التعريف ببعض علوم الإسلام الحنيف
تأليف الشيخ : عبدالله نجيب سالم
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
... الحمد لله رب العالمين، الذي خلق القلم وعلم به، وأنزل القرآن فتفجرت منه ينابيع المعرفة وخلق الإنسان ثم أكرمه بتعلم البيان.. كيف لا وهو القائل سبحان {الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان }(الرحمن /1ـ4).
وأفضل صلاة صليت على مخلوق على سيدنا محمد بن عبد الله رسول الله النبي الأمي ، الذي علمه الله من علمه { وعلمك ما لم تكن تعلم.. وكان فضل الله عليك عظيماً }(النساء/113) وجعله معلماً لمن بُعث إليه من الخلق أجمعين { هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } (الجمعة/2) ، اللهم يسر وأعن يا كريم.
العلوم وسبق المسلمين فيها:
أما بعد: فإن من الحقائق الثابتة والأمور المسلّم بها :أن الإسلام هو دين العلم والمعرفة ، وأنه اهتم بالعلوم كلها ـ سواء كانت علوماً شرعية أو كونية، نظرية أو تجريبية ـ اهتماماً شديداً، إما بدعوته إلى القراءة مفتاح التعلم، أو برفعه مكانة الذين يعلمون فوق الذين لا يعلمون، أو باحترامه وتقديره للقلم والكتاب آلة العلم ووسيلة تدوينه ووعائه أو بلفت الأنظار إلى كثير من الحقائق العلمية المعلومة للإنسان حينها أو المجهولة، أو بدعوة البشر إلى التفكر والتدبر والتنقل بين بقاع الأرض والسفر، والغوص في أعماق النفس وأصل خلق البشر، واستخراج خيرات الأرض والبحر، وتتبع منازل الشمس والقمر، وتقلبات الليل والنهار، واختلاف الأحوال والطباع في الإنسان والحيوان، وغير هذا وذاك من دلائل الاهتمام بالمعرفة وبراهين الاحتفاء بها.
نعم لقد فتح الإسلام باب العلوم، ودعا المسلمين إلى الدخول فيه أفواجاً، ونصب لهم ميدان التنافس فيه واسعاً، وزرع في نفوسهم حب السبق فيه والابتكار، وادخر لهم في الآخرة بسببه خيراً كثيراً.(1/1)
لذلك فليس من العجب أن يكون لأمة الإسلام في مضمار العلم سجل ناصع مشرف، وأن تحوز قصب السبق في كل فن، وأن يسجل التاريخ بكل افتخار أن المسلمين كانوا أكثر أهل الأرض قراءة وكتابة وتعلماً وتعليماً وتأليفاً وتدويناً وابتكاراً واختراعاً وتحقيقاً وتدقيقاً.
كما أنه ليس من العجب أن نرى كثيراً من العلوم والمعارف والفنون عاشت في كنف الإسلام والمسلمين: نبتت بذورها في أرضهم ابتداءاً، ورعتها أكف علمائهم دائماً، واتشحت بحللهم أبداً.
وكذلك أيضاً فليس من العجب أن نعلم أن المسلمين تلقوا علوم من سبقهم من يونان وفرس وهنود ورومان فهضموها هضماً جيدا،ً ونقحوها تنقيح خبير عليم، ونقدوها نقد بصير واع، ونقلوها وترجموها إلى لغتهم العربية نقل أمين مقتدر.
إن هذا كله يعلمه من له أدنى اهتمام بتاريخ العلوم عند المسلمين.
لقد بقي مشعل الحضارة في أيدي المسلمين حقبة طويلة من الزمن، كان العالم خلالها يلهث وراء ذلك المشعل ليستضيء ويهتدي بشعاعه، وكان لزاماً عليه أن يتزلف أكثر فأكثر إلى المسلمين حملة المشعل، وأن يتعلم على أيديهم وفي ديارهم وبطريقتهم، وأن يتقن لغتهم، وأن يدرس نظرياتهم، وأن يوقر علماءهم ومدارسهم، بل وأن يَدْخل في دينهم دين العلم والمعرفة. لا خيار للعالم سوى ذلك.
هذا وإن الأيادي البيضاء للمسلمين على العلوم، والجهود المضنية لهم في خدمتها وتطويرها، وعشرات الآلاف من العلماء ومئات الألوف من ساعات البحث والدراسة هي التي أخرجت لنا كنوز المكتبة الإسلامية التي لا تقدر بثمن. بل أجزم يقيناً أن ما على الأرض كله من متاع، وما في باطنها من ثروة لا يعدل قيمة العلم المكنون والجهد المبذول في تلك التحف الرائعة والنفائس الغالية والمراجع الغالية.(1/2)
إن تلك الكنوز التي تملأ خزائن المكتبات العامة، أو تقع تحت ملك بعض المهتمين ،أو امتدت إليها أيدي المستشرقين المشبوهة حتى تفرق شملها بين مكتبات الشرق والغرب، لهي بعض ما سلم لنا من تراث الأجداد ومداد السلف مما لم تستطع نكبات الحروب وأهوالها، وتقادم السنين وآفاتها، وإهمال الأجيال ونزواتها أن تقضى عليه... بعد أن قضت تلك العوامل على أعداد هائلة أخرى غيره. هي بلا شك أكثر وأكثر.
فأية أمة هي تلك التي كادت أن تجف مياه دجلة قبل أن ينمحي مداد كتبها، وأي دين هو ذلك الدين الذي ترك بصماته على العلوم كلها بلا استثناء وكم بلغت تلك العلوم التي كتب فيها المسلمون وأجادوا ؟ أهي ستون علماً كما أوردها الإمام فخر الدين الرازي في كتابه الأنوار في حقائق الأسرار؟ أم هي مائة علم كما سردها الشيخ عبد الرحمن بن محمد البسطامي؟ أم هي خمسمائة علم كما جمعها الشيخ عصام الدين أحمد بن مصطفى المعروف بـ ( طاشكبرى زاده) في كتابه: مفتاح السعادة ومصباح السيادة ؟ أم هي أكثر من ذلك بما لا يقع تحت حصر.. ولولا أن الأمر جد، وأدلته حاضرة ناطقة، لقلنا إن في الأمر مبالغةً وفي التقدير شَطَطاً.
ولكنها الحقيقة كالشمس في رابعة النهار، لا تخفي على ذي عينين.(1/3)
وليس هذا بكثير على أمة اتخذت العلم لها ديناً وديدنا، وعبادة وعملاً،وسلوة وسلواناً. حتى أخرجت للعالم أصنافاً جديدة من العلم لاعهد له بها من قبل، بل وأشكالاً مبدعة غريبة معجزة من صور الكتابة وتنسيق الكلام والتصرف بالأحرف والكلمات، فهذا مثلاً كتاب " الشرف الوافي " وهو من أعجب الكتب، يتكلم في علوم الفقه والعروض والتاريخ والنحو والقوافي دفعة واحدة في آن واحد، كأنه إنسان بخمسة ألسن: فإذا قرأته قراءة عادية من أول السطر إلى آخره أفادك علماً وإذا قرأت أول كلمة من السطر الأول، ثم أول كلمة من أول السطر الثاني، وتابعت هكذا في الأسطر الأخرى أفادك علماً آخر، وإذا قرأت من آخر السطرالأول ثم من آخر السطر الثاني كلماته الأخيرة أفادك علماً ثالثاً، وثمة طريقة أخرى تستخرج بها علماً رابعاً وخامساً. ومن لا يصدق هذا فالكتاب مطبوع متداول معروف، ويمكن الرجوع إليه بسهولة... إن طريقته في الكتابة والتأليف تكاد تكون معجزة لغوية ناطقة.
بل إن عالماً آخر هو الشيخ محمد أمين بن صدر الدين الشرواني المتوفى سنة ست وثلاثين وألف للهجرة جمع كتاباً للسلطان أحمد العثماني أورد فيه ثلاثة وخمسين علماً من أنواع العلوم العقلية والنقلية سماه (الفوائد الخاقانية الأحمدية الخانية) ورتبه ـ وهنا بيت القصيد ـ على مقدمة وميمنة وميسرة وساقة وقلب، على نحو ترتيب جيش السلطان. المقدمة في ماهية العلم وتقسيمه.. والقلب في العلوم الشرعية.. والميمنة في العلوم الأدبية والميسرة في العلوم العقلية ـ وقد أورد منها ثلاثين علماًـ والساقة في آداب الملوك. وإنما اقتصر على ذلك العدد ليكون موافقاً لعدد (أحمد)، وهو اسم السلطان على حسب حساب أبجد.
نظرة كلية جامعة للعلوم.(1/4)
لاشك بأن العلوم التي حوتها الحضارة الإسلامية كانت كثيرة جداً في أعدادها، متنوعة تنوعاً عظيماً في مواضيعها ومتعلقاتها، متفرعة إلى فروع عديدة وشعب شتى.. ومن هنا كان من الضروري أن نضع تصوراً جامعاً شاملاً حاصراً لتلك العلوم ومواضيعها وفروعها، قبل أن نخوض فيما نحن بصدده من الحديث عن العلوم الإسلامية ذات الصلة بالدين من قريب أو بعيد.
ولعل أفضل من صور لنا تلك العلوم جملة الشيخُ الأزنيقي تلميذُ موسى بن محمودٍ الرومي، الشهير بقاضي زاده. فللأزنيقي هذا كتاب رفيع المنزلة أسماه (مدينة العلوم) رتبه على: مقدمة، وطرفين، وخاتمة، وذكر في المقدمة حصر العلوم على الإجمال في أصول سبعة، وتكلم في الكتاب على سبع دوحات ( والدوحة هي الشجرة المعروفة بكثرة أغصانها وفروعها وأوراقها) وكل واحدة من تلك الدوحات السبع في بيان أصل من الأصول السبعة، ثم ذكر في كل دوحة منها شعباً لبيان الفروع.. وذلك لتقريب الصورة إلى أذهان القارئ بعد تشبيه كل مجموعة من العلوم بشجرة وفروعها وأغصانها.
ولنا هنا أن نستعرض جملة تلك العلوم من دوحاتها حسب تصنيف الأزنيقي.
فالدوحة الأولى: في بيان العلوم الخطية، ولها شعبتان: فالشعبة الأولى مثلاً تتعلق بكيفية صناعة الخط، وذكر فيها علم أدوات الخط، وعلم قوانين الكتابة، وعلم تحسين الحروف، وعلم إملاء الخط العربي، وعلم خط المصحف وغير ذلك.
والدوحة الثانية: في علوم تتعلق بالألفاظ، وهي التي تسمى بالعلوم الأدبية والعربية، وفيها ثلاث شعب. الأولى: تتعلق بالمفردات، والثانية: تتعلق بالمركبات، والثالثة: بفروعها.
وعلى سبيل المثال أورد الأزنيقي في شعبة المفردات علم مخارج الحروف، وعلم اللغة، وعلم الوضع، وعلم الاشتقاق، وعلم الصرف، وعلم النحو، وعلم المعاني، وعلم قرض الشعر، وعلم الإنشاء، وعلم التاريخ، وألحق بها علوماً شرعية كثيرة مثل: علم المغازي والسير، وعلم الطبقات، وعلم الأمثال.(1/5)
وأما الدوحة الثالثة: أي المجموعة الثالثة من العلوم ففيها شعبتان، الأولى: في العلوم الآلية التي تعصم عن الخطأ في الكسب، ومنها علم المنطق. والشعبة الثانية: في علوم تعصم عن الخطأ في المناظرة والدرس، مثل علم الجدل، وعلم النظر، وعلم الخلاف، وعلم آداب الدرس.
وأما الدوحة الرابعة: فمجموعة العلوم فيها تتعلق بالأعيان، وهذا قسمان:
الأول: ما يُبحث فيه بمجرد الرأي ومقتضى العقل فقط، وهو العلوم الحكمية الباحثة عن أحوال الموجودات الخارجية بحسب الطاقة البشرية.
والقسم الثاني: ما يُبحث فيه على قواعد الشرع وعلى تسليم المدعى وأخذه من الشرع وهو علم أصول الدين..
وقد جعل شعب ذلك تسعاً، الشعبة الأولى: في العلم الإلهي. والثانية: في فروع العلم الإلهي من مثل علم أمارات النبوة، وعلم معرفة النفوس البشرية، والثالثة: في العلم الطبعي من مثل علم الطب، وعلم البيطرة، وعلم الفراسة، وعلم أحكام النجوم، وعلم الطلسمات، وعلم الكيمياء، وعلم الفلاحة، والرابعة: في فروع العلم الطبعي كعلم النبات، وعلم الحيوان، وعلم المعادن، وعلم الجو، وعلم قوس قزح. والخامسة من شعب هذه الدوحة الرابعة تكلم فيها عن مثل علم التشريح، وعلم الصيدلة، وعلم تركيب أنواع المواد، وعلم الفصد، وعلم المقادير والأوزان. وفي الشعبة السادسة: تكلم عن فروع علم الهندسة مثل علم عقود الأبنية، وعلم المرايا المحرقة، وعلم مراكز الأثقال وجرها، وعلم المساحة، وعلم إنباط المياه، وعلم الآلات الحربية، وعلم الملاحة والسباحة، وعلم الأوزان والموازين. وفي الشعبة السابعة: عدد الأزنيقي علوم الهيئة مما يتعلق بالتقاويم والمواقيت والجغرافيا ووضع الإسطرلاب وآلات الساعة ووضع ربع الدائرة. وفي الشعبة الثامنة: تكلم عن علوم العدد كالحساب والجبر وحساب العقود والتخت والميل. وفي الشعبة التاسعة: تكلم عن فروع علم الموسيقى وما يتعلق بها.(1/6)
وأما الدوحة الخامسة: ففي العلوم التي تنتظم تحت معنى الحكمة العملية وشعبها أربعةُ شعب: الأولى في علم الأخلاق، والثانية في تدبير المنزل، والثالثة في علم السياسة، والرابعة في فروع ذلك كعلم آداب الملوك وآداب الوزارة ( أي البرتوكول) وعلم الاحتساب (أي الحسبة الشرعية) وعلم قود العساكر.
وأما الدوحة السادسة: فهي تشتمل على العلوم الشرعية. وشعبها: علم القراءة، وعلم رواية الحديث، وعلم تفسير القرآن، وعلم دراية الحديث (أي فقهه) وعلم أصول الدين المسمى بالكلام، وعلم أصول الفقه، وعلم الفقه، ثم بحث بعد ذلك في فروع العلوم الشرعية تلك كلاً على انفراد.
وانتقل أخيراً ـ في الدوحة السابعة ـ إلى الحديث عن علومٍ تتعلق بالأعمال، وسماها علوم التصفية أي تصفية النفس من الشوائب والرذائل. والمعرفة فيها على نوعين: معرفة بطريق النظر وهي لا تكمل إلا بالعمل، ومعرفة بطريق العمل.
وعدَّ من ذلك العلوم المتعلقة بأسرار العبادات، والعلوم المتعلقة بالعادات، والعلوم المتعلقة بالأخلاق المهلكة كالعجب والغضب وآفات الغرور، والعلوم المتعلقة بالمنجيات كعلم آداب التوبة وعلم فوائد الصبر وعلم المحبة وعلم الرجاء والخوف.
المساحة الواسعة التي شملتها المعرفة الإسلامية:
ولئن كنا أطلنا في سرد تلك المجموعات من العلوم وفروعها المشبهة بدوحات الشجر وأغصانها، فما ذلك إلا ليقف المسلم على اتساع رقعة المساحة التي غطتها العلوم في الحضارة الإسلامية وتعدد مواضيعها وكثرة أبوابها ومفاتيحها.
ملاحظات مهمة في البداية:
على أننا نحتاج قبل أن ننهي مقدمتنا هذه إلى توضيح أمور مهمة هي:
أولا: مما لاشك فيه أن كثيراً من تلك العلوم قد اندرست واختفت لأسباب عدة إما لكونها علوماً نظرية بحتة، أو لاختفاء كتبها وتلفها، أو لانشغال الناس عنها بعلوم أخرى حلت محلها في هذا الزمن المتغير.(1/7)
ثانياً: أن الزمن المعاصر والتقدم العلمي الذي يشهده قد ألغى اعتبار بعض تلك العلوم المعتبرة سابقاً، إما لثبوت خطئها، أو لتغير أسسها بعد الاكتشافات المعاصرة، أو لظهور أوضاع اجتماعية حديثة تختلف كلياً عن الأوضاع الماضية مما صرف الناس عن كثير مما كانوا يهتمون به قبلاً.
ثالثاً: إن بعض تلك العلوم قد لا يعتبر علماً بالمعنى الفني الدقيق لكلمة علم، فقد قال العامري مثلاً في تعريف (العلم) بأنه الإحاطة بالشيء على ما هو عليه من غير خطأ ولا زلل،وقال آخرون بأن العلم هو اعتقاد الشيء على ما هو به عن دليل.. فأين هذا من بعض التخليط والتخمين، وما لا يعتمد على دليل ولا تجربة ولا برهان.
رابعاً: إن العلوم الشرعية لقيت من الحفاوة والاهتمام، والبحث والتنقيب، والتقييد والتفريع، والتعليم والتعلم، والكتابة والحفظ، ما لم تلقه العلوم الكونية أو الطبيعية الأخرى، وذلك لشدة حرص الأمة الإسلامية على دينها، واعتبارها أن العلوم الشرعية علوم ملحقة بالرسالة، ومهمة لشرح القرآن الكريم، وضرورية لضبط السنة الشريفة، ومبينة لمراد الله من خلقه، وحافظة للدين إلى يوم الدين.
يقول ابن خلدون رحمه الله في مقدمته (ص718) ثم إن هذه العلوم الشرعية النقلية قد نفقت أسواقها في هذه الملة بما لا مزيد عليه، وانتهت فيها مدارك الناظرين إلى الغاية التي لا شيء فوقها، وهُذّبت الاصطلاحات ورُتبت الفنون، فجاءت من وراء الغاية في الحسن والتنميق، وكان لكل فن رجال يرجع إليهم فيه، وأوضاع يستفاد منها في التعليم.
ويكفي أن نعلم أن كل تكريم وتشريف ورفع لمقام أهل العلم وتنويه بفضلهم، مما ورد في القرآن الكريم أو السنة النبوية يتناول ـ أول ما يتناول ـ أهل العلم الشرعي على وجه الخصوص، قبل أن يتناول ـ بكل تأكيد ـ أهل سائر العلوم على وجه العموم - وهذا ما لا جدل فيه.
علم القراءات
أولاً : علم القراءات(1/8)
قراءة القرآن الكريم لازمة من لوازم كل مسلم، وفريضة محكمة عليه، لا يجد منها بداً، ولا يرى له عنها غنى. كيف لا وهو في صلاته المفروضة والمسنونة، وفي عباداته لله والتقرب إليه بما يرضيه ليس له سبيل إلى ذلك أفضل من سبيل تلاوة القرآن الكريم .
ومن هذا المنطلق ندرك أهمية علم القراءات وفضله .
تعريف علم القراءات:
وقد عرّفه ابن الجزري فقال:
( القراءات علم بكيفية أداء كلمات القرآن واختلافها بعزو الناقلة) ، كما عرّفه طاش كبرى زاده بقوله:( علم يُبحث فيه عن صور نظم كلام الله تعالى من حيث وجوه الاختلافات المتواترة).
وإذن فعلم القراءات يهدف إلى تعليم اللسان النطق بكلام الله على الطريقة الصحيحة، ويهدف كذلك إلى صون اللسان عن الخطأ، وصون كتاب الله عن سريان التحريف إليه أو التبديل أو التغيير في صورة الرسم أو كتابة الخط أو نطق اللفظ.
نشأة علم القراءات:
وقد نشأ علم القراءات أول ما نشأ منذ اللحظات الأولى لتلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم لكلام ربه بواسطة جبريل الأمين عليه السلام. فكان عليه الصلاة والسلام يقرؤه مرتّلاً مجوَّداً على أصحابه‘ مصداق قول الله سبحانه { ورتل القرآن ترتيلا } (المزمل/4) وقوله عز وجل { وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا}(الإسراء/106).
وقد أتقن الصحابة رضوان الله عليهم تلاوته من واقع عربيتهم الفصيحة السليمة من كل شائبة، ومن واقع تلقيهم للقرآن غضاً طرياً من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن ثم قاموا هم بتعليمه لمن وراءهم على النحو الذي سمعوه وتلقوه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراعي لهجات القبائل العربية في النطق واللفظ، وذلك من فضل الله على الأمة ومن توسعته لها، حيث أنزل الله سبحانه القرآن الكريم على سبعة أحرف.
عناية السلف بالقراءات:(1/9)
وقد احتفى المسلمون بقراءة القرآن وضبطه في كل العصور، واشتهر في كل زمن من الأزمنة وجيل من الناس وبلد من البلدان أناس عرفوا باسم القُرّاء.
كان أشهرهم في عهد الصحابة: الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم، الذين كان لأبي بكر منهم شرف جمع القرآن في مصحف واحد لأول مرة، بعد أن كان متفرقاً في العظام والألواح والرقاع، كما كان لعثمان شرف الجمع الثاني الذي أخرج فيه من القرآن كل ما هو ليس منه من شرح أو منسوخ أو تعليق، وضبط القراءة على لغة قريش، وعمم مصحفه على سائل الأمصار..
وإضافة إلى الخلفاء الأربعة فقد اشتهر من الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين بالقراءة أبيُّ بن كعب وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود وابن عباس وأبو موسى الأشعري وغيرهم. وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى سبق هؤلاء غيرَهم في القراءة بمثل قوله " أقرؤكم أبيّ"(رواه الترمذي والدارقطني) وقوله لأبي موسى بعد أن استمع إليه " لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود". وقوله لابن مسعود: " اقرأْ علي القرآن".(رواه البخاري وغيره) .
وفي عهد التابعين اشتهر كثير من الفضلاء ووجوه المسلمين بالقراءة، وكانوا منتشرين في المدن والأمصار. ففي المدينة ظهر سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وابن شهاب وعمر بن عبد العزيز، وفي مكة مجاهد وعطاء وطاووس، وفي الكوفة علقمة والأسود بن يزيد وأبو عبد الرحمن السلمي وسعيد بن جبير وفي البصرة الحسن البصري وابن سيرين وقتادة، وفي الشام المغيرة بن أبي شهاب وخليفة بن سعد.
التخصص وعصر أئمة القراءة:(1/10)
ولكن عصر ما بعد التابعين شهد توسعاً في كل العلوم الإسلامية إلى الحد الذي دعا إلى تخصص كل عالم بعلم أو عدد محصور من العلوم ليجمع شتاته ويضع له قواعده ويتحمل أمانته. وهذا ما كان بخصوص علم القراءة، فقد ظهر في هذا الجيل ـ ما بعد التابعين ـ الأئمة القراء الذي تنسب إليهم القراءات السبع الشهيرة المتواترة، التي أجمعت الأمة على صحة قراءة القرآن الكريم بأي منها شريطة التلقي والإتقان.
وقبل أن نسرد أسماء القراء الأئمة السبعة ننوه إلى أن أئمة القراءة في عهد ما بعد التابعين كانوا كُثُراً لكن الناس اجتمعوا على هؤلاء السبعة ودونت كتبهم وقراءاتهم كما اجتمع الناس على الأئمة الأربعة في الفقه دون سواهم.
أسماء أئمة القراءة وأسماء أشهر تلاميذهم:ـ
1) نافع بن عبد الرحمن المدني المتوفى سنة (169)هـ ، وأشهر تلاميذه قالون ووَرش.
2) عبد الله بن كثير المكي المتوفى سنه (120)هـ ، وأشهر تلاميذه قَنْبل محمد بن عبد الرحمن. وأحمد بن محمد البزي.
3) أبوعمرو زبان بن العلاء البصري المتوفى سنة (154)هـ ، وأشهر رواة قراءته حفص بن عمرو الدوري وصالح بن زياد السوسي.
4) عبد الله بن عامر اليحصبي الشامي المتوفى سنة (118)هـ ، وأشهر رواته هشام بن عمار الدمشقي وعبد الله بن أحمد.
5) عاصم بن أبي النجود الكوفي المتوفى سنة (127)هـ ، وأشهر رواته حفص بن سليمان وشعبة بن عياش.
6) حمزة بن حبيب الكوفي المتوفى سنة (156)هـ ، وأشهر رواته خلاد بن خالد وخلف بن هشام.
7) علي بن حمزة الكسائي المتوفى سنة (169)هـ ، وأشهر رواته حفص بن عمرو والليث بن خالد.
...
وقد قام الإمام ابن مجاهد أحمد بن موسى بتدوين القراءات السبع لهؤلاء القراء في كتابه (القراءات السبع).
وهناك ثلاث قراءات للقرآن الكريم غير تلك السبع المشهورة لكنها دونها في الأهمية والتواتر.
منشأ علم القراءات وتدوينه:(1/11)
ومن البدهي أن نعلم أن قراءة هؤلاء الأئمة ترجع في أصولها وضبطها إلى قراءة الصحابة الكرام.
... يقول الزركشي: فائدة: قيل: قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو راجعة إلى أُبّي، وقراءة ابن عامر إلى عثمان بن عفان وقراءة عاصم وحمزة والكسائي إلى عثمان وابن مسعود.
هذا ومن المفيد أن نعلم كذلك أن علم التجويد نشأ أول ما نشأ بالتلقين الشفوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصحابة ومنهم إلى من بعدهم، ولكن الناس من بعد احتاجوا إلى تدوين هذا العلم وتقعيد قواعده، يقول الشيخ القارئ عبد الفتاح المرصفي: أما الواضع له من الناحية العملية فهو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم... وأما الواضع له من ناحية قواعده وقضاياه العلمية ففيه خلاف، فقيل: أبو الأسود الدؤلي، وقيل: أبو القاسم عبيد بن سلام، وقيل: الخليل بن أحمد وقيل: غير هؤلاء من أئمة القراءة واللغة.
ومسائل علم التجويد عديدة وأبحاثه كثيرة وهو يحتاج إلى ممارسة وصبر وتَلقٍّ من أفواه القراء.
ولكنا نذكر من قواعده على سبيل المثال: أحكام النون الساكنة التنوين، وأحكام تفخيم الراء وترقيقها، وأحكام المدود وأنواعها، وأحكام الوقف وأنواعه، ومخارج الحروف، ومراتب القراءة.
أشهر المؤلفات في علم القراءات:
وقد نشط كثير من أئمة القراءة في التأليف في هذا الفن حرصاً على كتاب الله وخدمة له.
ومن أشهر كتب القراءات: التيسير لأبي عمرو الداني المعروف بابن الصيرفي، وله أيضاً كتاب جامع البيان في القراءات السبع.
ومنها: كتاب القصيدة اللامية في القرآن للشاطبي، كما نظم الشاطبي كتاب المقنع في رسم المصحف للداني في قصيدة أسماها القصيدة الرائية.
ومنها: النشر في القراءات العشر للجزري، وله أيضاً كتب أخرى في نفس العلم مثل تخيير التيسير وطبقات القراء.
ومنها: إيضاح الوقف والابتداء في كتاب الله لأبي بكر ابن القاسم الأنباري.(1/12)
ومنها: هداية القارئ إلى تجويد كلام الباري للشيخ عبد الفتاح المرصفي المعاصر.
ومنها :بهجة النفوس في تجويد كلام القدوس للدكتور مأمون كاتبي الحلبي
فوائد من علم القراءات:
ولعل من المناسب أن نختم حديثنا عن علم القراءات ـ الذي يقال له أيضاً علم ـ التجويد بما قاله ابن الجزري في المقدمة الجزرية :
والأخذ بالتجويد حتم لازم ... ... من لم يجود القران آثم
لأنه به إلا له أنزلا ... ... وهكذا منه إلينا وصلا
وهْو كذلك حِلية التلاوة ... ... وزينة الأداء والقراءةِ
أخرج الحافظ السيوطي في الدر المنثور عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يُقرئ رجلا. فقرأ الرجل: { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } مرسلة أي بدون مد لكلمة ( الفقراء) فقال ابن مسعود: ما هكذا أقرأنيها النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: وكيف أقرأكها. قال: أقرأنيها { إنما الصدقات للفقرآء والمساكين } فمدها ... (أخرجه سعيد بن منصور في سننه).
علم التفسير
ثانياً:علم التفسير
علم التفسير أحد العلوم الشرعية الأساسية المتعلقة بالقرآن الكريم من حيث أنه يهدف إلى تحصيل القدرة على استنباط الأحكام الشرعية على وجه الصحة من كلام الحق سبحانه إضافة إلى تذكير المخلوق بحق الخالق، وتنبيه العابد للاستعداد إلى يوم المعاد، وتحذير الإنسان من مكائد الهوى والشيطان وغير ذلك، مما يحصله المؤمن نتيجة معرفته بتفسير كلام الله وإطلاعه على أسراره وخفاياه.
تعريف التفسير وموضوعه:
ولقد عّرف الإمام الزركشي في كتابه البرهان علم التفسير بقوله: علم يبحث فيه عن أحوال القرآن المجيد من حيث دلالتُه على مراد الله تعالى، بقدر الطاقة البشرية.
ويعرِّفه صديق بن حسين القنوّجي في كتابه أبجد العلوم بأنه علم باحث عن معنى نظم القرآن بحسب الطاقة البشرية وبحسب ما تقتضيه اللغة العربية.(1/13)
والتفسير في اللغة إنما هو الإيضاح والتبيين، وقد جاءت كلمة التفسير في هذا المعنى في الآية الكريمة:{ ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً}(الفرقان/33) أي بياناً وتفصيلاً.
ومادام موضوع علم التفسير كلام الله سبحانه وتعالى الذي هو منبع كل حكمة ومعدن كل فضيلة، فإن غايته التوصل إلى فهم معاني كلام الله سبحانه واستباط أحكامه ومعرفة مراده ليصار بذلك إلى السعادة الدنيوية والأخروية.
ولما لكلام الله من قدسية، ولما يتوقف على تفسيره من نتائج هامة وأحكام تتعلق بأحوال الخلق، لم يكن علم التفسير بالعلم الذي يقوم دون اعتماد على دعائم أو استناد إلى علوم ومبادئ .
ومن هنا بيّن العلماء أن التفسير يتوقف في معرفته على عدد من العلوم هي: علم اللغة والنحو والصرف والاشتقاق والمعاني والبيان والبديع والقراءات وأصول الدين وأصول الفقه وأسباب النزول والقصص والناسخ والمنسوخ والفقه والأحاديث المبينة لتفسير المجمل والمبهم، إضافة إلى علم الموهبة الذي يورثه الله تعالى لمن يعمل بما يعلم من إخلاص النية وصحة الاعتقاد ولزوم سنن الدين... وبدون تلك العلوم أو بعضها يخشى على من يتعرض للتفسير أن يَضل ويُضل.
فضل علم التفسير:
علم التفسير في نظر كافة المسلمين من أشرف العلوم وأرفعها.
قال الأصبهاني: شرفه من وجوه:
أحدها: من جهة الموضوع، فإن موضوعه كلام الله تعالى.
وثانيها: من جهة الغرض فإن الغرض، منه الاعتصام بالعروة الوثقى والوصول إلى السعادة الحقيقية التي هي الغاية القصوى
وثالثها: من جهة شدة الحاجة. قال: كل كمال ديني أو دنيوي مفتقر إلى العلوم الشرعية والمعارف الدينية، وهي متوقفة على العلم بكتاب الله تعالى.
منشأ علم التفسير:(1/14)
وأول من أظهر تفسير القرآن وبين للناس معانيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان هو أعلم الناس بمعاني كتاب الله وإدراك أسراره ومعرفة مقاصده. بل هو الذي وجه إليه الله كلامه حيث قال: { لتبين للناس ما نزل إليهم }(النحل/44) .
يقول ابن خلدون في مقدمته: فكان النبي صلى الله عليه وسلم يبين المجمل ويميز الناسخ من المنسوخ، ويعرفه أصحابه فعرفوه، وعرفوا سبب نزول الآيات ومقتضى الحال منها منقولاً عنه، كما عُلم من قوله تعالى: { إذا جاء نصر الله والفتح } (النصر/1) أنها نعي النبي صلى الله وعليه وسلم وأمثال ذلك،(روا أبو يعلى والبيهقي وابن مردويه عن ابن عمر) ونقل ذلك عن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وتداول ذلك التابعون من بعدهم، ونُقل ذلك عنهم.
ولم يزل ذلك متناقلاً بين الصدر الأول والسلف حتى صارت المعارف علوماً ودونت الكتب فَكُتب الكثير من ذلك، ونقلت الآثار الواردة فيه عن الصحابة والتابعين، وانتهى ذلك إلى الطبري والواقدي والثعالبي وأمثالهم من المفسرين، فكتبوا ما شاء الله أن يكتبوه من الآثار.
أشهر المفسرين:
وأجمع العلماء على أن أبرز المفسرين للقرآن من الصحابة الخلفاء الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وأكثرهم تصدياً وتفسيراً هو علي كرم الله وجه الذي كان يقول: سلوني عن كتاب الله. فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم نهار. أم في سهل أم في جبل.
ومن مفسري الصحابة المشهورين: عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهم ـ الذي عرف بأنه ترجمان القرآن ورئيس المفسرين وحبر الأمة.
وأما التابعون فأبرز من روى التفسير منهم مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة مولى ابن عباس وطاووس وعطاء بن أبي رباح، وهؤلاء أكثر ما رووه عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وقد روي التفسير عن ابن مسعود رضي الله عنه علقمة والأسود بن يزيد النخعي وعبيدة بن عمرو السلماني وعمرو بن شرحبيل.(1/15)
ثم جاءت الطبقة التالية من صغار التابعين ومن تابعي التابعين‘ فدونوا الروايات وميزوها عن علم الحديث، وظهرت في طبقتهم لأول مرة الكتب المتعلقة بالتفسير. يقال: إن عبد الملك بن جريج المتوفى عام 149هـ أول من جمع الأخبار المتعقلة بالتفسير في كتاب مستقل.
وقد تطور تصنيف علم التفسير بعد ذلك فحذفت الأسانيد من جهة وضمت الروايات المتعددة من جهة أخرى إلى بعضها البعض وبدأ العلماء المفسرون باتخاذ منهج النقد للروايات. والتمييز بينها لقبول الصحيح ورد الضعيف ويعتبر تفسير الإمام محمد بن جرير الطبري المتوفى عام 310 هـ . والمسمى (جامع البيان في تفسير القرآن) أعظم وأقدم تفسير وصل إلينا كاملاً. وهو بحسب شهادات العلماء المتخصصين من أعظم التفاسير وأجودها. ويقع في ثلاثين مجلداً من الحجم الكبير.
أنواع التفسير:
ولقد تنوعت وتعددت كثيراً كتب التفسير حتى إنها لتكاد لا تقع تحت حصر، وذلك دليل على اهتمام وانشغال الأمة الإسلامية بكتاب ربها وبذلها لجهود كثيرة وحثيثة لشرحه من جوانب عديدة.
ولقد حصر بعض العلماء كتب التفسير المعروفة في مجموعات بحسب تقسيمات علمية على النحو التالي:
1) التفسير بالمأثور: أي تفسير القرآن الكريم بالقرآن نفسه أو بالسنة النبوية أو بما نقل عن الصحابة الكرام، ثم بما نقل عن التابعين.
ومن هذا القبيل تفسير الطبري، وتفسير بحر العلوم للسمرقندي، ومعالم التنزيل للبغوي، والدر المنثور للسيوطي، وتفسير ابن كثير.
2) التفسير بالرأي: وهو تفسير القرآن باجتهاد المفسر معتمداً على أسباب النزول ودلالة كلمات الآيات والناسخ والمنسوخ وغير ذلك من أدوات التفسير.
ولا شك أن التفسير بالرأي إن لم يتقيد بشروط المفسر وضوابط التفسير كان مزلقاً خطراً وباباً مفتوحاً للتعصب، بل للخروج بكلام الله عن مراده.(1/16)
ولكن من الكتب المشهورة بالتفسير بالرأي، والمعروفة باستقامة أهلها وبتقيدهم العلمي وعدم خروجهم عن مستحسن الأقوال وسديد النهج تفسير مفاتيح الغيب للرازي، وأنوار التنزيل للبيضاوي، وروح المعاني للألوسي، ولباب التأويل للخازن.
3) وهناك كتب اعتنت بتفسير ألفاظ القرآن الكريم وبيان معنى مفرداته، ككتاب مفردات القرآن للراغب الأصفهاني، وغريب القرآن للسجستاني.
4) وهناك كتب توجهت باهتمامها نحو الآيات المتعلقة بالأحكام الشرعية، مثل تفسير أحكام القرآن للشافعي، وأحكام القرآن لابن العربي، وأحكام القرآن للقرطبي.
5) وهناك تفاسير اعتنت بالاصطلاحات العلمية في عبارات القرآن، وهو ما يسمى بالتفسير العلمي الذي يربط بين القرآن وعلم الكون ، مثل تفسير طنطاوي جوهري المعاصر، ومثل ما كتبه في ذلك الغزالي أو السيوطي أو أبو الفضل المرسي في كتب شتى.
6) وهناك أخيراً التفاسير التي انصب اهتمامها على ما يتعلق بالعلوم العربية من نحو وبيان وبديع، أو ما في القرآن من إعجاز لغوي.
وقد أفرد بعض المصنفين ذلك بالتأليف، مثل الشيخ مكي بن أبي طالب والعكبري والصرخدي، ومثل مصنفات الباقلاني والرماني والرافعي.
أخرج ابن جرير رحمه الله عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: أنزل في هذا القرآن كل علم، وميزّ لنا فيه كل شيء ولكنّ علمنا يقصْر عما بين لنا في القرآن.
وصدق الله سبحانه { ما فرطنا في الكتاب من شيء }(الأنعام/38).
علوم القرآن
ثالثاً: علوم القرآن
تقدم الحديث معنا في علم التفسير من قبل. وعلمنا أنه يهدف إلى توضيح وتبيين معنى كلام الله سبحانه بحسب الطاقة البشرية بعد الاستعانة بعلوم عديدة أخرى.
أهداف علوم القرآن وتنوعها:(1/17)
ولكن علم التفسير ليس إلا علماً واحداً من علوم شتى كلها تتعلق بالقرآن الكريم، اصطلح على تسميتها بعلوم القرآن الكريم. وهي مجموعة من العلوم تدور في فلك القرآن العظيم، وتنسج مسائلها حوله، وتستمد فروعها وشعبها منه، وتهدف كلها إلى خدمته وإلقاء الأضواء الكاشفة عليه، وإزاله الشبهات من حوله، وبيان تناسقه ومحاسنه، ورد كيد الكائدين له وإزاحة النقاب عن أسراره ومعانيه.
وتكاد لا تقع تلك العلوم تحت حصر أوعد.
وقد تعددت أقوال العلماء في عددها فمن مُقِل أو مُكثر، ومن قانع ومن مستزيد، حتى أوصلها بعضهم إلى أرقام عجيبة مدهشة لعامة الناس الذي يقنعون من بحر القرآن بساحله، ومن ثمراته بأدناها وأقربها، دون أن ينهضوا بهممهم، أو يرتفعوا بأفهامهم، أو يتجشموا المشاق، أو ينقبوا بحرص، كماهو شأن الخاصة من علماء الأمة وأصفياء الله.
قال ذو النون المصري رحمه الله: أبى الله عز وجل إلا أن يحرم قلوب البطالين مكنون حكمة القرآن.
الزركشي... ونظرة شاملة إلى علوم القرآن:
ومن المفيد جداً في هذا الباب أن ننقل كلمة جامعة واسعة في تعداد علوم القرآن ،سطرها عالم خبير وجهبذ نحرير، شهد له القاصي والداني بهذا المقام الرفيع. ألا وهو الإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي المتوفى سنة 794هـ في مقدمة كتابه الشهير (البرهان في علوم القرآن). يقول رحمه الله:
ولما كانت علوم القرآن لا تنحصر، ومعانيه لا تستقصى، وجبت العناية بالقَدْر الممكن. ومما فات المتقدمين وضع كتاب يشتمل على أنواع علومه، كما وضع الناس ذلك بالنسبة إلى علم الحديث. فاستخرت الله تعالى ـ وله الحمد ـ في وضع كتاب في ذلك جامع لما تكلّم الناس في فنونه، وخاضوا في نكته وعيونه، وضمنته المعاني الأنيقة والحكم الرشيقة. مايهز القلوب طرباً، ويبهر العقول عجباً، ليكون مفتاحاً لأبوابه وعنواناً على كتابه.. وسميته (البرهان في علوم القرآن) وهذه فهرست أنواعه.(1/18)
ويأخذ الزركشي في تعداد علوم القرآن علماً علماً فيقول:
الأول: معرفة سبب النزول.
الثاني: معرفة المناسبات بين الآيات.
الثالث: معرفة الفواصل.
الرابع: معرفة الوجه والنظائر.
الخامس: علم المتشابه.
السادس: علم المبهمات.
ومن الإطالة أن نستعرض جميع العلوم التي سردها الزركشي، إذ أنه يبلغ بها سبعة وأربعين علماً ولكنا نذكر منها إضافة إلى ما مر قبل: علم مرسوم الخط، وعلم الناسخ والمنسوخ، وعلم آداب التلاوة، وعلم المكي والمدني، وعلم المحكم والمتشابه، وعلم أساليب القرآن، وعلم أسرار الفواتح، وعلم خواتيم السور... الخ.
ويختم الزركشي تعداده لعلوم القرآن بقوله: واعلم أنه ما من نوع من هذه الأنواع إلا ولو أراد الإنسان استقصاءه لاستفرغ عمره ثم لم يُحْكم أمره ولكن اقتصرنا من كل نوع على أصوله والرمز إلى بعض فصوله فإن الصناعة طويلة والعمر قصير، وماذا عسى أن يبلغ لسان التقصير.
من مواضيع علوم القرآن:
ولايتسع المقام لتناول كل موضوع من مواضيع علوم القرآن بشيء من التفصيل كما فعلنا من قبل بالنسبة لعلم التفسير. ولكنا نجد لزاماً علينا أن نقف مع بعض تلك المواضيع وقفات سريعة وعاجلة.
1) أسباب النزول:
وقد أفرده بالتأليف كثير من العلماء، منهم على بن المديني شيخ البخاري والواحدي والسيوطي وغيرهم.
ومعرفة سبب النزول توصلنا إلى المعنى الصحيح للآية وتبين لنا الحكمة الباعثة عليه، وقد يكون لفظ النص عاماً إلا أن الدليل يقوم على التخصيص، فنحتاج إلى معرفة سبب النزول لمعرفة تخصيص العام. كما نحتاج إلى معرفة أسباب النزول لإزالة بعض الإشكالات.
2) معرفة المناسبات بين الآيات:
أي معرفة الرابط الذي يضم هذه الآية إلى التي تليها، وهذه السورة إلى ما بعدها، وذلك ولا شك ـ كما يقول الزركشي ـ علم شريف تُحزَرُ به العقول، ويعرف به قدر القائل فيما يقول.(1/19)
وقد أفرده بالتصنيف أبو جفعر بن الزبير في كتابه (البرهان في مناسبة ترتيب سورة القرآن). كما ألف فيه البقاعي كتابه (نظم الدرر في تناسب الآيات والسور).
قال الشيخ أبو الحسن الشهراباني: أول من أظهر ببغداد علم المناسبة ـ ولم نكن سمعناه من غيره ـ الشيخ الإمام أبو بكر النيسابوري، وكان غزير العلم في الشريعة والأدب. وكان يقول على الكرسي إذا قرئ عليه الآية: لم جُعلت هذه الآية إلى جنب هذه؟ وما الحكمة من جعل هذه السورة إلى جنب هذه السورة؟
3) علم المتشابه:
وهو إيراد القصة الواحدة في صور شتى وفواصل مختلفة ويكثر ذلك في ايراد القصص والأنباء مثل معرفة الحكمة من الفرق بين قوله تعالى {وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة } في البقرة(58) وقوله { وقولوا حطة وادخلوا الباب سجداً } في الأعراف(161). ونحو ذلك وهو أنواع كثيرة.
... ... وقد صنف فيه جماعة من العلماء منهم السخاوي في منظومته هداية المرتاب في المتشابه. وصنف في توجيهه أبو القاسم الكرماني تاج القراء كتابه البرهان في متشابه القرآن، وصنف فيه الرازي كتابه: درة التنزيل وغرة التأويل.
5) علم المبهمات:
أي مالم يذكر اسمه في الآية ولم يحدد ـ إن لم يكن مما استأثر الله بعلمه ـ مثل معرفة أي مسجد قصده الله بقوله: { لمسجد أسس على التقوى} (التوبة/108) ومعرفة الصحابي المقصود بقوله سبحانه { الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى...} (الليل/19) وهذا الصنف كثير في كتاب الله، وهو علم لطيف لا يعلمه كثير من الناس.
وقد صنف فيه عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي كتابه: التعريف والإعلام بما أبهم في القرآن من الأسماء والأعلام ، وكذلك فعل ابن عساكر في كتابه التكميل والإتمام وغيرهما.
6) أسرار الفواتح والسور:(1/20)
وقد افتتح سبحانه وتعالى سور القرآن العزيز بعشرة أنواع من الكلام، منها الثناء عليه، وحروف الهجاء، والنداء، والقسم، والجمل الخبرية، والشرط، والأمر، والاستفهام، والدعاء، والتعليل.
وقد ألف في هذا العلم ابن أبي الأصبع كتابه الخواطر والسوانح في أسرار الفواتح. ونقل عنه السيوطي في الاتقان...
ومن هذا النوع من علوم القرآن يلغز بالنسبة لسور القرآن المائة والأربع عشر فيقال: ما شيء إذا عددته زاد على المائة وإذا عددت نصفه كان دون العشرين... إذ لا شك أن نصف القرآن الأول يحتوي على ثماني عشرة سورة فقط.
7) ومن علوم القرآن الكريم المكي والمدني :
وفائدته معرفة الناسخ والمنسوخ، ومعرفة المخاطبين بالآيات ونحو ذلك.
ولا شك أن القرآن المكي أكثر مما نزل بالمدينة من القرآن.
وقد اختلف العلماء في تعريف المكي والمدني. فمن قائل المكي هو ما نزل بمكة، والمدني ما نزل بالمدينة. ومن قائل: المكي ما نزل قبل الهجرة، والمدني ما نزل بعدها، وآخرون قالوا: المكي ما جاء خطاباً لأهل مكة، والمدني ما وقع خطاباً لأهل المدينة. ومعرفة ذلك إما عن طريق النقل والسماع، أوعن طريق القياس على القواعد.
وهناك مسائل كثيرة ملحقة بالمكي والمدني كمسألة ما نزل في غير مكة والمدينة، ومسألة ما أشبه القسم الآخر وهو ليس منه، ومسألة ما نزل من القرآن ليلاً أونهاراً، ومسألة ما نزل من القرآن مشيعاً ومحفوفاً بالملائكة تكريماً له وتشريفاً.
8) ومن علوم القرآن الكريم معرفة على كم لغة أُنزل:
فقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أقرأني جبريلُ على حرف فراجعته ثم لم أزل استزيده فيزيدني حتى انتهى على سبعة أحرف ". وفي حديث آخر" إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه " متفق عليه.(1/21)
وفي معنى سبعة أحرف أقوال للعلماء كثيرة أهمها وأقواها أنها سبع لغات لسبع قبائل من العرب. أي نزل القرآن بعضه بلغة قريش، وبعضه بلغه هذيل، وبعضه بلغة تميم، وبعضه بلغة أزد وربيعه، وبعضه بلغة هوازن وسعد بن بكر وهكذا .
ولكن العلماء متفقون على أنه لا تجوز قراءته بأي لغة من تلك اللغات أو لجهة من هذه اللهجات إلا سماعاً ونقلاً لا اجتهاداً وقياساً.. ولاشك أن في تلك السبعة الأحرف توسعة وتسهيلاً.
روى الترمذي عن أبي بن كعب أنه: لقي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جبريلَ. فقال: يا جبريل إني بعثت إلى أمةٍ أميين منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ كتاباً قط. فقال: يا محمد إن القرآن أنزل على سبعة أحرف.
... قال الله تعالى: { ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر } (القمر/17).
9) ومن علوم القرآن ما يتعلق بجمعه وحفظه:
أما حفظه في الصدور ـ وهو السابق زمناً وواقعا ـ فقد كان كثير من الصحابة رضوان الله عليهم يحفظونه كاملاً بالتلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما حفظه في الألواح والعظام ونحو ذلك فقد كان محفوظاً كاملاً فيها، لكنه كان متفرقاً بين أيدي صحابة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن كل قطعة من القرآن كان يحفظها جماعة كثيرة أقلهم بالغون حد التواتر.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول " ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا"(رواه أحمد عن عثمان رضي الله عنه).
وأما جمعه كاملاً في مصحف واحد فقد قام بهذه المهمة الجليلة خير قيام أول الأمر أبو بكر الصديق رضي الله عنه ،حيث كلف زيد بن ثابت رضي الله عنه بذلك. ثم إن عثمان بن عفان رضي الله عنه جمع الناس كلهم في سائر الأمصار على مصحف واحد، وأحرق ما سواه مما كان متفرقاً أو كان مختلطاً بسواه.(1/22)
10) ومن علوم القرآن الكريم إعرابه:
وقد عني العلماء بذلك عناية فائقة لما للاعراب من علاقة بتحديد المعنى.
وممن ألف في إعراب القرآن الكريم الإمام الحوفي في كتابه (البرهان في تفسير القرآن). ومكي بن أبي طالب في كتابه (المشكل في إعراب القرآن). والعكبري في كتابه (إملاء ما منّ به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات في القرآن) وأبو حيان النحوي في كتابه ( البحر المحيط).
... ... وإعراب القرآن ومعرفة أحكام ذلك من جهة إفرادها وتركيبها فن عظيم وعلم واسع، تقصر عنه همم العلماء، وتنقطع دونه أعناق الإبل كما أن له آداباً وضوابط.
يقول أبو حيان التوحيدي في البصائر: سألت السيرافي عن قوله تعالى{ قائماً بالقسط }(آل عمران/18) بم انتصب. قال: بالحال. قلت: لمن الحال. قال: لله تعالى قلت: فيقال لله حال. قال: إن الحال في اللفظ لا لمن يلفظ الحال عنه.
11) ومن علوم القرآن الكريم معرفة الوقف والابتداء..
وهوـ كما يقول الزركشي ـ فن جليل وبه يعرف كيف أداء القرآن، ويترتب على ذلك فوائد كثيرة واستنباطات غزيرة وبه تبيّن معاني الآيات، ويؤمن الاحتراز عن الوقوع في المشكلات.
وقد بين أبو بكر بن مجاهد شرائط متقن هذا العلم بقوله: لايقوم بالتمام في الوقف إلا نحوي عالم بالقراءات، عالم بالتفسير والقصص، وتخليص بعضها من بعض، عالم باللغة التي نزل بها القرآن ..
والوقف عند أكثر القراء ينقسم إلى أربعة أقسام، تام مختار، وكافٍ جائز، وحسن مفهوم، وقبيح متروك ولكل قسم أمثلة كثيرة.
... ... وقد عني العلماء بهذا العلم من علوم القرآن فها هو الزجاج يصنف فيه كتابه (القطع والاستئناف) وكذلك الداني فعل في كتابه ( الاكتفاء في الوقف والابتداء). ومثلهما فعل العماني وابن الأنباري وابن عباد.
... وقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أنهم كانوا يعلَّمون ما ينبغي أن يوقف عنده كما يتعلمون القرآن.
12) ومن علوم القرآن الكريم المتعلقة به علم مرسوم الخط:(1/23)
وبه يعرف كيف تكتب كلمات القرآن تبعاً لخط المصحف الإمام أي خط مصحف عثمان..
ولقد أثر أن الصحابة رضوان الله عليهم اختلفوا في كتابة التابوت(البقرة/248)، فقال زيد: اكتبوها التابوه بالتاء المربوطة، وقال النفر القرشيون: بل تكتب ( التابوت ) بالتاء المفتوحة، وترافعوا إلى عثمان رضي الله عنه فقال : اكتبوا التابوت، فإنما نزل القرآن على لسان قريش( رواه البخاري وغيره عن أنس رضي الله عنه).
... ولذلك فكتابة بعض الكلمات في المصحف قد تزاد فيها حرف الألف مثل {لا أذبحنه}(النمل/21) أو الياء مثل { وايتاءي ذي القربى }(النحل/90) أو الواو مثل { سأوريكم دار الفاسقين }(الأعراف/145). أوقد تحذف منها الألف مثل { بسم الله }(الفاتحة/1) أو الواو مثل { ويمحُ الله الباطل }(الشورى/24) أو الياء مثل { وإياي فارهبون }(البقرة/40).
... ... ومما يتعلق بهذا العلم حكم ترجمة القرآن إلى غير العربية هل تجوز أم لا؟ وهل تسمى قرآناً؟ أم هي نقل لمعانيه لا لألفاظه؟
13) ومن علوم القرآن الكريم علم معرفة فضل القرآن بشكل عام، وفضل الآيات التي وردت فيها نصوص معينة بشكل خاص .
... ورد مثلاً في فضل آية الكرسي. { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } (البقرة/255) في الصحيحين من حديث أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي آية في كتاب الله أعظم. قلت: الله ورسوله أعلم. قال: " يا أبيّ ! أتدري أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: قلت: { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } قال فضرب في صدري وقال ليهنِك العلم أبا المنذر ".
... ... وكذلك ورد في فضل سورة الفاتحة وسورة البقرة وسورة يس وسورة { قل هو الله أحد }.
ومن هذا العلم معرفة أي آية في كتاب الله أرجى، وأي آية في كتاب الله أخوف.
14) ومن علوم القرآن الكريم معرفة الأمثال الكائنة فيه..(1/24)
قال الزركشي : وقد عده الشافعي مما يجب على المجتهد معرفته من علوم القرآن، فقال ـ أي في معرض سرده لشروط المجتهد ـ قال: ثم معرفة ما ضَرَب فيه من الأمثال الدوالّ على طاعته المثبتة لاجتناب معصيته...
... وقد صنف فيه من المتقدمين الحسن بن الفضل وغيره.
... ... ويكفي هذا العلم مزية وتفخيماً قوله سبحانه ( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون )(العنكبوت/43). وقد أتت أمثلة القرآن مشتملة على بيان تفاوت الأجر على المدح والذم وعلى الثواب والعقاب وعلى تفخيم الأمر أو تحقيره.
... روى البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن القرآن نزل على خمسة أوجه: حلال، ومحكم ، وحرام، ومتشابه، وأمثال. فاعملوا بالحلال، واجتنبوا الحرام، واتبعوا المحكم، وآمنوا بالمتشابه، واعتبروا بالأمثال ".
15) ومن علوم القرآن علم معرفة موهم المختلف. أي ما يوهم التعارض بين آياته وهو ليس كذلك، لأن كلام الله جل جلاله منزه عن الاختلاف. قال تعالى { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً }(النساء/82). وإنما يحتاج المبتدئ إلى معرفة ما يزيل وهمه أول الأمر.
... وقد ألف في هذا العلم أبو على محمد بن المستنير كتاب ( الرد على الملحدين في تشابه القرآن).
... ... وفي هذا العلم ذكر العلماء مرجحات عند تعارض آيتين: فأولاً تقديم المكي على المدني، ثم من المرجحات أن يكون أحد الحكمين على غالب أحوال أهل مكة، والثاني على غالب أحوال أهل المدينة. ثم أن يكون أحد الظاهرين مستقلاً بحكمه، والآخر مقتضياً لفظاً يزاد عليه، ثم أن يكون كل واحد من العمومي محمولاً على ما قصد به في الظاهر عند الاجتهاد، فيقدم ذلك على تخصيص كل واحد منهما من المقصود بالآخر وغير ذلك من المرجحات.(1/25)
... ... وقد حكى أبو العباس بن سريح قال: سأل رجلُُ بعض العلماء عن قوله تعالى { لا أقسم بهذا البلد }(البلد/1) فأخبر سبحانه أنه لا يقسم بهذا البلد، ثم أقسم به في قوله {وهذا البلد الأمين }(التين/3) فقال ابن سريح: أي الأمرين أحب إليك؛ أجيبك ثم أقطعك؟ أو أقطعك ثم أجيبك؟ فقال: بل اقطعني ثم أجبني. قال: اعلم أن هذا القرآن نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضرة رجالٍ وبين ظهراني قومٍ، وكانوا أحرص الخلق على أن يجدوا فيه مغمزاً، وعليه مطعناً، فلو كان هذا عندهم مناقضة لعلّقوا به وأسرعوا بالرد عليه. ولكنّ القوم علموا وجهلتَ، فلم ينكروا ما أنكرت. ثم قال: إن العرب قد تدخل " لا" في أثناء كلامها وتلغى معناها.
... وفي ختام الحديث عن علوم القرآن الكريم، التي هي بمثابة حصونٍ لحمايته، وأدواتٍ لفهمه ووسائل لدعوته، نعود فنذكر أننا لم نستعرض إلا طرفاً، ولم نذكر إلا حرفاً... فسبحان من جعل القرآن العظيم بحراً لا ساحل له، ولا نهاية لأعاجيبه، ولا مطمح للأنفس في بلوغ قعره.
{ قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً }(الكهف/109).
علوم الحديث
رابعاً : علوم الحديث
لم تهتم الأمة الإسلامية بشيء بعد اهتمامها بكتاب الله عز وجل كاهتمامها بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسعيها في ذلك السعي العجيب الفذ..
فانطلاقاً من كون السنة النبوية الركن الثاني لهذا الدين العظيم، وما لذلك من آثار وخلفيات‘ فإن علماء المسلمين منذ السنوات الأولى لفجر الإسلام وعلى مر العصور واختلاف الدهور كان لهم في علوم السنة النبوية شغل شاغل وعمل علمي متواصل وتفرغ كامل.(1/26)
تارة يحفظون الحديث، وتارة يدونونه، وتارة يحضون الناس على تحمله، وتارة يقسمونه إلى أقسام بحسب مواضيعه أو بحسب مراتبه، وتارة يذبون الشبهات عنه، وتارة يكشفون أمر الوضاعين فيه، وتارة يبينون القواعد العامة والأصول التي يقبل بها الحديث أو يرد...
وهكذا تولدت علوم جمة ومعارف كثيرة، حملتها صدور أولئك الرجال الأفذاذ، وسطرتها أقلامهم النشطة، وطوتها كتبهم النفيسة.
ونحن عندما نقول ( علوم الحديث ) نعني بذلك كمّا كبيراً ضخماً من المؤلفات والمواضيع، ملأ من المكتبة الإسلامية الكبيرة مساحات واسعة، وكان بفضل الله سبحانه من فوائد هذه الأمة ومزاياها.
تعريف علم الحديث رواية ودراية:
وإذا أردنا بادئ ذي بدء تعريفاَ شاملاً لعلوم الحديث، نجد أنفسنا مضطرة إلى اتباع طريقة العلماء في تقسيم تلك العلوم إلى قسمين أساسين هما علم الحديث رواية، وعلم الحديث دراية.
فأما علم الحديث رواية فهو: يشتمل على أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وروايتها وضبطها وتحرير ألفاظها.
وأما علم الحديث دراية ( وهو الذي يطلق عليه مصطلح الحديث ) فهو علم بقوانين يعرف بها أحوال السند والمتن.
وأقدم من يمكن إضافة تأليف بعض المباحث في علم مصطلح الحديث إليه ـ كما قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في كتابه ( لمحات من تاريخ السنة وعلوم الحديث ) ـ هو الإمام علي بن المديني المتوفى عام 234 وهو من أشهر أئمته....
كما يمكن أن يقال: إن الإمام الشافعي رحمه الله المتوفى عام 204هـ أول من دون بعض المباحث الحديثية في كتابه (الرسالة).
لكن العصر الذهبي لتدوين السنة النبوية إنما كان القرن الثالث الهجري.
أما القرن الرابع فهو عقد التآليف الجامعة التي لا تزال حتى الآن مراجع لا يستغنى عنها.
وفيما بين القرن السابع والقرن العاشر كان دور النضج والاكتمال وبلوغ الغاية القصوى والتمام.
سرد وبيان لعلوم الحديث:(1/27)
وإذا أردنا من جانب آخر أن نستقصي جملة علوم الحديث الشريف فلن نستغني عن تقسيمات العلماء الجامعة لذلك خاصة تقسيمات الأستاذ الدكتور نور الدين عتر في كتابه القيم: ( منهج النقد في علوم الحديث) فمن تلك التقسيمات:
1) علوم رواة الحديث: وهو ما يتعلق بالتعريف بحال الراوي ومرتبته وتعريف كل مرتبة أو وصف ومتى تقبل روايته ومتى ترد، حيث لقبول الرواية شروط ولردها شروط.
كذلك وفي هذا القسم من علوم الحديث يتعرض العلماء للتعريف بالصحابة وبطبقات الثقات والضعفاء وغير ذلك. كما يتعرضون لتواريخ رواة الحديث وطبقاتهم وأسمائهم وكناهم وألقابهم، وفي تلك المباحث تفريعات كثيرة لا حصر لها.. ومن أهمها شروط العدالة ومسائلها، والجرح والتعديل وآدابه وكيفية قبول كل منهما وألفاظُهما وعدالة الصحابة وطبقاتهم .
وقد ألف فيهم ابن عبد البر كتابه (الاستيعاب في أسماء الأصحاب) وابن الأثير كتابه ( أسد الغابة في معرفة الصحابة).
وكذلك من مباحث علوم رواة الحديث: معرفة الثقات والضعفاء.
... وفيها كتب كثيرة منها كتاب (الثقات لابن حيان) وكتاب (تذكرة الحفاظ) للذهبي و(الكامل في الضعفاء) لابن عدي و(ميزان الاعتدال) للذهبي وكتاب (الجرح والتعديل) لأبي حاتم الرازي.
كما إن من علوم رواة الحديث معرفة المدلسين الذي ألف فيهم المحدثون مؤلفات منها: (التبيين في أسماء المدلسين) للبرهان الحلبي الحافظ ، وكتاب ( تعريفات أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس ) لابن حجر.
وقد ألف العلماء في تواريخ الرواة كتباً منها: (التاريخ الكبير) للإمام البخاري.
كما ألفوا في طبقات الرواة مثل كتاب (الطبقات الكبرى) لابن سعد، والذي يعرف به التابعين الذين جاءوا بعد الصحابة رضوان الله عليهم ومن جاء بعدهم.(1/28)
2) علوم رواية الحديث : وتشتمل على خمسة أنواع هي: آداب طالب الحديث، وآداب المحدث، وكيفية سماع الحديث وتحمله وضبطه، وصفة رواية الحديث وشرط أدائه، وكتابة الحديث وكيفية ضبطه. وفي كل نوع فروع كثيرة عديدة .
...
فمن آداب طالب الحديث إخلاص النية لله تعالى، والجد في الأخذ عن العلماء، والعمل بالعلم، واحترام الأساتذة وتوقيرهم، وبذل الفائدة لزملائه طلاب الحديث، واتباع منهج علمي متدرج في طلب الحديث، والعناية بمصطلح الحديث.
...
ومن آداب المحدث:الإخلاص، وتصحيح النية، والتحلي بالفضائل، ومراعاة الأهلية للتحديث، وترك التحديث متى خاف الغلط، وتوقير من هو أولى منه، وتوقير الحديث ومجلسه، والاشتغال بالتصنيف والإنتاج العلمي..
ونتيجة لذلك الاشتغال بالتأليف خرجت إلى الأمة الجوامعُ كصحيح البخاري ومسلم والترمذي. والسننُ كسنن أبى داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والمصنفاتً كمصنف عبد الرزاق ومصنف ابن أبي شيبة، والمستدركاتُ كمستدرك الحاكم، والمسانيد كمسند الإمام أحمد ومسند أبي يعلى الموصلي، والأطراف كتحفة الأشراف بمعرفة الأطراف للمزي وذخائر المواريث في الدلالة على مواضع الحديث للنابلسي، والمعاجُم كالمعجم الكبير والأوسط والصغير للطبراني، والمصنفاتُ الجامعة للكتب مثل كتاب جامع الأصول من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لابن الأثير وكنزِ العمال في سنن الأقوال والأمثال للمتقي الهندي والجامع الكبير للسيوطي، ومصنفات الزوائد كمجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي والمطالب العالمية بزاوئد المسانيد الثمانية لابن حجر، وكتبُ التخريج كنصب الراية لأحاديث الهداية للزيلعي والمغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار للعراقي والتلخيص الخبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير لابن حجر وغير ذلك كثير.(1/29)
وبشكل إجمالي فإن المحدثين قد عنوا أشد العناية بعلوم الرواية بتفصيل يُدهش المطلع عليه. وهناك كتب تعتبر مصادر في هذا المجال. مثل كتاب (المحدث الفاصل بين الراوي والواعي) للرامهرمزي و(الكفاية في علم الرواية) و(الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع) كلاهما للخطيب البغدادي و(الإلماع في أصول الرواية وتقييد السماع) لليحصبي.
3) علم قبول الحديث ورده: ونتيجة لهذا العلم نستطيع الجزم بصحة نسبة الحديث المروي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو بكذبها، أو نحكم له بالحسن أو الضعف.
...
وفي هذا العلم يقسم الحديث إلى قسمين مقبول ومردود، فأقسام الحديث المقبول أربعة: الصحيح، والحسن، والصحيح لغيره، والحسن لغيره، ولكل واحد منها تعريف وأبحاث عديدة، ومن أهمها على سبيل المثال لا الحصر تعريف الحديث الصحيح بأنه: الحديث الذي اتصل سنده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه ولا يكون شاذاً ولا معللاً.
ومصادره عديدة منها موطأ الإمام مالك وصحيح الإمام أبي عبد الله البخاري وصحيح مسلم بن الحجاج القشيري وصحيح ابن خزيمة وصحيح ابن حبان والمختارة لضياء الدين المقدسي ، والمستدركات على الصحيحين والمستخرجات عليهما وغيرها.
وأما الحديث المردود فهو أنوع منها الضعيف والمضعَّف والمتروك والمطروح والموضوع، وكذلك لكل منها تعريف ومسائل.
فمن ذلك أن الحديث الضعيف هو ما فقد شرطاً من شروط الحديث المقبول باختلال عدالة الراوي، أو ضبطه، أو انقطاع السند، أو شذوذ المتن، أو وجود العلة القادحة، أو عدم وجود العاضد عند الحاجة إليه.
وقد بين العلماء حكم الحديث الضعيف حيث أجاز جمهورهم العمل به في فضائل الأعمال فقط بشروط مذكورة مبينة.
ومن أهم أبحاث الحديث المردود بحث الحديث الموضوع، الذي هو مختلق ومصنوع ومنسوب كذباً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/30)
ويتعلق بذلك معرفة أسباب الوضع، وأصناف الوضاعين، وكيفية محاربة الوضع في الحديث ووسائل ذلك، وعلامات الحديث الموضوع، وعلامات الوضع في الراوي أو المروي.
... ومن أهم المؤلفات في بيان الأحاديث الموضوعة كتاب (اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة) للسيوطي وكتاب (تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة) لابن عِراق الكناني و(المنار المنيف في الصحيح والضعيف) لابن القيم و(المصنوع في الحديث الموضوع) للحافظ علي القاري.
4) علوم المتن: والمتن في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ما انتهى إليه السند من الكلام. أي هو النص المنقول إلينا من خلال سلسلة الرواة.. يقول الدكتور نور الدين عتر في منهج النقد في علوم الحديث: ولدى استقراء هذه الأنواع من علوم الحديث وجدنا أنه يمكن تقسيمها إلى ثلاثة زُمَر هي:
أولاً :علوم المتن من حيث قائله.
ثانياً : علوم شارحة للمتن.
ثالثاً: علوم تنشأ من مقابلة المتن المروي بالروايات والأحاديث الأخرى.
... فأما علوم المتن من حيث قائله فإنها أربع.
أولها: الحديث القدسي: وهو ما أضيف إلى رسول الله صلى عليه وسلم وأسنده إلى ربه عز وجل أي قال فيه: قال الله تعالى .. وهو غير القرآن الكريم.
...
وقد عني العلماء بجمع تلك الأحاديث في كتب خاصة منها (الاتحافات السنية في الأحاديث القدسية) للإمام المناوي.
...
ثانيها: الحديث المرفوع: والمرفوع من الحديث ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم خاصة من قول أو فعل أو تقرير أو وصف، وفيه معظم المؤلفات الحديثية.
...
وهذا النوع ـ أي الحديث المرفوع ـ يشمل نوعين آخرين ينضمان إلى النوعين السابقين، هما الحديث الموقوف الذي أضيف إلى الصحابة رضوان الله عليهم، والمقطوع وهو ما أضيف إلى التابعين.
ومن مصادر الحديث الموقوف والمقطوع المصنفات ومن أهمها: (مصنف عبدالرزاق) و (مصنف ابن أبي شيبة) وكذلك الكتب التي اعتنت بالتفسير بالمأثور مثل (تفسير ابن جرير).(1/31)
... وأما علوم المتن من حيث درايته فمنها علم غريب الحديث أي ما يتعلق بما وقع في متون الأحاديث من الألفاظ الغامضة البعيدة عن الفهم، مثل شرح كلمة السقب في حديث: (الجار أحق بسقبه) وهو اللزيق (رواه البخاري وغيره عن أبي رافع).
وقد عني العلماء بالتصنيف في شرح الغريب عناية كبيرة، منهم ابن الأثير في كتابه (النهاية في غريب الحديث)، وأبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه (غريب الحديث)..
ومن علوم دراية المتن علم أسباب ورود الحديث ، وهو مهم لفهم الحديث، كأهمية معرفة أسباب النزول بالنسبة للقرآن الكريم.
ومن المؤلفات في هذا العلم كتاب (اللمع) للإمام السيوطي، و(البيان والتعريف في أسباب ورود الحديث الشريف) للمحدث ابن حمزة الحسيني.
ومن تلك العلوم علم ناسخ الحديث ومنسوخه.
وممن كتب فيه أبو بكر محمد بن موسى الحازمي في كتابه (الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار).
ومن تلك العلوم علم مشكل الحديث أو مختلف الحديث. وهو ما تعارض ظاهره مع القواعد فأوهم معنى باطلاً، أو تعارض مع نص شرعي آخر وهو مهم مفيد لإزالة كثير من الشبة التي يتعلق بها بعض الواهمين.
... وممن كتب فيه ابن قتيبة النيسابوري في كتابه (تأويل مختلف الحديث) وأبو جعفر الطحاوي في كتابه (مشكل الآثار) وابن فورك في كتابه (مشكل الحديث). وغيرهم.
5) علوم السند: ومعلوم أن السند هو سلسلة الرواة الذين نقلوا الحديث واحداً عن الآخر حتى يبلغوا به إلى قائله. قال ابن المبارك: الإسناد عندي من الدين،. لولا الإسناد لذهب الدين ولقال من شاء ما شاء.
وهذه العلوم تجمعها شعبتان:
شعبة علوم السند من حيث الاتصال، وهي تشمل الحديث المتصل والمسند والمعنعن والمؤنن والمسلسل والعالي والنازل والمزيد في متصل الأسانيد.
وشعبة علوم السند من حيث الانقطاع وهي تشمل المنقطع والمرسل والمعلق والمفصل والمدلس والمرسل الخفي.(1/32)
يقول الدكتور عتر: وقد بذل المحدثون غاية الجهد في تتبع الأسانيد وتقصيها، حتى رحلوا من أجلها في البلاد، وجالوا في الآفاق، لكي يعثروا على سند، أو لكي يبحثوا في سند صعب عليهم أمره.
وفي هذا القسم من الكتب كثير منها: (الأحاديث المسلسلة) للسخاوي و(المراسيل) لأبي حاتم الرازي. و(تغليق التعليق) لابن حجر و(جامع التحصيل لأحكام المراسيل) للحافظ العلائي، و(تمييز المزيد في متصل الأسانيد) للخطيب البغدادي. ...
ولكل واحد من علوم السند تعريف وأبحاث ومسائل.
ولعل من أطرف ما يذكر في هذا المجال ما يتعلق بالحديث المسلسل، وهو ما تتابع رجال إسناده على صفة واحدة أو حال واحدة للرواية أو الرواة، وذلك كحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن من الشعرحكمة " (رواه الشيخان عن أبي) وقالت عائشة رضي الله عنها يرحم الله لبيداً وهو الذي يقول :
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيتُ في خَلَف كجلد الأجرب
يتأكّلون خيانة مذمومة ويعاب سائلهم وإن لم يَشْغب
قالت عائشة: يرحم الله لبيداً كيف لو أدرك زماننا هذا؟. قال عروة بن الزبير الراوي عن عائشة: رحم الله عائشة كيف لو أدركت زماننا هذا؟ وهكذا تسلسل الحديث بقول كل راو فيه: رحم الله فلاناً كيف لو أدرك زماننا هذا.
6) ومن علوم الحديث الشريف علوم توصف بأنها مشتركة بين سند الحديث ومتنه : وهي تنشأ من مقابلة الحديث سنداً ومتناً مع غيره من الأحاديث والروايات الأخرى ليعرف تفرد الحديث وتعدده، ثم يعرف اتفاقه مع غيره أو اختلافه. وهو ما يمكن سرده ضمن ثلاثة أنواع:
النوع الأول في تفرد الحديث، وهو يشمل الحديث الغريب، والحديث الفرد، وكل واحد منهما له أقسام وتعاريف.
...
وممن كتب في هذا النوع الإمام أبو داود السجستاني في كتابه (السنن) التي تفرد بكل سنة منها أهل بلدة. وكذلك الإمام الدارقطني في كتابه (الأفراد).(1/33)
والنوع الثاني في تعدد رواة الحديث مع اتفاقهم، وهذا يشمل الحديث المتواتر، والمشهور، والمستفيض، والعزيز، والتابع، والشاهد ولكل منها ـ كذلك أقسام وأبحاث ـ فالمتواتر مثلاً هو الذي رواه جمع كثير يؤمن تواطؤهم على الكذب عن مثلهم إلى انتهاء السند وكان مستندهم الحس. ومن أمثلته حديث: " من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار"(متفق عليه عن المغيرة وغيره) فقد رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ بضع وسبعون صحابياً.
... ومن المؤلفات في هذا النوع من العلوم: كتاب السيوطي (الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة) وكتاب (نظم المتناثر في الحديث المتواتر) للعلامة الكتاني وكتاب (المقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة على الألسنة) للسخاوي.
...
والنوع الثالث في اختلاف رواية الحديث وهو يضم أبحاث زيادة الثقات، والشاذ المحفوظ والمنكر والمعروف والمضطرب والمقلوب والمدرج والمصحف والمعلّ.
واختلاف الرواة ظاهرة مهمة تحتاج إلى بحث وتقص، لما يتكشف عنها للمحدث من فوائد في السند أو المتن أو فيهما، فربما تكشف وهم راو أو تقوي الحديث أو نحو ذلك.(1/34)
على سبيل المثال ففي صنف الحديث المقلوب يذكر العلماء أن أشهر اختبار فعله المحدثون لامتحان قدرة شخص ومكانته في الحديث، حينما عمدوا إلى مائة حديث ـ وهم يمتحنون الإمام البخاري أول ما نزل بغداد ـ فقلبوا متونها وأسانيدها، ودفعوها إلى عشرة أنفس ـ إلى كل رجل عشرة أحاديث ـ ولما اطمأن مجلس البخاري بجلسائه انتدب إليه أول رجل من العشرة، فأورد عليه حديثه الأول بسنده المقلوب فقال البخاري: لا أعرفه، ثم الثاني والثالث، وهكذا حتى انتهى من عشرته، والبخاري يجيبه: لا أعرفه. ثم انتدب الرجل الثاني ففعل مثل ما فعل الأول، وهكذا فعل الرجال العشرة والبخاري لا يزيد على (لا أعرفه) حتى إذا فرغوا التفت إلى الأول منهم فقال: أما حديثك الأول فهو كذا وصوابه كذا، والثاني كذا وصوابه كذا، ثم رد على الرجل الثاني إلى تمام الرجال العشرة، حتى رد كل متن من متون المئة حديث المقلوبة إلى أسانيدها، وكل إسناد إلى متنه. فأقر الناس له بالحفظ وأذعنوا.
وممن ألف من العلماء في هذا النوع من علوم الحديث ابن حجر في كتابه (المقترب في بيان المضطرب) و(الفصل للوصل المدرج في النقل) للخطيب البغدادي و(إصلاح خطأ المحدثين) لأبي سليمان الخطابي و(علل الحديث) للرازي و(التصحيف) للدارقطني.
وهكذا....ومن خلال هذا التطواف السريع المختصر في علوم الحديث النبوي الشريف نجد أن الأمة الإسلامية خلال عصورها المتعاقبة بذلت جهوداً جبارة ومضنية في خدمة الأساس الثاني لدينها، حتى حررته صافياً من كل شائبة، وخالياً من كل عائبة، فكان بحمد الله كالصبح واضحاً وكالشمس ظاهراً.
علم التوحيد
خامساً:علم التوحيد
إذا كانت العلوم تتفاضل بحسب متعلقاتها ومواضيعها فإن هذا العلم من أرفع العلوم قدراً وأعظمها عند المسلمين شرفاً وفخراً.(1/35)
وقد تعددت أسماء علم التوحيد، فلتعلقه بالإيمان والعقيدة أساس الإسلام سماه بعض العلماء بعلم أصول الدين، ولكون أبرز أبحاثه إثبات وحدانية الله سبحانه التي هي منطلق الإيمان وأساسه سمي أيضاً بعلم التوحيد، ويسمى أيضاً بعلم العقيدة لكونه يتعلق بما يعتقده المسلمون ويؤمنون به، وبعلم الكلام للمجادلات والمناظرات وأنواع الاستدلال الداخلة تحته. ولاشك أن تلك التسميات ذات موضوع واحد وإن تعددت.
قال ابن خلدون في مقدمته: علم الكلام: هو علم يتضمن الحِجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة.
الجهود النبوية الأولي:
وإذا أردنا أن نعود إلى مبدأ هذا العلم ونشأته في الأمة الإسلامية فلا بد أن نستعرض ابتداء أمر هذا الدين... فلقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين للناس ـ من العرب وغيرهم ـ أركان العقيدة والإيمان بكل بساطة وسهولة تباشر شغاف قلوبهم، ويتلو عليهم آيات الله سبحانه التي تذكر أصل الإيمان وفروعه ومتعلقاته، فيتقبلها الصحابة الكرام بإيمان وتصديق، ويفهمونها فهماً طيباً صحيحاً بحسب سليقتهم العربية الأصلية،وفطرتهم الصافية النبيلة، ويسلمون بما جاء فيها، ويفوضون تفاصليها وكيفيتها إلى الله سبحانه، لأنهم أمروا بذلك وهدوا إليه... { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب }(آل عمران/7). هكذا كانوا يعرضون عن التقصي والتقعر، ويلتفتون إلى التصديق والعمل...
تغيرات كثيرة طارئة:(1/36)
واستمر هذا النهج في الصدر الأول من السلف الصالح رحمهم الله..وهذا الاستمرار في ذلك الأسلوب من التعامل البسيط مع النصوص نجده في موقف الإمام مالك إمام دار الهجرة رحمه الله عندما سئل عن الاستواء في قوله تعالى:{ الرحمن على العرش استوى } (طه/5) فأجاب: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معلوم، والسؤال عنه بدعة.
ولكن التطورات اللاحقة التي دخلت فيها الأمة الإسلامية، من فتوح البلدان، وفتور الإيمان، وظهور الفرق، وترجمة الفكر اليوناني وغيره، وتشعب الشعوب، واختلاف الطبائع والعادات والأمراء، والموروثات القديمة لكثير من الداخلين في الإسلام حديثاً، كل ذلك ولد نقاشاً حاداً حول مواضيع شتى لم تكن مطروحة للبحث من قبل.
الخلافة ... منشأ الخلاف الأول:
نشأ خلاف حول الخلافة أول الأمر، فظهرت فرقة تزعم مناصرة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه حتى غالت في ذلك، فقام في وجههم الخوارج، وتوسط أناس بين هؤلاء وهؤلاء، وظهرت المرجئة والقدرية التي تزعم أن أفعالها كلها إنما هي بقضاء الله وقدره، كما ظهرت الجبرية.
قال عطاء بن يسار ومعبد الجهني ( يلخصان فكرة القدرية للحسن البصري) هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسلمين ويأخذون أموالهم ويقولون: إنما تجري أعمالنا على قدر الله.
ولقد تصدى علماء الملة الإسلامية الأفذاذ من التابعين للرد على القدرية، وكثر التأليف في هذا المجال قبل نهاية القرن الهجري الأول. كما ينقل ذلك الدكتور محمد الزحيلي ـ كرسالة أبي الأسود الدؤلي المتوفىعام (69هـ) ويحيى بن معمر المتوفى عام (89هـ) وعبد الله بن إسحاق الحضرمي المتوفى عام (117)هـ وغير هؤلاء.
خلافات في قضايا إيمانية:(1/37)
ولم يكد يدخل القرن الثاني الهجري حتى كانت صفات الله سبحانه محل نقاش وجدل، وظهرت فرق المجسمة والمشبهة والمعطلة والمؤّلة بعد أن كان السابقون من السلف الصالح رحمهم الله لا يتعرضون لمعنى صفات الله ببحث ولا تأويل، بل كانت كلمتهم: اقرؤها أو أمرّوها كما جاءت. يقول ابن خلدون ( وشذ لعصرهم مبتدعة اتبعوا ما تشابه من الآيات، وتوغلوا في التشبيه، ففريق شبهوا في الذات باعتقاد اليد والقدم والوجه عملاً بظواهر وردت بذلك، فوقعوا في التجسيم الصريح... ثم يفرون من شناعة ذلك بقولهم: جسم لا كالأجسام، وليس ذلك بدافع عنهم لأنه قول متناقض.. وفريق منهم ذهبوا إلى التشبيه في الصفات كإثبات الجهة والاستواء والنزول والصوت والحرف وأمثال ذلك. آل قولهم إلى التجسيم ... الخ.
كذلك ظهرت في تلك الفترة المعاصي في المجتمع الإسلامي وفشت وبرزت، وتساءل الكثيرون عن مرتكب الكبيرة ، فكفره الخوارج، بينما قال المرجئة: لا يضر مع الإيمان معصية، وأثبت المعتزلة المنزلة بين المنزلتين، فقالوا: ليس هو بمؤمن ولا كافر.
وفي العصر العباسي ظهرت الفلسفات القديمة التي نقلتها الترجمة إلى العربية، فقام كثير من أصحاب الديانات الأخرى بإثاره ما يشبه الحرب الثقافية والصدام الفكري، وبنثر شبهات التشكيك حول الإسلام وأسسه ومبادئه.
وهنا تأكد الدافع العميق لدراسة علوم أصول الدين، ودراسة المنطق اليوناني، والاطلاع على مختلف الفلسفات القديمة، لاستخدامها في الرد على أصحابها ومعرفة نقاط الضعف فيها واكتشاف الأدلة المنطقية والحجج الفكرية في تثبيت دعائم الإسلام وعقيدته.
المعتزلة... ودفاع عن الإيمان:
وأول من حمل هذا اللواء الفكري وتحمس له المعتزلة، الذين مجدوا العقل ورفعوا مكانته، وكانوا هم فرسان ميدان الرد على فلسفة الإغريق والهند والوثنية وما تفرع عنها.(1/38)
إلا أنهم في غمرة اندفاعهم العقلي سلطوا ألسنتهم على أهل السنة والجماعة في فهم معاني القرآن الكريم، مما أثار نزاعاً شديداً ومحناً وفتناً، حتى قيض الله سبحانه لهذا الأمة إمام أهل السنة والجماعة أبا الحسن الأشعري البصري، الذي كان من قبل إمامَ المعتزلة أربعين سنة، ثم تخلى عنهم، واستمسك بمذهب أهل السنة والجماعة، ونصره نصراً شديداً حتى أظهره.
كما قام الإمام أبو منصور الماتريدي بالدور نفسه. وألف كتباً عديدة في ذلك.
وجاء من بعدهما الإمام الباقلاني محمد بن الطيب، فتابع طريق الأشعري أبي الحسن وصنف من كتبه: (التمهيد في الرد على الملاحدة والمعطلة والرافضة والخوارج والمعتزلة). و(الانتصاف). و(البيان)، و(الإبانة عن إبطال مذهب أهل الكفر والديانة) ، وغيرها.
ثم جاء الإمام الجويني إمام الحرمين، وبعده الإمام حجة الإسلام الغزالي، والإمام فخر الدين الرازي، ومن بعدهم القاضي البيضاوي... وهكذا تتابعت الجهود المخلصة حتى خلص الدين الحنيف من كل زيغ وشائبة.
المسائل الكبرى في علم التوحيد:(1/39)
وقبل أن نستعرض أهم كتب علم التوحيد أو العقيدة أو أصول الدين، نعود لنذكر أن هذا العلم إضافة إلى تناوله بالبحث الذات الإلهية المقدسة وصفاتها العلية وتنزيه الله سبحانه عن مماثلة أو مشابهة الحوادث مصداق قوله سبحانه { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير }(الشورى/11) إضافة إلى ذلك فقد ضم إليه البحث في الأمور الأخرى التي أمرنا بالإيمان بها من المغيبات وسواها. كالإيمان بالرسل كلهم بلا استثناء، والإيمان بالملائكة الكرام وأنهم جند الله وعبيده، والإيمان بالكتب السابقة كالتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم، والإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى والإيمان بالبعث بعد النشور، والحساب والميزان، والصراط الذي يجوزه الخلق كلهم، والجنة ـ نسأل الله أن نكون من أهلها ـ والنار التي نعوذ بالله من أهوالها، والنظر إلى وجه الله الكريم فضلاً منه وكرماً، وغير ذلك مما يعرفه من تتبع أبحاث العقيدة ومسائلها.
مراجع مهمة:
ومن أهم الكتب التي تستعرض العقيدة الإسلامية على مذهب أهل السنة والجماعة من السلف والخلف (مقالات الإسلاميين) و(الإبانة عن أصول الديانة) للإمام الأشعري، وكتاب (التوحيد) للإمام الماتريدي، و(المنقذ من الضلال) و(تهافت الفلاسفة) للإمام الغزالي و(الشامل في أصول الدين) و(الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد) للإمام الجويني، و(العقائد النسفية) ورسالة (العقائد) للقشيري، و (العقيدة الطحاوية) وشروحها.
ومن الكتب الحديثة (قصة الإيمان) للشيخ نديم الجسر و(العقيدة الإسلامية) للشيخ عبد الرحمن حسن حنبكة الميداني، و(تعريف عام بدين الإسلام) للشيخ علي الطنطاوي ، و(كبرى اليقينيات الكونية) للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، وغير ذلك كثير.
علم الفقه
سادساً:علم الفقه(1/40)
هذا علم شرعي شريف، إذا نظرنا إليه من حيث سعته وشهرته كان أوسع العلوم الشريعة مجالاً، وأكثرها شهرة وانتشاراً. إنه علم الفقه.. وكفى به علماً أساسياً مهما.
تعريف علم الفقه:
وإذا بحثنا عن تعريف دقيق لعلم الفقه نجد أن ثمة له تعاريف كثيرة، منها القديم الذي يدخل مع الفقه غيره، وذلك قبل تمايز العلوم الشرعية واستقلالها عن بعضها البعض، ومنها ما هو من اختيار الفقهاء اللاحقين للأولين.
عرف الإمام الشافعي الفقه بأنه: العلم بالأحكام الشريعة العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية.
وعرفه ابن خلدون في مقدمته بقوله: الفقه معرفة أحكام الله تعالى في أفعال المكلفين بالوجوب والحظر والإباحة والندب والكراهة، وهي منتقاة من الكتاب والسنة وما نصبه الشرع لمعرفتها من الأدلة.
وإذن فالفقه هو الطريق لمعرفة الحلال لاتباعه والعمل به، والحرام لتجنبه والحذر منه، وذلك ابتغاء مرضاة الله فيكون بذلك العلم العملي الذي يحتاجه كل مسلم ومسلمة في كل فعل وترك في حياتهما.
شمول الأحكام الفقهية:
وبنظرة فاحصة نستطيع أن نلم بشمولية الفقه الإسلامي، من حيث إنه ينظم علاقة الفرد بربه سبحانه، وعلاقته بمجتمعه، ويسعى لتأمين مصالح الأمة ودفع المضار عنها بكل يسر وسهولة وواقعية وإنسانية. ويشهد لذلك كله أحكام الفقه الإسلامي التي تضم الأقسام التالية:
1) العبادات: وهي التي تبين للمسلم كيف يتعبد الله سبحانه ويؤدي حقه عليه على الوجه الذي ارتضاه له.
ومن أبحاثها: الطهارة الشاملة للوضوء والغسل والتيمم وأحكام المياه والأواني والنجاسات.
ومن أحكامها الصلاة وكيفيتها وأركانها وسننها ومكروهاتها ومبطلاتها، وما كان منها مفروضاً وما كان منها مسنونا،ً وما كان منها جماعة وما كان إفراداً.
ومن أبحاثها الصيام والزكاة والحج، وما يتعلق بكل منها من أركان ومستحبات ومحظورات ومكروهات.(1/41)
ومن أبحاث العبادة أيضاً النذر واليمين، وكيفيةُ سؤال الله من فضله الغيث بصلاة الاستسقاء، وكيفية توديع الميت والدعاء له بصلاة الجنازة، وكيفيةُ استقبال الأعياد الشرعية وإظهار الفرحة بصلاة العيد. وبيانُ فضل الله على المسافر والمريض حيث خفف عنهما بعض العبادات وشرع لهما بعض الرخص الشرعية تيسيراً وتسهيلاً.
2) المعاملات المدنية: وهي ما يشمل البيع وأنواعه المباحة أو المحظورة، والإجارة وشروطها، والرهن الذي يستوثق به صاحب الحق لحقه، والكفالة بنوعيها المالي والبدني، والشركة ولها أنواع وضوابط، والمزارعة والمساقاة مما يتعلق بشئون الزراعة، وإحياء الأرض الموات لاستثمارها، وما يباحُ من الصرف واستبدال النقود، وتحريم الربا وأنواعه، والجعالةَ التي تكون تبرعاً من المالك لمن يجد له ماله، ونحو ذلك مما ينظم العلاقة بين الفرد والآخرين في معاملاته المدنية التي تعرف اليوم بالقانون المدني.
3) الأحوال الشخصية: التي من خلالها تتكون الأسرة.
وهذه الطائفة من أحكام الفقه الإسلامي تشمل أحكام الخطبة والزواج، وحقوق كل من الزوجين على الآخر، وأحكام النسب والنفقة والميراث، وتشمل أحكام الطلاق والخلع والعدة واللعان والظهار، وكل واحدة من هذه المسائل لها تفريعات عديدة مهمة.
4) الأحكام الجنائية: وهي تضم بين جنباتها الحدود الشرعية والعقوبات الزاجرة لكل من يتعرض لأرواح الناس أو أعراضهم أو أموالهم، أو يروع الآمنين، أو يريد الفساد في الأرض، أو يسعى في هدم الدين.
ومنها أحكام حد السرقة، وحد القصاص، وحد الزنا، وحد الخمر، وحد الردة، وأحكام التعزير، وأحكام الديات ونحو ذلك.
ويسميها الناس اليوم بقانون العقوبات.
5) الأحكام القضائية: وهي التي من خلالها يحكم القاضي في المنازعات، وبها تسير الدعاوى في المحاكم.
ومن أحكامها الفقهية: أحكام الشهادة، واليمين، والبينات والإقرار والقرائن، وآداب القاضي، ومتى يحكم ومتى لا يحكم.(1/42)
وفي الحقيقة فإنها جزء أصيل من علم الفقه الإسلامي، ما زال المسلمون يفتخرون به على مر العصور لدقته ونزاهته.
6) الأحكام المتعلقة بالإمامة والخلافة وقيام الدولة المسلمة ، وطريقة المبايعة بين الشعب المسلم وحاكمه، وحقوق المواطن والحاكم وواجباتهما.
وهي ما تعرف بالأحكام الدستورية.
7) الأحكام الدولية : التي تنظم الصلة بين دولة المسلمين والدول الأخرى، وحقوق الرعايا غير المسلمين في بلاد المسلمين، وتنظيم حالتي السلم والحرب بين المسلمين والآخرين، وأحكام الجهاد المشروع لحماية الدين والدولة في الإسلام، وأحكام نشر الدعوة الإسلامية بين أهل الأرض ونحو ذلك.
هذه الأحكام الفقهية العظيمة الشاملة لم تنشأ من فراغ، ولم تتكون بلا جهد ودأب، بل إن العلماء المسلمين كان لهم في هذا المجال قصب السبق الذي حازوه عن جدارة واستحقاق.
نشأة علم الفقه:
لقد نشأ الفقه الإسلامي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حينما كان يتلقى الآيات عن ربه سبحانه بما فيها من أوامر له وللمسلمين تتعلق بعباداتهم ومعاملاتهم وسائر شئون حياتهم وما يحتاجون إليه من أحكام شرعية عملية واعتقادية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين هذه الأحكام للناس، ويشرح تفاصليها، ويطبقها أمام الناس، كما كان يتابع فعل الصحابة لها.
وكان الصحابة رضي الله عنهم يرجعون إليه للتعلم والاستفتاء، وفصل المنازعات والقضاء، حتى أدى الرسالة وبلغ الأمانة كاملة تامة.
وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام كان الصحابة يلجؤون إلى أهل الفتيا منهم، الذين يسمون القُرّاء، فكان القراء يرجعون إلى كتاب الله، فإن وجدوا فيه الحكم أخذوا به ووقفوا عنده، وإلا لجأوا إلى السنة النبوية ليلتزموا بها إن عثروا على مبتغاهم.(1/43)
فإن كانت الواقعة والمسألة جديدة ولم يجدوا لها حكماً لافي الكتاب ولا في السنة لجأوا إلى الاجتهاد، وأول ما ينظرون إلى ما يشابه هذه المسألة أو يماثلها، فيقيسونها عليها في الحكم، أو يستنبطون لها حكماً حسبما تقتضيه القواعد العامة للشريعة، فإن اتفقت كلمتهم في النتيجة كان ذلك إجماعا،ً وإلا كان قولاً للصحابي ومذهباً له.
المذاهب الفقهية الأولى:
وقد عرف في ذلك العصر مذهب ابن مسعود، ومذهب ابن عمر، ومذهب عائشة، وهي عبارة عن فتاواهم فيما جد من حوادث.
وقد أضاف فقهاء التابعين من بعد الصحابة اجتهاداتهم الخاصة أيضاً، وظهر فيهم فقهاء أعلام من منتصف القرن الأول إلى مطلع القرن الثاني للهجرة، لعل أشهرهم فقهاء المدينة السبعة وهم: سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وخارجة بن زيد وأبو بكر بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار وعبيد الله بن عبد الله وكان غيرَهم كثيرُُ في الكوفة والبصرة ومكة ودمشق ومصر. ولعل استعراض أسمائهم يطول.
إلا أننا ننوه إلى أن أواخر هذا العصر شهد ظهور مدرستين رئيسيتين للفقه هما مدرسة الحديث في الحجاز ومدرسة الرأي في العراق.
المذاهب الفقهية الأربعة الباقية:
ولم يكد يمر القرن الهجري الثاني حتى قد شهد بروز عدد ضخم من العلماء المتخصصين في الفقه، لهم مناهج واضحة، وتلاميذ مجدون وقد جمعت آراء معظمهم ودونت ونقحت.
وكان من أبرزهم الأئمة الأربعة في الفقه الذين لا تزال مذاهبهم متوارثة بين المسلمين إلى اليوم وهم:
1) الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت، ويسمى مذهبه المذهب الحنفي، وقد عاش الإمام رحمه الله ما بين عامي 80 ـ150، وكان إمام مدرسة الرأي في العراق. ومن أشهر تلاميذه قاضي القضاة أبو يوسف والإمام محمد بن الحسن الشيباني والإمام زفر بن الهذيل..
ويعتبر مذهبه الآن أكثر المذاهب انتشاراً في الدنيا بين المسلمين.(1/44)
ومن أهم كتب مذهبه: كتب ظاهر الرواية الستة، وكتب النوادر للإمام محمد بن الحسن، وكتاب الكافي للحاكم الشهيد، وكتاب المبسوط للسرخسي، وكتاب بدائع الصنائع للكاساني، وكتاب حاشية ابن عابدين المسماة رد المحتار على الدر المختار وغير ذلك.
2) الإمام مالك بن أنس، ويسمى مذهبه المذهب المالكي، وقد عاش الإمام مالك رحمه الله ما بين عامي 93-179هـ ، ويعتمد في مذهبه ـ إضافة إلى الأصول المتفق عليها بين جميع الأئمة من الكتاب والسنة والقياس وإجماع الصحابة ـ يعتمد على عمل أهل المدينة والاستصلاح.
وأشهر تلاميذه عبد الرحمن بن القاسم المصري، وعبد الله بن وهب، وأشهب ابن عبد العزيز، وعبد الله بن عبد الحكم.
... ومذهبه الآن ينتشر في أقطار المغرب العربي وأفريقية والخليج العربي.
ومن كتب مذهبه: الموطأ للإمام مالك، والمدونة لسحنون، وبداية المجتهد لابن رشد، والذخيرة للقرافي، ومواهب الجليل للحطاب، وحاشية الدسوقي.
3) الإمام محمد بن إدريس الشافعي، الذي عاش رحمه الله ما بين 150ـ204هـ وكان من شيوخه الإمام مالك بن أنس صاحب المذهب المالكي.
وأتباعه يسمون بأتباع المذهب الشافعي أو الشافعية،وهم منتشرون الآن في مصر والعراق والشام وأندونوسيا.
وأشهر تلامذة الشافعي الإمام البويطي يوسف بن يحيى والإمام إسماعيل بن يحيى المزني والإمام الربيع بن سليمان المرادي وحرملة بن يحيى.
وله كتب كثيرة أهمها (الأم) و(الرسالة)، ومن أشر كتب مذهبه إضافة إلى كتب الشافعي نفسه كتاب( فتح العزيز شرح الوجيز) للرافعي، و(روضة الطالبين )و(المجموع) للنووي، و(المهذب) و(التنبيه) للشيرازي، و(تحفة المحتاج) لابن حجر الهيتمي.
4) الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، الذي عاش رحمه الله ما بين 164ـ241هـ ويقال لأتباع مذهبه الحنابلة.
... وهم منتشرون في نجد وبعض بلدان الخليج العربي وفي مصر وغير ذلك.(1/45)
وأهم تلاميذه صالح ابن الإمام أحمد، وابنه الآخر عبد الله وأبو بكر الاثرم والمروذي وأحمد بن محمد بن الحجاج وإبراهيم الحربي.
وأهم كتب مذهبه (مختصر الخرقي)، الذي شرحه ابن قدامه في كتابه (المغني) وكتاب (كشاف القناع) للبهوتي، و(الفروع) لابن مفلح، و(الروض المربع) للحجاوي.
هذه أهم مذاهب الفقه الإسلامي الذي يعتبر علماً من أهم العلوم الشرعية الشريفة الواسعة.
علم أصول الفقه
سابعاً: علم أصول الفقه
يقف المرء أمام الفقه الإسلامي ـ وهو أعظم تنظيم ديني ودنيوي معاً للحياة البشرية ـ وقفة إعجاب وإكبار من حيث سعته وشموله ودقته وإحكامه وعدله وإنسانيته.
وأول تساؤل يطرح نفسه في مثل هذا الموقف هو كيف تم مثل هذا البناء الشامخ وعلى أية أسس قام؟ وكيف كان ضبط كل تلك الفروع وما هي أصولها ومراجعها ووسائلها.. إن هذا التساؤل يشبه تساؤل إنسان أعجب غاية الإعجاب بنظام أو صنعة أو اختراع، فقام يتساءل عن وسائلها وطرائقها ونظرياتها وقواعدها.
تعريف علم أصول الفقه وتفرد المسلمين به:
وعلم أصول الفقه هو ـ كما يعرفه الأصوليون ـ النظر في الأدلة الشرعية من حيث تؤخذ منها الأحكام والتكاليف، أو هو علم يتعرف منه استنباط الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها الإجمالية اليقينية، أو هو ـ كما يعرفه القاضي البيضاوي أحد أئمته ـ: معرفة دلائل الفقه إجمالاً وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد ..
وهذه التعاريف بمجموعها تمثل الإجابة على تساؤل المرء: كيف بني الفقه وشيد.
وإذا ذهبنا نعدد مآثر أمة الإسلام وفضائلها، فلن نجد بدّاً من التنويه بهذا العلم الذي تفردت به أمتنا الإسلامية من دون سائر الأمم السابقة، بل واللاحقة أيضاً، فلم يكن لغيرها أبداً علم مستقل كعلم أصول الفقه في تكامله ودقته تستطيع به ضبط قوانينها ودساتيرها...
قال ابن خلدون في مقدمته (واعلم أن هذا الفن ـ يقصد علم أصول الفقه ـ من الفنون المستحدثة في الملة).(1/46)
بواعث استحداث علم أصول الفقه:
أما بواعث استحداث هذا العلم عند المسلمين فقد كانت عديدة متنوعة لكنها كلها طيبة جليلة، فمنها:
1) المحافظة على الشريعة الإسلامية : لأن علم أصول الفقه صان أدلة التشريع حتى لا يتجاوزها الناس، كما حفظ للأحكام الشرعية حججها ومستنداتها، كما وضح المصادر الأصلية والفرعية للتشريع حتى تحتفظ الشريعة بقواعدها، مع مرونة كافية لتلبية حاجات المجتمع المسلم فيما يستجد من حوادث.
2) ومن بواعث علم الأصول أن يمتثل المسلمون للأوامر الشرعية التي تدعوهم للتفكر والتدبر في القرآن، ونقله نصاً وروحاً للبشرية جمعاء، ومن هنا جاء جهد العلماء في إخراج أحكام الكتاب والسنة إلى حيز التطبيق والتنفيذ.
3) ومن أهم البواعث على الاهتمام بعلم الأصول الرغبة القوية التي تولدت لدى الأمة للجمع بين مدرستي ومنهجي أهل الحديث وأهل الرأي. فقلد رأينا ونحن نستعرض نشأة علم الفقه أن العصر الأول شهد نشوء هاتين المدرستين في الحجاز والعراق، وقد تولد في أحيان كثيرة نزاع شديد بين بعض أتباعهما واتهامات خطيرة متبادلة فكان علم أصول الفقه ضرورة ملحة للجم الخلاف، ولمّ الصف، وتحديد مسار استنباط الأحكام ضمن قواعد ثابتة متفق عليها، ترد على كل متجاوز، وتهدي كل باحث عن الحقيقة.
4) وآخر ما نذكر من أسباب نشوء علم الأصول الحاجة إلى دراسة الاختلاف بين الأئمة والمجتهدين والفقهاء، وسبب تعدد آرائهم حيناً وتباينها أحياناً، وللاطلاع على الخلاف المقبول الذي يعتبر توسعة في الدين ورحمة، والخلاف المنبوذ المبني على الهوى والتعصب والتشهي.
هذا من ناحية البواعث الداعية إلى ذلك العلم.
موضوعات علم أصول الفقه:
أما موضوع بحثه فإنه ينحصر في الأدلة الشرعية الكلية من حيث كيفية استنباط الأحكام الشرعية منها. وذلك على النحو التالي:
1) يبحث علم أصول الفقه في مصادر التشريع في الإسلام ، وهي الأصول التي يستقي منها كل مؤمن أحكام الدين.(1/47)
وهي قسمان: مصادر متفقُُ على العمل بها بين المسلمين كافة، وهي القرآن والسنة والإجماع والقياس وتسمى المصادر الأربعة الأساسية.
ومصادر مختلف في العمل بها بين الفقهاء وهي: الاستحسان والمصلحة المرسلة وقول الصحابي وسد الذرائع والاستصحاب وشرع من قبلنا.
ولكل من هذه المصادر المتفق عليها والمختلف فيها أبحاثُُ ومسائل وفروع وقواعد.
2) كما يبحث علم أصول الفقه في الأحكام الكلية التي تتولد أو تثبت بالأدلة السابقة.
والأحكام الكلية الثابتة بالمصادر التشريعية نوعان:
نوع يسمى بالأحكام التكليفية أي التي يخاطب بها الفرد المكلف : وهي خمسة الوجوب ويقابله الحرمة، والندب ويقابله الكراهة، ثم أخيراً الإباحة. فيقال مثلاً: الحكم التكليفي للصيام الوجوب، وللزنا الحرمة، ولصلاة النافلة الندب، وللتعرض للشبهات الكراهة، وللعادات الإباحة.
أما النوع الثاني للأحكام الكلية فهو الأحكام الوضعية وهي متعلقة بالنوع الأول وهي السبب والشرط والركن والمانع والصحة والفساد والرخصة والعزيمة.
3) ويبحث علم أصول الفقه في موضوع الاجتهاد في الأحكام الشرعية، وشروط المجتهد وصفاته، كما يبحث في مسألة أخرى مقابلة لهذه وهي مسألة تقليد المجتهد وحكم ذلك، ومن هو المقلد، ومتى يجب عليه التقليد، ومتى لا يحل له ذلك؟
4) كما يبحث أصول الفقه في تعارض الأدلة متى يكون ، وكيف يمكن الترجيح بينها؟ ومعرفة الدليل القوى والدليل الصحيح من جهة ثبوته أو دلالته، وهي مسائل غاية في الدقة تنقطع دونها أعناق الإبل.
5) ويبحث أصول الفقه كذلك في دلالات نصوص الكتاب والسنة، والتي تبين لنا كيفية اقتباس الأحكام الشرعية من النصوص الواردة وقواعد الاستنباط، فهناك دلالة بالنظم ودلالة بالفحوى ودلالة بالاقتضاء ودلالة بالضرورة، وهناك لفظ عام وهناك لفظ خاص، وهناك مطلق وهناك مقيد، فمتى يقيد المطلق ومتى يخصص العام ونحو ذلك.(1/48)
وعلم الأصول في مواضيعه تلك يستند كثيراً إلى علوم اللغة العربية التي بها نزل القرآن ونطق بها النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى علم التفسير والحديث والمنطق والخلاف وعلم الفروع الفقهية.
الرواد الأوائل في علم الأصول:
وأول من كتب في علم أصول الفقه الإمام الفذ أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، وقد دون فيه كتابه الشهير (الرسالة).
وعلى يديه رحمه الله ولد ونشأ هذا العلم ولم يكن معروفاً من قبل ـ وإن كان واقعاً حقيقة ـ لأن السلف السابق من طبقة الصحابة والتابعين كانوا في غنية عنه، بما كانوا عليه من ملكة لسانية عربية فصيحة، يستخدمونها لاستخراج المعاني من الألفاظ، وبما تميزت به حياتهم من بساطة وبعد عن التعقيد، وانشغالهم بتثبيت أركان الدين والدعوة إليه.
قال ابن خلدون: وكان أول من كتب فيه الشافعي رضي الله تعالى عنه أملى فيه رسالته المشهورة. ولكن الحقيقة أن للشافعي كتباً أخرى في الأصول أيضاً مثل (جُماع العلم) و(إبطال الاستحسان) و(اختلاف الحديث).
طريقتا علماء الأصول:
ومن بعد الإمام الشافعي توالى العلماء في التأليف في علم الأصول. متخذين لهم إحدى الطرق التالية:
فأما طريقة الشافعية من أهل الأصول: فقد نهجوا على نهج رسالة الشافعي، واتخذوا أسلوب السؤال والجواب، وتقرير المسائل والتدليل عليها، وتقرير القواعد وتنقيحها، والنظر إلى الحقائق المجردة، ويكثر هؤلاء من قولهم: فإن قلت كذا قلنا كذا. وهي الطريقة المسماة (القنفلة).
ومن كتب هذه الطريقة (البرهان) للجويني و(المستصفى) للغزالي و(المحصول) للرازي و(منهاج الوصول) للبيضاوي و(الإحكام في أصول الأحكام) للآمدي.
وأما طريقة الحنفية من الفقهاء الأصوليين، فقد قامت على سرد مبادئ الأصول وقواعده بأسلوب متتابع، واستنباط القواعد الأصولية من مجموع الفروع الفقهية المتشابهة لتحويلها إلى قواعد كلية..(1/49)
... ومن أشهر ما كتبه الأحناف كتاب (الأصول) للإمام الكرخي و(الأصول) للجصاص الرازي، و(تقويم الأدلة) للدبوسي و(أصول السرخسي) و(أصول البزدوي) وشرحه (كشف الأسرار) لعلاء الدين البخاري.
وأما المتأخرون من أهل أصول الفقه فقد اتخذوا لأنفسهم في التأليف طريقة جمعت بين الطريقتين السابقتين، بما فيهما من مزايا وخيرات، وتركوا ما يعتور الطريقتين من مآخذ، فهم يقعدون القاعدة والأصل، ويثبتون ذلك بالأدلة والبراهين، ثم يذكرون الفروع الفقهية التي تدخل تحته، ثم يذكرون الاستثناءات مع بيان السبب. ... وعلى هذه الطريقة نجد كتباً منها: (بديع النظام الجامع بين أصول البزدوي والإحكام) للآمدي ومؤلفه الساعاتي. وكتاب (تنقيح الأصول) لصدر الشريعة عبيد الله بن مسعود، وكتاب (مسلم الثبوت) لابن عبد الشكور، وكتاب (جمع الجوامع) للإمام تاج الدين السبكي، وكتاب (التحرير) لكمال الدين بن الهمام. ومثل هؤلاء فعل الشوكاني في (إرشاد الفحول) والخضري في (أصول الفقه) وخلاّف في (أصول الفقه).
علم السيرة النبوية
ثامناً:علم السيرة النبوية
للسيرة النبوية العطرة نكهة خاصة وطعم مميز عند المشتغلين بالعلوم الشرعية. وما ذلك إلا لأنها تتعلق بأحب شخصية من البشر خلقها الله إلى قلوب المؤمنين، تعلقاً ذاتياً يمتزج فيه الخبر بالأمنية، ووحي السماء بأنباء الأرض، والحوادث البشرية بالمعجزات النبوية.
السيرة والتاريخ:
ولقد كانت السيرة النبوية في الأصل جزءاً من علم التاريخ الأوسع، إلا أنها أفردت عنه بعلم خاص له موضوعه ومزاياه وكتبه. حتى أصبح علم السيرة ـ أو المغازي والسير كما سمي ابتداء ـ علماً مستقلاً تناول بالتفصيل حياة النبي صلى الله عليه وسلم ونسبه وشخصيته وصفاته الخُلقية والخِلْقية، وجميع تصرفاته الخاصة به كنبي يتلقى الوحي، ورسول يخاطب الناس، وداعية له طريقته المميزة الرائعة، ومرب اعتنى أشد العناية بأصحابه.(1/50)
كما تناول علم السيرة أيضاً أخبار غزواته التي شارك فيها بنفسه، أو سراياه التي بعث بها أصحابه، والقبائل التي دخلت في حلفه أو آمنت به، أو تلك التي رغبت عنه وحاربته، وأخبار علاقاته بالأمم الأخرى والملوك الحاكمين من حوله.
ولشدة العلاقة وأكيد الصلة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أصحابه، فقد ألحقت أخبار الصحابة الكرام الذين آزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه بسيرته، حتى أصبحت جزءاً لا يتجزأ منها.
أسباب الاهتمام الكبير بالسيرة النبوية:
وعلى امتداد السنين والحقب فقد حظيت السيرة النبوية بفنون من الاهتمام، وضروب من العناية يفوقان التصور والتخيل، وذلك لأسباب كثيرة منها.
1) أن السيرة النبوية ليست أخباراً تنقل للعلم فقط، كباقي أخبار التاريخ، بل هي وسيلة للاقتداء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم والتأسي به، مصداق قوله سبحانه : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً }.. فالرسول صلى الله عليه وسلم قدوة للمسلمين، وسيرته هي الصورة المثلى للحياة الإنسانية الراقية.
2) كذلك فالسيرة النبوية تعتبر وسيلة عمليه لفهم القرآن، وهي ترجمة حية له. ويكفي أن نستدل لذلك بقول السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها لما سئلت عن خُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهي أقرب الناس إليه ـ فقالت: (كان خلقه القرآن).
3) والسيرة النبوية العطرة إضافة إلى ما مر تقف بالقارئ على بداية الأحداث الكبرى التي غيرت وجه التاريخ فيما بعد، وأدت إلى سقوط دولتي الفرس والروم، وأدت إلى بروز الحضارة الإسلامية ودولها، وفجرت ينابيع الحكمة للخلق.
4) ولا ننسى أن للسيرة النبوية دوراً رائداً ومهماً في جمع الأمة الإسلامية، حيث إنها الجزء التاريخي المشترك بينها جميعا،ً على الرغم من اختلاف ألوانها وألسنتها وبلدانها.
السيرة النبوية سجل حاشد:(1/51)
لهذا كله كان للسيرة النبوية بين المسلمين اهتمام خاص... وخاص جداً ، دفعهم إلى تسجيل كل شاردة وواردة عن حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل حال من أحواله ، من حين ولادته ـ لا بل قبلها ـ إلى حين وفاته، يوماً فيوماً، وحدثاً فحدثا،ً ومكاناً فمكاناً. كل ذلك مع تدقيق وتمحيص واعتزاز وافتخار، إلى الحد الذي كانوا فيه ـ سلفاً صالحاً ـ يلقنون أبناءهم مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحفظونهم إياها، كما يلقنونهم القرآن ويحفظونهم إياه، واستمر على ذلك الخلف الصالح للمسلمين.
مقارنة بين سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) وسير الأنبياء السابقين:
إن علم السيرة النبوية ينقل إلينا أصح صورة وأصدق سيرة من سير الأنبياء والمرسلين وغيرهم، ممن يهتم الناس بأخبارهم وأحوالهم.
ولو أنا جمعنا كل ما كتب عن عظماء العالم، وقارناه بما كتب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لرجحت كفة سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام من جوانب عديدة، سواء من ناحية الكمية أو النوعية أو وسائل النقل و حياد الباحثين..
لقد نقل إلينا أكله وشربه، ونومه وقيامه، وكلامه وفعله، سره وعلنه، وتطهره وعبادته، ووصفه ومشاعره، وأقرباؤه وجيرانه، وصحته ومرضه، وغناه وفقره، وكل ما يتعلق به من جميع الجوانب، حتى أصبح متتبع السيرة يكاد ينظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عياناً، ويدرك أدق تفاصيل حياته، لا يخفى عليه منها شيء على الرغم من البعد الزمني الكبير..
... مثل هذا الأمر دفع أحد النقاد الغربيين إلى القول (إن محمداً ـ عليه السلام ـ هو الوحيد الذي ولد على ضوء الشمس).. أي لا تخفى علينا من حياته خافيه.
بداية تدوين السيرة النبوية:(1/52)
ولعل متأخري الصحابة كانوا أول من دوّن أشياء عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ـ كما يقول المؤرخ المسلم فؤاد سيزكين ـ حيث يدلل على ذلك بما نقل عن سعيد بن عبادة الخزرجي من كتاب وصل إلى أوائل العصر العباسي، كما دوّن سهل بن أبي حَثْمة الأنصاري قطعة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواها عنه حفيده الذي كان أستاذاً للواقدي.
ومثل ذلك فعل سعيد بن المسيب وعبيد الله بن كعب والشعبي، الذين تلتهم طبقة من التابعين كانت أشهر منهم في تصانيف السيرة، أمثال عروة بن الزبير وأبان بن عثمان وابن شهاب الزهري، الذين تلتهم أيضاً طبقة كتبت في السيرة كتباً كاملة وصلت إلينا أصولها، مثل سيرة محمد بن اسحق التي نقلها ابن هشام في سيرته المطبوعة، ومثل المغازي للواقدي، والطبقات لابن سعد، وما كتبه الطبري في تاريخه، وما تابعه عليه ابن كثير في البداية والنهاية، وابن الأثير في الكامل في التاريخ.
أنواع كتب السيرة النبوية:
ونحن إذا تتبعنا كتب السيرة النبوية نجدها أنواعاً وأقساماً:
فهناك النوع الذي تخصص في السرد التاريخي لحياة النبي صلى الله عليه وسلم منذ ولادته حتى وفاته، يسرد في خلال ذلك الأحداث متسلسلة تسلسلاً زمنياً. وهذا النوع هو الأشهر والأكثر في كتب السيرة الذي مثاله مما بين أيدينا (السيرة النبوية) لابن هشام، وكتاب (إنسان العيون في سيرة الأمين والمأمون) المسماة بالسيرة الحلبية لعلي بن إبراهيم الحلبي، و(السيرة النبوية) لابن كثير ـ وهي جزء من تاريخه.
وهناك نوع من كتب السيرة اهتم بالأوصاف الخلقية والخلقية للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما يسمى بكتب الشمائل المحمدية، مثل كتاب (الشمائل) للترمذي، و(المواهب اللدنية بالمنح المحمدية) للقسطلاني ومختصره (الأنوار المحمدية) للشيخ يوسف النبهاني.(1/53)
وهناك نوع من كتب السيرة النبوية اهتم بالدلائل الشاهدة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في ادعائه النبوة، مثل كتاب (دلائل النبوة) للبيهقي، و(دلائل النبوة) لأبي نعيم الأصبهاني و(دلائل النبوة) للماوردي.
وهناك كتب من كتب السيرة ضمت أخبار الصحابة الكرام حتى وفاتهم، إضافة إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم حتى وفاته، أي إنها اعتبرت السيرة النبوية ممتدة في جيل الصحابة حتى نهايته، ومن هذه الكتب :(الإصابة في تمييز الصحابة) لابن حجر العسقلاني، و(أسد الغابة) لابن الأثير الجزري و(الطبقات الكبرى) لابن سعد.
وهناك كتب في السيرة النبوية تناولت حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم على أمته، أو خصائصه التي تميز بها عن غيره ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثل كتاب (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) للقاضي عياض، و(كتاب الخصائص الكبرى) للسيوطي.
أنواع جديدة في السيرة:
يقول ـ أخيراً ـ الدكتور محمد الزحيلي ـ وتعرض بعض المتأخرين لدراسة السيرة النبوية من وجهات نظر مختلفة، مثل (عبقرية محمد) للعقاد و(محمد المثل الكامل) للأستاذ أحمد محمد جاد المولى، و(الرسول القائد) للواء الركن محمود شيث خطاب، و(الرسول العربي) و(فن الحرب) للعماد مصطفى طلاس و(فقه السيرة) للغزالي و(فقه السيرة) للبوطي.
وهذه الكتب ـ وغيرها كثير مما كتب حديثاً مثل (دراسات في السيرة) للدكتور عماد الدين خليل، و(مواقف إنسانية في السيرة النبوية) لعبد الله نجيب سالم، و(التفسير السياسي للسيرة النبوية) للدكتور محمد رواس قلعجي ـ وما كتبه أحمد باشميل عن غزوات النبي صلى الله عليه وسلم ـ ماهي إلا محاولات لتقديم السيرة النبوية بأقلام حديثة لأبناء هذا العصر، الذين هم كسابقيهم من أبناء المسلمين يجدون في سيرة نبيهم المصطفى صلى الله عليه وسلم شعاع الأمل، وطوق النجاة للوصول إلى حياة كريمة طاهرة، قريبة من الله بعيدة عن الشيطان، لاعوج فيها ولا أَمْتا.
علم التاريخ(1/54)
تاسعاً:علم التاريخ
...
... ... لم يكن المسلمون هم الذين اخترعوا علم التاريخ، بل سبقتهم كثير من الأمم إلى الكتابة فيه.. ولكن المسلمين لم يكتفوا بما كتبه غيرهم فيه لأسباب عديدة، أهمها تحري الدقة واتخاذ الحيطة، وتصحيح كثير من المفاهيم المتعلقة بهذا العلم ، سواء من حيث تعريفه أو موضوعه أو الغرض منه.
تعريف علم التاريخ:
... يقول صدّيق بن حسن القنّوجي في كتابه (أبجد العلوم): علم التاريخ هو معرفة أحوال الطوائف وبلدانهم ورسومهم وعاداتهم وصنائع أشخاصهم وأنسابهم ووفياتهم إلى غير ذلك.
... وموضوعه: أحوال الأشخاص الماضية من الأنبياء والأولياء والعلماء والحكماء والملوك والشعراء وغيرهم.
والغرض منه: الوقوف على الأحوال الماضية.
وفائدته: العبرة بتلك الأحوال والتنصح بها، وحصولُ ملكة التجارب بالوقوف على تقلبات الزمن، ليحترز عن أمثال ما نقل من المضار، ويُستجلب نظائرها من المنافع ـ كذا في (مدينة العلوم) ـ وهذا العلم كما قيل عُمُر آخر للناظرين، والانتفاع في مصره بمنافع تحصل للمسافرين. كذا في (مفتاح السعادة).
الأسلوب العلمي لكتابة التاريخ:
... من أفضل من وضح للناس الأسلوب العلمي لكتابه التاريخ، وضرورة أن تسجل الحقيقة فيه، وأن يبحث المؤرخ عنها ليظفر بها وإن كان في ذلك بذل الجهد، والتشمير عن ساعد الجد، ذلك المؤرخ العظيم الذي سبق غيره بنظراته التحليلية الرائعة للتاريخ والحياة، والتي أودعها في مقدمة تاريخه الشهيرة باسم (مقدمة ابن خلدون) التي افتتح بها كتابه الهام (كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر).(1/55)
يقول ابن خلدون بأسلوبه البليغ وقلمه السيال: أما بعد: فإن فن التاريخ من الفنون التي تتداولها الأمم والأجيال، وتُشد إليه الركائب والرحال، وتسموا إلى معرفته السُّوقة والأَغْفَال، وتتنافس فيه الملوك والأقيال (أي الرؤساء) ويتساوى في فهمه العلماء والجهال. إذ هو في ظاهره لا يزيد على إخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأول، تنمو فيها الأقوال، وتضرب فيها الأمثال، وتُطرف بها الأندية إذا غصها الاحتفال، وتؤدي إلينا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال، واتسع للدول فيها النطاق والمجال، وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال وحان منهم الزوال.
وفي باطنه (أي باطن علم التاريخ للمتبحرين) نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومباديها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع أسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق.
ثم ينتقل ابن خلدون رحمه الله إلى ما كتبه الكثير دون تمحيص واحتراز أو ما دسه بعض المغرضين من كذب وافتراء فيقول:
... ...
وإن فحول المؤرخين في الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها، وسطروها في صفحات الدفاتر وأودعوها، وخلطها المتطفلون بدسائس من الباطل وَهَموا فيها أو ابتدعوها، وزخارف من الروايات المضُعْفَة لفقوها ووضعوها، واقتفى تلك الآثار الكثيرُ ممن بعدهم واتبعوها، وأدَّوْها إلينا كما سمعوها، ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال ولم يراعوها، ولا رفضوا تُرّهات الأحاديث ولا دفعوها، فالتحقيق قليل، وطَرْف التنقيح في الغالب كليل، والغلط والوهم نسيب للأخبار خليل.
من طرائف المؤرخين:
ولعل من الطرائف المناسبة ـ بعد استعراض كلمة ابن خلدون في فن التاريخ وعلمه ـ أن نذكر ما ذكره صاحب أبجد العلوم عن ابن خلدون نفسه، حيث قال :(1/56)
ومن الكتب النفيسة المعتبرة في هذا تاريخ القاضي عبد الرحمن بن محمد الأشبيلي الحضرمي المالكي المتوفى سنة ثمان وثمانمائة، وهو كبير عظيم النفع والفائدة، رتب على السنين. وروي أنه كان في وقعة تيمور قاضياً بحلب فحصل في قبضته أسيراً سميرا (أي وقع ابن خلدون في قبضة تيمور واضطر لملازمته) فكان يصاحبه، وسافر معه إلى سمرقند فقال له يوماً: لي تاريخ كبير جمعت فيه الوقائع بأسرها، وخلفته بمصر، وسيظفر به المجنون ـ يشير إلى برقوق ـ فقال له تيمور: هل يمكن تلافي هذا الأمر واستخلاص الكتاب، فاستأذنه في أن يعود إلى مصر ليجئ به فأذن له.
ولعل ذلك الكتاب الذي أشار إليه هو كتاب (العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر) وقد اشتهر نحو ثلثه بالمقدمة، ودوّن مفرداً.
منهج المسلمين في تدوين التاريخ:
... ... ولئن لم يكن أمام المؤرخين المسلمين سبيل سوى الاعتماد على كتب الإسرائيليات وغيرها من الأخبار والمدونات القديمة، فيما تنقله لهم من أخبار الأنبياء والرسل والشعوب السابقين والجيوش والبلدان، فإنهم قد تسلحوا في تدوينهم لأخبار التاريخ بعدة أسلحة تعينهم على الوصول إلى الحقيقة، وتبين منهجهم في هذا العلم الواسع، وتبرهن على أنهم كانوا محققين كما كانوا نقلة، وكانوا بصراء كما كانوا أمناء.
1ـ عرض الأخبار المتعلقة بالأمم السابقة على الكتاب والسنة أولاً، فإن كانت مما تحدث عنه القرآن، أو بلّغ عنه النبي صلى الله عليه وسلم بشيء فلا بد من الموافقة للوحي المعصوم عن الخطأ بادئ ذي بدء، وإلا فإنها ترد.
يقول الإمام ابن كثير في تاريخه الشهير (البداية والنهاية): ولسنا نذكر من الإسرائيليات إلا ما أذن الشارع في نقله، مما لا يخالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ... وما ذلك إلا لأن القرآن الكريم والسنة النبوية من أدق وأصدق مصادر التاريخ.(1/57)
2ـ المحاكمة العقلية للحوادث المدونة، حتى تكون منضبطة بضوابط الواقع، مقيدة بقيد العقل، مسايرة لأحوال الخلق وطبيعة الكون.
... وفي هذا المجال يقول ابن خلدون: فهو (أي علم التاريخ) محتاج إلى مآخذ متعددة، ومعارف متنوعة، وحسن نظر وتثبت، يُفْضيان بصاحبهما إلى الحق... لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل، ولم تحكّم أصول العادة، وقواعد السياسة، وطبيعة العُمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولاقيس الغائب منها بالشاهد، والحاضر بالذاهب، فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق..
ثم يستعرض أمثلة رائعة لما وقع فيه بعض المؤرخين من أخطاء في تقدير أعداد وجيوش بني إسرائيل مثلاً، أو ما تناقله الناس من قيام أهل اليمن بغزو أفريقية والمغرب العربي، أو ما يسطره بعض المؤرخين في قصة قوم عاد ومدينتهم المزعومة (إرم)، أو ما دسه الداسون من روايات باطلة عن سلوك العباسة أخت هارون الرشيد مع جعفر بن يحيى البرمكي مما أدى إلى نكبتهم ـ زعموا ـ، وغير ذلك وهو يحاكم كل تلك الأمثلة محاكمة عقلية وواقعية وعلمية رائعة.
3ـ أما أخبار الإسلام وأهله ودوله، فلقد حظيت باهتمام من المؤرخين شديد، سواء في تفصيلاتها الدقيقة، أو في المحافظة على سلسلة رواتها للتأكد من صدقهم، وهذا ما نجده واضحاً في أخبار سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وأخبار الخلفاء الراشدين، بل وأخبار الدولة الأموية والدولة العباسية كذلك، مما جعل هذا الجزء من التاريخ أصدق أجزاء التاريخ القديم، بل والحديث أيضاً.
4ـ اهتمام المؤرخين المسلمين بضبط الأسماء الواردة في التاريخ حتى ولو كانت غير عربية. وهذا أمر مهم حتى يخدم المتعلم ويحفظ الأصل.
وقد أفرد ابن خلدون في مقدمته كلاماً خاصاً في ذلك، يقول: وقد بقي علينا أن نقدم مقدمة في كيفية وضع الحروف التي ليست من لغات العرب إذا عرضت في كتابنا..الخ.
أهم كتب التاريخ:(1/58)
وكتب التاريخ التي خاضت غماره كثيرة العدد جدا، حتى قال حاجي خليفة في كشف الظنون: قد استقصيناها إلى ألف وثلاثمائة .. وهي أنواع فمنها ما يتناول فترة معينة، ومنها ما يشمل تاريخ العالم كله، ومنها ما يتحدث عن بلد معين، ومنها ما صدره مؤلفه بمقدمة عن أمور مهمة تتعلق بالتاريخ أو العمران أو الشعوب، ومنها ما تناول أعلام مائة من السنين معينة، إلى غير ذلك من الأنواع والأصناف.
وعلى سيبل المثال لا الحصر نذكر من تلك الكتب ما يلي: (البداية والنهاية) لابن كثير، و(تاريخ أبي جعفر الطبري) وتاريخه أصح التواريخ وأثبتها، و(الكامل) لابن الأثير الجزري، و(مرآة الزمان) لسبط ابن الجوزي. و(تاريخ بغداد) للخطيب البغدادي، و(شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام) للإمام الفاسي، و(التاريخ الكبير) للإمام الذهبي، و(الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة) لابن حجر، و(يتمية الدهر) للثعالبي، و(تاريخ دمشق) لابن عساكر، و(تاريخ الخلفاء الراشدين) للسيوطي، وغير ذلك كثير وكثير جداً..
نعم لقد صدق بعضهم حينما قال: لم تهتم أمة بالتاريخ قدر اهتمام المسلمين به، حتى سبقوا غيرهم في هذا المجال. وحتى كان ما كتب عن الماضي أكثر مما كتب عن الحاضر.. فهل نحن أمة تاريخ؟ . أظن ذلك !! .
علم التصوف
عاشراً:علم التصوف
علم التصوف علم شريف، أخذ من المسلمين اهتماماً ملحوظاً وجهداً كبيراً، وهو عند أهله علمائهم وعامتهم والقائمين به من أرفع العلوم وأدقها، ومن أخص المعارف وأشرفها.
التصوف في القرون الأولى:
ولئن لم يكن معروفاً بين رجال الصدر الأول من السلف الصالح باسمه الدارج وهو (علم التصوف) فإنه كان معروفاً لهم كمجموعة من المعارف والتوجهات والقواعد والسلوكيات.(1/59)
يقول الإمام عبد الكريم بن هوازن القشيري رحمه الله في رسالته الشهيرة المعروفة ( بالرسالة القشيرية) راداً على الذين أنكروا كون هذا العلم من الدين لعدم وجود اسمه فيه: اعلموا أن المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتسم أفاضلهم في عصرهم بتسمية علم، سوى صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لا أفضلية فوقها. فقيل لهم: الصحابة. ولما أدركهم أهل العصر الثاني سمي من صحب الصحابة بالتابعين .
ثم اختلف الناس وتباينت المراتب، فقيل لخواص الناس ممن لهم شدة عناية بأمر الدين: الزهاد والعباد ، ثم ظهرت البدع، وحصل التداعي بين الفرق، فكل فريق ادعوا أن فيهم زهاداً، فانفرد خواص أهل السنة، المراعون أنفسهم مع الله سبحانه وتعالى، المحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم التصوف، واشتهر هذا الاسم لهؤلاء الأكابر قبل المائتين من الهجرة.
أوائل الصوفية:
وقد صدق القشيري في ذلك، فإن أول من سمي بالصوفي أبو هاشم الصوفي المتوفى سنة 150هـ، ثم تتالت التسمية في كثير من العباد والزهاد وأهل الإقبال على الله بالتجرد، وعلى النفس بالإصلاح ، أمثال أبي حازم سلمةَ بن دينار المخزومي، والمعافى بن عمران، والفضيل بن عياض، ومعروف الكوفي، وبشربن الحارث الحافي، والحارث بن أسد المحاسبي، وأبي يزيد البسطامي، وأبي بكر الوراق، وسهيل بن عبد الله التستري، وأبي القاسم الجنيد بن محمد.
تعريف علم التصوف:
وقبل أن نخوض في مبادئ هذا العلم وأركانه، ينبغي أن نقف على تعريفه وحدّه.
وقد كثرت تعاريفه المأثورة المنقولة عن فطاحل العلماء وكبراء الأمة.
فهذا السيوطي يعرفه بأنه تجريد القلب لله تعالى واحتقار ما سواه.
وهذا حاجي خليفة في (كشف الظنون) يعرفه بأنه: علم يعرف به كيفية ترقي أهل الكمال من النوع الإنساني في مدارج سعادتهم، والأمور العارضة لهم في درجاتهم بقدر الطاقة البشرية.(1/60)
وقريب منها عرفه شيخ الإسلام زكريا الأنصاري فقال: التصوف علم تعرف به أحوال تزكية النفس، وتصفية الأخلاق، وتعمير الظاهر والباطن، لنيل السعادة الأبدية . وقال غيرهم غير ذلك.
وقد علق الشيخ زروق في كتابه (قواعد التصوف) على تعدد التعاريف فقال: وقد حٌدّ (أي عرف) التصوف ورسم وفسر بوجوه تبلغ الألفين، مرجع كلها لصدق التوجه إلى الله. وإنما هي وجوه فيه.
كيف نشأ علم التصوف:
أما عن منشئه ومبدئه فلنقل ما قاله العلامة ابن خلدون في مقدمته:
(وهذا العلم ـ يعني علم التصوف ـ من العلوم الشرعية الحادثة في الملة.
وأصله: أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم طريقة الحق والهداية ، وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى، والاعراضُ عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهدُ في ما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفرادُ عن الخلق والخلوةُ للعبادة. وكان ذلك عامّاً في الصحابة والسلف فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم التصوف.
الصوفية ودور مشرف في التاريخ الإسلامي:
وفي مجال الحديث عن دور الصوفية في توجيه مسار كثير من صفحات التاريخ الإسلامي، يقول الدكتور محمد الزحيلي في كتابه (تعريف عام بالعلوم الشرعية): وقد كان للصوفية والتصوف والمتصوفة، أو ما يعرف بالطريقة شأن في التاريخ الإسلامي. كما كان لها دور بارز في الدعوة الإسلامية وانتشار الإسلام في بعض القارات والبلاد ، كالطريقة السنوسية في أفريقيا، والطرق المختلفة في جنوب السودان وغرب أفريقيا، كما كان للتصوف ونظرياته ومبادئه اهتمام خاص لدى بعض المستشرقين وعلماء الغرب.(1/61)
ويتابع الزحيلي قائلاً ولا يزال للتصوف أثر واضح في كثير من البلاد الإسلامية ، كما يعتبر صورة مشرقة في نظر بعض المسلمين لنشر الإسلام اليوم ودخول بعض الغربيين عن طريقه إلى الإسلام ، لأنه يغطي زوايا حساسة ومهمة في حياة الأفراد، ويلبي الخَوَاء الروحي والنفسي الذي يعيشه الغربي في حياة الفكرية وحضارته المادية.
أصول علم التصوف ومسائله:
هذا العلم الهام له أصول ومرتكزات، بينها كثير من العلماء في كتبهم التي تحدثت عن التصوف ومبادئه .
وقد أجمل أصوله الشيخ محمد أمين الكردي في مؤلفه القيم (تنوير القلوب) بقوله: وأصول التصوف خمسة:
1ـ تقوى الله في السر والعلانية، وتتحقق بالورع والاستقامة.
2ـ واتباع السنة في الأقوال والأفعال. ويتحقق بالحفظ وحسن الخلق.
3ـ والإعراض عن الخلق في الإقبال والإدبار، ويتحقق بالصبر والتوكل.
4ـ والرضا عن الله في القليل والكثير، ويتحقق بالقناعة والتفويض.
5ـ والرجوع إلى الله في السراء والضراء، ويتحقق بالشكر في السراء والالتجاء إليه في الضراء.
ومسائله: قضاياه والباحثة عن صفات القلوب .
ويتبع ذلك شرح الكلمات التي تتداول بين القوم، كالمقامات، والأحوال، والذكر، والمحبة، والفناء، والخوف، والورع، والتوكل، والتوبة، والرجاء، والكرامة، والتحلية، والتخلية ، وهي مصطلحات لها مدلولاتها في علم التصوف مستمدةُُ من آيات الكتاب العزيز، وكلام الرسول البشير صلى الله عليه وسلم، وما أثر عن خواص الأمة ورجالها من أقوال شارحة أو أحوال معبرة.
الانحراف الدخيل على التصوف:(1/62)
ولكننا من باب الأمانة والاحتراز لا نجد بداً من التنويه إلى ما تسرب إلى علم التصوف خلال ما بعد القرن الرابع الهجري من أفكار دخيلة عليه وعلى الإسلام، يتبرأ منها كل مسلم، وينفيها عن التصوف الأصيل كل عالم متمكن، ويجهر بمحاربتها كل غيور، مع التذكير بأن قواعد هذا العلم الصافية لا تزال واضحة لكل ذي عينين، باحث عن الحقيقة، بعيد عن التشويش، مشمر عن ساعد الجد في الإقبال على الله.
إن تلك الشوائب الدخيلة لا تضر بأصله، ولا تغير بأهله، فما هي إلا كسحابة صيف أمام شمس ساطعة.
المراجع الأساسية في التصوف:
ولقد كتب علماء الإسلام كتباً كثيرة جداً في هذا العلم ، بل إن مبادئ التصوف وكتبه وأوائل ماسطر فيه يبدأ من منتصف القرن الهجري الثاني، من أمثال كتاب الزهد لعبد الله بن المبارك، وكتاب الزهد لأحمد بن حنبل.
ولكن أشهر كتب التصوف الأصيلة هي على وجه الإجمال ما يلي:
1ـ حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم الأصبهاني المحدث العالم،وفي كتابه هذا جمع أبو نعيم ترجمة ثلة كبيرة من أعلام الإسلام وأقوالهم وحكاياتهم.
2ـ الرسالة القشيرية لأبي القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري، وهي رسالة لطيفة جامعة لمبادئ التصوف ومسائله ورجاله.
3ـ التعرف لمذهب أهل التصوف لتاج الإسلام أبي بكر محمد بن إسحاق الكلاباذي الحنفي.
4ـ إحياء علوم الدين للإمام حجة الإسلام أبي حامد الغزالي الطوسي. وهو كتاب ضخم من أنفس كتب الإسلام وأغزرها معاني وتحليلات وفوائد وتوجيهات..وكذلك كتب الغزالي الأخرى كالمنقذ من الضلال، والأربعين في أصول الدين.
5ـ قوت القلوب في معاملة المحبوب، ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد لأبي طالب محمد بن علي المكي.
6ـ عوارف المعارف لعبد القادر بن عبد الله السهروردي
7ـ كتب الحكيم الترمذي أبي عبد الله محمد بن علي.
8ـ كتاب حقائق عن التصوف للشيخ عبد القادر عيسى الحلبي.(1/63)
9ـ كتاب تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب للشيخ محمد أمين الكردي.
10ـ كتاب تربيتنا الروحية للشيخ سعيد حوى وكذلك كتبه الأخرى في هذا المجال.
11ـ الحِكَم لابن عطاء الله أحمد بن محمد بن عطاء الله السكندري المعروفة بالحكم العطائية.
12ـ مدارج السالكين شرح منازل السائرين لابن القيم.
13ـ معراج التشوف إلى التصوف لابن عجيبة.
نعم لقد كان التصوف هو العلم المتمم لعلم الفقهاء والمحدثين وأهل الفتيا. ولم يكن نقيضاً له ولا ضداً.
يقول ابن خلدون في مقدمته: صار علم الشريعة على صنفين:
صنف مخصوص بالفقهاء وأهل الفتيا، وهي الأحكام العامة في العبادات والعادات والمعاملات..
وصنف مخصوص بالقوم ـ أي الصوفية ـ في القيام بهذه المجاهدة ومحاسبة النفس عليها والكلام في الأذواق والمواجد العارضة في طريقها وكيفية الترقي فيها من ذوق إلى ذوق
علم تفسير الرؤيا
حادي عشر:علم تعبير الرؤيا
هذا علم لطيف، أعرض عنه كثير من الناس في غمرة الهجمة المادية التي تشهدها الحياة المعاصرة بجميع شئونها حتى ظنه البعض ضرباً من الوهم أو نوعاً من أنواع الدجل..
... وما كان علم تعبير الرؤيا كذلك، وما ينبغي له أن يكون بعد أن حدثنا عنه القرآن الكريم مرارا،ً وتعددت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تتناوله تكرارا .
... يقول الدكتور عبد الستار أبو غدة: إن علم الرؤيا والتعبير أحد العلوم التي عني بها في الإسلام بعدما تطرق إليها القرآن الكريم أكثر من مرة، في قصة سيدنا يوسف، وقصة سيدنا إبراهيم مع سيدنا إسماعيل، وحفلت بتنظيم أحكامها السنة النبوية واهتم بها العلماء في أكثر من مجال.
تعريف علم تعبير الرؤيا:
وقد ورد تعريفه في (كشف الظنون) لحاجي خليفه فقال: هو علم يتعرف منه الاستدلال من المتخيلات الحملية على ما شاهدته النفس حال النوم من عالم الغيب، فخيّلته القوة المتخلية مثالاً يدل عليه في عالم الشهادة.(1/64)
وهذا التعريف هو أحد التعاريف العديدة التي ذكرها العلماء بهذا الخصوص، وهي تشير إلى أن الرؤيا التي يراها النائم ليست إلا رمزاً وإشارة، ومعنى لطيفاً يحتاج إلى معبّر يجيد فن التعبير، ليكشف ما ترمز إليه تلك الرؤى.
أمثلة قرآنية في تعبير الرؤيا:
ولا يجهل أحد في هذا المجال قول الله سبحانه في قصة يوسف عليه السلام: {وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات } .
وقد جاء الملك تفسير تلك الرؤيا في قول يوسف الصديق عليه السلام:{ قال تزرعون سبع سنين دَأَبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون ثم يأتي من بعد ذلك سبع عجاف يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلاً مما تحصنون... } الخ.
... وهذه الآيات هي واحدة مما ذكره الله سبحانه عن يوسف عليه السلام في مجال هذا العلم كالرؤيا التي افتتح بها سورة يوسف، حين رأى أحد عشر كوكباً والشمس والقمر له ساجدين ، كالرؤيا التي فسرها للرجلين الذين دخلا معه السجن، حيث قال أحدهما: إنه رأى نفسه يسقي ربه خمرا، بينما قال الآخر: إنه رأى فوق رأسه خبزاً تأكل الطير منه.
كما لا يجهل أحد أن علم تعبير الرؤيا فضل من الله ومنة، يهبه لمن يشاء، ولذلك شكر يوسف ربه عليه فقال:{ رب قد آتيتني من الملك، وعلمتني من تأويل الأحاديث}.
الأنبياء.. والرؤيا الصادقة:
قال الشيخ عبد الغني النابلسي في كتابه (تعطير الأنام في تعبير المنام): وكانت الأنبياء صلى الله وسلم عليهم يعدونها من الوحي إليهم في شرائع الأحكام، وقد ذهبت النبوة وبقيت المبشرات: الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له في المنام، على حسب ما ورد في الحديث.
ولقد اشتهر وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم ـ كما أخبرت عنه عائشة رضي الله عنها ـ كان أول ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصادقة. فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح حقيقة واضحة.(1/65)
بل أكثر من هذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انفتل من صلاة الغداة يقول لأصحابه: " هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا " فيقصون عليه ما رأوا، يستبشر عليه السلام بما وقع من ذلك مما فيه ظهور الدين وإعزازه.
ولا شك أن هناك جزءاً من هذا القبيل يدخل تحت اسم أضغاث الأحلام.. يقول ابن خلدون في مقدمته: لكن إن كانت تلك الصور متنزلة من الروح العقلي المدرك فهي رؤيا،ـ وإن كانت مأخوذة من الصور التي في الحافظة التي كان الخيال أودعها إياها منذ اليقظة فهي أضغاث أحلام.
علامات... وآداب:
وحتى لا تختلط أضغاث الأحلام بالرؤيا الصادقة ذكر العلماء علامات للرؤيا الصادقة، تعرف بها وتدل عليها.
وقالوا: إن علامات الرؤيا الصادقة سرعة انتباه الرائي عندما يدرك الرؤيا، كأنه يعاجل الرجوع إلى الحس باليقظة، ولو كان مستغرقاً في نومه لثقل ما ألقي عليه من ذلك الإدراك.
ومن علاماتها ثبوت ذلك الإدراك ودوامه بانطباع تلك الرؤيا بتفاصيلها في حفظه.
كما ذكر العلماء آداباً للرؤيا الصالحة التي يسر بها المؤمن، وآداباً للرؤيا المكروهة التي تسوء المؤمن.
فمن آداب الرؤيا الصالحة: أن يحمد الله تعالى عليها، وأن يتفاءل بها خيراً، وأن يذكرها لمن يحب من إخوانه.
وأما الأخرى فآدابها: أن يستعيذ بالله من شرها وشر الشيطان، وأن يتفل عن يساره ثلاثا،ً وأن يتحول عن جنبه الذي كان عليه نائما،ً وأن لا يذكرها لأحد.
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الرؤيا وأقسامها وآدابها أحاديث كثيرة لعل من أجمعها قوله: (إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب. وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً، ورؤيا المسلم جزء من خمسة وأربعين جزءاً من النبوة، والرؤيا ثلاثة: فرؤيا صالحة بشرى من الله، ورؤيا تحزينُُ من الشيطان، ورؤيا مما يحدّث المرء نفسه. فإن رأى أحدكم ما يكره فليقم فليصل، ولا يحدثْ بها الناس).(1/66)
قال ابن خلدون: ثم إن علم التعبير علم بقوانين كلية يبنى عليها المعبر عبارة ما يُقص عليه. وتأويله كما يقولون: البحر يدل على السلطان، وفي موضع آخر يقولون: البحر يدل على الغيظ، وفي موضع آخر على الهم والأمر الفادح... فيحفظ المعبر هذه القوانين الكلية، ويعبر في كل موضع بما تقتضيه القرائن التي تعيّن من هذه القوانين ما هو أليق بالرؤيا.
معبرو الرؤى وصفاتهم:
ويضيف ابن خلدون: ولم يزل هذا العلم متناقلاً بين السلف. وكان محمد بن سيرين فيه من أشهر العلماء، وكتبت عنه في ذلك قوانين، وتناقلها الناس لهذا العهد، وألف الكرماني فيه من بعده، ثم ألف المتكلمون المتأخرون وأكثروا.
وفعلاً ... فقد أثر عن ابن سيرين رحمه الله إمام هذا العلم وعلَمُه الشيء الكثير من تعبير المنام.
ومن ذلك أنه دخل عليه رجل وهو بين تلاميذه، فقال: إني رأيت نفسي أُأَذِّنُ. فقال له ابن سيرين: تحج هذا العام إن شاء الله، وقبل أن ينفض المجلس دخل عليه رجل آخر فقال له: إني رأيت نفسي في المنام أأذن. فتفحصه ملياً ثم قال لمن حوله: أمسكو به هذا لص. فتعجبوا من ذلك وزاد عجبهم بعدما أقر الرجل بأنه سرق. ولكن ابن سيرين أزال عجبهم بقوله: أما الأول فيناسبه قوله سبحانه: { وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر } وأما الآخر فيناسبه قوله تعالى { فأذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون }.
ولما تكلم الشيخ النابلسي عن المعبر وصفته قال: وينبغي للمعبر إذا قصت عليه الرؤيا أن يقول: خيراً رأيت،َ وخيراً نلقاه، وشراً نتوقاه. خير لنا وشر لأعدائنا. الحمد لله رب العالمين، اقصص رؤياك. وأن يكتم على الناس عوراتهم، ويسمعَ السؤال بأجمعه، ويميزَ بين الشريف والوضيع، ويتمهلَ ولا يعجل في رد الجواب، ولا يعبر الرؤيا حتى يعرف لمن هي، ويميز كل جنس وما يليق به.(1/67)
وليكن العابر عالماً فطناً ذكياً تقياً نقياً من الفواحش، عالماً بكتاب الله تعالى وحديث النبي صلى الله عليه وسلم ولغة العرب وأمثالها، وما يجري على ألسنة الناس.
ولا يعبر الرؤيا في وقت الاضطرار، وهي ثلاثة: طلوع الشمس، وغروبها، وعند الزوال... إلى آخر ما قال رحمه الله..
وقبل أن نختم الحديث باستعراض أهم مؤلفات هذا العلم ـ علم تعبير الرؤيا ـ نلفت الأنظار إلى أن الاهتمام بالرؤيا أصبح اليوم جزءاً من علم النفس على النسق الغربي، مما فتح المجال أمام آراء غريبة كل الغرابة عن طبيعة هذا الموضوع من حيثيات عديدة.
كتب علم تعبير الرؤيا:
وأشهر الكتب في هذا المجال (تعطير الأنام في تعبير المنام) للشيخ عبد الغني النابلسي، وله أيضاً أرجوزة (العبير في التعبير)، وكتاب (التعبير المنيف والتأويل الشريف) لمحمد بن قطب الدين الرومي الأزنيقي، و(تعبير ابن المقري) و(كتاب ابن أبي طالب القيرواني الممتّع)، و(كتاب التعبير) لأبي سعيد الواعظ و(كتاب الإشارات في علم العبارات) لخليل بن شاهين الظاهري.
علم الخلاف
ثاني عشر:علم الخلاف
مع نشوء علم الفقه علما مستقلا، وبروز علماء متخصصين فيه برعوا واجتهدوا، وأصبحوا للناس أئمة وقدوة، بدأت مع ذلك تظهر بواكير علم الخلاف. هذا العلم الذي تبلور ونضح بين أيدي مقلدي الأئمة الفقهاء وتابعيهم ـ رحم الله الجميع ـ انتصاراً من كل أتباع لإمامهم، وإظهاراً لقوة حجته وصواب استدلاله فيما خالفه فيه غيره، أو تفرد هو فيه.
ومن سوء الفهم إساءة الظن بأتباع الأئمة. إذ ما كان قصدهم من الانتصار للأئمة إلا الانتصار للحق، والبحث عنه، والدلالة عليه. وهذا هو الأمر الغالب والمؤكد.
وانظر ـ رعاك الله ـ إلى ابن خلدون كيف بين فضل هذا العلم فقال: وهو لعمري علم جليل الفائدة في معرفة مآخذ الأئمة وأدلتهم ومران المطالعين له على الاستدلال فيما يرومون الاستدلال عليه.
تعريف علم الخلاف:(1/68)
ولقد عرف حاجي خليفة علم الخلاف بقوله: هو علم يعرف به كيفية إيراد الحجج الشرعية ودفع الشبهة وقوادح الأدلة الخلافية بإيراد البراهين القطعية.
وفي حقيقة الحال فإن علم الخلاف ماهو إلا علم متولد من علم المنطق والجدل وعلم الفقه، فهو يأخذ من المنطق مبادئه وقواعده وكلياته وقطعياته، ثم ينطلق بها ليستخدمها في الفقه ومسائله، وبيان قواعد الأئمة وأصول اجتهاداتهم، ودفع الشكوك والشبه التي ترد على مذاهبهم.
منشأ علم الخلاف:
ولعل ظهور مدرستي الحديث والرأي، والخلاف بينهما في نهاية القرن الأول وطيلة القرن الهجري الثاني، وانتصار كل طائفة لرأيها وأدلتها، وحاجة كل مدرسة إلى قطع المعترضين عليها عن الكلام والمناقشة لعل تلك المبررات أوجدت بوادر هذا العلم وبداياته.
... لكن الخلاف بين المدرستين خفت حدته كثيراً بعد ظهور كتاب الشافعي (الرسالة) في علم الأصول، هذا الكتاب الذي كان له الفضل في التقريب بين أهل الحديث وأهل الرأي، ومحاولة تضييق الشقة بينهما.
لكن القرون اللاحقة ـ الثالث والرابع والخامس ـ شهدت نضج علم الفقه على أيدي الأئمة المجتهدين الذين برزوا فيه، وكان لهم نشاط علمي واسع، وتلاميذ حملوا اجتهاداتهم، وتشربوا قواعدهم، ونافحوا ودافعوا عن آراء أئمتهم، حتى كتب للمذاهب الفقهية الأربعة البقاء دون سواها بسبب ذلك، وكتب الاندثار على غيرها لعدم تعلق أحد أو سعيه في إبرازها ونصرتها.
ولا شك أن نشاط تلاميذ الأئمة أوجد ووطد دعائم علم الخلاف، بحيث أصبح علماً مستقلاً له كتبه ومؤلفاته، وقواعده وكلياته، وأسبابه ومبرراته.
رأي ابن خلدون في علم الخلاف:(1/69)
يقول ابن خلدون في ذلك: فاعلم أن هذا الفقه المستنبط من الأدلة الشرعية كثر فيه الخلاف بين المجتهدين باختلاف مداركهم وأنظارهم، خلافاً لا بد من وقوعه لما قدمناه. واتسع ذلك في الملة اتساعاً عظيما،ً وكان للمقلدين أن يقلدوا من شاءوا منهم. ثم لما انتهى ذلك إلى الأئمة الأربعة من علماء الأمصار، وكانوا بمكانٍ من حسن الظن بهم، اقتصر الناس على تقليدهم ومنعوا من تقليد سواهم لذهاب الاجتهاد لصعوبته وتشعب العلوم التي هي مواده، باتصال الزمان، وافتقاد من يقوم على سوى هذه المذاهب الأربعة.
فأقيمت هذه المذاهب الأربعة على أصول الملة، وأُجري الخلاف بين المتمسكين بها والآخذين بأحكامها، مجرى الخلاف في النصوص الشرعية والأصول الفقهية. وجرت بينهم المناظرات في تصحيح كلٍّ مذهبَ إمامِه. تجري على أصول صحيحة وطرائق قويمة. يحتج بها كلُُّ على صحبة مذهبه الذي قلده وتمسك به. وأجريت في مسائل الشريعة كلها وفي كل باب من أبواب الفقه.
ثم يقول ابن خلدون مبيناً فوائد علم الخلاف: وكان في هذه المناظرات بيانُ مآخذِ هؤلاء الأئمة، ومثاراتِ اختلافهم ومواقعِ اجتهادهم. وكان هذا الصنف من العلم يسمى بالخلافيات. ولابد لصاحبه من معرفة القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام كما يحتاج المجتهد.
أسباب اختلاف الفقهاء:
وإذا تساءلنا عن أسباب اختلاف الفقهاء... وهل يعقل أن يختلفوا في الحكم الشرعي مع أن الكتاب والسنة أصلان لهما فلنا أن نبحث عن أسباب الخلاف حتى نجد الجواب الشافي.
وقد عدد الأستاذ الدكتور محمد الزحيلي أهم أسباب الاختلاف بين الفقهاء، وحصرها في سبع نقاط هي كما يلي:
1ـ الاختلاف في الأمور الجبلّية: إذ أن الأئمة والعلماء يتفاوتون في ملكاتهم وطبائعم وعقولهم، وهذا أمر طبعي ينتج عنه في بعض الأحايين اختلاف الأحكام المستنبطة من الأدلة الشرعية.(1/70)
2ـ الاختلاف في اللغة العربية: وهي لغة القرآن ولغة الحديث النبوي الشريف، ولا شك أن علماء اللغة أنفسهم يختلفون في وضع الألفاظ ودلالتها، والأسلوب والصيغ، والمشترك والمترادف، والحقيقة والمجاز، وهذا ما انتقل بدروه إلى علماء الفقه، وأدى بالتالي إلى اختلاف الأحكام.
3ـ اختلاف البيئات والعصور والمصالح: لاشك في أن لذلك أثراً كبيراً في أحكام الشريعة، التي جاءت في الأصل مراعية لمصالح الناس، ومتناسقة مع بيئاتهم وأزمانهم، في فرعياتها بشكل خاص، وفيما يتعلق بالمصالح الدنيوية على وجه أخص. وهذا كله من فضل الله وسماحة الدين.
والخلاف الناتج عن مثل هذه الأسباب يسميه الفقهاء اختلاف عصر وزمان وليس اختلاف حجة وبرهان. وبناء على ذلك وضعت القاعدة الفقهية القائلة: لاينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان.
4ـ الاختلاف في فهم المراد من النص الظني: إذ أن المعنى ربما كان خافياً أو محتملاً للتأويل.
5ـ الاختلاف في حجية بعض مصادر التشريع. وذلك عند عدم وجود النص القاطع من كتاب الله أو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
6ـ الاختلاف في بعض فروع علم الحديث، وذلك كالاختلاف حول تضعيف حديث أو تقويته أو وضع شروط لقبول مراسيل التابعين أو خبر الآحاد ونحو ذلك.
7ـ الاختلاف في القواعد والمبادئ الأصولية، وهذا وارد حيث إن تلك القواعد من وضع العلماء، ولهم فيها اجتهادات علميه وأسباب موضوعية، ينتج عنها تعدد آرائهم فيها، مما يستدعي اختلاف النتائج المبنية عليها.
ومن طرائف هذا العلم ـ علم الخلاف ـ ولكل علم طرائفه، ما قاله صديق بن حسن القنوجي في كتابه أبجد العلوم: نقلاً عن كتاب مدينة العلوم: واعلم أن أول من أخرج علم الخلاف في الدنيا ـ يقصد بذلك أول من ألف فيه تأليفاً كاملاً مع أصوله ـ أبو زيد الدبوسي المتوفى سنة 432 وهو ابن ثلاثة وستين. ناظر مرة رجلاً فجعل الرجل يبتسم ويضحك، فأنشد أبو زيد لنفسه:(1/71)
مالي إذا ألزمتُه حجةً ... ... ... قابلني بالضحك والقهقهْ
إنْ كان ضحكُ المرء من فقهه ... ... فالضب في الصحراء ما أفقههْ
كتب علم الخلاف:
وكتب هذا العلم عديدة كثيرة، وهي في بداية الأمر نشأت تحت مظلة علم الفقه وكانت ملحقة به، كمثل كتاب (اختلاف أبي حنفية وابن أبي ليلى) و(كتاب الرد على سير الأوزاعي)، وكتاب (اختلاف الشافعي مع محمد بن الحسن) وكتاب (اختلاف الشافعي مع مالك) وهي للإمام الشافعي، كتبها بنفسه وألحقها في آخر كتابه الأم وهو مطبوع.
ثم ظهر بعد ذلك الإمام الدبوسي الحنفي، وهو إمام بارع في المناظرة واستخراج المسائل والرأي وإيراد الحجج، ويعتبر مؤسس هذا العلم، فكتب فيه كتابه (تأسيس النظر) وكتابه (التعليقة) في الخلاف.
ومن كتب هذا العلم أيضاً: (النكت) و(تذكرة الخلاف) لأبي إسحاق الشيرازي، و(أحيلة العلماء في اختلاف الفقهاء) لأبي بكر الشاشي الشافعي وله أيضاً (المستظهري) و(المعتمد). وكتاب (التجريد) للقدوري الحنفي و(الطريقة الرضوية) للسرخسي الحنفي و(عيون الأدلة) لأبي الحسن بن القصار المالكي و(التعليق) للقاضي عبد الوهاب المالكي و(الإشراف على مذاهب الأشراف) لابن هبيرة الحنبلي و(المآخذ) لحجة الإسلام الغزالي و(مغيث الخلق في اختيار الأحق) و(الكافية في الجدل) كلاهما لإمام الحرمين الجويني.
علم النحو
ثالث عشر:علم النحو
قبل أن نشرع في علم النحو ومبادئه وكتبه وما يتعلق به، يجدر بنا أن ننبه إلى اللغة العربية تتعدد علومها وتتنوع، ويحتاج إليها أهل الإسلام حاجة أكيدة، لعلاقة تلك العلوم بفهم كتاب الله، الذي نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين، ولعلاقتها بفهم نصوص الحديث النبوي الشريف، الذي نطق به أفصح من نطق بالضاد، وأبلغ من قال أنا عربي من العباد.(1/72)
... قال ابن خلدون رحمه الله في المقدمة: الفصل الخامس والأربعون في علوم اللسان العربي، أركانه أربعة: وهي اللغة والنحو والبيان والأدب، ومعرفتها ضرورية على أهل الشريعة، إذ مأخذ الأحكام الشرعية كلها من الكتاب والسنة، وهي بلغة العرب، ونقلتها من الصحابة والتابعين عرب، وشرح مشكلاتها من لغتهم، فلابد من معرفة العلوم المتعلقة بهذا اللسان لمن أراد علم الشريعة.
... وإنما احتجنا إلى هذه المقدمة البسيطة، بين يدي حديثنا عن علوم اللغة العربية، لبيان وثيق الصلة بين العلوم الإسلامية الدينية المحضة وبين العلوم العربية التي تعتبر ـ على حد قول العلماء ـ علوم الآلة والوسيلة، ولندفع وهم من دخله الوهم فظن أنه يستطيع فهم الدين بدون واسطة علوم اللغة، أو يستطيع أن يتفقه في الشريعة دون تضلع من العربية... وكفى بذلك وهماً وضياعا، وصدق من قال:
حفظ اللغات علينا ... ... فرض كفرض الصلاةِ
... فليس يحفظ دين ... ... إلا بحفظ اللغاتِ
تعريف علم النحو:
ونبدأ بعلم النحو.
ونعرج على تعريفه. فنرى أن صاحب (كشاف اصطلاحات الفنون) قال: علم النحو، ويسمى علم الإعراب أيضاً على حافي شرح اللب، وهو علم يعرف به كيفية التركيب العربي صحة وسقما، وكيفية ما يتعلق بالألفاظ من حيث وقوعها فيه من حيث هو، أو بوقوعها فيه .. والغرض منه الاحتراز عن الخطأ في التأليف والاقتدار على فهمه والإفهام به.
نشأة علم النحو:
... والحقيقة أن بوادر اللحن قد ظهرت على قلة وندرة أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رجلاً لحن بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أرشدوا أخاكم فقد ضل " .
كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: " أنا من قريش، ونشأت في بني سعد، فأنى لي اللحن " .(1/73)
... فإذا كان اللحن في التخاطب بين العرب هو الدافع الأول إلى تدوين اللغة وجمعها، واستنباط قواعد النحو وتصنيفها، فإننا نتعرف من خلال الحديثين السابقين وجود كلمة اللحن وتداولها، وإن لم ينقل إلينا ما الخطأ اللغوي الذي قصد بها آنذاك.
... لكن المصادر في تاريخ علم النحو تذكر لنا أن عمر رضي الله عنه مر على قوم يسيئون الرمي فقرعهم فقالوا: آنا قوم متعلمين ( والصواب أن يقولوا: متعلمون) فأعرض مغضبا وقال: والله خطؤكم في لسانكم أشدُّ علي من خطئكم في رميكم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " رحم الله امرءواً أصلح من لسانه " .
... إلا أن أشهر القصص في تاريخ النحو ما أورده الأصفهاني في الأغاني، إذ دخل أبو الأسود الدؤلي في وقدة الحر بالبصرة على ابنته، فقالت له: ياأبت ما أشدُّ الحر؟ فرفعت كلمة (أشد) فظنها تسأله وتستفهم منه أي زمان الحر أشد؟ فقال لها: شهرا ناجر، فقالت: ياأبت إنما أخبرتك ولم أسألك، والحقيقة أنه كان عليها أن تقول إذا أرادت إظهار التعجب من شدة الحر والإخبار عنه ماأشدَّ الحر.
أسباب فشو اللحن:
... وقد بدأ اللحن يتسرب والفساد يسري إلى لغة كثير من العرب مع اتساع الفتوحات، واختلاط العرب الفاتحين بالشعوب الفارسية والرومية والأحباش، ومحاولة هؤلاء العجم تعلم مااستطاعوا من العربية، وقليل من يفلح منهم في ذلك. فكان ظهور اللحن وفشوه مدعاةً لأهل الحل والعقد، أن يأمروا بضبط اللغة لضبط الألسن، وبتدوين القواعد واستنباطها لحفظ كتاب الله من اللحن والتحريف في اللفظ ثم في المعنى.
وضع قواعد النحو الأولى:(1/74)
... ويحدثنا ابن خلدون كيف وضعت قواعد علم النحو؟ وكيف فكر العرب في المحافظة على اللغة ونطقها، بعد أن فسدت ملكات النطق السليم لديهم فيقول: فاستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة مطردةً، شِبه الكليات والقواعد، يقيسون عليها سائر أنواع الكلام، ويلحقون الأشباه بالأشباه، مثل أن الفاعل مرفوع، والمفعول منصوب، والمبتدأ مرفوع، ثم رأوا تغير الدلالة بتغير حركات هذه الكلمات، فاصطلحوا على تسميته إعراباً، وتسمية الموجب لذلك التغير عاملاً، وأمثال ذلك، وصارت كلها اصطلاحات خاصة بهم.
...
أوائل النحويين:
... وقد اختلف العلماء فيمن تكلم أولاً بعلم النحو من حيث هوعلم، وفيمن وضع له بعض قواعده.
ولعل أول من أرسل فيه كلاماً أبو الأسود الدؤلي، الذي اخترع الحركات المعروفة بالفتحة والضمة والكسرة عندما اختار كاتباً، وأمره أن يأخذ المصحف وصبغاً يخالف لون المداد، وقال له: إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقط نقطة فوقه على أعلاه، فإن ضممتُ فمي فانقط نقطة بين يدي الحرف، وإن كسرت فاجعل النقطة تحت الحرف، فإن أتبعتُ شيئاً من ذلك غنة فاجعل مكان النقطة نقطتين.
... وقيل: إن علياً رضي الله عنه وجه أبا الأسود إلى ذلك وقال له: انحُ نحوَ هذا... فمن هذا أخذ اسم النحو.
... يقول الأستاذ سعيد الأفغاني في كتابه (من تاريخ النحو): أخذ عن أبي الأسود يحيى بن يَعْمر وعنبسة الفيل وميمون الأقرن ومضر بن عاصمٍ وعطاء بن أبي الأسود وأبو نوفل بن أبي عقرب، وعن هؤلاء أخذ علماء البصرة طبقة بعد طبقة، ثم نشأ بعد نحو مائة عام من تلاميذهم من ذهب إلى الكوفة فعلم بها، فكان منه ومن تلاميذه مايسمى بمدرسة الكوفة.
... وقد كان للخليل بن أحمد الفراهيدي فضل كبير في هذا المجال، وهو ـ لاننسى ـ أستاذ شيخ النحو سيبويه، أخذ عنه، وكمل من بعده تفاريع النحو، وأكثر من أدلته وشواهد قواعده، ووضع فيه كتابه المشهور.(1/75)
ثم وضع أبو علي الفارسي، وأبو القاسم الزجاج كتبا مختصرة في النحو، حَذَوَا حَذْوَ سيبويه.
من مسائل النحو وقضاياه:
... وإذا أردنا أن نطلع على جملة واسعة من علم النحو فلنتصفح كتاباً مرجعاً فيه هو (مغني اللبيب عن كتب الأعاريب) على سبيل المثال نجد أن مؤلفه ابن هشام الأنصاري قد جعله على قسمين:
أدار القسم الأول على الأدوات في اللغة العربية، فحصرها وبين العامل منها وغير العامل ، وأكثر من الشواهد ونسق معانيها المختلفة، وأحكامها تبعا لهذه المعاني
وكان معظم اعتماده في استنباط معاني الحروف وأحكامها على القرآن الكريم، فهو المنبع الصافي من كل شائبة، والمرجع البعيد عن كل دخيل.
أما في القسم الثاني فكان فيه ثمانية أبواب، الأول في تفسير المفردات، وتشمل الحروف والأفعال والأسماء وأحكامها، والثاني: في الجملة وأقسامها، والثالث: في شبه الجملة وأحكامها، والرابع: في ذكر أحكامٍ يكثر دورها، والخامس: في ذكر الجهات التي يدخل الاعتراض على المعرب من جهتها، والسادس: في التحذير من أمور اشتهرت بين المعربين والصوابُ خلافها، والسابع: في كيفية الإعراب، والثامن: في ذكر أمور كلية يتخرج عليها مالاينحصر من الصور الجزئية.
ويعلق على ذلك الأستاذ سعيد الأفغاني بقوله: ألف الكتاب ـ أي ابن هشام ـ لطبقة حظيت من العلم بقسط وافر في ثقافتها العامة .... وهو مستوى يعلو كثيراً على المستوى الميسر لطبقة المثقفين اليوم ثقافة رسمية ( بدرجة الدكتوراه مثلاً).
أشهر كتب النحو:
... وكتب علم النحو كثيرة جداً متنوعة متعددة، وبعضها ـ وهو الأكثر ـ نثر، وبعضها الآخر شعر.
ومن تلك الكتب: (الكتاب) لسيبويه، و(التصريف الملوكي) و(المنصف) وهما لابن جني، و(المفصل) للزمخشري و(الإنصاف في مسائل الخلاف) و(لمع الأدلة) وهما لكمال الدين الأنباري، و(ألفية ابن مالك) وشرحها و(كتابه شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح)، و(شرح شذور الذهب) لابن هشام.(1/76)
ومن آخر ماكتب في النحو (جامع الدروس العربية) للأستاذ الغلايينى.
قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: إن الرجل ليكلمني في الحاجة يستوجبها، فيلحن فأرده عنها، وكأني أقضم حب الرمان الحامض لبغضي استماع اللحن، ويكلمني آخر في الحاجة لايستوجبها، فيعرب فأجيبه إليها، إلتذاذاً لما أسمع من كلامه.
علم اللغة
رابع عشر: علم اللغة
... لم يقف تأثير اختلاط العرب بالعجم إبان مرحلة الفتوح الإسلامية عند حد فساد ملكة اللسان العربي، الذي بدأ يلحن في إعراب الكلمات وعدم ضبطها الضبط الصحيح، بالفتح حين تكون مفتوحة، والكسر حين تكون كذلك... بل تعدى التأثير لذلك الاختلاط إلى فساد موضوعات الألفاظ، بمعنى أنك أصبحت مع مرور الزمن ترى من العرب من يستعمل الكلمة في غير معناها الموضوعة له في لغة العرب أصلا.
مواجهة فساد الإعراب وفساد الموضوعات:
وإذا كان المسلمون قد واجهوا فساد ملكة الإعراب باللسان بوضع قواعد علم النحو، وسعوا فيه سعياً حثيثاً، واجتهدوا فيه اجتهادا كبيراً، حتى تم لهم ذلك فيه... فإن علماء المسلمين لم يقفوا مكتوفي الأيدي أمام النوع الآخر من فساد موضوعات الألفاظ ـ الذي رأوا فيه خطراً داهماً يهدد كيان اللغة العربية لغة القرآن نفسها ـ بل اخترعوا علم اللغة، أو علم متن اللغة، أو مانسميه اليوم بالمعاجم اللغوية أو كتب قواميس اللغة.
تعريف علم اللغة:
... ولقد عرف صديق بن حسن القنوّجي علم اللغة في كتابه ( أبجد العلوم) فقال: هو علم باحث عن مدلولات جواهرالمفردات وهيئاتها الجزئية التي وضعت تلك الجواهر معها لتلك المدلولات بالوضع الشخصي، وعما حصل من تركيب كل جوهر، وهيئاتها من حيث الوضع والدلالة على المعاني الجزئية.
هدف علم اللغة:(1/77)
وغاية هذا العلم أولاً: الاحتراز عن الخطأ في فهم المعاني الوضعية، والوقوف على مايفهم من كلمات العرب، أي أن نعلم مامعنى كلمة الحكمة مثلاً، أو معنى كلمة اختَضَرَ الشجرَ، فإذا راجعنا كتاباً من كتب اللغة ـ كالقاموس المحيط مثلاً ـ وبحثنا عن كلمة الحكمة علمنا أنها تعني: معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، وعلمنا أن كلمة اختضر الشجر تعني: قطعه أخضرا.. وهكذا.
... ولاشك أن هذا العلم قد حفظ كيان اللغة العربية وألفاظها ومعانيها، بحيث نستطيع رغم مرور الزمن الطويل بواسطة هذا العلم، أن نعلم المعنى الحقيقي للكلمات التي نطق بها العرب الأقحاح، الذين نزل القرآن بلغتهم الفصيحة الخالية من الألفاظ الأعجمية أوالتراكيب الفاسدة.
... وإضافة إلى ذلك فإن هذا العلم ـ علم اللغة ـ يفيد في التفنن في الكلام وفضل طلاقة العبارة وجزالتها، ويحصر في قوالب ثابتة قياسية وسماعية جميع ماورد عن العرب من كلمات، مع ذكر الشواهد للغريب منها من شعر أو نثر أو آية أو حديث، كما يضع الضوابط والقواعد لاستحداث مانحتاج إليه من مصطلحات أو كلمات مولّدة.
الخليل بن أحمد وعلم اللغة:
وإذا كانت المصادر تجمع على أن سابق الحلبة في هذا العلم الخليل بن أحمد الفراهيدي المتوفى سنة 175هـ، فما ذلك إلا لأنه جمع فأوعى، وكتب فأحسن وأجاد، وإلا فإن غيره قد سطر فيه قليلاً وكتب فيه رسائل.
يقول الأستاذ السيد أحمد الهاشمي في كتابه (جواهر الأدب) عن علم اللغة: وأول ماوضع الأئمة فيه رسائل وكتباً صغيرة في موضوعات خاصة، فلما ظهر الخليل أحصى ألفاظ اللغة بطريقة حسابية في كتاب، ورتبه على حروف المعجم، مقدماً حروف الحلق، ومبتدئاً منها بالعين، ولذلك سميَّ معجمه كتاب ( العين).
ولنا أن نتساءل كيف بنى المسلمون هذا العلم ولموا به شمل اللغة وجمعوا متناثرها.(1/78)
... ويجيبنا على هذا التساؤل خير إجابة الإمام ابن خلدون في مقدمته... يقول عن الخليل وكتابه العين وأسلوبه في حق كلمات اللغة:
( فحصر فيه مركبات حروف المعجم كلها، من الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي، وهو غاية ماينتهي إليه التركيب في اللسان العربي، وتأتّى له حصر ذلك بوجوه عديدة حاصرة، وذلك أن جملة الكلمات الثنائية تخرج من جميع الأعداد على التوالي من واحد إلى سبعة وعشرين، وهو دون نهاية حروف المعجم بواحد، لأن الحرف الواحد منها يؤخذ مع كل واحد من السبعة والعشرين فتكون سبعاً وعشرين كلمة ثنائية، ثم يؤخذ الثاني مع الستة والعشرين كذلك).
ويتابع ابن خلدون شرح طريقة تراكيب الكلمات عند الخليل حتى يقول بعد ذلك: ( فانحصرت له التراكيب بهذا الوجه، ورتب أبوابه على حروف المعجم بالترتيب المتعارف، واعتمد فيه ترتيب المخارج، فبدأ بحروف الحلق ثم مابعده من حروف الحنك، ثم الأضراس، ثم الشفة وجعل حروف العلة آخراً، وهي الحروف الهوائية، وبدأ من حروف الحلق بالعين لأنه الأقصى منها، فلذلك سمى كتابه (العين) لأن المتقدمين كانوا يذهبون في تسمية دواوينهم إلى مثل هذا، وهو تسميتةُ بأول مايقع فيه من الكلمات والألفاظ، ثم بيّن المهمل منها من المستعمل، وكان المهمل في الرباعي والخماسي أكثر، لقلة استعمال العرب له لثقله، ولحق به الثنائي لقلة دورانه، وكان الاستعمال في الثلاثي أغلب، فكانت أوضاعه أكثر لدورانه.
... ويقصد بالثلاثية طبعاً ماكان ثلاثة أحرف من الكلمات ككلمة نَصَرَ، والرباعية ماكان رباعياً كزلزل وهكذا.
طريقة علماء اللغة:
وتابع العلماء الجهود المباركة في تدوين علم اللغة على اختلاف طرائقهم وأساليبهم.
... ويبين بعض تلك الطرق ومستندها صاحب كتاب (أبجد العلوم) فيقول: واعلم أن مقصد علم اللغة مبني على أسلوبين:
لأن منهم من يذهب من جانب اللفظ إلى المعنى بأن يسمع لفظا ويطلب معناه.
ومنهم من يذهب من جانب المعنى إلى اللفظ.(1/79)
فلكل من الطريقين قد وضعوا كتباً ليصل كلٌ إلى مبتغاه، إذ لاينفعه ماوضع في الباب الآخر.
فمن وضع بالاعتبار الأول ـ أي أسلوب البحث عن معاني الكلمات بعد سماع ألفاظها ـ فطريقه ترتيب حروف التهجي، إما باعتبار أواخرها أبواباً وباعتبار أوائلها فصولا، تسهيلاً للظفر بالمقصود، كما اختاره الجوهري في الصحاح، ومجد الدين في القاموس، وإما بالعكس أي اعتبار أوائلها أبواباً وباعتبار أواخرها فصولا كما اختاره ابن فارس في (المجمل) والمطرزي في (المغرب).
ومن وضع بالاعتبار الثاني، فالطريق إليه أن يجمع الأجناس بحسب المعاني، ويجعل لكل جنس باباً، كما اختاره الزمخشري في قسم الأسماء من ( مقدمة الأدب).
ولاشك أن تلك الطرق قد توحدت هذه الأيام عملياً، بالطريقة الدارجة في قواميس اللغة، حيث إن من أراد العثور على معنى كلمة ما فما عليه إلا أن يعود إلى أصل الكلمة، ثم يبحث عنها في باب أول حرف لها، ثم ينزل إلى الحرف الثاني ليجدها في فصله، فكلمة (استنبات) يعود المرء بأصلها إلى (نبت) فيبحث عنها في حرف النون، ثم يتجاوز حرف النون مع الألف إلى حرف النون مع الباء الذي هو ثاني حرف من الكلمة.
مفردات الموضوعات:
علما أن هناك علماء آخرين أحدثوا طرقاً أخرى لعلم اللغة، حيث قسموه أقساماً وأجزاء، فكتبوا لكل باحث عن مفردة من مفردات اللغة كتباً مستقلة في موضوع من الموضوعات.
يقول صاحب (أبجد العلوم): ثم إن اختلاف الهمم قد أوجب إحداث طرق شتى: فمن واحد أداه رأيه إلى أن يفرد لغات القرآن، ومن آخر إلى أن يفرد غريب الحديث، وآخر إلى أن يفرد لغات الفقه كالمطرزي في المغرب، وأن يفرد اللغات الواردة في أشعار العرب وقصائدهم ومايجري مجراها( كنظام الغريب).. والمقصود هو الإرشاد عند مساس أنواع الحاجات.
كتب علم اللغة:(1/80)
وقد كثرت كتب علم متن اللغة بعد كتاب العين، فهذا أبو بكر بن دريد يؤلف كتابه ( الجمهرة) على حروف المعجم بترتيبها المعروف الآن، كما ألف الجوهري كتابه ( الصحاح)، وابن سيده الأندلسي كتابه ( المحكم)، والصاحب بن عباد كتابه (المحيط)، وابن فارس كتاب ( المجمل).
ثم من بعد هؤلاء الأوائل جاء المتأخرون، أمثال ابن الأثير في (النهاية) وابن مكرّم في (لسان العرب) والفيومي في (المصباح) والفيروزآبادي في (القاموس) وغيرهم.
الجهود المتأخرة في علم اللغة:
وقبل أن نختم نشير إلى جهد جديد حري بالتنويه والذكر في علم اللغة، وهو جهود المجامع اللغوية المكونة من علماء متخصصين في اللغة العربية، والذين يكون من صلب عملهم وضع ضوابط علمية لكلمات المصطلحات الحديثة، التي تحتاجها اللغة العربية لتكون وافية بمطالب العلوم والفنون وتقدمها، ليتحدد ماينبغي استعماله أو تجنبه من الألفاظ والتراكيب..
وفي مقدمة (المعجم الوسيط) الذي أصدره مجمع اللغة العربية بالقاهرة شرح وافٍ وجهد بارز.
علم الأدب
خامس عشر: علم الأدب
... ...
... لكل لغة آدابها، ولكن العربية هي لغة الأدب، وفنون الأدب عند العرب عظيمة وعديدة، حتى إن الأدب والخلافة في كل عصر كانا قرينين، فما تظهر مملكة ولا يسطع نجم خليفة إلا ونجد إلى جواره الأدباء ملتفين ومجتمعين، يغذوهم بعطاياه ويقوونه بأقلامهم وألسنتهم.
يقول عبد الحميد الكاتب ـ وهو أمير الكتاب في الخلافة الأموية، مخاطباً معاشر الأدباء ـ بكم تنتظم للخلافة محاسنها، وتستقيم أمورها، وبنصائحكم يُصلح الله للخلق سلطانهم، ويعمر بلدانهم، لايستغني الملك عنكم، ولايوجد كافٍ إلا منكم ... الخ، وما أصدق هذا الحديث.
... فما هو الأدب وما هي فائدته وما عدد أركانه وماهي كتبه.
تعريف علم الأدب وغايته:
... ويعرف العلماء علم الأدب بأنه: معرفة مايحترز به من جميع أنواع الخطأ في كلام العرب لفظاً وخطا.(1/81)
وهذا التعريف ـ ولاشك ـ يدخل فيه بعض علوم اللسان العربي، مما أفرده العلماء عن غيره، فيدخل فيه علم النحو وعلم اللغة وعلم الخط وغير ذلك، إضافة إلى علم الإنشاء والشعر اللذين هما بيت القصيد وأعظم المقاصد عند إطلاق لفظة (علم الأدب).
... وغاية علم الأدب الإجادة في فني النظم والنثر، إضافة إلى تهذيب العقل وتزكية الجنان، وتلك ولاشك فوائد عظيمة يكتسبها المشتغل بعلم الأدب، فيعصم نفسه من زلة الجهل، ويروض أخلاقه، ويلين طبائعه، وينهض بالهمم إلى طلب المعالي والأمور الشريفة.
أركان علم الأدب:
أما أركان علم الأدب ( أي دعائمه التي يقوم عليها ويستند إليها) فهي كما يذكر الأستاذ أحمد الهاشمي في مقدمة كتابه القيم ( جواهر الأدب) أربعة:
الأول قوى العقل الغريزية، وهي خمسة: الذكاء والخيال والحافظة والحس والذوق.
الثاني: معرفة الأصول، وهي مجموعة قوانين الكتابة، وفيها تبيان طرق حسن التأليف وضروب الإنشاء وفنون الخطابة.
الثالث: مطالعة تصانيف البلغاء بالتأني والتبصر فيها، ليدخر الكاتب كل لفظ مؤنق شريف، وكل معنى بديع، بحيث يتصرف بهما عند الضرورة.
الرابع: الارتياض ـ وهو التدريب ـ بوجوه الإنشاء، بأن تتوسع في شرح بعض المعاني فتبينه بأوجه شتى وتنمقه بأشكال البديع..
الأدب نثر وشعر:
ولايسعنا ونحن نتناول علم الأدب إلا أن نقتصر هنا أولاً من فن الإنشاء على الكتابة النثرية، على أن نفرد للقسم الآخر من الأدب ـ وهو قسم الشعرـ صفحات أخرى لاحقة.
... وفنون الإنشاء في علم الأدب سبعة ـ مع ملاحظة أن ذلك أهم وأغزر مباحث هذا العلم.
1 ـ فن المكاتبات:
الأول: فن المكاتبات والمراسلات: ويشمل هذا الفن أقسام الرسائل الثلاث.(1/82)
أولاها: الرسائل الأهلية ـ ويذكرها بعضهم باسم رسائل الأشواق ـ وهي مادارت بين الأقارب والأصدقاء وأسفرت عن مكنون الوداد وسرائر الفؤاد، وفي هذه الرسائل يطلق الكاتب لقلمه العنان، ويتجافى عن الانقباض، ويعدل عن الكلفة، ومن هذا القسم رسائل الشوق، ورسائل التعارف قبل اللقاء، ورسائل الهدايا، ورسائل الاستعطاف، ورسائل الاعتذار ، وغير ذلك.
وثانيها: الرسائل المتداولة، وتشمل الرسائل التجارية، ورسائل حسن التقاضي والطلب، ورسائل حسن الشكر، ورسائل النصح والمشورة، ورسائل الملامة والعتاب، ورسائل الشكوى، ورسائل العيادة، ورسائل التهاني، ورسائل التأبين والتعازي، ورسائل الأجوبة، ورسائل الوصايا والشفاعات، ورسائل التنصل والتبرؤ.
وثالث أقسام فن المراسلات الرسائل العلمية: وهي مقالات في المطالب العلمية، أوالمسائل الأدبية، يرسلها أصحابها إلى من اقترحها عليهم، أو طلبها منهم كرسالة (أيها الولد) للغزالي.
ومن الأمثلة التي تذكر في رسائل الاستعطاف والاعتذار ماكتبه ابن الرومي يستعطف القاسم بن عبيد الله، قال: تَرَفّع عن ظلمي إن كنتُ بريئا، أو تفضل بالعفو إن كنتُ مسيئا، فوالله إني لأطلب عفو ذنب لم أَجْنِه، وألتمس الإقالة مما لاأعرفه، لتزداد تَطوّلاً، وأزداد تذللا، وأنا أعيذ حالي عندك بكرمك من واش يكيدها، وأحرسها بوفائك من باغ يحاول إفسادها، وأسأل الله أن يجعل حظي منك بقدر ودي لك، ومحلي من رجائك بحيث استحق العفو منك، والسلام.
2 ـ فن المناظرات:
الثاني: من فنون الإنشاء السبعة: فن المناظرات: وللمناظرات ـ كما يقول السيد الهاشمي ـ ثلاثة شروط:
الأول: أن يجمع بين خصمين متضادين .
والثاني: أن يأتي كل خصم في نصرته لنفسه بأدلة ترفع شأنه وتعلي مقامه فوق خصمه.
والثالث: أن تصاغ المعاني والمراجعات صوغاً لطيفا.(1/83)
ومن أمثلة المناظرات الشهيرة مناظرة النعمان بن المنذر وكسرى أنوشروان في شأن العرب، ومناظرة للآمدي بين صاحب أبي تمام وصاحب البحتري في المفاضلة بينهما، ومناظرة السيف والقلم لزين الدين عمر بن الوردي ، ومناظرة بين الليل والنهار لمحمد المبارك الجزائري، ومناظرة بين الجمل والحصان للمقدسي، ومناظرة بين فصول العام لابن حبيب الحلبي.
ومن مناظرة فصول العام نقتطف هذه المقاطع: قال الربيع: أنا شابّ الزمان، وروح الحيوان، وإنسان عين الإنسان، أنا حياة النفوس وزينة عروس الغروس، ونزهة الأبصار، ومنطق الأطيار، عَرْف أوقاتي ناسم، وأيامي أعواد ومواسم... وقال الصيف: أنا الخل الموافق ،والصديق الصادق، والطبيب الحاذق، اجتهد في مصلحة الأحباب ، وأرفع عنهم كلفة حمل الثياب، وأخفف أثقالهم ، بي تتضح الجادة، وتنضج من الفواكه المادة، ويزهو البُسَر والرطب، وينصلح مزاج العنب، وقال الخريف: أنا سائق الغيوم، وكاسر جيش الغموم، وهازم أحزاب السموم، وحاوي نجائب السحائب، وحاسر نقاب المناقب، وقال الشتاء: أنا شيخ الجماعة، ورب البضاعة، أجمع شمل الأصحاب، وأسدل عليهم الحجاب، وأتحفهم بالطعام والشراب.
3 ـ فن الأمثال:
الفن الثالث من فنون الإنشاء فن الأمثال: والمثل عبارة عن تأليف لا حقيقة له ولا وجود في الواقع، وهو يحمل الحكم الشافية، والمواعظ البليغة.
وهو ثلاثة أنواع: الأمثال المفترضة الممكنة، وهي ما نسب إلى عاقل، والأمثال المخترعة المستحيلة، وهي ما جاءت على ألسنة الحيوانات والجمادات، والأمثال المختلطة، وهي ما دار الكلام فيها بين العاقل وغيره.
وأروع أمثلة الأدب العربي أمثلة القرآن الكريم { ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتفكرون }.
والأمثال فن أجاده العرب إجادة مذهلة.
4 ـ فن الوصف:(1/84)
الفن الرابع من فنون الإنشاء فن الوصف: وهو بيان الأمر باستيعاب أحواله وصفاته وما يلابسه. ويشترط فيه أن يكون حقيقياً لا مبالغة فيه، وأن يكون الكلام فيه ذا طلاوة ورَوْنَق.
ولايتسع المقام لسرد أمثلة للوصف الذي برع فيه الأدب العربي، فقد وصف كل شيء تقريباً، مما تراه العين، أو يحس به الخاطر، أو يتصوره العقل، وصفاً مبدعا.
وصف الجاحظ الحسد فقال: الحسد عقيد الكفر، وحليف الباطل، وضد الحق، منه تتولد العداوة، وهو سبب كل قطعية، ومفرق كل جماعة، وقاطع كل رحم من الأقرباء، ومحدثُُ للتفرق بين القرناء، وملقّح للشر بين الحلفاء.
5 ـ فن المقامة :
الفن الخامس من فنون الأدب فن المقامة: وهي عبارة عن كتابة مسجوعة حسنة التأليف، تتضمن نكته أدبية، تدور على رواية لطيفة مختلقة تنسب إلى بعض الرواة...
وقد راجت سوقها بين الأدباء في القرون التي تلت عصر مخترعها بديع الزمان الهمذاني المتوفى عام 398هـ حيث كان أول من فتح بابها، وسلك طريقها، واشتهر من بعده الحريري بمقاماته وتابعه كثيرون آخرون.
وغالباً ما تنسب المقامة إلى مكانها الذي يزعم أنها حدثت فيه، فيقال المقامة الحلبية والمقامة الاسكندرانية وهكذا.
6 ـ فن الرواية:
الفن السادس من فنون الأدب الرواية: وقد عرف الرواية بعضهم بقوله:وهي ذكر قول أو فعل حدثا، أو أمكن حدوثهما.
وخواصها: الإيضاح والإيجاز والإمكان والتلطف.
ولها ثلاثة أجزاء: صدرها وعقدتها وختامها.
وأمثلتها كثيرة منها: رواية ليلى الأخيلية مع الحجاج، ورواية بنات الشاعر المقتول ،ورواية المرأة المتكلمة بالقرآن، وغير هذا وذلك.
7 ـ فن تاريخ الأدب العربي:
الفن السابع من فنون الأدب ما يتعلق بتاريخ أدب اللغة العربية. وهو فن يتناول تاريخ الأمة العربية، ابتداء من العرب البائدة إلى العاربة إلى المستعربة إلى المحدثين، كما يتناول تاريخ لغتهم وحياتهم الاجتماعية وأخلاقهم وغير ذلك.
أشهر كتب الأدب:(1/85)
قال ابن خلدون في علم الأدب: وأركانه أربعة دواوين وهي: (أدب الكاتب) لابن قتيبة، وكتاب (الكامل) للمبرّد، وكتاب (البيان والتبيين) للجاحظ، وكتاب (النوادر) لأبي علي القالي.
ولكنا لا نستطيع أن نغفل بعض كتب الأدب الأخرى البارزة، أمثال (العقد الفريد) لابن عبد ربه و(الأغاني) لأبي الفرج الأصبهاني وغيرهما.
فن الشعر والشعراء
سادس عشر: فنّ الشعر والشعراء
ما النثر والشعر إلا جناحا الأدب العربي يطير بهما في سماء البلاغة والفصاحة، ويطوف بهما في أنحاء الحياة المختلفة، ولاغنى عنهما أو عن أحدهما.
ولا نستطيع الموازنة والمفاضلة بين الشعر والنثر، فلكل منهما رجال ومواقف ، وإبداع ولطائف، ولئن لم يكن القرآن المعجز شعرا،ً فهو أيضاً ليس مما عهده العرب من أصناف النثر.
ويكفي الشعر فخراً قول المصطفى عليه الصلاة والسلام " وإنّ من الشعر لحكمة ، وإنّ من البيان لسحرا ".(روى القسم الأول منه البخاري عن أبيّ ، والجزء الثاني رواه أحمد وأبو داود )
ولايضير الشعر أن الله سبحانه نزه نبيه صلى الله عليه وسلم عنه، فذلك لعمري آية نبوة، وعلامة صدق فيه، كيف لا. وقد كان أبو بكر وعمر شاعرين وكان علي رضي الله عنهم أجمعين أشعر الثلاثة.
ما قيل في الشعر:
قال ابن فارس في فقه اللغة: والشعر ديوان العرب، وبه حفظت الأنساب، وعرفت المآثر، ومنه تعلمت اللغة، وهو حجة فيما أشكل من غريب كتاب الله، وغريب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديث صحابته والتابعين.
والشعراء أمراء الكلام، يقصرون الممدود، ويمدون المقصور،ويقدمون ويؤخرون، ويومئون ويشيرون، ويختلسون ويعيرون ويستعيرون.
تعريف الشعر:
وقد عُرّف الشعر بأنه كلام موزون مقفىّ، دالُُ على معنى، ويكون أكثر من بيت.
وقال بعضهم: هو الكلام الذي قصد إلى وزنه وتقفيته قصداً أولياً، فأما ما جاء عفو الخاطر من كلام لم يقصد به الشعر فلا يقال له شعر، وإن كان موزونا.(1/86)
ويقول ابن خلدون فيه: هو كلام مفصل قطعاً قطعاً متساوية في الوزن، متحدة في الحرف الأخير من كل قطعة، وتسمى كل قطعة من هذه القطعات عندهم بيتاً، ويسمى الحرف الأخير الذي تتفق فيه رَوِيّا وقافية، ويسمى جملة الكلام إلى آخره قصيدة وكلمة، وينفرد كل بيت منه بإفادته في تراكيبه، حتى كأنه كلام وحده، مستقل عما قبله وما بعده، وإذا أفرد كان تاماً في بابه في مدح أو نسيب أو رثاء.
تاريخ الشعر ومبدؤه:
ولقد كان الشعر في العرب قديماً إلا أنه لم يكن إلا أبياتا.
يقول السيوطي في (المزهر): وإنما قُصّدت القصائد وطوّل الشعر على عهد عبد المطلب، أو هاشم بن عبد مناف. ثم يعود فينقل عن ثعلب في (أماليه) قول الأصمعي: أول من يروى له كلمة تبلغ ثلاثين بيتاً من الشعر مهلهل ثم ذؤيب بن كعب بن عمرو بن تميم، ثم ضمرة رجل من بني كنانة، والأضبطُ بن قريع. قال: وكان بين هؤلاء وبين الإسلام أربعمائة سنة، وكان امرؤ القيس بعد هؤلاء بكثير.
طبقات الشعراء:
ولهذا قسم ابن رشيق في كتابه (العمدة) طبقات الشعراء إلى أربع طبقات هي: جاهلي قديم، ومخضرم وهو الذي أدرك الجاهلية والإسلام، وإسلامي، ومحدث.
يقول: ثم صار المحدثون طبقات: أولى، وثانية على التدريج، هكذا في الهبوط إلى وقتنا هذا، فليعلم المتأخر مقدار ما بقي له من الشعر.
ومن جهة أخرى فقد قسم الشعراء من حيث إجادتهم إلى طبقات أيضاً:
... فأعلاهم كعباً يقال له شاعر خنزيز، أي شاعر جيد وراوٍ للجيد.
وشاعر مفلِق، وهو جيد الشعر، دون أن يكون راوياً كالأول.
ثم شاعر فقط، وهو من كان فوق الرديء بدرجة.
وشعرور وهو لا شيء.
مشاهير الشعراء:
ولعل أشعر العرب قديماً وأشهرهم أصحاب المعلقات السبع السِّمط: امرؤ القيس، وزهير، والنابغة، والأعشى، ولبيد، وعمرو، وطَرَفة...(1/87)
وكانت المعلقات تسمى المذهبات ـ يقول السيوطي ـ وذلك أنها اختيرت من سائر الشعر، فكتبت في القباطي بماء الذهب، وعلقت على الكعبة، فلذلك يقال: مذهبة فلان إذا كانت أجود شعره، ذكر ذلك غير واحد من العلماء.
أما عن شعراء ما بعد ذلك فهم كثير، وقد اشتهر على وجه الخصوص أبو تمام، والبحتري، وابن المعتز، والمتنبي، وأبو فراس، وأبو العلاء المعري، وابنُ هانئ الأندلسي، والشريف الرضي، وبشار بن برد، وأبو العتاهية، وابن الرومي، وابن خفاجة الأندلسي، ومؤيد الدين الطغرائي، والبهاء زهير...
وكما اشتهر هؤلاء بالشعر فقد اشتهر آخرون بروايته وتحمله إلى الناس، ومن هؤلاء الرواة المشهورين: الأصمعي، وحماد الكوفي، وخلف الأحمر البصري، وأبو عمرو بن العلاء، وعبيدة بن معمر بن المثنى، ومحمد بن سلام الجمحي وغيرهم.
وقد شهدت العصور المتأخرة للدولة الإسلامية ـ أي ما بعد القرن السابع الهجري ظهور شعراء لم يكونوا كالسابقين في براعتهم وإبداعهم وشهرتهم، مثل شرف الدين الأنصاري، والإمام البوصيري، والشاب الظريف، وابن الوردي، وصفي الدين الحلي، وابن مكانس، وابن معتوق الموسوي، وابن نباته.
وقد كان للشعر في عصر النهضة الحديثة أيضاً رجال فطاحل، أعادوا للقريض نضارته، وجددوا شبابه ومن أشهر هؤلاء : محمود سامي البارودي، وأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وإسماعيل صبري.
فنون الشعر:
وكما استعرضنا فنون النثر فإن الفنون والأبواب التي طرقها الشعراء بشعرهم كثيرة، ولكن أشهرها ما يلي:
1ـ المديح. وأكثر ما مدح الشعراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان هذا الضرب من المديح في المسلمين قديماً، بدأه شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت، وتابعه بعد ذلك أفواج لا تنتهي من الشعراء وأفواج .
فمن ذلك ما قاله شوقي فيه صلى الله عليه وسلم:
محمد صفوة الباري ورحمته ... ... وبُغية الله من خلق ومن نَسَمِ(1/88)
وصاحب الحوض يومَ الرسل سائلةُُ ... ... متى الورودُ؟ وجبريل الأمين ظمي
سناؤه وسناءُ الشمس طالعة ... ... فالجِرم في فلكِ، والضوء في علمِ
ويقال إن أمدح بيت في الشعرالعربي قول جرير في عبد الملك:
ألستم خير من ركب المطايا ... ... ... ... وأندى العالمين بطون راح
2ـ الفخر والحماسة: قال السموأل مفاخراً:
وإنا لقوم لا نري القتل سبة ... إذا ما رأته عامر وسلول
يقرب حب الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالُهم فتطول
ومامات منا سيد حتفَ أنفه ... ولا طل منا حيث كان قتيل
تسيل على حد الظباء نفوسنا ... وليس على غير الظباء تسيل
وقال الفرزدق:
لنا العزة القعساء والعدد الذي عليه إذا عُدّ الحصى يتخلف
ومنا الذي لا ينطق الناس عنده ولكنْ هو المستأذَن المتصرف.
3ـ الوصف: ولعل هذا أوسع أبواب الشعر تصريفاً، وأكثرها مددا، فما غادر الشعراء شيئاً دون وصف:
قال صفي الدين الحلي يصف وادياً:
تعانقت الأغصان فيه فأسبلت ... على الروض أستاراً من الورق الخضر
إذا ما حبال الشمس منها تخلصت ... إلى روضة ألقت شراكاً من التبر
وأنشد معروف الرصافي واصفاً قطار البخار:
وقاطرة ترمي الفضا بدخانها ... وتملأ صدر الأرض في سيرها رعباً
تمشت بنا ليلاً تجر وراءها ... قطاراً كصف الدوح تسحبه سحباً
فطوراً كعصف الريح تجري شديدة ... وطوراً رُخاء كالنسيم إذا هبا
تساوي لديها السهل والصعب في السُّرى ... فما استسهلت سهلاً ولا استصعبت صعباً
4ـ ومما خاض الشعراء فيه بقوة بحر المراثي، فبكوا وأبكوا كثيراً
قال أبو البقاء الرندي يرثي الأندلس:
فجائع الدهر أنواع منوعة ... ... وللزمان مسرّات وأحزانُ
وللحوادث سلوان يسهلها ... ... وما لما حل بالإسلام سلوان
تبكي الحنيفية البيضاء من أسف ... ... كما بكى لفراق الإلف هيمان
على ديار من الإسلام خالية ... ... قد أقفرت ولها بالكفر عمران
وقالت الخنساء ترثي أخاها صخرا:
تبكى خُنُاسُُ على صخرٍ وحق لها ... ... إذ رابها الدهر إن الدهر ضرّار
ياصخر ورّادَ ماء قد توارده ... ... ... أهل الموارد مافي ورده عار(1/89)
وإن صخراً لحامينا وسيدنا ... ... وإن صخراً إذا نشتوا لنحّار
وإن صخراً لتأتم الهداة به ... ... كأنه علم في رأسه نار
5ـ وقد خاض الشعراء في أبواب أخرى كثيرة، بعضها مشهور مثل الهجاء والغزل والحكم، وبعضها قليل مثل العلوم التي صاغها بعض الشعراء صياغة شعرية، لتسهيل حفظها، أو التاريخ الذي صبه بعضهم في قوالب شعرية.
العَروض... مركب الشعر والشعراء:
... ولا يفوتنا ـ قبل أن نختم الحديث عن الشعر والشعراء ـ أن ننوه بعلم لاحق للشعر وضباط له، وهو علم العروض الذي هو: معرفة الأوزان المعتبرة للشعر.
... وأول من اخترع هذا الفن الإمام الخليل بن أحمد، تتبع أشعار العرب وحصرها في خمسة عشر وزناً، وسمي كلاً منها بحراً، ثم تابع الجوهري علم الخليل فهذب العروض، ثم لحق بهما الأخفش.
... وقد كتب العلماء في العروض كتباً، مثل عروض ابن الحاجب، والخطيب، والتبريزي، وعروض الخزرجي، وشفاء العليل في علم الخليل لأمين الدين المحليّ.
... وفي الختام، فإن الشعر بحر العرب الذي أشرفوا على سواحله من كل جانب، ومخروا عبابه بكل سفين، وصبوا في قوالبه كل معنى. وهناك ألوف وألوف من دواوين الشعراء لا تقع تحت حصر.
علوم البلاغة
سابع عشر:علوم البلاغة
... هذا العلم قسم واسع من علوم اللسان العربي الذي هو لسان الإسلام وقلمه، وهو من العلوم المخترعة التي استفيدت من استقصاء العلماء وتتبعهم لأحوال اللسان العربي، وما يكون عند العرب وفي عرفهم فصيحاً بليغا،ً يوافق طباعهم السليمة، ويؤدي إلى أرق المعاني وأجمعها وأجملها.
تعريف البلاغة:
... والبلاغة ابتداء في لغة العرب ـ كما في المعجم الوسيط ـ حسن البيان وقوة التأثير.
... وهي عند علماء البلاغة: علم تدرس فيه وجوه حسن البيان، ومن هنا، فإن علوم البلاغة لعبت دوراً كبيراً في تاريخ العرب من حيث تخليد البلغاء وضربهم للناس أمثلة يحتذون بها، ورفع شأن المتكلم أوالخطيب أوالشاعر بحسب قربه أو التصاقه بقواعد البلاغة وقوانينها.(1/90)
يقول صديق بن حسن القنّوجي في كتابه (أبجد العلوم): علم البلاغة عبارة عن علم البيان والبديع والمعاني.
... والغرض من تلك العلوم: أن البلاغة سواء كانت في الكلام أوالمتكلم رجوعها إلى أمرين:
... أحدهما: الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد..
... والثاني: تمييز الفصيح عن غيره.
البلاغة.. والبيان .. والبديع:
... ولاشك أن البلاغة ذات علاقة وثيقة بعلوم متن اللغة والنحو والصرف فتلك علوم عربية أوضح ماتكون للمتأمل، ولكن علوم البلاغة إنما اختصت بجانب آخر وهو جانب الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعني المراد، ومن هنا نشأ علم المعاني، وكذلك الاحتراز عن التعقيد المعنوي ـ ومن هنا نشأ علم البيان ـ وإلى المحسنات اللفظية ومن هنا نشأ علم البديع.
... ولنتناول كل واحد من تلك العلوم على حدة.
1 ـ علم المعاني:
... وهو تتبع خواص تراكيب الكلام ومعرفة تفاوت المقامات حتى لا يقع المرء في الخطأ في تطبيق الأولى على الثانية.
... وذلك ـ كما في أبجد العلوم ـ لأن للتراكيب خواص مناسبةً لها يعرفها الأدباء، إما بسليقتهم، أو بممارسة علم البلاغة، وتلك الخواص بعضها ذوقية وبعضها استحسانية، وبعضها توابع ولوازم للمعاني الأصلية، ولكن لزوماً معتبراً في عرف البلغاء، وإلا لما اختص فهمها بصاحب الفطرة السليمة ...وكذا مقامات الكلام متفاوتة، كمقام الشكر والشكاية، والتهنئة والتعزية، والجد والهزل، وغير ذلك من المقامات... فكيفية تطبيق الخواص على المقامات تستفاد من علم المعاني.
... ومداره على الاستحسانات العرفية.
مثال علم المعاني:(1/91)
... ولعل من هذا القبيل ماوري أن أعرابياً سمع قارئاً يقرأ قوله سبحانه: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله غفور رحيم}(المائدة/38) فاستنكر منه ختام الآية بصفة الرحمة والمغفرة، حتى تنبه القارئ إلى خطئه فأعاد القراءة على الصحيح :{ والسارق والسارقة ... والله عزيز حكيم} كما نزلت في كتابه الله، عند ذلك قال الأعرابي الآن: استقام المعنى.
... فلا يستحسن في مقام العقوبة، وتهديد السارق بقطع يده، والأمر بذلك إن سرق إلا أن يقال( والله عزيز حكيم) حيث يوصف الرب سبحانه بالعزة، التي منها أن يأمر بما يشاء بمن يخالفه، ثم بالحكمة التي منها أن لا تزيد العقوبة عن مقدارها أو تنقص عنه، بل تكون مساوية للذنب ومقاربة.
... ومن هذا القبيل أن لا يتفاخر إنسان في مقام الاستجداء والسؤال، وأن لا يمدح من يشكو إلى من هو أكبر منه، ولا يضحك في مقام التعزية، وأن لا يعبس أو يقطب في خطبته أو كلامه أو شعره في مقام التهنئة.
2 ـ علم البيان:
... وقد عرفه صاحب كشاف اصطلاحات الفنون بقوله: علمُُ يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه..
... يقول ابن خلدون في مقدمته: ألا ترى أن قولهم (زيد جاءني) مغاير لقولهم ( جاءني زيد) من قبل أن المتقدم منهما هو الأهم عند المتكلم، فمن قال: جاءني زيد، أفاد أن اهتمامه بالمجيء قبل الشخص المسند إليه، ومن قال: زيد جاءني أفاد أن اهتمامه بالشخص قبل المجيء المسند، وكذا التعبير عن أجزاء الجملة بما يناسب المقام من موصولٍ أو مبهمٍ أو معرفة.
من أمثلة البيان القرآني:(1/92)
... ولقد قال الله سبحانه في كتابه: { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم } (الإسراء/31) وقال أيضاً في مقام آخر: { ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم } (الأنعام/151) فلما ذكر الخوف من الفقر مستقبلاً ( خشية إملاق) ولم يذكر وقوعه فعلا،ً قدم رزق الأولاد على آبائهم، من حيث إن الله سبحانه قد رزق الآباء حالياً، لكنهم يخشون الفقر إذا كثر أولادهم، ولما ذكر في الآية الأخرى وقوع الفقر( من إملاق) دعاهم إلى عدم قتل أولادهم، وقدم سبحانه رزقه لهم على رزق أولادهم، حيث يُخشى قتلهم أولادهم لقلة رزقهم الحالي.
... ومثل هذا يعد من أرفع أنواع البيان الذي تميز به القرآن فيما خاطب به العرب من بني الإنسان...
... ومن هذا القبيل استخدام الاستعارة والكناية والتشبيه والتمثيل وغير ذلك.
3 ـ علم البديع:
... وهو يشبه بالنسبة للبلاغة العربية كل ما يستخدمه الناس لتجميل أشيائهم تجميلاً ظاهرياً، يلفت الأنظار، ويحرك الأفكار، ويثير الإعجاب، ويطرب الألباب.
تعريف البديع:
... وهو علم تُعرف به وجوهُُ تفيد الحسن في الكلام بعد رعاية المطابقة لمقتضى الحال، أوهو التحسين والتزيين العرضي بعد تكميل دائرة الفصاحة والبلاغة.
... ومن هذا العلم استخدام السجع، وهو نهاية كل جملة على حرف أو حرفين متطابقين، كقول الأعرابي عندما سئل عن دليل وجود الله فقال: البعرة تدل على البعير، وأثر الأقدام يدل على المسير، أَفَسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج ألا تدلان على الحكيم الخبير.
... ومن هذا العلم أيضاً استخدام الطباق والجناس كقولك: تآلف المؤتلف، وتخالف المختلف، وتشابه المتشابه، وتعارض المتعارض...(1/93)
... قال التهانوي في( كشاف اصطلاحات الفنون): وأما منفعته فإظهار رونق الكلام، حتى يلج الآذان بغير إذن، ويتعلق بالقلب من غير كد، وإنما دونوا هذا العلم ، لأن الأصل وإن كان الحسنَ الذاتي، وكان المعاني والبيان مما لا يكفي في تحصيله، لكنهم اعتنوا بشأن الحُسْن العرضي أيضاً، لأن الحسناء إذا عَريت عن المزينات، ربما يذهل بعض القاصرين عن تتبع محاسنها، فيفوت التمتع بها.
... ولاشك أن علوم البلاغة الثلاثة لا تنال بمجرد معرفة الاسم، أو مطالعة المبادئ، وإنما لابد للمرء من دراسة مستفيضة، واستماع عميق، ومعايشة ومعاشرة لكتب الأدب وخزائن العربية.
القرآن الكريم كتاب البلاغة الأم:
... وليس ثمة أنفع للإنسان من دراسة القرآن الكريم دراسة لغوية بلاغية، لتحصيل علوم البلاغة، بل وعلوم العربية كلها، فضلاً عن الهداية والاسترشاد اللذين هما مقصودا القرآن الأول.
... واستمع إلى قوله سبحانه: { وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء، وقضي الأمر، واستوت على الجود وقيل بعداً للقوم الظالمين } (هود/44) ثم انظر إلى الآية كيف حوت: أمرين، وخبرين، وبشارة، ودعاء.
... أو أجل فكرك في قوله سبحانه: { إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون } (النحل/90) كيف جمعت الأمر بكل خير الدنيا والآخرة، على المستوى الفردي والجماعي ونهت عن كل الشرور الدينية والدنيوية، ثم ختمت ذلك بالتذكير ترغيبا وترهيبا.
كتب البلاغة:
... قال السيد أحمد الهاشمي في كتابه (جواهر الأدب): وأول كتاب دون في علم البيان كتاب ( مجاز القرآن ) لأبي عبيدة تلميذ الخليل، ثم تبعه العلماء.
... ولا يعلم أول من ألف المعاني بالضبط، وإنما أُثِر فيها كلام عن البلغاء، وأشهرهم الجاحظ في (إعجاز القرآن) وغيره.
... وأول من دون كتباً في علم البديع ابن المعتز وقدامة بن جعفر...(1/94)
... وبقيت هذه العلوم تتكامل ويزيد فيها العلماء حتى جاء فحل البلاغة: عبد القاهر الجرجاني فألف في المعاني كتابه( إعجاز القرآن) وفي البيان كتابه (أسرار البلاغة) وجاء بعده السكاكي فألف كتابه العظيم ( مفتاح العلوم).
علم الخط
ثامن عشر: علم الخط
... ليس هناك تشريف أرفع لعلم الخط من إضافة الله سبحانه تعليم الخط لنفسه وامتنانه بذلك على عباده.
... قال صاحب كتاب زاد المسافر: الخط لليد لسان، وللخَلَد ترجمان، فرداءته زمانة الأدب، وجودته تبلغ شرائف الرتب، وفيه المرافق العظام التي منّ الله بها على عباده، فقال جل ثناؤه: { وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان مالم يعلم } .
أول من خط بالعربية:
... ولكننا ونحن بصدد البحث في هذا العلم نحار ونحن نستمع إلى إجابات العلماء عن التساؤل الوارد ابتداءً: من أول من خط الخط العربي؟
... منهم من أبعد فقال: إنه آدم عليه السلام مستنداً إلى قول منسوب إلى كعب الأحبار.
... ومنهم من قال: إنه إسماعيل عليه السلام ـ كما قاله ابن عباس ـ وزاد أنه كان موصولاً حتى فرق بينه ولده.
... وقيل: مرامر بن مرة، وأسلم بن جدرة، وهما من أهل الأنبار.
... وقيل: أول من كتب بالعربية حرب بن أمية بن عبد شمس، تعلم من أهل الحيرة، وتعلم أهل الحيرة من أهل الأنبار...
... يقول ابن فارس: والروايات في هذا الباب تكثر وتختلف.
... ولعل المرء يرتاح إلى ما ذكره ابن دريد في أماليه: عن عوانة قال: أول من كتب بخطنا هذا وهو الجزم مرامر بن مرة وأسلم بن جدرة الطائيان، ثم علموه أهل الأنبار، فتعلمه بشر بن عبد الملك أخو أكيدر بن عبد الملك الكندي صاحب دومة الجندل، وخرج إلى مكة فتزوج الصهباء بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان، فعلم جماعة من أهل مكة، فلذلك كثر من يكتب بمكة...
... ولذلك يقول رجل من كندة يمن على قريش بتعليم بشر لهم:
... لاتجحدوا نعماء بشرٍ عليكمُ ... فقد كان ميمون النقيبة أزهرا(1/95)
... أتاكم بخط الجزم حتى حفظتموا ... من المال ماقد كان شتى مبعثرا
أوائل الكتبة من المسلمين:
... وقد سمي خط هؤلاء الأوائل بالخط الحجازي، وهو أصل خط النسخ.
... وقد كان من كتابه بعض أسرى النبي صلى الله عليه وسلم من أهل قريش في بدر، فاشترط على كل واحد منهم تعليم عشرة من صبيان المدينة، فانتشرت الكتابة بين المسلمين، وحض صلى الله عليه وسلم على تعليمها.
... وكان من أشهر كتاب الصحابة رضي الله عنهم عمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام.
... ولما فتح المسلمون الممالك ونزلت جمهرة الكتّاب منهم الكوفة، عنوا بتجويد الخط العربي وهندسة أشكاله، حتى صار خط أهل الكوفة ممتازاً بشكله عن الخط الحجازي، واستحق أن يسمى باسم خاص وهو ( الخط الكوفي) وبه كانت تكتب المصاحف وتحلى القصور والمساجد وتسك النقود.
أهل الخط العربي:
... وأرى من المفيد هنا أن أنقل عن (أبجد العلوم) لصاحبه صديق بن حسن القنوجي كلامه في علم الخط بتصرف، قال:
... فصل في أهل الخط العربي، قال ابن إسحاق: أول من كتب المصاحف في الصدر الأول ـ ويوصف بحسن الخط ـ خالد بن أبي الهياج، وكان سعد ـ أي ابن أبي وقاص والي الكوفة أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ـ نصبه لكتابة المصاحف والشعر والأخبار للوليد بن عبدا لملك، وكان الخط العربي حينئذ هو المعروف الآن بالكوفي، ومنه استنبطت الأقلام كما في (شرح العقيلة).
... ومن كتاّب المصاحف خشنام البصري، والمهدي الكوفي، وكانا في أيام الرشيد.
... ومنهم أبو حدى وكان يكتب المصاحف في أيام المعتصم من كبار الكوفيين وحذاقهم، وأول من كتب في أيام بني أمية ( قطبة) وقد استخرج الأقلام الأربعة، واشتق بعضها من بعض وكان أكتب الناس.
... ثم كان بعده الضحاك بن عجلان الكاتب في أول خلافة بني العباس فزاد على قطبة.
... ثم كان إسحاق بن حماد في خلافة المنصور والمهدي، وله عدة تلاميذ كتبوا الخطوط الأصلية الموزونة..(1/96)
... وحين ظهر الهاشميون حدث خط يسمى العراقي، وهو المحقَّق، ولم يزل يزيد حتى انتهى الأمر إلى المأمون فأخذ كتابه بتجويد خطوطهم، وظهر رجل يعرف بالأحول المحرِّر، فتكلم على رسومه وقوانينه وجعله أنواعا.
... ثم ظهر قلم المرصع وقلم النساخ، وقلم الرياسي اختراعُ ذي الرياستين: الفضل بن سهل، وقلم الرقاع، وقلم غبار الحلية.
... ثم كان إسحاق بن إبراهيم التميمي المكنى بأبي الحسن معلم المقتدر وأولاده أكتب أهل زمانه، وله رسالة في الخط أسماها ( تحفة الوامق).
... ومن الوزراء الكتاب أبو علي محمد بن علي بن مقلة المتوفى سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، وهو أول من كتب الخط البديع.
... ثم ظهر صاحب الخط الجميل علي بن هلال المعروف بابن البواب المتوفى سنة عشرة وأربعمائة، ولم يوجد في المتقدمين من كتب مثله ولا قاربه، وإن كان ابن مقله أول من نقل هذه الطريقة من خط الكوفيين وأبرزها في هذه الصورة، وله بذلك فضيلة السبق، وخطه في نهاية الحسن أيضا، لكن ابن البواب هذب طريقته ونقحها وكساها حلاوة وبهجة، وكان شيخه في الكتابة محمد بن أسد الكاتب.
... ثم ظهر أبو الدر ياقوت بن عبد الله الرومي الحموي المتوفى سنة ست وعشرين وستمائة، ثم ظهر أبو المجد ياقوت بن عبد الله الرومي المستعصمي المتوفى سنة ثمان وتسعين وستمائة، وهو الذي سار ذكره في الآفاق وعجز الكتاب والخطاطون عن مداناة رتبته.
... ثم اشتهرت الأقلام الستة بين المتأخرين وهي: الثلث والنسخ والتعليق والريحان والمحقق والرقاع... ثم ظهر قلم التعليق والديواني والدشتي، وكان ممن اشتهر بالتعليق سلطان علي المشهدي، ومير علي، ومير عماد، وفي الديواني تاج وغيرهم.
وقفة مع ابن مقلة:(1/97)
... ولابد من وقفة مع جهود الوزير ابن مقله وأخيه الخطاط أبي عبد الله الحسن، فهما اللذان تمت على أيديهما هندسة خط النسخ والجليل وفروعه على الأشكال التي نعرفها الآن، وهما اللذان قدرا مقاييس الحروف وأبعادها وضبطاها ضبطاً جيداً وأنشأ لعلم الخط القواعد..
... ومن المؤسف جداً أن سيرة ابن مقله وترجمته انتهت نهاية حزينة بعد عز وجاه ومنزلة وشرف، فقد قبض عليه ابن رائق أمير الأمراء ببغداد أيام الراضي ـ وكان ابن مقله قد كاد له ـ فقطع ابن رائق يده اليمني، ثم عاد فقطع لسانه حتى مات سنة 228 .
الخطاطون المتأخرون:
... ولما جاءت الدولة العثمانية نبغ في عهدها خطاطون أتراك نالوا من الشهرة منزلة عالية، ومن الخط حظاً وافراً، وأشهر هؤلاء الشيخ حمد الله الأماسي، وجلال الدين، ودرويش علي، والحافظ عثمان، وعبد الله زهدي، وهو الذي خط بالقلم الجليل جدران المسجد النبوي الشريف، ومحمد مؤنس أفندي، وعلى يديه وعلى يدي تلميذه محمد جعفر بك تخرج جميع خطاطي مصر فيما بعد.
... ومن أشهر الخطاطين في الحقبة الأخيرة: الشيخ عبد العزيز الرفاعي وسامي أفندي، وأحمد كامل، وهاشم محمد البغدادي، وحامد الآمدي، ومحمد عارف، وبدوي الديراني، وحسنى البابا.
مايتعلق بعلم الخط:
... وإننا ونحن نسرد نبذة مختصرة عن علم الخط يهمنا أن ننبه إلى ماسماه بعض العلماء علوماً متعلقة بكيفية الصناعة الخطية.
... فمن ذلك علم أدوات الخط: من القلم، وطريق بريه ، وأحوال الشق والقط، ومن الدواة والمداد والكاغد.
... وقد ذكر أن ابن البواب نظم في هذا العلم قصيدة رائية بليغة استقصى فيها أدوات الكتابة، أي معرفة كيفية نقش صور الحروف والبسائط، وكيف يوضع القلم، ومن أي جانب يُبدأ في الكتابة، وكيف يسهل تصوير تلك الحروف.
... ومن المصنفات في علم أدوات الخط الباب الواحد من كتاب صبح الاعشى.(1/98)
... ومن ذلك علم تحسين الحروف الذي قال عنه في (مدينة العلوم): هو علم يعرف منه تحسين تلك النقوش، وما يتعلق به من كيفية استعمال أدوات الكتابة وتمييز حسنها عن رديئها وأسباب الحسن في الحروف آلة واستعمالاً وترتيبا، ومبنى هذا الفن الاستحسانات الناشئة من مقتضى الطباع السليمة وتختلف صورتها بحسب الإلف والعادة والمزاج، بل بحسب كل شخص، ولهذا لايكاد يوجد خطان متماثلان من كل الوجوه.
... ومنها أيضاً علم كيفية تولد الخطوط عن أصولها بالاختصار والزيادة، وغير ذلك من أنواع التغيرات... الخ.
خط المصحف:
... ومن أهم علوم الخط علم ضبط المصحف الشريف الذي هو مجمع اهتمام الخطاطين جميعا، فللمصحف خط خاص حسبما اصطلح عليه الصحابة رضوان الله عليهم عند جمع القرآن على ما اختاره زيد بن ثابت وفي هذا العلم قصيدة (العقيلة) الرائية للشاطبي.
... قال في الكشاف: وقد اتفقت في خط المصحف أشياءً خارجةً عن القياس، ثم ماعاد ذلك بضير ولا نقصان، لاستقامة اللفظ وبقاء الخط، وكان اتباع المصحف سنة لاتخالف...
... وقال ابن درستويه في كتاب ( الكتّاب): خطان لايقاسان: خط المصحف لأنه سنة، وخط العروض لأنه يثُبت فيه ماأثبته اللفظ ويسقط عنه ماأسقطه.
علم المنطق
تاسع عشر: علم المنطق
... هذا علم أثار بين العلماء قديماً نزاعاً واسع الرقعة، وأضرم خلافاً متأجج الأوار..حتى تضاربت وتباعدت أقوالهم فيه كل التضارب والتباعد.
رأيان متضادان في علم المنطق:
... قال عنه جماعة من العلماء إنه علم كفري، وضع أسسه الفيلسوف اليوناني أرسطاطاليس، ونقله إلى العربية من ساءت عقيدته، وبيّت للإسلام نية السوء والنقص.(1/99)
... وانظر من هؤلاء إلى السيوطي رحمه الله حيث يقول عنه في (الحاوي): المنطق هو فن خبيث مذموم، يحرم الاشتغال به، مبني بعض مافيه على القول بالهيولى، الذي هو كفر يجر إلى الفلسفة والزندقة، وليس له ثمرة دينية أصلا بل ولا دنيوية، ثم ساق أسماء جمهرة من العلماء قالوا نفس القول، ودعوا الخلق كافة إلى هجر هذا العلم ونبذه.
... هذا رأي... ولآخرين من العلماء رأي آخر.
... إذ يسمى بعض العلماء علم المنطق علم الميزان، لأنه به توزن الحجج والبراهين، ويسمونه أيضاً خادم العلوم، لأنه الوسيلة إليها، أو رئيس العلوم لحكمه عليها...
... ولذا فلا غرو عند هؤلاء إن كان كما قال الشيخ الرئيس ابن سينا: المنطق نعم العون على إدراك العلوم كلها، وقد رفض هذا العلم وجحد منفعته من لم يفهمه ولا اطلع عليه، عداوةً لما جهل... وقال الغزالي: من لم يعرف المنطق فلا ثقة له في العلوم أصلا.
وإنصاف واعتدال:
... والحق يقال، فإن المنطق علم يوناني المنشأ والمنبت، وهو بهذا يميل إلى قواعد عدة تكاد تؤله العالَم، وتقول بقدمه، وبأنه لاأول له، وهذا مما لاشك فيه يغاير كل المغايرة العقيدة الإسلامية ويناقضها، حيث دعت الناس إلى الإيمان بأن الله سبحانه وحده هو الأول فلا شيء قبله، وما سواه فهو مخلوق بأمره حادث بصنعه، ومن هنا فقد شهدت فترة انتقال الفكر المنطقي اليوناني إلى اللغة العربية بادئ ذي بدء اضطراباً وزلزلة في أوساط الأمة الإسلامية، وكان ذلك أيام المأمون العباسي، حتى نبتت نابتة الزنادقة والملحدين، الذين أنكروا العقيدة الإسلامية إما جهراً إن استطاعوا، أو سراً إن ذلوا وخافوا.. ومن هنا وفي هذه الأجواء تفهم كلمة ابن تيمية رحمه الله حينما قال في صدد حديثه عن المنطق : ما أظن الله تعالى يغفل عن المأمون العباسي، ولابد أن يعاقبه بما أدخل على هذه الأمة...
الاعتزال وليد المنطق:(1/100)
... ولقد رأينا نتيجة دخول علم المنطق والفلسفة على الأمة في نشوء الاعتزال، الذي اتخذ العقل ركيزة أساسية له في فهمه للدين.
... وهذا ولاشك جيد ابتداء، إلا أن المعتزلة غالوا في ذلك حتى جنوا على كثير من النصوص الشرعية، وجنحوا بفهمها اتباعاً للتفسيرات العقلية والتبريرات الفلسفية، مما جعلهم منبوذين في الأمة، حتى قيض الله سبحانه وتعالى لهذا الدين أبا الحسن الأشعري ومن بعده الباقلاني ثم الجويني عندما أوقفوا بالمنطق والحجة مد الاعتزال وفكره، ثم أعقب ذلك الغزالي رحمه الله الذي كان آية من آيات الله في الفلسفة والمنطق والفكر فارتقى قمة الفلسفة واستلم زمامها حتى أقر له أربابها بذلك في كتابه ( مقاصد الفلاسفة) ثم عاد فالتفت إليها فنقضها نقضاً شديداً، ووجه لها ضربات قاضية لم تقم لها بعدها قائمة في كتابه (تهافت الفلاسفة) وبذلك كان كمن أطفأ نار المنطق اليوناني الكافر بماء منطق الإسلام المؤمن.
تعريف علم المنطق:
... ولنا بعد هذه المقدمة المستفيضة أن نتساءل ما هو المنطق، وما هو تعريف العلماء له ولموضوعاته؟
... يقول صديق بن حسن القنّوجي في (أبجد العلوم): هو علم يتعرف منه كيفية اكتساب المجهولات التصويرية والتصديقية من معلوماتها.
... والغرض منه التمييز بين الصدق والكذب في الأقوال، والخير والشر في الأفعال، والحق والباطل في الاعتقادات.
... وقال حاجي خليفة: إن أصول المنطق تسعة أبواب على المشهور: الأول: باب الكليات الخمس، الثاني: باب التعريفات، الثالث: باب التصديقات، الرابع: باب القياس، الخامس: البرهان، السادس: الخطابة، السابع: الجدل، الثامن: المغالطة، التاسع: الشعر، هذا خلاصة مافي ( العَلَمى) حاشية شرح (هداية الحكمة الميبذية) وحكمة شرح العين وغيرها.(1/101)
... والحق أن فلاسفة الإسلام على الرغم من تأثر بعضهم بالمنهج اليوناني للمنطق، إلا أن غالبيتهم قد روضت المنطق الذي أسسه أهل الوثنية والإلحاد، ليكون مطية لعلم التوحيد الذي امتزج بالمنطق، فأصبح يسمى بعلم الكلام.
... وقد عرف ابن سينا الفلسفة تعريفاً مفصلاً حيث قال: الحكمة (ويقصد بها علم المنطق) صناعة نظرية، يستفيد الإنسان منها تحصيل ماعليه الوجود كله في نفسه، وما الواجب عليه فعله، مما ينبغي أن يكتسبه فعلُه، لتشرُف بذلك نفسه وتستكمل وتصير عالماً معقولاً مضاهياً للعالم الموجود، وتستعد للسعادة القصوى بالآخرة، وذلك حسب طاقة الإنسان.
إثبات وجود الله من خلال المنطق:
... وقد انطلق ابن سينا من نقطة البداية لإثبات وجود الله: من مفهوم أن الوجود للأشياء إما واجب بذاته، أي مالا يمكن تصور عدمه، ولو تصورنا عدمه لوقعنا في التناقض والمحال، وإما جائز الوجود أو ممكن الوجود، فأما واجب الوجود فهو الله سبحانه، وأما ممكن الوجود فهو مخلوقاته التي لا يترتب على عدمها عدم ومحال.
... وجاء ابن رشد الفيلسوف ففضل لإثبات وجود الله الطريق التي تؤخذ من القرآن، فاستخرج دليلين هما: دليل الاختراع أي خلق الأشياء وإحداثها، ودليل العناية وهو ملاءمة ما على الأرض كلها لحياة الإنسان واستمرار الحياة.
المنطق والعلوم الإسلامية:
... ولا يفوتنا أن ننوه وننبه إلى أن علماء الإسلام قد استخدموا المنطق كعلم يحاكم القواعد الأساسية إلى العقل، ويضبطها به، ويرجع ترتيبها وصدقها إليه، استخدموه في علوم شتى من علوم الإسلام : في علوم القرآن والحديث والفقه ـ وعلى وجه أخص في أصول الفقه ـ والنحو والتصوف والعقائد، حتى أصبحت تلك العلوم وغيرُها معتمدة عليه مسلمة قيادها إليه، لايكاد يطلع عليها ويتضلع منها من لم يُجِدْ ويتقن المنطق وقواعده.(1/102)
... قال صاحب (أبجد العلوم) عن أطراف علم المنطق: الطرف الثاني: أن المتأخرين من علماء الإسلام، لاسيما أئمة الأصول والبيان والنحو الكلام من أهل البيت وغيرهم، قد استكثروا من استعمال القواعد المنطقية في مؤلفاتهم في هذه الفنون وغيرها.
... وقال أيضاً: الطرف الثالث أن كتب المنطق التي يدرسها طلبة العلوم في زماننا قد هذبها الإسلام تهذيباً صفت به عن كدورات أقوال المتقدمين، فلا ترى فيها إلا مباحث نفيسة ولطائف شريفة، تستعين بها على دقائق العلوم، وتحل بها إيجازات المائلين إلى تدقيق العبارات، فإن حرمت نفسك معرفتها فلا حظّ لك بين أرباب التحقيق.
إنْ رُمتَ إدراك العلوم بسرعة ... ... فعليك بالنحو القويم ومنطق
هذا لميزان العقول مرجح ... ... والنحو إصلاح اللسان بمنطق
... والحقيقة التي يتوصل إليها الناظر بإنصاف إلى علم المنطق: أنه كما قال بعض العلماء الأفاضل: إنه كالسيف يُجاهد به شخص في سبيل الله، ويقطع به آخر الطريق.
... ولاشك أن كلامنا عن علم المنطق هنا لا يتناول صورته الحديثة التي لبسها بعد النهضة العصرية الغربية، التي قدمت نظريات فلسفية جديدة معظمها يدور في فلك المادية والوجودية والبوهيمية.
أشهر كتب المنطق:
... ومن أشهر كتب المنطق القديمة: (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال) لابن رشد، و(كتاب النجاة) لابن سينا، و(مقالات الإسلاميين) للأشعري، و(التمهيد للباقلاني)، و(الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد) للجويني و(الاقتصاد في الاعتقاد) للغزالي، و(فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة) للغزالي، و(الرد على المنطقيين) لابن تيمية.
... ومن أشهر الكتب التي يدرسها طلبة العلم الشرعي رسالة إيساغوجي للأبهري، و(التهذيب للسعد)، و(الرسالة الشمسية)، و(نخبة الفكر)، و(جامع الدقائق) و(غرة النجاة) و(تيسير الفكر) و(بحر الفوائد) و(القواعد الجلية) و(ناظر العين) و(المطالع) وغير ذلك.
علم الطب النبوي
عشرون: علم الطب النبوي(1/103)
... تؤلف الأحاديث النبوية المتعلقة بالطب، من صحة ومرض ودواء وداء، جزءاً من مصنفات المحدثين وكتب علوم الحديث النبوي الشريف، وهي تخضع كغيرها لمنهج النقد الحديثي، وللحكم عليها بعد ذلك.
... إلا أنه ومنذ القديم قام كثير من العلماء بإفراد هذه الأحاديث في مؤلفات خاصة بها، كما قاموا بشرحها والتعليق عليها، وإضافة كثير مما يتعلق بطب الأعشاب إليها، وما ذلك إلا لأهمية علم الطب من جهة، ولإبراز ما وفق الله سبحانه نبيه وهداه إليه من علاجات ونصائح وأدوية وإجراءات كانت تمثل علماً خاصا، ثبت في الواقع المجرب وعند أصحاب الاختصاص صحته وأهميته.
تنبيه هام بخصوص الطب النبوي:
... وفي البداية نؤكد نحن ـ ومن قبلنا كل من سبق ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تكلم في الطب وليس بطبيب، وعالج أصحابه وليس بآس، وإنما هو رسول من عند الله سبحانه علمه مالم يعلم، وكان فضل الله عليه كبيرا.
... قال ابن القيم رحمه الله في كتابه (زاد المعاد إلى هدي خير العباد): وليس طبه صلى الله عليه وسلم كطب الأطباء، فإن طب النبي صلى الله عليه وسلم متيقن قطعي إلهي، صادر عن الوحي ومشكاة النبوة وكمال العقل، وطب غيره أكثره حدسي وظنون وتجارب، ولاينكر عدم انتفاع كثير من المرضى بطب النبوة، فإنه إنما ينتفع به من تلقاه بالقبول واعتقاد الشفاء به، وكمالُ التلقي له بالإيمان والإذعان، فهذا القرآن الذي هو شفاء لما في الصدور، إن لم يتلق هذا التلقي لم يحصل به شفاء الصدور من أدوائه، بل لا يزيد المنافقين إلا رجساً إلى رجسهم ومرضاً إلى مرضهم.
تعريف الطب النبوي:(1/104)
... وإذا كان لابد من توضيح معنى الطب النبوي، فلننقل ما قاله الشيخ الطبيب محمود ناظم نسيمي رحمه الله في كتابه الرائع ( الطب النبوي والعلم الحديث) وهو من أفضل وآخر ما كتب في هذا الباب، قال: الطب النبوي هو مجموع ما ثبت وروده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما له علاقة بالطب سواء كان آية قرآنية كريمة أو أحاديث نبوية شريفة.
... كما لابد من توضيح أن الطب النبوي لم يكن طباً متكاملاً يضم كل فروع الطب، كما هو الحال في الطب اليوناني أو الهندي أو الفارسي، بل كان طباً مميزاً عما سبقه أو لحقه، إلا أنه في معظمه يدخل تحت قسم الطب الوقائي، وبعضه ـ وهو الأقل ـ يدخل تحت قسم الطب العلاجي، كما أن بعضه ـ وهو قليل أيضاًـ يتعلق بشيء من علوم الطب كعلم الأجنة والوراثة وبعضه الأخير يتعلق بآداب مهنة الطب وأحكامه الشرعية.
مجالات الطب النبوي:
... 1 ـ ففي مجال الطب الوقائي:
... فقد كان للصحة البدنية حظ وافر من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك أنه أمر باستعمال الماء في الوضوء أو الغسل عند كل إرادة صلاة، وفي مواطن عديدة، كما أمر بتقليم الأظافر ونتف الإبط والعانة، وغسل اليدين عند القيام من النوم وعند الطعام، وأمر باستعمال السواك دائماً لتنظيف الفم، وأمر بتعهد الشعر بالقص والتسريح، وأمر بنظافة السبيلين بعد كل تبول أو تغوط...
... كما أنه عليه الصلاة والسلام في مجال الطب الوقائي أمرنا بتحريك أعضائنا في كل صلاة، وذلك نوع من الرياضة البدنية إن لم يكن مقصوداً لذاته فهو حاصل على كل حال..
... كما جاءنا عليه الصلاة والسلام بحل الطيبات من الطعام وتحريم الخبائث منها كالميتة والخنزير والدم، وأمرنا بالاعتدال في الطعام والشراب وعدم الإسراف فيهما.
... كذلك جاءنا عليه السلام بالصيام كعبادة أصلاُ، إلا أنها تتعلق من جوانب كثيرة بالوقاية من الأمراض الجسمية، وتحصّل كثيراً من الفوائد الصحية.(1/105)
... وحرم علينا الخمر التي لا تعد ولا تحصى أضرارها الصحية، وغير الصحية وألحق بها كل ما أسكر كالحشيش والمخدرات، ورأى كثير من العلماء أن التبغ لاحق بها لضرره..
... كما أمرنا عليه الصلاة والسلام بالختان الذي هو سبب من أسباب الاحتراز عن الإصابة بالأمراض، كما أمرنا بالزواج ولا تخفى منافعه الصحية على البدن، كما نهانا عن مخالطة المرأة الحائض أو النفساء، وفي ذلك مافيه من الفوائد الصحية، وحرم علينا الزنا واللواط والاستمناء وهي أشياء أشد ما تكون أضراراً بالصحة.
... وأمرنا بنظافة الثياب والمساكن والطريق، والتحرز فيها عن الأوساخ والنجاسات.
... وأمرنا بالابتعاد عن الأمراض المعدية، مع اعتقاد أنها لاتصيب إلا بإذن الله، فإذا وقع الطاعون في بلد فلا ندخله وإذا كنا فيه فلا نخرج منه، حتى لاتنتقل إلينا العدوى أو ننقلها، وأمر بعزل المصابين ( وفر من المجذوم فرارك من الأسد) (رواه الشيخان عن أبي هريرة ) واهتم بالصحة النفسية والقلبية اهتماماً زائداً ما عليه مزيد.
2 ـ وفي مجال الطب العلاجي:
... شرع لنا النبي صلى الله عليه وسلم التداوي ، واعتبره من الدين ودعا إليه وأمر به (تداووا عباد الله فإن الله لم يضع داء إلا وضع معه شفاء إلا الهرم)(رواه أحمد والأربعة وابن حبان والحاكم عن أسماء بنت شريك) إلا أنه حرم علينا التداوي بالمحرمات كالخمر( إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم) (رواه البخاري تعليقا وصححه ابن حجر) كما رأى كثير من العلماء حل الانتفاع بأعضاء الموتى لعلاج المرضى الأحياء.(1/106)
... ومن جانب آخر نرى ـ في مجال الطب العلاجي ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر وصفات علاجية لبعض الأمراض، كالعسل وهو غذاء قيم ودواء نافع { يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس } (سورة النحل/69) وقال عليه السلام: (عليكم بالشفاءين: العسل والقرآن )(رواه ابن ماجه والحاكم وصححه السيوطي)، كما ذكر في الأحاديث الاستشفاء بالحبة السوداء وماء الكمأة والحجامة والكي والسناء والسَّنُّوت والقسط الهندي وألبان الإبل وأبوالها وتبريد الماء للحمى والإثمد وغير ذلك.
... ونرى كذلك في مجال الطب العلاجي أن الطب النبوي اعتنى عناية فائقة بالعلاج الروحي المعتمد على الاستشفاء بالقرآن الكريم والأدعية الصالحة والاستغاثة بالله سبحانه { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين }(الإسراء/82) ونهانا عن الاستشفاء بالسحر أو اللجوء إلى الدجالين أو الخوف من الجن ونحو ذلك.
... ومن العلاج الروحي ماروي عن خالد بن الوليد رضي الله عنه أنه شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله ما أنام الليل من الأرق، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أويت إلى فراشك فقل: اللهم رب السموات السبع وما أظلت، ورب الأرض وما أقلت، ورب الشياطين وما أضلت، كن لي جاراً من شر خلقك كلهم جميعا أن يفرط عليّ أحد منهم أو يبغي عليّ، عز جارك وجل ثناؤك ولا إله غيرك ولا إله إلا أنت " (رواه الترمذي عن بريدة).(1/107)
... 3 ـ ومن الطب النبوي أيضاً ما جاء من الآيات والأحاديث متناولاً مواضيع طبية بحتة، سبق فيها الطب النبوي الطب العالمي كافة بالتناول الموضوعي الصادق، كالحديث عن خلق الأجنة في بطون الأمهات: من نطفة إلى علقة فمضغة ثم خلق آخر، ومقدار البقاء في كل طور: { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين، ثم جعلناه في قرار مكين، ثم خلقنا النطفة علقة، فخلقنا العلقة مضغة، فخلقنا المضغة عظاما، فكسونا العظام لحما،ً ثم أنشأناه خلقاً آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين }(المؤمنون /14) وقوله عليه السلام : "إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل، ذلك ثم يرسل إليه ملك فينفخ فيه الروح...الخ "(رواه مسلم وغيره عن ابن مسعود) وكالحديث عن الأرحام وظلماتها الثلاث، والحديث عن خلق الذكر أو الأنثى، والحديث عن وراثة الصفات عن الوالدين، والحديث عن عدة المرأة المطلقة أو غيرها للتأكد من خلو الرحم.
... 4 ـ ومن الطب النبوي تلك الأحاديث والأحكام الشرعية المتعلقة بممارسة الطب وضرورة الخبرة، حتى يرفع عن الطبيب ضمان حياة أو سلامة المريض، وضرورة احترام الطب للأحكام الشرعية أثناء المزاولة لهذه المهنة، والحديث عن تطبيب الرجل للمرأة والعكس، والحديث عن أجرة الطبيب وغير ذلك.
الكتب الشهيرة في الطب النبوي:
... وفي ختام حديثنا عن الطب النبوي نستعرض أهم الكتب والمؤلفات في هذا المجال.(1/108)
... فمن المؤلفات المخطوطة وبعضها مفقود/ رسالة الإمام أبي الحسن علي بن موسى الرضا التي كتبها للمأمون، وكتاب (الطب النبوي) لعبد الملك بن حبيب الأندلسي، و(الطب النبوي) لأبي بكر بن السني، و(الطب النبوي) للحميدي و(الطب النبوي) لعبد الحسن الأشبيلي، و(الطب النبوي) للحافظ السخاوي، و(الطب النبوي) لحبيب النيسابوري، و(الطب النبوي) لأبي نعيم الأصفهاني، وكتاب (الأربعين الطبية المستخرجة من سنن ابن ماجه) لمحمد البرزالي وقد طبع، و(الشفا في الطب) للتيفاشي، و(الأحكام النبوية في الصناعة الطبية) لابن طرخان وقد طبع، و(تذكرة في الطب النبوي) للبدر بن جماعة، و(الطب النبوي) للذهبي مطبوع، و(الطب النبوي) ـ وهو جزء من زاد المعاد ـ لابن القيم مطبوع.
الطب النبوي والطب الشرعي:
... وينبغي التنبيه إلى أن ما يسمى بالطب الشرعي لا علاقة له بالطب النبوي، بل الطب الشرعي اصطلاح إفرنجي، يراد به الوصول إلى الحقيقة في بيان أسباب الوفاة، أو حال المريض، أو تقدير الإصابة، ونحو ذلك مما يتعلق به سير المحاكم وفصل القضاء، وتقدير الحقوق الواجبة على أهلها، أو براءة المشتبه بهم بهذا الخصوص.ش
علم الحساب
حادي وعشرون:علم الحساب
مما لاشك فيه أن علم الحساب علم سابق على ظهور الإسلام، بل هو علم مغرق في القدم، حيث إن لفافات البردي ـ التي كشفت كيف كان المصريون القدماء يجرون عمليات الحساب ـ ترجع إلى ما قبل الميلاد بحوالي ألفي عام ..
كذلك عرف البابليون والإغريق والهنود المتواليات الحسابية وغيرها مما يتعلق بعلم الحساب.
أوائل علماء الحساب المسلمون:
فإذا ما جئنا إلى العصر الإسلامي وجدنا أن محمد بن موسى الخوارزمي كان أول من كتب في الحساب الهندي حوالي عام (825) م، ووضع كتابه في الجمع والتفريق، ثم جاء من بعده أبو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي المتوفى عام (1037)م فسطر كتابه (التكملة) في الحساب.(1/109)
ولعل مما بقي لنا من الكتب المذكورة في الحساب كتاب ( ما يحتاج إليه الكتاّب ... والعمال من صناعة الحساب) لأبي الوفاء البوزجاني وهو من علماء القرن العاشر الميلادي. وقد وضعه مؤلفه لموظفي الدولة ليعلمهم القواعد الصحيحة لإجراء العمليات الحسابية.
كما يذكر أنا أبا بكر بن الحسن الكرجي المتوفى عام 1019م ترك لنا كتاباً في الحساب هو (الكافي في الحساب) وقد شرح كتابه هذا محمد بن علي بن أحمد الشهرزوري في كتابه (الشرح الشافي لكتاب الكافي) وكذلك يذكر كتاب (الكافية) لأحمد بن علي بن عمر بن صالح الأربلي.
الحساب حسابان عند العرب:
ويقول الدكتور أحمد سعيد سليمان في بحثه (علم الحساب عند العرب) المنشور في مجلة عالم الفكر (المجلد الثاني العدد الأول 1971): وتدل المخطوطات على أن الموروث الحسابي الذي تناوله المسلمون ممن سبقهم قبل عهد الترجمة كان نظامين لا واحداً.
أحدهما: سماه العرب حساب المنجمين، لأنه كان يقتصر استعماله على الفلكيين، كما سموه حساب الزيح، وحساب الدرج والدقائق.
أما الآخر: فقد كان اسمه علم الحساب بدون تمييز. ولكن حيث يلزم التمييز يسمونه حساب اليد، أو الحساب الهوائي، أو حساب العقود، أو حساب الروم والعرب.
القرآن الكريم والحساب:
ولا شك أننا ونحن نتكلم عن علم الحساب نذكر جيداً كيف كان للقرآن الكريم دور كبير في توجيه النظر وبعث الهمم نحو معرفة هذا العلم والتوسع فيه، وذلك ابتداء مما يلزم الناس أجمعين من عد الليالي والسنين، يقول سبحانه: { وجعلنا الليل والنهار آيتين، فمحونا آيه الليل، وجعلنا آيه النهار مبصرة لتبتغوا فضلاً من ربكم، ولتعلموا عدد السنين والحساب ، وكل شيء فصلناه تفصيلاً }(الإسراء/12).
كما ذكرنا الله سبحانه في كتابه بمثال من الحساب حيث قال في حق من وجب علي فداء دم فلم يتمكن منه: { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم. تلك عشرة كاملة }(البقرة/196).
تعريف علم الحساب:(1/110)
كما أننا لا بد وأن نعرج على تعريف علم الحساب بحسب ما قاله فيه العلماء من قبل.
قال صديق بن حسن القنوجي في (أبجد العلوم): علم الحساب هو علم بقواعد تعرف بها طرق استخراج المجهولات العددية من المعلومات العددية المخصوصة من الجمع والتفريق والتضعيف والضرب والقسمة. والمراد بالاستخراج معرفة كمياتها.
وقال: ومنفعته ضبط المعاملات وحفظ الأموال وقضاء الديون وقسمة المواريث والتركات وضبط ارتفاعات الممالك (أي خراجها) وغيُر ذلك. ويُحتاج إليه في العلوم الفلكية وفي المساحة والطب. وقيل: يحتاج إليه في جميع العلوم بالجملة، ولا يستغني عنه مَلِك ولا عالم ولا سوقة. وزاد شرفاً بقوله سبحانه وتعالى { وكفى بنا حاسبين }(الأنبياء/47) وبقوله تعالى { ولتعلموا عدد السنين والحساب }(الإسراء/12) وقوله تعالى{ فأسأل العادّين}(المؤمنون/113).
ولذلك ألف فيه الناس كثيراً، وتداولوه في الأمصار بالتعليم للولدان.
ومن أَحْسنِ التعليم عند الحكماء الابتداءُ به، لأنه معارفُ متضحة، وبراهينه منتظمه، فينشأ عنه في الغالب عقل مضيء يدل على الصواب. وقد يقال: إن من أخذ نفسه بتعلم الحساب أول أمره يغلب عليه الصدق لما في الحساب من صحة المباني ومنافسة النفس، فيصير له ذلك خلقاً ويتعود الصدق، ويلازمه مذهباً.
من مسائل علم الحساب:
ويشرح ابن خلدون في (المقدمة) العمليات الأولية الكلية للحساب، وهي الجمع والضرب والطرح والقسمة، فيقول عن علم الحساب: وهي صناعة عملية في حسبان الأعداد بالضم والتفريق.
فالضم يكون في الأعداد بالأفراد وهو الجمع، وبالتضعيف ـ أي يضاعف عدد بآحاد عدد آخر ـ وهذا هو الضرب. والتفريق يكون في الأعداد: بالإفراد، مثل إزالة عدد من عدد ومعرفة الباقي وهو الطرح. أو تفصيل عدد بأجزاء متساوية تكون عِدتّها محصِّلة وهو القسمة.
ثم يعرج ابن خلدون رحمه الله على تعريف الكسر فيقول: ومعنى الكسر: نسبة عدد إلى عدد، وتلك النسبة تسمى كسراً.(1/111)
وشرح كلامه: أن نسبة الواحد إلى الأثنين هي النصف: فالنصف يسمى كسراً، وهكذا.
وقد عرف المسلمون التعامل بالكسور قديماً في جميع العلميات الحسابية، كما عرفوا ذلك بالنسبة للأعداد الصحيحة. يقول ابن خلدون: سواء كان هذا الضم ـ أي من جمع وضرب ـ أو التفريق ـ أي من طرح وقسمة ـ في الصحيح من العدد أو الكسر.
وتطول مسائل علم الحساب. ولا تخلوا من طرافة ودهشة. فلتنظر في مظانها ومواطنها.
السبق الإسلامي في علم الحساب:
ويشترك مع علم الحساب في كونه أحد العلوم العددية، علم تفرد المسلمون باختراعه لم يسبقوا إليه من قبل وكان اكتشافهم له فتحاً كبيراً في مضمار التطور. وهو علم (الجبر والمقابلة).
وقد عرفه القنّوجي بقوله: هو من فروع علم الحساب، لأنه علم يعرف به كيفية استخراج مجهولات عدديةٍ بمعادلتها لمعلومات مخصوصة على وجه مخصوص.
ومعنى الجبر: زيادة قدر ما نقص من الجملة المعادلة بالاستثناء في الجملة الأخرى لتتعادلا.
ومعنى المقابلة إسقاط الزائد من إحدى الجملتين للتعادل.
قال ابن خلدون: وأول من كتب في هذا الفن أبو عبد الله الخوارزمي، وبعده أبو كامل شجاع بن أسلم، وجاء الناس على أثره فيه، وكتابه في مسائله الست من أحسن الكتب الموضوعة فيه، وشرحه كثير من أهل الأندلس فأجادوا، ومن أحسن شروحاته كتاب القرشي.
وقال في (مدينة العلوم): ومن الكتب المختصرة فيه (نصاب الجبر) لابن خلوس المارديني ( والمفيد ) لابن المحلي الموصلي، ومن المتوسطة كتاب (الظفر) للطوسي، ومن المبسوطة (جامع الأصول) لابن المحلي.
علم المواريث والفرائض:
وإذا كان ضبط المعاملات وحفظ الحقوق وقضاء الديون أحد فوائد علم الحساب، فإن للمسلمين علماً خاصاً بهم يتعلق بعلم الحساب، لا يشاركهم فيه أحد سواهم، نبع من دينهم وصب في حياضهم. وهو علم حساب الفرائض والمواريث، وهو: معرفة فروض الوراثة، وتصحيح سهام الفريضة مما تصح باعتبار فروضها الأصول أو مناسختها.(1/112)
وفي علم المواريث والفرائض تمتزج الأحكام الفقهية المستنبطة من الكتاب والسنة والقياس والإجماع بعلم الأعداد والكسور، وعمليات الضم والتفريق، والنظر في موافقة الأعداد للأصل ومخالفتها له.
وانظر على سبيل المثال كيف صرّفت الآيات حصص الورثة في مثل قوله سبحانه وتعالى: { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين * فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك * وإن كانت واحدة فلها النصف * ولأبويه لكل منهما السدس مما ترك إن كان له ولد، فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث * فإن كان له إخوه فلأمه السدس... } إلى آخر الآية من سورة النساء (11)مع قريناتها من آيات أخر في نفس الموطن وغيره .. انظر إليها تجد أن عملية تقسيم التركات وبيان حقوق الورثة تعلقت بعلم الحساب تعلقاً واضحاً، وأحوجت المسلمين إلى وضع علم خاص بها.
يقول ابن خلدون عن علم الفرائض: وهي صناعة حسابية في تصحيح السهام لذوي الفروض في الوراثات إذا تعددت وهلك بعض الوارثين وانكسرت سهامه على ورثته، أو زادت الفروض عند اجتماعها وتزاحمها في المال كله ، أو كان في الفريضة إقرار أو إنكار من بعض الورثة دون بعض، فيُحتاج في ذلك كله إلى عمل يُعيّن به سهام الفريضة إلى كم تصح، وسهام الورثة من كل بطن مصححا،ً حتى تكون حظوظ الوارثين من المال على نسبة سهامهم من جملة سهام الفريضة. فيدخلُها من صناعة الحساب جزء كبير من صحيحه وكسوره وجذوره ومعلومه ومجهوله.. وهي من أجلّ العلوم.
كتب علم المواريث:
ولا يكاد يخلو كتاب من كتب الفقه في باب الفرائض والمواريث عن الإشارة إلى القواعد العامة لعلم حساب الفرائض ولعل بعض الفقهاء قد أفرد ذلك بالتأليف لأهميته.(1/113)
يقول القنوجي: وللناس فيه تآليف كثيرة، أشهرها عند المالكية من متأخري الأندلس كتاب ابن كثير، ومختصر القاضي أبي القاسم الحوفيّ ثم الجعديّ. ومن متأخري أفريقية ابن النمر الطرابلسي وأمثالهم. وأما الشافعية والحنفية والحنابلة فلهم فيه تآليف كثيرة وأعمال عظمية شاهدة لهم باتساع الباع في الفقه والحساب.
وكيف لا يكون الأمر كذلك. وقد حض النبي صلى الله عليه وسلم على حفظ الفرائض وتعلمها وتعليمها بقوله: " تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإنها أول علم ينسى وقال : وهي نصف العلم "(رواه الحاكم وابن ماجه عن أبي هريرة).
علم الاحتساب
ثاني وعشرون: الاحتساب
لا يمكن أن نسمي هذا الموضوع علماً بالمعنى الاصطلاحي الكامل، وإن كان قد عده صاحب (أبجد العلوم) وغيره ضمن العلوم ـ لأنه لا يعدو أن يكون نوعاً من التخصصات والأعمال، التي تميز المجتمع المسلم وانفرد عن سواه بها. مع أنه يدخل تحت أبحاث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشكل عام.
الحسبة.. والمحتسب .. والاحتساب. نظام إداري وواجب اجتماعي، وداعٍ شرعي اجتمعت كلها مع بعضها البعض لتكون طريقاً عاماً فسيحاً للإرشاد والهداية والتوجيه إلى ما فيه الخير والأمر به، ومنع الضرر والنهي والزجر عنه.
تعريف الحسبة والاحتساب:
ومن هنا جاء تعريف الحسبة حسبما ذكر ذلك الإمام الماوردي في كتابه المهم (الأحكام السلطانية). بأنها كما عرفها جمهور الفقهاء: الأمر بالمعروف إذا ظهر تركه، والنهي عن المنكر إذا ظهر فعله.(1/114)
... وقال القنوجي في تعريف علم الاحتساب: هو النظر في أمور أهل المدينة بإجراء مراسم معتبرة في الرياسة الاصطلاحية، ونهيُُ عن مخالفتها، وتنفيذ ما تقرر في الشرع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثم تابع القنوجي رحمه الله تشبيه موقع المحتسب من جسم المجتمع المسلم والأمة المسلمة بقوله: والسلطان بالنسبة إلى المُلك بمنزلة الرأس من البدن الذي هو منبع الرأي والتدبير، والوزير بمنزلة اللسان المعبر عما في الضمير، وأهل الاحتساب بمنزلة الأيدي والأقدام والمماليك والخدام، ولن يتم أمر الملك إلا بهؤلاء الثلاثة.
ثم نقل عن (كشف الظنون) لحاجي خليفة قوله عن الاحتساب: هو علم باحث عن الأمور الجارية بين أهل البلد من معاملاتهم اللاتي لا يتم التمدن بدونها، من حيث إجراؤها على القانون العدل بحيث يتم التراضي بين المتعاملين، وعن سياسة العباد بنهي المنكر وأمر المعروف، بحيث لا يؤدي إلى مشاجرات وتفاخر بين العباد بحسب ما رآه الخليفة من الزجر والمنع
وهذا العلم من أدق العلوم ولا يدركه إلا من له فهم ثاقب وحدس صائب. إذ الأشخاص والأزمان والأحوال ليست على وتيرة واحدة فلا بد لكل واحد من الأزمان والأحوال سياسة خاصة وذلك من أصعب الأمور. فلذلك لا يليق بمنصب الاحتساب إلا من له قوة قدسية مجردة عن الهوى كعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. لذلك كان علماً في هذا الشأن.
منشأ الحسبة وأنواعها:
ومن أفضل ما استدل به على مشروعية الحسبة قوله سبحانه { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}(آل عمران/104) وقوله سبحانه { والمؤمنون والمؤمنات بعضم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم }(التوبة/71).(1/115)
وولاية الاحتساب نوعان كما جاء في (الموسوعة الفقهية): ولاية أصلية مستحدثة من الشرع. وولاية مستمدة وهي الولاية التي يستمدها من عهد إليه في ذلك من الخليفة أو الأمير، وهو المحتسب.
وذكر الغزالي رحمه الله أن أركان الحسبة أربعة: المحتسب، والمحتسَب عليه، والمحتسب فيه، ونفس الاحتساب.
... فالمحتسب هو من نصبه الإمام أو نائبه للنظر في أحوال الرعية، والكشف عن أمورهم ومصالحهم، وتصفح أحوال السوق في معاملاتهم، واعتبار موازينهم وغشهم، ومراعاة ما يسري عليه أمورهم، واستتابة المخالفين وتحذيرهم بالعقوبة، وتعزيرهم على حسب ما يليق من التعزير على قدر الجناية.
وقد اشترط الفقهاء في المحتسب: الإسلام والتكليف والعلم والعدالة والقدرة البدنية والإذن من الإمام والذكورة.
وذكروا له آداباً منها: أن يتحلى بالأخلاق الحميدة، وأن يكون عفيفاً عن الهدايا، وأن يلازم السوق، وأن يقف على وسائل الغش في مختلف الأعمال والصناعات، وأن يتخذ أعواناً على قدر الحاجة من أهل العفة والصيانة... وغير ذلك.
المحتسب فيه:
وأما الركن الثاني وهو المحتَسب فيه، أو ما تجري فيه الحسبة، فهو كل معروف ظهر تركة أو منكرظهر فعله.
وهو إما أن يتعلق بحق الله سبحانه مما يلزم الجماعة كصلاة الجمعة والعيدين والجماعة، أو يلزم الأفراد من حقوق الله كالتهاون في الصلاة أو نحو ذلك.
وإما أن يتعلق بحقوق الآدميين، وهو إما عام وإما خاص، فالعام كالبلد إذا تعطل شربه، أو استهدم سوره، أو كف أهله عن إعانة أبناء السبيل أو عمارة المساجد، والخاص مثل مماطلة الحقوق، وفشو أكل الربا، وأكل مال اليتيم ونحو ذلك.
ويتعلق بعلم الاحتساب معرفة ما هو المنكر الذي للمحستب تناوله بالتغيير، فهل هو كل معصية؟ أم هو أعم من ذلك ليشمل كل ما تأباه النفوس السليمة ونافره الطبع، وربما كان محرماً أو مكروهاً، وربما كان كبيرة أو صغيرة؟.(1/116)
كما يتعلق بالاحتساب معرفة شروط المنكر الذي يقع تحت سلطة المحتسب، وهل له الإنكار بغلبة الظن أم لا؟.ثم معرفة أقسام المنكر.
ومن أهم مباحث الاحتساب كذلك معرفة مراتب الاحتساب، وهي أولاً التنبيه والتذكير، ثم الوعظ والتخويف من الله، ثم الزجر والتأنيب والإغلاظ بالقول، ثم التغيير باليد، ثم إيقاع العقوبة بالنكال والضرب، ثم الاستعداء ورفع الأمر إلى الحاكم.
من وظائف المحتسب:
وقد نقل لنا الدكتور عبد العال عبد المنعم الشامي في بحثه (جغرافية المدن عند العرب) في مجلة عالم الفكر بعض العبارات والمقاطع والمعاني عن وظيفة المحتسب، التي يستعين فيها بأعوان ومساعدين. فقال:
وقد خضعت شوارع المدن لإشراف المحتسب. فكان يتطلع إلى تصحيح مقدارها، وترتيب كل الطرق بقسطاطها ومعيارها، ويؤدب من يتعمد الخيانة فيها، وذلك حرصاً منه على قيامها بوظائفها، وضماناً لنظافتها وحراستها ليلاً.
أما فيما يختص بالمحافظة على نظافتها فقد كان المحتسب يمنع من طرح الكناسة فيها أو رش الماء إذا خشي من التزلق والسقوط كما يمنع كل ما فيه أذية وإضرار على السالكين، كالميازيب الظاهرة من الحيطان، ومجاري الأوساخ الخارجة من الدور والمنازل، كذلك خضعت لإشراف المحتسب إذا خشي سقوطها وإضرارها بالسابلة، فيلزم أهلها هدمها وإعادة بنائها.
وينبغي أن يمنع المحتسب أحمال الحطب وأعدال التبن وروايا الماء وشرائح السرجيين والرماد وأشباه ذلك من الدخول إلى الأسواق، لما فيه من الضرر بلباس الناس.
كما أن عليه حفظ أموال التجار والغرباء الواردين من الأمصار، ومراقبة المكاييل والموازين، ومراقبة النقود، ومحاربة التدليس والغش في السلع، ومراعاة عدم الاحتكار، والتأكد من ضرورة مراعاة الشروط الصحية بالنسبة للمأكولات، والقيام باختبار أصحاب الحرف والصناعات في أعمالهم قبل الموافقة على الترخيص لهم بمزاولة المهن.(1/117)
من ذلك مثلاً (الكحالون) (أطباء العيون قديماً) والأطباء العامون، فهؤلاء يمتحنهم بما جاء في كتاب حنين بن اسحاق، وأما الحَجام فيمتحنه بما يثبت مهارة وخفة يده في الجراحة، وأما المجبرون والجراحون فعليهم أن يكونوا على علم بالتشريح وأعضاء الإنسان.
وبالنسبة للأفران فقد كان المحتسب يسجل في دفتر أسماء الخبازين، ومواضع حوانيتهم، ويتفقد الأفران آخر النهار، ويراعي إصلاح مداخنها ورفع سقوف حوانيتها، ويلاحظ المطاحن والدواب العاملة فيها.
أما الحمامات العامة فقد كان يتفقدها كل يوم مراراً، ويأمر بإصلاحها ونضح مائها وغسل أرضها، هذا بالنسبة لحمامات الرجال. أما حمامات النساء فكان يتفقد أبوابها ومن يقوم على أمرها، حتى لا يختلط الحابل بالنابل.
وفي سبيل المحافظة على المارة من البلل فقد كان المحتسب يأمر السقائين بربط أفواه القرب، وأن يشدوا في أعناق دوابهم الأجراس ليحذرها الناس. كما كان من اختصاص المحتسب إلزامُ من أخرج كنيفاً أن يطرحه خارج البلد.
هذا العمل الكبير والنظام البديع لفن الحسبة أو علم الحسبة لم يسبق إليه أحد قبل المسلمين، الذين عمروا الأرض كخير ما عمرها الإنسان المتمدن، والذين كانوا أكبر شاهد على عظم هذا الدين ورقي أحكامه.
أشهر كتب الاحتساب:
ولقد ألف كثير من العلماء في موضوع الحسبة كتباً مستقلة، أو أفرد أبحاثاً خاصة في ذلك.(1/118)
ولعل أشهر ما ألف هؤلاء وأولئك كتاب (الأحكام السلطانية) للماوردي، و(الأحكام السلطانية) لأبي يعلي، و(نهاية الرتبة في طلب الحسبة) للشيرازي، و(تحفة الناظر وغنية الذاكر) لابن بسام المحتسب، و(الآداب الشرعية) لابن مفلح، و(قواعد الأحكام في مصالح الأنام) للعز بن عبد السلام، و(الحسبة الإسلامية) لابن تيمية، و(نصاب الاحتساب) لعمر بن محمد بن عوض السنامي، و(معالم القربة في أحكام الحسبة)، و(كتاب غياث الأمم في التياث الظلم) لإمام الحرمين الجويني و(إحياء علوم الدين) لحجة الإسلام الغزالي وغير ذلك.
ولا يفوتنا أن ننوه إلى أن كثيراً من اختصاصات المحتسب، الذي كان يدفعه إلى عمله واجب الأمر بالمعروف والنهي عنه المنكر، بمعناه الواسع الشامل لكل خير يطلب أو شر يدفع. قد توزع هذا الاختصاص الآن فيما بين جهات البلدية أو الصحة أو الداخلية أو الأوقاف. في ظل التنظيمات المعاصرة للمجمتع والحياة، ولكن الذي ضاع وفقد من المجتمع والحياة هو الدافع الديني والمحرك الإيماني وهو عنصر أساس كان المحتسب يؤكد عليه ويرسخه.
علم الجغرافيا
ثالث وعشرون: علم الجغرافيا
تعريف الجغرافيا:
(جَغْرافيا) كلمة يونانية قديمة والأصل فيها (جغراويا) بالواو، وتلفظ بالعين المهملة (جعرافيا). ومعناها: صورة الأرض.
ونستطيع أن نلتمس لها تعريفاً عند بعض العلماء حيث يقول: جغرافيا: علم بأحوال الأرض من حيث تقسيمها إلى الأقاليم والجبال والأنهار وما يختلف حال السكان باختلافه.(1/119)
وقد خاض الناس في علم الجغرافيا قديماً قبل الإسلام، فهذا صديق حسن يقول: وأول من صنف فيه بطليموس القلوزي. وإنه صنف كتابه المعروف (بجغرافيا) بعدما صنف (المجسطي). وذكر ـ أي بطليموس ـ أن عدد المدن أربعة آلاف وخمسمائة وثلاثون مدينة في عصره، وسماها مدينة مدينة. وأن عدد جبال الأرض مئتا جبل ونيف. وذكر مقدارها وما فيها من المعادن والجواهر، وذكر البحار أيضاً وما فيها من الجزائر والحيوانات وخواصها، وذكر أقطار الأرض وما فيها من الخلائق على صورهم وأخلاقهم وما يأكلون وما يشربون، وما في كل سِقع مما ليس في الآخر غيره من الأرزاق والتحف والأمتعة. فصار أصلاً يَرجْع إليه من صنف بعده. لكن اندرس كثير مما ذكره وتغيرت أسماؤه وخبره، فأنسد باب الانتفاع منه. وقد عربوه في عهد المأمون ولم يوجد الآن تعريبه.
المسلمون وعلم الجغرافيا:
ولقد خاض المسلمون في علم الجغرافيا، خوض باحث جاد، وعالم متمكن مطلع خبير، يدفعهم إلى ذلك ما جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى من دعوة ملحة وأمر مكررـ في أكثر من موطن ـ إلى النظر في أمر الأرض: جبالها ووديانها، وسهولها وبحارها، وشرقها وغربها، وأرزاقها ومعادنها، وأجوائها ورياحها.(1/120)
قال سبحانه:{ قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين }(الأنعام/11) وأكد ذلك بصورة أخرى فقال:{ أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}(الحج/46). وقال سبحانه كذلك :{ ألم نجعل الأرض مهاداً والجبال أوتاداً }(النبأ/6ـ7) وقال سبحانه:{ والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها }(النازعات/30ـ33) وقال: { والله جعل لكم الأرض بساطاً لتسلكوا منها سبلاً فجاجاً }(نوح/19ـ20). وأشار جل وعلا إلى الماء واختزان الأرض في باطنها بقوله:{ وأنزلنا من السماء ماءً بقدر فأسكناه في الأرض }(المؤمنون/18) وذكر البحار مراراً وتكراراً في مثل قوله:{ مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان }(الرحمن/19).
وذكر بعض ما في البحر من خيرفي قوله { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان }(الرحمن/22) وفي قوله { ومن كل تأكلون لحماً طرياً وتستخرجون حلية تلبسونها }(فاطر/12).
المؤلفون قديماً في الجغرافيا:
يقول ياقوت الحموي في مقدمة كتابه المرجع (معجم البلدان): ( على أنه قد صنف المتقدمون في أسماء الأماكن كتبا،ً وبهم اقتدينا وبهم اهتدينا، وهي صنفان: منها ما قصد بتصنيفه ذكر المدن المعمورة والبلدان المسكونة المشهورة، ومنها ما قصد به ذكر البوادي والقفار، واقتصر على منازل العرب الواردة في أخبارهم والأشعار.
فأما من قصد ذكر العمران فجماعة وافرة. منهم القدماء والفلاسفة والحكماء: أفلاطون وفيثاغورس وبطليموس وغيرهم كثير من هذه الطبقة وسمَّوا كتبهم في ذلك جغرافيا. ومعناه: صورة الأرض.(1/121)
وطبقة أخرى إسلاميون سلكوا قريباً من طريقة أولئك، من ذكر البلاد والممالك، وعينوا مسافة الطرق والمسالك، وهم: ابن خرداذبه وأحمد بن واضح والجَيْهاني، وابن الفقيه. وأبو زيد البَلخي، وأبو إسحاق الأصطخري، وابن حوقل، وأبو عبد الله البَشّاري، والحسن بن محمد المهلبي وابن أبي عون البغدادي وأبو عبيد البكري، له كتاب سماه (المسالك والممالك).
وإذا ما استعرضنا كتابين على سبيل المثال، من الكتب الكثيرة التي تكلمت عن الجغرافيا كعلم استخدمه المسلمون لأغراض شتى، سوى التدبر في ملكوت الله والنظر في بديع خلقه وإحكام صنعه، أجد بين يدي كتاب (معجم البلدان) لياقوت الحموي، الذي تناول في كتابه هذا أسماء البلدان والتعريف بها، إلا أنه في مقدمته تحدث باستفاضة عن الجغرافيا القديمة وما يتعلق بها. وإلى جوار هذا الكتاب ثمة كتاب آخر لا يقل أهمية عن معجم البلدان هو كتاب (مقدمة ابن خلدون) الذي أسهب في أوله في الحديث عن الأرض وأقاليمها وصور كثيرة مما يتعلق بها.
كتاب معجم البلدان لياقوت الحموي:
فأما ياقوت الحموي فيقول: وقد قدمت أمام الغرض من هذا الكتاب خمسة أبواب بها يتمّ فضله ويغزر وَبْله:
الباب الأول: في ذكر صورة وحكاية ما قاله المتقدمون في هيئتها ( أي الأرض). وروينا عن المتأخرين في صورتها. وقد تناول في هذا الباب ما قيل أيضاً في حجم الأرض طولاً وعرضاً وغلظاً وعددا، وما قيل في البحار وسبب ملوحة مائها، وما قيل في الجبال وأحوالها.
الباب الثاني: في وصف اختلافهم في الاصطلاح على معنى الإقليم وكيفيته واشتقاقه، وفيه يتحدث عن حدود كل إقليم من الأقاليم السبعة المعروفة قديماًـ ولم تكن بالطبع قد اكتشفت أمريكا التي هي العالم الجديد ـ ويتحدث عن سكانه، ويتحدث أيضاً عن دلائل القبلة في كل ناحية.
الباب الثالث: في ذكر ألفاظ يكثرتكرار ذكرها فيه ـ أي في الكتاب ـ يحتاج إلى معرفتها.
كالبريد والفرسخ والميل ـ وهي تتعلق بالمسافات .(1/122)
والكَوْرة والمخلاف والأستان والرستاق والجند والمصر ـ وهي ما يتعلق بالمناطق ومواضع الأرض وأقسامها.
والسكة ـ أي الطريق ـ والطول والعرض والدرجة والدقيقة وهي تقسيمات اعتبارية لتحديد موقع المكان.
والصلح والعَنْوة والخراج والفيء والغنيمة، وهي مصطلحات إسلامية شرعية لها علاقة بالأرض التي فتحها المسلمون ودخلت في دولتهم.
الباب الرابع: في بيان حكم الأرضين والبلاد المفتتحة في الإسلام، وحكم قسمة الفيء والخراج فيما فتح صلحاً أو عَنْوة، وهذا بحث فقهي في الأصل، إلا أنه ألحق بالجغرافيا لعلاقته الوثيقة بها.
الباب الخامس: في جمل من أخبار البلدان التي لا يختص ذكرها بموضع دون موضع.
وفي هذا الباب يورد لطائف من الفوائد تتعلق بأسماء ملوك البلدان وطبقات الناس ومراتب الممالك.
وقد ذكر لبعض الشعراء قوله:
الدار داران: إيوان وغُمْدان ... ... ... والملك ملكان: ساسان وقحطان
والأرض فارس والأقليم بابل والـ ... ... ... إسلام مكة، والدنيا خراسان
والجانبان العلندان الذا حسنا ... ... ... منها: بخارا وبلخ الشاه، توران
والبيلقان وطبرستان، فَأُزرهما ... ... ... واللّكز شروانها، والجيل جَيْلان
قد رتب الناس جم في مراتبهم: ... ... ... فمرزبان، وبطريق، وطرْخان
في الفرس كسرى، وفي الروم القياصر وال ... ... حبش النجاشي، والأتراك خاقان
مقدمة ابن خلدون:
وأما ابن خلدون في مقدمته فقد خاض في علم الجغرافيا خوضاً موسعاً، خاصة فيما يتعلق بتقسيمات الأقاليم الدنيوية السبعة .
يقول: اعلم أن الحكماء قسموا هذا المعمور كما تقدم ذكره على سبعة أقسام من الشمال إلى الجنوب، يسمون كل قسم منها إقليما.(1/123)
ثم يقول: والمتكلمون على هذه الجغرافيا قسموا كل واحد من هذه الأقاليم السبعة في طوله من المشرق إلى المغرب بعشرة أجزاء متساوية، ويذكرون ما اشتمل عليه كل جزء منها من البلدان والأمصار والجبال والأنهار والمسافات بينها في المسالك. ونحن ـ أي ابن خلدون ـ نوجز القول في ذلك، ونذكر مشاهير البلدان والأنهار والبحار في كل جزء منها، ونحاذي بذلك ما وقع في كتاب (نزهة المشتاق) الذي ألفه العلوي الإدريسي الحمودي لملك صقلية من الإفرنج وهو روجار بن روجار عندما كان نازلاً عليه بصقلية بعد خروج صقلية من إمارة مالقة. وكان تأليفه للكتاب في منتصف المائة السادسة.
وقد ألحق ابن خلدون في مقدمته الحديث عن المناخ الطبيعي والأحوال الجوية بالجغرافيا. فبعد أن تكلم عن الأقاليم السبعة بتفصيل مدهش ـ خاصة إذا ما قورن بالعهد السحيق الذي كان فيه ـ عاد فتكلم ثانية في المقدمة الثالثة في المعتدل من الأقاليم والمنحرف، وتأثير الهواء في ألوان البشر وكثير من أحوالهم. ثم تكلم في المقدمة الرابعة في أثر الهواء في أخلاق البشر ثم تكلم في المقدمة الخامسة في اختلاف أحوال العمران في الخصب والجوع وما ينشأ عن ذلك من الآثار في أبدان البشر وأخلاقهم.
وهكذا نرى كيف أن للجغرافيا في العلوم الإسلامية حظاً وافراً ونصيباً كبيراً.
هذا مع ملاحظة أن علم الجغرافيا الحالي قد تطور كثيراً عنه فيما مضى وذلك نتيجة المبتكرات الحديثة والأبحاث العلمية التي لم تدرك البشرية من قبل مثل إمكانياتها ووسائلها.
علم الهيئة
رابع وعشرون: علم الهيئة ( الفلك )
... علم الهيئة علم معروف ومجهول، قديم وحديث.
... فأما أنه معروف فمن حيث تسميته الحديثة التي هي أشهر من نار على علم، والتي أصبحت للعصر الحديث صفة وميزة، إنه علم الفلك والنجوم والفضاء، أليس عصرنا عصر الفضاء؟...(1/124)
وأما أنه مجهول فمن حيث تسميته القديمة هذه التسمية المهجورة غير المشهورة الآن حتى أصبحت نسياً منسياً... فقليل جداً من يعلم أن علم الهيئة هو نفسه علم الفلك والفضاء.
... وإذا أردنا تناوله من حيث قدمه وأول ما عرف عنه فذاك ولا شك أمر يمضي بنا في طيات التاريخ القديم.
يقول الشيخ محمد بخيت المطيعي في كتابه (توفيق الرحمن): اعلم أن منزلة هذا العلم من العلوم أنه من أقدم العلوم، وقد اعتنى به الآشوريون والكلدانيون وأهل فنيقيا ومصر والهند والصين والعرب جاهلية وإسلاما، وغيرهم في السابقة والحاضرة.
...
تعريف علم الهيئة (الفلك):
... وقد عرفه الشيخ المطيعي ـ وتعريفه هذا قريب مما جاء في مراجع كثيرة ـ بقوله: علم الهيئة هو علم يبحث فيه عن أحوال الأجرام السماوية من حيث حركتها ومناظرها مفردةً ومجملة، وما يعرض لها كذلك من المقارنة والمقابلة، والتثليث والتسديس، وكيفية سيرها ومقدار حركاتها وارتفاعها وانخفاضها، وما مضى من الليل والنهار، والأطوال والعروض، ونحو ذلك مما حواه علم الزيج والاصطرلاب والربع المجيّب والمقنطر ، وما يتعلق بالشهور والسنين وفصولها، والكسوف والخسوف، وكل ما يحدث لتلك الأجرام مفردة ومجملة، وعن علل تلك الحوادث وقواعدها، وعما يوصل إلى معرفة تلك الحوادث وعللها وقواعدها بالآلات والأرصاد والحساب .
... وهذا لعمري تعريف جامع لطيف.
الإسلام وعلم الهيئة:
... ولئن كان الأقدمون قد فتحوا باب البحث في هذا العلم، وخطوا فيه خطوات شتى، وألفوا بعض الكتب التي وضعت قواعده الأولى وأظهرت معالمه المبدئية، فإن للمسلمين في هذا العلم وقفة وأي وقفة.(1/125)
... ذلك أن كتاب الله العزيز كما نبه الناس إلى قدرة الله في خلق الأرض وما فيها وما عليها من نبات وحيوان وإنسان وبحار وأنهار وجبال ووديان، فقد لفت أنظار المسلمين إلى السماء وبروجها، والأفلاك ومساراتها، والأهلة وتقلباتها، والنجوم والكواكب ولمعانها، والفضاء واتساعه{ أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج }(ق/6) { تبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجا وقمراً منيرا }(الفرقان/61) { ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا، وجعل القمر فيهن نوراً وجعل الشمس سراجا}(نوح/15ـ16) { والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون }(الذاريات/47) إلى غير ذلك من الآيات التي دفعت المسلمين إلى الاستجابة لها استجابة من ينطلق من الدين إلى العلم، ليسخر الكون للإنسان بما سخره الله له ومنحه إياه.
وقد ذكر الله سبحانه الاستدلال بالنجوم في قوله سبحانه { وعلامات وبالنجم هم يهتدون }(النحل/16) وقوله سبحانه { وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر}(الأنعام/97).
كما ذكر سبحانه من الأهلة القمر حيث قال: { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج }(البقرة/189) وقال { والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك العمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون }(يس/40).
وقد نبه العلماء ـ وهم يبحثون في الأجرام السماوية ـ أن الأرض أيضاً موضوع بحثهم من حيث أنها أحد الأجرام السماوية التي تحكمها قوانين ثابتة وسنن صارمة.
المسلمون والخرافات في علم الفلك:(1/126)
ويكفي علماء الإسلام شرفاً أنهم حملوا لواء الفصل بين الحقيقة والخرافة في هذا العلم ، فهم على الرغم من اعتبارهم لعلم الفلك صنعة شريفة وعلماً جليلاً ـ كما يقول ذلك نصاً ابن خلدون ـ لم ينسوا أن يسفهوا أحلام أولئك الذين زعموا أنهم بصناعة النجوم يعرفون الحوادث المستقبلية في هذا الكون قبل حدوثها، مستدلين عليها بأوضاع الفلك.
يقول ابن خلدون في مقدمته عن هؤلاء وعملهم: فقد بان لك بطلان هذه الصناعة من طريق الشرع ، وضعفُ مداركها مع ذلك من طريق العقل ، مع مالها من المضار في العمران الإنساني ، بما تبعث في عقائد العوام من الفساد إذا اتفق الصدق من أحكامها في بعض الأحايين اتفاقاً لا يرجع إلى تعليل ولا تحقيق.
ومن هذا القبيل يذكر العلماء دائماً قول النبي صلى الله عليه وسلم ، حينما تحدث الناس عن خسوف الشمس بموت ولده إبراهيم: ( إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله ، لاينخسفان لموت أحد ولا لحياته) (متفق عليه عن عائشة).
أقسام علم الهيئة (الفلك):
كما نبه العلماء إلى أن أقسام علم الهيئة ثلاثة:
قسم وصفي: وهو ما يبحث فيه عما يحدث في الأجرام الكونية.
وقسم طبعي: وهو ما يبحث فيه عن علل تلك الحوادث والقواعد التي تضبطها.
والثالثُ عملي: وهو ما يبحث فيه عن معرفة ما يوصل إلى القسمين الأَوَّلين بالآلات والحساب.
ويقول الشيخ محمد بخيت المطيعي: ومن ذلك تعلم أن البحث في القسم الوصفي من علم الهيئة ـ أي علم معرفة ما يحدث في الأجرام السماوية من خسوف وكسوف، واقتران ومقارنة وغير ذلك ـ لازم وضروري لفهم آيات القرآن والأحاديث النبوية المتعلقة بما ذكر، وأما البحث فيما يتعلق بالقسم الطبعي والقسم العملي فذلك كمال إنساني، كالبحث في سائر العلوم التي لا يتوقف عليها فهم آيات القرآن والأحاديث.
كروية الأرض ودورانها:(1/127)
ولئن كان الأقدمون قد تعلقوا بنظرية بطليموس في كتابه (المجسطي) القائلة بأن الأرض ساكنة، وأن الشمس تدور حولها، وقد شاعت تلك النظرية بين علماء الإسلام ـ يقول الشيخ محمد بخيت: حتى حمل كثير من المفسرين المحققين وغيرهم كثيراً من الآيات القرآنية المتعلقة بالسموات والأرض على تلك التعاليم.
نقول: رغم ذلك إلا أن القول بكروية الأرض، وبدورانها حول نفسها، وحول الشمس التي هي مركز المجرة الشمسية، قد عرفه المسلمون ونقلوه عن فيثاغورس وغيره من أهل كرواتيا في ايطاليا.
يقول في كتاب (توفيق الرحمن): ويعلم أيضاً أن القول بحركة الأرض ودورانها على محورها.. الخ هو القول القديم السابق على غيره من المذاهب. وإن هذا المذهب وإن سمي اليوم طريقة جديدة في علم الهيئة إلا أنه في الواقع هو الطريقة القديمة... كما يقول عن جاذبية الشمس للأجرام الأخرى: وكانت الآلات الرصدية قبل وجود النظارات المعظمة (أي التلسكوب) قاصرة ناقصة، وكانت قوة الجاذبية العامة التي تخضع لها جميع الأجرام السماوية مجهولة، فلم يمكن الوقوف على الجاذب والمجذوب، وما هو الجرم الذي يجب بمقتضى تلك القوة أن تدور سائر الإجرام حوله.
ولهذا جزم أهل الهيئة اليوم بأن مركز العالم هو الشمس، وأن الأرض وسائر الأجرام السماوية تدور حولها، لأن جرم الشمس (أي حجمها) أكبر من جرم الأرض وجرمِ كل واحد من سائر الأجرام بأضعافٍ مضاعفة، فكانت قوة الجذب في الشمس أكثر وأكبر.
علم الزيج.. فرع عن الفلك:
ومن فروع علم الهيئة علم الأزياج أو علم الزيج.
وهو علم يوصل إلى معرفة مواضع الكواكب في أفلاكها لأي وقت فُرض من قبل حسبان حركاتها على تلك القوانين المستخرجة من كتب الهيئة.(1/128)
ولهذه الصناعة ـ كما يقول في أبجد العلوم ـ قوانين كالمقدمات والأصول لها في معرفة الشهور والأيام والتواريخ الماضية،وأصول متقررة من معرفة الأوج والحضيص والميول وأصناف الحركات واستخراج بعضها من بعض، يضعونها في جداول مرتبة تسهيلاً على المتعلمين، وتسمى الأزياج.
وفيه تآليف مثل (الزيج الصابي) لمحمد بن جابر البتائي الحراني، و(الزيج المقتبس) لأحمد بن يوسف بن الحماد، ومختصَره (المنهاج) لابن البناء.
علم الاصطرلاب.. فرع عن الفلك:
ومن فروع علم الهيئة أيضاً علم الاصطرلاب.
وهو آلة معنى اسمها باليونانية: ميزان الشمس يستفاد بها كثير من الأمور المتعلقة بالنجوم، كارتفاع الشمس ومعرفة الطالع وسمت القبلة وعرض البلاد.
ويقال إن أول من صنعها بطليموس، وأول من عملها في الإسلام إبراهيم بن حبيب الفزاري.
وفي الاصطرلاب كتب مؤلفة، مثل (تحفة الناظر) لمحمد بن محمد النجيبي الشهير بالعقباني، وكتاب (مهجة الأفكار) وكتاب (ضياء الأعين).
علم الآلات الرصدية .. فرع عن الفلك :
ومن علوم الهيئة كذلك: علم الآلات الرصدية.
وبه تعرف الآلات المستخدمة في رصد الكواكب والنجوم، كاللبنة والحلقة الاعتدالية وذات الأوتار وذات الحلق وذات السمت والارتفاع وذات الشعبتين وذات الحبيب وغيرها.
وقد ألف فيها الخازني كتابه (الآلات العجيبة ) وابن الشاطر كتابه ( النفع العام في العمل بالربع التام لمواقيت الإسلام).
ويذكر ابن خلدون أن المأمون في زمانه كان له اهتمام بالفلك أكثر من غيره فيقول عن المراصد الفلكية: وكان في أيام المأمون شيء منه، وصنع هذه الآلة المعروفة للرصد المسماة ذاتُ الحَلَق، وشرع في ذلك فلم يتم، ولما مات ذهب رسمه وأغفل، واعتمد من بعده على الأرصاد القديمة. وليست بمغنية.(1/129)
ومن كتب علم الهيئة ـ الفلك والنجوم ـ (القانون المسعودي) لأبي ريحان البيروني و(التحفة) ، و(نهاية الإدراك) لقطب الدين الشيرازي، و(النخبة) لعلي بن محمد القوشجي، و(توفيق الرحمن للتوفيق بين ما قاله علماء الهيئة وبين ماجاء في الأحاديث الصحيحة وآيات القرآن) لمفتي مصر السابق الشيخ محمد بخيت المطيعي.
علم الفهرسة
خامس وعشرون: علم الفهرسة
قال الزبيدي في تاج العروس: الفهرس بالكسر أهمله الجوهري. وقال الليث هو: الكتاب الذي تجمع فيه الكتب. قال: وليس بعربي محض ولكنه معرّب وقال غيره: وهو معربُ فِهْرست.. وقد اشتقوا منه الفعل فقالوا: فهرس كتابه فهرسة. وجَمْعُ الفهرسة فهارس.
تعريف علم الفهرسة:
وإذن فعلم الفهرسة علم تجمع فيه أسماء الكتب أو العلوم أو المؤلفين، كما أنه من ناحية أخرى يقوم بحصر المعلومات والمواضيع والمسائل بصور شتى، وترتيبها ترتيباً خاصاً حتى يتمكن المرء من الوصول إليها عند اتباع المنهج الخاص بالفهرس.
الفهرسة الإسلامية.. ونوعاها:
وقد عرف المسلمون منذ القديم علم الفهرسة، وكان لهم فيه باع طويل، سواء ما كان يتعلق منه بفهرسة المكتبة الإسلامية عموماً لما فيها من علوم عديدة تحتاج إلى مرشد إليها وإلى مؤلفيها، أو ما كان يتعلق منه بفهرسة موضوعات خاصة وعلوم معينة مما تشتد الحاجة إلى معرفة تفاصليها والوقوف على مسائلها أو مفرداتها.
أ ـ فهرسة العلوم والمكتبة الإسلامية ككل:
أما من ناحية فهرسة العلوم والمكتبة الإسلامية ككل فالمكتبة العربية عرفت أنواعاً من كتب الفهارس .
يقول الدكتور سعد زغلول عبد الحميد في بحثه عن (علوم العرب القديمة) المنشور في مجلة عالم الفكر: أولها: ذلك النوع الذي اعتنى بتصنيف العلوم. والذي اشتغل به الفلاسفة.
وثانيها: يمكن أن تمثله كتب طبقات العلماء من الأطباء والفقهاء والأدباء والصوفية وغيرهم.(1/130)
ويأتي في المقام الثالث: الموسوعات التاريخية الكبرى مثل نهاية الأرب في فنون العرب للنويري ومسالك الأبصار للعَمرْي، وكذلك صبح الأعشى للقلقشندي، وهي تحتوي مقدمات مختلف علوم العرب وذكر الكتب المؤلفة فيها.
أما فهرست المكتبة الذي نرى أنه أقدم النماذج التي وصلت إلينا لكتاب بروكلمان في تاريخ الأدب العربي ـ يتابع الدكتور عبد الحميد ـ فهو كتاب الفهرست لابن النديم الذي كتب في أواخر القرن الرابع الهجري.
ومنذ ابن النديم لم تعرف المكتبة العربية مثالاً لكتاب الفهرسة إلا بعد حوالي ستة قرون عندما صنف أحمد بن مصطفى الشهير بطاش كبرى زاده كتابه المعروف بـ (مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوع العلوم)، وبعد ذلك يأتي كتاب حاجي خليفة وهو (كشف الظنون عن أساسي الكتب والفنون).
فهرست ابن النديم:
وإذا أردنا أن نتفحص أهم كتب فهرسة العلوم الإسلامية وهو الفهرست لابن النديم، نجد أنه ينقسم إلى عشر مقالات كل مقالة تمثل باباً مستقلاً. وكل مقالة مقسمة إلى عدد من الفنون، والفنون في المقالة كالفصول في الباب، وعدد الفنون في كل مقالة يتراوح ما بين فنيين وثمانية فنون.
فالمقالة الأولى: في اللغة والكتابة وكتب الشرائع السابقة والقرآن وعلومه.
والمقالة الثانية: في النحو والنحويين من بصريين وكوفيين وبغداديين.
والمقالة الثالثة: في التاريخ وأخبار الدولة وأخبار المجتمع.
والمقالة الرابعة: في الشعر الجاهلي والمخضرم والإسلامي.
والمقالة الخامسة: في الكلام والمتكلمين والتصوف.
والمقالة السادسة: في الفقه ومدارسه.
والمقالة السابعة: في الفلسفة والعلوم الرياضية والطب.
والمقالة الثامنة: في الأسمار والشعوذة والكتب التي لا يعلم مؤلفوها.(1/131)
وابن النديم في كل فن من الفنون يستعرض أهم الكتب والمؤلفات، ويذكر مؤلفيها، وما يتعلق بذلك الفن باستفاضة وتقصٍّ، فهو يمدنا بمعلومات أصيلة عن مصادر الفكر الإسلامي حتى أواخر القرن الرابع الهجري حيث كانت قمة الازدهار العلمي.
ب ـ فهرسة الفن الواحد أو العلم الواحد:
هذا جانب من جوانب علم الفهرسة وهو الجانب المتعلق بالعلوم والمؤلفين.
أما الجانب الآخر من علم الفهرسة، فهو الجانب الأكثر رواجاً واشتهارا بين العلماء قديماً وحديثاً.
ـ فهرسة القرآن الكريم:
لقد تناول علم الفهرسة القرآن الكريم من جوانب عدة.
... فمن فهرسة الكلمات ليستطيع المسلم معرفة الآية بمجرد معرفة كلمة من كلماتها، إلى فهرست الموضوعات التي تتناول الآيات كلاً على حدة إلى غير ذلك من المسالك.
... ومن أجود الكتب التي فهرست القرآن الكريم كلمة كلمة وأرشدت إلى موطن كل لفظة ورقم آياتها ورقم سورتها كتاب (المعجم لألفاظ القرآن الكريم) للأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي، ومثلُ كتابه كتاب ( نجوم الفرقان في أطراف القرآن) وكتاب (مرشد الحيران إلى آيات القرآن).
ومن الكتب التي فهرست للمواضيع القرآنية (كتاب زاد المؤلفين من كتاب رب العالمين) لعبد الله محمد الدرويش.
ـ فهرسة الحديث الشريف:
وتناول علم الفهرسة أيضاً بشكل موسع مستفيض حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد كتب الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي كتاباً لطيفاً حول علم فهرسة الحديث، جمع فيه فهارس الحديث النبوي بأنواعها، بعد أن قسمها إلى قسمين:
الأول: في فهارس المصادر الأصلية، أي ما كتب من كتب الحديث قبل القرن الخامس الهجري.
والثاني: ما كان بعد ذلك.
وقد ذكر في الأول مئه وخمسة كتب كلها فهارس للمصادر الأصلية.(1/132)
وفي الثاني ذكر واحداً وأربعين فهرساً آخر، كما جمع المرعشلي فهارس أحاديث كتب التفسير وعلوم القرآن، وفهارس أحاديث كتب التوحيد والعقيدة، وفهارس أحاديث كتب الفقه وأصوله وفهارس أحاديث كتب السير والتاريخ والتراجم، وفهارس أحاديث الزهد والتصوف، وفهارس أحاديث كتب اللغة والأدب. ومما لاشك فيه أن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكاد يخلو كتاب منها أيا كان موضوعه الأساس.
ـ طرق فهرسة الحديث الشريف:
وطرق فهرسة الحديث عموماً لا تخرج عن أربعة طرق:
إما فهرسة الأطراف أو المسانيد، أي أن تجمع أحاديث كل صحابي تحت اسمه، ويذكر من الحديث طرفه الأول، ثم ترتب أسماء الصحابة على حروف المعجم، ومن هذه الطريقة كتاب (ذخائر المواريث في الدلالة على مواضع الأحاديث) للشيخ عبد الغني النابلسي و(تحفة الاشراف بمعرفة الأطراف) للمزي.
وإما فهرسة أوائل الأحاديث، وهو أن ترتب الأحاديث على حروف المعجم حسب أوائلها، ومنها كتاب (الجامع الكبير)، و(الجامع الصغير) للسيوطي.
وإما فهرسة المواضيع، وهي أن تجمع الأحاديث المتناثرة في كتاب أو كتب فيعاد ترتيبها على الموضوعات. ومن هذه الطريقة كتاب (الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني) للشيخ البنا و(جامع الأصول) لابن الأثير.
وإما فهرسة كلمات الحديث وهي أن تفهرس الكلمات بعد ردها إلى أصولها اللغوية على حروف المعجم، وقد ابتكر هذه الطريقة العالم المسلم الشيخ مصطفى بن علي البيومي المصري،وفهرس لأهم كتب السنة المشهورة وتبعه على ذلك المستشرقون فوضعوا (المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي) بمساعدة الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي.
ولئن كنا أطلنا في حديثنا عن فهرسة علم الحديث فما ذلك إلا لأهميته من وجوه عدة يعلمها كل من اشتغل بهذا العلم الهام والواسع وكابد مشاقه. إلا أننا لن نغفل عن ذكر علوم أخرى تناولها علم الفهرسة أيضاً.
ج ـ فهرسة الفقه الإسلامي:(1/133)
فلقد تناول علم الفهرسة الفقه وأصوله أيضاً. إذ لن يكون من الميسور أبداً الإحاطة بالكتب الضخمة والمراجع الواسعة في الفقه الإسلامي لكل مشتغل أو باحث فكان علاج ذلك بالفهرسة التفصيلية لمسائل الفقه ومصطلحاته.
وقد كان لوزارة الأوقاف في الكويت دور رائد ومهم في هذا المجال، يذكر لها وتشكر عليه، فقامت من خلال خبرائها وباحثيها في الموسوعة الفقهية وأئمة مساجدها بفهرسة (كتاب المغني) في الفقه الحنبلي، وفهرسة (حاشية ابن عابدين) في الفقه الحنفي، وفهرسة (حاشيتي قليوبي وعميرة) على (شرح المنهاج) في الفقه الشافعي وفهرسة (شرح الزرقاني في) الفقه المالكي وفهرسة غيرها من الكتب الأساسية في الفقه، كما اهتمت بفهرسة كتب الأصول ككتاب (جمع الجوامع) و(مسلم الثبوت). ولها في فهرسة أمهات الفقه والأصول خطة طويلة نفيسة.
د ـ فهرسة التاريخ وغيره:
وقد تناول علم الفهرسة أيضاً كتب التاريخ، ومثال ذلك فهرس البداية والنهاية، وكتب الأدب أيضاً كفهرس العقد الفريد لابن عبد ربه، وكتب التراجم كفهرس حلية الأولياء وغير ذلك، حتى إنك لا تكاد تجد مرجعاً من المراجع العلمية مما تناوله المحققون أو اهتم به أهل العلم إلا وألحق به فهرس تفصيلي يسّهل التعامل معه.
ملاحظة أخيرة...
وقد ظهرت أهمية هذا العلم في هذا الزمان أكثر مما كانت الحاجة تشد إليه في الماضي لأسباب عديدة.
منها ضعف الاعتماد على الذاكرة والحفظ ، وهو ما كان من دأب العلماء وطلبة العلم في الماضي.
ومنها فتور الهمم عن التبحر في شتى العلوم حتى أصبح العالم يختص بأقسام من العلم الواحد لا يتعداه،
ومنها ما توصل إليه البشر من اختراع جهاز الكمبيوتر (الحاسوب) وما فيه من ذاكرة جامعة منظمة منسقة، تستطيع احتواء آلاف المعلومات والأسماء والكتب والمسائل لتقوم بإظهارها وعرضها على لوحتها ساعة يطلب المتعامل معها ذلك.(1/134)
إنه لا يسعنا أبدا أن نغفل الإشارة إلى دور أجهزة الحاسب الآلي الحديثة في تيسير الفهرسة وتسهيل وصول الباحث إلى أي موضوع ، فورا، سواء كان عن طريق البحث النصي أم البحث اللغوي أم البحث الموضوعي ، وقد وفر الحاسب الآلي (الكمبيوتر)في هذا المجال كثيرا من الجهد والعناء.
ونتيجة الجهود التقنية المتقدمة في ذلك أصبح ممكنا جمع الكثير من المراجع العلمية في موضوع واحد ، أومواضيع شتى ، في برنامج واحد ثم إخضاعه للفهرسة بكل الوانها وأنواعها .
إن علم الفهرسة تمتد جذوره في تاريخ الكتب إلا أنه اليوم يشهد مزيداً من الاهتمام والرعاية والنشاط.
مجموعة علوم شتى
سادس وعشرون: مجموعة علوم شتى
قدمنا فيما مضى علوماً في الإسلام متعددة، كنا نفرد فيها كل علم بحديث خاص. إلا أننا في ختام هذه العجالات نود أن نختم العلوم تلك بنبذ سريعة عن علوم شتى لا يسعنا المقام بإفرادها على حدة لأسباب عديدة.
1ـ علم الحيوان:
... وقد كتب المسلمون في عالم الحيوان كتابات عديدة تناولت أنواعه وأصنافه وفوائده وأحكامه وخصائصه وعاداته ومواطنه ومواسمه وقصصه وأدبه.
... قال في (أبجد العلوم): علم الحيوان علم باحث عن أحوال خواص الحيوانات وعجائبها ومنافعها ومضارها.
... وموضوعه: جنس الحيوان البري والبحري والماشي والزاحف والطائر وغير ذلك.
...
والغرض منه: التداوي، والانتفاع، والاجتناب عن مضارها، والوقوف على عجائب أحوالها وغرائب أفعالها.
... ومن الكتب في موضوع الحيوان: كتاب (الحيوان) للجاحظ، و(مختصره) للموفق البغدادي، وكتاب (الحيوان) لابن آبى الأشعث وكتاب (حياة الحيوان الكبرى) للشيخ كمال الدين الدميري، و(عجائب المخلوقات والحيوانات) للشيخ زكريا القزويني.
ويعتبر كتاب الدميري موسوعة إسلامية عن عالم الحيوان وعلمه. من حيث تعريف الحيوانات، وخواصها، وطبائعها، وقصصها، وحكم لحمها وتعبيرها في المنام وغير ذلك.
2ـ علم النبات والفلاحة:(1/135)
فأما مايتعلق بالنبات فعلم النبات يختص في البحث عن خواص كل نوع منه، وعجائبه وأشكاله، ومنافعه ومضاره، وما يستفاد من ذلك في التداوي، ومايروى في ذلك من الأشعار والقصص.
وقد كتب فيه ابن البيطار كتابه العظيم (ما لا يسع الطبيبَ جهلُه) وكان محور حديثه حول الاستفادة الطبية من النبات. وكتاب ( النبات) لأبي حنيفة الدينوري.
وأما علم الفلاحة فقد قال عنه صاحب (مفتاح السعادة): هو علم يتعرف منه كيفية تدبير النبات من أول نشوئه إلى منتهى كماله، وبدء كونه إلى تمام نشوئه، بإصلاح الأرض إما بالماء أو بما يخلخلها ويحميها من المعفنات كالسماد والرماد ونحوها. أو يحميها في أوقات البرد مع مراعاة الأهوية.
وقال ابن خلدون: وكان للمتقدمين بها عناية كثيرة، وكان النظر عندهم عاماً في النبات من جهة غرسه وتنميته، ومن جهة خواصه وروحانيته (أي حياته).
ومن كتب الفلاحة كتاب (مختصر الفلاحة النبطية) لابن العوام، وكتاب الفلاحة واسمه الكامل ( إفلاح الأرض وإصلاح الزرع والشجر والثمار ودفع الآفات عنها ) لأبي بكر بن وحشيةن وللمتأخرين كتب كثيرة.
3ـ علم الحيل (الميكانيكا):
وقد كان لليونان كتب كثيرة فيما نسميه اليوم: الهندسة المكانيكية، وقد قام المسلمون بترجمتها تحت اسم علم الحيل. ...
وقد عرف المسلمون من الكتب اليونانية في الميكانيكا كتاب 0عمل الآلة التي تطرح البنادق) لارشميدس، وهو أكبر عالم يوناني بالميكانيكا و(كتاب الدوائر والدواليب) لهرقل النجار، وكتاباً في (الأشياء المتحركة من ذاتها) لهيرون وكتاب (الدواليب) لمورطس.
إلا أن معرفتهم بتلك الكتب لم تقصهم عن الكتابة في هذا العلم كتابة حديثة بعين نافذة بصيرة، فألفوا الكتب في: رفع الماء ودواليب الماء، والموازين، والساعات المائية، والآلات الحربية كالمنجنيق ورمي القوس والبنادق.(1/136)
وأول من اشتغل بالميكانيكا في الإسلام بنو موسى، وهم محمد وأحمد والحسن وذاع صيتهم في ذلك ولهم في هذا الفن من الكتب كتاب (الحيل) لأحمد بن موسى وكتاب (القرسطون) بمعنى القبان، وهناك في علم الميكانيكا أيضاً كتباً ابن الرزاز الجزري في معرفة الحيل الهندسية وقد ترجم إلى الإنكليزية.
4ـ علم الأحجار والمعادن:
وقد عرف المسلمون أنواع المعادن وضروب الأحجار الكريمة والجواهر، حتى قال في كتاب مدينة العلوم (المعادن سبعمائه معدن).
وقد عرّف علم المعادن بأنه: علم يتعرف منه أحوال الفلزّات من طبائعها وألوانها وكيفية تولدها في المعادن، وكيفية استخراجها واستخلاصها عن الأجزاءِ الأرضية، وتفاوتُ طبائعها وأوزانها.
ومن الكتب التي سطرها المسلمون في ذلك: كتاب (الجواهر والأشباه). ورسالة في (أنواع الجواهر الثمينة) وغيرها ورسالة في (أنواع الحجارة) وكلها للفيلسوف الكندي. وكتاب (الجواهر والخواص ، وعلل المعادن) وهما لمحمد بن زكريا الرازي. و(الجماهر في معرفة الجواهر) لأبي الريحان البيروني، وقد أهدى البيروني كتابه إلى هذا السلطان الفزنوي، مورود وكتاب (منافع الأحجار) لعطارد بن محمد و(عرايس الجواهر وأطايب النفائس) لعبد الله بن علي الكاشاني و(رسائل مختلفة) لجابر بن حيان، و(ازدهار الأفكار في جواهر الأحجار) للتيفاشي.
ويقول صديق حسن: ولا أنفع ولا أجمع من تأليف الطوسي.
5ـ علم الطب والبصريات:
وقد أضاف المسلمون إلى الطب اليوناني الذي ورثوه عنهم إضافات مهمة جداً من نواح عديدة، في الوقت الذي كانت فيه أوروبا وطبّها الكَنَسِيّ في حالة يرثى لها وتثير الشفقة.
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بالتداوي وحض على الأخذ بأسباب العلاج، بل وأثر عنه الكثير مما يتعلق بالطب الوقائي أو العلاج بالنباتات ونحو ذلك. فقد نشط المسلمون في علم الطب وكانت لنظرياتهم وتجاربهم آثار كبيرة تعتبر فتوحاً حديداً.(1/137)
ولئن كان ابتداء أمر الطب ترجمتَه عن اليونانية منذ العصر الأموي حيث تُرجم كتاب أهارون الاسكندري في الطب، ثم جاءت ترجمة معظم التراث اليوناني مما نقل عن جالنيوس أو ايبوقيراط.
فقد بدأ التأليف في الطب مبكراً منذ القرن الثامن الميلادي، مثل مؤلفات حنين ابن اسحاق (المسائل في الطب، والرسائل العشرة في العين).
ولكن أشهر مؤلفي الطب المسلمين في الفترة السالفة هو الرازي، الذي كان أعظم أطباء عصره، وله ما يقارب مئتي مصنف نصفها في الطب، ومن تلك المؤلفات وأشهرها (رسالة في الجُدري والحصباء). وأهم كتبه في الطب (الحاوي).
ومن الأطباء المسلمين ابن الجزار، وأشهر أعماله كتاب (زاد المسافر) .
وقد كان لابن سينا باع طويل في الطب وهو صاحب المرجع الطبي الكبير (القانون) الذي كان دستور الطب في أوروبا قروناً عديدة، ومن الأطباء المسلمين أبو القاسم الذي كان في بلاط قرطبة وخلف وراءه (رسالة في الجراحة الطبية وآلاتها) تحتوى صوراً لتلك الآلات.
ومنهم علي بن رضوان القاهري وابن بطلان البغدادي وابن وافد الأندلسي والبيروني وابن زهر الأندلسي صاحب كتاب (التيسير) في تسهيل العلاج، وابن رشد صاحب كتاب (الكليات) الذي ضم ستة عشر عملاً في الطب.
ومن فروع الطب التي برع فيها المسلمون وسبقوا غيرهم علم البصريات وجراحة العين، فقد اشتهر الحسن بن الهيثم البصري بنظرياته الحديثة في البصر، وترك مؤلفات قيمة في ذلك. كما كان هناك علي بن عيسى البغدادي وعمار الموصلي ولهما (رسالتان في طب العيون).
6ـ علم الترجمة والنقل من اللغات الأخرى:
... وهذا العلم نشأت الحاجة إليه من واقع الاتصال بالآخرين أيا كانوا، سواء كانوا يهوداً يتكلمون العبرية، أو مجوساً ينطقون بالفارسية، أو نصارى يتخاطبون بالرومية واليونانية.(1/138)
وأول عربي مسلم تعلم اللغات الأجنيبة هوالحابي الجليل زيد بن ثابت رضي الله الذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بتعلم العبرية ليأمن مكر اليهود، فتعلمها في خسمة عشر يوما،ً وكان يترجم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك.
... قد ذكر سبط ابن الجوزي في (مرآة الزمان) أنه كان لعبد الله بن الزبير رضي الله عنه مائة غلام كل غلام يتكلم بلغة، وكان ابن الزبير يكلم كل واحدة بلغته. نقل ذلك لسيد الكتاني في كتابه (التراتيب الإدارية).
وقد نص صاحب (الفهرست) ابن النديم على أن نقل الفلسفة والحكمة من اليونانية إلى العربية بدأ منذ وقت مبكر، على أيام الأمويين في عهد خالد بن معاوية، كما نوه إلى أن أول نقل كان في الإسلام من لغة إلى لغة تعريب الديوان في العراق على أيام الحجاج بن يوسف، حيث كانت الفارسية لغة في العراق والرومية في الشام.
وذكر في التاريخ أن المأمون العباسي كتب إلى ملك الروم ليسمح له بنقل ما يختار من العلوم القديمة من بلاده، فلم يجبه الملك إلى ذلك إلا بعد اقتناع، فأرسل المأمون عدداً من العارفين باللغة الرومية وهم الحجاج بن مطر وابن البطريق وسليمان صاحب بيت الحكمة وغيرهم. فأخذوا مما وجدوا وأمر المأمون بنقله إلى العربية.
كما يذكر ابن النديم أن ممن عني بإخراج الكتب من بلاد الروم محمد وأحمد والحسن بنو شاكر المنجم، وأنهم كانوا يرزقون جماعة من النقلة أن يدفعون لهم رواتب في الشهر نحو خمسائة دينار للنقل والملازمة.
ومن أشهر النقالة (المترجمين) من الفارسية ابن المقفع، وآل نوبخت، ويوسف وموسى ابنا خالد، وعلي بن زياد التميمي والحسن بن سهل، والبلاذري.
ومن نقلة الهند والنبط منكه الهندي وابن وحشية.
الخاتمة
وختاماً:(1/139)
ففي نهاية هذه الفصول نذكّر بأن ما مر معنا حول علوم الحضارة الإسلامية لم يكن إلا غيضاً من فيض، وقطرة من بحر، ونحن لم نقدم بما يكن أن نعتبره شيئاً ما عن كل شيء، بل شيئاً ما عن بعض العلوم. فأما إذا أردنا أن نتكلم في كل شيء عن كل العلوم غان ذلك كمن يريد إدخال البحر في النهر، أو إيداع الشمس في الحبس... وهيهات هيهات.
وصدق الله إذ يقول: { قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً }.
المؤلف
الشيخ
عبد الله نجيب سالم
الكويت ـ وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية
9102152 / بيجر
2487430/المكتب/هـ ـ ف
4714860 ـ 4734899/المنزل(1/140)