآلة الرافعة وهُشّ وبُشّ في وجهه، وقد رأيت صورة للدكتور الترابي أثناء استقباله البابا وهو هاشٌ باشٌ وهو كثيراً ما يعبس في وجوه مسلمين صالحين فقط من أجل سمتهم.
[8] الثناء عليهم:
__________
(1) الحوار بين الأديان: التحديات والآفاق د. حسن عبد الله الترابي.(1/37)
لقد وصف دعاة وحدة الأديان التنصير بأنه عمل إنساني, ودعوا إلى المحافظة على جميع الأديان, فقد جاء في ميثاق الحوار الديني في السودان, البند(7): "وأن يحترم كل منا عقائد الآخرين"، كيف يحق للمسلم أن يحترم من يبدأ كلامه بـ: "بسم الآب والابن والروح القدس إله واحد؟!
[9] تعظيمهم إطلاق الألقاب عليهم:
رحم الله الخليفة العباسي هارون الرشيد ما أكرمه من خليفة وحاكم مسلم عندما كتب إلى ملك الروم كتاباً بدأه بـ (من أمير المؤمنين إلى كلب الروم).
المخالفة الثالثة: التشبه بالكفار وكسر الحاجز النفسي بيننا وبينهم:
من مخالفات دعوة التقارب الديني للإسلام - بجانب اصطدامها بالناقضين السابقين للإسلام - أنها تكسر الحاجز النفسي بين المسلم والكفار، فالتعايش مع الكفار ومسالمتهم وموادعتهم ومداهنتهم من أقوى أسباب التشبه بهم والاقتباس منهم, خاصة والمسلمون في هذا العصر عندهم قابلية وولع بتقليد الكافر, وذلك لتفوق الكافر عسكرياً واقتصادياً وتقنياً وإعلامياً، ومعلوم أن قابلية المغلوب للتلقي والتشبه لا تدانيها قابلية.
لقد نهى الله ورسوله والسلف الصالح عن التشبه بالكفار بل إن مجرد مخالفة الكفار دين وقربى يتقرّب بها العبد إلى ربه والآيات الآمرة بمخالفة أهل الكتاب كثيرة نذكر منها ما يلي:
قوله تعالى: (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين. وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلاّ من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون. ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون. إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله وليّ المتقين). [سورة الشورى: 16-19].
وقوله تعالى: (وكذلك أنزلناه حكماً عربياً ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا واق) [سورة الرعد: 37].(1/38)
وقوله تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير) [سورة البقرة: 120].
أما الأحاديث الناهية عن التشبه بالكفار من أهل الكتاب وغيرهم فمنها:
* عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم)(1). قال ابن تيمية معلقاً على هذا الحديث: "وهذا الحديث أقل أحواله أنه يقتضي تحريم التشبه بهم وإن كان ظاهره كفر المتشبه بهم كما في قوله: (ومن يتولّهم منكم فإنه منهم) [سورة المائدة: 151]، وهو نظير ما سنذكره عن عبد الله بن عمر أنه قال: (من بنى بأرض المشركين وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت حشر معهم يوم القيامة)".
والأدلة التي تنهي المسلمين عن التشبه بالكفار - دعْكَ عن معايشتهم ومداهنتهم ومجاملتهم ومسالمتهم والعيش معهم في سلام ووئام ومحبة - لا تحصى كثرة, نذكر منها أيضاً:
* عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لتأخذنّ كما أخذت الأمم من قبلكم ذراعاً بذراع وشبراً بشبر وباعاً بباع حتى لو أن أحداً من أولئك دخل جحر ضب لدخلتموه) قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم" (كالذين من قبلكم كانوا أشدّ منكم قوة) قالوا: يا رسول الله كما صنعت فارس والروم وأهل الكتاب؟ قال: (فهل الناس إلا هم؟)(2).
__________
(1) قال عنه ابن تيمية: (إسناده جيد) اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية ص82.
(2) أصله في صحيح مسلم وراه ابن جرير في تفسير سورة التوبة من طريق أبى معشر عن سعيد بن أبى سعيد المقبري عن أبى هريرة وقال الحافظ ابن كثير: وله شاهد في الصحيح. انظر هامش اقتضاء الصراط المستقيم ص27.(1/39)
* وعن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية أنه قال: "وما أشبه الليلة بالبارحة! هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم"(1).
* وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتاً وهدياً، تتّبعون عملهم حذو القذة بالقذة، غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا؟"(2).
قلت: رضي الله عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أشدَّ ورعهم وما أحرصهم على السنة! لو رأوا ما نحن فيه لصعقوا.
* وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)(3).
فالجماعة الحقة ليست هي بالكثرة, وإنما هي باتباع الحق والسنة ولو كانوا قلة ولو كان واحداً. فعن سفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث: (لو أن فقيهاً على رأس جبل لكان هو الجماعة)(4). وعندما سئل عبد الله بن المبارك رحمه الله عن الجماعة قال: (أبو بكر وعمر)فقيل: قد مات أبو بكر وعمر فقال:فلان وفلان قيل:مات فلان وفلان قال: أبو حمزة السكري(5)جماعة.
__________
(1) رواه ابن جرير عن ابن جريج عن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس المصدر السابق.
(2) رواه البغوي في تفسيره في تفسير الآية المصدر السابق.
(3) رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(4) شرح السنة ج1/279.
(5) هو محمد بن ميمون المروزي ثقة فاضل من الطبقة السابعة روى له الجماعة المصدر السابق.(1/40)
* وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (قلت لعمر رضي الله عنه: إن لي كاتباً نصرانياً قال: مالك قاتلك الله(1)أما سمعت الله يقول: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض) ألا اتخذت حنيفاً؟ قال: قلت يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه قال: لا أكرمهم إذ أهانهم الله ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (والموالاة والموادَّة وإن كانت متعلّقة بالقلب(2), لكن المخالفة في الظاهر أهون على المؤمن من مقاطعة الكافرين ومباينتهم، ومشاركتهم في الظاهر إن لم تكن ذريعة أو سبباً قريباً أو بعيداً إلى نوع من الموالاة والمودة، فليس فيها مصلحة المقاطعة والمباينة, مع أنها تدعو إلى نوع ما من المواصلة ما توجبه الطبيعة وتدل عليه العادة)(3).
* وعن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خالفوا اليهود فإنهم لا يُصلّون في نعالهم ولا خِفافهم)(4). قال ابن تيمية: "هذا مع أن نزع اليهود نعالهم مأخوذٌ من موسى عليه السلام لما قيل له: (فاخلع نعليك) [سورة طه: 12]"(5).
قلت: قول اليهود عليهم لعائن الله المتتاليات إلى يوم البعث والنشور مصحوبةً بغضبه وسخطه: "ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه" يدلُّ دلالة واضحة على كثرة مخالفته صلى الله عليه وسلم لهم.
* عن عائشة رضي الله عنها: (أنها كانت تكره أن يجعل المصلي يده في خاصرته وتقول إن اليهود تفعله)(6).
__________
(1) رحم الله عمر فانه ما كان يجامل في الحق, فهل يتسطيع احد المسؤولين اليوم أن يخاطب احد عماله بما خاطب به عمر ابا موسى ولو أنه فعل ما فعل؟.
(2) لأن قوامها الحب في الله والبغض فيه.
(3) اقتضاء الصراط المستقيم.
(4) رواه أبو داود.
(5) المصدر السابق ص60.
(6) البخاري.(1/41)
* وعن زياد بن صبيح قال: "صليت إلى جنب ابن عمر، فوضعت يدي على خاصرتي؛ فلما صلى قال: هذا الصلب(1)في الصلاة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنه"(2).
قلت: رحم الله عائشة وابن عمر ورضي عنهما؛ فقد كرها التخصر في الصلاة، وهو أن يضع المصلي يديه على خاصرته لأنّ هذه الهيئة شبه الصليب، مع أن الفاعليْن لذلك لم ينويا التشبه قطعاً ولم يعرفا الحديث الذي ينهى عن ذلك، كيف بهما لو رأيا صليباً ضخماً يُرفع بآلة رافعة في قلب الخرطوم احتفاء بقدوم راعي الصليبية في العالم؟! وما عساهما يقولان أو يفعلان إزاء هذا؟
المخالفة الرابعة: تعطيل الجهاد وإبطاله:
والمراد بالجهاد هنا جهاد الطلب الذي هو أساس الجهاد، قال تعالى: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير) [سورة التحريم: 9].
وغزوات الرسول صلى الله عليه وسلم كلها عدا أحد والأحزاب, وكذلك جيوش الفتح التي قادها المسلمون كلها من هذا النوع إذ الهدف منها دعوة الناس إلى الدخول في الإسلام عن طواعية بعد أن تزال العقبات التي تقف في طريق ذلك من الحكّام الطغاة ومن شابههم.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله معدداً المراحل التي مر بها الأمر بالجهاد: "ثم فرض عليهم القتال بعد ذلك لمن قاتلهم دون من لم يقاتلهم فقال: (فقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) [سورة البقرة: 190]. ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة، وكان محرماً، ثم مأذوناً به, ثم مأموراً به لمن بدأهم بالقتال، ثم مأموراً به لجميع المشركين، إما فرض عين على أحد القولين، أو فرض كفاية على المشهور. والتحقيق أن جنس الجهاد فرض عين، إما بالقلب، وإما باللسان, وإما بالمال, وإما باليد، فعلى المسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع"(3).
__________
(1) أي: يشبه الصلب.
(2) رواه أحمد وأبو داود والنسائي.
(3) زاد المعاد لابن القيم ج3/86-72.(1/42)
ودعوة التقارب الديني غرضها الأساسي هو إيجاد صيغةٍ للتعايش السلمي بين أهل الأديان المختلفة، حيث لا مجال بعد ذلك للجهاد, بعد الاعتراف بأديانهم واحترامها وعمل مواثيق معهم على ضوء ذلك.
جاء في ميثاق الحوار الديني في السودان ما يأتي:
البند (6): "وألا نجعل من اختلاف الدين سبباً للفتنة والفرقة والشتات والاحتراب".
والاحتراب يعني الدخول معهم في حرب أياً كان نوعها من باب أولى أن نجاهدهم لنزيل الحواجز التي تحول بينهم وبين قبولهم للإسلام.
والبند(8): "وأن نعمل على إزالة كل أسباب النزاعات والخلاف بين جماعات أمتنا(1)بالحوار الموضوعي(2)المخلص الأمين عبر لجنة مشتركة من أهل الأديان".
يقول د. الترابي في محاضرته التي ألقاها أمام مؤتمر حوار الأديان الأخير الذي عُقد بالخرطوم: "واستمر هذا الموكب الرسالي: حتى تكامل الأمر في الرسالة المحمدية التي جاءت للعرب ثم للناس كافة ليدخلوا في الملة الخاتمة جميعاً ولقد جاءت الرسالة المحمدية بالمبادئ الخالدة ألاّ إكراه في الدين ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) [سورة البقرة: 256] وبذلك أرست مبدأ حرية الاعتقاد ثم جاءت بمبدأ الحوار (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن)".
وقال في موضع آخر من كلمته تلك: "لأن الأديان السماوية لا تدعو لنشر رسالتها – رسالة الفضيلة والسلام- بحد السيف أو بالقتال والمدفع".
جاء بقوله تعالى: (لا إكراه في الدين) مستدلاً بها على إبطال جهاد الطلب والاعتماد على الحوار الموضوعي والنقاش.
__________
(1) أنظر إلى هذا التعبير طبعاً لا يعني الأمة الإسلامية وإنما المراد الأمة السودانية بمن فيهم من وثنيين ونصارى ومسلمين.
(2) الحوار الموضوعي – إبطال ضمني للجهاد.(1/43)
أما قوله وغيره- أن الإسلام لم ينتشر بحد السيف- فهي كما يقال كلمة حق أريد بها باطل، فالهدف من هذه المقولة أبطال الجهاد وليس الدفاع عن الإسلام؛ لأنه معلوم أن الإسلام يأمر أولاً بعرض الدين على الناس، فمن آمن به فبها ونعمت، ومن رفضه ورضي بدفع الجزية قبلت منه الجزية إن كان من أهل الكتابين، أما إن رفض الإسلام والجزية أو منع الآخرين من الدخول في الإسلام فما يصنع معه؟ ولماذا خرجت الجيوش الإسلامية, ولأيّ شيء وقعت المعارك الكبرى؟ أليس من أجل ذلك؟
يقول راشد الغنوشي: "نحن قوم ونحن أمة لا نقاتل عقيدة ولا قوماً بسبب عقيدتهم، بسبب فكرهم، وإنما نقاتل دفعاً للعدوان, إن الله لا يحب المعتدين ولو كان هؤلاء المعتدون مسلمين أو مسيحيين أو يهود أو لا دينيين"!!(1).
فالجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة لا يبطله عدل عادل ولا جور جائر ولا دعوة إلى توحيد الأديان.
المخالفة الخامسة: مخالفتها فطرة الإنسان وسنة من السنن الكونية:
الدعوة إلى تجميع كل الخلق تحت دين واحد أو جماعة واحدة دعوة مخالفة للفطرة التي فطر الله الناس عليها، قال تعالى: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) [سورة هود: 118-119]. وقال: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) [سورة يونس: 99]. وقال تعالى: (ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرنّ الله من ينصره إن الله لقويّ عزيز) [سورة الحج: 38-40]. وقال تعالى: (ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين) [سورة البقرة: 251].
__________
(1) مجلة الشراع ص32.(1/44)
يقول الأستاذ محمد محمد حسين رحمه الله وهو يعدد آثار التغريب على العالم الإسلامي: "العالمية في الاصطلاح الحديث: مذهب يدعو إلى البحث عن الحقيقة الواحدة التي تكمن وراء المظاهر المتعددة في الخلافات المذهبية المتباينة، ويزعم أصحاب الدعوة والقائمون عليها أن ذلك هو السبيل إلى جمع الناس على مذهب واحد تزول خلافاتهم الدينية والعنصرية لإحلال السلام في العالم محل الخلاف. والدعوة باطلة من أساسها لأنها تخالف سنةً من سنن الله في الأرض, وهي دفع الناس بعضهم ببعض, وضرب الحق والباطل, والهدم والبناء لهذه السنة لا يفتأان يعملان دون انقطاع, وكل ميسرٌ لما خلق له, هذه السنة قائمة بأمر الله تعالى، ولن تجد لسنة الله تبديلاً."
إلى أن قال: "فالصراع والخلاف الذي تزعم العالمية أنها تعمل على محوه هو إذاً سر من أسرار الحياة نفسها وناموس من نواميس الله في خلقه يجري على قدر وينتهي إلى غاية ويسوقه تدبير من عليم حكيم"(1).
المخالفة السادسة: مخالفتها لدعوة الآخرين إلى الله على بصيرة:
فالاعتراف بالأديان الأخرى واحترامها واحترام أتباعها يتعارض مع دعوتهم وبيان فساد معتقدهم وما هم عليه.
الغرض الأساسي للدكتور الترابي وغيره من دعاة تقارب الأديان وتحاورها:
الغرض من هذه الدعوة والهدف الأساسي لها هو إيجاد صيغة للتعايش السلمي بين أصحاب الديانات والملل المختلفة في البلد الواحد, وليس غرضها حوار الكفار ودعوتهم إلى الإسلام وإزالة الشبه العالقة بأذهانهم عنه, على الرغم من رفعهم لشعار حوار الأديان.
مجهودات علماء المسلمين في دراسة الأديان الأخرى ومجادلة أصحابها:
__________
(1) الإسلام والحضارة الغربية لمحمد محمد حسين: 185-187.(1/45)
الأمة الإسلامية أمة سابقة إلى كل خير, وأمة رائدة لكل الأمم، لأنها خير أمة أخرجت للناس, ولأنها الأمة الوسط, وستظل الأمة الإسلامية هكذا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ورغم الهوان والانهزام النفسي الذي منيت به في هذا العصر ورغم الكيد والمؤامرات التي تحاك ضدها فالخير باقٍ فيها ولن تجتمع على ضلالة, حيث لا تزال طائفة منها قائمة بأمر الله ظاهرة على الحق لا يضرهم من خذلهم من إخوانه المسلمين حتى تقوم الساعة أو حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك.
سنعرض في هذه العجالة لأهم المجهودات, ونشير إلى أهم الكتب التي أُلفت في هذا الموضوع موجزين فيها القول ليتمكن القارئ من المقارنة بين ما كان عليه سلفنا الصالح من الجد والصدق والعزة، وما عليه دعاة تقارب الأديان من الانهزام والجهل والغفلة والسذاجة، حيث يأملون الجمع بين الأضداد, ويريدون إن يجنوا من الشوك العنب, لا دعوة أهل الأهواء والرد على شُببهم.
[أ] مجهودات العلماء في مجال دراسة الأهواء والمذاهب والأديان الأخرى:
تشهد كتب التراث الإسلامي بأن مجهودات المسلمين في دراسة الأديان السماوية الأخرى وغيرها بدأت في عصر مبكر جداً, وكذلك مناظراتهم ومجادلاتهم لأهل الملل الأخرى.
فأول مجهود في هذا المجال كان(1):
[1] ترجمة دقيقة للتوراة والإنجيل قام بها أحمد به عبد الله بن سلام للخليفة العباسي هارون الرشيد، ذكر ذلك صاحب الفهرس(2)أبو الفرج محمد بن إسحاق البغدادي المعروف بالوراق، وكان ذلك في أواخر القرن الثاني الهجري.
[
__________
(1) انظر مقدمة الفصل في الملل والأهواء والنحل ج1:ص13 والصفحات التي تليها.
(2) كتاب الفهرست لابن النديم ص325 المطبعة التجارية.(1/46)
2] اليعقوبي في تاريخه(1)يقول محققا الفصل في الملل والأهواء والنحل: "والمستعرض للجزء الأول من الكتاب المعروف بتاريخ اليعقوبي يجد بيانات عن الأناجيل الأربعة واستشهادات من نصوصها تدل على إطلاعه عليها والعكوف على دراستها"(2).
[3] محمد بن جرير الطبري وكتابه تاريخ الرسل والملوك ذكر في تاريخه(3)فقرات عن عيسى عليه السلام ونماذج من أقواله.
[4] المسعودي وكتاباه (مروج الذهب) و (المقالات في أصول الديانات)، إذ تناول في كتابه الأول بعضاً من أخبار ملوك الروم المتنصرة ذكر فيها(4)المجامع الدينية التي أسماها "سندوسات" أي مجمع ديني. وذكر في الكتاب الأول (مروج الذهب)(5)أنه تناول دراسة الملل والنحل في كتاب أسماه (المقالات في أصول الديانات).
[5] البيروني وكتاباه: (تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة) و (الآثار الباقية عن القرون الخالية) والكتاب الأول عن ديانات الهند.
[6] قال محققا (الفصل في الملل والأهواء والنحل)(6): (وعقد البارون كاردي فو) موازنة بين ما كتبه كل من البيروني والمسعودي عن المسيحية فقال: " أما البيروني فكان أكثر معرفة من المسعودي بالمسيحية, وقد أخذ عن النساطرة عندما صنف كتابه (الآثار الباقية عن القرون الخالية) وكان يعرف كثيراً من نصوص الإنجيل".
[ب] مجهودات العلماء في مجال مجادلة ومناظرة أهل الكتاب:
لقد نشطت حركة المناظرات والمجادلات بين المسلمين وأهل الكتابين منذ أمد بعيد في كل الأمصار في مصر, والعراق, والشام, ولكنها بلغت الذروة في بلاد الأندلس لاحتكاك المسلمين باليهود والنصارى هناك. ومن أشهر المؤلفات والعلماء في هذا المجال:
[1] الردّ على اليهود للرقيلي.
[2] الردّ على النصارى لأبي القاسم العبسي.
__________
(1) تاريخ اليعقوبي ج1: 52-63.
(2) الفصل في الملل والأهواء والنحل ج1: 14.
(3) ج2: 24-25.
(4) مروج الذهب ج1: 152 – طبعة بولاق.
(5) ج1: 172.
(6) ج1: 14.(1/47)
قال محقق الفصل في الملل والأهواء والنحل(1): "وقد نشر بلاثيوس النص العربي لهما مع ترجمته إلى الأسبانية".
[1] الردّ على النصارى لأبي عبيدة.
[2] ابن الباقلاني – القاضي أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن قاسم المتوفى 403هـ, قال الذهبي: "وقد سار القاضي رسولاً عن أمير المؤمنين – المعتضد العباسي – إلى طاغية الروم وجرت له أمور منها: أن الملك أدخله عليه من باب خوخة ليدخل راكعاً للملك ففطن لها القاضي ودخل بظهره. ومنها أنه قال لراهبهم: كيف الأهل والأولاد(2)؟ فقال الملك: مهْ, أما علمت إن الراهب يتنزه عن هذا؟ فقال: تنزهونه عن هذا, ولا تنزهون رب العالمين عن الصاحبة والولد؟!.
وقيل إن الطاغية كان سأله: كيف جرى لزوجة نبيكم(3)يقصد توبيخاً فقال: كما جرى لمريم بنت عمران, وبرأهما الله, لكن عائشة لم تأت بولد(4)، فافحمه".
ثم قال: "قال: حاتم محمود بن الحسين القزويني: كان ما يُضمره القاضي أبو بكر من الورع والدين أضعاف ما كان يظُهره فقيل له في ذلك, فقال إنما أُظهرُ ما أُظهرُه غيظاً لليهود والنصارى والمعتزلة والرافضة لئلا يستحقروا علماء الحق"(5).
والعمل على غيظ أعداء الملة والدين من اليهود والنصارى وأهل البدع من أجلّ القربات.
[3] الملل والنحل لأبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني (467 – 549هـ).
[4] الفصل في الملل والأهواء والنحل لأبي محمد علي بن حزم الأندلسي المتوفى 456هـ، ويعدُّ هذا الكتاب من أجل ما أُلف في الردّ على اليهود والنصارى وهو مطبوع ومشهور ومحقق يتألف من خمس مجلدات(6)المجلدان الأول والثاني في الردّ والدفع على شبه اليهود والنصارى إلاّ قليلاً منهما.
__________
(1) ص15.
(2) قال ذلك وهو يعلم أنه ليس له أهل ولا أولاد.
(3) يريد بذلك عائشة وحادثة الإفك لعنه الله.
(4) ومريم جاءت بولد.
(5) سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي ج17: 191-192.
(6) طبعة دار الجيل.(1/48)
يقول المستشرق (دي لا بوليه) عن هذا السفر في كتابه (الدراسات المقارنة للأديان): "إن كتاب الفصل في الملل والأهواء والنحل يشهد بسعة اطلاع ابن حزم؛ إذ أفرد فيه حيزاً كبيراً للمسيحية وفرقها, أورد فيه ملخصاً عن نشأة كل فرقة ومدى انتشارها، ثم اليهودية وأحبارها".
ثم أضاف: "إن هذه البيانات على إيجازها تعدّ بالغة الدقة"(1).
وقال عنه ابن حبان: "ولهذا الشيخ أبي محمد مع اليهود لعنهم الله ومع غيرهم من أولي المذاهب المرفوضة من أهل الإسلام مجالس محفوظة وأخبار مكتوبة, ثم إنه رأى أن الاطلاع على نصوص كتبهم يقوي موقفه وينفي عنه تهمة الجهل بما يوردونه عليه من آراء فقرأ التوراة وهي الأسفار الخمسة الأولى"(2).
[5] شفاء الغليل في بيان ما وقع في التوراة والإنجيل من التبديل لإمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني المتوفى 478هـ،وهو عبارة عن رسالة صغيرة مطبوعة(3)ومحققة.
[6] الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم الشهير بابن تيمية (661 – 728هـ)، وهذا الكتاب مطبوع ويشتمل على أربعة أجزاء في مجلدين كبيرين وهناك محاولة لتحقيقه وترجمته للغتين الإنجليزية والفرنسية يقوم بها فضيلة الدكتور سفر الحوالي, نسأل الله إن يُيسّر ذلك.
[7] هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى للإمام العلامة شمس الدين محمد بن أبي بكر الشهير بابن قيم الجوزية المتوفى 751هـ. وابن القيم هو أحد تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية النبهاء, ومن العلماء الربانيين, وكتابه هذا مطبوع. قال ابن القيم: "ما بأيدي النصارى من الدين باطله أضعاف أضعاف حقه، وحقه منسوخ".
__________
(1) مقدمة الفصل في الملل والأهواء والنحل ص21.
(2) المصدر السابق.
(3) طبع رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء – الرياض.(1/49)
وقد بين ابن القيم سبب تأليفه لهذا الكتاب فقال: "ومن بعض حقوق الله على عبده ردُّ الطاعنين على كتابه ورسله ودينه ومجاهدتهم بالحجة والبيان, والسيف والسنان, والقلب والجنان وليس وراء ذلك حبة خردل من الإيمان".
[8] إظهار الحق للإمام العلامة الشيخ رحمه الله بن خليل الرحمن العثماني الكيرانوي (1232 – 1308هـ), وهذا الكتاب عبارة عن مجلدين كبيرين, وهو مطبوع, عُني بطبعه الشيخ عبد الله بن إبراهيم الأنصاري على نفقة الشؤون الدينية بقطر, والشيخ رحمة الله هو مؤسس المدرسة الصولتية بمكة المكرمة. قوام هذا الكتاب مناظرة بين الشيخ رحمه الله و(القس فندر) عليه لعنة الله, الذي جاء من إنجلترا إلى بلاد الهند، مبشراً بنصرانيته ومدافعاً عنها، وقام بجولات في مديريات الهند المختلفة يخطب في المجامع ويدعو إلى النصرانية.
وقد حرص الشيخ رحمة الله على مناظرة (القس فندر) كل الحرص، فراسله كما يقول الشيخ أبو الحسن الندوي في تقديمه لهذا الكتاب، فراسله في هذا الموضوع وألحَّ عليه بالظهور أمام الجمهور وعلماء المسلمين ولما رأى القس أنه لا بد له من المناظرة قبلها.
بدأت المناظرة في 11 رجب 1270هـ الموافق 10/4/1854م في أكبر آباد أكره، إحدى مديريات الولاية الشمالية الرئيسية، وإحدى مجالات النشاط التبشيري في الهند في حي من أحيائها يعرف بحارة عبد المسيح.
حضر المناظرة عدد كبير من حكام وقضاة وموظفي المديرية، وحضر القس فندر والقس وليم كلين، وعدد كبير من أعيان البلد ووُجهائه من المسلمين والنصارى، وتناولت المناظرة خمس قضايا هي: التحريف في الكتاب المقدس العهد القديم والعهد الجديد، وقوع النسخ، التثليث، نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وصدق القرآن وصحته.
وتقرر أنه إذا انتصر الشيخ رحمه الله يدخل فندر في الإسلام, وإن كان العكس تنصر الشيخ، فما كان من القس إلا أن اعترف بوقوع التحريف في ثمانية مواضع من الإنجيل.
[(1/50)
9] العلمانية نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة، للشيخ الدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي، وهذا الكتاب سفر ضخم، هو عبارة عن رسالة الشيخ في درجة التخصص الأولى (الماجستير)، وكان المشرف على الرسالة فضيلة الشيخ محمد قطب، وقد أوصت لجنة المناقشة بطبعه؛ فطُبع على نفقة الجامعة في مجلَّدٍ ضخم(1).
[10] الأستاذ أحمد ديدات ومناظراته للعديد من القسس، ومحاضراته لإثبات تحريف وتناقض دين أهل الكتاب من يهود ونصارى.
خاتمة
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه, غير مكفيٍّ ولا مودَّع ولا مستغنىً عنه ربنا, الحمد لله على هدايته، وإعانته وتوفيقه، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وأزواجه وذريته وآله وصحبه، عدد خلقه وزنة عرشه ورضا نفسه ومداد كلماته.
وبعد..
فإن بعض الإخوة الكرام يستعظمون النقد والمناصحة لبعض العاملين في مجال الدعوة الإسلامية، وغيرهم من العلماء والدعاة وطلاب العلم، سواء كان هذا النقد للأفكار والآراء، مهما كانت درجة شذوذها ومخالفتها، أو كان في الأصول أو في الفروع, لظنهم – زادهم الله حرصاً – أن ذلك سيؤدّي إلى فتنةٍ، وإلى تفرق الجهود وإحداث حزازات وإحن في النفوس.
__________
(1) 728 صفحة.(1/51)
وهذا لعَمْرُ الله من الأخطاء الفاحشة الفادحة، ومن باب الحرص الذي لا مبرِّر له ولا داعي له، وما عَلِم هؤلاء أن الفتنة أعظمَ الفتنة وأشدَّها في ترك المناصحة في أمور الدين، ومجاملة الأشخاص ومداراتهم حيث لا تجوز المجاملة والمداراة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة) ثلاثاً قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: (لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)(1)، فقد أوجب الله لى عباده النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين من علماء وحكام وعامتهم على قدر الطاقة, ورحم الله عمر رضي الله عنه حين دعا لمن نصحه، واعتبرَ من باب الإهداء الذي يُشكَر عليه, فقال: رحم الله امرءاً أهدى إليَّ عيوبي.
إن من أوجب حقوق الله على عباده - بعد توحيده وعدم الإشراك به - ردَّ الطاعنين على الإسلام، ومقارعتهم بالحجة والبيان.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله - مبيناً بعض حقوق الله على عباده - : (ومن بعض حقوق الله على عبده ردُّ الطاعنين على كتابه ورسوله ودينه، ومجاهدتهم بالحجة والبيان، والسيف والسنان، والقلب والجنان، وليس وراء ذلك حبة خردل من الإيمان)(2)، وهذا هو المراد بالنصيحة لله وكتابه ورسوله.
هناك أمور لا يجوز السكوت عنها, بل يجب الردُّ عليها في الحال على من كان أهلاً لذلك, وهناك مسائل يجوز أن يُغضَّ الطرْف عنها, وهناك أشياء يحرم التحدث عنها علناً.
__________
(1) متفق عليه من رواية جرير بن عبد الله البجلي – مسلم: رقم45.
(2) هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى ص10.(1/52)
فالمسائل التي يجب الردُّ عليها على الكفاية: الطعن في أصول الدين, والتشكيك في الثوابت, والإتيان بالأقوال الشاذة التي تخرق الإجماع القولي والعملي. ومثال ذلك: مسألة بحثنا هذا وما شاكلها, خصوصاً لو صدرت ممن له أتْباعٌ وشيع يقلِّدونه فيما يقول, فالسكوت مع هذه الحال جريمة لا تغتفر، والخطيئة التي يجب أن يُشْهَر ويعلن إنكارها مهما كانت الظروف والملابسات.
أما المسائل التي يمكن أن يغض الطرف عنها فهي الخلافات الفقهية والأمور الاجتهادية التي تتسع لذلك.
أما المسائل التي يحرم التحدث عنها علناً فهي المسائل الشخصية والسلوكية فلا بد لنا إذاً من التفريق والتمييز بين هذا وذاك فإن لكلِّ مقامٍ مقالاً، وصدق من قال:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا ... مضرٌ كوضع السيف في موضع الندى
فالأقوال الشاذة والبدع المنكرة، والطعن في أصول الدين، والتلاعب بما أجمع عليه المسلمون أمور يتعين على بعض طلاب العلم الرد عليها في الحال, لكي لا ينخدع بها الجهال, ثم يصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً.
وهذا ليس من باب الغيبة, ولا من باب الطعن والتشكيك في الدعاة, ولا هو سبب للتفريق والتشتيت الذي نهانا عنه الشرع, بل هو نصحية يجب إسداؤها, وإذا سكتُّ عنها وسكت أنت وسكت هذا ولم يتكلم ذاك فمن لها؟
رحم الله إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل وقدس الله روحه, إذ قيل له بسبب جرح وتعديل الرواة: لا تغتب العلماء فقال: ويحك هذه نصيحة, ليس هذا غيبة.
وقال كذلك رادّاً على من تحرَّج من عملية الجرح وقال: إنه يثقل علي أن أقول فلان كذا وفلان كذا قال: "إذا سكتَّ أنت وسكتُّ أنا فمتى يعرف الجاهل الصحيح من السقيم؟"(1).
وقال بعض الصوفية لابن المبارك: تغتاب؟ قال: اسْكُتْ، إذا لم نبيِّن كيف نعرف الحق من الباطل؟(2).
__________
(1) الجامع لآداب الراوي والسامع ج2: 260، ومجموع الفتاوي ج28: 231.
(2) تدريب الرواي للسيوطي ج2: 369.(1/53)
فالنصحية دين وحق يجب أن يؤدى مهما كان الشخص قريباً أم بعيداً عنك، عالماً كان أم غير عالم، صالحاً كان أم طالحاً.
ورحم الله علماء السلف من هذه الأمة؛ فقد كان الحق أحبَّ إليهم من كلِّ شيء, وها هو علي بن المديني من أئمة الجرح والتعديل يُسأل عن أبيه هل يؤخذ بروايته أم لا؟ فيقول لمن سألوه: سلوا عنه غيري، فأعادوا المسألة، فأطرق ثم رفع رأسه وقال: هو الدين, إنه ضعيف.
حقاً إنه الدين الذي يجعل الولاء أولاً وأخيراً لله وحده لا لولدٍ ولا لوالد, ولا لإمام مذهب, ولا لقائد جماعة, ولا لشيخ طريقة, وما فعله الإمام عليٌّ فعله أبو داود الإمام صاحب السنن, إذ قال عن ابنه: "ابني عبد الله كذاب".
ونحو من ذلك: قول الذهبي في ولده أبي هريرة: إنه حفظ القرآن ثم تشاغل عنه حتى نسيه.
ومن قبل فعله أمير المؤمنين عليٌّ محذراً من تزويج ابنه الحسن رضي الله عنه: الحسن مزواج مطلاق لا تزوجوه.
ومن قبل سيد الخلق, عندما استشارته فاطمة بنت قيس في الزواج من معاوية أو أبي الجهم، قال لها: أما معاوية فصعلوك لا مال له, وأما أبو الجهم فلا يضع العصا عن عاتقه, ولكن انكحي أسامة بن زيد.
ورحم الله مالكاً الإمام حين قال: لقد أدركت في هذا المسجد سبعين شيخاً لو استسقى بهم الناس لسقوا، ما أخذت منهم حديثاً واحداً؛ لأنهم ليسوا من أهل هذا الشأن.
وقال يحيى بن معين رحمه الله: إنا لنطعن في أقوام لعلهم حطوا رواحلهم في الجنة أكثر من مائتي سنة.
هذا بالنسبة لمن يطعن في الدين أو يشكك في أصوله, أو يخشى من الانخداع به.
أما بالنسبةلما يصدر عنه بعض العلماء الأثبات من هفوات وسقطات في مسائل الفروع، وفي الأمور الاجتهادية خاصة لمن تجاوز القنطرة منهم (وثبتت إمامته وعدالته وكثر مادحوه وندر جارحوه) فلا يلتفت إلى جرحه لأن المناقص خبث والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث.(1/54)
ورحم الله الخطيب البغدادي حين قال: "ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل - يعني من غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام - إلا وفيه عيب, ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه فمتى كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله"(1).
أما إذا كان الماء قليلاً جداً لا يسدُّ الرمق ولا يزيل الغصة وحلت به النجاسة فإنه ينجس، وهكذا هؤلاء المشككون هم الذين ينبغي أن يجرحوا ويشرحوا ويكشفوا، ليعرفوا على حقيقتهم, والاشتغال بالردِّ على هذا الصنف عبادة وقربى إلى الله.
ورحم الله أحمد الإمام قيل له: الرجل ليصوم ويصلي ويعتكف أحبُّ إليك, أو يتكلم في أهل البدع؟ فقال: "إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه, وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين, وهذا أفضل".
والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.
المراجع
الإٍسلام والحضارة الغربية للدكتور محمد محمد حسين، الطبعة الأولى 1399هـ، 1979م، طبع المكتب الإسلامي.
إظهار الحق، تأليف العلامة رحمة الله بن خليل الرحمن العثماني الكيرانوي، تحقيق عمر الدسوقي، طبع على نفقة الشؤون الدينية بدولة قطر.
اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية (661- 728هـ)، طبع دار الفكر بيروت.
بدائع الفوائد، لابن قيم الجوزية المتوفى 751هـ، طبع دار الفكر.
الجامع لأحكام القرآن، للإمام القرطبي، طبع دار الفكر.
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، لشيخ الإسلام ابن تيمية (661- 728هـ)، طبع مطابع المجد التجارية.
حصوننا مهددة من داخلها، للدكتور محمد محمد حسين، الطبعة الثانية عشرة 1413هـ، 1993م، دار الرسالة.
زاد المعاد في هدى خير العباد، للإمام محمد بن أبي بكر المشهور بابن قيم الجوزية (691-751هـ)، تحقيق شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط، الطبعة الخامسة عشرة 1407هـ، 1987م، مؤسسة الرسالة ومكتبة المنار الإسلامية.
__________
(1) الكفاية للخطيب البغدادي ص79.(1/55)
سير أعلام النبلاء للإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي المتوفى 574هـ، الطبعة السابعة 1410هـ، 1990م، تحقيق شعيب الأرناؤوط ومحمد نعيم العرقسوسي، مؤسسة الرسالة.
شفاء الغليل في بيان ما وقع في التوراة والإنجيل من التبديل، للإمام عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني الشهير بإمام الحرمين المتوفى 478هـ، تحقيق وتعليق الدكتور أحمد حجازي السقا، طبع رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء، الرياض1402هـ، 1983م.
العلمانية: نشأتها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة، للدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي، الطبعة الأولى 1402هـ،1982م، دار مكة للطباعة والنشر والتوزيع.
غزو من الداخل، للأستاذ جمال سلطان، الطبعة الأولى 1412هـ، 1991م، دار الوطن.
الفصل في الملل والأهواء والنحل، للإمام أبي محمد علي بن أحمد المعروف بابن حزم الظاهري المتوفى 456هـ، تحقيق الدكتور مجد ابراهيم النصر والدكتور عبد الرحمن عميرة، طبع دار الجيل،بيروت.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للقاضي أبي محمد عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (481-546هـ)، تحقيق المجلس العلمي بفاس، طبع 1413هـ،1992م.
الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة، الندوة العالمية للشباب الإسلامي، الرياض، الطبعة الثانية 1404هـ، 1983م.
هداية الحياري في أجوبة اليهود والنصارى، للإمام محمد بن أبي بكر ابن القيم المتوفى751هـ، طبع 1409هـ، 1983م.
الولاء والبراء في الإسلام، تأليف الدكتور محمد سعيد القحطاني، الطبعة السادسة 1413هـ، دار طيبة، مكة، الرياض.
المجلات والصحف والنشرات
مجلة الشرع: العدد 651 بتاريخ 24/أكتوبر/1994م
أخبار السودان – خلاصة الصحافة السودانية : العدد 22 بتاريخ الأربعاء 16/11/1994م والعدد 23 بتاريخ الأربعاء 23/11/1994
مجلة الملتقى السودانية.
جريدة الشرق الأوسط بتاريخ الاحد 16مايو 1993م.(1/56)
جريدة السودان الحديث : العدد 1725 بتاريخ 6جمادي الأول 51415 الموافق 11/10/1994م.
محاضرة للدكتور الترابي في مؤتمر حوار الأديان بعنوان (الحوار بين الأديان – التحديات والآفاق).
ميثاق الحوار الديني في السودان.
ميثاق السودان: الوطن الوحدة والتباين – في جمادي الأولى 51407 1987م الجبهة الإسلامية القومية.(1/57)