سلسلة أعمال القلوب
التفكر
للشيخ : خالد بن عثمان السبت
التفكر
بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء و المرسلين نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين أما بعد ،،
فحديثنا اليوم بإذن الله عز وجل عن موضوع شريف وكل هذه الموضوعات المتعلقة بالأعمال القلبية شريفة
حديثنا أيها الإخوة و الأخوات عن التفكر و هذا الحديث ينتظم تسع نقاط ..
الأولى : و هي الكلام عن معناه و حقيقته
و الثانية : في الفرق بينه و بين التذكر
و الثالثة : في بيان أهميته و فضله
و الرابعة : في ذكر بعض ما ورد في الكتاب و السنة عن هذا الموضوع
و الخامسة : في مجالات التفكر و أبوابه
و السادسة : في ذكر معوقاته
و السابعة : كيف نربي أنفسنا على التفكر
و الثامنة : في بيان ثمراته و آثاره السلوكية
و التاسعة : السلف و التفكر
أما أولاً: و هو معنى التفكر فيمكن أن يقال هو تردد القلب في الشيء تقول تفكر إذا ردد قلبه عليه معتبراً و الفكر هو التأمل و إعمال الخاطر في الشيء فالتفكر إذن هو تصرف القلب في معاني الأشياء لإدراك المطلوب هذا هو التفكر .
و أما ثانياً: و هو ذكر الفرق بينه و بين التذكر فأقول إن ذلك من وجهين(1/1)
الأول أن الذكر يتعلق بالله عز و جل و أما التفكر فيكون في دلائل عظمته و في مخلوقاته فالله عز و جل هو الحق و لا يمكن لأحد أن يتفكر في ذات الله عز و جل لأن إدراك ذلك ممتنع على العقول فالعقول لا تحيط بخالقها جل جلاله فهو أعظم من أن يحاط به و إنما نتفكر في جوانب عظمته و دلائل قدرته و نتفكر في آياته المشاهَدة و المتلُوة و نعتبر في ذلك و الله عز و جل يقول ( الذين يذكرون الله قياماً و قعوداً و على جنوبهم و يتفكرون في خلق السماوات و الأرض ) و ذلك أن التفكير و التقدير إنما يكون في الأمثال المضروبة و المقاييس و الأمور التي تدركها العقول و تعرف كنهها و حقيقتها فيتفكر فيها الإنسان بحسب ما يراه و ما يشاهده و ما يدركه عقله أما الله تبارك و تعالى فليس له شبيه و لا نظير و من ثَم فإن العقول لا تصل إلى إدراك كنهه سبحانه و تعالى لأن أصل التفكر إنما يبنى على ما يشاهده الإنسان أو ما يشاهد نظيراً له فنحن نتفكر بالأمور التي نعرف بها عظمة الله و الأمور التي نعرف بها أوصاف كماله كما أننا نتفكر في دلائل وحدانيته و قدرته و نتفكر أيضاً في جوانب مما يمكن أن يصل إليه عقل الإنسان و أما ذات الرب فهي أعظم من أن نحيط بها و قد ذكر هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله في كتابه الفتاوى .(1/2)
الوجه الثاني أن التذكر في الواقع هو ثمرة التفكر و هو نتيجته فالتذكر أعلى من التفكر لأن التفكر هو في الواقع طلبٌ للتذكر فالتفكر يكون بتحريك العقل و إجالته في الأمور من أجل أن يحصل الإنسان التذكر فالأمور التي تحصل للإنسان بالتفكر و هي التذكر تكون حاصلة عنده لكن إذا أجال عقله فيها فإنه يسترجعها و يستذكرها إن كان قد نسيها فهو كالذي يفتش عن شيء ثم يظفر به فالمتفكر هو الذي يفتش و هذا الظفر هو التذكر الذي حصل للإنسان فالذكر يقابله الغفلة و النسيان و حقيقته ( حقيقة التذكر ) هو حضور صورة المذكور العلمية في القلب و لهذا يقال له تذكر على بناء التفَعُّل ( على وزن التفَعُّل ) لأنه يحصل بعد مهلة و تدرج كما تقول التبصر و التعلم و التفهم فإنه يحصل شيئاً بعد شيء . إذن يكون التذكر من التفكر بمنزلة حصول الشيء المطلوب بعد التفتيش عنه و لهذا كانت آيات الله المتلوة و المشهودة ذكرا ،كما قال الله عز و جل في المتلوة ( و لقد آتينا موسى الهدى و أورثنا بني إسرائيل الكتاب هدىً و ذكراً لأولي الألباب ) و قال عن القرآن ( و إنه لتذكرة للمتقين ) و أما الآيات المشهودة فقال عنها ( أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها و زيناها و ما لها من فروج و الأرض مددناها و ألقينا فيها رواسي و أنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة و ذكرى لكل عبد منيب ) فالتبصر هو آلة البصر و التذكرة هي آلة الذكر و قد قرن الله عز وجل بينها و جعلهما لأهل الإنابة لأن العبد إذا أناب إلى الله أبصر مواقع الآيات و العبر فاستدل بها على ما هي آيات له فزال عنه الإعراض و الغفلة بالإنابة و يزول عنه العمى بالتبصرة و تزول عنه الغفلة بالتذكرة لأن التبصرة توجب له حصول صورة المدلول في القلب بعد غفلته عنها فترتب المنازل الثلاثة بهذه الطريقة يكون على أحسن وجه ثم إن كلاً منها كما يقول ابن القيم - رحمه الله - يمد صاحبه و يقويه و يثمره و الله عز وجل يقول في(1/3)
آياته المشهودة ( و كم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشاً فنقبوا في البلاد هل من محيص إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع و هو شهيد ) و ذلك أن الناس ثلاثة: رجل قلبه ميت فهذا الذي لا قلب له .. فهذا ليست هذه الآية ذكرى في حقه ، و الثاني رجل له قلب حي مستعد لكنه غير مستمع للآيات المتلوة التي يخبر بها الله عن الآيات المشهودة إما لعدم ورودها أو لوصولها إليه و لكن قلبه مشغول عنها بغيرها فهو غائب القلب ليس حاضرا .. فهذا لا تحصل له هذه الذكرى مع استعداده و تهيئه و وجود قلبه ، و الثالث رجل حي القلب مستعد تُليت عليه الآيات فأصغى بسمعه و ألقى السمع و أحضر قلبه و لم يشغله بغير فهم ما يسمعه فهو شاهد القلب ملقي السمع .. فهذا القسم هو الذي ينتفع بالآيات المتلوة و المشهودة ، فالأول بمنزلة الأعمى الذي لا يبصر و الثاني بمنزله البصير الطامح ببصره إلى غير جهة المنظور إليه فكلاهما لا يراه و الثالث بمنزلة البصير الذي قد حدق إلى جهة المنظور و أتبعه بصره و قابله على توسط من البعد و القرب فهذا هو الذي يراه و لهذا قال الله عز و جل ( تبصرة و ذكرى لكل عبد منيب ) ( لمن ألقى السمع و هو شهيد ) فالحاصل يكون التفكر بهذا الاعتبار هو طلب القلب ما ليس بحاصل من العلوم من أمر هو حاصل منها .. هذا حقيقته فإنه لو لم يكن ثمّ مراد يكون مورداً للفكر استحال الفكر لأن الفكر بغير متعلَّق متفكر فيه محال و تلك المواد هي الأمور الحاصلة و لو كان المطلوب بها حاصلاً عنده لم يُتفكر فيه فإذا عُرف هذا فالمتفكر ينتقل من المقدمات و المبادئ التي عنده إلى المطلوب الذي يريده فإذا ظفر به و تحصّل له تذكر به و أبصر موضع الفعل و الترك و ما ينبغي إيثاره و ما ينبغي اجتنابه فالتذكر إذن هو مقصود التفكر و ثمرته فإذا تذكر عاد بتذكره على تفكره فاستخرج ما لم يكن حاصلاً عنده فهو لا يزال يكرر بتفكره على تذكره و بتذكره على تفكره مادام(1/4)
عاقلاً لأن العلم و الإرادة لا يقفان على حد بل هو دائماً سائر بين العلم و الإرادة .
ثالثاً في بيان أهميته و فضله .
التفكر أيها الإخوان هو أحسن ما تنفق فيه الأنفاس و تبذل فيه الأوقات و تشغل فيه العقول سواء كان ذلك في التفكر بآيات الله عز و جل و عجائب صنعه و الانتقال منها إلى تعلق القلب و الهمة به دون شيء من مخلوقاته أو كان ذلك بالنظر في أحوال النفس كما سيأتي أو في غير ذلك من الأمور النافعة التي ينبغي للعبد أن يتبصر بها و أن يتفكر فيها فالتفكر هو أصل الخير و الشر فالإنسان قد يتفكر في أمور تودي به إلى المهالك و قد يتفكر في أمور يحصل له بسببها أو بسبب هذا التفكر فيها تحصل له النجاة و ذلك أن الفكر هو مبدأ الإرادة و الطلب و هو مبدأ الزهد و مبدأ الحب و مبدأ البغض و الإنسان إنما يعمل عادة بعد أن يجيل فكره و بعد أن ينظر ثم بعد ذلك يقدم على العمل يقول ابن عيينة رحمه الله : الفكر نور يدخل فلبك و يقول عامر ابن عبد القيس: سمعت غير واحد و لا اثنين و لا ثلاثة من أصحاب محمد - صلى الله عليه و سلم - يقولون : إن ضياء الإيمان أو نور الإيمان التفكر . و قد قيل لإبراهيم النخعي رحمه الله إنك تطيل الفكر فقال: الفكر مخ العقل و يقول ابن عباس: ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من ليلة بلا قلب يعني خير من قيام ليلة بلا قلب و هذا صحيح لأن الإنسان ليس له من صلاته إلا ما عقل كما أخبر النبي - صلى الله عليه و سلم - بل قال محمد ابن كعب القرضي رحمه الله: لئن أقرأ في ليلتي حتى أصبح بإذا زلزلت و القارعة لا أزيد عليها و أتردد فيها أتفكر، أحب إلي من أن أهذّ القرآن ليلتي هذاً أو أنثره نثراً . يعني أنه يقرأ إذا زلزلت و يتبصر و يتفكر فيها أفضل في نظره من أن يقرأ القرآن كاملاً لكن بطريقة الهذ التي لا تبصر بها و لا تفكر و لا اعتبار و يقول الحسن البصري: تفكر ساعة خير من قيام ليلة . و جاء عن بعض السلف تفكر ساعة خير من عبادة(1/5)
ستين سنة. و هذا لا شك أن فيه مبالغة و لكن إنما نذكر من هذا ما يوقظ القلوب و ينبه على أهمية هذا المطلوب هذا هو المقصود . قيل لسعيد ابن المسيب ما رأيت أحسن مما يصنع هؤلاء (رجل يحكي له أناساً ويصفهم و يقول أفضل من هؤلاء في صنيعهم) فقال له سعيد و ما يصنعون قال: يصلي أحدهم الظهر ثم لا يزال صافاً رجليه حتى يصلي العصر فقال: ويحك أما و الله ما هي بالعبادة إنما العبادة التفكر في أمر الله و الكف عن محارم الله . طبعاً لا شك أن هؤلاء في عبادة و أنهم في عمل صالح و هو من أجل الأعمال الصالحة لكن سعيد ابن المسيب رحمه الله أراد أن ينبه المتكلم على أمر لعله قد غفل عنه و هو التفكر و التبصر و هو أساس هذا العمل الذي عمله هؤلاء فإنهم لم يصبروا على هذا التعب و الصلاة من بعد صلاة الظهر إلى صلاة العصر .. لم يصبروا على هذا إلا بعد التفكر فإن العبد إذا تفكر حثه ذلك - كما سيأتي - إلى العمل الصالح و الزهد في الدنيا و التشمير في طاعة الله تبارك وتعالى و لهذا يقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله الفكر في نعمة الله عز و جل من أفضل العبادات و هذه الآثار بين وجهها ابن القيم رحمه الله بقوله: لأن الفكرة عمل القلب و العبادة عمل الجوارح و القلب أشرف من الجوارح فكان عمله أشرف من عمل الجوارح. هكذا فسر ذلك و علله أن المفاضلة باعتبار المتعلَّق فالأعمال المتعلقة بالعضو الشريف أشرف من غيرها فالصلاة و الصوم و ما إلى ذلك تتعلق بالجوارح و التفكر يتعلق بالقلب فعمل القلب أفضل من عمل الجوارح. فهذا وجه في المفاضلة لكن يمكن أن يقال إنه لا يوصل إلى هذه الأمور من التشمير في طاعة الله عز و جل أصلاً إلا بعد أن يتفكر الإنسان و يتبصر و ينظر و يعمل عقله أما الغافل فإنه لا يعمل شيئاً من ذلك .
رابعاً: التفكر في الكتاب و السنة ..(1/6)
الآيات و الأحاديث التي جاءت في هذا المعنى كثيرة، تارة يأمر بذلك و تارة ينبه على فضله و يثني على هؤلاء الذين يتفكرون و تارة يتوعد الغافلين الذين لا يفكرون و لا يعملون عقولهم في آيات الله عز و جل و ما يمر بهم من العبر و العظات الله يرشدنا إلى النظر في خلق السماوات و الأرض و خلق الكواكب و الأفلاك و الرياح و الأمطار و تصريفها و النبات و الحيوان و الإنسان و دقة خلق الله له و الجبال و الأفلاك و غيرها مما سخرها الله عز و جل في هذا الكون و من ذلك قول الله تبارك و تعالى ( إن في خلق السماوات و الأرض و اختلاف الليل و النهار و الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس و ما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها و بث فيها من كل دابة و تصريف الرياح و السحاب المسخر بين السماء و الأرض لآيات لقوم يعقلون ) و يقول ( هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب و منه شجر فيه تسيمون . ينبت لكم به الزرع و الزيتون و النخيل و الأعناب و من كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون . و سخر لكم الليل و النهار و الشمس و القمر و النجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون . و ما ذرأ لكم في الأرض مختلفاً ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون . و هو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً و تستخرجوا منه حلية تلبسونها و ترى الفلك مواخر فيه و لتبتغوا من فضله و لعلكم تشكرون . و ألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم و أنهاراً و سبلاً لعلكم تهتدون . و علامات و بالنجم هم يهتدون . أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون ) و يقول ( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت . و إلى السماء كيف رفعت . و إلى الجبال كيف نصبت . و إلى الأرض كيف سطحت ) بل أمرهم الله عز وجل بالنظر و الإنفراد و الاجتماع في هذا النظر فقال ( قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى و فرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة ) فالله عز و جل يأمر بتدبر كلامه و التفكر(1/7)
في مخلوقاته و النظر في العبر و العظات في هذا و هذا و إنما دعا الله عز و جل لذلك ليطلع خلقه على حكمه البالغة التي فيها المصالح و المنافع التي تنبئ عن علم و خبرة و قدرة و قوة و إرادة و ما إلى ذلك من أوصاف الكمال فمن نظر في هذا القرآن و تدبر فيه و تفكر عرف أنه من عند الله عز و جل و أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه و أن الخلق لا يمكن أن يأتوا بمثل هذا القرآن و إذا نظر أيضاً فيه و اعتبر دله على الطريق المنجية .. دله على الآخرة و به يعرف المعبود بأسمائه و صفاته الكاملة و به ينزه ربه عما لا يليق و به يعرف أمور كثيرة فالله يلفت أنظار خلقه إلى هذا الاعتبار و التفكر يقول الله عز و جل في سورة ق ) أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها و زيناها و ما لها من فروج . و الأرض مددناها و ألقينا فيها رواسي و أنبتنا فيها من كل زوج بهيج . تبصرة و ذكرى لكل عبد منيب ) ثم قال ( و نزلنا من السماء ماء مباركاً فأنبتنا به جنات و حب الحصيد . و النخل باسقات لها طلع نضيد . رزقاً للعباد و أحيينا به بلدة ميتاً كذلك الخروج ) ثم ذكر أحوال المكذبين و ما وقع بهم من النقم و ما حل بهم من المثلات فهو يرشدنا إلى النظر في هذه الآيات إلى العالم العلوي و بنائه و ارتفاعه و استوائه و حسنه و التئامه و إلى العالم السفلي و هو الأرض و كيف بسطها و هيأها بالبسط لما يراد منها و ثبتها بالجبال و أودع فيها المنافع و أنبت فيها من كل صنف حسن من أصناف النبات على اختلاف أشكاله و ألوانه و مقاديره و منافعه و صفاته و أن ذلك تبصرة إذا تأملها العبد المنيب و تبصر بها تذكر ما دلت عليه مما أخبرت به الرسل من التوحيد و المعاد فالناظر فيها يتبصر أولاً ثم يتذكر ثانياً و أن هذا لا يحصل إلا لعبد منيب إلى الله بقلبه و جوارحه ثم دعاهم إلى التفكر في مادة أرزاقهم و أقواتهم و ملابسهم و مراكبهم و جناتهم و هو الماء الذي أنزله من السماء و(1/8)
بارك فيه حتى أنبت به جنات مختلفة فيها أنواع الثمار و الفواكه ما بين أبيض و أسود و أحمر وأصفر و حلو و حامض و بين ذلك مع اختلاف منابعها و تنوع أجناسها ثم إن الله عز و جل يدعوا عباده في القرآن إلى معرفته من طريقين ، أحدهما النظر في مفعولاته جل جلاله و الثاني النظر في آياته و تدبرها فتلك آياته المشهودة و هذه آياته المسموعة المعقولة فالنوع الأول كقوله ( إن في خلق السماوات و الأرض و اختلاف الليل و النهار و الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ... ) الآيات. و كقوله ( إن في خلق السماوات و الأرض و اختلاف الليل و النهار لآيات لأولي الألباب ) و هو كثير في القرآن و الثاني كقوله ( أفلا يتدبرون القرآن ) و كقوله ( أفلم يدبروا القول ) و كقوله ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته ) و هو كثير أيضاً . و أما المفعولات ( مفعولات الرب جل جلاله ) فهي كذلك أيضاً تدل على أفعاله و الأفعال دالة على الصفات فإن المفعول يدل على فاعل الفعل و ذلك يستلزم وجوده و قدرته و مشيئته و علمه لاستحالة صدور الفعل الإختياري من معدوم أو موجود لا قدرة له و لا حياة أو لا علم و لا إرادة ثم ما في هذه المفعولات من التخصيصات المتنوعة .. إرادة الفاعل لها و ما فيها من المصالح و الحكم و الغايات المحمودة(1/9)
دال على حكمته تعالى، و ما فيها من النفع و الإحسان و الخير دال على رحمته، و ما فيها من البطش و الانتقام و العقوبة دال على غضبه، و ما فيها من الإكرام و التقريب و العناية دال على محبته، و ما فيها من الإهانة و الإبعاد و الخذلان دال على بغضه و مقته، و ما فيها من ابتداء الشيء في غاية النقص و الضعف ثم سوقه إلى تمامه و نهايته دال على وقوع المعاد، و ما فيها من أحوال النبات و الحيوان و تصرف المياه دليل على إمكان المعاد أيضاً وما فيها من ظهور آثار الرحمة و النعمة على خلقه دليل على صحة النبوات، و ما فيها من الكمالات التي لو عدمتها كانت ناقصة دليل على أن معطي تلك الكمالات أحق بها . فمفعولاته جل جلاله من أدل شيء على صفاته و صدق ما أخبرت به رسله عنهم، فالمصنوعات شاهدة تصدق الآيات المسموعة و هي منبهة على الاستدلال بالآيات المصنوعات . قال تبارك و تعالى ( سنريهم آياتنا في الآفاق و في أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) أي أن القرآن حق فأخبر أنه لابد من أن يريهم من آياته المشهودة ما يبين لهم أن آياته المتلوة حق وهذا ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى يقول عطاء: انطلقت يوماً أنا و عبيد ابن عمير إلى عائشة رضي الله تعالى عنها فكلمتنا و بيننا و بينها الحجاب فقالت يا عبيد ما يمنعك من زيارتنا قال: قول رسول الله صلى الله عليه و سلم ( زر غباً تزدد حباً ) قال ابن عمير فأخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه و سلم، قال فبكت و قالت: كل أمره كان عجباً أتاني ليلة ثم قال ذريني أتعبد لربي عز و جل فقام إلى القربة فتوضأ منها ثم قام يصلي فبكى حتى بلّ لحيته ثم سجد حتى بلّ الأرض ثم اضطجع على جنبه حتى أتاه بلال يؤذنه بصلاة الصبح فقال يا رسول الله ما يبكيك و قد غفر الله ما تقدم من ذنبك و ما تأخر؟ فقال: لقد أنزلت علي الليلة آيات و يل لمن قرأها و لم يتدبر فيها ( إن في خلق السماوات و الأرض و اختلاف الليل و(1/10)
النهار لآيات لأولي الألباب ) و قد أخرج الشيخان من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: بت عند خالتي ميمونة فتحدث رسول الله صلى الله عليه و سلم مع أهله ساعة ثم رقد فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء فقال: ( إن في خلق السماوات و الأرض و اختلاف الليل و النهار لآيات لأولي الألباب ) ثم قام فتوضأ و استن فصلى إحدى عشرة ركعة ثم أذن بلال فصلى ركعتين ثم خرج فصلى الصبح .
خامساً : مجالات التفكير..
الأمور التي يجري فيها التفكير و يتعلق بها، أو قبل ذلك لعل من المناسب أن أذكر لكم الأمور التي سأذكرها تحت هذا العنوان و هي مجالات التفكير ..
أولها: الأمور التي يجري فيها هذا التفكير و يتعلق بها، الثاني: محال التفكير ، الثالث: و هو الإرشاد إلى صرف الهمة في التفكير بما يعني، الرابع: فكر في مخلوقات الله و لا تفكر و ذاته، الخامس: أنفع الفكر، السادس:تفكر في كل ما حولك، السابع: التفكير الضار و المذموم .متى يكون التفكير ضاراً؟
أما أولاً و هو الأمور التي يجري فيها التفكير و يتعلق بها و ذلك أربعة أمور ..
الأول: الغاية المطلوبة..الهدف.. يعني أن يفكر الإنسان في الهدف الذي يريد أن يصل إليه.
الثاني: أن يفكر في الوسيلة الموصلة لهذا الهدف..الآلية التي يتحقق بها هذا الهدف.
الثالث: و هو المضرة التي يجتهد في إبعادها و مجانبتها.(1/11)
الرابع: الطريق و الوسيلة التي يستطيع بها التخلص من هذه المضرة و المفسدة بحيث لا يقع فيها. فهذه أربعة أمور هدفان و وسيلتان الهدف الأول الغاية المطلوبة من وسيلة تحقيقها و الهدف الثاني الغاية المرهوبة مع وسيلة النجاة و التخلص منها، فهذه الأمور التي يجري فيها تفكير العقلاء لا يتعدى هذه الأمور الأربعة مهما كانت مطلوباتهم و مهما جنّحت أفكارهم إلا الذين يسبحون في الخيال فسيأتي الحديث عنهم لكن الذي يفكر في أمور عملية في أمور يريد أن يحققها و أن يحصلها سواءً كانت ضارة أو نافعة سواءً كانت محمودة أو مذمومة هو إما أن يكون ذلك هدفاً له فيفكر فيه أو يكون ذلك من قبيل الوسيلة لهذا الهدف المطلوب أو يكون ذلك هدفاً مرهوباً أو يكون ذلك من قبيل التفكير في الوسيلة التي يتخلص بها من هذا الأمر أو الغاية المرهوبة.(1/12)
ثانياً: التفكير له منزلان أو محلان لا ثالث لهما، التفكير إما أن يكون في الدنيا ( في أمور الدنيا ) و إما أن يكون في أمور الآخرة ( الأمور التي تقربه إلى الله عز و جل ) و أبناء الدنيا جعلوا جهدهم و ذكائهم و تفكيرهم منصباً على الدنيا من المناحي الأربعة التي ذكرتها.. الهدف عندهم ..الغاية التي يريدون تحصيلها هي دنيوية، و الوسيلة التي يريدون التوصل بها بطبيعة الحال هي من الدنيا و الأمر المرهوب عندهم هو أمر دنيوي و الوسيلة أيضاً. هي قضية دنيوية .. يعني أهل الدنيا مثلاً ماذا يريد هذا الإنسان؟ يفكر أن يكون غنياً..هذه هي غاية عندهم، و الوسيلة ما هي المشاريع التي يمكن أن .. يفكر دائماً ما هي المشاريع الناجحة التي يمكن أن يتوصل بها إلى هذا المطلوب، و كذلك الغاية المرهوبة عنده كالفقر مثلاً.. فهو لا يريد أن يكون فقيراً معدماً.. فهو دائماً يفكر في الأمور التي يمكن أن تجلب له الفقر فيحاول أن يتلافاها وقد يخطئ كثيراً فيظن أن الصدقة من الأمور التي ترثه فقراً أو كثرت الأولاد فيقلل الأولاد وهكذا في ألوان التجارات والمعاملات فهو يتخوف غاية التخوف على هذا المال فلا يدخل في مشروع أو معاملة أو تجارة أو غير ذلك إلا بعد أن يقتله درساً وبحثاً وتفتيشاً و تنقيرا لئلا يقع في أمر مكروه فهؤلاء هي غايتهم وإذا جاء يوم القيامة تبينت وحقت الحقائق تبين لهم ما هم عليه وتبينت حقيقة الربح و الخسارة ( وخسر هنالك المطلون ) وأما أهل الآخرة فإن غايتهم هي رضا الله هي الجنة فهم يفكرون ما هي الأمور التي توصل إلى الجنة والغاية المرهوبة هي النار وسخط جبار جل جلاله ويفكرون في الأمور التي توصل إلى النار والأمور التي تنجي منها هذا همهم وتفكيرهم(1/13)
ثالثاً: ينبغي للعاقل أن يصرف همته في التفكير فيما يعنيه و إذا فعل ذلك يكون قد في أبواب التفكير المحمود الذي ينفعه وتحصل منه العواقب الطيبة الحميدة سواء كان دنيوية أو أخروية وأما إذا أشغل همه وعقله بالتفكير في أمور تضره فإن ذلك يؤذن بخراب بدنياه وبخراب آخرته ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله (أنفع الدواء أن تشغل نفسك بالفكر فيما يعنيك دون ما لا يعنيك فالفكر فيما لا يعني باب كل شر ومن فكر في ما يعنيه فاته ما يعنيه و اشتغل عن أنفع الأشياء له بما لا منفعة له فيه فالفكر والخواطر والإرادة والهمة أحق شيء بإصلاحه من نفسك فإن هذي خاصتك وحقيقتك التي لا تبتعد أو تقترب من إلهك و معبودك الذي لا سعادة إلا في قربه ورضاه إلا بها وكل الشقا في بعدك عنه وسخطه إليك فأقول إذا كان العبد مشتغلا بما يعنيه فإنه يسلم بإذن الله عز وجل إلى المتاهات و العقائد الفاسدة والخواطر الرديئة والاسترسال مع وساوس الشيطان التي نقول إنها لا تضره إذا كان مجرد خواطر أما إذا استرسل معها و استمر يفكر فيها فإنها قد تعلق في قلبه فتكون بعد ذلك عقائد و هكذا نقول أول الأمر هو خاطرة تحصل في ذهن العبد ثم بعد ذلك تتحول هذه الخاطرة إلى فكرة ثم تتحول هذه الفكرة إلى عزيمة ثم تتحول هذه العزيمة إلى عمل واقعي في الخارج فمن كان شغله في التفكير فيما هو بصدده و فيما يعنيه فإنه يسلم له دينه و تسلم له دنياه و أما إذا دخل في متاهات كما سيأتي في التفكير في أمور لا تعنيه و لم يطالب بالتفكير بها فإن ذلك يؤذن بهلاكه(1/14)
و أما رابعاً: و هو أن التفكير إنما يكون في مخلوقات الله عز و جل و لا يكون التفكير في كنه ذاته.. يكون التفكير في دلائل عظمته و وحدانيته و قدرته و الأمور التي يعرف العبد بها ألوان كماله جل جلاله و لهذا قال ابن عباس: تفكروا في كل شيء و لا تفكروا في ذات الله، و يقول إسحاق ابن راهويه: لا يجوز لأحد أن يتوهم على الخالق بصفاته و أفعاله توهم ما يجوز التفكر و النظر في أمر المخلوقين و ذلك أنه يمكن أن يكون موصوفاً بالنزول كل ليلة إذا مضى ثلثاها إلى السماء الدنيا كما شاء و لا يُسأل كيف نزوله لأنه الخالق يصنع كيف شاء.فإذا دخل الإنسان في مالا يعنيه في هذا الباب فأنه يقع في شبهات كما يقول بعض الناس كيف ينزل إلى سمائنا الدنيا، و الليل و النهار يختلفان من محل إلى محل فنقول هذا التفكير لا يعنيه فإذا دخل العبد فيه أورثه شبهات و شكوك لكن لو أنه فكر في هذا الأثر الوارد في نزول الرب جل جلاله في ثلث الليل الآخر تفكر فيه من جهة ما يعنيه فإن ذلك يحمله على قيام الليل و الابتهال إلى الله عز و جل و الدعاء و التضرع إليه جل جلاله
خامساً: أنفع التفكير ..(1/15)
التفكير يتفاوت منه ما هو ضار و منه ما هو نافع و النافع من التفكير أيضاً يتفاوت فمنه ما هو أعظم نفعاً و منه ما هو دون ذلك، فأنفع التفكير هو التفكير في مصالح المعاد.. الآخرة و في طرق اجتلابها و في دفع مفاسد المعاد و في طرق اجتنابها فهذه أربعة أمور تُنزل على الأمور الأربعة التي ذكرتها في أول الكلام في مجالات التفكير، أنفع التفكير أن تفكر في الغاية المحمودة في الآخرة و كيف تحصل على مطلوبك فيها ( وسيلة ) و أن تفكر في الغاية المرهوبة في الآخرة و أن تفكر في الأمور التي تتخلص بها من هذه الغاية المرهوبة فهذه أربعة أمور هي أجل الأفكار كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى و يليها أربعة أولها فكر في مصالح الدنيا ويعقبها التفكير في وسيلة ذلك وهذا هو الثاني كيف نحصل مصالح الدنيا والثالث التفكير في مفاسد الدنيا ويعقبه الرابع وهو وسيلة ذلك التفكير في الوسيلة التي نتلافى فيها مفاسد الدنيا ونحترز من ذلك فهذه ثمانية أمور تدور عليها أفكار العقلاء.. الغاية المطلوبة في الآخرة.. الوسيلة الموصلة إليها.. الغاية المرهوبة في الآخرة.. الوسيلة المفضية إلى ذلك.. الغاية المطلوبة في الدنيا.. الوسيلة المفضية إليها..الغاية المكروهة في الدنيا.. الوسيلة المنجية منها.. العقلاء يفكرون في هذه الأمور الأربعة أما الأول و هو ما يتعلق بالآخرة فرأسه الفكر في آلاء الله و نعمه و أمره و نهيه و طرق العلم به و بأسمائه و صفاته من كتابه و سنة نبيه صلى الله عليه و سلم و ما والاهما و هذا الفكر يثمر لصاحبه المحبة و المعرفة فإذا فكر في الآخرة و شرفها و دوامها و في الدنيا و خستها و فنائها أثمر له ذلك الرغبة في الآخرة و الزهد في الدنيا و كل ما فكر في قصر الأمل و ضيق الوقت أورثه ذلك الجد و الاجتهاد و بذل الوسع في اغتنام الوقت و هذه الأفكار تعلي همته و تحييها بعد موتها و سفولها و تجعله في وادٍ و الناس في واد، و من المعلوم أيها الإخوة(1/16)
و الأخوات أن من يتطلب شيئاً و يسعى لتحصيله لمحبته له و إيثاره لهذا الشيء على غيره و يجتهد غاية الجهد و يبذل غاية الوسع في الظفر به فإن ذلك يعني تعلقه بهذا الشيء و أنه يحبه و يقدمه و يؤثره على غيره هذه المحبة هي التي تبعثه على العمل و الجد في تحصيل هذا المطلوب و هكذا كلما كان يبغض شيئاً فإنه ينفر منه و ينفر من الأسباب التي توصله إليه و يتعاطى الأسباب التي تباعده عنه فالحاصل أن من أحب الله عز و جل محبة استغرقت عليه قلبه فإنه يسعى جاهداً لتحصيل مرضاته و لا يفكر في شيء إلا في هذا المطلوب و هو تحصيل مرضاة الرب ما هو الذي يرضيه.. و ما هو الذي يحبه.. و ما هي الأمور التي يكرهها.. إن اتصف العبد بها فيتجنب ذلك وهذا شيء مشاهد في محبة الخلق لأهل الدنيا فإن من أحب أحداً من الناس امرأة أو غير ذلك فإنه يبحث عن الأمور التي يحبها هذا المحبوب فيسعى لتحصيلها و ينظر في الأمور التي تنفره منه فيسعى لمجانبتها و لا يمكن أن يتصف بها فالحاصل أن الإنسان الذي قد ملئت محبة هذا المحبوب قلبه لا يشغل فكره إلا في الأمور التي تقربه إليه و في النظر في الأمور التي تباعده عنه و هو بهذا الاعتبار بالنسبة لله عز و جل يكون متفكراً في أوصاف كمالاته سبحانه و تعالى و يتفكر أيضاً في أفعال الرب جل جلاله و في إحسانه و بره و لطفه و كذلك أيضاً إذا نظر في حال نفسه فهو يفكر في الأمور التي يكرهها ربه فيتجنب ذلك و يتفكر أيضاً في الصفات التي يحبها ربه أن توجد فيه فيتصف في هذه الصفات فالفكرتان الأولتان توجبان له زيادة محبته وقوتها وتضاعفها والفكرتان الآخرتان توجبان له محبة محبوبه له وإقباله عليه وقربه منه وعطفه عليه وإيثاره على غيره فالمحبة التامة مستلزمة لهذه الأفكار الأربعة فالفكرة الأولى والثانية تتعلق بعلم التوحيد وصفات الإله المعبود سبحانه وأفعاله والثالثة والرابعة تتعلق بالطريق الموصلة إليها وقواطعها و آفاتها و ما يمنع(1/17)
من السير فيها إليه فتفكره في صفات نفسه يميز له المحبوب لربه منها من المكروه له وهذه الفكرة توجب ثلاثة أمور الأول أن هذا الوصف هل هو مكروه مبغوض لله أم لا الثاني هل العبد متصف به أم لا الثالث إذا كان متصفاً به فما طريق دفعه والتخلص منه والرابع إن لم يكن متصفاً به فما طريق حفظ الصحة و الوقاية و العافية من هذا الأمر.. كيف يحترز منه و كذلك الفكرة في الصفة المحبوبة التي يحبها الرب تستدعي ثلاثة أمور الأول: أن هذه الصفة هل هي محبوبة لله عز و جل مرضية له.. التي تريد أن تعملها الثاني: هل العبد متصفاً بها.. إذا كان يحبها الله هل اتصفت بها الثالث: أنه إذا كان متصفاً بها فما طريق حفظها و دوامها الرابع: إن لم تكن متصفاً بها فما طريق التخلق بها و تحصيلها ثم فكرة العبد في الأفعال أيضاً على هذين الوجهين و مجاري هذه الأفكار و مواقعها كثيرة جداً كما يقول ابن القيم رحمه الله لا تكاد تنضبط يقول و أنا أحصرها في ستة أجناس الأول في الطاعات الظاهرة الثاني في الباطنة الثالث في المعاصي الظاهرة الرابع في الباطنة الخامس في الصفات و الأخلاق الحميدة السادس في الصفات و الأخلاق الذميمة هذه ستة أمور..طاعات ظاهرة طاعات باطنة.. معاصي ظاهرة معاصي باطنة.. أخلاق حميدة و أوصاف..أخلاق ذميمة و أوصاف.. فهذه مجاري التفكير في صفات النفس و في أفعال النفس أما التفكير في صفات الخالق سبحانه و تعالى و في أفعاله و أحكامه فهذا يوجب له التمييز بين الإيمان و الكفر..و التوحيد و الشرك..و الإقرار و التعطيل.. و تنزيه الرب عما لا يليق به و وصفه بما هو أهله من الجلال و الإكرام و مجاري هذه الفكرة تدبر كلامه و ما تعرّف به سبحانه إلى عباده على ألسنة رسله من أسمائه و صفاته و أفعاله و ما نزه نفسه عنه مما لا ينبغي له و لا يليق به سبحانه و تعالى و تدبر أيامه و أفعاله في أوليائه و أعدائه التي قصها على عباده و أشهدهم إياها ليستدلوا بها على(1/18)
أنه إلههم الحق المبين الذي لا تنبغي العبادة إلا له و يستدل بها على أنه على كل شيء قدير و أنه بكل شيء عليم و أنه شديد العقاب و أنه غفور رحيم و أنه العزيز الحكيم و أنه الفعال لما يريد.. إلى آخر ما ذكر ابن القيم رحمه الله في مفتاح دار السعادة و بهذا نعلم أن أعلى الأفكار أو أعلى التفكير و أنفع التفكير هو ما كان لله و للدار الآخرة كالتفكير في آيات الله المنزلة و فهمها و فهم مراد الله عز و جل منها و قد أنزلها لذلك من أجل أن نتدبر بها و أن نتفهمها لا لمجرد التلاوة فالتلاوة وسيلة إلى هذا المطلوب و لهذا قال بعض السلف أنزل القرآن ليعمل به فاتخَذوا تلاوته عملاً و من ذلك أيضاً التفكير في آيات الله المشاهدة والاعتبار بها للاستدلال بها على أسمائه و صفاته و حكمته و إحسانه و بره و جوده و قد حث الله عز و جل على ذلك و ذم من غفل عنه و هكذا أيضاً التفكير بآلائه و إحسانه و إنعامه على خلقه بأنواع النعم و بسعة مغفرته و رحمته و حلمه فهذه ثلاثة أنواع إذا حصلت للعبد حصل له معرفة المعبود سبحانه و تعالى فأحبه و خافه و إذا داوم العبد على هذا التفكير فإن قلبه ينصبغ في المعرفة و المحبة صبغة تامة.. تستولي الرغبة في الآخرة على قلب هذا العبد و من ذلك أيضاً التفكير في عيوب النفس و آفاتها و في نقائص عمله و تقصيره فيه فهذا يحتاجه العبد ليدفع عن نفسه العجب و الغرور و الاسترسال على الخطأ و الاسترسال مع الضياع و الضلال و المعصية و البدعة و ما إلى ذلك فإذا تفكر العبد في عمله و نقصه و عجزه و ضعفه و ما إلى ذلك انكسر شموخه فلا يحصل له التعالي و الكبر و العجب و تنكسر نفسه الأمارة بالسوء فإذا كُسرت هذه النفس الأمارة بالسوء قويت النفس المطمئنة و نشطت للعمل الصالح و صار التدبير لها فيحيا القلب و ينشغل العبد في الأمور الطيبة النافعة التي تقربه إلى الله عز و جل و من ذلك أيضاً التفكير في واجب الوقت كما يسميه ابن القيم رحمه(1/19)
الله و وظيفته و جمع الهم عليه فالعارف ابن قلبه ففرص الخير قد لا تعود و الحياة دقائق و أنفاس تتردد ثم لا ترجع إليه ثانية فيحتاج العبد إلى أن يفكر في كل لحظة تمر به ما هو الأجدى و الأنفع في أن تستغل فيه فإذا جاء موسم الحج فإن الأفضل أن يبادر في الحج و إذا دعا داعي الجهاد فإن الأفضل أن يبادر إلى الجهاد و إذا دعي إلى الصدقة فالأفضل هو الاشتغال بالصدقة و هكذا فهو بكل وقت يتبصر و يتفكر في الأمور التي هي أجدى و أنفع في هذا الوقت دون غيره لأن جميع المصالح إنما تنشأ من الوقت كما ابن القيم فمتى أضاع الوقت لم يستدركه و لذلك يقول الشافعي رحمه الله صحبت الصوفية فلم تقطع هذا الوقت بطاعة الله عز و جل فإنه سيكون نقصاً عليك و حسرة يوم القيامة و أما الفائدة الثانية التي استفادها منهم و هي أن النفس إن أشغلتها بالحق و إلا أشغلتك بالباطل و لهذا يقول النبي صلى الله عليه و سلم: ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة و الفراغ ) لأن الإنسان إذا كان صحيحاً ومتفرغاً فإن نفسه تتحرك لمعصية الله عز وجل والظلم والإفساد وأما إذا كان العبد مريضاً فإنه ولو كان فارغاً فإنه لا ينشط إلى المعصية وهكذا إذا كان صحيحاً لكنه لم يتفرغ مشغول فإن نفسه أيضاً لا تنبعث إلى معصية الله عز وجل فعلى كل حال الوقت يمر بالإنسان مروراً سريعاً أعظم من مر السحاب فإذا كان أنفاس العبد في طاعة الله عز وجل فهو إن سكت فهو يتفكر وقد يعمل بجوارحه مع إعمال فكره فما كان من وقتك لله وبالله فهو حياتك في الحقيقة وعمرك وأما ما عدا ذلك فليس محسوباً من حياتك لأن الإنسان يعيش فيه عيش البهائم فإذا قطع العبد وقته في الغفلة والشهوة والأماني الفارغة وأقل ذلك أن يقطعه بالنوم والبطالة يقول ابن القيم: فموت هذا خير له من حياته، وذلك أن العبد إذا كان في صلاته ليس له إلا ما عقل منها كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فكذلك ليس له من العمر إلا ما كان فيه(1/20)
بالله ولله وماعدا هذه الأقسام من الخطرات والأفكار فهي إما وساوس شيطانيه و إما أماني باطلة وخدع كاذبة بمنزلة خواطر المصابين في عقولهم من السكارى والمحشوشين والموسوسين ولسان حال هؤلاء يقول (عند كشاف الحقائق) إن كانت منزلتي في الحب عندكم ما قد لقيت فقد ضيعت عيان وكقول الآخر أمنية ظفرت به نفسي زمنا واليوم أحسبها أضغاث أحلام فإذا كان العبد لا يفكر في الأمور الثمانية التي ذكرتها من قبل فإنه يعيش في خيال ويعيش في ما يسميه علماء النفس أن يصح يقال عنهم علماء فيم يسميه هؤلاء بأحلام اليقضة كما سيأتي إيضاحه فعلى كل حال الإنسان في صراع دائم الملك يلهمه ويكون عن يمين القلب والشيطان يوسوس له ويكون عن شمال قلبه وهو بحسب ما غلب عليه والحرب ضروس مستمرة لا تضع أوزارها حتى تخرج الروح فإذا مات الإنسان انتهى الصراع والمعركة الدائرة التي استمرت عمر هذا الإنسان كم عاش في هذه الحياة الدنيا فالمعركة على قدر هذا الصراع الذي كان في أيامه ولياليه من غير توقف والنصر مع الصبر و من صبر وصابر ورابط واتقى الله فله العافية في الدنيا والآخرة(1/21)
سادساً: تفكر في كل ما حولك هذا بعض السلف يقول إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله علي فيه نعمه ولي فيه عبرة يقول كل شيء أراه إذا سقط فانكسر قال الحمد لله انكسرت رجلي ولم تنكسر رقبتي وإذا شُج قال الحمد لله إنها شَجه وليست موته وإذا تعطلت سيارته قال الحمد لله إنها تعطلت بنفسها ولم يحصل ذلك بأذية لأحد بأن تصطدم به فيحصل الضرر مضاعفاً هذا في الأمور التي يكرهها وأما في الأمور التي يحبها فحدث و لا حرج في كل أمر يرى لله عز وجل فيه نعمه ويرى فيه عبرة فاجعل هذا خلق لك تعود على ذلك كما سيأتي في الأمور التي يُحصّل بها هذه الخصلة وهي التفكير عود نفسك على التفكير في كل ما حولك و الاعتبار والنظر وإعمال العقل ولا تكن من الغافلين إذا جلست على الطعام فكر في هذا الطعام كيف وصل إليك وصل من وراء البحار ألوان الفواكه والثمار لا يعرفها أهل تلك الديار لفقرهم وعجزهم عن تحصيلها وتجبى إليك حتى تكون بين يديك ألم تفكر في هذا فكر في حال هؤلاء الذين لا يجدونه فكر في حال آبائك وأجدادك حينما كان الواحد منهم يمص النوى وليس ذلك في وقت بعيد فكر حينما كانوا لا يجدون شيء يأكلونه فلربما خرج الواحد منهم من الجوع علّ أحداً يدعوه إلى طعام فكر حينما كانوا يضعون العظام التي تكون من الأضحية إلى الأضحية يضعونها في كل مرة في الطعام علّهم يجدون طعماً لشيء من هذا الدسم الذي هو مستجمع بين يديك تبدي تبرمك به و امتعاضك منه فكر في هذه الأشياء فكرفي اللائق تجاه هذه النعم ألست ستحاسب عليها الذي أعطاك إياها وحرمها آخرين أليس بقادر على أن يرفعها عنك وأن يجعلك تسمع بها ولا تراها ولا تعرفها إطلاقاً فكر في أن هذه الأمور.. هذه النعم.. هذه المائدة متنوعة الأصناف.. تستوجب منك ألوان العبوديات لله عز وجل ولهذا لما جاء سفيان الثوري إلى عبد الرزاق الصنعاني في اليمن فأطعمه من زبيب الطائف وأطعمه شيء من اللحم فماذا قال(1/22)
سفيان الثوري قال أعلف الحمار وكُدّه فقام تلك الليلة يصلي إلى الصبح ليقابل هذه النعمة التي أنعم الله عز وجل بها عليه وكان شعبة ابن الحجاج.. الجبل المعروف.. من حفاظ السنة.. كان يقول إذا أعلفت الحمار فكُدّه فكان إذا أكل جَدّ في العبادة.. فكر في كل شيء إذا صعدت في الطائرة فكر..انظر إلى هذا السحاب كالجبال و تذكر عظمة الله عز و جل و وصفه له بهذه الصفة أنه كالجبال ثم فكر.. انظر إلى الأرض التي تحتك ماذا ترى المدن..صغيرة جداً و انظر إلى حال الناس فيها.. السيارات كاللعب تتحرك بطريقة منتظمة و لربما رأيتها جميعاً تعرض عن ناحية ثم ترجع إلى طريقها كالنمل تماماً أو كالذر و ذلك لأكمة صغيرة جداً لا تُرى من أعلى لكنها بالنسبة إليهم كبيرة جداً لا يستطيعون أن يتجاوزوها و لربما لم تعمل فيها تلك الجرّافات فهم يبتعدون عنها.. هذه السيارات كم بذلوا فيها من الأموال و كم خططوا لشرائها و كم استشاروا و كم ذهبوا من مكان إلى آخر ليسألوا عن الأجود و الأفضل و الأسعار و ما إلى ذلك كم فرح بها صاحبها ثم انظر تفكر في حال هؤلاء الذين في داخلها.. القبيح و الجميل.. لا يظهر شيء من قبحهم و جمالهم و كم يفتن أقوام ببعض من أعطاه الله حسناً من هؤلاء المخلوقين من النساء.. هي في داخل هذه السيارة نقطة لا تستحق أن تُصرف الهمة عليها و أن يُجعل التفكير منصباً على هذه المخلوقة الضعيفة ثم انظر إلى أخلاق هؤلاء منهم الطيب الكريم الجواد و هو نقطة في داخل السيارة لا يظهر.. و منهم الغني و منهم الفقير و منهم صاحب الهموم و المشاكل و الألآم فكر فيما تراه من البيوت و المخططات و المصانع .. تجد صاحب هذا المصنع يأتي و يقف أمام مصنعه و كم عاش في أفكار و أحلام و تخطيط و دراسة جدوى قبل إقامة هذا المصنع و هو أشبه بعلبة الكبريت.. مصنع صغير.. يقف أمامه و لربما حرك مسبحته كأني أراه و كأنه مَلك مُلك قارون فرحاً بهذا المتجر أو المصنع.. انظر إلى(1/23)
هذه الأسواق و الدكاكين كأنها بيوت النمل و فيها الأقوات و الأرزاق و أمور الزينة و الأثاث انظر إلى هذه الأشياء التي فيها مما حوته من المجالس و المآكل و المشارب، هذا الكرسي الذي يجلس عليه الإنسان..كيف تراه من أعلى لا يبصر فالناس أشبه باللعب.. فكر في هذا تعرف قدر الدنيا و دناءتها فلا تصرف الأعمار في تحصيلها و التهافت عليها فهي أدنى من ذلك، إذا ذهبت إلى المقبرة.. فكر ماذا يتمنى هؤلاء الذين في القبور.. لو سئل أحدهم ماذا تريد؟ ماذا تتمنى؟ فماذا عسى أن يقول؟ فضع نفسك مكانه و اعمل العمل الذي يتمناه.. يتمنى سجدة لله عز و جل فلا ترجع إلى الغفلة، فكر حينما ترى صورة إنسان في أيام شبابه و ترى صورته في شيخوخته.. قد يُجرى مقابلة مع إنسان و توضع له الصور في صحيفة أو مجلة أو غير ذلك هذه الصورة أيام الشباب و هو في غاية النضارة و الحسن و إذا نظرت إليه في حال شيخوخته وجدت وجهه قد تجعد و ذبل و ذهب ما فيه من الحسن و البهاء و الوضاءة و ظهرت فيه أثار الأيام و الليالي ظهر فيه العجز و الضعف.. فكر في من رأيته قديماً ثم رأيته بعد مدة طويلة و قد احدودب ظهره و ضعف و تحول من القوة و الجلد إلى عجز ( ينوء إذا ما رام القيام و يُحمل) فكر في هذه الأمور و أنك إن بقيت ستصير إلى مثل ذلك.. فشمر من الآن بالأعمال الصالحة و لا تغتر بالدنيا فإن متاعها زائل، لا تغتر بالشباب فإنه سرعان ما يذهب و يتصرم فكر في حال الناس..في دنياهم الناس يقبعون الآن في بيوتهم و يكررون أمراً روتينياً.. إذا جاء الليل فالعشاء ثم ينامون و إذا جاء الصبح أفطروا ثم يذهبون إلى أعمالهم ثم يأتون و يتغدون ثم.. و هكذا ... إلى متى؟؟ ماذا ينتظرون في بيوتهم؟؟ يسكن في خمسمائة متر..ستمائة متر.. ألف متر.. و يسكن أناس من حوله.. إلى متى؟ ماذا ينتظر هؤلاء في هذه البيوت؟؟ ينتظرون الموت الذي يفنيهم كما أفنى الذين من قبلهم .. فكر.. فكر في هذا.. إذا رأيت الربيع و(1/24)
أعجبك و استهواك نباته و خضرته و نضارته و أزهاره.. فكر فيه بعد شهور.. كيف يضمحل و يتلاشى و يتحول إلى هشيم تذروه الرياح.. فهكذا الحياة الدنيا.. تبهج الإنسان.. يبني فيها بيتاً و يؤثث هذا البيت بأحسن الأثاث و يعجب به ثم بعد ذلك.. تمر الأيام ثم يبدأ يظهر له من عوراته و عيوبه ما لم يكن يتفطن له بل يزهد فيه و يمل هذا الشيء و تتوق نفسه إلى أمور أخرى و هكذا بلا انقطاع و الواقع أن الإنسان لا يُشبع نهمته إلا الجنة فمهما حصلت من متاع الدنيا فإن ذلك يصير إلى ملل فيزهده الإنسان و يمل منه و يبحث عن غيره و إن لم تعط شيئاً من ذلك فانظر إلى الذين أُعطوا منه و اسألهم سيقولون هذا البيت نحن نفكر أن نبيعه.. نحن نفكر أن نغيره.. هذا البيت فيه من العيوب كذا و كذا و كذا..نحن نتوق إلى حي أفضل..نحن نتوق إلى أثاث أحسن.. نحن نتوق إلى أمور أكبر..و لو بنوها لتاقت نفوسهم إلى غيرها و زهدوا فيما تاقوا إليه أولاً و هكذا دائماً.. فكر في هذا.. هذه طبيعة الحياة الدنيا.. فكر في لذاتك منصرمة و شهواتك و فكر في أتعابك.. هذا الإنسان الذي صادفته في وقت السحر و رأيته يأكل لأنه سيصوم ذلك اليوم تطوعاً و أنت لم تصم.. هذا الحدث مضى عليه شهور أو سنوات هل بقي من تعبه شيء؟ لو أنك صمت هذا اليوم؟ أيسرك صيامه؟ اللذات التي تأكلها و تتمتع بها و تلهوا.. أين هي؟ و إن كانت مباحة فضلاً عن الأمور المحرمة ، الناس الذين قضوا أعمارهم و شبابهم في ألوان المتع الباحة و المحرمة لو جئنا بواحد منهم الآن و قلنا له أخرج لنا الآن ما عند من المتع التي تتلذذ بها هذه الساعة.. ليس عنده منها شيء بل ليس عنده منها إلا الألم و الحسرة و الوحشة تصرمت و ذهبت.. و هذا الإنسان الآخر الذي يجلس بجواره قد قضى العمر في الصيام و القيام و الذكر و قراءة القرآن ماذا بقي من أتعابه؟ في السنة الماضية أو التي قبلها أو التي قبلها إذا كان صاحب لك يصوم يوماً و يفطر يوم ثم(1/25)
بعد ذلك انقضى العام و لم تفعل فعله.. اجلس معه و انظر ماذا بقي عنده من التعب؟؟ ماذا نقصه من أعضاء الجسد؟.. لم ينقه شيء و لم يبقى له من التعب شيء و إنما أورثه ذلك ارتياضاً على الطاعة و انشراحاً في الصدر و أنساً بالله عز و جل إضافة إلى ما له من أجر عند الله تبارك و تعالى.. و أنت ماذا أغنت عنك تلك الأيام التي فرطت فيها؟؟ ماذا أغنت عنك؟ كم نمت الليالي؟ ماذا أغنى عنك هذا النوم؟ هذا أمر ينبغي أن نخاطب به أنفسنا و أن نفكر فيه جيداً و يقول الإنسان لنفسه: إلى متى هذا التفريط؟؟ ! هل ستستمر على هذا التفريط؟! هذا الإنسان الذي لا يصلي الفجر إلا بعد طلوع الشمس إذا قام للعمل و يقول سأغير من واقعي لو سأل نفسه: كم مضى عليه من العمر و هو على هذه الحال؟ قد يجد أن الجواب محرجاً.. قد يكون مضى عليه عشرون سنة أو ثلاثون سنة أو أربعون سنة إذا سيمضي باقي العمر على هذه الطريقة.. انظر في عامك المنصرف - و نحن الآن في آخر العام - هل أنت راض عن عملك فيه و جدك في طاعة الله عز و جل و تحصيل معالي الأمور من العلم النافع و العمل الصالح.. هل أنت راض؟ حاسب نفسك.. و هل ستستمر على هذا النمط في العام القادم؟ فكر في خمس سنوات مضت.. العمر قصير.. فكر في خمس سنوات مضت.. أجري دراسة عليها.. هل الحال التي كنت فيها هي حال مرضية؟؟ هل يمكن بهذا النمط من العمل خلال خمس سنوات تصل إلى مطلوبك من العلم و العمل و رضوان الرب جل جلاله أو أنك تحتاج إلى المزيد و إصلاح الوضع و الحال؟ فكر في هذا.. فكر فيما مضى من العمر منذ أن بلغت سن التكليف إلى الآن.. هذا الوضع هو الذي يسرك في القبر؟؟ إذا كان الجواب بلا فابدأ حياة أخرى هؤلاء الذين يُصلى عليهم في كل فرض يتمنون ذلك فمادام أيها الإخوة و الأخوات هذا النفس يتردد فعليك أن تبادر. فكر في الغنى و الفقر.. الغنى و الفقر.. الناس كثير منهم يتوق إلى أن يكون غنياً.. ماذا عسى أن تفعل.. هل تستطيع أن(1/26)
تشرب اثنتين من هذه دفعة واحدة؟ قد لا تستطيع.. و لو شربته لتضررت.. لو أنك تملك مصانع الأرض من الملابس إذا لبست ثوبين ضحك عليك الناس و تأذيت من شدة الحر و الضيق و تضجر من هذا إذن ماذا عسى أن تصنع بهذه المصانع؟ الطعام.. ما هو القدر الذي يكفي للإنسان ..ما هو القدر الذي يكفيه.. كم يكفيك؟ كم من اللقم؟ كم من التمرات كما قدر عمر بن عبد العزيز لبني أمية ، كم يكفيك في اليوم؟ أخرج له كفاً من تمر قال يكفي هذا الإنسان في يومه قال: لا أدري فزاده فقال: يكفي هذا قال: نعم و زيادة قال: فعلى أي شيء يهلك نفسه. على أي شيء يهلك نفسه؟؟ يتهافت على الدنيا و يستميت و إذا فتح مصنعاً للأثاث فكر في مصنع لمواد البناء و إذا فتح مصنعاً للبناء فكر في فتح مصنع للخشبيات و إذا فتح مصنع للخشبيات فكر في فتح مصنع للحديد و إذا فتح مشروعاً في هذا فكر أن يفتح مطعماً ثم يفتح صالة أفراح ثم يفتح مكتبة ثم يفتح... ثم يفتح ثم يفتح.. إلى أي شيء؟ يقول لنحتاط قد يخسر هذا المشروع.. أبشر فلن تموت نفس حتى تستوفي رزقها و أجلها فاتقوا الله و أجملوا في الطلب.. لا تغتر بما تراه من العرَض الكثير هؤلاء لن يحملوا شيئاً منه في قبورهم و العمر أقصر من ذلك و لن يستطيع أن يأكل أكثر من غيره فالذي يملك عشرة ريالات يستطيع أن يشبع بالراحة و الذي يملك عشرة مليارات لا يستطيع أن يأكل أكثر منه.. لا يستطيع.. و انظر إلى حال كثير ممن أُعطي الغنى و اعتبر.. اعتبر بهم.. هذا الثوب الذي يلبسه ما الفرق بينه و بين ثوبك؟؟ قد يكون الثوب الذي تلبسه أفضل منه انظر إلى هذه العمامة التي تلبسها و انظر إلى كثير من الأغنياء قد تكون هذه العمامة التي تلبسها أفضل منها و قد لا يكون لك من الدخل أكثر من ألف ريال في الشهر فأنت في عافية و في نظافة و في ثياب لائقة و لم تبت ليلة و أنت جائع فكأنما حيزت لك الدنيا ماذا تريد أكثر من هذا.. الفرق بينك و بين هذا أن هذا يشقى بجمعها(1/27)
و يحاسب عليها يصيبه ما يصيبه من الهموم و الألآم و النكد في التفكير في حفظها و لذلك تجد من لا يملك من العرَض إلا القليل تجده في راحة.. راحة قلب.. الذي يملك العرض الكثير إذا سمع أن الاقتصاد قد يهتز.. أن أموراً قد تقع.. بدأ يفكر.. هل يحول هذه الكنوز إلى ذهب ( سبائك ) أو يحولها إلى دولارات أو يحولها إلى عملة أوروبية ( اليورو ) أو يحولها إلى ( ين ) و يأتيه من يشير إليه بعض الحذاق في زعمهم يقول اجعل بعضها في كذا و اجعل بعضها في كذا و اجعل بعضها في كذا و اجعل بعضها في كذا لا تجعل البيض في سلة واحدة بينما الآخر ينام قرير العين لا يعاني و لا يفكر في هذه الأمور و لا تخطر في باله إطلاقاً..(و ش يحول؟) يحول ثلاثة ألاف إلى ين أو إلى سبائك ذهب؟؟ هي ما تأتي له بقلادة فهو مرتاح ففكر في هذه الراحة.. فكر في هذا. و الأمور التي يمكن أن يفكر فيها الإنسان أكثر من ذلك.. العاقل يفكر في كل شيء..يفكر في كل شيء. انظر إذا مررت بمزرعة بأرض فيها نخل خاوية.. كم بذل أهلها في زرعها؟ و كم خططوا لذلك و كم سقوها من الماء.. و كم تعب صاحبها.. و كم تحدث مسروراً عنها و عن عددها و أخبر الناس بذلك.. ثم هي الآن خاوية على عروشها مجرد أعجاز لا رؤوس لها و لا ثمر.. تصرمت و انتهت و انقضت.. هذه حياة الإنسان التي لربما يغتر بها و يعجب بها ثم بعد ذلك يفارق ذلك كله.. إذا نازعتك الشهوات و دعت النفس إلى معصية الله عز و جل.. فكر.. فكر في مفاسد هذه المعصية الدنيوية ما تجره عليك من الألآم و الأوجاع و العلل أياً كانت هذه المعصية.. فكر فيها.. و فكر أيضاً فيما تجره عليك في الآخرة و فكر أيضاً أن الله ينظر إليك فلا تجعل ربك جل جلاله أهون الناظرين عليك أحياناً الإنسان يُحرج و يستحي أن يفعل ذلك أمام الناس فيستخفي منهم لكنه في الواقع لا يستحي من الله عز و جل و لا يستتر منه. إذا جذبتك امرأة و فتنت بها فكر في الأمور التي تقززك و تنفرك(1/28)
منها.. الأمور المستقذرة التي هي من طبيعة الإنسان ففي رأسه فقط خمس.. خمس من الأمور التي يصدر منها القذر.. في الرأس فقط الذي هو أشرف الأعضاء فضلاً عن غيره.. فكر في هذا.. لو جئنا بملكة جمال العالم قبل سبعين سنة أو ثمانين سنة من يتوق إليها و من يتزوجها لو دفعت هي إليه المهر؟ من؟! هذه كان يعجب فيها ملايين الناس في مشارق الأرض و مغاربها فالتي توجد الآن أيها الإخوان بعد مضي السنون لا يلتفت إليها أحد.. هذه حقيقة الدنيا ففتح عقلك و فكر و تبصر و لا تكن من الغافلين هذا التفكير بدلاً من أن تشغله بمعصية الله عز و جل و التفكير في ذلك مما يستثير النفس و يستفزها لفعل ذلك أشغل هذا التفكير في النظر في آيات الله الكونية و آياته المتلوة فإن التفكير إن لم يُشغل بهذه الأمور فإنه يشغل صاحبه في الأمور الضارة و العقل لا يتوقف.. دائم الجولان و الحركة ما قيل للفؤاد فؤاد إلا لتفؤده يعني لتوقده فهو دائم الفكر الخواطر و الإرادات.. حركته دائبة.. يمكن للإنسان أن يغمض عينه لكن لا يستطيع أن يسيطر على قلبه.. يمكن للإنسان أن يسد سمعه لكن لا يستطيع أن يسيطر على قلبه..لابد أن يتحرك هذا القلب فأشغله بالأمور النافعة لئلا يشغله الشيطان بالوساوس و الخواطر الرديئة فكر في الدنيا إذا دعتك النفس إلى معصية الله عز و جل و سرعة زوالها و انقضائها و انصرام لذاتها و شهواتها..و تذكر ما عند الله عز و جل من العوض و النعيم المقيم الدائم فكيف تقدم شيئاً زائلاً.. سريعاً عاجلاً يفنى على شيء أبدي ثابت لا يزول و لا يحول فلا أحد أيها الإخوان كما يقول ابن القيم رحمه الله يقدم هذا العاجل الزائل على الدائم إلا ساقط الهمة الدنيء المروءة ميت القلب و هذا تكون حسرته عظيمة إذا عاين الحقائق فإنه يقدم على الله عز و جل إقدام المفاليس و هذا من أوضح صور الغبن الداخلة تحت قول الله عز و جل ( ذلك يوم التغابن ) كل إنسان عنده رأس مال و هو هذه(1/29)
الأنفاس.. الدقائق و الثواني.. العمر فهذا جد و اجتهد و صرف رأس هذا المال في الأمور التي تبعده عن الله عز و جل و تورثه النار.. بذل الأموال و الجهود و الأفكار في تحصيل منزل في نار جهنم و الآخر بذل أنفاسه و نفسه و ماله في تحصيل منزل في الجنة ثم بعد ذلك يقدم هذا و هذا في يوم القيامة.. هذا قد اشترى منزلاً في النار و جد و اجتهد في تحصيله و هذا قد اشترى منزلاً في الجنة و جد و اجتهد في تحصيله فهذا يوم التغابن و أهل الجنة يتوارثون منازل أهل النار في الجنة و أهل النار يتوارثون منازل أهل الجنة في النار ذلك من أعظم الغبن.(1/30)
السابع: و هو التفكير الضار و المذموم و هو التفكير في ما لا يعني و يدخل في ذلك البعد عن الأمور الأربعة أو الثمانية التي يجري فيها التفكير.. الغايات المطلوبة.. الغايات المرهوبة.. وسائل هذه و هذه..دنيوية و أخروية ( اضرب أربعة في اثنين تكون النتيجة ثمانية ) فمن التفكير المذموم التفكير في أمور خارجة عن هذه الأمور الثمانية لا دنيا و لا آخرة فتفكيره ليس بواقعي إنما هو خيال أحلام اليقظة كما يقول ابن القيم رحمه الله في مفتاح السعادة.. فهو يعيش على الخيالات الرديئة و الأماني الباطلة كالفقير الذي يتخيل نفسه أنه من أغنى البشر.. جالس يفكر.. يحلم أنه أغنى الناس و يتخيل نفسه و هو يعطي و يأخذ و ينعم و يحرم و كذلك العاجز المقهور الضعيف حينما يتخيل نفسه من أقوى الملوك و يتصرف في البلاد و الرعية و يأمر و ينهى و يرسل الجيوش و يعقد الألوية فهذا كما يقول ابن القيم يقول: هذا من أفكار القلوب الباطولية و ليست الباطلة فقط.. الباطولية هذه من أفكار البطّالين الذين خرجوا عن الواقع و عن التفكير فيما يجدي و يثمر إلى السباحة في الخيال و عالم الوهم فهذا يقول مثل أفكار السكران و المحشوش و ضعيف العقل.. يقول فهذه الأفكار الدنيئة هي قوت الأنفس الخسيسة التي هي في غاية الدناءة يقول فإنها قد قنعت بالخيال و رضيت بالمحال و لا تزال هذه الأفكار تقوى بها و تتزايد حتى توجب لها آثاراً رديئة و وساوس و أمراضاً بطيئة الزوال و هكذا التفكير في الأمور التي لم نكلف بالبحث و التفكير فيها كالتفكير في ذات الله عز و جل و كنه صفاته هذه أمور لا يمكن الوصول إليها و لا يجوز للإنسان أن يفكر فيها و هكذا التفكير كما يقول ابن القيم في الصناعات الدقيقة التي لا تنفع بل تضر مثل الشطرنج و الموسيقى و أنواع الأشكال و التصاوير و هكذا التفكير في العلوم التي لو كانت صحيحة لم يحصل الفكر فيها كمالاً و لم يحصل صاحبه شرفاً عندما يحصلها كالتفكير في(1/31)
دقائق المنطق و الفلسفة فمهما بلغ الإنسان في هذه الأشياء فإنه لا يحصل شرفاً بل هي نقص في حقه و هكذا التفكير في الشهوات و اللذات و طرق تحصيلها فهذه أمور عاقبتها سيئة في الدنيا قبل الآخرة و الأمور المنغصة فيها إذا تبصر فيها العاقل يجد أنها أضعاف اللذات التي يجدها عند مقارفتها و هكذا التفكير بالفرضيات كالذي يفكر لو كان ملكاً ماذا سيصنع لو حصل كنزاً كيف سينفق هذا الكنز ثم يكون جدل.. تعطيني جزء منه أو ما تعطيني..أعطيك كذا..سأعطي فلان كذا فهو يسبح في هذه الفرضيات و هكذا الأفكار التي يسميها ابن القيم أو يضيفها في كتاب آخر من كتبه يضيفها إلى السفلة من الناس و هكذا التفكير في شؤون الناس الخاصة مثل دخل فلان كم؟ كم راتب فلان؟ كم يأتيه من أجار الشقة الفلانية؟ كم يأتيه من المحل الفلاني؟ كم علاوة فلان؟ كم رصيد فلان في البنك.. هذه أمور لا تعنيه و هي من شؤون الناس الخاصة و كان العرب يكرهون السؤال عن مال الإنسان.. أن يُسأل عن ماله كم عندك؟ أو السؤال عن ولده كم عندك من الولد فهذا لا شك أنه دخول في ما لا يعني و هكذا التفكير في الحيل التي يتخلص فيها من الأحكام الشرعية الربا حرام إذن ما هي الطريقة التي.. نفكر حتى نستحل هذا الربا و هذا المطلوب أنا أريد هذه السلعة الآن.. قيمة هذه السلعة مائة ألف.. لا أستطيع شرائها أقرضني مائة بمائة و عشرين يقول هذا ربا طيب إذن أنا اشتري هذه السلعة و أبسطها عليك هذا فكرة لكنها حيلة على الربا. الآجار المنتهي للتمليك كيف اخترعوه مع أنه لا يمكن أن ينسجم مع الضوابط و الأصول الفقهية و شروط البيع و حقيقته و صورته و هكذا فيما يسمونه بالقروض الإسلامية أو المباحة التي يحتالون فيها على الإنسان من أجل أن يحصلوا مطلوبهم فيحتالون فالتفكير في هذه الحيل لاشك أنه أمر سيء و مذموم و هكذا التفكير في بعض الأمور المفضولة كالتفكير في الشعر و أوزان الشعر و قوافي الشعر و أفانينه و المدح(1/32)
و الهجاء و الغزل و المراثي و نحوها فإنه يشغل الإنسان عن الفكر فيما فيه سعادته و حياته الدائمة و هكذا في أمور كثيرة تجدها في كتب الفقه و في غيره من أمور لا ينبني عليها عمل و لا يترتب عليها شيء من الأحكام فتجد الأصوليين مثلاً يناقشون كثيراً من القضايا و يعيدون فيها و يزيدون ثم بعد ذلك يقول إن هذه المسألة مما لا يبني عليه عمل و حينما نقول بأن التفكير في ذات الله عز و جل و في كنه صفاته أن ذلك يضر لا أعني بذلك الخواطر التي تخطر للإنسان يأتيه الشيطان و يقول من خلق كذا.. من خلق كذا..من خلق كذا ثم بعد ذلك قد يصل به إلى أمور لا تحمد فهذه الوساوس و الخواطر التي ترد لا يؤخذ الإنسان عليها فهي معفو عنها كما أخبر النبي صلى الله عليه و سلم و قال' الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة ' فهي في حقيقتها كما قال ابن القيم رحمه الله كالمار الذي يمر في الطريق فإن تركته ما ضرك و إن استدعيته و استوقفته و حادثته فقد تفتن فيه فحق هذه الخواطر أن تعرض عنها و لا تتوقف عندها ولا تسترسل مع التفكير فيها و إنما تعرض عن ذلك فتمر فهذه الأشياء تزعج القلوب الحية و أصحاب النفوس المطمئنة و أما أصحاب القلوب الأمارة بالسوء و القلوب المريضة أو الميتة فإنها لربما تسترسل معها و تعشعش فيها و كل ما سنح له خاطر من هذه الخواطر أو مر به أوقفه و حادثه و ناجاه حتى يتحول هذا الخاطر إلى عقيدة راسخة أو إلى شبهات مزعجة مقلقة تفسد عليه آخرته.
سادساً: ما هي معوقات التفكير أو التفكر من هذه الأمور التي تعوق هذا المطلوب انشغال الجوارح أن يبقى الإنسان مشغولاً طيلة الوقت فهو يقوم من الصباح الباكر يذهب إلى عمل مستمر إلى المغرب كما هو(1/33)
أنماط الحياة الغربية أشغلوه بهذه الطريقة لئلا يفكر يعمل كالآلة إلى المغرب ثم بعد المغرب يأتي مرهقاً متعباً لربما جاء و غير ملابسه ثم بدأ يفكر أين يذهب إلى أي الملاهي الليلية و المراقص و المسارح و دور السينما ثم يأتي كأنه خرقة من التعب فينام ثم يصبح بعد ذلك و يذهب إلى عمله بطريقة مكرورة رتيبة مملة لا يوجد معها وقت للتوقف و التفكير حتى يدركه الأجل ثم يموت بعد ذلك على خيبة و خسارة عظمى، و من ذلك من الأمور التي تعوق التفكير كثرة الخُلطة.. إنسان يختلط بالآخرين ويجلس معهم لا يكاد يتفرغ لنفسه و لا يخلو بها و إنما هو في اختلاط دائم و اجتماع فمثل هذا لا يحصل له وقت للتفكر فيفوت عليه الكثير و إنما ينبغي أن يأخذ من الخلطة بقدرها فهي كالملح للطعام إذا زاد فإنه يضره بعد ذلك و من ذلك أيضاً أن يصرف العبد همته في النظر في الأمور الظاهرة و يغتر بها و ينجذب إليها فهذا الإنسان ليس عنده عمق ما يصل إلى الحقائق و لا ينظر في مواطن العبر و إنما يغتر بظواهر الأمور فيرى هذا الإنسان يركب مركباً فخماً فيكفيه هذا للانبهار به و يرى هذا الإنسان يملك قصراً مشيداً فيكفيه هذا في الانبهار به و الإعجاب بأنماط حياته يرى الغرب قد أقاموا حضارة مادية كبرى فيكفيه هذا للانبهار بما عندهم ثم يتقمص أحوالهم و يتشبه بهم و يسعى للعيش في أكنافهم و مضاهاتهم في كل الأمور و يرى أن الصلاح و الفلاح و المخرج إنما هو في اقتفاء آثار هؤلاء القوم فهذا ينظر إلى ظواهر من الحياة الدنيا و لا يصقل غورها و لا يعرف حقائقها و هكذا الذي يشتغل عندما يقرأ القرآن.. يشتغل بالأمور اللفظية فقط.. في الألفاظ فتكون همته منصبة على مخارج الحروف و أحكام التجويد لربما تنطع في ذلك كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فليس له شغل إلا في الترقيق و التفخيم و الإمالة و النطق بالمد القصير و الطويل و المتوسط و غير ذلك. يقول شيخ الإسلام: فإن هذا حائل(1/34)
للقلوب و قاطع لها عن فهم مراد الرب من كلامه و كذلك يقول: شغل النطق بـ( أءنذرتَهم ) و ضم الميم من ( عليهم ) و وصلها بالواو و كسر الهاء أو ضمها و نحو ذلك و كذلك مراعاة النغم و تحسين الصوت و كذلك تتبع وجوه الإعراب و استخراج التأويلات المستكرهة التي هي بالألغاز و الأحاجي أشبه منها بالبيان و ليس المقصود بذلك أن التجويد مذموم و ينبغي الزهد فيه.. لا لكن المقصود أن تصرف جميع الهمة لذلك و أن يتنطع فيه الإنسان إلى حد يبالغ فيه فإن هذا مذموم و كذلك لو أخذه بالحد المعقول و لم تكن همته منصرفة إلى غيره يعني و ليس له هم إذا قرأ إلا أن يخرج الحروف من مخارجها و أن يأتي بأحكام التجويد و يعرض عن ما هو بصدده من تدبر القرآن و فهم معانيه بل إن الشاطبي رحمه الله كان يرى ألاّ يشتغل بالتفسير في البحث عن الدقائق و اللطائف و النكات البلاغية و إنما يذكر المعنى الأصلي الذي جاءت الآية بتقريره يقول لأن ذلك يفضي إلى ضياع المعنى المقصود الذي جاء القرآن لبيانه و هكذا أيضاً من الأمور التي تمنع من هذا التفكر امتلاء القلب بالأمور الفاسدة و الأخلاق الرديئة فيحرم الإنسان نعمة التفكير كما قال الحسن البصري رحمه الله في تفسير قوله تبارك و تعالى: ( سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق ) قال أمنعهم التفكر فيها .
سابعاً: كيف نربي أنفسنا على التفكر و أذكر في ذلك ثلاثة أمور..(1/35)
أولها و هو من أجلها الخلوة أن يخلو الإنسان بنفسه في بعض الوقت و يفكر في حاله.. في عمله و في سيره إلى الله عز و جل و هل مصيب أو مخطئ.. إذا أقدم على مشروع فإنه يفكر يجلس مع نفسه هل هذا العمل صحيح هل هو صواب.. هل فيه تبعة فهو دائم التفكير و النظر و قد ذكر عن لقمان أنه كان يطيل الجلوس وحده فسأله خادم له أو مولى فقال مجيباً عليه ' إن طول الوحدة أفهم الفكر و طول الفكر دليل على طريق الجنة ' و قد قال الحسن البصري رحمه الله ' طول الوحدة أتم للفكرة و طول الفكرة دليل على طريق الجنة '(1/36)
الأمر الثاني التعود.. عود نفسك أن تفكر.. عود نفسك أن تفكر.. إذا قرأت كلاماً فحلل هذا الكلام..ما معنى هذا الكلام؟ هل هذا الكلام مسلم؟ هل هذا صحيح؟ و لا تكون إمعة إذا قال الناس تقول إن أحسنوا أحسنت ما تسمعه في المجالس أعمل فكرك و عقلك هل هذا الكلام صحيح هل هو مبالغة؟ هل هذا الكلام عليه دليل؟ هل هذا الكلام له حجة أو أنه زائف أما أن يجلس الإنسان ببلادة في المجالس ثم يأخذ كل ما يقال فيها أو يقرأ في الأنترنت على أن كل ما يقال و يكتب أنه حقائق ثم يذهب و ينشر الأخبار التي لا مُعوَّل عليها و لا دليل عليها هذا خطأ و هو انحراف مع أنه لو أعمل فكره ببعض هذه الأمور أو هذه الأخبار لوجد في داخلها ما يثبت بطلانها أو نقضها أحياناً أمور في غاية الخصوصية و الكتمان ثم يأتي هذا الإنسان و يعلنها على الملأ.. هل كنت ثالثاً لهم؟ هل كنت معهم؟ هل حضرت..كيف عرفت ذلك! و هكذا لو أعمل الإنسان ذهنه لوجد كثيراً من الأشياء تحمل برهان بطلانها و زيفها، فعود نفسك على التفكير في كل شيء مما حولك كما قال بعض السلف عودوا أعينكم البكاء و قلوبكم التفكر و الأمر كما قال النبي صلى الله عليه و سلم:( إنما العلم بالتعلم و إنما الحلم بالتحلم ) فالذي يعود نفسه التفكير يصير مفكراً معتبراً و الذي يعيش دائماً في سطحية و غفلة من غير نظر و لا بصر فتذهب به الرياح يمنة و يسرة و لا يبالي الله عز و جل به في أي وادٍ هلك.(1/37)
و الأمر الثالث و هو مزاولة بعض الأمور التي تعينه على الفكرة مثلاً الشافعي رحمه الله عرف عنه أنه كان يحمل عصاً معه إذا مشى فقيل له أنت قوي فما حاجتك للعصا فقال 'تذكرني أني مسافر' الإنسان في هذه الدنيا مسافر و المسافر في ذلك الوقت يحمل العصا معه فيقول أتذكر أني مسافر دائماً و هكذا كما قلت أن يعمل بعض الأمور زر المقبرة تذكرك الآخرة هذا مما يعين على التفكير انظر في آيات الله الكونية في آياته المتلوة اقرأ في التواريخ أخبار الأمم.. الشعوب.. الأجيال التي انصرمت و ما مر عليها من بؤس و سعادة و حروب طاحنة و فتن و ملاحم و مشكلات.. انظر في هذه الأمور فالعقل ينمو و يكبر بما يحصله من التجارب و عمر الإنسان قصير فإذا نظر في القرون التي قبله استجمع شيئاً كثيراً من دعائم العقل و الأمور الموفرة له فيكون الإنسان كأنه قد مر بكثير من التجارب كأنه عاش ألف سنة أو عاش آلاف السنين أما الإنسان الذي لا ينظر إلا إلى موضع قدميه أو لا يتجاوز نظره أنفه مثل هذا لا حيلة فيه.
ثامناً: ما هي ثمرات هذا التفكير أو التفكر الذي تحدثنا عنه إذا حصل للإنسان ما الذي يحصل له.. نقول ثامناً في ذكر ثمرات التفكير أو التفكر فيما ينبغي التفكر فيه و ذلك في نحو عشرة أمور أو أكثر..(1/38)
أولها هذا التفكر أيها الإخوان هو مفتاح لكل خير إذا صار العبد يتفكر فُتح عليه من أبواب معرفة الله عز و جل و الأمور الجالبة للسعادة في الآخرة شيء لا يُقادر قدره و كذلك في هذه الحياة الدنيا فهذا التفكر يفيد تكرار القلب على هذا الأمر الذي يتفكر به فيرسخ هذا العلم عنده و يثبت و لا يمّحي و لا يذهب أثره من القلب بخلاف الغافل فيكثر علمه و يستجلب أموراً لم تكن حاصلة له قبل ذلك فيحصلها بهذا التفكير و لهذا قال الحسن البصري رحمه الله ' مازال أهل العلم يعودون بالتذكر على التفكر و بالتفكر على التذكر و يُناطقون القلوب حتى نطقت بالحكمة 'فالتفكر و التذكر هو بذار العلم و سقيه كما يقول ابن القيم رحمه الله يقول' هو بذار العلم و سقيه مطارحته و مذاكرته تلقيحه' كما قال بعض السلف 'ملاقاة الرجال و في بعض العبارات ملاحاة الرجال تلقيح لألبابها' فالمذاكرة يحصل بها لقاح العقل و بهذا يكون الخير و السعادة في خزانة مفتاحها التفكر و الإنسان لابد له من التفكير إما بالخير و إما بالشر فإذا صرف همته بالتفكير بالخير حصل له بسبب ذلك من المنافع و الثمار العاجلة و الآجلة شيء لا يقادر قدره و لهذا قال من قال من السلف بأن تفكر ساعة خير من عبادة سنة لأنه ينقل من موت الفطنة إلى حياة اليقظة و من المكاره إلى المحاب و من الرغبة و الحرص إلى الزهد و القناعة و من سجن الدنيا إلى فضاء الآخرة و من ضيق الجهل إلى سعة العلم و من مرض الشهوة و الإخلاد إلى هذه الدار إلى شفاء الإنابة إلى الله تعالى و التجافي عن دار الغرور و من مصيبة العمى و الصمم و البكم إلى نعمة البصر و السمع و الفهم عن الله و العقل عنه و من أمراض الشبهات إلى برد اليقين و ثلج الصدور فهو أصل كل طاعة كما أن أصل كل معصية هو التفكير السيئ المذموم و ذلك إذا وجد الشيطان أرض القلب خالية خاوية فارغة فإنه يلقي فيها بذور الوساوس و الأفكار الرديئة التي تفسد قلبه فتتولد من ذلك(1/39)
إيرادات و عزائم لأعمال لا يرضاها الله عز و جل و لا تُعمر بها دنيا و لا آخرة و أما إذا صادف الشيطان أرض القلب مبذورة مشغولة بالأفكار الطيبة و العقائد و الأخلاق الحميدة فإنه لا يجد فيها مدخلاً و إنما يكون غاية ما يحصله هو التشويش بالوساوس فقط التي هي عبارة عن خواطر تذهب و لهذا قال صلى الله عليه و سلم:( الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة ) فأقول أدم الفكر يحصل لك من المنافع و الخيرات ما لا يحصيه إلا الله عز و جل لأن هذا القلب هو الملك المطاع تطيعه هذه الجوارح فليدبرها التدبير الصحيح و لينظر النظر السليم و لا تكن غافلاً بطالاً فيفوتك شيء كثير مما يقربك إلى الله عز و جل .
و أمر آخر و هو أنه يورث تعظيم المعبود و بالتالي الكف عما لا يليق فإن الناس كما قال بشر رحمه الله 'لو تفكروا في عظمة الله ما عصوه' فإن من نظر في عظمة الله و في معاني أسمائه و صفاته و أنه ينظر إلى العبد و يراقبه فإنه لا يجرأ بعد ذلك على معصيته و نقصد بهذا النظر.. النظر الذي يورث المعرفة معرفة تورث خوفاً و رقابة لله عز و جل ليست كمعرفة كثير من الناس ( المعرفة العامة بوجود الله أو بربوبيته ) و إنما نقصد المعرفة التي تكون مبنية على حسن النظر في أسمائه و صفاته جل جلاله و دلائل قدرته.. النظر الذي يورثه خوفاً و محبةً و مراقبةً و خشيةً و إنابةً لربه جل جلاله فيأنس به و يفر من الخلق إلى مولاه هذه هي المعرفة الخاصة و الناس من أصحابها يتفاوتون فيها غاية التفاوت و لهذا كان أعرف الخلق بالله عز و جل و هو النبي صلى الله عليه و سلم يقول: ( لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك ) و يفتح على نبيه صلى الله عليه و سلم في اليوم الآخر من المحامد ما لا يحسنه في الدنيا عليه الصلاة و السلام فهذه المعرفة العظيمة بابها التفكر و التأمل في آيات القرآن و في صفحة هذا الكون فيحصل للعبد من الاعتبار و الاتعاظ و العلوم ما الله به عليم.(1/40)
أمر ثالث مما يورثه التفكر و هو الحكمة و حياة القلب كما قال بعض السلف 'الفكر في الدنيا حجاب عن الآخرة و عقوبة لأهل الولاية و الفكر في الآخرة يورث الحكمة و يحيي القلوب' يقول ابن القيم رحمه الله ' و التذكر و التفكر منزلان يثمران أنواع المعارف و حقائق الإيمان و الإحسان و العارف لا يزال يعود بتفكره على تذكره و بتذكره على تفكره حتى يفتح قفل قلبه بإذن الفتاح العليم' و يقول الشافعي' استعينوا على الكلام بالصمت و على الاستنباط بالفكر' من طال صمته عظم عقله و رجح و يستدل على رجاحة العقل بطول الصمت أما الثرثرة و الكلام الكثير فإن ذلك يدل على خفة عقل صاحبه إذا كان الإنسان يثرثر في المجالس و يتكلم في كل شيء يتحدث مع هذا و مع هذا و إذا تحدث اثنان دخل عليهما فهذا يدل على خفة في عقل هذا الإنسان 'استعينوا على الكلام بالصمت و على الاستنباط بالفكر' و الشافعي رحمه الله الذي يقول هذا القول و هو من أرجح الناس عقلاً و من أكملهم استنباطاً و كان يقول'صحة النظر في الأمور نجاة من الغرور و العزم على الرأي سلامة من التفريط و الندم و الفكر يكشفان عن الحزم و الفطنة و مشاورة الحكماء ثبات في النفس' ففكر قبل أن تعزم و تدبر قبل أن تهجم و شاور قبل أن تقدم و كان يقول ' الفضائل أربع إحداها الحكمة و قوامها الفكرة و الثانية العفة و قوامها التغلب على الشهوة ..' إلى آخر ما ذكر و يقول وهب 'ما طالت فكرة امرئ قط إلا علم و ما علم إلا عمل'
الرابع و هو أن النظر و التفكير يورثه الاعتبار و قد ذكرت أمثلة كثيرة على ذلك و قد كان سفيان الثوري رحمه الله يتمثل كثيراً بقول القائل: إذا كان للمرء فكرة ففي كل شيء له عبرة .(1/41)
و الخامس و هو البصر النافذ في الأمور سواء كانت الأخروية أو الدنيوية الذي يفكر يعرف الأمور معرفة صحيحة بخلاف الذي يأتي كيفما اتفق و يقع على الأمر كيفما حصل فإن الذي يفكر يوجب له هذا التفكير انكشاف حقائق الأمور أياً كانت و تتميز مراتبها أمام عينه في الخير و الشر و يعرف المفضول من الفاضل و القبيح و الأقبح و يعرف الأسباب الموصلة إليها و ما يقاوم تلك الأسباب و ما يدفع موجبها و يميز بين ما ينبغي السعي في تحصيله و ما ينبغي السعي في دفع أسبابه و يفرق بين الوهم و الخيال و الأمور الممكنة والأمور الفرضية المستحيلة و ينتهز الفرص في أوقاتها و يشتغل بما ينفعه دائماً فتحصل له سعادته و فلاحه كما قال ابن القيم رحمه الله فالله عز و جل أودع الإنسان هذه القوة التي هي كنز من الكنوز يثمر أعظم الثمار فإذا استعملها فيما يجدي فإنه يحصل ألوان المنافع حتى الصنائع في الدنيا فإنما تستخرج و يتوصل إليها بالتفكير حتى ألوان المنافع من الطب و الخبرات في الهندسة و الرياضيات و غيرها إنما يُتوصل إليها بطول النظر و التفكير و لذلك فإن هذه الأفكار إذا وجدت و استقرت و رسخت تحولت و تبرمجت إلى واقع عملي فعمرت الحياة و قامت الحضارة و حصل الناس ألوان التسهيلات و المنافع و الأمور التي تدفع عنهم الأتعاب و يستروحون إليها فتكون الحياة سهلة يتغلبون فيها على العسر و ألوان الشدائد و لولا التفكير بعد الله عز و جل لما توصل الإنسان إلى أنواع المنافع في حراثته و صناعته و طبه و في كل شأن من شؤونه و لذلك لما كان المجنون و البهيمة لا تفكير لهما فإنهم لا يترقون و لا يتقدمون هل ترون البهائم تتقدم و تتطور؟؟ أبداً لأنها حرمت هذه النعمة فالتفكير أيها الإخوان يكون بمنزلة الخياط الذي يقدر الثوب و يحسب المقاسات ثم يبرمج ذلك إلى عمل فيقص هذا الثوب ثم يخيط أطراف هذا الثوب فيمكن الانتفاع به.(1/42)
و أمر سادس مما يثمره التفكير و هو العمل للآخرة كما قيل لو طالعت قلوب المتقين بفكرها إلى ما قدر في حجب الغيب من خير الآخرة لم يصفا لهم في الدنيا عيش و لم تقرّ لهم فيها عين هم خُلقوا للآخرة يقول الحسن 'من لم يكن كلامه حكمة فهو لهو و من لم يكن سكوته فكراً فهو سهو و من لم يكن نظره اعتباراً فهو لهو' وكتب مرة لعمر بن عبد العزيز واعظاً يعظه الحسن البصري يقول' اعلم أن التفكر يدعو إلى الخير و العمل به و الندم على الشر يدعو إلى تركه و ليس ما فني و إن كان كثيراً يعدل ما بقي و إن كان طلبه عزيزاً و احتمال المُئنة المنقطعة التي تعقب الراحة الطويلة خير من تعجيل راحة منقطعة تعقب مئنة باقية' و يقول ابن عباس ' التفكر في الخير يدعو إلى العمل به و الندم على الشر يدعو إلى تركه و إذا كان هم العبد و هواه في الله عز و جل جعل الله صمته تفكرا و كلامه حمدا' و قد أحسن من قال:
إني رأيت عواقب الدنيا فتركت ما أهوى لما أخشى
فكرت في الدنيا و عالمها فإذا جميع أمورها تفنى
و بلوت أكثر أهلها فإذا كل امرئ في شأنه يسعى
أسمى منازلها و أرفعها في العز أقربها من المهوى
تعفو مساويها محاسنها لا فرق بين النعي و البشرى
و قد مررت على القبور فما ميزت بين العبد و المولى
أتراك تدري كم رأيت من الأحياء ثم رأيتهم موتى(1/43)
فالحاصل أن الفكر يثمر حصول المطلوب تاماً بحسب الإمكان و العمل بموجبه رعاية لحقه فإن القلب حال التفكر كان قد كل بأعماله في تحصيل المطلوبات فإذا حصلت له المعاني و تخمرت فيه و رسخت استراح هذا العقل و عاد فتذكر هذه الأمور التي تفكر فيها و طالعها فابتهج بها و فرح كما يقول ابن القيم رحمه الله و من ثم يصحح العمل و السير إلى الله عز و جل فهذا مقام شريف من مقامات العبد و هذا تماماً كالتاجر الذي يفكر كيف يحصل المكاسب ثم يتعب في تحصيلها و السعي في جلبها ثم إذا حصلها و طالعها بين يديه فإنه يركن إليها يسر بها و ينسى ذلك التعب الذي تعبه في سبيل تحصيلها فتبرد نفسه و يطيب خاطره.
السابع أن التفكير يورث العبد القناعة مثل ما قلت لكم انظر إلى حال كثير من الأغنياء ماذا يأكلون و ماذا يلبسون انظر إلى ملبوساتهم انظر إلى أعمارهم التي لا تزيد على عمر من سواهم من الفقراء، جاء رجل إلى يونس ابن عيبد فشكى إليه الفقر و كان يذكر له غمه و حزنه بسبب ذلك فقال له يونس أيسرك ببصرك مائة ألف؟ قال لا, نعطيك مائة ألف تعطينا البصر قال: لا قال فبسمعك؟ قال: لا قال بلسانك؟ قال بعقلك قال: لا و ذكر له أشياء أخرى. مائة ألف و هو يقول لا فذكّره نعم الله عليه ثم قال أرى لك مئين ألوفاً و أنت تشكو الحاجة! يقول أنت تملك مئات الألوف كل ما قلنا لك السمع مائة ألف قلت لا و البصر مائة ألف تقول لا و أنت تقول أنا محتاج أنا فقير أنا معدم أنا ما أجد شيئاً و لذلك قال بعض السلف'من أدام النظر بقلبه أورثه ذلك الفرح بالله' فلا يحزن على الدنيا و لا يتأسى على ما فات منها.(1/44)
الثامن هو التعرف على النفس و ما لها و ما عليها قد يعمل العبد و يستمر حتى في أعمال الدنيا الدنيوية في مؤسسة في شركة و يظن أنه كاسب و ربحان و إذا نظر و حسب الحسابات غير طريقته في التفكير و غير أسلوبه في العمل و لربما اتجه إلى شيء آخر و هكذا في السير إلى الله عز و جل فالأمر كما قال الفضيل ابن عياض 'الفكر مرآة تريك حسناتك و سيئاتك' من الخطأ أن يظن الناس أنهم كمل و ليس عليهم عيوب اجلس مع نفسك و انظر في نقصك و تقصيرك ثم بعد ذلك شمر في إصلاح هذه العيوب.(1/45)
التاسع هو تجديد الإيمان إذا فكر الإنسان أورثه ذلك حياة القلب فالإيمان كالشجرة كما مثله الله عز و جل (كشجرة طيبة أصلها ثابت و فرعها في السماء) و ابن القيم رحمه الله ربط بين هذه الشجرة و بين الإيمان يقول عروقها العلم و المعرفة و اليقين و ساقها الإخلاص و فروعها الأعمال و ثمرتها ما توجبه الأعمال الصالحة من الآثار الحميدة و الصفات الممدوحة و الأخلاق الزكية و السمت الصالح و الهدي و الدل المرضي فيستدل الناظر على غرس هذه الشجرة في القلب و ثبوتها فيه بهذه الأمور فإذا كان العلم صحيحاً مطابقاً لمعلومه الذي أنزل الله كتابه به و الاعتقاد مطابقاً لما أخبر به عن نفسه و أخبرت به عنه رسله و الإخلاص قائم في القلب و الأعمال موافقة للأمر و الهدي و الدل و السمت مشابه لهذه الأصول مناسب لها عُلم أن شجرة الإيمان في القلب أصلها ثابت و فرعها في السماء و إذا كان الأمر بالعكس عُلم أن القائم بالقلب إنما هو الشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار يقول و منها أن الشجرة لا تبقى حية إلا بمادة تسقيها و تنميها فإذا قطع عنها السقي أوشك أن تيبس فهكذا شجرة الإسلام في القلب إن لم يتعاهدها صاحبها بسقيها كَل و يقول إنه إذا لم يفعل ذلك فإن الإيمان يَخلق في جوفه كما قال النبي صلى الله عليه و سلم:( إن الإيمان يَخلق في القلب كما يَخلق الثوب فجددوا إيمانكم ) فهكذا صاحب الغرس إذا لم يتعاهده بالسقي و الماء فإن ذلك يؤدي إلى فوته و هلاكه و يبسه و هناك على كل حال أمور أخرى يأثرها التفكر و يثمرها فهو طريق إلى رضوان الله و محبته و يشرح الصدر و يورث سكينة القلب و يورث العبد الخوف و الخشية و المراقبة لله عز و جل و هو نعمة كبيرة من الغبن أن يضيعها الإنسان أو أن يجعلها في أمور دنيئة منحطة سافلة.(1/46)
أخيراً: السلف و التفكر أذكر بعض الآثار المنقولة عنهم في ذلك هذا أحدهم يقول و هو شقيق البلخي 'أخذت الخشوع عن إسرائيل ابن يونس كنا حوله لا يعرف من عن يمينه و لا عن من شماله من تفكره في الآخرة' و يقول يوسف ابن أسباط قال لي سفيان بعد العِشاء ناولني المطهرة فناولته فأخذها بيمينه و وضع يساره على يده فبقي مفكراً يقول و نمت ثم قمت وقت الفجر فإذا المطهرة في يده كما هي فقلت هذا الفجر قد طلع! نفس المكان الذي يريد أن يتوضأ به قال لم أزال منذ ناولتني المطهرة أتفكر في الآخرة إلى هذه الساعة، و يقول ابن المبارك لسهيل ابن عدي لما رآه ساكتاً متفكراً يقول له أين وصلت؟ - ما قال سوق الحراج و ما قال السوق الفلاني قال أين وصلت - قال الصراط, و هذا محمد ابن واسع ذكر أن رجلاً من أهل البصرة ركب إلى أم ذر بعد موت أبي ذر فسألها عن عبادة أبي ذر فقالت كان نهاره أجمع في ناحية البيت يتفكر, و هذه أم الدرداء تُسأل ما كانت أفضل عبادة أبي الدرداء قالت التفكر والاعتبار, و هذا السري السقطي يقول إني لأنظر إلى أنفي كل يوم مخافة أن يكون وجهي قد اسود و ما أحب أن أموت حيث أعرف أخاف أن لا تقبلني الأرض فأفتضح - شوفوا في أي شيء يفكر على صلاحه و تقواه و عبادته - و هذا أبو شريح كان يمشي فجلس فتقنع بكسائه فجعل يبكي- غطا رأسه و جلس يبكي - فقيل له ما يبكيك قال' تفكرت في ذهاب عمري و قلة عملي و اقتراب أجلي' و بكى عمر يوماً فسئل عن ذلك فقال 'فكرت في الدنيا و لذاتها و شهواتها فاعتبرت منها بها ما تكاد شهواتها تنقضي حتى تكدرها مرارتها و إن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر فإن فيها موعظة لمن ادكر' انظر إلى حالك إذا اجتمعت مع الأهل و الأحباب ثم ماذا بعده ليس بعده إلا الفراق و كان داود الطائي على سطح في ليلة قمراء فتفكر في ملكوت السماوات و الأرض و جعل ينظر إلى السماء و هو يبكي حتى وقع في بيت جاره فوثب جاره إلى السيف يظن أنه لص فلما جاء(1/47)
إليه فإذا هو داود فقال ما طرحك من السطح؟؟ قال ما شعرت بذلك .! جلس ينظر و يتفكر فبكى ثم سقط, و هذا سفيان الثوري كان جالساً مع بعض أصحابه فانطفأ السراج - في كل شيء يفكرون - فلما عمت الظلمة أشعلوا السراج فوجدوا سفيان الثوري دموعه تنهمر كثيراً على خديه فقالوا مالك؟ قال تذكرت القبر.. في كل شيء يتفكرون.
هذا آخر الحديث عن هذه الأعمال القلبية الستة و أسأل الله عز و جل أن يجعل ذلك حجة لنا لا حجة علينا و أن ينفعنا و إياكم بما سمعنا و صلى الله على نبينا محمد و آله و صحبه و السلام عليكم و رحمة الله.(1/48)