التضرع إلى الله
الأسباب – الآثار – العلاج
تقديم الشيخ :
صالح بن محمد الونيان
كتبه :
نواف بن عبيد الرعوجي
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ، وبعد :
فلقد قرأت الرسالة التى كتبها الأخ الفاضل ( نواف بن عبيد الرعوجي ) الموسومة
بـ " التضرع إلى الله " فألفيتها رسالة قيمة جدير بالمسلم والمسلمة أن يقرأها ويعمل بما فيها
لأن الحاجة إلى التضرع إلى الله تعالى داعية كل وقت.
أسأل الله أن ينفع بها وأن يثيب كاتبها على ما قدم خيراً
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه
د. صالح بن محمد الونيان
فرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالقصيم
وإمام وخطيب جامع الخليج فى بريدة
بتاريخ 23 / 5 / 1419 هـ
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وبعد:
فإن هذا الكتيب أصلهُ محاضرة ألقيت فى جامع حى الأمن ببريدة فى يوم الأحد الموافق 25 / 10/1418 هـ ، بعنوان ( التضرع إلى الله ).
فأضفت عليها بعض الإضافات اليسيرة ، فأرجو من الله أن تجد القبول وأن ينفع بها ويجعلها خالصة
لوجهه الكريم.
فما كان من صواب فمن الله ، وما كان من خطأ أو نقص فمن نفسى والشيطان ، وأستغفر الله.
كتبه
نواف بن عبيد بن سعد الرعوجي
القصيم- ص. ب: 407 بريدة
التضرع إلى الله
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا
من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
قال تعالى :
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (1)
__________
(1) (آل عمران:102)(1/1)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (1)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا ً. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) (2)
أما بعد
أيها الأخوة .. أيتها الوجوه الساجدة لربها ... سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
قال صلى الله عليه وسلم : ( ما جلس قوماً مجلساً لم يذكروا الله فيه ، ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة ، فإن شاء عذبهم ، وإن شاء غفر لهم ). [ رواه الترمذى ].
وقال صلى الله عليه وسلم فى الحديث الآخر : ( ما من قوم يقومون من مجلس ولا يذكرون الله إلا قاموا عن مثل جيفة حمار وكان لهم حسرة ) [ رواه أبو داود].
أسأل الله أن نكون ممن ذكر الله عز وجل فى هذا المجلس.
يقول تبارك وتعالى : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (الذريات:21)
__________
(1) (النساء:1)
(2) (الأحزاب(71 :70(1/2)
ويقول الله تعالى :(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ*فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) (سورة الأنعام 42 :44). ويقول سبحانه فى سورة الأعراف : (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) (سورة الأعراف:94) ويقول سبحانه فى سورة الإسراء :(وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً) (سورة الاسراء:67) ويقول الله تعالى عن حال المشركين وقد يتصف فيه بعض الناس فى هذا الزمان والعياذ بالله :
(فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) (سورة العنكبوت:65) لما أمنوا لما اطمأنوا انظروا كيف فعلوا إذا هم يشركون نقضوا العهود والعياذ بالله (لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (العنكبوت:66) ويقول الله عز وجل (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (الذريات:50)(1/3)
قال القرطبى فى قوله سبحانه " ففروا إلى الله " أى فاهربوا أيها الناس من عقاب الله إلى رحمته بالإيمان به واتباع أمره والعمل بطاعته ، وفى هذا المعنى دعاء النبى صلى الله عليه وسلم : ( اللهم أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ) [ أخرجه مسلم ].إن التضرع إلى الله هو الالتجاء إلى الله عز وجل وحده وما تضرع أحد إلى الله إلا استجاب الله له.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله :
" فالعبد لابد له من رازق ، وهو محتاج إلى ذلك ، فإذا طلب رزقه من الله صار عبداً له فقيراً إليه وإذا طلب رزقه من الله صار عبداً له فقيراً إليه ،وإذا طلبه من مخلوق صار عبداً لذلك المخلوق فقيراً إليه ".
وقال ابن القيم رحمه الله فى كلام بديع يبين أن كل الناس كلهم فقراء إلى الله عز وجل من غنى وفقير من صغير وكبير ، من ذكر وأنثى ، كلهم ضعفاء.
ويقول ابن القيم : ( والرسل من الملائكة عليهم الصلاة والسلام بين صاعد إليه بالأمر ونازل من عنده وأوامره على تعاقب الليل والنهار نافذة بإرادته ومشيئته يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات فلا يشغله سمع عن سمع ولا يغلظه كثرة المسائل ولا يتبرعم بإلحاح الملحين وذووا الحاجات ، وأحاط بصره بجميع المرئيات ، فيرى النملة السوداء على الصخرة السماء فى الليلة الظلماء.(1/4)
قال تعالى : (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (سورة الرحمن:29) يغفر ذنباً ويفرج هماً ويكشف كرباً ، يجير كسيراً ، ويغيث لهفاناً ، ويفك عانياً ، ويشبع جائعاً ، ويكسو عارياً ، ويشفي مريضاً ، ويعافى مبتلى ، ويقبل تائباً ويجازى محسناً وينصر مظلوماً ، ويقصم جباراً ، ويقيل عثرة ، ويستر عورة ، ويؤمن روعة ، فلا يتعاظم ذنباً أن يغفره ، ولا حاجة يُسألها أن يعطيها ، لو أن أهل سماواته وأهل أراضيه ، إنسهم وجنهم ، وحيهم وميتهم ، ورطبهم ويابسهم كلهم قاموا فى صعيد واحد فسألوا فأعطى كُلاً مسألته ما نقص ذلك مما عنده مثقال ذرة ".
إنه أكرم الأكرمين ، إنه أجود الأجودين.
قل للطبيب تخطفته يد الردى ... من يا طبيب بطبه أرداكا
قل للمريض نجا وعوفي بعدما ... عجزت فنون الطب من عافاكا
قل للصحيح يموت لا من علة ... من بالمنايا يا صحيح دهاكا
قل للبصير وكان يحذر حفرةً ... فهوى بها من الذى أهواكا
بل ساءل الأعمى خطاً بين أزحم ... بلا ارتطام من يقود خطاكا
قل للجنين يعيش معزولاً بلا ... راع ومرعا من الذى يرعاكا
قل للوليد بكا وأجهش بالبكا ... عند الولادة من الذى أبكاكا
وإذا رأيت النخل مشقوق النوى ... فاسأله من يا نخل شوق نواكا
وإذا ترى الثعبان ينفث سُمهُ ... فاسأله من ذا بالسموم حشاكا
واسأله كيف تعيش أو تحيا ... وهذا السم يملأ فاكا
واسأل بطون النخل كيف تقاطرت ... شهد وقل للشهد من حلاكا
بل سائل اللبن المصفى ... كان بين دم وفرثٍ من الذى صفاكا
أيها الأحبة :(1/5)
إن القارئ لكتاب الله عز وجل ، والمتأمل فى كتاب الله عز وجل يجد أن الأنبياء وهم خير خلق الله تضرعوا إلى الله عز وجل ، ولعلنا نقف معكم وقفه سريعة مع تضرعات لبعض الأنبياء ، ولو نظرنا إلى بداية الخلق لسمعنا تضرع أبونا عليه السلام ، وأمنا حواء لما أغواهم إبليس عليه لعنة الله أغواهم بأكل الشجرة فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ، ثم انظر ماذا قالا ؟ إنهما تضرعا إلى الله عز وجل (قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (سورة الأعراف:23) وفى آية أخرى يقول الله عز وجل : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (سورة البقرة:37) ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (سورة البقرة:37) ثم بعد ذلك اسمع أخى الكريم تضرع نوح عليه السلام ، حينما أغرق الله قومه ، فقال مخاطب لله عز وجل حينما رأى ابنه فلذة كبده يغرق ، فأخذته شفقة الأبوة ، فقال كما ذكر الله عز وجل قصتهما(1/6)
(وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ *قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (سورة هود:45-47 ). ثم بعد ذلك أخى الكريم استمع إلى تضرع نوح عليه السلام ، لما اشتد عليه كفر قومه حينما أبو واستكبروا ودعاهم سنين طويلة ، وهذا درس للدعاة الذين إذا دعوا بعض الأشخاص مدة بسيطة ولم يروا لذلك نتيجة أصابهم الملل وتركوا دعوتهم.
يقول نوح عليه السلام مخاطب ربه (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً) (سورة نوح:26) (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)
(سورة هود:36) واستمع إلى تضرع يونس عليه السلام يونس ابن متَّى عليه السلام لما كان وحيداً فى بطن الحوت واجتمعت عليه الظلمات ، ظلمة بطن الحوت ، وظلمة الليل البهيم ، وظلمة البحر الشديد ، ينادى الله عز وجل يقول : (لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ .فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (سورة الانبياء:87- 88 ).
فالله عز وجل استجاب له فأنجاه من بطن الحوت ودعوة يونس دعوة المكروب ، ما دعى بها مكروب إلا أنجاه الله عز وجل ، ولقد تضرع قوم يونس لما أنذرهم يونس عليه السلام فأبوا وكفروا ، ولما غادر يونس غادر قومه غضباناً.(1/7)
قال الله عز وجل عن ذلك : (فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) (سورة يونس:98).
نعم عادوا إلى ربهم فكشف الله عنهم لما رأى صدقهم وتضرعهم.
وهذا زكريا عليه السلام يبلغ من العمر عتياً ولم يرزق بذرية وقد حُبّبَ للإنسان أن يرزقه الله عز وجل ذرية طيبة ، فيتضرع إلى الله عز وجل. قال تعالى : (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ *فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) (الانبياء89 –90 ).
ولما أصاب نبى الله أيوب عليه السلام وابتلاه ، حتى أنه هجره الإخوان واشتد عليه المرض ، التجأ إلى خالقه ومولاه.
قال الله عز وجل عنه : (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)
(سورة الانبياء:83).
أحس بضعف الإنسان أحس بضعفه دعى ربه فقال :
(وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (سورة الانبياء:83) ذكره يصفته صفة الرحمة سبحانه وتعالى ثم بعد ذلك يتضرع يعقوب عليه السلام لما فقد ابنه قال تعالى فى قصته مع أبناءه (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (سورة يوسف:86).(1/8)
شكى حزنه إلى خالقه ومولاه ، ويتضرع موسى عليه السلام لما رأى قوة فرعون وخشى من ظلمه ورأى أن فرعون ربما أنه أهلك قومه (وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) (سورة يونس:88) وفى موضع آخر تضرع موسى عليه السلام لما رأى عصيان قومه له فتبرأ منهم (قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) (سورة المائدة:25) وفى أصعب اللحظات وأشدها تصور أخى الكريم ذلك الموقف .. موسى ومعه شرذمة قليلة من أتباعه ، وفرعون بسلطانه وقوته وبطشه مع جنوده وحراسه يلحق بهم وبينه وبينهم مسافة. فرعون من خلفهم والبحر أمامهم ، وأصحاب موسى يحدثونه بأن فرعون قد أدركهم ، فاستمع إلى الإيمان الحقيقي والالتجاء إلى الله (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) (سورة الشعراء:62) فيؤمر أن يضرب بعصاه البحر فينفلق البحر ويكون بأمر الله أرضاً يابسة بعد أن كان موج
متلاطم (1) .وبعد هذا اقرأ تضرع عيسى عليه السلام لما حاول قومه أن يعجزوه حينما طلبوا أن ينزل الله لهم مائدة ، بعد ذلك تضرع عيسى عليه السلام ، (قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)
(سورة المائدة:114).
ولقد تضرع إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، لمّا هاجر إلى مكة هو وزوجة وابنه إسماعيل فتركهما فى وادى موحش.
__________
(1) إذا صح الإيمان للشيخ الفاضل عبدالله السلوم.(1/9)
قال تعالى : (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)
(سورة البقرة:126) وفى عدة مواضع من القرآن نجده عليه السلام يتضرع إلى الله عز وجل باختلاف الأحوال.
ولقد تضرع كذلك أيها الأحبة .. الكريم ابن الكريم يوسف عليه السلام ، حينما خشى الفتنة على نفسه من كيد النساء (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (سور يوسف:33)
أخى القارئ .. انظر كيف كان منزلة التضرع فى رفع العقوبة والبلاء عن الأمم
قال تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ *فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
(سورة الأنعام 42-43 ).
ولقد تضرع خاتم النبيين والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم لما التقى بالمشركين فى أول مواجهة بين الحق والباطل بعد هجرته من مكة ، فقد كان يصلى ويرفع يديه ويقول : ( اللهم اهزمهم ، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد فى الأرض ) حتى إنه سقط الرداء – بأبى وأمي – عليه الصلاة والسلام وفى أكثر من موقف يتكرر ذلك.(1/10)
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى فى كتابه صيد الخاطر : ( من أراد أن يعلم حقيقة الرضا عن الله عز وجل فى أفعاله وأن يدرى من أين ينشأ الرضا فليتفكر فى أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن تكاملت معرفته بالحق سبحانه رأى أن الخالق مالك وللمالك – أن يتصرف فى مملوكه ورآه حكيماً لا يصنع شيئاً عبث ، فسلم تسليم مملوك الحكيم فكانت العجائب تجرى عليه ولا يوحد منه تغير ولا من الطبع تأفف ولا يقول بلسان الحال لو كان كذا بل يثبت للأقدار ثبوت الجبل لعواصف الرياح).
هذا سيد الرسل صلى الله عليه وسلم بُعث إلى الخلق وحده ، والكفر قد ملأ الآفاق ، فجعل يفر من مكان إلى مكان واستتر فى دار الخيرزان وهم يضربونه ، وخرج إلى الطائف ، حتى إنهم أدموا قدميه ووضعوا سَلى الجزور فوق رأسه ، وهو ساكت ويخرج بعد ذلك ولا يتكلم ، ثم يدعو خالقه سبحانه وتعالى.
أنواع التضرع إلى الله
أخى القارئ إن التضرع إلى الله عز وجل يكون بأشياء كثيرة منها :
1- تقوى الله عز وجل :
فعن ابن مسعود رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم يقول : ( اللهم إنى أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى) [ رواه مسلم ].
وعن أبى ذر رضى الله عنه ومعاذ بن جبل رضى الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
( اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن )[رواه الترمذى ]. وعن أبى هريرة رضى الله عنه ، أن النبى صلى الله عليه وسلم سئُل أكثر ما يدخل الناس الجنة
فقال : (تقوى الله ، وحسن الخلق ) [ رواه أحمد وابن ماجه والترمذى ].
قال الحسن رحمه الله تعالى : ( ما زالت التقوى بالمتقين ، حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام ).
قال الشاعر :
خلّ الذنوب صغيرها وكبيرها فهو التقى ... واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى ... إن التقوى هى رأس المال
ولست أرى السعادة جمع مال ... ولكن التقى هو السعيد
2- الصلاة :(1/11)
وكذلك من التضرع إلى الله عز وجل ( الصلاة ) كثرة الصلاة ، وقال الله عز وجل فى أكثر من آية:
(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) (سورة البقرة:43) وهذا دليل على صلاة الجماعة ، كما قال أهل العلم ، وأمر الله عز وجل بالمحافظة عليها :(حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) (سورة البقرة:238) وهذا أيها الأحبة .. رد على من يصليها متى ما أراد وفى أى وقت شاء ، إنما وقتها الله عز وجل بأوقات وأمر بالمحافظة عليها.
وهنا حديث ابن عمر – متفق عليه - : ( بنى الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصوم رمضان).[متفق عليه ].
وكما فى الحديث الصحيح الآخر عن ابن مسعود رضى الله عنه أن رجلاً أصاب من امرأةٍ قُبْلة ،فأتى النبى ، فأخبره فأنزل الله تعالى (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) (سورة هود:114). فقال الرجل : إلى هذا قال : " لجميع أمتى كلهم ) . متفق عليه . وهذه أيها الأخوة بشارة لنا مَنْ منّا لا يخطى مَن مِنّا لا يجهل وإذا كنا نحافظ على الصلاَة فهى كفارةٌ لتلك المعاصي والجهالات التى فعلناها.
قال عمر بن الخطاب : " إن الرجل ليشيب عارضاه فى الإسلام وما أكمل لله تعالى صلاة ، قيل : وكيف ذلك؟ قال : لا يتم ركوعها وسجودها وخشوعها " .
وهذا وللأسف الشديد قد يقع من بعض الناس فهو يصلى مجرد حركات ومجرد أنها عادة ولكن لا يستحضر أنها عبادة والصلاة أيها الأخوة أمر الله عز وجل بإقامتها ولم يقل : أدوا الصلاة ، وإنما قال : أقيموا ، وإقامة الصلاة تكون بالمحافظة على أركانها وواجباتها وشروطها.(1/12)
قال الحسن – رحمه الله تعالى : ( كل صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرع ).
ثم استمع إلى سعيد بن المسيب حينما يقول رحمه الله " منذ أربعين سنة لم أر إلا ظهر الإمام ".
الله أكبر .. كانوا يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار ، وكان عبدالله بن الزبير ، كما جاء فى سير أعلام النبلاء لما وصفه الذهبي قال : انه يقف ويطيل الوقوف فيأتى الطير ويقع على رأسه ظاناً أنه خشبة ، وحتى أنه لما رُمي بالمنجنيق أتى إلى ثوبه فما انتفل من صلاته ، نعم خشعوا وخشعت جوارحهم ، وكان زين العابدين رضى الله عنه إذا أراد أن يصلى تضطرب أوصاله ، ويغشى عليه فيقولون : ما بالك رحمك الله ؟ فيقول : ألا تدرون من سوف أقابل إنه ملك الملوك.
وكذلك كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر يعمد إلى الصلاة ، فعن عبدالله بن عمرو قال: انكسفت الشمس يوماً على عهده صلى الله عليه وسلم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى حتى لم يكد يركع إلى أن قال فى الحديث فجعل ينفخ ويبكى ، ويقول : ربى ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم ربى ألم تعدني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون ، ونحن نستغفرك ، فلما صلى ركعتين انجلت الشمس . [ أخرجه النسائى وأبو داود ].
كانوا يتضرعون إلى الله عز وجل فى الصلاة ، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم : " وجُعلت قرة عينى فى الصلاة ".
" حبب إلىّ من الدنيا النساء والطيب وجُعلت قُرة عيني فى الصلاة " [ سند الإمام أحمد ].
قيل لعامر بن قيس رحمه الله : هل تحدث نفسك فى شئ من أمور الدنيا فى الصلاة – كما هى حالنا وللأسف الشديد – ؟ فقال : لئن تختلف الأسنة فيّ أحبّ إلىّ من أجد هذا .
وكان مسلم بن يسار إذا دخل المنزل سكت أهله ، وإذا قام إلى الصلاة تكلموا وضحكوا لما يعلمون من خشوعه فى الصلاة رحمه الله عز وجل.
3- قراءة القرآن :
ومن أنواع التضرع إلى الله عز وجل : قراءة القرآن.(1/13)
يقول الله عز وجل عن هذا القرآن : (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) (سورة الإسراء:9)
وفى الحديث عن عمر بن الخطاب أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين ) [ رواه مسلم ].
فهذا سالمٌ مولى حذيفة كان من الموالى ، وقد رفعه الله عز وجل بهذا الكتاب ، وهذا دليل على أنه تنزيل من رب العالمين.
وفى الحديث الآخر عن أبى أمامة رضى الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( اقرؤا القرآن فإنه يأتى يوم القيامة شفيعاً لأصحابه ). [ رواه مسلم ].
وقال أنس بن مالك : " رب تال للقرآن ، والقرآن يلعنه " والعياذ بالله ، يقرأ (أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)(سورة هود: من الآية18)
وهو يظلم نفسه ، ويقرأ (َنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ)(سورة آل عمران: من الآية61)
وقد يقع فيه بعض الناس يظن أنه يقرأ القرآن ، والقرآن يلعنه ؛ لأنه ما عمل بهذا الكتاب العزيز وإنما خالفه كما قال الله عز وجل على لسانه صلى الله عليه وسلم : (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) (سورة الفرقان:30)
قال عمرو بن العاص : " كل آية فى القرآن درجة فى الجنة ومصباح فى بيوتكم " .
وعن ابن مسعود رضى الله عنه قال : أقرأ عليك القرآن وعليك أُنزل ؟ قال : " نعم ، أحب أن أسمعه من غيرى " ، قال : فقرأ من سورة النساء حتى إذا وصلت إلى قوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً) (سورة النساء:41) قال : " حسبك الآن " .
قال : فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان . [ أخرجه البخارى ومسلم ]
أيها الأحبة ... هكذا كانوا إذا سمعوا القرآن .. هكذا كانوا إذا قرؤوا القرآن.(1/14)
وقام تميم الداري رضى الله عنه ليلة يقرأ قول الله عز وجل (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)
(سورة الجاثية:21) وهو يرددها حتى أصبح الصباح وكان يبكى ، وكان ابن عباس فى خدّه خطّان مثل شراك النعل من كثرة البكاء.
يقول القاسم محمد بن أبى بكر : دخلت على عائشة وهى تقرأ قوله تعالى :(فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ) (سورة الطور:27) قال : وهى ترددها وتبكى ، يقول : فانتظرتها حتى إذا أطالت ذهبت إلى السوق ، ثم رجعت فإذا هى ترددها وتبكى ، يقول : فانصرفت وهى لا تزال ترددها رحمهما الله أجمعين وجمعنا بهم.
وإني أيها الأخوة أعرف شخصاً قد توفى عليه رحمة الله عز وجل كان يقول : والله إني لأتندم إلاّ على إننى فى القبر لا أقرأ القرآن ؛ لأنه كان كثير القراءة.
قال تعالى ( أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ )(سورة الأنعام: من الآية90)
قال الشاعر :
أولئك آبائي يجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا يا جرير المجامع
4- كثرة الدعاء :
ومن أنواع التضرع إلى الله عز وجل كثرة الدعاء يقول الله تعالى :(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ).
(سورة البقرة:186) ويقول :(وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر:60) وهذا أمر من الله عز وجل بالدعاء ووعد بالإجابة تفضلاً منه ورحمة.
فعن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله عز وجل يقول : أنا عند حسن ظن عبدى بى وأنا معه إذا دعاني ). [ متفق عليه ].(1/15)
يقول على بن أبى طالب رضى الله عنه : " ادفعوا أفواج البلاء بالدعاء ".
ويقول أنس بن مالك : " لا تعجزون عن الدعاء ، فإنه لن يهلك مع الدعاء أحد ".
والدعاء أيها الأخوة من الشخص الذى يكون مطعمه حرام وملبسه حرام لا يستجاب له. كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فى حديث أبي هريرة : " إن الله طيبُ لا يقبل إلا طيباً ، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يارب يارب ، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغُذى بالحرام فأنى يستجاب لذلك ". [ رواه مسلم ].
وفى الحديث الآخر حينما قال صلى الله عليه وسلم لسعد : " أطب مطعمك تستجاب دعوتك ".
نعم أيها الأخوة ربما أن الكثير منا يدعو ولا يستجيب الله عز وجل بسبب أن مطعمه حرام فلينظر فى نفسه.
5- كثرة الصدقة :
وإن من أنواع التضرع إلى الله كثرة الصدقة . يقول الله عز وجل : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة:274)
وفى الحديث الصحيح المتفق عليه عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : سبعة يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله ، وذكر منهم : " ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه "
[ متفق عليه ].
وفى الحديث الصحيح أن الصدقة لتطفئ غضب الرب كما يطفئ الماء النار حديث معاذ بن جبل الصحيح.
وقال عثمان الحكيم إذا أخطات خطيئة فأعطى الصدقة.
وقال الإمام أحمد : " المؤمن فى ظل صدقته يوم القيامة ".
وروى عن عائشة رضى الله عنها أنهم ذابحوا شاة فقال النبى صلى الله عليه وسلم : " ما بقى منها ؟ قالت عائشة : ما بقى منها إلا كتفها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بقى كلها غير كتفها". [ رواه الترمذى ].(1/16)
وكان الحسن البصرى رحمه الله يحمل دائماً معه سُكّراً فى جيبه وإذا رأى فقيراً أعطى الفقير ، فسأله الناس عن ذلك ؟ فقال : تالله أنى أحبه – يقصد بذلك السُكّر -.
والله عز وجل يقول : (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (سورة آل عمران:92).
وقال الشاعر :
وإذا جادت عليك الدنيا فجد بها ... على الناس طراً إنها تتقلب
فلا الجود يفنيها إذا هى أقبلت ... ولا البخل يبقيها إذا هى تذهب
نعم أيها الأخ الكريم ... أنفق ينفق الله عليك ... نعم أطفئ غضب الرب عز وجل بصدقة.
6- الصوم :
ومن أنواع التضرع إلى الله عز وجل الصوم ، والصوم يورث التقوى ، كما قال الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)
(سورة البقرة:183).
وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قال الله عز وجل كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ) [ رواه البخارى ومسلم ]. وما جعل ذلك إلا لعظمة الصوم ، وعن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من عبد يصوم يوماً فى سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً ) . [ رواه البخارى ومسلم ].
وكان ابن مسعود رضى الله عنه يبكي عند الوفاة ، فلما سئل : ما يبكيك ؟ قال : أبكى على ظمأ الهواجر.(1/17)
وكان بعض السلف لا يفطر جميع الأيام يصوم يوماً ويفطر يوماً ، وكما تعلمون فى الجارية التى لما باعها سيدها إلى بعض الناس فلما اشتراها أحدهم ، وحينما أتى الليل أيقظتهم للصلاة . قالت : الصلاة الصلاة فقالوا : الصبح يقصدون بذلك صلاة الفجر . فقالت لا إنما تقصد صلاة الليل ، فقالوا : لا ، إنما إذا خرج الصبح أيقظنا ، فقالت بئس القوم أنتم لا تعرفون الصوم إلا الفريضة ، ولا تعرفون الصلاة إلا المكتوبة ، ارجعونى إلى سيدى... نعم هكذا تعودوا وعودوا من تحت ايديهم.
7- بر الوالدين :
من أنواع التضرع إلى الله عز وجل بر الوالدين ، وهو المقرون بعبادة الله عز وجل ، كما قال الله عز وجل : (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً )(سورة النساء: من الآية36)
وكما أوصى الله عز وجل الإنسان ، وقال : (وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً ).
(سورة الاحقاف: من الآية15)
وفى حديث ابن مسعود رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأله رجل :
" أى العمل أحب إلى الله " قال عليه الصلاة والسلام : " الصلاة على وقتها " قال : قلت : ثم أى؟ قال : " بر الوالدين " قلت : ثم أى ؟ قال : " الجهاد فى سبيل الله " [ متفق عليه ].
قال الإمام أحمد : " بر الوالدين كفارة للكبائر " ، قيل لعلى بن الحسين رضى الله عنه وكان من أبرّ الناس بأمه أنك من أبر الناس بأمك ولا تأكل معها في صحفة ؟ فقال : أخاف أن تسبق يدى يدها إلى ما تسبق إليه عيناها فأكون قد عققتها ... انظروا إلى برهَّ رحمه الله.
ورأى عبدالله بن عمر رضى الله عنهما رجلاً يحمل امرأة عجوزاً على ظهره ويطوف بها البيت الحرام فسأله من هذه ؟ قال : إنها أمى. قال : أترى أنى قد وفيتها حقها يا ابن عمر؟ فقال له ابن عمر : والله مهما فعلت بها فلم يعدل ذلك طلقة واحدة فيك ساعة ولادتها.(1/18)
وكما تعلمون قصة أصحاب الغار لما تضرعوا إلى الله عز وجل حينما أطبقت عليهم الصخرة فقد تضرع أحدهم ببرهّ بوالديه. أن بر الوالدين هو أحد أنواع التضرع إلى الله عز وجل ويقول عليه الصلاة والسلام : " رضى الوالدين فى رضى الله ، وسخط الله فى سخط الوالدين " .
اسمع أخي الكريم .. اسمع يا من عققت والديك. اسمع بارك الله فيك ... قال النبى صلى الله عليه وسلم : ( لا يدخل الجنة قاطع ) . قال سفيان أى قاطع رحم.
نعوذ بالله أن يكون من ذرياتنا من هو قاطع.
8- البكاء من خشية الله :
ثم من أنواع التضرع إلى الله عز وجل أيها الأخوة البكاء من خشية الله تعالى ، قال الله عز وجل :
البكاء من خشية الله تعالى ، قال الله عز وجل :(اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (سورة الزمر:23)
وقوله صلى الله عليه وسلم – وهذه بشرى لمن بكى من خشية الله - : " لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن فى الضرع ، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم ". [ رواه الترمذى وقال : حديث حسن صحيح ورواه النسائي ] .
وفى الحديث الآخر عن ابن عباس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( عينان لا تمسهما النار : عين بكت من خشية الله ، وعين باتت تحرس فى سبيل الله ). [ رواه الترمذي ، وصححه الألباني ].
نعم بكى النبي صلى الله عليه وسلم وبكى أبو بكر ، وعمر ، وصحابته رضى الله عنهم.
فعن على رضى الله عنه قال : ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقدام ، ولقد رأيتمونا وما فينا قائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلى ، ويبكى حتى أصبح .[ رواه ابن خزيمة فى صحيحه ، وصححه الألباني ].(1/19)
وعن عبدالله بن الشخير رضى الله عنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى بنا وفى صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء ... وأزير المرجل هو صوت القدر الذى يغلي على النار .وروى هذا الحديث أبو داود والنسائي ، وصححه الألباني.
وكان أبو بكر رضى الله عنه رجل بكاء وفى ذلك تعلمون قصة مرض النبى صلى الله عليه وسلم لما أمر عائشة قال : مروا أبا بكر فليصلي . فقالت يا رسول الله إنه رجلٌ بكاء ،وكان رضى الله عنه بذلك معروفاً ، وكان عمر كذلك رجلٌ بكاء. يقول عبدالله بن الشداد قال : سمعت نشيج عمر وأنا فى آخر الصفوف يقرأ قوله عز وجل : ( فإنما أشكو بثي وحزنى إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون )
[ يوسف 86 ].
9- قيام الليل :
ومن أنواع التضرع إلى الله عز وجل قيام الليل ، ذلك الذى قد تركناه أو أنه أصبح عند بعضنا أسطورة أو أعجوبة وللأسف الشديد. إن قيام الليل هو دأب الصالحين.
كان السلف الصالح يحرصون على قيام الليل وإحياء ساعاته بالصلاة والدعاء ، وكما قال النبى صلى الله عليه وسلم : ( ركعتان يركعهما العبد فى جوف الليل خير له من الدنيا وما فيها ).
وقوله صلى الله عليه وسلم : ( عليكم بقيام الليل ، فإنه دأب الصالحين قبلكم ) [ ابن خزيمة – الترمذى – البيهقي ].
ولقيام الليل لذةّ لا يحس بها إلا من جربها حتى قيل لبعضهم : كيف أنت والليل ؟ قال : ما رأيته قط يريني وجهه ، ثم ينصرف ، وما تأملته بعد ، وقال على بن بكار : منذ أربعين سنة ما أحزنني شئ سوى طلوع الفجر.
وقال الفضيل بن عياض : إذا غربت الشمس فرحت بالظلام لخلوتي بربي ، وإذا طلعت حزنت لدخول الناس علىّ .
وقال أبو سليمان الدارني : أهل الليل فى ليلهم ألذُّ من أهل اللهو فى لهوهم ، ولولا الليل ما أحببت البقاء فى الدنيا. وقال بعضهم : ليس فى الدنيا وقت يشبه نعيم أهل الجنة إلا ما يجده أهل التملق والتضرع فى قلوبهم بالليل من حلاوة المناجاة.(1/20)
وقال بعضهم : لغة المناجاة ليست من الدنيا ، إنما هى من الجنة ، أظهره الله تعالى لأوليائه لا يجدها سواهم . وقال ابن المنكدر : ما بقى من لذات الدنيا إلا ثلاث : قيام الليل ، ولقاء الإخوان فى الله
والصلاة فى الجماعة. وقيل لبعضهم : كيف الليل عليك ؟ قال : ساعة أنا فيها بين حالتين ؛ أفرح بظلمته إذا جاء ، وأغتم بفجره إذا طلع.
هكذا أخى المسلم كان سلفنا الصالح حريصين على اغتنام الأوقات الفاضلة ، فعليك بالإقتداء بهم قبل أن تتمنى ذلك ، فلا تستطيع .
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اغتنم خمساً قبل خمس ، وذكره منها : شبابك قبل هرمك وصحتك قبل مرضك ).
وانظر أيها الأخ الكريم .. كيف يصفهم ابن الجوزى – عليه رحمة الله عز وجل – يقول ابن الجوزى فى وصفه لرهبان الليل ، يقول : " لو رأيتهم بين ساجد وراكع ، وراكع ، وذليل مخمول متواضع ومنكسر الطرف من الخوف خاشع ، فإذا جن الليل تتجافى جنوبهم عن المضاجع ، نفوسهم بالمحبة علقت وقلوبهم بالأشواق فُلقت وأبدانهم للخدمة خُلقت يقومون إذا انطبقت أجفان هاجع تتجافى جنوبهم عن المضاجع ، يبادرون بالعمل الأجل ويجتهدون فى سدّ الخلل ، ويعتذرون عن ماض زلل ، والدمع لهم شافع تتجافى جنوبهم عن المضاجع ، سبق والله القول بكثرة الصلاة والصوم ، فإذا أقبل الليل حاربوا النوم والعزم فى الطوالع تتجافى جنوبهم عن المضاجع ، وإن شق مضيقهم واسلك ولو يوماً طريقهم فالطريق واسع تتجافى جنوبهم عن المضاجع.
10- التوبة والاستغفار :
ومن أنواع التضرع إلى الله عز وجل التوبة والاستغفار.(1/21)
قال الله عز وجل : (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ).
(سورة آل عمران :135-136). ثم بعد ذلك يقول الله عز وجل عن نوح : ( فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ) [ نوح : 10 – 11 ].
وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه فى اليوم أكثر من سبعين مرة ". [ رواه البخاري ].
قال على بن أبي طالب رضى الله عنه : العجب من يهلك ومعه النجاة. قيل : وما هي ؟ قال : الاستغفار.
قالت رابعة العدوية رحمها اللَّه : استغفارنا يحتاج إلى استغفار كثير.
قال بعض العلماء : العبد بين ذنب ونعمة لا يصلحها إلا الحمد والاستغفار .
وقال الفضيل : الاستغفار بلا إقلاع هى توبة الكذابين.
وروى أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه صعد المنبر يوماً يستسقي فلم يزد على الاستغفار ، وقراءة الآيات فى الاستغفار ثم قال : لقد طلبت الغيث بمخارج السماء التي يستنزل بها المطر.
11- المحبة فى الله والبغض فى الله :
ومن أنواع التضرع إلى الله عز وجل المحبة فى الله والبغض فى الله ، كما قال الله عز وجل :
(وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً )
(آل عمران: من الآية103)(1/22)
وقال تعالى : (وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [ الحشر : 9 ]
وفى الحديث الصحيح عن أبى هريرة رضى الله عنه قال فى حديث السبعة ، وذكر منهم :
" ورجلان تحابّا فى الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ".
وفى حديث أنس بن مالك رضى الله عنه قال : أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم : متى الساعة ؟ قال : " وما أعددت لها ؟ " قال : لا شئ إلا أني أحب الله ورسوله.
قال : " أنت مع من أحببت ". قال أنس : فما فرحنا بشئ فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم :
( أنت مع من أحببت ). يقول أنس : فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم. [ متفق عليه ].
وإنا نحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وأنس ، ونسأل الله عز وجل أن يحشرنا معهم.
وفى حديث ابن مسعود الآخر ، أن رجلاً يحب القوم ولما يلحق بهم . فقال النبى صلى الله عليه وسلم : ( المرء مع من أحب ) .
هذه بشرى لكل من يحب الصالحين ، ولم يلحق بهم. ويقول الله عز وجل فى الحديث القدسى : " أين المتحابون بجلالي ؟ اليوم أظلهم فى ظلي يوم لا ظل إلا ظلي ".
وفى الحديث الصحيح الآخر : " أن من أوثق عرى الإيمان الحب فى الله والبغض فى الله ".
وهذه هى عقيدة الولاء والبراء وربما أنها مفقودة عند بعض الناس.
12- الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر :
ثم إن من أنواع التضرع إلى الله عز وجل ولعله ما قبل الأخير هو الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.(1/23)
يقول الله عز وجل : (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) [ الأعراف:165] ويقول الله عز وجل فى الآية الأخرى : (فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) [هود:116]
وقوله : (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود:117] ولم يقل صالحون ؛ لأن المُصلح يصلح غيره ولأن الصالح يكون صلاحه لنفسه. أما الأمر بالمعروف والناهي عن المنكر ، إنما يريد إصلاح الفرد والمجتمع.
ويقول الله عز وجل : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة:71]
وفى الحديث الآخر عن حذيفة بن اليمان رضى الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( والذي نفسي بيده لتأمرون بالمعروف ولتنهنَّ عن المنكر أو ليوشكنَّ اللهَّ أى يبعث عليكم عقاباً من عنده ثم تدعون فلا يستجاب لكم ) [ رواه الترمذي ].
نعوذ بالله أن ندعوا الله فلا يستجاب لنا . قال حذيفة ابن اليمان رضى الله عنه عندما سئل عن ميت الأحياء قال : " إن ميت الأحياء الذي لا ينكر منكراً بيده ولا بلسانه ولا بقلبه " .
قال الشاعر :
وأمر بالمعروف وأنهى عن المناهي
فذاك من شأن أرباب الكمال
13- صلة الأرحام :
ومن أنواع التضرع إلى الله عز وجل ، ولعله هو الأخير من أسباب التضرع إلى الله عز وجل صلة الأرحام .(1/24)
يقول الله عز وجل :(فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * )أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) (محمد22: 23 ) وفى الحديث الصحيح عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه ".
وفى حديث جبير بن مطعم رضى الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا يدخل الجنة قاطع ) . قال سفيان : يعنى " قاطع رحم " . [ متفق عليه ] .
وقال على بن الحسين يوصى ابنه : يا بنى لا تصحب قاطعاً .. لا تصحبن قاطع رحم ، فإننى وجدته ملعوناً فى كتاب الله فى ثلاث مواضع .
آثار التضرع
وللتضرع آثار كثيرة ، ولعلنا نأخذ بعض من آثاره :
1- دوام اتصال القلب بخالقه بما يعطيه قوة وثباتاً وتعلقاً بالله عز وجل وتوكلاً عليه ومن ثم يكفيه الله عز وجل همه فعلم أن له رب فدعاه.
2- تعاهد النفس عن الغفلة وترويضها على لزوم الخيرات حتى تسهل عليها ، والتضرع أنواعه كثيرة فيختار ما يشاء ويعودّ النفس على ذلك.
3- أن التضرع إلى الله عز وجل سبب لمحبة الله تعالى للعبد وولاية العبد لله والله عز وجل جعل من آذى وليه فقد آذاه وكان سمعه وبصره ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشى بها إن كثير التضرع يكون كذلك ، فالله يحب عبده بحسب تضرعه إليه فإذا تقرب إلى الله شبراً تقرب الله إليه ذراعاً ، وإذا تقرب إليه ذراعاً تقرب الله إليه باعاً ، وإذا أتاه يمشي أتاه هرولة ، فالتضرع يوجب محبة الله عز وجل.
4- أن التضرع إلى الله عز وجل سبب للنجاة من الشدائد والمصاعب ، وكم من شخص تضرع إليه فى الشدائد والنزائل فأنجاه الله من شدته ومن كربه ، وهذا دليل على جوده سبحانه وكرمه ورحمته.(1/25)
5- أن التضرع إلى الله عز وجل ينهى صاحبه عن فعل الفواحش كما قال الله عز وجل عن الصلاة : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)( سورة العنكبوت: من الآية45) ولو كنا نصليها كما أمرنا الله عز وجل لنهتنا عن كثير من الفواحش وعن كثير من المنكرات (1) .
ويقول تعالى عن الربا : (وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(البقرة: من الآية278) والتضرع إلى الله يبعد عن المعاصى.
6- أن التضرع إلى الله عز وجل سبب لمحو الخطايا والذنوب.
ولذا اقرأ إن شئت أجر وفضل منتظر الصلاة ، وإن الملائكة لتدعو له وتقول : اللهم ارحمه اللهم اغفر له ، اللهم تب عليه ، ومنتظر الصلاة يكون ممن قال فيهم : (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (سورة السجدة:16) قال أنس ابن مالك رضى الله عنه : هذه الآية نزلت فى انتظار الصلاة التي تدعى العتمة – يعنى العشاء-. [ صححه الألباني ].
وفى الحديث الذى رواه مسلم قوله صلى الله عليه وسلم : ( ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ؟ " قلت : بلى يا رسول الله ، فذكر منها : انتظار الصلاة بعد الصلاة فذلك الرباط ).
7- أن التضرع إلى الله سببُ لحسن الختام . نسأل الله أن يرزقنا حسن الختام.
تقول عائشة رضى الله عنها : كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبى على دينك ".
__________
(1) بتصرف يسير من " مختارات رمضانية " .(1/26)
فالتضرع إلى الله سبب للثبات على دين الله ، وحسن الخاتمة. لذا يقول الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (فصلت:30) آمنوا بالله واستقاموا على منهج الله فرزقهم الله حسن الختام عند موتهم. وخاطبهم ألاّ تخافوا وبشرهم بالجنة.
8- أن التضرع إلى الله عز وجل سبب للتيسير فى الحساب وتجاوز الله تعالى عن العبد
كما قال الله عز وجل : (فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ *إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ) ( سورة الحاقة 19 : 21 ). لأنه كان يتضرع إلى الله عز وجل بجميع الطاعات.
9- أنه سبب فى أنه يستظل الإنسان فى ظل عرش الله عز وجل يوم لا ظل إلا ظله فى موقف شديد فى حر شديد فى يوم تجتمع فيه الخلائق إنسهم وجنّهم ، أولهم وآخرهم ، يحتاج إلى ذلك الظل وهو يستظل وغيره يحاسب وغيره يعاني.
قال تعالى : (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ)(سورة الحديد: من الآية21)10- أن التضرع إلى الله عز وجل سبب لدخول الجنة.
11- أن التضرع إلى الله عز وجل بالأعمال الصالحة سبب لدوام الأجر ، ولو انقطع عنه بسبب مرض أو سفر أو نوم كما أخرج البخاري بسنده عن أبي موسى الأشعري رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً ).
قال ابن حجر رحمه الله : ( هذا فى حق من كان يعمل طاعة فمنع منها وكانت نيته لولا المانع أن يداوم عليها .
وعن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من امرئ تكون له صلاة بليل فغلب عليه النوم إلا كتب الله له أجر صلاته وكان نومه صدقة عليه ).[ أخرجه النسائى ].
وهذا من فضل الله عز وجل.(1/27)
** أسباب معينة للتضرع :
إن هناك أسباب معينة للتضرع إلى الله عز وجل لعلنا نذكرها سريعاً :
1- العزيمة الصادقة على لزوم الطاعة والمداومة عليها أياً كانت الظروف والأحوال.
واقرأ إن شئت قول الله عز وجل :( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (سورة البقرة:82) فالجنة يأتى ذكرها بعد العمل الصالح.
2- القصد فى الأعمال وعدم الإتقان والتشديد على النفس فإنه أدعى للمداومة وأضمن لها وكلما رأى فى نفسه خفة ورغبة إلى الخير زاد ما لم يثقل عليها ، وكما قيل : ( قليل دائم خير من كثير منقطع ).
3- سلوك طريق من يعينه على ذلك من أخوة له فى الله يعينونه إذا تثاقل ويذكرونه إذا نسي أو زوجة صالحة تعينه على الخير.
4- تذكُّر ما اقترف العبد من الإثم وأنه لابد من وجود ما يمحوه الله من الحسنات (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ)(سورة هود: من الآية114)
وعن أبى ذرٍّ رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن ). [ أخرجه الترمذي ، وقال : حديث حسن ].
5- أن البركة فى المداومة أسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يعملون صالحاً ويتقبل منهم ( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (سورة البقرة: من الآية201)
ولا تكن فوضوياً فى العبادة كما هي حال بعض الناس ، وللأسف وليس المقصود كثرة العمل إنما المقصود أخلصه وأصوبه كما قال الفضيل بن عياض ، لما قرأ قوله تعالى :( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ) (سورة الملك : 1 – 2 )(1/28)
6- ينظر إلى أى الطاعات التى تقوى نفسه عليها ويجتهد فيها ، فربما أن الله عز وجل فتح عليه فى كثرة الصوم فليكثر من الصوم ويستشعر أنه لله ، أو فتح الله عليه فى الإنفاق فى المال ، فالإسلام شامل لجميع الطبقات والنفسيات ، ويجمع ما اختلف عليه الأمزجة والأذواق ، ولله الحمد والمنة.
7- قراءة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته والتابعين من بعدهم والصالحين ، فى تضرعهم إلى الله عز وجل وخوفهم من خالقهم لكى تقوى نفسه ويتخذهم قدوة له ، فأمرهم عجيب وحالهم غريب ، فهم صدقوا الله ما عاهدوا الله عليه ، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ، ويرى حاله والضعف الذى يعيشه فى جنب الله ويقارن بين الحالين ليستنفر همته.
8- التوكل على الله عز وجل حق التوكل وعبادته عن علم وصدق واستشعار أسماء الله الحسنى وصفاته العليا ، والتفكر فى قدرته وفى عقابه وفى رحمته ، فهذا سبب من أسباب التضرع إلى الله عز وجل.
9- الزهد فى هذه الدنيا الفانية ومحبة الله ولقائه.
** رسائل عاجلة
لبعض فئات المجتمع
* رسالة إلى الأب الكريم :
أيها الأب الكريم .. ألا تحب أن يرزقك الله ذرية صالحة طيبة تحمل اسمك واسم آبائك على خير محمل ولا تذكر أنت ولاهم إلا بخير يطيعونك فى الصغر ويبرونك فى الكبر ويتقربون إلى الله بحبك والجلوس معك والاستئناس بك يرفعون أيديهم تضرعاً إلى خالقهم : رب اغفر لي ولوالدي ، ويكثرون الدعاء لك فى أفضل أوقات الإجابة وألسنتهم تلهج بالدعاء لك والثناء عليك ويتكدرون إذا رأوك مهموماً فيحزنون لحزنك ويفرحون لفرحك يطلبون رضاك لعلمهم أن ارتباط رضى الله برضاك ، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم.
فيا أيها الأب الفاضل : تضرع إلى الله أن يرزقك ذرية صالحة طيبة ، كما قال زكريا عليه السلام :(رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ)(سورة آل عمران: من الآية38)
* رسالة إلى عاق :(1/29)
يا من عق أمه وأباه ونسى المعروف الذى أسدي إليه وجحد فضل والديه ، فكم من والد لم يسمع كلمة طيبة من أولاده ، أو لم يرى فعلاً جميلاً لهم ، نكس رأسه عند القريب والبعيد ، وساءت سمعته بسبب أولاده ، تردت حالته الصحية ، لما يرى من العجائب والأهوال منهم.
ألم تسمع أخي الكريم : أن ابناً ضرب أباه والعياذ بالله ، وأن ابناً ترك أمه تعيش فى بيت لوحدها ، وهى تترجاه ، وتبكى وتقول اجعلوني خادمة عندكم ، المهم أن أجلس معكم ، فما كان رد هذا الابن إلا أن أخرج لها خمسمائة ريال وقال خذى هذا مصرف وسوف أزورك فى كل شهر ، فأنا مشغول ، ثم يخرج من عندها ، وتمر الشهور ، ولم ير أمه ثم يشم الجيران رائحة كريهة فى بيت الأم فلما نظروا فى البيت وجدوا الأم المسكينة قد فارقت الحياة منذ مدة ... ألم يقشعر جسمك لهذه القصة ؟!.
أيها الابن العاق ... تضرع إلى خالقك أن يرزقك التوبة الصادقة وارجع إلى مولاك قبل أن تجازى على فعلك فى الدنيا والآخرة وتندم ولات ساعة ندم والجزاء من جنس " بروا آباءكم تبركم أبناؤكم " .
*رسالة إلى شاب أعزب :
إلى من يريد العفاف .. أخى الشاب .. ألا تحب أن يرزقك الله زوجة صالحة تسرك بحضورك وتحفظك فى غيابك ؟ ألا تحب أن تعيش حياة طيبة لا نكد فيها ولا كدر؟ قال النبى صلى الله عليه وسلم : ( الدنيا متاع وخير المتاع المرأة الصالحة ). [ متفق عليه ].
تذكرك بالمعروف إذا نسيت وتنهاك عن المنكر إذا فعلت حالك وحالها. كما قال تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ )(سورة التوبة: من الآية71)
ألم تعلم أنه يوجد من يفتقد الزوجة الصالحة ، ويعيش فى بيت كلما ولج فيه بادرت إليه الهموم وانساقت إليه المشاكل جميعاً كل ذلك من فقد الزوجة الصالحة أظنك بل أعتقد أنك لا تحب أن تكون كذلك ، فالمرأة الصالحة هى شريكة الحياة ومربية الأجيال.(1/30)
الأم مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعباً طيب الأعراق
فهى نصف المجتمع والشطر الآخر المكمل للرجل بلا شك ولا ريب أنك تحب المرأة الصالحة التى توقظك لصلاة الليل ، تحب المرأة التى تدين الله بحبك والعمل لأجل سعادتك إذاً فتضرع إلى الله عز وجل واظفر بذات الدين تربت يداك ، ولا تنسى أن تقول : (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً)(سورة الفرقان: من الآية74)
* رسالة إلى شاب حائر :
أخي الكريم .. هل جربت طريق الهداية ، أو فكرت به ؟ سؤال أحب أن تطرحه على نفسك.
أخي .. إن السالك لطريق الغواية يعيش فى ضيق من حياته ، كما قال تعالى : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (سورة طه:124) كل الأسباب جربها ليُفرح نفسه ، ولكنه لم يجد اللذة الحقيقية ، حياة تائهة متعبة المعاصي ليس لها نهاية ألم تسمع تضرع أهل النار لربهم (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ) (سورة الزخرف:77) ونعوذ بالله من جهنم.
أخي الشاب ... اغتنم شبابك ، تضرع إلى الله عز وجل بأن يهديك بقلب خالص صادق ، فإذا فعلت ذلك فإنه أكرم الأكرمين ، وأجود الأجودين ، ولا نتمنى على الله الأماني.
نعم أخى الشاب : أتظن أن الهداية تأتى إليك فى بيتك أو أنك تستيقظ من النوم فإذا علامات الهداية ظهرت عليك ، إنما الهداية تريد عملاً ، تريد أن تدعو الله بقلب خالص صادق.
فالمعصية هى معصية الرب .. شقاء فى الدنيا وعذاب فى الآخرة ، حياة زائفة ، حياة براقة يعجب بها من يراها ، ويعلم حقيقتها من دخلها وجرّبها ، حياة إشكال لا حقيقة.(1/31)
أخى الشاب ... أريد أن أطرح عليك سؤال ، وكن مع نفسك صريح وأجب عليه بوضوح .. الذى يصنع أى صناعة من جديد ، أو غيره ، ولنقول مثلاً صنع سيارة لها مميزات خاصة بها وأجهزة معقدة ألا يكون هو أعلم الناس بها فهو صنعها لعمل معين وأخبر من حوله بأن السيارة إذا استخدمت لشغل غير الذى صنعت له تتعطل .. ألا نأخذ بقوله ونعمل به حتى نستخدم السيارة استخداماً صحيحاً.
فالله عز وجل خالقك هو أعلم بك من نفسك ، حدد لك ، فنهاك عن أشياء وأباح لك أشياء فإن خرجت عما امرك به وقعت فيما نهاك عنه ، وإن خرجت عن طبيعتك عشت حياة غير طبيعية ، حياة تتلاطم فيها أمواج ، ربما أغرقتك فى يوم من الأيام.
* رسالة إلى صاحب مال :
أخي المسلم .. تضرع إلى الله عز وجل أن يرزقك المال الحلال ويغنيك عن الحرام ويغنيك بفضله عما سواه وتضرع إلى الله ألا يجعلك أسيراً لمالك مملوكاً وابتهل إلى الله بأن يجعلك من المنفقين فى السراء والضرّاء فى الليل والنهار سراً وعلانية من أصحاب إطعام الطعام ، لتدخل الجنة بسلام.
أخي المسلم.. تذكر كم إنسان يموت جوعاً ، وكم من أخ لك مسلم فى مشارق الأرض ومغاربها لا يجد مأوى له ، ولا شئ يلتحف به ، فالأرض تقله والسماء تظله ، وتذكر أن هناك أطفال يتضاغون من الجوع والأب ينظر إليهم بحسرة وحرقة ، ولكن لا جدوى ، وتذكر من يموت من الشبع والتخمة ، أتظن أن صاحب المال لا يسأل عن هؤلاء يوم القيامة ؟! بلى وربي .. بلي تضرع إلى الله عز وجل ألاّ يطغيك مالك ويلهيك عن ذكر الله عز وجل (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ).
(سورة النور:37)
وأحذر أخي المسلم أن يكون مالك عدواً لك فى آخرتك.(1/32)
قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (سورة المنافقون:9) أخي المسلم .. واعلم أن المال يدخل صاحبه النار إذا أساء التصرف به ، ويدخل صاحبه الجنة إذا أحسن التصرف به .. فهذا المال قد أطغى قارون وأدخله الله به النار.
وإذا أخلص صاحب المال وابتغى به وجه الله عز وجل كان له خيراً فى الدنيا والآخرة ، فاقرأ ما ورد فى فضل إنفاق المال من القرآن والسنة.
واعلم أن هذا المال ما هو إلا عارية عندك ، فالمال مال الله ، وما أنت إلا مؤتمن عليه سوف تسأل عنه يوم القيامة ، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن شبابه فيما أبلاه ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه ، ....".
* رسالة إلى مريض :
أخي المريض .. شفاك الله قبل كل شيء .. اعلم بارك الله فيك أن هذا المرض مكتوب عليك ومقدر عليك ، فلا تجزع من هذا المرض ولا تكون من الذين يؤمنون بالقضاء والقدر ، وتذكر أحد السلف الذي يقول : والله أني إذا أصبت بمصيبة أحمد الله عز وجل على تلك المصيبة.
هكذا كانوا يعيشون حياة لله كاملة خالصة..
أخي المريض .. أنت لا تعلم الغيب ؟! فربما أن مرضك هذا خير لك فى دنياك وأخراك ، إما لتكفير السيئات وأنت مأجور عليه ، كما ثبت فى الحديث الصحيح : " حتى الشوكة يشاكها " .
فمتى استشعرت واحتسبت ذلك فأنت مأجور عند الله عز وجل. وقد حدثني أحد الأخوة أن جدته من أمه أصيبت بمرض ألزمها الفراش سنين طويلة ، يقول : كلما دخلت عليها لأزورها أسمع منها التسبيح والتهليل والشكر لله على هذه البلوى ، وتعدد نعم الله عليها.
يقول صاحبى : فأنظر إليها متعجباً من هذا الاحتساب والتأدب مع الله عز وجل.(1/33)
أخى المريض .. كثيراً من المرضى يتوكلون على علاج الطبيب وينسون أن الطبيب ما هو إلا مخلوق من خلق الله إن شاء الله وفقه للعلاج وإن شاء لم يوفقه للعلاج ، فلماذا يا أخوتى لا نتوكل على الله فمن الناس من يذهب إلى الطبيب ولسان حاله يقول : الطبيب عنده الدواء. ونسى هداه الله أن الذهاب إلى الطبيب وسيلة وسبب ، وليست غاية ، وليعتقد المريض أن الشفاء بيد الله وأن الله قد يوفق الطبيب للعلاج ، وقد لا يوفقه ، وهذا حقيقة مدخل فى العقيدة ، فعلينا أن ننتبه لذلك وننبه إخواننا.
أخي المريض.. هل جربت الاستشفاء بالقرآن ، قد تقول : القرآن هو كلام الله نقرأه فى الصلاة ونتعبد الله فيه . أقول : ليس هذا أردت ، إنما أن تستشفي بالقرآن ، أي تداوي نفسك بكتاب الله فهو شفاء كما قال تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)(سورة الإسراء: من الآية82) فلماذا لا تجرب ذلك ؟ ولماذا لا تعود إخوانك وأولادك على الرقى الشرعية الصحيحة؟
يقول ابن القيم : " وإنه ليمر بي فى بعض الأوقات أمراض تخور قواي لها ، ثم أرقي نفسي بالرقى الشرعية فأجد نشاطاً وعافية ". فلا نكون أزهد الناس بكتاب الله.
قال تعالى : (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) (سورة الفرقان:30) وذكر ابن القيم عنده هذه الآية أنواع هجر القرآن وذكر منها : هجر الاستشفاء به.
ومن الناس من يشتكي إلى الناس ولا يشتكي إلى ربه ولا يفزع إليه ، ولا ينزل حوائجه عند ربه فإذا حصل الأذى عليه والمصيبة لا يرجع إلى نفسه ويلومها.
أمَّا قوي الإيمان فإن الله منحه السكينة فى قلبه والرضا واليقين ، ولعلنا نأخذ بعض الأمور التى قد تكون ظاهرة لنا فى ابتلاء المريض بمرضه :
1- ليعلم العبد أنه ابتلاء من الله عز وجل ، وكلُ يبتلى على قدر دينه ، الأنبياء ، فالأمثل والأمثل.(1/34)
2- ليتضرع العبد إليه وليسمع الله صوت عبده ويبث إليه حزنه وشكواه.
3- ليتعظ الناس ويخافون من الله عز وجل.
4- ليرى العبد فضل الله عليه إذا رأى غيره من المرضى.
5- تعظيم الأجر والمثوبة للمريض حتى يلقى الله وما عليه خطيئة.
6- ليعلم الخلق صفة من صفات الخالق أنه يُمرض ويشفي ، كما قال إبراهيم عليه السلام : (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) (سورة الشعراء:80) فدل على قوة العقيدة الراسخة فى القلب وارتباطه بالله.
وليعلم المريض أن ليس هناك كما يقال مرض ليس له دواء ، فهذا غير صحيح. لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " ما أنزل الله داء إلا أنزل دواء ، علمه من علمه ، وجهله من جهله " (1) .
* رسالة إلى عقيم :
أخي وفقك الله .. لا شك أنك تريد أن يهبك الله ذرية صالحة ، وكم أعيش معك الهم وبودي أن أبدي لك رأياً أسأل الله عز وجل أن يكون سديداً ، وقبل أن أطرح الرأي عليك أعلم أنك ذهبت إلى المستشفى وبحثت عن العلاج مراراً وتكراراً ، فقطعت المسافات الطويلة ، للبحث عن العلاج ، وكم من مرة حزنت لكلمة سمعتها من قريب أو بعيد ، حينما يتكلمون معك عن الموضوع دونما إحساس أو شعور منهم ، وقد تكون أنت حساساً وتؤل كلمة لا تحتمل التأويل ، وذلك من شدة ما تجد فى نفسك ، وربما فى يوم من الأيام كادت حياتك الزوجية أن تنتهي بسبب هذا الشيء ، وربما إذا رأيت طفلاً صغيراً معه حلوى أو طفلة صغيرة تركض خلف أبيها وتناديه " بابا بابا " [ مع التحفظ على اللفظ ] ، وتنقطع أنياط قلبك ، وربما خرجت دمعة من عينك مثل رأس الذبابة.
أخي حفظك الله .. اعلم وفقك الله أن هذا مكتوب ، وأنك لا تدري أين تكون الخيرة ، فالخيرة مخفية ، فربما لو رزقك الله ذرية لكانوا عاقين. وهذه من الأمور التي لا تعلمها فهو حكيم عليم.
__________
(1) هناك كتاب لشيخنا عبدالله الجعيثن كتاب " تحفة المريض " يحسن الرجوع إليه.(1/35)
قال تعالى : (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ )(سورة البقرة: من الآية216)
حدثني أحد الأخوة أن امرأة لم تنجب لفترة طويلة ، فقالت : اللهم ارزقني ولداً حتى لو كان يضربني. فرزقها الله ولداً ، فلما كبر ضربها ، وأراها الويل والعقوق والعياذ بالله.
أمَّا رأيي لك فهو أن تتضرع إلى الله عز وجل ، فهل جربت بارك الله فيك في منتصف الليل عندما تنام العيون وتهدأ الحركة ، أن تقوم من فراشك وتحسن الوضوء وتصلى ركعات لله خاشعاً لا تحدث فيها نفسك وتشكو حالك وتبث همك إلى مولاك إلى مَن إذا أراد أن يقول للشيء كن فيكون. فاسأل بما تريد بعد أن تثني عليه بالصلاة والسلام على نبينا محمد ، ثم تدعوه وتستمر فى دعائك حتى ينزل الله الفرج ، وكم سمعنا أن شخصاً رزقه الله ذرية بعد سنين طويلة من زواجه ، فالأمر بيد الله والفرج قريب. فهل جربت ذلك؟
* رسالة إلى مسلم جريح :
إن المسلم ليحزن حينما يرى ويسمع عن واقع الأمة الإسلامية الجريحة ، وهوانها على الناس ، ويبكي حينما يرى تخاذل المسلمين عن نصرة إخوانهم ، ولكن لله فى ذلك حكمة ، وأتصور أيها الأخوة بل أعتقد أن العلاج لواقع الأمة الإسلامية ليس بالبكاء والحزن ، وإنما بالعمل والدعاء ، فسهام الليل مدفع قوي ، ننسى فى كثير من الأحيان أن نرمى به ويجسد واقع الأمة قول الشاعر :
أمتي هانت وذلت ... حين ولت عن هداها
حين يا قوم استكانت ... حين حادت عن علاها
وارتضت كل خسيس ... وتمادات فى هواها
يقول ابن القيم :
إن ابتلاء المؤمنين بغلبة عدوهم لهم ، وقهرهم ، وكسرهم لهم أحياناً فيه حكمة عظيمة ، لا يعلمها على التفصيل إلا الله عز وجل.
فمنها : استخراج عبوديتهم وذلهم لله ، وانكسارهم له ، وافتقارهم إليه ، وسؤاله نصرهم على أعدائهم ، ولو كانوا دائماً منصورين قاهرين غالبين لبطروا وأشروا.
ولو كانوا دائماً مقهورين مغلوبين منصوراً عليهم عدوهم لما قامت للدين قائمة ، ولا كانت للحق دولة.(1/36)
فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن صرّفهم بين غلبهم تارة ، وكونهم مغلوبين تارة ، فإذا غلبوا تضرعوا إلى ربهم ، وأنابوا إليه ، وخضعوا له ، وانكسروا له ، وتابوا إليه ، وإذا غلبوا أقاموا دينه وشعائره ، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، وجاهدوا عدوه ، ونصروا أولياءه ، ومنها : أنهم لو كانوا دائماً منصورين ، غالبين ، فاهرين ، لدخل معهم من ليس قصده الدين ، ومتابعة الرسول ، فإنه إنما ينضاف إلى من له الغلبة والعزة ، ولو كانوا مقهورين مغلوبين دائماً لما يدخل معهم أحد.
فاقتضت الحكمة الإلهية أن كانت لهم الدولة تارة ، وعليهم تارة ، فيتميز بذلك بين من يريد الله ورسوله ، ومن ليس له مراد إلا الدنيا والجاه. ومنها : أنه سبحانه يحب من عباده تكميل عبوديتهم على السراء والضراء ، وفي حال العافية والبلاء ، وفى حال ادالتهم والإدلة عليهم.
فلله سبحانه على العباد فى كلتا الحالتين عبودية بمقتضى تلك الحال ، لا تحصل إلا بها ، ولا يستقيم القلب بدونها ، كما لا يستقيم الأبدان إلا بالحر والبرد ، والجوع والعطش ، والتعب ، والنصب ، وأضدادها .
فتلك المحن والبلايا شرط في حصول الكمال الإنساني والاستقامة المطلوبة منه ، ووجود الملزوم بدون لازمة ممتنع.
ومنها : أن امتحانهم بإدالة عدوهم عليهم يمحصهم ، ويخلصهم ويهذبهم ، كما قال تعالى فى حكمة إدالة الكفار على المؤمنين يوم أحد :(1/37)
(وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ *وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) (سورة آل عمران 139 : 144) فذكر سبحانه أنواعاً من الحكم التي لأجلها أُديل عليهم الكفار ، بعد أن ثبتهم وقواهم وبشّرهم بأنهم الأعلون بما أعطوا من الإيمان ، وسلاهم بأنهم وإن مسهم القرح فى طاعته وطاعة رسوله ، فقد مس أعداءهم القرح فى عداوة رسوله. ثم أخبرهم أنه سبحانه بحكمته يجعل الأيام دولاً بين الناس فيصيب كلاً منهم نصيبه منها ، كالأرزاق والآجال. ثم أخبرهم أنه فعل ذلك ليعلم المؤمنين منهم وهو سبحانه بكل شيء عليم قبل كونه وبعد كونه ، ولكنه أراد أن يعلمهم موجودين مشاهدين يعلم إيمانهم واقعاً ، ثم أخبر أنه يحب أن يتخذ منهم شهداء ، فإن الشهادة درجة عالية عنده ، ومنزلة رفيعة لا تُنال إلا بالقتل فى سبيله ، فلولا إدالة العدو لم تحصل درجة الشهادة التي هي من أحب الأشياء إليه ، وأنفعها للعبد.(1/38)
ثم أخبر سبحانه أنه يريد تمحيص المؤمنين ، أي : تخليصهم من ذنوبهم بالتوبة والرجوع إليه واستغفاره من الذنوب التي أديل بها عليهم العدو ، وأنه مع ذلك يريد أن يمحق الكافرين ببغيهم وطغيانهم وعدوانهم إذا انتصروا ، ثم أنكر عليهم حسبانهم وظنهم دخول الجنة بغير جهاد ولا صبر ، وأن حكمته تأبى ذلك ، فلا يدخلونها إلا بالجهاد والصبر ، ولو كانوا دائماً منصورين غالبين لما جاهدهم أحد ، ولما ابتلوا بما يصبرون عليه من أذى أعدائهم.
فهذا بعض حِكَمه فى نصرة عدوهم عليهم ، وإدالته فى بعض الأحيان.
الخاتمة
ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً ، اللهم يا حيّ يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام إنا نسألك أن لا تدع لنا فى مقامنا هذا ذنباً إلا غفرته ، ولا هماً إلا فرجته ، ولا ذنباً إلا غفرته ، ولا والداً إلا رحمته ، ولا والداً إلا أصلحته ، ولا مجاهداً إلا نصرته ، ولا ظالماً إلا خذلته ولا مريضاً إلا شفيته ، ولا عقيماً إلا رزقته ذرية صالحة ، ولا شاباً إلا هديته وأصلحته ، ولا ديناً إلا قضيته ، ولا حاجة من حوائج الدنيا هى لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا أعنتنا على قضائها ويسرتها لنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(1/39)