التضحية
عند الحيوان
تأليف :
هارون يحيى
ترجم :
أورخان محمد علي
استانبول - فبراير 2003
إلى القارئ
السبب وراء تخصيص فصل خاص لانهيار النظرية الداروينية هو أن هذه النظرية تشكل القاعدة التي يعتمد عليها كل الفلاسفة الملحدين. فمنذ أن أنكرت الداروينية حقيقة الخلق، وبالتالي حقيقة وجود الله، تخلى الكثيرون عن أديانهم أو وقعوا في التشكيك بوجود الخالق خلال المئة والأربعين سنة الأخيرة. لذلك يعتبر دحض هذه النظرية واجباً يحتمه علينا الدين، وتقع مسؤوليته على كل منا. قد لا تسنح الفرصة للقارئ أن يقرأ أكثر من كتاب من كتبنا، لذلك ارتأينا أن نخصص فصلاً نلخص فيه هذا الموضوع.
تم شرح جميع الموضوعات الإيمانية التي تناولتها كل هذه الكتب على ضوء الآيات القرآنية وهي تدعو الناس إلى كلام الله والعيش مع معانيه. شرحت كل الموضوعات التي تتعلق بالآيات القرآنية بطريقة لا تدع مكاناً للشك أو التساؤل في ذهن القارئ من خلال الأسلوب السلس والبسيط الذي اعتمده الكاتب في كتبه يمكن للقرّاء في جميع الطبقات الاجتماعية والمستويات التعليمية أن تستفيد منها وتفهمها. هذا الأسلوب الروائي البسيط يمكّن القارئ من قراءة الكتاب في جلسة واحدة، حتى أولئك الذين يرفضون الأمور الروحانية ولا يعتقدون بها، تأثروا بالحقائق التي احتوتها هذه الكتب ولم يتمكنوا من إخفاء اقتناعهم بها.
يمكن للقارئ أن يقرأ هذا الكتاب وغيره من كتب المؤلف بشكل منفرد أو يتناوله من خلال مناقشات جماعية. أما أولئك الذين يرغبون في الاستفادة منه فسيجدون المناقشة مفيدة جداً إذ إنهم سيتمكنون من الإدلاء بانطباعاتهم والتحدث عن تجاربهم إلى الآخرين.
إضافة إلى أن المساهمة في قراءة وعرض هذه الكتب التي كتبت لوجه الله يعتبر خدمة للدين . عرضت الحقائق في هذه الكتب بأسلوب غاية في الإقناع، لذلك نقول للذين يريدون نقل الدين إلى الآخرين: إن هذه الكتب تقدم لهم عوناً كبيراً.(1/1)
من المفيد للقارئ أن يطلع على نماذج من هذه الكتب الموجودة في نهاية الكتاب، ليرى التنوع الذي تعرضه هذه المصادر الغنية بالمواد الدينية الممتعة والمفيدة.
لن تجد في هذا الكتاب كما في غيره من الكتب، وجهات نظر شخصية للكاتب أو تعليقات تعتمد على كتب التشكيك، أو أسلوب غامض في عرض موضوعات مغرضة أو عروض يائسة تثير الشكوك وتؤدي إلى انحراف في التفكير.
حول المؤلف
ولد الكاتب الذي يكتب تحت الاسم المستعار هارون يحيى في أنقرة عام ،1956 بعد أن أنهى تعليمه الابتدائي والثانوي في أنقرة، درس الآداب في جامعة ميمار سنان في جامعة استنبول، وفي الثمانينيات بدأ بإصدار كتبه السياسية والدينية . هارون يحيى كاتب مشهور بكتاباته التي تدحض الداروينية وتعرض لعلاقاتها المباشرة مع الإيديولوجيات الدموية المدمرة.
يتكون الاسم القلمي أو المستعار، من اسمي ‘’هارون’’ و’’يحيى’’ في ذكرى موقرة للنبيَّين اللَّذَين حاربا الكفر والإلحاد، بينما يظهر الخاتم النبوي على الغلاف كرمز لارتباط المعاني التي تحتويها هذه الكتب بمضمون هذا الخاتم. يشير الخاتم النبوي إلى أن القرآن الكريم هو آخر الكتب السماوية، وأن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين. وفي ضوء القرآن والسنة وضع الكاتب هدفه في نسف الأسس الإلحادية والشركية وإبطال كل المزاعم التي تقوم عليها الحركات المعادية للدين، لتكون له كلمة الحق الأخيرة، ويعتبرهذا الخاتم الذي مهر به كتبه بمثابة إعلان عن أهدافه هذه.
تدور جميع كتب المؤلف حول هدف واحد وهو نقل الرسالة القرآنية إلى الناس، وتشجيعهم على الإيمان بالله والتفكر بالموضوعات الإيمانية والوجود الإلهي واليوم الآخر.(1/2)
تتمتع كتب هارون يحيى بشعبية كبيرة لشريحة واسعة من القراء تمتد من الهند إلى أمريكا، ومن إنكلترا إلى أندونيسيا وبولندا والبوسنة والبرازيل وإسبانيا؛ وقد ترجمت بعض كتبه إلى الفرنسية والإنكليزية والألمانية والبرتغالية والأردية والعربية والألبانية والروسية والأندونيسية.
لقد أثبتت هذه الكتب فائدتها في دعوة غير المؤمنين إلى الإيمان بالله، وتقوية إيمان المؤمنين، فالأسلوب السهل والمقنع الذي تتمتع به هذه الكتب يحقق نتائجاً مضمونة في التأثير السريع والعميق على القارئ. من المستحيل على أي قارئ يقرأ هذه الكتب ويفكر بمحتواها بشكل جدي أن يبقى معتنقاً لأي نوع من أنواع الفلسفة المادية. ولو بقي أحد يحمل لواء الدفاع عنها، فسيكون ذلك من منطلق عاطفي بحت، لأن هذه الكتب تنسف تلك الفلسفات من أساسها. إن جميع الإيديولوجيات التي تقول بنكران وجود الله قد دُحضت اليوم والفضل يعود إلى كتب هارون يحيى.
لا شك أن هذه الخصائص مستمدة من حكمة القرآن ووضوحه؛ وهدف الكاتب من وراء نشر هذه الكتب هو خدمة أولئك الذين يبحثون عن الطريق الصحيح للوصول إلى الله، وليس تحقيق السمعة أو الشهرة، علاوة على أنه لا يوجد هدف مادي من وراء نشر كتبه هذه.
وعلى ضوء هذه الحقائق، فإن الذين يشجعون الآخرين على قراءة هذه الكتب، التي تفتح أعينهم وقلوبهم وترشدهم إلى طريق العبودية لله، يقدمون خدمة لا تقدر بثمن.
من جهة أخرى، يعتبر تناقل الكتب التي تخلق نوعاً من التشويش في ذهن القارئ وتقود الإنسان إلى فوضى إيديولوجية، ولا تؤثر في إزاحة الشكوك من قلوب الناس، مضيعة للوقت والجهد، أما هذه الكتب فمن الواضح أنها لم تكن لتترك هذا الأثر الكبير على القارئ لو كانت تركز على القوة الأدبية للكاتب أكثر من الهدف السامي الذي يسعى إليه، ومن يشك بذلك يمكنه أن يرى أن الهدف الوحيد لكتب هارون يحيى هو هزيمة الكفر وتكريس القيم الإنسانية.(1/3)
لا بد من الإشارة إلى أن الحالة السيئة والصراعات التي يعيشها العالم الإسلامي في يومنا هذا ليست إلا نتيجة الابتعاد عن دين الله الحنيف والتوجه نحو الإيديولوجيات الكافرة، وهذا لن ينتهي إلا بالعودة إلى منهج الإيمان والتخلي عن تلك المناهج المضللة، والتوجه إلى القيم والشرائع القرآنية التي عرضها لنا خالق الكون لتكون لنا دستوراً. وبالنظر إلى حالة العالم المتردية والتي تسير به نحو هاوية الفساد والدمار، هناك واجب لا بد من أدائه وإلا... قد لا نصل في الوقت المناسب.
لا نبالغ إذا قلنا: إن مجموعة هارون يحيى قد أخذت على عاتقها هذا الدور القائد، وبعون الله ستكون هذه الكتب الوسيلة التي ستحقق شعوب القرن العشرين من خلالها السلام والعدل والسعادة التي وعد بها القرآن الكريم.(1/4)
تتضمن أعمال الكاتب: النظام الماسوني الجديد، اليهودية والماسونية، الكوارث التي جرتها الداروينية على العالم، الشيوعية عند الأمبوش، الإيديولوجية الدموية للداروينية: الفاشية، الإسلام يرفض الإرهاب، اليد الخفية في البوسنة، وراء حوادث الإرهاب، وراء حوادث الهولوكوست، قيَم القرآن، الموضوعات 1-2-،3 سلاح الشيطان: الرومانسية حقائق 1-،2 الغرب يتجه إلى الله، خدعة التطور، أكاذيب التطور، ، الأمم البائدة، لأولي الألباب، انهيار نظرية التطور في عشرين سؤالاً، إجابات دقيقة على التطوريين، النبي موسى، النبي يوسف، العصر الذهبي، إعجاز الله في الألوان، العظمة في كل مكان، حقيقة حياة هذا العالم، القرآن طريق العلم، التصميم في الطبيعة، بذل النفس ونماذج رائعة من السلوك في عالم الحيوان، السرمدية قد بدأت فعلاً، ، خلق الكون، لا تتجاهل، الخلود وحقيقة القدر، معجزة الذرة، المعجزة في الخلية، معجزة الجهاز المناعي، المعجزة في العين، معجزة الخلق في النباتات، المعجزة في العنكبوت، المعجزة في البعوضة، المعجزة في نحل العسل، المعجزة في النملة، الأصل الحقيقي للحياة، الشعور في الخلية، سلسلة من المعجزات، بالعقل يُعرف الله، المعجزة الخضراء في التركيب الضوئي، المعجزة في البروتين، أسرار DNA .
وكتب الكاتب للأطفال: أيها الأطفال كذب داروين!، عالم الحيوان، عظمة السماوات، عالم أصدقائك الصغار، النمل، النحل يبني خليته بإتقان، بناة الجسر المهرة: القنادس.(1/5)
وتتضمن أعمال الكاتب الأخرى التي تتناول موضوعات قرآنية: المفاهيم الأساسية في القرآن، القِيَم الأخلاقية في القرآن، فهم سريع للإيمان 1-2-،3 هجر مجتمع الجاهلية، المأوى الحقيقي للمؤمنين: الجنة، القيم الروحانية في القرآن، علوم القرآن، الهجرة في سبيل الله، شخصية المنافقين في القرآن، أسرار المنافق، أسماء الله، تبليغ الرسالة والمجادلة في القرآن، المفاهيم الأساسية في القرآن، إجابات من القرآن، بعث النار، معركة الرسل، عدو الإنسان المُعلن: الشيطان، الوثنية، دين الجاهل، تكبر الشيطان، الصلاة في القرآن، أهمية الوعي في القرآن، يوم البعث، لا تنس أبداً، أحكام القرآن المنسية، شخصية الإنسان في مجتمع الجاهلية، أهمية الصبر في القرآن، معارف عامة من القرآن، حجج الكفر الواهية، الإيمان المتكامل، قبل أن تتوب، تقول رسلنا، رحمة المؤمنين، خشية الله، كابوس الكفر، النبي عيسى آتٍ، الجمال في الحياة في القرآن، مجموعة من جماليات الله 1-2-،3 مدرسة يوسف، الافتراءات التي تعرض لها الإسلام عبر التاريخ، أهمية اتباع كلام الله، لماذا تخدع نفسك، كيف يفسر الكون القرآن، بعض أسرار القرآن، الله يتجلى في كل مكان، الصبر والعدل في القرآن، أولئك الذين يستمعون إلى القرآن.
المحتويات
المدخل
8
المنطقية في سلوك الحيوانات إحدى المعضلات التي
واجهتها نظرية التطور
12
تضحية الكائنات الحية داخل العائلة الواحدة
40
التعاون والتكافل بين الكائنات الحية
112
الخاتمة
138
خطأ نظرية التطور
142
المدخل
مع اقتراب القرن الواحد والعشرين فقدت نظرية التطور لتشارلز داروين مصداقيتها وإن كانت قد احتضنت من طرف بعض المؤمنين بالفكر المادي في بدايات القرن المنصرم، حيث عمل هؤلاء على نشر مقولاتها، كما اجتهدوا في إثبات صحة فرضيتها كونها حقيقة علمية ثابتة.(1/6)
وفي جو التطور الكبير الذي طرأ على بعض فروع العلم ذات الصلة بهذه المسألة كعلم الأحياء المجهرية، والكيمياء الحيوية، وعلم المتحجرات وغيرها بدأ ضباب الشك ينجلي، واتضح إفلاس فكر أصحابها وتبين حقيقة لا وهماً أن الحياة لم تنشأ - كما روّج لها - بالمصادفة ولم تتطور خطوة خطوة، بل ثبتت استحالة تبني هذه الفكرة أصلاً (للمزيد من التوضيح يرجى الاطلاع على فصل ‘’خطأ نظرية التطور’’) وعجزت هذه النظرية عن إيراد الأدلة العلمية المقنعة بشأن أصل الأنواع الحية. كما لم تستطع الإجابة على التساؤلات الواردة بشأن الخصائص المتميزة لبعض الكائنات مما جعل المنادين بها في مأزق حقيقي. لذا جاء هذا الكتاب لشرح وتحليل ظاهرة التضحية لدى الكائنات الحية ‘’كإحدى أهم المميزات الخاصة بها باعتبار أنه ليس من الصعب ملاحظة هذه الظاهرة في عالم الأحياء باستمرار إضافة إلى التكافل والتعاون والرأفة في العلاقات الرابطة بينها.
كل ذلك جعل النظرية وجهاً لوجه أمام تساؤلات أهمها:
كيف يمكن لنا تفسير العلاقات التي تربط هذه الكائنات وتدفعها للقيام بمثل هذه الأعمال التي تنضح منها روح الحب والرحمة والأيثار؟
ولو افترضنا جدلاً أن نظرية داروين فسرت التطور الجسدي الذي طرأ على الكائنات فكيف بها أن تفسر لنا الجانب غير المادي المتمثل في فهم العلاقات الروحية (إن صح هذا التعبير) فيما بينها؟(1/7)
لقد أسس داروين نظريته على مفهوم الانتخاب الطبيعي هذا من ناحية، وهو مفهوم لا يعتمد أساساً على تحليل أو نقد موضوعيين، أما الناحية الثانية فقد ارتكز على مبدأ أن أصل الأنواع الحية على وجه البسيطة واحد، أما الاختلافات الطارئة على هذه الكائنات إنما كانت نتاج اختلاف الظروف الطبيعية التي يعيش في إطارها كل من هذه الأحياء فمنها من بقي على قيد الحياة حيث أبدى تكيفاً مع محيطه فاستمر وتطور، ومنها من عجز على الاستمرار فمات وانقرض. ومن هنا فإن هذا الكائن الذي حافظ على كيانه وبقائه يعتبر من منظور داروين هو الأقوى.
فالطبيعة على ضوء هذه الفرضيات يمكن تعريفها استناداً لما جاء في مقولة جوليان هكسلي أحد الأصدقاء المقربين من داروين والمدافعين بشدة عن نظريته بما يلي:
‘’هي حلبة يتم فيها انتقاء الأقوى والأصلح من الأضعف والفاشل، ولا مناص من هذا الانتقاء’’(1)
ولكن هل حقاً أن الطبيعة حلبة صراع يتم فيها النصر للأقوى والأصلح على حساب سحق الأضعف بمنتهى القسوة والأنانية ليمثل شكلاً من أشكال الحياة؟
ويمكن الإجابة على هذا السؤال عبر ملاحظة أشكال الحياة حيث من الطبيعي أن تقوم الكائنات ببذل جهد كاف للعيش، كالصيد والدفاع عن النفس، كالاستعداد والتخفي...
لكن المسرح الطبيعي للأحياء لا يتألف من هذين المشهدين فقط بل يمكن ملاحظة مشاهد تنطق بأنبل أنواع التضحية تقوم بها الحيوانات لصالح أفراخها وجماعاتها أو حتى تجاه حيوانات أو أنواع أخرى.
يضاف إلى ذلك التكافل والتعاون لإنقاذ أحد الحيوانات المنكوبة يعد من المميزات السلوكية التي يمكن معاينتها على الأرض.
وهذه المميزات السلوكية عجزت نظرية التطور عن شرحها وبيان أسباب حدوثها، وثبت أن الطبيعة ليست ساحة حرب كما يدعي البعض وأن الحياة أثبتت إفلاس نظرية التطور وعجزها كلياً، والأمثلة على ذلك كثيرة.(1/8)
فمثلاً: لماذا يقوم الحمار الوحشي (زيبرا) بالهرب في اتجاه بعيد عن القطيع مضحياً بنفسه في سبيل إنقاذ البقية حيث تتم مطاردته منعزلاً وبالتالي يتمكن البقية من الهرب.
فهل تستطيع نظرية داروين أن تجد تفسيراً لذلك؟
كذلك السلوك الغريب لسمكة ‘’أتارينا’’ كما سترى في الفصول القادمة فهي تعرض حياتها للخطر في خروجها من الماء إلى السواحل الرملية لوضع بيوضها ومع ذلك فإن قانون الانتخاب الطبيعي لم يستطع إزالتها من الوجود.
وفي الصفحات القادمة ستجدون ما يجعلكم تشعرون بالحيرة والدهشة إزاء كائنات حيوانيّة غير عاقلة. والإنسان اللبيب والمنصف وحده الذي يستطيع أن يرجع أصل هذه السلوكيات المتميزة إلى هدي الله الخلاق العليم والمتصرّف وحده في خلقه يبرز ذلك في قوله عزَّ وجلَّ: {وَاخْتِلاَفِ الليلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَومٍ يَعقِلُونَ }. سورة الجاثية، الآية 4
المنطقية في سلوك الحيوانات إحدى المعضلات التي
واجهتها نظرية التطور
من المعروف أن الإنسان هو الكائن الحي الوحيد الذي تحكمه العقلانية والمنطقية في السلوك، فبالإضافة إلى مميزاته البدنية فإن الميزة الفريدة التي جعلته في صعيد مختلف عن باقي الكائنات الحية هي العقل والمنطق، وعلى ضوء ذلك فإن الإنسان يتميز بمحاسبة النفس والتفكير والتخطيط واستشراف المستقبل فضلاً عن رد الفعل تجاه الأحداث الحاصلة كذلك السير نحو هدف معين. كل هذه الصفات السلوكية خاصة بالإنسان. أما الكائنات الحية الأخرى الموجودة فلا تملك هذه الصفات، لهذا السبب لا يمكن لنا أن ننتظر من الحيوانات أنماطاً سلوكية مشابهة للإنسان كالتخطيط والتقدير أو القيام ببعض الحسابات كالتي يقوم بها بعض المهندسين.
إذن، فكيف لنا أن نجيب عن بعض الظواهر السلوكية المنطقية في الطبيعة؟(1/9)
إن بعض الحيوانات التي تتصف بهذه السلوكيات المنطقية لا تملك مخاً أصلاً، وقبل الإجابة عن هذا السؤال لا بد من الإطلاع عن كثب على بعض هذه السلوكيات لمعرفة كنهها ومنشئها.
القندس مهندس السدود
يعتبر هذا الحيوان مهندساً بارعاً وبناء ماهراً في الوقت نفسه حيث ينشئ عشه بمهارة فائقة وبالمهارة نفسها ينشئ سداً منيعاً لتهدئة سرعة المياه الجارية وحماية عشه منها، وهو يبذل جهداً خارقاً وعلى مدى عدة مراحل لإنجاز هذا العمل المرهق. ففي المرحلة الأولى يقوم بتجميع كم هائل من أغصان الأشجار ليستخدمها في غذائه وفي بناء عشه والسد الذي أمامه، ولهذا يقوم هذا الحيوان بقرض الأشجار المتوفرة لقطعها وأثبتت الأبحاث العلمية أنه يقوم بحسابات دقيقة عند عملية القطع. كما يفضل العمل على ضفة المياه التي تهب عليها الرياح حتى تساعده المياه في جلب تلك الأغصان باتجاه عشه.
ويتميز عش هذا الحيوان بتخطيط بارع ومفصل إذ يحتوي على مدخلين سفليين تحت سطح الماء وغرفة خاصة أعلى من مستوى الماء للتغذية وفوقها غرفة خاصة للنوم إضافة إلى قناة خاصة للتهوية. ويقوم القندس بتجميع الأغصان واحداً فوق الآخر لتشكيل الهيكل الخارجي للعش بعناية كبيرة مستخدماً أعواداً صغيرة مع كمية من الطين حيث لا يترك فيه أية فجوة أو ثقب.
أما المواد التي يستخدمها القندس في بناء عشه فهي تساعد على تماسكه من جهة والحفاظ على درجة الحرارة داخله من جهة أخرى، فبالرغم من انخفاض درجة الحرارة في الشتاء إلى 35 درجة تحت الصفر فإن الحرارة داخل العش تبقى فوق الصفر باستمرار، ويقوم القندس أيضاً بإنشاء مخزن للأغذية تحت العش يتغذى منه طوال فصل الشتاء. وفي تلك الأثناء يقوم القندس بإنشاء قنوات تحتية على شكل شبكة، ويبلغ طول هذه القنوات مترين يستطيع بواسطتها أن يصل إلى اليابسة حيث توجد الأشجار التي يتغذى عليها.(1/10)
والسدود التي يبنيها تتألف من النباتات والأحجار التي يركمها فوق بعضها البعض بنفس الطريقة التي يبني بها العش. ويبذل هذا الحيوان جهده في رص الأغصان على شكل مثلث طويل يربط بين ضفتي المياه إضافة إلى رتق الفجوات الموجودة في السد عبر ملئها بالمواد اللازمة، وكلّ هذا يحدث وهو يسبح ضد تيار الماء ويمتطي كومة عشه في الوقت نفسه. وعند حدوث أية فجوة أو خلل في بناء السد يقوم القندس باستخدام الطين أو أغصان الأشجار لملئه ثانية، وهكذا يتحول السد إلى نوع من الحوض العميق يستطيع من خلاله أن يجعل من عشه مخبأً كبيراً للأغذية والمؤونة تساعده على الحياة طوال فصل الشتاء، ويستطيع القندس أن يوسع من المساحة المائية داخل العش لنقل أكبر كمية ممكنة من الغذاء والمواد اللازمة لبناء العش وترميمه حتى أن هذا الأسلوب يجعل العش في مأمن من الأعداء، وفي هذا يشبه عش القندس قلعة محاطة بخنادق الدفاع يصعب الهجوم عليها.(2)
وفي ما تقدم لخصنا سلوك هذا الحيوان كمثال على العقلانية والتخطيط والحساب الدقيق في كل مرحلة من المراحل ولكن لا يمكن لي أن أرجع هذه الصفات إلى القندس وحده بسبب افتقاده للعقل أو أي شيء يمت بصلة إلى العقل، إذن فما مصدر سلوك الحيوان هذا؟ لا بد من وجود إجابة عن هذا السؤال، وإذا كان هذا السلوك ليس من اكتساب القندس فما مصدر هذا السلوك؟
لا شك أن مصدر سلوك القندس أو الأمثلة الأخرى التي سنراها في الصفحات القادمة من سلوك الحيوانات المختلفة على هذا الشكل المتميز وفق تخطيط مدروس هو الله القادر على كلّ شيء الذي لا حدّ لقدرته وعلمه فهو الذي يلهم هذه الكائنات الحية ويهديها سبلها فتبارك الله أحسن الخالقين.
دودة الإمبراطور التي تعمل وفق مخطط متعدد المراحل(1/11)
من المؤكد أن القندس ليس الحيوان الوحيد الذي يبدي سلوكاً مخططاً مدروساً، فهناك العديد من الأمثلة الحية والتي لا يمكن حصرها، والحيوان الآتي يعتبر أصغر بكثير من القندس ولا ينتظر منه أي دليل على سلوك عقلي أو ما يؤكد وجود عقل أو ذكاء في بنيته، هذا الحيوان يدعى دودة القز التي تفرز يرقتها خيوط الحرير. وكباقي أنواع اليرقات فإنها تقضي فترة من فترات حياتها داخل شرنقة وعند خروجها من الشرنقة تقوم بإخفاء نفسها داخل ورقة نباتية، وعملية الاختفاء تتم بمنتهى الإحكام وفق مخطط مدروس مسبقاً وعبر مراحل تتطلب خبرة وقدرة فائقة لصعوبة طي الورقة الخضراء وبالتالي لا يمكن لها أن تخفي جسم الحيوان الصغير بسهولة لذا وجب إيجاد حل لهذه المشكلة.
لذا فقد استطاعت أن تجد حلاً بسيطاً لكنه يفي بالغرض إلى أبعد حد حيث يقوم الحيوان بقرض جزء الورقة المتصل بالنبات لقطعها، ولمنع سقوطها يقوم بربطها بشكل محكم عبر إفراز خيوط الحرير ثم تبدأ الورقة بالتيبس وتنكمش الورقة اليابسة حول نفسها، وبعد ساعات تأخذ الورقة شكلها النّهائي كأنبوب يصلح أن يكون مخبأً أميناً لها وسرعان ما تلجه متخذة إياه مسكناً لها.(1/12)
للوهلة الأولى يمكن أن يفكّر المرء بأنّ الحيوان قد خطا هذه الخطوة المنطقية لتوفير مخبأ أمين لنفسه وهذا صحيح ولكن بدخول الحيوان داخل الورقة المتيبسة قد يصبح صيداً سهلاً للطيور لأنّ اللون المختلف لهذه الورقة يجلب انتباهها، وهذا يعني نهاية الحيوان المختبئ داخلها. وفي هذه الخطوة بالذات تقدم الدودة على اختراع جديد بواسطته تنقذ نفسها من مخالب الطيور، إذ تقوم بإجراء عملية حسابية دقيقة كالذي يقوم بها أخصائيو الرياضيات. استناداً إلى مبدأ الاحتمالات، لأن الدودة تقوم بالعمل نفسه في أوراق نباتية أخرى وتقوم ربط هذه الأوراق حول الورقة التي تختبئ داخلها كنوع من أنواع التمويه ضد الأعداء وهكذا يصبح على غصن واحد أكثر من ورقة (6 - 7) واحدة منها فقط تحوي الدودة المختبئة والباقية خالية تماماً، وإذا حدث وتناول أحد الطيور هذه الأوراق فيصبح احتمال وقوع الدودة كفريسة 6/1. (3)
كل هذه الظواهر السلوكية تعتمد على منطق معين بلا شك ولكن هل يمكن لهذه الدودة التي تحتوي على مخ مجهري وجهاز عصبي بسيط أن تقوم بهذه الأعمال العقلانية والمنطقية والمخطط لها مسبقاً من تلقاء نفسها؟ وكما هو معلوم فلا حظ لهذه الدودة من التفكير. ومن الاستحالة أن تكون قد تعلمت من دودة أخرى، وفي الحقيقة فإن هذه الدودة لا تعلم بالخطر الذي يتهددها في المستقبل، إذن فكيف اهتدت إلى فكرة التمويه؟
ولو وجهتم هذا السؤال إلى أحد أصحاب نظرية التطور فلا يستطيع أن يجيب إجابة مقنعة ومحددة، وفي غالب الأحيان يلجاؤن إلى مفهوم واحد وهو الغريزة حيث يفسر هؤلاء طريقة سلوك الحيوانات بالغريزة، وفي هذه الحالة أول سؤال يتبادر إلى ذهننا هو عن تعريف الغريزة، حيث نستطيع أن نقول أنها آلية معينة تجعل الدودة مثلاً تخفي نفسها داخل ورقة نباتية أو تجعل القندس يبني عشه وسده بهذه الكيفية وهذه الآلية أو القوة الدافعة ينبغي أن توجد في مكان ما داخل جسم الحيوان.
ما الغريزة؟(1/13)
كلمة الغريزة تستخدم من قبل دعاة نظرية التطور لتفسير قابلية الحيوان على القيام بسلوك معين منذ الولادة. وكانت هناك تساؤلات عديدة تدور حول كيفية اكتساب الحيوانات لهذه الغريزة وعن كيفية ظهور أول سلوك غريزي لدى الحيوانات وكذلك عن كيفية انتقال هذه الغريزة كابرا عن كابر.
كل هذه التساؤلات باقية بدون رد أو جواب.
هناك أخصائي في علم الجينات وأحد دعاة نظرية التطور ويدعى Gordon Rattray Taylor
فقد ذكر في كتابه ‘’The Great Evolution Mystery لغز التطور العظيم’’ اعترافاً بعجز النظرية عن الإجابة عن التساؤلات الخاصة بالغريزة كما يلي:
لو تسائلنا عن كيفية ظهور أول سلوك غريزي وعن كيفية توارث هذا السلوك الغريزي لما وجدنا أية إجابة (4).
وهناك آخرون على شاكلة ‘’Gordon Taylor’’ يؤمنون بنظرية التطور لا يودون الاعتراف بهذه الحقيقة وبدلاً من ذلك يحاولون التمسك بإجابة غامضة ولا تحمل أية معني حقيقية. وبالنسبة لرأي هؤلاء فإن الغرائز تعتبر جينات موجودة لدى الحيوانات تظهر على شكل أنماط سلوكية، واستناداً إلى هذا التعريف يقوم نحل العسل ببناء الخلية على الشكل المنتظم المعروف بوحدات بنائية هندسية سداسية وفق الغريزة الحيوانية وبمعنى آخر يوجد جين خاص في أجسام كل أنواع نحل العسل يجعل هذه الأنواع تبني خلاياها غريزياً وفق الشكل المعروف.
وفي هذه الحالة يطرح الإنسان العاقل المفكر سؤاله المنطقي: لو كانت الكائنات الحية مبرمجة على أن تسلك هذا السلوك المعين فمن الذي برمج هذا السلوك؟ إذ لا يوجد أي برنامج مبرمج من تلقاء نفسه ولا بد من مبرمج.(1/14)
ودعاة نظرية التطور لم يجدوا إجابة محددة لهذا السؤال واستخدموا أسلوباً آخر للمناورة حيث يؤكدون على اكتساب الكائنات الحية لهذه الغريزة عن طريق الطبيعة الأم وكما نعلم فإن الطبيعة تتألف من الحجر والتراب والأشجار والنباتات..الخ. فاي هذه العناصر لها القدرة على إكساب الكائنات الحية هذا السلوك المبرمج؟ أي جزء من الطبيعة لديه القدرة والعقل على فعل ذلك؟ كل ما نراه في الطبيعة مخلوق ولا يمكن له أن يكون خالقاً، ولا يمكن للإنسان العاقل أن يقول وهو يرى لوحة زيتية جميلة ما أحلى الأصباغ التي رسمت هذه اللوحة، بلا شك يكون هذا الكلام غير منطقي. إذن فإن ادعاء كون المخلوق خالقاً للأشياء هو بلا شك ادعاء غير منطقي. وهنا تظهر لنا حقيقة واضحة وهي عدم اكتساب هذه الكائنات الحية غير العاقلة لهذه الميزات السلوكية المنطقية من تلقاء نفسها، فهذه الميزات مكتسبة بالولادة إذن فإن هناك من خلقها بهذه الكيفية ويتميز صاحب هذا الإبداع بالعلم والعقل اللامتناهيين الذين نرى أثرهما في الطبيعة.
فليس هناك من هو أقدر على تسيير هذا الخلق وتنظيم هديه غير الله سبحانه وتعالى. لذا ذكر الله سبحانه معجزة العسل في كتابه العزيز كمثال على إلهامه الكائنات الحية لاتباع سلوك معين، أي أن الغريزة التي يرددها دعاة نظرية التطور أو كما يقولون:
إن الحيوانات مبرمجة على آداء سلوك معين ما هي إلا إلهام إلهي لهذه الكائنات الحية، وهذه الحقيقة ذكرت في القرآن الكريم:
{ وَأَوحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِى سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُختَلِفٌ أَلوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ } سورة النحل الآية 68 - 69(1/15)
ودعاة نظرية التطور يغمضون أعينهم أمام هذه الحقيقة لإنكار الوجود الإلهي، وهم بالتأكيد قد رأوا ومازالوا يرون الأنماط السلوكية للحيوانات ومازالوا يبحثون عن تفسير لها ويعلمون يقيناً عدم قدرة نظرية التطور على تفسيرها تفسيراً منطقياً. وكثيراً ما نجد عبارات وجملاً مألوفة عند قراءتنا لمؤلفين من دعاة هذه النظرية ومن هذه العبارات: ‘’لإنجاز هذا العمل لا بد من وجود عقل ذي مستوى عال ولكون الحيوانات لا تملك مثل هذا العقل فإن العلم يعجز عن الإجابة عن هذا السؤال’’.
ونورد المثال الآتي المتعلق بسلوك دودة القز على لسان أحد دعاة نظرية التطور المعروفين ويدعى Hoimar Von Dithfurth هيرمان فون ديثفورت حيث يقول:
إن فكرة اتخاذ الأوراق الثابتة المتعددة كوسيلة للتمويه فكرة باهرة، ترى من يكون صاحب هذه الفكرة؟ من صاحب هذه الفكرة الذكية التي تقلل من احتمال عثور الطير على الفريسة التي يبحث عنها؟ ولا بد للدودة أن تكون قد تعلمت بالوراثة من صاحب هذه الفكرة الذكية... كل هذه الظواهر لا بد أن تتوفر لدى إنسان ذكي للغاية يحاول أن يظل على قيد الحياة ولا بد لنا أن نقبل بهذه الحقيقة، علماً أن لدودة القز جهازاً عصبياً بسيطاً للغاية فضلاً عن بدائية سلوكها الحياتي، وتفتقر هذه الدودة إلى القدرة على قابلية تحديد هدف معين والتحرك باتجاه هذا الهدف.(1/16)
ولكن كيف يتسنى لهذه الدودة أن تخترع هذه الوسيلة للدفاع عن نفسها وهي بهذا الضعف من التكوين؟ وعندما جابه علماء الطبيعة الأقدمون مثل هذه الظواهر لم يجدوا لها تفسيراً إلا بالمعجزة أي تبنوا فكرة وجود قوة غير طبيعية خلاقة أي أنهم آمنوا بوجود الله الذي يعطي مخلوقاته آليات معينة للدفاع عن النفس. وبالنسبة إلى هذه الطريقة في التفكير تعتبر بمثابة انتحار لعالم أو باحث في الطبيعة، ومن جانب آخر يقوم العلم الحديث بتفسير هذه الظواهر تفسيراً خالياً من أي معنى عبر التمسك بمفهوم الغريزة، لأنه على عكس ما يعتقده أغلبنا فإن تفسير السلوك بالغريزة يعني اكتساب الحيوان لهذه الأنماط السلوكية بالولادة، وهذا التفسير لا يقدم ولا يؤخر في تساؤلنا بل يعيق بحثنا عن إجابة محدودة وواضحة، ولا يمكن الحديث عن السلوك العقلاني لدودة القز التي تفتقد وجود مثل هذا العقل.
ومرة أخرى نعود إلى الحديث حول السلوك المعين للحيوانات فإن هناك ما يفرض نفسه أمام أعيننا وهو الترتيب العقلاني لهذه الأنماط السلوكية، ولو لم يكن هذا السلوك المعين مثل تحديد الهدف أو التحسب للمستقبل أو توقع ما يمكن أن يقدم عليه أي حيوان آخر وحساب رد الفعل اللازم إبداءه تجاهه كعلامة على وجود عقل مدبر ومفكر، فإذن ما هو تفسير هذا السلوك؟ (5)
هذا الكلام يقوله هذا المتبني لنظرية التطور وهو يحلل أو يحاول أن يصل إلى تحليل منطقي لسلوك دودة القز، هذا السلوك العقلاني المدروس، لا نجد في مثل هذه الكتب والإصدارات إلا أسئلة بدون ردود واضحة، أو تناقضات فكرية لا تؤدي إلا إلى طريق مسدود. حتى صاحب النظرية تشارلز داروين نفسه قد اعترف بهذه الحقيقة فذكر أن سلوك الحيوانات وغرائزها تشكل تهديداً واضحاً لصحة نظريته وذكر ذلك في كتابه ‘’أصل الأنواع’’ عدة مرات وبصورة واضحة لا لبس فيها:(1/17)
‘’أغلب الغرائز تمتاز بتأثير بالغ وتثير درجة كبيرة من الحيرة، وكيفية نشوئها وتطورها ربما تبدو لقارئ نظريتي كافية لهدم نظريتي من الأساس’’ (6).
أما نجل تشارلز داروين المدعو فرانسيس داروين فقد قام بتحليل وشرح رسائل أبيه في كتاب أسماه ‘’حياة ورسائل تشارلز داروين The Life And Letters Of Darwin وذكر
مدى الصعوبات التي واجهها داروين في تفسيره للغرائز قائلاً في الكتاب (يعني أصل الأنواع) وفي الباب الثالث منه يتحدث في القسم الأول عن العادات الحيوانية والغرائز والاختلاف الحاصل فيها. والسبب في إدخال هذا الموضوع في بداية الباب تشريد فكر القراء عن إمكانية رفضهم لفكرة تطور الغرائز بالانتخاب الطبيعي، ويعتبر باب الغرائز من أصعب المواضيع التي احتواها كتاب ‘’أصل الأنواع’’ (7).
لا يمكن للغرائز أن تتطور
إن دعاة نظرية التطور يجادلون بكون أغلب سلوك الحيوانات نتيجة للغريزة، ولكن كما أسلفنا القول في الصفحات السابقة لا يستطيعون إيراد تفسير مقبول عن كيفية نشوء الغرائز ولا عن كيفية ظهور الغريزة لأول مرة ولا عن كيفية اكتساب الحيوانات لها، ولو حوصر أحدهم بالأسئلة لتعلق بالإدعاء التالي:’’تكتسب الحيوانات أنماطاً سلوكية عن طريق التجربة ويتم انتقاء الأقوى بواسطة الانتخاب الطبيعي. وفي مرحلة لاحقة يتم توارث هذه الأنماط السلوكية الناجحة عبر الأجيال المتعاقبة’’.
وهناك أخطاء منطقية لا يمكن أن يقبلها العقل في هذا الإدعاء، دعونا نتفحص هذه الأخطاء بالتسلسل:
- 1الأخطاء الكامنة في مقولة: اختيار السلوكيات المفيدة عبر الانتخاب الطبيعي:
إن الانتخاب الطبيعي يعتبر الحجر الأساس لنظرية ‘’تشارلز داروين’’ الخاصة بالتطور. والانتخاب الطبيعي يعني اختيار أي تغيير مفيد وصالح للكائن الحي (قد يكون هذا التغيير هيكلياً أو سلوكياً) واختيار ذلك الكائن الحي لتوريث ذلك التغيير للأجيال اللاحقة.(1/18)
وهناك نقطة مهمة في هذا الادعاء يجب أن لا نغفل عنها وهي: كون الطبيعة حسب ادعاء داروين تعتبر المحك لتمييز المفيد من الضار وهي القوة المؤثرة والعاقلة في الوجود ولكن لا يوجد في الطبيعة ما يميز بين الضار والمفيد كقوة مؤثرة حيث لا يوجد بين الحيوانات أو غير الحيوانات من يملك قرار ذلك أو القابلية على اتخاذ هذا القرار، فقط من خلق الطبيعة وما تحتويه وخلق كل شيء يملك العقل والمنطق والقدرة على تمييز الضار من المفيد.
في الحقيقة يعترف داروين نفسه باستحالة اكتساب السلوكيات المفيدة عن طريق الانتخاب الطبيعي إلا أنه يعود ويدافع عن وجهة نظره التي هي محض خيال واستمر في الدفاع عن رأيه بالرغم من كونها هرطقة وغير منطقية حيث يقول:
في النهاية يمكن اعتبار الغرائز التي تجعل زغلول الحمام يطرد إخوانه غير الأشقاء من العش، وتجعل مملكة النحل مقسمة إلى خدم وملكة ليست غرائز موهوبة أو مخلوقة بل تفاصيل حية وصغيرة لدستور عام لعالم الأحياء وهذه التفاصيل الصغيرة تتولى مهمة التكثير والتغيير عبر انتقاء الأصلح من الأضعف. ولكن هذا الاعتبار لا يبدو لي منطقياً ولكنه قريب إلى الأفكار التي تدور في مخيلتي (8).
ويعترف داعية آخر لنظرية التطور وهذه المرة في تركيا وهو البروفيسور جمال يلدرم بأن عاطفة الأمومة لدى الأم لا يمكن تفسيرها بواسطة الانتخاب الطبيعي ويقول بهذا الصدد:
هل توجد إمكانية لتفسير عاطفة الأمومة تجاه الأبناء بواسطة نظام أعمى يفتقد إلى مشاعر روحية مثل نظام الانتخاب الطبيعي؟ وبلا شك فقد علماء الأحياء ومنهم مؤيدو داروين في إيراد جواب مقنع لهذا السؤال(9).(1/19)
وهنالك صفات معنوية لدى الكائنات الحية غير العاقلة وبما أنها لا تستطيع أن تكتسب هذه الصفات بإرادتها فإذن يجب أن يكون هناك من منحها هذه الصفات، وحيث أن الطبيعة وقانون الانتخاب الطبيعي عاجزان عن إكساب الأحياء هذه الطبيعة المعنوية بسبب كونهما يفتقدان للصفات المعنوية، والحقيقة الساطعة كالشمس تتمثل في وجود كافة الأحياء تحت العناية الإلهية وتدبيره المحكم، ولهذه الأسباب المتقدمة نستطيع أن نشاهد في الطبيعة أنماطاً سلوكية لبعض الحيوانات تثير الحيرة والاستغراب وتجعلنا نتساءل: كيف تسنى لهذا الحيوان الاهتداء إلى هذا السلوك؟ وكيف يستطيع هذا الحيوان أو ذاك التفكير بهذه الطريقة؟
-2 الأوهام حول زعم توارث التصرفات المفيدة عبر الانتخاب الطبيعي:
الخطوة الثانية لمؤيدي داروين هي ادعاؤهم بأن السلوكيات المفيدة والمنتخبة عبر الانتخاب الطبيعي يتم توارثها عبر الأجيال وهذا الإدعاء ضعيف وهش للغاية من مختلف الوجوه. قبل كل شيء فإن أي سلوك جديد يكتسبه الحيوان عن طريق التجربة لا يمكن توريثه لجيل لاحق بأي حال من الأحوال لأن التجربة المكتسبة تخص ذاك الجيل وحده ولا يمكن إدخال هذه التجربة السلوكية الجديدة المكتسبة في البناء الجيني للحيوان إطلاقاً.
ويقول Gordon R.Taylor مبدياً رأيه المناهض لرأي أولئك الذين يدعون توارث الأنماط السلوكية عبر الأجيال المتعاقبة بما يلي:(1/20)
يدعي علماء الأحياء بأن هناك إمكانية لتوارث الأنماط السلوكية عبر الأجيال المتعاقبة ويمكن مشاهدة هذه الظاهرة في الطبيعة فمثلاً Dobzhansky يدعي بأن جميع وظائف جسم الكائن الحي ما هي إلا نتاج التوارث الناتج بتأثير العناصر والعوامل المتوفرة في المحيط الخارجي، وفي هذه الحالة يكون الأمر مقبولاً بصورته النهائية بالنسبة لجميع أنواع الأنماط السلوكية، ولكن هذا غير صحيح بالمرة ويعتبر من الأمور المؤسفة أن يقوم عالم له مكانته مثل Dobzhansky بمثل هذا الدفاع الدوغمائي، صحيح أن هنالك بعض الأنماط السلوكية لبعض الأحياء يتم توارثها عبر الأجيال اللاحقة ولكن من المستحيل تعميم الأمر على جميع الأنماط السلوكية.
والحقيقة الظاهرة للعيان عدم وجود أي دليل علمي يمكن بواسطته إثبات توارث بعض الأنماط السلوكية بواسطة الخريطة الجينية للكائن الحي والمعروف أن الجينات مسؤولة فقط عن بناء البروتينات حيث يتم بناؤها أكثر من إفراز بعض الهرمونات لتتم السيطرة على سلوك الكائن الحي (بصورة عامة) وعلى سبيل المثال أن يكون الحيوان نشيطاً أو بالعكس خاملاً أو أن يكون الوليد أكثر ارتباطاً بأمه، ولكن لا يوجد أي دليل يثبت توارث السلوك الخاص الذي يجعل الحيوان يبني عشه بالترتيب والتزامن والانتظام المعروف.
ولو كان الأمر كذلك فإذن ما هي الوحدات الوراثية المسؤولة عن عملية التوريث؟ لأن هناك من يفترض وجودها، ولم يستطع أحد الإجابة عن هذا السؤال (10).
وكما ذكر Gordon R.Taylor فإن الادعاء بكون الأنماط السلوكية المعقدة قابلة للتوارث أمر غير مقبول علمياً، فبناء الطيور لأعشاشها وإنشاء القندس للسدود وإفراز عاملات نحل العسل للشمع يقتضي وجود نوع من الأنماط السلوكية المعقدة كالتصميم والتخطيط للمستقبل وهذه لا يمكن توارثها عبر الأجيال وهناك مثل آخر يفرض نفسه بقوة وهو المتعلق بسلوك العاملات العقيمات في مملكة النمل.(1/21)
فهذه العاملات لها سلوك خاص تتميز به يقتضي منها أن تكون على دراية تامة بالحساب وذات خبرة واسعة، ولكن هذه الأنماط السلوكية لعاملات النمل لا يمكن أن تكتسب بالتوارث لسبب وحيد كونها عقيمات ولا يمكن لها التكاثر لذا فلا تستطيع توريث هذه الأنماط السلوكية لأجيال لاحقة، وما دام الأمر كذلك ينبغي توجيه السؤال الآتي لدعاة نظرية التطور: كيف تسنى لأول نملة عاملة عقيمة أن تورث هذه الأنماط السلوكية لأجيال لاحقة من العاملات العقيمات وهي بالتأكيد لا تستطيع التكاثر؟ وما تزال هذه العاملات سواء كانت نملاً أو نحلاً أو أي حيوان آخر تعمل منذ ملايين السنين بهذا السلوك الذي يعكس مدى العقلانية والقابلية والتكافل والانتظام وتوزيع الأدوار بدقة إضافة إلى روح التضحية إلا أن هذه المخلوقات لم تستطع البتة أن تورث هذه الأنماط السلوكية منذ خلقت لأول مرة.
ولا يمكننا القول بأن هذه المخلوقات قد بذلت جهداً في اكتساب هذه الأنماط السلوكية لأنها تبدأ في اتباع هذا السلوك منذ اللحظات الأولى لوجودها على وجه الأرض بأكمل صورة. ولا تصادف في أي طور من أطوار حياتها أية مرحلة للتعليم وجميع سلوكها مكتسب بالفطرة، وهذا الأمر جائز مع جميع الكائنات الحية. إذن فمن الذي علم الكائنات الحية تلك الأنماط السلوكية؟ وهو السؤال نفسه الذي طرحه داروين قبل 150 سنة ولم يستطع دعاة نظرية التطور الإجابة عنه، وهناك تناقض عبر عنه داروين نفسه قائلاً:
‘’إنه لخطأ كبير أن نتحدث عن فرضية اكتساب الأنماط السلوكية الغريزية بالتطبع وتوريثها إلى أجيال لاحقة، لأننا كما نعلم هناك غرائز محيرة للغاية كتلك التي عند النمل أو النحل ولا يمكن البتة اكتسابها بالتطبع’’ (11).(1/22)
فلو افترضنا أن النملة العاملة أو أية حشرة أخرى قد اكتسبت جميع صفاتها المتميزة عبر الانتخاب الطبيعي وبالتدرج، أي افترضنا أنها عملية انتخاب للصفات الصالحة ثم يتمّ توريثها بعد ذلك إلى أجيال لاحقة وبصورة متعاقبة وفي كل مرة يتم انتخاب صفات مفيدة تورث إلى جيل لاحق وهكذا، لو افترضنا ذلك لأصبحت فرضيتنا مستحيلة لسبب وحيد هو عدم تشابه النملة العاملة مع أبويها إلى حد كبير إضافة إلى كونها عقيمة، ولهذا فهي لا تستطيع توريث الصفات والأنماط السلوكية الجديدة المكتسبة إلى الأجيال اللاحقة. وهنا يطرح السؤال نفسه: كيف يمكن تفسير هذه الحالة بواسطة الانتخاب الطبيعي (12).
ويعبر جمال يلدرم أحد المؤمنين بنظرية التطور عن التناقض الذي وقع فيه المتبنّون لهذه النظرية: ولنأخذ على سبيل المثال الحشرات التي تعيش على شكل مجتمعات مثل النمل والنحل، فهذه الحشرات عقيمة وليست لديها أية إمكانية لتوريث أية صفات حيوية جديدة تنقلها إلى أجيال لاحقة إلا أنها تبدي تكيفاً مدهشاً مع ظروف المحيط الذي توجد فيه وعلى أعلى المستويات. (13)
ويتضح مما تقدم من اعترافات العلماء وأقوالهم استحالة تفسير الأنماط السلوكية المحيرة لهذه الكائنات الحية بواسطة نظرية التطور لأن هذه الأنماط السلوكية لم تكتسب عبر الانتخاب الطبيعي ولا يمكن توريثها إلى أجيال لاحقة.
-3 سقوط فكرة تطور الغرائز بتطور الأحياء
تدعي نظرية التطور بأن الكائنات قد نشأت عن بعضها البعض عبر التطور. ووفقاً لهذه النظرية تكون الزواحف قد نشأت من الأسماك والطيور من الزواحف... ولكن يجب أن لا ننسى أن النوع الواحد يختلف تماماً من حيث السلوك حيث تختلف السمكة عن الزواحف اختلافاً كلياً. ويدور السؤال التالي: هل تعرض سلوك الكائن الحي إلى تطور كما تعرض بناؤه الحيوي البيولوجي إلى تطور؟(1/23)
وهذا التساؤل يعتبر أحد التناقضات والمآزق الفكرية التي وقع فيها دعاة نظرية التطور فداروين وضع إصبعه على هذا التناقض وتوصل إلى استحالة اكتساب الغرائز بالانتخاب الطبيعي وتغيرها بالتطور حيث تساءل قائلاً: هل من الممكن اكتساب الغرائز بالانتخاب الطبيعي وتطويرها وتغييرها فيما بعد؟ ماذا يمكننا القول أمام بناء نحل العسل لخليته بهذا الشكل الهندسي الذي سبق أخصّائيّي الرياضيات بزمن سحيق. ماذا يمكننا القول أمام هذه الغريزة؟ (14). وهذا التناقض يمكن إيراد الأمثلة المختلفة عليه من كافة أنواع الحيوانات كالأسماك والزواحف والطيور. فالأسماك لها صفات خاصة بها من حيث التكاثر والصيد والدفاع عن النفس فضلاً عن إنشاء منازلها بطريقتها الخاصة، وهذه الصفات الخاصة في حالة تلائم تماماً مع الوسط المائي الذي تعيش فيه. وهناك بعض الأنواع من الأسماك تقوم بلصق بيضها تحت الأحجار الموجودة في قاع البحر وبعد لصقها لبيضها تقوم برفرفة زعانفها فوقها لتتيح أكبر كمية من الأوكسجين اللازمة لتنفس الأجنة الموجودة داخل البيض. أمّا الطيور فتضع بيضها في أعشاش ذات بناء خاص تبنيها لهذا الغرض وترقد على بيضها مدة زمنية محددة لازمة لفقس البيض.(1/24)
أما التماسيح والتي تعتبر حيوانات برية فتملك سلوكاً معاكساً تماماً فتقوم بدفن بيضها تحت الرمال مدة شهرين كاملين وهي المدة اللازمة لفقسها، وهناك بعض الأسماك تقوم بوضع بيضها داخل الأحجار الموجودة في قاع البحر. ومن جانب آخر هناك بعض الحيوانات البرية تقوم ببناء مساكنها على أطراف الأشجار العليا باستخدام الأغصان وقشور الأشجار، أما الطيور فتبني أعشاشها باستخدام الأعشاب والنباتات البرية أما اللبائن التي يدعون أنها نشأت من الزواحف فتختلف من حيث التكاثر اختلافاً كليّاً عن باقي الكائنات الحية. فبينما تتكاثر باقي الحيوانات تتكاثر بالبيض تتكاثر اللبائن بأن تحمل أجنتها داخل بطونها أشهراً عديدة. وبعد أن تضع جنينها تقوم بتغذيته باللبن الذي يفرزه جسمها.
وهناك أسلوب للصيد مختلف لكلّ نوع من أنواع الأحياء، فبينما يبقى بعضها كامناً للصيد فترة طويلة يكون البعض منها متخفياً بلون المكان الموجود فيه والبعض الآخر يعتمد على السرعة والمباغتة. وكما يتضح هناك اختلاف كبير وشاسع بين الحيوانات البرية والحيوانات المائية وكلّ نوع يتميز باختلاف واضح حسب الوسط الذي يعيش فيه.(1/25)
من هذا العرض نستنتج أن التغيير في الغرائز ينبغي أن يكون مصاحباً للتطور الحاصل في الأحياء. على سبيل المثال أن تصبح السمكة التي تضع بيضها تحت أحجار قاع البحر وترفرف بزعانفها رعاية لها حيواناً بريّاً تقوده غريزته المتطورة إلى بناء أعشاش خاصة على أطراف الأشجار ويرقد على البيض مدة معينة لأجل تفقيسها. وهذا الأمر محال طبعاً، والاستحالة الأخرى في هذا الموضوع يمكن توضيحها بفرض عدم استطاعة الكائن الحي العيش نتيجة عدم ملاءمة سلوكه غير المتطور لبنيته المتطورة نتيجة تغير الوسط الذي يعيش فيه حيث لا تستطيع السمكة التي تتقن التّخفي في البحر العيش إلا بعد إيجادها وسيلة جديدة للدفاع، وبالإضافة إلى ضيق الوقت لتحقيق ذلك لأنه يجب أن تقوم بتغيير سلوكها وطريقة حياتها وبناء جسمها بصورة مستمرة وإلا فإنها معرضة للهلاك وانقراض نسلها.
ومن الواضح أنه لا يوجد حيوان غير عاقل يمتلك القابلية لاتخاذ مثل هذا القرار السريع والاستراتيجي الذي يتطلب قوى عقلية. إذاً فكيف يتم تفسير سلوك الحيوانات الملائم لبناء أجسامها وشروط الوسط الذي تعيش فيه؟لقد أدلى داروين بدلوه في هذا الخصوص في معرض رده على النقد الموجه لكتابه ‘’أصل الأنواع’’ قائلاً:
كان هناك اعتراض على فكرة أصل الأنواع مفاده أنه ينبغي أن يكون التغيير الحاصل في بناء الكائن الحي متزامناً مع التغيير في غرائزه فضلاً عن كونهما متلائمين مع بعضهما لأن أي تباين يحدث بينهما يعني الموت المحتم(15).(1/26)
يتضح مما تقدم أنه لا يمكن تفسير سلوك الحيوان بواسطة التطور عبر الزمن أو بالمصادفة أو بتأثير الطبيعة الأم. إذن فكيف اكتسبت الكائنات الحية تلك الصفات والخصائص التي تتيح لها مواصلة حياتها؟ والجواب على السؤال في غاية الدقة والوضوح. فالإنسان المطلع على طريقة معيشة الأحياء يستطيع أن يرى استحالة تشكل هذه الأنماط السلوكية من تلقاء ذاتها أو بواسطة سلسلة من المصادفات. ومصدر هذه الأنماط السلوكية لا يوجد في أجسامها ولا في المحيط الذي تعيش فيه. إذن فهناك قوة لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة تقوم بإدارة سلوك هذه الكائنات الحية، وتهيئ لها مظاهر الحياة وأسرار البقاء هو الله سبحانه وتعالى والذي وسعت رحمته كل شيء.
والنتيجة: أنّ كل الكائنات الحية تتحرك بواسطة إلهام إلهي(1/27)
كما ذكرنا في الصفحات السابقة واجه دعاة نظرية التطور إشكاليات كبيرة تتعلق بتفسير سلوك الحيوانات في حين أنّ الحقيقة واضحة جلية وهي أن كان الكائن الحي غير العاقل أن يقوم بتمييز الفروق الواضحة أو أن يقوم بالربط بين الوقائع أو اتخاذ قرار صحيح، فضلاً عن عدم قدرته على التخطيط لعدة مراحل مقبلة إلى جانب أشياء أخرى تتطلب عقلاً وتفكيراً وإدراكاً. فان هناك درة عليا خارج هذه ألاحياء تحكمها وتقودها وتلهمها هذه التصرفات ويقول دعاة التطور إنّ هذه الكائنات الحية مبرمجة على أداء هذه الأعمال، إذن من الذي وضع هذا البرنامج؟ وما هي القوة التي تجعل نحل العسل يفرز الشمع الخاص لبناء الخلية؟ والجواب واضح ودقيق، وهو استحالة تولد هذه الأنماط السلوكية من تلقاء نفسها أو محض المصادفة بل الواضح أن هناك قوة تحكم هذه الطبيعة وتديرها ولها تأثير مباشر على تلك الكائنات. وصاحب هذه القوة بلا شك هو الله الخلاق العليم. ونظرية تعجز أن تفسر كيفية خلق الكائن الحي لا بد لها أن تقف عاجزة أمام تفسير سلوكه ومصدره. لذا فإجراء الأبحاث حوله له أهمية قصوى بلا شك لأن هذه الأبحاث تثبت أنه لا يوجد كائن حيّ يعيش جزافاً أو دون ضابط، فالله سبحانه وتعالى وحده هو الذي يقوم بخلق الكائن الحي من العدم ويدبر أموره ويراقبه في كل حين وينظم له سلوكه بقدرته، ربّ السماوات والأرض وما بينهما، وهذه الحقيقة وردت في القرآن الحكيم.
{إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم }. سورة هود الآية .56
روح التضحية لدى الكائنات الحية تفنّد ادعاء داروين بأن البقاء للأقوى(1/28)
مثلما أسلفنا القول في الصفحات السابقة فإن الأمر حسب ادعاء داروين يعتمد على قانون الانتخاب الطبيعي، أي أنّ الكائنات الحية التي تستطيع أن تتكيف مع شروط الوسط الذي تعيش فيه تستطيع مواصلة حياتها والحفاظ على نسلها، وأمّا الكائنات الضعيفة التي لا تستطيع التكيف مع تلك الشروط فهي معرضة للهلاك والفناء، وبناء على هذا يكون التعريف المنطقي للطبيعة وفقاً لقانون الانتخاب الطبيعي لداروين هو المكان الذي تقوم فيه الكائنات الحية بكفاح مرير فيما بينها من أجل البقاء فيبقى القوي ويفنى الضعيف.
واستناداً إلى هذا التعريف ينبغي على كل كائن حي أن يكون قوياً ومتميزاً بالقوة عن الآخرين في سبيل الكفاح والبقاء. وفي وسط مثل هذا لا يمكن الحديث عن بعض الميزات مثل الإيثار والتضحية والتكافل، فهي قد تصبح ذات آثار سلبية على الكائن الحي نفسه. ووفقاً لهذا المنطق يجب أن يتميز الكائن الحي بمنتهى الأنانية ولا همّ له سوى البحث عن الغذاء وإنشاء البيت الذي يؤويه وحماية نفسه من خطر الأعداء.
ولكن هل صحيح أن الطبيعة هي المكان الذي يضمّ كائنات تخوض صراعاً مريراً للقضاء على بعضها البعض بمنتهى الوحشية والأنانية؟. إن الأبحاث الجارية بهذا الشأن حتى يومنا هذا قد أبطلت ادّعاءات دعاة التطور. فالطبيعة تحوي في أركانها أمثلة لا حصر لها تكشف صوراً غاية في التضحية من أجل الغير.يذكر جمال يلدرم في كتابه ‘’التطرف وقانون التطور’’.(1/29)
إن الأسباب التي جعلت داروين وغيره من رجالات العلم في عصره يصورون الطبيعة على أنها تمثل مسرحاً للحرب بين الأحياء يمكن إجمالها في النقاط التالية: كان رجال العلم في القرن التاسع عشر يقبعون في مختبراتهم أو أماكن عملهم لمدة طويلة ولا يدرسون الطبيعة ميدانياً ولهذا ذهب خيالهم ببساطة إلى الاستسلام لفكرة كون الكائنات الحية في حالة حرب صامتة فيما بينها، وعالم فذ مثل هالي Haley لم يستطع إنقاذ نفسه من براثن هذا الوهم (16).
أما العالم بتر كروبوتكين Peter Kropotkin الذي يؤمن أيضاً بنظرية التطور فيذكر في كتابه Mutual Aid: A Factor in Evolution أو ‘’الهدف المشترك: العامل المؤثر في التطور’’ الخطأ الذي وقع فيه داروين ومؤيدوه قائلاً:
داروين ومؤيدوه عرّفوا الطبيعة على أنها مكان تخوض فيه الكائنات الحية حروباً مستمرة فيما بينها. ويصور هاكسلي Huxley عالم الحيوان باعتباره حلبة مصارعة تقوم فيه الحيوانات بصراع مرير فيما بينها وتكون الغلبة من بينها للذكي والسريع وهو الذي يستطيع العيش ليبدأ في اليوم التالي صراعاً جديداً وهكذا. ويتبين لنا منذ الوهلة الأولى أن وجهة نظر هكسلي بشأن الطبيعة ليست علمية... (17).
وهذا الوضع يعتبر شاهداً على عدم استناد نظرية التطور إلى ملاحظات علمية، ويغلب على العلماء من دعاتها التزمت الفكري من خلال تحليل بعض الظواهر الموجودة وفقاً لهواهم. والحقيقة أن الحرب التي يدعي داروين انتشارها في أرجاء الطبيعة تبيّن أنها خطأ كبير فلا نجد الأحياء التي تكافح من أجل البقاء فقط بل نجد أيضاً كائنات حية تبذل تعاوناً ملحوظاً نحو الكائنات الحية الأخرى، والأعجب من هذا أنها تؤثرها أحياناً على نفسها. من هنا فدعاة التطور عاجزون عن تفسير ظواهر الإيثار. وورد في مقال صادرة في إحدى المجلات العلمية نص يصور عجز هؤلاء:(1/30)
‘’المشكلة تكمن في السبب الذي من أجله تتعاون الكائنات الحية، وبالنسبة إلى نظرية داروين فهي تقول إنه ينبغي على كل كائن حي أن يكافح من أجل البقاء والتكاثر، ومعاونة باقي الكائنات الحية يقلل من فرص نجاح ذلك الكائن الحي في البقاء وعلى هذا الأساس ينبغي أن يُزال هذا النمط السلوكي عبر التطور، ولكن الملاحظ أن الإيثار لا يزال موجوداً في سلوك الكائنات الحية (18) .
وأبسط مثال على الإيثار هو سلوك عاملات النحل فهي تقوم بلسع أي حيوان يدخل إلى خليتها مع علمها يقيناً أنها ستموت، فإبرتها اللاسعة تبقى مغروزة في الجسم الذي تلسعه ونظراً لارتباط هذه الإبرة الوثيق بالأعضاء الداخلية للحشرة تسحب معها هذه الأعضاء خارجاً متسببة في موت النحلة. مما يوضح من ذلك أنّ النحلة العاملة تضحي بحياتها من أجل سلامة باقي أفراد الخلية.
أمّا ذكر البطريق وأنثاه فيقومان بحراسة عشهما حتى الموت، فالذكر يسهر على رعاية الفرخ الجديد بين ساقيه طيلة أربعة أشهر متصلة دون انقطاع، ولا يستطيع طيلة هذه الفترة أن يتناول شيئاً من الغذاء أمّا الأنثى فتذهب إلى البحر لتجلب الغذاء وهي تجمعه في بلعومها وتأتي به إلى فرخها ويبديان تفانياً ملحوظاً من أجل فرخهما.
ويعرف عن التمساح كونه من الحيوانات المتوحشة إلا أنّ الرعاية التي يوليها لأبنائه تثير الحيرة الشديدة، فعندما تخرج التماسيح الصغيرة بعد فقس البيض تقوم الأم بجمعها في فمها حتى تصل بها إلى الماء ثم تعكف على رعايتها وحملها حتى تكبر ويشتد عودها وتصبح قادرة على مواجهة المصاعب بنفسها، وعندما تشعر التماسيح الصغيرة بأي خطر سرعان ما تلوذ بالفرار ملتجئة إلى فم أمّها وهو الملجأ الأمين بالنسبة إليها. إن هذا السلوك يثير الاستغراب خاصة إذا علمنا أن التماسيح حيوانات متوحشة والمنتظر منها أن تأكل أبناءها وتلتهمهم لا أن ترعاهم وتحميهم...(1/31)
وهناك بعض الأمهات من الحيوانات تترك القطيع الذي تعيش فيه لترضع أولادها، فتتخلف الأم مع ولدها وتظل ترضعه حتى يشبع معرّضة حياتها لخطر جسيم. والمعروف عن الحيوانات أنها تهتم بأولادها الذين ولدوا حديثاً أو الذين خرجوا من البيض لمدد طويلة تصل إلى أيام أو أشهر أو حتى بضع سنين فتوفر هذه الحيوانات لصغارها الغذاء والمسكن والدفء وتقوم بالدفاع عنهم من خطر الأعداء المفترسين. وأغلب أنواع الطيور يقوم بتغذية صغاره من 4 - 20 مرة في الساعة خلال اليوم الواحد، أمّا إناث اللبائن فأمرها مختلف إذ يحتم عليها أن تتغذى جيداً عندما ترضع صغارها حتى توفر لهم اللبن الكافي، وطيلة هذه الفترة يزداد الرضيع وزناً بينما تفقد الأم من وزنها بشكل ملحوظ.
أما الطبيعي والمتوقع في هذه الحالات فهو أن تهمل هذه الحيوانات غير العاقلة صغارها وتتركها وشأنها لأنها لا تفهم معنى الأمومة أو العطف، ولكنها بالعكس من ذلك تتحمل مسؤولية رعايتها والدفاع عنها بشكل عجيب.
ولا تقوم الأحياء باتخاذ مثل هذا السلوك مع صغارها فقط وإنما قد تبدي العطف نفسه والحنان نفسه إزاء الحيوانات الأخرى أو الأفراد الآخرين التي تعيش معها في المجموعات نفسها، ويمكن ملاحظة ذلك عندما تشح مصادر الغذاء، فالمتوقع في مثل هذه الحالات العصيبة أن ينطلق القوي منها ليبيد الضعيف ويستحوذ على ما يوجد من الغذاء، غير أن الذي يحدث هو عكس ما يتوقعه دعاة التطور. ويورد كروبوتكين وهو معروف بتأييده لهذه النظرية أمثلة عديدة تتعلق بهذا الموضوع منها مثلاً: يبدأ النمل بتناول ما ادخره عندما تشح مصادر الغذاء بينما تبدأ الطيور بالهجرة بشكل جماعي إلى مكان آخر، وعندما يكون عدد كبير من القنادس في نهرتتوجه القنادس الشابة إلى الشمال والكبيرة في السن إلى جنوب الأنهار(19).(1/32)
والذي يفهم من هذه الأمثلة أنه لا وجود لمنافسة أو مزاحمة بين الحيوانات من أجل الغذاء بل بالعكس يمكن مشاهدة نماذج عديدة لتعاونها وتضحياتها حتى في أقسى الظروف. وهي تعمل في أحيان كثيرة على التخفيف من وطأة الظروف وقسوتها. ومع هذا فهناك مسألة يجب أخذها بعين الاعتبار وهي أنه لا يوجد بين هذه الأحياء من يملك القدرة على التفكير لكي تتخذ هذه القرارات وتنشئ هذا النظام.أذن كيف يمكن تفسير تجمع هذه الحيوانات في مجموعات وتعيين هدف واحد مشترك وعملها مجتمعة لتحقيق هذا الهدف المشترك؟.
بلا شك إن الذي خلق هذه الأحياء وألهمها اتباع ما ينفعها والذي يحافظ عليها هو الله رب العالمين جلت قدرته. مصداقاً لقوله عزَّ وجلَّ لها:
{ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِين} سورة هود الآية 6
أمام هذه الحقائق تسقط ادعاءات التطور عن كون الطبيعة مسرحاً للحرب لا ينتصر فيها إلا من كان أنانياً ومن لا يرى سوى مصالحه فقط سأل John Maynard Smith وهو من التطوريين المشهورين سؤالاً لأقرانه في الفكر يتعلق بهذا النوع من السلوك لدى الحيوانات:
إذا كان الانتخاب الطبيعي يعني اختيار الصفات الصالحة للكائن الحي والتي تضمن له بقاؤه وتكاثره فكيف يمكن لنا أن نفسر صفة التضحية لدى بعض الحيوانات؟ (20)
غريزة الحفاظ على النسل
مثلما اتضح في الصفحات السابقة فإن التضحية في سلوك بعض الحيوانات لم يكن بإمكان دعاة التطور تفسيرها. وهناك أمثلة عديدة للتضحية في الطبيعة تهدم الأساس الفكري لهذه النظرية حتى أن ستيفن جي جولد Stephen Jay Gould يتحدث عن التضحية كمشكلة عويصة ومزعجة تواجه نظرية التطور (21).(1/33)
من جانب آخر يتحدث عنها جوردن تايلر Gorden Taylor باعتبارها مانعاً أو سداً كبيراً أمام النظرية معبرا بذلك عن عمق المأزق الفكري الذي يواجه هؤلاء في هذا الصدد. وهذه التضحية والرأفة التي يمكن مشاهدتها تحمل مفاهيم كبيرة وتعتبر طعنة قاتلة لفلسفة وفكر أولئك الذين ينظرون إلى الطبيعة نظرة مادية بحتة ويعتبرونها نتاج مصادفات لا غير.
وهناك البعض من غلاتهم فسر هذه الظواهر تفسيراً آخر مختلفاً سماه بقانون الجين الأناني، ورائد هذه الفكرة أحد الغلاة في وقتنا الحاضر ويدعى Richard Dawkins وهو يرى أن التضحية التي تعبر عنها بعض الكائنات ما هي إلا نتاج أنانيتها، وحسب قوله فإن الحيوان عندما يبدي تضحية ما فإنه لا يفعل ذلك دفاعاً عن الباقين بل حفاظاً على جيناته أي أن الأم عندما تذود عن صغيرها فهي في الحقيقة تدافع عن الجينات التي تولدت منها لأن صغيرها عندما يتم إنقاذه فإنه يستطيع أن ينقل هذه الجينات إلى أجيال لاحقة، وعلى هذا الأساس تصبح الكائنات الحية بما فيها الإنسان شبيهة بآلات لتوليد الجينات ومسؤولة عن نقلها إلى أجيال لاحقة.
ويدعي هؤلاء بأن الكائنات الحية مبرمجة على الحفاظ على النسل ونقل الجينات إلى أجيال لاحقة ولهذا تسلك سلوكاً يلائم هذا البرنامج. ونورد مثالاً على طريقة تفكير هؤلاء وتفسيرهم لسلوك الحيوانات من خلال الاطلاع على نص مأخوذ من كتاب في علم الأحياء يتبنى هذه النظرية وعنوانه Essentails of Biology , أي مبادئ علم الأحياء والنص كما يلي:(1/34)
كيف يمكن تفسير السلوك الذي يقود صاحبه إلى الخطر من أجل إنقاذ غيره؟ بعض السلوكيات المستندة إلى التضحية مصدرها الجينات الأنانية، والاحتمال الأكبر أن تكون الكائنات الحية وهي تعرض نفسها للخطر في سبيل جلب الغذاء اللازم لصغارها تسلك هذا السلوك وفق برنامج جيني محدد، وسلوكها هذا يهدف إلى سلامة انتقال الجينات من الأبوين إلى الأبناء ومنهم إلى أجيال لاحقة، ويبدو رد الفعل هذا من الكائنات الحية تجاه أعدائها نوعاً من السلوك لتحقيق هدف معين، ويتجلى هذا البرنامج المعين للسلوك الحيواني في الرائحة والصوت والمظهر الخارجي وأشكال أخرى (22).
ولو تأملنا في النص السابق لاتضح لنا أن الكاتب يقصد بأن الكائنات الحية في سلوكها تبدو وكأنها تسعى إلى شيء معين لا عن دراية وفهم بل لأنها مبرمجة على أن تسلك مثل هذا السلوك، وهنا يطرح السؤال التالي نفسه: ما مصدر هذه البرمجة؟ والجين الذي نتحدث عنه هو شبيه بمجموعة من الشفرات المعلوماتية، ولكن هذه المجموعة من الشفرات لا تستطيع التفكير، والجين يفتقر الى الذكاء والعقل والتقدير. لهذا السبب إذا وجد جين خاص يدفع الكائن الحي إلى التضحية فلا يمكن أن يكون هذا الجين هو الآمر بالتضحية. لقد صمم الحاسوب من قبل مصمم عاقل وذي دراية على أن يتوقف عن العمل عند الضغط على زر الإيقاف، إذن فالحاسوب لا يغلق من تلقاء نفسه وزر الإيقاف لا يعمل بالمصادفة دون مصمم. إن أحداً قد برمج هذا الزر على أن يوقف الجهاز عن العمل عند الضغط عليه.
إذن هناك جينات مبرمجة على دفع هذا الكائن الحي نحو التضحية بنفسه، وهناك قوة ذات عقل ودراية صممت وبرمجت هذه الجينات بهذه الصورة، وهذه القوة تلهم الكائنات كل لحظة وتراقبها وتهديها إلى اتباع سلوك معين، وهذه القوة هي الله جلت قدرته، وهذه الحقيقة يذكرها القرآن كما يلي:(1/35)
{وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالمَلاَئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُم مِن فَوقِهِم وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } ( سورة النحل/49-50)
{ اللهُ الذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً } ( الطلاق/12)
الكائنات الحية لا تبدي تعاوناً نحو أقربائها من حملة جيناتها فقط بل نحو الكائنات الحية الأخرى أيضاً:
سنرى أمثلة مفصلة عديدة في الباب الثالث من هذا الكتاب حول هذه الظاهرة التي شكلت مشكلة عسيرة الحل بالنسبة إلى نظرية التطور لأنه لا يوجد هما اي هدف أو غاية في ‘’الحفاظ على انتقال الجينات’’ من نسل إلى آخر. وتحلل مجلة Scientific American التي تتبنى هذه النظرية ظاهرة التعاون بين الحيوانات كما يلي:
هناك مثال حي لتعاون حيوانين غير قريبين من بعضهما البعض جينياً وهو تعاون ذكري حيوان البابون، فإذا حدث تنافس أو صراع بينهما يطلب أحدهما مساعدة من ثالث، ويبدأ الذي طلب المساعدة بهز رأسه إلى الأمام والخلف أي بين الذي جاء لنجدته وبين خصمه، ويفسر البعض هذا السلوك بأن الذي طلب المساعدة يعتبر الذي قدم لنجدته أن له حقوقاً عليه مستقبلاً إذا حدث أن تعرض لأي مكروه. إلا أن نظرية التطور تعجز عن تفسير كيفية منع الخديعة في الصراع بين الذكور وتعجز أيضاً عن تفسير طلب الذكر للمساعدة مرة أخرى والدافع الذي يجعله يسلك مثل هذا السلوك، والحقيقة التي لا لبس فيها تتمثل في أن الله سبحانه وتعالى يلهم المخلوقات ويدفعها إلى أن تضحي بنفسها وهي تسلك هذا السلوك.(23)(1/36)
وسنذكر في الصفحات القادمة أمثلة على التضحية والرأفة والشفقة التي تبديها الكائنات الحية المختلفة، ويجب أن لا ينسى القارئ أن الذي ألهم هذه الكائنات الحية هذه التضحية والرأفة والشفقة هو الله الذي خلقها فتبارك الله أحسن الخالقين.
تضحية الكائنات الحية داخل العائلة الواحدة
إن قسماً من الحيوانات يقضي حياته أو جزءاً كبيراً من حياته مع باقي أفراد ما يسمى ‘’بالعائلة’’، فنجد على سبيل المثال البطريق والبجع، إذ يعيش هذان الحيوانان مع زوجيهما طيلة فترة حياتهما، أما إناث الأسود والفيلة فتعيش مع أمهاتها أو أمهات أمهاتها (24). وعموماً يتصف ذكور اللبائن بإنشاء عائلات خاصة بها تتألف هذه العائلات من الذكور والإناث والصغار. وإنشاء هذه العائلات يلقي مسؤولية على عاتق البالغين لأن الذكور في هذه الحالة ينبغي عليها الذهاب للصيد أكثر من ذكور الأنواع التي تعيش وحيدة، وينبغي عليها الدفاع ليس فقط عن نفسها بل عن أفراد العائلة أيضاً، ثم إن الدفاع عن الصغار يتطلب تضحية كبيرة.
وعملية إنشاء عائلات والدفاع عنها يتطلب جهداً كبيراً وتحمل مخاطر جسيمة وترك الخلود إلى الراحة. وهذه العملية تثير تساؤلاً مهماً مفاده: لماذا تختار الحيوانات هذا الطريق الصعب؟
واختيار الحيوانات لهذا الطريق المحفوف بالمخاطر يبطل نظرية داروين والتي تقول بأن البقاء للأقوى، والموت والفناء للأضعف، فنحن سنرى في الصفحات القادمة من خلال أمثلة عديدة كيف أن الحيوانات الضعيفة في الطبيعة تصمد لا تسحق ولا تنقرض وكيف أن الحيوانات الأقوى تعمل على المحافظة على حياة هذه الحيوانات الضعيفة وبأنبل صورة للإيثار والتضحية.
كيفية تتعرف أفراد العائلة الواحدة على بعضهم البعض(1/37)
ينبغي على أفراد العائلة الواحدة أن يملكوا آلية خاصة للتعرف على بعضهم البعض، وبواسطة هذه الآلية الخاصة للتعارف تستطيع الكائنات الحية التي تعيش على شكل مجموعات كبيرة أو مستعمرات أن تتعرف على صغارها أو أزواجها وحتى على آبائها أو أمهاتها أو أشقائها. ووسيلة التعرف تختلف من حيوان لآخر، فالطيور التي تبني أعشاشها على الأرض مثلاً تتعرف على فراخها عن طريق الصوت والشكل الخارجي، ومنها طائر النورس الذي يقتات على سمكة الرينكا. ويعيش هذا الطائر ضمن مجموعات كبيرة العدد ويمكن أن يميز صوت فراخه وسط الزحام الهائل دون أن يختلط عليه الأمر بين باقي الأصوات حتى وإن كانت الفراخ بعيدة عن بصره. وعند دخول طائر صغير آخر إلى المكان الذي توجد فيه الفراخ سرعان ما يطرد من تلك المنطقة. (25)
أما اللبائن فتستطيع التعرف على صغارها عن طريق الرائحة، وتقوم الأم بشم ولدها لحظة ولادته وفيما بعد تصبح هذه الرائحة وسيلة للتعرف على الصغار (26).
ويعتبر البطريق من أنجح الحيوانات في استخدام وسيلة التعرف، ويبدو لنا أمر التعرف على طير وسط طيور متشابهة تماماً شبه مستحيل. والمحير أن البطريق يستطيع بسهولة التعرف على أفراد عائلته دون خلط وخصوصاً الأنثى، التي تغيب مدة 2 - 3 أشهر لجلب الغذاء وعند عودتها لا تجد أية صعوبة في التعرف على ذكرها وصغيرها من بين مئات البطاريق.
والأغرب من ذلك قيام طيور البطريق بجمع صغارها في محل واحد شبيه بروضة من رياض الأطفال ثم تذهب إلى البحر، وهذه الطيور الصغيرة تتراص جنباً إلى جنب، وتعد هذه العملية مهمة لدرء خطر البرد وبالتالي الحفاظ على حياة الصغار. والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف يتعرف ذكر البطريق أو أنثاه على فرخه بعد غياب طويل؟
فحل هذا اللغز يتم من خلال إصدار الأب أو الأم أصوات مرتفعة فيستطيع الصغير أن يتعرف على أمه وأبيه من خلالها (27).(1/38)
ولا شك أن وسيلة الصوت هذه أنجح وسيلة لتعرف أفراد مستعمرة البطريق على بعضهم البعض من بين الآلاف من البطاريق. ولكن كيف أمكن لهذه الطيور المتشابهة فيما بينها إلى حد التطابق أن تمتلك أصواتاً مختلفة بعضها عن بعض؟ وكيف اكتسبت هذه الطيور قابلية التمييز بين الأصوات المختلفة؟ من المستحيل أن تكون طيور البطريق قد اكتسبت هذه القابلية بمحض إرادتها، فمن الذي وهبها هذه الميزة الفريدة؟
أي عنصر من عناصر الطبيعة هو الذي تولى هذه المهمة؟ هل هو الجليد في المنطقة القطبية؟ أم الصخور؟ الجواب قطعاً لا لأن هذه العناصر التي يتحدث عنها دعاة التطور مخلوقة بدورها، فالله سبحانه وهبها ميزة الصوت المختلف وجعل لها القدرة على تمييز الأصوات المختلفة كما يسر لها معيشتها بهذه الصورة المعجزة.
الأعشاش المبنية للصغار والمجهزة بجميع وسائل الراحة(1/39)
هناك دور كبير للمنازل والأعشاش التي تبنيها الحيوانات في رعاية وتنشئة الصغار، وهناك أساليب مختلفة باختلاف أنواع الحيوانات في طريقة إنشاء هذه الأعشاش بتفاصيل تقنية باهرة، وفي أحيان كثيرة تتصرف الحيوانات مثل مهندس معماري بارع، وتعمل مثل بناء ماهر، وتجد حلاً لكل مشكلة قد تواجهها في أثناء البناء تماماً مثل المهندس ومثل أخصائي الديكور حيث تقوم بتوفير ما يلزم لداخل العش، وفي أحيان كثيرة أخرى تعمل هذه الحيوانات ليل نهار للإعداد لهذه الأعشاش، وإذا كان لهذه الحيوانات أزواج نراها تقوم بتوزيع الأدوار في صورة مثيرة للإعجاب. ومن أكثر الأعشاش والمنازل التي يعتنى بها عناية خاصة هي التي تنشئ لاستقبال الصغار الجدد. والتقنية التي تستخدمها هذه الكائنات غير العاقلة تثير الإعجاب والدهشة في آن واحد، ويتضح ذلك من خلال الأمثلة التي سنوردها في الصفحات القادمة، وسيتضح كذلك أنها لا يمكن أن تنشأ اعتماداً على الذكاء المتواضع لهذه الحيوانات، ومن الجدير بالذكر أنها تخطط وتخطو مراحل متعددة قبل الشروع في بناء أعشاشها أو منازلها لوضع بيضها أو ولادة صغارها، كذلك تختار المكان الأمثل والأكثر أمناً لإنشائها، فهي لا تنشئ منازلها عبثاً وأينما اتفق. وطريقة بناء العش أو المسكن يتم اختياره من قبل الحيوان أو الطير وفقاً للمواد الأولية المتوفرة وظروف البيئة الخارجية، فمثلاً تستخدم الطيور البحرية الأعشاب البحرية التي تطفو على سطح الماء وتقاوم الأمواج في بناء أعشاشها، أما الطيور التي تعيش في مناطق الأعشاب الطويلة فتنشئ أعشاشاً عميقة وواسعة لتفادي السقوط عند هبوب الرياح، والطيور الصحراوية تبني أعشاشها على قمم النباتات التي تمتاز بانخفاض درجة حرارتها بعشر درجات عن درجة المحيط، وإلا فإن درجة حرارة اليابسة تربو على 45م وهي تؤدي حتماً إلى موت الأجنة الموجودة داخل البيض.(1/40)
ويتطلب اختيار المكان المناسب لبناء العش ذكاء ومعرفة واسعة، إلا أن هذه المخلوقات لا تستطيع أن تتوقع مدى الضرر الذي سيلحق بمنازلها بتأثير الأمواج العاتية أو درجة الحرارة العالية للبيئة الصحراوية. والظاهر للعيان أن هناك مخلوقات غير عاقلة ولا منطق لها إلا أنها تسلك سلوكاً عقلانياً ومنطقياً، وبمعنى آخر مخلوقة على هذه الصورة الكاملة، والكمال في الخلق لا يوجد إلا لله وحده.
ويحظى الصغار بعد فقس البيض أو لحظة الولادة بعناية بالغة، ويقضي الكبار من الحيوانات أو الطيور وقتاً كبيراً في الحفاظ على حياة الأبناء ولا تكتفي في ذلك ببناء المنازل وإنما تبني أعشاشاً وهمية لمجرد التمويه بهدف لفت الانتباه إلى هذه الأعشاش الوهمية حفاظاً على حياة الصغار من خطر الأعداء. ولا شك أن هذا النمط السلوكي ليس من بناة أفكار الحيوان ولا نابعاً من ذكائه. وهناك أساليب أخرى تستخدمها الحيوانات للتمويه كبناء الأعشاش بين أغصان الأشجار الكثيفة الأوراق أو فوق النباتات الشوكية، والبعض الآخر تنشئ أوكاراً خاصة لحضن البيض حيث تقوم بإنشاء جدار خاص لمدخل هذا الوكر باستخدام الطين الموجود في البيئة الخارجية وفي حال عدم وجوده تقوم بإفراز سائل خاص تخلطه مع كمية من التراب لإعداد الطين اللازم لإنشاء هذا الجدار الواقي.
وأغلب أنواع الطيور تبني أعشاشا غريبة الشكل باستخدام ألياف النباتات أو الأعشاب والحشائش البرية المتوفرة، والجدير بالذكر أن الطير الذي سيبيض لأول مرة في حياته يبني عشه بإتقان بالغ دون أن يكون له سابق معرفة أو خبرة.
بلا شك أن هذه القابليات الفذة للكائنات الحية لم تتشكل من تلقاء ذاتها، إذن ما هي القدرة التي علمت هذه الطيور والكائنات الحية بناء منازلها بهذه الكيفية المدهشة؟ كيف تكتسب الكائنات الحية هذه القابلية مرة واحدة؟.(1/41)
وهناك أمر آخر يحسن الاطلاع عليه ويتعلق بقابلية الكائنات الحية وكونها على علم تام بكيفية بناء العش أو المسكن بالكيفية الخاصة بنوعها والمتميز بها عن الأنواع الأخرى اعتباراً من أول لحظة لها في هذه الحياة، وكل نوع من أنواع الحيوانات يبني منزله بالكيفية نفسها في أية منطقة من مناطق العالم، وهذا دليل واضح على أن هناك قوة واحدة تمنح هذه المخلوقات القابلية والمعرفة الخاصة بالحياة. بلا شك إن صاحب هذه القوة التي لا حد لها والعلم الذي وسع كل شيء هو الله سبحانه وتعالى الذي يلهم مخلوقاته ويمنحها هذه القابليات الفذة. واللافت للنظر عند دراسة كيفية بناء الحيوانات لمنازلها ليس فقط التخطيط البارع وإنما التضحية والتعاون اللذان يبديهما كل من الذكر والأنثى في البناء، وعلى سبيل المثال تنشئ الطيور أعشاشها الخاصة بها بكل اعتناء واهتمام ولا تكتفي بذلك بل تنشئ أعشاشا أخرى كجهد إضافي للتمويه (28).(1/42)
ولو تمعنا في عملية إنشاء الطيور لأعشاشها لأدركنا مدى الصعوبات التي تلاقيها والجهد الضخم الذي تبذله والتفاني الذي تبديه في سبيل إتمام بناء هذه الأعشاش. فالطير الواحد يقوم بعدة مئات من رحلات الطيران في سبيل إنشاء عش للتمويه فقط فما بالك بالجهد اللازم لبناء العش الحقيقي، والطير لا يستطيع أن يحمل في منقاره سوى قطعة أو قطعتين من المواد اللازمة لبناء العش من أغصان أو غيرها، إلا أن ذلك لا يثير في الطير الشعور بالملل وإنما بالعكس يثابر بكل صبر وثبات، وإذا شعر بتعب أو إرهاق لا يتخلى عما في منقاره ولا يهمل أي تفصيل من التفاصيل اللازمة لبناء العش. وحسب ادعاء داروين واستنادا الى قانون الانتخاب الطبيعي لا تفكر الكائنات الحية إلا في نفسها وبمنتهى الأنانية. ولو كان الوسط الذي تعيش فيه مسرحاً للحرب كما يدعي هو ومؤيدوه لما قامت هذه الكائنات الحية ببذل هذا الجهد الضخم والمثير للإعجاب في سبيل الحفاظ على الكائنات الصغيرة الضعيفة؟ هذه الأسئلة وغيرها يحتار القانون الطبيعي لداروين في الإجابة عليها وتعجز أمامها نظرية التطور وادعاءات الملحدين. والجواب الوحيد على كل هذه الأسئلة هو أن الله وحده منح هذه المخلوقات صفات التضحية والصبر والثبات والمثابرة والعزم فألهمها هذه الصفات ليحمي القوي منها الضعيف وليستمر التوازن في الطبيعة وليستمر نسل الكائنات ولتكون هذه البنوراما الطبيعية دليلاً حياً وملموساً على قدرة الله عزَّ وجلَّ أمام جحود بني آدم.
في الصفحات القادمة سترد أمثلة على قابلية الكائنات الحية للتخطيط المعماري والقيام بالديكور خصوصاً الطيور التي يحتاج صغارها وبيضها إلى عناية فائقة في أعشاشها، لذا يلهمها الله سبحانه وتعالى كل ما تحتاجه ويتلاءم مع عملية بناء الأوكار.
كيف تبني الطيور أعشاشها الفخمة(1/43)
تُعرف الطيور على أنها من أبرع الكائنات الحية في بناء أعشاشها، ولكل نوع من أنواع الطيور طريقة في بناء عشه ولا يخطئ الطريقة التي اعتاد عليها. وأهم سبب لإنشاء الأعشاش كون بيضها وفراخها التي تخرج من البيض بعد فقسها على درجة كبيرة من الضعف، وخصوصاً عندما تذهب الأم للصيد، فالصغار يبقون دون أية وسيلة للدفاع عن النفس، ولكن المكان الذي يتم اختياره لبناء العش يعد في حد ذاته وسيلة دفاع مثل قمم الأشجار والثقوب الموجودة في جذوعها أو سفوح الجبال والتلال وكذلك بين الأعشاب إذ يتم إخفاء العش بمنتهى البراعة والإتقان حفاظاً على حياة الصغار.
والدور الثاني والمهم للعش هو الحفاظ على الصغار من تأثير البرد القارس لأنهم يخرجون من البيض عارية أجسادهم إضافة إلى عدم قدرتهم على الحركة بحرية وبالتالي عدم استطاعتها تحريك عضلاتها ، لذا تكون الطيور مجبرة على بناء أعشاشها بمنأى عن البرد ومثالنا على ذلك ‘’العش المحاك’’ فهو يوفر الدفء اللازم للفراخ، ونظراً لصعوبة بناء هذا النموذج، فالأنثى تقوم ببنائه في فترة طويلة وبجهد بالغ وتقوم بفرش داخله بالريش والشعر والألياف لعزلها عن التأثيرات الحرارية للبيئة الخارجية (29).(1/44)
وتوفير المواد الأولية لبناء أي من الأعشاش يعتبر خطوة مهمة جداً، وتقوم الطيور طيلة اليوم بجمع هذه المواد الأولية في مناقيرها ومخالبها المخلوقة لتلائم هذه المهمة. وعملية البناء هذه مهمة الأنثى أما مهمة الذكر فتتمثل في اختيار المكان الملائم. وتستفيد الطيور في بناء أعشاشها من مواد أولية مثل الطين والورق النباتي واللبلاب وحتى الشعر أو الورق، وخصائص أي عش تعتمد على المواد الأولية المستعملة وعلى الطريقة التي يستخدمها ذلك الطير في بنائه. وتبنى كذلك اعتماداً على مرونة المواد الأولية ومتانتها وصلابتها، فهي تختار المواد التي يمكن طيها أو مدها عند عملية البناء. والتنوع في هذه المواد يجعل العش أكثر أمناً للفراخ، فخلط الطين مع الألياف يحول دون حدوث أي تشقق في جدران العش.
والطيور بعد أن تجمع المواد الأولية تبدأ بتكوين الخليط اللازم لبناء العش، والطير الذي يتبع هذه الوسيلة في البناء هو الخطاف أو النون الذي يبني عشه على حافة الهاوية أو على جدران المباني والباحات الخارجية فيقوم بلصق عشه بجدرانها بنوع من الخليط اللاصق الذي يحصل عليه بطريقة عملية، أولاً. يقوم بجمع الطين والرماد في منقاره ويحملهما إلى المكان الذي أزمع بناء العش فيه ومن ثم يجعل الطين مزيجاً لزجاً بعد إفراز مواد خاصة ويمسح سطح الهاوية بهذه المادة اللزجة حتى يعطي العش الشكل النهائي على شكل أصيص مدور مجوف ويملأ داخل الأصيص بالحشيش والطحلب والريش وغالباً ما يبني عشه تحت نتوء صخري كي تحميه الصخرة من تأثير الأمطار المتساقطة التي ربما تزيل تماسك الطين المتين الذي يؤدي إلى هدم العش برمته (30).
وبعض الطيور التي تعيش في جنوب إفريقيا وتدعى بأنثوسكويوس تبني عشها من قسمين، القسم الأول منه لحضن البيض، وهناك مدخلان للعش أحدهما سري والآخر للتمويه ضد خطر الأعداء (31).(1/45)
من جانب آخر يقوم أحد الطيور في أمريكا من جنس vitaceae ببناء عشه بالقرب من خلية النحل البري لأن هذا النحل يحول دون اقتراب الأعداء كالأفاعي والببغاوات والقرود وخصوصاً أحد أنواع البعوض الذي يشكل خطراً بالنسبة إلى هذه الطيور (32). وبذلك تنجح الأم في الحفاظ على حياة صغارها.
الأعشاش التي تخيطها الطيور الطائرة
يتميز منقار طير الخياط الهندي بدقة شكله كإبرة الخياطة، والمواد الأولية التي يستخدمها في خياطة عشه تتمثل في خيط نسيج العنكبوت والزغب الذي يحيط ببعض أنواع البذور إضافة إلى ألياف خاصة بقشور الأشجار. ويقوم هذا الطير بجمع أوراق الأشجار الواحدة فوق الأخرى متراصة وبعد ذلك يقوم بثقب حافات هذه الأوراق بمنقاره المدبب ومن ثم يدخل نسيج العنكبوت أو الليف الذي جمعه في هذه الثقوب ويعقدها كي يمنع سقوط الأوراق، ويكرر العملية نفسها في الجهة المقابلة حتى يجعل الورقتين النباتيتين متلاصقتين تماماً وفي خطوة لاحقة يقوم بتدوير هاتين الورقتين المتلاصقتين حول بعضها البعض مثلما يصنع العقد، ويفرش داخل هذا العش الورقي بالحشيش (33)، وأخيراً يخيط هذا الطير جزءاً إضافياً داخل العش يخصصه لأنثاه لتضع فيه بيضها بأمان (34).
الطيور النساجة
تعتبر أعشاش الطيور النساجة من أغرب أنواع الأعشاش في عالم الحيوان، وهذه حقيقة يؤكدها علماء الأحياء، فهي تقوم بجمع الألياف النباتية أو سيقان النباتات الرفيعة لتستخدمها في نسج أعشاشها وتتميز هذه الأعشاش بمتانة جدرانها المنسوجة من هذه المواد الأولية(35).(1/46)
وأول عمل يقوم به الطائر النساج هو جمع المواد الأولية اللازمة، وتتألف من أجزاء رفيعة يقطعها من الأوراق النباتية الطرية بدلاً من اليابسة ويرجع ذلك إلى سهولة تشكيلها لطراوتها ومرونتها. ويقوم الطير بعد ذلك بلف الجزء الرفيع الذي أخذه حول فرع غصن شجرة ذي فرعين مستخدماً أحد ساقيه لتثبيت أحد طرفي الليف على الغصن ومنقاره للقيام بعملية اللف، وللحيلولة دون سقوط هذه الحبال الليفية يقوم الطير بربطها بعضها البعض من خلال تكوين عقد محكمة، وفي المرحلة الأولى يقوم الطير بإنشاء حلقة ليفية تعتبر مدخلاً إلى العش، ثم يقوم لاحقاً بتمرير الأجزاء الورقية الرفيعة من بين هذه الحبال الليفية بواسطة منقاره وبطريقة متناوبة مرة من فوق ومرة من تحت.وفي أثناء هذه الحياكة على الطائر أن يعرف مقدار ما يشده من كل ليف ،لأن الحياكة أن كانت رخوة سقط العش حالا. وعليه أن يستطيع تصور الوضع النهائي للعش لكي يستطيع إعطاء الانحناء اللازم لجدران العش في الموضع المناسب،وأن يعرف متى يعمل نتوءات خارجية للعش. وعندما ينتهي الطير من إنشاء المدخل اللازم لعشه يبدأ بنسج الجدران وفي هذه الحالة يقف مقلوباً أو رأساً على عقب ويواصل العمل من داخل العش، ويسحب الليف الورقي بمنقاره تحت الحبال الليفية ويمسك طرفه الخارجي بدقة ومن ثم يشده شداً محكماً، وبهذه الطريقة يجعل للعش نسيجاً غاية في الإتقان (36).(1/47)
ومما يلاحظ هنا أن الطير النساج يعمل وكأنه يخطط لعدة مراحل وخطوات قادمة، فيبدأ بجمع المواد اللازمة ومن ثم يبدأ بنسج العش في مكان ملائم فينسج المدخل ويستمر في نسج الجدران فيما بعد وينحني في النسج عندما يتطلب الأمر الانحناء ويوسعه عندما يتطلب الأمر التوسعة هذا ما يبرهن إتقانه لعمله إلى درجة مذهلة دون أن يعطي أي انطباع بكونه مبتدئا في عمل النسج. والحقيقة أنه يثبت مهارة فائقة في أداء عمل شخصين في آن واحد بواسطة ساقه للتثبيت ومنقاره للنسج ولا يتقدم خطوة إلا بحساب وتقدير.
وهناك نوع آخر من الطيور النساجة يقوم بإنشاء أعشاش ذات سقف متماسك يمنع تدفق قطرات المطر داخله ويفرز هذا الطير سائلاً في فمه يختلط مع الألياف النباتية التي يجمعها ويحضر بذلك خليطاً يساعده على طلاء عشه من الداخل، يتميز هذا الخليط بإكساب العش مرونة ومقاومة ضد نضوح مياه المطر.
وتتكرر هذه الخطوات عدة مرات حتى اكتمال البناء، ومن الاستحالة القول أن هذه القابلية لدى الطيور محض مصادفة أو مكتسبة لا شعورياً لأن هذه الطيور وهي تعد أعشاشها تتصرف مثل مهندس معماري ومهندس إنشاءات وعامل بناء ماهر في آن واحد.
ومثال آخر للطيور النساجة التي تبني أعشاشاً غريبة تعيش في جنوب أفريقيا، فهذا النوع يبني عشاً شبيهاً بعمارة مقسمة إلى شقق ويبلغ ارتفاع هذا النوع من الأعشاش 3 أمتار وعرضها 5^4 متراً ويعيش داخل هذا العش ما يقرب من 200 زوج من هذا النوع (37). والسؤال الذي يتبادر إلى أذهاننا لماذا تختار هذه الطيور بناء أعشاشها بهذه الصعوبة بدلاً من الأعشاش السهلة البناء؟ وهل يمكن تفسير بناء هذه الأعشاش المعقدة من قبل هذه الطيور بمحض مصادفة؟ بالطبع لا لأن هذه الطيور مثلها مثل باقي الكائنات الحية تتحرك بوحي وإلهام إلهي.
أعشاش طائر الخطاف(1/48)
هناك بعض الطيور تخفي أعشاشها تحت سطح الأرض مثل طائر الخطاف الساحلي الذي يقوم بحفر قنوات موازية لساحل البحر أو ضفة النهر وتكون هذه القنوات بمحاذاة التلال المتشكلة من التربة. تحفر هذه الطيور قنواتها بشكل منحن من الأمام للحيلولة دون دخول مياه المطر داخل العش، وفي نهاية كل قناة توجد فسحة مبطنة بالقش والريش يعيش فيها الطير. ومن هذه الأنواع نوع يعيش في أمريكا اللاتينية، ويبني عشه على الصخور الموجودة خلف الشلالات، لأن الموقع يكون بعيداً عن خطر باقي الطيور كالنورس أو آكلات السمك وحتى عن الغربان. والماء المتساقط بأطنان كثيرة لا بد أن يكون قاتلاً لأي طير يمر من خلاله في حين أن هذا الخطاف يتميز بصغر حجمه وسرعة حركته من خلال ماء الشلال فلا يصاب بأي أذى. وبهذا الشكل يكون هذا الطير وفراخه وعشه بمأمن من خطر باقي الحيوانات.
نظراً لصغر مخالبه التي لا يستطيع استخدامها في جمع المواد الأولية لبناء عشه فإنه يلتقط أجزاء الأعشاب أو الريش المتطاير في الهواء ثم يفرز عليها سائلاً خاصاً يحولها إلى عجينة لاصقة يبني بواسطتها عشه على الصخور (38).
أما الخطاف الذي يعيش في سواحل المحيط الهندي فيبني أعشاشه داخل الكهوف، التي تسد مداخلها الأمواج العاتية، وعندما تريد هذه الطيور الدخول إلى أعشاشها ترقد على هذه الأمواج منتظرة اللحظة التي ينحسر فيها الموج عن مدخل الكهف وعندئذٍ تنتهز هذه الطيور الفرصة المناسبة للولوج والوصول إلى العش. وقبل أن تشرع هذه الطيور في بناء الأعشاش تقوم بتثبيت أعلى ارتفاع يمكن أن تصل إليه مياه الأمواج داخل الكهف وبعد ذلك تبدأ في بناء العش بمستوى أعلى من مستوى مياه الأمواج (39).(1/49)
وهناك طائر يعيش في إفريقيا يدعى بـ ‘’السكرتير’’ يبني عشه في قمم الأشجار الشوكية العالية ليكون بعيداً عن خطر الأعداء، أما طائر نقار الخشب الذي يعيش في جنوب غربي أمريكا فيبني أعشاشه داخل ثقوب يفتحها داخل جذوع نبات الصبار الشوكي العملاق. أما طيور المستنقعات فتبني عدة أعشاش وهمية إلى جانب العش الحقيقي فيقوم الذكر بإنشاء هذه الأعشاش الوهمية وينتقل من أحدها إلى الآخر ليلفت الانتباه إلى تلك الأعشاش بدلاً من العش الذي تتولى الأنثى مهمة بنائه (40).
أعشاش طائر الباتروس
إن ارتباط أنثى الطير بفراخها ظاهرة موجودة في جميع أنواع الطيور ومن هذه الطيور الباتروس التي تتكاثر في مسقط رأسها في موسم التلقيح حين تتجمع وتشكل مستعمرة كبيرة فيقوم الذكور بإصلاح الأعشاش البالية قبل أسابيع من قدوم الإناث، وهكذا يتم الإعداد لمسكن الإناث والفراخ. أما الاهتمام بالبيض فيمكن مشاهدته عند مراقبة سلوك طائر الباتروس. لأن هذا الطير يستمر واقفاً على البيض طوال 50 يوماً دون حراك، وهذه العناية الفائقة لا تقتصر على البيض فقط وإنما تشمل الفراخ فيقوم الطائر بقطع مسافة 1^5 كلم في كل مرة يخرج فيها لجلب الطعام (41).
أعشاش الطيور ذات القرون
يعتبر موسم التكاثر موسم عمل ضخم بالنسبة إلى هذه الطيور لأنها تبدي فيه نشاطاً يثير الإعجاب سواء ذكراً كان أم أنثى، وأول خطوة يجب اتباعها بالنسبة إليهما هي بناء عش مأمون للأنثى والفرخ الصغير القادم.(1/50)
ويشرع الذكر في العمل فيبحث عن ثقب مناسب في الشجرة ومن ثم تدخل الأنثى هذا الثقب وبعدها يقوم الذكر بسد مدخل الثقب بالطين. بيد أن هناك جانباً مهماً في بناء هذا العش إذ أن الذكر وهو يسد المدخل بالطين حماية للأنثى وصغيرها من خطر الأفاعي وغيرها يترك فجوة صغيرة في هذا الثقب وعن طريق هذه الفجوة يمد الذكر الأنثى بالطعام لأنها تظل راقدة على البيض لمدة ثلاثة أشهر متواصلة لا تخرج فيها من العش ولو مرة واحدة، وحتى الفراخ الحديثة الخروج يتم تزويدها بالطعام عبر هذه الفجوة (42).
ويتصرف الذكر والأنثى تجاه صغارهما بكل صبر ومثابرة وتفان، فالأنثى ترقد على البيض لمدة ثلاثة أشهر متواصلة في داخل العش الذي يكاد يكفيها هي فقط سعة أما الذكر فلا يغفل عنها ولا عن البيض بل يستمر في الرعاية والاهتمام حتى النهاية.
ونفهم من خلال هذه الأمثلة أن لكل نوع من أنواع الطيور أسلوبه الخاص في إنشاء الأعشاش، وكل أسلوب من هذه الأساليب يعتبر معقداً إلى حد كبير ولكن يتبع وينفذ من قبل حيوان غير عاقل ولا يملك منطقاً معيناً، في حين أن هذه الأساليب تتطلب تخطيطاً وتصميماً كبيرين. ودعونا نفكر في هذه الأمثلة التي تتمثل في كائنات حية غير عاقلة ولكن سلوكها كله عبارة عن شفقة ورأفة وتضحية وتفان وفق تخطيط بارع. ما مصدر هذه الأنماط السلوكية؟ وإذا كانت هذه الكائنات الحية لا تملك إرادتها الفاعلة لاتباع هذه الأنماط فإذن هناك قوة موجهة لها فيما تفعله، ومصدر هذه القوة هو الله رب السماوات والأرض وما بينهما.
الأعشاش التي تبنيها الكائنات الحية المختلفة
نحل ‘’البامبوس’’: يتميز هذا النوع من النحل بتضحية وتفان فريدين عند بنائه لخليته، فالملكة الشابة تبدأ في البحث عن أنسب مكان لإنشاء الخلية قبل أن تبدأ بوضع بيضها بفترة قصيرة، وبعد أن تجد المكان المناسب، تكون المرحلة اللاحقة هي إيجاد المواد اللازمة لبناء الخلية من ريش أو عشب أو أوراق نباتية.(1/51)
في البداية تبني الملكة مكاناً خاصاً بحجم كرة الطاولة في وسط الخلية بواسطة المواد الأولية التي تجمعها من المحيط الذي توجد فيه، أما المرحلة الآتية فتتمثل في عملية جمع الغذاء للخلية. فعندما تخرج الملكة تبدأ بالتحليق راسمة دوائر وهمية في الهواء واتجاهها أثناء التحليق يكون نحو الخلية دوماً وبهذه الطريقة تتذكر موقع خليتها ولا تنساه، وتقوم بجمع رحيق الأزهار أو حبوب اللقاح وعندما ترى الكمية كافية تعود لتفرغ ما في بطنها في المكان المخصص في الخلية. أما الجزء الذي لا يمكن التغذي منه فلا تلفظه خارج الخلية بل تستخدمه في صناعة سائل لاصق يفيد في لصق المواد البنائية للخلية إضافة إلى دوره كعازل حراري. وبعد تغذيها من هذا العسل تبدأ بإفراز مادة الشمع إضافة إلى استخدامها رحيق الأزهار الذي جمعته في عمل غرف صغيرة كروية الشكل لتضع فيها من 8 - 18 بيضة والتي ستفقس عن النحلات العاملات الأولى في الخلية وتقوم الملكة بسد هذه الغرف وما حولها برحيق الأزهار سداً محكماً.
يتم وضع البيض في هذه الغرف بترتيب محكم لا فوضى فيه. والمهمة الرئيسية الأخرى هي تغذية العاملات، لذا تقوم الملكة الشابة بإنشاء أوعية خاصة من الشمع تضع فيها خلاصة العسل، وبعد فترة تكوين تتراوح ما بين أربعة وخمسة أيام تجد العاملات الخارجات من البيض غذاءً جاهزاً لها قوامه حبوب اللقاح ورحيق الأزهار.(1/52)
ولو أمعنا النظر في هذه العملية بكافة تفاصيلها لوجدنا أمامنا حيواناً عديم التفكير. لكنه يستطيع استخدام خلاصة العسل كأفضل عامل بناء، إضافة إلى تفانيه لإنشاء خلية مليئة بالأفراد الاصحاء النشيطين. أما طول هذه الحشرات فلا يتجاوز بضعة سنتمترات. وأول ما يتبادر إلى أذهاننا سؤال. لماذا كل هذا الإيثار والتضحية من قبل الملكة؟ فالملكة بعد خروج العاملات من البيض لا تكسب شيئاً ذا بال، بالإضافة إلى وجود احتمال تركها لخليتها التي أنشأتها عند قدوم ملكة أخرى تزاحمها. إذاً لا بد من وجود سبب لتفانيها هذا، وتحمُّلها كل هذا الجهد المتواصل، إنه الإلهام الإلهي الذي يوجه باقي الكائنات الحية أيضاً. فلا مكان في عالم الأحياء لمفهوم الأنانية التي يقول بها دعاة التطور (43).
الملاجئ الثلجية للدب القطبي
تنشئ أنثى الدب القطبي ملجأ ثلجياً عندما تكون حاملاً أو بعد وضعها لوليدها، وهذا الملجأ تحت ركام الجليد، وعدا هذا فإنها لا تعيش في ملاجئ أو مساكن معينة. وعموماً تضع الأنثى وليدها في منتصف الشتاء، يكون الوليد الصغير لحظة ولادته أعمى وعاريا عن الشعر إضافة إلى صغر حجمه، لذا فالحاجة ماسة إلى ملجأ لرعاية هذا المولود الصغير الضعيف. والملجأ التقليدي يتم إنشاؤه على شكل نفق طوله متران ونصف المتر وساحة دائرية قطره نصف متر تقريبا. ولكن هذا المسكن أو الملجأ لم ينشأ هكذا بشكل اعتباطي دون أي اهتمام أو تخطيط بل حفر تحت الجليد بكل عناية واهتمام وسط بيئة مغطاة بالجليد، وتم توفير كل وسائل الراحة والرعاية للوليد الصغير فيه. وعموماً فإن لهذه الملاجئ أكثر من غرفة تنشؤها الأنثى بمستوى أعلى قليلاً من مدخل الملجأ كي لا يسمح للدفء بالتسرب إلى الخارج(44).(1/53)
وطوال فصل الشتاء تتراكم الثلوج على الملجأ ومدخله وتحافظ الأنثى على قناة صغيرة للتهوية والتنفس، ويكون سقف الملجأ بسمك يتراوح ما بين 75 سم إلى مترين. ويقوم هذا السقف بدور العازل الحراري ليحافظ على الدفء الموجود في الداخل ولهذا تبقى درجة الحرارة ثابتة (45).
قام أحد الباحثين في جامعة أسلو النروجية ويدعى Paul Watts بتثبيت محرار في سقف أحد ملاجئ الدببة لقياس درجة الحرارة فتوصل إلى نتيجة مذهلة، مفادها أن درجة الحرارة خارج الملجأ كانت حوالي 30م تحت الصفر أما داخل الملجأ فلم تنزل الحرارة تحت 2م - 3م أبداً. والظاهرة الملفتة للانتباه هي كيفية قياس أنثى الدب لسمك السقف الثلجي كي يتواءم مع درجة عزله الحراري لما في داخل الملجأ إضافة إلى كون الوسط داخل الملجأ بهذه الحرارة ملائماً من ناحية تنظيم استهلاك مخزونها الدهني في جسمها فيأثناء سباتها الشتوي، والأمر الآخر المحير هو خفض أنثى الدب القطبي لجميع فعالياتها الحيوية إلى درجة كبيرة فيأثناء سباتها الشتوي كي لا تصرف طاقة زائدة ولتساعد على إرضاع صغيرها، وطيلة سبعة أشهر تحول الدهن الموجود في جسمها إلى بروتين لتغذية صغارها، أما هي فلا تتغذى أبداً وتنخفض دقات قلبها من 70 ضربة في الدقيقة إلى ثمان ضربات في الدقيقة وبالتالي تنخفض فعالياتها الحيوية، ولا تقوم بقضاء حاجاتها أيضاً وبهذه الطريقة لا تصرف طاقتها اللازمة لتنشئة الصغار الذين سيلدون في تلك الفترة.
مساكن التماسيح(1/54)
تعد أنثى التمساح الذي يعيش في منطقة ‘’أفيركليدس’’ في فلوريدا مكاناً مختلفاً جداً لوضع البيض فهي تقوم بجمع النباتات المتعفنة وتخلطها بالطين لتصنع منها تلة ارتفاعها 90 سم تقريباً ومن ثم تحفر حفرة في قمة هذه التلة لتضع فيها بيضها وتغطيها بعد ذلك بالنباتات التي تكون قد جمعتها من قبل ثم تبدأ بحراسة هذه التلة من خطر الأعداء. وعندما يبدأ البيض بالفقس تقترب الأم عند سماع أصوات صغارها وهم يصدرون أصواتاً متميزة، تقوم بإزالة النباتات التي غطتها بها ليبدأ الصغار بالتسلق إلى أعلى، فتجمعهم الأم في تجويف فمها المتسع وثم تحملهم إلى الماء ليبدأوا حياتهم (46).
مسكن الضفدع ‘’الحداد’’
يعتبر هذا النوع الذي يعيش في جنوب أفريقيا من أبرع البرمائيات في إنشاء مسكنه، يقوم الذكر بإنشاء هذا المسكن على ضفة الماء حيث يشرع في الدوران حول نفسه في الطين حتى يحدث فيه حفرة واضحة، ومن ثم يقوم بتوسيع حوافها، وعند اكتمال هذه الخطوة يبدأ بتكوين جدران طينية متينة لها وفي النهاية يكون قد أنشأ حوضاً مائياً بعمق 10 سم، ويبدأ بالجلوس داخل هذا الحوض ويصدر أصواتاً يدعو فيها الإناث للتكاثر (التزاوج) ويظل على هذا الوضع حتى يلفت انتباه إحدى الإناث التي تبدأ بوضع بيضها داخل الحوض فيتم للذكر تلقيحها. وبعد ذلك يبدأ كلاهما بمراقبة هذا البيض حتى فقسه، تخرج يرقات الضفادع التي تكون محاطة بغلاف واقي وتبقى في هذا الحوض بمأمن من خطر الأسماك والحشرات وعندما تترعرع سرعان ما تثب فوق جدران هذا الحوض المخصص لتخرج وتبدأ حياتها (47).
مهندسون تحت الماء(1/55)
من المعلوم أن الأسماك ليس من عادتها بناء منازل خاصة بها، إلا أن هناك أنواعاً منها يسلك سلوكاً محيراً، فأسماك المياه العذبة تنشئ لها مساكن خاصة في قيعان البحيرات أو الأنهار أو المياه الراكدة، وغالباً ما تكون على شكل حفر بين الأحجار أو الرمال، ومثال على ذلك سمك ‘’السلمون’’ وسمك ‘’البني’’ فهي تترك بيضها داخل هذه الحفر حتى تفقس لوحدها. وهناك أنواع أخرى من الأسماك تقوم بحراسة هذا البيض بالتناوب بين الذكر والأنثى عندما يكون البيض مكشوفاً والأخطار محدقة. عند معظم أنواع الأسماك يكون الذكر هو المسؤول عن إنشاء المساكن الخاصة بوضع البيض وحراستها.(1/56)
وهناك أسماك تتميز بكون مساكنها أكثر تعقيداً، ومثال ذلك السمك الشوكي الذي يعيش في أغلب المناطق النهرية والبحيرات في كل من أمريكا الشمالية وأوروبا إذ يقوم الذكر بإنشاء أعشاش أكثر إتقاناً من أعشاش الطيور، يقوم هذا النوع من السمك بجمع أجزاء من النباتات المائية ومن ثم يلصقها ببعضها البعض عن طريق سائل لزج يفرز من كليته، يقوم الذكر بالسباحة حول هذه الخلطة اللزجة والتمسح بها حتى يعطيها شكلاً طولياً منتظماً وبعدها يثب فجأة سابحاً في منتصف هذه العجينة شاقاً إياها كي تصبح على شكل نفق له مخرج ومدخل ويمر من خلاله الماء، وإذا حدث أن مرت أنثى بالقرب من هذا النفق العش يقوم الذكر بمغازلتها بالسباحة حولها جيئة وذهاباً حتى يذهب بها إلى مدخل النفق الذي يحاول أن يدلها عليه عن طريق مقدمة رأسه، وعندما تبيض الأنثى داخل هذا النفق يدخل الذكر من المقدمة دافعاً الأنثى إلى الخارج عن طريق المؤخرة. وهكذا تعاد العملية مع عدة إناث وهدف الذكر من دخول النفق وطردهن هو تلقيح البيض. وعندما يمتلئ النفق بالبيض يبدأ الذكر بحراسته ويثابر على السماح بدخول الماء العذب إلى النفق، ومن جانب آخر يقوم بترميم الأجزاء التالفة منه، ويستمر في حراسة النفق حتى بعد عدة أيام من فقس البيض. ثم يقوم بعد ذلك بقطع الجزء العلوي من النفق تاركاً السفلي لمعيشة الصغار (48).
كيف تنجح الحيوانات في إنجاز هذا العمل؟
تصوروا إنساناً ليست لديه أية معرفة بالعمارة ولا عمل في قطاع البناء أبداً وليست لديه خبرة في تحضير المواد الأولية للبناء ولا عن كيفية البناء ومع هذا يقوم بإنشاء مسكن بكل براعة وإتقان، كيف يحصل هذا؟ هل يستطيع أن يفعل ذلك لوحده! بالتأكيد لا، فالإنسان الذي يعتبر مخلوقاً عاقلاً وذا منطق من الصعوبة أن يسلك هذا السلوك.(1/57)
إذن هل من الممكن أن تسلك هذه الحيوانات سلوكاً يتطلب ذكاء وقابلية؟ وكما أسلفنا القول في الصفحات السابقة إن أغلب الحيوانات لا تفتقر فقط إلى المخ وإنما تفتقر حتى إلى جهاز عصبي ولو بسيط ولكنها مع ذلك تقوم بحسابات دقيقة جداً عند إنشائها لأعشاشها، وتطبق قوانين الفيزياء وتستخدم أساليب تتطلب مهارة خاصة بالنسيج والخياطة، إضافة إلى إيجادها حلولاً أمام كل المشاكل التي تعترض سبيلها أو سبيل صغارها وبصورة عملية تماماً. وتعد هذه الحيوانات لنفسها خلطة البناء بصورة طبيعية ومتقنة فضلاً عن تركيبها وصفة خاصة لعزل عشها عن تأثيرات البيئة السلبية. ولكن هل يعرف الطير أو الدب القطبي معنى العازل الحراري؟ وهل يفكر هذا الحيوان أو ذاك بضرورة تدفئة عشه أو عرينه؟ والواضح أن هذه الاستنتاجات الفكرية لا يمكن أن تصدر من هذه الحيوانات، إذن كيف اكتسبت هذه الحيوانات مثل هذه الخبرات والمهارات؟
وهذه الحيوانات تتصف كذلك بالمثابرة والصبر في إنشائها لمساكنها على الرغم من كون هذه المساكن في أغلب الأحيان لسكن صغارها فقط.
هناك تفسير واحد لهذه العقلانية والمنطقية والتفاني في سلوك هذه الحيوانات، إنه الإلهام الإلهي. فالبارئ المصور خلقها بهذه الصورة الكاملة وألهمها هذا السلوك كي تحافظ على نسلها وعلَّمها الدفاع عن النفس والصيد والتكاثر كل بأسلوبه الخاص الذي يميزه باعتباره نوعاً حيوانياً مختلفاً، هو الله الحافظ الرحمن الذي رحمته وسعت كل شيء وبرحمته هذه علم هذه الحيوانات كيفية تأسيس أعشاشها وفق تخطيط بارع ومتقن، وما الكلام عن ‘’التطور’’ ومن أن ‘’الطبيعة الأم’’ أو المصادفات هي التي علمت الكائنات الحية هذه الأنماط السلوكية سوى تخبط لا أساس له فكرياً أو علمياً، وما سلوك الحيوانات إلا إلهام إلهي ورحمة واسعة من لدن الرحمن الرحيم.(1/58)
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المبين { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } سورة النحل - الآية .68
إنه هو الذي ألهم النحل كيفية بناء الخلية كما ألهم بقية الحيوانات كيفية بناء مساكنها وكيفية إعداد المواد اللازمة لذلك والأساليب المتبعة لإنجاز تلك الأعمال.
الحفاظ على النسل والتضحية في سبيل صون حياة الصغار
إن الكثير من الكائنات الحية تبدي تفانياً محيراً وتتحمل صعوبات كثيرة لأجل التكاثر ويمكن مشاهدة نماذج كثيرة تضحي بحياتها في سبيل إنقاذ نسلها. فمثلاً هناك أنواع من الحيوانات تقطع كيلومترات عديدة في سبيل وضع البيض، وأخرى تبذل جهداً شاقاً لإنشاء أعشاش آمنة، وأنواع أخرى تموت مباشرة بعد التكاثر ووضع البيض فضلاً عن أنواع أخرى تحمل بيضها في فمها لمدة أسابيع دون أن تتغذى وأخرى تحرس بيضها لمدة أسابيع أيضاً دون كلل أو ملل.
والحقيقة أن هذه الأنماط السلوكية الفريدة تهدف إلى تحقيق غاية واحدة هي الحفاظ على ديمومة الحياة لأن الصغار في حاجة لرعاية الكبار الأقوياء، فلو ترك صغير الغزال وحده في العراء أو ترك بيض طير دون حماية فإن حظهما في البقاء يكون ضئيلاً جداً.(1/59)
والغريب أيضاً في هذه المسألة هو كون الكائنات الحية التي تبدي تفانياً ودأباً في رعاية صغارها هي من أقل الكائنات الحية تكاثراً، فالطيور مثلاً تضع عدداً محدوداً من البيض كل سنة ولكنها تهتم بهذا العدد من البيض اهتماماً بالغاً. وهذا القول يسري في اللبائن أيضاً والتي يمكن القول عنها أنها تلد مولوداً واحداً أو مولودين ولكنها تستمر في الرعاية والعناية مدة طويلة نسبياً، في حين أن كائنات حية لا تبدي اهتماماً ملحوظاً بصغارها بالرغم من كونها تبيض أو تلد أعداداً كبيرة تقدر بالآلاف مثل الأسماك والحشرات والفئران في كل موسم تكاثري، ولكونها بهذا العدد الضخم ضمن العائلة الواحدة فإن الاحتمال عال باستمرار النسل بالرغم من هلاك أعداد كبيرة من الصغار في المراحل الأولى من حياتها. ولو كانت هذه الحيوانات تهتم بصغارها بصورة كبيرة لكانت أعدادها تتزايد باطراد وبالتالي يحدث خلل في التوازن البيئي، ومثال على ذلك فئران الحشائش التي تتكاثر بصورة كبيرة جداً ولو حدث أن حافظت على أعدادها المتزايدة لملأت هذه الفئران وجه البسيطة (49). والمعلوم أن التكاثر يعد إحدى الوسائل الكفيلة بالحفاظ على التوازن البيئي إلا أن الكائنات الحية لا يمكن لها التحكم في خاصية ‘’التكاثر’’ هذه من وحي علمها أو سلوكها المنطقي.
والمعلوم أيضاً أن هذه الكائنات غير عاقلة لذا فلا يمكن أن ننتظر منها سلوكاً ضابطاً للإيقاع التكاثري حفاظاً على التوازن البيئي، ولا حساباً مضبوطاً لتحقيق ضرورة التكاثر من أجل استمرار النسل. وكل هذه الشواهد تدل على وجود قوة تدير هذه السيمفونية الطبيعية، وهي تملي إرادتها على كل كان على حدة ليمارس دوره في ممارسة مهمته في البيئة الطبيعية على أكمل وجه، أي أن الحقيقة تتمثل في عدم وجود من هو خارج السيطرة فكلها تنقاد وتخضع لله الواحد القهار.(1/60)
يقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه المبين عن كيفية تكاثر الأحياء بإذنه جل جلاله وعن كيفية تقديره لحياتها ومماتها
{ اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } سورة الرعد - الآية 8
وَمِن آيَاتِهِ الليلُ وَالنَّهَارُ والشَّمسُ وَالقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهْ تَعْبُدُونَ } سورة فصلت - الآية 47
أما في سورة الشورى - الآية 49 - 50 فيقول تعالى: { لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ أَو يُزَوجُهُم ذُكْرَاناً وإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ }
العناية الفائقة التي تخص بها الكائنات الحية بيضها وصغارها
الظاهرة المعروفة لدى الأحياء أنها تبذل جهداً كبيراً في العناية بالبيض والصغار وتتحمل في سبيل ذلك الصعوبات فهي تقوم بإخفائها عن عيون الأعداء وتحافظ عليها (البيض) من الكسر، إضافة إلى تدفئتها بدرجة معقولة دون تعريضها إلى حرارة عالية، وتقوم بنقل بيضها إلى مكان آخر عند إحساسها بخطر يهددها وتظل تحرسها لعدة أسابيع متواصلة دون كلل أو ملل وحتى أن بعضها يقوم بحمل البيض بفمه. ويمكن لنا أن نلاحظ هذه الأنماط السلوكية المليئة رحمة ورأفة لدى الكثير من أنواع الأسماك والطيور والزواحف.(1/61)
فأفعى ‘’البايتون’’ مثلاً تشكل تهديداً خطيراً لحياة الإنسان إلا أنها تسلك تجاه بيضها سلوكاً ينطق عطفاً ورأفة. فهذه الأفعى تضع تقريباً 100 بيضة في كل مرة وتلتف حولها، للحفاظ عليها من درجة الحرارة العالية بتظليلها وعند هبوط درجة الحرارة تقوم بهز جسمها وترجيفه لأعطاء حرارة الى البيضات . ويظل هذه البيضات بمنأى عن الأخطار طالما ظلت الأفعى الأم ملتفة حولها. وبفضل هذه العناية التي تبديها أنثى ‘’البايتون’’ يقل تأثير الأخطار على حياة الصغار وهم لا يزالون داخل البيض (50).
وهناك بعض أنواع الأسماك يسلك سلوكاً غريباً في العناية بصغاره وهم لا يزالون داخل البيض إذ تقوم السمكة الأم بجمع هذا البيض في تجويف فمها كوسيلة لحمايتها لذا تدعى هذه الأنواع بـ ‘’الأسماك التي ترقد على بيضها بفمها’’، وقسم من هذه الصغار سرعان ما يلوذ إلى فم أمه عندما يشعر بالخطر. وهذا السلوك شائع لدى أسماك القط (الشبوط) أو fish cat التي تستمر في السباحة لمدة أسابيع وفمها ملآن بالبيض الصغير الذي يقدر حجمه بحجم الكرات الفولاذية الصغيرة الموجودة في العجلات الميكانيكية، وتقوم السمكة بخض فمها بين الحين والآخر لتحريك هذا البيض لإفساح المجال لغاز الأكسجين المذاب في الماء للوصول إليها وعند فقس البيض عن صغار ضعاف يلجأون إلى فم أبيهم لعدة أسابيع تالية، وطيلة هذه الفترة لا يتغذى الذكر أبداً ويستخدم مخزونه الدهني في مواصلة فعالياته الحيوية (51).(1/62)
وتعتبر الضفادع الكائن الحي الآخر الذي يحمل صغاره وبيضه في فمه، فضفدع ‘’رينوديرما’’ تحمل أنثاه البيض داخل جسمها وعند حلول موسم التزاوج تضع الإناث بيضها على الأرض ويبدأ الذكور في الدوران حول هذا البيض في حركة تعبر عن قدرته على حمايتها من الأعداء. وعندما تبدأ الأجنحة تتحرك داخل البيض للخروج منها تهجم الذكور على هذه المجاميع لتلتقم أكبر كمية من هذا البيض التي تحاط بطبقة جيلاتينية شفافة ويقوم الذكر بتجميع هذا البيض على جانبي فمه داخل أكياس الصوت، وبالتالي يبدو فمه منتفخاً للغاية، وتبقى فترة داخل الفم إلى أوان اكتمال نموها، وفي النهاية يبدأ الذكر بالتجشؤ عدة مرات وينهي ذلك بأن يتثاءب فاغراً فمه بصورة واسعة ليفسح المجال للصغار الذين اكتمل نموهم للخروج إلى الحياة (52).
وهناك نوع آخر من الضفادع يعيش في أستراليا يقوم بازدراد بيضه ليحافظ عليها ليس في فمه وإنما في كيس موجود في معدته ويبدو للقارئ أن البيض في هذه الحالة معرض للهلاك نتيجة الإفرازات المعدية الهاضمة إلا أن الذي يحدث لدى هذه الحيوانات هو العكس تماماً إذ تتوقف المعدة عن إفراز هذه الأنزيمات لحظة ابتلاع الأنثى لبيضها وبذلك لا يتعرض البيض لأي خطر (53). وهناك أنواع من الضفادع تتبع أساليب متنوعة في الحفاظ على بيضها كضفدع ‘’البيبا’’ الأسود الذي يقوم ذكره بتجميع البيض بواسطة سيقانه الزعنفية ليلصقها إلى ظهر الأنثى ثم ينتفخ الجلد ليساعد على التصاق هذا البيض، ويتكون غلاف رقيق حافظ لهذا البيض، وبعد 30 ساعة يختفي هذا البيض تحت جلد ظهر الأنثى ويعود إلى شكله الأصلي، ويبدأ البيض في النمو تحت جلد الأنثى. وبعد 15 يوماً تبدأ اليرقات في التحرك داخل البيض والتي تجعل ظهر الأنثى تبدو وكأنها في حركة التوائية. وبعد مرور 20 يوماً تشرع الضفادع الصغيرة في الخروج عبر ثقوب تكون قد فتحتها في جلد الأم، وبعد خروجها تبدأ في البحث عن ملجأ آمن لها في الماء.(1/63)
أما الضفدع الأوروبي الأسود والمسمى بالمولد أو القابلة فهو يقضي أغلب حياته على يابسة غير بعيدة عن الماء وتتزاوج في اليابسة وتترك الأنثى بيضها على الأرض، ويلقي الذكر عليها حيامنه، وبعد نصف ساعة يقوم الذكر بلصق هذا البيض بعضه ببعض كأنما يقوم بترتيب حبات المسبحة على الخيط، ثم يلصق هذه السلسلة على سيقانه الخلفية وتبقى هكذا لمدة أسابيع عديدة يجرها معه أينما ذهب وعندما يبدأ هذا البيض في الفقس يلقي بها في الماء، ويبقي سيقانه في الماء حتى اكتمال خروج الصغار من البيض. وعند اكتمال هذه العملية يرجع إلى مسكنه على اليابسة (54).
بعد هذا العرض للأمثلة العديدة تبرز أمامنا نقطة مهمة للغاية، وهي الانسجام الكامل بين التكوين الخلقي لهذه الكائنات الحية والأنماط السلوكية التي تمارسها. فالضفدع الذي يملك تجويفاً خاصاً في جسمه يستخدمه للحفاظ على البيض ولكنه لا يعلم عن وجود هذا التجويف إلا أنه مع ذلك يسلك سلوك العارف بوجوده، أما الضفدع الآخر الذي ورد ذكره في الأمثلة فإنه غير عاقل ولا يملك الإرادة أن يوقف إفراز الأنزيمات الهاضمة في معدته كي لا تصيب البيض بأي ضرر، وعلى افتراض أن هذا النوع من الضفادع يملك القابلية على إيقاف إفراز الأنزيمات فإن هذا الفرض ينافي طبيعة الكائنات الحية التي لا تملك القابلية على التحكم في الأفعال اللاإرادية، وكذلك الحال بالنسبة إلى الضفدع الذي يرعى صغاره تحت جلدة ظهره. كل هذه الشواهد الحية من توافق بين التركيبة الخلقية والأنماط السلوكية لم تتشكل بمحض الصدف أبداً.(1/64)
وهذه الصفات التي أوردناها كأمثلة تحمل في جوهرها تصميماً وتخطيطاً لا يمكن إنكارهما. والواضح للعيان أن هذه الكائنات الحية التي تمتلك خاصية الانسجام بين التركيب الخلقي وأنماطها السلوكية هي كائنات مخلوقة من قبل المولى عزَّ وجلَّ وهو الذي أبدع صورتها وخلقها. ولا يمكن ملاحظة مشاعر الأمومة والأبوة والرأفة المبثوثة في المخلوقات بالأمثلة أعلاه فحسب بل هناك أمثلة أخرى كالنمل والنحل وغيرها التي تبذل اهتماماً منقطع النظير في الحفاظ على البيض وعلى اليرقات داخل الشرانق، فالعاملات تقوم بحمل البيض إلى غرف خاصة داخل الخلية المنشأة تحت الأرض، وكذلك الأمر مع اليرقات داخل الشرانق، وتغير هذه العاملات مكان بيضها ومكان الشرانق أيضاً حسب تغير درجة الحرارة والرطوبة داخل الخلية إضافة إلى سعيها الحثيث إلى الحفاظ على راحة البيض واليرقات بأن تحملها في فمها لتغيير مكانها في رحلات متواصلة بين الغرف داخل الخلية. وإن حدث أن داهم الخطر الخلية كلها تقوم العاملات بحمل البيض والشرانق إلى مكان آمن خارج الخلية (55).
أما اهتمام الطيور ببيضها فيأخذ أشكالاً متنوعة تثير الحيرة والدهشة في آن واحد. فنحن نجد مثلاً طير ‘’المطر’’ الصغير الذي يضع أربع بيضات في حفرة بالأرض، وإن حدث أن ارتفعت درجة الحرارة يقوم بِبلِّ ريشه الأمامي ثم يرقد على البيض ويلامس البيض بريشه المبتل، وهكذا يستطيع أن يخفف من تأثير الحرارة العالية (56).(1/65)
ومما نشاهده أن الكائنات الحية البيوضة تقوم بتهيئة وسط ملائم من ناحية درجة الحرارة لاكتمال نمو الأجنة داخل البيض، فالطيور الغطاسة على سبيل المثال تبني أعشاشها من الطحالب الطافية على الماء وتقوم هذه الطيور بتغطية بيضها بهذه الطحالب، وهذه العملية توفر نوعاً من التكييف الحراري داخل العش. أما البجع فيرقد على البيض لتوفير الدفء اللازم لنمو الأجنة ويغير من وضع رقاده بين الحين والآخر لتوفير دفء متساو لجميع البيض (57).
أما الطائر الرملي فيستخدم أسلوباً آخر في توفير الدفء لبيضه، فبعد أن تضع الأنثى بيضها يتولى الذكر الاهتمام بهذا البيض فيرقد عليه وينتف ريش صدره في أنحاء العش فتمتلئ الأوعية الدموية الموجودة في صدره بكمية زائدة من الدم، وحرارة هذا الدم تكون كافية لتوفير الدفء اللازم للبيض طيلة أكثر من ثلاثة أسابيع. وعندما يخرج الصغار بعد فقس البيض يستمر الذكر في رعاية الصغار أكثر من أسبوع ونصف ومن ثم يتناوب مع الأنثى في أداء هذه الوظيفة (58).(1/66)
إن الاهتمام بالحفاظ على درجة الحرارة داخل العش بمستوى محدود ومقبول يعتبر أمراً ذا أهمية قصوى لكافة الكائنات الحية. والمثير للدهشة أن الحيوانات تتبع أساليب مختلفة ومتنوعة في إنجاز هذه العملية الحياتية المهمة وتبدي حساسية بالغة تجاهها. وهنا تبدو أمامنا استحالة إدراك الطير أو الأفعى أو النحل لأهمية الحفاظ على الحرارة بمستوى دقيق وبالتالي اتباعها أسلوباً مثيراً للاستغراب في إنجاز هذه العملية من تلقاء ذاتها. ومصدر هذه المعرفة والإدراك هو الله سبحانه وتعالى الذي خلق هذه الكائنات وأودع فيها هذه الخصائص الحياتية ليضرب بها الأمثال للإنسان المتفكر. وهذه الكائنات الحية وهي تسبك سلوكاً من وحي إلهام إلهي تنشط نشاطاً دؤوباً لا يعرف الكلل ولا الملل. فمثلاً تبني بعض الطيور عدة أعشاش يكون أحدها لرعاية الصغار وتنشئتهم والأخرى لوضع البيض والرقود عليه. ويتصف بهذه الصفات كلاً من طائر ‘’المطر’’ الصغير والطيور الغطاسة إذ يتناوب الذكر والأنثى في عملية الرقود على البيض والاهتمام بالصغار.(59)
والأغرب من هذا مساعدة الفراخ الموجودة في العش الأول للفراخ الموجودة في العش الثاني، وهذا النموذج يمكن رؤيته لدى طائر ‘’دجاج الماء’’ و ‘’خطاف الشباك’’ حتى أن أزواج الطيور تساعد أزواجاً أخرى في العمل مثلما هو موجود لدى طائر النحل. وهذا النوع من التعاون والتكافل شائع لدى الطيور عامة (60). وهناك عامل مهم في نسف نظرية التطور من الأساس، يتلخص في الرأفة التي تبديها الحيوانات ليس فقط تجاه صغارها بل تجاه صغار حيوانات أخرى. وحسب ادعاء دعاة التطور يكون من المستحيل رؤية هذه الأنماط من السلوك لدى الكائنات الحية في حين أن ما يصدر عنها من سلوك هو مثال في الرأفة والتضحية ومن المستحيل أن تكون قد تشكلت بالمصادفة. وأمثلة ذلك لا تحصى. وهذا من الأدلة الواضحة على أن الطبيعة ليست وليدة المصادفة والعبث كما يدعي الماديون.(1/67)
بطريق الإمبراطور وصبره الخيالي
هناك حيوان يظهر عزماً غريباً وصبراً لا مثيل له وتفانياً مثيراً للدهشة في الحفاظ على بيضه، إنه بطريق الإمبراطور.
هذا الحيوان يعيش في القطب الجنوبي الذي يتميز بظروف بيئية قاسية جداً. تبدأ أعداد كبيرة من هذا الحيوان تقدر بـ 25000 بطريق رحلتها التي تقدر بعدة كيلومترات لاختيار المكان المناسب للتزاوج، وتبدأ هذه الرحلة في شهر مارس وأبريل (بداية موسم الشتاء في القطب الجنوبي)، ومن ثم تضع الأنثى بيضة واحدة في شهر مارس أو حزيران. وهنا نجدد الإشارة إلى أن البطريق الزوج لا يقوم ببناء عش لبيضته لعدم وجود ما يبني به في بيئة مغطاة بالجليد. بيد أنه لا يترك بيضته تحت رحمة برودة الجليد حتى لا تتعرض للتجمد نتيجة البرودة القاسية، لذا يحمل بطريق الإمبراطور بيضه على قدميه ويقترب الذكر من الأنثى بعد وضعها للبيضة الوحيدة بعد ساعات لاصقاً صدره بصدرها ويرفع البيضة بقدميه. ويحرص كلاهما أشد الحرص على ألا تمس البيضة الجليد، يقوم الذكر بتمرير أصابع قدميه تحت البيضة ومن ثم يرفع الأصابع ليدحرج البيضة باتجاهه. وهذه العملية تتم بكل هدوء وإتقان لتجنب كسر البيضة. وأخيراً يقوم بحشرها تحت ريشه السفلي لتوفير الدفء اللازم.(1/68)
وعملية وضع البيضة تستهلك معظم الطاقة الموجودة في جسم الأنثى لذا فإنها تذهب إلى البحر لتجمع غذاءها وتسترجع طاقتها في حين يبقى الذكر لحضن البيض، تمتاز فترة حضن البيض لدى بطريق الإمبراطور بصعوبة مقارنة بباقي أنواع الطيور، إضافة إلى حاجتها الشديدة للصبر من جانب الذكر، فهو يقف دون حراك مدة طويلة وإذا لزمت الحركة فإنه لا يفعل ذلك إلا لأمتار قليلة. وعند الخلود إلى الراحة يستند الطير على ذنبه كما لو أنه قدم ثالثة ويرفع أصابع قدميه بصورة قائمة كي لا تلمس البيضة الجليد. ومن الجدير بالذكر أن درجة الحرارة في الأقدام المغطاة بالريش السفلي أكثر ب: 80 درجة عن المحيط الخارجي لذلك لا تتأثر البيضة بظروف البيئة الخارجية القاسية.(1/69)
وتزداد ظروف البيئة قسوة كلما تقدم فصل الشتاء بأيامه وأسابيعه حتى أن الرياح والعواصف تبلغ سرعتها 120 - 160 كم في الساعة، وبالرغم من ذلك يبقى الذكر ولمدة أشهر دون غذاء ودون حراك إلا للضرورة ضارباً مثلاً مثيراً للدهشة في التضحية من أجل العائلة، وتبدي العائلة تضامناً كبيراً لمقاومة البرودة القاسية إذ أن حيوانات البطريق تتراص واضعة مناقيرها على صدورها وبذلك يصبح ظهرها مستوياً مشكلة دائرة فيما بينها وسداً منيعاً من الريش في مواجهة البرد القارس. وتحدث هذه العمليات بإخلاص وتنظيم دقيق دون أن تحدث أية مشكلة بين الآلاف من هذه الطيور المتراصة، وتظل هكذا لمدة أشهر عديدة بصورة من التعاون المدهش والمثير للحيرة والإعجاب. فالإنسان تصيبه مشاعر الملل والأنانية في هذه الظروف القاسية رغم كونه مخلوقاً عاقلاً يسير وفق مقاييس أخلاقية وعقلية. ولكن البطريق يبقى متعاوناً متكاتفاً ويعمل الفرد من أجل المجموعة بأكمل صورة ممكنة، والتضحية التي يبديها هذا الحيوان للحفاظ على البيض تحت هذه الظروف القاسية تعتبر منافية لمفاهيم نظرية التطور التي تدعي أن البقاء للأصلح والأقوى، ونكتشف أن الطبيعة ليست مسرحاً للصراع بل معرضاً للتفاني والتضحية التي يبديها القوي للحفاظ على حياة الضعيف. وبعد ستين يوماً من الظروف القاسية تبدأ البيضة في الفقس، ويستمر الذكر في تفانيه من أجل الصغير علماً أن هذا الذكر لم يتغذ أبداً طيلة فترة الرقود على البيض. ومن المعلوم أن البطريق الخارج لتوه من البيض ضعيف يحتاج إلى تغذية وعناية مستمرة فيفرز الذكر من بلعومه مادة سائلة شبيهة بالحليب يتم إعطاؤها للفرخ الصغير ليتغذى عليها. وفي هذه الفترة الحرجة تبدأ الإناث في العودة وتبدأ بإصدار أصوات مميزة فيرد عليها الذكور بصوت مقابل وهي الأصوات نفسها التي استخدمت في موسم التزاوج وبواسطتها يعرف الذكر والأنثى بعضهما البعض. وقد وهبها الله سبحانه وتعالى قدرة(1/70)
التمييز الخارقة بين الأصوات وهو اللطيف الخبير.
تكون الأنثى قد تغذت جيداً طيلة فترة الغياب ويكون لديها مخزون جيد للغذاء، تضع هذا المخزون أمام الفرخ الصغير وهو أول طعام حقيقي يتناوله بعد خروجه من البيض. وقد يتبادر إلى الذهن أن عودة الأنثى تعني خلود الذكر للراحة ولكن هذا لا يحدث أبداً، فالذكر يظل على اهتمامه ورعايته لمدة عشرة أيام أخرى ويقوم خلالها بمسك الفرخ الصغير بين قدميه، ثم يبدأ رحلة بعد ذلك إلى البحر ليتغذى بعد حوالي أربعة أشهر من الصيام عن الحركة والغذاء. ويظل الذكر غائباً من ثلاثة إلى أربعة أسابيع يعود بعدها إلى الاهتمام بالفرخ كي ترجع الأنثى بدورها إلى البحر لتصيب من الغذاء ما تيسر لها. تكون هذه الفراخ الصغيرة في المراحل الأولى من حياتها غير قادرة على تنظيم حرارة أجسامها لذا تكون معرضة للموت في حالة تركها وحيدة تحت ظروف البرد القاسية، لذا يتناوب الذكر والأنثى في عملية الحفاظ على حياة الصغير وتوفير الدفء والغذاء له (62).
وكما هو واضح في هذا المثال فكلاهما يتفانى ويضحي حتى بحياته إذا اقتضى الأمر في سبيل الحفاظ على حياة الفرخ الصغير. إن الإلهام الإلهي هو التفسير الوحيد لهذه التضحية والتعاون الذين يبديهما الذكر والأنثى. إن المتوقع من هذا الحيوان أن يترك هذا البيض وشأنه ويفكر في الخلاص والنجاة من البرد القاسي إلا أن لطف الله سبحانه وتعالى بهذه الحيوانات جعلها ترأف ببيضها وفرخها وتظهر هذه الصورة الرائعة من التكاتف والتعاون والتضحية.
حصان البحر: الكائن الحي الوحيد الذي يلد ذكره(1/71)
يتميز ذكر هذا الحيوان بكون جسمه يحتوي على كيس خاص يضع فيه البيض الذي تضعه الأنثى، وتقوم الأنثى بوضع هذا الجنين داخل كيس الذكر، فيقوم هو برعاية هذا البيض ومده بالغذاء عبر سائل يتم إفرازه داخل هذا الكيس شبيه بسائل البلازما، وتستمر عملية التغذية حتى اكتمال نمو الجنين. يظل الذكر على هذا الوضع مدة تتراوح بين عشرة أيام واثنين وأربعين يوماً. وتقوم الأنثى بتفقد الذكر كل صباح، ومراقبة البيض لتساعده في معرفة لحظة اقتراب الولادة وبالتالي التهيؤ من أجل وضع البيض مرة أخرى (63).
سمك الأثرينا والرحلة المحفوفة بالمخاطر
يتميز هذا النوع من السمك عن باقي الأنواع بأنه يضع بيضه على اليابسة، لأن البيض لا يكتمل نموه إلا في هذا الوسط. والرحلة إلى اليابسة ولو لفترة قصيرة تعني الموت بالنسبة إلى هذه الأسماك. وبالرغم من هذه المخاطر تقوم هذه الأسماك برحلتها مجابهة خطر الموت في سبيل الحفاظ على النسل، وبفضل الإلهام الإلهي تقوم هذه الكائنات باختيار الوقت والظرف المناسبين للخروج من الماء، وتنتظر هذه الأسماك إلى أن يصبح القمر بدراً ثم تخرج لدفن البيض في رمال الساحل. وانتظارها للبدر يرجع إلى أن الأمواج العاتية تتزامن مع اكتماله فتزحف هذه الأمواج على السواحل الرملية. وهذه الأمواج تستمر مداً وجزراً لمدة ثلاث ساعات تختار فيها هذه الأسماك الموج الملائم كي تمتطيه لإلقاء فقسها على الساحل الرملي. وعند انحسار الموج تقوم الأنثى في خلال هذه الفترة القصيرة والخطيرة بحفر مكان بعمق خمسة سنتمترات بواسطة جسمها المتقلص والمنحني وتقوم بوضع بيضها في هذه الحفرة.(1/72)
لا تنتهي هذه العملية عند هذا الحد لأنه يجب على الإناث دفن البيض وتغطيته كي ينمو بصورة جيدة. كل هذه الخطوات يجب أن تحدث قبل أن تنحسر مياه الأمواج وإلا فإن حياة السمكة سوف تكون معرضة للهلاك. والملاحظ في هذا المثال أن السمكة تخاطر بحياتها حرصاً على النسل في صورة رائعة من التضحية والفداء فضلاً عن سلوك يتسم بالحساب الدقيق والتقدير الذكي (64).
ولو تأملنا في سلوك هذه السمكة الذي يتسم بالتخطيط والتضحية لأدركنا أن هناك موجهاً ومنظماً لهذه الخطوات، فالسمك يعمد إلى اختيار هذا الأسلوب للتكاثر من بين المئات من الأساليب الأخرى. لنفترض أن هذا النوع من السمك قد اكتسب هذه الطريقة في التكاثر عن طريق المصادفة، ترى ماذا يمكن أن يحدث بعد ذلك؟ إن هذه السمكة ستتعرض للموت في أول خروج لها إلى اليابسة لأنها ستقوم بتجربة أنجع وسيلة لوضع البيض خلال فترة قصيرة جداً وخطيرة وتحت ظروف مستحيلة أيضاً، لذا فإن انتظارها للبدر وتزامنه مع مد الأمواج وجزرها على الساحل الرملي وامتطاءها لهذه الأمواج وخروجها إلى الساحل ووضعها البيض ودفنها إياه كل ذلك ليس إلا وحياً وإلهاماً من الله العلي القدير الذي ألهمها بلطفه هذه المقدرة الفائقة.
العش الذي ينشئه السمك المقوس من الطحالب(1/73)
تقوم أنثى هذا النوع من السمك بوضع البيض طوال شهري مارت وحزيران، والعلامة الدالة على موسم التبييض هي بروز لون البقعة السوداء الموجودة في نهاية الذيل. وتختار الأنثى موضعاً قريباً من ضفة بحيرة أو نهر جار تكثر فيه الطحالب وتنشئ في هذا الموضع عشاً دائري الشكل، وفي تلك الأثناء يقوم الذكر بالسباحة حول نفسه دافعاً الطحالب اللازمة نحو الأسفل لبناء العش، يلتصق البيض عند الوضع بأوراق النباتات وفروعها التي بني منها العش فيقوم الذكر بحراستها والسباحة حولها بحركة مستمرة لدفع الماء وتحريكه تسهيلاً للتهوية اللازمة لأجنة البيض. ويستمر الذكر في رعاية الصغار حتى يبلغ طول الواحد منها 10 سم(65).
الرحلة الطويلة من أجل التكاثر: الحوت الرمادي
في ديسمبر ويناير من كل سنة يقوم ‘’الحوت الرمادي’’ برحلة تبدأ من المحيط المتجمد الشمالي عبر السواحل الشمالية والجنوبية الغربية لأمريكا متوجهاً إلى كاليفورنيا، وهدفه من هذه الرحلة بلوغ المياه الدافئة للتكاثر، والغريب في هذه الرحلة أن الحيوان لا يتغذى أبداً، وذلك لأنه سبق أن تغذى جيداً في الصيف السابق لهذه الرحلة من مواد الغذاء الموجودة في المياه القطبية الشمالية. وتضع الأنثى مولودها عند بلوغها المياه الاستوائية القريبة من السواحل الغربية للمكسيك، وترضع الأنثى صغيرها اللبن مثل جميع اللبائن ويكون غنياً بالدسم اللازم لطاقة الصغير الضرورية له للعودة مع باقي الحيتان الرمادية في رحلة مضنية إلى المناطق الشمالية الباردة (68).
العناية الفائقة التي تبديها سمكة ‘’السحليد’’(1/74)
يظهر ذكر هذا النوع من السمك وأنثاه عناية فائقة بالبيض والصغار، فيظل أحدهما واقفاً فوق المكان الذي يوضع فيه البيض ويحرك زعانفه وذيله باستمرار ويتناوبان على أداء هذا العمل بضعة دقائق، والهدف من التحريك هذا هو إتاحة أكبر كمية ممكنة من الأوكسجين اللازم لنمو الأجنة وكذلك منع تراكم سبورات الفطريات التي تحول دون نمو الأجنة. وهذه العناية التي يبديها هذا النوع من السمك تجاه بيضه مردها أن النظافة هي العنصر الأساس في نمو الأجنة، حتى أن هذا السمك يقوم بإتلاف البيض غير الملقح كي يمنع تعفنه لأن ذلك يؤدي إلى إلحاق الضرر بباقي البيض الملقح. وفي المراحل التالية يحمل الذكر والأنثى البيض بفمهما بالتناوب لوضعه في حفر صغيرة على شكل شقوق في الرمل إلى أن يحين الفقس، وتتكرر عملية الحمل عدة مرات حتى يكتمل نقلها، وعند فقس البيض عن أسماك صغيرة يتولى الذكر والأنثى مهمة الحماية بالتناوب أيضاً. وتكون هذه الأسماك عموماً مجمعة في مكان واحد وإذا حدث وإن ابتعدت واحدة منها عن المجموع فإن الذكر أو الأنثى يحملها في فمه ويعيدها إلى مكان اجتماع الصغار مرة أخرى (69).
ليست سمكة السحليد الوحيدة التي تهتم بالنظافة اهتماماً شديداً بل هناك مخلوقات أخرى مشهورة في هذا المجال مثل: ‘’أم أربع وأربعين’’ فالأنثى تعمل على لحس البيض باستمرار لكي تمنع نمو الفطريات عليها ثم تلف نفسها حوله لتوفر لها الحماية الكاملة (70). أما أنثى الأخطبوط فتضع بيضها بين الشقوق الموجودة في الأحجار وتظل تراقبها بعناية، وبين الحين والآخر تنظف هذا البيض بدفع الماء إليه بواسطة التراكيب العضوية اللامسة الموجودة في أذرعها (71).
التفاني لدى النعام(1/75)
من المعلوم أن أشعة الشمس القوية التي تشرق على قارة إفريقيا لها تأثيرات قوية وقاتلة على الكائنات الحية، لذا تلجأ الكائنات هذه القارة إلى المناطق الظليلة لحماية نفسها من هذه الأشعة، ويشذ عن هذه القاعدة النعام الذي يستوطن جنوبي إفريقيا لأنه يهتم بحماية بيضه وفراخه من الشمس أكثر من حماية نفسه، يستخدم جناحيه الواسعتين في التظليل على بيضه وفراخه (72) ولكن الملاحظ هنا أن هذا الطير يقف بجسمه تحت الشمس من أجل حماية العش ضارباً المثل بالتضحية من أجل الصغار الضعاف.
‘’العنكبوت الذئب’’ وحمله صغاره داخل كيس حريري
تقوم أنثى العنكبوت بوضع بيضها داخل شرنقة حريرية على شكل كرة أو على شكل قرص، وتقوم بفرز هذه الشرنقة لتكوين ملجأ آمناً لبيضها فتقوم بلصق هذه الشرنقة بمؤخرة بطنها وتظل هكذا أينما ذهبت وإذا انفصلت عن جسمها تعود وتلصقها مرة أخرى. ويفقس هذا البيض عن عناكب صغيرة تظل داخل الشرنقة حتى أوان انشقاقها ثم تخرج إلى ظهر أمها وتظل تحملهم في حلها وترحالها. وبعض أنواع هذا الجنس من العنكبوت تكون أعداد صغاره كثيرة حتى أنهم يشكلون طبقة فوق طبقة على ظهر الأم، مع العلم أن صغار العناكب هذه لا تتغذى في هذه المرحلة.
هناك نوع آخر يدعى بـ ‘’عنكبوت الذئب المعجزة’’ وتقوم أنثى هذا العنكبوت عند حلول موسم فقس البيض في شهر حزيران أو تموز بفصل الشرنقة الحاوية على البيض ونسج مظلة عليها ثم تكمن لحراستها، وفي تلك الأثناء يكون البيض قد فقس عن عناكب صغيرة غير مكتملة النمو وتبقى داخل المظلة، وعند اكتمال نموها تخرج منها متفرقة إلى نواحي شتى (73).
لا شك أن هذا السلوك المتسم بالإخلاص والرعاية والرأفة والصبر يثير في أذهاننا تساؤلات عديدة.
حول اهتمام الحشرات بالبيض(1/76)
إن المصاعب التي تواجه بعض أنواع الحشرات التي تعيش على سطح المياه تعتبر معها الحياة شبه مستحيلة لأن بيضها على درجة كبيرة من الضعف تجاه التيبس، وإذا ترك على سطح الماء فإنه سيتعرض لهذا الخطر، أما إذا وضع تحت سطح الماء فإن الأجنة التي بداخلها سوف تهلك لانعدام الأكسجين، لذا تتولى ذكورها عملية تهوية البيوت الموضوعة على سطح الماء وترتيبها. وهناك حشرة مائية عملاقة تدعى ثوسيروس. تقوم أنثى هذه الحشرة بوضع البيض على غصن طاف على الماء وأما الذكر فيغطس في الماء ويخرج منه واثباً من فوق هذا الغصن كي تتساقط من جسمه قطيرات الماء على هذا البيض لترطيبه وحمايته من خطر باقي الحشرات. أما حشرة بيلوستوما العملاقة - التي غالباً ما تتم رؤيتها في أحواض السباحة - فتقوم الأنثى بلصق البيض على ظهر ذكر الحشرة ويتحتم عليه السباحة في الماء لترطيبه وتهويته، ويظل لعدة ساعات يحرك أطرافه الخلفية والأمامية للأمام والخلف أو يظل ملتصقاً بغصن طاف لترطيب وتهوية هذا البيض.
أما الحشرات ذات الأجنحة الغمدية وخصوصاً من نوع ‘’بليديوس’’ والبرية من نوع ‘’بمبيديون’’ والتي تكثر في المستنقعات من نوع ‘’هتروسيروس’’ فتتميز بخاصية غريبة جداً في المحافظة على البيض من تأثير المياه التي تغمرها، فتقوم بسد فتحة شرانق البيض الضيقة عندما تغمرها المياه وتفتح هذه الفتحة عند انحسار الماء عنها (75).
إن استخدام الحشرات لهذه الطرق المتقدمة في الحفاظ على سلامة البيض تنم عن سلوك منطقي مستند إلى عقل مدبر مما يقودنا إلى حقيقة الخلق مرة أخرى.
اهتمام النحل البري بصغاره الذين لن يراهم أبداً(1/77)
هناك نوع من النحل البري يدعى بـ ‘’الحفار’’ لأنه يحفر في الأرض حفرة خاصة ليرقته وتكون هذه الحفرة منحنية بعض الشيء. وعملية الحفر بالنسبة إلى هذه الحشرة غاية في الصعوبة، فهي تأخذ حفنة بفمها وتدفعها بأطرافها الأمامية للتخلص منها. وهناك خاصية أخرى لهذا النوع من النحل وهي إتقانه للتمويه فهو لا يترك أثراً أبداً على عملية الحفر، ويتمثل هذا التمويه في التقامه لكتل التراب التي أزالها عن الحفر ويجعلها تحت فكه وينقلها جزءاً جزءاً إلى مكان بعيد ثم يضع هذه الأجزاء مبعثرة منتشرة لا تجلب الانتباه. وعندما ينتهي الحفر ويصبح هناك مكان متسع لحجم النحلة تبدأ الأنثى بتكوين ملحق خاص لهذه الحفرة مؤقتاً وتبدأ رحلة طيران من أجل البحث عن الغذاء.(1/78)
تتخصص أنواع هذا النحل في اصطياد أنواع من الحشرات مثل الجراد واليرقات والحشرات الطنانة، وطريقة اصطياده لفريسته مختلفة عن المعتاد لأنه عند اصطياده لها لا يقتلها بل يعمل على تخديرها بواسطة إبرته اللاسعة ثم يحملها إلى ملجئه الآمن، وعند وصوله إليه يضع بيضته الوحيدة على هذه الفريسة المخدرة التي تظل طازجة تكفي مادة غذائية لليرقة التي ستخرج من البيضة. وبعد أن توفر الأم المكان والغذاء لصغيرها يكون من اللازم توفير الحماية له، فتجتهد في سد مدخل الحفرة بالتراب والحصى بكل إتقان وعناية ثم تتناول قطعة حجر بفكها وتستخدمها بمثابة مطرقة لتسوية مدخل الحفرة، وفي النهاية تقوم بتهذيب التراب في المدخل بواسطة سيقانها المشوكة كي تكتمل عملية التمويه. وهكذا تصبح الحفرة مخفية تماماً إلا أن هذه الحشرة لا تكتفي بذلك بل تنشر عدة حفر وهمية هنا وهناك بالقرب من الحفرة الأصلية للتمويه أيضاً. أما الغذاء الموجود في الحفرة فيكفي لتغذية اليرقة التي ستخرج من البيض حتى اكتمال نموها لتصبح حشرة كاملة تستطيع الخروج من الحفرة إلى العالم الخارجي (77). إن الحيوان الصغير الذي سيخرج من البيضة يكون مجهولاً دوماً بالنسبة إلى الأم ولكنها تعد له مسكناً آمناً وغذاء كافياً وتتحمل لتحقيق ذلك صعوبات جمة، وكل ذلك ضمن سلوك يتم بأعلى درجات التضحية والإخلاص والرقة.(1/79)
ويتضح لنا من خلال هذا المثال أن الحشرة الصغيرة غير العاقلة لا تستطيع أن تتصرف من تلقاء نفسها هكذا إلا أن يكون ذلك بوحي توجيه من قوة علوية تهديها نحو الأمن والسلامة. ودعاة التطور كما وضحنا سلفاً يدعون بأن هذه الأنماط السلوكية المبرمجة في هذه الأحياء وهذه البرمجة مصدرها الطبيعة أو المصادفات الموجودة في هذه الطبيعة، ونحن نعرف أن هذه المصادفة غير عاقلة ولا شعورية في الوقت نفسه. ولو تأملنا هذه الأنماط السلوكية الصادرة عن هذه الأحياء غير العاقلة لأدركنا مدى سطحية هذا الإدعاء العقيم. والإنسان يستطيع أن يدرك أن الإلهام الإلهي لهذه الأحياء هو مصدر سلوكها العجيب والغريب.
كل شيء من أجل الصغار
غالباً ما يكون الصغار محتاجين إلى الرعاية والاهتمام وهم يخطون خطواتهم الأولى في الحياة، وعموماً يكون هؤلاء إما عمياناً أو عراة أو لا يملكون مهارات كافية في الصيد، لذا وجب الاعتناء بهم وتوفير الرعاية لهم من قبل الأبوين أو القطيع إلى حين النضوج وإلا فإنهم قد يهلكون نتيجة الجوع والبرد. ولكن العناية الإلهية قضت بأن يعتني الكبار بالصغار في صور رائعة من الفداء والتضحية.(1/80)
تصبح الكائنات الحية خطيرة وحساسة جداً في حالة تعرض صغارها لأي خطر، ورد فعلها عند شعورها بخطر هو الفرار إلى أماكن آمنة، وإذا تعذر عليها النأي بنفسها عن الخطر تصبح هذه الكائنات متوحشة وحادة حفاظاً على حياة الصغار بشكل أساسي، فالطيور والخفافيش (الوطاويط) على سبيل المثال لا تتوانى في مهاجمة الباحثين الذين يأخذون صغارها من الأعشاش لغرض البحث والدراسة (79)، وكذلك الحمر الوحشية أو الزيبرا التي تعيش على شكل مجاميع. وعندما يتهدد الخطر حيوانات مثل ابن آوى تقوم المجموعة بتوزيع الأدوار فيما بينها لحماية الصغار والذود عنهم بكل شجاعة وإقدام. وتحمي الزرافة صغيرها تحت بطنها وتهاجم الخطر بساقيها الأماميتين، أما الوعول والظباء فتتميز بحساسية مفرطة وتهرب عند إحساسها بالخطر، وإذا كان هناك صغير ينبغي الذود عنه فلا تتردد في الهجوم مستخدمة أظلافها الحادة.
أما اللبائن الأصغر حجماً والأضعف جسماً فتقوم بإخفاء صغارها في مكان آمن وعندما تحاصر تصبح متوحشة ومتوثبة في وجه العدو الذي يجابهها. فالأرنب على سبيل المثال مع فرط حساسيته وضعفه يتحمل المشقة والصعاب من أجل حماية صغاره، فهو يسرع إلى عشه أو وكره ويعمد إلى ركل عدوه بأرجله الخلفية، ويكون هذا السلوك أحياناً كافياً لإبعاد الحيوانات المفترسة (80). وتتميز الغزلان بكونها تعمد إلى الجري وراء صغارها عند اقتراب الخطر منها، فالحيوانات المفترسة غالباً ما تهاجم من الخلف لذلك فإن الغزالة تكون بذلك أقرب ما تكون من صغارها وتبعدهم عن مواطن الخطر، وفي حالة اقتراب الخطر تجتهد في صرف نظر الحيوان المفترس بهدف حماية صغيرها (81).(1/81)
وهناك بعض اللبائن تستخدم ألوان أجسامها للتمويه وسيلة لدرء الخطر إلا أن صغارها تحتاج إلى توجيه وتدريب على وسيلة الاختفاء هذه، ومثال على ذلك حيوان اليحمور حيث تقوم الأنثى بالاستفادة من لون صغيرها في خطة للتنكر بهدف الإفلات من الأعداء، تخفي صغيرها بين شجيرات وتجعله ساكناً لا يتحرك، ويكون جلد الصغير بني اللون مغطى ببقع بيضاء، هذه التركيبة اللونية مع أشعة الشمس المنعكسة تكون خير وسيلة للانسجام مع لون الشجيرات التي تحيط به. فطريقة التخفي هذه تكون كافية لخداع الحيوانات المفترسة التي تمر بالقرب منه، أما الأم فتبقى على بعد مسافة قصيرة تراقب ما يحدث دون أن تثير انتباه الأعداء، غير أنها تقترب أحياناً من صغيرها لكي ترضعه. وقبل ذهابها إلى الصيد تجبر صغيرها على الجلوس بواسطة منخرها، ويكون الصغير عادة متيقظاً وحذراً، وعندما يسمع صوتاً غير عادي سرعان ما يعود إلى الجلوس والاختفاء خوفاً من أن يكون مصدر خطر بالنسبة إليه. ويظل الوليد على هذا الشكل حتى يصبح قادراً على الوقوف على قدميه والتنقل مع أمه (82).
وثمة حيوانات تظهر رد فعل عنيف تجاه العدو بل وتوجيه ضربات بهدف تخويفه وإبعاده مثل البوم وبعض أنواع الطيور التي تسلك سلوكاً استعراضياً يتمثل في مد جناحيه ليبدو أكبر من حجمه الطبيعي. وهناك طيور تقلد فحيح الأفاعي لإرهاب الأعداء مثل الطائر ذو الرأس الأسود الذي يصدر أصواتاً صاخبة ويرفرف بجناحيه داخل عشه، ويبدو الأمر مخيفاً داخل العش المظلم وسرعان ما يلوذ العدو بالفرار أمام هذه الضوضاء والحركة (83).(1/82)
والظاهرة الملحوظة لدى الطيور التي تعيش على شكل تجمعات هي العناية التي يوليها الكبار للصغار وحرصها على حمايتها وخصوصاً من خطر طيور ‘’النورس’’ إذ ينطلق فرد أو اثنان بالغان ويحومان حول مكان تجمع الأسراب لترهيب النوارس وإبعادها عن الصغار. ومهمة الحماية هذه يتم تنفيذها بالتناوب بين الطيور البالغة وكل من ينهي مهمته يذهب إلى مكان آخر بعيد تتوفر فيه المياه للصيد والتغذية وجمع الطاقة للعودة مرة أخرى (84).
وتتميز الوعول بروح التضحية من أجل درء المخاطر التي تداهم صغارها خصوصاً عندما تشعر بخطر ما، تقوم بحركة غاية في الغرابة إذ تلقي بنفسها أمام هذا الحيوان المفترس لتلهيه عن افتراس ولدها الصغير. هذا السلوك يمكن ملاحظته عند العديد من الحيوانات مثل أنثى النمر التي تجتهد في القيام بما في وسعها حتى تصرف انتباه الأعداء المتربصين بصغارها. أما الراكون فأول ما يفعله عند إحساسه بالخطر الداهم هو أن يأخذ صغاره إلى قمة أقرب شجرة ثم يسرع نازلاً إلى الحيوانات المفترسة ويكون وجهاً لوجه امامها، ومن ثم يبدأ بالفرار إلى ناحية بعيدة عن مكان الصغار ويستمر في الابتعاد حتى يطمئن إلى زوال الخطر وعندئذ يتسلل خلسة عائداً إلى صغاره. وهذه المحاولات لا يكتب لها النجاح دائماً فقد ينجو الصغار من خطر المفترسين إلا أن الأبوين يتعرضان للموت والهلاك في حالات كثيرة (85).(1/83)
وهناك طيور تقوم بتمثيل دور الجريح لصرف نظر العدو المفترس عن الفراخ الصغيرة، فعند إحساس الأنثى باقتراب الحيوان المفترس تتسلل بهدوء من العش وعندما تصل إلى مكان وجود العدو تبدأ في التخبط وضرب أحدى جناحيها على الأرض وإصدار أصوات مليئة بالاستغاثة وطلب النجدة، بيد أن هذه الأنثى تأخذ حذرها اللازم فهي تمثل هذا الدور على بعد مسافة ما من الحيوان المفترس، ويتوهم أن الأنثى المستغيثة تعتبر غنيمة سهلة ولكنه بذهابه في اتجاهها يكون قد ابتعد عن مكان وجود الفراخ الصغار، ثم تنهي الأنثى تمثيلها وتهب طائرة مبتعدة عن الحيوان المفترس. إن هذا المشهد التمثيلي يتم أداؤه بمهارة مقنعة للغاية، وكثيراً ما تنطلي هذه الحيلة على القطط والكلاب والأفاعي وحتى على بعض أنواع الطيور. أما تلك التي تبني أعشاشها على مستوى سطح الأرض فيعتبر التمثيل أداة فعالة وناجحة في حماية فراخها من الأعداء المفترسين، فالبط على سبيل المثال يقوم بتمثيلية العاجز عن الطيران من على الماء عند إحساسه بقدوم الحيوانات الخطرة، ويظل هكذا يضرب بجناحيه على سطح الماء مع احتفاظه بمسافة أمان بينه وبين الحيوان المتربص به، وعندما يطمئن بأن الحيوان المفترس قد ابتعد عن عش الفراخ يقطع مشهده التمثيلي ويعود إلى عشه. هذا السيناريو الذي يتم تمثيله من قبل بعض أنواع الطيور لم يجد التفسير الكافي والمقنع من قبل علماء الأحياء (86).(1/84)
هل باستطاعة الطير أن يعد مثل هذا السيناريو؟كلا دون شك لأنه ينبغي أن يكون على درجة عالية من الذكاء والنباهة. فهذا السلوك يقتضي وجود صفات مثل الذكاء والتقليد والقابلية فضلاً عن الشجاعة المثيرة للإعجاب عندما يتصدى للحيوان المفترس دفاعاً عن الصغار، فهو يجعل من نفسه صيداً مطارداً بدون أي تردد أو خوف. والغريب في الأمر أن هذه الطيور لا تتعلم هذا السلوك من غيرها من الحيوانات (87) لأن هذا يتسم بكونه مكتسباً بالولادة. والأمثلة التي أوردناها في هذا العرض السريع ما هي إلا غيض من فيض في عالم الإحياء لأن ملايين الأنواع من الكائنات الحية تختلف من حيث أساليب الدفاع عن النفس وطرق الحماية، ولكن النتيجة المتأتية من هذه الأساليب هي مبعث الغرابة في هذا المجال، لأنه يصعب أن نفترض أن الطير يضحي بنفسه من أجل صغيره من منطلق سلوك عاقل منطقي. ويجب أن لا ننسى أننا بصدد الحديث عن مخلوقات غير عاقلة ولا يمكن أن يتصف تفكيرها غير الموجود أصلاً بالرحمة والمودة والرأفة، والتعليق الوحيد الوارد في تفسير هذه الأنماط السلوكية يتلخص في كون الله سبحانه وتعالى هو الذي ألهم الكائنات الحية سلوكاً ملؤه الرحمة والتضحية ليضرب لنا الأمثال برحمته التي وسعت كل شيء.
الحشرات أيضاً تحمي صغارها من المهالك
يعتبر عالم الأحياء السويدي ‘’أدولف مودر’’ Adolf Modeer أول من اكتشف رعاية الأبوين للصغار في عالم الحشرات وذلك سنة 1764 عندما كان يجري أبحاثه على حشرة ‘’المدرع الأوروبي’’ فوجد أن الأنثى تجلس على بيضها دون أكل أو شرب وتصبح هذه الأنثى مقاتلة شرسة عندما يقترب الخطر من بيضها (88).
وكان العلماء والباحثون في تلك الفترة أو ما قبلها لا يقبلون فكرة رعاية الحشرات لصغارها، وسبب ذلك يورده لنا البروفسور دوغلاس.و.تللاني Douglas W.Tallany /من جامعة ديلاورDealaware والذي يعمل استناداً في علم الحشرات ويؤمن بنظرية التطور كالآتي:(1/85)
تجابه الحشرات مخاطر عديدة في أثناء دفاعها عن صغارها ويتساءل العلماء في علم الحشرات عن السر في عدم انقراض هذه الخصلة (خصلة الدفاع والحماية)في أثناء عملية التطور، لأن وضع البيض بأعداد كبيرة أفضل استراتيجياً من اتباع وسيلة الدفاع المحفوفة بالمخاطر والمهالك (89).
ويعلق دوغلاس.و.تللاني أحد دعاة التطور على هذا التساؤل المحير ويرى أنه يجب أن تنقرض هذه الميزة حسب فرضيات نظرية التطور، ولكن الموجود والملاحظ في الطبيعة أنها لا تزال موجودة وبصور عديدة سواء في عالم الحشرات أو غيرها وليس دفاعاً عن الصغار فحسب بل عن الكبار أيضاً. ونورد أيضاً المثال الآتي عن التضحية في سبيل الأحياء الصغيرة وهو متعلق بسلوك حشرة الدانتيلا التي تعيش في المناطق الجنوبية الغربية من أمريكا وتتخذ من بعض النباتات وخاصة urticaceae مسكناً لها، وأنثى هذه الحشرة تسهر على حماية بيضها واليرقات التي تخرج منها وتضحي بنفسها في سبيل ذلك. وألد أعداء هذه اليرقات هي حشرة البنت التي تتميز بمقدمة فمها الشبيه بالمنقار ويكون صلباً وحاداً. تلتقم هذه الحشرة اليرقات في لقمة سائغة، ولا تملك حشرة ‘’الدانتيلا’’ أي سلاح فعال تجاه أعدائها سوى الضرب بجناحيها وامتطاء ظهور خصومها لإزعاجهم وإبعادهم. وفي تلك الأثناء تنتهز اليرقات فرصة انشغال الأعداء بالصراع مع الأم للهرب باقتفاء العرق الرئيسي للورقة النباتية التي يعيشون عليها ويتخذون هذا العِرق طريقاً رئيسياً للانتقال إلى ورقة أخرى طرية وملتوية للاختفاء داخلها. وإذا استطاعت الأنثى أن تنجو بحياتها فإنها تتبع طريق صغارها إلى الورقة التي اختفوا داخلها وتتولى حراستهم ورعايتهم في غصن تلك الورقة قاطعة الطريق أمام الأعداء الذين قد يكونون اقتفوا أثرها. وأحياناً تنجح هذه الحشرات في طرد حشرات البنت ثم تمنع يرقاتها من الذهاب إلى أية ورقة طرية أخرى ولا يتم ذلك اعتباطاً وإنما تختار هي بنفسها الورقة الأكثر(1/86)
أمناً لاتخاذها ملجأ لهم. وغالباً ما تموت هذه الحشرات عند الدفاع عن يرقاتها ولكنها توفر لهذه اليرقات وقتا وإمكانية للهرب والاختفاء عن نظر الأعداء (90).
تغذية الصغار
يحتاج الصغار إلى تغذية من قبل الأبوين بقدر حاجتهم إلى الحماية من خطر الأعداء ويجتهد الأبوان في صيد ما يقتاتون به أكثر من أي وقت آخر وذلك لتوفير حاجة الصغار من الغذاء وهما في الوقت نفسه على أهبة الاستعداد لدرء خطر الأعداء المتربصين، فعلى سبيل المثال يقوم زوج الطير بتغذية فراخهما بمعدل 4 - 12 مرة في الساعة يومياً، وعندما يكون لديهم أكثر من فرخ ينبغي عليهم أن يخرجوا من عشهم مئات المرات يومياً لجلب الغذاء الكافي لأفراد العائلة، وخير مثال على ذلك الطائر ذو الرأس الأسود الذي يخرج ويعود إلى عشه بمعدل 900 مرة يومياً جالباً في منقاره الحشرات اللازمة لتغذية فراخه (93).
وعملية التغذية لدى اللبائن تختلف نوعاً ما لأن مسؤولية تغذية الصغار تخص الإناث لذلك فهي تحتاج تغذية أكثر من الأيام العادية لتوفير اللبن الذي هو مصدر الطاقة الوحيد للصغار، فعلى سبيل المثال نجد ‘’الفقمة’’ التي ترضع صغيرها بعد الولادة من 10 - 18 يوماً فيزداد وزن الرضيع في تلك الفترة، أما الأم فعلى الرغم من تناولها غذاءً إضافياً لتوفير اللبن للرضيع، إلا أن وزنها يقل نسبياً بالرغم من هذه التغذية الإضافية (94).
وبصورة عامة يكون الذكور والإناث في حالة صرف للطاقة أكثر بثلاثة أو أربعة أضعاف في المرحلة الأولى التي يكون لديهم رضيع منها في المرحلة العادية (95).(1/87)
والأبحاث التي أجريت في جامعة لوزان تم التوصل من خلالها إلى ما ينفقه الذكور والإناث لدى الطيور من طاقة وجهد عندما يكون لديها فراخ محتاجة إلى الرعاية والتغذية. فقد أجرى أستاذ علم الأحياء في هذه الجامعة ويدعى ‘’هاينز ريخفر’’ Heinz Richner وتلامذته تجارب عديدة على طير وتوصلوا من خلالها إلى المسؤولية الجسيمة التي يتحملها ذكر هذا الطير. فقد قام هذا الأستاذ بتغيير عدد الفراخ في الأعشاش المختلفة وتم قياس المجهود الذي يبذله كل ذكر على حدة وتوصل إلى نتيجة مفادها أن الذكر الذي يملك عدداً أكبر من الفراخ يبذل جهداً مضاعفاً، ولهذا فإنه يموت مبكراً. ونسبة التعرض للأمراض الطفيلية لدى الذكور كثيرة الفراخ تقدر بـ 76% أما الذكور العادية والتي لها عدد أقل من الفراخ فتقدر بـ 36% (96).
هذه المعلومات توضح لنا مدى التفاني والتضحية التي يبذلها الطير في تنشئة صغاره.
الطائر الغواص والريش الذي يقدمه طعاماً لصغيره
يعتبر هذا الطائر بمثابة عش متحرك لصغاره إذ يمتطي الصغار أباهم أو أمهم ثم يفرش هذا الطائر جناحيه قليلاً لئلا يقع الصغار في الماء، وعندما يحين الإطعام يلوي الطير رأسه إلى الخلف ويبدأ في إطعامهم من منقاره المليء بالغذاء، إلا أن الغذاء الأول المقدم لهم لا يكون طعاماً بمعنى الطعام لأن الذكر أو الأنثى يطعمون صغارهم الريش الذي جمعوه من الماء أو الذي نتفوه من صدورهم. ويبتلع كل فرخ كما لا بأس به من الريش. ولكن لماذا يطعم الطير صغيره هذا الريش؟ تبين أن الريش الذي يتناوله الصغار لا يهضم في معداتهم وإنما يتراكم فيها وقسم منه يتكلس في الفتحة المؤدية إلى الأمعاء، وهذا التراكم يمنع من الأذى المصاحب لتناول الأسماك التي قد تؤذي بطانة المعدة والأمعاء بعظامها. وتستمر الطيور في تناول الريش طيلة فترة حياتها، وبلا شك فإن أول وجبة من الريش يتم إطعامها للصغار لها أهميتها القصوى (97).(1/88)
وكما هو معروف فإن بعض أنواع الطيور يطعم صغاره السمك، فيغوص الطير تحت الماء ويصيد السمك من ذيله بحركة سريعة بارعة. ولهذه الطريقة في الصيد أسبابها فهي تيسر على الفرخ الصغير التقام السمك وأكله لأنه يكون مقدماً باتجاه ترتيب العظام، أي أن التقامه لا يسبب أي خدش أو غص في بلعوم الفرخ، وبالتالي يتم التقامه وهضمه بسهولة. ثم إن الطريقة التي يصيد بها الطير السمكة تكشف كون الصيد له أو لأولاده، فإن كان المسك من الذيل فالطعام للفرخ الصغير وإن كان من أي جزء آخر من السمكة فهذا يعني أنها طعام للبالغين والكبار (98).
المسافة الطويلة التي يقطعها طائر الغواكارو لجلب الغذاء لصغاره
هذا النوع من الطيور يبني عشه في مكان مرتفع عن سطح الأرض بمقدار 20 متراً. وفي كل ليلة يخرج لجلب الفواكه اللازمة لتغذية الصغار بمقدار خمس إلى ست مرات، وعند عثوره على الفاكهة المناسبة يسحب خلاصتها اللينة ثم يعدها لتصبح غذاء لذيذاً للفراخ. وتخرج أسراب من هذا النوع كل ليلة للبحث عن الغذاء، وتقطع مسافات طويلة تربو على 25 كيلومترا(99).
وهناك أنواع من الحيوانات مثلها مثل طائر الغواكارو تهيئ الغذاء قبل تقديمه إلى الصغار، مثل طائر اللقلق الذي يعد ما يشبه الحساء، أما طائر عقرب الدقائق فتقوم أنثاه بخلط البلانكتون مع الأسماك الصغيرة لإعداد غذاء دسم للصغار، أما الحمام فيفرز من بلعومه سائلاً يعرف بـ ‘’حليب الحمام’’ ويكون غنياً بالبروتين والدهن، يختلف عن حليب اللبائن في أنه يفرز من قبل الذكر والأنثى على حد سواء. وهناك طيور تعد لصغارها غذاءاً مشابهاً للحليب (100).(1/89)
وتكون الفراخ الصغيرة في أمس الحاجة إلى رعاية الأبوين، والشيء الوحيد الذي تفعله أنها تفتح أفواهها وتنتظر ما يجلبه لها الأبوان من غذاء. ويسلك مثل هذا السلوك صغار طائر النورس الذي يتغذى على سمك الرينكا، فالصغار يركزون أفواههم في النقطة الحمراء الموجودة في منقار الأم. أما فرخ طائر عرعر فعندما يشعر بحركة تنم عن قدوم أحد الأبوين إلى العش يمد عنقه بسرعة إلى الأعلى انتظاراً للغذاء بالرغم من أن عيونها لم تنفتح بعد. ويكون الصغار في هذه المرحلة متميزين بهالة لماعة صفراء اللون حول المنقار كأنما تشير إلى مكان وضع الغذاء. ويكون حيز المنقار على درجة كبيرة من الحساسية تساعده على فتحه بعد أن يغلقه، وهذا اللون المختلف لمناقير صغار الطيور وحساسيتها، له أهمية بالغة في عملية تغذية الكبار لهم خصوصاً لدى الطيور التي تبني أعشاشها داخل حفر مظلمة.
ومثال آخر في طير كوليديان اسبينوزا الذي يبني عشه داخل شقوق مظلمة. ففرخ هذا الطائر يتميز بكون منقاره يحتوي من الخارج ومن كلا الجهتين على نتوءين بارزين بلون أزرق وأخضر يلمعان مع أول ضوء يدخل العش، ويصبحان بذلك مصدراً للضوء داخل العش المظلم. وهذا اللون المختلف لا يعتبر دليلاً للأم للاهتداء إلى صغارها داخل العش فقط وإنما يحمل معاني أخرى. فالاختلاف في درجة اللون يجعل الأم تميز بين من تغذى تواً ومن ما زال جائعاً لم يتغذ بعد. فطائر الـ cannabis sativa يكون ما حول منقار صغيره الجائع أحمر اللون نتيجة تدفق الدم للأوعية الدموية الموجودة في العنق، أما إذا تغذى الفرخ فإن معدته تحتاج إلى كمية أكبر من الدم تسهل عملية الهضم. لذا فالفرخ الجائع هو الذي يكون احمرار ما حول منقاره بدرجة أكبر. وبهذه الطريقة يميز الأبوان بين الفراخ الجائعة وغير الجائعة (101).(1/90)
إن هذا الانسجام الكامل بين المظهر الخارجي للطير والأنماط السلوكية التي يمارسها دليل واضح على وجود خالق واحد للطبيعة والكائنات الحية التي تعيش فيها بل خالق واحد لكل شيء. والمصادفة لا تستطيع أن تخلق هذا الانسجام والتكامل الرائعين.
الدجاج البري وحمله الماء لسقي كتاكيته
إن الانسجام بين المظهر الخارجي والبيئة التي يعيش فيها الكائن الحي أمر مطرد في كل الأحياء. ومثال آخر لهذا الانسجام هو الدجاج البري. فهذا الطير لا يملك مكاناً معيناً يستقر فيه. وعند اقتراب موسم التبييض يضع ثلاث بيضات في مكان منعزل وسط الرمال. وعند خروج الفراخ من البيض يبدأون على الفور في البحث عن الغذاء الذي يتألف من البذور النباتية، بيد أنه ليست لديها القدرة للبحث عن الماء لعجزها عن الطيران. ومسؤولية جلب الماء تقع على الذكر. وبعض أنواع الطيور يجلب الماء لصغارها في منقارها، إلا أن ذكر الدجاج البري يضطر إلى جلب الماء من مسافة بعيدة لذلك فهو يحتاج إلى شيء من هذا الماء لإرواء عطشه نتيجة هذه الرحلة الطويلة الشاقة. ولهذا الطير بنية خاصة وغريبة تساعده لحمل الماء تتمثل في أن الريش الذي يغطي صدر الطائر وبطنه يكون مغطى بطبقة ليفية من الداخل. وعندما يصل الطير إلى مصدر الماء فإن أول ما يفعله هو التمسح بالرمل بأسفل جسمه للتخلص من الملمس الدهني للريش الذي يمنع التبلل، ثم يقترب من ضفة الماء ويبدأ بإرواء عطشه أولاً ثم يلج في الماء رافعاً جناحيه وذنبه ومحركاً جسمه للأمام والخلف لتبليل ريشه بأكبر كمية ممكنة من الماء، وتمثل الطبقة الليفية للريش إسفنجاً يعمل على امتصاص الماء. ويكون الماء المحمول بواسطة الريش بعيداً عن تأثير التبخر ومع هذا يتبخر جزء منه في حالة القيام برحلة أطول من 25 ميلاً. وفي النهاية يصل الطير إلى فراخه الذين ما زالوا يبحثون لهم عن طعام. وعند رؤيتهم لأبيهم يسرعون نحوه، وعندئذٍ يرفع الذكر جسمه إلى الأعلى ويبدأ(1/91)
الفراخ بمص الماء الموجود في الريش في وضعية أشبه برضاعة اللبائن لصغارها. وبعد انتهاء عملية سقي الصغار يمسح الذكر جسمه في الرمل لتجفيف الريش. ويستمر على هذا الشكل لمدة شهرين حتى تنتهي عملية إسقاط الزغب وتغييره مرتين وتصبح لها القدرة على الاعتماد على أنفسها في إرواء عطشها (102).
إن هذا السلوك الغريب للدجاج البري يثير في أذهاننا تساؤلات عديدة، فإن هذا الطير يعرف جيداً كيفية الاستفادة من خواص مظهره الخارجي وملاءمتها لظروف البيئة التي يعيش فيها، هو يفعل ذلك لأن مصدر سلوكه العجيب هو الإلهام الإلهي الذي منحه القدرة على التصرف وفق البيئة التي يعيش فيها.
الحشرات وتغذيتها لصغارها
تقوم أغلب أنواع الحشرات بتغذية صغارها ويرقاتها. ومثال على ذلك حشرة ‘’الحفار’’ التي تقوم بتغذية صغارها (يرقاتها) الموجودة في الحفر بواسطة البذور، وحشرة الأشجار النطاطة التي تضع يرقاتها في شقوق حلزونية تحفرها تحت قشرة الأشجار ثم تغذي يرقاتها بالنسغ النازل من الأوراق إلى الأسفل الذي يكون مليئاً بالمواد الغذائية الجاهزة. أما الأرضة فمهمتها صعبة جداً لأنها يجب أن تغذي صغارها بالخشب الصلب المتيبس والذي تقل فيه نسبة النتروجين بدرجة كبيرة. من جانب آخر هناك كائنات حشرية تقوم بتليين الخشب أولاً ثم إعطاؤه للصغير كغذاء إذ تعمل على التهام الخشب ثم هضمه بواسطة العصارات الهاضمة حتى يصبح ليناً وعندئذٍ تتولى الكائنات الحية المجهرية التي تعيش في جهازها الهضمي عملية تفتيت السليلوز إلى جزيئات أصغر، ثم تتقيأ الحشرة ما هضمته ولينته لتقديمه إلى الصغير في شكل غذاء جاهز. أما ‘’أم أربع وأربعين’’ فإنها تحفر أنفاقاً تحت قشرة الأشجار عن طريق مضغها للخشب وتضع بيضها في الأنفاق إلى جانب جلبها لبعض أنواع الفطريات التي تستطيع تليين السليلوز ليصبح غذاءاً جاهزاً للصغار (105).(1/92)
إن الله سبحانه وتعالى يرزق مخلوقاته بطرق شتى، والأمثلة التي ذكرناها من الحشرات هي من جملة هذه المخلوقات التي يرزقها الله تعالى بفضله، فهو يرزق صغار الحشرات بواسطة كبارها وهو الذي هداها سبلها، يقول الله تعالى:
{وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
( العنكبوت/ 60)
نقل الكائنات الحية لصغارها
عموماً يكون الصغار مخلوقات ضعيفة قليلة الحركة لذا فإنها تنقل من مكان إلى آخر عند الخطر أو غيره، ولكل كائن حي طريقته الخاصة في نقل صغاره، فبعضها تحمل صغارها على ظهورها وبعضها في فمها والبعض الآخر في تجاويف كيسية في جناحيها، وفي جميع الحالات يكون الصغار في مأمن وينقلون إلى مكان آمن وسليم. ولعل نقل الصغار في حالة الخطر يعتبر مثالاً جيداً على التضحية من أجل الضعيف خاصة إذ كان يؤدي إلى التقليل من قدرة الأبوين على المناورة. وبالرغم من جميع المخاطر يستمر الأبوان في الدفاع عن الصغير. والأسلوب الشائع لحمل الصغار هو الحمل على الظهر، والمثال الجيد على ذلك هو القرود التي تحمل صغارها أينما تشاء فوق ظهورها، فالأنثى تستطيع الحركة بحرية وهي تحمل صغيرها لأن الصغير يتمسك جيداً بأمه من خلال الشعر الكثيف الذي يغطي جسم الأم. وعند إحساسها بالخطر تتعلق بالأشجار بسهولة بالرغم من كون وليدها على ظهرها. وتستطيع أن تقفز من شجرة إلى أخرى. والمثال الآخر هو حيوان الكنغر فأنثاه مثل باقي اللبائن الكيسية تحمل وليدها في كيس مغطى بشعر كثيف يقع أسفل بطنها. ويظل الكنغر الصغير في هذا الكيس حوالي خمسة أشهر وعند خروجه من هذا الكيس يظل يلعب قريباً من أمه، وعند إحساسه بأي خطر أو شيء غريب يرجع مسرعاً إلى هذا الكيس. وتستطيع الأنثى أن تقفز بخطوات كبيرة مسرعة بواسطة أرجلها الخلفية القوية على الرغم من حملها لصغيرها .(1/93)
وكذلك السناجب فهي تحمل بأسنانها صغارها من بطن بطنها المتدلي. وينقل هذا الحيوان صغاره عندما تشعر الأنثى بالخطر ووجوب تغيير مكان المسكن، وتظل تحمل أولادها واحداً تلو الآخر إلى المكان الجديد. وعند اكتمال عملية النقل ترجع إلى المكان القديم للتأكد من أن أحداً من أبنائها لم يتخلف. وبالنسبة إلى صغار الفئران فإنها تظل ملتصقة بحلمة ثدي الأم لساعات طوال. وعندما تحس الأم بالخطر تبدأ في الهرب ساحبة أولادها بين أرجلها نتيجة التصاقهم الشديد بحلمة الثدي. وعند اكتمال عملية النقل ترجع إلى المكان القديم من أجل التأكد من عدم نسيانها أياً منهم.
كيف تحمل الكائنات الحية صغارها؟
وتتميز الخفافيش بأنها تطير الليل كله بحثاً عن الغذاء الذي يكون إما فاكهة أو حشرات، وهي تحمل صغارها معها في أثناء طيرانها، ويكون الخفاش الصغير ماسكاً بمخالبه شعر أمه وزارعاً أنيابه اللبنية بقوة في ثديها وتملك بض الخفافيش ثلاثة أو أربعة من الصغار،ومع أن هذه الصغار تكون متعلقة بجسد أمها ،ألا أن ألام مع كل هذا الحمل تستطيع الطيران . وهناك العديد من أنواع الطيور التي تحمل صغارها وتطير ،فأن تعرض عش طائر scolopaxrusticola الى الخطر تستطيع الطيران وهي تحمل صغيرها ببين رجليها. وتحمل الطيور ‘’دجاج الماء’’
و ‘’حدأة المستنقعات’’ إضافة إلى الطير ذي الرأس الأسود صغارها بمناقيرها عند الانتقال من مكان إلى آخر.
أما الصقر ذو الذنب الأحمر فيحمل صغاره بمخالبه بنفس الطريقة التي يحمل بها الفريسة بعد أن يصطادها.
وتحمل الطيور الغواصة صغارها على ظهورها وعند إحساسها بالخطر تغوص في الماء سابحة بينما يظل صغارها على ظهرها.
أما الضفادع فتحمل صغارها أو بيضها على ظهورها، فالضفادع البرية والاستوائية تستطيع أن تقفز وصغارها على ظهورها وأن تتنقل إلى المكان الذي تراه مناسباً.(1/94)
والمثال الأغرب هو بعض أنواع السمك الذي يحمل صغاره في فمه أثناء نقلهم من مكان إلى آخر، فالسمك الشوكي يظل ذكره يحوم حول العش الذي بناه بين الأعشاب المائية حراسة له وإن حدث أن ابتعد أحد الصغار الخارجين حديثاً من البيض يلتقم الذكر هذا الصغير الشارد في فمه ويعيده إلى العش ثانية.
وبالنسبة للنمل العاملات تقوم بحمل البيض واليرقات كل صباح باتجاه ضوء الشمس من غرفة إلى أخرى في قمة الخلية بواسطة فمها، وفي المساء تبدأ العاملات بحملها إلى الأجزاء السفلية من الخلية والتي سخنت نتيجة ضوء النهار والحاوية على غرف خاصة لرعاية اليرقات، وتكون مداخل هذه الغرف مقفلة لمنع دخول الهواء البارد في الليل وفي الصباح يتم فتحها لحمل اليرقات إلى قمة الخلية مرة أخرى.
وإذا هوجمت الخلية من قبل الأعداء فالعاملات تفعل ما بوسعها من أجل حماية اليرقات، وقسم من النمل يبدأ هجومه على الأعداء في المنطقة التي يتواجدون فيها والقسم الآخر يذهب إلى الغرف الخاصة التي تحوي اليرقات لحراستها من أي مكروه. تقوم بنقلها إلى مكان بعيد عن ميدان المعركة وأخفاءها حتى ينجلي الموقف أو يخرج العدو من المستعمرة (107).
ومن هذا العرض للأمثلة المختلفة يتبين لنا أن الكائنات الحية سواء كانت أسوداً أو حشرات، ضفادع كانت أو طيوراً كلها تحمي صغارها بشكل أو بآخر بواسطة الحمل أو النقل إلى مكان أمين وهذا يعني أنها ذات سلوك يتسم بالمخاطرة وتحمل المكاره من أجل الصغار، إذن كيف يمكن لنا أن نفسر مصدر هذا السلوك؟ ويتضح من الأمثلة السابقة أن الكائنات الحية تتحمل مسؤولية تنشئة صغارها حتى بلوغها مرحلة الاعتماد على النفس، وحتى تلك الفترة فإنها تلبي كافة احتياجاتها دون نقص أو كلل، ونستطيع أن نشاهد أمثلة أخرى عديدة غير التي ذكرناها في الطبيعة.(1/95)
وتتجلى أمامنا الحقيقة مرة أخرى، ألا وهي أن كافة الكائنات الحية تحيا برحمة الله تعالى، حيث يلهم عزَّ وجلَّ كل منها سلوكها وكيفية معيشتها ويهيؤها لتستجيب لهذا الإلهام، وكل كائن حي يخضع وينقاد للإرادة الإلهية حسب ما ورد في القرآن الكريم:
{ وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ } سورة الروم - الآية .26
التعاون والتكافل بين الكائنات الحية
في الأمثلة السابقة تناولنا موضوع اهتمام ورعاية الكائنات الحية لصغارها والرأفة والرحمة التي يتسم بها سلوكها إضافة إلى التضحية والتفاني التي يبديها تجاه صغارها، ولكن هناك أمثلة في الطبيعة على التعاون والتكافل بين الأنواع المختلفة للأحياء والتي يمكن رصدها كثيراً، ومن المعروف أن الكائنات الحية التي تعيش على شكل مجاميع أو مستعمرات تملك مقومات البقاء والديمومة أكثر من التي تعيش على شكل أفراد، إن العيش ضمن مجامع أو عوائل يفند مزاعم دعاة التطور التي تنص على كون الطبيعة ميداناً للحرب من أجل البقاء، وغالباً ما تكون الأحياء في تعاون مثمر فيما بينها بدلاً من التنافس حيث يستفيد من ذلك تحقيق تبادل منفعة من باب نكران الذات.
ودعاة ‘’التطور’’ يرون بأعينهم هذه الحقائق ولكنهم دوماً يحاولون تفسيرها ضمن مفاهيمهم التي يدعون إليها، وعلى سبيل المثال أجرى التطوري المعروف ‘’بيتر كرويوتكين’’ Peter Kropotkin في المناطق الشرقية من سيبيريا وفي منشوريا وسجل مشاهداته عن التعاون بين الكائنات الحية، ألف فيه كتاباً، يقول هذا الباحث في كتابه عن التعاون بين الأحياء ما يلي:(1/96)
عندما بدأنا نجري بحثاً عن موضوع ‘’البقاء من أجل الحياة’’ فوجئنا بوجود أمثلة عديدة عن التعاون والتكافل بين الكائنات الحية، وظهرت أمامنا حقيقة واضحة وهي أن التعاون ليس فقط من إدامة النسل بل من أجل سلامة الأفراد وتوفير الغذاء لهم. هذه الحقيقة يقبلها المؤمنون بنظرية ‘’التطور’’ فالتعاون وتبادل المنفعة يعتبران قاعدة عامة في عالم الأحياء، والتعاون المتبادل يمكن رؤيته حتى في أدنى حلقة من سلسلة الأحياء (108).
أمام هذه الأمثلة الحية ما كان من المؤمن بنظرية التطور كـ ‘’كروبوتكين’’ إلا أن يبدي ما ينافي فرضيات هذه النظرية، وكما سيتبين لنا من الأمثلة التي سنذكرها في الصفحات المقبلة أن التعاون المتبادل بين الأحياء بأنواعها المختلفة مهم جداً في توفير الغذاء والأمن لها، إن هذا التوازن والنظام في الطبيعة دليل واضح على قدرة الله الخلاق العليم، وكل من شاهد هذه الأمثلة الحية في الطبيعة يقف حائراً ومندهشاً من هذا السلوك العاقل المستند على مشاعر حساسة التي يسلكها حيوان غير عاقل وعديم المشاعر أيضاً، ومن الذين شاهدوا وبحثوا هذه الأمثلة الحية عالم وباحث مشهور في الطب الفيزيولوجي ‘’كينيث ووكر’’ Kenneth Walker حيث سجل مشاهداته في رحلة صيد في شرق إفريقيا كما يلي:(1/97)
هناك أمثلة عديدة للتعاون المتبادل بين الحيوانات ما زالت حية في ذاكرتي عندما رأيتها في رحلة صيد قمت بها في شرقي إفريقيا قبل سنوات، وشاهدت بأم عيني كيف أن قطعانا من الغزلان والحمير الوحشية تتعاون فيما بينها في سهول ‘’آهتي’’ حيث يضعون من يترصد العدو القادم لينبه القطيع حين قدومه، ولم أكن خارجاً لصيد الحمار الوحشي ولكني فشلت في اصطياد غزال واحد، لأنني كلما اقتربت من غزال لاصطياده ينبه الحمار الوحشي القطيع بقدومي وبذلك يفلت مني، ووجدت هناك تعاوناً بين الزرافة والفيل فالفيل لديه حاسة سمع قوية وآذانه الواسعة تعتبر راداراً لاقطاً لأي صوت مقابل حاسة بصر ضعيفة، أما الزرافة فلها حاسة بصر قوية وتعتبر كمراصد مرتفعة للمراقبة، وعندما تتحد جهود الفريقين لا يغلبان لا من نظر ولا من سمع ولا يمكن الاقتراب من قطعانهما، والمثال الأغرب هو التعاون بين وحيد القرن (الخرطيط) والطير الذي يحط على ظهره لالتقاط الطفيليات الموجودة على جلده، فكلما تحس الطيور باقترابي تبدأ بإخراج صوت معين تنبه به وحيد القرن وعندما يبدأ الحيوان بالهرب تبقى الطيور على ظهره كأنها راكبة عربة قطار تهتز باهتزازه (109).
ومشاهدات ‘’كينيث ووكر’’ ما هي إلا جزء يسير من أمثلة عديدة يمكن لنا أن نشاهدها على التعاون المتبادل بين الأحياء، ويمكن للإنسان أن يجد أمثلة لهذا التعاون بين الحيوانات التي تعيش بالقرب منه، والمهم أن يتفكر الإنسان في ماهية هذه الأمثلة.(1/98)
هل هناك معنى لسلوك كائن حي بهذا التفاني والإيثار خصوصاً أنه يفترض أنه جاء إلى هذه الحياة مصادفة؟ وبمعنى آخر هل يمكن لنا أن نتوقع مثل هذا السلوك المنطقي من مثل هذا الكائن الحي؟ بالطبع لا لأنه لا يمكن لمخلوق غير عاقل نشأ مصادفة أن يبد سلوكاً عاقلاً، ولا يمكن له أن يفكر بحماية الآخرين، ولا يمكن تفسير الأنماط السلوكية لهذه الكائنات إلا بشيء واحد وهو الإلهام الإلهي. وفي الأمثلة القادمة سيتضح لنا بدليل ساطع أن هذه الكائنات الحية تخضع لمدبر ملهم..
تنبيه الكائنات الحية بعضها البعض بالخطر القادم
من أهم فوائد العيش ضمن تجمعات هو التنبيه للخطر القادم وتوفير وسائل الدفاع بصورة أكثر فاعلية، لأن الحيوانات التي تعيش ضمن تجمعات تقوم عند إحساسها بالخطر القادم بتنبيه الباقين بدلاً من الهرب والنجاة، ولكل نوع من أنواع الأحياء طريقته الخاصة بالتنبيه، على سبيل المثال الأرانب والأيل يقومان برفع ذيولها بصورة قائمة عند قدوم العدو المفترس كوسيلة لتنبيه باقي أفراد القطيع، أما الغزلان فتقوم بأداء رقصة على شكل قفزات (110).
أما الطيور الصغيرة فتقوم بإصدار أصوات خاصة عند قدوم الخطر، فطيور golden oriole تقوم بإصدار أصوات ذات ترددات عالية مع فواصل متقطعة، وأذن الإنسان تتحسس هذا النوع من الصوت على شكل صفير وأهم ميزة لهذا الصوت هي عدم معرفة مصدره (111). هذا يكون لصالح الطير المنبه بالطبع، لأن الخطورة تكمن في معرفة مكان الطير الذي يقوم بوظيفة التنبيه بالخطر وتقل نسبة الخطورة لعدم معرفة هذا الصوت.
أما الحشرات التي تعيش ضمن مستعمرات فوظيفة التنبيه والإنذار تقع على عاتق أول حشرة ترى وتحس.ألا أن الحشرة التي تقوم بالإنذار تفرز رائحة الإنذار،مما يجلب نظر العدو وفي حال أحس العدو أي أن الحشرة المنذرة تضحي بحياتها من أجل سلامة المستعمرة (112).(1/99)
أما الكلاب البرية فتعيش ضمن مجاميع كبيرة ومساكنها التي تسع 30 كلبا تكون شبيهة بمدينة صغيرة، ويعرف الأفراد بعضهم بعضاً في هذه المستعمرة، وهناك دائماً حراس مناوبون في مداخل هذه المدينة الصغيرة، يقفون على أطرافهم الخلفية مراقبين البيئة من جميع الجهات وإذا حدث أن أحد المراقبين رأى عدواً يقترب يبدأ من فوره بنباح متصل شبيه بصوت الصفير، ويقوم باقي الحراس بتأكيد هذا الخبر بواسطة النباح أيضاً وعندئذٍ تكون قد علمت المجموعة بقدوم الخطر ودخلت مرحلة الاستعداد للمجابهة (113).
وهنا نقطة مهمة ينبغي التأكيد عليها، فتنبيه الكائنات الحية عند قدوم الخطر مسألة تثير الاهتمام والفضول، والأهم من ذلك أن هذه الكائنات تفهم بعضها البعض، والأمثلة التي أوردناها أعلاه مثل الأرنب الذي يرفع ذيله عند إحساسه بالخطر هي علامات يفهمها باقي الحيوانات ويدخلون مرحلة التيقظ على هذا الأساس، حيث يبتعدون إن أوجب الأمر الابتعاد أو يختفون إن كان هناك مجال للاختفاء، والأمر المثير للاهتمام هو: أن كانت هذه الحيوانات تفهم من هذه الإشاراتأن عليها الشروع في الهرب ،فهذا يستوجب أن تكون الحيوانات فد تكلمت مع بعضها البعض وأتفقت على هذا القرار، إلا أن هذا الافتراض لا يمكن أن يكون مقبولاً من أي إنسان ذي تفكير ومنطق، إذن فالأمر المحتم قبوله هو أن هذه الكائنات الحية مخلوقة من قبل خالق واحد وتتحرك وفق إلهامه وتوجيهه.(1/100)
أما المثال المتعلق بالصفير الذي يطلقه الطير عند إحساسه بالخطر ويفهم من قبل هو وحيد القرن، يظهر أمامنا سلوكا عاقلا ومنطقيا يثير الحيرة فينا، فمن غير الممكن أن تفكر حيوانات غير عاقلة بوجوب تنبيه باقي الحيوانات عند قدوم الخطر وتكون تلك الحيوانات قد فهمت الإشارة واستوعبتها، وهنا يبرز أمامنا تفسير واحد لسلوك حيوان غير عاقل بهذه الصورة المنطقية وهو: كون هذه الحيوانات قد اكتسبت هذه القابليات والأنماط السلوكية، من طرف خالق سواها وهو الله الخلاق العليم الذي يتغمدها برحمته الواسعة.
مجابهة الأحياء للخطر جماعياً
لا تكتفي الحيوانات التي تعيش على شكل مجموعات بإنذار بعضها البعض بقدوم الخطر بل تشارك أيضاً بمجابهته، مثلاً الطيور الصغيرة، تقوم بمحاصرة الصقر أو البوم الذي يتجرأ ويدخل مساكنها، وفي تلك الأثناء تقوم بطلب المساعدة من الطيور الموجودة في تلك المنطقة، وهذا الهجوم الجماعي الذي تقوم به يكفي لطرد الطيور المفترسة (114).
ويشكل السرب الذي تطير ضمنه الطيور خير وسيلة للدفاع، فالزرزور مثلاً تترك بينها مسافات طويلة أثناء الطيران وإذا رأوا طائراً مفترساً يقترب كالصقر سرعان ما يقللون ما بينهم من مسافات مقتربين من بعضهم البعض بذلك يقللون من إمكانية اقتحام الصقر للسرب وإذا أمكن له ذلك فسيجد مقاومة شديدة وربما يصاب بجروح في جناحيه ويعجز عن الصيد (115).(1/101)
أما اللبائن فإنها تتصرف على هذه الشاكلة أيضاً خصوصاً إذا كانت تعيش ضمن قطعان، ومثال على ذلك الحمار الوحشي، يدفع بصغاره نحو أواسط القطيع في أثناء هربه من العدو المفترس، وهذه الحالة درسها جيداً العالم البريطاني ‘’جين كودول’’ Jane Goodall في شرق إفريقيا فقد سجل في مشاهداته كيف أن ثلاثة من الحمر الوحشية تخلفت عن القطيع وحوصرت من قبل الحيوانات المفترسة وعندما أحس القطيع بذلك سرعان ما قفل راجعاً مهاجماً الحيوانات المفترسة بحوافره وأسنانه ونجح القطيع مجتمعاً في إخافة هؤلاء الأعداء وطردها من المكان (116).
وعموماً فإن قطيع الحمر الوحشية عندما يتعرض للخطر يظل زعيم القطيع متخلفاً عن باقي الإناث والصغار الهاربين، ويبدأ الذكر يجري بصورة ملتوية موجهاً ركلات قوية إلى عدوه وفي بعض الأحيان يرجع لمقاتلته (117).
ويعيش ‘’الدولفين’’ ضمن جماعات تسبح سوياً وتقوم بمهاجمة عدوها اللدود {الكواسج} بصورة جماعية أيضاً، وعندما يقترب الكوسج من هذه الجماعة يشكل خطراً جسيماً على صغار الدولفين فيبتعد اثنان من الدولفين عن الجماعة ليلفتا انتباه الكوسج إليهما ويبعدانه عن الجماعة، وعندئذٍ تنتهز الجماعة تلك الفرصة في الهجوم فجأة وتوجيه الضربات تلو الضربات لهذا العدو المفترس (118).(1/102)
وتسلك الدولفين سلوكاً غريباً آخر حيث أنها تسبح بموازاة جماعات سمك ‘’التونة’’ التي تشكل مصدراً غذائياً مهماً لها، لهذا السبب فإن صيادي سمك ‘’التونة’’ يتخذون الدولفين دليلاً لهم في اصطياد هذا النوع من السمك ولسوء الحظ هناك حالات كثيرة يقع فيها في شباك الصيادين ولكون هذا الحيوان يتنفس الهواء تحت الماء فسرعان ما يصاب بالهلع ويبدأ بالسقوط نحو قاع الماء، وفي تلك الأثناء يبدأ باقي الدلافين بنجدته مما يدل على الترابط العائلي الموجود في الجماعة، ويبدأ كافة أفراد الجماعة بالنزول إلى الأسفل ومحاولة دفع الشباك إلى الأعلى لإنقاذ حياة زميلهم، ولكن هذه المحاولات كثيراً ما تبوء بالفشل وتنتهي بالموت للكثير منهم لعدم قدرتهم على التنفس تحت الماء، وهذه السلوك عام لكافة أنواع الدولفين (119).
أما الحيتان الرمادية فيتسابق ذكراً أو ذكران لنجدة أنثى مصابة بجروح عن طريق دفعها نحو سطح الماء لتسهيل تنفسها وكذلك حمايتها من هجمات الحوت القاتل (120).
ويقوم ثيران المسك بتشكيل دائرة فيما بينها تجاه العدو، حيث تخطو خطوات للوراء دون أن تجعل ظهرها نحو العدو، والهدف هو حماية الصغار الذين يبقون داخل هذه الدائرة متمسكين بشعر أمهاتهم المتدلي الطويل، وبهذا الشكل الدائري تنجح الثيران البالغة في المحافظة على حياة الثيران الصغيرة، وعندما يهجم أحد أفراد هذه الدائرة على هذا العدو سرعان ما يرجع إلى نفس موقعه في الدائرة كي لا يختل النظام الأمني (121).(1/103)
وهناك أمثلة أخرى تتبعها الحيوانات في أثناء الصيد شبيهة بسلوكها فيأثناء الحماية والدفاع عن النفس فالبجع يقوم بصيد السمك بصورة جماعية، حيث تشكل نصف دائرة قريبة من الضفة وتضيق من هذه الدائرة شيئاً فشيئاً ومن ثم تبدأ بصيد الأسماك المحاصرة في هذه الدائرة، وينقسم البجع في الأنهار الضيقة والقنوات إلى مجموعتين، وعندما يحل المساء تنسحب هذه الطيور إلى مكان تستريح فيه ولا يمكن أن ترى متشاحنة أو متعاركة فيما بينها سواء في الخلجان أو في أماكن استراحتها (122).
هذه الأنماط السلوكية التي تبديها الحيوانات من تعاون وتكاتف وتكافل وتضحية يجب أن تثير أسئلة عديدة في مخيلة الإنسان، فهذه النماذج التي يدور الكلام عليها غير عاقلة أي أنه يدور عن حمر وحشية أو طيور أو حشرات أو دلافين وغيرها. ولا يمكن للإنسان العاقل أن يفترض أن هذه الحيوانات تقوم بأعمال التعاون هذه بإرادتها وعن وعي، والتفسير الوحيد الذي يمكن للإنسان العاقل أن
يتوصل إليه أمام هذه الأمثلة هو: أن الطبيعة ومحتوياتها ما هي إلا مخلوقات خلقها خالق واحد قدير لا حد لقدرته، وهذا الخالق هو الذي خلق كافة الأحياء من إنسان أو حيوان أو حشرة أو نبات وخلق كل شيء وهو الله البارئ المصور ذو القدرة والرحمة والرأفة والحكمة، وكما ورد في القرآن الكريم:
{ فَلِلَّهِ الحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ العَالَمِينَ وَلَهُ الكِبْرِيَآءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } سورة الجاثية الآية 36 -37
{ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا العَزِيزُ الغَفَّارُ } سورة ص الآية 66
التكاتف والتعاون بين طيور إفريقيا(1/104)
تعيش طيور إفريقيا على شكل جماعات متعاونة ومتناسقة في أروع صورة ممكنة، ومصدرها الغذائي يتكون من الفواكه التي تحملها أغصان الأشجار التي تعيش عليها، وللوهلة الأولى تبدو لنا عملية التغذي على الفواكه التي توجد في قمة الأغصان غاية في الصعوبة، لسببين أولهما عدم إمكان الوصول للفاكهة الموجودة في قمة الأغصان وأطرافها من قبل جميع الطيور
بل من قبل الطير الأقرب منها فقط وثانيهما شحة المكان الذي يمكن للطير أن يحط عليه فوق الشجرة فالمتوقع لهذا الطير أن يعاني من الجوع حتماً، ولكن الحقيقة والواقع عكس ذلك تماماً.
تتحرك هذه الطيور الإفريقية نحو أغصان الأشجار وكأنها متفقة فيما بينها مسبقاً على أن تكون حركتها بالتناوب حيث تتراص فيما بينها على غصن الشجرة، ويبدأ الطير الأقرب إلى الفاكهة بتناولها، يأخذ حصته منها ومن ثم يناولها إلى الذي بجانبه وهكذا تتجول الفاكهة من فم إلى آخر حتى أبعد طير على غصن الشجرة وبذلك تتشارك الطيور في التغذية، ويثار هنا تساؤل مفاده كيف أمكن لهذه الحيوانات أن تتصرف وفق هذا الناموس والتعاون فيما بينها وكيف لا يفكر الطير الأقرب إلى الفاكهة بالاستحواذ عليها دون الباقين؟ ومن أين أتى هذا النظام والانتظام في التغذية بين هذه الطيور في تطبيق لا نظير له في الإحياء؟ علماً أن لا أحد من هذه الطيور يسلك سلوكاً من شأنه أن يخلخل النظام على غصن الشجرة مع هذا لا يشبع العدد المتوقف على غصن الشجرة في المرة الواحدة لعدم كفاية الفاكهة الملتقطة والموجودة على ذلك الغصن، لذلك تقوم هذه الطيور بالوقوف على غصن آخر مليء بالفاكهة ولكن هذه المرة يكون الطير الأكثر جوعاً والأبعد عن الفاكهة في المرة الماضية الأقرب إلى الفاكهة وتبدأ دورة التغذية من جديد وفق نظام يتم بالعدالة والدقة (123).
الحيوانات المتعاونة عند الولادة(1/105)
تكون الحيوانات وخصوصاً اللبائن أكثر تعرضاً للخطر في أثناء الولادة، لأن الأم ووليدها يكونان لقمة سائغة للحيوانات المفترسة، ولكن الملاحظ أن هذه الحيوانات تكون بحماية أحد أفراد القطيع عندما تضع وليدها، على سبيل المثال تختار أنثى الانتيلوب مكاناً أميناً بين الأعشاب الطويلة لتضع وليدها ولا تكون وحدها أثناء في الولادة بل تكون بجانبها أنثى أخرى من نفس القطيع كي تساعدها وقت الحاجة.
وهناك مثال آخر للتعاون بين الحيوانات في أثناء الولادة وهو ‘’الدولفين’’ فالوليد الصغير عندما يخرج تواً من رحم أمه عليه أن يخرج إلى سطح الماء للتنفس، لذلك تدفعه أمه بأنفها إلى أعلى كي يستطيع التنفس، وتكون الأم ثقيلة الحركة قبل الولادة، ويقترب منها أنثيان من نفس الجماعة لمساعدتها لحظة الولادة، وتسبح هاتان المساعدتان جانبي الأم لحظة الولادة لمنع أي ضرر يلحق بها في تلك اللحظة الحرجة، خصوصاً أن الأم تكون ثقيلة الحركة ومعرضة للخطر أكثر من أي وقت مضى.
ويكون الوليد الجديد لصيقاً بأمه طيلة الأسبوعين الأولين، ثم يبدأ السباحة شيئاً فشيئاً بعد ولادته بفترة قصيرة وتدريجياً يبدأ بالاستقلال عن أمه، وفي هذه الحالة تكون الأم ضعيفة بعض الشيء ولا تستطيع أن تتأقلم مع حركات الوليد الجديد لذا تتدخل أنثى أخرى لحماية الصغير وتوفير العون الكامل للأم حتى تلتقط أنفاسها (124).
وعلى نفس الأسلوب تلد الفيلة أولادها، حيث تكون هناك أنثى أخرى دوماً لمساعدة الأم أثناء الولادة، تختفي الأم ووصيفتها داخل الأعشاب الطويلة بكل مهارة حتى تنتهي عملية الولادة وتستمران في رعاية الفيل الجديد طيلة حياتهما، وتتميز الأم بحساسية مفرطة خصوصاً عندما تكون بجانب وليدها (125).
وهناك أسئلة عديدة تطرح نفسها في هذا المجال مثلاً: كيف تتفاهم الفيلة أو غيرها من الحيوانات مع بعضها، أو الأنثى التي تصبح مساعدة كيف تفهم أو تشعر باقتراب موعد الولادة لقريبتها؟(1/106)
هذه الحيوانات لا تملك عقلاً مفكراً أو إرادة فاعلة لتحديد هذه الأمور الحياتية، إضافة إلى أن هذه الفيلة السالفة الذكر تسلك نفس السلوك في أية بقعة أخرى من العالم، ونفس الشيء يقال للدولفين أو غيره من الحيوانات، وهذا دليل على كونها مخلوقة من قبل خالق واحد وتتحرك في إطار ناموس واحد كذلك.
الحيوانات الحاضنة لصغار غيرها
تمتاز اللبائن بأنها تنشئ علاقات قرابة وطيدة فيما بينها، على سبيل المثال الذئاب تعيش ضمن عائلة واحدة تتألف من ذكر وأنثى وصغيرهما وربما واحد أو اثنين من ولادات سابقة، وكل الحيوانات البالغة تقوم بمهمة حماية الصغار، وأحياناً تبقى إحدى الإناث في الوكر لتقوم بمهمة الحاضنة لأحد الصغار طول الليل بينما تقوم الأم بالخروج إلى الصيد مع باقي أفراد الجماعة.
تعيش كلاب الصيد الإفريقية ضمن جماعات تتألف الواحدة منها من عشرة أفراد، وتبدأ توزيع الواجبات بين الذكور والإناث التي تتلخص بحماية الصغار وتغذيتهم، وتتسابق فيما بينها على رعايتهم، وعند اصطيادها لفريسة تقوم بتشكيل حلقة حولها حماية لها من هجوم الضباع ولإفساح المجال للصغار بالتغذي عليها (126).
يعيش ‘’البابون’’ أيضاً ضمن جماعة يقوم زعيمها برعاية المرضى والجرحى من أفرادها، حتى أن البالغين يتبنون ‘’بابوناً’’ صغيراً في حالة فقدانه لأبويه، فيأذنون له بالسير معهم نهاراً والمبيت عندهم ليلاً، وقد تغير الجماعة مكانها عندئذٍ تقوم بمسك صغيرها ليمشي الهوينا في حالة كونه صغيراً جداً لا تستطيع ضبط توازنه في أثناء حملها له، والصغير قد يتعب أثناء سيره ويتسلق ظهر أمه غالباً، وهذا يؤدي إلى تقهقرهم عن الجماعة، ولو فطن زعيم الجماعة لهذا الأمر لقفل راجعاً إلى حيث تقف الأم ويبدأ بمرافقتهم في أثناء المسير والوقوف كلما وقف البابون الصغير (127).(1/107)
أما أبناء آوى فتعيش مع أمهاتها حتى بعد انقطاعها عن الرضاعة وتصبح يافعة تساعد أمها عند ولادتها لرضيع جديد، فتجلب الغذاء للصغار أو تذهب بهم إلى مكان بعيد لحين ابتعاد الخطر الداهم (128).
وليس أبناء آوى وحدهم الذين يهتمون برعاية أشقائهم بل تقوم بنفس المهمة طيور مثل دجاج الماء والسنونو.
والتعاون في عالم الطيور يتخذ شكلاً آخر لأنه يكون بين أزواج الطيور مثل طير النحل، يتعاون الزوجان في تنشئة أطفالهما وهذا التعاون من الممكن مشاهدته لدى الطيور بكثرة (129).
إن الرعاية التي تبديها الحيوانات تجاه صغار لا تعود إليهم تعتبر من الأدلة القوية لنسف مزاعم دعاة ‘’التطور’’، وكما أسلفنا القول فإن المؤمنين بهذه النظرية يفسرون سلوك الحيوانات المتسم بالتضحية على كونها ليست تضحية بل أنانية لأنها تهدف إلى الحفاظ على الجينات الوراثية ونقلها إلى أجيال لاحقة فقط.
ولكن اتضح من الأمثلة السالفة أن هذه الحيوانات لا تبدي اهتماماً ورعاية لأبنائها من حملة جيناتها فقط وإنما تجاه حيوانات لا تحمل أية جينات منها أصلاً. أي أن هذه الفرضية فرضية ‘’الجين الأناني’’ التي ساقها المؤمنون بنظرية ‘’التطور’’ قد أفلست تماماً وثبت عدم صحتها بالمرة. ومن المستحيل أن يفكر حيوان غير عاقل بنقل جيناته إلى جيل لاحق. ولو قبلنا أن تكون هذه الحيوانات مبرمجة على عملية نقل الجينات فيجب علينا أن نقبل وجود مبرمج لهذا البرنامج. وكل حيوان نصادفه في الطبيعة وندرس طبائعه وخصائصه يقودنا إلى خالق واحد لهذا الوجود. وهذا الخالق بلا شك هو الله الرحمن الرحيم.
التضحية الموجودة في حياة المستعمرات(1/108)
تعيش كائنات مثل النحل والنمل الأبيض ضمن تشكيلات اجتماعية يتم بناؤها بانتظام كما يتم توزيع الواجبات بدقة. هذه الأحياء الصغيرة تبذل كل جهدها ووقتها في سبيل الحفاظ على سلامة اليرقات منذ لحظة خروجها من البيض، وعلى سلامة المستعمرة وتأمين غذائها. وتتقاسم غذاءها فيما بينها فتقوم بتنظيف المكان الذي توجد فيه وإذا اقتضى الأمر تضحي بنفسها من أجل غيرها.
والكل يعرف ما عليه أن يفعله ويحرص على فعل ما بوسعه على أكمل وجه. وكل واحد منها يهتم بالمستعمرة وباليرقات الضعيفة وهذان الهدفان من الأولويات المهمة لديها. ولا يمكن لنا أن نشاهد ضمن أنماطها السلوكية أي دليل على أنانيتها البتة. وهذا بلا شك سبب نجاح هذه الأحياء في الحياة ضمن مستعمرة ملؤها النظام والانتظام.
ويحدثنا بيتر كرو بوتكينPeter Kropotkin عن مدى النجاح الذي يتوصل إليه النحل والنمل الأبيض ضمن العيش في مستعمرة يتسم كيانها بالتعاون المتبادل كما يلي:
لو كانت المستعمرات التي ينشئها النحل أو النمل الأبيض بمقياس المنازل التي ينشئها بني الإنسان لكانت هذه المستعمرات أكثر تطورا في أسلوب بنائها وإدارتها لأنها تتألف من طرق معبدة ومخازن مهيأة للاستهلاك عند الحاجة وصالات فسيحة إضافة إلى مخازن للحبوب ومساحات لزرع الحبوب وتستخدم في هذه المستعمرات مختلف الوسائل والطرق الحكيمة لرعاية البيض واليرقات. وأخيراً شجاعتها وعقولها الرفيعة ...كل هذا نتيجة طبيعية للتعاون المتقابل الذي يبدونها طوال حياتها المتسمة بالعمل المكثف والشاق (130).
وفي هذا الباب سنذكر بعض أوجه التعاون والتضحية في مستعمرة النمل وخليته.
معالم التضحية في مستعمرة النمل(1/109)
.1 من أهم المعالم المميزة لمستعمرة النمل المشاركة في الغذاء. فإذا تقابلت نملتان وكانت إحداهما جائعة أو عطشى والأخرى تملك شيئاً في بلعومها لم يمضغ بعد فإن الجائعة تطلب شيئاً من الأخرى التي لا ترد الطلب أبداً وتشاركها في الأكل والشرب. وتقوم النملات العاملات بتغذية اليرقات بالغذاء الموجود في بلعومها. وفي أغلب الأحيان تكون كريمة مع غيرها وبخيلة على نفسها بشأن الغذاء (131).
.2 هناك توزيع في أداء الواجبات ضمن المستعمرة الواحدة. وكل نملة تؤدي ما عليها من واجب بكل تفان وإخلاص. وإحدى هذه النملات هي البوابة أو حارسة الباب. وهي المسؤولة عن السماح بدخول النمل من أبناء المستعمرة فقط ولا يسمح للغرباء بالدخول أبداً وتكون رؤوس هذه الحارسات بحجم بوابة المستعمرة بحيث تستطيع أن تسد هذه البوابة برأسها. وتظل الحارسات طيلة اليوم بالقيام بواجبها في حراسة مدخل المستعمرة (132) لذلك فإن أول من يجابه الخطر هؤلاء الحارسات.
.3 لا تكتفي النملات بمشاركة أخواتها بالطعام الذي تحمله في معدتها بل تقوم بتنبيه الباقيات إلى وجود مصادر الطعام أو كلإ في مكان ما صادفته. وهذا السلوك لا يحمل في طياته أي معنى للأنانية وأول نملة تكشف الغذاء تقوم بملء بلعومها منه ثم تعود إلى المستعمرة. وفي طريق العودة تقوم بلمس الأرض بطرف بطنها تاركة مادة كيماوية معينة ولا تكتفي بذلك بل تتجول في أنحاء المستعمرة بسرعة ملحوظة ثلاث أو ستة مرات وهذه الجولة تكفي لإخبار باقي أفراد المستعمرة بالكنز الذي وجدته. وعند عودة النملة المكتشفة إلى مصدر الغذاء يتبعها طابور طويل من أفراد المستعمرة.(1/110)
.4 هناك نمل يدعى قطاع الورق تكون عاملاته المتوسطة الطول مشغولات طيلة اليوم بحمل أجزاء الورقة النباتية إلى المستعمرة. ولكنها تكون عند حملها لها عاجزة عن أي دفاع خصوصاً تجاه نوع خاص من الذباب أو أبناء جنسه. ويترك الذباب بيضه على رأس هذا النمل. وتنمو يرقة هذا الذباب متغذية من مخ هذه النملة وهو ما يؤدي إلى موتها. وتكون العاملات من هذا النوع من النمل دون أي حماية أو دفاع أمام هذا الذباب عند حملهن للورقة النباتية. ولكن هناك من يحميها من هجوم هذا الذباب وهو نمل قصير القامة الذي من نفس المستعمرة حيث يقوم بوظيفة حراسة العاملات بواسطة جلوسه فوق الورقة النباتية وعلى أهبة الاستعداد لرد أي هجوم من الذباب على أعقابه (133).(1/111)
.5 هناك نوع من النمل يدعى نمل العسل وسبب هذه التسمية أنها تتغذى على فضلات بعض الحشرات المتطفلة على الأوراق النباتية وتكون فضلات هذه الحشرات غنية بالمواد السكرية. وتحمل هذه النملات ما مصته من فضلات سكرية إلى مستعمراتها وتخزنها في أسلوب عجيب وغريب. لأن البعض من هذه النملات العاملات تستخدم جسمها كمخزن للمواد السكرية. وتقوم العاملات التي حملت المواد السكرية بتفريغ حمولتها داخل أفواه العاملات أو - المخازن الحية - والتي بدورها تملأ الأجزاء السفلية من بطونها بهذا السكر حتى تنتفخ بطونها ويصبح حجمها في بعض الأحيان بحجم حبة العنب. ويوجد من هذه العاملات في كل غرفة من غرف الخلية عدد يتراوح بين 25 و 30 نملة ملتصقات بواسطة سيقانهن بسقف الغرفة في وضع مقلوب. ولو تعرضت إحداهن للسقوط تسارع العاملات الأخريات إلى إلصاقها من جديد. والمحلول السكري الذي تحمله كل نملة يكون أثقل بثماني مرات من وزن النملة نفسها. وفي موسم الجفاف أو الشتاء تقوم باقي النملات بزيارة هذه المخازن الحية لأخذ حاجاتها من الغذاء - السكر - اليومي. حيث تلصق النملة الجائعة فمها بفم النملة المنتفخة وعندئذٍ تقوم الأخيرة بتقليص بطنها لإخراج قطرة واحدة إلى فم أختها. ومن المستحيل أن يقوم النمل بتطوير هذه المخازن وابتكارها بهذه الطريقة العجيبة ومن تلقاء نفسها. وإضافة إلى ذلك التفاني والتضحية التي تتسم بها النملة المنتفخة حيث تحمل ما هو أكثر من وزنها ثماني مرات فضلاً عن بقائها ملتصقة بالمقلوب مدة طويلة جداً ودون مقابل. وإن هذا الأسلوب المبتكر وفقاً لبنية تلك النملة ليس من المصادفة وحدها. لأن هناك نمل يتطوع لكي أن يصبح مخزناً حياً في كل جيل جديد وطيلة أجيال سابقة ولاحقة بلا شك أن سلوكها هذا من تأثير الإلهام الإلهي الذي خلقها وسواها عزَّ وجلَّ.(1/112)
.6 هناك أسلوب للدفاع عن المستعمرة يتبعه النمل أحياناً وهو القيام بعملية انتحار وأعطاء خسائر للعدو في سبيل صيانة مستعمرتها. وتوجد أشكال عديدة لهذا الهجوم الانتحاري. منها الأسلوب الذي يتبعه النمل الذي يعيش في الغابات المطرية في ماليزيا فجسم هذا النوع يتميز بوجود غدة سمية تمتد من رأس النمل حتى مؤخرة جسمه. وإن حدث أن حوصرت النملة من كل جهة تقوم بتقليص عضلات بطنها بشدة تكفي لتفجير هذه الغدة بما فيها من السم بوجه أعدائها ولكن النتيجة موتها بالطبع (134).
.7 يقدم ذكر النمل ومثله الأنثى تضحية كبيرة في سبيل التكاثر. فالذكر المجنح يموت بعد فترة قصيرة من التزاوج. أما الأنثى فتبحث عن مكان مناسب لإنشاء المستعمرة وعندما تجد هذا المكان فإن أول عمل تقوم به هو التخلي عن أجنحتها. وبعد ذلك تسد مدخل المكان وتظل كامنة داخله لأسابيع وحتى لشهور دون أكل أو شرب. وتبدأ بوضع البيض باعتبارها ملكة المستعمرة. وتتغذى في هذه الفترة على جناحيها الذين تخلت عنهما. وتغذي أول اليرقات بإفرازاتها هي وهذه الفترة تعتبر الوحيدة بالنسبة للملكة التي تعمل فيها منفردة بهذا الجهد والتفاني وهكذا تبدأ الحياة في بالمستعمرة.(1/113)
.8 إذا حدث هجوم مفاجئ من قبل الأعداء على المستعمرة تقوم العاملات ببذل ما بوسعها للحفاظ على حياة الصغار. ويبدأ النمل المقاتل بالتحرك صوب الجهة التي هجم منها العدو ومجابهته فوراً. أما العاملات فتسرع نحو الغرف التي توجد فيها اليرقات لتحملها بواسطة فكوكها إلى مكان معين خارج المستعمرة لحين انتهاء المعركة (135) والمتوقع من حيوان كالنمل في مثل هذا الموقف العصيب أن يفر هارباً ويختفي فيه عن أنظار الأعداء، ولكن الذي يجري في المستعمرة غاية في التضحية والتفاني من أجل سلامة المستعمرة، فلا النمل المقاتل ولا حراس البوابة ولا العاملات يفكرون في أنفسهم فقط، فالكل يفكر في المستعمرة بأكملها، وهذا ديدن النمل منذ ملايين السنين.
بلا شك فإن الأمثلة سالفة الذكر تعتبر أمثلة محيرة من عالم الأحياء، والمحير فيها أن هذه الأنماط السلوكية صادرة عن كائنات حية صغيرة كالنمل وهو كائن يصادفه الإنسان في حياته اليومية كثيرا دون أن يعيره أي اهتمام. ولو دققنا في هذه التصرفات لوجدنا وراءها عقلا كبيرا لا يمكن أن نهمله وما كان لنا أن نتوقع هذه التصرفات الواعية من كائن لا يملك أل مخا صغيرا يرتبط به جهاز عصبي صغير جدا وهذه الكائنات تقوم بهذه التصرفات منذ ملايين السنين دون أن يخل أي واحد منها .هذا النظام الذي أمر بتنفيذه لأنها كانت قد استسلمت لخالقها الذي ألهمها هذه التصرفات. وهذا الانقياد التام من الكائنات الحية للخالق عزَّ وجلَّ يصور من قبل القرآن كما يلي:
{ أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإلَيْهِ يُرْجَعُونَ } سورة آل عمران - الآية .83
صور من التضحية في خلية النحل(1/114)
هناك تشابه شبه كلي بين حياة كل من النمل والنحل. في كلا العالمين تتفانى هذه الكائنات في سبيل الحفاظ على حياة وسلامة الملكة واليرقات علماً أن هذه العاملات عقيمة وهذه اليرقات ليست من صغارها. تتألف خلية النحل من الملكة والذكور المسؤولة عن تلقيح الملكة والعاملات، التي تعتبر المسؤولة الأولى والأخيرة عن إدارة الخلية بمختلف نشاطاتها الحيوية اليومية مثل إنشاء الغرف الشمعية، ونظافة المستعمرات وأمنها، وأمن الخلية، وتغذية الملكة والذكور، والاعتناء باليرقات وإنشاء الغرف حسب نوع النمل الذي يخرج من البيض من ملكة أو ذكر أو عاملة، وتهيئة هذه الغرف بصورة مناسبة، وتنظيفها، إضافة إلى توفير الدفء والرطوبة اللازمين للبيض، وتوفير الغذاء لليرقات حسب الحاجة {الغذاء الملكي،وعمل العسل الممزوج برحيق الأزهار} وجمع المواد اللازمة لصنع الغذاء مثل خلاصة الفواكه، رحيق الأزهار، الماء ونسغ الأشجار...
ويمكننا أن نرتب المراحل أو الأطوار الحياتية التي تمر بها النحلة العاملة وفق التسلسل الزمني كما يلي: (تعيش النحلة العاملة من 4 - 6 أسابيع. وعندما تخرج العاملة من الشرنقة كاملة النمو تظل تعمل داخل الخلية فترة ثلاثة أسابيع تقريباً أو أقل قليلاً، وأول عمل تقوم به الاهتمام بتنشئة اليرقات ورعايتها. وتتغذى النحلة العاملة على ما تأخذه من العسل ورحيق الأزهار المتوفرين في مخازن خاصة داخل الخلية إلا أنها تقدم جزءاً كبيراً مما تحصل عليه لليرقات كي تتغذى عليها، وتتم عملية تغذية اليرقات عن طريق إخراج جزء مما تغذت عليه سابقاً من معدتها والجزء الآخر يتم إفرازه من غدد خاصة موجودة في منطقة الرأس وهذه الغدد تفرز مادة جيلاتينية تعتبر غذاء اليرقات.(1/115)
وهناك سؤال يطرح نفسه: كيف يمكن لكائن حي خرج تواً من الشرنقة أن يعرف ما عليه أن يفعله دون اعتراض وهذا يشمل كل النحل؟ والمفروض في هذه العاملات أن تفكر في إدامة حياتها وكيفية الحفاظ عليها لحظة خروجها من الشرنقة دون تفكير في التضحية من أجل الغير أو دون الإقدام على أي سلوك شعوري، ولكن الحاصل غير ذلك تماماً، فهي تتصرف انطلاقاً من مسؤولية كبيرة تشعر بها تجاه اليرقات وتقوم بحضنهن والاهتمام بهن.
.2 عندما تدخل النحلة العاملة يومها الثاني عشر في الحياة تنضج غددها التي تفرز شمع العسل عندئذٍ تبدأ العاملات ببناء الغرف الدراسية وترميم الموجود منها المخصصة لكل من اليرقات وتخزين الغذاء.
.3 في الفترة المحصورة بين اليوم الثاني عشر ونهاية الأسبوع الثالث تقوم العاملات بجمع رحيق لأزهار وخلاصة العسل اللذين جلبا من قبل الذاهبين خارج الخلية. وتقوم بتحويل خلاصة العسل إلى عسل وتخزنه فيما بعد، وفي تلك الأثناء تقوم بتنظيف الخلية من الفضلات والأوساخ وأجساد النحل الميت رامية إياها خارج الخلية.
.4 تصبح الخلية العاملة في نهاية الأسبوع الثالث جاهزة أن تخرج لجمع خلاصة العسل ورحيق الأزهار والماء ونسغ النباتات.
تبدأ النحلات العاملات بالخروج للبحث عن الأزهار التي تحتوي على خلاصة العسل.
وهذه العملية {عملية جمع الغذاء} مرهقة للغاية، فتصبح النحلة العاملة مرهقة ومتعبة حتى الموت في نهاية أسبوعين أو ثلاثة من العمل المرهق (136). والملاحظ هنا أن هذه النحلة العاملة تفرز عسلاً بمقدار يفوق حاجتها بكثير. وهذه الملاحظة تحتاج إلى تفسير طبعاً، إن السفسطة التي يقول بها دعاة التطور لا يمكن لها أن تفسر هذا السلوك المتفاني من كائن حي يفترض فيه أن يهتم بسلامة وإدامة حياته فقط.(1/116)
وهنا تتجلى لنا آية من آيات الله سبحانه وتعالى كما أوضحنا في صفحات سابقة بأن الله عزَّ وجلَّ هو الذي ألهم النحل هذا السلوك العجيب استناداً لما ورد في سورة النحل، وهذا هو التفسير الوحيد لما يقع في عالم النحل الذي يلبي دعوة الرحمان وإلهامه إياه دون تقصير أو كلل، وما على الإنسان إلا أن يتفكر أمام هذه الحقيقة الساطعة استجابة للآية القرآنية الآتية:
سورة النحل - الآية 69 قوله تعالى: { ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون }
.5 تنتظر العاملات مهمة أخرى محتاجة للتنفيذ قبل خروجهن لجلب الغذاء وهي مهمة الحراسة.
هناك عدد من النحل في باب كل خلية مهمتهم حراستها من دخول الغرباء، فكل من لا يحمل رائحة المستعمرة يعتبر مصدر خطر على حياة المستعمرة .
وإذا حدث أن شوهد غريب في مدخل الخلية تبدأ الحارسات بالهجوم عليه بشدة، ويعتبر رنين أجنحة الحارسات الشديد كصفارة إنذار بقدوم الخطر لباقي سكان المستعمرة، وتستخدم الحارسات إبرهن اللاسعة كسلاح فعال ضد العدو الغريب، تفرز الحارسات سماً له رائحة مميزة تنتشر في كافة أنحاء الخلية كعلامة للخطر الداهم. عندئذٍ يتجمع سكان الخلية في المدخل للمساهمة في القتال ضد العدو الغريب. وعند لدغ الحارسة عدوها بإبرتها تبدأ بإفراز السم مما يؤدي إلى انتشار الرائحة أكثر فأكثر، وكلما ازدادت رائحة السم داخل الخلية كلما ازداد النحل هيجاناً وشراسة ضد العدو الغاصب (137).(1/117)
إن مهمة الدفاع عن الخلية تعتبر بمثابة انتحار، لأن إبرة النحل اللاسعة تحتوي على رؤوس مدببة مثل أشواك القنفذ، ولا يمكن للنحلة أن تسحب إبرتها بعد غرزها في جسم غريب بسهولة وعند محاولتها الطيران تبقى الإبرة مغروزة في جسم الحيوان {العدو} وتتعرض بذلك النحلة إلى جرح مميت نتيجة تعرض بطنها إلى شق عميق من ناحية الخلف، حيث توجد الغدد التي تفرز السم والعقد العصبية التي تتحكم بها وعندما تلفظ النحلة أنفاسها الأخيرة يقوم باقي النحل بالاستفادة من موتها عن طريق أخذ السم الموجود في غدد القتيلة والاستمرار بنضحه في جرح العدو الغريب (138).
بعد هذا الاستعراض، كيف لنا أن نفسر سلوك كائن حي يبدأ منذ الخطوة ألاولى مرة خطوة له في الحياة بالعمل الدؤوب والمثابرة وحتى تضحيته بحياته دون كلل أو ملل من أجل راحة الغير وسلامته؟ إضافة إلى أن هذه الأنماط السلوكية هي نفسها في كل أنواع النحل والنمل أينما وجدت على الكرة الأرضية ومنذ ملايين السنين، والحقيقة تبرز أمامنا بوضوح، حقيقة سلوك هذه الكائنات الصغيرة بحجمها والكبيرة بتضحياتها من تأثير إلهام الله عزَّ وجلَّ لها. سورة هود - الآية 56 قوله تعالى: { إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }
الخاتمة
بعد هذا العرض الموجز لأمثلة الكائنات الحية المختلفة يتضح لنا أن هنالك قاسماً مشتركاً بين الأنماط السلوكية التي تبديها وهو التضحية والرحمة والشفقة، وكل منها يراعي صغيرها ويدافع ويحمي عائلتها أو أي حيوان آخر بأروع صورة، وكل منها تضرب لنا مثلاً في الرحمة والمودة وفي الوقت نفسه تتكاتف عند الخطر وفق سلوك عقلاني مدهش، كما يقوم بتغذية بعضه البعض بأساليب ذكية، وتبني هذه الحيوانات بيوتها ببراعة مهندس معماري حاذق ومهارة بناء خبير.(1/118)
ومن النقاط التي كررنا التأكيد عليها طيلة هذا الكتاب: أن الحديث يدور عن كائنات حية منها الصغير مثل الحشرات ومنها الكبير كالفيل والزرافة والطيور والضفادع، فهل من الصحيح
توقع اكتشاف مثل هذه التصرفات الذكية التي تحتاج الى معرفة من كائنات لا تكاد تملك مخا؟!.
وهل تعي الطيور أو الحشرات عملية إبداء سلوك يتسم بالرحمة والشفقة؟
هل يمكن أن يملك حيوان مثل هذه القيم المعنوية العالية؟
كيف لنا أن نفسر سلوك ذكر البطريق المليء بالتضحية والفداء من أجل سلامة أنثاه وأولاده؟
لماذا ترمي الغزلان أو الحمر الوحشية بنفسها أمام خطر المفترس كحاجز بينه وبين صغارها؟
وهذه الأسئلة تعتبر معضلة كبيرة أمام نظرية ‘’التطور’’ التي تدعي أن كل ما تقوم به هذه الكائنات مجرد مصادفة أو أنها تسلك هذا السلوك نتيجة غرائزها.
أن نظرية التطور التي تزعم أن الحياة ظهرت نتيجة للمصادفات ومن مواد غيرة حية تواجه معضلات كبيرة أمام هذه الأسئلة .ويزعم أنصار التطور أن الكائنات الحية تقوم بهذه التصرفات نتيجة لغرائزها التي تمت برمجتها غي جيناتها ،ولكن هذا الزعم يقودهم الى معضلات أكبر وأعمق.لأن هذا الزعم يواجه لاالسوال الآتي : من الذي وضع أو برمج الغرائز في هذه الجينات التي نتج عنها السلوك المتسم بالتضحية والرحمة والشفقة، والذي يقود الكائن الحي إلى بناء المساكن والأعشاش عن سابق معرفة؟ كيف تشكلت هذه الأنماط السلوكية داخل الجين المتألف من مواد غير حية كالكربون والفوسفات؟(1/119)
ولا يملك دعاة ‘’التطور’’ أية إجابة عن هذه الأسئلة، وتنحصر إجابتهم في ردود لا تقدم ولا تؤخر ولا تنفع إلا لذر الرماد في عيون الذن لا يفكرون ولا يتأملون لعمق وتتمثل بكون هذه الخصائص أو الغرائز قد تمت برمجتها في الجينات عن طريق ‘’الطبيعة الأم’’، وكثيراً ما نسمع منهم ‘’أن الطبيعة هي التي أعطت للأحياء خاصية وغريزة رعاية الصغار’’ وأعطت للطيور قابلية بناء الأعشاش ولكن من تمتلك هذه الطبيعة فعلاً مثل هذه القدرة ؟إن الطبيعة التي نتحدث عنها مخلوقة بدورها وتتألف من أشجار وأحجار وأنهار وجبال ومياه وتراب، يا ترى أي جزء من هذه الأجزاء يملك المقدرة على إكساب الكائنات الحية أنماطاً سلوكية مختلفة؟
والتطوريون الذين ينسبون قدرة الخلق لطبيعة ينكرون النطف الملفوج السابق للملحدين الذين يذكرهم القران منهم يؤلهون الطبيعة، والصحيح أن الطبيعة بدورها مخلوقة تتألف من كائنات حية ولا تملك أية قدرة على الإكساب أو الخلق، ويصف لنا القرآن حال الذين يصفون هذه الكائنات الضعيفة بالقوة والقدرة: [سورة الفرقان - الآية 3 قال تعالى: { وَاتَّخَذُوا مِن دُونِه آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُون وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُوراً }
ومن المستحيل قطعاً أن يمتلك كائن حي المقدرة والذكاء والمعرفة والمفاهيم المعنوية بتأثير طبيعة صماء لا تملك عقلاً ولا قوة هذا الأمر يتنافى مع قواعد العقل والمنطق.
والحقيقة أمامنا ساطعة كالشمس وهي أن سلوك هذه الأحياء المتصف بالرحمة والشفقة والتفاني والتضحية هو بتأثير الإلهام من الله الرحمن الرحيم الذي وسع كل شيء رحمة وعلماً.(1/120)
وأن الأمثلة المحدودة التي أوردناها في هذا الكتاب دليل على قوة ورحمة وقدرة الله تعالى على جعل هذه الكائنات تتبع هذا السلوك المتميز واثر منها، فالطير أو الغزال الذي يدافع عن صغيره ويذود عنه ويعمل جاهداً لتنشئته سليماً آمناً لا يفعل كل ذلك بنفسه لأنه لا يعقل هذا العمل بل أن الله الذي يلهم هذه الأحياء صيانة صارها وصيانة صغارها وتغذيتها،لذا فهي مستعدة على الدوام التضحية من أجل هذه الصغار.
ورحمة الله التي وسعت كل شيء لا ترى أمثلتها في الحيوانات فقط بل يمكن رؤيتها في الإنسان وفي الكون كله أيضاً، فاللذين يتفكرون ويتمتعون في أصل ومصدر الأشياء لا شك سيصلون إلى النتيجة البديهية آلاتية { فَإِن تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظً } سورة هود - الآية 57
{ وَقُل رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ } سورة المؤمنون - الآية 118
خطأ نظرية التطور
طيلة صفحات الكتاب تفحصنا الطبيعة بمحتوياتها غير الحية مثل جسيماتها، الهواء، الضوء، الذرات، العناصر، ونتيجة لهذا التفحص توصلنا إلى عدم إمكانية ظهور الكون مصادفة، على عكس ذلك فكل جزء من أجزاء الكون يشير إلى عملية خلق باهرة، أما المادية التي تعارض عملية الخلق فليست إلا عبارة عن سفسطة علمية لا غير.
أن سقوط المادية أدى إلى اضمحلال النظريات الفلسفية القائمة عليها وعلى رأسها نظرية ‘’التطور’’ أو ‘’الداروينية’’، لأن هذه النظريات قد ثبت إفلاسها علمياً بعد إثبات خلق الأحياء من مواد غير حية من قبل الله سبحانه وتعالى، ويتحدث العالم الأميركي ‘’هوك روس»Hugh ROSS والمتخصص في الفيزياء الكونية {الفلكية} عن هذا الأمر قائلاً:(1/121)
«تستند الحركات الإلحادية والنظريات الداروينية وجميع الفلسفات الإلحادية منذ القرن الثامن عشر وحتى القرن العشرين الى فرضية خاطئة تصر على وجود الكون منذ الأزل، ولكن نظرية الانفجار الكبير وضعتنا وجها لوجه أمام السبب الكامن وراء خلق الكون وهذا السبب هو وراء كل شيء ومن ضمنه الحياة (139).
فالذي خلق الكون وقدر كل صغيرة وكبيرة فيه هو الله فاطر السماوات والأرض، فمن المستحيل أن يكون خلق الأحياء من جراء المصادفة كما تدعي نظرية ‘’التطور’’.لذا فمن المستحيل أن تكون نظرية التطور صحيحة .
علماً بأننا عند دراستنا لهذه النظرية نجد أدلة علمية دامغة على عدم صحتها، ويعتبر تصميم الكائن الحي بكل صفاته وخصائصه أكثر تعقيداً وصعوبة من تصميم الكائنات غير الحية كما تحدثنا عن ذلك في صفحات الكتاب، ففي العالم غير الحي تكون الذرات صغيرة جداً وذات نظام دقيق للغاية في البنيان والحركة ولكن هذه الذرات أعيد ترتيبها ترتيباً معيناً ومعقداً ومفصلاً في أجسام الكائنات الحية لصنع وتركيب البروتينيات والأنزيمات وكافة المواد اللازمة للخلية عبر آلية معينة ومنظمة. وهذه التصاميم الدقيقة والمعقدة الآلية الحيوية قد أثبتت خطأ نظرية داروين في التطور عند نهايات القرن العشرين.
لقد تناولنا هذه الحقيقة بالتفصيل في بعض كتبنا ولا نزال نتناولها وقد، رأينا أن في تلخيص الموضوع إفادة من كافة النواحي.
السقوط العلمي لنظرية داروين
تعتبر هذه النظرية قديمة جداً ويرجع تاريخها إلى الإغريق ولكن لم تتشكل ضمن قالب علمي إلا في القرن التاسع عشر، من خلال تأليف ونشر كتاب ‘’أصل الأنواع’’ من قبل تشارلز داروين سنة ،1859 عارض داروين في كتابه هذا فكرة خلق الأحياء الموجودة في الأرض من قبل الله سبحانه وتعالى، وحسب رأيه أن الأحياء نشأت من أصل واحد وجد واحد وتنوعت فيما بينها بمرور الزمن.(1/122)
ولم تستند نظرية داروين والى أي دليل علمي مادي، وإنما كانت مجرد فرضية منطقية آمن بها. ويحتوي الكتاب على باب مطول للغاية تحت عنوان ‘’صعوبات النظرية’’ يعترف فيها داروين بأن هناك أسئلة عديدة عجزت النظرية في الإجابة عنها وكان يأمل داروين في التقدم العلمي كمخرج له لإيجاد ردود على الأسئلة المستعصية وإيجاد الأدلة المقنعة لذلك وأن هذه الأدلة ربما تزيد نظريته قوة وصحة، إلا أن التقدم العلمي قد خيب أمله وفند مزاعمه واحداً تلو الآخر وأثبت بطلان نظريته.
ويمكن تلخيص سقوط نظرية داروين أمام العلم تحت ثلاثة موضوعات رئيسية:
1) عجز النظرية عن تفسير كيفية نشوء الحياة على كوكب الأرض.
2) أن فرضية وجود ‘’آلية التطور’’ التي ساقتها النظرية افتقرت إلى أي دليل علمي يثبت صحتها يمكن الاستناد إلية في نقدها وتحليلها علمياً.
3) الحقائق التي أتى بها علم المتحجرات والتي تضاربت مع النظرية.
وفي هذه المقالة سنتحدث بإسهاب عن هذه الموضوعات الرئيسية.
أصل الحياة: العقبة الرئيسية أمام النظرية والتي لم تتجاوزها
تدعي نظرية ‘’التطور’’ أن الحياة نشأت قبل ,83 مليار سنة في العهود الأولى للأرض ومن خلية حية واحدة وبعد هذا الادعاء ظهرت أسئلة على رأسها كيفية نشوء الأنواع العديدة والتي تقدر بالملايين من خلية واحدة ولو كان هذا الفرض صحيحاً لماذا لم نجد دليلاً واحداً في المتحجرات التي تظهر نتائجها الحفريات، ولكن التساؤل الرئيسي في هذا الموضوع كيف ظهرت تلك الخلية الحية الأولى إلى الوجود؟
وحسب هذه النظرية فإن هذه الخلية ظهرت إلى الوجود نتيجة المصادفة وحدها رافضة أي احتمال خارجي فوق الطبيعة ومعارضة لفكرة الخلق، أي أن النظرية تدعي نشأة مادة حية من مواد غير حية، ولكن هذا الادعاء منافي لبديهيات علم الأحياء.
الحياة تنشأ من الحياة(1/123)
لم يتحدث داروين في كتابه عن أصل الحياة أبداً، لأن الفكرة السائدة في تلك المرحلة كانت حول تشكل الكائنات الحية من وحدات بنائية بسيطة، والنظرية المتواترة من القرون الوسطى كانت حاكمة على عقول العلماء وتتلخص بـ ‘’الجيل الناشئ تلقائياً’’ أو أن المواد غير الحية تجمعت ونشأ منها كائن حي، حتى أن البعض أو أغلب المفكرين كان يظن أن الحشرات تنشأ من فضلات الأكل أو فتات المائدة، والفئران تنشأ من القمح، وأجريت تجارب غريبة من نوعها لإثبات هذه النظريات. حتى أن البعض ذهب بعيداً في خياله العلمي ظاناً أن وضع حفنة من القمح على قطعة قماش مهترئة والانتظار قليلاً يؤدي إلى خروج فئران جديدة إلى الوجود. والدليل الآخر الذي استند إليه المفكرون في تصديقهم لفكرة النشوء الحي من غير الحي رؤيتهم الدود يغزو اللحم المتعفن، ولكن اتضح فيما بعد أن هذا الدود لا يظهر من تلقاء نفسه بل ينقل إلى اللحم بواسطة الذباب الذي يحط على اللحم حاملاً معه يرقات هذا الدود التي لا ترى بالعين المجردة.
أما الفترة التي ظهر فيها كتاب ‘’أصل الأنواع’’ لداروين فقد كانت هناك فكرة سائدة في أوساط العلماء تفيد بأن البكتيريا تنشأ من مواد غير حية.
وبعد نشر الكتاب بخمس سنين أثبت الكيمائي الفرنسي لويس باستور بطلان هذا الاعتقاد، فقد كتب هذا الباحث المشهور بعد تجارب عديدة وبحوث مطولة ما يلي: ‘’ثبت بالتأكيد بطلان النظرية القائلة بنشوء الأحياء من المواد غير الحية’’ (140).
وناهض المؤمنون بنظرية ‘’التطور’’ نتائج أبحاث باستور لمدة طويلة، وبمرور الزمن تقدم العلم كثيراً وأثبت أن الخلية ذات بناء مركب ذو تفصيلات عديدة ومعقدة لا يمكن لها أن تنشأ من تلقاء ذاتها أبداً.
الجهود المبذولة طيلة القرن العشرين لم تجد نفعاً(1/124)
كان عالم الأحياء الروسي الكسندر أوبارين أول من تناول قضية أصل الحياة في القرن العشرين وحاول أوبارين في الثلاثينات أن يثبت نشوء الخلية الحية مصادفة عن طريق إجراء تجارب عديدة.
ولكن هذه التجارب كلها باءت بالفشل واضطر أن يعترف في النهاية قائلاً: ‘’للأسف الشديد إن أصل الخلية الحية يعتبر نقطة سوداء تبتلع النظرية بكافة تفاصيلها’’ (141).
ودأب العلماء من المؤمنين بهذه النظرية والذين قدموا بعد أوبارين على إجراء التجارب لإثبات مصدر الحياة، وأشهر هذه التجارب هي التي أجريت من قبل العالم الأميركي ستانلي ميللر سنة ،1953 حيث استطاع تحضير بعض الأحماض الأمينية والتي تدخل في تركيب البروتينيات عن طريق إعطاء شحنة كهربائية لخليط من الغازات التي افترض أنها كانت توجد في الغلاف الجوي للأرض في الأزمنة الأولى.
وثبت في السنوات اللاحقة أن هذه الغازات لم تكن تشكل مكونات الغلاف الجوي في تلك الأزمنة الغابرة أو بمعنى آخر لم تكن بالنسب التي افترضها العالم وبذلك سقطت هذه التجربة من اهتمامات العلماء بعد أن كانت ولبرهة قصيرة كطريق لإثبات صحة النظرية (142).
وبعد فترة صمت ليست بالقصيرة اعترف ميللر نفسه بأن الغازات التي استخدمها في التجربة لم تكن تمثل الغازات الموجودة آنذاك (143).
وباءت جميع تجارب دعاة التطور لإثبات أو تفسير أصل الحياة بالفشل الذريع طيلة سنوات القرن العشرين. وكتب جيفري بادا Jeffrey BADA الباحث في علم الكيمياء الجيولوجية والذي يعمل في معهد سان دييغو سكريبس مقالاً في مجلة ‘’الأرض - Earth’’ التي تعتبر منبراً لنظرية التطور وتاريخ المقال سنة 1998 يتحدث فيه عن هذه الحقيقة
‘’ونحن ،وقد تخطينا القرن العشرين ما زلنا نواجه نفس ما واجهناه في بداية هذا القرن من سؤال يبحث عن جواب ولكن دون جدوى وهو: كيف نشأت الحياة على كوكب الأرض؟’’ (144)؟(1/125)
يعتبر التركيب المعقد لأبسط الكائنات الحية السبب الرئيسي لمواجهة نظرية التطور مأزقاً حرجاً لا حل له على الإطلاق وفق فرضياتها. وخلية الكائن الحي أكثر تعقيداً من جميع الاختراعات التقنية التي توصل إليها الإنسان. ولو تجمع أذكى العلماء في أحسن المختبرات العالمية لما استطاعوا إنتاج مواد حية من مواد غير حية.
والشروط التي توجب ظهور خلية حية إلى الوجود لا يمكن إسنادها إلى المصادفة بأي حال من الأحوال ولو فرضنا أن هناك نسبة احتمال معينة لبناء البروتين اللازم لتركيب الخلية فتصبح هذه نسبة لبروتين يتكون من 500 حامض أميني بمقدار 1 إلى 10 مرفوعة إلى القوة .950 علماً بأن أية نسبة احتمال أقل من 1 إلى 10 مرفوعة إلى القوة 50 تعتبر صفرا أي نسبة مستحيلة استناداً إلى مبادئ الرياضيات.
والخلية الحية تحتوي على النواة التي بدورها تحتوي على الـ DNA أو جزيئة الحامض النووي دي أوكسي الرايبوزي وهذه الجزيئة تعد بنك المعلومات بالنسبة للخلية. ولو حاولنا كتابة المعلومات الموجودة في الـ DNA الخاص بخلية الإنسان لوجدنا أنفسنا مضطرين إلى تدوين 900 مجلد وكل مجلد يتألف من 500 صفحة.
وفي هذه النقطة بالذات تواجه النظرية مشكلة مستعصية أخرى: فكما هو معروف أن الحامض DNA لا يمكن أن يتضاعف إلا بوجود بروتينيات خاصة (أنزيمات). ولا يمكن بناء هذه الأنزيمات إلا بما يناسب الشفرة الوراثية الموجودة على جزئية الـ DNA ونظرا لارتباط أحدهما بالآخر فلا يمكن لهذا الحامض النووي DNA بوجودهما معاً وفي آن واحد. وهذه الحقيقة تتنافى مع فرضية سيناريو ظهور الحياة إلى الوجود من تلقاء نفسها.
وكتب البروفيسور LESLIE ORGEL الباحث في كلية سان تياغو بكاليفورنيا في مقال له على صفحات المجلة العلمية الأمريكية Scientific American بتاريخ أكتوبر سنة 1994 عن هذه الحقيقة:(1/126)
أن فرضية وجود البروتينيات (والتي هي جزيئات على درجة عالية من التعقيد) و RNA والأحماض النووية- DNA في نفس المكان والزمان بمحض المصادفة يعتبر احتمالاً مستحيلاً. وحتى لو لم يوجد أحدهما فإن إيجاد الآخر أيضاً من المستحيلات. لهذا السبب فعلى الإنسان أن يقتنع أن الحياة لم تظهر نتيجة التفاعلات الكيماوية(145).
وما دمنا أثبتنا أن من الاستحالة نشوء الحياة بفعل العوامل الطبيعية. إذن فالحياة خلقت بشكل غير عادي وبشكل خارق. وهذه الحقيقة بالذات تفند مزاعم نظرية التطور التي تعارض فكرة الخلق.
الآليات الخيالية لنظرية التطور
النقطة الثانية التي ساهمت في إثبات بطلان هذه النظرية تتمثل في مفهومين يدوران حول موضوع آليات التطور وقد ثبت أن هذين المفهومين لا يحملان أي قدرة على التطوير .
فقد أرجع داروين جل نظريته إلى آلية الانتخاب الطبيعي وأعطاها أهمية استثنائية حتى أنه سمى كتابه: ‘’أصل الأنواع عن طريق الانتخاب الطبيعي’’ ويعني هذا المصطلح إن البقاء للأصلح. وتستند هذه الفرضية الى مبدأ البقاء للكائن الحي الذي يبدي تجاوباً مع الشروط الطبيعية أي أن الأقوى على التحمل هو الذي يستطيع أن يستمر في الحياة. ومثال ذلك لو هدد حيوان مفترس قطيعا من الغزلان فالأسرع بالجري منها هو الذي يستطيع البقاء على قيد الحياة. وبهذا الشكل يظل القطيع متشكلاً من الأعضاء السريعين والأقوياء. ولكن هذه الآلية لا تحول هذه الغزلان إلى كائن حي آخر كالحصان مثلاً. أي أن آلية الانتخاب الطبيعي لا تمتلك أي قدرة على التطوير. وداروين نفسه كان يعلم بوجود هذه الثغرة العلمية واضطر إلى أن يقول في كتابه أصل الأنواع ‘’لا توجد أية فائدة في الانتخاب الطبيعي طالما لا يحقق أية تغييرات إيجابية’’(146).
تأثير لامارك :LAMARCK(1/127)
كيف كان يمكن لهذه التغييرات الإيجابية أن تحدث؟ حاول داروين الإجابة استناداً إلى الفكرة العلمية البدائية التي كانت سائدة في ذلك الوقت رجوعاً إلى أفكار LAMARCK وهو باحث فرنسي في علم الأحياء عاش قبل داروين وكان يتبنى فكرة مؤداها أن الأحياء تتعرض لتكيفات معينة أثناء حياتها وتورث هذه التكيفات إلى الأجيال اللاحقة وأن تراكم هذه التكيفات من جيل لآخر يؤدي إلى ظهور أنواع جديدة من الأحياء. وعلى سبيل المثال حسب فكر لامارك فإن الزرافات نشأت غزلان كانت تحاول التغذي على أوراق الأشجار الطويلة وان أعناقها طالت من جيل الى جيل نتيجة محاولتها هذه.
وأعطى داروين أمثلة مشابهة في كتابه أصل الأنواع ذاكراً أن أصل الحيتان هو الدببة التي كانت تنزل إلى الماء بحثاً عن الطعام وتحولت بمرور الزمن إلى حيتان (147)،
ولكن طرأ تغيير في مسيرة العلم باكتشاف مندل لقوانين الوراثة التي اكتسبت قوة نتيجة ظهور علم الجينات في القرن العشرين وثبت بما لا يقبل الشك أن الخصائص المكتسبة لا تورث إلى أجيال لاحقة. وهكذا بقي الانتخاب الطبيعي سواء بمفرده أو النظرية التي يدخل في حيزها كآلية غير فعالة.
الداروينية الحديثة والطفرات الوراثية(1/128)
قام الداروينيون بمواجهة هذا المأزق اعتباراً من نهاية الثلاثينيات عبر طرح نظرية جديدة باسم ‘’النظرية التركيبية الحديثة’’ وشاعت باسم النيوداروينية أو الداروينية الحديثة، وتستند الى فرضية حدوث تغييرات في البناء الجيني للأحياء وهذه التغييرات قد تكون مفيدة وتدعى الطفرات الوراثية وتحدث نتيجة التعرض للإشعاعات الضارة أو نتيجة خطأ في الاستنساخ الوراثي، وحالياً تحافظ الداروينية على كيانها النظري عبر هذه الفرضية، وتدعي هذه النظرية بصورة عامة أن أعضاء الكائنات الحية ذات تراكيب معقدة للغاية نشأت عن طريق الطفرات الوراثية التي طرأت على أجسام هذه الكائنات وبمرور الزمن أخذت شكلاً معيناً كالأنف والعين والأذن والأجنحة وغيرها من الأعضاء، ولكن ظلت هذه الفرضية عاجزة أمام الحقيقة وهي أنها لا تؤدي إلى ظهور أنواع جديدة بل العكس تعتبر تغييرات ضارة. وسبب ذلك بسيط للغاية: وهو أن DNA ذو التركيب المعقد، فجزئية هذا الحامض النووي تتعرض لأضرار جسيمة في حالة تعرضها لتأثير خارجي او اعتباطي، ويشرح هذا الأمر بالتفصيل الباحث الأميركي BG RAGANATHAN ب.ج. راكناثان وهو متخصص في علم الجينات قائلاً:
إن الطفرات الوراثية عبارة عن تغييرات عشوائية وضارة وصغيرة ومن النادر جداً حدوثها وفي أحسن الأحوال تكون غير فعالة، وهذه الخصائص الثلاثة تبين عدم إمكانية لعب دور كبير في التطور المفترض. ومن البديهي أن تكون أية طفرة وراثية تطرأ على كائن حي متكامل الأعضاء إما ضارة أو غير فعالة، مثلاً أي تغيير يطرأ على يد لا يؤدي إلى تطورها، فإما يضرها أو لا ينفعها في أحسن الأحوال، والزلزال لا يطور مدينة بل يدمرها. (148)(1/129)
وإلى يومنا لم تشاهد أي طفرة وراثية أو تغيير جيني مفيد للكائن الحي. ويفهم من هذا العرض أن الطفرات الوراثية التي سيقت من قبل النظرية كمفهوم أو آلية خاصة للتطور هي في الحقيقة تغيير ذو طابع تخريبي على أجساد الكائنات الحية يتركها معوقة في الغالب، )والأثر البالغ الذي تتركه الطفرات الوراثية على جسم الإنسان هو الإصابة بمرض السرطان.( ومثل هذه الآلية التخريبية لا يمكن لها أن تكون آلية للتطوير، أما الانتخاب الطبيعي فكما اعترف داروين بنفسه فلا يمكن لوحده أن يكون ذا تأثير بالغ وهذه الحقيقة تبين لنا عدم وجود أية آلية للتطور في الطبيعة، ولعدم وجود هذه الآلية فمن الطبيعي أن لا تكون هناك أية فترة خيالية ومزعومة لهذا التطور المزعوم.سجلات الحفريات:(1/130)
لا أثر لأي أنواع انتقالية هذا يعد أحسن شاهد على عدم صحة السيناريو المقدم من قبل نظرية التطور أي عدم وجود فترة للتطور كما تدعي النظرية. فحسب هذه النظرية أن الكائنات الحية نشأت وتطورت عن بعضها البعض، فهناك كائن حي نشأ كأول نوع ثم نشأ عنه نوع آخر وهكذا، وحسب النظرية فإن هذه العملية استمرت مئات الملايين من السنين وتحققت خطوة خطوة. وما دام الأمر كذلك فيجب أن تكون هناك أنواع انتقالية عديدة عاشت وتكاثرت على وجه البسيطة. على سبيل المثال يفترض أن يكون هناك كائن حي على الرغم من حمله لصفات السمك،فقد أكتسب بعض صفات الزواحف أي كائن نصف سمكة ونصف زاحف أي يملك جزءاً من خصائص الأسماك وجزءاً من خصائص الزواحف قد عاش وتكاثر على كوكب الأرض، أو كائن حي يحمل خصائص مشتركة من الزواحف والطيور، ولكونها كائنات أو أنواعاً من كائنات حية انتقالية يفترض أن تكون معوقة أو ذات نواقص أو عيوب فسيولوجية أو مورفولوجية. ويدعو دعاة التطور هذه الكائنات بالـ كائنات الحية الانتقالية ولو صح أن هذه الكائنات الانتقالية أو ‘’الحلقات الوسطى’’ قد عاشت وتكاثرت فيجب أن يكون عددها بالملايين وحتى بالمليارات، ويفترض أن نجد لها أثارا في الحفريات، ويشرح داروين هذا الأمر في كتابه ‘’أصل الأنواع’’:
إذا صحت نظريتي فينبغي وجود كائنات حية انتقالية عديدة جداً على كوكبنا والعثور على متحجرات هذه الأنواع هو وحده الذي يثبت أنها عاشت فعلا. (149)
خيبة أمل داروين
استمرت أعمال البحث بشكل مكثف عن المتحجرات منذ أواسط القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا في كافة أنحاء الأرض التي نعيش عليها ولكن لم تعثر هذه الأبحاث والحفريات أي أثر لهذه الكائنات الانتقالية. وثبت من الأدلة التي تم التوصل إليها عن طريق فحص المتحجرات أن جميع الكائنات الحية نشأت وظهرت على وجه الأرض فجأة وبدون نقص وهذا عكس ما يدعيه الداروينيون.(1/131)
واعترف بهذه الحقيقة الباحث في علم المتحجرات «DEREK W.AGER درك.و.يكر» بالرغم من كونه مؤمناً بفكرة التطور قائلاً:
مأزقنا أن هو: عندما نقوم بتدقيق سجلات الحفريات نجد أمامنا حقيقة واحدة لا غير سواء المتعلقة بالأجناس أو بالأنواع، نرى أمامنا مخلوقات كاملة ظهرت فجأة على شكل مجاميع بدلاً من رؤيتنا لكائنات متطورة تدريجياً (150).
أي أن هذه الحفريات تدل على أن هذه المتحجرات تعود إلى كائنات حية ظهرت فجأة على وجه الحياة بدون أي نقص ولا أثر في هذه المتحجرات لأي مخلوقات حية انتقالية، وهذا يتعارض مع ادعاءات داروين، والأبعد من ذلك أن هذا دليل كاف على هذه الكائنات مخلوقة، لأن هذا الدليل يبين لنا أن هذا الكائن الحي قد ظهر إلى الوجود بدون جد له ودون أي عملية للتطور أي أن هذا الكائن الحي مخلوق حتماً، ويعترف بهذه الحقيقة Doglas Futuyma دوغلاس فوتويما المتخصص بعلم الأحياء قائلاً:
الخلق والتطور يعتبران التفسيران الوحيدان لشرح أصل الكائنات الحية، فهناك احتمالان لا ثالث لهما الأول أن تكون الكائنات الحية قد ظهرت إلى الوجود فجأة ودون نقص أي أنها مخلوقة، أو أن تكون غير ذلك، وعندما تكون غير ذلك ينبغي أن تكون مرت بفترة تطور عن أنواع أخرى سبقتها في الوجود، وإذا كانت هذه الكائنات الحية قد ظهرت فجأة وبهذا الشكل المعجز فينبغي أن يكون هناك من خلقها بهذه الصورة وهذا الخالق بلا شك ذو علم وقوة لا حد لها (151).
أما المتحجرات فتعتبر دليلاً قوياً على أن الكائنات الحية قد ظهرت إلى الوجود دون نقص وبهذا الشكل المتكامل أي أن أصل الأنواع ليس كما يدعي داروين.
قصة تطور الإنسان(1/132)
من أهم الموضوعات التي يخوض فيها الداروينيون ويدخلون في نقاشات متشعبة هي موضوع أصل الإنسان، أما الادعاء الدارويني بهذا الصدد فيتلخص في فرضية كون الإنسان قد نشأ من مخلوقات شبيهة بالقرود، وهذا النشوء والتطور قد استمر لفترة من 4 - 5 مليون سنة تطور هذا المخلوق الشبيه بالقرود إلى أنواع انتقالية حتى أخذ شكل الإنسان الحالي، وصنفت أربعة أنواع للإنسان حسب التسلسل الزمني:
Austrapithecus -1 أوسترالوبيثيكوس
Homo Habilis -2 هومو هابيليس
Homo Erectus -3 هومو أركتوس
Homo sapiens -4 هوموسابينس {الإنسان الحالي}
وسمى الداروينيون الجد الأعلى للإنسان باسمAustralopitheucus أو قرد الجنوب، وفي الحقيقة لم تكن هذه المخلوقات إلا نوعاً من القرود المنقرضة، وثبت ذلك علمياً عن طريق الأبحاث التي أجراها باحثان مشهوران في علم التشريح وهما الأميركي Charles Oxnard تشارلس أوكسنارد والبريطاني Lord Solly Zuckerman اللورد سوللي زوكرمان وأثبتا أن هذا النوع من الكائنات الحية لا يمت بأية صلة بالإنسان. (152)
ويصنف دعاة التطور الجيل التالي من هذه الأحياء تحت اسم Homo أي الإنسان، وهذا الجيل تطور عن قرد الجنوب أو الـ Australopithecus ويرتب هؤلاء المتحجرات الخاصة بهذا الكائن الحي في جدول زمني لعملية التطور، وهو جدول خيالي بالطبع والخيالية فيه نابعة من عدم وجود أي دليل يثبت أن هذه الأنواع نشأت وتطورت عن بعضها، واعترف بهذا الخطأ العلمي أحد أشرس المدافعين عن نظرية التطور في القرن العشرين وهو Ernest Mayr أرنست ماير أستمرار قائلاً: ‘’إن السلسلة المتصلة بـ Homo sapiens في حقيقتها مفقودة’’ (153).
ويدعي المؤمنون بنظرية التطور أثناء تشكيلهم للسلسلة التي حلقاتها هي:
بأن كل نوع منها هو جد النوع الذي يليه، ولكن علماء المتحجرات بعد فحصهم للمتحجرات الخاصة بـ Homo Habilis - Homo Erectus - Homo sapiens(1/133)
Australopithecus اكتشفوا أن هذه الأنواع قد عاشت معا في أنحاء مختلفة من كوكب الأرض وفي نفس الفترة الزمنية. (154)
والأدهى من ذلك أن أفراداً من نوع Homo Erectus قد عاشت حتى فترات زمنية حديثة {قريبة}، حتى أن إنسان النياندرتال Homo Sapiens Neandertalensis وإنسان الـ سابينس (الإنسان الحالي) Homo Sapiens قد عاشا في نفس الوسط أو البيئة جنباً إلى جنب. (155)
وهذه الأدلة بالطبع تؤدي إلى نسف الادعاءات القائلة: بأن هذه الأنواع بعضها جد بعض.
ويتحدث Stephen Jay Gould ستيفن جي كوولد المتخصص في علم المتحجرات في جامعة هارفارد عن هذا المأزق العصيب الذي دخلته نظرية التطور بالرغم من كونه مؤمناً بها قائلاً:
أمامنا مشهد يصور لنا أن هناك ثلاثة أنواع مختلفة من الإنسان تعيش بموازاة بعضها، إذن فما الذي حدث لشجرة التطور الخاصة بنا؟ والواضح أن لا أحد من هذه الأنواع قد تطور من الآخر، والأبعد من ذلك عندما نجري بحث مقارنة نوعية بين هذه الأنواع لا نجد بينها أي ترابط يدل على أنها تطورت بعضها عن بعض تدريجياً. (156)
وملخص الكلام أن النظرية الخاصة بنشوء الإنسان من مخلوق نصفه قرد ونصفه الآخر إنسان ما هي إلا نظرة خيالية مستندة إلى نوع من الدعاية المضللة لجعلها صحيحة في دنيا العلم ولكن الحقيقة أن هذه النظرية لا تستند إلى أي دليل علمي يثبت صحتها أو صحة فرضيتها.
وتوصل لهذه الحقيقة Lord Solly Zuckerman اللورد سوللي زاكرمان الذي أجرى أبحاثاً على متحجرات Australopithecus ولمدة خمس عشر سنة وهذا الباحث يعتبر من أشهر علماء المتحجرات في بريطانيا في نظرية التطور فبالرغم من إيمانه بنظرية التطور اعترف بعد أبحاثه بأنه لا توجد سلسلة تطورية تمتد من الكائنات الشبيهة بالقرود إلى إنساننا الحالي.(1/134)
قام Zuckerman زاكرمان بتصنيف للعلوم فلفت للنظر، فقد صنف فروع المعرفة الى علمية وغير علمية التي يعترف بكونها موجودة علمياً إلى ، واستناداً إلى الجدول الذي صنفه زاكرمان وضع الكيمياء والفيزياء على قمة الجدول لاستنادهما إلى الأدلة المادية ويعقبهما علم الأحياء فالعلوم الاجتماعية وفي أسفل الجدول أي في فروع المعرفة غير العلمية وضع زاكرمان علم تبادل الخواطر Telepathy أو الحاسة السادسة وأضاف أليها ‘’تطور الإنسان’’ في حافة الجدول السفلية وأضاف معلقاً:
عندما نخرج من عالم الأدلة المادية ونلج إلى علوم تمت بصلة بعلم الأحياء مثل علم تبادل الخواطر وتاريخ المتحجرات الخاصة بالإنسان نجد أن كل الاحتمالات ممكنة بالنسبة لمن يفكر ويؤمن بفكرة تطور الإنسان، وحقاً يمكن لهؤلاء أن يقبلوا بعض الاحتمالات المتناقضة في آن واحد (157).
إذن قصة تطور الإنسان ما هي إلا نتاج إيمان أعمى بنظريات موضوعة استناداً إلى متحجرات اعتبروها دليلاً لهم وهي في الواقع دليلاً عليهم وعلى بطلان ادعاءاتهم السمجة.
الفكر المادي
بعد هذا الاستعراض الفكري يتبين لنا أن نظرية التطور في حالة تناقض تام مع الأدلة العلمية الموجودة، لأن ادعاء نشوء الحياة بالتطور مناف لقواعد العلم ولا يمكن إيجاد أي أساس علمي يستند أليه يمكن من خلاله البدء بالمناقشة والتحليل والنقد الموضوعي.وأثبتت المتحجرات عدم وجود الكائنات الحية الانتقالية والحلقات الوسطى، وما دام الأمر كذلك فينبغي طرح هذه النظرية جانباً باعتبارها متناقضة مع العلم وقواعده وأحكامه، كما حصل للنظرية القائلة بأن الأرض مركز الكون والتي طرحت جانباً هي الأخرى.
ولكن هناك إصرار عجيب على التأكيد على صحة هذه النظرية في دنيا العلم، والبعض من الغلاة يذهب بعيداً في غلوانه مؤكداً أن أي هجوم على هذه النظرية هو هجوم على العلم والعلماء، ولكن لماذا؟(1/135)
إن سبب هذا الغلو ناشئ من كون النظرية بالنسبة لبعض الجهات اعتقاداً دوغمائيا لا يمكن أن يفرط فيه وهذه الجهات تؤمن بالمادية إيماناً أعمى وتعتبر الداروينية مصدر إلهام لها في إيجاد تفسيرات مادية صرفة للظواهر الطبيعية.
وأحياناً يعترف دعاة التطور بهذه الحقيقة، مثلاً Richard Lewontin ريتشارد ليونتن الباحث المشهور في علم الجينات والذي يعمل في جامعة هارفارد ويعتبر من المدافعين عن نظرية التطور يعترف بكونه مؤمناً بالمادية ومن ثم يتحدث عن نفسه أنه رجل علم قائلاً:
‘’لدينا إيمان بالمادية ونقبلها كبديهية، والأمر الذي يجبرنا على إيجاد تفسيرات مادية للظواهر الدنيوية ليس العلم ووسائله، بالعكس فإننا نعمل انطلاقاً من إيماننا بالمادية ولهذا السبب نقوم بإجراء التجارب واستخدام كافة الوسائل لإيجاد تفسيرات مادية للظواهر الدنيوية، وبما أن المادية مقبولة من قبلنا ونؤمن نعترف بصحتها أيمانا مطلقا فلا نأذن أبداً للتفسيرات الإلهية أن تدخل ساحة العلم (158).
وهذا الكلام دليل على أن الداروينية ليست سوى دوغمائية يتم دعمها وتأييدها بسب ارتباط الأعمى بالفلسفة المادية.
وتفترض هذه الفكرة الدوغمائية أنه لا يوجد شيء سوى المادة، وأن الحياة نشأت من المادة من شيء غير حي، أي أنها تقبل بنشوء الملايين من الأحياء المختلفة كالطيور والأسماك والزرافات والنمور والحشرات والأشجار والأزهار والحيتان والإنسان من التفاعلات والتغييرات الحاصلة داخل المادة أو بمعنى آخر بسبب بعض الظواهر الطبيعية المادية كنزول المطر والصواعق، والحقيقة أن هذه الفرضية منافية لقواعد العلم والعقل، ولكن يستمر الداروينيون في الدفاع عن نظريتهم بشتى الوسائل لمنع دخول التفسيرات الإلهية ساحة العلم .(1/136)
والناظر إلى مسألة أصل الأنواع نظرة غير مادية لا بد أن يجد الحقيقة التالية: كل الكائنات الحية وجدت نتيجة خلقها من قبل خالق ذي قدرة وقوة لا حد لهما، وهذا الخالق هو الله سبحانه وتعالى الذي فطر السماوات والأرض وخلق الأحياء كلها من العدم وهو الخلاق العليم.
قَالُو سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ
أَنتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ
البقرة:32
PICTURES
14
يسلك القندس سلوك مهندس بارع إذ يخطط ويقوم بحسابات دقيقة ويشتغل مثل عامل بناء ماهر لإنشاء مسكن بمواصفات عجيبة.
في الوسط إلى اليسار: ينشى سداً أمام مسكنه.
في الوسط إلى اليمين: السد الذي أنشأه القندس.
إلى الأسفل: رسم تخطيطي للمسكن الذي أنشأه القندس بنجاح باهر.
18
لم يجد GORDON R.TAYLOR كوردون تايلر الإجابات الوافية عن جميع التساؤلات المتعلقة بالترابط بين الغرائز والتطور بالرغم من كونه مدافعاً بشراسة عن نظرية التطور.
19
يدعي دعاة التطور بأن الطبيعة الأم التي تتشكل من البحيرات والجبال والأشجار... الخ لها القدرة على الخلق، ترى أي جزء من هذه الأجزاء لديه القدرة على إكساب القندس غريزة إنشاء مسكنه بهذه الصورة البارعة أو إكساب الحيوانات المختلفة أنماطها السلوكية المختلفة؟
22
هناك تفسير وحيد لظاهرة رعاية الكائنات الحية غير العاقلة لصغارها بهذه الشفقة والحنان وذودها عنها، وهو انقيادها للإلهام الإلهي ومثال على ذلك هذا الطائر الغطاس الذي يرعى صغيره .هناك تفسير وحيد لظاهرة رعاية الكائنات الحية غير العاقلة لصغارها بهذه الشفقة والحنان وذودها عنها، وهو انقيادها للإلهام الإلهي ومثال على ذلك هذا الطائر الغطاس الذي يرعى صغيره بوحي إلهام إلهي.
24(1/137)
تحدث جمال يلدرم CEMAL YILDIRIM عن المأزق الفكري الذي تواجهه نظرية التطور بالرغم من كونه مؤمناً بصحتها متسائلاً: كيف يمكن تفسير اهتمام إناث الكائنات الحية بصغارها بواسطة فرضية الانتخاب الطبيعي بعيداً عن أية معاني روحية أو شعورية؟
28
لكل نوع من أنواع الكائنات الحية أو أي طائر مثلا نمط سلوكي خاص يميزه عن باقي الأنواع، لهذا السبب فينبغي أن تتعرض هذه الأنماط من السلوك للتطور مثلما يتعرض الكائن الحي نفسه للتطور البيولوجي حسب ادعاء دعاة التطور، وبالطبع هذا مناف للعقل والمنطق.
29
وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ
( الجاثية/4)
33
يقف البطريق على قدميه لمدة أشهر لحمل ولحماية صغيره من البرد.
أنثى التمساح تحمل صغارها في فمها لحمايتها.
34
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(الحديد /1-2)
37
قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ
( الشعراء/28
42
عندما تذهب البطاريق للصيد تبقى الصغار متراصة جنباً إلى جنب، وبذلك تحافظ على أنفسها من البرد القارس، ولكن كيف تتعرف طيور البطريق على صغارها عند رجوعها من الصيد؟
منح الله سبحانه وتعالى طيور البطريق القدرة على تمييز أصواتها بعضها البعض وبهذه الوسيلة تستطيع هذه الطيور التعرف على بعضها البعض مع كونها .
44
معظم اللبائن تبدأ بلحس وليدها بعد ولادته مباشرة لتنظيفه من آثار الولادة وفي وأثناء ذلك تتعرف الأم على رائحة وليدها الرضيع وبهذه الرائحة تستطيع أن تميزه عن باقي الحيوانات الأخرى.
45
يجتهد طير العنكبوت في إنشاء عشه ذي الشكل الكروي ويكون معلقاً على غصن شجرة ويستخدم موادا مختلفة في بناء عشه.
46(1/138)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ
(فاطر / 11)
50
الطير الخياط يستخدم منقاره الدقيق كإبرة خياطة وألياف الأوراق النباتية أو خيوط العنكبوت كخيوط لبناء عشه ويقوم بخياطة الأوراق النباتية بمهارة فائقة ليحصل في النهاية على عش أنيق.
بلبل البراري الخياط يستخدم ورقتين نباتيتين كمواد أولية لخياطة عشه مستعملاً منقاره الدقيق وألياف الأوراق النباتية أو خيوط نسيج العنكبوت.
52
ألهم الله عزَّ وجلَّ الطير النساج القدرة على بناء عش أنيق جداً. والشكلان في الأعلى وعلى اليمين يبينان كيفية نسج هذا الطير لعشه. ويبدأ بتشكيل أشرطة رفيعة من الأوراق النباتية ثم يستخدم إحدى ساقيه في تثبيت إحدى حافتي الشريط على غصن الشجرة.ويلتقط الحافة الأخرى بمنقاره ويبدأ في النسج. وكما هو واضح من الأشكال يستخدم الطير منقاره مثل نول يمرره مرة من فوق الخيوط الليفية ومرة من تحتها.
الرسم الأيسر: طير نساج على وشك الانتهاء من نسج عشه.
تعيش الطيور النساجة على شكل مجموعات تبني لها أعشاشاً خاصة تقيها من الحر الفائض.
53
يبني طائر خطاف السحاب عشه على الصخور الواقعة خلف مساقط المياه وبذلك يكون بعيداً عن أعين باقي الحيوانات.
55
تبني طيور الباتروس أعشاشها بكل عناية لحماية صغارها وبيضها. ويأتي الذكر قبل أسابيع من تزاوجه مع الأنثى إلى مسقط رأسها الأصلي ويقوم بترميم العش الأصل
56
يقوم الطائر ذو المنقار القرني بوضع أنثاه وبيوضها في ثقب شجرة ويقوم برعايتها .
57
لكل نوع من أنواع الطير شكل مميز للعش يختلف عن باقي الأنواع. فطير الفلامنكو مثلاً يبني عشا جميلا يتناسب مع جماله وحجمه.(1/139)
وق: طير الصخور الأصلع راقد في عشه المبني من الطين
اليمين: العش الذي بناه طير الأبابيل لحماية صغاره
{ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُم مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}
سورة المؤمنون الآية: 21
58
طائر نحل البامبوس المضحي.
60
العش الذي تبنيه لصغارها أنثى التمساح
62
إن الأسماك عموماً لا تبني مساكن لها ولكنها تهيئ مساكن خاصة لوضع البيض ولرعاية صغارها. ولا تكتفي بذلك بل تظل تحرسها من الأعداء فوق: عش سمكي مبني من الأحجار وبقايا الكائنات البحرية وعدد من اليرقات.
66
أفعى البيتون مصدر خطر لمعظم الكائنات الحية ولكنها مصدر الحنان والشفقة تجاه صغارها.
67
ضفدع يلصق بيضه على ظهره ويظل هكذا لمدة أسابيع
69
أسفل: تعيش معظم الطيور ضمن مستعمرات كثيرة الأفراد في الشكل الأسفل: في هذه الصورة يوجد ما يقرب من 70 بيضة في المتر المربع الواحد ومع هذا المعدل الكبير تستطيع الطيور تمييز بيضها الخاص بها عند دعوتها من رحلة الصيد البعيدة.
فوق: طير المطر الصغير يقوم بتبليل الريش الذي يغطي أسفل صدره ثم يرقد على البيض وبذلك يقي بيضه من الحرارة الزائدة.
أعلى على اليسار: الباتروس
تحت على اليمين:طير الخطاف يقوم هذان الطائران بتوفير جميع الشروط اللازمة لسلامة البيض.
ويتضح من هذه الأمثلة أن الطيور تهتم اهتماماً كبيراً ببيضها، وتبني أعشاشاً لهذا الغرض ولا تتركها ولو للحظة واحدة، وهذا الشعور بالحنان ملهم للطيور من قبل الغفور الرحيم.
71(1/140)
تختلف الطيور في طريقة حمايتها لبيضها من الخطر، فطير أثينا الذي هو من الطيور الليلية يبني عشاً تحت سطح الأرض عمقه حوالي ثلاثة أمتار ويضع من 6 - 12 بيضة داخله، ويعاون الذكر أنثاه أثناء رقودها على البيض وكلاهما يتناوبان في حراسة العش من الخارج وإذا اقترب طير مفترس من العش يقوم أحدهما بتقليد فحيح الأفاعي تقليداً بارعاً لترهيب هذا الزائر غير المرغوب فيه وابعاده عن العش . (61)
73
يهاجر طير البطريق إلى مكان بعيد عن مكانه الأصلي بعدة كيلومترات لغرض التزاوج.
74
يبدي ذكر وأنثى ‘’بطريق الإمبراطور’’ تفانياً وتضحية لا مثيل لهما تجاه صغيرهما.
76
حصان البحر هو الكائن الحي الوحيد الذي يكون ذكره حاملاً، ويتميز ذكر هذا الحيوان بأنه يحمل بيضه في كيس خاص أسفل بطنه لمدة أسابيع عديدة كما هو واضح من الشكل.
78
سمك الهوروزبينا الذي يقوم بتهوية بيضه.
تضع أنثى هذا النوع من السمك بيضها في الشقوق الموجودة في قاع البحر، ويقوم الذكر فيما بعد بحراسة هذه البيض، ويحرك السمك ذيله باستمرار لدفع أكبر كمية ممكنة من ماء جديد لتوفير الأوكسجين الضروري للبيض.66
79
الهجرة الضرورية لاسماك السلمون من أجل التكاثر
قضي هذا السمك السنوات الخمس الأولى من حياته في البحار المفتوحة يتغذى فيها حتى يكتمل نمو جسمه ويخزن كمية كافية من الطاقة على شكل دهون، وفي نهاية السنوات الخمس تبدأ فترة جديدة يتم أثنائها استهلاك الطاقة المخزونة لأن هذه الأسماك في هذه الفترة تبدأ رحلة العودة إلى المياه العذبة التي قدمت منها في البداية.(1/141)
وتقطع رحلة طويلة جداً حتى تصل إلى مكان التبييض وتقوم الأسماك بالسباحة ضد التيار وتضطر أحياناً إلى القفز نحو الأعلى لتخطي بعض الحواجز المائية المرتفعة، وتنقطع هذه الأسماك عن التغذية عندما تنتقل من المياه المالحة إلى المياه العذبة وتصرف كل طاقتها المخزونة في هذه الرحلة الشاقة، وعندما تنتهي عملية وضع البيض تصبح هذه الأسماك مرهقة للغاية وذابلة الجسم من كثرة التعب وأخيراً تموت. ويمكن تفسير سبب هذه الرحلة الشاقة التي يقوم بها هذا النوع من الأسماك بكونه يسلك سلوكاً معيناً نتيجة خضوعه للإرادة الإلهية التي اختطت هذا الشكل من الحياة لها. والعجيب أنها تعود إلى مسقط رأسها في المياه العذبة وبتوقيت مضبوط لأجل التكاثر ومتحملة أثناء ذلك كل الصعوبات والعراقيل والحواجز. وهذه الخطوات جميعها لم تتبع بإرادتها هي، ولا يوجد أي نوع من السمك يتصرف بمحض إرادته واختياراته الذاتية.67
سمك السلمون {سليمان} يسبحضد تيار الماء
هجرة أسماك السلمون.
81
فم أنثى سمك السلحيد يعتبر أكثر الأماكن أمناً بالنسبة لصغارها.
82
تظلل أغلب أنواع الطيور على بيضها حماية لها من قيظ الشمس وحرارتها، وهناك أمثلة عديدة على مثل هذا السلوك يمكن رؤيتها في هذه الصور.
اليمين والأسفل: طيور النعام التي تظلل على بيضها وصغارها.
والصورة تحت: أحد أنواع اللقالق التي تكثر في زامبيا يحاول التظليل على صغيره.
83
أنثى العنكبوت تحمل بيضها وصغارها في كيس ذي خيوط حريرية ويمتاز هذا الكيس بأنه كبير جداً بالنسبة لجسم الأم لذا فإنها تقف دائماً على رؤوس أقدامها ليسهل عليها حمل هذا الكيس. وعندما يصبح البيض على وشك أن يفقس تبدأ الأم بنسج كيس آخر يغطي الأول لحماية الصغار الذين يخرجون من الكيس القديم ليجدوا أنفسهم داخل خيمة جديدة وتحت نظرات الأم التي تحرسهم بحنان(74).
84(1/142)
يعيش نوع من الحشرات ذات الرائحة المميزة في قارة أستراليا، ويتميز هذا النوع بلصق بيضه حول غصن شجرة بشكل متراص وتظل الأنثى تحميها من خطر الأعداء
85
يحمل ذكر حشرة ABEDUS BERBERTI المائية العملاقة {والتي تكثر في الأودية العميقة مثل وادي سايكمور في أريزونا} بيضه على ظهره والأنثى هي المسؤولة عن لصق البيض بظهر ذكرها الذي يقوم بدوره بتبليل هذه البيوض وتهويتها حفاظاً عليها من الاختناق والجفاف(76).
86
يقوم النحل الحفار البري ببناء مسكن لصغيره الذي لن يراه أبداً حتى أنه يخزن فيه غذاءً كافياً حتى موعد خروجه من البيض.
87
{ هُوَ اللهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَآءُ الحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ }
سورة الحشر الآية: 24
88
يخلق صغار جميع الكائنات الحية بصورة تحرك مشاعر الشفقة والحنان والمودة
وعند مقارنة صغار الكائنات الحية مع البالغة منها من ناحية المظهر الخارجي والسلوك يتضح مدى قربها إلى النفس وكونها تحرك دوافع العطف والحنان والعامل الرئيسي الشكل الخارجي فالوجه المدور والعيون البارزة والكبيرة نسبياً والخدود المكتنزة والجبهة البارزة من المظاهر الخارجية المحببة للبالغين، وبعض الأحياء يتسم صغارها بلون مختلف عن لون البالغ منها، مثلاً البابون الصغير يكون أسود مزيج بالوردي أما البابون البالغ فلونه أخضر. وعموماً يمتاز الصغار وخصوصاً ضمن المجاميع بأنهم محبوبون من قبل الجميع حتى أمكن تسجيل مشاهدات عن كيفية محاولة أنثى خطف صغير من أمه لتربيه هي، ويختفي هذا السلوك المليء بالحنان عند بدء تغير لون الصغير(78) .
92
يرعى الذكور والإناث الصغار بأساليب مختلفة، فمنها من يحاول إخفاءه عن العيون ومنها ما يتصرف بشراسة لإخافة الأعداء وفي الجانب ترى زرافة وهي قريبة من صغيرها وهي لا تبتعد عنه أبداً، وفي الصورة {(1/143)
الأسفل} حيوان اليحمور صغير وقد تم إخفاؤه بين الأعشاب بمهارة من قبل أمه، أما الصور فوق فتوضح كيفية حماية البومة لفراخها.
93
ألهم الله عزَّ وجلَّ هذه الكائنات الحية أن تحمي صغارها وترعاها هذه الرعاية الكبيرة.
94
يمثل بعض أنواع الطيور دور الجريح للفت أنظار العدو إليه لكي يبتعد عن العش وبذلك يضرب لنا مثلاً في التضحية.
96
حشرة الدانتيلا أثناء حمايتها ليرقاتها من هجمات باقي الحشرات.
97
هذان النوعان من الحشرات يعيشان في البرازيل وغينيا الجديدة ويتميزان بأنهما يرقدان على صغارهما لحمايتهم من خطر الأعداء (91).
وتشكل يرقات حشرة السلحفاة ذات الأجنحة الغمدية حلقة تحت جسد أمها وتعيش هذه الحشرة في البرازيل، والأم تحمي بيضها حماية تامة وعند فقسها عن اليرقات تقوم بقيادتهم إلى مصدر الغذاء المتوفر في المكان المناسب، وتتحرك بسرعة عندما يتباطأ صغير من صغارها أو يحاول أن يلعب لوحده بعيداً (92).
98
معظم أنواع الكائنات الحية تتفانى وتبذل جهداً مستميتاً لتغذية صغارها، فمثلاً يقوم الطير ذو الرأس الأصفر بمئات الرحلات جيئة وذهاباً لتوفير الغذاء للفراخ، أما الفقمة فتفقد من وزنها الكثير لإطعام صغيرها
99
يعد أغلب أنواع الطيور طعام صغاره في بلعومه مثل اليليكان و جواكرو ويرى في الصورة طائر يحاول أن يلتقط شيئاً من بلعوم أمه
102
{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ }
سورة هود - الآية 6
103
لأعلى:يروي الدجاج البري نفسه أولاً ثم يبلل ريشه لنقل الماء الى صغاره.
الجانب: أنثى اللقلق تحمل الماء في بلعومها لإرواء صغارها
104
يطعم طير النحل صغاره بالفراشات أو ما شابهها من الحشرات، ولكن لمنع أي أذى قد تسببه هذه الحشرات للصغار فقد تقوم بضربها بشدة على غصن الشجرة كي تموت ومن ثم تقوم بإطعامها للصغار(103).(1/144)
إلى الأعلى جانباً فراخ طير النحل في انتظار وجبة غذاء.
إلى الأسفل جانباً الأم وقد أتت بالغذاء.
تتميز ذكور الطيور وإناثها بأنها من أكثر الحيوانات مثابرة وتقوم بسفرات عديدة للصيد وجلب الغذاء حتى أن بعض الأنواع يقوم بـ 1000 طلعة يومياً لجلب الغذاء (104).
105
يقضي ذكور الطيور وإناثها أغلب أوقاتها لتوفير غذاء للفراخ، ويرزقها الله الرزاق العليم من سبل مختلفة، ويشاهد في الصور مراحل مختلفة من رعاية الطير لصغيره من لحظة الفقس.
أ. الطير يرعى بيضه
ب. الطير يرعى فراخه
ج. يغطس لجلب الغذاء للصغار
د. لحظة الحصول على الغذاء.
ه. في طريقه لحمل الغذاء إلى الفراخ الجياع.
و. أثناء إطعامه للفراخ.
107
{ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ }
سورة الزمر - الآية 62
108
معظم أنواع الكائنات الحية يحمل صغيره لإبعاده عن الخطر ولكن طريقة الحمل تختلف من نوع لآخر، فاللبوة تحمل شبلها بفمها دون أن تصيبه بأي أذى. أما القنغر الصغير فيختفي داخل كيس في جسم أمه ورأسه نحو الأسفل عند شعوره بالخطر، أما الضفادع والبط والعقارب والدببة والقنادس فتحمل صغارها على ظهورها.
109
وحيوان الكوالا يحمل صغيره على ظهره لمدة سنة تقريباً، أما القرود فتنتقل من شجرة إلى أخرى وهي حاملة صغارها على ظهورها(106). أما ظهر أنثى الدب فيعتبر مكاناً أميناً للصغير.
114
تعيش قطعان الحمر الوحشية والأيلة جنباً إلى جنب وتستطيع تمييز عدوها المشترك بنجاح فائق وإذا اقترب حيوان مفترس من قطيع الأيلة وأحس به أحد الحمر الوحشية فيقوم من فوره بإنذار القطيع بذلك.
115
تعيش بعض الطيور على ظهور بعض الحيوانات وتعتبر هذه الطيور كصفارة إنذار تقوم بتنبيه المضيف باقتراب الخطر. ولا توجد في الطبيعة حيوانات أو كائنات حية متحاربة كما يدعي الدارسون بل تتميز أغلب الأحياء بالرأفة والرحمة والمودة الملهمة من الله تعالى.
118(1/145)
تمتاز الكلاب البرية بحاسة الشعور بالخطر عن بعد وعندما تشعر بقدومه تبدأ بالنباح منذرة باقي الحيوانات.
119
تقفز وتنط الأيلة والغزلان كوسيلة لتنبيه باقي أفراد القطيع بقدوم الخطر.
121
تتراص ثيران المسك جنباً إلى جنب لحماية الصغار داخل حلقة متصلة على أن وزن كل ثور يتراوح بين 350 و 400 كغ وتتحرك هذه الثيران إلى الخلف خطوة خطوة لحماية الصغار وتشكيل حلقة محكمة حولها.
122
إن العيش ضمن قطيع يعتبر عنصر أمان للصغار لأن الكبار يقومون بالذود عن الصغار مهما كان الثمن.
123
كما يرى في الصورة تقف الطيور الإفريقية على غصن شجرة الفاكهة التي تتغذى عليها متراصة تماماً وتبدأ الفاكهة تنتقل من فم طير إلى آخر ليحصل الجميع على الغذاء.
124
يعيش الدولفين على شكل مجاميع يذود أفرادها بعضها عن البعض وفي أثناء الولادة تقوم باقي الإناث بمساعدة الدولفين الحامل في أثناء وضعها لوليدها.
125
صغير الفيل لا يلقى عناية من أمه فقط بل هناك الخالة وأم الأم أيضاً.
127
تمتاز صغار ابن آوى بأنها تظل قريبة من أمها حتى بعد أن تصبح يافعة ثم تصبح حاضنة جيدة لصغار أمها في السنة التالية، ويرى في الصورة ابن آوى شاب يهتم بأشقائه.
130
من الممكن ملاحظة صور مختلفة للتضحية في الأنواع المختلفة للنمل، فمنها من يحمي زملاءه من حملة الأوراق النباتية ومنها من يجعل من معدته مخزناً لغذاء الآخرين.
في أعلى الصورة: النمل القاص للورق النباتي ومعه حراسة.
وفي وسط الصورة: نمل العسل
في أسفل الصورة: المهتمة باليرقات.
134
-1 النحلات العاملات وهي ترعى اليرقات.
-2 النحل يقوم بتهوية الخلية بأجنحته.
-3 الحراس يقومون بمراقبة مدخل خلية النحل.
-4 العاملات لتنظيف خلايا العسل .
-5 العاملات في خدمة الملكة
143
تشارلز داروين
145
لويس باستير، أثبت بتجاربه بطلان الادعاء الدارويني القائل بخلق المادة الحية من مواد غير حية.
146(1/146)
انتهت لم تجد تجارب الكسندر أوبارين التي أجراها لتفسير منشأ من منظور نظرية التطور بالفشل الذريع.
147
تعترف المصادر العلمية الحديثة المناصرة لنظرية التطور بأن أصل الحياة يعتبر معضلة كبيرة لا حل لها.
148
التركيب المعقد للمادة الحية يعتبر من الأسباب الرئيسية لفشل نظرية التطور، ومثال على ذلك الحامض النووي المسمى DNA الموجود في نواة الخلية، فهذا الحامض يتألف من أربعة جزئيات مختلفة مرتبة ترتيباً معيناً حسب الشفرة الوراثية لذلك يعتبر هذا الحامض بنكاً لمعلومات الخلية ويحتوي على كافة المعلومات الخاصة بالكائن الحي. ولو كتبت المعلومات الخاصة التي يحملها DNA الخاص بالإنسان لحصلنا على 900 مجلد ضخم، وبلا شك فإن الترتيب المعجز للجزيئات المختلفة يعتبر متناقضاً مع فرضية المصادفة.
150
لقد دأب الداروينيون منذ مطلع القرن العشرين على إحداث طفرات وراثية تجريبية على الذّباب لإثبات فوائد هذه الطفرات، غير أنّ هذه التجارب التي استمرت لعشرات السنين لم تأت سوى بذباب مشوّه ومريض وقاصر. والصورة في الأعلى إلى اليسار تمثل رأس ذبابة الفاكهة بشكله الطبيعي، أما الصورة إلى اليمين فتمثل ذبابة الفاكهة و قد تضررت من الطفرات الوراثية.
أنتان
عيون
فم
ساق
151
تدعي نظرية التطور أن الأنواع نشأت عن بعضها بالتطور التدريجي، ولكن المتحجرات أثبتت عكس ذلك تماماً، فالعشرات من الأنواع المختلفة للكائنات الحية المختلفة ظهرت فجأة في بداية العصر الكامبري الذي بدأ قبل 530 مليون سنة، والشكل أعلاه يصور مدى التعقيد الذي كانت تتسم به أجساد تلك الأنواع. وهذا الظهور المفاجئ للأحياء يدعى ‘’بالانفجار الكامبري’’ حسب التعبير الجيولوجي، وهو دليل قوي على الخلق.
153(1/147)
السجلات الحاوية على المتحجرات تعتبر ومشكلة كبيرة أمام نظرية التطور، لأن هذه السجلات تثبت أن هذه الكائنات الحية ظهرت فجأة دون أن يكون هناك أية أنواع أنتقالية عانت تطوراً وتغييراً، أي أن كل نوع من الأنواع خلقت على حدة.
155
السجلات الحاوية على المتحجرات تعتبر ومشكلة كبيرة أمام نظرية التطور، لأن هذه السجلات تثبت أن هذه الكائنات الحية ظهرت فجأة دون أن يكون هناك أية أنواع أنتقالية عانت تطوراً وتغييراً، أي أن كل نوع من الأنواع خلقت على حدة.(1/148)