بسم الله الرحمن الرحيم
التصور السياسي
للحركة الإسلامية
تأليف
الشيخ رفاعي سرور
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين. وبعد...
فإن الحقيقة التي يجب أن نفهمها قبل طرح النظرية السياسية الإسلامية هي أن الحركة الإسلامية هي القادرة وحدها على تكوين نظرية سياسية صحيحة.
ذلك لأن للنظرية السياسية شروطا علمية، وهي تكوين النظرية في بداية مرحلة إنشاء الأمة(1) "الدعوة"، ومن خلال المضمون الحضاري لهذه الأمة دون انقطاع للوجود التاريخي لها(2).
والأمة الإسلامية هي الأمة الوحيدة التي تكونت نظريتها السياسية من خلال منهجها مع تمام نشأتها.
__________
(1) 1 لأن لكل أمة مضمونا حضاريا خاصا بها تنشأ عنه حركتها كرد فعل للحضارة المقابلة لها، وقيام الحضارات بمنطق الفعل ورد الفعل دليل على أنها حضارات مصنوعة بشريا …
فالحضارة اليونانية كان مضمونها الحضاري المثالية الخيالية.
والحضارة الرومانية كان مضمونها الحضاري القوة البشرية والمادية كرد فعل للمثالية.
والحضارة الفارسية كان مضمونها الحضاري الإله الحاكم (الذي يحكمهم من البشر) كرد فعل للقوة البشرية... يسعى إلى نقل مفهوم القوة من البشر إلى الإله.
والحضارة الكاثوليكية كان مضمونها الحضاري التعصب كرد فعل للحفاظ على الكاثوليكية أمام المذاهب المتعددة السابقة عليها والمواكبة لها.
والحضارة القومية كان مضمونها الفرد كرد فعل للتعصب الاستفزازي للحضارة الكاثوليكية التي أهدرت العقل البشري واجتهاد الفرد وقيمته.
(2) 2 لأن الانقطاع التاريخي للأمة يفقدها قدرتها على الاحتفاظ بنظريتها، والدليل التاريخي على ذلك هو الانقطاع الحضاري للأمة اليهودية الذي ترتب عليه أن تكونت النظرية السياسية اليهودية في أوروبا منقطعة الصلة عن المضمون الحضاري الحقيقي لليهودية وتبني اليهود المضمون القومي للحضارة الأوروبية، وعليه تكونت السياسة الحديث لليهود.(1/1)
والأمة الإسلامية هي الأمة التي لم ينقطع وجودها التاريخي لحظة واحدة على هذه الأرض(1).
والأمة الإسلامية هي الأمة ذات المضمون الحضاري المطلق... وهو الحق.
ورغم ذلك فإن المستقر في الأذهان أن الدعوة الإسلامية لا تملك تصورا سياسيا... وقد جاء هذا الادعاء ف الابتداء كأسلوب خطير من أساليب التنقص الجاهلي بالدعوة... ولكن الادعاء استقر في الأذهان في الانتهاء؛ لأن الدعوة لم تعلن عن تصورها السياسي بعد، ولم يستطع هؤلاء الذين استقر في أذهانهم هذا الادعاء التفريق بين عدم وجود نظرية سياسية، وبين وجود نظرية سياسية لم تطرح بعد.
ويبقى السؤال: لماذا لم تطرح الحركة الإسلامية – في الواقع القائم – تصورها السياسي حتى الآن؟
والإجابة؛ إن طرح التصور السياسي للحركة هو ذاته عمل سياسي يجب أن ينضبط بأحكام النظرية السياسية ذاتها، ومن أهم أحكام هذه النظرية... العلاقة الصحيحة بين الفكر والحركة، وتصبح القاعدة في طرح التصور السياسي للحركة هي أن تبلغ الحركة مرحلة القوة السياسية... فهل بلغت الحركة الإسلامية هذه المرحلة؟ ونبدأ بمناقشة هذا التساؤل، وأول حقائق هذه المناقشة أن القوة السياسية تعرف بشواهدها.
وإن مواقع الدعوة المنتشرة في العالم المستضعفة أمام الحكومات الجاهلية... تتراوح بين الوصول إلى مرحلة القوة السياسية التي تنطبق عليها هذه الشواهد وبين مرحلة الاستضعاف الأولى التي يعبر عنها بالمرحلة الفردية.
__________
(1) 3 كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون) (أخرجه البخاري 13/306/ح 7311، وأخرجه الترمذي في الفتن) واللفظ للبخاري.(1/2)
مرورا ببعض المواقع التي ينطبق فيها بعض هذه الشواهد دون غيرها... ووصول واقع الدعوة إلى مرحلة القوة السياسية، والتي تتوافر فيها جميع هذه الشواهد يقتضي أن يطرح أصحاب هذا الواقع تصورهم السياسي... ويسيروا ملزمين بالدخول في مرحلة الممارسة السياسية لدعوتهم...
أما الشواهد العامة للقوة السياسية فأهمها أن أعداء الدعوة يفكرون بمنطق التعامل مع أصحابها لا منطق القضاء عليها، وهذا هو الشاهد الأول؛ لأن نشأة القوة السياسية تأتي من خلال نظرة أعدائها لها وأسلوب التعامل معها.
أن تكون قضية أصحاب القوة السياسية مؤيدة على مستوى الرأي العام اجتماعيا وفكريا وأن يكون التعاطف مع أصحابها ثابت ومؤكد، ويلاحظ في هذا الشاهد أن لا يحسب فقط من خلال التأييد والتعاطف القائم بل يشمل مدى قابلية غير المؤيدين لأن يكونوا مؤيدين.
أن يمثل المعتنقون لقضية القوة السياسية كثرة عددية تبلغ مستوى القاعدة الجماهيرية، بحيث يصل مستوى تلك القاعدة إلى أنها تكاد تمثل موقف " الشعب " أو الأمة.
أن تمثل هذه الكثرة نماذج متعددة من جميع المستويات الاجتماعية بحيث لا يمكن تقييده بمستوى اجتماعي معين أو فئة اجتماعية، ويشمل هذا الشاهد وجود عناصر اجتماعية متميزة من كل مجالات المجتمع.
أن تحقق الكثرة العددية بعناصرها المختلفة اختراقا واضحا لمستوى السلطة القائمة(1).
__________
(1) مثل مؤمن آل فرعون.(1/3)
أن تملك هذه القوة دائما رد الفعل المناسب إذا حاول أعداؤها التأثير في قوتها أو إضعافها بحيث يتطلب رد الفعل المطلوب الإمكانيات المادية اللازمة والاستعداد للبذل والتضحية بصفة دائمة ويقظة(1).
أن يؤكد حجم القوة السياسية في الواقع المفاوضات والمعاهدات الاتفاقات السرية والعلنية بين القوة السياسية وأعدائها أصحاب السلطة.
فإذا بلغ موقع من مواقع الدعوة مرحلة القوة السياسية بشواهدها المذكورة على أصحاب هذا الموقع بدء الممارسة السياسية ابتداء من طرح التصور السياسي لهم والمنطلق من واقعهم القائم ومرحلتهم العملية.
وإذا كان طرح التصور السياسي للحركة الإسلامية عند وصولها إلى مرحلة القوة السياسية... شرطا أساسيا فإن هناك شروطا أخرى تمثل في الحقيقة حماية (مهمة الطرح) من عدة أخطاء أساسية:
الخطأ الأول: طرح التصور السياسي للحركة من خلال النظريات السياسية غير الإسلامية ادعاءً للصفة العلمية للنظرية المطروحة.
الخطأ الثاني: طرح التصور السياسي للحركة من خلال تجربة إسلامية تاريخية، مثل مرحلة الدولة الإسلامية التاريخية للأمة(2)، فيتكلم صاحب هذا الخطأ دائما في شكل الدولة الإسلامية في الماضي بكل مصطلحاتها ونمطها الشكلي.
الخطأ الثالث: طرح التصور السياسي للحركة من خلال البرنامج الإسلامي للإصلاح والذي سيكون عندما تقوم الدولة الإسلامية.
وتصحيح الخطأ الأول هو تحديد التصور السياسي للحركة الإسلامية من خلال المنطلق السلفي...
__________
(1) ومن هنا كان الاستعداد للتضحية مساويا في القرآن للتضحية ذاتها، وذلك كما في قوله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ". فمن قضى نحبه هو الذي مارس التضحية، ومن ينتظر هم أصحاب الاستعداد لبذل هذه التضحية.
(2) مثل الدولة الأموية – العباسية...(1/4)
وتحديد النظرية السياسية بالحق الشرعي والدين الخالص... وهو الرد المباشر على أصحاب الخطأ الأول.
وتحديد التصور السياسي العام للحركة الإسلامية من خلال المرحلة التي تمر بها الدعوة فعلا في كل موقع من هذه المواقع تحديدا دقيقا هو الرد على أصحاب الخطأ الثاني.
أما الخطأ الثالث... فهو الذي يتطلب مناقشة مباشرة.
فالبرنامج خطة تفصيلية موقوتة منبثقة عن تصور ومحققة في واقع، فكيف يتحدد برنامج بغير واقع؟
إن الجاهلية تريد أن تُحَمِّل التصور الإسلامي كل مشاكلها الجاهلية لذا كان لابد من تعريف للمشكلة التي يجب أن نواجهها بالتصور السياسي الإسلامي.
فالمشكلة الإسلامية هي المشكلة التي تقابل الفكر الإسلامي في طريقه إلى الواقع الإسلامي.
وأي مشكلة خارج هذا الإطار وهذا المسار هي مشكلة جاهلية لا يعالجها إلا التفجير الإسلامي للواقع وترتيبه من جديد حسب التصور الصحيح.
والاستفزاز الجاهلي للحركة الإسلامية بأنها لا تملك برنامجا سياسيا أمر لا يجب الاستجابة له.
نحن نملك التصور السياسي.
نحن نملك النظرية السياسية.
أما البرنامج السياسي... فلابد لكي يطرح أن نملك الواقع، وكل من يريد برنامجنا السياسي عليه أولا أن يعطينا الواقع ويسلم قيادته، وليكن شعارنا في الرد على أصحاب هذا الاستفزاز " أعطني واقعك أعطك برنامجي ".
قيمة الممارسة السياسية (تمهيد):
ولأجل أن نبدأ تقييم الممارسة السياسية يجب أن نقارن بين طبيعة هذه الممارسة مع أساليب الحركة الإسلامية.
وقد اتفقنا أن الأساليب الأساسية للحركة الإسلامية هي: التبليغ بالكلمة واستخدام القوة وإقامة السلطة... أما الهجرة والعزلة فهي تصرف اضطراري يتحتم عند اليأس من الاستجابة، والفرق بينهما: أن الهجرة تصرف اضطراري جماعي، والعزلة تصرف اضطراري فردي... ولا تخرج أساليب العمل عن هذا الإطار العام.(1/5)
أما العلاقة بين هذه الأساليب... فيثبت فيها أن استفاضة البلاغ وإقامة الحجة والدعوة بالكلمة هي الخط الأصلي للحركة، وأن خط القوة هو في الابتداء لإنشاء فرصة الدعوة بالكلمة عندما تمنع الجاهلية هذه الفرصة... وفي الانتهاء لإقامة السلطة وإنشاء الدولة.
أما موقع الممارسة السياسية من هذا الإطار فهو:
أن الممارسة السياسية تحقق ضبط العلاقة بين أساليب الحركة ذاتها من ناحية وأساليب الحركة بالنسبة للواقع من ناحية أخرى.
فهي التي تفرض أسلوب التبليغ بالكلمة بعد تحليل الواقع وموضع الدعوة.
وهي التي تفرض أسلوب القوة عندما تُمنع الدعوة من فرصة الاتصال بالناس.
وهي التي تحلل آثار القوة في الواقع وتؤكد تلك الآثار لتحقيق غاية الحركة الأصلية، وهي إقامة دولة الدعوة والهداية.
إذًا فالممارسة السياسية ليست أسلوبا قائما بذاته... ولكنها الضابط لكل أساليب الحركة... بحيث يتحقق الهدف الأساسي للدعوة من خلال أي أسلوب.
فهناك مثلا أسلوب الدعوة وأسلوب القوة.
وهناك السياسة الضابطة للعلاقة بين هذين الأسلوبين التي تضمن بها الدعوة الاتجاه بالأسلوب المناسب نحو تحقيق الهدف النهائي.
فقد تفرض الممارسة السياسية إيقاف أسلوب استخدام القوة وقد تحتمه، وفي كلا الافتراضين يكون تحقيق الهدف هو الأمر القائم المطلوب.
هذه هي قيمة الممارسة السياسية على مستوى أساليب الحركة.
أما قيمة الممارسة السياسية على مستوى الكيانات المتعددة في الواقع الواحد... فإنها قيمة ضخمة وهي إدخال الكيانات المتعددة للدعوة ضمن إطار الحركة الواحدة... دون علاقة حركية مباشرة بين هذه الكيانات باعتبار صعوبة تلك العلاقة منهجيا وحركيا، بل إن فرض التصور السياسي الصحيح للحركة هو الذي سيعطي لكل كيان بمنهجه الذي يتبناه مساحته الصحيحة في الواقع الحركي، ويصبح ضبط هذه المساحة وتلك العلاقة بالزيادة أو التحجيم مرتبط بهذا التصور وتلك الممارسة.(1/6)
أو بمعنى آخر طرح التصور السياسي للحركة الإسلامية الذي يرى فيه كل كيان منهجيته التي يتصورها وحركته التي يمارسها، بحيث ينشأ الموقف الواحد لجميع كيانات الحركة بصورة سياسية صحيحة.
وكذلك فإن تحديد التصور السياسي للحركة الإسلامية سيسد ثغرات خطيرة في منهج الدعوة... وأخطرها: ثغرة الخروج عن الأحكام الشرعية في ممارسة الدعوة بادعاء "مصلحة الدعوة" حيث يسد التصور السياسي للدعوة بصبغته السلفية هذه الثغرة على أصحاب هذا الادعاء.
وأخطرها أيضا الارتداد عن خط المواجهة بالقوة بادعاء العمل السياسي وتحديد التصور السياسي بأبعاده المتعددة – بما فيه بُعد الممارسة بالقوة – يسد أيضا هذه الثغرة على أصحاب هذا الادعاء.
وبذلك لا تصبح السياسة لافتة فوق أي موقف باطل أو مرحلة ضعف... بحيث يصبح التصور السياسي للحركة الإسلامية ضابط لكل العبارات(1) والمصطلحات التي تشكل خطرا كبيرا على الدعوة إذا أصبحت عنوانا للأهواء والتراجع والخلل.
فلا تصبح عبارات عائمة... بل تتحدد وتستقر وتنضبط.
أولاً
النظرية السياسية الإسلامية
والآن... ما هي النظرية السياسية للحركة الإسلامية؟
إن الأسلوب الأفضل في طرح النظرية هو البدء بتعريف " السياسة " الإسلامية، وبتحليل عناصر التعريف يتم طرح النظرية... فما هي السياسة الإسلامية؟
السياسة: هي حكمة (الجماعة) المنشئة (لدولة) الدعوة العالمية (الخلافة) المقيمة (لحضارة) الحق.
حكمة الجماعة:
اتفقنا أن الحكمة: هي حاسة الصواب الكامنة في كيان الداعية محددة له في واقع الدعوة سبيل الوصول إلى الغاية(2).
وهذا هو المفهوم الفردي للحكمة.
__________
(1) مثل " مصلحة الدعوة " أو " المرحلية " أو " الإعداد " أو " الاجتهاد البشري في مجال الدعوة "... وغير ذلك من العبارات.
(2) كتاب: (حكمة الدعوة) للكاتب.(1/7)
فإذا تحدد المفهوم الجماعي للحكمة... كان هذا المفهوم هو السياسة... فإذا قلنا: إن الحكمة هي سياسة الفرد كانت السياسة هي حكمة الجماعة، وعلى هذا... فإن النظرية السياسية الإسلامية تتحدد أساسا بعناصر الحكمة الأربعة: " الواقع، الحق، الإنسان، الغاية ".
وارتباط هذه العناصر بالمستوى الجماعي للدعوة حيث يتحدد الإطار العام للنظرية السياسية للحركة.
بحيث يكون غياب أي عنصر من عناصر الحكمة الأربعة سببا في عدم تحديد هذا الإطار.
أ) تحليل الحركة السياسية (الواقع):
ومن هنا كان ابتعاد العلماء عن الحياة العامة جعلهم بعيدين عن السياسة نظريا وعمليا، وقد سجل هذه الظاهرة المؤرخ ابن خلدون... فذكر أن العلماء أبعد عن السياسة ومذاهبها؛ والسبب في ذلك أنهم معتادون النظر الفكري والخوض في المعاني وانتزاعها من المحسوسات وتجريدها في الذهن أمورا كلية ويطبقون من بعد ذلك الكلي على الخارجيات.
ويقصد ابن خلدون أن كثيرا من العلماء – لعيشهم مع الكتب – ينظرون إلى الأمور من خلال الكتب، مع أن الواقع الخارجي (الدول وأحوال الناس الاجتماعية والخارجية والاقتصادية) يكون مغايرا أو محتاجا إلى تدقيق في التفاصيل.
أما وضع الشيء الذي في الخارج في قالب الكتب فهذا يؤدي إلى الخطأ بالتأكيد، فالذي لا يعرف الواقع يظن – مثلا – أن الحكام المعاصرين مثل بعض حكام الدولة الأموية والدولة العباسية... مع أن الفارق كبير، فالسياسة – كما يقول ابن خلدون – تحتاج إلى مراعاة إلى ما في الخارج وما يلحقها من الأحوال فإنها خفية.
هذا إذا كانت السياسة بمعنى معرفة الواقع تماما ومحاولة للنهوض بالمسلمين من خلال هذه المعرفة إلى الدرجة التي يريدها الإسلام، أما إذا كان المقصود بالسياسة المراوغة والاحتيال وإتقان فن المداهنة والنفاق فلا (1) ".
__________
(1) أي فليست هذه الأمور هي المقصودة بالسياسة.(1/8)
والإطار الواقعي للنظرية السياسية يتحقق مقتضاه في الممارسة من جانبين: الواقع الذي نمارس فيه الدعوة، وواقع أصحاب الدعوة ذاتها.
فتتم الممارسة من خلال: التقييم السياسي للواقع وهو التصور الذي يختلف عن التحديد الفقهي المباشر في الحكم على هذا الواقع...
مثال ذلك: التفريق بين الروم والفرس باعتبار أن الروم ينتسبون إلى دين سماوي والفرس مجوس؛ مما جعل المسلمين يفرحون لنصر الروم رغم أن الحكم الشرعي في الدولتين هو الكفر.
ومثال ذلك أيضا: اختيار الرسول عليه الصلاة والسلام الحبشة لتكون موضعا للهجرة الأولى قائلاً: " اذهبوا إلى الحبشة فإن فيها ملكا لا يُظلم عنده أحد "(1). رغم مساواته في الكفر مع غيره؛ لأن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم فيه كان قبل إسلامه.
ومن هذين المثالين يتضح الفرق بين التصور الفقهي المجرد والتصور السياسي.
التصور الاجتماعي: وبهذه القاعدة يكون الاستفادة بطبيعة أي واقع، مثل الاستفادة بتقاليد الجوار... كما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في جوار أحد المشركين(2)، وكما أقر رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتماع العرب قبل الإسلام على أن لا يظلم بينهم أحد، وهو المعروف بحلف الفضول الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو دعيت إليه لأجبت "(3).
الموقع الجغرافي:
__________
(1) أخرجه ابن إسحاق (1/343/ابن هشام) – (فتح 7/227).
(2) هذا المشرك هو مطعم بن عدي، وذكر القصة محمد بن عبد الوهاب في السيرة النبوية (ص: 83، 84).
(3) أخرج أحمد وأبو يعلى وصححه ابن حبان والحاكم من حديث عبد الرحمن بن عوف مرفوعا: (شهدت مع عمومتي حلف المطيبين، فما أحب أن أنكثه " [10/518 – فتح].(1/9)
ويدخل ضمن الاستفادة بالواقع والاستفادة بكل عناصر هذا الواقع حتى جغرافية الواقع... ولقد كان موقع غفار في طريق تجارة قريش مانعا لقريش من قتل أبي ذر... وهذا نص الحديث كما رواه أبو ذر الغفاري، يقول أبو ذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إسلامه: والذي بعثك بالحق لأصرخن بها بين أظهرهم. فجاء إلى المسجد وقريش فيه فقال: يا معشر قريش، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. فقالوا: قوموا لهذا الصبي. فقاموا، فضُربتُ لأموت فأدركني العباس فأكب عليَّ، ثم أقبل عليهم فقال: ويلكم... تقتلون رجلا من غفار ومتجركم وممركم على غفار؟! فأقلعوا عني، فلما أصبحت الغد رجعت فقلت ما قلت بالأمس، فقالوا: قوموا لهذا الصبي. فصُنع بي مثل ما صُنع بالأمس، وأدركني العباس فأكب عليَّ وقال مثل مقاله بالأمس(1).
وكان موقع أبي ثمامة من أهل اليمامة وموقع اليمامة من أهل مكة مانعا لقريش من قتله، وتقول السيرة: فلما أسلم أبو ثمامة خرج إلى مكة معتمرا، حتى إذا كان ببطن مكة قال: فكأني أول من دخل مكة. أخذته قريش وقالوا: لقد اختبأت علينا. وأرادوا قتله، فقال قائل منهم: دعوه؛ فإنكم محتاجون إلى الطعام من اليمامة. فتركوه، فقال لهم: والله لا أرجع إلى دينكم ولا أرفق بكم فأترك الميرة تأتيكم من اليمامة ولن تأخذوا حبة قمح حتى يأذن لكم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم (2).
التصور التاريخي:
وأهم مقتضيات التصور السياسي للواقع هو الاستفادة من تجاربه، فتنطلق الممارسة السياسية من مجموع التجارب السابقة على المستوى التاريخي للأمة.
__________
(1) أخرجه البخاري: باب إسلام أبي ذر (7/210/3861 – فتح).
(2) والقصة ذكرها ابن عبد البر في ترجمة ثمامة بن أثال الحنفي (1/250)، والحافظ في ترجمته وعزاها لابن إسحاق في المغازي والحميدي.(1/10)
ولقد احتج مؤمن آل فرعون على فرعون احتجاجًا تاريخيًّا صحيحًا عندما قال له: " وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ "(1).
وباعتبار أن السياسة وظيفة جماعية... فإن إدراك الواقع يجب أن يكون هو الآخر وظيفة جماعية.
وهذا يعني أن تجتمع كل إمكانيات الحركة الإسلامية بكل اتجاهاتها في مهمة إدراك الواقع.
ويصبح نظام جمع المعلومات ومتابعة الواقع الجاهلي بكل الوسائل والأساليب لصالح الحركة الإسلامية أهم واجبات الممارسة السياسية للحركة بكل كياناتها.
هذا من حيث الواقع الجاهلي الذي ستمارس فيه الدعوة... أما واقع الدعوة ذاتها فهو الذي يبدأ بتاريخها.
وتحقيق ذلك يحتم مناقشة قضية التراث باعتبارها سجل التجربة الإسلامية.
التحليل السياسي للتراث:
وقضية نقل الخبرة وهي قواعد الاستفادة بالتجربة المسجلة في كتب التراث ومناقشة قضية التراث تكون بالمنطق السياسي ذاته... بمعنى أن التعامل مع كتب التراث لا يكون تعاملا مع نصوص مجردة، بل يجب ربط النص التراثي بصاحبه وواقعه وهدفه، وبذلك يؤخذ التراث بمنطق الحكمة... حيث يتوفر في التعامل عناصر التعريف الأساسية لمعنى الحكمة... (النص وصاحب النص وواقع النص والهدف منه ".
وبذلك تتحقق مهمة إحياء التراث وتنبع من طبيعة وحقيقة التصور الصحيح لوظيفة ذلك الإحياء... أما الاقتصار على الوظيفة اللغوية أو حتى التاريخية فإنه يجعل الإحياء قاصرًا... أما الإحياء الكامل فهو الإحياء بالحكمة، أو الارتفاع بالإحياء إلى مستوى الوظيفة السياسية.
والتحليل اللفظي لنصوص التراث يسمح باكتشاف حقيقة المدركات الكامنة في الألفاظ.
والتحليل التاريخي يحدد الواقع من حيث الزمان والمكان
__________
(1) غافر: 34].(1/11)
أما التحليل السياسي فهو ربط المدرك بالواقع... والإنسان هو الذي يقوم بذلك الربط فينطبق مفهوم الحكمة على مهمة التحليل.
ولذلك يقول حامد ربيع: " التحليل السياسي للتراث يلغي عنصر الزمان إذ يفرض على المحلل أن يسعى لإدراج التراث في إطار أكثر اتساعًا حيث يصير النص التقاءً بين ماضٍ وحاضر ومستقبل بحيث يكشف الحقائق الثابتة الدائمة وتمييزها عن الأخرى المؤقتة... ".
ونحن إذ نركز على الإنسان المحلل فإنما يكون ذلك بسبب أن الإنسان نفسه هو الذي يربط بين النص وواقع صاحبه... وهو الذي قد يضطر إلى تجريد النص التراثي من تلك العوامل إذا كانت نتيجة التحليل هي الوصول إلى حقيقة مطلقة يجب الاستفادة بها مجردة من ظروفها التاريخية.
ومهمة ربط النص بظروفه لإدراكه بصورة صحيحة.
وتجريد النص من ظروفه لاستخلاص حقيقته المطلقة والثابتة(1) هو ما يسمى بـ "الوعي السياسي ".
إذن: الوعي السياسي هو مجموعة الحقائق المطلقة المأخوذة من التحليل السياسي للتراث التاريخي للأمة.
ومن هنا يجب ألا نتعامل مع النص التراثي كمجرد استجابة إلى نوع من أنواع الفضول، إنما من منطلق الحركية العلمية وهي أهم خصائص التنظيم السياسي. والحركة العلمية كخصيصة من خصائص التنظيم السياسي هي التعامل مع النص التراثي بمقتضى مفهوم الحكمة أو التصور السياسي.
وفي إطار تحليل الواقع التاريخي للدعوة تتحدد أخطر قضاياها تحديدًا سياسيًّا: وهي قواعد نقل الخبرة.
وأهم هذه القواعد:
تقييم الخبرة الإسلامية وعناصرها:
- الصواب الشرعي.
- بلوغ حد الاستطاعة المادي والتنظيمي لتحقيق الهدف.
- أثر التجربة المتحقق قدرًا.
- الارتفاع بمفهوم الأخوة فوق مستوى الصواب أو الخطأ.
- ربط التجربة بالواقع.
__________
(1) مثل قصة أصحاب الأخدود التي جردها القرآن وظروفها الشخصية والزمانية والمكانية، وذكرها كحقائق مطلقة ومحققة للوعي السياسي في واقع الدعوة حتى قيام الساعة.(1/12)
فعند تقييم أي عمل إسلامي في واقع الدعوة نسأل أولاً عن الحكم الشرعي في هذا العمل، فإن كان صوابًا شرعيًّ نسأل: هل بلغ أصحاب هذا العمل حد الاستطاعة المادي والتنظيمي قبل القيام به؟ فإن لم يبلغوا فيكون الحكم عليهم بالتقصير من هذه الناحية، وإن كانوا قد بلغوا فلا بأس عليهم، فإذا توافر الدليل الشرعي بالصواب من حيث الحكم وتوافر حد الاستطاعة المادي والتنظيمي من حيث العمل، ثم كان الخطأ في الممارسة... فإننا نواجه هذا الخطأ بعدة واجبات:
الأول: معالجة هذا الخطأ وأثره في الواقع.
الثاني: قد يحدث خطأ باعتبار الخطة وبالقياس إلى الهدف المحدد، ولكن قد يكون لهذا الخطأ بالاعتبار القدري جانب إيجابي بالقياس إلى الواقع، فعندئذ يجب التنبيه لهذا الخطأ والاستفادة منه في واقع الممارسة.
الثالث: ربط آثار التجربة بكل جوانبها الإيجابية المحددة تخطيطًا أو المحققة قدرًا أو السلبية الناشئة عن الممارسة... بواقع الدعوة وتقييم الوضع النهائي للتجربة.
الرابع: الارتفاع بمفهوم الأخوة فوق اعتبار الخطأ والصواب... بعد الاطمئنان إلى الاجتهاد، وفوق اعتبار النتائج؛ لأنها بقدر الله وحده.
ب) بناء النظرية السياسية (الحق):
سبق القول بأن السياسة هي المفهوم الجماعي للحكمة... وعلى أساس هذه الحقيقة يكون بناء النظرية السياسية هو الارتفاع بجوانب الحكمة إلى المستوى الجماعي، وذلك بمقتضى الحق.
ويصور الإمام ابن القيم جانب الحق في بناء النظرية، فيقول (بتصرف): السياسة ما كان فعلاً معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يصنعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي، ومن قال: لا سياسية إلا بما نطق به الشرع؛ فقد غلَّط الصحابة؛ فقد جرى من الخلفاء الراشدين ما لا يجحده عالم بالسنن... وكفى تحريق علي الزنادقة(1)، وتحريق عثمان المصاحف، ونفيُ عمر نصر بن حجاج.
__________
(1) والقصة ذكرها الحافظ في الإصابة من طريق ابن سعد وأبي خيثمة.(1/13)
ويقول ابن القيم: وهذا موضع مزلة أقدام ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك ومعترك صعب فرَّط فيه طائفة فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرَّأوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها، وسدُّوا على أنفسهم طرقًا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له، وعطلوا مع علمهم وعلم غيرهم قطعًا أنه مطابق للواقع ظنًّا منهم منافاتها لقواعد الشرع.
ولعمر الله إنها لم تنافِ ما جاء به الرسول، وإن نافت ما فهموه من شريعته باجتهادهم، والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة الشريعة وتقصير في معرفة الواقع وتنزيل أحدهما على الآخر، فلما رأى أولياء الأمور ذلك وأن الناس لا يستقيم لهم أمرهم إلا بأمر وراء ما فهمه هؤلاء من الشريعة أحدثوا من أوضاع سياستهم شرًّا طويلاً وفسادًا عريضًا، فتفاقم الأمر وتعذر استدراكه، وعز على العالمين بحقائق الشرع تخليص النفوس من ذلك واستنقاذها من تلك المهالك...(1/14)
وأفرطت طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله... وكلا الطائفتين أُتِيَت من قِبَل تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه؛ فإن الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط... وهو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات، فإذا أظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه، والله سبحانه أعلم وأحكم وأعدل من أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة وأبين إمارة فلا يجعله منها ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها، بل قد بين سبحانه وتعالى بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين ليست مخالفة له... فلا يقال: إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل موافقة لما جاء به، بل وجزء من أجزائه، ونحن نسميها " سياسة " تبعًا لمصطلحاتكم وإنما هي عدل الله ورسوله ظهر بهذه الأمارات والعلامات. أهـ (1).
ومن بناء النظرية السياسية تحققت:
1) شواهد الحق في الممارسة السياسية فكان أهمها:
العقيدة: وتتحقق كشاهد من شواهد الحق في ارتفاعها فوق الممارسة السياسية والحركية ونظام الدولة.
القوة: التي تفرض الحق كمضمون للنظرية والممارسة السياسية.
الثبات: وأهم شواهد انطلاق الممارسة السياسية من الحق هو ثبات الخط السياسي لهذه الممارسة؛ لأن الحق يرفع الممارسة السياسية فوق ظروف الواقع وزعاماته حتى يبلغ الأمر أن يصبح الخط السياسي هو الذي ينخرط به الواقع وتنتظم به الزعامات.
إن أكبر دلائل البعد عن الحق هو التفاف الخط السياسي حول منحنيات الواقع والالتواء فوق عقباته: وكذلك التلون بلون كل زعامة جديدة والاصطباغ بصبغتها.
وقد قدمت الفترة الإسلامية الأولى نموذجًا لهذا الثبات.
ابتداءً من أخطر مستويات المواقف السياسية.
__________
(1) السياسة الشرعية لابن القيم (14 – 16).(1/15)
مثال: إصرار أبي بكر الصديق على جعل أسامة بن زيد على رأس الجيش الذي جهزه الرسول صلى الله عليه وسلم واختار أسامة لقيادته.
وانتهاءً بأبسط مستوياتها.
مثل المرأة التي جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: أعطني(1).
المفاصلة النظرية: بين السياسة الإسلامية والجاهلية.
فللنظرية السياسية الإسلامية مصطلحاتها... وكذلك للنظرية الجاهلية مصطلحاتها الخاصة بها.
وهناك مصطلحات مشتركة. قد تُقرر من جانب النظرية الإسلامية من حيث اللفظ؛ فيصير الأمر الخطير أن تفهم بمدلولها في السياسة الجاهلية. مما يصير به الأمر أشد خطرًا أن تفرض هذه المصطلحات بمدلولها الجاهلي فتنتفي دلالتها الصحيحة في النظرية الإسلامية. ولهذه المصطلحات أمثلة مشهورة أهمها مصطلح الثورة والحرية.
فالثورة في النظرية الجاهلية... تعني رفض الواقع بصورة مطلقة...
كما تعني بصورة مطلقة... الغضب.
وكذلك تعني العنف...
فإذا انتقلنا بمصطلح " الثورة " إلى النظرية السياسية الإسلامية فإننا نرى وجوداً لعناصر مصطلح الثورة ولكنه وجود صحيح.
حيث نرى الرفض موضوعيًا. والغضب واعيًا. والعنف منضبطًا.
فإذا ما أصبح مصطلح " الثورة " بهذه العناصر الصحيحة كان مصطلح الثورة إسلاميًا، وأصبح من الجائز إضافته إلى النظرية السياسية الإسلامية كمصطلح من مصطلحاتها.
__________
(1) فقال لها رسول الله (ص): لئن جاءني مال لأعطينك هكذا (بيديه) وهكذا وهكذا، فقالت: يا رسول الله... وإذا لم أجدك؟وكأنها تعني: إذا مت. قال: ستجدين أبا بكر.
قالت: وإذا لم أجد أبا بكر؟
قال: ستجدين عمر.
فلما كانت خلافة أبي بكر جاءت المرأة وقالت لأبي بكر ما دار بينها وبين رسول الله (ص)، فأمرها أن تأخذ بيدها مرة واحدة كما وصف لها رسول الله، ثم ضاعف لها العدد ثلاثًا.
أخرجه البخاري في المناقب، باب قول النبي (ص): (لو كنت متخذًا خليلاً) (7/21/3659 – فتح).(1/16)
حيث سيكون الرفض الموضوعي للواقع في التغيير والغضب الواعي في التعامل والعنف المنضبط في المواجهة... فمصطلح الثورة الإسلامية ليس مجرد رفض للواقع ولكن للباطل في هذا الواقع بحيث إذا كان في هذا الواقع حق أخذت به الثورة الإسلامية وأقره الإسلام وأصبح جزء من نظامه... مثل الزواج الذي أقرته الشريعة وقد كان نوعًا من الزواج في الجاهلية...
وأما الغضب فهو قمة الوعي؛ لأنه غضب لله... وليس غضبًا شخصيًّا يفقد فيه الغاضب وعيه ويصبح إغلاقًا.
وأما العنف فهو الأمر المنضبط بسياسة القوة وأحكامها الشرعية.
وبذلك يتحقق مصطلح الثورة الإسلامية بمنطلق خاص للتغيير يتميز بالحسم المتأني مثل معالجة مشكلة الرق(1).
إن التقابل المطلق بين النظرية السياسية الإسلامية والجاهلية يقتضي الحذر الشديد من المحاولة الخاطئة للخلط بين مصطلحات النظرية السياسية الإسلامية وغيرها...
وابتداءً بالمصطلحات الضخمة كالثورة.
وانتهاءً بأدق التعبيرات البسيطة مثل رفض تعبير الإمبراطورية الإسلامية بدلاً من الخلافة.
__________
(1) حيث شرع الإسلام العتق بصورة متأنية من خلال أحكام الكفارات والحث على العتق ابتغاء وجه الله تعالى ومعاونة المكاتب وهو العبد الذي قرر تحرير نفسه بالمال... وكان لزامًا أن يكون العتق بهذه الصورة تفاديا لقرار التحرير المفاجئ الذي يحدث هزة اجتماعية قد لا يتحملها الواقع، وقد لا يتحملها العبيد أنفسهم بعد انتقالهم إلى الحرية بصورة مفاجئة... فكان التأني حتى لا تكون الفوضى.
يراجع كتاب: العدالة الاجتماعية في الإسلام. للأستاذ سيد قطب.(1/17)
مرورًا بأمثلة الخلط بين المفاهيم الإسلامية وغيرها مثل الخلط بين الشورى والديمقراطية... بما بينهما من فوارق جوهرية محددة حتى في الأساس المشترك بينهما؛ فالشورى قائمة على إجماع الرأي، وكذلك الديمقراطية، ولكن لصاحب الرأي في الشورى اعتبار كبير في هذا الإجماع... وليس إجماع الهمج الرعاع أتباع كل ناعق؛ كما في الديمقراطية(1).
وانطلاق الممارسة السياسية من التصور السياسي بنظريته وأبعاده ومصطلحاته لايعني الاتفاق المطلق بين مفكري السياسة الإسلامية ومحلليها؛ لأن عنصر التفكير العقلي وإدراك الواقع والتصور المرحلي للهدف داخلة ضمن هذه الممارسة. وهي الأمور التي يكون فيها الاختلاف شيئًا طبيعيًّا. مما يجعل الممارسة السياسية سببًا في تحقيق أكبر اتساع لنطاق الاختلاف بين مفكري الحركة الإسلامية.
ومواجهة هذا الخطر تتمثل بصورة أساسية في تحديد:
2) ثوابت الفكر السياسي:
أ) تأصيل الفكر السياسي.
وأول ثوابت هذا التحديد هو إدراكنا للعلاقة بين الفقه والسياسة الذي تتحدد به طبيعة الممارسة.
وهي الحكمة ذاتها.
ذلك لأن الحكمة كما اتفقنا هي المفهوم الفردي للسياسة.
والحكمة هي الفقه.
وبذلك تصبح كل أصول الفقه أساسًا في الممارسة السياسية.
ب) الإطار السياسي للفكر الحركي:
والذي يُحدَّد بالإجابة على هذا السؤال:
ما هي الكتابات التي تكوِّن في مجموعها إطار الفكر في واقع الحركة الإسلامية...
إن هذا التحديد شرط جوهري في تنظيم العلاقة الصحيحة بين الفكر والحركة...
إن فقد هذا التحديد يجعل الدعوة معرضة لخطر التحول إلى مجرد ظاهرة فكرية ضخمة تتضاءل بجانبها واقعية الحركة حتى تضيع.
وتحديد هذه الكتابات بأصحابها قد يحقق فائدة السهولة في الرجوع إليها.
ولكن الأفضل هو إثبات القاعدة التي يتحدد بها هذه الكتابات ليصبح هذا التحديد أساسًا للفكربصورة مطلقة.
والقاعدة الأساسية:
__________
(1) سنعقد مقارنة بين الشورى والديمقراطية من خلال الكتاب إن شاء الله.(1/18)
- أن يكون صاحب الكتاب سلفي الفهم.
- أن يكون صاحب الكتاب هو نفسه من أصحاب التجارب الواقعية والعملية في مواجهة الجاهلية، وأن تكون كتاباته مرتبطة بواقعه وتجاربه ومواجهته بصورة مباشرة.
مع مراعاة أن ينطبق على جميع هذه الكتابات وأصحابها... قاعدة: أن كل إنسان يخطئ ويصيب ويؤخذ من كلامه ويرد عليه.
- وأن تتجرد في نفس الوقت عملية الأخذ والرد من عوامل الغيرة والحسد والأحاسيس الحقيرة التي قد تسعى بصاحبها إلى التفكير في هدم شوامخ الفكر ورؤوس الهدى والرشاد(1).
ج) التنظيم السياسي للفكر:
وحرية الفكر في إطار الجماعة مكفولة في حدود الكتاب والسنة وأنه لا حرية خارج هذه الحدود.
وإعلان الرأي حق شرعي بشرط واجب شرعي مقابل؛ وهو أن تنقطع علاقة الفرد برأيه بمجرد الاطمئنان إلى وصول هذا الرأي إلى ولي الأمر.
وعندئذ ينطبق على هذا الرأي قواعد الجماعة في الحكم علي الرأي... والوصول إلى الصواب.
وبذلك يصبح الواجب شرطًا يقابل حقًّا؛ لأن تجاوز هذا الشرط ذلك يُسلم الفرد إلى مرحلة الانشقاق الفكري والمنهجي إذا تبنى رأيه بعد حكم الجماعة فيه بالبطلان.
ثم تُسلمه هذه المرحلة إلى الخروج عن الجماعة إذا أخذ موقفًا مبنيًّا على رأيه المحكوم عليه بالبطلان.
وبعد تحديد ثوابت الفكر السياسية المحققة للاتفاق على الحق ننتقل إلى مقتضيات الاتفاق على الحق في تلك الممارسة.
وأهم مقتضيات انطلاق الممارسة السياسية من الحق التعامل مع المعارضين للجماعة.
3) المعارضة السياسية:
والتصور السياسي الإسلامي يعتبر أفضل النماذج السياسية في التعامل مع أصحاب المعارضة السياسية...
__________
(1) مثل كتابات: ابن تيمية وابن القيم وأبي الأعلى المودودي؛ حيث كتبت من خلال الخبرة العملية المستفادة من مواجهة أصحابها مع الجاهلية بقضية التوحيد... وبذلك ثبت تحديد إطار الفكر الحركي من خلال أصحاب الفكر، وسيثبت تحديد الإطار من خلال القضايا الفكرية ذاتها.(1/19)
فهناك مصطلحات أساسية متعلقة بمفهوم الجماعة:
1) الجماعة بمعنى الحق.
2) الجماعة بمعنى الأمير.
3) الجماعة بمعنى العامة.
4) الجماعة بمعنى العلماء.
ونضيف إلى هذه المصطلحات بخصوص المعارضة السياسية مصطلحين أوليين:
مصطلح الفرقة: وهو الخروج عن الجماعة بمعيار الحق الاعتقادي.
ومصطلح الطائفة: وهو الخروج عن الجماعة بمعيار الأمر العملي.
بمعنى: أن الفرقة: هي خروج عقيدي...
والطائفة: خروج عملي...
ولكل منهما أسلوب في التعامل:
فأسلوب التعامل مع الفرقة: بحسب قضية خروجهم عن الجماعة سواء كانت كفرًا أوبدعة.
وأسلوب التعامل مع الطائفة: بحسب قضية خروجهم عن الإمام أو الأمير.
وتعدد معاني الجماعة قائم على أساس الحفاظ عليها في كل الظروف...
أما المعنى الأساسي للجماعة فهو الجماعة بمعنى الحق والوارد فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم
في الحديث: " التارك لدينه المفارق للجماعة "(1).
ولكن عند تعدد الحق في الأفهام في إطار قضايا التوحيد تكون المفاصلة وتكون الفرقة، وإذا تعدد الحق في غير هذا الإطار كان رأي الأمير هو المعيار الذي تتبناه الجماعة في تلك القضية؛ ويتحقق بذلك الجماعة بمعنى الأمير... والوارد فيه حديثه صلى الله عليه وسلم: " من أطاع الأمير فقد أطاعني "(2).
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الديات (12/209/ح 6878 – فتح)، ومسلم في القسامة باب ما يباح به دم المسلم (6/11/164، 165 – نووي)، وأبو داود في الحدود باب الحكم فيمن ارتد (4/124/ح 4352)، وأخرجه أصحاب السنن وغيرهم عن ابن مسعود، انظر تخريج الحديث في كتاب فتح ذي الجلال لتخريج أحاديث الظلال (ح 632).
(2) أخرجه البخاري في الأحكام باب قوله تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول... " الآية (13/119/ح 7137 – فتح)، ومسلم في الإمارة باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وقوله: (من أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني ".(1/20)
وعند غيبة الإمارة يكون إجماع العامة المسلمة هو معيار الحق وهو الوارد فيه قول رسول الله: " عليكم بالسواد الأعظم... "(1).
وعند عجز السواد الأعظم عن الإجماع يكون للعلماء حق الطاعة، ويتحقق فيهم معنى الجماعة.
ولكن السواد الأعظم الذي يعتبر معيارًا للحق له صفات محددة وأهمها: توطين النفس على هذا الحق.
ولذلك لايكون هناك تقليد في مهمة إنشاء العامة المسلمة كما قال صلى الله عليه وسلم: " لا تكن إمعة إن أحسن الناس أحسنت وإن أساؤوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساؤوا فلا تسيئوا "(2).
ومن هنا أيضا فإن للعامة في منهج الدعوة مسئولية خطيرة.
فليس في التعامل مع العامة نمط الهياج والصور المزيفة...
وعندما يكون المطلوب معرفة إجماع العامة أو الرأي العام لهم؛ فإن المهمة تبدأ بإثبات رأي الفرد.
يقول ابن إسحاق: إن وفد هوازن بالجعرانة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أسلموا فقالوا: يا رسول الله، إنا أصل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء مالم يخف عليك، فامنن علينا منَّ الله عليك. قال: وقام رجل من هوازن، أحد بني سعد بن بكر يقال له زهير يكنى أبا صرد فقال: يا رسول الله إنما في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك، ولو أنا ملحنا للحارث بن أبي شمر، أو للنعمان بن المنذر ثم نزل من بمثل الذي نزلت به رجونا عطفه وعائدته علينا، وأنت خير المكفولين.
__________
(1) رواه ابن ماجه (3950)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (153)، وابن أبي عاصم في السنة (ح 80، 84). عن أنس مرفوعًا بلفظ: (فعليكم بالسواد الأعظم ".
(2) أخرجه الترمذي في البر والصلة، باب ما جاء في الإحسان والعفو (4/364/ح 2005) من حديث حذيفة به. وقال الترمذي: حسن غريب. وذكره البغوي تعليقًا في شرح السنة (13/32)، والحديث في المشكاة (ح 5129)، والترغيب للمنذري (3/341)، وفي الكنز (ح 4035) وعزاه صاحبه إلى البخاري في صحيحه وهذا وهم منه غفر الله له.(1/21)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟ فقالوا: يارسول الله، خيَّرتنا بين أموالنا وأحسابنا، بل تُردُّ إلينا نساؤنا فهو أحب إلينا، فقال لهم: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وإذا ما أنا صليت الظهر بالناس فقوموا وقولوا: إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا فسأعطيكم عند ذلك، وأسأل لكم، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس الظهر قاموا فتكلموا بالذي أمرهم به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، فقال: المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالت الأنصار: وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم (1).
وفي رواية: " فقال الناس. قد طبنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنا لنعرف من رضي منكم ممن لم يرض. فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم(2). فردوا عليهم نساءهم وأبناءهم لم يتخلف منهم أحد غير عيينة بن حصن. فإنه أبى أن يرد عجوزًا صارت في يديه منهم، ثم ردَّها بعد ذلك وكسا رسول الله صلى الله عليه وسلم السبي نبطية قبطية ".
وعندما يكون الحديث في أمر العامة فلا بد أن يكون للمتحدث صفات ضرورية ولازمة أهمها نفي السفه الذي يثبت الحكمة كما في الحديث: " سيأتي علي الناس سنوات خدّاعات يُصدّقُ فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة"(3).
__________
(1) رواه أحمد في مسنده، ورواه البيهقي في الدلائل (5/197)، وذكره ابن هشام في السيرة (4/135).
(2) لاحظ اهتمام رسول الله (ص) بوصول رأي الناس بطريقة صحيحة.
(3) صحيح: أخرجه أحمد وابن ماجه ومالك عن أبي هريرة.(1/22)
ومن ناحية أخرى: فإن مصطلح العامة المسلمة يتحدد بانتفاء صفة الهمج الرعاع وحديث علي بن أبي طالب يبين الصفة الأساسية للهمج الرعاع.
الناس ثلاثة: " عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، والباقي رعاع أتباع كل ناعق"(1).
وبذلك يتبين منهج الارتفاع فوق مستوى هؤلاء الهمج الرعاع.
إن الهمج الرعاع قوم لا يفقهون ولا يعلمون.
لا يدركون أصول التفكير فهم لا يفقهون.
ولا يعلمون صواب الواقع. وليسوا على سبيل النجاة.
وصواب التفكير وإدراك الواقع هي النجاة من صفة الهمج الرعاع.
بعدتحديد النظرية السياسية في إطارها الواقعي، وتحديد بناء النظرية السياسية بمقتضى الحق، نأتي إلى المحصلة بين الواقع والحق، أو:
4) العلاقة الجدلية بين الفكر والحركة:
وبادى ذي بدء نريد أن نوضح معنى " العلاقة الجدلية(2) بين الفكر والحركة ".
ففي البدء تكون الفكرة ثم تكون بها الحركة، فتضيف الحركة خبرة جديدة تضاف إلى الفكرة الأصلية، فيتسع نطاق الفكرة فنتحرك به حركة أوسع؛ فتضيف إلينا الحركة الأوسع خبرة أكبر تضاف إلى نطاق الفكر ليتسع فنمارس بة حركة أوسع وهكذا. هذا هو تفسير جدلية العلاقة بين الفكر والحركة.
وعندما يزداد حجم الفكر دون أن نمارس به حركة مناسبة فإن هذا يمثل خللاً سياسياً إذ قد تتحول الدعوة بسبب هذا الخلل إذا تضخم إلى ظاهرة فكرية بحتة.
ومن هنا يلزم كضرورة سياسية تحديد إطار الفكر الذي ينشأ من خلال العلاقة الجدلية الصحيحة مع الحركة وهو ما يسمى فكر الحركي.
والإطار الأساسي لهذا الفكر هو قضايا حد الإسلام " قضايا الحكم والنسك والولاء ".
ويضاف إليها كل قضايا الفكر المستفادة من خبرة التحرك بقضايا حد الإسلام في الواقع.
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ص 29 عن علي – طبعة دار الفتح.
(2) أحيانا يعبر عن كلمة الجدلية بكلمة الديالكتيكية.(1/23)
وقد سبق تقرير أن الفكر في تطوره مع الحركة مستفاد من خبرة الحركة وأن تحديده يكون باعتبار أصحابه؛ فيصبح أي فكر ناشئ عن خبرة عملية مستفادة من مواجهة صاحبه مع الجاهلية يصبح هذا الفكر داخلاً في إطار الفكر الحركي.
وكما تحدد الفكر تتحدد الحركة.
والإطار الأساسي لهذه الحركة هو التبليغ بالكلمة واستخدام القوة وقيام السلطة؛ فيجب تحديد إطار الحركة الصحيحة التي تنشأ من خلالها العلاقة الجدلية الصحيحة مع الفكر. ومعنى هذا التحديد أن أي كيان لا يتبنى أسلوب التبليغ وإقامة الحجة ورفع اللتباس وتصحيح المفاهيم وأسلوب المواجهة القوية الهادفة إلى إقامة السلطة الإسلامية... أي كيان لا يتبنى هذه الأساليب يكون خارجاً من إطار التحديد السياسي للحركة...
وليكن معلوماً أن الخلل في العلاقة بين الفكرر والحركة خطر عظيم يسبب الفتنة، في مرحلة الحركة والجماعة ويسبب الانهيار(1) في مرحلة الدولة.
وأبرز قضايا العلاقة الجدلية بين الفكر والحركة هي: قضية المرحلة المكية والمدنية، وتفسير لتلك العلاقة من أساسها.
وهذه القضية لها عناصر يجب إدراكها ابتداًء...
أن مرحلة الدعوة بعد تمام نزول القران تجاوزت المرحلة المكية والمدنية شرعاً.
أن اعتبار الدعوة في مرحلة مكية أو مدنية بعد ذلك اعتبار حركي.
فإذا كانت ظروف الدعوة تماثل المرحلة المكية اعتبرناها مرحلة مكية، وإذا كانت ظروف الدعوة تماثل المرحلة المدنية اعتبرناها مرحلة مدنية، ومارسنا تطبيق الأحكام المنهجية لكل مرحلة.
وعندئذ نكون ملزمين بدراسة علة الختلاف المنهجي بين المرحلتين من حيث الواقع.
وبمجرد البدء في الدراسة نجد أن الحد الفاصل البين في هذا الاختلاف هو حد القدرة والاستطاعة.
__________
(1) والمثال التاريخي على ذلك: انهيار الدولة العباسية، حيث كان النضوج الفكري والانهيار السياسي في نفس الوقت.(1/24)
فإذا كان الأصل في الدعوة هو الإعلان فإن عدم القدرة عليه يجعلنا نمارس حكما منهجياً مكياً وهو السرية.
وأهم مثال عن الإعلان وإظهار الدين باعتبار القدرة:
هو جواز إقامة الجمعة والجماعات في غير ديار الإسلام.
فبالرغم من أن إقامة الجمعة التي تحدد لإقامتها شروط فقهية مباشرة أن تكون الدار التي تقام فيها الجمع هي دار الإسلام؛ فإنها تقام في غيرها من باب الجواز إذا كان هناك قدرة على إقامتها.
ولا يحتج لعدم إقامتها بانتفاء الوجوب لانتفاء الشرط الفقهي؛ لأن إقامتها باعتبار القدرة يكون من باب الجواز مثل إقامة الجمعة للمرأة والغلام والعبد من باب الجواز عند القدرة رغم عدم الوجوب بالنسبة لهم؛ لانتفاء شروط وجوبها عليهم.
غير أن السيرة تحفظ لنا حدثاً ثابتاًعن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم به الدليل على اعتبار القدرة في التفريق بين المرحلة المكية والمدنية وهو محاولة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه علي بن أبي طالب كسر الأصنام ليلاً دون أن يراهم أحد. (1)
وبعد تحديد المحصلة بين الواقع والحق نكون قد انتهينا من تحديد عنصرين من عناصر الحكمة في تحديد النظرية السياسية؛ لنأتي بعدهما إلى العنصر الثالث وهو الإنسان الذي يمثل الجانب الإنساني في النظرية.
ج) المنطلق الإنساني للممارسة السياسية (المسلم السياسي):
أما جانب " الإنسان " في النظرية السياسية فإنه يتمثل في مصطلحين:
الأول: المفكر السياسي: وذلك باعتبار أن الفكر مهمة إنسانية صادرة عن الإنسان المرتبط بالحق والناظر في الواقع والمدرك للغاية.
لتصبح جوانب الحكمة هي بذاتها عناصر الفكر السياسي.
__________
(1) أخرج القصة أحمد في المسند (1/84، 159) عن علي بن أبي طالب، وذكره الهيثمي في المجمع (6/23) وعزاه إلى أحمد وأبو يعلى والبزار وقال: رجال الجميع ثقات.(1/25)
وبذلك أصبح لزاماً على المفكر السياسي الإسلامي الالتزام بالأساس الشرعي؛ ليكون الحق هو القيمة العليا التي منها وبها تتحدد جميع أبعاد الممارسة السياسية.
وأصبح لزاماً على الفكر السياسي الإسلامي الارتباط بالواقع بجانبيه: الاجتماعي والحركي؛ وذلك من خلال الارتباط بالواقع الدعوة، وكذلك من خلال الالتزام بقواعد الحركة لهذا الواقع... أيضاً.
وأصبح لزاماً على المفكر السياسي الإسلامي اعتبار قضية الخلافة هي منطلقة الوحيد في بناء وتصور الحقيقة السياسية وذلك على أساس أن الخلافة هي الغاية النهائية للحركة.
وبذلك يكون الفكر السياسي علاقة تفاعل بين التأمل بالحق من جانب الإنسان في الواقع، وإدراك الغاية
وإذا كان التأمل يعكس النبوغ الفردي والحساسية الذاتية...
فإن الواقع ترجمة للمعاناة اليومية من خلال الممارسة...
والاستمرارية الفكرية تفترض التتابع المستمر والمعاناة المنتظمة في علاقة ثابتة بين الفكر والحركة؛ حتى تتحقق الغاية.
الثاني: الزعامة السياسية:
والزعامة السياسية تعني باختصار: القدرة الذاتية على اتخاذ القرار السياسي المحقق لأكبر احتمالات الصواب وأقضى درجات الاطمئنان النفسي " يعني الجانب الإنساني للقرار السياسي ".
وعلى هذا فإن الزعامة السياسية تتطلب بهذا الاعتبار عدة صفات أساسية:
الإخلاص الملهم للصواب والمجبر للخطأ والمحقق للثواب في كلا الأمرين والمحقق في نفس الوقت للتجرد من الصراعات النفسية والمؤثرات العاطفية والمصلحة الشخصية.
التوكل المعين على خوض التجربة قبل بدئها وعلى تحمل اثارها بعد تمامها.
الذكاء المحقق للإحاطة بالقرار واثاره واحتمالاته وبدائله؛ بدقة ذهنية واستشفاف مستقبلي يستوفي حق التفكير في القرار بأسرع وقت ممكن بحيث لا يصل صاحب التفكير إلى مرحلة الاستغراق النظري المضل والمحير.(1/26)
الخبرة المستخلصة من تجارب الماضي المشابهة للتجربة القائمة لتحقيق كل عناصر الصحة والصواب بأسهل الأساليب، وتحقيق أكبر العوامل النبهة للتجربة إلى المزالق والثغرات التي دفع ثمنها أصحاب التجارب السابقة حتى لا يتضاعف الثمن وتتضاءل الحصيلة.
العزم الذي يجعل صاحب القرار منطلقاً بقراره بأقصى الاطمئنان الشرعي والحركي والنفسي... اطمئناناً يملؤه ويتعداه منه إلى جميع المحيطين به فيطمئنوا كما اطمأن اطمئناناً واثقاً، بغير غرور يعمي عن الحقيقة، وبغير تردد يضيع الهدف ويحير المشاركين له في الموقف.
القوة الشخصية التي يأخذ بها فرصته الكاملة في اتخاذ قراره ويتنبه بها ألى المحاولات الطبيعية المصاحبة لكل قرار جديد والتي يحاول فيها أصحابها نقد أو رفض القرار من المحيطين بصاحب القرار عندما يكون حوله المخلص غير الذكي والذكي الفاقد للخبرة؛ حيث سيتمثل كل فقد لأي عنصر من عناصر الإخلاص والذكاء والخبرة في محاولة معاكسة لصاحب القرار...
القوة الشخصية التى ينشئ بها واقعاً جديداً، ويدخل بها في مرحلة جديدة، ويحدث بها متغيرات جديدة بقرار واحد يتطلب رجلاً قوياً وزعيماً سياسياً.
صدق الإيمان الذي يجعله يتعرف على مصلحة الدعوة بكل كيانه ومواهبه.
تخطر له الفكر ويلهم الأمر. ويعيش الصواب.
يعيش قضيته... يغير ظروفه وينهض بأمته ويحيي حضارته.
الصبر الذى يتحمل به المناوأة من المختلفين معه داخل كيانه السياسي، والمتربصين به خارج كيانه، والضاغطيت عليه من العقول غير الفاهمة، والحاقدين عليه من النفوس غير السوية... الصبر الذي يحقق المرحلية المنبطة بلا بطء الخائف، ولا تهور المتحمس.(1/27)
الحبوالألفة: التي تعين علي الأطمئنان لقراره وتخفف من وطأة الخطأ إذا حدث وتعين علي تحمل المعاناة المترتبة علي الخطأ... الحب الذي يجعل الجميع يبذل كل ما في وسعه؛ لإنجاح قرار يحبون صاحبه " خير أمرائكم من تحبونهم "(1).
الربانية التي تحمي الزعيم من أي تناقض بين الحق المطلق وإنسانيته.
البصيرة التي تحمي الزعيم من غيبة الغاية عن تصوره.
العلم الذي يحمي الزعيم من الغفلة بالواقع وطبيعة الأمور.
وبذلك تجتمع في الزعامة السياسية كل العناصر المحققة لمضمون النظرية السياسية.
فتصبح الزعامة هي المحصلة النهائية للممارسة.
كما تصبح الزعامة السياسية أساساً في بناء النظرية السياسية مما يجعل هذا الأساس مقدمة ضرورية لتحقيق الإحكام بين جوانب بناء النظرية السياسية...
وذلك بعد تمام الوصول إلي الغاية.
د) أهداف العمل السياسي (الغاية):
وجانب الغاية في التصور السياسي، له معني جوهري وهو الهداية؛ لأن الهداية هي غاية الدعوة وحكمتها.
وباعتبار أن السلطة هي الوسيلة الأساسية لتحقيق الهداية. (إن الله يزع بالسلطان ما لم يزع بالقران)(2).
وباعتبار أن للسلطة حداً نهائياً وهو الخلافة؛ أصبحت الخلافة هي الصيغة السياسية لغاية الهداية.
ولكن إقامة السلطة ابتداًء، والخلافة كحد نهائي لها تقتضي القوة... والقوة تقتضي الشهادة.
والشهادة تقتضي الجنة...
فأصبحت الشهادة والجنة غاية نهائية علي المستوي الفردي لأصحاب الدعوة.
وبذلك يتحدد مجموع الغايات بصورة مرتبة:
الهداية: كغاية نهائية للدعوة.
__________
(1) رواه مسلم في الإمارة باب وجوب الإنكار على الأمير فيما يخالف الشرع (4/12/244 – نووي)، وأحمد في المسند (6/24) عن عوف بن مالك بلفظ: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم".
(2) أورده ابن كثير في تفسيره (5/109 – ط. كتاب الشعب) في تفسير قوله تعالى: (واجعل لي من لدنك سلطانًا نصيرًا "، وهو أثر عن عثمان بن عفان رضي الله عنه.(1/28)
الدولة والخلافة: كصيغة سياسية لتلك الغاية.
الشهادة والجنة: كمقتضي؛ لتحقيق تلك الصيغة. وهذه الحقائق الثلاث هي التي تمثل في التصور السياسي جانب الغاية.
وبحسب ترتيب حقائق الغاية في التصور السياسي.
أصبحت غاية الهداية هي الهدف التي ترتبط بها كل الأساليب.
وهذا الأرتباط حقيقة بارزة في التصور الإسلامي العام حيث أن الغاية والأسلوب ليس بينهما في التصور الإسلامي أي تناقض.
ومن هنا أصبحت غاية الهداية هي المحصلة النهائية لكل أبعاد التصور السياسي.
فالهداية هي محصلة البعد العسكري بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم "(1) وقوله: " عجبت لقوم يجرون الي الجنة بالسلاسل "(2).
والهداية هي محصلة البعد القتصادي بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني أعطي الرجل وغيره أحب إلي منه مخافة أن يكبه الله في النار "(3) وقول الله: " والمؤلفة قلوبهم... ".
والهداية هي محصلة البعد الجماهيري(4)...
غير أن نقطة الضوء المكثفة حول حقيقة الغاية في التصور السياسي هي حق هذه الغاية علي مستوي كيانات الحركة المتعددة التي تتبني جميعها الهداية كغاية واحدة لتلك الكيانات.
__________
(1) أخرجه البخاري في الجهاد والسير باب: دعاء النبي (ص) الناس إلى الإسلام (6/128/ح 2942 – فتح)، ومسلم في الفضائل في فضائل علي (5/15/177، 178 – نووي)، وأحمد في المسند (5/333) جميعًا عن سهل بن سعد، وقد خرج هذا الحديث عن سلمة بن الأكوع.
(2) أخرجه البخاري في الجهاد والسير باب الأسارى في السلاسل (6/268/ح 3010 – فتح)، وأحمد في المسند (2/406)، وأبو داود (2677) عن أبي هريرة بلفظ: (عجب ربنا ". أما لفظ: (عجبت ". فقد رواه أحمد في المسند (5/249) عن أبي أمامة.
(3) روى البخاري وأحمد حديثًا بمعناه عن عمرو بن تغلب (6/288/ح 3145)، والمسند (5/69).
(4) كما سيتضح – إن شاء الله – في باب أبعاد التصور السياسي.(1/29)
فيجب أن يكون لهذه الغاية الواحدة – وهي الخلافة – حق مفروض علي طبيعة العلاقة بين الكيانات المتعددة الهادفة إلي هذه الغاية الواحدة.
ثانياً
الصيغة السياسية لحركة الهداية
أ) دولة الدعوة:
والسعي للخلافة كصيغة سياسية للغاية، يبدأ بإقامة الدولة المرتبطة بالهداية.
فالدولة الإسلامية أساسها نشر الدعوة والعقيدة، والدعوة الإسلامية محورها ووظيفتها خلق القناعة بحقيقة الدين.
وواجب الرسول صلى الله عليه وسلم هو الدعوة: " ادع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن "... هذه الطبيعة المتميزة كان لا بد وأن تكوِّن بخصائصها جميع عناصر ومتغيرات النموذج السياسي الإسلامي... فالدولة وظيفتها الدفاع عن العقيدة، وأساس شرعية السلطة ومحور وسبب وجودها هو نشر الدعوة فيها، والدعوة والسلطة يتفاعلان كحقيقة ديناميكية واحدة، ورغم أن المحور الأساسي وجوهر هذا التفاعل هو الدين إلا أن السلطة هي التي تأتي فتخلق ذلك الإطار الذي يتيح للمواطن بأن يحقق ذاته من خلال الاستجابة إلى قواعد الممارسة الدينية... وهكذا فإن شرعية السلطة هي الدين وأداة الدين هي السلطة.
إن واجب الدولة هو أن تدعو إلى كلمة الحق، وأن تدعو من خلالالإقناع، والاقتناع بهذا المفهوم لذا كان ولا بد أن يتحول إلى قواعد للمارسة في كل ما له صلة بنظرية التعامل السياسي في الحضارة الإسلامية.
وكذلك فإن البيعة كعقد سياسي مصدر للسلطة تتمركز حول عنصر أساسي هو وحده محور شرعيتها وهو مضمون الممارسة للسلطة: احترام الأحكام الإسلامية فإذا حدث إخلال بذلك المضمون يصير المسلم وقد أضحى ليس من حقه – فقط – عدم الطاعة، بل من واجبه رفض تلك الطاعة ومقاومة الحاكم ولو بالسلاح(1).
__________
(1) سلوك الممالك في تدبير الممالك... كتاب الشعب، تحقيق حامد ربيع – طبعة الشعب... الجزء الأول.(1/30)
والدولة هي مقتضى التوحيد؛ لأن الدولة هي الحُكم، والحكم هو مقتضى التوحيد: " ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ".
والدولة هي التمكين للدين في الأرض: " وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ".
والدولة هي الأداة الأساسية لإقامة الدين: " الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ".
لقد كانت بيعة العقبة الأولى هي أول مرحلة فعلية لإقامة الدولة... وكان مضمونها: " حتى أبلغ دعوة ربي "(1).
فالدولة هي الوسيلة الأساسية للدعوة.
وفي قول الله: " ونريد أن نمن على الذين استضعفوا ".
فندرك أن الدولة لرفع الاستضعاف عن المسلمين.
وفي قوله سبحانه: " حتى لا تكون فتنة ".
ندرك أن الدولة لرفع الفتنة من جانب غير المسلمين؛ ويكون الدين لله.
ولذلك جاء تعريف وظيفة الدولة في التصور السياسي بأنها: مجموع الأهداف التي يجب أن تسعى الإرادة السياسية إلى تحقيقها من خلال الأداة النظامية(2).
إن الدولة عندما تكون للدعوة فإن هذا معناه أن يكون الحاكم ونظم الحكم والمحكومين به أداة للدعوة.
بل تكون الدعوة قضية كل إنسان وحياة كل نسمة في دولة الدعوة.
بل يبلغ الأمر بأن تكون الدعوة قضية الهدهد في دولة سليمان نبي الله.
يعرفِّ الشرك: " وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله ".
__________
(1) أخرجه أحمد والبيهقي في الدلائل وفي السنن، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي والهيثمي في المجمع. قال ابن كثير في البداية والنهاية: هذا إسناد جيد على شرط مسلم وفيه: (من يؤويني؟ من ينصرني حتى أبلغ رسالات ربي؟ ".
(2) الماوردي: الوظيفة الأساسية للدولة... فيقول القول الأخير في المسألة:
وظيفة الدولة هي الدفاع عن العقيدة، وهو محور الحركة السياسية للدولة والمبرر لوجودها المسيطر على أهدافها.(1/31)
ويعرِّف التوحيد: " ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ".
ويعرِّف سبب الشرك: " وزين لهم الشيطان أعمالهم ".
ويعرِّف السبيل: " فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ".
يتأخر وهو مطمئن؛ لأن معه نبأ عظيم... نبأ فوق النظام... نبأ من أجله كان النظام... يتأخر ومعه عذره؛ لأن معه قضية الدعوة وهي قضية الحاكم وقضية الدولة وقضية الأمة... هدهد يعرف أن الدعوة لأهل الأرض جميعهم؛ فيجب ألا يكون شرك في أي مكان، ففي سبأ شرك يجب القضاء عليه... حتى لو لم تكن سبأ في ملك سليمان.
ودون أن يكون من رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ودون أن يكون من رجال الحسبة.
ودون أن يكون مكلفًا... أو موظفًا.
فالدعوة هي الضمير وهي الوعي والذات وهي الهوية.
ولذلك يقول الإمام ابن القيم في شفاء العليل: ولما كان الهدهد داعيًا إلى الخير وعبادة الله وحده والسجود له جاء النهي عن قتله... كما رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه(1).
لقد كانت دعوة الهدهد ولاء للدولة الإسلامية.
فكلن لا بد أن يكون على الدولة الإسلامية واجب حمايته بعد أن أعطاها ولاءه، فجاء نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتله ومعه النملة والنحلة(2).
من أجل ذلك يجب أن تكون خطوط الحركة مشدودة إلى هدف الدولة.
وهذه الخطوط هي أخطر خطوط التصور السياسي للحركة الإسلامية.
الخط الأول: هو أن يكون لقيام الدولة الاعتبار الأول في منهج الحركة وبحسب مقتضيات الواقع وطبيعة الظروف وبكل الإمكانيات.
ولكن...
__________
(1) عن أبي هريرة وعن ابن عباس... أخرجه أحمد في المسند (1/332)، وأبو داود (5267)، وابن ماجه (3224)، والدارمي (2/88، 89) جميعًا عن ابن عباس بلفظ: (نهى عن قتل أربع من الدواب: النملة والنحلة والهدهد والصرد ". وصححه الشيخ الألباني في الإرواء (2490).
(2) انظر ما قبله.(1/32)
هذا الاعتبار لا يوقف كل كيان الحركة على هذا الهدف إذ أن هناك أهدافًا موازية ضرورية في ذاتها بصفة شرعية ومؤدية إلى هذا الهدف الأساسي بصفة حركية.
وأهم هذه الأهداف:
- رفع الالتباس عن الناس واستفاضة البلاغ... وهذه هي الصفة الشرعية...
وهذا العمل هو في نفس الوقت بالصفة الحركية... يعني تكوين القاعدة المؤيدة للدولة الإسلامية ونظام الحكم الإسلامي عندما يقوم... ويبقى بعد ما يقوم.
- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... وهذه هي الصفة الشرعية وهذا العمل هو في نفس الوقت بالصفة الحركية تهيئة الواقع الاجتماعي للإذعان لحكم الله.
- جمع الإمكانيات لإقامة الدولة... وهو من إعداد القوة، وهذه هي الصفة الشرعية وهذا العمل هو في نفس الوقت بالصفة الحركية... سيحمي الحركة من الوصول إلى مرحلة حدوث العجز الإداري والفني عند إقامة السلطة.
والشرط الأساسي في ممارسة تحقيق هذه الأهداف الموازية لهدف إقامة السلطة هو ألا يطغى هدف بعينه على بقية الأهداف الموازية، وألا يطغى مجموع الأهداف الموازية على هدف إقامة السلطة والإعداد لها بالصورة الحركية المباشرة؛ لأن له الاعتبار الأول في الدعوة... ودون أن يوقف هذا الهدف الأساسي هذه الأعمال لأنها واجبات أصلية بصفتها الشرعية، ومؤدية إلى الهدف الأساسي بصفتها الحركية.(1/33)
الخط الثاني: هو أن يكون للمستضعفين في زمن الحركة الولاية في نظام الدولة(1)... وذلك لأن الدولة والسلطة فتنة فلا يجب أن يتعرض لها إلا من لا تضره بإذن الله... والمستضعفون هم الذين عرضت على قلوبهم الفتن كالحصير عودًا عودًا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث(2).
فالمستضعفون هم الذين لا تضرهم الدنيا والسلطان بعد أن مروا بمرحلة الاستضعاف...
__________
(1) إذا كانت الأحكام الشرعية تحمي الهدهد الذي كان له الولاء المطلق للدعوة، فكيف بمن كان له هذا الولاء من المسلمين؟!.
(2) رواه مسلم في الإيمان باب ذكر الفتن تموج كموج البحر (1/2/172 – نووي)، وأحمد في المسند (5/405)، والبغوي في شرح السنة (15/6)جميعًا من حديث حذيفة بلفظ: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير "... الحديث.(1/34)
من ناحية أخرى... فإن تولية المستضعفين مسألة عدل... يدل على ذلك خطبة عمر بن الخطاب التي رواها ليست عند عباس قائلاً: خطب عمر بن الخطاب بالجابية فقال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقامي فيكم فقال: " استوصوا بأصحابي خيراً، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم "(1). كما قال عمر أيضاً في موضع اخر: إن الله عز وجل جعلني خازناً لهذا المال وقاسمه له ثم قال: بل الله يقسمه وأنا بادئ بأهل النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أشرفهم، نفرض لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم عشرة الاف إلا جويرية وصفية وميمونة، فقالت عائشة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعدل بيننا، فعدل بينهن عمر، ثم قال: إني بادئ بأصحابي المهاجرين الأولين فإنا أخرجنا من ديارنا ظلماً وعدواناً، ثم أشرفهم، ففرض لأصحاب بدر منهم خمسة الف: ولمن شهد بدراً من الأنصار أربعة الاف ولمن شهد أحد ثلاثة الاف قال: ومن أسرع في الهجرة أسرع به العطاء، ومن أبطأ في الهجرة أبطأ به العطاء؛ فلا يلومن رجلاً إلا مناخ راحلته(2).
ومن ناحية ثالثة... فإن تولية المستضعفين وهم خير من حفظهم الله من فتنة السلطة سيكونون خير من يحفظون أمانة السلطة.
وهذه خطبة عتبة بن غزوان التي تمثل الوثيقة السياسية التي يتأكد منها منهج الدعوة في الانتقال من مرحلة الحركة إلى مرحلة الدولة.
__________
(1) رواه أحمد في المسند (1/18) عن عمر بن الخطاب، وابن حبان في صحيحه (16/239/ح 7254 – إحسان) عن عمر أيضًا.
(2) رواه أحمد في المسند (3/475) عن أبي عمرو بن حفص بن المغيرة.(1/35)
خطبنا عتبة بن غزوان فحمد الله وأثنى عليه، قال: أما بعد: فإن الدنيا قد اذنت بصرم وولت حذاء ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابها صاحبها وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها؛ فانتقلوا بخير ما بحضرتكم فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفة جهنم فيهوي فيها سبعين عاماً لا يدرك لها قعراً، ووالله لتملأن، أفعجبتم، ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة؛ وليأتين عليها يوم وهو كظيظ من الزحام ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك فاتزرت بنصفها واترز سعد بنصفها فما أصبح اليوم منا أحد إلا أصبح أميراً على مصر من الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً وعند الله صغيراً، وإنها لم تكن نبوة قط إلا تناسخت حتى يكون اخر عاقبتها ملكاً فستخبرون وتجربون الأمراء بعدنا(1).
ومن تحليل الوثيقة يتبين:
كيف أن الولاية لم تؤثر في إيمان الولاة وارتباطهم بالآخرة واحتقارهم لشأن الدنيا، وكيف أن الولاية لم تنس الولاء فترة الاستضعاف وأنها لا زالت هي الفترة التي تملأ عقله ووجدانه ولم تزحزحهاعن ضميره ممارسة والحكم. وكيف أن الولاية لم تصبه بأمراضها فنراه يستعيذ بالله أن يكون في نفسه عظيماً وعند الله صغيراً، وكيف أن الولاية مرحلة ستمر ولن تبقى لهم وأنه سيأتي ولاة آخرون محددو الصفات والمعالم.
وهذه وثيقة أخرى تتضمن نفس القاعدة وهي وثيقة تعيين أول سفراء بعد إقامة الدولة الإسلامية.
وهذا بيان بأسماء المعينين وصفات كل منهم:
__________
(1) أخرج القصة مسلم في الزهد (6/18/101، 102 – نووي) في أول الزهد عن خالد بن عمير، وأخرجها أحمد في المسند (4/174) عن خالد بن عمير، وذكرها ابن الجوزي في صفة الصفوة (1/204).(1/36)
حاطب بن أبي بلتعة: سفير إلى مصر أرسل إلى المقوقس. وهو بدري شهد الحديبية(1).
دحية بن خليفة الكلبي: سفير إلى الروم أرسل هرقل. وهو قديم شهد المشاهد(2).
سليط بن عمرو العامري: سفير اليمامة أرسل إلى هوذة بن علي. وهو بدري له قدم في الإسلام(3).
شجاع بن وهب الأسدي: سفير إلى دمشق أرسل إلى الحرث بن أبي شمر. من السابقين هاجر للحبشة(4).
عبد الله بن حذافة السهمي: سفير الى فارس أرسل إلى ابرويزبن هرمز. مجاب الدعوة من سادة الصحابة(5).
عمرو بن أمية: سفير إلى الحبشة ارسل إلى الأصم بن أبجر النجاشي. أسلم يوم أحد(6).
عمرو بن العاص سفير إلى عمان. أسلم قبل الفتح(7).
وعندما نقدم هذا النموذج التاريخي لدولة الدعوة نقدم معه هذه الحقيقة.
إن حقيقة دولة الدعوة لا تتجلى إلا في التجربة الإسلامية؛ لأن دار الإسلام هي الدار التي تعلوها أحكام الإسلام وعندما لا تعلوها أحكام الإسلام لا تكون إسلامية، وتصير خارج نطاق التجربة.
والإسلام يرفض إثبات اسم دار الإسلام لدولة لا تعلوها أحكام الإسلام ويعلن الفقه الإسلامي أن الدولة التي لا تعلوها هذه الأحكام ليست محسوبة على الإسلام.
وفي كل مراحل الدولة المسلمة... كان شرط الدعوة قائماً. ابتداًء من الخلافة الراشدة. حتى الملك العضود... كانت الدعوة.
__________
(1) انظر الإصابة (1/314).
(2) انظر الإصابة (1/463).
(3) انظر الإصابة (2/70).
(4) انظر ترجمته في الإصابة (2/137)، والاستيعاب في الإصابة (2/157).
(5) انظر ترجمته في الإصابة (2/287/ت 4622)، والاستيعاب في الإصابة (2/274).
(6) انظر الإصابة (2/157/ت 5768).
(7) انظر ترجمته في الإصابة (3/2/ت 5884)، والاستيعاب في الإصابة (2/501).(1/37)
أما التجارب التاريخية للأمم السابقة في العلاقة بين الدولة والدعوة فإنها تسمح بمتناقضات غاية في الخطورة، فالحضارة اليونانية والرومانية والفارسية... لم يكن لها اهتمام بالدين. وحتى الحضارة الكاثوليكية التي قامت على حقيقة التعصب الاستفزازي للمسيحية... كان هذا التعصب فارغاً من مضمون الدعوة.
حيث كانت صيغة هذا التعصب هي المزايدة بين الأمراء والاتهامات بالهرطفة والسيطرة المقيتة لرجال الدين... كانت هوساًً فارغاً من مضمون الدعوة. حتى مثال الدولة اليهودية كرمز للربط بين الدولة والدين يثبت ويؤكد أن دولة الدعوة ليست إلا الإسلام؛ لأن اليهود ليست لهم أية صلة باليهودية.
ومن هنا استحقت الدعوة الإسلامية، دون غيرها، أن تكون المقيمة لدولة الحق، واستحقت الخلافة الإسلامية أن تكون المقيمة لحضارة الحق.
ب) المضمون الحضاري لدولة الدعوة:
حضارة الحق... فلكل حضارة مضمون. والحركة صانعة الحضارة.
والحق هو مضمون الحركة الإسلامية وحضارتها.
ومن هنا كانت خصائص الحضارة الإسلامية صادرة عن مضمونها.
فالحق ومقتضاه من حيث الممارسة: الوحدة في معايير السلوك، والوحدة في معايير التعامل؛ وأبرز هذه المعايير هو العدل.
كذلك فللحق مقتضاه من حيث التعامل... وهو السيطرة.
وكذلك فإن الحق الذي تتبناه الحضارة يجب أن يستوعب الواقع البشري وهو العالمية، وأيضاً فإن الحق مقتضاه الاستمرارية...
ومن هنا يتحدد مقتضى الحق كمضمون للحضارة الإسلامية الذي تنشأ عنه خصائصها المستمدة من حركتها من البداية؛ لتكون:
ج) الصيغة السياسية للمضمون الحضاري:
بخصائصها الأساسية...
العدل... " السيطرة " " القوة " "الظهور ". العالمية. الستمرارية.
ولقد سبق القول في أن الحضارات السابقة حضارات مصنوعة جاء مضمون كل حضارة منها كرد فعل للحضارة التي تسبقها...(1/38)
مثلما جاءت حضارة القوة المادية (الرومانية) كرد فعل لحضارة المثالية الخيالية (اليونانية) وجاءت حضارة الحاكم الإله... (الفارسية) كرد فعل للقوة المادية (الرومانية ".
ومثلما جاءت حضارة الفرد والقومية (الأوربية) كرد فعل للتعصب الكاثوليكي " الكاثوليكية ".
وهذا دليل على أنها حضارات لم تصنع على عين الله.
ودليل آخر على ذلك هو أن النظرية السياسية لكل حضارة لم تتكون إلا بعد فترة زمنية طويلة وقطع أشواط تاريخية عبر حياة الأمة... بل إن هناك أمماً لم تتكون نظريتها إلا في أواخر عمرها.
الأمر الذي يختلف تماماً في حضارة الأمة الإسلامية التي تكونت نظريتها السياسية في حياة مؤسسها الأول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من الحركة حتى الخلافة.
لأنها كانت الممارسة السياسية للمضمون الحضاري للأمة تعني أن يكون الموقف السياسي امتداداً طبيعياً لتاريخ الأمة وانسجاماً مطلقاً مع حضارتها.
وذلك يقتضي أن تجتمع في هذا الموقف كل الخبرة السياسية للأمة المأخوذة عن تراثها السياسي وتجاربها التاريخية.
ثالثاً
طبيعة الممارسة السياسية
أ) الموقف السياسي (نقطة البدء):
وكما تسهم كل نقطة عندما تتحرك في صنع الخط كذلك يسهم الموقف في تحديد اتجاه الخط السياسي للدولة وطبيعة البناء الحضاري للأمة في واقع الممارسة.
إذن فالموقف السياسي هو النقطة المتحركة الصانعة للخط السياسي.
ولإنشاء الموقف السياسي عدة قواعد:
الترتيب الإجرائي:
1) الحكم الشرعي في مضمون الموقف.
2) أثر الموقف على ولاء الجماعة.(1/39)
فقد يكون الموقف صحيحاً ولكنه لا ينال إجماعة الجماعة حيث يسبب مجرد إعلانه انشقاقاً... عندئذ يكون الأولى ترك هذا الموقف حتى يتحقق الإجماع عليه وهذا ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما لم يعلن الدخول في معركة بدر حتى حقق إجماع المهاجرين والأنصار بعد أن قال له سعد بن عبادة سيد الأنصار: والله لو خضت بنا غمار هذا البحر لخضناه معك(1).
إن مراعاة واقع الجماعة في اتخاذ القرار مبدأ سياسي هام يتجلى واضحاً في كل مواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم السياسية(2).
3) أثر الموقف في تحقيق الهدف العام للجماعة، وينقسم إلى ناحيتين:
أ) النتيجة العملية.
ب) الهدف الدعائي.
فقد يكون للموقف أثر صحيح من الناحية العملية. ولكنه يسبب اهتزازاً في صورة الدعوة أمام نظر الناس وهذا الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لايقتل عبد الله بن أبي سلول وهو مستحق للقتل قائلاً لعمر: دعه حتى لا يتحدث الناس بأن محمداً يقتل أصحابه(3).
ومن هنا كانت الترجيحات هي أساس إنشاء الموقف السياسي بعد ثبوت الترتيب الإجرائي.
الترجيحات:
فعندما... ننشئ موقفاً سياسياً بصورة نظرية.
ننظر إلى الحكم الشرعي فإذا ثبتت شرعيته ننظر إلى أثر الموقف على ولاء أصحاب الدعوة؛ لأن الحفاظ على هذا الولاء أولى من تحقيق أي نتيجة عملية.
فإذا لم يكن للموقف ضرر على ولاء الجماعة؛ ننظر إلى نتيجته العملية في الواقع؛ فإذا كانت له نتيجة محققة لمصلحة الدعوة ننظر في الأثر الدعائي والإعلامي للدعوة.
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود عن أنس، ورواه النسائي في التفسير في سورة المائدة (1/432/ح 161)، وابن حبان في صحيحه (7/109/ح 470).
(2) كما سيتضح إن شاء الله، من عرض نماذج لهذه المواقف.
(3) أخرجه البخاري في التفسير في سورة المنافقون، باب: (يقولون لئن رجعنا إلى المدينة) (8/520/ح 4907 – فتح)... وسيأتي هذا الموقف بالتفصيل إن شاء الله.(1/40)
فإذا كان للموقف أثر دعائي ضار فلا نمارس هذا الموقف؛ لأن الضرر الدعائي مفسدة؛ ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح؛ فإذا لم يكن له ضرر دعائي مارسنا الموقف.
ثم مع ذلك يراعى في إنشاء الموقف الاعتبارات الأصلية الآتية:
1) التوافق بين الأسلوب والنتيجة:
والتوافق بين الأسلوب والنتيجة خصيصة من خصائص المنهج الإسلامي العام فالإسلام منهجاً هو الإسلام أثراً ونتيجة بغير تناقض.
بل إن النتيجة الصحيحة التي يمكن الوصول إليها بأسلوب غير صحيح محكوم عليها بالبطلان ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " من قال في كتاب الله برأيه وأصاب فقد أخطأ "(1) لأن منهج أو أسلوب الوصول إلى النتائج يجب أن يكون صحيحاً في ذاته حتى يكون صحيحاً في نتيجته وبذلك تقوم الدعوة بالحق ويقوم الإسلام بالإسلام.
2) التوافق بين المبدأ والمصلحة:
إن أهم الحقائق المعروفة في الدعوة الإسلامية أنها دعوة مبادئ؛ وهذا ما سلم به أعداء الدعوة أنفسهم... حتى أن أبا سفيان يسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام هرقل ولم يكن قد أسلم بعد... سؤالاً خطيراً... أيغدر؟ قال: لا يغدر(2)...
__________
(1) رواه أبو داود في العلم، باب: الكلام في كتاب الله بغير علم (3/319/ح 3652)، والترمذي في تفسير القرآن، باب: الذي يفسر القرآن برأيه (5/200/ح 2952)، وأخرجه النسائي أيضًا... جميعًا عن جندب بن عبد الله.
(2) صحيح: (الفتح – ص 42) كتاب بدء الوحي.(1/41)
ولكن موقفا آخريدل على أن الحفاظ على مبادئ الدعوة أمر لايمكن التفريط فيه مهما بلغت درجته وهذا الموقف الرجل أمام الرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جاءه رجل كان الرسول قد أحل دمه ووقف الرجل أمام الرسول ومشى دون أن يمسه أحد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابة: لم لم تقتلوه؟ قالوا يا رسول الله! هلاّ أشرت إلينا؟ فقال: ما كان لنبي أن يكون له غلة. أي إشارة خفية(1).
3) التوافق بين الوسيلة والغاية:
وكذلك الوسائل بعد الأساليب يجب أن تكون من الإسلام ذاته. من أجل ذلك رد النبي صلى الله عليه وسلم مشركاً يريد القتال مع المسلمين قائلاً له: " نحن لا نستعين بمشرك "(2).
بل قد يبلغ الأمر أن يرد الرسول صلى الله عليه وسلم رجلاً لعن ناقته أثناء الذهاب إلى الغزو قائلاً له: ارجع بها لا تصحبنا بملعون(3).
4) الدلالة السياسية للحدث السياسي:
ولما كان الموقف السياسي هو النقطة المتحركة للاتجاه السياسي كان لابد أن يقوم الموقف السياسي علي معناه الدال علي الاتجاه السياسي والقوة السياسية.
وهذا المعني هو ما نتفق علي تسمية بالدلالة السياسية.
وعلي هذا الاساس يقوم إنشاء الحدث بدلالة مقبولة أو نفي دلالة مرفوضة أو الاثنتين معاً.
والدلالة السياسية متعددة: منها الدلالة العملية، ومنها الدلالة القولية، ومنها الدلالة الشخصية.
وأقوي أمثلة ارتباط الموقف السياسي بدلالته هو المفاوضات والمعاهدات.
__________
(1) أخرجه أبو داود والنسائي وابن مردويه عن سعد رضي الله عنه (الدر المنثور 5/653)، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي ولفظه: (إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين "... وعند أحمد وأبي داود: (إنه ليس لنبي أن يومض ".
(2) رواه أحمد ومسلم وابن حبان وأبو داود والبيهقي في السنن (9/63/ح 17877) عن عائشة، وفيها: (فارجع فلن أستعين بمشرك ".
(3) أخرجه مسلم وأبو داود.(1/42)
والدلالة الثابتة التقليدية للمعاهدات من الجانب الإسلامي:
1) إثبات وحدة الموقف.
2) فرض الإرادة السياسية.
3) تحقيق مكاسب عملية.
ومن الجانب الجاهلي غالبا ما يكون هدم هذه الاهداف وتضييع هذه الدلالات.
مثلما قال المفاوض عن قريش لرسول صلى الله عليه وسلم في معاهدة الحديبية: " جئت بأوشاب الناس لتفض بهم بيضتك وما أراهم إلا منفضين عنك " فأثبت له الصحابة غير ذلك عندما ابتدروا نخامة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومسحوا بها أجسادهم، وتنافسوا علي وضوئه ليشربوه؛ حتى رجع المفاوض الي قريش ليقول لها: لقد رأيت الروم وقيصر، والفرس وكسري؛ فما وجدت قوماً يعظمون صاحبهم كما يعظم أصحاب محمد محمداً؛ وأري أن تصالحوه.
ومثلما حاول مفاوض الفرس في معاهدته مع المسلمين إنشاء شرخ في بناء موقفهم السياسي فاتفق مع المفاوض المسلم علي معاهدة الصلح، وأخبره أنها تبدأ من اليوم الذي تم فيه عقد هذا الصلح، ثم جاء مفاوض آخر فوافق مفاوض الفرس علي المعاهدة وأخبره أنها تبدأ من اليوم الذي جاء فيه المفاوض الثاني فرفض المفاوض المسلم أن يكون بدء المعاهدة من اليوم بل من الأمس كما حدد ذلك أخوه السابق عليه؛ وبذلك تتحقق وحدة الموقف وتخفق خطة الفرس في التفريق بين المفاوضين المسلمين حتى ولو بفارق يوم في تحديد تاريخ المعاهدة.
ولعل وحدة الموقف هذه التي أثبتها المفاوض الثاني هي التي ثبت معها فرض الإرادة السياسية وذلك بتمسكه باتفاق أخيه علي تاريخ المعاهدة.
ثم نبدأ طرح نماذج عامة بعد نموذج المعاهدات للموقف السياسية المتضمنة لجميع أنواع العلاقات بين الموقف السياسي كحدث له دلالته المتحققة من خلاله.
أنموذج:(1/43)
دلالة سياسية تحققت بالكلام دون عمل وهو حديث عائشة: " يا عائشة لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين باباً شرقياً وباباً غربياً فبلغت به أساس إبراهيم "(1).
أنموذج:
من أمثلة إثبات الدلالة بصورة واضحة لا تحتمل غيرها هو حادثة المرأة التي ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيلتها وقاتل القبائل حولها.
كنا في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنا أسرينا حتى إذا كنا في آخر الليل وقعنا وقعة ولا وقعة أحلي عند المسافر منها، فما أيقظنا إلا حر الشمس،...... فلما استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم شكوا إليه الذي أصابهم، قال: " لا ضير – أو لا يضير – ارتحلوا ". فارتحل، فسار غير بعيد، ثم نزل فدعا بالوضوء فتوضأ، ونودي للصلاة فصلى بالناس، فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصلِّ مع القوم، قال: " ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟! ". قال: أصابتني جنابة... ولا ماء. قال: " عليك بالصعيد؛ فإنه يكفيك ". ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم فاشتكى إليه الناس من العطش، فنزل فدعا فلانًا – كان يسميه أبو رجاء نسيه عوف – ودعا عليًّا فقال: " اذهبا فابتغيا الماء ". فانطلقا فتلقيا امرأة بين مزادتين – أو سطيحتين – من ماء على بعير لها فقالا لها: أين الماء؟ قالت: عهدي بالماء أمس هذه الساعة، ونفرنا خلوفًا. قالا لها: انطلقي إذًا. قالت: إلى أين؟ قالا: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: الذي يقال له الصابئ؟ قالا: هو الذي تعنين، فانطلقي
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج، باب: فضل مكة وبنيانها (3/51/1586 – فتح)، وأحمد في المسند (6/239) عن عائشة.(1/44)
فجاءا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحدثاه الحديث. قال: فاستنزلوها عن بعيرها، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم بإناء ففرغ فيه من أفواه المزادتين – أو السطيحتين – وأوكأ افواههما وأطلق العزالى ونودي في الناس: استقوا. فسقى من شاء، وكان آخر ذاك أن أعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء قال: اذهب فأفرغه عليك. وهي قائمة تنظر إلي ما يفعل بمائها. وأيم الله لقد أقلع عنها وإنه ليخيل إلينا أنها ملاة منها حين ابتدأ فيها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اجمعوا لها. فجمعوا لها - من بين عجوة ودقيقة وسويقة - حتى جمعوا لها طعاما فجعلوها في ثوب وحملوها ووضعوا الثوب بين يديها، قال لها: تعلمين ما رزئنا من مائك شيئاً، ولكن الله هو الذي أسقانا... فكان المسلمون بعد ذلك يغيرون علي من حولها من المشركين ول يصيبون الصرم الذي هي منه. فقالت يوما لقومها: ما أري أن هؤلاء القوم يدعونكم عمداً، فهل لكم في الإسلام؟ فأطاعوها، فدخلوا في الإسلام(1).
أنموذج:
نفي دلالة مرفوضة، وإثبات دلالة مقبولة.
عن ابن عمر قال: كنا في غزاة فحاص الناس حيصة. قلنا: كيف نلقي النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد فررنا من الزحف، وبؤنا بالغضب؟ فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر، فخرج فقال: من القوم؟ فقلنا نحن الفرارون، قال: لا بل أنتم العكارون (أي الكرارون)، فقبلنا يده، فقال: أنا فئتكم وفئة المسلمين، ُثم قرأ (إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلي فئة)(2).
وذلك في تفسير قول الله عز وجل: " إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار ".
وفي غزوة أحد حيث وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الغزوة وجمع المسلمين حوله ليردوا علي أبي سفيان الذي أراد أن يحقق نتيجة سياسية للغزوة...
__________
(1) أخرجه البخاري في التيمم، باب: الصعيد الطيب وضوء المسلم (1/531/344).
(2) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والبخاري في الأدب المفرد والبيهقي.(1/45)
وأشرف أبو سفيان فقال: أفي القوم محمد؟ فقال: " لا تجيبوه " فقال أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فقال: " لا تجيبوه ". فقال أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: إن هؤلاء قتلوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا. فلم يملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدو الله، أبقي الله عليك ما يخزيك! قال أبو سفيان: أعل هبل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أجيبوه ". قالوا: ما نقول؟ قال " قولوا: الله أعلي وأجل ". قال أبو سفيان. لنا العزي ولا عزي لكم. فقال الني صلى الله عليه وسلم: " أجيبوه " قالوا ما نقول؟ قال " قولوا: الله مولانا ولا مولي لكم ". قال أبو سفيان يوم بيوم بدر، والحرب سجال. قال الني صلى الله عليه وسلم: " أجيبوه "! قالوا: ما نقول؟ قال " قولوا: قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار "(1).
حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سار ورائهم بالجيش وأقام ثلاث ليال حتى سميت غزوة حمراء الأسد(2).
وكان في هذا أيضاً نفي دلالة مرفوضة وإثبات دلالة مقبولة.
فالوقوف بعد أحد ثلاث لنفي دلالة مرفوضة وهي قبول الهزيمة وإثبات دلالة مقبولة وهي الإصرار علي مواصلة الجهاد بعد حرمان العدو من تحقيق أي نتيجة سياسية لصالحه.
أنموذج:
حدث قام علي حفظ صورة الدعوة في نظر الناس كدلالة مطلوبة.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: " كنا في غزاه... فكسع(3) رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فسمعها الله رسوله صلى الله عليه وسلم قال: ما هذا؟
__________
(1) رواه البخاري وأحمد وأبو داود وابن حبان.
(2) روى ذلك ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر والسيوطي في الدر المنثور ص 179.
(3) الكسع: ضرب الدبر باليد أو بالرجل.(1/46)
فقالوا: كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار؟ فقال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعوها؛ فإنها منتنة. قال جابر: وكان الأنصار حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم أكثر، ثم كثر المهاجرون بعد فقال عبد الله بن أبي... أو عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق! قال النبي صلى الله عليه وسلم: دعه حتى لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه(1).
أنموذج:
حدث نشأ بدلالة مقبولة، بعد تجريده من دلالة مرفوضة.
بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج اليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي خير يا محمد: إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم علي شاكر، وإن كنت تريد المال فاسأل ما شئت، فترك حتى كان الغد ثم قال له، ما عندك يا ثمامة؟ قال: ما قلت لك: إن تنعم علي شاكر، فتركه حتى كان بعد الغد، فقال: ما عندك يا ثمامة؟ قال: عندي خير.
فقال: أطلقوا ثمامة. فانطلق إلي نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله (2)...
والملاحظة الأساسية في الحديث أن ثمامة ذكر الدم في اليوم الأول؛ ولذا تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم مربوطا؛ لأنه لو تركه بعد ذكره الدم لكان معني الموقف هو الطمع في الدية أو الفداء. وفي اليوم الثالث لم يذكر ثمامة الدم أو المال فقال: عندي خير فقال أطلقوا ثمامة.
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم، وقد تقدم قريبًا.
(2) الحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والبيهقي وأحمد، والقصة ذكرها ابن عبد البر في ترجمة ثمامة بن أثال الحنفي (1/205)، والحافظ في ترجمته وعزاها لابن إسحاق في المغازي والحميدي وقد تقدمت.(1/47)
إن القاعدة السياسية التي يتضمنها هذا الموقف هي شرط جوهري في الممارسة السياسية وإنشاء الموقف السياسي وهو: الوضوح ومعناه أن يكون للموقف تفسير واضح لا يحتمل غيره ولذلك ترك رسول الله ثمامة حتى أصبح لإطلاق سراحه تعبير واحد ومعني واحد هو الإكرام الذي لا يختلط به معني الطمع في الدية أو الخوف من الثأر.
أنموذج:
حدث قام علي حفظ وحدة الموقف، وهي من أخطر دلالات الموقف السياسي.
لما غدر يهود بني قريظة بالمسلمين في غزوة الخندق وتحالفوا مع المشركين كان لابد من إجلائهم؛ لأن وجودهم كان مرهوناً بالمعاهدة التي كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكن تحالف اليهود مع الأنصار قبل دخول الرسول صلى الله عليه وسلم والذي لم يزل قائما بعد دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كان يمثل مشكلة خطيرة...
فالواجب إجلاؤهم ٍوقتالهم... وهم حلفاء الأنصار في نفس الوقت... فما الموقف...؟
كان الموقف السياسي هو إحالة أمرهم إلي الأنصار ذاتهم... فطلب منهم رسول الله أن ينزلوا علي حكم من يختارون. وكان من الطبيعي أن يكون اختيارهم من الأنصار باعتبارهم حلفاءهم؛ فاختاروا سعد بن معاذ سيد الأنصار.
وكما تقول كتب السيرة: " فلما أصبحوا نزلوا علي حمك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتواثبت الأوس فقالوا: يا رسول الله إنهم موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت...(1/48)
فلما كلمته الأوس قال: ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلي؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذاك إلي سعد بن معاذ... فلما حكمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة أتاه قومه فحملوه علي حمار قد وطؤا له بوسادة من أدم، وكان رجلاً جسيماً جميلاً، ثم أقبلوا معه إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: يا أبا عمرو، أحسن في مواليك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم؟ فلما أكثروا عليه قال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم. فرجع بعض من كان معه من قومه إلي دار بني عبد الأشهل. فنعي لهم رجال بني قريظة، قبل أن يصل إليهم سعد، عن كلمته التي سمع منه.
فلما انتهي سعد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا إلي سيدكم... فقاموا إليه، فقالوا يا أبا عمرو، إن رسول الله قد أمر مواليك لتحكم فيهم؛ فقال سعد بن معاذ: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن الحكم فيهم لما حكمت؟ قالوا: نعم، قال: وعلى من ها منا، في الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو معرض عن رسول الله إجلالاً له؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم؛ قال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبي الذراري والنساء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة(1).
أنموذج:
حدث قام علي أساس توجيه أعداء الدعوة بما يناسب مصلحة الدعوة ذاتها.
__________
(1) أخرجه البخاري في الجهاد والسير، باب: إذا نزل العدو على حكم رجل (6/191/ح 3043) مختصرًا، ورواه أحمد بطوله، وذكره الهيثمي في المجمع، وقال الحافظ في الفتح (11/51) بعد أن عزاه لأحمد: وسنده حسن.
وذكر القصة ابن هشام في سيرته (3/258، 259)، والبيهقي في الدلائل (4/108).(1/49)
قال أبو داود حدثنا محمد بن داود بن سفيان أخبرنا عبد الرازق أخبرنا معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن كفار قريش كتبوا إلي ابن أبي ومن كان معه يعبد الأوثان من الأوس والخزرج ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بالمدينة: آويتم صاحبنا وإنا نقسم بالله لنقاتلنه أو لنخرجنه أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم ونسبي نساءكم فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم يريدون أن تقاتلوا بأبنائكم وإخوانكم؛ فلما سمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم تفرقوا(1).
وهذا الموقف يتضمن قاعدة سياسية هامة وهي توجيه أعداء الدعوة إلي اتخاذ الموقف المناسب للدعوة بمنطق المصلحة لهؤلاء الأعداء وهذا الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبدة الأوثان الذين اجتمعوا لقتاله. وهو ما فعله مع قريش ذاتها عندما بلغه أنهم خرجوا إليه بالعوذ المطافيل(2) لقتاله فقال: ويح قريش لقد أكلتها الحرب خلوا بيني وبين القبائل فإن كان الأمر لي عليهم كان شرفا لهم وإن كان الأمر لهم علي كان ما يرجون(3). نفس منطق المصلحة يتحدث به الرسول إلي أعدائه ليوجههم إلي الموقف المناسب للدعوة...
ب) أبعاد الممارسة السياسية (الحدود النهائية):
__________
(1) رواه أبو داود في الخراج والإمارة والفيء، باب: في خبر التضير (3/155/ح 3004)، ورواه البيهقي في الدلائل (3/178، 179).
(2) العوذ جمع عائذ وهي التي لم تلد، والمطافيل: جمع مطفل وهي التي لها طفل.
(3) ذكره ابن هشام في سيرته (3/356، 357) عن الزهري، ووصلها عبد الرزاق في مصنفه (97206) ومن طريقه البخاري في الشروط (5/388/ح 2731، 2732 – فتح) مطولا وفي المغازي (7/158/ح 4178، 4179) مختصرًا، ولمزيد من التخريج انظر كتاب " فتح ذي الجلال تخريج أحاديث الظلال ": (830).(1/50)
1) البعد الجماهيري للتصور السياسي " العامة ":
والعامة هي العنصر الأساسي من عناصر الأمة حيث أن الأمة هي: الحكم، والملأ، والعامة وهذا العنصر هو المحقق لمعني الأمة المرتبط بخصائصها القدرية.
وهذه الخصائص هي:
- العصمة: حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تجتمع أمتي علي ضلالة " (1) وقال: " لا يجمع الله هذه الأمة إلا علي هدي " (2).
- الرحمة: حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: " هذه الأمة مرحومة " (3).
- النصر: حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: " هذه الأمة منصورة " (4). وقال " لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر هذا الدين لا يضرهم من خالفهم " (5).
وهذه الخصائص مرهونة بالأمة بمعني السواد الأعظم باعتبارها العنصر الأساسي للأمة وكذلك الضمان الأخير لتحقيق معني الجماعة؛ ولذلك جاء معني الجماعة في مجموع النصوص الواردة بأربعة معايير؛ وكان منها معيار العامة (6).
__________
(1) الحديث له طرق كثيرة وروى معظمها ابن أبي عاصم في السنة (1/41/ح 82، 83، 84، 85)، وذكره الهيثمي في المجمع (5/218، 219).
والحديث رواه أحمد والطبراني في الكبير والحاكم في المستدرك وعبد بن حميد وأبو نعيم في الحلية.
(2) روى معناه الترمذي في الفتن، ما جاء في الشام (4/485/ح 2192).
(3) رواه أبو داود في الفتن والملاحم، باب: ما يرجى في القتل (4/103/ح 4287)، وأحمد في المسند (4/410)، وكلاهما عن أبي موسى والحاكم في المستدرك (4/283/ح 8649).
(4) رواه الترمذي في الفتن، باب: ما جاء في الشام (4/485، 2192) عن قرة.
(5) صحيح البخاري، وقد تقدم وأخرجه أحمد في المسند (4/101) عن أبي هريرة.
(6) وذلك عندما لا يكون العلماء الذين يمكن الرجوع إليهم، وذلك باعتبار أن العامة هم الكثرة الغالبة الملتزمة بأحكام الكتاب والسنة.(1/51)
ومما يجب إدخاله في الاعتبار وجوباً شرعياً جوهرياً هو أن العامة في دار الإسلام هي المقصودة - أساساً - بهذا المصطلح. أما العامة في دار الكفر فلا تنطبق إلا علي من كره ما عليه المجتمع من الكفر وهذه هي البراءة المذكورة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن كره فقد برء إلا من رضي وتابع...
فلا يمكن أن نتصور أن مجموع الراضين عن الكفر والتابعين لأهله الملتصقين بهم في كفرهم أو مجموع الهمج الرعاع أتباع كل ناعق هم المحققون لمصطلح السواد الأعظم.
قيمة التوجه للعامة:
والحقيقة أن التعامل مع العامة ترجع أهميته إلي ارتباطه المباشر بغاية الدعوة وهي الهداية.
وذلك أن غاية الدعوة هي أن يؤمن الناس. وعندما يتمكن أصحاب الدعوة من التعامل المباشر مع الناس.
فإن هذا الأمر تكون له أهمية ضخمة قد تقترب من أهمية محاولة إقامة السلطة الإسلامية؛ لأن هدف هداية الناس هو أهم أسباب قيام هذه السلطة.
كما نعلم أن إسقاط الحكم الجاهلي هو إزاحة لأهم وصول الحق إلي الناس، وعندما تنشأ ظروف الدعوة التي تتاح فيها إمكانية وصول الحق إلي الناس...
تكون قد تحققت نتيجة أصلية هي نفسها أهم نتائج إسقاط الحكم الجاهلي وإقامة الحكم الإسلامي.
ومن هنا كان من أهم معاني الفتح (1) معاهدة الحديبية؛ لأن هذه المعاهدة هي التي أتاحت هذا الاتصال المباشر بين المسلمين والكفار، فحقق هذا الاتصال إيمان تسعة أعشار المسلمين الذين كانوا في فتح مكة ومن هنا كان لمعاهدة الحديبية معني الفتح؛ لأن لها حقيقته وسببه وغايته وهي أن يؤمن الناس...
وكما ترجع قيمة فرصة الاتصال بالناس إلي نتيجتها ترجع إالي سببها.
إن الجاهلية لا تتيح هذه الفرصة... بغير حساب.
إنها تتيحها تسليما بأقل الأخطار عليها.
__________
(1) وذلك في تفسير قول الله عز وجل: (إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا)... الفتح هنا: معاهدة الحديبية.(1/52)
إن الجاهلية توازن كما وازنت قريش فوافقت علي المعاهدة، وأعطت الجاهلية فرصة الدعوة عندما أيقنت أن الدعوة أمر واقع لا يمكن مواجهته. وعندما أيقنت أن استنفاد طاقة الدعاة في الدعوة بالكلمة هو البديل الحتمي لممارسة القوة.
فالفرصة لها ثمن، والفرصة ليست رخيصة، والفرصة ليست عارضة...
إنها محسوبة وبدقة من جانب الطرف الجاهلي الذي سلم بحركة الدعاة المتجهة إلي الناس.
وباعتبار أن عنصر الكثرة هي أهم عناصر العوام؛ فإن تحقيق الإضلال لهم أصبح أكبر أهداف الشيطان؛ لأن الشيطان يسعي أن يموت أكثر الناس علي الكفر.
ومن هنا فإن التعامل المباشر مع الناس هو الذي يقطع علي الشيطان هدفه في الإضلال العام.
وقد تكون مهمة إسقاط الحكم الجاهلي بالصفة الانقلابية أخطر وأشد؛ ولكن دعوة الناس مباشرة تستوعب أكبر عدد ممكن من هؤلاء الناس.
وهذا هو الذي يعطي لأسلوب الاتصال المباشر بالناس أهمية وقيمة.
فليست الخطورة معني مرادفا للأهمية في منهج الحركة.
فقد يكون الأمر أقل خطورة وأكثر أهمية.
أو أقل أهمية وأكثر خطورة.
ضرورة التوجه... ذلك لأن التوجه هو الذي يحقق أكبر فرصة لاستخلاص الطاقات الصالحة للحركة... وهناك في واقع الناس معادن مغمورة يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: " خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا " (1).
إن التوجه إلي الناس... لا يعني أن يؤمن كل الناس... فإذا كانت الاستجابة قليلة فإن هذهالقلة هي النتيجة الطبيعية؛ وإدراك هذه الحقيقة يعالج اليأس الذي قد يطرأ علي أصحاب الدعوة إذا بذلوا جهداً ضخماً مع الناس.
__________
(1) أخرجه البخاري في المناقب، باب: قول الله تعالى: إن أكرمكم عند الله أتقاكم (6/608/ح 3493، 3496 – فتح) بلفظ: (الناس معادن وخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام... الحديث، رواه مسلم في الفضائل، وأحمد في المسند (4/101) جميعًا عن أبي هريرة.(1/53)
ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " الناس كإبل مائة... لا تكاد ترى فيه راحلة " (1).
كما يعالج الرسول صلى الله عليه وسلم اليأس في نفوس الدعاة إذا اقتربوا ممن يحمل كرهاً شديداً للدعوة بحيث يصبح هذا الامر سبباً في الأمل والرجاء؛ فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: " أشد الناس كرهاً لهذا الأمر هم أشد الناس حباً له بعد الدخول فيه " (2).
والقاعدة السياسية في تحقيق التأثير في العامة هي تحقيق مقتضيات الكيان الصحيح للدعوة:
1) البطولة وهي النموذج الإنساني السليم للتأسي والاقتداء إسلامياً.
2) التماسك. ويراجع فيه معاهدة الحديبية.
3) التضحية والبذل.
4) الثبات علي العقيدة الذي جعل مشركاً يسلم لما ضرب مسلماً ليقتله، فسمعه يقول: فزت ورب الكعبة.
أما أساسيات التوجه من حيث الاسلوب الحركي ومن حيث قضايا التبليغ.
فإن الأسلوب الحركي في دعوة العامة قائم علي قاعدة أن نغشي الناس كما قال الصحابي للنبي صلى الله عليه وسلم عند قدومه إلي المدينة: " اغشنا في مجالسنا " (3).
ومن كلمة " اغشنا " ينطلق أسلوب التعامل مع العامة.
ومن كلمة " غشي " تنشأ عناصر الأسلوب. ومن لسان العرب.
1) أن غشينا من ذلك شيء من القصد إلي الشيء والمباشرة والتوجه.
2) وفي حديث المسعي: فإن الناس غشوه أي ازدحموا عليه وكثروا.
3) الغشاء: الغطاء والعموم.
4) غشي الشيء: إذا لابسه.
__________
(1) أخرجه البخاري في الرقاق، باب: وضع الأمانة (11/341/6498) ومسلم في فضائل الصحابة، باب: الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة (6/16/101 – نووي)، وأحمد في المسند (2/109) جميعًا من حديث ابن عمر.
(2) رواه البخاري في المناقب (3496) وفيه: (تجدون من خير الناس أشد الناس كراهية لهذا الشأن حتى يقع فيه ".
(3) كما جاء في الصحيح ردًّا على طلب عبد الله بن أبي ابن سلول بألا يتحرك الرسول (ص) من المدينة... على لسان عبد الله بن رواحة.(1/54)
وبذلك يجتمع في معني (غشي) التوجه، والتعميم والازدحام والكثرة والملابسة.
يجب أن نغشي الناس فنذهب إليهم بكثرة... وليس مجرد التسلل إليهم.
ونغشاهم... وليس مجرد لقاءات عابرة.
والهدف...
هو أن تعيش الجماهير واقع الدعوة الذي يستردهم من أسر الإعلام الجاهلي.
الجماهير أسيرة... والدعوة تتطلب إنقاذهم واستردادهم وفك أسرهم.
والوسيلة: هي أن تصبح دعوة الجماهير موازية ومقابلة لمكر الليل والنهار.
السحر... البهارج والألوان الشيطانية التي تأخذ عيون الناس.
موازية للخبث الذي يصل إلي أعماق النفس البشرية.
للإغراء والفتنة... للكيد والدهاء.
الجماهير في وضع لا يطاق... نادراً ما تجد ناجياً من لوثته.
وحتى لا تخاف الجماهير عندما ترى الدعاة يقتربون منهم.
يجب أن يكون هذا الاقتراب من خلال المبررات الطبيعية لهذا الاقتراب.
فترتكز حركة التوجه إلي الجماهير من خلال مبرراته الطبيعية:
القرابة... الجواز... الصداقة... أو أي مبرر طبيعي آخر...
هذا هو الأساس في الأسلوب الحركي في التوجه للعامة.
ثم نأتي إلي الأساس في أسلوب عرض القضايا وهو البساطة.
الأمية:
والحد النهائي للبساطة هو مفهوم الأمية...
والأمية تعني التسليم بحقائق هذا الدين بغير مسلمات فكرية مسبقة؛ وعندئذ يخلو الملتقي من الخلط بين وحي السماء والثقافات الخاصة، ويعبر النبي صلى الله عليه وسلم عن حقيقة الأمية بقوله: " نحن قوم أميون الشهر وهكذا وهكذا " (1) مشيراً بيده وأصابعه.
يعني أنه أشار بيده ثلاث مرات:
في المرة الأولي والثانية يبسط أصابعه كلها دلالة علي عشرة أيام وعشرة أيام، وفي الثالثة بسط أصابعه عدا واحداً؛ للدلالة علي رقم (9) أي أن الشهر (29) يوماً.
ولعل أهم أمثلة التعالي الجاهلي بالثقافة المقابلة للأمية... كانت الثقافة اليونانية والرومانية.
__________
(1) صحيح البخاري... كتاب الصوم (4/151/ح 1913 – فتح)، ولفظه: (إنا أمة أمية... "، ومسلم (761) وأبو داود والنسائي.(1/55)
وكانت هذه الثقافة هي بذاتها مادة اختلاط حقائق الدين المسيحي المنزلة من عند الله.
وكانت سبباً مباشراً في دخول هذه الوثنية إلي الدين المسيحي والترحيب بها لكثير من بلاد الدين المسيحي ذاته.
وكما تكون البساطة أساسا في أسلوب عرض قضايا الدعوة كذلك تفعل الجاهلية وفي مواجهة قضايا الدعوة.
الارتكاز الجاهلي علي خصائص الجماهير
هذا هو النمرود الذي حاج إبراهيم ربه يقول: " أنا أحيي وأميت) فينتقل سيدنا إبراهيم إلي دليل آخر ولم يكن هذا تسليماً بإمكانية ذلك ولكنه اليقين بإمكانية خداع الجماهير بأي صورة من الصور التي وردت في التفسير. وهي أن يأتي بأثنين محكوماً عليهما بالإعدام فيعدم أحدهما، ويترك الآخر، ويقول: أنا أحيي وأميت. فتصرخ الجماهير المقتنعة بذلك الموقف الوهمي والمتحمسة لموقف الملك الكذاب.
هذه هي الجماهير في ظل الجاهلية.
وهذا فرعون يقول: (يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب) إنما يحقق مضاعفة الخضوع؛ لأنهم يعرفون هامان كما يعرفون فرعون.
تتضاعف رموز السيطرة في إحساس الجماهير.
هذا هو النمرود الذي حاج إبراهيم في ربه يقول: " أنا أحيي وأميت "... فينتقل سيدنا إبراهيم إلى دليل آخر، ولم يكن هذا تسليمًا بإمكانية ذلك، ولكنه اليقين بإمكانية خداع الجماهير بأي صورة من الصور التي وردت في التفسير... وهي أن يأتي باثنين محكومًا عليهما بالإعدام فيعدم أحدهما ويترك الآخر، ويقول: أنا أحيي وأميت. فتصرخ الجماهير بذلك الموقف الوهمي والمتحمسة لموقف الملك الكذاب.
هذه هي الجماهير في ظل الجاهلية.
وهذا هو فرعون يقول: " يا هامان ابن لي صرحًا لعلي أبلغ الأسباب "... إنما يحقق مضاعفة الخضوع؛ لإنهم يعرفون هامان كما يعرفون فرعون.
تتضاعف رموز السلطة في إحساس الجماهير.
وعندما يقول: " ابن لي صرحًا " يبدو أمام الجماهير في غاية الموضوعية والمنطقية، وكأنه سيسر مع القضية خطوة خطوة، وأمام الناس.(1/56)
وبذلك تصبح الجماهير الساذجة أمام الفضاء... يضع أعينهم أمام الفراغ... ماذا بعد الصرح؟! لا شيء... وهذه هي النتيجة المطلوبة.
أن يعتقد الناس أنه لا شيء في السماء وأن موسى كاذب.
إن البساطة أمر واضح محقق.
إن العامة تنخدع بمنتهى البساطة.
ألم يجعل لهم السامري عجلاً جسدًا له خوار؟ وبنفس منطق السامري واصل الصليبيون الخداع.
وهذا فصل حيل الرهبان:
وفيها يقول ابن تيمية: " وقد صنف بعض الناس مصنفًا في حيل الكهان، مثل الحيل المحكية عن أحدهم في جعل الماء زيتًا بأن يكون الزيت في جوف المنارة فإذا نقص صب فيها ماء فيطفو الزيت على الماء؛ فيظن أن نفس الماء انقلب زيتًا.
ومثل الحيلة المحكية عنهم في ارتفاع النخلة، وهو أن بعضهم مر بدير راهب... أسفل منه نخلة فأراه النخلة صعدت شيئًا حتى حازت الدير فأخذ من رطبها، ثم نزلت حتى عادت كما كانت، فكشف الرجل الحيلة... فوجد النخلة في سفينة في مكان منخفض إذا أرسل عليه الماء امتلأ حتى تصعد السفينة، وإذا صرف الماء إلى موضع آخر هبطت السفينة.
ومثل الحيلة المحكية عنهم في التكحل بدموع السيدة مريم، وهو أنهم يضعون كحلاً في ماء متحرك حركة لطيفة، فيسيل حتى ينزل من تلك الصورة فيخرج فيظن أنه دموع.
ومثل الحيلة التي صنعوها بالصورة التي يسمونها القونة بصيدنايا، وهي أعظم مزاراتهم بعد القيامة وبيت لحم، حيث ولد المسيح وحيث قبر – في زعمهم – فإن هذه هي صورة السيدة مريم، وأصلها حشة نخلة سقيت بالأدهان حتى سمنت وصار الدهن يخرج منها مصنوعًا يظن أنه من بركة الصورة.
ومن حيلهم الكثيرة... النار التي يظن عوامهم أنها تنزل من السماء في عيدهم في قمامة... وهي حيلة قد شهدها غير واحد من المسلمين والنصارى ورأوها بعيونهم أنها نار مصنوعة يضلون بها عوامهم، يظنون أنها نزلت من السماء، ويتبركون بها، وإنما هي صنعة صاحب محال وتلبس "(1).
__________
(1) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح.(1/57)
وقد أورد ابن كثير رحمه الله عند تفسيره قول الله تعالى: " يعلمون الناس السحر) حكاية عن بعض الرهبان، وهو أنه سمع صوت طائر حزين الصوت ضعيف الحركة، فإذا سمعته الطيور ترق له فتلقي في وكره من ثمر الزيتون ليتبلغ به، فعمد هذ الراهب إلى صنعة طائر على شكله، وتوصل إلى أن جعله أجوف فإذا دخلته الريح يسمع منه صوتًا كصوت ذلك الطائر، وانقطع في صومعة ابتناها، وزعم أنها على قبر بعض صالحيهم، وعلق ذلك الطائر في مكان منها، فإذا كان زمان الزيتون فتح بابًا من ناحيته، فتدخل الريح إلى داخل هذه الصورة فيسمع صوتها كل طائر في شكله أيضًا، فتأتي الطيور فتحمل من الزيتون شيئًا كثيرًا فلا ترى النصارى إلا ذلك الزيتون في هذه الصومعة، ولا يدرون ما سببه، ففتنهم بذلك وأوهمهم أن هذا من كرامات صاحب هذا القبر... عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة.
وبعد عرض البعد الجماهيري للتصور السياسي... قيمته وضرورته وأسس ممارسته، فإنه يجب أن يتقرر:
أن العمل الجماهيري لا يمثل بديلاً عن العمل العسكري ولا نقابلاً له ولا مؤثرًا فيه.
ذلك لأن حسابات العمل الجماهيري قائمة على هدف استيعاب " القوة الجاهلية " في تيار الحركة الإسلامية، ولأن هدف العمل العسكري هو إضعاف هذه القوة وإفناؤها.
وفي حالة العمل الجماهيري المحقق [لاستيعاب] القوة الجاهلية.
وفي حالة العمل العسكري المحقق [لإفناء] القوة الجاهلية التي لم يستوعبها العمل الجماهيري.
لن تكون هناك [قوة جاهلية] رافضة لإقامة الحكم الإسلامي.
ولكن السنة الثابتة للتدافع بين الجاهلية والإسلام لن تترك التيار الإسلامي يستوعب الواقع الجاهلي بجماهيره وقوته دون أن تمنعه.
ومن هنا نشأ مفهوم حتمية العمل العسكري... بحيث يصل هو الآخر إلى مرحلة السنة الثابتة للعمل الإسلامي.(1/58)
ولذلك قرر ورقة بن نوفل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة المعاداة باعتبارها سنة ثابتة من سنن الثوابت، وليس باعتبارها حقيقة مستخلصة من خبرة الواقع.
فكانت حقيقة التدافع هي الحقيقة الأولى التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم بعد حقيقة الوحي من حديث ورقة، إذ قال له بعد إخباره بالنبوة: يا ليتني كنت جذعًا إذ يخرجك قومك. قال: " أو مخرجيَّ هم؟! ".
قال: نعم... ما أتى أحد بمثل ما أتيت به إلا أُخرج وعُودي(1).
وكما يكون الارتكاز على بساطة الجماهير في الإضلال يكون الارتكاز على تحقيق العصبية الجماهيرية للجاهلية.
إن تحقيق عصبية العامة للحكم الجاهلي مهمة صعبة، ولكن الجاهلية تمارسها بكل دقة، ونموذج تلك الممارسة هو الممارسة الفرعونية، وعناصر تلك الممارسة هي أن يشعر العامة أنهم أصحاب السلطة (شركاء في القرار) وهذه فكرة فرعون عندما قال: " فماذا تأمرون ".
ويبلغ إحساس العامة بالسلطة الكاملة عندما يقول لهم فرعون: " ذروني أقتل موسى ". إن فرعون يقول للعامة: ذروني. ودون أن يستطيع أحد أن يمنعه... يطلب فرعون من العامة أن يتركوه... يطلب التفويض الشعبي في اتخاذ القرار المناسب تجاه موسى، وأن يشعر العامة أنهم أصحاب المصلحة " يريد أن يخرجكم من أرضكم ".
أن يشعر العامة أنهم أصحاب السياسة " ويذهبا بطريقتكم المثلى "... سياستكم ومذهبكم السياسي.
أن يشعر العامة أنهم أصحاب القضية والمبدأ " إني أخاف أن يبدل دينكم ".
أن يشعر العامة أنهم حماة الواقع وأصحاب الإصلاح.
إن أهم عناصر العصبية هي إنشاء الخوف على النظام الحاكم غي نفوس الناس؛ ولذلك يعبر الناس عن الخوف قائلين: " أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك ".
وحينئذٍ يكون طمأنة الناس هو واجب النظام " قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون ".
__________
(1) صحيح البخاري كتاب بدء الوحي (1/30/ح 3 – فتح).(1/59)
ومن أهم عناصر العصبية أن يشعروا بأنهم محور النظام، ومن هنا كان الضمير يعود على الناس: " أرضكم – طريقتكم – دينكم... ".
وبذلك يتبين أن إطار التعامل الجاهلي مع الجماهير يقوم على البساطة المرتكزة على سذاجة الجماهير في إضلالهم وتحقيق عصبيتهم للضلال عن الحق.
2) البعد العسكري للتصور السياسي:
سياسة القوة:
وهذا البعد من أخطر أبعاد التصور السياسي للحركة الإسلامية؛ وذلك لأن المستقر في الأذهان أن السياسة تقابل القوة، ولكن التصور السياسي يتضمن أن هذه السياسة توافق القوة أو توازيها في مهمة تحقيق الغاية النهائية للدعوة، ومن هذه الحقيقة ينطلق هذا البعد.
أما تحقيق ذلك في مجال الممارسة فإنه يقتضي عدة أمور:
تحليل القوة العسكرية إلى عناصرها الأساسية في التنفيذ والاستفادة بهذه العناصر بغرض التأثير في الواقع الجاهلي دون الاضطرار إلى الممارسة الفعلية للقوة.
وتفسير ذلك:
أن الجاهلية تعتبر الحركة الإسلامية قوة سياسية طالما أيقنت بقدرتها على الممارسة العسكرية.
والقوة العسكرية لها عناصر لا تقوم إلا بها، وإدراك الجاهلية لتوافر هذه العناصر لدى الحركة الإسلامية ينشئ تأثيرًا عند الجاهلية لا يقل شأنًا عن الممارسة الفعلية للقوة العسكرية.
وهذه العناصر هي:
الزعامة... والولاء المطلق لها.
والكثرة العددية القوية.
والمستوى المرتفع للكفاءة العملية.
والاستعداد التام للبذل والتضحية.
كذلك تحليل القوة العسكرية إلى عناصرها الأساسية في التأثير وتحقيق هذه العناصر بصورة مباشرة في الواقع... فتحقق آثار القوة العسكرية دون ممارستها وأهمها الرهبة وفرض الإرادة...(1/60)
ولما كان تحقيق هذه العناصر في واقع الدعوة – سياسيًّا – يعتبر أهم ضروريات التصور السياسي للقوة؛ لذلك كانت المعاهدات باعتبارها مجالاً للربط بين السياسة والقوة هي أيضًا المجال الفعلي لإبراز هذه العناصر في الواقع... مثلما كان في معاهدة الحديبية، حيث تحقق فيها مجمل العناصر المذكورة.
كما تقول كتب السيرة: خروج عروة بن مسعود زعيم ثقيف حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجلس بين يديه ثم قال:
يا محمد... أَجَمَعْتَ أوشاب الناس ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفُضَّها بهم، إنها قريش قد خرجت معها المعوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبدًا، وايم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدًا. قال: وأبو بكر الصديق خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد، فقال: امصص بظر اللات، أنحن ننكشف عنه؟! قال: من هذا يا محمد؟ قال: هذا ابن أبي قحافة. قال: أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها، ولكن هذه بها. قال: ثم جعل يتناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكلمه، والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديد، قال: فجعل يقرع يده إذا تناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: اكفف يدك عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن لا تصل إليك. فيقول عروة: ويحك! ما أفظك وأغلظك! قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له عروة: من هذا اي محمد؟ قال: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة. قال: أي غدر، وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس. فقاام من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رأى ما يصنع به أصحابه... لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه، ولا يبصق بصاقًا إلا ابتدروه، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه، فرجع إلى قريش فقال: يا معشر قريش... إني قد جئت كسرى في ملكه وقيصر في ملكه والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكًا في قوم قط مثل محمد في أصحابه، ولقد رأيت قومًا لا يسلمونه(1/61)
لشيء أبدًا فرُوا رأيكم(1).
فنلك هي العناصر القاتلة للجاهلية... المسلمون مقاتلون في كل لحظة، ولا ينتظرون فقط إلا الإذن بالقتال، وهذا تفسير التسوية بين من قضى نحبه ومن ينتظر... بين من قاتل ومن ينتظر القتال، فلكليهما نفس الأثر في قلوب الأعداء... وبذلك يكون للسياسة أثر الدماء في تحقيق الهدف.
حماية الدعوة من الاصطباغ بالصبغة العسكرية البحتة.
ولا نعني بذلك نفي هذه الصبغة، ولكن نعني طغيان هذه الصبغة على الدعوة كحركة هداية ورحمة...
وبذلك يعني مفهوم سياسة القوة: الحفاظ على الهدف النهائي للدعوة من خلال خط الممارسة العسكرية، بحيث لا تنفصل هذه الممارسة عن هذا الهدف النهائي... وذلك باعتبار أن السياسة هي التي تتبنى تحقيق هذا الهدف من خلال أساليب الحركة المتعددة.
- إن تقرير مبدأ القوة في التصور السياسي لا يعني أن توقفها تخلٍّ عن مبدأ من مبادئ الدعوة؛ لأن الممارسة والتوقف مرتبط بالهدف والواقع... والتصور السياسي هو الحكم المنهجي لتلك الممارسة.
- إن تحقيق التعاطف بتحقيق المنفعة والإقناع العقلي والقدوة الصالحة والصبر على الأذى والبذل والتضحية... هو الأساس في إقامة سلطان الحق على النفوس.
وكلها عوامل محققة لغاية الهداية، والقوة واحدة من هذه العوامل.
وبذلك يكون تحقيق هذه العوامل مع مجمل العناصر المذكورة الناشئة عن تحليل القوة العسكرية تنفيذًا أو تأثيرًا هي إطار التصور السياسي للقوة.
ولما كانت الهداية هي الهدف النهائي للدعوة... كانت كذلك هي القيمة العليا للمارسة السياسية، وكانت سياسة القوة هي تحقيق الهداية بالقتال.
ومقتضى ذلك يمثل أهم عناصر سياسة القوة:
- التبليغ قبل القتال.
- دعوة الأسرى.
- قبول استجارة المشرك.
- الجنوح للسلم إذا جنحوا له.
__________
(1) روى القصة البيهقي في الدلائل (4/102، 103)، وذكرها ابن هشام في السيرة (3/360، 361).(1/62)
- قبول توبة من لم تصله يد القدرة: " إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم ".
وفي إطار حماية الدعوة من الاصطباغ بالصبغة العسكرية البحتة تتحدد العلاقة بين أساليب الحركة المتعددة والهادفة إلى تحقيق الغاية النهائية للدعوة بأساس نفسي ثابت.
- الحرص على إسلام الكفار بدلاً من قتلهم وهم على الكفر.
- ترجيح الهداية على الغنائم.
- الحزن على كفر الناس والأسى على ضلالهم.
- التجرد من الشعور بالانتقام والقصاص.
إن الظهور العسكري البحت أو الغالب للدعوة هو الذي سيحرمها من التعاطف الذي يمثل الجذور الحقيقية لجحم كيانها في الواقع.
إن المعيار النهائي لبعد القوة هو حماية الدعوة من محاولة الجاهلية الهادفة إلى اقتلاع الدعوة من الواقع أو الاستهانة بها في التعامل.
أما وصول الدعوة إلى تعامل الجاهلية كطرف له اعتباره العظيم فإن هذا يقتضي فكرًا سياسيًّا تحافظ به الدعوة على هذه المرحلة.
3) البعد الاجتماعي للتصور السياسي:
اتفقنا في النظرية الساسية على أن التوافق بين الواقع الحركي والاجتماعي يعتبر شرطًا أساسيًّ في صحتها، وهذا التوافق – كشرط في صحة النظرية السياسية – هو الذي تحاول الجاهلية القضاء عليه من خلال إنشاء التناقض بين الجانب الحركي والجانب الاجتماعي للدعوة.
والتناقض الذي تحاول الجاهلية إنشاءه يتمثل بصورة أساسية في الإسقاط الاجتماعي للدعوة، هذا الإسقاط الذي يظهر الدعوة بصورة متردية ومنحطة لا توافق مع مستوى قضية الدعوة وواقعها الحركي.
ومحاولة الإسقاط الاجتماعي للدعوة أسهل من مواجهتها فكريًّا؛ ذلك لأن هذه المحاولة سيكون التعامل فيها مع الإنسان بضعفه ونقائصه في إطار الدعوة، الأمر الذي يختلف عن المواجهة الفكرية التي سيكون التعامل فيها مع النصوص الشرعية الثابتة.
وكما أنها أسهل فهي أخطر...(1/63)
ذلك لأن الناس في البداية لا يتعاملون مع الدعوة كقضية فكرية قبل رؤيتهم لصورة الدعوة الاجتماعية... وعلى هذا فإن الإسقاط الاجتماعي يعني قطع الصلة وبصورة نهائية بين الناس والدعوة.
ومحاولة الإسقاط الاجتماعي للدعوة بدأت من الأيام الأولى.
وكانت هذه البداية هي وضع واقع الدعوة في ميزان التصور الاجتماعي الجاهلي.
فاعتبرت الجاهلية أن النبي صلى الله عليه وسلم أبتر؛ لأنه لا ولد له.
وكما اعتبرت النبي صلى الله عليه وسلم لا يستحق النبوة؛ لأنه ليس رجلاً من القريتين عظيم.
واعتبرت أن الدعوة ليست صحيحة؛ لأن أتباعها فقراء.
ولكن هذه البداية لم تنجح؛ لأن الدعوة فرضت تصورها الاجتماعي، وأسقطت التصور الاجتماعي الجاهلي ذاته.
ولعل أبرز مواقف المحاولة الجاهلية كان عند المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار؛ ذلك لأن المؤاخاة كانت علاقة اجتماعية كاملة تحققت كمقتضى للتوافق بين الجانب الحركي والاجتماعي للدعوة، فبلغت الجاهلية أقصى ما عندها في مواجهة هذه المؤاخاة سواء من جانب المشركين أو المنافقين أو اليهود، ولكن المحاولات فشلت حتى تحقق الهدف من المؤاخاة ثم تقرر العودة بالعلاقة الاجتماعية إلى أساسها الطبيعي، وهو صلة الدم والقربى بعد أن كان الأساس الحركي هو أساس العلاقة في موقف المؤاخاة(1).
وإذا التقطنا هذا الخيط فإننا يندرك أن واقع الدعوة - منذ البداية حتى الواقع القائم الآن- كان من ناحية الدعوة محاولة لتحقيق التوافق بين الجانب الحركي والاجتماعي بإنشاء الواقع الاجتماعي المتناسب مع القضية الإسلامية فكريًّا وحركيًّا.
وكان من ناحية الجاهلية هو إحداث التناقض بين هذين الجانبين بإسقاط الدعوة اجتماعيًّا، وبهذا الإدراك يمكننا تحليل الواقع القائم الآن للدعوة بقدر من التفصيل.
__________
(1) وهو معنى قول الله عز وجل: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله).(1/64)
فمن ناحية الدعوة تمثل الخلل الاجتماعي – أول ما تمثل – في مجرد إعلان الولاء للتجمع واتجاهه من جانب الأفراد المنتمين إلى الدعوة لتحقيق الارتباط العضوي بالتجمع دون النظر إلى الجانب التربوي والأخلاقي لهؤلاء الأفراد.
وكانت هذه مرحلة وسط بين الوضع المثالي ووضع الانحطاط الكامل المتمثل في المرحلة الثالثة.
وهي مرحلة الانتساب إلى الاتجاه الإسلامي بمجرد الهدي الظاهر.
" الجلباب – اللحية – الحجاب "...
وكان مدخل هؤلاء المنتسبين هو مجرد هذا الالتزام الشكلي... دون أن يكون هناك الكيان المستقطب القائم على مهمة التربية والتأصيل الأخلاقي.
يضاف إلى هذا الخطر خطر آخر يساويه، وهو الشعور غير الشرعي بالذات الناشئ عن الاعتزاز بالانتساب للدعوة صاحبة الأحداث المؤثرة في الواقع.
هذا الاعتزاز الذي وجد من غير مشاركة فعلية في الأحداث ةتحمل مسؤليتها... والذي سبب ضررًا نفسيًّا بالغًا؛ لأنه انتساب يفتقد المسؤلية والتضحية والبذل.
هذا الشعور الذي أضاع الفضل الحقيقي لأصحابه في واقع الدعوة مما أحدث اضطرابًا في العلاقات الاجتماعية وأحدث هذا الاضطراب بدوره ظاهرة الفوضى الاجتماعية التي تعاني منها الدعوة معاناة شديدة.
فأصبح الجميع دعاة وذوي تاريخ.
الأمر الذي يتنافى مع قاعدة ارتباط الفضل الاجتماعي في واقع الدعوة بالسبق والتضحية والعمل في سبيل الله.
ثم يضاف إلى شكلية الالتزام... وضياع حق أصحاب الفضل في واقع الدعوة.
خط التشتت الاجتماعي المترتب على معاناة الاعتقالات والسجون والاحتياج المادي الذي يسبب الإرهاق النفسي الشديد.
ثم كان الخطر الأكبر من خلال عملية التزاوج تحت مظلة هذه الأخطار المتعددة... هذا التزاوج:
في واقع انحطاط الأخلاق وضياع الأمانة.
وفي واقع الانتساب الشكلي بالهدي الظاهر فقط.
وفي واقع الشعور بالغرور والشعور غير الشرعي بالذات وضياع حق أصحاب الفضل.(1/65)
وفي واقع الاحتياج المادي والإرهاق النفسي الناشئ عن السجن والاعتقال.
واقع هذا التزاوج...
أوجد أسرة أصبحت هي بذاتها مشكلة، وأصبحت محاولة علاجها الشغل الأساسي لأصحاب الدعوة، كما أصبحت معالجة آثار إخفاقها بعد الإخفاق في معالجتها... عبئًا لا يطاق.
ثم يأتي بعد ذلك الدور الجاهلي القائم على استغلال هذه الأخطاء بأبشع صورممكنة...
أما من ناحية الجاهلية فقد جاء منها أخطر الأساليب في محاولة الإسقاط الاجتماعي للدعوة، وهي إنشاء العناصر المتشبهة بالمظهر الإسلامي وممارسة السلوك الجاهلي بهذا المظهر... وعندما يراهم الناس تسقط مهابة هذا المظهر من نفوسهم، ويضيع تقدير الناس لسماتهم وشكلهم، وسواء كان انتشار هذه العناصر أمرًا مقصودًا أو حدث بصورة تلقائية، فإن النتيجة واحدة.
فكيف تحمي الدعوة نفسها من هذه النتيجة؟
لقد كان الإسلام قادرًا على حماية نفسه من هذه النتيجة يوم كان حكمه غالبًا وأحكامه سائدة، وكان أهم هذه الأحكام هو منع غير المسلمين من التشبه بالمسلمين.
وكان من أخطر هذه الأساليب الجاهلية كذلك هي إيقاع الضرر على العامة وتفسير هذا الضرر على أنه نتيجة حتمية للدعوة؛ ليحدث الانفصال بين العامة والدعوة...
مثل المقاطعة الاجتماعية التي فرضتها قريش على بني عبد المطلب؛ حتى يمارسوا ضغطًا على أصحاب الدعوة.
ولعل حادثة مقاطعة بني عبد المطلب – المذكورة آنفًا – بإقاع أضرار عليهم بصفة عامة بسبب أصحاب الدعوة لإيجاد الكُرْه، وإنشاء الحاجز مثال تاريخي على هذا الأسلوب.
مفهوم الدفاع الاجتماعي:
والآن لا بد من الدفاع الاجتماعي عن الدعوة.
وهذا المفهوم له عناصر يمكن تحديده من خلال المواجهة... المحاولة التي تمارسها الجاهلية لإسقاط الدعوة اجتماعيًّا.(1/66)
وقد اتفقنا أن أول تلك العناصر هو افتقاد الكيان الواحد المسيطر على الامتداد الاجتماعي، ولما كان وجود الكيان الواحد مرتبطًا بمشكلة الفكر والمنهج فإن المعالجة الاجتماعية يجب أن تنفصل عن هذه المشكلة... بمعنى ضرورة إنشاء سلطة اجتماعية تتولى مواجهة المشكلات الاجتماعية في إطار بعيد عن مشكلة الاختلاف الفكري.
وهذا ما فسره الإمام الجويني حيث قال في كتاب غياث الأمم في التياث الظلم: أن يتولى كل عالم في ناحية من النواحي أو حي من الأحياء السلطة المفقودة للأمراء في هذا الحي.
ثم تأتي مواجهة ضياع حق أصحاب الفضل بترسيخ قواعد التعامل الاجتماعي المحددة لهذا الحق:
- حق العلماء الذي يوجب تقديمهم وتوقيرهم وإيثارهم على أنفسنا.
- حق أصحاب السبق الزمني وهو المقرر في قول الله: " والسابقون الأولون من المهاجرين... ".
ومفهوم الدفاع الاجتماعي يوجب تحديد أساس التعامل الاجتماعي بين أصحاب الدعوة والواقع القائم.
ويجب أن يتقرر ابتداءً أن الناس ينظرون إلى أصحاب الدعوة من خلال مفهوم المثالية؛ لأنهم يمثلون في نظرهم واقع التطبيق الصحيح للدين.
وظهور أي نقيصة أو خطأ سلوكي لن ينظر له على أنه أمر طبيعي محتمل، ولكن سينظر إلى صاحبه على أنه إنسان سيئ يحاول الوصول إلى مكانة لا يستحقها لينال تقديرًا بغير حق.
كما أن الناس ينظرون إلى أصحاب الدعوة على أنهم الفئة التي من الممكن أن تحكمهم في يوم ما فيرغبون بصورة قوية في الاطمئنان على أمانتهم وسماحتهم وحسن خلقهم؛ لأن أي خطأ يراه الناس يرتبط في أذهانهم بهذا الاحتمال.
فيقول كل من يرى الخطأ في نفسه: هكذا يفعل أصحاب الدعوة لعامة الناس عند حدوث أية مشكلة أو خصومة.
وعند حدوث أية مشكلة اجتماعية بين الناس وبين أحد أفراد الدعوة يجب أن تأخذ هذه المشكلة صورة العداء بين الجاهلية والإسلام.
لأن احتمال خطأ هذا الفرد المنتسب للدعوة قائم أمام الآخرين.(1/67)
وهذا هو مضمون الموقف الذي نزل فيه قول الله عز وجل: " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما * واسغفر الله إن الله كان غفورا رحيما * ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما ".
حيث جاء في تفسير الآية: إن نفرًا من الأنصار غزوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسرق درع لأحد الأنصار، فحامت الشبهة حول رجل من الأنصار من أهل بيت يقال لهم بنو أبيرق، فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن طعمة بن أبيرق سرق درعي. فلما رأى ذلك السارق عمد إلى الدرع فأقاها في بيت رجل يهودي اسمه زيد بن السمين، وقال لنفر من عشيرته: إني غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان، فانطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن صاحبنا بريء وإن الذي سرق الدرع فلان، وقد أحطنا بذلك علمًا؛ فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس... فنزلت الآية تبرئ اليهودي.
وفي مثل هذه الحالة يتمثل واجب نصرة الأخ في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " انصر أخاك ظالًا أو مظلومًا ". في رد الأخ عن ظلمه(1) " فإن ذلك نصره ".
إن معالجة أي مشكلة عارضة بتلك القاعدة يكون بذاته أفضل أسلوب للدعوة.
أما إعطاء المشكلة الاجتماعية العارضة أبعاد العداء بين الجاهلية والإسلام فذلك أمر باطل.
__________
(1) أخرجه البخاري في المظالم، باب أعن أخاك ظالما أو مظلوما (5/117/ح 2443 – فتح) عن أنس مرفوعًا، وعند مسلم عن جابر وفيه: (ةلينصر الرجل أخاه ظالما أو مظلوما... " الحديث.(1/68)
لأن صورة العداء بأبعاده الكاملة لا تتفق مع المشكلات العارضة، مثلما حدث مع موسى والذي استغاثه... لقد كانت مشكلة عارضة حدثت بين رجل من بني إسرائيل ورجل من الأقباط، وتصرف فيها موسى عليه السلام بصفة شخصية لا تتعلق بمنهج الدعوة ومرحليتها فقتل القبطي، واعترف بأن هذا العمل من الشيطان، ولكنه كان سببًا في غرق فرعون وجنوده بصفة منهجية ترتبط بمنهج الدعوة ومرحليتها، وكان هذا عملاً طيبًا مقبولاً، ولم يكن من عمل الشيطان.
ومما يجب الحذر منه هو أن تؤثر الضخامة العددية لأصحاب الدعوة على الإحساس بالاستضعاف؛ لأن الضخامة العددية تسبب اعتزازًا وثقة تؤثر في أسلوب معالجة المشكلات العارضة بين أفراد الدعوة والجاهلية.
فالاستضعاف هو مرحلة ما قبل الوصول للسلطة.
حتى لو كان هناك قوة شخصية أو كثرة عددية.
ومعالجج المشكلة العارضة يجب أن ترتبط بمرحلة الاستضعاف للدعوة ولا يجوز تجاوزها.
وقد يكون للقوة الشخصية نفس أثر الضخامة العددية في إضعاف الشعور بالاستضعاف.
وهذا عمر بن الخطاب لم يكن يدانيه أحد في قوته الشخصية، حتى إنه هدد من يحول تتبعه في الهجرة فقال: " من أراد أن تيتم أولاده، وتتأرمل زوجته، أو تثكله أمه فليتبعني)(1). ومع ذلك كان مستضعفًا؛ لأنه كان مرتبطًا بالجماعة المستضعفة التي لم يُمَكن لها بعد.
والواقع أن هناك حديثًا قدسيًّا يعالج قضية المحافظة على البناء الاجتماعي بعد فترة الاستضعاف.
وإليك نصه أولاً:
__________
(1) ذكره صاحب كنز العمال وعزاه لابن عساكر (هامش أحمد: 4/287)، وذكره صاحب حياة الصحابة (1/525) عن علي.(1/69)
عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُطَرّفِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الشّخّيرِ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ، ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ: " أَلاَ إِنّ رَبّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمّا عَلّمَنِي، يَوْمِي هَذَا. كُلّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْداً، حَلاَلٌ. وَإِنّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلّهُمْ. وَإِنّهُمْ أَتَتْهُمُ الشّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ. وَحَرّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ. وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَاناً. وَإِنّ اللّهَ نَظَرَ إِلَىَ أَهْلِ الأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ، عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إلاّ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَالَ: إِنّمَا بَعَثْتُكَ لأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ. وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَاباً لاَ يَغْسِلُهُ الْمَاءُ. تَقْرَأُهُ نَائِماً وَيَقْظَانَ. وَإِنّ اللّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرّقَ قُرَيْشاً. فَقُلْتُ: رَبّ إِذاً يَثْلَغُوا رَأْسِي فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً. قَالَ: اسْتَخْرِجْهُمْ كَمَا اسْتَخْرَجُوكَ. وَاغْزُهُمْ نُغْزِكَ. وَأَنْفِقْ فَسَنُنْفِقَ عَلَيْكَ. وَابْعَثْ جَيْشاً نَبْعَثْ خَمْسَةً مِثْلَهُ. وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ. قَالَ: وَأَهْلُ الْجَنّةِ ثَلاَثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدّقٌ مُوَفّقٌ. وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلّ ذِي قُرْبَىَ، وَمُسْلِمٍ. وَعَفِيفٌ مُتَعَفّفٌ ذُو عِيَالٍ. قَالَ: وَأَهْلُ النّارِ خَمْسَةٌ: الضّعِيفُ الّذِي لاَ زَبْرَ لَهُ، الّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعاً لاَ يَتْبَعُونَ أَهْلاً وَلاَ مَالاً. وَالْخَائِنُ الّذِي لاَ يَخْفَىَ لَهُ طَمَعٌ، وَإِنْ دَقّ إِلاّ خَانَهُ. وَرَجُلٌ لاَ يُصْبِحُ وَلاَ يُمْسِي إِلاّ وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ ".(1/70)
وَذَكَرَ الْبُخْلَ وَالْكَذِبَ وَالشّنْظِيرُ الْفَحّاشُ، وَإِنّ اللهَ أَوْحَىَ إِلَيّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتّىَ لاَ يَفْخَرَ أَحَدٌ علىَ أَحَدٍ، وَلاَ يَبْغِي أَحَدٌ عَلَىَ أَحَدٍ)(1).
والملاحظة العامة في هذا الحديث هو معالجته لعدة مراحل مرتبطة ببعضها:
1) نظرة شاملة لمرحلة ما قبل البعثة وبداية الأمر فيها وإثبات الأصل الذي كان عليه الوجود البشري... " كل مال نحلته عبدًا حلال "... " وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ".
" إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم ". هذه مقدمة ضرورية للحديث... لأن الحديث يثبت أهمية النبي صلى الله عليه وسلم بصورة خطيرة...
صورة افتقار البشر جميعًا إلى رسالة... مما تقتضي إثبات افتقاره هو في رسالته إلى ربه.
والرسالة من الله أمر وعلم.
والأمر من الله " إن الله أمرني ".
والعلم من الله " أن أعلمكم ما جهاتم ".
والعلم يوم بيوم " ما علمني يومي هذا ".
وهذه هي المقدمة:
" كل مال نحلته عبدًا حلال ". والمال رمز لكل شيء آتاه الله إنسانًا. " وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ".
فالأصل في عطاء الله الحِل. والإنسان على الفطرة.
ثم جاءت الشياطين " فاجتالتهم عن دينهم ".
ونشأ الحرام " وحرمت عليهم ما أحللت لهم ".
اجتالت الشياطين الدين.
وملأ الأرض بالحرام. " وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا ". " وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم ". والمقت أشد الغضب. " إلا بقايا من أهل الكتاب " المتمسكون بدينهم الحق من غير تبديل.
والنبي والبشر أمام مسئولية الرسالة سواء. " إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك... ".
__________
(1) رواه مسلم في الجنة، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار (6/17/197 – نووي)، وأحمد في المسند (4/266) عن عياض بن حمار المجاشعي. انظر: فتح ذي الجلال لتخريج أحاديث الظلال برقم (406) ستجد مصادر أكثر.(1/71)
وحتى لا يكون التبديل واجتيال الدين. " أنزلت عليك كتابًا لا يغسله الماء ".
باقيًا لا تجري فيه سنن الفناء.
وأسبابه...
ثابتًا تقرؤه نائمًا ويقظان.
وهذه هي البعثة.
ويقر النبي بضعفه وافتقاره إلى ربه. "إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة ".
هذا هو الاستضعاف.
فيرد القوي الغني: " استخرجهم كما استخرجوك . واغزهم نغزك ".
وافتح عليهم بلادهم... نفتح عليك مددنا.
" وأنفق فسننفق عليك ".
" وابعث جيشًا نبعث خمسة مثله ".
" وقاتل بمن أطاعك من عصاك" . وذلك هو التمكين.
وبعد المقدمة... والبداية... والبعثة... والاستضعاف... والتمكين... قام المجتمع المسلم.
2) فكيف يكون حفظه بعد قيامه؟...
هذا بصفات أهل الجنة الثلاث:
- ذو سلطان مقسط متصدق موفق.
- ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم.
- وعفيف متعفف ذو عيال.
وهذه الصفات هي عناصر البناء الاجتماعي للدولة المسلمة.
وبهذه الصفات يكون المجتمع المسلم وتكون الأمة وتكون الجنة.
وبعدها صفات أهل النار الخمسة:
- الضعيف الذي لا زبر له، الذين هم فيكم تبعًا لا يتبعون أهلاً ولا مالاً.
- الحثالة الفارغين كمالة العدد.
- والخائن الذي لا يخفى (أي لا يظهر) له طمع وإن دق إلا خانه.
والخونة بطبعهم وتكوينهم وتصرفهم التلقائي.
- ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك.
المخادعون: عن العرض والمال.
والبخل والكذب الشنظير الفاحش.
والشنظير: سيئ الخلق.
وفي رواية: وأن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد.
فالتواضع يمنع الفخر الذي إذا امتنع امتنع معه البغي.
وبصفات أهل النار تكون نهاية المجتمع ونهاية الأمة... وتكون النار.
4) البعد الاقتصادي:(1/72)
والبعد الاقتصادي للنظرية السياسية بُعدٌ منطقي؛ لأن المال له قوة نفسية واجتماعية بلغت حد الأثر في العقيدة والإيمان الذي أنشأ الخوف الشديد على أصحاب الدعوة من فتنة المال، كما قال تعالى: " ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفًا من فضة ومعارج عليها يظهرون * ولبيوتهم أبوابًا وسررًا عليها يتكئون * وزخرفًا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة غند ربك للمتقين ".
ومن أجل هذا التأثير نستطيع أن نقول: إن أخطر أحداث الدعوة كا إنفاق عثمان بن عفان قافلته على المسلمين، وإن أخطر أحداثها من الجانب الآخر كا قرار مقاطعة قريش لبني عبد مناف الاقتصادية.
وليس أدل على أثر الاقتصاد السياسي من دعاء موسى بحسم الصراع بينه وبين فرعون في قوله سبحانه: " ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ".
وكذلك دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بحسم الصراع مع قريش بقوله: " اللهم أعني عليهم بسنين كسني يوسف "(1)... رواه البخاري والترمذي، وفي رواية: " بسبع كسبع يوسف " رواه البخاري.
ولأجل هذا الأثر الاقتصادي على الدعوة كانت العلاقة بين الممارسة الاقتصادية والسياسية تلقائية في فهم الصحابة.
وهذا ثمامة يرجع إلى قومه مسلمًا يعلن لهم إسلامه ويعلن لهم مع إسلامه: يا قوم لقد أسلمت، ولن تأخذوا حبة قمح حتى يأذن لكم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم(2).
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير، باب: أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين (8/436/ح 4823 – فتح)، والترمذي في التفسير، باب: في سورة الدخان (5/389/ح 3254).
(2) رواه البخاري ومسلم.(1/73)
وبهذا الفهم التلقائي أدركت إحدى النساء مغزى تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أععطى قبيلتها مالاً وزادًا، ثم أخذ يحارب القبائل الأخرى فقالت: والله ما أرى محمدًا قد ترككم بعد أن أعطاكم هذا المال والزاد ثم ذهب ليقاتل القبائل غيركم إلا لأجل شيء يريده منكم، وأرى أنه الإسلام... فأسلمت وأسلمت معها القبيلة(1).
كما يتساوى البذل بالنفس والبذل بالمال في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من جهز غازيًا فقد غزا، ومن خلفه في أهله فقد غزا "(2)، فتساوى التجهيز بالمال للغزو والخلف في الأهل بعد الغزو... مع الغزو نفسه عند الله سبحانه وتعالى.
والحقيقة أن العلاقة بين الاقتصاد والسياسة هي نفسها العلاقة بين العمل العسكري والسياسة، وذلك في مضمون فرض الإرادة.
فكما أن التصور العسكري يفرض إرادة المنتصر، فإن الجزية هي التي تبقي على فرض تلك الإرادة.
من أجل ذلك كان اعتبار عنصر المال من أخطر عناصر الدعوة المحققة لأهدافها، ولكن هذا العنصر المهم في ذاته تعتبر نتيجته خطيرة في ذاتها؛ لأن المال هو فتنة هذه الأمة كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " فتنة هذه الأمة في المال "(3).
__________
(1) أخرج القصة البخاري في التيمم، باب: الصعيد الطيب وضوء المسلم (1/531/ح 344).
(2) رواه البخاري في الجهاد، باب: فضل من جهز غازيًا (6/59/ح 2843 – فتح)، ومسلم في الإمارة، باب: فضل إعانة الغازي في سبيل الله تعالى بمركوب وغيره: (5/13/40 – نووي)... كلاهما عن زيد بن خالد الجهني. ورواه أصحاب السنن.
(3) ذكره السيوطي في الدر المنثور (6/345) وعزاه إلى ابن مردويه عن عبد الله بن أبي أوفى وكعب بن عياض وعبادة بن الصامت.(1/74)
ولعل قصة ثعلبة(1) الذي نزل فيه قول الله عز وجل: " ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين * فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم مغرضون "... دليل على شدة خطر المال على النفس، وحتى لا نظن أنها حالة فردية... كانت هذه المواجهة القرآنية الحاسمة للمؤمنين في غزوة أحد: " منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ".
وعند تعميق الإحساس بخطر المال في واقع الدعوة لن تجد أشد من هذا الموقف الذي نرى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى التاقتين اللتين أعدهما أبو بكر للهجرة وهو يقول له: " بالثمن يا أبا بكر ".
إن الظروف أكبر وأقوى من أن يذكر فيه المال...
لأنهما اثنان مطلوب موتهما يُعدان أسباب نجاتهما.
ولكنها النبوة التي تضع الأسس وترسي القواعد " بالثمن يا أبا بكر ".
كما لن نجد حقيقة تدل على خطر المال أقوى من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدَّين ".
الشهيد... الشهيد... نعم... إلا الدَّين.
فإذا كان هذا مع الشهيد فليس لأحد من المسلمين خروج عن حساب المال.
ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل قبل أن يصلي على الجنازة: " هل عليه من دَين؟ " فإن قالوا: نعم. قال: صلوا على صاحبكم، إلا أن يقول رجل: دَينه عليَّ.
ومن هنا أصبح النجاح في تحقيق أساس اقتصادي للدعوة هو دليلاً أصليًّا وجوهريًّا على صحة الإيمان، ولعل الدليل على ذلك المثل الذي ضربه القرآن في قوله عز وجل: " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا زكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير ".
وكما تدل النفقة قبل الفتح على قوة الإيمان فإنها تدل كذلك على دقة أثر المال في الدعوة، وذلك لاختلاف أثر النفقة قبل الفتح وبعده، حيث كان للنفقة قبل الفتح أثر أكبر.
__________
(1) ورد تضعيف هذه القصة من حيث نسبتها إلى ثعلبة البدري، ولكن ثعلبة المذكور غيره.(1/75)
من أجل ذلك فإن السياسة الاقتصادية للحركة الإسلامية تقوم ابتداء من مفهوم الزهد الحقيقي في الدنيا.
ومن هنا يأتي دور مجموع نصوص الرقائق المحققة لهذا الزهد لا على أنها نصوص تُحفظ باللسان، بل لتكون واقعًا حيًّا وحياة واقعة لأصحاب الدعوة.
5) البعد القدري:
ومناقشة البعد القدري للنظرية السياسية يعتبر من أهم المناقشات؛ لأن الفكر السياسي يتميز ببروز الإعمال العقلي والارتباط بالواقع. والبعد القدري هو البعد المقابل لهاتين الميزتين في الفكر السياسي.
ذلك لأن ربانية الدعوة الإسلامية وارتباطها بقدر الله والسنن الثابتة جعل هذا الارتباط في أصل النظرية السياسية.
فعند تحليل الأحداث من المنظور المادي البحت وارتباط الأحداث ببعضها كسبب ونتيجة وفعل ورد فعل ودوافع وأغراض.
ومن المنظور القدري من حيث علاقة الأحداث بالسنن الثابتة وأحاديث آخر الزمان؛ تجد تحليل الواقع الجاهلي العام علي مستوي العالم له عناصر أساسية أهمها:
1) الهيمنة الصليبية المتمثلة في زعامة أمريكا للعالم والوحدة الأوربية.
2) العلو اليهودي.
3) العمالة والكفر علي مستوي الحكومات المسيطرة علي مواقع الدعوة.
4) الفقر والجهل علي مستوي الشعوب المحيطة بمواقع الدعوة.
فنجد أن عناصر هذا التحليل المادي للواقع الجاهلي يؤكد اجتماع الجاهلية وتحزبها بكل مستوياتها العالمية الحكومية والشعوبية ضد الدعوة مما قد يحدث في نفوس الدعاة منتهي اليأس والإحباط.
فيأتي المنظور القدري فيحقق غاية الرجاء من خلال إثبات سنة الله الثابتة بهزيمة الأحزاب. من هنا استبشر الرسول صلى الله عليه وسلم لما اجتمعت الأحزاب عليه؛ لأن تحزب الأحزاب معناه تحقيق فعل من أفعال الله القدرية وهو هزيمة الأحزاب.
وبذلك يصبح التصور القدري للأحداث بعدًا أساسيًّا من أبعاد النظرية السياسية.
هذا من حيث علاقة التصور القدري بالتحليل السياسي.(1/76)
والواقع أن البعد القدري للنظرية السياسية كان أساساً حتمياً لتحليل مواقف متعددة في تاريخ الدعوة ما كان لنا أن ندركها إلا من خلال هذا البعد ولعل أبرز هذه المواقف طلب يوسف عليه السلام الوزارة في ظل حكم غير شرعي.
لذلك لأن قصة يوسف عليه السلام بأكملها تحقيق قدري للرؤيا التي رآها بالتمكين له في الأرض. وفي إطار هذا التصور كانت جميع أحداث القصة وأبرزها وضع السقاية في رحل أخيه حيث عقبت الآيات علي هذا التصرف بقوله سبحانه: " كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذه أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله)، وعلى هذا لا يحتج بهذا الموقف سياسياً إذ يعتبر من الناحية الفقهية أحوال أعيان لا يقاس عليها.
ومن أمثلة تلك المواقف في تاريخ الدعوة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم هو قطع أشجار اليهود في غزوة بني قريظة حيث أنكر اليهود علي الرسول صلى الله عليه وسلم قائلين له: أتنهانا عن الفساد وأنت تأمر بقطع الشجر فأنزل الله عز وجل " ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة علي أصولها فبإذن الله ".
فهذا تصرف قدري بحت فعله رسول الله بإذن ربه والقدر فوق الشرع؛ ولكن هذا التصرف القدري لا يؤثر علي القاعدة الثابتة في الحروب ومنها النهي عن قطع الأشجار إلا أن يكون الأمر لأسباب عسكرية بحتة فيجوز ذلك اضطراراً ولكن لا يحتج بفعل رسول الله في غزوة بني قريظة علي الجواز المطلق من حيث التحليل.
والقواعد القدرية للتحليل السياسي محددة في عدة نقاط.
أولاً: الطاعة:(1/77)
أما من حيث علاقة التصور القدري بالمواجهة السياسية فتقوم علي: الطاعة المطلقة لله لتحقيق المهابة لنا في قلوب أعدائنا؛ لأن المهابة هي حقيقتنا في قلوب أعدائنا وقوتنا في شعورهم وحجمنا في تصورهم وهي الأساس والأصل الذي تقوم عليه الممارسة السياسية؛ لأنه تبعاً لهذه المهابة تكون الممارسة السياسية في الواقع، والله قادر علي أن يجعل لنا في قلوب أعدائنا تلك المهابة وهو قادر أيضاً علي أن يجعلهم يروا ضخامة حجمنا في تصورهم بشكل مادي بحت.
غير أن للمهابة أسباباً: أولها الوجود الإسلامي الصحيح لأصحاب الدعوة حيث يصيروا بهذا الوجود كالقسورة التي تفر منها الحمر المستنفرة(1).
وهناك أسباب مباشرة لتحقيق المهابة تراجع فيها الأحاديث؛ وأهمها الجهاد؛ حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا "(2).
وقال في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: " ولينزعن الله المهابة من قلوب أعدائكم)(3) إلي آخر الحديث.
وابتداء من نشأة الحركة لا يغيب البعد القدري حتى إقامة السلطة، لنري أن أهم حقائق تلك السلطة هي قرشية الخلفية مثالاً هاماً للمقتضيات القدرية التي يجب الالتزام بها في التصور السياسي للدعوة وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: " الخلافة في قريش "(4).
فلا يسمح التصور السياسي للدعوة بالجدل أو الإعمال العقلي البحت حول هذا الحقيقة لأنها حقيقة قدرية خالصة.
ثانياً: التفويض والتوكل:
__________
(1) كما في قوله تعالى عن الكافرين وموقفهم من الإسلام: كأنهم حمر مستنفرة * فرت من قسورة).
(2) رواه الحاكم والبزار وابن ماجه.
(3) رواه أبو داود في الملاحم، باب: في تداعي الأمم على الإسلام (4/108/ح 4297)، وأحمد (5/278).
(4) أخرجه أحمد في المسند (4/185) عن عتبة بن عبد عن النبي، وابن أبي عاصم في السنة (2/528/ح 1114)، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1851).(1/78)
وأهم الحقائق القدرية في التصور السياسي: الوفاء بالعهود والمواثيق؛ ذلك أن الله لا يحب الخائنين.
فإذا بدت مصلحة لكنها لا تتحقق إلا بنقض العهد؛ فهذه المصلحة باطلة سياسياً.
وفي المقابل فإن التصور السياسي يقيم العهود والمواثييق بقاعدة التوكل عل الله بعد استفراغ الجهد في التفكير والتقييم والتحليل والتوقع.
ومن هنا قال سبحانه: " وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم ".
وهذه هي القاعدة القدرية العامة في العهود ونصها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما نقض قوم العهد إلا سلط عليهم عدوهم)(1).
ثالثاً: مراعاة السنن الثابتة:
مثل التفسير القدري للاختلاف كصيغة من صيغ العذاب الواقع علينا وتحقيق موجبات الرحمة التي يرفع بها هذا العذاب واعتبار هذه الموجبات أسباباً مباشرة في معالجة الاختلاف.
وكذلك معالجة الفتن القائمة بين المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتبار أن ترك هذا الأمر هو السبب في ضرب قلوبنا بقلوب بعض كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " والله لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليضربن الله قلوبكم بقلوب بعض)(2).
غير أن موضوعية البعد القدري للتصور السياسي تتمثل بصورة نهائية في الوصول بالدعوة من مرحلة الاستضعاف وخشية الاختطاف إلر مرحلة التمكين والعالمية إذ أن تجاوز الدعوة لجميع مراحلها لا يمكن أن يتحقق إلا بصورة قدرية.
ولعل حادثة أصحاب الفيل التي حفظ الله بها البيت تهيئة لظروف الدعوة؛ ولعل الصراع بين الروم والفرس الذي أجهد الدولتين تحقيقاً لتلك التهيئة دليل علي هذا البعد.
__________
(1) رواه ابن ماجه في الفتن، باب: العقوبات (2/133/ح 4019)، وذكره الحافظ في الفتح (10/203).
(2) رواه الترمذي عن حذيفة (4/468/ح 2169) ولكن بلفظ آخر.(1/79)
كما قال سبحانه: " محمد رسول الله والذين معه أشداء علي الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوي علي سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً ".
وفي إطار البعد القدري للتحليل السياسي:
يجب حسم مسألة العلو اليهودي.
لأن هذه المسألة تأتي خطورتها من الفهم الخاطي للآيات الواردة فيها حيث يتحدد هذا الخطأ في الاعتقاد الجازم بحتمية أبدية للعلو اليهودي. ويغذي هذا الفهم اليهود أنفسهم من خلال كتابات(1) معينة يخرج قارئها بتصور يفسد العقيدة حيث يعتقد أن اليهود يفعلون ما يريدون وأنه ما من حركة أو سكنة لإلا وهي جزء من خطة يهودية شاملة.
هذا التصور شرك صريح...
الله وحده هو الفعال لما يريد.
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وعقيدة التوحيد ترفض هذا الوهم والواقع شاهد عي ذلك.
وحادثة واحدة... تكفي... وهي نكسة 1967م التي كان ظاهرها لصالح اليهود وكان باطنها الرحمة حيث كانت نقطة التحول في تاريخ الحركة الإسلامية حيث بدأت من مصر بعد أن قويت الرغبة في الرجوع إلي الله لتبدأ مع تلك الرغبة الدعوة الإسلامية بمستواها الفردي فيبلغ خطرها كل أنحاء العالم ويصبح مواجهة هذا الخطر هو محور السياسة العالمية علي مستوي الشرق والغرب.
رابعًا
النظرية السياسية الجاهلية
أ) التفسير العام للنظرية
والواقع أن للجاهلية نظريات ومذاهب واتجاهات ومدارس ونظماً سياسية مختلفة(2)
__________
(1) مثل بروتوكولات حكماء صهيون.
(2) سواء فكرًا قوميًّا أو وطنيًّا أو...
أو كان مذهبًا سياسيًّا أو ديمقراطيًّا أو ديكتاتوريًّا.
أو كان نظامًا سياسيًّا جمهورية أو ملكية أو رئاسية.
أو كانت مدارس سياسية شرقية أو غربية.(1/80)
، لكن ما نعنيه بالعنوان هو النظرية السياسية الجاهلية في تقابلها مع الإسلام؛ وهذا هو جوهر السياسة الجاهلية. وبهذا الاعتبار فإن هذا الاختلاف يصبح أمراً شكلياً بالنسبة لهذا الجوهر وتعدداً سطحياً بالنسبة لاتجاه الهدف الأساسي والنهائي للجاهلية وهو القضاء علي الإسلام. وللدلالة علي هذه الحقيقة نذكر مثالاً بأقصي تناقض شكلي في إطار النظريات السياسية الجاهلية يحقق أكبر توحد في حرب الإسلام وهذا المثال هو الديموقراطية والديكتاتورية حيث يمثل أكبر تقابل في إطار النظريات الجاهلية أكبر توحد في إطار النظرية الجاهلية الواحدة.
فكلا النظريتين يمنع وجود واقع صحيح للدعوة.
فالديمقراطية... هي أن يتكلم الجميع، والديكتاتورية هي أن لا يتكلم أحد. وهاتين النتيجتين المتقابلتين بالنسبة للدعوة يحققان نتيجة واحدة وهي أنه لن يسمع أحد لأحد حيث لا تقوم الدعوة إلا في واقع يجد فيه من يتكلم أحد يسمعه.
وأقرب تشبيه للقرف بين الديمقراطية والديكتاتورية هو فرق اللون بين الضباب والظلام؛ حيث يكون التقابل التام في اللون الأبيض والأسود بنتيجة واحدة - وهي انعدام الرؤية.
ففي الديمقراطية يتبدد الفكر الصحيح في واقع الإسقاف والثرثرة، وفي الديكتاتورية يتواري الفكر الصحيح في واقع القهر والكبت.
وفي الديقراطية يضيع الإنسان المفكر في ظواهر الفوضى الفكرية والإعلامية وفي الديكتاتورية يختفي الإنسان المفكر في غياهب السجون وفي كل من النظريتين... يغيب الإنسان المفكر... والفكر الصحيح. وجوهرية النظرية السياسية الجاهلية في مواجهة الإسلام لها غاية ثابتة وهي الصد عن سبيل الله.
والصد عن سبيل الله كغاية سياسية جاهلية له خطوط محددة:
منع ظهور الدين " قتل الأنبياء والذين يأمرون بالقسط من الناس ".(1/81)
منع حدوث الامتداد إذا فرض الظهور من خلال التركيز علي الزعامة (محاولة منع الرسول الخروج من مكة) كما قال سبحانه: " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ".
التفسير غير الحقيقي للامتداد إذا فرض هذا الامتداد كما فسر رستم قائد الفرس خروج المسلمين للقتال بقوله: " ما أخرجكم إلا الجوع ".
فإذا ظهر الدين وفرض وجوده وتحقق امتداده... نشأت خطوط أخري.
منع الدين السياسي: العلمانية.
وفي منع الدين السياسي:
عشنا فترة تمتد علي الأقل منذ حركات الإحياء القومي في أعقاب الحرب العالمية الأولي وحتى هذه اللحظة حيث يدور التصور حول حقيقة واحدة تدور فتنبع من مبدأ تقييد الدلالة السياسية للدين الآسلامي وإبعاده بصورة أو بأخري من الحركة السياسية، ومن مفاهيم الصراع السياسي، ومن مفاهيم الصراع السياسي قبل الحرب العالمية بدعوي العلمانية، وبعد الحرب بدعوي الاشتراكية وتقييدها للتقاليد الاسلامية(1).
مقاومة السلفية ونشر البدع (الانتساب العاطفي) للتحول بالناس إلي مرحلة الانتساب العاطفي الخاطيء... مثل التصوف.
ثم الاقتلاع العاطفي: مرحلة الانحلال - والإدمان...
ثم اقتلاع الجذور التاريخية؛ ومثال هذه المحاولة ما يتم في بلاد العالم المنتسبة إلي الإسلام مثلا حيث يتم هدم فكرة الخرفة تاريخيا من خلال الفكر العلماني، وتأكيد النتساب لمرحلة ما قبل الإنتساب – مثل الفرعونية في مصر – لإضعاف الأنتساب الإسلامي التاريخي، وتغيير الآثار والمعالم الدالة علي الانتساب الإسلامي التاريخي لهذه البلاد(2)
__________
(1) سلوك الممالك في تدبير الممالك. كتاب الشعب.
(2) مثل تغيير اسم شارع عمرو بن العاص إلى شارع كورنيش النيل، فترى اللافتة وقد كتب عليها شارع كورنيش النيل، وتحت ذلك وبخط صغير: عمرو بن العاص سابقًا.
ومثل تغيير علم محافظة القاهرة الذي تمثله المئذنتان اللتان عند باب زويلة وتحويله إلى شمس فوق عبارة: محافظة القاهرة... وبذلك عاد آمون رع وذهبت المئذنتان.(1/82)
.
الفصل بين الدعوة والناس بتشويه الصورة الاجتماعية للدعوة(1).
وإيقاع الضرر بالعامة بسبب أصحاب الدعوة مثل مقاطعة قريش لبني عبد مناف حتى يكره الناس هذه الدعوة.
وفي ثنايا خطوط الصد عن سبيل الله تبرز عدة قواعد للسياسة الجاهلية أهمها:
قاعدة الهدف الناقص.
ففي مقاومة الجاهلية للدعوة سياسياً فإنها تنطلق من قاعدتها الأساسية وهي منع الدعوة من الوصول إلي هدفها الكامل. بمعني أن الجاهلية قد تسلم بمرحلة لا تمثل هدفاً كاملآً.
مثال أن تسلم الجاهلية بوجود كثرة مسلمة في واقعها إذا فرضت هذه الكثرة وجودها ولكنها - أي الجاهلية - تركز في مقاومة الدعوة إذا وصلت إلي هذه المرحلة علي الزعامة، فتفرض أو تسمح بنوع من الزعامة يحدث في هذه الكثرة تأثيراً يذهب أثرها؛ لأن الزعامة الصحيحة والكثرة المسلمة هدف كامل.
أو تركز علي التفريق... لأن الوحدة والكثرة هدف كامل. وعندما تحاول الجاهلية مهمة التفريق فإنها لا تستغل فقط اختلافات منهجية بين هذه الكثرة ولكنها تسعي إلي إنشاء التناقض الذي تضمن به عدم إمكانية تجاوز المحاولة الجاهلية في التفريق. وفي هذا الإطار يمكن نقل قضايا خلافية تاريخية مثل إتاحة مساحة كبيرة لفكر إرجائي أو خارجي بين واقع أهل السنة.
وعندما تعلم الجاهلية أن الصراع بين الاتجاهات، أو حتى محاولة تجمعهم سيستهلك طاقة أصحاب الدعوة؛ فإنها ستسمح بذلك إذا كان تقديرها أن محاولة التجمع هذه ستبوء حتماً بالإخفاق.
وعناصر الهدف الكامل هي الامتداد الإسلامي الصحيح الواحد القوي، وتحقيق النفص يمكن أن يأتي بقفد أي عنصر من هذه العناصر.
__________
(1) سبق شرح ذلك في باب البعد الاجتماعي للتصور السياسي.(1/83)
ومثال الهدف الكامل الذي عالجه القرآن هو قول الله عز وجل: " إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) فيكون الهدف هو الأمة الواحدة التي تعبد رباً واحداً فيأتي الشيطان ليمنع هذا الكمال؛ فإما أن يجعل الناس تعبده أو ييأس من ذلك فيلجأ إلي إنقاص الهدف من ناحية الأمة الواحدة فيحاول التفريق؛ وهذا معني قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون، ولكن في التحريش بينهم"(1).
قاعدة الخطر الأول:
وفي مقاومة الجاهلية للدعوة في حال الامتداد الواسع المواجهة الشاملة فيتم ترتيب هذا الامتداد بحيث يتم التركيز على ما يمكن أن تعتبره الجاهلية خطرًا أوليًّا.
ثم تتعامل مع الآخرين بأسلوب مختلف يحقق نوعاً من الأمان والانفصال عن الخط الذي سيتم التركيز عليه من جانب الجاهلية.
قاعدة سرقة الكفاح:
والواقع أن تدخل الجاهلية بعد أن تقطع الدعوة شوطاً هائلاً من طريقها وتقترب من تحقيق هدفها له أمثلة تاريخية محددة نضرب لها مثلاً قديماً من دعوة موسى... وهو موقف السامري والعجل بعد أن مرت أشد مراحل الدعوة قسوة وشدة وهي فترة تعبيد فرعون لبني إسرائيل، حيث تم الخروج من مصر؛ ليكون وقوف موسى ببني إسرائيل بين يدي الله عند جبل الطور لأخذلا التوراة وإقامة دولة الحق المنشودة وإذا بموسى يتعجل اللقاء فيسبق بني إسرائيل وتغيب القيادة ليظهر السامري متبنياً الهدف الذي حدده موسى من قبل وهو لقاء الله عز وجل لتلقي الشريعة.
فيأمر السامري بني إسرائيل بجمع الحلي وهو التصرف الذي جعل من كل بني إسرائيل صناعاً مشاركين في خطيئة العجل.
__________
(1) رواه مسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب: تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس (6/17/156 – نووي)، ورواه الترمذي في البر والصلة، باب: ما جاء في التباغض (4/330/ح 1937) وكلاهما عن جابر.
ورواه أيضًا أحمد (3/313، 304، 384).(1/84)
وعندئذ انفصلت جماهير بني إسرائيل عن دعوة موسى فلم يسمعوا لأخيه هارون وتوجهوا نحو العجل. واحتل السامري موقع الزعامة وكان مضمون تجربة السامري هو أن اقتراب الدعوة من تحقيق أهدافها لا يجعل الجاهلية تسلم بالأمر الواقع فتحاول احتواء هذه النتيجة بل والاستفادة من أساسها وإعادتها إلى فترة الضعف الأول...
ومن المثل القديم... إلى المثل الحديث... بنفس المضمون.
وهو موقف عبد الناصر والثورة من دعوة الإخوان حيث بلغت دعوة الإخوان مرحلة كانت فيها من السلطة قاب قوسين.
تجمعات جماهيرية مؤيدة ومتعاطفة مع الدعوة.
عناصر منبثة داخل الجيش والبوليس بأرفع مستويات القيادة.
وانتصارات عسكرية عظيمة على اليهود في فلسطين صنعت موقفًا تاريخيًّا يحقق أكبر رصيد من التقدير والإكبار في نفوس الناس.
وإذا التجربة تبدأ بحلقتها الأولى... تغيب القيادة بغياب الإمام حسن البنا.
ثم الحلقة الثانية... وهي تبني نفس الأهداف التي طرحتها دعوة الإخوان في خطتها الإصلاحية، فكانت أهداف الثورة هي – بالكلمة والحرف – مضمون رسالة المؤتمر الخامس للإخوان المسلمين، فتحولت الجماهير – في أغرب صورة – عن دعوة الإخوان وتوجهت نحو الثورة.
وبمقارنة سريعة بين المثلين: تجربة السامري وعبد الناصر... يتوضح أن أخطر عناصر التوافق هو التدخل في مرحلة ما قبل تحقيق الهدف.
ولعل مضمون هذين المثلين التارخيين يحقق الإدراك التام لحجم المترتب على غيبة القيادة في واقع الدعوة.
أما الحد النهائي لهذا الخطر فهو أن تغيب القيادة برغبتها وإرادتها؛ والعلة الثابتة دائمًا في هذه الغيبة هو الزهد في السلطة الذي يفهم على أنه إخلاص وتجرد.
وهذا الفهم قد يكون صحيحًا إذا كان هذا الزهد لا يخرج بالسلطة عن إطار الدعوة واصحابها الحقيقيين، أما أن يزهد أصحاب الدعوة في السلطة لتكون في أيدي أعدائها فتلك هي الجريمة الكبرى.(1/85)
وهذا عمر مكرم أكبر الشيوخ في مصر التي كانت في مرحلة الانقياد التام لزعامة العلماء يسلم قيادة البلاد لمحمد علي في أغرب تصرف تاريخي بدأت به أكبر مرحلة تواجد علماني في مصر.
وغاية السياسة الجاهلية الثابتة هي: الصد عن سبيل الله، وتتحقق بمضمون ثابت.
ومضمون النظرية السياسية الجاهلية هو الطاغوتية، وهو المصطلح الذي يعني الشيطنة السياسية.
وأساسيات هذا المصطلح:
أ) هي السلطة بعناصرها الأصلية.
ب) والقتال: " الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفًا ".
ج) الولاء: " الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ".
وتندرج تحت هذه العناصر: أخطر الأفكار السياسية الجاهلية المحققة للسيطرة على الإنسان وعقله، والمنشئة في قلب الإنسان الجاهلي دافع القتال في سبيل الطاغوت.
والمحققة لولائه للجاهلية.
وبعد قواعد السياسة الجاهلية الأصلية نمتد إلى أخطر عناصرها.
عناصر الممارسة السياسية الجاهلية:
المكر السيئ:
والمكر هو التدبير الخفي، وقد وصفه الله بالسوء؛ لأن مجرد التدبير الخفي قد يكون للخير وهو ما جعله الله عز وجل يصف أفعاله بالمكر.
وخطر المكر السيئ يرجع إلى عدة حقائق:
- أننا على وجه الحقيقة لا نتحمل هذا المكر؛ لأن الله وحده هو القادر عليه، وهو سبحانه الذي يصده عنا، وهذا المعنى مأخوذ من قوله تعالى: " وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم ".
- وأننا لا نستطيع صد هذا المكر؛ لأن الفاعلية الخبيثة للمكر الجاهلي هو أنه يزيل الجبال، وهو المأخوذ من قوله تعالى: " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ".(1/86)
والموقف الصحيح في مواجهة المكر الجاهلي هو الصبر على هذا المكر عندما يكون له أثر في الواقع، وإمهال الكافرين رويدًا حتى ترى الفعل الإلهي ردًّا على هذا المكر؛ لأننا كطرف من الدعوة خارجين فعلاً من دائرة المكر بين الله وأعدائه، وهو المأخوذ من قوله سبحانه: " إنهم يكيدون كيدًا * وأكيد كيدًا * فمهل الكافرين أمهلهم رويدًا ". ولذلك تكون أول صيغ الفعل الإلهي في رد المكر الجاهلي هو ارتداد أثره على مدبريه، وهو المأخوذ من قول الله: " ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ".
ذلك أننا غير قادرين على وجه الحقيقة على صد المكر الجاهلي؛ لأنه مكر دائم لا يتوقف لحظة، وهو المأخوذ من قوله سبحانه: " بل مكر الليل والنهار "... ولا يكون زمن إلا ليل أو نهار.
- والموقف الصحيح في مواجهة المكر الجاهلي أيضًا هو أن نقف بالدعوة الموقف الصحيح ونعطيها وجودها الشرعي الذي تستحق به الدفاع الرباني عنها وعن أصحابها.
ومما يجعلنا نؤكد على الالتزام الشرعي البحت والمطلق في مواجهة الجاهلية هو استحقاق الدفاع الإلهي عن الدعوة، حتى لو خالف ذلك مقتضى التفكير العقلي أو العملي، وهذه هي طبيعة التصور السياسي للحركة الإسلامية.
فلا غدر ولا خيانة؛ لأن الله لا يحب الخائنين، ولا ظلم؛ لأن الله لا يحب الظالمين.
مرحلة التعذيب والقتل الهادفة إلى القضاء على أصحاب هذه الدعوة، وهي المرحلة التي تظن كل الجاهليات أنها المرحلة الحاسمة والنهائية.
ولكن المفاجأة تكون عندما تتجاوز الدعوة هذه المرحلة، فيتجه التفكير الجاهلي إلى مرحلة تقليدية ثالثة هي:
الاستنفار العام، ومعناه حشد كل القوى الجاهلية وكل أساليبها في مواجهة شاملة مع الدعوة، وهي المرحلة التي يرتفع فيها العداء للدعوة إلى المستوى القومي، وتتحرك فيها الجاهلية في كل الاتجاهات الأمنية والسياسية والإعلامية والاجتماعية، وتكون صيغة الاستنفار العام: " أن امشوا واصبروا عاى آلهتكم إن هذا لشيء يراد ".(1/87)
امشوا: تحركوا في كل الاتجاهات، واصبروا: اثبتوا على آلهتكم التي كادت الدعوة تنسفها نسفًا، إن هذا لشيء يراد: إنها خطة محكمة متفق عليها بين الجميع، ولكلٍّ دوره فيها.
ويثبت أصحاب الدعوة ثباتًا يستحقون به التأييد من الله.
محاور النظرية السياسية الجاهلية:
1) المحور الإعلامي:
ولكن الجاهلية تقاوم، وسيكون أخطر عناصرها المقاومة الإعلامية الجاهلية للدعوة الإسلامية... وسيتركز المحور الإعلامي هو الآخر على عدة ركائز.
المتابعة الدقيقة لأصحاب الدعوة بحيث لا تدع الداعية لحظة واحدة يخلو فيها إلى الناس، وهذا أبو لهب يحقق أعلى مستويات المتابعة، حيث يسير وراء الرسول وهو يدعو إلى دين الله ليقول للناس في آخر كلامه: هذا ابن أخي... لا تصدقوه.
ولقد بدأت المتابعة الجاهلية فعلاً منذ لحظة الرسالة الأولى، حيث "أمر إبليس أتباعه بالانتشار في الأرض" عند بعثة النبي.
ومنذ أن انتشرت الشياطين في جميع الأرض لم تقف المتابعة عند حد إقليمي أو مستوى دولي، وقد مر في الكتاب أنه كما كانت المتابعة في مكة كانت في المدينة، وقد مر كيف أرسلت قريش إلى عبد الله بن أُبيٍّ تعتب عليه وجود الرسول في المدينة وتهدد بالتدخل العسكري لإنهاء هذا الوجود.
وليس هناك من دليل على دقة المتابعة العالمية للحركة الإسلامية من حادثة كعب بن مالك(1).
التنفير الدائم للناس من أصحاب الدعوة، وذلك من خلال تصويرهم في أذهان الناس في صورة سيئة، وهذه هي الفكرة القديمة التي مارسها فرعون عندما قال عن موسى: " أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين)؛ وذلك بسبب العقدة التي كانت في لسان موسى، وكذلك اتهام بني إسرائيل لموسى بأنه آدر لما وجدوه لا يستحم معهم، وجاء ذلك في قول الله: " يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها ".
__________
(1) يراجع كتاب أصحاب الأخدود وكتاب بيت الدعوة للكاتب.(1/88)
هذه الفكرة القديمة التي تمارس بالأساليب الحديثة والخبرات الفنية، ونظرة واحدة إلى صور المقبوض عليهم في قضايا الإسلام تؤكد لك هذه الحقيقة؛ حيث لا نرى إلا كل ما ينفر.
تصنع الصور بالأساليب الحديثة: الزيغ في النظرات، والبلاهة في الوجوه؛ لإثبات الانحراف والتيه.
وتصنع الصور: الشعاثة في الشعر، والشراسة في الملامح؛ لإثبات الإرهاب... صورة باهتة...
خلفيات مظلمة للإيحاء بالتآمر... وصفحات الجرائد هي المستند والدليل... كل هذا ضروري في مهمة الإعلام الجاهلي.
وكله نابع من النظرية الإساسية للإعلم الجاهلي بصورة محددة!
والحقيقة أن النظرية الإعلامية بصورة محددة... هي السحر والكهانة.
وهذا هو إعلام الجن والشياطين ببعثة النبي... يقول فيه أحد الشياطين: " أَلَمْ تَرَ الْجِنَّ وَإِبْلاسَهَا وَيَأْسَهَا مِنْ بَعْدِ إِنْكَاسِهَا وَلُحُوقَهَا بِالْقِلاصِ وَأَحْلاسِهَا "... ويقول شيطان آخر وذلك بعد أن صرخ صرخة لم أسمع(1) صارخًا قط أشد صوتًا منه: " يا جليح أمر نجيح رجل فصيح يقول: لا إله إلا الله "... وهكذا يكون الأسلوب مؤثرًا.
أسلوب الجن والسحرة...
الصرخة المؤثرة والأخذ بالقلوب.
الصيغة الاستفزازية للعقل... ماذا تعني الصرخة؟!
الصورة امرأة سوداء مثيرة لشعرها(2)...
صوت... صورة... عبارة... أسلوب... عناصر إعلامية بحتة.
والتكرار أخطر عناصر الإعلام.
الخبر الصادق بجانب مائة كذبة... نظرية الجن في تحقيق التصديق هي نفس نظرية الأنباء.
فيكذب الكاهن مائة كذبة(3).
وهذه هي عناصر الإعلام الشيطاني.
__________
(1) قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه... رواه البخاري في المناقب، باب إسلام عمر (3866).
(2) صورة الجنية التي كانت مرتبطة بالصنم الذي سمع الصوت عنده.
(3) كما قال النبي تصعد الشياطين تسترق السمع فلتسمع الخبر فتلقيه إلى الكاهن فيكذب مائة عليه كذبة.(1/89)
ولما كان الأمر متعلقًا بالتفاعل العقلي والنفسي، فلا بد أن يكون الإعلام: " زخرف القول غرورًا "... عناصر إعلامية جاهلية بحتة.
زخرف القول للإقناع بلا حقيقة أو مضمون... إقناع بالظاهر والشكل والأسلوب، وهذا هو الزخرف.
غرورًا: تغريرًا.
ولا بد أن يكون الإعلام الجاهلي أداة للتعامل مع الإنسان.
فلا بد أن يكون هناك الشكل المنطقي.
والصورة المبدئية كما حاول أن يبدو بها أبو جهل عندما قال في غزوة بدر: اللهم أقطعنا للرحم وأتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة. فكان المستفتح(1).
السمة الإنسانية كما قال عقبة بن أبي معيط في الإسلام: " فرق الناس، وخرب الديار، وجعل الولد يقتل والده"(2)... وكما تحاول الجاهلية اليوم الارتفاع فوق مستوى الدين بزعمهم بالمفاهيم الإنسانية: الحرية، الإخاء، المساواة.
والإعلام الجاهلي هو وسيلة الجاهلية العقلية والنفسية في الإنشاء والإبقاء على الكفر والفساد، والإعلام هو ساحر الحكم الجاهلي... الإعلام هو المحقق لمهمة الرضى والمتابعة بالكفر، وهو المقاوم للكراهية العارضة لهذا الكفر.
ومن أجل ذلك لا بد من الاستيعاب الكامل لوقت الإنسان وعمره، بحيث لا تفوت لحظة دون أن تكون فتنة، كما قال سبحانه: " بل مكر الليل والنهار ".
ولا بد من التناسب الدقيق مع العقلية البشرية كهدف للإعلام، ولعل مؤتمر الندوة الذي حاول الاتفاق على تعريف القرآن دليل على هذا التناسب(3).
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده (5/431).
(2) هي مجموعة آثار ومنها هذا الأثر ذكره ابن هشام في السيرة (1/314 - 317).
(3) نقول: كاهن... ليس بزمزمة الكهان، نقول: مجنون... ليس بخنق الجنون، نقول: شاعر... ليس بالشعر ولا سجعه، ثم اتفقوا على أن يقولوا: سحر... قائلين: إنه يفرق بين المرء وأبيه وأخيه وزوجته... (يراجع البخاري ومسلم).(1/90)
ولا بد من الأسلوب المؤثر السهل العبارة التي تخرج من هذا الفم ليتلقفها الجميع فتصبح على جميع الألسنة... والحقيقة أن عبد الله ابن سلول هو أستاذ هذا التعبير الإعلامي الجاهلي... فهذه عبارة من عباراته: " سمِّن كلبك يأكلك ".
ولكن كل عناصر الإعلام الجاهلي لا ترى مجتمعة إلا في مواجهة أي حدث إسلامي؛ عندئذ تكون العناصر المباشرة المواجهة للحدث:
التهوين من شأن الحدث: مثلما قال أبو لهب تعقيباً على إعلان الرسالة من النبي صلى الله عليه وسلم من فوق جبل مكة: " تباً لك طول يومك ألهذا جمعتنا)(1)، وكأن حدث الرسالة لن يبقى إلا يوم إعلانه (طول يومك)، الأمر الذي لا يستحق الجمع (ألهذا جمعتنا؟ ".
قطع الصلة بين أفراد الحدث والواقع الاجتماعي الذي تم فيه الحدث حتى لايكون لهؤلاء الأفراد امتداد اجتماعي... مثلما قال عروة بن مسعود لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئت بأوشاب الناس لتفض بيضتك، حتى أفهمه ابن أخيه أنهم ليسوا أوشاباً وكان يلبس المغفر على وجهه فضرب يد عمه وقال له: اخفض يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عروة: من هذا يا محمد؟ قال: هذا ابن أخيك(2)...
إعلان أنهم ليسوا على شيء... مثلما استشار المشركون اليهود في أمر الدعوة، فأخبرهم اليهود أن المشركين أفضل من المسلمين، وكما قال القرآن على لسان اليهود في المشركين: " هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً ".
المزايدة على أصحاب الدعوة... مثلما زايد المشركون على المسلمين لسقاية البيت وعمارة المسجد الحرام، فأنزل الله عز وجل: " أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر "... والصورة الحديثة للمزايدة على أصحاب أي حدث إسلامي تافهة نفس التفاهة القديمة.
__________
(1) وعزاه السيوطي في الدر (6/701) إلى البخاري ومسلم.
(2) سبق تخريجه.(1/91)
فبمجرد حدوث الحدث يتم تخصيص أماكن خاصة للسيدات في المواصلات وزيادة البرامج الدينية في وسائل الإعلام والاهتمام بأقرب مناسبة دينية والمبالغة في الاحتفال بها.
ولكي تمنع الجاهلية أثر أي حدث إسلامي فإنها بعد أن تمارس رد الفعل الإعلامي المذكور سابقًا بعناصره فإنها تبحث عن أخطاء يغلب الظن فيها أنها لا تنال تأييد الناس.
مثل قول اليهود للرسول: ما بالك تنهى عن الفساد في الأرض وتقطع الشجر؟! فرد القرآن عليهم مبينًا تفسير الموقف(1).
ومثلما أخطأ بعض من أرسلهم الرسول صلى الله عليه وسلم في سرية فقتلوا بعض المشركين في الشهر الحرام فأرسلوا إلى رسول الله وقالوا: ما بالك تقتل في الشهر الحرام(2).
فرد عليهم مقررًا في البداية خطأ هذا الفعل. " يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به ".
هذا أساس الحكم.
لكن الذين قَتلوا لم يكونوا يعلمون أنهم دخلوا في الأشهر الحرم، فهذا اعتذار عن الفعل.
وإذا لم يكن هذا السؤال مجرد تشنيع بالمسلمين وكان حرصًا على حرمات الله، فهناك حرمة أكبر وقعوا هم فيها وهم يعلمونها...
" والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله ".
" والفتنة أكبر من القتل ".
ولا زالت الجاهلية تتابع الحركة الإسلامية وتبحث عن خطأ لها.
التأكيد على إصابة الحدث الإسلامي بأمراض وعقد نفسية... مثلما قال قوم شعيب لنبيهم بعد إعلان دعوته: " إن نراك إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء "... ومثلما قالول لرسول الله بعد إعلان النبوة: إن كان أصابك شيء طلبنا لك الأطباء(3).
2) المحور الاقتصادي:
الفقر المنسي والغنى المطغي:
__________
(1) يراجع البعد القدري للنظرية السياسية.
(2) عزاها السيوطي في الدر (1/448) إلى ابن جرير وابن المنذر، وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في السنن عن جندب بن عبد الله.
(3) انظر ابن هشام (1/314، 315).(1/92)
إن الجاهلية تنشئ بسياستها وضعًا اقتصاديًّا عالميًّا ينقسم الناس فيه إلى قسمين: الفقر المنسي، والغنى المطغي.
وهما الحالتان اللتان تبتعدان بالإنسان عن إدراك الحق، فالذي ينسى نفسه فقيرًا يصعب عليه التفكير الصحيح في الواقع، والذي لا يرى نفسه إلا غنيًّا وطاغيًا يصعب عليه إدراك الواقع؛ ولذلك حذر رسول الله من هاتين الحالتين في إطار التحذير من الأسباب التي تبتعد بالإنسان عن الحق والصواب، فيقول: " بادروا بالأعمال سبعا: هل تنتظرون إلا فقرا منسيا، أو غنى مطغيا، أو مرضا مفسدا، أو هرما مفندا، أو موتا مجهزا، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر "(1)؛ من أجل ذلك أنشأت الجاهلية المصطلحات المشار إليها: مصطلح الدول النامية، ومصطلح الدول الصناعية الكبرى؛ حيث يعيش الفقر المنسي والغنى المطغي تحت هذين المصطلحين.
إن خطة الإفقار الجاهلية للعامة تهدف إلى إحداث معاناة معيشية شديدة تستهلك كل الطاقة الذهنية والنفسية للإنسان، وكذلك تهدف إلى تفتيت العلاقات الاجتماعية كنتيجة للحرص والأنانية، ومحاولة كل إنسان تحقيق أكبر قدر ممكن من المصالح الشخصية.
وحتى لا يصل الفقراء إلى نقطة الانفجار والثورة فإن السينما والتلفزيون يبتعدان به عن هذه النقطة من خلال موضوعات الأفلام والمسلسلات اليومية التي تضرب على الجرح والوتر الحساس فتثير الشجون تارة، وتارة أخرى تعالج الموضوعات التي تعرض حياة الترف والأرستقراطية التي تحدث نوعًا من السعادة وتعويض الحرمان...
وتارة ثالث تعرض الموضوعات التي ينتصر فيها الفقير على الغني من خلال قصص الحب... والمبادئ والأخلاق والشهامة.
المهم أن يبقى الفقر بلا ثورة...
__________
(1) أورده السيوطي في الدر (6/184) وعزاه إلى ابن المبارك في الزهد والحاكم وابن مردويه عن أبي هريرة.(1/93)
أما خطة الغنى المطغي، فمنها خطة الترف الذي يفقد أصحابه الإحساس الحقيقي بغيرهم من البشر، وعندئذ لن تكون دعوة؛ لأن الدعوة إحساس بالغير... وكذلك ستجعلهم يفتقدون حاسة البحث عن الحق؛ لأن الترف أنشأ عندهم معيارًا للحق وهو المال فقط وعندئذ لن تكون دعوة؛ لأن الدعوة بحث عن الحق، وتجعلهم يفتقدون إدراك الواقع وعندئذ لن تكون دعوة؛ لأن الدعوة هي ثمة الإدراك الصحيح للواقع.
إن المترفين هم أصحاب المال عندهم تفسير كل شيء وعلة كل تصرف وحكمة كل حدث، وأساس كل واقع ومنتهى كل غاية وقيمة كل إنسان... إن الترف هو عدو الدعوة الأول.
ومن هنا فإن أهم مقتضيات الصراع بين الجاهلية والإسلام هو تخليص الإنسان من حالة الفقر المنسي، وواقع الغيبوبة النفسية والذهنية التي يعيشها البشر كما يوجب على الدعاة أن يعملوا بكل أساليبهم على إعادة العقل البشري من غيبوبة الفقر المنسي وإفاقته بكل المؤثرات النفسية والعصبية، وبكل الأساليب الكلامية والعملية، كما يجب أن يقف الدعاة أمام الترف الجاهلي وعناصر الثراء للاستعلاء بالإيمان وتجرده وكرامة الزهد وكرامة الزاهدين ومكانة العلماء؛ ليفيق المترفون عندما يشعرون أن هناك قيمة أعلى من المال وحقيقة أكبر منه هي قيمة الإيمان والإسلام.
سياسة المواجهة للنتيجتين:
إن التصور السياسي الصحيح يفرض على الدعاة في مواجهة الفقر المنسي والغنى المطغي أن نتعامل مع الإنسان بأقصى إمكانيات التأثير.
الإثارة الفكرية والعاطفية... بأعمق أبعادها.
المواقف المحزنة... الخواطر المخيفة... العبارات المطمْئِنة.
يجب أن يهتز الإنسان أمام الدعاة هزًّا عنيفًا... وليسكن سكونًا تامًّا يجب أن يستحوذ الدعاة على كيان الإنسان كله، يجب أن يقف الإنسان أمام الدعاة كأن على رأسه الطير...
لا حراك... سوى حركة النَّفَس ونبض العروق...(1/94)
يجب أن يتكلم الدعاة بكل الألسنة وبكل الأساليب؛ لينسى الإنسان أمام الدعاة حياته الدنيا سواء كان فقيرًا أو غنيًّا.
ليبحثوا عن كل القصص الصحيحة... كل الطرائف... كل المواقف... السيرة... حياة الصحابة... الرقائق... الكرامات والمعجزات... الجن والملائكة... القبر وعذابه... الجنة والنار... كل الإسلام... كل حقائق الإسلام... كل قضايا الإسلام.
لإنقاذ الفقراء الناسين والأغنياء الطاغين.
وفي النهاية...
يجب أن يترفع الدعاة عن مصالح الدنيا؛ حتى لا يتهمهم الفقراء ولا يستهين بهم الأغنياء.
عندئذ يمكن الإطاحة بالاتاه الاقتصادي المنشئ لمصطلحات: العالم الثالث... الدول الصناعية الكبرى... الدول النامية... المعونة الاقتصادية... هذا المصطلح الذي يعني أن كيانات الدول النامية عالة على الآرض لا تتجاوز أهدافها وآمالها هدف العيش وأمل الاستقرار بالحصول على هذه المعونة، فتفرض الدول العظمى إرادتها على الدول الأخرى.
3) المحور القانوني:
ورغم أن الجاهلية فوضى وخروج عن الأصول، إلا أن الشيطان يرغب في اميصاص الطبيعة البشرية التي ارتكز فيها بصورة دفينة الرغبة في النظام والحياة في ظله.
فأنشأ الشيطان للجاهلية صيغة قانونية تحقق نظاماً يخضع له جميع الناس.
ولعل المثال التاريخي لهذا الوضع هو اعتراض قوم شعيب على الرسالة باعتبارها خروج على نظام لا يملكون إلا الخضوع له: " قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ".
فهناك نظام يجعلنا لا نستطيع التصرف بهوانا "أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ".
ولكن العلة في انتشار النظام الجاهلي لا تقف عند حد امتصاص الإحساس الطبيعي المركوز في النفس البشرية بالرغبة في النظام ولكنها في الأساس... أسلوب يضمن به الشيطان أن يكون له قيادة العالم وزعامته ليسيطر من خلال هذه القيادة وتلك الزعامة على جميع الناس.(1/95)
وانطلقت الجاهلية في المرحلة القائمة لمقاومة الدعوة في اتجاهات متعددة.
وكانت الحرب العالمية هي رصيد السياسة الجاهلية عالمياً.
والتي نشأ عنها أخطر هذه الاتجاهات وهو الاتجاه القانوني تحت مظلة الأمم المتحدة – الهيئة الجاهلية القانونية العالمية.
وفي إطار دستور الأمم المتحدة الذي أعطى حق العضوية الدئمة في مجلس أمنها لدول محدودة وحق الفيتو مع حق العضوية الدائم.
من خلال هذا الوضع تمت الاتفاقيات والمعاهدات وكان أخطرها معاهدة بيكر التي تم الاتفاق فيها على وضع العالم تحت وصاية ومسئولية الدول الكافرة المسماة بالعظمى.
ولكي يبقى للمحور القانوني فاعليته يجب أن تبقى آثار الحرب الثانية التي تمثل رصيداً لقانون النظام العالمي ولا بد أن تبقى الحرب نفسها في إحساس العالم باعتبارها المصدر الفعلي لقوة القانون، وأول عناصر هذا الاتجاه هو إيحاء الحرب في عقل العالم وضميره من خلال الأفلام والقصص. ولعل من أبرز هذه الأساليب هو الإبقاء على مساعد هتلر سجيناً في سجن تشرف عليه دول الحرب المنتصرة وتتناوب حراسته دولة كل ثلاثة أشهر باعتبار هذا السجين أطول أثر واقعي للحرب...
4) المحور النفسي:
ومن أخطر المحاور النفسية للسياسة الجاهلية: هو امتصاص رد الفعل الإسلامي إذا فعلت الجاهلية ما يقتضي هذا الرد بحيث يتبدد رد الفعل الإسلامي بصورة نفسية شعورية غير عملية أو خطيرة ولعل أخطر الأمثلة على ذلك:
حاث سقوط الخلافة الإسلامية: ذلك الحدث الذي كان قتلاً لكل مسلمي العالم فكانت قصائد شوقي التي نعى فيها سقوط الخلافة فكانت قصائده بمثابة المستأجرة في المأتم التي تسعد أهل الميت فيخفف هذا من وطأة الفجيعة.(1/96)
وكان منصب (الخلافة) الصوفية الذي تهتم به الدولة وتعطية الصفة الرسمية حيث يخرج (الخليفة) في المولد النبوي الشريف يركب (الفرس) وحوله (السيوف الخشب) و (الرايات) فيخرج الخليفة على جموع الشعب المتصوفة وهم يشعرون أن هذا (الخليفة) خير من ملء الأرض من (الخليفة) الذي ذهب...
ولكن هذه الخدعة الكبرى لا تستسيغها العقول الواعية فليكن لهؤلاء ما يخمد مشاعرهم ويهدئ من روعهم... فكان السماح بالجمعيات الدينية التي وضعت على رأس برنامجها (إعادة الخلافة) والتي أشعرت أصحاب هذه العقول الواعية أن الخلافة ستعود ولكنها مسألة وقت.
5) المحور العسكري:
المحور العسكري المتمثل في التطور التكنولوجي في التسليح إلى الحد المحقق ليأس جميع البشر في المواكبة ليستمر التطور حتى يصل إلى ما يطلق عليه حرب الفضاء لتصبح الأرض موقعاً تم الانتهاء منه ثم حرب الكواكب التي لا تمثل فيها الأرض إلا كوكباً صغيراً. فتتضاعف مشاعر السيطرة من جانب الدول العظمى ومشاعر اليأس من جانب الدول الأخرى.
تماماً مثلما سيشعر يأجوج ومأجوج بغلبهم لأهل الأرض فقالوا: الآن نحارب أهل السماء؛ فوجهوا لها حرابهم فنزلت فتنة لهم مخضبة بالدماء(1).
ولكن...
تحت كل هذه التراكمات الصخرية والطبقات الجاهلية الجلدة يكون غليان الإيمان ويفتح الفهم الإسلامي الصحيح فوهة البركان.
مهما كان الوضع... ومهما كانت المؤامرة... سيفتت البركان الإسلامي تراكمات السياسة الجاهلية العالمية.
الله أكبر... الله أكبر... الله أكبر...
__________
(1) روى ابن ماجة هذا الحديث في الفتن، باب: فتنة الدجال وخروج عيسى وخروج يأجوج ومأجوج (2/364/ح 4080).(1/97)
قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أشد لحظات المشقة؛ في الخندق... عندما اجتمعت الأحزاب فكان المسلم لا يأمن أن يخرج ليقضي حاجته... ووقف حجر أمام الصحابة وعجزوا عن تحطيمه حتى الخندق فيه الأحجار ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ معولاً ويضرب الحجر ضربة؛ ويرى في غبار حجر الخندق ثلاث صور:
الصورة الأولى: مدائن الفرس.
الصورة الثانية: قصور الروم.
الصورة الثالثة: اليمن(1).
اختلطت الدول العظمى بغبار حجر الخندق.
وتبدد الوهم... وهم الدول العظمى. التي تحولت إلى مجرد صور.
وفتحت الفرس، وفتحت الروم، وفتحت اليمن.
إن عالمية الدعوة عقيدة أرساها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صنع نوح سفينة فوق الرمال، وسخر القوم من رسول الله كما سخروا من نوح وقالوا: لا يأمن أحدنا أن يقضي حاجته ويعدنا بقصور الروم ومدائن كسرى! (2). ولم يدر الساخرون أن الطوفان آت ليعم الأرض عقيدة سهلة نرى الأرض فيها تنزوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيرى فتوحاته المقدرة له من عند الله... قدر سهل " إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ".
خامسًا
نموذج للصراع السياسي بين الإسلام والجاهلية
(مصر: 1965 م - 1981 م)
ولكن قبل طرح نموذج الصراع؛ " مصر 1965 - 1981 ".
نجيب على تساؤل قد يتبادر إلى الذهن: لماذا مصر، ولماذا هذه الفترة؟
وللإجابة على هذا التساؤل ثلاثة جوانب:
الأول: إن الذين يعيشون التجربة أو يشاركون فيها، هم الذين يقدمونها، ولا يقدمها عنهم غيرهم... ولا يتجاوزون هم أيضاً حدود تجربتهم...
إن الكتابة عن تجارب الآخرين تسهم في إحداث طمس وإهدار للتجربة في كل موقع من مواقعها، وكل فترة من فتراتها. هذه قاعدة سياسية هامة...
__________
(1) روى هذا الحديث البيهقي في الدلائل (3/421) عن البراء بن عازب، والحديث عند النسائي في الكبرى.
(2) انظر ما سبق.(1/98)
الثاني: لأن الحركة الإسلامية في مصر اكتسبت صفة القوة السياسية خلال هذه الفترة حتى نهايتها مما يجعل لأحداث هذه الفترة وهذا الواقع فرصة قيمة لدراسة دقيقة يتم من خلالها تحليل هذه الأحداث التي انتقلت بالحركة لهذه المرحلة، وحققت لها صفة القوة السياسية.
الثالث: أن وصول الحركة الإسلامية في مصر إلى هذا المرحلة كان تحت وطأة أكبر ضغط جاهلي.
وذلك لأن النظرة الجاهلية العالمية لمكانة مصر على أنها مفتاح المنطقة العربية والشرق الأوسط جعلها تلقي بكل ثقلها الأمني والإعلامي والسياسي والعسكري لمحاربة الحركة الإسلامية في مصر...
مما يجعل مفاتيح الحركة في مصر نتائج عيارية للعلاقة بين الإسلام والجاهلية في أي موقع من العالم.
وهذه الجوانب الثلاثة هي بمثابة المقدمة للإجابة الأساسية عن التساؤل: " لماذا مصر... ولماذا في هذه الفترة " وهي أن الحركة الإسلامية في مصر تجربة منهجية كاملة.
وإن سبقها من حيث النتائج العملية والسياسية تجارب إسلامية أخرى في مواقع أخرى قد تكون قريبة من بلوغ غايتها ومنتهاها.
وذلك لأن الحركة الإسلامية في مصر منذ بداية الإخوان المسلمين والعمل الفدائي في القناة وحرب اليهود حتى المنصة تقدم أساسياته كحقائق مطلقة يمكن تجريدها من ظروفها وملابساتها الخاصة لتحقق وعياً سياسياً على مستوى الحركة الإسلامية العالمية في كل مواقعها.
ويحسن أن نذكر ابتداًن هذه الأساسيات بترتيبها الصحيح الذي يمثل في أي تجربة خطاً صحيحاً لتطور العلاقة بين الفكر والحركة وهذه الأساسيات هي: العقيدية. الحركية. الشرعية. القدرية.
السياسية بأبعادها المذكورة في الكتاب.
ولكن الأمانة تقتضي القول بأن ظهور هذه الأساسيات في الواقع لم يكن بهذا الترتيب النظري الصحيح...
حيث برزت دعوة الإخوان من خلال: الأساسية الحركية.
فقدمت نموذجاً لا مثيل له في البناء التنظيمي للجماعة...(1/99)
ونماذج لا يعلى عليها في أساليب الحركة التي أظهرت على ضفاف القناة منهجاً حركياً تاريخياً... في حرب الإنجليز.
وقدرات تكتيكية عسكرية هائلة في حرب اليهود...
ولم يكن الواقع يسمح بخلاف عقيدي حول العدو حيث أن كفر الإنجليز واليهود كان أساس الاندفاع العسكري تحقيق نحو المواجهة.
ولكن قيام الحركة الخبيثة للضباط عام 1952 أنشأ ضرورة الحكم على العدو الجديد... لينشأ معها الأساسية العقيدية التي اكتملت في كتابات الأستاذ سيد قطب.
ولكننا نعترف أن إنشاء الأساسية العقيدية كان على حساب المستوى الحركي للدعوة. بعد توقف الحركة بسبب الخلاف والسجون.
لتبدأ الدعوة بعد توافر الأساسية العقيدية بخبرة حركية ضعيفة تمثلت في عدة محاولات لم تدخل منها في حيز التنفيذ سوى محاولة الفنية العسكرية، وبفكرة خداعية غير قائمة على المواجهة العسكرية الفعلية.
وذلك بعد انقطاع الصلة العملية بين أصحاب المستوى الأول في الحركة بسبب سجنهم وأصحاب المحاولات الأخيرة الذين بدأوا بخبرتهم وإمكانياتهم الذاتية.
كما نعترف أن البداية الجديدة للأساسية الحركية بخبرة المبتدئين وإمكانياتهم الذاتية أظهرت خطاً حركياً عظيماً.
وهو الارتكاب على الخبرة الشخصية والذكاء العقلي والفكر البوليسي؛ حتى بلغ الأمر أن تكون كل مراجع الحركة أجنبية مثل كتابات حرب العصابات...
وتجارب الكفاح المسلح التي لا تمت إلى الإسلام بصلة.
الأمر الذي نشأت به الأساسية الثالثة وهي الأساسية الشرعية الداعية إلى الالتزام بالدليل الشرعي في كل مراحل الدعوة، وضرورة أن يكون لأصحاب الدعوة سلف في كل موقف أو تصرف.
والاهتمام بالعلم الذي يتوافر به الأدلة حتى لا تكون دعوة داعية إلى إقامة المجتمع المسلم وهي تفتقد شرعية حركتها وسلفية منهجها.
وهي أساسية جوهرية أسهمت بصورة طيبة في تأصيل الدعوة من حيث قضيتها وأسلوب جمع الناس حولها.(1/100)
ورغم أن هذا التأصيل قد تم من خلال الأساسية العقيدية؛ فكان لأصحاب سلفية الدعوة فضل تثبيت هذا التأصيل الشرعي في الواقع. بسبب تواجدهم في هذا الواقع بصورة واسعة.
وأخيراً؛ ونحن نواصل تحليل أساسيات المنهج الكامل من حيث الواقع يفيد الانتباه إلى هذه الحقيقة وهي أن الخطأ والصواب كان احتمالاً قائماً على جميع من حاول إبراز أساسية من هذه الأساسيات إلى الواقع.
ولكن قيام الاحتمال لا يلغي فضل المحاولة...
وهذا ما كان واضحاً في إبراز الأساسية القدرية بصورة كبيرة؛ وذلك لأن الفشل المتلاحق لتجارب الدعوة في مصر جعل أصحاب الدعوة يبحثون عن علة هذا الفشل فكانت أهم محاولة للبحث هي الاتجاه القائل بأن الدعوة لها أسباب وسنن يجب ارتباط منهج الحركة بها. كما يجب ارتباط منهج الحركة بأحاديث آخر الزمان وعلامات الساعة.
وقد كانت المحاولة خاطئة؛ لأنها لم تحقق الارتباط منهج الحركة والسنن الثابتة وأحاديث آخر الزمان وعلامات الساعة. ولكن فضل إبراز هذه الأساسية لم يذهب معها.
حيث التقط آخرون هذا التوجه الحركي ليعالجوا أخطاء المحاولة.
ويحددوا التصور القدري الصحيح لمنهج الحركة.
وما أن بلغت الدعوة هذه المرحلة المنهجية الهائلة والتي توافرت واستقرت فيها الأساسية العقيدية والحركية والشرعية والقدرية حتى انطلقت بكل قوتها وبكل استعدادها للبذل والتضحية؛ حيث تجاوزت الدعوة رحلة الجدل وغموض السبيل وقصر الرؤية الصحيحة للعمل؛ الأمر الذي تطلب إبراز الأساسية السياسية لتحقيق ضبط القوة وتوجيه الاستعداد؛ ليتحقق أكبر قدر من الأهداف بأقل قدر من التضحية حتى لا تتجاوز التضحيات حتى لا تتجاوز التضحيات المبذولة حجم الأهداف المحققة.
وبعد المقدمة... يبدأ التحليل...
ابتداء من الحضانة التي كان أشهر شعاراتها: " يا رب احفظ بابا جمال "
ومروراً بالمرحلة الابتدائية ذات المناهج المشحونة بالأفكار الاشتراكية وشخص عبد الناصر.(1/101)
والمرحلة المتوسطة التي تتواصل فيها المناهج المشحونة وتكون فيه الرحلات الإجبارية إلى الهرم والسد العالي؛ لربط الشباب تاريخياً بالفراعنة بناة الهرم وحاضراً بالزعيم باني السد.
وانتهاءً بالجامعات التي فرغت فيها قاعات المحاضرات بعد توزيع الطلبة على الرحلات والمؤتمرات والمعسكرات ومسيرات التأييد والبيعة مدى الحياة للزعيم الملهم.
وفي هذا الوقت كان الشباب المواظب على الفرائض يبحثون له عن راق يتهامسون حوله: هل به مس؟
كانت صلاة الفجر سرًّا.
كان يكفي لينفض أي تجمع أن تحاول شرح آية: " ومن لم يحكم بما أنزل الله ".
كان الناس يشيرون إلى أحد البيوت قائلين: البيت ده فيه واحد من الإخوان.
كان جميع الكتاب والمفكرين والصحفيين ملزمين بالهجوم على الإخوان.
كانت البراعة والعبقرية تقاس بمستوى هذا الهجوم المفروض.
كانت الجمعيات الدينية جميعها وبلا استثناء وبكل توجهاتها تجتمع وتتفق وتنطلق عندما تكون المهمة هي الاستنكار وبشدة على الإخوان أو أي عمل من أعمالهم.
ومن هذا الواقع كان التحول...
وكان هذا التحول من المرحلة الاشتراكية إلى الإسلام في مصر...
هو في حقيقته آية من آيات الله سبحانه وتعالى ويجب أ، تكون دراسة آية التحول هي الدرس الأول في تاريخ الحركة القائمة.
لقد نشأت الحركة الإسلامية من خلال مجموعة من الشباب لا يملكون أي خبرة... أي إمكانية... أي تأييد... أي تصور... إلا قضية الحاكمية تفسير آية " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ".
في مجتمع...
يملك أيد يولوجيته الاشتراكية المتمكنة التي جعلت الأستاذ الجامعي الملحد هو القدوة والنموذج الاجتماعي.(1/102)
أيديولوجية متمكنة فرخت كوادر مغسولة المخ تحت مظلة الدراسات السياسية التي أنشئت لها خصيصاً كلية أو مغسلة الاقتصاد والعلوم السياسية التي لا يلتحق بها إلا أصحاب أعلى درجات الثانوية العامة لدراسة أعداء الثورة... الإخوان... من خلال المناهج ورسائل الماجستير والدكتوراه.
مجتمع... له زعيمه... الذي اجتمعت فيه كل خصائص الزعامة القومية، صوت وصورة من يؤيده عالمياً: الكتلة الشرقية، ودول عدم الانحياز علناً، وأمريكا والغرب سراً.
مجتمع... له شعبه الذي كانت تتعلم فيه الأجيال النطق على حروف كلمة جمال مروراً بكل المواهب الشعبية، وعلى رأسهم الذي ترك له مصر أمانة في يده(1).
والذي بلغ أن جعل لعيد الثورة صلاة... " في صلاة العيد: عيد الثورة بناجيك يارب ".
له زعيمه الذي أعلن قرار ضرب سوريا بعد حركة الانفصال وإنهاء الوحدة فصفق الناس تصفيقاً حاداً ملتهباً.
ثم قرر عدم ضرب سوريا لأن الدم العربي لايسفك بيد عربية فصفق الناس تصفيقاً حاداً ملتهباً.
التصفيق على التناقض... التصفيق على أي شيء... التصفيق فحسب.
لقد كان العالم وراء عبد الناصر في حرب الإسلام:
1) لقد أعلن عبد الناصر عن ضبط تنظيم 65 وهو في الاتحاد السوفييتي.
قائلاً بافتخار: لقد اعتقلنا 18 ألف في ليلة واحدة " وهذا هو الشرق ".
2) سافر المشير عبد الحكيم عامر للاتفاق أو للموافقة على أكبر صفقة سلاح فرنسية لمصر بعد أحداث التعذيب التي تمت في السجن الحربي... " وهذا هو الغرب ".
حتى يذكرنا منظره القبيح بقبح شجرة الجاهلية (ذات أنواط)(2).
__________
(1) كما في أغنية عبد الحليم حافظ: سيبنا في إيدك مصر أمانة.
(2) وكانت صورة الغلاف لإحدى المجلات الملونة هي صورة المشير عبد الحكيم عامر الملونة أحمر وأصفر والنياشين المعلقة وأنواط النصر والواجب والشجاعة.(1/103)
وداخل المجلة الرجل الحقيقي فعلاً المفكر القدوة الحبيب ملأ القلب والعين " سيد قطب " جالساً وحده في ساحة السجن. وبذلك يقولون: هذه هي الصفقة وجاء دور الثمن.
مجتمع له تنظيمه الداخلي " الاتحاد الإشتراكي العربي " على رأسه لجنة مركزية كل عضو من أعضائها كتلة لحمية حاقدة على الإسلام.
تنظيم كرأس الأخطبوط الجاثم بجسده فوق قلب مصر يعد النبض وتمتد أطرافه فوق كل أطرافها لينقل الحركة والهمس فلا عزبة ولا كفر ولا نجع ولا قرية إلا وترى فيها لافتة الشؤم: الاتحاد الاشتراكي العربي.
جهاز إعلامي...
أقنع الشعب بنصر 1956 بعد ضياع شرم الشيخ وغيرها من أرض مصر في المعركة ثم رتب الاحتفالات بعيد النصر من تاريخ ضياع الأرض أجازة قومية تعطل فيها المصالح "الهيئات الحكومية والمدارس".
جهاز إعلامي...
أقنع الشعب بأن العرب سيشربون القهوة في تل أبيب في الوقت الذي كان الجنود يجرون بملابسهم الداخلية فرارًا من ممر متلا...
جهاز إعلامي...
ابتداءً من الأراجوز وانتهاءً بالمسرح القومي ومهرجانات السينما.
ابتداءً من المنولجست(1)... وانتهاءً بأرقى القصائد التي جعلت السد معجزة عبد الناصر... معجزة ليس لها أنبياء(2).
ثم إثبات النبوة لصاحب المعجزة التي ليس لها أنبياء على لسان القبيح قباني، حيث قال في عزاء جمال بعد أن نفق: قتلناك يا آخر الأنبياء.
نحن الآن في مصر سنة 1965:
- شباب صغير السن يأخذ على عاتقه الدعوة إلى الله.
- نشأت هذه الفكرة عنده دون أن يكون له نماذج يقتدي بها، وإخوة كبار ينصحونه.
كان اتجاه الحكم الناصري نحو الإخوان أو بقايا الإخوان في السجون.
كانوا لا يتصورون أنه من الممكن أن يكون هناك دعوة إلا من خلال الإخوان، والإخوان في السجن... انتهت المشكلة.
__________
(1) على أنغام السمسمية: إذا قابلت الإرهابي... فاضربه يا سيدي بالقبقابي. (سيد الملاح – 1969).
(2) معجزة ما لها من أنبياء... أدورة أرض بغير فضاء؟!(1/104)
- عدم رغبة صلاح نصر في التعامل مع الأحداث التي كانت بعد القضاء على الإخوان بشيء من الاهتمام وعدم الرغبة في تصعيدها إلى رجال السلطة بعد إعطائهم تقريرًا بأنهاء المشكلة بعد مذابح الإخوان.
كما أن ارتكاز الدعوة في البداية على أفكار بعيدة عن فكرة الوصول للسلطة أحدث نوعًا من الاستهانة بالدعوة.
حيث بدأت الدعوة بالاهتمام بأحكام الهدي الظاهر (اللحية – الحجاب) من ناحية... ومن ناحية أخرى ظهرت فكرة العزلة والهجرة، وكلها أفكار بعيدة عن المواجهة.
كما أنه لم يكن هناك أجهزة أمنية تابعة للداخلية بمعنى الكلمة، بل كانت مكاتب مهملة تابعة للأقسام، وقد كانت المخابرات العامة هي المكلفة فعلاً بمواجهة الدعوة الإسلامية.
مما جعل هذا الجهاز بعد أحداث 15 مايو 1971 فرصة أمنية هائلة للحركة، حيث كانت أمن الدولة أجهزة بسيطة لا قيمة لها.
التحليل: الدعوة قضية فطرية وليست قضية تلقين...
الغباء غير الطبيعي من جانب الحكم الناصري...
قدر الله الغالب على أمره...
صغر سن الشباب خفف من التركيز الأمني عليهم.
صغر سن الشباب جعله متحمساً وخصوصاً أنه لم يقاس من أهوال الفترة الناصرية.
الرغبة الجامحة في القضاء على الحكم الناصري كرد فعل نفسي لأهوال الناصرية...
وكرد فعل للخوف من تكرار هذه الأهوال معهم.
النكسة:
هزيمة 67: التخفيف من وطأه القهر الناصري للشعب الذي حقق للدعوة فرصة حركية أوسع بين الناس.
- استغلال الشيوعيين للموقف ومحاولة القضاء على حكم عبد الناصر – هذا الاستغلال الشيوعيين الذي حقق فرصة أكبر للحركة الإسلامية كمواجهة للمد الشيوعي الخطير في مصر.
هزيمة 67: أسقطت الاتجاه الاشتراكي وألجأت الناس إلى ربها حتى ينصرها الله وحدوث موجة تدين طبيعية.
ومات جمال...(1/105)
وتولى السادات الذي اضطر إلى رفع شعار العلم والإيمان لمواجهة الخطر الشيوعي ولا تزال حركة الشباب صغير السن مجهولة لدى الأمن – ويقرر السادات إعطاء فرصة للاتجاه الإسلامي كمواجهة للشيوعية ولكنه كان يظن أنه سينشئ الرغبة في التحول إلى الاتجاه الإسلامي من أساسها كتصرف سياسي وهو لا يدري أن هناك من سيلتقط فرصة وجوده الغالية.
إن نكسة 67 دليل قاطع على أن العالم لا يسير وفق خطة محكمة لا يخطئ أصحابها.
لأنه لو كان الأمر كذلك لما كانت نكسة 67 أصلاً ولو على الأقل في هذا التوقيت.
لأن هذا التوقيت لم تمت فيه جذور الأصالة الإسلامية بعد...
حتى جاءت النكسة لتتحول أرض مصر إلى تربة خصبة ومناسبة لا متداد وارتفاع هذه الجذور.
مقتل سيد قطب:
من أبرز حقائق الإسلام: حقيقة الشهادة.
وفهم هذا الدين: هو تحقيق مقتضياته وحقائقه.
ومقتضى حقيقة الشهادة: الإخلاص والتزام الحق، ويجمعها في الإسلام: " الاستعداد للموت في سبيل الله ".
لأن هذا الاستعداد يستحيل حدوثه في الواقع إلا بالإخلاص والطاعة، ويصبح الاستعداد للموت أقوى أدلة الحق في واقع صاحب هذا الاستعداد...
ومن هنا جاء معنى الشهادة...
إن صاحب هذا الاستعداد بذاته أقوى دليل على الحق، وتصبح هذه الشهادة أقوى أسباب الفهم الإسلامي على الإطلاق؛ لأن الفهم بالدليل، والشهيد أقوى درجات هذا الدليل.
وهذا مشرك يقتل مسامًا فيقول المسلم وهو يُقتل: الله أكبر... فزت ورب الكعبة. فيسلم المشرك... بعد أن تلقى من المسلم الشهيد الدرس الأخير.
وها هم فتية الدعوة الأوائل يقرأون الظلال قبل قتل سيد قطب، ويمرون عليه دون أن يعيروه أي انتباه... ثم يقتل سيد قطب؛ فيرجعون إليه ويعكفون عليه، ويتحقق أكبر نطاق من الفهم الإسلامي الصحيح في الزمن القريب... ويخدم الدعوة دمُه قبل قلمه، وباختصار شديد: فإن كتابات سيد قطب هي أول الكتابات الحديثة التي تنطبق فيها الشروط الصحيحة لكتابات الحركة الإسلامية.(1/106)
فكان التواجد السريع للحركة الإسلامية من العناصر التي تترقب فرصتها.
الأمر الذي لم يتوقعه أحد وبأقصى درجات الفهم الصحيح المأخوذة عن كتابات سيد قطب بصفة أساسية.
كل هذه العوامل ساعدت على إنشاء الحركة الإسلامية لتمثل خط الواقع الذي هيأه الله للدعوة ثم يأتي خط التطور الطبيعي للحركة ذاتها.
بدأت مجموعات الشباب تنطلق إلى الدعوة من منطلقات مختلفة حيث لم يكن هناك واقع قائم للدعوة يمكن النسج على منواله أو السير على منهجه...
وكانت المنطلقات التي انطلقت منها الدعوة محددة:
منطلق الجهاد:
وأصحاب هذا المنطلق كانوا يعتبرون أنفسهم امتدادًا طبيعيًّا لتنظيم سيد قطب، حيث كانت القضية هي محاولة قلب نظام الحكم، وكان التأثير الفكري لسيد قطب قد بلغ مداه، فكانت المحصلة هي التجمع على مفهوم الجهاد بعد أن تعامل الإعلام المصري مع أحداث تنظيم ثورة 1965 على أن الجهاد هو الأسلوب الذي انتظمت به الأحداث.
منطلق العزلة:
وأصحاب هذا المنطلق كانوا ممن ارتكز مفهوم الرفض للجاهلية في أذهانهم، وكان السعي إلى موقف الرفض متمثلاً في العزلة موقفًا نفسيًّا تم صياغته بصورة منهجية مناسبة.
منطلق السلفية:
وأصحاب هذا المنطلق جاؤوا كرد فعل لعدم الانضباط الشرعي في منهج الدعوة وتجاوز الاجتهاد العقلي لحدوده في واقع الدعوة إلى درجة أن تكون الصلة بين الحركة والشرع ليست إلا في الانتساب والانتماء والهدف، أما الواقع والأسلوب فكان اجتهاديًّا عقليًّا بحتًا، مما أوجد التوجيه السلفي كمواجهة لهذه الظاهرة.
ثم كان خروج الإخوان من السجون ليتكون منطلق جديد وهو الممارسة الحزبية والنيابية والجماعات الإسلامية في الجامعة والعودة إلى الأساليب التارخية الثابتة للجماعة.(1/107)
وكان تطور الحركة على مستوى مجموع هذه المنطلقات المختلفة متمثلاً في غيبة فكرة الجهاد والعزلة عن واقع الدعوة ومنهجها غير أن المحاور السابقة الأساسية للحركة تمثلت بصفة أساسية في الجهاد والإخوان والسلفية.
فكرة الجهاد... أعداد معدودة من الأفراد يتبنونها ويقول لسانهم بها...
لا يتجاوزون مرحلة الكلام.
محولات ساذجة... ضرب مولد لأحد الذين يطلق عليهم أولياء... إلقاء قنبلة في أحد الملاهي.
ثم كان تنظيم الفنية العسكرية... مجموعة من الشباب تربوا على فكرة الجهاد ولم يطيقوا تحمل الواقع المحيط بهم، فكان الاتفاق مع صالح سرية... والقيام بعملية الفنية.
وكانت خصائص حركة الفنية:
أنها كانت عقب انتصار حرب أكتوبر؛ الأمر الذي أكد الرفض الإسلامي للواقع رغم النتيجة العسكرية والإعلامية والسياسية التي حققها السادات من حرب أكتوبر.
إلا أنها كانت أول خطة تدخل حيز التنفيذ رغم أن خطة الفنية جاءت قائمة على فكرة خداعية... وليست على المواجهة العسكرية المباشرة.
إن غالبية العناصر المنفذة كانت طلبة الفنية والطب والهندسة، مما فرض التفسير الإسلامي الصحيح للأحداث والأشخاص الصحيحة والعقيدة الثابتة التي ارتفعت فوق مستوى التفسير الجاهلي الهزيل، والإحصائيات الجاهلية التافهة التي تعتبر هذه الأحداث ناتجة عن أشخاص يعانون من عوامل نفسية معقدة وقاسية.
المنصة - أو أقدار 1401 هجرية -:
هكذا كان السادات قبل قتله يبذل جهدًا هائلاً ضد نفسه، وكانت أيامه الأخيرة داخلة بأحداثها ضمن قدر إلهي بقتله، حتى بدا للجميع قتيلاً يمشي على الأرض... وكان تحرك السادات المكثف هو أبرز العلامات الدالة على الطبيعة القدرية للمنصة.(1/108)
وكانت قرارات سبتمبر في الابتداء، ومرورًا بالسخرية من النقاب، وسب الشيوخ في الانتهاء، نقاطًا أساسية ثلاث في خط مقتله، وكان رد الفعل لهذا الخط وتلك النقاط هي ذاتها علامة جديدة، وكانت الرغبة في قتله في نفس الشعب، حتى بلغ هذا القتل مبلغ الأمنية الهائلة.
ثم كانت مجموعة العلامات الفردية التي ساهمت كل علامة فيها في تحقيق القدر الإلهي بالقتل، ولعل ما يمكن ذكره:
أن يأمر السادات – ولأول مرة – الحرس الذي كان أمام المنصة بالرجوع خلفها تحسبًا لهجوم متوقع من الخلف.
أن يمرض القائد المعين للطابور ليحل محله ضابط آخر اختار أن يفتش عربة ويترك عربة... ليجيء دور عربة الموت في ترتيب العربات التي لم تفتش.
أن يتوه الإراد المكلفون بإحضار القنابل من الصحراء بعض الوقت؛ فكان هذا التيه سببًا في نجاة هؤلاء الإفراد من أحد دوريات الشرطة التي انتشرت هناك في ذلك الوقت.
أن تنجو سيارة القنابل التي جاء بها المشاركون من حادثة محققة بالاصطدام مع أخرى قبل الدخول إلى القاهرة بوقت قريب، حيث توقفت السيارتان والمسافة بينهما متر واحد.
وتمت العملية في أقل من وقتها المحسوب وبصورة دقيقة جعلت العالم يطمئن إلى أن تمام هذه العملية نتيجة حتمية لمستوى سياسي هائل حُسبت فيه التوقيتات ودُرست فيه الظروف.
ثم كان الإفراج عن جميع القوى السياسية بعد المنصة، مما جعل من الحركة الإسلامية المنقذ العظيم من خطر الاعتقال لهذه القوى جميعها.
مما جعل للحركة الإسلامية محورية الحركة السياسية العامة في مصر، كما أن الجهد المبذول والتضحيات الهائلة من جانب أصحاب الحركة أجبر جميع القوى السياسية في مصر على احترامهم وتقديرهم.
ويضاف إلى ذلك الكيفية الإعجازية التي تمت بها العملية والتي كانت دليلاً في نظر الناس على عظمة التفكير وحكمة التدبير وإحكام العمل ودقة التنظيم... وفوق ذلك وقبل ذلك: " والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ".(1/109)
وكنتيجة لأن المنصة قتل فيها رئيس الجمهورية فقد كسر حاجز الخوف من السلطة.
ونتيجة للأسلوب الذي تمت به العملية... فقد أصبح الشخص المسلم بالنظرة الاجتماعية إنسانًا مفكرًا ومخططًا وفدائيًّا عظيمًا، بل أصبح نموذجًا اجتماعيًّا.
ونتيجة لمجموع هذه النتائج اتسع نطاق الانتساب للدعوة، وزاد عدد الملتزمين والمتعاطفين معها.
ولكن...
للجاهلية موقف تقليدي ثابت عند هزيمة أي عنصر من عناصرها:
- التبرؤ من المهزوم حتى لا تهبط الجاهلية إلى مستوى العنصر المهزوم...
- تأكيد النصح له وعدم استجابته للحفاظ على المستوى السياسي للجاهلية وعدم سقوطه مع العنصر الساقط...
- إدخال احتمالات غائبة في الموقف لتقليل التجاوب مع الحدث... وتضييع أثره السياسي.
ولعل أبرز هذه الاحتمالات الخاصة بالمنصة هو القول بأن أمريكا هي التي قتلته بعد انتهاء الاستفادة منه، وكتاب " خريف الغضب " هو أول من ترك مساحة فارغة للاحتمالات الخفية وراء الحادث، ولكن بمرور الوقت سيصبح من المناسب طرح التفسير المباشر للحادث كما يطرحه أعداء الدعوة، وسيكون أحد هذه الاحتمالات؛ وذلك حتى يكون الواقع أكثر تقبلاً لهذه الاحتمالات بقلة عدد الذين فعلوا الحادث أو عايشوه.(1/110)