أبحاث منتقاة من ندوة :
التشافي بالقرآن
دولة الكويت
في 26-28من جمادى الآخرة 1418هـ
الموافق 27 إلى 29 أكتوبر 1997م
تحت رعاية الجمعية الكويتية لمكافحة التدخين والسرطان
*****
من موقع :
http://www.islamset.com/
محتويات الملف
* المقدمة :
1- وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت .
2- شيخ الأزهر الدكتور محمد طنطاوي .
3- الشيخ عبد الله بن سليمان المنيع .
4- الدكتور عبد الرحمن العوضي .
5- الدكتور خالد أحمد الصالح .
* عن الندوة والمشاركين بها ، وقرارات وتوصيات .
****
* موضوعات الملف :
* الرقية الشرعية : أحكامها ومذاهب الفقهاء فيها ، أ. د /عجيل جاسم النشمي .
* كيف كان القرآن شفاء لأمراض الإنسان وقاية وعلاجا ، أ. د / عمر سليمان الأشقر .
* التشافي بالقرآن ، أ. د /أحمد القاضي ، وإيمان أبو السعود القاضي .
* ضوابط التداوي بالرقي والتمائم في الفقه الإسلامي ، د. محمد عثمان شبير.
* الرقى الشرعية ، د. فلاح إسماعيل مندكار.
* الرقية في مجال الاستشفاء بالقرآن والسنة ، د. محمد الأحمدي أبو النور .
* رسالة إلى الرقاة ، عبد المحسن محمد الرويشد .
* الاستشفاء بالقرآن ، د. مصطفى محمود حلمي ، د. يوسف السلطان .
* فتاوى .
********
@@@
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين، ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فإن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة الكويت ممثلة في قطاع الإفتاء والبحوث الشرعية فيها إلى جانب قيامها بإصدار الموسوعة الفقهية التي ناهزت إلى اليوم الأربعين جزءا ولم تتم بعد.
وقيامها بإصدار العديد من فهارس الكتب والمراجع الفقهية الهامة في المذاهب الأربعة، مما يسر على الفقهاء والباحثين الرجوع إلى هذه المراجع والاستفادة منها والحصول على مقصودهم بأيسر طريق.(1/1)
والتي قامت بإحياء العديد من كتب التراث والمخطوطات الإسلامية الهامة، بتحقيقها على يد خبراء مختصين في فنونها وتخصصاتها، ونشرها في أحسن صورة.
لم تنس العناية بكل ما هو مهم من الموضوعات الفقهية والبحوث الخاصة التي يحتاج إليها المسلمون في حياتهم العلمية والعملية، وبخاصة منها ما تضاربت فيه الأقوال، أو داخلته الشبهات، أو استغله استغلالاً سيئاً بعض الجاهلين أو المغرضين.
ومن ذلك موضوع الرقية الشرعية، حيث نسيها البعض، وحذفوها من جدول الاستشفاء بها، وكأنها ضرب من الخرافة في نظرهم، وظنها آخرون نوعا من الاستشفاء الخاطئ الذي عفا عليه الزمان وتجاوزه التقدم العلمي في نطاق الطب، وعدها بعض الناس ضرباً من الشعوذة وابتزاز الأموال بغير حق.(1/2)
وقد سهّل - بكل أسف- كثير من الجاهلين أو المرتزقة لهؤلاء مهمة الإغراق في هذا الفهم الخاطئ، وجعل الرقية طريقاً للارتزاق وسلب الأموال والوصول إلى الثروة بحق وبغير حق حتى نسي الأكثرون معنى الرقية الشرعية التي ورد فيها العديد من النصوص الشرعية في القرآن والسنة، بشروط وضوابط تضعها في مكانها الصحيح من موضوع الاستطباب والاستشفاء بها من كافة الأمراض والعلل الجسدية والنفسية والاجتماعية من غير غلو ولا شطط. وقد جاءت ندوة التشافي بالقرآن الكريم التي عقدت في الكويت في 26-28/ جمادى الآخرة 1418هـ تحت رعاية الجمعية الكويتية لمكافحة التدخين والسرطان، لتضع الأرقام على الحروف في هذا الموضوع المهم الحساس في الوقت نفسه، حيث ضمت هذه الندوة مجموعة من البحوث العلمية التي تقدم بها نخبة متميزة من العلماء، بينوا من خلالها معنى الرقية الشرعية، ومشروعيتها، وشروطها، وكافة أحوالها، مع الأدلة على ذلك من القرآن الكريم والسنة المطهرة، وبينوا أنها وسيلة مهمة من وسائل الاستشفاء الناجع المشروع، من غير إهمال أو تجاوز لقيمة وأثر التشافي بالأدوية الطبية، والاستفادة من البحوث المعاصرة في نطاق التقدم الطبي.
وقد رأت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية - بالتعاون مع الجمعية الكويتية لمكافحة التدخين والسرطان- من الفائدة بمكان أن تساهم في نشر بعض هذه البحوث المميزة لعامة المسلمين، لتصحيح بعض المفاهيم الخاطئة التي عمت بينهم في هذا الموضوع المهم، ولتبين لهم الضوابط الشرعية اللازمة للرقية الشرعية بالقرآن الكريم والسنة المطهرة.
كما رأت أن تقدم بين يدي هذه البحوث مجموعة من الفتاوى التي أصدرتها هيئة الفتوى ولجنة الأمور العامة التابعة لها في الوزارة، عن أحكام الرقية الشرعية وضوابطها.
والوزارة إذ تقدم هذا السفر الكريم إلى عامة المسلمين لترجو من الله تعالى في ذلك الأجر والمثوبة، وأن ينتفع المسلمون من هذه البحوث الهامة.(1/3)
مع الإشارة إلى أن هذه البحوث قد تضمنت الكثير من التداخل والتكرار، لأنها في حقيقتها بحوث متفرقة، قدمت من علماء متعددين، إلا أنها تكمل بعضها البعض، وتعرض بمجموعها صورة جيدة واضحة صحيحة للرقية الشرعية. والله تعالى من وراء القصد، وهو أجل وأعلم. والحمد لله رب العالمين.
وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية
دولة الكويت
الأحد 28 ذو القعدة 1422هـ = 10 / 2 / 2002 م
***
@@@
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا وشفيعنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين. وبعد: فإن القرآن الكريم قد أنزله الله - تعالى - على قلب نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - لمقاصد متعددة، من أهمها:
أن يكون هداية للناس جميعاً، بل للإنس وللجن، لأن رسالته- صلى الله عليه وسلم - كانت على الإنس وعلى الجن.
وفي القرآن الكريم سورة بأكملها تسمى بسورة "الجن"، وقص علينا القرآن الكريم أن نفرا من الجن استمعوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ القرآن، وآمنوا به وصدقوه، وعادوا إلى أقوامهم ليقولوا لهم: "يا قومنا أجيبوا داعي الله".
وهداية القرآن الكريم تمتاز بأنها عامة وتامة وواضحة، لأنها من عند الله - تعالى - الذي لا يكلف نفساً إلا وسعها.
كذلك من المقاصد التي من أجلها أنزل الله تعالى - القرآن الكريم، أن يكون معجزة ناطقة في فم الدنيا بصدق القرآن الكريم، وبصدق من أنزل عليه هذا القرآن، وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم.(1/4)
وقد تحدى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعداءه أن يأتوا بمثله فعجزوا، ثم تحداهم أن يأتوا بعشر سور من مثله فما استطاعوا، ثم تحداهم أن يأتوا بسورة واحدة من مثله، فارتدوا على أدبارهم خاسرين قال - تعالى - "وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله، وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين. فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين"(1).
كذلك من المقاصد التي من أجلها أنزل الله - تعالى - القرآن الكريم: أن يتقرب الناس بقراءته، وبالاستماع إليه، وبالعمل بأحكامه وآدابه وتشريعاته إلى خالقهم - عز وجل.
قال - تعالى - : "إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة، وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور"(2). وفي الحديث الشريف: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"(3). وفي حديث آخر: "الماهر بقراءة القرآن الكريم مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران عند الله"(4).
وإن ما قامت به الجمعية الكويتية لمكافحة التدخين والسرطان، من جهود مشكورة في خدمة القرآن الكريم، وفي بيان أوجه الانتفاع بهداياته، وبتشريعاته، وبموضوع الاستشفاء به، وإن فيما كتبه العلماء الأعلام المتخصصون، فيما كتبوه في ذلك ألوان من البحوث العلمية النافعة، لاشتمالها على النصوص المتنوعة، وعلى الأدلة المتكاثرة، التي تثبت صحة ما ذهبوا إليه في بحوثهم القيمة.
وإن الأزهر الشريف ليتقدم بخالص الشكر والتقدير للجمعية الكويتية لمكافحة التدخين والسرطان، ولكل من ساهم بجهوده الجليلة في موضوع "الاستشفاء بالقرآن".
وندعو الله - تعالى - لنا جميعاً، بأن يهدينا إلى صراطه المستقيم، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
شيخ الأزهر
__________
(1) سورة البقرة: الآيتان 23، 24.
(2) فاطر : 29.
(3) رواه البخاري .
(4) متفق عليه.(1/5)
الدكتور محمد طنطاوي
جمادى الأخرة 1421 هـ /سبتمبر 2000 م
***
@@@
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل القرآن شفاء للناس ورحمة، وجعله حمانا بذكره والتعلق به من همزات الشياطين ومن حضورهم مجامع المتقين. أحمده وأشكره وأثني عليه بما هو أهله وبما ينبغي لكمال وجهه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فلقد سعدت بقراءة بعض بحوث كتاب "التشافي بالقرآن". تلك البحوث الخاصة بالرقى الشرعية وأثرها في اطمئنان القلوب وانشراح الصدور وارتياح النفوس وما ينتج عنها من هداية وشفاء، وما ذكره الباحثون في هذا الكتاب القيم من قيود وشروط وضوابط للرقية حتى تكون رقية شرعية نافعةً.(1/6)
سعدت بقراءة الكتاب وبالبحوث المشتمل عليها بعد أن رغب إليَّ من لا أستطيع رد إرادته ورغبته. رغب إليَّ في التقديم لهذا الكتاب القيم فرأيت أن يكون تقديمي لهذا الكتاب مساهمة مع أهله في بحث متواضع يتعلق بالرقية الشرعية وبالأمراض النفسية والمقارنة بينها وبين الأمراض النفسية حيث إن المرض النفسي ينتج انقباض النفس وضيق الصدر والتبرم بالحياة وهذه العوارض النفسية تضعف حركة الدورة الدموية ونشاط المناعة في الجسد فتتسلط الفيروسات في الجسد ويحصل لكل فيروس أثره ونتيجة تسلطه ونشاطه وهذا معنى تكاثر الأمراض وتعددها وظهور أمراض ما كان للسابقين عهد بها، وكذلك معنى تعدد العيادات النفسية واتجاه مجموعة من طلاب العلم الطبي إلى التخصص في أمراض النفوس وأدواء القلوب. وحيث إن الرقى قد قام بممارستها دخلاء عليها فشوهوها وجعلوا لها اختصاصات تتسم بالطلاسم والشعوذة والدجل والكهانة وادعاء علم الغيب فيما يتعلق بأسباب الأمراض النفسية وأن الأرواح الخبيثة والأشباح المخيفة لها تسلط وإشاعة لهذه الأمراض وأن رقاهم تؤثر على هذه الأرواح والأشباح فتطردهم وتحمي مرضاهم من أضرارهم. هكذا يدعون فجعلوا رقاهم طباً بديلاً عن الرقى الشرعية والأدوية المادية فجاء هذا الكتاب ممثلاً لمجموعة من أهل الصلاح والتقوى وسلامة الاعتقاد وصدق التوجه إلى كشف عوار هؤلاء الدخلاء عبدة المردة والشياطين واقتناعاً مني بنبل الهدف وسمو القصد ووجاهة الاحتساب عند الله تعالى فقد كان مني المساهمة بما يلي:(1/7)
لقد خلق الله الإنسان بيده الكريمة، ونفخ فيه من روحه الزكية، وجعله روحاً وجسداً، وجعل الروح جوهر الحياة، وضمن لها البقاء وجعل الجسد وعاءً حافظاً لها إلى أجل، مُقيداً قدرتها على الانطلاق والتحليق في آفاق الكون إلا في حال خلود الجسد إلى النوم فلها انطلاق محدود بزمن النوم قال تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجلٍ مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} (1).وقد اختص الله تعالى بالكمال المطلق وكتب على خلقه النقص في المال والنفس والثمر لحكم أرادها وأسرار اقتضتها حكمته وخبرته وكمال علمه قال تعالى: {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين}(2). والإنسان فرد من أفراد خلق الله مكون من روح وجسد ويعتري كلاً منهما النقص في الخلق والخُلق والشعور والإحساس.
فالروح كائن حي معرض للنقص والقصور وتعتريها الأمراض النفسية من قلق واكتئاب واضطراب وهبوط وتذبذب في الشعور والإدراك ووسوسة تفرز التردد والشكوك والانهيار النفسي والإحباط عن الاتجاه السوي، كما أن الروح معرضة للأمراض النفسية من سحر وآثار حسد.
والجسد كائن حي ما دامت الروح كامنة فيه يعتريه من الأمراض الحسية المختلفة ما يعتريه في سمعه وبصره وقواه المتعددة في الظاهر والباطن.
__________
(1) الزمر : 42.
(2) البقرة : 155.(1/8)
ونظراً إلى أن الله قد ميز الإنسان في خلقه وفضله على الكثير من خلقه بعقل يدرك الخير من الشر، والهدى من الضلال، وبقلب يعي ويبصر، وبمدارك تهدي إلى ما تقتضيه فطرة الله التي فطر الناس عليها ومن ذلك القدرة على التدرج في آفاق العلم واختراق حجب الكون لمعرفة خصائصه وعجائبه وغرائبه ثم الإفادة من هذه الخصائص بما هيأ للإنسان حياة حضارية خدمته في كثير من شئون حياته من حيث حمايته والحفاظ على حقوقه والأخذ بأسباب سلامته من الأمراض وتمكينه من عمارة الأرض والقيام بخلافته فيها، كما ضمنت هذه الحياة الحضارية للإنسان كرامته وفضله وتميزه على كثير من مخلوقات الله فضلاً عن عناية الله تعالى بالإنسان في تيسير أمر استقامته وصلاحه وهداه وذلك بإرسال الله رسله وأنبيائه وبإنزاله تعالى كتبه لخلقه تبيناً لكل شيء وهدى وموعظة وبشرى لأولى الألباب.
فاجتمع للإنسان من أسباب السعادة والطمأنينة والتميز التحصيل العلمي من وحي السماء ونتاج العقل مما جعله يقود سفينة الكون البشري في الحياة الدنيا إلى ما وصلت إليه الآن من علوم مختلفة في شئون الروح والجسد والحياة.
علوم في حكمة الوجود وحق الواجد، وعلوم في فلسفة الكون، وعلوم في خصائص المجتمعات وشرائحها ومكامن وجودها ووسائل نهوضها وتدنيها، وعلوم في طب الإنسان والحيوان والنبات، وعلوم في خصائص الكون والحياة والسعادة، وعلوم في أحوال النفس والروح من ضيق وانشراح.
ويهمنا في هذه المناسبة من العلوم علوم طب الإنسان المكون من الروح والجسد، فللروح طبٌ خاصٌ بها اصطُلِح على تسميته بالطب النفسي، وللجسد طب هو الطب العام ولكل من الطبين رجالهُ المختصون به وأدويته المختصةُ به.(1/9)
ونظراً إلى أن الروح كائن حي أمره إلى الله وسره مما اختص الله تعالى بعلمه فإن الروح يعتريها من الأمراض ما يجعلها تتعثر في توفير السعادة لوعائها وهو الجسد. وتحقيقاً للإدارة الإلهية: ما من داء إلا وله دواء علمه من علمه وجهله من جهله. وإدراكاً للكثير من أمراض الروح وأن فيها ما يعالج بالعقاقير الطبية، ومنها ما يعالج عن طريق اختراق حجب المواقع النفسية، ومنها ما يعالج عن طريق الرقى والأدعية الشرعية، فقد تعددت العيادات النفسية وظهر لكل عيادة أهلها والمختصون بها.
وموضوع بحثنا العيادة النفسية المختصة بأمراض الروح ووخزات الشيطان وهي أمراض حقيقية ذاتُ شَبَهٍ بالروح من حيث الوجود وانتفاءُ الظهور للسمع والبصر واللمس.
وقد وجد من غلاة عبَّاد العقل والحس من ينكر مثل هذه الأمراض وينكر أدويتها بحجة سلامة الجسد من المرض وإنكار أمراض لا يكون في الجسد مكان حسي لها وإرجاع ذلك إلى الوهم والخيال.
وهذا في الواقع راجع إلى قصور الإدراك وإنكار الوجود ونقص الإيمان وتحكيم العقل وجوداً وعدماً والاقتصار على ما يتحقق بالمشاهدة فقط.
والصحيح الذي تؤديه الوقائع أن الوجود ليس محصوراً في الحسي الملموس المشاهد.
فالكهرباء كامنة في أسلاكها قوةٌ تستخدم لأغراض مختلفة وهي قوةٌ مدمرة هذه القوة لا يميزها من يقدم له سلكان أحدهما مشحون بالقوة الكهربائية والآخر خالٍ منها وكذلك الأمر بالرياح والأعاصير فهي قوة تدمر كل شيء بأمر ربها ويرسلها الله تعالى لواقح وبشري بين يدي رحمته ومع ذلك لا يبصرها البصر ولا يلمسها اللامس وأرواح بني الإنسان والجان والملائكة والحيوان والنبات أرواح موجودةٌ حقيقية لا يمارى في وجودها عاقل ولا مجال لمشاهدتها ولا لمسها.
هذا القول يعطينا القناعة والتسليم بإمكان وجود آثار لأسباب يتعذر الإحساس بها من حيث السمع والبصر واللمس.(1/10)
ونظراً إلى أن هذه الحقيقة الكونية محل إيمان وتسليم من قبل أهل الديانات السماوية وبالأخص أمة الإسلام فقد وجد أدعياء العلم والمعرفة من حشر نفسه في زمرة علماء أمراض الروح والنفس لا سيما فيما يتعلق بالرقي والتمائم والأدعية، وذلك بالدخول في مجالات الشعوذة والدجل واستخدام مردة الشياطين والجن والأخذ بالطلاسم والرموز فأعطوا الطب الشرعي فيما يتعلق بالروح والجسد تعتيماً وتلبيساً وتضليلاً وخلطاً بين الحق والباطل والحقيقة والخيال.
فيتعين على أهل الفضل والعلم من ذوي الاعتقاد السليم والإيمان الصادق أن ينيروا للمسلمين طريق الرشاد وأن يتابعوا التحذير من محترفي الدجل والخرافة والشعوذة عبدة الجان والشياطين فيحذروهم من أعمالهم الشركية والتضليلية، ومن أعمالهم الانتهازية لسلب الأموال والتسلط على الأعراض وإفساد النفوس والقلوب. وأن يقوموا بإيضاح الفروق بين الرقى والأدعية الشرعية، وبين ما يقدمه أولئك المشعوذون الدجاجلةُ من خبث وسوء وضلال وإضلال.
فالرقى الشرعية والأدعية المشروعية طبٌ نفسي لا يصل الشكُ إلى التردد في قبوله واعتباره لا سيما من المسلمين الذين يشهدون بربوبية الله وألوهيته وأنه الشافي المعافي لا حول ولا قوة إلا به تعالى ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. فلقد تضافرت النصوص الشرعية من كتاب الله تعالى ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم في اعتبار القرآن هدىً وشفاء قال تعالى: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء}(1).
. وقال تعالى: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً}(2).
وقال تعالى: {وإما ينزغنك من الشيطان نزع فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم}(3). وقال تعالى: {وإذا مرضت فهو يشفين}(4).
__________
(1) فصلت : 40.
(2) الإسراء : 82.
(3) فصلت : 36.
(4) الشعراء : 80.(1/11)
ومن السنة ما في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان إذا اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم رقاه جبريل قال: بسم الله يُبريك، ومن كل داء يَشفيك، ومن شر حاسد إذا حسد، وشر كل ذي عين) (1).
وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن جبريل رقى رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذا.
وروى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى منا إنسان مسحه بيمينه ثم قال: (أذْهِب الباس ربَّ الناسِ واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاءً لا يغادر سقما). فلما مرض رسول الله صلى الله عَليه وسلم وثَقَلَ أخذتُ بيده لأصنع به نحو ما كان يصنع فانتزع يده من يدي ثم قال: (اللهم اغفر لي واجعلني مع الرفيق الأعلى). قالت فذهبت أنظر فإذا هو قد قضى (2).
وعنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحدٌ من أهله نفث عليه بالمعوذات، فلما مرض مرضه الذي مات فيها جعلت أنفث عليه وأمسحه بيد نفسه؛ لأنها كانت أعظم بركة من يدي (3).
وعنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى الإنسان الشيء منه، أو كانت به قرحة أو جرح قال النبي صلى الله عليه وسلم بإصبعه هكذا-ووضع سفيان سبابته بالأرض ثم رفعها-(باسم الله تُرْبةُ أرضنا بريقة بعضنا ليُشفى به سقيمنا بإذن ربَّنا) (4).
__________
(1) الحديث: أخرجه مسلم في كتاب السلام. باب: الطب والمرض والرقى (صحيح مسلم مع شرح النووي: 14/169).
(2) الحديث: أخرجه مسلم ، كتاب السلام، باب: استحباب رقية المريض (صحيح مسلم بشرح النووي: 14/180) .
(3) الحديث: أخرجه مسلم في كتاب السلام. باب: استحباب رقية المريض (صحيح مسلم مع شرح النووي: 14/183).
(4) الحديث: أخرجه مسلم في كتاب السلام. باب: استحباب الرقية من العين والنملة والحمة (صحيح مسلم مع شرح النووي: 14/184) .(1/12)
وعنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرها أن تسترقي من العين (1).
وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقية من العين والحمة والنملة (2).
قال النووي: النملة قروح تخرج في الجنب والحمة كل ذات سم(3).
وفي صحيح مسلم عن عوف الأشجعي قال: قال رسول الله صلة الله عليه وسلم: (اعرضوا عليَّ رقاكم لا بأس بالرقى ما لم يكن شرك) (4).
وفيه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا في سفر فمروا بحي من أحياء العرب فاستضافوهم فلم يضيفوهم. فقالوا لهم: هل فيكم راق؟ فإن سيد الحي لديغ أو مصاب، فقال رجل منهم: نعم فأتاه فرقاه بفاتحة الكتاب فبرأ الرجل فأعطي قطيعاً من غنم فأبى أن يقبلها وقال: حتى أذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وذكر ذلك له فقال يا رسول الله والله ما رقيت إلا بفاتحة الكتاب فتبسم وقال: (وما أدراك أنها رقية ثم قال خذوا منهم واضربوا لي بسهم معكم) (5).
وفي رواية: فجعل يقرأ أم القرآن ويجمع بُزاقه ويتفل فبرأ الرجل (6).
__________
(1) الحديث: أخرجه مسلم في كتاب السلام. باب: استحباب الرقية من العين والنملة والحمة (صحيح مسلم مع شرح النووي: 14/184) .
(2) الحديث: أخرجه مسلم في كتاب السلام. باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمة (صحيح مسلم مع شرح النووي: 14/184) .
(3) شرح النووي على مسلم: 14 / 184.
(4) الحديث: أخرجه مسلم في كتاب السلام. باب: جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن والأذكار (صحيح مسلم مع شرح النووي: 14/187) .
(5) الحديث: أخرجه مسلم في كتاب السلام. باب: جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن والأذكار (صحيح مسلم مع شرح النووي: 14/187) .
(6) الحديث: أخرجه مسلم في كتاب السلام. باب: جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن والأذكار (صحيح مسلم مع شرح النووي: 14/187) .(1/13)
هذه النصوص الشرعية من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم تبين لنا أن الرقية مشروعة ولا شك أن شرع الله حق وصدق في حقيقته ووجوب الإيمان به، فالرقية الشرعية علاج لأمراض الروح والنفس والبدن قال صلى الله عليه وسلم: (ولا بأس بالرقى ما لم يكن شرك).
ونظراً لوجود أدعياء على الرقية شوهوا أمرها فقد اتجه مجموعة من أهل العلم ومحققيهم إلى وضع شروط لاعتبار الرقية شرعية ومنها ما يلي:
1- أن تكون من كتاب الله تعالى، أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو من الأدعية المباحة المشتملة على التعلق بالله وحده لا شريك له في جلب الخير ودفع الشر وعلى الوحدانية في الشفاء من الله قال تعالى: {وإذا مرضت فهو يشفين}(1).
2- ألا تشتمل على صيغٍ مجهولةٍ من طلاسم ورموز ونحو ذلك.
3- أن تكون باللغة العربية خشية أن يكون في اللغات الأخرى من الخلل والزلل في الدعاء والتعلق ما لا يجوز ويجهله أهلها.
4- ألا يعتمد فيها ومنها الشفاء المباشر بل هي سبب والشافي هو الله وحده حيث جعل الله الرقية سبباً للشفاء والشفاء خاص بالله تعالى.
5- أن يكون المسترقي من أهل الإيمان بالله رباً وإلهاً واختصاصاً بالحول والقوة فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن قال تعالى: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً}(2).
6- ألا يكون الراقي من أهل الضلال والانحراف والتعلق بغير الله والتقرب إلى من يتعلق به الشياطين ومردة الجان بوسائل العبادة والخضوع كأن يطلب ممن يسترقيه شيئاً من أثوابه، أو أظفاره، أو شعوره، أو معلومات عن أسرته أو نحو ذلك مما هو مسلك الدجاجلة والمشعوذين وعبدة الشياطين.
__________
(1) سورة الشعراء آية (80).
(2) سورة الإسراء آية (82).(1/14)
فإذا تخلف شرط من هذه الشروط تحولت الرقية إلى ضرب من الدجل والوهم والشعوذة وقد يصل الأمر إلى الشرك بالله، واتجه إليها الاستثناء من الإباحة في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا بأس بالرقى ما لم يكن شرك).
وخلاصة البحث أن الإنسان مكون من روح ومادة وأن سلامة الإنسان وقدرته على ممارسة الحياة وتعامله مع علاقاته المختلفة في الحياة يعتمد في الغالب على سلامة روحه وجسده فالجسد هو وعاء الروح، ولا تكون الروح في ارتياح وانشراح وصفاء إلا بسلامة الجسد من الأمراض، ولا يكون الجسد في سلامة وصحة وانطلاق إلا بسلامة الروح من أمراضها.
وأمراض الروح غير أمراض الجسد وأمراض الجسد غير أمراض الروح وهذا يفسر ما يقوله الأطباء لمرضاهم حينما يكون المرض نفسياً فيقولون ليس فيك مرض وإنما هو وهم ويقولون هذا لجهلهم بأمراض الروح.
ولا شك أن للأمراض النفسية آثار على حصول الأمراض المادية على الجسد فحينما يكون المريض نفسياً في حال من الضيق والاكتئاب والضجر والتبرم يحصل من ذلك ضعف الدورة الدموية وضعف المناعة في الجسد ومن ثم حصول الفيروس في الجسد فتحصل بذلك الأمراض الجسدية.(1/15)
فالإنسان ممزوج في خلقه بين الروح والجسد فلا حياة له بدون الروح ولا وجود للروح بدون الجسد ولكل من هذين العنصرين خصائص يختص بها في الكيان والاتجاه والأمراض وقد أدرك هذا خبراء الطب والاجتماع والفلسفة فقاموا بإيجاد ما يسمى بالطب النفسي ووجد له علماء مختصون به وبخصائصه وأدوائه وأدويته حتى صار الطب النفسي قرين طب الأجساد من حيث الأهمية والاعتبار والاختصاص والتخصص فأنشأت المستشفيات الخاصة بالأمراض النفسية وقامت الدراسات المتتابعة في شكل مؤتمرات وندوات وحلقات علمية بتتبع أحوال النفس وما يعتريها من أوهام ووساوس وخلجات وانتكاسات في التفكير والتركيز والنظر، بل أوجدت كليات وأقسام في الجامعات العالمية ومراكز علمية تختص بالنظر في علوم النفس وما يكون سبباً في نشاطها أو انتكاساً وفي أدوائها وأدويتها. وهذا يعني التسليم بالروح وأنه كائن حي يعتريه ما يعتري الأجساد من أمراض وأسقام وأعراض إلا أن حقيقة هذا الكائن العجيب وتصور كنهه وحقيقة مما اختص الله بعلمه قال تعالى: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً}(1).
ومن المسلم به لدى عقلاء البشر وعلمائهم أن الروح جوهر الحياة وأن لأمراضها أحوالاً غالبها أمور معنوية قد لا يعترف الماديون بآثارها في الشفاء ولكن الواقع يصدمهم ويجعلهم في حيرة بالغة وهم يرون الروح المريضة تشفى بإذن الله ثم بأسباب معنوية ليس للأدوية المادية نصيب منها.
لا شك أن العلاج الروحي له من التأثير ما للعلاج المادي من الشفاء - بإذن الله - كما أن له من الوقاية من أمراض النفس ما للأدوية المضادة ولا يرد على هذا القول إنكار ما لم يكن له وجود حسي مادي.
فالعين حق وقد أمرنا تعالى بالاستعاذة منها فقال: {قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفاثات في العقد ومن حاسدٍ إذا حسد} (2).
__________
(1) سورة الإسراء آية (85).
(2) سورة الفلق .(1/16)
وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (العين حق ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين وإذا استُغسلتم فاغسلوا) (1).
والسحر حق وقد أمرنا الله بالاستعادة من الساحرات والنفاثات في العقد لسحرهن.
والله سبحانه وتعالى لا يأمرنا إلا بالحقيقة ومحتمل الوقوع قال تعالى: {واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت ومارون وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحدٍ إلا بإذن الله}(2).
وليس للمشاهدة الحسية نصيب للإحساس بفعل العين أو السحر. ومع هذا فهما حقيقتان وآثارهما محسوسة مشاهدة فدواء هذين المرضين دواءٌ غير محسوس بالمشاهدة وإنما هو معنوي له أثره في الوقاية والعلاج كحال هذين المرضين من حيث انتقاء مشاهدتهما الحسية.
فالعين إشعاع خبيث من عين العائن ليس للمشاهدة نصيب في إدراكه وكذلك علاجها رقية مبنية على القراءة والنفث وآثارها معنوية ليس للمشاهدة نصيب في إدراكه وكذلك الأمر بالنسبة للسحر داءً ودواءً.
وكذلك الأمر بالنسبة للروح ما يعتريها من أمراض غير السحر والعين فإن هذه الأمراض وأدويتها الغالب فيها أن لا يكون للمشاهدة نصيبٌ في إدراكها.
أرجو أن أكون بما قدمته من ورقة بحث قد أسهمت في تمييز الطب الشرعي عن طب الخرافة والشعوذة والدجل وأثبت ما للروح من أحوال تعتريها فتؤثر فيها صحةً وسقماً وأن عصمتها من الأمراض النفسية في اللجوء إلى الله تعالى: {أَمَّنْ يُجيب المضطرَ إذا دعاه ويكشف السوء}(3).
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب السلام. باب: الطب والمرض والرقى (صحيح مسلم مع شرح النووي: 14/171) .
(2) سورة البقرة آية (102) .
(3) سورة النمل آية (62).(1/17)
وقال تعالى: {وإمَّا ينزغنَّك من الشيطان نزغٌ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم}(1).
وقال تعالى: {وقل ربِّ أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك ربِّ أن يحضُرون}(2).
وقال تعالى: {قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفاثات في العقد}(3).
والالتزام بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق.
وبالله التوفيق وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.
وبعد فأرجو أن ينفع الله بهذا الكتاب وأن يجعله إسهاماً متميزاً في بيان الحق والطريق إليه وكشف عوار أهل الدجل والكهانة والشعوذة والتصوف للتحذير منهم ومن اللجوء إليهم فقد قال تعالى: (وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا) (4).
ولا شك أن هذا الكتاب من أهم الكتب المعاصرة في موضوع الرقى الشرعية وبيان قيودها وشروطها وضوابطها وأهلها المختصين بها فجزى الله القائمين بإعداد هذا الكتاب خير جزاء وأتمه وجعله في موازين حسناتهم. والله المستعان.
كتبه / عبد الله بن سليمان المنيع
عضو هيئة كبار العلماء في الملكة العربية السعودية
***
@@@@
ما من داء إلا وله دواء
إن من مظاهر رحمة الله بعباده أنه ما ترك شيئاً فيه مضرة بعباده أو فساد لحياتهم إلا أوجد له العلاج والبلسم الشافي.
وجاء البناء التشريعي لدينه العظيم على هذا المعنى مؤكداً له، فقد حرم مفاسد الدين والدنيا كلها، وأوجد لها بديلاً من جنسها يأخذ بيد عباده إلى السلامة من شرور تلك المفاسد ويهديهم إلى ما يحقق لهم صلاح دنياهم وأُخراهم، ويضع أقدامهم على طريق الهداية.
__________
(1) سورة المؤمنون آية (97) .
(2) سورة فصلت آية (36) .
(3) سورة الفلق .
(4) سورة الجن آية (6).(1/18)
وفي إطار ما تهدف إليه مقاصد الشرعية من حماية مصالح الناس ورفع الضرر عنهم وتحقيق الأسباب التي يحققون بها رضا ربهم والقيام بما فرضه عليهم من القيام بعبادته وتوحيده وعدم الإشراك به شيئاً والسعي في مناكب الأرض بالعمل النافع.
ولقد شرع الإسلام الطب والعلاج وأرشد إليه القرآن الكريم في المواطن التي نهانا فيها عن إلقاء النفس في التهلكة أو قتل النفس أو أخذ الحذر من كل ما يضر بالإنسان في دنياه وآخرته.
ولهذا فقد أرشد القرآن الكريم إلى التماس العلاج من أمراض القلوب وأمراض النفوس وأمراض الأبدان، وجاءت سنة النبي صلى الله عليه وسلم- مؤكدة لهذا الذي أرشد إليه القرآن الكريم وجاءت الأدية عليه في الأحاديث النبوية الكثيرة التي دعت للعلاج وأرشدت إلى تلمسه بل إن الإجماع انعقد على هذا مما يجعل أمر مشروعية العلاج والتداوي أمراً لا يمكن إنكاره.
ومع أن التشافي بالقرآن الكريم يعتبر من ضمن ما أرشد إليه الإسلام إلا أن المسلمين لم يعطوا هذا الجزء الحيوي من بناء التشريع ما يستحقه من اهتمام وما يجب أن يلقاه من دراسة وتأصيل وعناية، وظل أمر العلاج بالقرآن الكريم على نحو ما شرعه الله ورسوله مهملاً، حتى بدت نذر الجهالة والخرافات تطل على كثير من بقاع الإسلام بوجه قبيح وأفكار شيطانية أصبحت تمثل خطراً على حياة الناس وأعراضهم وسمعتهم وصحتهم، ودخل ميدان العلاج تحت اسم القرآن بعيداً عن منهجه كثير من الدجالين والمشعوذين الذين أساؤوا للإسلام والمسلمين أبلغ إساءة وأظهروا صورته في مرآة القنوات الإعلامية الغربية وغيرها على نحو لا يرضاه مسلم على دينه وعقيدته.(1/19)
وقد جاءت ندوة التشافي بالقرآن التي نظمتها الجمعية الكويتية لمكافحة التدخين والسرطان على النحو الذي يقطع الطريق على الدجالين والمشعوذين ويفضح أمرهم، ولترد عن دين الله ما أحدثه به أولئك الدجالون المتطفلون من إساءة وتشويه وخاصة في هذه الظروف لتصحيح المفاهيم السائدة عن التشافي بالقرآن الكريم ورد الاعتبار له.
وهذه الندوة هي بداية طريق طويل يجب أن نقطعه سوياً حتى نضرب على أيدي كل من تسول له نفسه الأمّارة بالسوء استغلال ديننا الحنيف لمآرب أو مكاسب شخصية ستعود بالضرر الكبير علينا جميعاً.
ونناشد كل صاحب ضمير حي وحريص على دينه أن يتعاون معنا على رفع شأن ديننا الحنيف وأن نعرفه للعالم بصورة متفتحة ورؤية بعيدة عن كل غلو وتعصب، لأننا نحن المسلمين في أمس الحاجة إلى جهود لتخليص ديننا مما شابه من تشويش في معانيه وحتى مقاصده.
ونحمد الله جميعاً سائلينه جل جلاله أن يهدينا جميعاً إلى سواء السبيل.
الدكتور عبد الرحمن العوضي
المشرف العام
للندوة الفقهية الطبية الأولى حول التشافي بالقرآن
***
@@@@
وفوق كل ذي علم عليم
نعم تواصلت آي القرآن العظيم تثرى على مدى ثلاثة وعشرين عاماً، لتربط ذلك الإنسان بخالقه وتدله على طريق العلم وتجعل منه خليفة الله في الأرض.
ولقد اتصل القرآن الكريم بالعلوم جميعاً، حين جعل الإسلام دين الفطرة فأشار إلى حقيقة العلاقة الأولية بين الماديات وما أعظم قوله سبحانه ((فأقم وجهك للدين حنيفا. فطرة الله التي فطر الناس عليها. لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون)) فالآية الكريمة أوجزت تمام انطباق الإسلام على سنن الله التي خلق عليها الإنسان، سواء تعلقت بالبدن أو النفس، أو بما يحيط بالإنسان وما يتفاعل معه.(1/20)
من هنا أدرك العلماء الصادقون عظمة خلق الله وتيقنوا من عجزهم حين اقتربوا أكثر من معرفة بعض أسرار المادة التي أودعها الله في خلقه، ولا عجب أن يكون أكثر الناس قرباً إلى الله أوسعهم علماً، فالإنسان الذي أتبع علمه تأمله تجده قريباً لخالقه ملتصقاً بتعاليمه ((إنما يخشى الله من عباده العلماء)).
ولقد عرفنا نحن الأطباء قدرة الخالق وعظمته حين وجدنا أنفسنا مدبرين عند اقترابنا، بعيدين حين وصولنا، فكأنما العلم أبحر لا ينتهي واحد إلا ويكون الذي يليه أوسع منه وأعمق، وحين زاد جهلنا في ذروة علمنا، أدركنا أن لا مناص من التمسك بعلم الله والنظر بعيداً فوق المادة لعلنا ننجح في فهم بعض ما غاب عن بني الإنسان قروناً طويلة، فيوم أن حسب الإنسان أنه قادر على الإمساك بأسرار المعرفة وحقيقة المادة، وجد نفسه في وسط أمواج من الأسرار تتوسع دوائرها بما لا قبل له بها، فظهرت أمراض جديدة وتوسعت دوائر التحدي أمام علماء المادة وتبع كل ذلك معاناة جديدة للإنسان حيث انتشرت الأوبئة وازدادت الأمراض التي لم يعهدها بنو البشر من قبل ووجد الإنسان نفسه في حيرة بعد أن كان قد وصل إلى قمة الثقة في ما يملكه من علم مادي. من هذا كله كان من واجب علماء المسلمين أن يبادروا إلى ربط العلاقة المادية بالسمو الروحي، تلك هي الفطرة التي تكونت منها الحياة، فلا معرفة حقيقية دون ذلك الربط ولا علم نافع من غير ذاك الفهم، ومن أجل ذلك كانت ندوة التشافي بالقرآن التي نقدم لها هنا، فهي تهدف، فيما تهدف إليه، إلى توثيق العلاقة الروحية بالأثر المادي وتثبت تفاعل المادة بالروح وأيضاً تأثير الروح بالمادة، فكلاهما خلق الله ومعرفتهما من مسالك العلم التي ينتفع بها العالمون.(1/21)
لهذا كان التأكيد على وجود تلك العلاقة خدمة للباحثين وأيضاً معرفة شروطها الحقيقية التي شرعها الخالق سبحانه لتحقيق الفائدة القصوى من تلك المعرفة، وأخيراً لتجنب أولئك الذين يجهلون وهم يدعون العلم والذين زاد عددهم في زماننا هذا.
فهل حققت هذه الندوة كل ذلك، هذا ما دعونا الله من أجله ونسأله سبحانه أن يستجيب، اللهم آمين.
الدكتور
خالد أحمد الصالح
رئيس اللجنة التحضيرية
الندوة الفقهية الطبية الأولى حول التشافي بالقرآن
***
عن الندوة والمشاركين بها
دعت لجنة الأورام بالجمعية الكويتية لمكافحة التدخين والسرطان إلى الندوة الفقهية الطبية الأولى حول التشافي بالقرآن الكريم صفوة من الفقهاء والأطباء المسلمين من دولة الكويت، وجمهورية مصر العربية، والمملكة العربية السعودية، والأردن، والولايات المتحدة الأمريكية في الفترة ما بين 26-28 جمادى الآخرة 1418 هجرية، الموافق 27 إلى 29 أكتوبر 1997م، تحت رعاية معالي وزير العدل ووزير الأوقاف والشؤون الإسلامية الأستاذ/ محمد ضيف الله شرار وبرئاسة الدكتور عبد الرحمن عبد الله العوضي رئيس مجلس إدارة الجمعية الكويتية لمكافحة التدخين والسرطان..
وعقدت جلسات المحاضرات والمناقشات بفندق "هوليداي إن" خلال هذه الفترة، كما أقيمت ندوتان جماهيريتان ضمن فعاليات الندوة بمركز الطب الإسلامي، أتيحت الفرصة فيهما لأكبر عدد من جمهور المهتمين والمهتمات بمجال الندوة..
ولقد تم تشكيل اللجان على النحو التالي:
لجان الندوة
1- المشرف العام :
الدكتور عبد الرحمن عبد الله العوضي
رئيس مجلس إدارة الجمعية الكويتية لمكافحة التدخين والسرطان
2- اللجنة التحضيرية :
الدكتور خالد أحمد الصالح /رئيساً
الشيخ عبد الله الحداد / عضواً
الشيخ عبد المحسن الرويشد / عضواً
السيد عصام راشد التوحيد / عضواً
3- اللجنة العلمية :
الدكتور يوسف يعقوب السلطان / رئيساً
الأستاذ الدكتور محمد الأحمدي أبو النور /عضواً(1/22)
الدكتور خالد أحمد الصالح / عضواً
الدكتور مصطفى محمود حلمي / عضواً
4- هيئة التحرير :
الأستاذ الدكتور محمد الأحمدي أبو النور
الدكتور مصطفى محمود حلمي
الدكتور يوسف يعقوب السلطان
الشيخ عبد المحسن الرويشد
وفي يوم الأربعاء 28 جمادى الآخرة 1418 هـ، الموافق 29 أكتوبر 1997/، وبعد استكمال المناقشات في محاور الندوة الثلاثة وهي:
1. مشروعية الرقية.
2. ضوابط الرقية الشرعية
3. التشافي بالقرآن من الناحية الطبية.
اجتمعت لجنة الصياغة بحضور كل من :
الأستاذ الدكتور الأحمدي أبو النور - جامعة الكويت - رئيساً
الدكتور خالد أحمد الصالح - الجمعية الكويتية لمكافحة التدخين والسرطان - مقرراً
الأستاذ الدكتور على ناصر فقيهي - المملكة العربية السعودية
الأستاذ الدكتور عبد الله النجار - جمهورية مصر العربية
الأستاذ الدكتور عجيل جاسم النشمي - دولة الكويت
الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق - دولة الكويت
الدكتور محمد عثمان شبير - المملكة الأردنية الهاشمية
الدكتور فلاح إسماعيل - دولة الكويت
الدكتور أحمد القاضي - الولايات المتحدة الأمريكية
الدكتور مصطفى محمود حلمي - دولة الكويت
الشيخ عبد الله الحداد - دولة الكويت
الشيخ عبد المحسن الرويشد - دولة الكويت
القرارات والتوصيات
وقد صاغ المجتمعون القرارات والتوصيات التالية:
أولاً : فيما يتعلق بمشروعية الرقية
1- الرقية قديمة في تاريخ البشرية، عرفها العرب في الجاهلية، وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم ما عرض عليه منها، إذا لم تتضمن شركاً، كما أوحي إليه صلى الله عليه وسلم في القرآن والسنة آيات وأحاديث تدل على مشروعيتها .
2- الرقية الشرعية هي ما يقرأ من الدعاء وقاية أو استشفاء بالقرآن الكريم، وبالأحاديث النبوية الثابتة في ذلك، وبأي دعاء آخر لا يتعارض مع القرآن والسنة.
3- الرقية مشروعة باتفاق العلماء، وهي سنة مستحبة لا تتنافى مع التوكل ولا تتعارض مع الأخذ بالأسباب الأخرى .(1/23)
4- للقرآن الكريم بألفاظه وللصيغ الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم منزلة
وخصوصية.
ثانياً : فيما يتعلق بضوابط الاستشفاء بالرقية
1- أن تكون الرقية بالقرآن الكريم وبالأحاديث النبوية الثابتة في ذلك أو بأي دعاء آخر لا يتعارض مع القرآن والسنة.
2- أن يعتقد كل من الراقي والمرقي أن الرقية لا تؤثر بذاتها وإنما ذلك بإذن الله عز وجل.
3- أن يكون الراقي مسلماً وأن تكون الرقية بلغة مفهومة، ويندب للمسترقي أن يقصد أهل الصلاح والعلم والتقى.
محذورات الرقى :
1- أن لا يدخلها شرك ولا سحر ولا دجل ولا شعوذة ولا طلاسم ولا طقوس
2- أن لا تقترن بمحرم، كالخلوة بأجنبية أو كشف عورة أو مس من لا تحل.
3- لا يجوز اتخاذ التمائم السحرية التي تقوم على الخرافة كتعليق خرزة زرقاء أو حجاب فيه سحر أو التولة (ما يقصد به جلب المحبة بصورة غير شرعية)، وأما التمائم المتضمنة آيات من القرآن وأدعية فهي ممنوعة أيضاً سدا للذريعة.
أخذ الأجرة على الرقية:
الأصل في الرقية أن تكون تطوعاً واحتساباً ويجوز أخذ أجرة عليها بالمعروف، وإن يستعف الراقي فهو خير له، ويتأكد الاستعفاف سدا لذريعة امتهان كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وصرف كتاب الله عن غايته.
ثالثاً : فيما يتعلق بالعلاقة بين الرقية والطب
1- الرقية ليست بديلاً عن الطب.
2- تثني الندوة على الجهود المبذولة لاستخدام التشافي بالقرآن والسنة كمنهاج حياة في إطار التوجيهات الإسلامية على نحو علمي منهجي كما هو متبع في مركز معهد الطب الإسلامي في مدينة (بنما سيتي) بالولايات المتحدة الأمريكية وتدعو إلى تشجيع تلك الجهود لتكون نواة لعمل علمي متكامل في هذا المجال.
3- تدعو الندوة إلى تشجيع لجنة الأورام في الجمعية الكويتية لمكافحة التدخين والسرطان ومؤازرتها بالدعم المادي والقوى البشرية وأبحاثها النظرية والتطبيقية للتمكن من تقديم نتائجها الإحصائية في الندوة القادمة(1/24)
4- اعتبار الجانب الدعوي هدفاً أساسياً من أهداف التشافي بالقرآن الكريم. 5- يجوز أن تخضع ممارسات الرقى لعمل البحث العلمي الميداني تحت إشراف الأطباء والفقهاء لتحديد تأثيراتها الإيجابية.
6- طبع كتيبات في الرقى الشرعية وتأصيل ضوابطها وكيفيتها وتوزيعه على الناس لا سيما في المساجد والمستشفيات لتنمية وعيهم لهذا النوع من العلاج.
رابعاً : التوصيات العامة
1- توجيه أفكار المسئولين بالأقطار الإسلامية لمضاعفة جهودهم المبذولة في ملاحقة الدجالين والمشعوذين الذين يستخدمون الرقى للابتزاز وأكل أموال الناس بالباطل وصدهم عن سبيل الله.
2- تستلفت الندوة أنظار المسئولين عن الدعوة الإسلامية في الأقطار الإسلامية إلى توعية خطباء المساجد وأئمتها لموضوع الرقية الشرعية ليمارسوها هم احتساباً وليواجهوا في توجيهاتهم الدجالين والمشعوذين.
3- التأكيد على أن القرآن الكريم منهج شامل لمناحي الحياة الإنسانية والأصل فيه أنه هداية للناس ورحمة والاستشفاء بالرقية جزء من منهجه في علاج الروح واستقامة الجسد.
4- عقد ندوة مقبلة تخصص للتوعية بحقيقة السحر والحسد وما يتصل بهما لتحصين الناس من شرورها المدمرة.
@@@@
موضوعات الملف :
الرقية الشرعية: أحكامها ومذاهب الفقهاء فيها
الأستاذ الدكتور عجيل جاسم النشمي
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) (1) .
(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً) (2) .
__________
(1) سورة آل عمران: 102.
(2) سورة النساء: 1.(1/25)
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً) (1) .
وبعد: فإن المرض ابتلاء من الله وأجر للعبد عظيم، إن صبر واحتسب يكفر الله به خطاياه. قال صلوات الله وسلامه عليه: "ما من مرض أو وجع يصيب المؤمن إلا حط الله سيئاته كما تحط الشجرة ورقها" (2) ويرفع الله بالمرض درجة المؤمن، قال صلوات الله وسلامه عليه: "ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها، إلا رفعه الله بها درجة، أو حط عنه بها خطيئة" (3) ويطهر معه ذنوبه كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم "ما من مسلم يصرع صرعة من مرض إلا بعثه الله منها طاهراً"(4) .
__________
(1) سورة الأحزاب: 70، 71 .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المرض: باب شدة المرض ح(5647). ومسلم في صحيحه: كتاب البر والصلة: باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن ح (2571)، وأحمد في مسنده (1/441)، وانظر تحفة الأشراف ح(9191).
(3) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة: باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن ح(2572) والترمذي في سننه: كتاب الجنائز: باب ما جاء في ثواب المريض ح(967)، وقال: حديث عائشة حديث حسن صحيح، وأحمد في مسنده (6/42). قال النووي: في هذه الأحاديث بشارة عظيمة للمسلمين، فإنه قلما ينفك الواحد منهم ساعة من شيء مؤذ، وفيه تكفير الخطايا بالأمراض والأسقام، ومصايب الدنيا، وهمومها؛ وإن قلت مَشقَّتها. وفيه رفع الدرجات بهذه الأمور، وزيادة الحسنات، وهذا هو الصحيح الذي عليه جماهير العلماء- انظر شرح النووي على مسلم (16/128).
(4) حديث مسند أخرجه الطبراني في الكبير (7485). وفي هامش الطب النبوي للمقدسي.(1/26)
ومن خيرة المرض وفضله على الصَبَّار المحتسب أن يكتب للمريض أجر ما كان يعمله من خير وبر وهو صحيح. وهذا فضل من الله أن جعل المرض مصدر أجر مستمر، وصاحبه لا يقدم من جهده شيئاً. قال صلوات الله وسلامه عليه: "من كان له عمل يعمله من خير فشغله عنه مرض، أو سفر، فإنه يكتب له صالح ما كان يعمل، وهو صحيح مقيم" (1) .
وهل هناك أفضل من أن يحقق مرض الصابر محبة الله عز وجل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أحب الله قوماً ابتلاهم، فمن صبر فله الصبر، ومن جزع فله الجزع"(2) .
فالمرض نعمة لأهل الإيمان، وليس تعذيباً- ولو كان كذلك ما ابتلى أنبياءه والصالحين.
عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاءً قال: "الأنبياء، ثم الصالحين، ثم الأمثل فالأمثل من الناس. يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد له في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف عنه، وما زال البلاء بالعبد حتى يمشي على ظهر الأرض ليس عليه خطيئة" (3) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الجهاد والسير: باب يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإقامة ح(2996). وأبو داود في سننه: كتاب الجنائز: باب إذا كان الرجل يعمل عملاً صالحاً فشغله عنه مرض أو سفر ح(3091)، وأحمد في مسنده (4/410) .
(2) حديث صحيح مضى تخريجه .
(3) أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الزهد: باب ما جاء في الصبر على البلاء ح(2405)، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجه في سننه: كتاب الفتن: باب الصبر على البلاء ح (4023)، وأحمد في مسنده (1/172)، والحاكم في مستدركه (1/42)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. وقال الذهبي: على شرط مسلم. وأنظر صحيح سنن ابن ماجه للألباني ح(3249).(1/27)
وإذا كان هذا أجر المرض؛ وفضله لا يعني تمني المسلم المرض ففضل الله وخيره وكرمه للمسلم في الصحة والنعمة أيضاً. والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له؛ وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له"(1) .
هذا، وإن الاستشفاء مطلوب من المسلم، يبذل في سبيله الغالي والرخيص. ولا يعارض ذلك ما ذكر من أجر المرض لمن صبر. ففضل الله على الصحيح عظيم، له مثل أجر المريض أو يزيد- كما سبق. والاستشفاء مطلوب من سائر الأمراض عضوية أو نفسية، ويسلك في سبيله أي الأدوية مادية أو معنوية. وإن الرقية وهي: ما يُقَرأ من الدعاء لطلب الشفاء بالقرآن وأسماء الله وصفاته وبالذكر؛ نوع من العلاج له أثر مادي من الأمراض العضوية، كما أن له أثرا في الجوانب المعنوية، والنفسية. وهذا معهود ومجرب لا يماري فيه عاقل.
ولما كانت الرقية مطبقة شرعية عقائدية- احتاجت إلى بيان ضوابطها وحدودها وألفاظها، حذراً من أن تكون وسيلة لضعاف النفوس، ومرضى القلوب، يبتزون بها الناس، ظلماً وبهتاناً ودجلاً، ويقع من ذلك شر عظيم على الأفراد، والأسرة، والمجتمع. وهذا البحث معني ببيان الرقى الشرعية وضوابطها وألفاظها ومذاهب الفقهاء فيها - لعل الحريص على دينه يجد فيه بغيته، ويهتدي إلى الصواب في التعامل مع مرضاه على ما تبين من صحيح الطب النبوي.
مذاهب الفقهاء:
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الزهد: باب المؤمن أمره خير كله ح(2999)، وأحمد في مسنده (4/332). انظر فتح الباري لابن حجر (10/106): كتاب المرض. قال المنذري: النبي (صلى الله عليه وسلم) يبشر المؤمن بما يصيبه، ويخبره أن كل شيء أحاطه كسب منه ثواباً: فإن أمره الله بنعم فحمده نال أجراً، وإن أصابته سيئة فصبر نال ثواباً؛ فهو في الحالتين مكرم مثاب مؤجر- الترغيب والترهيب (4/278).(1/28)
اتفق الفقهاء: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة على جواز الاستشفاء والرقية، لكنهم اختلفوا في التساوي بين الفعل والترك، أو الفضيلة، أو الكراهة.
المذهب الأول:
ذهب الحنفية والمالكية إلى الجواز، بمعنى الإباحة بين فعل الرقية أو تركها (1) .
ولا يشوش على هذا تعبير بعضهم بـ"لا بأس". فقد عبر بعض الحنفية كابن عابدين وابن أبى زيد القيرواني عن الجواز بلفظ "لا بأس بالمعاذات"(11) و"لا بأس بالاسترقاء والتعوذ"(2) .
والمراد الجواز. لكن من له قوة على الصبر فالمستحسن عدم الاسترقاء، وهذا لا ينفي الجواز. نبه على ذلك النفراوي من المالكية فقال: تعبير المصنف "بلا بأس" يقتضي أن الأحسن عدم الاسترقاء، وتسليم الأمر إلى الله(12). ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب، وهم الذين لا يرقون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون" (3) .
ففي هذا ذم الاسترقاء. وحديث أن جبريل كان يرقي النبي صلى الله عليه وسلم يقتضي مدح الاسترقاء، وإن فعله أحسن من تركه. ثم أجاب النفراوي بقوله: والجواب عن هذه المعارضة من وجهين: أحدهما: أن الاسترقاء الذي يحسن تركه الاسترقاء بكلام الكفار أو الألفاظ المجهولة التي لا يعرف معناها كالألفاظ العجمية. والاسترقاء الحسن ماكان بالآيات القرآنية، أو الأسماء والكلمات المعروفة المعاني.
__________
(1) انظر حاشية ابن عابدين (6/363) .
(2) انظر الفواكه الدواني للنفراوي (2/368).
(3) الفواكه الدواني للنفراوي (2/369).(1/29)
وثانيهما: أن الاسترقاء المستحسن تركه هو ما كان في حق من له قوة على الصبر على ضرر المرض، كما قيل للصديق رضي الله عنه: ندعو لك طبيباً، فقال: "الطبيب أمرضني". والمستحسن فعل الرقية في حق الضعيف (1) .
المذهب الثاني:
ومذهب الحنابلة مباح لكن تركه أفضل(2) ، وجمهورهم على الاستحباب (3) .
المذهب الثالث:
أن التداوي بالرقية مستحب. وهو مذهب الشافعية. قال النووي في منهاج الطالبين: "ويسن التداوي". وقال: "إنه مذهبهم ومذهب جمهور السلف وعامة الخلق. واختاره الوزير ابن المظفر"(4) .
وعلى الاستحباب كثير من الحنابلة، كالقاضي أبي يعلي والبهوتي وابن الجوزي وابن عقيل والمقدسي وغيرهم. جاء في الآداب الشرعية: الاستحباب هو الصواب، وهو قول الجمهور. وذكر في شرح مسلم أنه قول كثير من العلماء أو أكثرهم.
المذهب الرابع:
مذهب الكراهة (5) .
__________
(1) انظر الفواكه الدواني للنفراوي (2/369). وقد يعبر عن الجواز عند المالكية بقولهم "لا بأس": كقول الإمام مالك في باب الخلع "لا بأس بأن تفتدي المرأة من زوجها بأكبر مما أعطاها". فلا بأس: تعني الإجازة أيضاً. وعلى ذلك إذا أطلق المباح انصرف إلى الجواز الذي هو مستوى الطرفين أو المأذون فيه حيث لا يتعلق بفعله مدح ولا بتركه ذم وهو معنى: لا بأس أيضاً. انظر دليل السالك للمصطلحات والأسماء في فقه الإمام مالك (15) للدكتور حمدي عبد المنعم شلبي.
(2) عَبَّر عبيد الله بن سلام عن هذا بأنه مذهب الكراهية في الاستشفاء، انظر كتاب فضائل القرآن ومعالمه وآدابه .
(3) انظر منهاج الطالبين بشرح المحلي. وانظر حاشية قليوبي وعميرة (1/44) .
(4) 17-انظر الآداب الشرعية (82). وصحيح مسلم.
(5) انظر شرح النووي على مسلم (7/427). ونيل الأوطار للشوكاني (8/20)، وفضائل القرآن لأبي عبيد: القاسم بن سلام (2/220) .(1/30)
. فيكره التداوي بالرقى؛ محتجين بتعارض الأحاديث في المنع والإباحة. أو بفهم حديث ابن عباس رضي الله عنه: "أن امرأة سوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع وإني أتكشف فادع الله، قال: إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك. فقالت: أصبر. وقالت: إني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف، فدعا لها" (1) .
وقد رد النووي على هذا بقوله: لا مخالفة لهذا الحديث وغيره لأحاديث الجواز، لأن "المدح في ترك الرقى المراد بها الرقى التي هي من كلام الكفار، والرقي المجهولة، والتي بتعبير غير العربية، وما لا يعرف معناها؛ فهذه مذمومة لاحتمال أن معناها كفر، أو قريب منه أو مكروه. وأما الرقي بآيات القرآن وبالأذكار المعروفة فلا نهي فيه بل هو سنة.
وقال بعض الفقهاء: لا تجوز الرقية إلا من العين واللدغة لحديث بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا رقية إلا من عين أو حمة"(2) .
__________
(1) - أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب المرض: باب فضل من يصرع من الريح ح(5652). ومسلم في صحيحه: كتاب البر والصلة: باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن ح(2576). وأحمد في مسنده (1/347). قال ابن حجر: من فوائد الحديث: فضل من يصرع. وأن الصبر على بلايا الدنيا يورث الجنة. وأن الأخذ بالشدة أفضل من الأخذ بالرخصة لمن علم من نفسه الطاقة ولم يضعف عند الالتزام الشدة. وفيه دليل على جواز ترك التداوي. وفيه أن علاج الأمراض كلها بالدعاء والالتجاء إلى الله أنجع وأنفع من العلاج بالعقاقير وأن تأثير ذلك وانفعال البدن عنه أعظم من تأثير الأدوية البدنية ولكن إنما تنجح بأمرين: أحدهما من جهة العليل وهو صدق القصد، والآخر من جهة المداوي وهو قوة توجهه وقوة قلبه بالتقوى والتوكل على الله. والله أعلم- انظر فتح الباري لابن حجر (10/115) ش ح(5652).
(2) شرح مسلم (7/327)، ونيل الأوطار (8/209)، وفضائل القرآن لأبى عبيد: القاسم بن سلام (2/220).(1/31)
وعن سهل بن حنيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا رقية إلا في نفس أو حمة أو لدغة"(1) .؛ والنفس العين.
وأجاب الجمهور أن تخصيص ما ذكر لا يمنع الرقية من غيره من الأمراض. فمعنى الحديث: لا رقية أولى وأنفع من رقية العين والحمة، وإلا فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رقى بعض أصحابه من غير ما ذكر. وسياق الحديث يدل على أن المراد أن الرقية أنفع فيما ذكر. فإن سهلاً قال لما أصابته العين: أو في الرقى خير؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "لا رقية إلا من نفس أو حمة" (2) .
الرقية جائزة في كل مرض:
الرقية الجائزة شفاء سواء من مرض قلب أو نفس أو عضو.
وإنما تكون الرقية جائزة بشروط ثلاثة متفق عليها:
1. أن تكون بكلام الله تعالى أو بأسمائه وصفاته
2. أن تكون بلسان عربي، أو بما يعرف معناه من غيره. لا بالألفاظ المجهولة التي لا يعرف معناها.
3. أن يُعتقد أن الرقية لا تؤثر بنفسها بل بفعل الله تعالى (3) .
وقال بعض العلماء أن الرقية الشرعية التي يُؤمل منها الشفاء بإذن الله هي ما كانت على لسان الأبرار من الخلق (4) .
والرقية الجائزة شفاء من كل الأمراض القلبية والنفسية والعضوية إذا قدر الله الشفاء بها.
روى أبو الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من اشتكى منكم شيئاً أو اشتكاه أخ فليقل أمرك في السماء والأرض كما رحمتك (5) .
__________
(1) أخرجه ابن ماجه (2/86). 22- انظر الطب النبوي لابن القيم (127)، والدين الخالص للسبكي (7/121).
(2) انظر الدين الخالص للسبكي (7/120)، الفواكة الدواني (2/369).]
(3) انظر الدين الخالص للسبكي (7/120)، الفواكة الدواني (2/369).]
(4) نيل الأوطار (8/222).
(5) انظر نيل الأوطار (8/222).(1/32)
ولما رواه أبو سعيد الخدري أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا محمد، اشتكيت. فقال: نعم. فقال جبريل عليه السلام: باسم الله أرقيك" من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد، الله يشفيك، باسم الله أرقيك" (1) .
وقد ثبت في الصحيح جواز الرقية من اللدغة ومن الحمة - وهو السم - والقرحة والجرح والألم والمصيبة والحزن والعين (2) وغيرها.
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب الطب والمرض والرقى ح(2186) والترمذي في سننه: كتاب الجنائز: باب ما جاء في التعوذ للمريض ح(974) وابن ماجه في سننه: كتاب الطب: باب ما عوذ به النبي (صلى الله عليه وسلم) وما عوذ به ح(3523) وانظر تحفة الأشراف ح(4363) وأخرجه أحمد في مسنده (3/28-56) والنسائي في اليوم والليلة ح(1005) قال النووي هذا تصريح بالرقى بأسماء الله تعالى وفيه توكيد الرقية والدعاء وتكريره، وقوله من شر كل نفس قيل: يحتمل أن المراد بالنفس نفس الأدمي وقيل يحتمل أن المراد بها العين فإن النفس تطلق على العين ويقال رجل نفوس إذا كان يصيب الناس بعينه. انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/170).
(2) - أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب رقية النبي (صلى الله عليه وسلم) ح(5746) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة ح(2194) وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب كيف الرقى ح(3895) وابن ماجه في سننه: باب ما عوذ به النبي (صلى الله عليه وسلم) وما عوذ به ح(3521) وانظر تحفة الأشراف ح(17906) وأخرجه أحمد في مسنده (6/93) والبغوي في شرح السنة (5/224) والنسائي في اليوم والليلة ح(1023) وابن السني في اليوم والليلة ح (576).(1/33)
ففي الرقية من اللدغة. حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إذ سجد فلدغته عقرب في إصبعه، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "لعن الله العقرب ما تدع نبيَا ولا غيره". قال: ثم دعا بإناء فيه ماء وملح فجعل يضع موضع اللدغة في الماء والملح ويقرأ: "قل هو الله أحد، والمعوذتين حتى سكنت" (1) .
وفي الرقية من الحمة حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "رخص في الرقى من كل ذي حمة" (2) .
والحمة: السم.
__________
(1) - أخرجه ابن ماجة في سننه: كتاب إقامة الصلاة: باب ما جاء في قتل الحية والعقرب في الصلاة ح(1246) وانفرد به. وانظر تحفة الاشراف ح(16125). قال الهيثمي في المجمع (5/111) رواه الطبراني في الصغير واسناده حسن. وانظر صحيح سنن ابن ماجة للألباني ح(1030). والسلسلة الصحيحة للألباني ح(547) و(548).
(2) - أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب رقية الحية والعقرب ح (5741)، ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة ح (2193)، وانظر تحفة الاشراف ح (16011).(1/34)
وفي الرقية من القرحة والجرح حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى الإنسان أو كانت به قرحة أو جرح: قال بإصبعه: هكذا. ووضع سفيان سبابته بالأرض، ثم رفعها فقال: باسم الله، تربة أرضنا بريقة بعضنا، يشفي سقيمنا بإذن ربنا"(1) .
قال ابن القيم: هذا من العلاج الميسر النافع المركب. وطبيعة التراب الخالص باردة يابسة أشد من برودة جميع الأدوية المفردة الباردة؛ فتقابل برودة التراب حرارة المرض، لاسيما إذا كان التراب قد غُسل وجُفف. ومعنى الحديث: أنه يأخذ من ريق نفسه على إصبعه السبابة، ثم يضعها على التراب، فيعلق بها من شيء، فيمسح به على الجرح. وقول هذا الكلام لما فيه من بركة ذكر اسم الله، وتفويض الأمر إليه، والتوكل عليه؛ فينضم أحد العلاجين إلى الآخر فيقوى التأثير (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب رقية النبي صلى الله عليه وسلم ح(5746). ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة (2194). وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب كيف الرقى ح(3895). وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب ما عوذ به النبي صلى الله عليه وسلم وما عوذ به ح(3521). وانظر تحفة الاشراف ح(17906). وأخرجه أحمد في مسنده (6/93). والبغوي في شرح السنة (5/224). والنسائي في اليوم والليلة ح(1023). وابن السني في اليوم والليلة (576).
(2) - انظر الطب النبوي لابن القيم (135). والدين الخالص للسبكي (7/122)(1/35)
وفي الرقية من ألم المصيبة والحزن ما ورد من حديث أم سلمة قالت: قال صلوات الله وسلامه عليه: "ما من أحد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيراً منها، إلا أجره الله في مصيبته وأخلف له خيراً منها" (1) .
وفي الرقية من الألم العضوي، حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه: أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعاً يجده في جسده منذ أسلم؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ضع يدك على الذي تألم من جسدك، وقل: بسم الله ثلاثاً، وقل سبع مرات: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر" (2) .
قال ابن القيم: ففي هذا العلاج من ذكر الله والتفويض إليه، والاستعاذة بعزته وقدرته من شر الألم ما يذهب به. وتكراره ليكون أنجع وأبلغ، كتكرار الدواء لإخراج المادة. وفي السبع خاصية لا توجد في غيرها.
وفي الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يعوذ بعض أهله يمسح بيده اليمنى ويقول: "اللهم رب الناس أذهب الباس واشف، أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما" (3) .
ففي هذه الرقية توسُّل إلى الله بكمال ربوبيته، وكمال رحمته بالشفاء. وأنه وحده الشافي. وأنه لا شفاء
إلا شفاؤه. فتضمنت التوسل إليه بتوحيده وإحسانه وربوبيته (4) .
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الجنائز: باب ما يقال عند المصيبة ح(918). وأبو داود في سننه: كتاب الجنائز: باب في الاسترجاع ح(3119). وانظر تحفة الاشراف ح(18248) والنسائي في اليوم والليلة ح(1070).
(2) انظر الطب النبوي لابن القيم (135). والدين الخالص للسبكي (7/122)
(3) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الجنائز: باب ما يقال عند المصيبة ح(918). وأبو داود في سننه: كتاب الجنائز: باب في الاسترجاع ح(3119). وانظر تحفة الاشراف ح(18248) والنسائي في اليوم والليلة ح(1070).
(4) انظر الطب النبوي لابن القيم (136).(1/36)
وفي الرقية من النملة . وهي قروح تخرج في الجنبين. وترقى فتبرأ بإذن الله. سميت بذلك لأن صاحبها يحس في مكانها كأن نملة تدب عليه وتعضه. وهي تدب وتنتقل من موضع إلى آخر في جنبيه، كما تدب النملة. عن الشفاء بنت عبد الله قالت: "دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا عند حفصة: فقال لي: ألا تُعلِّمين هذه رقية النملة كما علمتيها الكتابة" (1) .
الرقية من العين: الرقية من العين هي أصل الرقية ومحلها الأشهر. والرقية من أكثر ما تكون من العين. وأكثر إصابة الناس منها. والعين عينان: عين إنسية وعين جنية (2) .
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من الجان ومن عين الإنسان (3) .
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الطب: باب ما جاء في الرقى ح(3887). وأحمد في مسنده (6/372). والحاكم في مستدركه (4/14) عن أبي حثمة القرشي أن رجلاً من الأنصار خرجت به نملة فدل أن الشفاء بنت عبد الله ترقي من النملة فجاءها فسألها أن ترقيه فقالت: والله ما رقيت منذ اسلمت فذهب الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه
(2) انظر الطب النبوي لابن القيم: (119)، والدين الخالص: (124).
(3) أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الطب: باب ما جاء في الرقية بالمعوذتين ح(2065) وقال: هذا حديث حسن غريب. والنسائي في سننه: كتاب الاستعاذة: باب الاستعاذة من عين الجان ح(5509) وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب من استرقى من العين ح(3511) وانظر تحفة الأشراف ح(4327) وانظر صحيح سنن الترمذي للألباني ح(1681).(1/37)
وعن أم سلمة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة أي صفرة، فقال: "استرقوا لها، فإن بها النظرة"(1) .
والعين حق لا يجوز لمسلم تكذيبها لورود خبرها في الصحيح.
وروى أبو هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العين حق"(2) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب رقية العين ح(5739) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة ح(2197) والبيهقي في السنن: كتاب الضحايا: باب إباحة الرقية بكتاب الله ح(9/348) وانظر شرح معاني الاثار للطحاوي (4/237) قال النووي: السفعة يعنى بوجهها صفرة، وقيل سواد وقال ابن تيمية هي لون يخالف لون الوجه، وقيل أخذه من الشيطان- انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/185) قال ابن عبد البر: فيه دليل على أن العين تسرع إلى قوم فوق إسراعها إلى آخرين، وأنها تؤثر في الإنسان بقضاء الله وقدره وتصرعه في أشياء كثيرة. وإنما يسترقى من العين إذا لم يعرف العائن. وأما إذا عرف الذي أصابه بعينه فإنه يؤمر بالوضوء- التمهيد (2/269).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب العين حق ح (5740)، ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب الطب والمرض والرقى ح (2187)، وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب ما جاء في العين ح (3879)، وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب العين ح (3505)، وانظر تحفة الأشراف ح (14696).(1/38)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "أمرني النبي صلى الله عليه وسلم؛ أو أمر أن تسترقي من العين"(1) .
وعن أبي إمامة بن سهل بن حنيف، قال: "رأى عامر بن ربيعة سهل بن حنيف يغتسل، فقال: والله ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة، قال: فلبط سهل- أي صرع وسقط على الأرض. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عامراً، فتغيظ عليه وقال: "علام يقتل أحدكم أخاه! ألا بركت، اغتسل له. فغسل له عامر وجهه ويديه، ومرفقيه وركبتيه، وأطراف رجليه، وداخلة إزاره في قدح، ثم صب عليه، فراح مع الناس"(2) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب رقية العين ح(5738) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة ح(2195) وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب من استرقى من العين ح(3512) وانظر تحفة الأشراف (16199) وأخرجه البيهقي في الكبرى: كتاب الضحايا: باب إباحة الرقية بكتاب الله (9/347) وانظر شرح معاني الاثار للطحاوي (4/327) قال الحافظ ابن حجر: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) أمر عائشة أن يسترقى من العين أي يطلب الرقية ممن يعرف الرقى بسبب العين- انظر فتح الباري (19/201).
(2) أخرجه المالك في الموطأ (938/2)، وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب العين ح (3509)، وأحمد في مسنده (486-2487/3)، والحاكم في مستدركه (411-412/3)، وقال: الزيادات في الحديثين جميعاً مما لم يخرجاه. وسكت عنه الذهبي. وانظر تحفة الأشراف ح (136). وانظر صحيح سنن ابن ماجة للألباني ح (2828).(1/39)
وعن عبيد بن رفاعة الزرقي أن أسماء بنت عميس قالت: يا رسول الله، إن بني جعفر تصيبهم العين أفأسترقي لهم؟ فقال: "نعم، فلو كان شيء يسبق القضاء لسبقته العين"(1) .
فالعين وهي إصابة العائن غيره بعين- حق. قال المازري: أخذ الجمهور بظاهر الحديث، وأنكره طوائف من المبتدعة لغير معنى. لأن كل شيء، ليس محالاً في نفسه ولا يؤدي إلى قلب حقيقة، ولا فساد دليل فهو من مجوزات العقول. فإذا أخبر الشرع بوقوعه لم يكن لإنكاره معنى. وهل من فرق بين إنكارهم هذا وإنكارهم ما يخبر به في الآخرة من الأمور(2) .
وقال ابن القيم: أبطلت طائفة ممن قل نصيبهم من السمع والعقل أمر العين، وقالوا: إنما ذلك أوهام لا حقيقة لها، عن الأرواح والنفوس، وصفاتها أفعالها، وتأثيرها. وعقلاء الأمم على اختلاف مللهم ونحلهم لا تدفع أمر العين، ولا تنكره، وإن اختلفوا في سببه، وجهة تأثير العين(3) .
النفث في الرقية:
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ: كتاب العين: باب الرقية من العين (2/939) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة ح(2198) والترمذي في سننه: كتاب الطب: باب ما جاء في الرقية من العين ح(2066) وقال: هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب من استرقى من العين ح(3510) وأحمد في مسنده (3/333) وقال الهيثمي في المجمع (5/109) رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. وأخرجه البيهقي في الكبرى: كتاب الضحايا: باب إباحة الرقية بكتاب الله (9/348) والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/327) .
(2) انظر نيل الأوطار (223/8)، وفتح المجيد (63).
(3) الطب النبوي: (120).(1/40)
النفث: نفخ نظيف بلا ريق. وهو جائز، لما ثبت في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهله، نفث عليه بالمعوذات. فلما مرض مرضه الذي مات فيه، جعلت أنفث عليه وأمسحه بيد نَفْسه، لأنها كانت أعظم بركة من يدي"(1) .
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ: كتاب العين: باب التعوذ والرقية في المرض (2/193) والبخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب في المرأة ترقى الرجل ح(5751) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب رقية المريض بالمعوذات والنفث ح(2192) وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب كيف الرقى ح(3602) وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب النفث في الرقية ح(3529) وانظر تحفة الأشراف ح(16589) وأحمد في مسنده (6/104) والنسائي في اليوم والليلة ح(1009) قال النووي: وسئلت عائشة عن نفث النبي (صلى الله عليه وسلم) في الرقية فقالت كما ينفث آكل الزبيب لا ريق معه. قال: ولا اعتبار بما يخرج عليه من بلة ولا يقصد- انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/182).(1/41)
وحديث قتادة رضي الله عنه قال: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان. فإذا رأى أحدكم شيئاً يكرهه فلينفث حين يستيقظ ثلاث مرات، ويتعوذ من شرها، فإنها لا تضره"(1) .
قال النووي: في الأحاديث استحباب النفث في الرقية، وقد أجمعوا على جوازه. واستحبه الجمهور من الصحابة والتابعين ومَنْ بَعْدهم. سُئلت عائشة رضي الله عنها عن نفث النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: "كما ينفث آكل الزبيب لا ريق معه. ولا اعتبار بما يخرج عليه من بلة ولا يقصد ذلك" (2) .
الاغتسال في الرقية:
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ: كتاب الرؤيا: باب ما جاء في الرؤيا (2/956) ح(4) والبخاري في صحيحه: كتاب التعبير: باب إذا رأى ما يكره فلا يخبر بها ولا يذكرها. ح (7044). ومسلم في صحيحه: كتاب الرؤيا ح(2261) وأبو داود في سننه: كتاب الأدب: باب ما جاء في الرؤيا ح(5021) والترمذي في سننه: كتاب الرؤيا: باب إذا رأى في المنام ما يكره ما يصنع ح(2284) وقال هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجه في سننه: كتاب تعبير الرؤيا: باب من رأى رؤيا يكرهها ح(3909) وانظر تحفة الأشراف ح(12135) قال القاضي عياض: وأمر بالنفث ثلاثاً لطرد الشيطان الذي حضر رؤياه المكروهة تحقيراً له واستقذاراً وخصت به اليسار لأنها محل الأقذار والمكروهات- انظر شرح النووي على صحيح مسلم (15/18).
(2) انظر شرح النووي على مسلم (14/182)، ونيل الأوطار (222/8)، والدين الخالص للقنوجي (321/2).(1/42)
إن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الاغتسال في الرقية من إصابة العين، لما سبق من حديث أبي أمامه سهل بن حنيف، وفيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم عامراً أن يغتسل لسهل بن حنيف. ولحديث عبد الرزاق عن معمر عن أبي طاووس عن أبيه مرفوعا: "العين حق، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين، وإذا استغسل أحدكم، فليغتسل" (1) .
وقد بين حديث أبي امامه كيفية الاغتسال، بأن يغسل العائن وجهه، ويديه ومرفقيه وركبتيه، وأطراف رجليه وداخلة إزراره في قدح، ثم يصب على المعين. وقد ذكر الإمام أحمد والنسَّائي من طريق الزهري عن أبي أمامه سهل بن حنيف كيفية اغتسال المعين بأن يصب ذلك الماء على المعين من خلفه على رأسه وظهره، ثم يكفأ القدح. وعلى رواية الموطّأ يصب على المعين الماء من فوقه (2) .
ولا يظهر لأول وهلة للاغتسال بهذه الطريقة معنى له حكمة أو علة، لكن التسليم به واجب، وإن لم تظهر لنا علته قال المازري: هذا مما لا يمكن تعليله، ومعرفة وجهه من جهة العقل، فلا يُرَدّ لكونه لا يُعقل معناه. وقال ابن العربي: إن توقف متسرع قلنا له: الله ورسوله أعلم. وقد عضدته التجربة، وصدقته المعاينة.
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب الطب والمرض والرقى ح (2188)، والتزمذي في سننه: كتاب الطب: باب ما جاء أن العين حق، والغسل لها ح (2069). وقال: وفي الباب عن عبد الله بن عمرو وهذا حديث حسن صحيح غريب. وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه ح (8/59)، وعبد الرزاق في مصنفه ح (19770)، وانظر تحفة الأشراف ح (5716) .
(2) انظر الفواكة الدواني (373/2).(1/43)
وقال ابن القيم: وهذا مما لا يناله الأطباء، ولا ينتفع به من أنكره وسخر منه أو شَكَّ فيه، أو فعله مجربا غير معتقد أن ذلك ينفعه. هذا مع أن في المعالجة بهذا الاستغسال ما تشهد له العقول الصحيحة، وتقر لمناسبته، فاعلم أن ترياق سم الحية في لحمها، وأن علاج تأثير النفس الغضبية في تسكين غضبها، وإطفاء نارها؛ وضَعْ يدك على بدن الغضبان فيسكن.
وأما مناسبة صب الماء على المعين فهي في غاية المناسبة، فإن ذلك الماء طفئ به تلك النارية، وأبطل تلك الكيفية الرؤية من الفاعل. فكما طُفئت به النارية القائمة بالفاعل طُفئت به، وأبطلت عن المحل المتأثر بعد ملامسته للمؤثر العائن، كالماء الذي يُطفأ به الحديد في الروية عدة طبيعية ذكرها الأطباء، فهذا الذي طفى به نارية العائن، لا يستنكر أن يدخل في دواء مناسب لهذا الداء (1) .
النشرة:
وهي أضرب من العلاج والرقية، يعالج به من يظن أن به مسا من الجن، سميت نشرة لأنه ينشر بها - أي يكشف ويزال - ما خامره من الداء. وقال القرطبي: النشرة هي أن يُكتب شيئاً من أسماء الله أو من القرآن، ثم يغسله بالماء، ثم يمسح به المريض أو يسقيه.
وقد اختلف الفقهاء في حكمها. فالذين فسروا أنها من السحر حرموها. قال الحسن بن يسار البصري: "النشرة من السحر"(2) .
وروي عنه قوله: "لا يحل السحر إلا الساحر" (3) .
قال ابن الجوزي: "النشرة حل السحر عن المسحور" (4) .
ولا يكاد يقدر عليه إلا من يعرف السحر(5) .
__________
(1) انظر الطب النبوي (125)، وتحفة الأحوذي (2256)، ونيل الأوطار (22418) بتصرف .
(2) تفسير القرطبي (10/318)، ومجموع فتاوي شيخ الإسلام (19/64).
(3) انظر فتح المجيد (303)، والدين الخالص للشيخ محمد صديق حسن (2/340).
(4) انظر الدين الخالص للشيخ محمود خطاب السبكي (7/135) .
(5) انظر الدين الخالص للشيخ محمود خطاب السبكي (7/135) .(1/44)
وعن جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن النشرة فقال: "هي من عمل الشيطان" (1) .
وقال سئل أحمد عنها، فقال: ابن مسعود يكره هذا كله. أي يكره النشرة التي هي من عمل الشيطان، كما يكره تعليق التمائم مطلقاً. والمراد بالنشرة المسئول عنها، النشرة المعهودة المعروفة التي كان أهل الجاهلية يضعونها وهي من عمل الشيطان. ولم ير مجاهد أن تكتب آيات من القرآن ثم يغسل ثم يسقاه صاحبه. وقد أجاز النشرة سعيد بن المسيب.
روى البخاري عن قتادة قلت لابن المسيب: "رجل به أي سحر، أو يؤخذ عن امرأته أيحل عنه، أو ينشر؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به العلاج.فأما ما ينفع فلم ينه عنه" (2) .
ويحمل كلام ابن المسيب على نوع من النشرة لا يعلم أنه سحر. وكانت عائشة رضي الله عنها تقرأ المعوذتين في إناء ثم تأمر أن يصب على المريض. وقد حمل المجيزون للنشرة أحاديث المنع - كما قال القرطبي-على أنها خارجة عما في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن المداواة المعروفة.
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه: كتاب ألف: باب في النشرة ح(3868). وأحمد في مسنده (3/294). والهيثمي في مجمعه (5/102) وقال: رواه البزار والطبراني في الأوسط ورجال البزار رجال الصحيح. وابن أبي شيبة في مصنفه (7/387). وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود ح(3277).
(2) أخرجه البخاري معلقا بصيغة الجزم في كتاب الطب: باب هل يستخرج السحر- انظر فتح الباري لابن حجر (10/232). وقال الحافظ ابن حجر في التغليق (5/49): رواه الاثرم في السنن وساق اسناده ثم قال: واسناده صحيح.(1/45)
وقال القرطبى أيضاً: "والنشرة من جنس الطب فهي غسالة شيء له فضل، فهي كوضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال صلوات الله وسلامه عليه: "لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك، ومن استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل (1) .
وما ذهب إليه ابن القيم قول حسن، فقد قسم النشرة إلى نوعين؛ الأول: حل السحر عن المسحور بسحر مثله - وهو الذي من عمل الشيطان. والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات، والأدوية والدعوات المباحة، فهذا جائز. وعليه يحمل كلام من أجاز النشرة من العلماء.
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ الحاصل: أن ما كان منه بالسحر فيحرم - وما كان بالقرآن والدعوات والأدوية المباحة فجائز والله أعلم (2) .
وقال ابن تيمية: ويجوز أن يكتب للمصاب وغيره من المرضى شيء من كتاب الله وذكره بالمداد المباح، ويغسل ويسقى. كما نص على ذلك أحمد وغيره. قال عبد الله بن أحمد: رأيت أبى يكتب للمرأة إذا عسر عليها ولادتها في جام أبيض، أو شئ نظيف… يكتب حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "لا إله إلا الله الحليم الكريم سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين، كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ، كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها" (3) .
__________
(1) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (318/10)، ومجموع فتاوي ابن تيمية (19/64)، وفتح المجيد (303)، والدين الخالص للقنوجي (340/2)، والدين الخالص لمحمود خطاب السبكي (135/7) .
(2) انظر الآداب الشرعية لابن مفلح (2/456-457) .
(3) انظر الآداب الشرعية لابن مفلح (2/456-457).(1/46)
واستشكل قوم من الصوفية وغيرهم أثر التداوي فقالوا: "إن الشفاء قد قدر، فالتداوي لا يفيد. وإن لم يكن قد قدر فكذلك". وأيضاً، "فإن المرض حصل بقدر الله، وقدر الله لا يُدفع ولا يُرد"(60). وهذا كلام ظاهره الحجة، ولكنه في غير محل الخلاف، ولا حجة لهم فيه. وقد رد ابن القيم على هذا بقوله: إن هذا السؤال هو الذي أورده الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمّا أفاضل الصحابة - فأعلم بالله وحكمته وصفاته من أن يوردوا مثل هذا؛ وهم يشيرون إلى حديث أسامة بن شريك. قال: "جئت عند النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت الأعراب؛ فقالوا : يا رسول الله أنتداوى؟ فقال: نعم يا عباد الله تداووا، فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء غير داء واحد، قالوا: ما هو؟ قال: الهرم" (1) .
أيضاً، فقولهم هذا يوجب أن لا يباشروا سبباً من الأسباب التي يجلبون بها منفعة أو يدفعون بها مضرة، إن قدرتا لم يكن بد من وقوعهما، وإن لم تقدرا لم يكن سبيل إلى وقوعهما. وفى ذلك خراب الدين والدنيا وفساد العالم. وهذا لا يقوله إلا مراء للحق، معاند له كالمشركين الذين قالوا: (لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا) (2) ، و(لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا) (3) .
وهذا الذي قالوه دفعًا لحجة الله عليهم بالرسل.
التداوي والتوكل:
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الطب: باب في الرجل يتداوى ح(3855). والترمذي في سننه: كتاب الطب: باب ما جاء في الدواء والحث عليه ح(2045) وقال أبو عيسى: وهذا حديث حسن صحيح. وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء ح(3436). وانظر تحفة الاشراف ح(127). وأخرجه أحمد في مسنده (4/278). وانظر صحيح سنن ابن ماجة للالباني ح(2772) .
(2) سورة الأنعام: آية 148.
(3) سورة النحل: آية 35.(1/47)
لقد وهم بعض الفقهاء فظنوا التعارض بين التداوي والتوكل لِمَا وجدوا من أحاديث المنع من الرقية ومدح الترك. والصواب أن المدح في ترك الرقى للأفضلية، وبيان التوكل. والذي فعل الرقى وأذن فيها لبيان الجواز مع أن تركها أفضل.
ورد ابن القيم شبهة التعارض فقال: "إن الأمر بالتداوي لا ينافى التوكل، كما لا ينافيه دفع داء الجوع، والعطش، والحر، والبرد بأضدادها. بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرا وشرعاً، وأن تعطيلها يقدح في نفس المتوكل كما يقدح في الأمر والحكمة، ويُضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل، فإن تركها عجزا ينافى التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه. ولا بد معها على الله الاعتماد ومباشرة الأسباب، إلا كان معطلاً للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً ولا توكله عجزاً" (1) .
وقد يُحْتَجّ للتعارض بما ورد في حديث عقَّار بن المغيرة بن شعبة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اكتوى أو استرقى فهو برئ من التوكل" (2) .
__________
(1) انظر الطب النبوي لابن القيم: (16).
(2) أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الطب: باب ما جاء في كراهية الرقية ح (2062)، وقال هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب الكي ح (3489)، وأحمدفي مسنده (249-253/4)، والحاكم في مستدركه (415/4)، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. وانظر تحفة الأشراف ح (11518)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للأباني ح (244) .(1/48)
لفعله ما الأولى التنزة عنه. قال المباركفورى: "وهذا فيمن كان معتمدا عليها لا على الله فارتفع اللبس". وقد رد ابن الجوزى على من قال: إن التداوي خارج من التوكل بمثل هذا، فقال: إن الإجماع على أنه لا يخرج من التوكل. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تداوى وأمر بالتداوي - ولم يخرج بذلك من التوكل، ولا أخرج من أمره أن يتداوى من التوكل (1) .
وفى الصحيح من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص إذا اشتكى المحرم عينه أن يضمدها بالصبر(2) .
__________
(1) انظر الطب النبوي لابن القيم: (15).
(2) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الحج: باب جواز مداواة المحرم عينيه ح (1204)، أبو داود في سننه: كتاب المناسك: باب يكتحل المحرم ح (1838)، والترمذي في سننه: كتاب الحج: باب ما جاء في المحرم يشتكي عينه فيضمدها بالصبر ح (954)، وقال: هذا حديث حسن صحيح. والعمل عند أهل العلم لا يرون بأسا أن يتداوى المحرم بدواء ما لم يكن فيه طيب. والنسائي في سننه: كتاب الحج: باب الكحل للمحرم ح (2710)، وانظر تحفة الأشراف ح (9777). قال النووي: اتفق العلماء على جواز تضميد العين وغيرها بالصبر ونحوه مما ليس بطيب، ولا فدية في ذلك، فإن احتاج إلى ما فيه طيب جاز له فعله وعليه الفدية،. واتفق العلماء، على أن للمحرم أن يكتحل بكحل لا طيب فيه إذا احتاج إليه، ولا فدية عليه فيه. أما الاكتحال للزينة فمكروه عند الشافعي وآخرين. ومنعه جماعة منهم أحمد واسحق. وفي مذهب مالك قولان كالمذهبين، وفي إيجاب الفدية عندهم بذلك خلاف والله أعلم- انظر شرح النووي على مسلم (124-125/8) .(1/49)
قال ابن جرير الطبري: "وفى هذا الحديث دليل على فساد ما يقوله ذوو الغباوة من أهل التصوف والعباد، من أن التوكل لا يصح لأحد عالج علة في جسده بدواء. إذ ذلك عندهم طلب العافية من غير من بيده العافية والضر والنفع، وفى إطلاق النبي صلى الله عليه وسلم للمحرم علاج عينه بالصبر لدفع المكروه، أدل دليل على أن معنى التوكل غير ما قاله الذين ذكرنا قولهم. وأن ذلك غير مخرج فاعله من الرضا بقضاء الله …لأن الله لم ينزل داء إلاّ أنزل له دواء إلا الموت"(1) .
وقد يحتج لهم بحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب، هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون" (2) .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطب: باب في الرجل يتداوى ح(3855) والترمذي في سننه: كتاب الطب: باب ما جاء في الدواء والحث عليه ح(2045) وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء ح(3436). وانظر تحفة الاشراف ح(127). وأخرجه أحمد في مسنده (4/278) وانظر صحيح سنن ابن ماجة للألباني ح(2772).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب من لم يرق ح(5752) ومسلم في صحيحه: كتاب الإيمان: باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب ح(216) والترمذي في سننه: كتاب صفة القيامة: باب (81) ح(2454) وقال هذا حديث حسن صحيح. وأحمد في مسنده (1/271). وقال الهيثمي في المجمع (10/405) رجال أحمد والبزار رجال الصحيح. وأخرجه الطبراني في الكبير (18/23) والبيهقي في الكبرى: كتاب الضحايا: باب ما جاء في استحباب ترك الاكتواء والاسترقاء (9/341) والبغوى في شرح السنة (15/135) ح(4322).(1/50)
وقد أجاب الفقهاء عن هذا بأجوبة، أجودها ما قاله الخطابي، بأن المراد بترك الرقى والكي الاعتماد على الله في الدواء والرضا بقدره؛ لا القدح في جواز ذلك، وثبوت وقوعه في الأحاديث الصحيحة، وعن السلف الصالح. لكن مقام الرضى والتسليم أعلى من تعاطى الأسباب. قال ابن الأثير: "هذا من صفة الأولياء المعرضين عن الدنيا وأسبابها وعلائقها، وهؤلاء هم خواص الأولياء، ولا يرد عليه وقوع مثل ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم فعلا وأمراً، لأنه كان في أعلا مقامات العرفان ودرجات التوكل. فكان ذلك منه للتشريع وبيان الجواز، ومع ذلك فلا ينقص من توكله لأنه كان كامل التوكل يقينا، فلا يؤثر فيه تعاطى الأسباب شيئا؛ بخلاف غيره ولو كان كثير التوكل، لكن من ترك الأسباب وفوض وأخلص في ذلك كان أرفع مقاما" (1) .
. وهذا التعليل هو الذي يفسر ميل كثير من الفقهاء مع قولهم بجواز الرقية أو استحبابها، إلى أن ترك التداوي توكلاً، والصبر على المرض أولى من الرقية.
وقال الشيخ عبد الرحمن آل الشيخ: "الحديث لا يدل على أنهم لا يباشرون الأسباب أصلا، فإن مباشرة الأسباب في الجملة أمر فطري ضروري، لا انفكاك لأحد عنه، بل نفس التوكل مباشرة لأعظم الأسباب"(2) .
قال تعالى:(ومن يتوكل على الله فهو حسبه) (3) .
التمائم والتولة:
__________
(1) انظر فتح الباري لابن حجر (10/212) ش ح (5752) .
(2) انظر فتح المجيد للشيخ عبد الرحمن آل الشيخ (68).
(3) سورة الطلاق: آية 3.(1/51)
ورد في الصحيح عن أبى بشير الأنصاري رضى الله عنه: "أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فأرسل رسولاً: أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت (1) .
وعن ابن مسعود رضى الله عنهما قال: "سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: إن الرقى والتمائم والتولة شِرْك (2) .
والمقصود بالرقى هنا - كما سبق - الرقى التي يستعان فيها بغير الله تعالى. والتمائم: "هي ما يعلق بأعناق الصبيان من خرز وعظام لدفع العين" (3) .
وهذا منهي عنه، لأنه لا دافع إلا الله، ولا يطلب دفع المؤذيات إلا بالله، وبأسمائه، وصفاته.
وقد اختلف الفقهاء من الصحابة والتابعين، فمن بعدهم في جواز تعليق التمائم التي من القرآن وأسماء الله وصفاته، فقالت طائفة يجوز ذلك. وهو قول عبد الله بن عمرو بن العاص. وهو ظاهر ما روي عن عائشة رضي الله عنها، وبه قال أبو جعفر الباقر رضى الله عنه ، وأحمد في رواية، وحملوا الحديث على التمائم التي فيها شرك (4) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الجهاد والسير: باب ما قيل في الجرس ونحوه في أعناق الإبل ح (3005). ومسلم في صحيحه: كتاب اللباس والزينة: باب كراهة قلادة الوتر في البعير ح (2115). وأبو داود في سننه: كتاب الجهاد: باب في تقليد الخيل بالأوتار ح (2552). وانظر تحفة الأشراف ح (11862).
(2) أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الطب: باب في تعليق التمائم ح (3883). وابن ماجه في سننه: كتاب الطب: باب تعليق التمائم ح(3530). وانظر تحفة الأشراف ح(9643) وأخرجه أحمد في مسنده (1/381). والحاكم في مستدركه (4/217) وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأقراه الذهبي. وأخرجه البيهقي في الكبرى: كتاب الضحايا: باب التمائم (9/350). وانظر صحيح سنن أبو داود للألباني ح(3288).
(3) انظر فتح المجيد: (126).
(4) المرجع السابق (127) .(1/52)
وقالت طائفة: لا يجوز ذلك. وبه قال ابن العباس وهو ظاهر قول حذيفة وعقبة بن عامر وابن عكيم رضي الله عنهم، وبه قال جماعة من التابعين منهم أصحاب ابن مسعود وأحمد في رواية اختارها كثير من أصحابه، وجزم به المتأخرون، واحتجوا بهذا الحديث وما في معناه (1) .
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: قلت هذا هو الصحيح بوجوه ثلاثة؛ الأول: عموم النهي ولا مخصص للعموم
والثاني: سد الذريعة، فإنه يفضى إلى تعليق ما ليس كذلك. الثالث: أنه إذا علق فلا يبعد أن يمتهنه المعلق بحمله معه في حالة قضاء الحاجة والاستنجاء ونحو ذلك (2) .
والتولة: شئ يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها، والرجل إلى امرأته، وإنما كان من الشرك لما يراد به رفع المضار وجلب المنافع من غير الله تعالى (3) .
******
http://www.islamset.com/arabic/ahip/altashfe/ashkar.htm
كيف كان القرآن شفاء لأمراض الإنسان
وقاية وعلاجاً
الأستاذ الدكتور عمر سليمان الأشقر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين، وبعد:
فإن الصحة والمرض حالتان تعتوران الإنسان. وقد عَرَّف عبد اللطيف البغدادي هاتين الحالتين بقوله: "الصحة هيئة بدنية تكون الأفعال معها سليمة، والمرض حالة مضادة للصحة" (4) .
والإنسان يكون صحيحاً إذا كان على الحال الذي خلقه الله عليها في بدنه وروحه. فإذا خرج عن الحال الذي فطر الله العباد عليها اعتل بدنه واعتلت روحه، واحتاج إلى معالجة حتى يتعافى بعودته إلى الخلقة السوية.
__________
(1) المرجع السابق (127) .
(2) المرجع السابق (128) .
(3) المرجع السابق (128) .
(4) انظر الطب النبوي لابن القيم: (31-33). والطب النبوي لعبد اللطيف البغدادي ص 31-33.(1/53)
وخير ما تعالج به الأمراض القرآن الكريم، وقد دل على أن القرآن شفاء نصوص من القرآن، قال الله تعالى: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين) (1) .
وقال:(وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا) (2) .
وقال تبارك وتعالى: (ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد) (3) .
كيف كان القرآن شفاء؟
وقد يسأل سائل عن أبعاد المعالجة بالقران، فيقول: هل كون القرآن شفاء على حقيقته؟ أم أن ذلك واقع على طريق المجاز؟ وهل يعالج أمراض القلوب والأرواح فحسب؟ أم يمتد العلاج به إلى أمراض الأبدان؟ وإذا كان العلاج ممتدا به إلى أمراض الأبدان فما وجه المعالجة به؟ وكيف يكون علاجا؟
والجواب :أن القرآن علاج باعتبارات متعددة:
أولاً : معالجته لأمراض النفوس والقلوب:
أما معالجة القرآن لأمراض النفوس والقلوب فإنه تفرد بذلك دون سواه، ومعالجة البشر بأفكارهم ونظرياتهم ومباحثهم لهذه الأمراض موهومة تدخل في باب الأوهام والخيالات في كثير من الأحيان. وقد يظن البشر أنهم يقدمون الدواء في هذه المجالات، وهم في الحقيقة يفسدون ويُمْرضون من حيث ظنوا الإصلاح.
إن إدراك حقيقة الروح وحقيقة الأمراض التي تُمْرضها وتُميتها، والأدوية التي تُصلحها وتجلب لها العافية ليس في طاقة البشر أن يعرفوه ويعلموه، فعلمهم في هذا المجال أقل من القليل. وفى ذلك يقول الحق تبارك وتعالى: (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) (4) .
إن البشر لا يعلمون حقيقة الروح، فكيف يعرفون طريقة معالجتها؟
__________
(1) سورة يونس: آية 57.
(2) سورة الإسراء: آية 82.
(3) سورة فصلت: آية 44.
(4) سورة الإسراء: آية 85.(1/54)
إن الذي أنزل القرآن شفاءً لأرواحنا هو خالق هذه الأرواح ومبدعها، وهو العالم بما يصلحها ويفسدها.
يقول ابن القيم مبينا أن علاج الأرواح إنما هو للوحي السماوي المنزل على الرسل والأنبياء دون غيرهم: "فأما طب القلوب فمسلم إلى الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، ولا سبيل إلى حصوله إلا من جهتهم، وعلى أيديهم. فإن صلاح القلوب أن تكون عارفة بربها وفاطرها بأسمائه وصفاته وأحكامه، وأن تكون مُؤْثرة لمرضاته ولمحابه، متجنبة لمناهيه ومساخطه، ولا صحة لها ولا حياة ألبتة إلا بذلك، ولا سبيل إلى تلقيه إلا من جهة الرسل، وما نظن من حصول صحة القلب بدون اتباعهم فغلط ممن يظن ذلك. وإنما ذلك حياة نفسه البهيمية الشهوانية وصحتها وقوتها، وحياة قلبه وصحته وقوته عن ذلك بمعزل. ومن لم يميز بين هذا وهذا فليبك على حياة قلبه، فإنه من الأموات، وعلى نوره فإنه منغمس في بحار الظلمات" (1) .
وعملية إصلاح النفس الإنسانية أطلق عليها القرآن "تزكية النفس". وعملية إفساد هذه النفس سماها "بتدسية النفس" وأقسم الحق تبارك وتعالى أقساما سبعة في مطلع سورة الشمس على أن المفلح من زكى نفسه، والخائب الخاسر من دساها فقال:
(والشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها، والنهار إذا جلاها، والليل إذا يغشاها، والسماء وما بناها، والأرض وما طحاها، ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكَّاها، وقد خاب من دساها) (2) .
وقال في موضع آخر : (قد أفلح من تزكى) (3) .
وقال لموسى عندما أرسله إلى فرعون: (إذهب إلى فرعون إنه طغى، فقل هل لك إلى أن تزكى، وأهديك إلى ربك فتخشى) (4) .
ولما كان القرآن هو طب القلوب وأدواءها، وبه تتحقق تزكية النفوس والأرواح. فإنه بمثابة الروح لأرواحنا، والنور لبصائرنا.
__________
(1) انظر زاد المعاد لابن القيم (4/7).
(2) سورة الشمس: آية 1-10.
(3) سورة الأعلى: آية 14.
(4) سورة النازعات: آية 17-19.(1/55)
(وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدى به من نشاء من عبادنا) (1) .
فأنت ترى أن الله وصف الوحي بوصفين؛ الأول: أنه روح، والثاني: أنه نور. وبالروح تكون الحياة، وبالنور تكشف الظلمات. ولذا فإن الله يحي بهذا القرآن من ماتت قلوبهم وعميت بصائرهم بالكفر والضلال.
(أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) (2) .
وأمراض القلوب التي أنزل القرآن شفاء لها نوعان: أمراض شبهات تجعل الإنسان في حيرة وقلق وضياع، وأمراض شهوات، فأمراض الشبهات مذكورة في مثل قوله تعالى: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا) (3) .
وأمراض الشهوات مذكورة في مثل قوله تعالى: (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض) (4) .
وهذان النوعان من أمراض القلوب أصل فساد العبد وشقائه في معاشه ومعاده. وشفاؤه في معرفته لربه، واستقامته على طاعته، والبعد عما نهى عنه، وحذر منه.
وقد أطال شيخ الإسلام ابن تيميه وتلميذه ابن القيم في الحديث عن أدواء القلوب وكيفية معالجتها، ولى في ذلك رسالة لطيفة ضمنتها كتابي الموسوم، "محاضرات إسلامية هادفة"، (ص127-146)، بعنوان: "منهج الإسلام في تزكية النفس".
ولا يفوتني هنا أن أبين أن أكثر أمراض النفوس إنما تأتي من الشيطان، والنفس الأمّارة بالسوء. فالشيطان يستعين على بلوغه غرضه من الإنسان بالنفس الأمّارة بالسوء. وليس من طريق للخلاص من الشيطان إلا بالالتجاء إلى الرحمن. وقد علَّمنا الله أن نلجأ إليه دائما، ونحتمي به من نزغات الشيطان: (وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون) (5) .
__________
(1) سورة الشورى: آية 52.
(2) سورة الأنعام: آية 122.
(3) سورة البقرة: آية 10.
(4) سورة الأحزاب: آية 32.
(5) سورة المؤمنون: آية 97-98.(1/56)
و(قل أعوذ برب الناس، ملك الناس، إله الناس، من شر الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس) (1) .
هل شفاء القرآن قصر على أمراض القلوب:
عندما نرجع إلى شراح القرآن لكتاب الله تراهم يقصرون النصوص المتحدثة عن كون القرآن شفاء على أمراض القلوب. وهى أمراض الكفر والنفاق وسوء الأخلاق. يقول ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى: (قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور) (2) .
"أي من الشبه والشكوك، وهو إزالة ما فيها من دنس" (3) .
وقال في تفسيره لقوله تعالى:(وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) (4) .
يقول تعالى عن كتابه الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، إنه شفاء ورحمه للمؤمنين. أي يذهب ما في القلوب من أمراض من شك ونفاق وشرك وزيغ وميل. فالقرآن يشفى من ذلك كله" (5) .
وإذا أنت دققت في النصوص المقررة لكون القرآن شفاء وجدتها تتحدث عن أمراض القلوب دون أمراض الأبدان.
فآية سورة يونس جعلته شفاء لما في الصدور، والذي تحويه الصدور هو القلوب كما قال تعالى:(فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) (6) .
والقلوب التي في الصدور هي التي ينسب القرآن إليها الإيمان والفقه والتدبر، وهي التي يقع فيها الكفر والشك والنفاق.
وقد أخبر الحق تبارك وتعالى: أن القرآن شفاء للمؤمنين دون الكافرين، وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين (7) .
(وتنزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) (8) .
أما الكفار فلا يزيدهم إلا خسارا (ولا يزيد الظالمين إلا خسارا) (9) .
__________
(1) سورة الناس: الآيات من 1إلى 5.
(2) سورة يونس: آية 57.
(3) انظر تفسير ابن كثير: (2/421).
(4) سورة الإسراء: آية 82.
(5) تفسير ابن كثير: (3/9).
(6) سورة الحج: آية 46.
(7) سورة يونس: آية 57.
(8) سورة الإسراء: آية 82.
(9) سورة الإسراء: آية 82.(1/57)
وقال في الآية الثالثة :
(قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى) (1) .
وقد حدثنا ربنا في موضوع رابع عما يفعله القرآن المنزل من عنده في نفوس المؤمنين ونفوس الكافرين: (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيّكم زادته هذه إيماناً، فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون .وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسًا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون) (2) .
ولو كان القرآن شفاء للأبدان كما هو شفاء للقلوب لشفى المؤمنين والكفار.
الذين يذهبون إلى أن النصوص عامة في أمراض القلوب والأبدان:
ويذهب جمهور علماء أهل السنة إلى النصوص المقررة لكون القرآن شفاء، أنها عامة في أمراض القلوب والأبدان. وفى ذلك يقول العلامة ابن القيم رحمة الله تعالى: "قال الله تعالى:(وتنزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) (3) .
والصحيح أن (مِنْ) هنا لبيان الجنس لا للتبعيض. وقال تعالى: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور) (4) .
فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية، وأدواء الدنيا والآخرة. وما كل أحد يؤهل ويوفق للاستشفاء به. وإذا أحسن العليل التداوي به ووضعه على دائه بصدق وإيمان وقبول تام واعتقاد جازم، واستيفاء شروطه؛ لم يقاومه الداء أبدا. وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء الذي لو نزل على الجبال لصدعها، أو على الأرض لقطعها. فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا وفى القرآن سبيل الدلالة على دوائه، وسببه، والحمية منه لمن رزقه الله فهما في كتابه" (5) .
الأدلة على أن القرآن شفاء لأمراض الأبدان:
__________
(1) سورة فصلت: آية 44.
(2) سورة التوبة: آية 124-125.
(3) سورة الإسراء: آية 82.
(4) سورة يونس: آية 57.
(5) انظر زاد المعاد لابن القيم: (3/178).(1/58)
وعلى كل، فسواء أكانت النصوص القرآنية المقررة لكون القرآن شفاء خاصة بأمراض القلوب، أو شاملة لها ولأمراض الأبدان؛ فقد قامت أدلة كثيرة على أن القرآن شفاء لأمراض الأبدان، ومن هذه الأدلة:
الأول: ثبت أن القرآن يُطَهِّر الأرواح ويباركها ويصلحها. وإذا صلحت الأرواح كان في صلاحها صلاح للأبدان. يقول ابن القيم: "قد علم أن الأرواح متى قويت وقويت النفوس والطبيعة تعاونا على دفع الداء وقهره. فكيف ينكر لمن قويت طبيعته ونفسه، وفرحت بقربها من بارئها وأنسها به، وحبها له، وتنعمها بذكره وانصراف قواها كلها إليه، وجمعها عليه، واستعانتها به، وتوكلها عليه أن يكون لها ذلك من أكبر الأدوية، وتوجب لها هذه القوة دفع الألم بالكلية" (1) .
الثاني: ثبوت معالجة الرسول صلى الله عليه وسلم بالرقى وإرشاد أصحابه إلى المعالجة بها.
والرقية كما يقول ابن الأثير: "العوذة التي يُرْقى بها صاحب الآفة كالحمى والصرع وغير ذلك من الآفات" (2) .
ويقول القرافي في تعريفها. "الرقى ألفاظ خاصة يحدث عندها الشفاء من الأسقام والأدواء والأسباب المهلكة، ولا يقال لفظ رقى على ما يحدث ضرراً، بل ذلك يقال له السحر" (3) .
والأحاديث التي تدل على مشروعية الرقى متواترة تواتراً معنوياً، فهي وإن اختلفت ألفاظها ووقائعها؛ إلاّ أن كل واحد منها يدل على مشروعية الرقى.
وقد يقال: نعم صح أن الرسول صلى الله عليه وسلم عالج المرضى بالرقى، وأرشد أصحابه إلى المعالجة بها، ولكن هذا في الرقية بغير القرآن.
والجواب عن هذا من وجهين:
__________
(1) انظر زاد المعاد لابن القيم: (3/66).
(2) انظر النهاية في غريب الحديث لابن الأثير: (2/254).
(3) انظر الفروق للقرافي: (4/147).(1/59)
1- إذا ثبت أن الرقى عامة مما يشفي من الأمراض والأسقام، فإن كلام الله أفضل ما يرقى به، لأن له من الخصائص ما ليس لغيره. وفي ذلك يقول ابن القيم - فيما نقله عنه ابن حجر العسقلانى: "إذا ثبت أن لبعض الكلام خواص ومنافع فما الظن بكلام رب العالمين" (1) .
وقراءة القرآن من أنفع الأدوية للأدواء التي يسببها الجان، أو يكون له دخل في الإصابة بها؛ كتلبيس الجان بالإنسان، والسحر والعين والحسد ونحوها.
2- صح في الأحاديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم رقى بكتاب الله كما صح أنه أقر من رقى بكتاب الله؛ ففي صحيح البخاري ومسلم والموطأ والسنن لأبي داود والترمذي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث" (2) .
وفي سن الترمذي، عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ ويقول: "أعوذ بالله من الجان، وعين الإنسان". فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما، وترك ما سواهما (3) .
__________
(1) انظر فتح الباري لابن حجر: (10/198) ش ح (5736).
(2) جامع الأصول: 7/562.
(3) أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الطب: باب ما جاء في الرقية بالمعوذتين ح(2065) وقال: هذا حديث حسن غريب. والنسائي في سننه: كتاب الاستعاذة: باب الاستعاذة من عين الجان ح(5509). وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب من استرقى من العين ح(3511. وانظر تحفة الأشراف ح(44327). وانظر صحيح سنن الترمذي للألباني ح(1681).(1/60)
وصح في صحيحي البخاري ومسلم والسنن لأبى داود والترمذي أن رجلا من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم رقى رجلاً كان سيداً في قومه من لدغة حية أو عقرب بفاتحة الكتاب، فشفاه الله، وأخذ على رقيه أجراً. فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأقره على رقيته. وعلى ما أخذه من أجر على رقيته (1) .
والحديث برواياته في كتب السنة في جامع الأصول.
وأورد صاحب جامع الأصول حديثاً آخر رواه أبو داود ذكر فيه أن صحابيا رقي معتوها في القيود بفاتحه الكتاب، فشفاه الله. وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أقره على رقيته، وعلى ما أخذه من أجر عليها (2) .
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ: كتاب العين: باب الرقية من العين (2/940). والبخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب النفث في الرقية ح(5749). ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب جواز أخذ الأجر على الرقية بالقرآن والأذكار ح(2201). وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب كيف الرقى ح(3900). والترمذي في سننه: كتاب الطب: باب ما جاء في أخذ الأجر على التعويذ ح(2070) قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجة في سننه كتاب التجارات: باب أجر الراقي ح(2156). وانظر تحفة الأشراف ح(4249) و(4307).
(2) أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الطب: باب كيف الرقي: ح (3896)، وأخرجه أحمد في مسنده (5/211)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود ح (3297).(1/61)
. الثالث: ومما يدل على صحة التشافي بالرقى وأعظمها الرقى القرآنية، أنه ثبت بما لا يقبل الشك أن الرقى ذات تأثير على أمراض الأبدان. وهذا أمر مشاهد في كل عصر ومصر. ولا ينكر مثل هذا إلا مكابر أو جاهل. يقول ابن حزم "جربنا من كان يرقي الدمل الحاد القوي الظهور في أول ظهوره، فيبدأ من يومه ذاك بالذبول، ويتم يبسه في اليوم الثالث، ويقلع كما تقلع قشرة القرحة إذا تم يبسها جربنا ذلك ما لا نحصيه. وكانت هذه المرأة ترقي أحد دملين قد دفعا على إنسان واحد، ولا ترقي الثاني، فييبس الذي رقت، ويتم ظهور الذي لم ترق، ويلقى منه حامله الأذى الشديد. وشاهدنا من كان يرقي الورم المعروف بالخنازير، فيندمل ما يفتح منها، ويذبل ما لم ينفتح، ويبرأ" (1) .
وقد ثبت في صحيح الأحاديث أن الذين رقَوْا شفى الله على أيديهم من رقَوْه، وقد سقنا: الأحاديث المثبتة لذلك فيما سبق.
الاستشفاء بالقرآن ليس قصراً على الرقية به:
ما قرره الحق تبارك وتعالى من كون القرآن شفاءً ليس قصراً على قراءة القرآن على المريض، بل هي دائرة أوسع من ذلك بكثير، ويمكننا أن ندرك سعة هذه الدائرة من خلال الأمرين التاليين:
الأول: دلالة القرآن على قواعد العلاج وأصوله.
الثاني: وقاية القرآن الفرد والمجتمع من الأمراض من خلال تشريعات كثيرة.
الأول: دلالة القرآن على قواعد العلاج وأصوله حوت النصوص من الكتاب والسنة الأصول والقواعد التي تدل على كيفية معالجة الأبدان، بل دلت على تفاصيل مهمة في علاج الأمراض، وفي ذلك يقول ابن القيم: "قواعد طب الأبدان ثلاثة: حفظ الصحة، والحمية عن المؤذي، واستفراغ المواد الفاسدة. وذكر المولى تبارك وتعالى هذه الأصول الثلاثة في ثلاثة مواضع.
فقال في آية الصوم: (فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر) (2) .
__________
(1) انظر الفصل في الملل والأهواء والنحل: (2/4).
(2) سورة البقرة: آية 184.(1/62)
فأباح الفطر للمريض لعذر المرض، وللمسافر طلباً لحفظ صحته وقوته لئلا يذهبها الصوم في السفر لاجتماع شدة الحركة، وما يوجبه من التحلل وعدم الغذاء الذي يخلف ما تحلل، فتخور القوة وتضعف، فأباح للمسافر الفطر حفظاً لصحته وقوته عما يضعفها.
وقال تعالى في آية الحج:(فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) (1) .
فأباح للمريض، ومن به أذى من رأٍسه من قمل أو حكة أو غيرها أن يحلق رأسه في الإحرام استفراغاً لمادة الأبخرة الرديئة التي أوجبت له الأذى في رأسه باحتقانها تحت الشعر. فإذا حلق رأٍسه، ففتحت المسام، فخرجت تلك الأبخرة منها، فهذا الاستفراغ يقاس عليه كل استفراغ يؤذى انحباسه.
والأشياء التي يؤذى انحباسها ومدافعتها عشرة: الدم إذا هاج، والمنى إذا سبغ، والبول، والغائط، والريح، والقئ، والعطاس، والنوم، والجوع، والعطش.
وكل واحد من هذه العشرة يوجب حبسه داء من الأدواء بحبسة. وقد نبه سبحانه باستفراغ أدناها، وهو البخار المحتقن في الرأس على استفراغ ما هو أصعب منه كما هي طريقة القرآن التنبيه بالأدنى على الأعلى.
وأما الحمية فقال تعالى في آية الوضوء: (وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً) (2) .
فأباح للمريض العدول عن الماء إلى التراب حمية له أن يصيب جسده ما يؤذيه. وهذا تنبيه على الحمية من كل مؤذ له من داخل أو خارج (3) .
وقد عقب ابن القيم على كلامه هذا الذي نقلناه عنه بقوله: "فقد أرشد سبحانه عباده إلى أصول الطب الثلاثة ومجامع قواعده" (4) .
__________
(1) سورة البقرة: آية 196.
(2) سورة النساء: آية 43.
(3) انظر زاد المعاد لابن القيم: (3/64) بتصرف.
(4) زاد المعاد: (3/94).(1/63)
وقد أطال ابن القيم بعد ذلك في ذكر هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الطب والمعالجة في نفسه وأهله وأصحابه. وذكر في ذلك هديه في الأمر بالتداوي، وهديه في معالجة استطلاق البطن، والطاعون، وداء الاستسقاء، وهديه في المعالجة بالعسل والحجامة والكي، وهديه في معالجة الصرع وغير ذلك، مما يجعل ما أورده فيه مؤلفاً مستقلا بذاته.
الثاني: الطب الوقائي في الكتاب والسنة
النوع الثاني الذي يوسع دائرة الاستشفاء بالقرآن هو الطب الوقائي الذي يستفاد من جملة الأحكام والتوجيهات التي جاء بها القرآن وصحيح الأحاديث. وهذا باب واسع، فالنصوص الآمرة بالطهارة والنظافة كثيرة جداً. بل إن طهارة البدن عبادة لا تتم الصلاة بغيرها. فقد أوجب الله الاغتسال من الجنابة. كما أوجب الغسل على المرأة إذا هي طهرت من حيضها ونفاسها. وحبب الرسول صلى عليه وسلم الاغتسال في كل يوم جمعة.
ولم يكتف بذلك بل أوجب الوضوء كلما أراد الصلاة إذا خرج منه بول أو غائط أوريح. والوضوء يشمل غسل الأعضاء الظاهرة من الوجوه والأيدي والأرجل، كما أمر بمسح الرؤوس.
وأمرت النصوص بتقليم الأظافر، وغسل اليدين عند الاستيقاظ من نوم الليل، وحببت غسلهما عند الطعام، وأمرت بالاستنجاء من البول والغائط. وهى عملية يُطهِّر المسلم فيها مخرج البول والغائط بعد خروجهما منه.
وأمرت الشريعة المباركة بقص الأظافر، وقص الشارب، ونتف شعر الإبط، وحلق شعر العانة؛ كما أوجبت الختان في حق الذكور.
وحث الرسول صلى الله عليه وسلم كثيراً على تطهير الفم بالسواك، وأخبر أنه مطهرة للفم مرضاة للرب.
كما حث أيضاً على نظافة المساكن وأفنية البيوت. وأمر برفع الأذى عن الطريق، وجعله إحدى خصال الإيمان، ونهى أشدَّ النهي عن إيذاء المسلمين في طرقاتهم، وأماكن جلوسهم، وموارد مياهم.(1/64)
وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالتداوي. ونهى المسلمين عن دخول البلاد الموبوءة بالأمراض المعدية. ونهى من كان في تلك الديار عن الخروج منها. وهذه أفضل وسيلة لمنع انتشار الأمراض والأوبئة التي تنتقل بالعدوى السريعة، وهذا ما يسمى اليوم بالحجر الصحي.
وشرع لنا تناول الطيبات من الأطعمة والأشربة، ونهانا عن تناول الخبيث منهما. ونهانا عن الإسراف في تناول الطعام والشراب. وحرم علينا الأكل من الميتة، والدم، ولحم الخنزير. كما نهانا عن الخمر، والمخدرات. وشرع لنا الزواج، ونهى عن الزنا واللواط.
ومن تتبع ما جاء به الإسلام مما يقيم صحة الإنسان، ويحفظ بدنه، ويدفع عنه الأسقام؛ فإنه يجد منهجاً كاملاً يحفظ الله به الإنسان من كثير من الأسقام. وقد استقرأ علماء الشريعة التشريعات التي جاء بها الكتاب والسنة؛ فوجدوا أن الشريعة وُضِعَت لجلب المصالح للعباد، ودفع المفاسد عنهم. ووجدوا أن تشريعات هذا الدين تتجه كلها إلى أن تحفظ على الناس دينهم وأنفسهم وعقولهم وأنسابهم وأموالهم.
نظرة في عالم الغرب
إذا نظرنا في عالم الغرب اليوم، فإنه يذهلنا التقدم الهائل الذي بلغه أولئك الأقوام. لقد حلق البشر في أجواء الفضاء. ولم يكتفوا بذلك، بل غادروا أجواء الأرض إلى كواكب أخرى. فحطوا رحالهم فوق القمر، وأرسلوا مراكبهم تجوب كوكب المريخ والزهرة وغيرها من العوالم البعيدة.(1/65)
وكما انطلقوا في الفضاء، غاصوا في أعماق البحار، ونفذوا بعلومهم إلى أعماق الأرض. وجعلوا من عالمنا "الأرض" قرية صغيرة بما اخترعوه من وسائل الاتصال. وأصبحت الأمراض التي كانت مستعصية على البشر قابلة للشفاء. ومع ذلك التقدم المذهل في مختلف المجالات، فإن البشر في عالم الغرب يرزح تحت أمراض نفسية واجتماعية، بل وجسدية تشقيه وتؤرقه. لقد حاول البشر أن يضعوا منهجاً لأنفسهم بعيداً عن هدى السماء. وظنوا أن ما حصلوه من علوم كافٍ لإصلاح نفوسهم وأجسادهم وأسرهم ومجتمعاتهم. ولكن الحال التي هم عليها اليوم تقول: إن علمهم لم يجلب لهم الراحة والهناء بحال.
إن العقد النفسية والهموم النفسية -اليوم- سمة المجتمعات الغربية. وعلى الرغم من كثرة العيادات النفسية، والمعالجين النفسيين؛ فإن الأمراض النفسية في ازدياد. فالكآبة والقلق والحيرة والشكوك تموج بها النفوس كموج البحر.
وقد غرقت تلك المجتمعات في مستنقعات الشهوات. فالإباحية، والشذوذ الجنسي، والعب من الخمور والمخدرات، وتفشي الجريمة قد أثمرت هذه البلايا ثمارا مرة. فقد انتشرت الأمراض الجنسية، وأوجدت أمراضاً عجز علمهم وطبهم عن علاجها. فالأمراض الجنسية بلغت المئات، وتوج الإيدز تلك الأمراض. فهو مرض قاتل فتاك، يهد الجسد، ولا يغادره إلا بعد أن يصبح جثة هامدة. وقد بذلت الأموال الطائلة لتحقيق العلاج- ولا علاج.
لقد باض الشيطان وفرخ في تلك الديار، وصد الناس عن الهدي الذي جاء من عند الله، فشقي أولئك الأقوام بعلمهم وتقدمهم. وكان ثمار الإعراض عن الوحي السماوي الشقوة التي تصاحب كل معرض عن الدين الحق: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى) (1) .
__________
(1) سورة طه: آية 124.(1/66)
إنك ترى المعيشة الضنك هناك في أجيال التافهين من الهيبز، ومدمني المخدرات، وثمار أولاد السفاح الذين تمتلئ بهم الملاجئ، وفى السجون التي تموج بالمجرمين من كل الألوان، وفى عصابات الإجرام التي أخذت تفوق الدول ثروة وسلاحاً وتنظيما، وفي حياة الفسق والفجور، في نوادي العراة، وعلى شواطئ البحار، ومواخير الليل.
إنها ظلمات بعضها فوق بعض، تكاد تأتى على الأخضر واليابس، وتهد الفرد والأسرة والمجتمع. وكل ذلك ينادى بالناس أيها الحيارى التائهون عودوا إلى الله ومنهجه، كي تصلح دنياكم وأخراكم والله المستعان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
http://www.islamset.com/arabic/ahip/altashfe/alkade.htm
التشافي بالقرآن
الأستاذ الدكتور أحمد القاضي
وإيمان أبو السعود القاضي
بسم الله الرحمن الرحيم
(وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) (1) .
وإن لكم في القرآن لما يشفيكم (2) .
الأثر الشافي للقرآن حقيقة مقررة نص عليها الله تعالى في كتابه الكريم، وأوصى بها الرسول صلى الله عليه وسلم. وهذا الأثر الشافي له أوجه متعددة ومظاهر كثيرة بدأنا في السنوات الأخيرة نفهم بعضها، وما زلنا لم نسبر غور أغلبها؛ ونسأل الله تعالى أن يزدنا فيها علماً. وفى هذه العجالة نذكر بعض أوجه الأثر الشافي للقرآن التي ثبت لنا بالتجربة العلمية أثرها وفعاليتها.
1- الأثر الشافي للاستماع للقرآن:
ثبت بالتجربة المقارنة أن الاستماع إلى تلاوة القرآن ينتج عنه تغيرات في عدد من الوظائف الحيوية في الجسم البشري؛ والتي يمكن قياسها ورصدها إلكترونيا. وهذه التغيرات الفيزيولوجية تصاحب في العادة عمليات الشفاء، وهى مضادة للتغيرات التي تصاحب الحالات المرضية. وتظهر هذه التغيرات الفيزيولوجية الإيجابية عند من يفهم اللّغة العربية ومن لا يفهمها، وإن كانت التغيرات أعمق وأكثر وضوحاً حين يتوفر فهم معاني كلمات القرآن.
__________
(1) سورة الإسراء آية: 82.
(2) قول مشهور.(1/67)
2- الأثر الشافي للرقية (أي اللمس مع قراءة القرآن):
ثبت عن طريقة التصوير الكهربائي (تصوير كيرليان) أن قراءة القرآن تحدث تغيرات إيجابية في مجال الطاقة الكهربائية المغناطيسية المحيطة بجسم وأطراف القاريء، وثبت كذلك أن هذه التغيرات في المجال الكهربائي المغناطيسي للقاريء تؤثر تأثيراً إيجابياً على المجال الكهربائي المغناطيسي للمقروء عليه، أو المرقى. وهذه التغيرات بالتالي يكون لها أثر إيجابي شاف على صحة المريض بإذن الله.
3- الأثر الشافي لبعض المفاهيم من القرآن والسنة التي تساعد المريض على التخلص من المشاعر السلبية:
ثبتت فعالية بعض المفاهيم من القرآن والسنة الشريفة في التخلص من المشاعر السلبية عند المريض. وقد ثبت بالتجربة العملية أن المشاعر السلبية المختزنة من أقوى العوامل التي تؤدي إلى تثبيط وظائف المناعة عند الإنسان. وثبت أن ضعف أو خلل وظائف المناعة عند الإنسان يؤدي إلى زيادة نسبة الإصابة بالأمراض المختلفة، ومنها ما يهدد الصحة والحياة. وبالتالي فإن الإرشاد النفسي لتعلم كيفية التخلص من المشاعر السلبية هو جزء أساسي في علاج الأمراض المزمنة والتي كان يظن أنها مستعصية على العلاج الشافي. وقد ثبتت فعالية الإرشاد النفسي المبنى على المفاهيم الإسلامية المنبثقة من القرآن، والسنة الشريفة، وهذا على المسلمين وغير المسلمين، لأنه يستند على مفاهيم تتناسب مع فطرة الإنسان، بغض النظر عن ملته. وإن كانت فعالية هذا الإرشاد النفسي تزداد مع زيادة عمق المفاهيم الإيمانية والروحانية عند المريض، وهذا أحد الأهداف المرجو الوصول إليها عند المرضى.
4- الأثر الشافي للسلوكيات الحياتية الإسلامية المنبثقة من التعاليم الإسلامية النابعة من القرآن والسنة الشريفة (ما يسمى بالطب الإسلامي التطبيقي أو السريري أو الإكلينيكى):(1/68)
وبعد مراجعة نتائج العلاج طويلة المدى (أكثر من خمس سنوات)، تبين أن استعمال الطب الإسلامي السريري في علاج الأمراض التي فشل الطب الحديث في تقديم العلاج الشافي لها؛ قد نجح نجاحاً كبيراً يفوق نجاح علاجات الطب الحديث أضعافاً مضاعفة. وهذا نمط ثابت وراتب بالنسبة لجميع الأمراض المختلفة؛ وإن كانت نسبة ودرجة النجاح متفاوتة من مرض لآخر.
وهذا النجاح عند المرضى المسلمين وعند غير المسلمين على السواء. وهذا مظهر آخر من مظاهر الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، إضافة إلى ما ظهر في السابق في مجال الإعجاز المذكور.
ولقد فرقت العقيدة الإسلامية بين أفعال العباد وإرادتهم، وبين إرادة المولى عز وجل. وقد أوضحت العقيدة الإسلامية بتفصيل متناه في الدقة العلاقة بين الإنسان وإرادته وبين خالقة جل وعلا…
وأحد أبواب الإيمان بالله عز وجل هو التسليم بأن الشفاء والنفع والضر كل ذلك من عند الله عز وجل دون الإخلال بما يملك الإنسان من أفعال يستجلب بها منفعة أو مضرة أو مرضاً أو شفاء يحدث بإذن الله.
ولعل الأطباء المسلمين الذين كانوا في عهد النهضة الإسلامية يدرسون علم التوحيد والفقة إلى جانب دراستهم للعلوم المادية؛ نقول: كان هؤلاء الأطباء الأوائل على دراية وعلم في العقيدة الإسلامية تجعلهم يتعاملون مع المادة تعامل المدرك الواعي…
ولهذا الفهم الصحيح للعلاقة بين الروح والجسد عند أطباء المسلمين، وبين صفاء وردهم من العقيدة فقد المسلمون دافعهم للعلم المادي، كما فقدوا تميزهم بالمعرفة والحقيقة لمراد الله سبحانه وتعالى في خلق الإنسان فابتعدوا عن الغايات النبيلة التي من أجلها أمر المسلمون بالتداوي، ولم يربطوا بين المادة كجزء هام في خلق الجسد الإنساني وبين الروح كمحرك لهذا الجسد…(1/69)
ومع تقدم سنوات التخلف على العالم الإسلامي انقسم المسلمون إلى قسمين كبيرين، أحدهما مندفع في اتجاه الحضارة المادية البحتة لا يؤمن إلا بما يأتي منها، ولا يعترف بأي علم إلا إذا كان بلسان هذه الحضارة.
والقسم الثاني انفصل بنفسه عن أبواب العلم المادي، وظن أن الدين هو بالتزام العبادات والانشغال بأمور الآخرة، تاركاً الدنيا لأهلها كما يقول.
وبين هذين الفريقين الكبيرين توجد هناك قوى أخرى ضعيفة أو متفرقة، وهم من أبناء المسلمين الذين يعتقدون أنهم أولى من غيرهم بهذا العلم المادي كما أن الأخذ به أحد أهم مقاصد الشريعة الإسلامية. وبالتالي وجب عليهم أن يأخذوا بهذا العلم وجوب كفاية. وأن يتقدموا فيه، بل ويتقدموا على غيرهم…
إن هؤلاء القلة الذين تزداد كثرتهم في السنوات الأخيرة بفضل الله عز وجل يحاربون على ثلاث جبهات: أولها جبهة أهل الكفر الذين لا يعترفون بميزان غير ميزان المادة، وجبهة أبناء المسلمين الذين يسخرون من تدينهم، وجبهة الآخرين من أبناء المسلمين الذين يهزؤون بعلمهم المادي…
إن ندوة التشافي بالقرآن التي نعيش في هذه الأيام تحت ظلالها هي إحدى المحاولات الجادة التي نعتقد أنها ستحقق الرابط الصحيح-كما نتمنى- بين العلم الديني والعلم المادي.(1/70)
وإذا كان فقهاء هذه الندوة قد تكلموا في شرعية الرقى بالقرآن الكريم وبالسنة النبوية، أو بما يصح من ألفاظ طيبة، وبينوا جواز حكمها الشرعي، ثم عرجوا بعد ذلك بشيء، من التفصيل نحو شروط الرقية والراقي، ومن تُلقى عليه الرقية، وأوضحوا الحكم الشرعي فيها فإنهم في الحقيقة وضعوا الأطباء في بداية الطريق- فتحوا لهم باباً من أبواب المندوب-على أقل تقدير. حتى يبدأ الأطباء المسلمون في دخول هذا الباب، والبحث في جوانبه بما يمكن أن يحقق للمسلمين فائدة صحية لا يستغني عنها المرضى …مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل" (1) .
إن مهمة الطب وضوابطها من الناحية الإسلامية قد وضعت لها آداباً قننها علماء المسلمين بمجهودات المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية. فإذا تم الاتفاق كما أظنه فسيكون على أن الرقية الشرعية هي إحدى وسائل العلاج التي يقرها الإسلام بنص ما أخرجه البخاري وغيره عن أبي هريرة رضى الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء" (2) .
وفى رواية لمسلم: " لكل دواء داء فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله" (3) .
…
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمه والنظرة ح(2199) وأحمد في مسنده (3/382) والبيهقي في الكبرى: كتاب الضحايا: باب إباحة الرقية (9/348) قال الألباني: وفي الحديث استحباب رقية المسلم لأخيه المسلم بما لا بأس به من الرقى، وذلك ما كان معناه معروفا مشروعاً، وأما الرقى بما لا يعقل معناه من الألفاظ فغير جائز-انظر الصحيحة ح(472).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء ح(5678) وأحمد في مسنده (1/377).
(3) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب السلام: باب لكل داء دواء واستحباب التداوي ح(2204) وانظر تحفة الأشراف ح(2785) وأحمد في مسنده (3/335).(1/71)
ولعلنا كأطباء هنا، لا نملك إلا أن نفرق بين التداوي بالدواء، وبين الرقى الشرعية؛ وإن كان كلاهما مما جعله الله من الأسباب التي يتم الشفاء من المرضى بها. وفى هذا روى الإمام الترمذي أن سائلاً سأل رسول الله صلىالله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله أرأيت رقية نسترقيها، ودواء نتداوى به، وتقاة نتقيها؛ هل ترد من قدر الله شيئاً؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هي من قدر الله" (1) .
وبرأيي أن الفرق بينهما فرقا بين الكرامة والسنن، فإن التداوي الطبي المادي يصيب سننا ثابتة أوجدها الله في صلب الخلق، وبالتالي يغلب على هذه السنن التفاعل مع الدواء. أما الرقية فهي كرامة يهبها الله سبحانه وتعالى لمن يشاء، فتُحقق الشفاء بدون أسباب ظاهرة لنا. وقد وصف علماء المادة العلم الدوائي بأنه إلزام وجوب تحقيق النتيجة وتكرارها بإيجاد المؤثر. فإذا وضعت مغناطيساً بجانب إبرة، فيجب أن ترتفع الإبرة إلى هذا المغناطيس. وإذا سلطت إشعاعاً في مستوى معين على الجلد، فيجب أن يحمر هذا الجلد. ولو كررت هذه العملية مئات المرات لحصلت هذه الاستجابة بشكل قطعي في كل مرة. فهذه السنن الثابتة التي تخضع لمعايير المادة، والتي خلقها الله بداخل الإنسان أو في الطبيعة هي لب الحضارة المادية. وهي التي نجد فيها قصوراً كبيراً بين المسلمين للأسف الشديد. فهذا العلم المادي فيه أسرار عظيمة ما جهل منه أكبر مما علم. وطرق معرفته لا تتم إلا بالجهد والانشغال به.
لهذا تجد أن باع المسلمين فيه قليل لأسباب كثيرة ومتنوعة…
__________
(1) أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الطب: باب الرقي والأدوية ح(2072) وقال: هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء ح(3437). وأحمد في مسنده (3/421). قال الهيثمي في المجمع (5/85): رواه الطبراني والحرث لم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح غير أبي خرابة. وضعفه الألباني في ضعيف سنن ابن ماجة ح(749).(1/72)
أما الرقى الشرعية، فإنها قد تحدث وقد لا تحدث. فهي كالدعاء قد يستجيب الله لها، أو يقع بها ضرر آخر أو قد يؤجلها لوقت آخر. ولهذا فإن الرقى الشرعية تكون في رأيي حين لا يكون هناك متفق عليه، أو حين يكون هناك موانع صحية أو اقتصادية تمنع استخدام هذا الدواء. عند ذلك، يلجأ إلى من بيده الشفاء باستخدام الرقية الشرعية. وفي رواية أبو داود في سننه، عن سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه قال: "مرضت فعادني النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده بين ثديي حتى وجدت بردها في فؤادي. أي في صدري فقال: يا سعد إنك رجل مفؤود أي مريض بصدرك، ائت الحارث بن كلدة أخا ثقيف فإنه رجل يتطبَّب أي يتعاطى الطب-وله خبرة به" (1) .
في رأيي هذا الحديث يلزم المسلمين بالبحث عن الطب الذي جعله الله سبباً من أسباب التشافي. فإذا وقف الطب، أو اختلف، أو صعب الوصول إليه فإن تأثيرات الرقى نافعة بإذن الله …
وقد اعترف أصحاب العلم المادي في السنوات الأخيرة بمثل هذه التأثيرات الروحية على المادة. فقد قال "روجر سبري" الحاصل على جائزة نوبل بأهمية الربط بين المفاهيم الروحية والعلوم.
ورغم أن مثل هذه المعرفة لم تنل حقها من البحث العلمي لأسباب سياسية واجتماعية وفلسفية كثيرة ومعقدة؛ إلاّ أنها بدأت في السنوات الأخيرة تجد لها حظاً أوفر بين العلماء والباحثين وبدأ الخوف من لمس هذه العلاقة يتلاشى في نفوس العلماء الذين ظلت عقدة التعارض بين الروح والعلم قابعة في أنفسهم عقوداً طويلة.
__________
(1) حديث ضعيف أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الطب: باب في تمرة العجوة (3875) ضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود ح(834).(1/73)
ونحن هنا لابد أن نتطرق بشكل ما إلى قدرة الجسم على مكافحة المرض حتى يمكننا أن نتفهم السنن المادية التي يعمل بها جسم الإنسان، وحتى ندرك أن الجهاز المناعي الذي إذا اختل أصاب الجسم علة هو جهاز معقد في التركيب، عظيم في الوظيفة، يعمل بصورة ذاتية في سنن أوجدها الله فيه، يمكن لكل من اجتهد في العلم كافرا كان أو مسلماً أن يصل إلى قواعد تلك السنن، ويدرك أبعادها. فالجهاز المناعي يتكون بشكل أساسي من خلايا ليمفاوية بشقَّيها خلايا "باء"، وخلايا "تي" ويتكون أيضاً من الخلايا الآكلة ولعل الثقل الأكبر يقع على الخلايا الليمفاوية حيث تشكل خلايا "باء" ما يقارب من 15% من الخلايا الليمفاوية السابحة في الدم. وهى المسئولة عن المناعة الخلوية التي تصنع المضادات الخاصة ضد الأجسام الغريبة.(1/74)
أما الخلايا "تي"، فهي تشكل ما مقداره 70% إلى 80% من الخلايا الليمفاوية السابحة. وهى مسئولة عن ردود الفعل المناعية الخلوية، وأيضاً مسئولة عن تنظيم الوظائف المناعية. ولو لمسنا بداية علم المناعة لوجدنا أن الخلايا "باء" تصنع مواد جلوبيولين المناعية، والتي تنقسم إلى أقسام خمسة أساسية أكثر من الـIGG"". وتتراوح أعمارهم بين 230 يوم وكل عنصر من الجلوبيولين المناعي يتركب من نوعين من سلسلة عديد البيبتيد؛ أحدهما السلسلتين الثقيلتين، وثانيهما السلسلتين الخفيفتين. وكل من السلسلتين يرتبط ببعض بواسطة رابطة ثنائية الكبريتيد، وأيضاً برابطة غير تساهمية. ويعتبر الـ"IGG" هو أكثر الجلوبيولينات المناع وأخفها، فهو يصل إلى داخل الرحم عابراً المشيمة. وقد تم التعرف على عدة أنواع من "IGM"و "IGA"و "IGE" أماّ الخلايا الآكلة فهي تُكوِّن 70% من خلايا كرات الدم البيضاء، ويتراوح عددها بين 10000 إلى 5000 خلية في كل مليمتر من الدم. وهى خلايا متحركة تقوم بالانتقال خلال شعيرات الدم المتناهية في الدقة، وابتلاع البكتريا، واستخدام إنزيمات هاضمة يوجد فيها الليزوزوم لتحطيم البكتريا…
وهذه الخاصية لحماية الجسم بطريقة مباشرة تشكل الجزء البسيط على قدرة الجسم لمقاومة الأمراض. كل هذه الشبكة من المضادات المناعية المعقدة-والتي تتعمق بالتخصص لتصل إلى حد التفرد الخلوي-تعمل بشكل منتظم ودقيق لحماية الجسد الحي من غلبة المضار العضوية وغير العضوية المحيطة به. ولكن عندما تنتصر البكتريا على القدرة المناعية، فإنها تؤدي إلى الإصابة بالمرض. وهذه الإصابة لا تشل حركة المقاومة، بل إنها تثيرها، فيزداد الصراع بين الجسم وبين البكتريا أو الفيروس. ويبدأ الجسم في سلسلة معقدة بتخليق مواد مضادة لهذا الجسم الغريب حتى يهزمه وينتصر عليه.(1/75)
وقد يحتاج الجسم إلى الدواء في هذه المرحلة حتى يتمكن الجسم من هزيمته. أو قد يحتاج الجسم إلى الدواء في هذه الفترة للتخفيف من آثار المعركة بين الجهاز المناعي وبين الغازي والتي تظهر على شكل حرارة، أو أوجاع، أو ما شابههما من الأعراض…
فالدواء هنا له وظيفة محددة، وتأثيراته معلومة ومقيسه بدقة كبيرة، ولها أصول علمية متفق عليها بين العلماء، ولا يحق إعطاء هذا الدواء إلاّ لمن لديه علم بالمرض والدواء، وهو الطبيب…
من هذا كله نخلص إلى أن التطبيب عملية تخضع لقواعد وأصول علمية مادية تحقق نتائج متفقا عليها بين العلماء. وهو أمر يختلف في المفهوم الإسلامي عن الشفاء، وإن كان التطبيب يتبعه عادة الشفاء إلا أن النظرة الإسلامية جعلت الشفاء حقاً إلهياً، ونحن كأطباء مسلمين نتوقع دائماً أن يأتي الشفاء وباستخدام الدواء المناسب، لأننا نعلم أن ذلك من قدر الله كما ذكرنا في الحديث الذي رواه الإمام الترمذي وغيره.
من هنا فإننا أيضاً نؤمن أن الرقية يمكن أن تكون ذات فائدة للمرضى إذا استفيد منها بالطريقة التي يتفق عليها الفقهاء بشروطهم، وبإضافة ما نراه كأطباء من شرط آخر وهو استخدامها في حالة تعذر الدواء المتفق عليه لأي سبب كان. أما استخدام الرقى للمنع من وصول الداء، فهذا أمر لا بأس به، ويمكن برأي الأطباء أن يستخدم في الطب الوقائي لأنه من بركات الدعاء التي يؤمن بها المسلمون. وإننا نعتقد في النهاية أن على المسلمين أن يستخدموا الرقية الشرعية في أبواب ثلاثة:-
في الطب المناعي؛ حيث يتم الدعاء والرقية لمنع الضرر، كمن يقول: "باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض والسماء وهو السميع العليم" (1) .
ليتفادى الضرر عن الحيوانات، أو من لسعات الحشرات مثلاً…
أما الباب الثاني، فهو استخدامها في التشافي حسب ما يقره الفقهاء والأطباء.
__________
(1) ؟؟؟؟؟؟؟(1/76)
أما النوع الثالث؛ فهو استخدام الرقى في الوقاية، وهو يحتاج إلى مزيد من الأبحاث، لأننا كأطباء لاحظنا-ومازلنا نلاحظ-أن قوة الإيمان وقراءة القرآن تساعد الجسم على مقاومة المرض. ومن هنا نقول أن استخدام القرآن في التشافي في نظر الأطباء يكون بتعميم التشافي بما يزيد عن مفهوم الرقية. فيصبح هناك علم للطب الإسلامي قائم على مراكز علاجية تحت إشراف أطباء مسلمين ثقات عالمين بالعلم المادي ولديهم علمٌ شرعيٌّ، يقومون بالعلاج المشترك: المادي بالأدوية، والروحي بالرقية. ويمكن بهذه الطريقة تحقيق نمط مشترك من العلاج أظن أن العالم كله في حاجة إليه كما أشرنا في بداية المقال إلى مقولة "روجر سبري".
ويجب أن تخضع هذه المراكز لإشراف الدولة، أو تلحق بالمستشفيات، وتخضع للبحث العلمي المتعارف عليه؛ حتى يمكن علماء المسلمين أن يحاجوا وفق المعايير والقواعد المتعارف عليها…
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
http://www.islamset.com/arabic/ahip/altashfe/asman.htm
ضوابط التداوي بالرقى والتمائم في الفقه الإسلامي
الدكتور محمد عثمان شبير
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله.
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) (1) .
(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً) (2) .
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً) (3) .
__________
(1) سورة آل عمران: (102).
(2) سورة النساء: (1).
(3) سورة الأحزاب : (70-71).(1/77)
أما بعد! فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وإن موضوع التداوي بالرقى والتمائم من الموضوعات المهمة في هذا العصر، والتي يحتاج إليها كثير من الناس، وبخاصة بعد أن انتشرت مراكز العلاج بالرقى والتمائم، وكثر من أقحم نفسه في معالجة الناس بها دون أن يعرف أصول التداوي بها، والضوابط الشرعية لها. كما كثر المترددون على تلك المراكز وتهافتوا عليها من غير معرفة حقيقية للغث والسمين منها؛ فكتبت هذا البحث لبيان
حقيقة التداوي بالرقى والتمائم، وأحكامها الشرعية، وضوابط التداوي بها. ولما كان البعد الفقهي هو الأساس في هذا البحث، فقد رجعت إلى عدد وافر من المصادر الفقهية التي تمثل أكثر المذاهب الفقهية ذيوعاً، هذا بالإضافة إلى كتب العقيدة، وكتب تفسير القرآن الكريم، وشروح الأحاديث النبوية الشريفة، وكتب اللغة والمصطلحات وغير ذلك.
وقد قسمت هذا البحث إلى ثلاثة مباحث وخاتمة:
تكلمت في المبحث الأول: عن حقيقة التداوي بالرقى والتمائم، وفي المبحث الثاني: أحكام التداوي بالرقي والتمائم، وفى المبحث الثالث: ضوابط التداوي بالرقى والتمائم، وفى الخاتمة لخصت أهم نتائج البحث. والله أسال أن يكون هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وأن يجعله في ميزان حسناتي يوم لا ينفع مال ولا بنون.
المبحث الأول :حقيقة التداوي بالرقى والتمائم
لما كان الحكم على الشيء فرعاً عن تصوره، فلابدّ من بيان حقيقة التداوي بالرقى والتمائم. ولتحقيق ذلك لابد من معرفة معنى التداوي وحكمه، وموقع الرقى والتمائم منه، وبيان معنى كل من الرقى والتمائم، وواقع الرقى والتمائم في الجاهلية.
المطلب الأول: موقع الرقى والتمائم من التداوي.
التداوي بالرقى والتمائم نوع من أنواع التداوي. فما معنى التداوي وما حكمه وما أنواعه؟
أولاً : معنى التداوي :(1/78)
التداوي لغة: مصدر تداوى،أي تناول الدواء. وهو مأخوذ من داواه مداواة: عالجه (1) .
وجمع الدواء أدوية، وهو: اسم لما استعمل بقصد إزالة المرض والألم" (2) .
ويطلق على المرض الداء. وهو مصدر من داء الرجل يداء. وفى لغة: دَوى يَدْوَى دوي. وجمع الداء أدوية وهو: "علة تحصل بغلبة الأخلاط على بعض" (3) .
والتداوي لا يخرج في استعمال الفقهاء عن المعنى اللغوي له. فهو: "ما يكون به شفاء المرض بإذن الله من عقار (طبي)، أو رقية، أو علاج طبيعي: كالتدليك ونحوه" (4) .
ثانياً : حكم التداوي :
اتفق فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة على مشروعية التداوي(5)، واستدلوا لذلك بما يلي:
1- روى الإمام مسلم - بسنده - عن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله عز وجل" (6) .
فالحديث فيه إشارة إلى مشروعية التداوي، لأن الأشياء تداوى بأضدادها، فإذا لاقى الدواء الداء برئ بإذن الله تعالى المريض. لكن قد يدق المرض، وتغمض حقيقته، وقد تغمض حقيقة طبع الدواء فيتأخر البرء.
__________
(1) انظر معجم مقابيس اللغة لابن فارس (2/309) والمصباح المنير للفيومي (1/278) والقاموس المحيط للفيرزو ابادي (1656) .
(2) انظر الكليات لابن البقاء العكبري (2/339).
(3) انظر التعريفات للجرجاني ( ) .
(4) انظر الفتاوى الهندية (5/354) وكتاب الجامع من المقدمات لابن رشد (313) والقوانين الفقهية لابن جزي (4859) والمجموع للنووي (5/95) والانصاف للمرداوي (2/463).
(5) انظر شرح النووي على مسلم (14/191) ش ح(2204) .
(6) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب السلام: باب لكل داء دواء واستحباب التداوي ح(2204) وانظر تحفة الأشراف ح(2785) وأحمد في مسنده (3/335).(1/79)
قال القرطبي: هذه كلمة صادقة العموم لأنها خبر عن الصادق عن الخالق؛ ألا يعلم من خَلَقَ. فالداء خلقه، والشفاء والهلاك فعله، وربط الأسباب بالمسببات حكمته، وحكمه. وكل ذلك بقدر لا معدول عنه (1) .
ولهذا كانت وصفات النبي صلى الله عليه وسلم الطبية قطعية متيقنة ، قال ابن القيم: "وليس طبه صلى الله عليه وسلم كطب الأطباء، فإن طب النبي صلى الله عليه وسلم متيقن قطعي إلهي صادر عن الوحي ومشكاة النبوة، وكمال العقل. وطب غيره أكثره حدس وظنون. ولا ينكر عدم انتفاع كثير من المرضى بطب النبوة، فإنه إنما ينتفع به من تلقاه بالقبول، واعتقاد الشفاء له" (2) .
2- وما روى الترمذي -بسنده- عن أسامة بن شريك قال: "قالت الأعراب : يا رسول الله ألا نتداوى؟ قال: نعم يا عباد الله تداووا، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء، أو قال: دواء- إلا داءً واحداً. قالوا يا رسول الله وما هو؟، قال: الهرم" (3).
فالحديث يدل على أن التداوي مباح غير مكروه، وقد سمى الهرم داء، لأنه جالب للتلف: كالأدواء التي يتعقبها الموت والهلاك (4) .
__________
(1) ؟؟؟؟؟؟ .
(2) انظر فيض القدير للمناوي (5/283).141- انظر الطب النبوي لابن القيم (35-36).
(3) أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الطب: باب في الرجل يتداوى ح(3855) والترمذي في سننه: كتاب الطب: باب ما جاء في الدواء والحث عليه ح(2045) قال أبو عيسى: وهذا حديث حسن صحيح. وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء ح(3436) وانظر تحفة الأشراف ح(127) وأحمد في مسنده (4/278) وانظر صحيح سنن ابن ماجة ح(2772).
(4) انظر معالم السنن للخطابي (5/346) ش ح(3706).(1/80)
3- ما روى أبو داود بسنده- عن أبى الدرداء قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء فتداووا، ولا تتداووا بمحرم" (1) .
فالحديث يدل على جواز التداوي، لأن إنزال الدواء من الله تعالى أمارة على ذلك (2) .
ثالثاً : أنواع التداوي وموقع الرقى والتمائم منها
استعمل النبي صلى الله عليه وسلم في علاج أمراض البدن ثلاثة أنواع من الأدوية وهى: أحدها: العلاج بالأدوية الطبيعية، مثل العسل والحبة السوداء. والثاني: العلاج بالأدعية والأذكار: كالرقي بآيات القرآن الكريم. والثالث: العلاج المركب من الأمرين (3) .
ويرجع سبب هذا التنوع إلى طبيعة تكوين الإنسان، فهو مركب من بدن، وروح. قال تعالى (الذي أحسن كل شئ خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين. ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين. ثم سواه ونفخ فيه من روحه. وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون) (4) .
فالأدوية الطبيعية تناسب البدن، والأدوية الإلهية تناسب البدن والروح معاً، فهي تؤدى إلى اطمئنان القلب وقوته وانتعاشه، كما تؤدى إلى قوة النفس ودفع الأوهام التي ينتج عنها كثير من أمراض البدن.
__________
(1) ذكره الهيثمي في المجمع (5/86) وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات. وحسنه الألباني في الصحيحة ح(1633) وقال: هذا إسناد حسن ورجاله ثقاب معروفون غير ثعلبة هذا، ذكره ابن حبان في (الثقات) وروى عنه جمع، فهو حسن الحديث إن شاء الله تعالى إذا لم يخالف. وله شواهد ذكرها الألباني في السلسلة الصحيحة تحت ح(1633).
(2) انظر الفواكه الدواني للنفراوي (2/440).
(3) انظر الطب النبوي لابن القيم (24).
(4) سورة السجدة: (7-9).(1/81)
ولهذا ينبغي على المسلمين استعمال النوعين من الأدوية، دون إفراط أو تفريط، أو دون إهمال لأحدهما، وتزيد في الآخر. فنرى بعض الناس يُفِّرطُون في التداوي بالأدوية الإلهية من الرقى والتمائم والتعويذات مقتصرين في علاج الأمراض على الأدوية الطبيعية. فهؤلاء قد حرموا أنفسهم من بركات القرآن الكريم والأدعية والأذكار. وفى المقابل نجد آخرين أهملوا الدواء الطبيعي وزهدوا الناس فيه، وأفرطوا في استعمال الأدوية الروحية، ولم يقفوا عند الرقى الشرعية، وأدخلوا فيها ما ليس له معنى، وأصبحوا يكتبون الأحجبة والتمائم، ويستعينون في كتابتها بكتب الدجل والشعوذة، واتخذوا ذلك حرفة ومورداً للرزق فضلوا وأضلوا، وأوقعوا الناس في حبائلهم، وأكلوا أموالهم بالباطل.(1/82)
والاعتدال في ذلك اتباع هدى النبي صلى الله عليه وسلم في علاج الأمراض، بحيث يجمع بين التداوي بالأدوية الطبيعية والعقاقير الطبية التي دلت الأبحاث العلمية على فائدتها في علاج الأمراض، وبين التداوي بالأدوية الإلهية من الرقى الشرعية التي ضبطتها الشريعة الإسلامية. ومما يؤيد ذلك ما روى الإمام مسلم عن عائشة رضي الله عنها: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى الإنسان الشيء منه، أو كانت به قرحة أو جرح؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم بإصبعه هكذا (و وَضَع سفيان سبابته على الأرض ثم رفعها) باسم الله تربة أرضنا بريقة بعضنا ليشفى به سقيمنا" (1) .
ومعنى الحديث أنه يأخذ بريق نفسه على إصبعه السبابة، ثم يضعها على التراب، فيعلق بها شيء: فيمسح به على الموضع الجريح أو العليل، ويقول هذا الكلام في حال المسح (2) .
فهو يجمع بين الأدوية الطبيعية، والأدعية والأذكار.
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب رقية النبي (صلى الله عليه وسلم) ح(5746) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمه والنظرة ح(2194) وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب كيف الرقى ح(3895) وابن ماجة في سننه: باب ما عوذ به النبي (صلى الله عليه وسلم) وما عوذ به ح(3521) وانظر تحفة الأشراف ح(17906) وأخرجه أحمد في مسنده (6/93) والبغوي في شرح السنة (5/224) والنسائي في اليوم والليلة ح(1023) وابن السني في اليوم والليلة ح(576).
(2) انظر شرح النووي على مسلم (14/184) ش ح(2194).(1/83)
وروى عن علي رضى الله عنه: لدغت النبَّي صلى الله عليه وسلم عقربٌ وهو يصلى، فلما فرغ، قال: لعن الله العقرب، لا تدع مصلياً ولا غيره. ثم دعا بماء وملح فجعل يمسح عليها ويقرأ (قل يا أيها الكافرون …) و(قل أعوذ برب الفلق) و(قل أعوذ برب الناس) (1) .
فالحديث يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل الدواء المركب من الأدوية الطبيعية والأدعية والأذكار.
بهذا يتبين أن الرقى والتمائم عنصر مهم في باب التداوي من أمراض البدن والروح، وهى المرتكز الأساسي في العلاج لكل من الطبيب والمريض. فما حقيقة الرقى والتمائم؟ هذا ما سنجيب عنه في المطلب التالي- إن شاء الله تعالى.
المطلب الأول : حقيقة الرقى والتمائم
أولاً : معنى الرقى
الرقى في اللغة: جمع رقية. وهى اسم من الرقِي. يقال: رقى الراقي المريض يرقية رَقياً و رُقيا. وأصل (رقى) يرجع إلى ثلاثة أمور هي: الصعود، والبقعة من الأرض والتعويذ. وجاء في الأمر الثالث قوله تعالى: (كلاً إذا بلغت التراقي وقيل من راقٍ) (2) .
أي من يرقيه تنبيهاً إلى أنه لا راق يرقيه برقية فيحميه0 والراقي صانع الرقية، أو صاحب الرقى، والمرْقى المريض الذي يقرأ عليه. والمرقاة وسيلة الرقى (3) .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي للرقية عن المعنى اللغوي لها، فهي ألفاظ خاصة يحدث عند قولها الشفاء من المرض إذا كانت من الأدعية التي يتعوذ بها من الآفات: من الصرع والحمى.
__________
(1) أخرجه ابن ماجة في سننه: كتاب إقامة الصلاة: باب ما جاء في قتل الحية والعقرب في الصلاة ح(1246) وانفرد به- انظر تحفة الأشراف ح(16125). وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ح(1030). وانظر السلسلة الصحيحة للألباني ح(547) و(548).
(2) سورة القيامة: (26-27).
(3) انظر معجم مقاييس اللغة لابن فارس (2/126) والمصباح المنير للفيومي (1/322) والمفردات للراغب (201) والمعجم الوسيط (1/368).(1/84)
ومن الرقى ما ليس بمشروع كرقى الجاهلية (1) .
. وقد عرفها ابن الأثير بأنها: "العوذة التي يرقى بها صاحب الآفة: كالحمى والصرع وغير ذلك من الآفات (2) .
والعوذة في اللغة: اسم من العوذ، فتقول عاذ به عوذاً وعياذاً ومعاذاً: التجأ واعتصم به (3) .
والعوذة والمعاذة: التي يتعوذ بها الإنسان من فزع أو جنون (4) .
ثانياً : معنى التمائم
التمائم في اللغة: جمع تميمة. وهى مأخوذة من تمَّ الشيء يتم تكملت أجزاؤه. فأصل "تم" الكمال. وسميت التميمة بهذا الإسم، لأنها تمام الدواء والشفاء المطلوب (5) .
والتميمة في الاصطلاح تطلق على معنيين:
الأول: خرزات كان العرب يعلقونها على أولادهم يتقون بها العين في زعمهم (6) .
والثاني: ورقة يكتب فيها شئ من القرآن أو غيره، وتعلق على الرأس، مثلاً: للتبرك (7) .
ثالثاً : الرقى والتمائم في الجاهلية
استعمل العرب في الجاهلية الأدوية الطبيعية من البصل، والثوم والحلبة، والحبة السوداء، والعسل والأدوية الروحية من الرقى والتمائم. لكن غلب على النوع الأخير تأثرها بالشرك والسحر والخرافة.
1. تأثر الرقى والتمائم في الجاهلية بالشرك.
اختلطت الرقى والتمائم في الجاهلية بالكهانة والعرافة والتنجيم، فادعى محترفوها معرفتهم للغيب. واستعانوا بغير الله تعالى من الجن والشياطين والكواكب والنجوم.
__________
(1) انظر الموسوعة الفقهية الكويتية (24/261) والفروق للقرافي (4/147).
(2) أنظر النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (2/254).
(3) انظر معجم مقاييس اللغة لابن فارس (4/183) والمصباح المنير للفيومي (2/597) والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير (3/318) والمعجم الوسيط (2/461).
(4) انظر معجم مقاييس اللغة لابن فارس (4/184).
(5) انظر معجم مقاييس اللغة لابن فارس (1/339) والمصباح المنير للفيومي (1/106).
(6) انظر حاشية ابن عابدين (6/363).
(7) انظر حاشية الجمل (1/76).(1/85)
أ- فالكهانة: ادعاء علم الغيب وذلك عن طريق اتصال الأرواح البشرية بالأرواح المجردة من الجن والشياطين، واستعلامهم عن الأحوال الجزئية للإنسان، ومعرفة أسراره، وما يتعرض له في يومه ومستقبله من مرض وشقاء، وعافية وشفاء (1) .
ويسمى متعاطي الكهانة "الكاهن" وهو: "الذي يخبر عن الكوائن في مستقبل الزمان، ويدعي معرفة الأسرار ومطالعة علم الغيب" (2) .
ب- العرافة: هي معرفة الاستدلال ببعض الحوادث الخالية على الحوادث الآتية بالمناسبة أو المشابهة الخفية التي تكون بينهما، أو الاختلاط، أو الارتباط؛ على أن يكونا معلولي أمر واحد، أو يكون ما في الحال علة لما في الاستقبال (3) .
. ويطلق على محترفها "العراف" وهو "المنجم أو الحازي الذي يدعي علم الغيب " (4) .
وسموا العراف بالطبيب كما جاء في قول الشاعر:
فقلت لعراف اليمامة داوني *** فإنك إن داويتني لطبيب
د- والتنجيم: هو الاعتقاد بأن بين طلوع النجوم وغروبها أمراضاً وأوبئة وعاهات في الناس والإبل. وكانوا ينسبون إلى النجوم التأثيرات. ويسمى محترف التنجيم "المنجم" وهو: "كل من يدعى الغيب من مستقبل بعيد ومكنونات الصدور" (5) .
وكان أهل الجاهلية يتوجهون للمنجم يسألوه عن الغيب (6) .
2-تأثر الرقى والتمائم في الجاهلية بالسحر.
__________
(1) انظر مفتاح السعادة لطاش كبرى زاده (1/364) وأبجد العلوم لصديق حسن (2/453).
(2) انظر التعريفات للجرجاني (235) والمقدمة لابن خلدون (87).
(3) انظر مفتاح السعادة لطاش كبرى زاده (1/357) وأبجد العلوم الصديق حسن (2/379).
(4) انظر النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (3/218).
(5) انظر معجم لغة الفقهاء لقتيبي وقلعجي (463).
(6) انظر أبجد العلوم لصديق حسن (2/551).(1/86)
تأثرت الرقى والتمائم في الجاهلية بالسحر والسحرة، وكتبت العقد والعزائم لمداواة المرضى ولأغراض أخرى. فقد زعم العرب في الجاهلية أنها تؤثر في الأبدان والقلوب ، فتشفى أو تُمرض، أو تقتل، أو تفرق بين المرء وزوجه، أو غير ذلك" (1) .
. ويزاول السحرة صناعتهم بالتقرب إلى الشياطين بأنواع القبائح التي فيها مدح الشياطين والشرك بالله تعالى. وقد عرف العرب عدة أنواع من السحر كالشعبذة، والعزيمة، والطلاسم.
أ - فالشعبذة: ويقال لها الشعوذة معرب من شعباذة، وهو اسم رجل ينسب إليه علم الشعوذة. وهى: الخداع والتخييلات التي لا حقيقة لها، مبنية على خفة اليد، وصرف البصر عما يفعله المشعوذ (2) .
ب- والعزيمة من الرقى التي كانوا يعزمون بها على الجن. وجمعها عزائم، فيقال عزم الراقي- كأنه أقسم على الداء (3) .
. وأصلها- كما ذكر القرافي الإقسام والتعزيم على أسماء معينة زعموا أنها أسماء ملائكة وكلهم سليمان بقبائل الجان، فإذا أقسم على صاحب الاسم ألزم الجن بما يريد (4) .
جـ- والطلاسم أو الطلسمات: جمع طلسم. وهى أسماء خاصة كانوا يزعمون أن لها تعلقاً بالكواكب، تجعل في أجسام من المعادن أو غيرها تحدث آثاراً خاصة. ولذلك يستعين صاحبها بالمنجمين (5) .
3- تأثر الرقى والتمائم في الجاهلية بالخرافة.
اختلطت الرقى والتمائم في الجاهلية بالخرافات والأوهام فزعموا أن للحروف خصائص معينة تفيد في شفاء الأمراض، كما زعموا أن بعض الأحجار تجلب الخير وتدفع الشر.
__________
(1) انظر التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي (399) والمغني لابن قدامة (8/15).
(2) انظر المفردات للراغب (226).
(3) انظر لسان العرب لابن منظور (3/769).
(4) انظر الفروق للقرافي (4/147).
(5) انظر الفروق للقرافي (4/142) وتذكرة أولى الألباب لداود الانطاكي (2/154).(1/87)
أ - علم الحروف: وهو علم باحث عن خواص الحروف إفراداً وتركيباً وموضوعه الحروف الهجائية. ويزعمون أن للحروف جسماً، وروحاً، ونفساً، وقلباً، وعقلاً، وقوة كلية. وقوة طبيعية. وأنهم يمزجون بعلمهم قوى الحروف والكلمات بقوى الكواكب؛ فيرشدهم هذا المزج إلى المغيبات، ويدلهم على المقدرات. وتوهموا أن للحروف خواصَّ: فمنها النارية والهوائية والمائية والترابية على حسب تنوع العناصر: فالألف للنار، والباء للهواء، والجيم للماء، والدال للتراب. ثم يرجع كذلك على التوالي من الحروف والعناصر إلى أن تنعقد. وتستعمل الحروف النارية لدفع الأمراض الباردة، ولمضاعفة قوة الحرارة، حيث تطلب مضاعفتها إما حساً أو حكماً. وتُستعمل الحروف المائية لدفع الأمراض الحارة من الحميات وغيرها، خرافات وأوهام ولمضاعفة القوة الباردة (1) .
ب - الأحجار والخرز.
تعلم العرب في الجاهلية ممن سبقهم ما نُقِلَ عنهم من خرافات وأوهام تتعلق بالأحجار والخرز ومن ذلك:
1- اليشب أو اليصب: وهو حجر فضي يزعمون أنه يقطع نزف الدم، ويرد العين، ويدفع السحر إذا علق على الرقبة أو العضد، وإذا علق على الفخذ نفح من عسر الولادة، وإذا علق على الرقبة بحيث يحاذي المريء والمعدة نفع في أمراض المعدة (2) .
2- العقيق: وهو على سبعة أنواع: الأحمر الكبدي، والأحمر الوردي، والأصفر، والأبيض، والأسود، والأزرق، وذو اللونين؛ يزعمون أنه يسكن الروع عند الخصام، ويدخل في علاج العين (3) .
3- الزمرد: يؤخذ من جبل في أسوان، يدفع داء الصرع. وإذا علق بمحاذاة الكبد دفع مرض "الدوسنطاريا" (4) .
__________
(1) انظر مفتاح السعادة لطاش كبرى زاده (2/592) وأبجد العلوم لصديق حسن (2/236).
(2) انظر معدن النوادر في معرفة الجواهر للبيهقي (113).
(3) انظر معدن النوادر في معرفة الجواهر للبيهقي (100).
(4) انظر معدن النوادر في معرفة الجواهر للبيهقي (89).(1/88)
4- خرزة العفرة: زعموا أن المرأة إذا شدتها على حقويها (موضع شد الإزار على الخاصرة) تمنع الحمل (1) .
5- خرزة الوجيهة: للوقاية من الأمراض (2) .
****
المبحث الثاني
أحكام التداوي بالرقي والتمائم
يشتمل هذا المبحث على أمرين؛ الأول: مشروعية التداوي بالرقى والتمائم. والثاني: الأحكام المتعلقة بأنواع التداوي بالرقى والتمائم.
المطلب الأول: مشروعية التداوي بالرقى والتمائم.
اتفق الفقهاء على مشروعية التداوي بالرقى والتمائم في الجملة (3) .
واستدلوا لذلك بما يلي:
1- قوله تعالى:
(وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلاّ خساراً) (4) .
فالمراد بكون القرآن الكريم شفاء للإنسان من جهتين: من جهة القلب؛ فهو يشفيه من الجهل والريب والضلال، لما فيه من الهداية؛ ومن جهة البدن، فهو يشفيه من الأمراض التي تصيبه، لما فيه من البركة (5) .
2- المعوذتان:
(قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد) (6) .
(قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس) (7) .
__________
(1) انظر الطب عند العرب لأحمد شوكت الشطي (16).
(2) انظر الطب عند العرب لأحمد شوكت الشطي (16).
(3) انظر حاشية ابن عابدين (6/363) والفتاوي الهندية (5/356) والجامع لابن رشد (308) والمنتقى للباجي (7/258) والشرح الصغير للدردير (4/678) والإفادة لابن حجر (77) وصرع الجن للإنسان لابن تيمية (61) والآداب الشرعية لابن مفلح (2/455).
(4) سورة الإسراء: (82).
(5) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (10/316) وتفسير الماوردي (2/453) وزاد المسير لابن الجوزي (5/79).
(6) سورة الفلق .
(7) سورة الناس.(1/89)
قال القرطبي: هذه السور (يقصد سورة الفلق)، وسورة الناس والإخلاص تعوَّذ بهن النبي صلى الله عليه حين سحرته اليهود". وقال في معنى"من شر ما خلق"؛ قيل من إبليس وذريته، وقيل جهنم، وقيل: هو عام؛ أي من شر كل ذي شر خلقه الله عز وجل (1) .
وقوله تعالى : (وأيوب إذ نادى ربه أنى مسني الضر وأنت أرحم الراحمين، فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر، وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين) (2) .
ذكر الله تعالى عن أيوب عليه السلام ما كان أصابه من البلاء في ماله، وولده، وجسده، فقد أصيب فيه بالمرض الشديد، وجاءه الأطباء من كل مكان، فلم يفلحوا في تحقيق الشفاء له، فدعا الله عز وجل بأن يزيل ما فيه من بلاء، فاستجاب له وشافاه مما هو فيه من مرض، وأعاد إليه أهله وماله (3) .
__________
(1) انظر الجامع حكام القرآن للقرطبي (20/251).
(2) سورة الأنبياء الآيات: (83-84).
(3) انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/188).(1/90)
4- روى البخاري -بسنده- عن أبى سعيد الخدري رضي الله عنه أن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أتوا على حي من أحياء العرب فلم يَقْروهم. فبينما هم كذلك إذ لدغ سيد أولئك. فقالوا هل معكم من دواء أو راقٍ؟ فقالوا: إنكم لم تقرُونا، ولا نفعل حتى تجعلوا لنا جُعلاً، فجعلوا لهم قطيعاً من الشاة، فجعل يقرأ بأم القرآن ويجمع بزاقه ويتفل فبرئ. فأتوا بالشاء فقالوا: لا نأخذ حتى نسأل النبي صلى الله عليه وسلم. فسألوه فضحك وقال: وما أدراك أنها رقية. خذوها واضربوا لي بسهم"(1) . وفى رواية للترمذي "أن الذي رقاه أبو سعيد الخدري. وفيه أنه قرأ الحمد لله سبع مرات، وأن الغنم كانت ثلاثين شاة (2) . فقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة على الرقية بأم القرآن، وهو دليل على المشروعية.
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ: كتاب العين: باب الرقية من العين (2/940). والبخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب النفث في الرقية ح(5749). ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب جواز أخذ الأجر على الرقية بالقرآن والأذكار ح(2201). وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب كيف الرقى ح(3900). والترمذي في سننه: كتاب الطب: باب ما جاء في أخذ الأجر على التعويذ ح(2070) وقال: هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجة في سننه كتاب التجارات: باب أجر الراقي ح(2156). وانظر تحفة الأشراف ح(4249) و(4307).
(2) أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الطب: باب أخذ الأجر على التعويذ ح(2070) وقال هذا حديث حسن صحيح وانظر صحيح سنن الترمذي للألباني ح(1685).(1/91)
وروى البخاري -بسنده- عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوِّذُ بعض أهله يمسح بيده اليمنى ويقول: "اللهم رب الناس اذهب الباس واشفه أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سَقماً"(1) .
6- وقد أجمع العلماء على جواز الرقية بكتاب الله تعالى، وما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم (2) .
7- قال ابن القيم: "ومن المعلوم أن بعض الكلام له خواص ومنافع مجربة. فما ظنك بكلام رب العالمين الذي فضله على كل كلام" (3) .
وقال ابن تيمية: "الأدوية أنواع كثيرة، والدعاء والرقى أعظم نوعى الدواء حتى قال أبقراط: نسبة طبنا إلى طب أرباب الهياكل كنسبة طب العجائز إلى طبنا. وقد يحصل الشفاء بغير سبب اختياري، بل بما يجعله الله في الجسم من القوى الطبيعية" (4) .
الشبهات التي ترد على مشروعية التداوي بالرقى والتمائم
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب دعاء العائد للمريض ح(5675) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب استحباب رقية المريض (2191) وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب في تعليق التمائم ح(3883) والترمذي في سننه: كتاب أحاديث شتى: باب في دعاء المريض ح(3576) وقال هذا حديث حسن وابن ماجه في سننه: كتاب الجنائز: باب ما جاء في ذكر مرض الرسول (صلى الله عليه وسلم) ح(1619) وانظر تحفة الأشراف ح(17638) وأخرجه أحمد في مسنده (3/267) و(4/259) و(6/42) والنسائي في اليوم والليلة ح(1042) وابن السني في اليوم والليلة ح(543) قال النووي: الحديث فيه استحباب مسح المريض باليمين والدعاء له وقد جاءت فيه روايات كثيرة صحيحة جمعتها في كتاب الأذكار انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/180).
(2) انظر الجامع لابن رشد (309) وزاد المسلم للشنقيطي (4/83).
(3) أنظر الطب النبوي لابن القيم (177).
(4) انظر الآداب الشرعية لابن مفلح (3/116).(1/92)
أورد بعض العلماء بعض الشبهات التي ترد على مشروعية التداوي بالرقى والتمائم سأوردها وأجيب عنها- إن شاء الله تعالى.
1- مشروعية التداوي بالرقي والتمائم تتعارض مع حديث مدح ترك الرقية. فقال صلى الله عليهوسلم في صفة الذين يدخلون الجنة بغير حساب: "هم الذين يتطيرون، ولا يكتوون، ولا يسترقون، وعلى ربهم يتوكلون" (1) .
ولذا يكره التداوي بها. يجاب عن ذلك بأن الجمع بينه وبين أحاديث مشروعية التداوي بالرقى والتمائم ممكن من عدة وجوه وهي:
أ- حديث: "لا يسترقون"، يحمل على الرقى الجاهلية التي تتضمن الكفر والسحر والكلام غير المعروف. وأما الرقى بآيات القرآن والأذكار المعروفة فلا نهى فيها، بل هو سنة (2) .
ب-حديث: ولا يسترقون " يحمل على الأفضلية لا على الوجوب وأما الأحاديث الأخرى فتحمل على الجواز مع أن ترك التداوي أفضل(3) .
ج- حديث: "لا يسترقون"، يحمل على صفة الأولياء الصابرين على البلاء، المُعْرِضين عن أسباب الدنيا الذين لا يلتفتون إلى شيء من علائقها، وتلك درجة الخواص لا يبلغها غيرهم.
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب من لم يرق ح(5752) ومسلم في صحيحه: كتاب الإيمان: باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب ح(216) والترمذي في سننه: كتاب صفة القيامة: باب (81) ح(2454) وقال هذا حديث حسن صحيح. وأحمد في مسنده (1/271). وقال الهيثمي في المجمع (10/405) رجال أحمد والبزار رجال الصحيح. وأخرجه الطبراني في الكبير (18/23) والبيهقي في الكبرى: كتاب الضحايا: باب ما جاء في استحباب ترك الاكتواء والاسترقاء (9/341) والبغوى في شرح السنة (15/135) ح(4322).
(2) انظر شرح النووي على مسلم (14/169) ش ح(2186) والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير (2/255).
(3) انظر شرح النووي على مسلم (14/ 169) ش ح(2186).(1/93)
وأما الأحاديث الأخرى التي ترخص في التداوي بالرقى؛ فتحمل على أنها خاصة بعوام الناس الذين لم يصلوا إلى مرتبة الخواص (1) .
2- مشروعية التداوي بالرقى تتعارض مع أحاديث النهى عن الاسترقاء. فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الرقى، وقال: "إن الرقى والتمائم والتولة (2) شرك" (3) . ولذا يمنع التداوي بها.
وأجيب عن ذلك من عدة وجوه:
درجة الخواص لا يبلغها غيرهم. وأما الأحاديث الأخرى التي ترخص في التداوي بالرقى؛ فتحمل على أنها خاصة بعوام الناس الذين لم يصلوا إلى مرتبة الخواص(194). 2- مشروعية التداوي بالرقى تتعارض مع أحاديث النهى عن الاسترقاء. فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الرقى، وقال: "إن الرقى والتمائم والتولة(195) شرك"(196). ولذا يمنع التداوي بها. وأجيب عن ذلك من عدة وجوه:
وأجيب عن ذلك من عدة وجوه:
أ- أن النهي عن الرقى كان في بداية الإسلام، ثم نسخ بأحاديث الجواز.
ب- النهي خاص بالرقى المجهولة المكتوبة بغير العربية ولا يعرف معناها.
__________
(1) انظر النهاية لاين الأثير (2/255) والفواكه الدواني للنفراوي (2/440) وإحياء علوم الدين للغزالي (4/287).
(2) التوله: تميمة تصنع للمرأة ليحبها زوجها، وهي ضرب من السحر وإنما كان ذلك من الشرك لأنهم أرادوا دفع المضار وجلب المنافع من عند غير الله- انظر حاشية ابن عابدين (6/364) وفتح الباري لابن حجر (10/196) ش ح(5735) .
(3) أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الطب: باب في تعليق التمائم ح(3883). وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب تعليق التمائم ح(3530). وانظر تحفة الأشراف ح(9643). وأخرجه أحمد في مسنده (1/381) والحاكم في مستدركه (4/217) وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأقره الذهبي. وأخرجه البيهقي في الكبرى: كتاب الضحايا: باب التمائم (9/350) وانظر صحيح سنن أبو داود للألباني ح(3288).(1/94)
ج- أن النهي لقوم كانوا يعتقدون منفعتها وتأثيرها بطبعها، كما كانت الجاهلية تزعمه في أشياء كثيرة (1) .
3- القول بمشروعية الرقى قادح في التوكل على الله تعالى. ويؤيد ذلك ما روى الترمذي قال صلى الله عليه وسلم: "من اكتوى أو استرقى، فقد برئ من التوكل" (2) .
ويجاب عن ذلك بأن الاسترقاء لا يكون قادحاً في التوكل ولا منافياً له، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان على غاية من التوكل وكان يسترقي. فقد روت السيدة عائشة رضى الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذات، فلما ثقل كنت أنفث عليه بهن وأمسح بيد نفسه لبركتها" (3) .
__________
(1) انظر شرح النووي على مسلم (14/169) ش ح(2186) والمنتقي للباجي (7/258) والشرح الصغير (4/770) والفواكه الدواني للنفراوي (2/440).
(2) أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الطب: باب ما جاء في كراهية الرقية ح(2062) وقال: هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب الكي ح(3489) وانظر تحفة الأشراف ح(11518) وأخرجه أحمد في مسنده (4/249) والبيهقي في الكبرى (9/341) وابن أبي شيبه في مصنفه (8/69) وانظر صحيح سنن الترمذي للألباني ح(1677).
(3) أخرجه مالك في الموطأ: كتاب العين: باب التعوذ والرقية في المرض (2/193) والبخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب في المرأة ترقى الرجل ح(5751) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب رقية المريض بالمعوذات والنفث ح(2192) وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب كيف الرقى ح(3602) وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب النفث في الرقية ح(3529) وانظر تحفة الأشراف ح(16589) وأحمد في مسنده (6/104) والنسائي في اليوم والليلة ح(1009) قال النووي: وسئلت عائشة عن نفث النبي (صلى الله عليه وسلم) في الرقية فقالت كما ينفث آكل الزبيب لا ريق معه. قال: ولا اعتبار بما يخرج عليه من بلة ولا يقصد ذلك- انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/182).(1/95)
وقال ابن القيم في رد هذه الشبهة: "إن هذه الأحاديث- يقصد أحاديث جواز التداوي- لا تنافي التوكل كما لا ينافيه دفع داء الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها بل لا يتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضياتلمسبباتها قدراً وشرعا
وإن تعطيلها يقدح في نفس التوكل، كما يقدح في الأمر والحكمة ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل، فإن تركها عجزاً ينافى حقيقته التوكل الذي هو اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه. ولابد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلاً للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً ولا توكله عجزاً" (1) .
وأما الحديث الذي استدل به من أثار هذه الشبهة فيحمل على من اعتقد منفعتها وتأثيرها بطبعها كما كانت الجاهلية تزعم.
4- القول بمشروعية التداوي بالرقى والتمائم قادح في إيمان المسلم بالقضاء والقدر، فالمرض من قدر الله تعالى، فلا يدفع بالتداوي. لأن قدر الله لا يدفع ولا يرد.
ويجاب عن ذلك بأن التداوي من قدر الله تعالى ، فيدفع قدر الله بقدره. روى الترمذي عن أبى خزاعة عن أبيه قال: قلت يا رسول الله: "أرأيت رقة نسترقي بها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئاً؟ قال: هو من قدر الله" (2) .
__________
(1) انظر الطب النبوي لاين القيم ص(15) وتلبيس إبليس لابن الجوزي (278).
(2) أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الطب: باب الرقى والأدوية ح(2072) وقال هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء ح(3437). وأحمد في مسنده (3/421). قال الهيثمي في المجمع (5/85): رواه الطبراني والحرث لم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح غير أبي خزاعة. وضعفه الألباني في ضعيف سنن ابن ماجة ح(749).(1/96)
قال ابن القيم: "هذا السؤال - يقصد ما في الحديث- هو الذي أورده الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأماّ أفاضل الصحابة فأعلم بالله وحكمته وصفاته من أن يوردوا مثل هذا.
وقد أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بما شفى وكفى. فقال هذه الأدوية والرقى والتقى من قدر الله. فما خرج شئ من قدره، بل يرد قدره بقدره، وهذا الرد من قدره، فلا سبيل للخروج عن قدره بوجه ما.
وهذا كرد قدر الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها، وكرد قدر العدو بالجهاد، وكل من قدر الله الدافع والمدفوع والدفع. ويقال لمورد هذا السؤال: هذا يوجب عليك أن لا تباشر سبباً من الأسباب التي تجلب بها منفعة، أو تدفع بها مضرة، لأن المنفعة والمضرة إن قدرتا لم يكن بد من وقوعهما، وإن لم تقدرا لم يكن سبيل إلى وقوعهما. وفى ذلك خراب الدين والدنيا، وفساد العالم، وهذا لا يقوله إلا دافع للحق معاند له، فيذكر القدر ليدفع حجة المحق عليه: كالمشركين الذين قالوا: (لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ) (1) . (وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا) (2) .فهذا قالوه دفعاً لحجه الله عليهم بالرسل (3) .
5- التداوي بالرقى من القرآن يعرض كتاب الله تعالى إلى خطر كبير إن فشل المعالج في العلاج، فسوف يؤدى ذلك إلى فقدان الثقة بالقرآن (4) .
__________
(1) سورة الأنعام: (148).
(2) سورة النحل: (35).
(3) انظر الطب النبوي لابن القيم (16).
(4) انظر الطب النبوي لابن القيم (16).(1/97)
والجواب على ذلك: أن فشل العلاج لا يرجع إلى القرآن. لأن الله تعالى أخبرنا بأنه شاف، والرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن ذلك لنا وطبقه في واقع حياته على نفسه وأهله وأصحابه فبرئ المريض الذي عولج به، فلا تتأثر عقيدة المسلم بذلك. وإنما يرجع الفشل إلى المريض، أو إلى المعالج، أو إلى طريقة الوصفة وكميتها؛ فهناك شروط محددة للرقية والمريض والمعالج- سيأتي بيانها في المبحث الثالث- فإذا تخلف شرط منها لم يتأثر المريض بالرقية وفشل العلاج.
المطلب الثاني: الأحكام المتعلقة بأنواع الرقى والتمائم. قسم العلماء الرقى والتمائم- باعتبار طريقة استعمالها- إلى ثلاثة أقسام وهى: القراءة على المريض، تعليق التميمة، تعاطى غسالة الرقية والتميمة. وسوف أبين حكم كل قسم منها، ومايتعلق به من أحكام.
أولاً: القراءة على المريض والدعاء له.(1/98)
اتفق الفقهاء على جواز أن يقرأ المريض على نفسه، وأن يستعين بغيره ليقرأ عليه بالرقى الشرعية. كما اتفقوا على أنه يجوز للمريض أو لمن يقرأ عليه أن يضع يده على مكان الألم أثناء القراءة (1) .ويؤيد ذلك ما ذكرت من أحاديث المشروعية، ويضاف إلى ذلك ما روى البخاري -بسنده- عن عائشة رضي الله عنها قالت " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ بعضهم يمسحه بيمينه ويقول: أذهب الباس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً" (2) . وقال صلى الله عليه وسلم لعثمان ابن أبى العاص الثقفي لما شكا إليه وجعاً في جسده: "ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل باسم الله ثلاثاً، وقل أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر" (3)
__________
(1) انظر عمده القاري للعيني (17/399) والاستذكار لابن عبد البر (27/29) والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (20/258) وفتح الباري لابن حجر (10/197) ش ح(5735).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب دعاء العائد للمريض ح(5675)؛ ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب الطب والمرض والرقى ح(2186)؛ والترمذي في سننه كتاب الجنائز: باب ما جاء في التعوذ للمريض ح(974)؛ وابن ماجة في سننه: كتاب الطب، باب ما عوذ به النبي، وعوذ به ح(3523)؛ انظر تحفة الأشراف ح(4363)، واخرجه أحمد في مسنده 3/28/56؛ والنسائي في اليوم والليلة ح(1005)، قال النووي: هذا تصريح بالرقى بأسماء الله تعالى وفيه توكيد الرقية والدعاء وتكريره، وقوله من شر كل نفس قيل، يحتمل أن المراد بالنفس؛ نفس الآدمي، وقيل يحتمل أن المراد بها العين، فإن النفس تطلق على العين، ويقال رجل نفوس إذا كان يصيب الناس بعينه. انظر شرح النووي على صحيح مسلم 14/170.
(3) أخرجه مالك في موطأه: كتاب العين: باب التعوذ والرقية من المرض (2/942) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب استحباب وضع يده على موضع الألم مع الدعاء ح(2202) وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب كيف الرقى ح(3891) والترمذي في سننه: كتاب الطب: باب (29) ح(2087) وقال هذا حديث حسن صحيح وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب ما عوذ به النبي (صلى الله عليه وسلم) وما عوذ به ح(3522) وانظر تحفة الأشراف ح(9774) وأخرجه أحمد في مسنده (6/390) والنسائي في اليوم والليلة ح(1001) قال النووي: يستحب وضع يده على موضع الألم ويأتي بالدعاء المذكور- انظر شرح للنووي على صحيح مسلم (14/189) شرح (2202).(1/99)
.
* حكم النفث والمسح
النفث لغة: من نفث من فمه نفثاً رمى به أو قذف به. والنفث قذف الريق القليل، وهو أقل من التفل (1) . فنفث الراقي هو النفخ في اليدين بدون ريق، أو بريق قليل، ومسح جسم المريض. فما حكم النفث في الرقية؟ اختلف الفقهاء في نفث الراقي ومسحه على قولين:
القول الأول : ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة في رواية، وهو قول عطاء ومحمد بن سيرين إلى جواز النفث والمسح (2) .واستدلوا لذلك بما يلي:
__________
(1) انظر المصباح المنير للفيومي (2/845) والمفردات للراغب (500).
(2) انظر المراجع الفقهية السابقة.(1/100)
1- ما روى البخاري -بسنده- عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم: "كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذات، فلما ثقل كنت أنفث عليه بهن وأمسح بيد نفسه لبركته" (1) . وفى رواية: "كان ينفث على يديه ثم يمسح بهما رأسه فالحديث صريح في جواز النفث والمسح عند الرقية" (2) .
2- وروى البخاري -بسنده- عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "كان رسول الله إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بقل هو الله أحد وبالمعوذتين جميعاً،
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ: كتاب العين: باب التعوذ والرقية في المرض (2/193) والبخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب في المرأة ترقى الرجل ح(5751) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب رقية المريض بالمعوذات والنفث ح(2192) وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب كيف الرقى ح(3602) وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب النفث في الرقية ح(3529) وانظر تحفة الأشراف ح(16589) وأحمد في مسنده (6/104) والنسائي في اليوم والليلة ح(1009) قال النووي: وسئلت عائشة عن نفث النبي (صلى الله عليه وسلم) في الرقية فقالت كما ينفث آكل الزبيب لا ريق معه. قال: ولا اعتبار بما يخرج عليه من بلة ولا يقصد ذلك- انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/182).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب النفث في الرقية ح(5748) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب رقية المريض بالمعوذات والنفث ح(2192) وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب كيف الرقى ح(3902) وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب النفث في الرقية ح(3529) وانظر تحفة الأشراف ح(16589) قال النووي: وسئلت عائشة عن نفث النبي (صلى الله عليه وسلم) في الرقية فقالت كما ينفث آكل الزبيب لا ريق معه- انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/182) قال ابن حجر: فائدة النفث التبرك بتلك الرطوبة أو الهواء الذي ماسه الذكر كما يتبرك بغسالة ما يكتب من الذكر- انظر فتح الباري (10/197) ش ح(5735).(1/101)
3- ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده". قالت عائشة: " فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به"(1) .
4- وفائدة النفث والمسح كما قال القاضي عياض: التبرك بتلك الرطوبة أو الهواء الذي ماسه الذِّكرْ، كما يتبرك بغسالة ما يكتب من الذكر. وقد يكون على سبيل التفاؤل بزوال الألم من المريض كانفصال ذلك عن الراقي(2) .
القول الثاني: ذهب أحمد في رواية إلى كراهة النفث والمسح في الرقية، وهو قول إبراهيم النخعي، والضحاك، وعكرمة. والحكم، وحماد. فقال عكرمة: "لا ينبغي للراقي أن ينفث ولا يمسح ولا يعقد"(3) واستدلوا لذلك بقوله تعالى.
(قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفاثات في العقد ومن حاسدٍ إذا حسد) (4) .
فهي تدل على كراهة النفث في الرقية.
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب النفث في الرقية ح(5748) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب رقية المريض بالمعوذات والنفث ح(2192) وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب كيف الرقى ح(3902) وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب النفث في الرقية ح(3529) وانظر تحفة الأشراف ح(16589) قال النووي وسئلت عائشة عن نفث النبي (صلى الله عليه وسلم) في الرقية فقالت كما ينفث آكل الزبيب لا ريق معه- انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/182) قال ابن حجر: فائدة النفث التبرك بتلك الرطوبة أو الهواء الذي ماسة الذكر كما يتبرك بغسالة ما يكتب من الذكر- انظر فتح الباري (10/197) ش ح(5735).
(2) انظر فتح الباري لابن حجر (10/197) ش ح(5735).
(3) انظر الاستذكار لابن عبد البر (26/34) والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (20/458) والآداب الشرعية (2/457).
(4) سورة الفلق.(1/102)
والراجح ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من جواز النفث والمسح عند الرقية للأحاديث الصريحة في ذلك، وأما الاستدلال بسورة الفلق فلا يصح؛ لأن المكروه ما كان من نفث السحرة وأهل الباطل، ولا يلزم منه ذم النفث مطلقاً ولاسيما بعد ثبوته في الأحاديث الصحيحة (1) ولأن فيه استعانة بتلك الرطوبة والهواء والنفس المباشر للرقية والذكر والدعاء- كما قال ابن القيم- فإن الرقية تخرج من قلب الراقي وفمه، فإذا صاحبها شيء من أجزاء باطنه من الريق والهواء والنفس كانت أتم تأثيراً، وأقوى فعلاً ونفوذاً، ويحصل بالازدواج بينهما كيفية مؤثرة شبيهة بالكيفية الحادثة عند تركيب الأدوية. وفى النفث سر آخر، فإنه تستعين به الأرواح الطيبة والخبيثة، ولهذا تفعله السحرة كما يفعله أهل الإيمان … وذلك لأن النفس تتكيف بكيفية الغضب والمحاربة، وترسل أنفاسها سهاماً لها، وتمدها بالنفث والتفل الذي معه شيء من ريق مصاحب لكيفية مؤثرة (2) .
ثانياً : تعليق التميمة:
اتفق الفقهاء على عدم جواز تعليق التميمة بالمعنى الجاهلي(3) .
. وهى "الخرزة التي تعلق على الأولاد يتقون بها العين في زعمهم(4) ،"وعلى هذا المعنى تحمل أحاديث النهي عن تعليق التمائم.
واختلفوا في جواز تعليق التميمة بالمعنى الآخر وهو: "ورقة يكتب فيها شيء من القرآن أو غيره، وتعلق على الرأس مثلاً للتبرك"(5) .
__________
(1) انظر فتح الباري لابن حجر (10/209) باب (39).
(2) انظر الطب النبوي لابن القيم (179).
(3) انظر المراجع الفقهية التي سترد في القول الأول.
(4) انظر حاشية ابن عابدين (6/363).
(5) انظر حاشية الجمل (1/76).(1/103)
القول الأول: ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة في قول إلى جواز تعليق التميمة في عنق المريض أو على رأسه. وهو ما قال به بعض السلف مثل عائشة رضي الله عنها، وعبد الله بن عمرو بن العاص، والضحاك، وأبى جعفر: محمد بن على، ومحمد بن سيرين، وسعيد بن المسيب(1) .
فقد سئل سعيد بن المسيب عن التعويذ يعلق قال: إذا كان في قصبة أو رقعة يحرز فلا بأس"(2) .
وعن الضحَّاك أنه لم يكن يرى بأساً "أن يعلق الرجل الشيء من كتاب الله إذا وضعه عند الجماع، وعند الغائط"(3) .
ورخَّص أبو جعفر محمد بن على في التعويذ يعلق على الصبيان(4) . وكان ابن سيرين لا يرى بأساً بالشيء من القرآن يعلقه الإنسان(5) .
وقال الإمام مالك: " لا بأس بتعليق الكتب التي فيها أسماء الله عز وجل على أعناق المرضى على وجه التبرك"(6) .
__________
(1) انظر حاشية ابن عابدين (3/364)-(6/363) والفتاوى الهندية (5/356) والجامع لابن رشد (309) والقوانين لابن جزي (486) والشرح الصغير (4/769) والمعيار المعرب (11/29) واسهل المدارك (7/368) والفتاوى الحديثية لابن حجر (90) والمجموع للنووي (9/56) والآداب الشرعية لابن مفلح (2/455-459) والدليل والبرهان على صرع الجن للإنسان لابن تيمية (62).
(2) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (10/319).
(3) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (10/319).
(4) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (10/319).
(5) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (10/319).
(6) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (10/319).(1/104)
وروى عن الإمام أحمد بن حنبل أنه أجاز ذلك وكان يكتب بخطه، فقد قال المروذى: "شكت امرأة إلى أبى عبد الله أنها مستوحشة في بيت وحدها، فكتب لها رقعة بخطه: بسم الله وفاتحة الكتاب والمعوذتين وآية الكرسي". وقال: وكتب أبو عبد الله من الحمى؛ بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله وبالله ومحمد رسول الله (يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين) (1) .
"اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل اشف صاحب هذا الكتاب بحولك وقوتك وجبروتك إله الحق آمين".
وقال الميموني: "سألت أبا عبد الله عن التمائم تعلق بعد نزول البلاء؟ قال أرجو أن لا يكون به بأس".
وقال أبو داود: "رأيت على ابن لأبي عبد الله وهو صغير تميمة في رقبته في أديم".
قال الخلال: "قد كتب هو من الحمى بعد نزول البلاء، والكراهة من تعليق ذلك قبل وقوع البلاء. وهو الذي عليه العمل"(2) . واستدل من أجاز ذلك بما يلي:
1- ما روى البيهقي-بسنده- عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: "وليست بتميمة ما علق بعد أن يقع البلاء". وفى رواية: التمائم ما علق قبل نزول البلاء، وما علق بعد نزول البلاء فليس بتميمة"(3) .
فهو يدل على جواز تعليق التميمة بعد نزول البلاء، وهو موقوف على عائشة رضي الله عنها، لكن له حكم المرفوع.
__________
(1) سورة الأنبياء: (69-70).
(2) انظر الآداب الشرعية لابن مفلح (2/456) والدليل والبرهان على صرع الجن للإنسان (61).
(3) أخرجه البيهقي في الكبرى (9/350) وقال صحيح والحاكم في مستدركه (4/217) وقال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وسكت عنه الذهبي.(1/105)
1- ما روى مسلم في صحيحه عن جابر - في الرقية من العقرب- "من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل"(1) .
فإذا ثبت النفع بالتعليق فلا بأس من فعله.
2- ولأن القرآن الكريم مبارك : لقوله تعالى:(كتاب أنزلناه مبارك) (2) .
فتعليقه على الإنسان يحقق البركة له.
القول الثاني: ذهب الإمام أحمد في رواية إلى أن التعليق للتميمة مكروه كراهة شديدة تصل إلى التحريم ، فقد سُئل الإمام أحمد عن تعليق التميمة فقال: "التعليق كله مكروه كان ابن مسعود يتشدد فيه". وهو ما قال به ابن عباس وحذيفة وعقبة بن عامر(3) . واستدلوا لذلك بما يلي:
1- ما روى أبو داود -بسنده- عن عبد الله بن مسعود قال، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الرقى والتمائم والتولة شرك(4) .
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب السلام باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة ح(2199) وأحمد في مسنده (3/382) والبيهقي في الكبرى: كتاب الضحايا: باب إباحة الرقية (9/348) قال الألباني: وفي الحديث استحباب رقية المسلم لأخيه المسلم بما لا بأس به من الرقى، وذلك ما كان معناه معروفاً مشروعاً، وأما الرقى بما لا يعقل معناه من الألفاظ فغير جائز-انظر الصحيح ح(472).
(2) سورة الأنعام: (155).
(3) انظر الآداب الشرعية لابن مفلح (2/459).
(4) أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الطب: باب في تعليق التمائم ح(3883). وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب تعليق التمائم ح(3530) وانظر تحفة الأشراف ح(9643) وأخرجه أحمد في مسنده (1/381). والحاكم في مستدركه (4/217) وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأقره الذهبي. وأخرجه البيهقي في الكبرى: كتاب الضحايا: باب التمائم (9/350). وانظر صحيح سنن أبو داود للألباني ح(3288).(1/106)
قالت زوجة عبد الله بن مسعود لزوجها؛ لم تقول هذا؟ والله لقد كانت عيني تقذف، وكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيني، فإذا رقاني سكنت، فقال عبد الله: إنما ذاك عمل الشيطان كان ينخسها بيده، فإذا رقاها كف عنها، إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اذهب الباس رب الناس اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقماً"(1) .
2- وروى أحمد -بسنده- عن عقبه بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من علق تميمة فقد أشرك"(2) .
فهو يدل على أن من علَّق على نفسه أو على غيره تميمة فقد فعل فعل أهل الشرك(3) .
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الطب: باب في تعليق التمائم ح(3883). وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب تعليق التمائم ح(3530) وانظر تحفة الأشراف ح(9643) وأخرجه أحمد في مسنده (1/381). والحاكم في مستدركه (4/217) وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأقره الذهبي. وأخرجه البيهقي في الكبرى: كتاب الضحايا: باب التمائم (9/350). وانظر صحيح سنن أبو داود للألباني ح(3288).
(2) أخرجه أحمد في مسنده (4/156) وقال الهيثمي في المجمع: رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد ثقاب (5/103). وأخرجه الحاكم في مستدركه (4/219) وسكت عنه وكذلك الذهبي. قال الألباني: وهذا إسناد صحيح. رجاله ثقاب رجال مسلم غير دخين وهو ابن عامر الحجري أبو ليلي المصري وثقة يعقوب بن سفيان وابن حبان وصحح له الحاكم (4/384) وقد أخرجه (4/219) من طريق أخرى عن يزيد بن أبي منصور- انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني ح(492).
(3) انظر فيض القدير للمناوي (6/180).(1/107)
3- وروى الترمذي -بسنده- عن عيسى بن عبد الرحمن بن أبى ليلى، قال: "دخلت على عبد الله بن عكيم أبى معبد الجهني أعوده وبه حمرة فقلنا: ألا تعلق شيئاً؟ قال: الموت أقرب من ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: من تعلق شيئاً وكل إليه"(1) .
فهو يدل على عدم جواز تعليق التميمة، لأن الله تعالى لم يشفه بذلك، وإنما يوكل شفاءه إلى ذلك الشيء فلا يحصل الشفاء.
4- روى الإمام أحمد -بسنده- عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له"(2) .
والراجح ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من جواز تعليق ما فيه ذكر الله، فإنه إنما جُعل للتبرك والتعوذ، ومن وكل إلى ذكر الله وأسمائه أخذ الله بيده. وأما أحاديث النهي عن التعليق فهي محمولة على تعليق تمائم الجاهلية التي يظن بها أنها تجلب الخير وتدفع الشر، فإن ذلك حرام، والحرام لا شفاء فيه، وكذا تمائم العرّافين والكُهان التي يكتب فيها غير القرآن.
__________
(1) أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الطب: باب ما جاء في كراهية التعليق ح(2079) وقال: وفي الباب عن عقبة بن عامر: قال المبارك فوري في التحفة (6/201) وحديث عقبة بن عامر أخرجه أحمد وأبو يعلي والطبراني بمعناه. قال الهيثمي في المجمع: رجاله ثقات. وأخرجه أحمد في مسنده (4/310- 311) والحاكم في مستدركه (4/216) وسكت عنه هو والذهبي. والبغوي في شرح السنة (12/160) وانظر صحيح سنن الترمذي للألباني ح(1691).
(2) أخرجه أحمد في مسنده (4/154) والهيثمي في المجمع (5/103) وقال: رواه أحمد وأبو يعلي والطبراني ورجالهم ثقات. والحاكم في مستدركه (4/216) وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. والحديث حسن لغيره- راجع الترغيب للمنذري وهامشه (4/202-203) ح(5064) و(5065) و(5066) بتحقيق محي الدين مستو وآخرين. وانظر تحفة الأحوذي (6/201) والضعيفة للألباني ح(1266).(1/108)
ثالثا : تعاطى ماء الرقية والسوائل المقروء عليها:
من الطرق المستعملة في العلاج بالرقى والتمائم أن يكتب في ورقة أو إناء نظيف سوراً من القرآن، أو آيات منه، أو الأذكار، أو أسماء الله تعالى؛ ثم يغسله بالماء، فيَغتسل بالماء أو يشربه ويمسح جسده بها. أو أن يقرأ آيات من القرآن على ماء أو زيت فيتعاطاه المريض. وأُطلق على ذلك "النشرة" فهل يجوز ذلك؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية وأحمد في رواية إلى جواز ذلك(1) . وبه قال بعض السلف فذُكر عن ابن عباس أنه أمر أن يكتب لامرأة يعسر عليها ولادها آيتان من القرآن يغسل ويسقى.
وقال أيوب "رأيت أبا قلابة كتب كتاباً من القرآن، ثم غسله بماء وسقاه رجلاً كان به وجع"(2) . وعن محمد بن مروان عن أبى جعفر قال: "من وجد في قلبه سوءاً فليكتب "يس" في جام بزعفران ثم يشربه". وعن مجاهد قال: "لا بأس أن يكتب القرآن ثم يغسله ويسقي المريض"(3) .
وقال الإمام عبد الله المروزي: "لا بأس بالتداوي بالنشرة، تكتب في ورق أو إناء نظيف سور من القرآن، أو بعض سور، أو آيات متفرقة من سورة، أو سور، مثل آيات الشفاء … ثم قال: وما زال الأشياخ من الأكابر رحمة الله عليهم يكتبون الآيات من القرآن والأدعية فيسقونها لمرضاهم ويجدون العافية"(4) .
قال صالح بن أحمد بن حنبل ربما اعتللت فيأخذ أبى قدحاً فيه ماء، فيقرأ عليه ويقول: اشرب منه واغسل وجهك ويديك.
__________
(1) انظر حاشية ابن عابدين (6/364) وأسهل المدارك للكشناوي (3/367) والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (10/318) والفتاوى الحديثية لابن حجر (90) والآداب الشرعية لابن مفلح (2/456) والدليل والبرهان لابن تيمية (61).
(2) انظر الطب النبوي لابن القيم (170-171).
(3) انظر نوادر الأصول للحكيم الترمذي (333).
(4) انظر المدخل لابن الحاج (4/121) وأسهل المدارك للكشناوي (3/367).(1/109)
ونقل عبد الله بن أحمد بن حنبل أنه رأى أباه يعوّذ في الماء ويقرأ عليه ويشربه، ويصب على نفسه منه. قال عبد الله: ورأيته قد أخذ قصعة النبي صلى الله عليه وسلم فغسلها في جب الماء ثم شرب فيها.
ورأيته غير مرة يشرب ماء زمزم فيستشفي به، ويمسح به يديه ووجهه. وقال يوسف بن موسى إن أبا عبد الله كان يؤتى بالكوز ونحن بالمسجد فيقرأ عليه ويعوذ.
وقال أحمد: "يكتب للمرأة إذا عسر عليها ولادها في جام أبيض، أو شيء نظيف: بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين".(كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلاّ ساعة من نهار بلاغ) (1) ، (كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها) (2) ، ثم تسقى منه وينضح ما بقى على صدرها(3) .
واستدلوا لذلك بما يلي:
1- ما روى ابن السني -بسنده- عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا عسر على المرأة ولادها أخذ إناء لطيفاً (نظيفاً) يكتب فيه:(كأنهم يوم يرون ما يوعدون . إلى آخر الآية)… و (كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها) و(لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب)… إلى آخر الآية. ثم يغسل ويسقى المرأة منه وينضح على بطنها وفرجها"(4) .
__________
(1) سورة الأحقاف: (35) .
(2) سورة النازعات: (46).
(3) انظر الآداب الشرعية لابن مفلح (2/456-457).
(4) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: يجوز أن يكتب للمصاب وغيره من المرضى شيئاً من كتاب الله بالمداد المباح ويغسل ويسقى كما نص على ذلك أحمد وغيره. وروى الإمام أحمد علاج عسر الولادة عن ابن عباس (ر) وقال: يكتب في إناء نظيف فيسقى. قال عبد الله بن الإمام أحمد: رأيت أبي يكتب للمرأة في جام أو شيء نظيف- انظر فتاوى أبي تيمية (19/64) وزاد المعاد لابن القيم (4/358) والأثر موقوف علي ابن عباس(ر) ولم يرفعه إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) .(1/110)
2- ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقرأ بالمعوذتين في إناء، ثم تأمر أن يصب على المريض(1) .
3- ولأن القرآن الكريم مبارك ، والبركة تلحق كل شيء تلاقيه من ماء وغيره، فيكون الماء مباركاً ببركة القرآن الكريم، فيقع بذلك الماء الشفاء إن شاء الله تعالى.
القول الثاني: ذهب أحمد في رواية الخلال إلى عدم جواز التداوي بغسالة الرقية، وهو ما ذهب إليه الحسن البصري وإبراهيم النخعي(2) . واستدلوا لذلك بما روى عن الحسن البصري قال: سئل أنس عن النشرة فقال: "ذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها فقال: هي من عمل الشيطان"(3) . والراجح ما ذهب إليه أصحاب القول الأول من جواز تعاطي ماء الرقية والسوائل المقروء عليها، لأنه استعمال لسائل اختلط بشيء له فضل، وهذا له أصل في السنة؛ فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يتبركون بفضلة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينفث على الرقية ويمسح بها المريض. أما الحديثان اللذان استدل بهما المجيزون فقد بحثت عنهما فلم أجد من ذكرهما في كتب السنة المعتبرة.
وأما حديث "النشرة" الذي استدل به المانعون فيحمل على ما إذا كانت النشرة مخالفة لما في القرآن والسنة، أو على النشرة المعروفة عند أهل السحر والتعزيم- كما قال البيهقي: "القول فيما يكره من النشرة، وفيما لا يكره- كالقول في الرقية(4) .
المبحث الثالث
__________
(1) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (10/318).
(2) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (10/318) والآداب الشرعية لابن مفلح (2/456).
(3) أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الطب: باب في النشرة ح(3868) وأحمد في مسنده (3/294) والهيثمي في مجمعه (5/102) وقال رواه البزار والطبراني في الأوسط ورجال البزار رجال الصحيح. وأخرجه ابن أبي شيبه في مصنفه (7/387) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود ح(3277).
(4) انظر السنن الكبرى للبيهقي (9/351).(1/111)
ضوابط التداوي بالرقى والتمائم
لكي تؤتى الرقى ثمارها المرجوة، وهي تحقيق الشفاء للمريض؛ لا بد من مراعاة الضوابط الشرعية- عند استعمالها- في كل من الرقية، والراقي، والمرقى.
المطلب الأول: الضوابط الشرعية للرقية. بينا سابقاً أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب ممن كانوا يرقون قبل الإسلام أن يعرضوا عليه رقاهم للنظر في إقرارها واعتبارها شرعية. فما الضوابط التي ينبغي أن تقيد الرقية بها حتى تكون شرعية؟
أولاً: أن يكون للرقية أصل في القرآن أو السنة:
اتفق الفقهاء على أنه يشترط في الرقية أو التميمة أن يكون لها أصل في القرآن أو السنة. بأن تكون موافقة لهما (1) . فتجوز الرقية بآية أو آيات من كتاب الله تعالى، أو باسم من أسمائه، أو بصفة من صفاته، أو بذكر الله تعالى أو دعائه الذي ورد في القرآن أو السنة.
ويؤيد ذلك ما روى مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال: "جاء آل عمرو بن حزم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: يا رسول إنه كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب، وإنك نهيت عن الرقى. قال: فعرضوها عليه. فقال: ما أرى بأساً من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه"(2) .
__________
(1) انظر حاشية ابن عابدين (6/363) والشرح الصغير للدردير (4/768) والجامع من المقدمات لابن رشد (307) والمجموع للنووي (9/54) وفتح الباري لابن حجر (10/197) ش ح(5735) والآداب الشرعية لابن مفلح (1/455).
(2) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمه والنظرة ح(2199) وأحمد في مسنده (3م382) والبيهقي في الكبرى: كتاب الضحايا: باب إباحة الرقية (9/348) قال الألباني: وفي الحديث رقية المسلم لأخيه المسلم بما لا بأس به من الرقى، وذلك ما كان معناه معروفاً مشروعاً، وأما الرقى بما لا يعقل معناه من الألفاظ فغير جائز- انظر الصحيح ح(472).(1/112)
فقد طلب النبي صلى الله عليه وسلم من آل عمرو بن حزم أن يعرضوا عليه رقاهم ليرى هل هي موافقة لما جاء به من القرآن أو لا. فأقرها لأنها موافقة. وقال لهم: "ما أرى بأساً".
وروى الترمذي عن أبى سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ ويقول: "أعوذ بالله من الجان ومن عين الإنسان، فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما وترك ما سواهما"(1) .
وقال الربيع سألت الشافعي عن الرقى فقال: "لا بأس إن رقى بكتاب الله، أو بما يعرف من ذكر الله"(2) .
أما إذا لم يكن للرقية أو التميمة أصل في القرآن أو السنة، أو لم تكن موافقة لهما، فيحرم التداوي بها؛ فلا يجوز التداوي بالرقى اليهودية والنصرانية المخالفة لما في القرآن والسنة، ولا يجوز التداوي بتعليق خرزة زرقاء، أو حلقة من حديد أو نحاس أو خزف، ولا بتراب قبر ولي، أو بتعليق قطعة سترة تابوت ولي، أو بالشرب من ماء طاسة الضربة "الرجه"، أو غير ذلك من الخرافات التي ورثها الناس عن الشعوب الجاهلية؛ مما لا يوجد له أصل في القرآن والسنة.
والقرآن الكريم كله شفاء يصح التداوي بأية سورة منه، أو آية منه؛ لقوله تعالى: (وننزل من القرآن ما فيه شفاء ورحمة للمؤمنين) (3) . وهنا "من" الآية للبيان، وليست للتبعيض، لأنه يلزم من كونها للتبعيض أن بعض القرآن لا شفاء فيه، وهو ليس كذلك(4) .
__________
(1) أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الطب: باب ما جاء في الرقية بالمعوذتين ح(2065) وقال: هذا حديث حسن غريب والنسائي في سننه: كتاب الاستعاذة من عين الجان ح(5509) وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب من استرقى من العين ح(3511) وانظر تحفة الأشراف ح(4327) وانظر صحيح سنن الترمذي للألباني ح(1681).
(2) انظر فتح الباري لابن حجر(10/195) ش ح(5735) .
(3) سورة الإسراء: (82).
(4) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (10/315).(1/113)
لكن الأولى تحرى الآيات والسور التي ورد استعمالها في الرقى والتعوذات، لإعطاء نتائج سريعة. ومن ذلك:
1- فاتحة الكتاب.
2- المعوذات (قل هو الله أحد …، قل أعوذ برب الفلق… ، وقل أعوذ برب الناس…).
3- آية الكرسي (البقرة 255) .
4- أسماء الله تعالى وصفاته .
5- آيات الأدعية والأذكار.
وفى السنة النبوية وردت تعوذات لكثير من الأمراض تنظر في مواضعها من كتب الأحاديث. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من استعمال هذه الرقية: "اللهم رب الناس اذهب الباس اشف أنت الشافي لا شافي إلا أنت، شفاء لا يغادر سقماً"(1) . وكان صلى الله عليه وسلم إذا مرض رقاه جبريل عليه السلام فقال: "باسم الله يبريك، من كل داء يشفيك ، ومن شر حاسد إذا حسد، وشر كل ذي عين".
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب دعاء العائد للمريض ح(5675) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب استحباب رقية المريض ح(2191) وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب في تعليق التمائم ح(3883) والترمذي في سننه: كتاب أحاديث شتى: باب في دعاء المريض ح(3576) وقال هذا حديث حسن وابن ماجة في سننه: كتاب الجنائز: باب ما جاء في ذكر مرض الرسول (صلى الله عليه وسلم) ح(1619) وانظر تحفة الأشراف ح(17638) وأخرجه احمد في مسنده (3/267) و(04/259) و(6/42) والنسائي في اليوم والليلة ح(1042) وابن السني في اليوم والليلة ح(543) قال النووي: الحديث فيه استحباب مسح المريض باليمين والدعاء له وقد جاءت فيه روايات كثيرة صحيحة جمعتها في كتاب الأذكار. انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/180).(1/114)
وفى رواية قال جبريل: "باسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد، الله يشفيك، باسم الله أرقيك"(1) .
ثانياً: أن لا تتضمن الرقية شركاً.
الشرك لغة: من أشرك بالله إذا كفر به فهو مشرك(2) . وشرك الإنسان في الدين ضربان(3) :
الأول: الشرك العظيم، وهو إثبات شريك لله تعالى. يقال أشرك فلان بالله وذلك أعظم كفر. قال تعالى:
(إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء، ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً) (4) .
وهذا الضرب أنواع وهى:
1- شرك الاستقلال: وهو إثبات إلهين مستقلين كشرك المجوس
2- شرك التبعيض: وهو تركيب الإله من آلهة كشرك النصارى.
3- شرك التقريب: وهو عبادة غير الله ليقرب إلى الله زلفى، كشرك متقدمي الجاهلية.
4- شرك التقليد: وهو عبادة غير الله تبعاً للغير، كشرك متأخري الجاهلية.
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب الطب والمرض والرقى ح(2186) والترمذي في سننه: كتاب الجنائز: باب ما جاء في التعوذ للمريض ح(974) وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب ما عوذ به النبي (صلى الله عليه وسلم) وما عوذ به ح(3523) وانظر تحفة الأشراف ح(4363) وأخرجه أحمد في مسنده (3/28-56) والنسائي في اليوم والليلة ح(1005) قال النووي هذا تصريح بالرقى بأسماء الله تعالى وفيه توكيد الرقية والدعاء وتكريره، وقوله من شر كل نفس قيل: يحتمل أن المراد بالنفس نفس الأدمي وقيل يحتمل أن المراد بها العين فإن النفس تطلق على العين ويقال رجل نفوس إذا كان يصيب الناس بعينه. انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/170).
(2) انظر المصباح المنير الفيومي (1/423).
(3) انظر تقسيم الشرك في: المفردات للراغب الأصفهاني (259)، بصائر ذوي التمييز للفيروز آبادي 3/313، الكليات لأبي البقاء (3/70).
(4) سورة النساء: (116).(1/115)
5- شرك الأسباب: وهو إسناد التأثير للأسباب العادية، كشرك الفلاسفة والطبائعيين ومن تبعهم على ذلك، فمن قال في الأسباب العادية: إنها تؤثر بطبعها فقد كفر. بخلاف من قال: إنها تؤثر بقوة أودعها الله فيها فلا يكفر وإنما يعتبر فاسقاً(1) .
الثاني: الشرك الأصغر، وهو مراعاة غير الله معه في بعض الأمور، وهو الرياء والنفاق المشار إليه بقوله تعالى:(جعلا له شركاء فيما آتاهما) (2) .
فينبغي أن تخلو الرقية والتميمة من أي نوع من أنواع الشرك(3) .كما روى عن عوف بن مالك الأشجعي قال: كنا نرقى في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله كيف ترى ذلك؟ فقال: "اعرضوا علي رقاكم. لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك"(4) .
وبناء على ذلك، لا يجوز التداوي بكل رقية أو تعزيم أو قسم فيه شرك بالله، وإن أطاعته به الجن أو غيرهم، وكذلك كل كلام فيه كفر لا يجوز التداوي به(5) . ولا تجوز الاستعانة بالودع والخرز وغير ذلك لكشف الضر وعلاج المرضى، لقوله تعالى: (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره) (6) .
__________
(1) انظر تقسيم الشرك في: المفردات للراغب الأصفهاني (259) وبصائر ذوي التمييز للفيروز آبادي (3/313) والكليات لأبي البقاء (3/70).
(2) سورة الأعراف: (190).
(3) ؟؟؟؟؟؟
(4) أخرجه مالك في الموطأ (2/272 التمهيد) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك ح(2200) وأبو داود في سننه: كتاب الطب باب ما جاء في الرقى ح(3886) والحاكم في مستدركه (4/212) وقال وهذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. والطبراني في الكبير (18/49) والبيهقي في الكبرى: كتاب الضحايا: باب إباحة الرقية ح(9/349).
(5) انظر شرح العقيدة الطحاوية (570) وكتاب التوحيد لمحمد بن عبد الوهاب ضمن مجموعة التوحيد (236).
(6) سورة الزمر: (38).(1/116)
وروى الإمام أحمد -بسنده- عن عمران بن الحصين رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في يده حلقة من صفر، فقال: ما هذا؟، قال: من الواهنة. فقال: انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهناً، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدً"(1) .
ولا يجوز التداوي برقى تتضمن الاستغاثة بالموتى الذين انقطع عملهم ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، كما روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله"(2) .
ثالثاً: أن لا تتضمن الرقية سحراً.
السحر في اللغة: من سحر يسحر سحراً، بمعنى صرف الشيء عن وجهه. ويطلق على أربعة أمور وهى: الأول: ما لصق بالحلقوم والمريء من أعلى البطن ويقال له الرئة. والثاني: الخداع والشبهة، أو إخراج الباطل في صورة الحق. والثالث: الوقت: وهو السَّحر أو الصبح. والرابع: كل ما لطف مأخذه ودق، فيقال في الشيء الشديد الخفاء أخفى من السحر(3) .
والسحر في الاصطلاح يطلق على ثلاثة معان وهي:
__________
(1) أخرجه ابن ماجة في سنن: كتاب الطب: باب تعليق التمائم ح(3531) واحمد في مسنده (4/445) والهيثمي في المجمع (5م1039)، وقال: رواه احمد والطبراني وفيه مبارك بن فضالة وهو ثقة وفيه ضعف وبقية رجاله ثقات. وحسن البوصيري في الزوائد إسناده- ورد الألباني تحسينه وحكم بضعفه. انظر ضعيف سنن ابن ماجة للألباني ح(772) والضعيفة للألباني (1029).
(2) أخرجه الترمذي في سننه: كتاب صفة القيامة: باب (59) ح(2524) وقال: هذا حديث حسن صحيح. وأحمد في مسنده (1/293) والطبراني في الكبير (11/123) ح(11243) وابن السني في عمل اليوم والليلة ح(425) وانظر صحيح سنن الترمذي للألباني ح(2043) والسنة لابن أبي عاصم ح(316).
(3) انظر مجمع مقاييس اللغة لابن فارس (3/138) والمصباح المنير للفيومي (1/364).(1/117)
الأول: الخداع، وتخييلات لا حقيقة لها، نحو ما يفعله المشعوذ من صرف الأبصار عما يفعله بخفة يد، وما يفعله النمام بقول مزخرف عائق للأسماع. وعلى ذلك قوله تعالى:(سحروا أعين الناس واسترهبوهم) (1) .
وقوله تعالى:(يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) (2) .
والثاني: استجلاب معاونة الشيطان بضرب من التقرب إليه. قال تعالى:
(هل أنبئكم على من تنزل الشياطين، تنزل على كل آفاك أثيم) (3) .
وقال تعالى: (ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) (4) .
والثالث: ما يذهب إليه "الذين لا يفصحون ولا يبلون" وهو اسم لفعل يزعمون أنه من قوته يغير الصور والطبائع، فيجعل الإنسان حماراً. ولا حقيقة لذلك عند المحصلين(5) .
فالذي يعنينا في بحثنا هو النوع الثاني، وهو الذي يعتمد الساحر في رقاه على الجن والشياطين. وقد اتفق العلماء على منع التداوي بالرقى التي تتضمن السحر كالعقد والعزائم والطلسمات التي تشتمل على أسماء معينه، يزعم السحرة أنها ملائكة وكلهم سليمان بقبائل الجان، فإذا أقسم على صاحب الاسم ألزم الجن بما يريد.
وبعضهم يقسم على أسماء خاصة يزعمون أن لها تعلقاً بالكواكب تجعل في أجسام من المعادن أو غيرها، ويزعمون أنها تحدث آثاراً خاصة(6) .
__________
(1) سورة الأعراف: (116).
(2) سورة طه: 66.
(3) سورة الشعراء: (221-222).
(4) سورة البقرة: (102) .
(5) انظر المفردات للراغب (226) وبصائر ذوي التمييز للفيروز آبادي (3/198).
(6) انظر حاشية ابن عابدين (6/363) وأسهل المدارك (3/366) والفروق للقرافي (4/147) والمجموع للنووي (9/56) والآداب الشرعية لابن مفلح (2/455).(1/118)
ومما يؤيد منع هذه الرقى، وما يقوم به السحرة من أعمال السحر قوله تعالى: (وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا، إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى) (1) . وقوله صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا السبع الموبقات. قيل يا رسول وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات"(2) .
وقال ابن حجر في الحكمة من منع تلك الرقى "يدعي تسخير الجن له ، فيأتي بأمور مشتبهة مركبة من حق وباطل يجمع إلى ذكر الله وأسمائه ما يشوبه من ذكر الشياطين والاستعانة بهم والتعوذ بمردتهم"(3) .
ولا يصل الساحر إلى مرحلة الاستعانة بالشياطين إلا بعد أن يتنازل عن عقيدته ودينه، وأن يتفانى في طاعة الشياطين، فيعصى الله تعالى ويعبد ما سواه. فقد كان يعيش في أوائل هذا القرن ساحر بالوجه القبلي من مصر، وكان يطلب من أعيان الناس أن يلقوا خواتمهم في البحر، فإذا فعلوا أعادها إليهم، وكان يأتي بعجائب أكثر من ذلك. فلما مات أراد ابنه أن يزاول صنعته، فنهته أمه عن ذلك ، فلما سألها عن السبب، فتحت "دولاباً وأخرجت منه صنماً وقالت له: إن أباك كان يسجد لهذا الصنم لكي تساعده الشياطين على إظهار العجائب؛ فلا تكفر كما كفر أبوك (4) .
__________
(1) سورة طه: (69).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الوصايا: باب قول الله تعالى: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا)-النساء 10-ح(2766) ومسلم في صحيحه: كتاب الإيمان: باب بيان الكبائر وأكبرها ح(145) وأبو داود في سننه: كتاب الوصايا: باب اجتناب آكل مال اليتيم ح(3673) وانظر تحفة الأشراف ح(12915).
(3) انظر فتح الباري لابن حجر (10/196)ش ح(5735).
(4) انظر هادي الأرواح لمصطفى محمد الطير (90).(1/119)
وقد لاحق المحتسبون السحرة في كل مكان في المجتمع الإسلامي ومنعوهم من كتابة الرقى السحرية: كالعقد والعزائم، وأوقعوا بهم أشد العقوبات. قال ابنالأخوة "ويلزمهم بالقسامة أنهم لا يكتبون لأحد من الناس شيئاً من الروحانيات مثل: محبة، وتهييج، ونزيف، ورمد، وعقد لسان، وغير ذلك؛ فإن السحر حرام فعله، ومتى وجد أحداً يفعل ذلك عزره ليرتدع به غيره(1) .
رابعاً: أن تكون الرقية بلغة مفهومة المعنى.
اتفق الفقهاء على أنه يشترط في الرقية أن تكون بلغة مفهومة المعنى(2) . فيقرأ على العربي بلغة عربية. ولذا لا تصح الرقية بلغة أعجمية أو عبرية أو غير ذلك من اللغات. كما لا تصح الرقية بالدعوات المجهولة التي لا تعرف لها حقيقة ولا أصل، وإنما يزعم أهلها أنها من الدعوات المستجابة.
ومن ذلك: لمخيثا وشمخيثا وباغليهوش، كشهشطليوس، قطيهوج وطحير طمحيليال، برهيم، يالوش، هميالوش، طياروش، طلوش، طلش، عجريش، وهليش، مراهيش(3) .
ويدل على منع التداوي بتلك الرقى قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن كان يرقي قبل الإسلام: "اعرضوا على رقاكم؛ لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك"(4) .
__________
(1) انظر معالم القربة في أحكام الحسبة لابن الأخوة (276) .
(2) انظر حاشية ابن عابدين (6/363) ونصاب الاحتساب للسنامي (250) والقوانين لابن جزي (486) والجامع لابن رشد (309) والشرح الصغير للدردير (4/769) والمعيار المعرب (11/87) وفتاوى العزبن عبد السلام (341) والآداب الشرعية لابن مفلح (2/455-459).
(3) انظر الإبداع في مضار الابتداع لعلى محفوظ (425).
(4) أخرجه مالك في الموطأ (2/272 التمهيد). ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب لا بأس بالرقى مالم يكن فيه شرك ح(2200). وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب ما جاء في الرقى ح(3886). والطبراني في الكبير (18/49). والبيهقي في السنن: كتاب الضحايا: باب اباحة الرقية (9/349).(1/120)
قال ابن حجر: "دل الحديث أنه ما كان من الرقى يؤدى إلى الشرك يمنع، وما لم يعقل معناه لا يؤمن أن يؤدي إلى الشرك، فتمنع احتياطاً"(1) .
وقال ابن عابدين: "إنما تكره العوذة إذا كانت بغير لسان العرب ولا يدرى ما هو ولعله يدخله سحر أو كفر أو غير ذلك"(2) .
وقال ابن تيمية: "نهي علماء المسلمين عن الرقي التي لا يفقه معناها لأنها مظنة الشرك، وإن لم يعرف الراقي أنها شرك"(3) .
وسبب منع الرقى إذا كانت باللغة الأعجمية، أو بما لا يدرى معناه أنها مظنة الشرك بالله تعالى والسحر؛ فتمنع تلك الرقى وإن لم يعرف الراقي أنها شرك أو سحر، ولا يجوز للمريض استعمالها والتداوي بها.
خامساً: أن تكتب الرقية أو التميمة بطاهر.
إذا كانت الرقية مكتوبة في ورقة، فلابد أن تكتب بمادة طاهرة كالحبر، والزعفران، وبعض الأصباغ. فلا يجوز أن يكتبها بما هو نجس كالدم، والبول، والغائط؛ لأن كلام الله تعالى وأسماءه وصفاته ينبغي أن تنزه عن ذلك.
قال ابن تيمية: "لا يجوز كتابتها بدم كما يفعله الجهال، فإن الدم نجس، فلا يجوز أن يكتب به كلام الله" (4) .
المطلب الثاني: الضوابط الشرعية للراقي.
لما كانت الرقى والتمائم (الطب الروحاني) على لسان الأبرار من الخلق حصل الشفاء للمرضى بإذن الله تعالى، فلما عز هذا النوع، لجأ الناس إلى الطب الجسماني. فما هي الضوابط الشرعية التي ينبغي مراعاتها في الراقي؟ أولاً: أن يكون الراقي مسلماً.
يشترط فيمن يعالج المرضى بالرقى والتمائم أن يكون مسلماً فلا يجوز لغير المسلم أن يعالج بها عند الإمام مالك بن أنس في رواية (5) .
__________
(1) انظر فتح الباري لابن حجر (10/195) ش ح(5735).
(2) انظر حاشية ابن عابدين (6/363) .
(3) انظر إيضاح الدلالة لابن تيمية ضمن مجموعة الرسائل المنيريه (2/103).
(4) انظر الآداب الشرعية لابن مفلح (1/457).
(5) انظر المنتقى للباجي (7/258) وأسهل المدارك للكشناوي (3/367).(1/121)
لأن غير المسلم سواء أكان يهودياً أم نصرانياً لا يعلم بحقيقة الرقى الإسلامية التي توافق كتاب الله تعالى وسنة نبيه، وإذا مارس هذا العمل سيرقي بكتابه من التوراة، أو الإنجيل، أو بالسحر. فإذا رقى بكتابه فلا يجوز، لأن ذلك الكتاب دخله التحريف؛ بدليل قوله تعالى:(من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا) (1) .
وقال تعالى:(فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكروا به) (2) .
وقد يقع التبديل لكتب أهل الكتاب بغير قصد بسبب ترجمتهم لكتبهم من لغة إلى لغة كما هو معلوم من حالهم بالضرورة. ومن المعلوم أن إبدال كلام الله بغير اللفظ الذي أنزل به ممنوع؛ لما يؤدى له من تغيير المعاني الكثيرة، وانتهاك حرمته وعظمته، وحينئذ لم تبق فائدة في رقاهم ألبتة(3) . وإذا رقى غير المسلم بالسحر فلا يجوز، كما بينت عند الضوابط الشرعية للرقية.
وقد خالف في ذلك الإمام الشافعي فأجاز لغير المسلم أن يرقى المسلم(4) . وهو رواية ثانية للإمام مالك رواها عنه ابن وهب(5) . كما روى الإمام مالك عن عمرة بنت عبد الرحمن أن أبا بكر الصديق دخل على عائشة، وهى تشتكي ويهودية ترقيها، فقال أبو بكر: "ارقيها بكتاب الله"(6) .
__________
(1) سورة النساء: (46) .
(2) سورة المائدة: (13).
(3) انظر زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم للشنقيطي (4/83) .
(4) انظر المجموع للنووي (9/56) وفتح الباري لابن حجر (10/197) ش ح(5735) والإفادة لما جاء في المرض والعيادة لابن حجر الهيتمي (77).
(5) انظر الجامع لابن رشد (309) والمنتقى للباجي (7/258).
(6) انظر فتح الباري لابن حجر (10/196-197) ش ح(5735).(1/122)
والذي أميل إليه ما ذهب إليه الإمام مالك وهو اشتراط الإسلام في الراقي، فلا يجوز للمسلم أن يقصد غير المسلم من أجل الرقية بعد أن استقر الطب الروحاني عند المسلمين وتحددت معالمه في القرآن الكريم، وبين النبي صلى الله عليه وسلم بفعله وقوله. حتى قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلك يتعوَّذ من الجان وعين الإنسان حتى نزلت المعوذتان، فلمّا نزلتا أخذ بهما وترك ما سواهما"(1) . وأمّا ما روي عن أبي بكر فهو محمول على أنه كان في بداية الإسلام، وقبل تحديد معالم الطب الروحاني الإسلامي. أمّا بعد استقراره فلا يجوز للمسلم أن يسترقي بما عند غير المسلمين من رقى.
ثانياً: أن يكون الراقي عدلاً في دينه.
__________
(1) أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الطب: باب ما جاء في الرقية بالمعوذتين ح(2065) وقال: هذا حديث حسن غريب. والنسائي في سننه: كتاب الاستعاذة: باب الاستعاذة من عين الجان ح(5509). وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب من استرقى من العين ح(3511). وانظر تحفة الأشراف ح(4327). وانظر صحيح سنن الترمذي للألباني ح(1681).(1/123)
نبه كثير من العلماء إلى ضرورة تحقق العدالة والصلاح في الراقي الذي يرقى بذكر الله تعالى وأسمائه وصفاته، لأن الشفاء الذي يأذن به الله تعالي يحصل على لسان الراقي الصالح. دون الطالح. قال ابن التبين: "الرقى بالمعوذات وغيرها من أسماء الله هو الطب الروحاني إذا كان على لسان الأبرار من الخلق حصل الشفاء بإذن الله"(1) . وقال الخطابي: "الرقية التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ما يكون بقوارع القرآن وبما فيه ذكر الله على ألسن الأبرار من الخلق الطاهرة النفوس وهو الطب الروحاني. وعليه كان معظم الأمر في الزمان المتقدم الصالح أهله. فلما عزّ وجود هذا الصنف من أبرار الخليقة مال الناس إلى الطب الجسماني، حيث لم يجدوا للطب الروحاني نجوعاً في الأسقام، لعدم المعاني التي كان يجمعها الرقاة المقدمة من البركات"(2) . ولأن لنفس الراقي أثراً في نفس المرقي، فالنفس الصالحة الطيبة إذا التقت بنفس المريض (المرقي) حصل بينهما فعل وانفعال، كالذي يحصل بين الداء والدواء؛ فإذا أصاب الدواء الداء برئ بإذن الله تعالى. قال ابن القيم: "ونفس الراقي تفعل في نفس المرقي فيقع بين نفسيهما فعل وانفعال، كما يقع بين الداء والدواء، فتقوى نفس المرقى وقوته بالرقية على ذلك الداء فيدفعه بإذن الله. ومدار تأثير الأدوية والأدواء على الفعل والانفعال، وهو كما يقع بين الداء والدواء الطبيعيين؛ يقع بين الداء والدواء الروحانيين(3) . ومما يؤيد ذلك تبرك الصحابة رضوان الله عليهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يؤتى إليه صلى الله عليه وسلم بالمرضى وأصحاب العاهات والمجانين فيمسح عليهم بيده الشريفة، فيزول ما بهم من مرض وجنون وعاهة(4) . ووضع يده الشريفة صلى الله عليه وسلم على يد حنظلة بن حذيم وبرَّك عليه فكان حنظلة يؤتى
__________
(1) انظر فتح الباري لابن حجر (10/198) ش ح(5736).
(2) انظر عمدة القاري للعيني (17/403).
(3) ؟؟؟؟؟؟.
(4) ؟؟؟؟؟؟.(1/124)
بالرجل الوارم وجهه، أو الشاة الوارم ضرعها، فيقول: "بسم الله" على موضع كف رسول الله، فيمسحه فيذهب الورم(1) .
وحقيقة عدالة الراقي: هي صفة في الإنسان تحمله على أداء ما وجب عليه من فرائض وواجبات: كالقيام بالصلاة، والصيام، والزكاة، والتحلي بالأخلاق الفاضلة من صدق وأمانة وتقوى ومروءة، كما تحمله على اجتناب الكبائر من شرك بالله، وسحر، وكذب، وبدعة مكفرة، وإصرار على صغائر الذنوب، وتجنب ما فيه خسة من التصرفات(2) .
فإذا ترك شيئاً مما وجب عليه، أو أتى شيئاً مما يجب عليه اجتنابه؛ فليس بعدل ولا يجوز للمسلم أن يسترقيه؛ لأنه غير أهل أن يجري الله على يديه الشفاء بالرقى والتمائم. ولذا لا يجوز استرقاء العصاة والسحرة والكهنة والعرافين أو منيستعمل وسائلهم.
كما نبه إلى ذلك الإمام مالك وبينه الباجي: "كأن يرقى وفى يده حديدة، أو ملح، أو عقد في خيط؛ ووجه ذلك عند الباجي- أنه لم يعرف وجه منفعته فإنه يكره استعماله لما يضاف إليه"(3) .
ومما يدل على عدم جواز استرقاء الكهنة والعرافين ما روى البخاري -بسنده- عن عائشة رضي الله عنها قالت: "سأل ناس رسول صلى الله عليه وسلم عن الكهان؛ فقال: ليس بشيء. فقالوا: يا رسول الله إنهم يحدثوننا أحياناً بشيء فيكون حقاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني، فيقرها في أذن وليه، فيخلطون معها مائة كذبة"(4) . فهو يدل على النهي عن إتيان الكهان.
__________
(1) ؟؟؟؟؟؟.
(2) ؟؟؟؟؟؟.
(3) انظر المنتقى للباجي (7/258).
(4) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب الكهانة ح(5762) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان ح(2228) وانظر تحفة الأشراف ح(17349) .(1/125)
قال القرطبي: "يجب على من قدر على ذلك من محتسب وغيره أن يقيم من يتعاطى شيئاً من ذلك من الأسواق، ويُنكِّر عليهم أشد النكير وعلى من يجيء إليهم، ولا يغتر بصدقهم في بعض الأمور، ولا بكثرة من يجيء إليهم ممن ينسب إلى العلم فإنهم غير راسخين في العلم، بل من الجهال بما في إتيانهم من المحذور" (1) .وروى مسلم -بسنده- عن صفية عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى عرافاً فسأله عن شيء، لم تقبل له صلاة أربعين ليلة"(2) .
وفى رواية لأبى داود قال صلى الله عليه وسلم: "من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد بريء مما أنزل الله على محمد"(3) .
حل السحر بالسحر.
قد يتبادر إلى الذهن سؤال وهو: هل يجوز لمن سُحر أن يأتي السحرة والكهان لحل السحر عنه؟
اتفق الفقهاء على أن السحر يحل بالرقى والتمائم الشرعية، واختلفوا في جواز حل السحر بالسحر.
__________
(1) انظر فتح الباري لابن حجر (10/221) ش ح(5762).
(2) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان ح(2230) وأحمد في مسنده (4/68) و (5/380) والبيهقي في الكبرى: كتاب النكاح: باب إتيان النساء في أدبارهن (7/198).
(3) أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الطب: باب في الكاهن ح(3904) والترمذي في سننه: كتاب الطهارة: باب ما جاء في كراهية إتيان الحائض ح(135). وقال لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث حكيم الأشرم عن أبي تميمة الهجيمي عن أبي هريرة. وابن ماجة في سننه: كتاب الطهارة: باب النهي عن إتيان الحائض ح(639) وانظر تحفة الأشراف (13536) وأخرجه أحمد في مسنده (2/408-476) والبيهقي في الكبرى (7/198) والطحاوي في شرح معاني الآثار (3/44) وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي ح(116).(1/126)
القول الأول: ذهب جمهور الفقهاء من المالكية في قول، والحنابلة في قول وابن القيم من الحنابلة إلى عدم جواز إتيان الكُهّان والعرافين لحل السحر بالسحر. وهو منقول عن ابن مسعود، والحسن البصري، ومحمد بن سيرين. واستدلوا لذلك بعموم الأدلة التي تنهى عن إتيان الكهان والعرافين. فقد روي عن الحسن البصري أنه قال: "لا يحل السحر إلا ساحر". وروى عن محمد بن سيرين، أنه سئل عن امرأة يعذبها السحرة فقال رجل: أخط خطا عليها وأغرز السكين عند مجمع الخط وأقرأ القرآن. فقال محمد بن سيرين ما أعلم بقراءة القرآن بأساً، وما أدري ما الخط والسكين"(1) .
القول الثاني: ذهب المالكية في قول، والحنابلة في قول إلى جواز حل السحر بالسحر للضرورة، وهو مروي عن سعيد بن المسيب.
وتوقف فيه الإمام أحمد. قال ابن قدامة: "توقف أحمد في الحل، وهو إلى الجواز أميل(2) .
وروى البخاري عن قتادة: قلت لسعيد بن المسيب: رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته أيحل عنه أو ينشر؟ قال: لا بأس إنما يريدون به الإصلاح فإن ما ينفع لم ينه عنه"(3) .
__________
(1) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/49) والتاج والإكليل لمختصر خليل للمواق مع مواهب الجليل (6/256) والمغنى لابن قدامة (8/154) وفتح الباري لابن حجر (10/233) ش ح(5765) وعمدة القاري للعيني (17/224).
(2) انظر المراجع السابقة.
(3) أخرجه البخاري معلقاً بصيغة الجزم في كتاب الطب: باب هل يستخرج السحر- انظر فتح الباري لابن حجر (10/232) وقال الحافظ ابن حجر في التعليق (5/49) رواه الأثرم في السنن وساق إسناده ثم قال: ,إسناده صحيح.312-انظر حاشية ابن عابدين (6/364) والذخيرة للقرافي 013/311) والمجموع للنووي (9/56) وفتح الباري لابن حجر (10/195) ش ح(5735) والآداب الشرعية لابن مفلح (2/455).(1/127)
والراجح عدم جواز حل السحر بالسحر، لأن حله بالرقى الشرعية ممكن. فلا يصار إلى الحرام مع وجود المشروع ولو للإصلاح والضرورة، لأن الضرورة تكون في حالة عدم وجود طريقة مشروعة.
ثالثاً: أن يعتقد الراقي أن الله هو الشافي.
اتفق العلماء على أنه ينبغي على الراقي أن يعتقد اعتقاداً جازماً أن الشافي هو الله سبحانه وتعالى، وأن الرقية لا تؤثر بذاتها، بل بإذن الله تعالى وقدرته، لأن الذي أنزل الداء هو الذي أنزل الدواء، وهو الذي يرفع البلاء ويدفعه(1) ، وإلا وقع الراقي في شرك الأسباب الذي أشرنا إليه سابقاً، فمن قال: إن الأسباب بما فيها الرقى تؤثر بطبعها في المريض فتشفيه فقد أشرك بالله تعالى وكفر. ويدل على ذلك ما يلي:
1- قوله تعالى:(أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون) (2) .
فالآية تخاطب المشركين الذين كانوا يعترفون أن الله عز وجل هو الخالق للأشياء كلها، لكنهم يتوجهون بالدعاء والعبادة إلى غير الله ليكشف عنهم الضر، ويدفع البلاء؛ مع أنه لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً.
__________
(1) سورة الزمر: (38).
(2) أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الطب: باب ما جاء في كراهية التعليق ح(2079) وقال: وفي باب عن عقبة بن عامر: قال المبارك فوري في التحفة (6/201) وحديث عقبة بن عامر أخرجه أحمد وأبو يعلي والطبراني بمعناه. قال الهيثمي في المجمع: رجاله ثقات. وأخرجه أحمد في مسنده (4/310-311) والحاكم في مستدركه (4/216) وسكت عنه هو والذهبي. والبغوي في شرح السنة (12/160) وانظر صحيح سنن الترمذي للألباني ح(1691).(1/128)
2- وروى الترمذي -بسنده- عن النبي صلى الله عليه وسلم: من تعلق شيئاً وكل إليه"(1) . وفى رواية: "من علق تميمة فقد أشرك"(2) . وفى رواية: "من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له"(3) .
فهي تدل على أن التمائم لا تؤثر بذاتها، ومن اعتمد عليها بذاتها فقد أشرك، ويوكل شفاؤه إلى تلك التمائم فلا يحصل الشفاء له.
__________
(1) أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الطب: باب ما جاء في كراهية التعليق ح(2079) وقال: وفي باب عن عقبة بن عامر: قال المبارك فوري في التحفة (6/201) وحديث عقبة بن عامر أخرجه أحمد وأبو يعلي والطبراني بمعناه. قال الهيثمي في المجمع: رجاله ثقات. وأخرجه أحمد في مسنده (4/310-311) والحاكم في مستدركه (4/216) وسكت عنه هو والذهبي. والبغوي في شرح السنة (12/160) وانظر صحيح سنن الترمذي للألباني ح(1691).
(2) أخرجه أحمد في مسنده (4/156) وقال الهيثمي في المجمع: رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد ثقات (5/103) وأخرجه الحاكم في مستدركه (4/219) وسكت عنه وكذلك الذهبي. قال الألباني: وهذا إسناد صحيح. رجاله ثقات رجال مسلم غير دخين وهو ابن عامر الحجري أبو ليلي المصري وثقة يعقوب بن سفيان وابن حبان وصحح له الحاكم (4/384) وقد أخرجه (4/219) من طريق أخرى عن يزيد بن أبي منصور- انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني ح(492).
(3) أخرجه أحمد في مسنده (4/154) والهيثمي في المجمع (5/103) وقال: رواه أحمد وأبو يعلي والطبراني ورجالهم ثقات. والحاكم في مستدركه (4/216) وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. والحديث حسن لغيره- راجع الترغيب للمنذري وهامشه (4/202-203) ح(5065) و(5066) بتحقيق محي الدين مستو وآخرين. وانظر تحفة الأحوذي (6/201) والضعيفة للألباني ح(1266).(1/129)
3- وروى البخاري -بسنده- عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوِّذ بعض أهله يمسح بيده اليمنى ويقول: "اللهم رب الناس أَذهب الباس واشف، أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقماً"(1) .
فقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن كل ما يقع من الدواء والتداوي إن لم يصادف تقدير الله عز وجل لم ينجح(2) .
رابعاً: أن يكون الراقي خبيراً بطرق المعالجة بالرقية الشرعية.
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب دعاء العائد للمريض ح(5675) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب استحباب رقية المريض ح(2191) وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب في تعليق التمائم ح(3883) والترمذي في سننه: كتاب أحاديث شتى: باب في دعاء المريض ح(3576) وقال هذا حديث حسن وابن ماجة في سننه: كتاب الجنائز: باب ما جاء في ذكر مرض الرسول (صلى الله عليه وسلم) ح(1619) وانظر تحفة الأشراف (17638) وأخرجه أحمد في مسنده (3/267) و(4/259)و(6/42) والنسائي في اليوم والليلة ح(1042) وابن السني في اليوم والليلة ح(543) قال النووي: الحديث فيه استحباب مسح المريض باليمين والدعاء له وقد جاءت فيه روايات كثيرة صحيحه جمعتها في كتاب الأذكار انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/180).
(2) انظر عمدة القاري للعيني (17/407).(1/130)
ينبغي أن يستعان في كل شيء بأعلم أهله، أو بالمختصين فيه. وعلم الرقى الشرعية أو الطب النبوي أصبح علماً قائماً بذاته، وهو: "علم باحث عن الطب الذي ورد في الأحاديث النبوية الذي داوى به المرضى"(1) . وقد أفرد بكتب خاصة في مجامع السنة النبوية، ففي صحيح البخاري كتاب الطب، وفى سنن الترمذي كتاب الطب، وفى سنن أبى داود كتاب الطب . إلخ. كما وأفرد بمؤلفات مستقلة مثل: الطب النبوي لأبى نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني (430هـ)، الطب النبوي لجعفر بن محمد المستغفري (432 هـ)، والطب النبوي لمحمد بن أبى بكر ابن قيم الجوزية ( 751 هـ ). هذا بالإضافة إلى كتب الأذكار والدعوات التي أفردها المصنفون بكتب مستقلة. وقد اشتملت هذه الكتب وغيرها على وصفات لكل مرض، وطرق متعددة للمعالجة، وعوارض لبعض الأمراض وأسبابها، وغير ذلك.
__________
(1) انظر أبجد العلوم لصديق حسن (2/360).(1/131)
واستيعاب ما في هذه الكتب من معلومات يحتاج إلى همة عالية وذكاء، لأن العلم بالتعلم. ونبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن علم الرقى يحتاج إلى التعلم في حديث الشفاء بنت عبد الله حيث قالت: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عند حفصة فقال: ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتيها الكتابة"(1) .
ولمّا كان الناس متفاوتين في استعدادتهم وأفهامهم ومداركهم واستيعابهم فلا بد أن يتفاوتوا في تحصيلهم العلمي لهذا العلم وإتقانهم له. وإذا كان الأمر كذلك، فلا بد من الاستعانة في علاج الأمراض بالرقى الشرعية بأعلم الناس بها، وأحذقهم، وأتقاهم، وأورعهم، وأكثرهم خشية من الله تعالى.
المطلب الثالث: الضوابط الشرعية للمرقي.
المرقي هو محل الرقية. وهو يشمل الإنس، والجن، والحيوان. وسوف أقتصر في هذا المطلب على الإنسان، لأنه محل التكريم من الله تعالى.
أولاً: أن يعتقد المرقى أن الشافي هو الله.
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الطب: باب ما جاء في الرقى ح(3887). وأحمد في مسنده (6/372). والحاكم في مستدركه (4/14) عن أبي حثمة القرشي أن رجلاً من الأنصار خرجت به نملة فدل أن الشفاء بنت عبد الله ترقي من النملة فجاءها فسألها أن ترقيه فقالت: والله ما رقيت منذ أسلمت فذهب الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بالذي قالت الشفاء، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفاء فقال: "اعرضي علي فعرضتها عليه فقال: أرقيه وعلميها حفصة كما علمتيها الكتابة"- قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. والبيهقي في السنن: كتاب الضحايا: باب اباحة الرقية (9/349). انظر صحيح سنن أبي داود للألباني ح(3291). النملة: قروح تخرج في الجنبين، ويقال أيضاً أنها تخرج في غير الجنب ترقى فتذهب بإذن الله قال الخطابي: وفي الحديث دليل على أن تعليم الكتابة للنساء غير مكروه- معالم السنن (5/364)(1/132)
ينبغي على المرقي أن يعتقد اعتقاداً جازماً أن الشافي هو الله سبحانه وتعالى، كما بينت في اعتقاد الراقي؛ لأن ذلك الاعتقاد أنفع علاج له. فإن وجد الراقي إيمان المرقى واعتقاده في ذلك ضعيفاً قواه بإعطائه درساً في العقيدة، يبين فيه أن كمال التلقي للعلاج يحصل بالإيمان بالله تعالى، والإذعان له، والاعتقاد بأنه الشافي ولا شفاء بعده، وأن هذه الرقى لا تؤثر بذاتها، وإنما بقدر الله. ولذا فلا ينتفع بها من أنكرها، أو سخر منها، أو شك فيها أو فعلها مجرباً لا يعتقد أن ذلك ينفعه (1) .
ثانياً: أن يتعاطى الرقى للعلاج من الأمراض عند بعض الفقهاء.
الرقى والتمائم يتعاطاها المريض لعلاج الأمراض، فلا يجوز أن يتعاطاها الصحيح للوقاية من الأمراض والاحتراز منها عند الإمام مالك في رواية، وأحمد في رواية الخلال(2) ، لقول عائشة رضي الله عنها: "التمائم ما علق قبل نزول البلاء، وما علق بعد نزول البلاء فليس بتميمة"(3) . أي أن التميمة المنهي عنها ما علقت قبل نزول البلاء، وأما ما علق بعد نزول البلاء فليس من التمائم المنهي عنها.
وخالف في ذلك الشافعية، ومالك في رواية أشهب وأحمد في رواية، حيث ذهبوا إلى عدم اشتراط هذا الشرط، فأجازوا الرقية للصحيح والمريض لعموم أدلة جواز الرقية .؟
والراجح ما ذهب إليه الشافعية ومن معهم من عدم اشتراط هذا الشرط، لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما أنه كان يقرأ بالمعوذات قبل النوم خوفاً من الشيطان والجن.
ثالثاً: صيانة الرقى عن الإهانة.
__________
(1) انظر الطب النبوي لابن القيم (171) وفتح الباري لابن حجر (10/205) ش ح(5740) والآداب الشرعية لابن مفلح (3/98).
(2) انظر الجامع لابن رشد (310) والقوانين لابن جزي (486) والآداب الشرعية لابن مفلح (2/460).
(3) انظر المراجع السابقة ،والإفادة لابن حجر الهيثمي (77) وفتح الباري لابن حجر (10/196) ش ح(5735).(1/133)
ينبغي على المرقى أن يحافظ على الرقى التي يستعملها ويصونها عن الإهانة لأنها تتضمن آيات من القرآن الكريم وأسماء الله وصفاته. فإن كانت تمائم تعلق على جسده فإنها تلف لفاً محكماً وتحفظ في وعاء من شمع، أو كيس من جلد، بحيث لا تتسرب إليها النجاسة والقاذورات. ولا يدخل بها بيت الخلاء، ولا يقعد عليها، وينزعها عند الجماع(1) . وإن كانت سائلاً مقروءاً عليه أعد للشرب سمى الله على كل نفس وعظم النية فيه، فإن الله يؤتيه على قدر نيته. وإن كان معداً للاغتسال فلا يصبه على كناسة، أو في حفرة نجاسة، أو على موضع يوطأ. ولكن يصبه ناحية من الأرض في بقعة لا يطأها الناس، ويحفر حفرة في موضع طاهر ويصبه فيها(2) .
رابعاً: أن يبتعد المرقى عن المعاصي في فترة العلاج وبعدها.
ينبغي على المرقي أن يبتعد عن المعاصي صغيرة كانت أو كبيرة- في جميع الأوقات وبخاصة في أثناء العلاج، فلا يستمع للغناء، ولا يتناول الدخان، ولا يهمل في صلاته. وإذا كانت امرأة فلا تتبرج، ولا تخرج كاسية عارية، فإن فعل الطاعات واجتناب المعاصي من أعظم العلاجات كما قال ابن القيم: "من أعظم علاجات المرضى فعل الخير والإحسان، والذكر والدعاء، والتضرع والابتهال إلى الله، والتوبة، ولهذه تأثير في دفع العلل وحصول الشفاء أعظم من الأدوية الطبيعية "(3) .
خاتمة
بعد عرض موضوع البحث وهو التداوي بالرقى والتمائم، تتضح بعض النتائج التالية:
__________
(1) انظر حاشية ابن عابدين (6/364) والفتاوي الهندية (5/356) واسهل المدارك (3/367) والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (10/320) ومغنى المحتاج (1/37) وحاشية الجمل (1/76) والآداب الشرعية لابن مفلح (1/457).
(2) انظر نوادر الأصول للحكيم الترمذي (335).
(3) انظر الطب النبوي لابن القيم (114).(1/134)
1- القرآن الكريم دواء من عند ربنا شفاء لأمراض عقولنا، وأمراض نفوسنا، وأمراض أبداننا، وأمراض مجتمعاتنا لا تنقضى عجائبه، ولا يخلق من كثرة الرده والاستعمال؛ ينبغي الاستفادة منه في جميع الحالات.
2- يغلب على الرقى والتمائم في الجاهلية التأثر بالشرك والسحر والخرافة، فيمنع استعمالها، وتجب محاربتها.
3- الرقى والتمائم في الإسلام منزهة عن الشرك والسحر والخرافة، وموافقة لما في القرآن والسنة من سور وآيات وأدعية مأثورة، فيجوز استعمالها؛ ولا يتنافى ذلك مع التوكل على الله تعالى، ولا مع الإيمان بالقضاء والقدر.
4- النفث والمسح المصاحبان لقراءة الرقية جائزان شرعاً لفعل النبي صلى الله عليه وسلم لهما أثناء الرقية.
5- تعليق التمائم المكتوب فيها آيات من القرآن الكريم وأدعية وأذكار جائز شرعاً شريطة أن يصان عن الإهانة.
6- تعاطى سوائل (ماء، زيت زيتون، زيت الحبة السوداء) الرقى والتمائم سواء أكانت غسالة أو مقروءاً عليها جائز شرعاً شريطة أن يصونها المرقى عن الإهانة.
7- يشترط في الرقية الشرعية: أن يكون لها أصل في القرآن والسنة، وأن تكون منزهة عن الشرك والسحر والخرافة، وأن تكون بلغة مفهومة المعنى.
8- يشترط في الراقي الممارس للرَّقية: أن يكون مسلماً، عدلاً في دينه، معتقداً اعتقاداً جازماً بأن الله هو الشافي، خبيراً بأمور الرقية
9- يشترط في الإنسان المرقى، أن يكون معتقداً بأن الله هو الشافي، مطمئناً للعلاج بالرقى، محافظاً لما يستعمله منها.
10- العلاج بالرقى والتمائم الشرعية لا يلغي وجود الطب الجسماني والطبيعي، وينبغي الاستفادة منهما دون إفراط في أحدهما أو تفريط في الآخر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
http://www.islamset.com/arabic/ahip/altashfe/MNDKAR.htm
الرقى الشرعية
الدكتور فلاح إسماعيل مندكار
بسم الله الرحمن الرحيم(1/135)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، واشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، واشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) (1) .
(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا) (2) .
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً) (3) .
أما بعد،
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم؛ وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
يقول الله تعالى: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) (4) .
ويقول أيضاً جل وعلا: (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء) (5) .
إن موضوع التدواي والرقية بالقرآن الكريم من أهم الموضوعات التي اعتنى بها المسلمون قديما وحديثا، والتي استحوذت على أذهانهم، وشدت انتباههم، وأثارت تساؤلات كثيرة حول مفهوم هذا التداوي، وأبعاده وجوانبه؛ لتحديد جدية هذا الاستشفاء، وكيفية الإفادة منه، مع مراعاة الجائز والممنوع منه. وهذا يدل على حرص المسلمين على فهم كتاب ربهم والإفادة منه، وعلى البحث في ثناياه؛ تجلية لإعجازه، وعظيم تنزيله من لدن حكيم خبير، تأكيداً وتصديقاً لقول الحق تبارك وتعالى: (وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) (6) .
__________
(1) سورة آل عمران: (102).
(2) سورة النساء: (1).
(3) سورة الأحزاب: (70/71).
(4) سورة الإسراء: (82).
(5) سورة فصلت: (44).
(6) سورة فصلت: (41/42).(1/136)
وكذلك يدل دلالة واضحة على حب المسلمين لحياة خالية من الأدواء ليكونوا أصحاء أقوياء، ليكونوا أمة قوية سليمة من الأمراض والآفات والعلل التي توهن وتضعف المجتمع.
وكذلك يدل على حرصهم على سبل وأسباب الوقاية والعلاج في ظل توجيهات الدين الحنيف، وعلى سعيهم لتحقيق ما جاء في الكتاب والسنة من الأمر والتوجيه بالعلاج والتداوي وعدم الاستسلام للأمراض والعاهات. كل ذلك سعياً منهم إلى التطلع لنيل خيري الدنيا والآخرة، وليزدادوا إيماناً مع إيمانهم، ويزدادوا يقينا على يقينهم في صدق وعد الله ووعد رسوله، وفي شهود روائع وعجائب ومعجزات آيات الله تعالى ووحيه الكريم.
ومشاركة مني في ذلك، وإسهاما في بيان هذه الحقائق؛ كان هذا البحث المتواضع مني نصحا لله ولكتابه ولرسوله وللأمة وأهل الإسلام.
الرقى الشرعية
وهو بحث موجز على ما تسمح به أطر هذا المؤتمر المبارك إن شاء الله، ومستعينا بعد الله عز وجل بما كتبه أهل العلم، ومستفيداً من جهودهم المباركة في بيان الحق. وأتقدم بعد شكر الله عز وجل، بالشكر للقائمين على هذا المؤتمر، ولمن أسهم في عقده ماديا ومعنويا، ولمن أسهم فيه علميا، وشارك في بحوثه.
تمهيد
إن القرآن الكريم شفاء للقلوب، فهو يزيل الران الذي يعتريها ويعلوها فيمرضها ويهلكها مما يعرض عليها من الآفات بسبب الخرافات والأوهام والضلالات والبدع، وكذلك بسبب ما يرهقها من الوساوس، والخطرات، والشبهات. فإن ذلك يجهد القلوب ويملؤها من الهموم والأحزان والشكوك، ويحملها على الذل والعبودية لغير الله، وعلى الخوف من غير الله تبارك وتعالى.
فالقرآن فيه شفاء من هذا كله، لأنه حق، وكلام الله الحق. فإنه يتغلغل في القلوب ويصل إلى سويدائها فتسكن وتطمئن، ثم تشعر بالتيقن من وعد الله المطلق في الحياة الدنيا وما بعدها.(1/137)
قال تعالى: (الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) (1) .
ويقول أيضاً عز وجل: (طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين هدى وبشرى للمؤمنين) (2).
ويقول أيضاً تبارك وتعالى: (.. فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله) (3) .
ويقول أيضاً عز من قائل: (الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدى به من يشاء) (4) .
والقرآن الكريم شفاء للعقول والفكر الذي انحرف عن الاستقامة وسلامة التفكير وصحة التوبة بسبب الأمراض التي تؤثر على التفكير، فتحول بين العقل وبين مقتضاه، وبين التفكير الصحيح ولوازمه. وأمراض العقول هي الآصار والأغلال التي تقيد العقول وتنحرف بها عن الجادة القويمة والتفكير الصحيح. فالقرآن الكريم شفاء لهذه العقول وتصحيح لمسار الفكر بتخليصها من غل التقليد، ومن التعلق والتبعية لجهة غير معصومة، واتباعها بلا دليل ولا عقل ولا برهان. وبتخليصها أيضاً من العثرات والسقطات في ضلالات موروثات الآباء ومألوفات الأجداد رغم ترديهم في العمى والخرافة، وانحرافهم الفكري، وتلبسهم وخلطهم الحق بالباطل. فالقرآن الكريم شفاء للعقول وهداية ونور لتصحيح مسارات الفكر لتتفق مع الفطرة التي خلقهم الله عز وجل عليها؛ فهو يحرر العقول من ذل التبعية الخاطئة، ويعتق الضمائر البشرية لتمارس حقها في التفكير، ويطلق الفكر من القيود ليتدبر ويتأمل ويستقل في ظل حدوده الشرعية.
__________
(1) سورة البقرة: 1-4.
(2) سورة النمل: (1-2).
(3) سورة البقرة: (102).
(4) سورة الزمر: (23).(1/138)
قال تعالى:(وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون. بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون. وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها انا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون. قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين) (1) .
وفى القرآن الكريم إرشاد للعقول بعد تحريرها من ذل التبعية، وتوجيه إلى الطريق السوي من حيث صحة النظر، وتوجيه الفكر إلى النظر والتدبر في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله، وفي هذا شفاء للعقول من سقام الجهل، واختلال الفكر، وفساد الاستنتاج، وفيه أيضاً كفها عن تبديد الطاقات، وإنفاق الجهود فيما يتعلق بما لا يغني ولا يجدي مثل أمور الغيب التي غيبها الله عن مدارك العقول والحواس.
قال تعالى:(إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب) (2) .
وقال تعالى: (أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء) (3) .
وقال تعالى:(وفى الأرض آيات للموقنين وفى أنفسكم أفلا تبصرون) (4) .
وقال تعالى: (الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون) (5) .
__________
(1) سورة الزخرف: (20-25).
(2) سورة آل عمران: (190).
(3) سورة الأعراف: (185).
(4) سورة الذاريات: (20-21).
(5) سورة البقرة: (1-4).(1/139)
وقال تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب) (1) .
وقال تعالى: (ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضداً) (2) .
وفى القرآن الكريم شفاء للنفس البشرية وعلاجها وصحتها من أمراض الهوى وأدناس وأرجاس متابعة الملذات وتحقيق الشهوات، ومن الطمع والحسد وغيرها من الأمراض النفسية والاجتماعية التي تفتك بالنفس، وتضعف المجتمع، وتجعل الإنسان أسيراً لأهوائه وشهواته، وسجينا لملذاته وأطماعه.
فالقرآن الكريم يحرر النفس من هذا الأمر ومن الانقياد وراء الزائل الفاني لتسمو برغباتها وأهدافها نحو الكمال البشري، ولتعلو عن مواطن العلل والآفات والأمر بالسوء، ولترقى إلى أعلى درجات الاطمئنان.
فالقرآن الكريم شفاء للقلوب، وشفاء للعقول، وشفاء للنفوس البشرية، وهذا ما يريده الله عز وجل من خلقه أن يكونوا أصحاء أقوياء.
إن المرء إذا سلم قلبه، وصح عقله بالمنهج القرآني، وتغذى به، واستقام على هديه ثم اطمأنت نفسه، وسلمت من آفاتها وأمراضها، وترفعت عن الأمر بالسوء أو الهم بالباطل. أقول إذا حصل ذلك كله للمرء فإنه الإنسان وإنه العبد الذي أراده الله تعالى، فانه بذلك يتعرف حقيقة على الغاية من خلقه وإيجاده، ويتعرف على صفات الباري جل وعلا، ويدرك كماله وجلاله في خلقه وإبداعه، وفي أمره ونهيه،
__________
(1) سورة آل عمران: (7).
(2) سورة الكهف: (51).(1/140)
ويتعرف كذلك على غاية إرسال الرسل وإنزال الكتب، وعلى غاية الحياة الدنيا، ويدرك البرزخ وما بعد الموت، والحياة الأخرى بعد البعث والنشور وبعد الحساب والجزاء من الله تعالى على ما قدم وما فعل وعمل، وبذلك يدرك ويتعرف على حقيقة العلاقة بين الخالق والمخلوق، ويدرك دوره والأعمال المنوطة به في هذه الحياة الدنيا من خلافه وعمارة، ومن ثم يلتزم ما يمليه عليه القلب السليم والعقل الصحيح والنفس المطمئنة، فتزول الأمراض والأحقاد التي تفتك بالفرد أولاً ثم بالمجتمع ثانياً، تلك الأمراض التي تذهب بتماسك المجتمع والجماعة، وتزلزل أمنها وطمأنينتها، وبالمقابل تسود الأخلاق وتظهر الفضيلة ويشيع المعروف ويزول المنكر، وتكثر الطيبات وتوءد المنكرات وترتفع الآصار والأغلال، فتنطلق القلوب السليمة والعقول الصحيحة، والنفوس المطمئنة إلى بناء المجتمع والأمة على أساس صحيح ومنهج رباني قرآني قويم.
قال تعالى: (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) (1) .
وقال تعالى:(مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون) (2) .
التداوي بالقرآن
__________
(1) سورة الأنعام: (122).
(2) سورة هود: (24).(1/141)
إن التداوي بالقرآن الكريم والاستشفاء به من الأمراض الجسمية والآفات والعلل العضوية عن طريق تلاوته أو قراءة بعض سوره وآياته هو المقصود في هذا المقام، ولأجله ينعقد هذا المؤتمر المبارك إن شاء الله، سواء كان سبب المرض من سوء في التصرفات، أو التعرض لبعض الإيذاء من الدواب والهوام، أو مس وإيذاء واعتداء من الجن أو غيرهم من المخلوقات، أو كان تلفا وخللا في بعض الأجهزة العضوية وغيرها، وهذا موضوع قد كثر حوله الكلام وطال فيه الجدل والخلاف، بين مانع من ذلك جملة وتفصيلاً بأدلة عقلية وأقيسة منطقية بزعمه، وبين مغالٍ في إجازته معتمداً عليه معرضاً عن بذل الأسباب المادية الحسية وعن التداوي بغيرها والاستشفاء بما نفعه من خلال التجربة، والدراسة العلمية. والحق إنما يتوسط بين الجافي والغالي، ويعتدل بين الإفراط والتفريط. والتداوي والاستشفاء بالقرآن الكريم جاء في النصوص الشرعية الثابتة، ويقرره العقل والقياس الصحيح، لذلك وجب التصديق به، والإيمان بما جاء به النص، وأجازه العقل، والنصوص الشرعية كثيرة جداً، منها:
أ- قول الله تعالى:(وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) (1) .
وقوله تعالى: (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء) (2) .
ولفظ "شفاء" عام يتناول شفاء الأمراض القلبية والعقلية، كما يتناول الأمراض الجسدية والعوارض المادية الحسية. والأصل بقاء العام على عمومه وعدم تخصيصه إلا بمخصص، ولا مخصص هنا- على ما قرره العلماء.
أ- ما جاء في سنة رسول الله صلى عليه وسلم، فقد ثبت أنه استشفى واسترقى ببعض آيات القرآن، وأمر بذلك وأوصى به، وفعله عليه الصلاة والسلام لنفسه ولغيره، وأقره كذلك من فعل بعض أصحابه رضي الله تعالى عنهم.
__________
(1) سورة الإسراء: (82).
(2) سورة فصلت: (44).(1/142)
روى الإمام البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بقل هو الله أحد وبالمعوذتين جميعا، ثم يمسح بهما وجهه، وما بلغت يداه من جسده. قالت عائشة: فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به"(1) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب النفث في الرقية ح(5748) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب رقية المريض بالمعوذات والنفث ح(2192) وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب كيف الرقى ح(3902) وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب النفث في الرقية ح(3529) وانظر تحفة الأشراف ح(16589) قال النووي: وسئلت عائشة عن نفث النبي (صلى الله عليه وسلم) في الرقية فقالت كما ينفث آكل الزبيب لا ريق معه- انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/182) قال ابن حجر: فائدة النفث التبرك بتلك الرطوبة أو الهواء الذي ماسه الذكر كما يتبرك بغسالة ما يكتب من الذكر- انظر فتح الباري (10/197) ش ح(5735).(1/143)
وروى الشيخان: البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري قال: انطلق نفر من أصحاب رسول الله في سفرة سافروها حتى نزلوا على حي من أحياء العرب، فاستضافوهم، فأبوا أن يضيفوهم. فلدغ سيد الحي فسعوا له بكل شيء، لا ينفعه شيء. فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعله أن يكون عند بعضهم شيء، فأتوهم، فقالوا: يا أيها الرهط إن سيدنا لدغ، وسعينا له بكل شيء لا ينفعه، فهل عند أحد منك من شيء؟ فقال بعضهم: نعم، والله إني لأرقي، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براقٍ لكم حتى تجعلوا لنا جعلا. فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق يتفل عليه، ويقرأ: الحمد لله رب العالمين، فكأنما نشط من عقال ……." وفيه إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لما ذكروا له، فقال عليه الصلاة والسلام: "وما يدريك أنها رقية؟ ثم قال: قد أصبتم، واقسموا واضربوا لي معكم سهماً"(1) .
يقول الإمام ابن القيم- رحمه الله: مربي وقت بمكة، سقمت فيه، وفقدت الطبيب والدواء ، فكنت أعالج بها (بالحمد لله رب العالمين): آخذ شربة من ماء زمزم، وأقرؤها عليها مراراً، ثم أشربه، فوجدت لذلك البرء التام، ثم صرت أعتمد على ذلك عند كثير من الأوجاع فأنتفع بها غاية الانتفاع(2) .
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ: كتاب العين: باب الرقية من العين (2/940). والبخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب النفث في الرقية ح(5749). ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب جواز أخذ الأجر على الرقية بالقرآن والأذكار ح(2201). وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب كيف الرقى ح(3900). والترمذي في سننه: كتاب الطب: باب ما جاء في أخذ الأمر على التعويذ ح(2070) قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجة في سننه: كتاب التجارات: باب أجر الراقي ح(2156).وانظر تحفة الأشراف ح(4249) و(4307).
(2) الطب النبوي لابن القيم (141).(1/144)
وليس معنى هذا ولازمه ترك التداوي والاستشفاء بالأدوية الطبيعية المادية، والإكتفاء بقراءة آيات من القرآن الكريم. فليس ذلك من الرشد في الدين، ولا من الفقه لسنن الله تعالى الكونية. ولكن الشأن هو الجمع بين هذا وذاك، والانتفاع بالأمرين، والجمع بين بذل الأسباب الحسية والمادية؛ مع الاعتماد على ما جاء به التوجيه الشرعي، وتعلق القلب بالله تعالى وحده، فهو النافع وهو رب الأسباب تبارك وتعالى.
وأما إقرار العقل لهذا التداوي فواضح؛ إذ العقل لا يحيل ذلك ولا يمنعه أبداً، كيف وقد جاء الخبر الصادق بذلك، والعقل قد صدق المخبر فيما هو أعظم من مجرد الإخبار بالاستشفاء بتلاوة بعض الآيات والسور.
ثم إنه لا يترتب على التصديق به أمر مستحيل؛ لأن العقل قد قرر أن الله سبحانه وتعالى هو المالك الفاعل المتصرف في الكون وما فيه من خلق، وهو سبحانه رب الأسباب والأدواء التي لا تشفي ولا تنفع بذاتها، بل هو الشافي والدافع لجميع الأفراد، وهو النافع والواهب للصحة والعافية، وهو الذي يحول بين الأسباب وبين مقتضياتها، وهو الذي يجعل فيها النفع ،فالاستشفاء والتداوي بتلاوة آيات وسور من القرآن على الأمراض الجسدية قررتها الشريعة السمحة، وجعلتها أسباباً شرعية صحيحة نافعة بإذن الله تعالى، كما تقررها العقول الصحيحة.
وهذا التداوي هو ما يسمى بالرقى الشرعية، وهو عنوان هذا البحث المتواضع. وهو ما سأبين بعض جوانبه إن شاء الله، والله تعالى أسأل أن ينفعنا جميعا بما جاء في كتابه الكريم من شفاء للقلوب والأبدان، وأن يهدي المسلمين لأسرار كتابه العظيم بما يمنحهم أسباب الصحة والعافية، ويسلك بهم سبل الحياة السليمة القوية، ليزدادوا تمسكاً بكتاب ربهم، وتقديراً له، وإقبالاً عليه، وإفادة منه، إنه تعالى ولي ذلك والقادر عليه.
الرقية الشرعية
تعريفها:
الرقية- بسكون القاف-(1/145)
ويقال: "رقى"- بالفتح في الماضي، "ويرقي" بالكسر في المستقبل، و"رقيت" فلاناً- بكسر القاف، "أرقيه"
ويقال: "استرقى"، أي طلب الرقية.
والرقية تجمع على رُقى.
وتقول: استرقيته، فرقاني رقية، فهو راق(1) .
ويقال: رقى الراقي رقية ورقياً، إذا عوذ ونفث في عوذته.
ويعرفها ابن الأثير: الرقية، العُوذة التي يرقى بها صاحب الآفة كالحمى والصرع وغير ذلك من الآفات(2) .
ويقول ابن منظور: والرقية: العوذة، معروفة. قال رؤبة:
فما تركا من عُوذة يعرفانها *** ولا رُقية إلا بها رقياني(3) .
وقال أيضاً: والعوذة والمعاذات والتعويذ: الرقية، يرقى بها الإنسان من فزع أو جنون، لأنه يعاذ بها، وقد عوذه. يقال عوذت فلانا بالله وأسمائه، وبالمعوذتين، إذا قلت: أعيذك بالله وأسمائه من كل ذي شر(4) .
وعرفها بعض الفقهاء: ما يرقى به من الدعاء لطلب الشفاء(5) .
وقال ابن التين: الرقي بالمعوذات وغيرها من أسماء الله تعالى الحسنى هو الطب الروحاني، إذا كان على لسان الأبرار من الخلق حصل الشفاء بإذن الله تعالى، ولما عز هذا النوع فزع الناس إلى الطب الجسماني(6) .
وجودها قبل الإسلام:
عن عمرة بنت عبد الرحمن: "أن أبا بكر الصديق دخل على عائشة وهي تشتكي، ويهودية ترقيها فقال أبو بكر ارقيها بكتاب الله"(7) .
__________
(1) الصحاح للجوهري (6/2361) والمصباح المنير للفيومي (1/236).
(2) النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (2/254).
(3) لسان العرب لابن منظور (13/332).
(4) المصدر السابق (3/499).
(5) حاشية العدوي على شرح الرسالة (1/452).
(6) فتح الباري لابن حجر (10/196) ش ح(5735).
(7) أخرجه مالك في موطئه: كتاب العين: باب التعوذ والرقية في المرض (2/943) انظر تنوير الحوالك (2/230).(1/146)
وعن ابن عباس أن ضماداً- هو ضماد بن ثعلبة الأزدي- قدم مكة وكان من أزد شنوءة وكان يرقى من هذه الريح، فسمع سفهاء أهل مكة يقولون: إن محمداً مجنون. فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي. فقال: فلقيته. فقال: "يا محمد إني أرقى من هذه الريح. وإن الله يشفي على يدي من شاء، فهل لك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الحمد لله نحمده ونستعينه……." الحديث(1) .
وعن عوف بن مالك الأشجعي قال: كنا نرقى في الجاهلية، فقلنا يا رسول الله، كيف ترى في ذلك؟ فقال: أعرضوا على رقاكم لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك(2) .
مشروعيتها:
أ- رقى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه:
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الجمعة: باب رفع الصوت في الخطبة وما يقول فيها ح(868) وابن ماجة في سننه: كتاب النكاح: باب خطبة النكاح ح(1893) والنسائي في سننه: كتاب النكاح: باب ما يستحب من الكلام عند النكاح ح(3278) وانظر تحفة الأشرافح(5586).
(2) أخرجه مالك في الموطأ (2/272 التمهيد) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك ح(2200). وأبو داود في سننه: كتاب الطب باب ما جاء في الرقى ح(3886) والحاكم في مستدركه (4/212) وقال وهذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. والطبراني في الكبير (18/49) والبيهقي في الكبرى: كتاب الضحايا: باب إباحة الرقية (9/349).(1/147)
عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة، جمع كفيه ثم نفث فيهما وقرأ: قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، ثم يمسح ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات(1) .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجان وعين الإنسان حتى نزلت المعوذات فأخذ بها وترك ما سواها (2) .
ب- رقى رسول الله صلى الله عليه وسلم غيره:
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب النفث في الرقية ح(5748) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب رقية المريض بالمعوذات والنفث ح(2192) وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب كيف الرقى ح(3902) وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب النفث في الرقية ح(3529) وانظر تحفة الأشراف ح(16589) قال النووي: وسئلت عائشة عن نفث النبي (صلى الله عليه وسلم) في الرقية فقالت كما ينفث آكل الزبيب لا ريق معه- انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/182) قال ابن حجر: فائدة النفث التبرك بتلك الرطوبة أو الهواء الذي ماسة الذكر كما يتبرك بغسالة ما يكتب من الذكر- انظر فتح الباري (10/197) ش ح(5735).
(2) أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الطب: باب ما جاء في الرقية بالمعوذتين ح(2065) وقال: هذا حديث حسن غريب والنسائي في سننه: كتاب الاستعاذة: باب الاستعاذة من عين الجان ح (5509) وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب من استرقى من العين ح(3511) وانظر تحفة الأشراف ح(4327) وانظر صحيح سنن الترمذي للألباني ح(1681).(1/148)
عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله عليه وسلم كان يعوذ بعض أهله، يمسح بيده اليمنى ويقول: "اللهم رب الناس أذهب الباس، واشف إنك الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقما"(1) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب دعاء العائد للمريض ح(5675) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب استحباب رقية المريض ح(2191) وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب في تعليق التمائم ح(3883) والترمذي في سننه: كتاب أحاديث شتى: باب في دعاء المريض ح(3576) وقال هذا حديث حسن وابن ماجة في سننه: كتاب الجنائز: باب ما جاء في ذكر مرض الرسول (صلى الله عليه وسلم) ح(1619) وانظر تحفة الأشراف ح(17638) وأخرجه أحمد في مسنده (3/267) و(4/259)و(6/42) والنسائي في اليوم والليلة ح(1042) وابن السني في اليوم والليلة ح(543) قال النووي: الحديث فيه استحباب مسح المريض باليمين والدعاء له وقد جاءت فيه روايات كثيرة صحيحة جمعتها في كتاب الأذكار انظر النووي على صحيح مسلم (14/180).(1/149)
وعن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين، ويقول: "إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق، أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة"(1) .
جـ- رسول الله صلى عليه وسلم يرقيه غيره:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان إذا اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم رقاه جبريل عليه السلام، قال: "بسم الله يبريك، ومن كل داء يشفيك، ومن شر حاسد إذا حسد، وشر كل ذي عين"(2) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب أحاديث الأنبياء: باب (10) ح(3371) وأبو داود في سننه: كتاب السنة: باب في القرآن ح(4737) وقال: "هذا القرآن ليس بمخلوق. مستدلاً على أنه لو كان مخلوقاً لما صح الاستعاذة به". وأخرجه الترمذي في سننه: كتاب الطب: باب (18) ح(2067) وقال: هذا حديث حسن صحيح وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب ما عوذ به النبي (صلى الله عليه وسلم) وما عوذ به ح(3525) وانظر تحفة الأشراف ح(5627) وأخرجه أحمد في مسنده (1/270)-136) والنسائي في اليوم والليلة ح(1007) الهامة: واحدة من الهوام وهي ذوات السموم اللامة: بتشديد الميم أي ذات لمم، واللمم كل داء يلم من خبل أو جنون أو نحوهما. أي في كل عين تصيب بسوء انظر شرح السندي على سنن ابن ماجة (4/125).
(2) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب الطب والمرض والرقى ح(2185) وانظر تحفة الأشراف ح(17746).(1/150)
وعن أبي سعيد أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا محمد اشتكيت؟ قال: نعم، قال: "بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، بسم الله أرقيك"(1) .
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب الطب والمرض والرقى ح(2186) والترمذي في سننه: كتاب الجنائز: باب ما جاء في التعوذ للمريض ح(974) وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب ما عوذ به النبي (صلى الله عليه وسلم) وما عوذ به ح(3523) وانظر تحفة الأشراف ح(4363) وأخرجه أحمد في مسنده (3/28-56) والنسائي في اليوم والليلة ح(1005) قال النووي هذا تصريح بالرقى بأسماء الله تعالى وفيه توكيد الرقية والدعاء وتكريره، وقوله من شر كل نفس قيل: يحتمل أن المراد بالنفس نفس الأدمي وقيل يحتمل أن المراد بها العين فإن النفس تطلق على العين ويقال رجل نفوس إذا كان يصيب الناس بعينه. انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/170).(1/151)
د-الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر ويندب غيره، ويرخص في الرقية: عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة. فقال: "استرقوا لها فإن بها النظرة"(1) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب رقية العين ح(5739) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة ح(2197) والبيهقي في السنن: كتاب الضحايا: باب إباحة الرقية بكتاب الله ح(9/348) وانظر شرح معاني الآثار للطحاوي (4/327) قال النووي: السفعة يعني بوجهها صفرة، وقيل سواد وقال ابن تيمية هي لون يخالف لون الوجه، وقيل أخذه من الشيطان- انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/185) قال ابن عبد البر: فيه دليل على أن العين تسرع إلى قوم فوق إسراعها إلى آخرين، وأنها تؤثر في الإنسان بقضاء الله وقدره وتصرعه في أشياء كثيرة. وإنما يسترقى من العين إذا لم يعرف العائن. وإما إذا عرف الذي أصابه بعينه فإنه يؤمر بالوضوء- التمهيد (2/269).(1/152)
وعن عثمان بن أبي العاص الثقفي أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: "ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل بسم الله- ثلاثا- وقل- سبع مرات: أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر"(1) .
وعن خولة بنت حكيم رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من نزل منزلا ثم قال: "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك(2) .
هـ- الرسول صلى الله عليه وسلم يقر غيره على الرقية:
__________
(1) أخرجه مالك في موطأه: كتاب العين: باب التعوذ والرقية من المرض (2/942) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب استحباب وضع يده على موضع الألم مع الدعاء ح(2202) وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب كيف الرقى ح(3891) والترمذي في سننه: كتاب الطب: باب (29) ح(2087) وقال هذا حديث حسن صحيح وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب ما عوذ به النبي (صلى الله عليه وسلم) وما عوذ به ح(3522) وانظر تحفة الأشراف ح(9774) وأخرجه أحمد في مسنده (6/390) والنسائي في اليوم والليلة ح(1001) قال النووي: يستحب وضع يده على موضع الألم ويأتي بالدعاء المذكور- انظر شرح للنووي على صحيح مسلم (14/189) ش ح (2202).
(2) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الذكر والدعاء: باب في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشفاء وغيره ح(2708) والترمذي في سننه: كتاب الدعوات: باب ما يقول إذا نزل منزلاً ح(3448) وقال هذا حديث حسن غريب صحيح. وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب الفزع والأرق وما يتعوذ منه ح(3547) قال النووي: وقوله "أعوذ بكلمات الله التامات". قبل معناه الكاملات التي لا يدخل فيها نقص ولا عيب. وقيل النافعة الشافية. وقيل المراد بالكلمات هنا القرآن والله أعلم انظر شرح النووي على صحيح مسلم (17/31).(1/153)
عن جابر رضي الله عنه أن آل عمرو بن حزم قالوا: يا رسول الله انه كانت عندنا رقى نرقي بها من العقرب، وإنك نهيت عن الرقى. قال: فعرضوا عليه، فقال: "ما أرى بها بأساً، من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل"(1) .
وكذلك إقراره للراقي، كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، لما رقى سيد القوم الذين استضافوهم فلم يضيفوهم. وقد تقدم ذكره وهو مروى في الصحيحين(2) .
أنواع الرقى
أ- أنواع الرقى من جهة متى تقرأ:
- أولاً: تقرأ الرقية لدفع البلاء قبل وقوعه.
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة ح(2199) وأحمد في مسنده (3/382) والبيهقي في الكبرى: كتاب الضحايا: باب إباحة الرقية (9/348) قال الألباني: وفي الحديث استحباب رقية المسلم لأخيه المسلم بما لا بأس به من الرقى، وذلك ما كان معناه معروفاً مشروعاً، وأما الرقى بما لا يعقل معناه من الألفاظ فغير جائز- انظر الصحيحة ح(472).
(2) أخرجه مالك في الموطأ: كتاب العين: باب الرقية من العين (2/940). والبخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب النفث في الرقية ح(5749). ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب جواز أخذ الأجر على الرقية بالقرآن والأذكار ح(2201). وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب كيف الرقى ح(3900). والترمذي في سننه: كتاب الطب: باب ما جاء في أخذ الأمر على التعويذ ح(2070) قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجة في سننه: كتاب التجارات: باب أجر الراقي ح(2156).وانظر تحفة الأشراف ح(4249) و(4307).(1/154)
عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين ويقول .. الحديث(1) .
وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال في أول يومه أو في أول ليله: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات- لم يضره شيء في ذلك اليوم، أو في تلك الليلة"(2) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب أحاديث الأنبياء: باب (10) ح(3371) وأبو داود في سننه: كتاب السنة: باب في القرآن ح(4737) وقال: "هذا دليل على أن القرآن ليس بمخلوق. مستدلاً على أنه لو كان مخلوقاً لما صح الاستعاذة به". وأخرجه الترمذي في سننه: كتاب الطب: باب (18) ح(2067) وقال: هذا حديث حسن صحيح وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب ما عوذ به النبي (صلى الله عليه وسلم) وما عوذ به ح(3525) وانظر تحفة الأشراف ح(5627) وأخرجه أحمد في مسنده (1/270-136) والنسائي في اليوم والليلة ح(1007) الهامة: واحدة من الهوام وهي ذوات السموم اللامة: بتشديد الميم أي ذات لمم، واللمم كل داء يلم من خبل أو جنون أو نحوهما. أي من كل عين تصيب تسوء- انظر شرح السندي على سنن ابن ماجة (4/125).
(2) أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الأدب: باب ما يقول إذا أصبح ح(5088) والترمذي في سننه: كتاب الدعوات: باب ما جاء في الدعاء إذا أصبح وإذا أمسى ح(3399) وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح. وابن ماجة في سننه: كتاب الدعاء: باب ما يدعو به الرجل إذا أصبح وإذا أمسى ح(3869) وانظر تحفة الأشراف ح(9778) وانظر صحيح سنن ابن ماجة للألباني ح(3120) وتمام الحديث: وكان إبان قد أصابه طرف من الفالج، فجعل الرجل ينظر إليه فقال له إبان: ما تنظر إلى؟ أما الحديث كما قد حدثتك ولكني لم أقله يومئذ، ليمضي الله علي قدره.(1/155)
وعن أبي مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه"(1) .
وتقدم ذكر حديث خولة بنت حكيم فيمن إذا نزل منزلاً قرأ أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق مرفوعاً(2) .
ثانياً- تقرأ الرقية لدفع البلاء بعد وقوعه.
وقد تقدم ذكر طائفة من الأحاديث المرفوعة الصحيحة في هذا المعنى عن عائشة في رقية جبريل النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه وشكواه، وعن عثمان بن أبي العاص في وضع اليد على موضع الألم من الجسد ثم القراءة ونحوها. مما يفيد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ورقيته لنفسه، ورقيته لغيره، ورقية غيره له، وترغيب النبي في ذلك، ووصيته لمن وجد ألما أونزل به بلاء(3) .
ب- أنواع الرقى من جهة ما يقرأ به:
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب أفضل القرآن: باب فصل سورة البقرة ح(5009) ومسلم في صحيحه: كتاب صلاة المسافرين: باب فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة ح(808) وأبو داود في سننه: كتاب الصلاة: باب تحزيب القرآن ح(1397) والترمذي في سننه: كتاب فضائل القرآن: باب آخر سورة البقرة ح(2890) وقال: هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجة في سننه: كتاب إقامة الصلاة: باب ما جاء فيمن يرجى أن يكفي من قيام الليل ح(1369) وانظر تحفة الأشراف ح(9999).
(2) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الذكر والدعاء: باب في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشفاء وغيره ح(2708) والترمذي في سننه: كتاب الدعوات: باب ما يقول إذا نزل منزلاً ح(3448) وقال هذا حديث حسن غريب صحيح. وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب الفزع والأرق وما يتعوذ منه ح(3547). قال النووي: وقوله "أعوذ بكلمات الله التامات". قبل معناه الكاملات التي لا يدخل فيها نقص ولا عيب. وقيل النافعة الشافية. وقيل المراد بالكلمات هنا القرآن والله أعلم انظر شرح النووي على صحيح مسلم (17/31).
(3) راجع ما تقدم ذكره من نصوص في موضوع مشروعية الرقية.(1/156)
أولاً: الرقية بالقرآن الكريم.
ثبت فيما تقدم ذكره قراءة سورة الفاتحة، كما في حديث النفر الذي انطلقوا في سفرة، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم للراقي قراءة سورة الفاتحة وإنها رقية(1) .
وثبت كذلك أن سورة البقرة رقية ونافعة، كما في حديث أبي أمامه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اقرأوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة"(2) (3) .
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ: كتاب العين: باب الرقية من العين (2/940). والبخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب النفث في الرقية ح(5749). ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب جواز أخذ الأجر على الرقية بالقرآن والأذكار ح(2201). وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب كيف الرقى ح(3900). والترمذي في سننه: كتاب الطب: باب ما جاء في أخذ الأجر على التعويذ ح(2070) قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجة في سننه: كتاب التجارات: باب أجر الراقي ح(2156).وانظر تحفة الأشراف ح(4249) و(4307).
(2) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب صلاة المسافرين: باب فضل القرآن وسورة البقرة ح(804) والترمذي في سننه: كتاب فضل القرآن: باب ما جاء في سورة آل عمران ح(2892) وقال: هذا حديث حسن غريب وانظر تحفة الأشراف ح(4931) قال النووي: سميت الزهراوين لنورهما وعظم أجرهما.
(3) قوله (صلى الله عليه وسلم) "فإنهما يتأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان" قال أهل اللغة: الغمامة والغياية كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه من سحابة وغيره ونحوهما، قال العلماء: المراد أن ثوابهما يأتي كغمامتين. وقوله (صلى الله عليه وسلم) أو كأنهما فرقان من طير صواف أي قطيعان وجماعتان انظر شرح النووي على صحيح مسلم (6/89-91).(1/157)
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة"(1) .
وثبت كذلك أن قراءة آية الكرسي من الرقى النافعة بإذن الله تعالى، كما في حديث أبي هريرة حيث كان يحرس الصدقة، وفيه.. إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي- الله لا اله إلا هو الحي القيوم- حتى تختم الآية، فإنه لا يزال عليك من الله حافظ حتى تصبح- وفيه إقرار النبي صلى الله عليه وسلم أنها رقية(2) .
وثبت كذلك أن قراءة المعوذات من الرقى النافعة، وقد تقدم ذكر النصوص الدالة على ذلك من قول النبي وفعله صلى الله عليه وسلم، ومن فعل غيره له(3) .
ثانياً: الرقية بالأدعية والأذكار.
وقد ثبت ذلك كما في أحاديث وأدعية النبي صلى الله عليه وسلم، وأمره ووصيته لأصحابه. وقد تقدم ذكر طائفة لا بأس بها منها (4) .
حكم رقى الجاهلية وأهل الكتاب
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب صلاة المسافرين: باب استحباب صلاة النافلة في البيت ح(780) والترمذي في سننه: كتاب فضائل القرآن: باب ما جاء في فضل سورة البقرة ح(2886) وقال: هذا حديث حسن صحيح وانظر تحفة الأشراف ح(12769) وأخرجه أحمد في مسنده (2/284).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الوكالة: باب إذا وكل رجلا فترك الوكيل شيئاً فأجازه الموكل فهو جائز ح(2311) والبيهقي في دلائل النبوة (7/107) ونقول في قوله (صلى الله عليه وسلم) "لا يزال عليك من الله حافظ" أي أن الله يرسل إليك ملكاً يحرسك حتى تصبح. ولا يقربك شيطان: فالشيطان نفسه يعلم أنه لا يستطيع أن يقترب من الذي قرأ آية الكرسي عند نومه. فصدق النبي (صلى الله عليه وسلم) الشيطان على هذه المعلومة.
(3) راجع ما تقدم من نصوص في موضوع مشروعية الرقية.
(4) راجع ما تقدم من نصوص في موضوع مشروعية الرقية.(1/158)
ذكر الإمام ابن حجر العسقلاني رحمه الله، قال: .. وقال الربيع: سألت الشافعي عن الرقية، فقال: لا بأس أن يرقي بكتاب الله وما يعرف من ذكر الله. قلت: أيرقي أهل الكتاب المسلمين؟ قال: نعم، إذا رقوا بما يعرف من كتاب الله وبذكر الله. ثم (قال: وفي الموطأ أن أبا بكر قال لليهودية التي كانت ترقي عائشة ارقيها بكتاب الله).
وقال أيضاً: وقال المازري: اختلف في استرقاء أهل الكتاب، فأجازها قوم، وكرهها مالك لئلا يكون مما بدلوه. وأجاب من أجاز بأن مثل هذا يبعد أن يقولوه، وهو كالطب سواء، كان غير الحاذق لا يحسن أن يقول والحاذق يأنف أن يبدل حرصاً على استمرار وصفه بالحذق لترويج صناعته. والحق أنه يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال (1) .
ويقول الدكتور على بن نفيع العلياني: وفى قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: "ارقيها بكتاب الله"، يعني ارقيها بكتاب الله بما في التوراة. وفى هذا دلالة على أن اليهود إنما يغيرون الأحكام والعقائد، وأما الرقى، فإنهم لم يغيروها حفاظا على فائدتها. فإنها إذا غيرت لا تنفع، هذا الذي يظهر، والله اعلم. وإلا لو كانت مما دخله التحريف لما أمنها أبو بكر الصديق على الرقية(2) .
حكم الرقية،وشروطها، وضوابطها
ذكر جماعة من العلماء شروطاً لا بد من مراعاتها لتكون الرقية جائزة مقررة شرعاً، وللانتفاع بها من جانب آخر:
أولاً: أن لا يعتقد أنها تنفع بذاتها دون الله. فإن اعتقد ذلك فإنها محرمة لما فيها من الشرك. فالواجب اعتقاد أنها سبب لا تنفع إلا بإذن الله عز وجل(3) .
__________
(1) فتح الباري لابن حجر (10/197) ش ح(5735).
(2) انظر الرقى على ضوء عقيدة أهل السنة والجماعة لعلي بن نفيع العلياني (ص 8).
(3) انظر القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح العثيمين (1/184).(1/159)
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "والأدعية والتعوذات بمنزلة السلاح، والسلاح يضار به لا بحده فقط، فمتى كان السلاح تاماً لا آفة فيه، والساعد قوياً، والمانع مفقوداً، حصلت به النكاية في العدو، ومتى تخلف واحد من هذه الثلاثة تخلف التأثير"(1) .
ثانياً: ألا تكون الرقية مما يخالف الشرع، كأن تتضمن دعاء غير الله، أو استغاثة بالجن، وما أشبه ذلك. فإنه محرم لما فيه من الشرك (2) .
فلا تكون برقية شركية لحديث: "لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك"(3) .
ولا تكون برقية سحرية لحديث: "ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر له"(4) .
__________
(1) انظر الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم (ص 25).
(2) انظر القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح العثيمين (1/185).
(3) أخرجه مالك في الموطأ (2/272 التمهيد) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك ح(2200) وأبو داود في سننه: كتاب الطب باب ما جاء في الرقى ح(3886) والحاكم في مستدركه (4/212) وقال وهذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. والطبراني في الكبير (18/49) والبيهقي في الكبرى: كتاب الضحايا: باب إباحة الرقية (9/349) .
(4) هذا جزء من حديث أورده المنذري في الترغيب ح(4467) وقال رواه البزار بإسناد جيد ورواه هو والطبراني من حديث ابن عباس بإسناد حسن. قال الهيثمي في المجمع (5/117) رواه البزار ورجاله رجال الصحيح خلا اسحق بن الربيع وهو ثقة. قال الألباني في الصحيحه ح(2195) أخرجه البزار (ص389- زوائده)، والطبراني في الكبير (ق 73/1- منتقى منه) عن اسحق بن الربيع بن حمزة العطار عن الحسن عن عمران بن حصين… انظر صحيح الجامع للألباني ح(5311).(1/160)
ولا تكون من عراف ولا من كاهن ولو لم يكن ساحراً لحديث: "من أتى عرافا أو كاهنا، فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم"(1) .
ولا تكون بعبارات محرمة كالسب والشتم واللعن، وغير ذلك لحديث: "إن الله خلق الداء والدواء، فتداووا، ولا تداووا بحرام"(2) .
ثالثاً: أن تكون بكلام عربي، وتكون مفهومة معلومة، فإن كانت من جنس الطلاسم والشعوذة فإنها لا تجوز(3) .
فلا تكون بالحروف المقطعة، والكلمات المبهمة؛ وإن كانت باللغة العربية. ولا تكون على هيئة محرمة، كأن يتعمد الرقية في الحمام، أو يكتب حروف أبا جاد، أو بالنظر في النجوم وما شابه ذلك.
قال ابن عباس رضي الله عنه في قوم يكتبون أبا جاد، وينظرون في النجوم: "ما أدرى، من فعل ذلك له عند الله خلاق"(4) .
__________
(1) رواه الإمام أحمد (2/429)، والحاكم في مستدركه (1/8). وقال: هذا حديث صحيح على شرطهما ولم يخرجاه. وأخرجه الترمذي بأتم من هذا ح(135). والبيهقي في الكبرى (8/35). وصححه العراقي في الأمالي كما في الفيض (2/404) ونقل عن الذهبي أنه قوي إسناده. وانظر صحيح سنن الترمذي للألباني ح(135).
(2) ذكره الهيثمي في المجمع (5/86) وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات. وحسنه الألباني في الصحيحة ح(1633) وقال: هذا إسناد حسن ورجاله ثقات معروفون غير ثعلبة هذا، ذكره ابن حبان في (الثقات) وروى عنه جمع، فهو حسن الحديث إن شاء الله تعالى إذا لم يخالف. وله شواهد ذكرها الألباني في السلسلة الصحيحة ح(1633).
(3) انظر القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح العثيمين (1/185).
(4) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11/26) ح(19805) وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من اقتبس علماً من النجوم، اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد- أخرجه أبو داود في سننه كتاب الطب: باب في النجوم ح(3905) وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود ح(3305) والبيهقي في الكبرى (8/136).(1/161)
يقول الإمام الخطابي رحمه الله: "ما كان من الرقى مفهوم المعنى، وكان فيه ذكر الله تعالى، فإنه مستحب، متبرك به"(1) .
ويقول الإمام النووي رحمة الله: "الرقي بآيات القرآن وبالأذكار المعروفة لا نهي فيه، بل هو سنة"(2) .
ويقول الإمام ابن حجر رحمه الله: "وقد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط: أن يكون بكلام الله تعالى وبأسمائه وصفاته، وباللسان العربي، أو بما يعرف معناه من غيره، وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بذات الله تعالى، واختلفوا في كونها شرطا، والراجح أنه لابد من اعتبار الشروط المذكورة"(3) .
هل الرقية عامة لكل داء أم مخصوصة
يقول الإمام النووي رحمه الله في شرحه لحديث أنس في الرخصة في الرقية من العين والحمة والنملة: "ليس معناه تخصيص جوازها بهذه الثلاثة وإنما معناه أنه سئل عن هذه، فأذن فيها. ولو سئل عن غيرها لأذن فيه. وقد أذن لغير هؤلاء، وقد رقى هو صلى الله عليه وسلم في غير هذه الثلاثة"(4) .
__________
(1) انظر معالم السنن للخطابي (5/362) ش ح(3883).
(2) انظر شرح النووي على مسلم (14/169) ش ح(2186).
(3) انظر فتح الباري لابن حجر (10/195) ش ح(5735).
(4) انظر شرح النووي على مسلم (14/185) ش ح(2196).(1/162)
ويقول الإمام ابن حجر في شرحه لحديث أنس في الإذن في الرقية من الحمة والأذن: "وأما رقيه الأذن، فقال ابن بطال: المراد وجع الأذن، أي رخص في رقية الأذن إذا كان بها وجع، وهذا يرد الحصر الماضي في الحديث المذكور في "باب من اكتوى"، حيث قال: "لا رقية إلا من عين أو حمة". فيجوز أن يكون رخص فيه، بعد أن منع منه أو يحتمل أن يكون المعنى لا رقية أنفع من رقية العين والحمه، ولم يرد نفي الرقى من غيرهما(1) . وقال أيضاً في شرحه لحديث ابن عباس في المرأة التي كانت تصرع وتنكتشف: "وفيه أن علاج الأمراض كلها بالدعاء، والالتجاء إلى الله أنجح وأنفع من العلاج بالعقاقير، وأن تأثير ذلك وانفعال البدن عنه أعظم من تأثير الأدوية البدنية.. (2) .
ونقل صاحب الفتح الرباني عن الإمام النووي في حديث أبي سعيد عند قوله: وما أدراك أنها رقيه: "فيه التصريح بأنها رقية، فيستحب أن يقرأ بها على اللديغ والمريض، وسائر أصحاب الأسقام أو العاهات(3) .
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله في بيان هديه صلى الله عليه وسلم في العلاج العام لكل شكوى بالرقية الإلهية: "فما تقولون في الحديث الذي رواه أبو داود"؛ "لا رقيه إلا من عين أو حمة"- والحمه فوق السموم كلها. فالجواب أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد نفي جواز الرقية في غيرها، بل المراد به: لا رقية أولى وأنفع منها في العين والحمة، ويدل عليه سياق الحديث. فإن سهل بن حنيف قال لما أصابته العين: أو في الرقي خير؟ فقال: لا رقية إلا في نفس أو حمة. ويدل عليه سائر أحاديث الرقى العامة والخاصة(4) .
__________
(1) انظر فتح الباري لابن حجر (10/173) ش ح(5719-5720-5721.
(2) انظر فتح الباري لابن حجر (10/115) ش ح(5652).
(3) انظر الفتح الرباني للساعاتي (17/184) ش ح(142).
(4) انظر زاد المعاد لابن القيم (4/175).(1/163)
ويقول شيخنا محمد بن صالح العثيمين- حفظه الله- في تعليقه على باب ما جاء في الرقى والتمائم من كتاب التوحيد للإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "وظاهر كلام المؤلف: أن الدليل لم يرخص بجواز القراءة إلا في هذين الأمرين (العين، والحمة)، ولكن ورد بغيرهما، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينفخ على يديه في منامه بالمعوذات ويمسح بهما ما استطاع من جسده، وهذا من الرقية، ليس عيناً أو حمة. ولهذا يرى بعض أهل العلم الترخيص في الرقية من القرآن للعين والحمة، وغيرهما عامة، ويقول: إن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا رقية إلا من عين أو حمة"؛ أي لا يُطلب الاسترقاء إلا من العين، والحمة. فالمصيب بالعين "العائن"، يطلب منه أن يقرأ على المعيون"(1) .
هل الرقية تنافي التوكل؟
__________
(1) انظر القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح العثيمين (1/184).(1/164)
النصوص في تقرير الرقية الشرعية كثيرة، كما تقدم ذكر طائفة لا بأس بها فيما سبق. وهذا الاستفهام منشؤه، حديث عرض الأمم على النبي صلى الله عليه وسلم. عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد. إذ رفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب"…. الحديث؛ وفيه…."هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون .. (1) .
نظر بعض الأقوام على أن الحديث يفيد التنافي بين الرقية والاستشفاء والعلاج، وبين التوكل على الله تبارك وتعالى. والحق أن الأصل هو جمع النصوص الشرعية وعدم ضرب بعضها ببعض، ثم الرجوع إلى أقوال أهل العلم والفضل وفهمهم وتطبيقهم وجمعهم بين النصوص الشرعية، من الصحابة ومن تبعهم بإحسان.
إن الرقية قد تثبت مشروعيتها، وأنها من الأسباب التي جعلها الله عز وجل نافعة بإذنه في التداوي والاستشفاء من الأمراض. والأسباب إما أن تكون شرعية، أي مقررة في الشرع الحنيف ومنصوصاً عليها، وإما أن تكون حسية مادية محجوبة عند أهل الحل والعقد والاختصاص.
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب من لم يرق ح(5752) ومسلم في صحيحه: كتاب الإيمان: باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب ح(216) والترمذي في سننه: كتاب صفة القيامة: باب (81) ح(2454) وقال هذا حديث حسن صحيح. وأحمد في مسنده (1/271) وقال الهيثمي في المجمع (10/405) رجال أحمد والبزار رجال الصحيح. وأخرجه الطبراني في الكبير (18/23) والبيهقي في الكبرى: كتاب الضحايا: باب ما جاء في استحباب ترك الاكتواء والاسترقاء (9/341) والبغوى في شرح السنة (15/135) ح(4322).(1/165)
وأما التوكل على الله عز وجل عند أهل السنة والجماعة؛ فهو بذل الأسباب المشروعة في جلب المنافع ودفع المضار عن النفس والغير، مع اعتماد القلب في حصول نتائج هذه الأسباب على الله سبحانه وتعالى وحده، إذ هو رب الأسباب وبيده الخير كله، وهو النافع وحده لا إله إلا هو.
وبهذا يتبين أنه لا منافاة بين بذل الأسباب والسعي في تحصيلها بما هو مشروع، وبين التوكل على الله تعالى، واعتقاد القلب واطمئنانه إليه جل وعلا في حصول المنافع ودفع المضار. بل إن في بذلها كمال التوكل على الله وامتثال أمره. فقد جاءت النصوص الكثيرة في الكتاب والسنة تأمر ببذل الأسباب والسعي الجاد في تحصيلها.
يقول الإمام ابن حجر رحمه الله في شرحه لحديث ابن عباس: "تمسك بهذا الحديث من كره الرقى والكي من سائر الأدوية، وزعم أنهما قادحان في التوكل دون غيرهما. وأجاب العلماء عن ذلك بأجوبة:
أحدهما: قال الطبري والمازري وطائفته، إنه محمول على من جارى اعتقاد الطبائعيين في أن الأدوية تنفع بطبعها، كما كان أهل الجاهلية يعتقدون. وقال غيره: الرقى التي يحمد تركها ما كان من كلام الجاهلية، ومن الذي لا يعقل معناه لاحتمال أن يكون كفراً؛ بخلاف الرقي بالذكر ومعناه ونحوه. وتعقبه عياض وغيره بأن الحديث يدل على أن للسبعين ألفاً مزية على غيرهم، وفضيلة انفردوا بها عمن شاركهم في أصل الفضل والديانة. ومن كان يعتقد أن الأدوية تؤثر بطبعها أو يستعمل رقى الجاهلية ونحوها فليس بمسلم. فلم يسلم هذا الجواب.
ثانيها: قال الداودي وطائفة: إن المراد بالحديث، الذين يجتنبون فعل ذلك في الصحة خشية وقوع الداء، وأما من يستعمل الدواء بعد وقوع الداء به فلا!! وقد قدمت هذا عن ابن قتيبة وغيره في باب من اكتوى، وهذا اختيار ابن عبد البر، غير أنه معترض بما قدمته من ثبوت الاستعاذة قيل وقوع الداء.(1/166)
ثالثها: قال الحليمي: يحتمل أن يكون المراد بهؤلاء المذكورين في الحديث من غفل عن أحوال الدنيا وما فيها من الأسباب المعهودة لدفع العوارض، فهم لا يعرفون الاكتواء ولا الاسترقاء، وليس لهم ملجأ فيما يعتريهم إلا الدعاء والاعتصام بالله والرضا بقضائه، فهم غافلون عن طب الأطباء، ورقى الرقاة، ولا يحسنون من ذلك شيئاً، والله أعلم.
رابعها: أن المراد بترك الرقي والكي الاعتماد على الله في دفع الداء، والرضا بقدره، لا القدح في جواز ذلك لثبوت وقوعه في الأحاديث الصحيحة، وعن السلف الصالح. لكن مقام الرضا والتسليم أعلى من تعاطي الأسباب، إلى هذا نحا الخطابي ومن تبعه.
قال ابن الأثير: هذا من صفة الأولياء المعرضين عن الدنيا وأسبابها وعلائقها، وهؤلاء خواص الأولياء، ولا يرد على هذا وقوع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، فعلاً وأمراً، لأنه كان في أعلى مقامات العرفان ودرجات التوكل ، فكان ذلك منه للتشريع وبيان الجواز، ومع ذلك فلا ينقص ذلك من توكله، لأنه كامل التوكل
يقيناً، فلا يؤثر فيه تعاطي الأسباب شيئاً بخلاف غيره(1) .
وقال الإمام النووي رحمه الله في شرحه الحديث، وبعد أن ذكر قول الخطابي: "والظاهر من معنى الحديث ما اختاره الخطابي، ومن وافقه كما تقدم، وحاصله أن هؤلاء كمل تفويضهم إلى الله عز وجل." (2) .
وقال الإمام ابن تيمية رحمه الله بعد ذكره لحديث ابن عباس: "فهؤلاء من أمته، وقد جمعهم بأنهم لا يسترقون، والاسترقاء أن يطلب من غيره أن يرقيه، والرقية نوع من الدعاء، وكان صلى الله عليه وسلم يرقى نفسه وغيره، ولا يطلب من أحد أن يرقيه.." (3) .
__________
(1) انظر فتح الباري لابن حجر (10/211-212) ش ح(5752).
(2) انظر شرح النووي على مسلم (3/91) ش ح(374).
(3) انظر مجموع الفتاوي لابن تيمية (1/328).(1/167)
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: "فقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات، وإبطال قول من أنكرها، والأمر بالتداوي، وأنه لا ينافي التوكل كما لا ينافيه فيه دفع داء الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادهما، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدراً وشرعاً، وأن تعطليها يقدح في مباشرة التوكل نفسه، كما يقدح في الأمر والحكمة، ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى من التوكل، فإن تركها عجز ينافى التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلاً للأمر، والحكمة، والشرع؛ فلا يجعل عجزه توكلاً، ولا توكله عجزاً"(1) .
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ رحمه الله في شرحه لحديث ابن عباس:
إنما المراد أنهم يتركون الأمور المكروهة مع حاجتهم إليها توكلاً على الله، كالاسترقاء والاكتواء، فتركهم لها ليس لكونها سبباً، ولكن لكونها سبباً مكروهاً؛ لاسيماً المريض يتشبث بما يظنه سبباً لشفائه بخيط العنكبوت. أما مباشرة الأسباب نفسها، والتداوي على وجه لا كراهية فيه، فغير قادح في التوكل، فلا يكون تركه مشروعاً، كما في الصحيح عن أبى هريرة مرفوعاً، "ما أنزل الله من داء إلا وأنزل له شفاء"(2) .
__________
(1) انظر تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (111).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء ح(5678) وأحمد في مسنده (1/377).(1/168)
فالحاصل أنه يتعين على الإنسان أن يبذل الأسباب التي شرعها الله ورسوله، أو التي نصبها الله قدراً في تحصيل منافعه ودفع المضار عن نفسه وعن غيره. وذلك لا ينافى التوكل، بل يحققه ويكمله. وأما ما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنه فحاصل كلام العلماء فيه التفريق أولاً بين الذين يرقون أنفسهم أو غيرهم، وبين الذين يسترقون، أي يطلبون الرقية من غيرهم، ثم ثانياً: أنه بيان ووصف لطائفة من هذه الأمة بقوة اعتمادهم وتعلقهم بالله تعالى وحده في حصول المنافع ودفع المضار، وبعزة نفوسهم وعدم التذلل وسؤال غير الله، وبكمال إيمانهم وتعلق قلوبهم بالله، ومخافة التعلق بغيره من الأسباب والأشخاص، وبكمال استسلامهم لقضاء الله وقدره وتلذذهم بالبلاء في جنب الله تعالى. وهذا كله لا يعني ولا يلزم منه ترك التداوي وترك الإحسان إلى الناس بإيصال الخير لهم، ودفع الشر عنهم.
الخاتمة
تقرر مما سبق ذكره ونقله إباحة وإجازة الرقى، واستحبابها على حسب الحاجة إليها ووفق الضوابط الشرعية لاجتناب الوقوع في المحاذير الشرعية من التعلق بغير الله، واعتقاد الانتفاع بغيره عز وجل مما هو طريق الشرك الذي هو أعظم ما عصي الله تعالى به.
ومعلوم أن ما كان مباحاً وجائزاً، وربما مستحباً أيضاً فإن أخذ الأجرة عليه تابع لأصل الفعل، فحكم أخذ الأجرة والتكسب فرع حكم الرقية والتداوي.
ولكن ما نشاهده اليوم من كيفيات متعددة تتم بها الرقية، وهي قائمة على التفرغ لهذا العمل واتخاذه حرفة ومهنة، واشتهار أشخاص يقومون بهذا العمل، واشتهار عيادات متخصصة في هذا النوع من التداوي حتى ازدحم الناس على أبواب هذه العيادات، وتعلق كثير منهم ببعض القراء دون النظر والاعتبار بالمقروء، الأمر الذي ترتب عليه كثير من المفاسد من أهمها:(1/169)
1- اعتقاد كثير الناس خصوصية معينة على القاريء الذي يزدحم عليه الناس؛ مما يسبب الغلو بالقاريء على حساب المقروء. والأصل في الشريعة سد الذرائع التي قد تفتح باب شر وضلال على أهل الإسلام.
2- عدم ورود مثل هذه الكيفيات، واتخاذ الرقية حرفة لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه، ولا عن أحد من أهل العلم والفضل رغم وجود الحاجة، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، والأصل متابعتهم والاقتداء بهم.
3- فتح باب شر للقاريء إذا رأى ازدحام الناس عليه فيصاب بالعجب، ويظن في نفسه ما فيه فتنتها- وقد تزيد الشياطين في هذه الفتنة حين تنطق وتعلن خوفها وفزعها من هذا القاريء استدراجاً وفتنة له.
ورضي الله عن عمر في سده لهذا الباب حين قال لأُبَّي رضي الله عنه وحوله جماعة من أتباعه: "أما علمت أنها فتنة للمتبوع ومذلة للتابع"؟.
ولهذا كان بعض من اشتهر بإجابة الدعوة من السلف يخفون أنفسهم ولم يزدحم الناس على أبوابهم. وفي قصة أُوَيْسٍ القرني عظة وعبرة في مخافة الفتنة وسد أبوابها ووسائلها صيانة للنفس والدين.
4- انتشار هذه الظاهرة في مجتمعاتنا اليوم لما تدره من أموال على المتفرغ وغيره، قد تفتح بابا للمشعوذين والدجالين وأصحاب النفوس المريضة وطلاب الكسب غير المشروع في فتح عيادات واستقبال الناس والعامة.
5- يتوهم كثير من الناس أن هذه الطريقة، وهي التردد على هذه العيادات هي طريقة الرقى الشرعية، فيظل يطلبها ويسترقي غيره، وتتعطل بذلك الطريقة الشرعية وهي رقية الإنسان نفسه، والالتجاء بصدق إلى الله عز وجل، الأمر الذي يؤدى إلى تعلق المريض بغير الله ولجوئه إليه واطمئنان قلبه إليه؛ مما ينافي توكله على الله تعالى وحده، ومن ثم ينقص توحيده أو ينقضه تماماً.
وقد سئل شيخنا الشيخ صالح بن فوزان الفوزان في محاضرة له عن فتح عيادات خاصة للقراءة. فأجاب حفظة الله:(1/170)
"هذا لا يجوز لأنه يفتح باباً للفتنه وباباً لاحتيال المحتالين، وما كان هذا من عمل السلف أن يفتحوا دوراً أو محلات للقراءة. وأن التوسع في هذا يحدث شراً، ويدخل فيه من لا يحسنه، لأن الناس يجرون وراء الطمع، ويحبون جلب الناس إليهم، ولو بعمل أشياء محرمة، ومن يأمن الناس؟ ولا يقال: هذا رجل صالح، لأن الإنسان يفتن والعياذ بالله، ولو كان صالحاً. ففتح هذا الباب لا يجوز ويجب إغلاقه.
هذا والله أسأل أن يوفق الجميع لما يحبه يرضاه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا وآله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
http://www.islamset.com/arabic/ahip/altashfe/ALNOR.htm
الرقية
في مجال الاستشفاء بالقرآن والسنة
الأستاذ الدكتور محمد الأحمدي بالنور
تمهيد
عن أهمية الرقية وضرورتها:
عرف الإنسان -عبر تاريخه المديد- قصر نظره، وقلة درايته، فيما يتعلق بغده ومستقبله، كما عرف قصور طاقاته في حاضره عن تلبية جميع حاجاته، أو تحقيق عامة غاياته، في الوقت الذي قد لا يكون منه أي تقصير في اتخاذ ما يتاح له من وسائل وآليات يدرك بخبرته أو ثقافته أنها تمضي معه إلى ما يتغيا بها من غاية، أو تقضي به لما يطمح إليه من نتيجة.
عرف الإنسان ذلك، وأدرك -مع ذلك- أن الأسباب لا تصل بالمرء إلى مسبباتها بذاتها، ولا بإرادة الإنسان وحدها، وأنه ما دام لم يخلق نفسه، وليس له الأمر في تدبير الكون من حوله، فبدهي أن يكون الأمر في ذلك أمر من خلق كل شيء فقدره تقديراً.
وبدهي كذلك -أن لا يكون الأمر أمر اتخاذ أسباب فحسب، وأن لا تكون ثمت حتمية بين اتخاذ الأسباب، وبين ما قد ينشأ عنها من مسببات.
كما أن الأمر ليس أمر مشيئة الإنسان وحده مهما اجتمع معه من خلق، أو احتشد له من جند، أو تيسر له من نفوذ أو تهيأ له من علم، أو توَّفر له من خبرة -إلا أن يشاء الله.
ليس بمشيئة الإنسان وحدها:(1/171)
فليس بمشيئة الإنسان وحدها، ولا بعلمه وحده، ولا نفوذه وحده يمضى أمر الحياة والأحياء: (وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيما) (1) .
والطبيب مع المريض:
إن الطبيب يعالج مريضه مجتهداً بعلمه وخبرته وآلياته في انتقاء أنجع الوسائل؛ توخياً لشفائه، ومع ذلك يبقى أمر الشفاء، ونجاح هذا العلاج بخصوصه، مع هذا المريض بالذات بيد الله وحده، وحسبما يشاء سبحانه.
ومنذ الخطوة الأولى:
بل إنه منذ الخطوة الأولى في العلاج يكون التوفيق الإلهي للطبيب هو أساس نجاحه في علاج مريضه إن شاء الله أن يُجرى شفاءه على يده، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
(ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين) (2) .
والمرء مجزىٌّ وإن لم ينجز:
وحسب المرء أن يُجزى بما سعى، وبما نوى، وإن لم يتم له ما أراد: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"(3) .
(وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى) (4) . (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) (5) .
الأمر في تحقيق الغاية:
__________
(1) سورة الإنسان: (30) .
(2) سورة الأعراف: (54) .
(3) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب بدء الوحي: باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ح(1). ومسلم في صحيحه: كتاب الإمارة: باب قوله: (صلى الله عليه وسلم) إنما الأعمال بالنية ح (1907). وأبو داود في سننه: كتاب الطلاق: باب فيما عني به الطلاق والنيات ح(2201) والترمذي في سننه: كتاب فضائل الجهاد: باب ما جاء فيمن يقاتل رياء وللدنيا ح(1653) وقال: هذا حديث حسن صحيح. والنسائي في سننه: كتاب الطهارة باب النية في الوضوء ح(75). وابن ماجه في سننه: كتاب الزهد: باب النية ح(4227) وانظر تحفة الأشراف ح(10612) والبيهقي في الكبرى (1/298).
(4) سورة النجم: (39-41).
(5) سورة الزلزلة: (7-8).(1/172)
وحسب المرء -كذلك- أن يعلم أن الأمر في تحقيق الغاية، وإنجاز مراد الإنسان هو أمر الإرادة الكونية العليا، وشأن القدرة الإلهية العظمى بما لله سبحانه من علم محيط، وحكمة حكيمة:
(إنا كل شيء خلقناه بقدر) (1) .
(الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما) (2) .
التجاء الإنسان إلى الله يستعينه:
ومن هنا استوفز الإنسان -دوماً- إلى الله عز وجل؛ يستعينه لتحقيق آماله، ويدعوه -تضرعاً وخفية- مستعيذاً به من أذى كائن لا وسيلة له إلى معالجته، أو محذور يخشى أن يكون، لا حيلة معه في مواجهته.
الإنسان والرقية:
وعرف الإنسان -مع هذا وذاك- طريقه إلى التعاويذ والرقى: هُدى إلى الحق فيها من هُدى، وضل عن سنتها من ضل، وابتدع فيها من ابتدع.
الأنبياء والرقية:
وكان دور الأنبياء والمرسلين في هذا المجال مع بنيهم وأقوامهم ومن أرسلوا إليهم أن يعرفوهم ضرورتها وسنتها، وأن يمهدوا لذلك بإعلامهم بما يلي:
1- أن لا إله إلا الله الذي له وحده الخلق والأمر، وبيده -وحده- النفع والضر، وله -وحده- القدرة المطلقة التي لا يعجزها شيء والعلم المحيط الذي لا يندّ عنه شيء، والإرادة النافذة، والأمر المكون لكل ما يريد -سبحانه- أن يكون… (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون) (3) .
(وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم) (4) .
1- أن تفرده -سبحانه- بالألوهية والربوبية والإيجاد والتدبير، والإعانة والرعاية، والملك والسلطان: يقتضي إفراده -سبحانه- بالعبادة والاستعانة؛ مادام هو المعين والناصر والرزاق والشافي والمربي والحافظ.
__________
(1) سورة القمر: (49).
(2) سورة الطلاق: (12).
(3) سورة يس: (82).
(4) سورة يونس: (107).(1/173)
2- أنه -لهذا وذاك- ينبغي أن لا يفصل أخذ المرء في الأسباب وقد أمر بها -عن مقتضي إيمانه بالله ومعرفته به، وذلك بالاعتماد عليه -سبحانه- في إبلاغ الأسباب غاياتها، فما شاء الله كان، وما لا يشاؤه من ذلك لا يكون.
3- أن هذا وذاك مرتبط بالاعتقاد الراسخ لدى المؤمن أن ما يتم -بعدئذ من تحقق الغاية إنما هو بفضل الله ورحمته، وليس بمجرد علم الإنسان أو سياسته؛ ولهذا يشكر المؤمن ربه على ما حققه له أو آتاه من فضله، ويتم هذا في مجال الاستشفاء بعد أن يضرع إلى ربه أن يشفيه، أو يجري الشفاء على يده إن كان طبيباً أو راقياً.
إعلان إبراهيم بعقيدة التوحيد وما تقتضيه:
ومن قديم هتف إبراهيم عليه السلام بهذه الحقيقة الإيمانية الباهرة، وهو يحدث عن رب العالمين.
قال فيما يحكي القرآن الكريم عنه:
(الذي خلقني فهو يهدين. والذي هو يطعمني ويسقين. وإذا مرضت فهو يشفين. والذي يميتني ثم يحيين. والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين) (1) .
الأسلوب أسلوب قصر:
وبيّن -هنا- أن الأسلوب أسلوب قصر، يفيد تفرد الله سبحانه بكل ما ذكر من أمر؛ فمن له الخلق: له الأمر.
(ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين) (2) .
ماذا يريد إبراهيم عليه السلام أن يقول؟
وكأن إبراهيم عليه السلام يريد ليقول: إن رب العالمين الذي تفرد بخلقي في أحسن تقويم: جسداً وعقلاً، وبدناً وروحاً: هو الذي يتولى تنمية بدني بما أودع
فيّ من غريزة الاشتهاء للطعام والماء وبما جعل في الطعام من صلاحية تغذيتي وإنمائي، وفي الماء من أهمية قصوى لحياتي وبقائي، ولوشاء لجعل الماء أجاجاً، والغذاء حطاماً، والجسد غير متقبل لهذا أو ذاك!؟.
تنمية العقل وهداية القلب:
__________
(1) سورة الشعراء: (78-82).
(2) سورة الأعراف: (54).(1/174)
ثم إنه سبحانه هو الذي يتولى تنمية عقلي، وشرح صدري، وهداية قلبي بما يستأثر به من تبصرتي وإرشادي إلى المنهج الأقوم الذي به قوام روحي وقلبي، ونماء بدني وعقلي، وصلاح شأني في ديني ودنياي وعاقبة أمري؛ لأنه لا يعلم ما يصلح شأن المخلوق إلا من خلقه فقدره، ثم السبيل يسره.
(ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) (1) .
الطبيب يعالج والله هو الشافي:
كذلك فإن الله تعالى هو الذي يتولى -وحده- شفاء الإنسان بتيسيره وتدبيره، سيما إذا استصعب الداء، وعز الدواء، واستيأس الأطباء، وأوشك أن يخرجوا مريضهم -هذا- من عداد الأحياء!؟
شفاء الله للميئوس من شفائه وبعثه من في القبور:
وقد أعقب إبراهيم عليه السلام الحديث عن الشفاء من المرض، وتفرد الله به بالحديث عن الإحياء بعد الإماتة، وتفرد الله بهما، سواء أكان المراد الإحياء الحسي بالبعث، أو المعنوي بالهداية، وكأنما يريد إبراهيم عليه السلام ليقول:
والذي يميتني ثم يحيين قادر على هذا الإحياء كما شفاني من المرض بعد أن وصلت إلى حد يعجز الأطباء معه عن أن يحددوا لي دواء، أو يحققوا لي شفاء؟!.
وكأنما يتابع فيقول:
والذي يشفي المرضى بعد أن يكونوا قد أشفوا على الهلكة قادر على أن يحيي الموتى بعد أن يكونوا عظاماً نخرة، سيما وهو الذي أنشأهم أول مرة.
والقادر على هذا الإحياء قادر ولا ريب على ذلك الشفاء؛ فكلا الجملتين -إذاً- دليل الأخرى.
إيحاءات القدرة على شفاء المرضى وإحياء الموتى:
وقدرة الله تعالى على شفاء من استيأس الطب البشري من شفائه: لها إيحاءات شتى، ومنها ما يلي:
1- ترسيخ الأمل في العافية، وعدم اليأس من رَوْح الله، مهما اشتد الداء، واستعصى الدواء.
2- أنه ليس باستنفاد الوسائل المادية يتم الحكم باليأس من الشفاء؛ فالحكم -من قبل ومن بعد- لله الواحد القهار، الذي يحيي العظام وهي رميم. وقد قال سبحانه في السورة التي حدثت عن هذا الإحياء:
__________
(1) سورة الملك: (14).(1/175)
(إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون) (1) .
3- أنه لهذا وذاك ينبغي استدامة الدعاء والضراعة إلى الله، والتأكيد على استمرار الرقية مع المريض طالما كان فيه عرق ينبض، أو نفس يتردد.
وقد روى البخاري في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بـ "قل هو الله أحد، وبالمعوذتين جميعاً، ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده". قالت عائشة: فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به"(2) .
__________
(1) سورة يس: (82).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب النفث في الرقية ح(5748) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب رقية المريض بالمعوذات والنفث ح(2192) وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب كيف الرقى ح(3902) وابن ماجه في سننه: كتاب الطب: باب النفث في الرقية ح(3529) وانظر تحفة الأشراف ح(16589) قال النووي: وسئلت عائشة عن نفث النبي (صلى الله عليه وسلم) في الرقية فقالت كما ينفث آكل الزبيب لا ريق معه -انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/182) قال ابن حجر: فائدة النفث التبرك بتلك الرطوبة أو الهواء الذي ماسه الذكر كما يتبرك بغسالة ما يكتب من الذكر - انظر فتح الباري (10/197) ش ح(5735).(1/176)
وفي رواية له عنها رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث على نفسه في مرضه الذي قبض فيه بالمعوذات فلما ثقل كنت أنا أنفث عليه بهن فأمسح بيد نفسه لبركتها"(1) .
الرقية مع المرضى حتى الرمق الأخير:
ولقد كان الالتجاء إلى الله تعالى بالتعوذ والرقية شأنه صلى الله عليه وسلم مع نفسه ومع المرضى إذا عادهم، أو أتي بهم إليه، واستدام صلى الله عليه وسلم هذه السنة الحميدة حتى لحظاته الأخيرة التي لحق فيها بالرفيق الأعلى.
وقد روى البخاري في صحيحه، من حديث أم المؤمنين عائشة رضي عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أتى مريضا أو أتى به إليه قال عليه الصلاة والسلام:
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ: كتاب العين: باب التعوذ والرقية في المرض (2/193) والبخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب في المرأة ترقى الرجل ح(5751) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب رقية المريض بالمعوذات والنفث ح(2192) وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب كيف الرقى ح(3602) وابن ماجه في سننه: كتاب الطب: باب النفث في الرقية ح(3529) وانظر تحفة الأشراف ح(16589) وأخرجه أحمد في مسنده (6/104) والنسائي في اليوم والليلة ح(1009) قال النووي: وسئلت عائشة عن نفث النبي (صلى الله عليه وسلم) في الرقية فقالت كما ينفث آكل الزبيب لا ريق معه. قال: ولا اعتبار بما يخرج عليه من بلة ولا يقصد ذلك -انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/182).(1/177)
"أذهب الباس، رب الناس! اشف وأنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقماً"(1) .
من الروايات الأخرى للحديث
ومن وجوه أخرى روى البخاري هذا الحديث في باب رقية النبي صلى الله عليه وسلم من كتاب الطب من صحيحه ومن ذلك:
ح 5743 عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوّذ بعض أهله: يمسح بيده اليمنى ويقول: "اللهم رب الناس أذهب الباس، واشفه أنت الشافي… الحديث"(2) .
ح5744 عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرقي يقول: "امسح الباس، رب الناس! بيدك الشفاء، لا كاشف له إلا أنت" (3) .
وهي روايات يكمل بعضها بعضا، ويفسر بعضها بعضا، وكيف أنها رقية النبي صلى الله عليه وسلم وتعويذه ودعاؤه للمريض من أهله أو من غير أهله، وإن لم يذكر لفظ الرقية والتعوذ في بعضها.
رواية مسلم للحديث:
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب دعاء العائد للمريض ح(5675) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب استحباب رقية المريض ح(2191) وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب في تعليق التمائم ح(3883) والترمذي في سننه: كتاب أحاديث شتى: باب في دعاء المريض ح(3576) وقال هذا حديث حسن وابن ماجه في سننه: كتاب الجنائز: باب ما جاء في ذكر مرض الرسول (صلى الله عليه وسلم) ح(1619) وانظر تحفة الأشراف ح(17638) وأخرجه أحمد في مسنده (3/267) و(4/259) و(6/42) والنسائي في اليوم والليلةح(1042) وابن السني في اليوم والليلة ح(543) قال النووي: الحديث فيه استحباب مسح المريض باليمين والدعاء له وقد جاءت فيه روايات كثيرة صحيحة جمعتها في كتاب الأذكار انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/180).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب رقية النبي (صلى الله عليه وسلم) ح(5743).
(3) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب رقية النبي صلى الله عليه وسلم ح(5744).(1/178)
ولئن أبانت هذه الروايات أن دعاءه صلى الله عليه وسلم للمريض ورقيته له كان شأنه وسنته صلى الله عليه وسلم. إن رواية مسلم لهذا الحديث (2191) تضيف لنا أمراً هاماً أن هذه السنة الحميدة ظلت شأنه صلى الله عليه وسلم حتى لحظاته الأخيرة التي لحق فيها بالرفيق الأعلى.
ونص هذه الرواية عن أم المؤمنين رضي الله عنها: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى منا إنسان مسحه بيمينه ثم قال: أذهب الباس، رب الناس! واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقماً".
تضيف عائشة رضي الله عنها قولها: فلما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وثقل أخذت بيده لأصنع به نحو ما كان يصنع، فانتزع يده من يدي ثم قال: "اللهم اغفر لي واجعلني مع الرفيق الأعلى". قالت: فذهبت أنظر فإذا هو قد قضي".
ماذا نفيد من ذلك؟
باستجلاء هذه الروايات وما سبقها من حديثي عائشة رضي الله عنها (5748) و(5751) نستطيع أن نفيد منها ما يلي:(1/179)
1- قول عائشة رضي الله عنها: (5748): كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بـ "قل هو الله أحد… الحديث"(1) . نفيد منه: أنه صلى الله عليه وسلم كان مواظباً على سنة الرقية كل ليلة إذا أوى إلى فراشه، وأن رقيته لنفسه كانت أحد أعمال اليوم والليلة عنده صلى الله عليه وسلم توقياً من المرض والأذى، أو توخيا للعافية والصحة مادام قادراً على أن يرقي نفسه دون أن يمنعه المرض.
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب النفث في الرقية ح(5748). ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب رقية المريض بالمحرزات والنفث ح(2192). وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب كيف الرقى ح(3902). وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب النفث في الرقية ح(3529). وانظر تحفة الأشراف ح(16589). قال النووي. وسئلت عائشة عن نفث النبي صلى الله عليه وسلم في الرقية فقالت: كما ينفث آكل الزبيب لا ريق معه- انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/182). قال ابن حجر: فائدة النفث التبرك بتلك الرطوبة أو الهواء الذي ماسه الذكر كما يتبرك بغسالة ما يكتب من الذكر- انظر فتح الباري (10/197) ش ح (5735).(1/180)
2- قول عائشة رضي الله عنها: "فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به" لا يعني مجرد شكوى من مرض، وإنما يعنى ثقل المرض وشدة وطأته بحيث لا يتمكن من أن يرقي نفسه؛ بدليل الرواية الأخرى (5751) وفيها: عنها رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث على نفسه في مرضه الذي قبض فيه فلما ثقل كنت أنا أنفث عليه بهن. فقولها: فلما ثقل يبين نوعية الاشتكاء في قولها: فلما اشتكى وقولها: كنت أنا أنفث عليه بهن. أي بقل هو الله أحد والمعوذتين امتثالاً لأمره صلى الله عليه وسلم أن ترقيه(1) .
3- كان صلى الله عليه وسلم حريصاً على الرقية كل يوم وليلة: أجل! وقد استدام صلى الله عليه وسلم هذا حتى في مرضه الذي قبض فيه.
4- حتى في مرضه الذي قبض فيه: رقى نفسه، واسترقي عائشة له: وذلك بيّن فيما ذكرته عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان "إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه… الحديث"، وبيّن كذلك من قولها: "فلما اشتكى= (ثقل) كان يأمرني أن أفعل ذلك به".
أدب عائشة مع مقام النبوة:
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب في المرأة ترقي الرجل ح(5751). وأبو داود في سننه: كتاب الأدب: باب ما يقول عند النوم ح(5056). والترمذي في سننه: كتاب الدعوات: باب ما جاء فيمن يقرأ من القرآن عند المنام ح(3413) وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح.(1/181)
5- أن عائشة رضي الله عنها كانت جمة الأدب معه صلى الله عليه وسلم فائقة التوقير لمقامه، والتقدير لمكانته؛ فلم تنس -وهي تمتثل أمره صلى الله عليه وسلم: أن تنفث بالمعوذات على يده صلى الله عليه وسلم لتمسح بها على جسده وما يألم من بدنه لما للرسول صلى الله عليه وسلم من مكانة ولما ليده صلى الله عليه وسلم من بركة، كما صرحت في الحديث (5751)، وفي الحديث: (5016). فقد جاء قولها رضي الله عنها: "وأمسح بيده رجاء بركتها". والمراد كلتا يديه صلى الله عليه وسلم، إذ أنها رضي الله عنها تقفو أثره في ذلك، وقد كانت هذه سنته كما يروي البخاري في صحيحه (5017) من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما: "قل هو الله أحد"، و"قل أعوذ برب الفلق"، و"قل أعوذ برب الناس"؛ ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده؛ يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات.(1/182)
ورواية مسلم في صحيحه لهذا الحديث (2192) (1) . عن عائشة رضي الله عنها تؤكد ما قلناه عن مدى أدبها معه صلى الله عليه وسلم، وعرفانها حقه، وعظم بركته صلى الله عليه وسلم ففيها تقول: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات، فلما مرض مرضه الذي مات فيه جعلت أنفث عليه، وأمسحه بيد نفسه؛ لأنها كانت أعظم بركة من يدي". فلله در أم المؤمنين عائشة! وما أروع أن تأثر المرأة عنها تطبيقها للسنة، وإعظامها لمكانة الزوج، واعتزازها بالإقرار بذلك!.
مبادرته صلى الله عليه وسلم برقية المريض:
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب المرآة ترقى الرجل ح(5751) و(4439) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب رقية المريض بالمعوذات والنفث ح(2192) وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب كيف الرقى ح(3902) والترمذي في سننه: كتاب الدعوات: باب ما جاء فيمن يقرأ من القرآن عند المنام ح(3413) وقال: هذا حديث حسن غريب. وابن ماجه في سننه: كتاب الطب: باب النفث في الرقية ح(3529) وانظر تحفة الأشراف ح(16589) قال النووي: والنفث نفخ لطيف بلا ريق فيه واستحباب النفث في الرقية، وقد اجمعوا على جوازه واستحبابه لجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم- انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/182).(1/183)
لم يكن صلى الله عليه وسلم يستفسر من المريض إن كان يرغب أن يرقيه، بل كان صلى الله عليه وسلم إذا عاد مريضاً، أو إذا أتى المريض، أو إذا أُتى له به يدعو له، ويعوّذه، ويرقيه ملتجئاً به إلى الله، مرسّخاً فيه عقيدة التوحيد، مذكّراً له أن الله هو الشافي، وأنه لا شفاء إلا شفاؤه، مهما امتثل العبد الأمر بالتداوي، ثم يعبر صلى الله عليه وسلم للمريض عن فرط إشفاقه، وبالغ حرصه، وبليغ رحمته ورأفته عندما يقول ضارعاً إلى الله وهو يدعوه لهذا المريض: "اللهم رب الناس! أذهب الباس، اشفه وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً" بخ ح(5743) (1) .
6- لعل ذلك لأن أمنية المريض أن يخفف الله عنه ما يلقى من شدة، وأن يذهب عنه ما يعاني من بأس، ولا ريب أن أحسن الهدايا وقعاً أن يدعو العائد للمريض، وأن يعوّذه بالله من شر ما يجد، أو من شر ما يحاذر أن يكون، وهذا أمر لا يحتاج إلى استفسار.
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب رقية النبي صلى الله عليه وسلم ح(5743).(1/184)
كذلك كان جبريل عليه السلام عندما يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيجده يشتكي ألماً. وقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! اشتكيت؟ فقال: نعم. قال باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد، الله يشفيك، باسم الله أرقيك"(1) .
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب الطب والمرض والرقى ح(2186). والترمذي في سننه: كتاب الجنائز: باب ما جاء في التعوذ للمريض ح(974). وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب ما عوذ به النبي صلى الله عليه وسلم وما عوذ به ح(3523). وانظر تحفة الأشراف ح(4363). وأخرجه أحمد في مسنده (3/28-56). والنسائي في اليوم والليلة ح(1005). قال النووي: هذا تصريح بالرقى بأسماء الله وفيه توكيد الرقية، والدعاء وتكريره، وقوله من شر كل نفس: قيل يحتمل أن المراد بالنفس نفس الأدمى، وقيل يحتمل أن المراد بها العين فإن النفس تطلعه على العين، ويقال رجل نفوس إذا كان يصيب الناس بعينه- انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/170) ش ح(2186).(1/185)
وفي الرواية الأخرى لمسلم عن عائشة رضي الله عنها: كان إذا اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم رقاه جبريل، قال: "باسم الله يبريك… الحديث"(1) .
أمره صلى الله عليه وسلم بالاسترقاء
تطلب الراقي والرقية وتأكيد الانتفاع بعوذة الراقي ودعوته أمر صلى الله عليه وسلم بتلمس الراقي العارف بالرقية وشروطها وآدابها لمن أصيب بعين حاسد.
فقد روى البخاري ومسلم(2) . من حديث أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرها أن تسترقي من العين (لفظ مسلم). ولفظ البخاري. قالت: أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أو أمر أن يسترقى من العين (الحاسدة).
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب الطب والمرض والرقى ح(2185) والترمذي في سننه: كتاب الجنائز: باب ما جاء في التعوذ للمريض ح(974) وابن ماجه في سننه: كتاب الطب: باب ما عوذ به النبي (صلى الله عليه وسلم) وما عوذ به ح(3523) وانظر تحفة الأشراف ح(4363) وأخرجه أحمد في مسنده (3/28-56) والنسائي في اليوم والليلة ح(1005) قال النووي هذا تصريح بالرقى بأسماء الله تعالى وفيه توكيد الرقية والدعاء وتكريره، وقوله في شر كل نفس قيل: يحتمل أن المراد بالنفس نفس الأدمي وقيل يحتمل أن المراد بها العين فإن النفس تطلق على العين ويقال رجل نفوس إذا كان يصيب الناس بعينه. انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/170).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب رقية العين ح(5738) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب استحباب الرقية في العين والنملة والحمة والنظرة ح(2195) وابن ماجه في سننه: كتاب الطب: باب من استرقى من العين ح(3512) وانظر تحفة الأشراف ح(16199).(1/186)
كما روى البخاري ومسلم(1) عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة (لونا يخالف لون الوجه) فقال: "استرقوا لها؛ فإن بها النظرة".
إقتداء الصحابة بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقية:
كما وقف جبريل عليه السلام على شكاية الرسول صلى الله عليه وسلم من وجع ألمَّ به فرقاه، ها نحن أولاء نجد أنس بن مالك رضي الله عنه يجد تلميذه ثابتاً البناني وهو يقول لأنس: يا أبا حمزة! اشتكيت! فقال أنس مرغباً في الرقية بما يدرك أنه لن يرده: ألا أرقيك برقية رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال ثابت: بلى. فقال أنس: "اللهم رب الناس، أذهب الباس… الحديث"(2) .
وكانوا يأمرون بذلك أهليهم وغيرهم:
الرقية من الألم الموضعي:-
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب رقية العين ح(5739). ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة ح(2197). والبيهقي في الكبرى: كتاب الضحايا: باب إباحة الرقية بكتاب الله (9/348). وانظر شرح معاني الاثار للطحاوي (4/327). قال النووي: السفعة يعني بوجهها صفرة، وقيل سواد، وقال ابن تيمية: هي لون يخالف لون الوجه، وقيل أخذه من الشيطان- انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/185) قال ابن عبد البر: فيه دليل على أن العين تسرع إلى قوم فوق اسراعها إلى آخرين، وأنها تؤثر في الإنسان بقضاء الله وقدره وتصرعه في أشياء كثيرة، وإنما يسترقي من العين إن لم يعرف العائن، وإما أن عرف الذي أصابه بعينه فإنه يؤمر بالوضوء- التمهيد (2/269).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب رقية النبي صلى الله عليه وسلم ح(5742).(1/187)
فقد روى مالك في الموطأ(1) ، والترمذي بإسناد صحيح، وأبو داود كلاهما من طريق مالك، أن عثمان ابن أبي العاص أتى النبي صلى الله عليه وسلم أو أتاه النبي صلى الله عليه وسلم، يقول عثمان: وبي وجع كاد يهلكني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: امسح بيمينك سبع مرات، وقل: "أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر". قال عثمان: ففعلت فأذهب الله ما كان بي. فلم أزل آمر به أهلي وغيرهم.
__________
(1) أخرجه مالك في موطأه: كتاب العين: باب التعوذ والرقية من المرض (2/942) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب استحباب وضع يده على موضع الألم مع الدعاء ح(2202) وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب كيف الرقى ح(3891) والترمذي في سننه: كتاب الطب: باب (29) ح(2087) وقال هذا حديث حسن صحيح وابن ماجه في سننه: كتاب الطب: باب ما عوذ به النبي (صلى الله عليه وسلم) وما عوذ به ح(3522) وانظر تحفة الأشراف ح(9774) وأخرجه أحمد في مسنده (6/390) والنسائي في اليوم والليلة ح(1001) قال النووي: يستحب وضع يده على موضع الألم ويأتي بالدعاء المذكور- انظر شرح للنووي على صحيح مسلم (14/189) شرح (2202).(1/188)
وقد رواه مسلم(1) أن عثمان بن أبي العاص شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعاً يجده في جسده منذ أسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضع يدك على الذي تألمُ من جسدك وقل: باسم الله (ثلاثا) وقل سبع مرات: "أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر". والحديث أورده أبو داود في الطب: باب كيف الرقي، وهذا يرينا إلى أي مدى كان صلى الله عليه وسلم حريصاً على أن يعلم كيفية الرقية من يتوسم فيه من الصحابة الأهلية لذلك، حتى لا يعتمدوا جميعاً في ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، وحتى يعطينا كيف ينبغي أن يكون الأدب في الأسرة أو الرئيس في الموقع حريصاً على تنمية المهارات في الأمور التي يحسن أصحابه الأسوة به فيها، والمضاء على طريقه بها، وكيف كان ذوو الأهلية لذلك من الصحابة، حريصين بدورهم على تعليم من يخلفهم من بينهم وأهليهم وذويهم ما تعلموا حدوده، وتدربوا على كيفيته من النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك إضافة إلى ما سبق:
1- ما رواه أبو داود والترمذي(2) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في الرقية من الأرق والفزع بإسناد حسن؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم من الفزع كلمات: "أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وشر عباده، ومن همزات الشياطين، وأن يحضرون". وقد رواه أبو داود في الطب: باب كيف الرقي.
الرقية من الحمة (سم العقرب)
__________
(1) انظر تخريج الحديث السابق.
(2) أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الطب: باب كيف الرقى ح(3893) والترمذي في سننه: كتاب الدعوات: باب دعاء من أوى إلى فراشه ح(3539). وقال هذا حديث حسن غريب. والنسائي في اليوم والليلة ح(772). وانظر صحيح سنن أبي داود للألباني ح(3294).(1/189)
وروى في الباب نفسه بإسناد صحيح(1) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رجلاً من أسلم قال: كنت جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل من أصحابه فقال: يا رسول الله لُدغت الليلة فلم أنم حتى أصبحت؟ قال: "ماذا؟". قال: عقرب، قال: "أما إنك لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضرك إن شاء الله" رواه أبو داوود (2399).
ومنه يتأكد ما سبق أن قلنا إن الرقية كما تكون توخياً للشفاء، تكون كذلك توقيا من الأذى، مع مراعاة أن الأمر في تحقيق الغاية: لله، وما تقتضيه حكمته؛ ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "لم يضرك إن شاء الله".
وكانوا يعلموا أهليهم الحق وينهونهم عن الباطل في ذلك:
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الطب: باب كيف الرقى ح(3893) والترمذي في سننه: كتاب الدعوات: باب دعاء من أوى إلى فراشه ح(3539). وقال هذا حديث حسن غريب. والنسائي في اليوم والليلة ح(772). وانظر صحيح سنن أبي داود للألباني ح(3294).(1/190)
وقد روى أبو داود وابن ماجه بإسناد صحيح من حديث ابن أخت زينب امرأة عبد الله بن مسعود عن زينب قالت: كانت عجوز تدخل علينا ترقي من الحمرة (بعض الأورام)، وكان لنا سرير طويل القوائم، وكان عبد الله إذ دخل تنحنح وصوَّت، فدخل يوماً فلما سمعت صوته احتجبت منه فجاء فجلس إلى جانبي، فمسني فوجد مس خيط فقال: ما هذا؟ فقلت: رقى لي فيه من الحمرة، فجذبه، فقطعه، فرماه وقال: لقد أصبح آل عبد الله أغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الرقى والتمائم والتولة شرك". قلت: فإني خرجت يوماً فأبصرني فلان فدمعت عيني التي تليه، فإذا رقيتها سكنت دمعتها، وإذا تركتها دمعت؟ قال: ذاك الشيطان إذا أطعته تركك، وإذا عصيته طعن بإصبعه في عينك ولكن لو فعلت كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كان خيراً لك وأجدر أن تشفين: تنضحين في عينك الماء وتقولين: أذهب الباس رب الناس إشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقماً.
ومما تقدم نستطيع أن نستنتج من الفقه الشرعي للرقية ما يلي:(1/191)
1- أن الرقية التجاء المؤمن إلى الله أن يعيذه من الأذى، ويعافيه من المرض إن كان البدن سقيماً أو يحصنه منه أو من الشر إن كان ذلك أمراً مخوفاً. ولعلنا على ذكر من قوله صلى الله عليه وسلم في الرقية: "أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر"(1) . م (2202).
2- أن في الرقية تعميقاً لعقيدة التوحيد، وتعبيراً عما تقتضيه، من الإقرار بأن الله تعالى هو مُذهب الباس وهو الشافي لا شفاء إلا شفاؤه، ولهذا فنحن نضرع إليه وحده أن يعافينا مما نعاني أو ينجينا مما نحاذر(2) . م:(2191).
__________
(1) أخرجه مالك في موطأه: كتاب العين: باب التعوذ والرقية من المرض (2/942) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب استحباب وضع يده علىموضع اللم مع الدعاء ح(2202) وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب كيف الرقى ح(3891) والترمذي في سننه: كتاب الطب: باب (29) ح(2087) وقال هذا حديث حسن صحيح وابن ماجه في سننه: كتاب الطب: باب ما عوذ به النبي (صلى الله عليه وسلم) وما عوذ به ح(3522) وانظر تحفة الأشراف ح(9774) وأخرجه أحمد في مسنده (6/390) والنسائي في اليوم والليلة ح(1001) قال النووي: يستحب وضع يده على موضع الألم ويأتي بالدعاء المذكور -انظر شرح للنووي على صحيح مسلم (14/189) ش ح (2202).
(2) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب استحباب وضع يده على موضع الألم مع الدعاء ح(2202). وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب كيف الرقى ح(3891). والترمذي في سننه: كتاب الطب: باب (29) ح(2087). وقال هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب ما عوذ به النبي صلى الله عليه وسلم وما عوذ به ح(3522). وانظر تحفة الأشراف ح(9774). وأخرجه أحمد في مسنده (6/390). والنسائي في اليوم والليلة ح(1001). قال النووي: يستحب وضع يده موضع الألم ويأتي بالدعاء المذكور- انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/189) ش ح(2202).(1/192)
3- أننا بهذه الضراعة وهذا الإقرار نبرأ من الاعتماد على الأسباب وإن تيسرت، ونوقن بقدرته سبحانه على الشفاء وإن لم نتمكن من أخذ الأسباب، فنحن-بالرقية- ننخلع من حولنا وقوتنا إلى حول ربنا وقوته(1) . خ: (5675).
4- أن الرقية -بما تمثله من ضراعة إلى الله وحده من شر كائن أو من شر مخوف هي إحدى قمم التوكل على الله عز وجل سيما إذا كانت قد سبقت بالتداوي أو اتخاذ أسباب الوقاية، وكأنما يريد المؤمن الراقي أو المسترقي أن يقول:
"ها أنذا تداويت امتثالاً لأمره صلى الله عليه وسلم بالتداوي في نحو قوله: "تداووا؛ فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء… الحديث"(2) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب دعاء العائد للمريض ح(5675). ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب استحباب رقية المريض ح(2191). وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب في تعليق التمائم ح(3883). والترمذي في سننه: كتاب أحاديث شتى: باب في دعاء المريض ح(3576) وقال هذا حديث حسن. وابن ماجة في سننه كتاب الجنائز: باب ما جاء في ذكر مرض الرسول صلى الله عليه وسلم ح(1619). وانظر تحفة الأشراف ح(17638). وأخرجه أحمد في مسنده (3/267) و(4/259) و(6/42). والنسائي في اليوم والليلة ح(1042). وابن السني في اليوم والليلة ح(543). قال النووي: الحديث فيه استحباب مسح المريض باليمين والدعاء له وقد جاءت فيه روايات كثيرة صحيحه في كتاب الأذكار- انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/180) ش ح(2191).
(2) أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الطب: باب في الرجل يتداوى ح(3855) والترمذي في سننه: كتاب الطب: باب ما جاء في الدواء والحث عليه ح(2045) قال أبو عيسى: وهذا حديث حسن صحيح. وابن ماجه في سننه: كتاب الطب: باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء ح(3436) وانظر تحفة الأشراف ح(127) وأخرجه أحمد في مسنده (4/278) وأنظر صحيح سنن ماجة ح(2772) .(1/193)
5- وعسى أن يكون هذا الدواء هو الذي وضعه الله لهذا الداء، ثم عسى أن يكون قد وفق طبيبي ليصيب دواء الداء حتى يكون برئي وشفائي بإذن الله، وقد روى مسلم في صحيحه (2204) (1) . عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله عز وجل". ثم هأنذا أضرع إلى الله مستعيذا بحماه: أن يبرئني من سقمي بإذنه، وأن يشفيني بشفائه وأمره، فها قد ألجأت ظهري إليه، وأسلمت نفسي إليه، وفوضت أمري إليه؛ فهو الشافي لا شفاء إلا شفاؤه .
6- وكما أن المؤمن في التداوي وأخذ الأسباب ممتثل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ومستن بسنته، فكذلك هو في الرقية والاسترقاء، في التضرع والتعوذ، في الدعاء إلى الله والرجاء فيه وحده هو في هذا وذاك ممتثل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، مستن بسنته، فكم أمر عليه السلام بالرقية، وكم واظب عليها صلى الله عليه وسلم كلما أوى إلى فراشه، وكلما عاد مريضاً أو أتى به إليه! بل كم كان هذا شأن جبريل عليه السلام مع النبي صلى الله عليه وسلم كلما ألفاه يشتكى ألما!.
وقد روى مسلم في صحيحه (2185) (2) . من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "كان إذا اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم رقاه جبريل، قال: باسم الله يبريك، ومن كل داء يشفيك، ومن شر حاسدٍ إذا حسد، وشر كل ذي عين".
7- أن الرقية إحدى صور التعوذ والتضرع والدعاء التي أمر القرآن بها بصفة خاصة من جهة، والتي اندرجت في عموم الأمر بالدعاء من جهة أخرى.
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه وكتاب السلام: باب لكل داء دواء واستحباب التداوي ح(2204). وانظر تحفة الأشراف ح(2785) وأحمد في مسنده (3/335).
(2) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب الطب والمرض والرقى ح(2185).(1/194)
فقد أمر الله عباده أن يدعوه سبحانه تضرعاً وخفية، وخوفاً وطمعاً وأن يعلموا أن الله سميع الدعاء وقريب يجيب الرجاء، ونوه بمن يدعون ربهم خوفاً وطمعاً وذلك في أكثر من آية كريمة في القرآن الكريم.
والرقي نوع من الدعاء، وصورة من صور التعوذ امتثالاً لنحو قوله تعالى: (ادعوا ربكم تضرعاً وخفية) (1) .وقوله: (ادعوني أستجب لكم) (2) .وقوله: (وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون) (3) .
كما أن الرقية بخصوصها وإن اندرجت فيما أمر به صلى الله عليه وسلم من دعاء عام أو تعوذ عام. فلقد أمر صلى الله عليه وسلم أن يرقي أو يسترقي بسور خاصة يستشفي بها من شكاية كائنة، أو يتوقى بها من أذى يحاذره المرء، وذلك فيما نزل عليه من المعوذات: الإخلاص والمعوذتين، على ما يشير إليه نحو قوله تعالى: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) (4) .
وقد كان عليه السلام يرقي نفسه أو يرقي غيره من عين الجان ثم أعين الإنس حتى نزلت المعوذتان، فلما نزلت أخذ بهما وترك ما سواهما.
__________
(1) سورة الأعراف: (55).
(2) سورة غافر: (60).
(3) سورة المؤمنون: (97-98).
(4) سورة الإسراء: (82).(1/195)
وذلك على ما روى الترمذي في سننه: أبواب الطب: باب ما جاء في الرقية بالمعوذتين (2059) (1) . بإسناد حسن، وابن ماجه في سننه كتاب الطب: باب من استرقى من العين (3511) (2) .بإسناد صحيح. كلاهما من حديث أبي سعيد الخدري.
والمراد بقوله: "وترك ما سواهما": ما كان يتعوذ به صلى الله عليه وسلم قبل نزول المعوذات، فلما نزلت كانت هي تعويذته ورقيته.
__________
(1) أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الطب: باب ما جاء في الرقية بالمعوذتين ح(2065) وقال: هذا حديث حسن غريب. والنسائي في سننه: كتاب الاستعاذة: باب الاستعاذة من عين الجان ح(5509) وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب من استرقى من العين ح(3511) وانظر تحفة الأشراف ح(4327) وانظر صحيح سنن الترمذي للألباني ح(1681).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب فضائل القرآن: باب فضل المعوذات ح(5017) وأبو داود في سننه: كتاب الأدب: باب ما يقول عند النوم ح(5056) والترمذي في سننه: كتاب الدوات: باب ما جاء فيمن يقرأ من القرآن عند المنام ح(3413) وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح.(1/196)
فقد كان صلى الله عليه وسلم بعدئذ يرقي نفسه إذا أوى إلى فراشه بـ "قل هو الله أحد"، و"قل أعوذ برب الفلق"، و"قل أعوذ برب الناس". كما كان يرقي نفسه وسبطيه بما أعلمه الله به من رقيا إبراهيم عليه السلام لابنيه إسماعيل وإسحاق: "أعيذكما بكلمات الله التامة… الحديث" (بخ: (3371) ت(2061) (1) .
ما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن الرقية أو صيغتها أو كيفيتها:
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب أحاديث الأنبياء: باب (10) ح(3371) وأبو داود في سننه: كتاب السنة: باب في القرآن ح(4737) وقال: "هذا دليل على أن القرآن ليس بمخلوق. مستدلا على أنه لو كان مخلوقاً لما صح الاستعاذة به. وأخرجه الترمذي في سننه: كتاب الطب: باب (18) ح(2067) وقال: هذا حديث حسن صحيح وابن ماجه في سننه: كتاب الطب: باب ما عوذ به النبي (صلى الله عليه وسلم) وما عوذ به ح(3525) وانظر تحفة الأشراف ح(5627) وأخرجه أحمد في مسنده (1/270)-136) والنسائي في اليوم والليلة ح(1007) الهامة: واحدة من الهوام وهي ذوات السموم. اللامة: بتشديد الميم أي ذات لمم، واللمم كل داء يلم من خبل أو جنون أو نحوهما. أي في كل عين تصيب بسوء- انظر شرح السندي على سنن ابن ماجه (4/125).(1/197)
8- ما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه المحدثون في مصنفاتهم في ذلك هو وحي لا غنى لمسلم عن اتباعه والتزامه، سواء في ذلك ما جاء عن جبريل عليه السلام من رقيته للنبي صلى الله عليه وسلم وما أنزل إليه أن يرقي به ويسترقي كالمعوذات، والفاتحة وغيرها، وما أعلم به من رقية إبراهيم عليه السلام لابنيه إسماعيل وإسحاق، أو التزمه صلى الله عليه وسلم أو أمر به: كل أولئك وحي أوفي حكم الوحي إذ أقر عليه صلى الله عليه وسلم من قبل الله عز وجل، ولم ينزل ما ينقضه، وظل شأنه عليه السلام إلى أن استرقى أم المؤمنين في مرضه الأخير إلى أن لحق بالرفيق الأعلى. وذلك دون أن ينزل بشأنه ناقض، أو يوحى في أمره ناسخ، أو يؤثر عنه صلى الله عليه وسلم أنه ترك سنة العمل به يوما ما، لنفسه أو لغيره.
عقيدة التوحيد التي حدث بها القرآن عن إبراهيم عليه السلام:
9- حديث إبراهيم في هذه العقيدة عن تفرد الله بالخلق والتدبير بصفة عامة وفيما يتعلق بقضية شفاء المرضى بصفة خاصة هي نبراس حياة المؤمن، وأساس سلوكياته في هذه الحياة سواء في ذلك: خطواته النشطة في الطب وفي العلاج وفي التحليل والتشخيص، أو في إخباته. وضراعاته إلى الله مستعيذاً أو مستشفياً، راقياً أو مسترقياً
10- وكما أومأنا فيما سبق: فليس مما يتسق مع هذه العقيدة أن يسارع الطبيب بالحكم بالموت على مريض لمجرد يأسه هو من شفائه مادام فيه عرق ينبض أو نفس يتردد، فقد تحدث المفاجآت، وكم حدثت؟!.(1/198)
11- بين العمل البشري والأمل في رحمة الله تبرز قيمة الدعاء والرقية ويتضاعف الرجاء فيمن يحيى الأرض بعد موتها، وحين ينتهي عمل الطبيب لا نقول: يبدأ عمل الراقي، بل نقول: يستمر عمل الراقي، إذ أن الدعاء والتعوذ بالله ورقية المريض كل أولئك أمور ملازمة للعلاج حين يبدأ وحين يمارس ويكرر، وحين يتابع الطبيب نظام العلاج وحين يستيقن من النجاح، وحين يقوى عنده الأمل، وحين يخبو، وحين تغشاه سحابة قلق أو توتر لانتهاء عمله مع المريض دون جدوى: لا تنفك هذه الأحوال كلها عن دعاء المريض المؤمن، والطبيب المؤمن. ومعنى هذا وذاك أنه فيما يتعلق بالمريض فلا غنى له عن الرقية ولا عن تكرارها حتى يبرأ بإذن الله، فإذا برئ فلا غنى له عن الرقية كل ليلة حتى يقيه الله شر ما يحاذر أن يكون. كذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم. ولنا فيه الأسوة الحسنة.
الرقية سنة نبوية مأمور بها:
فقد واظب عليها النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث البخاري الآنف (5748) لنفسه صلى الله عليه وسلم، ولأي مريض من أهله أو من صحابته كما في حديثي مسلم (2191) و(2192) (1) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب النفث في الرقية ح(5748) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب رقية المريض بالمعوذات والنفث ح(2192) وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب كيف الرقى ح(3902) وابن ماجه في سننه: كتاب الطب: باب النفث في الرقية ح(3529) وانظر تحفة الأشراف ح(16589) قال النووي: وسئلت عائشة عن نفث النبي (صلى الله عليه وسلم) في الرقية فقالت كما ينفث آكل الزبيب لا ريق معه -انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/182) قال ابن حجر: فائدة النفث التبرك بتلك الرطوبة أو الهواء الذي ماسه الذكر كما يتبرك بغسالة ما يكتب من الذكر -انظر فتح الباري (10/197) ش ح(5735).(1/199)
وأمر بها لنفسه ولغيره، كما أمر عائشة أن ترقيه في مرضه: الذي قضي فيه بخ: (5751) وم: (2191). وكما في حديث الجارية المعينة التي كانت في بيت أن سلمة والتي قال صلى الله عليه وسلم: "بها نظرة فاسترقوا لها". م: (2197) وكما في ح(2198) عند مسلم كذلك(1) .
الرقية -كذلك- استغراق في مناجاة الله وانشغال بهذه المناجاة عن ضيق الصدر، وتوتر النفس من معاناة المرض؛ سيما إذا كان عضالاً أو اقتضى وقتاً طويلاً؛ هنالك تكون الرقية أحسن علاج لما قد يغشى الإنسان من ضيق أو تبرم قد يفضي به إلى الاكتئاب والأسى.
إن عناصر الرقية فضلاً عن أنها استشفاء فهي علاج لما قد ينشأ بالانشغال بالتفكير في شدة المرض، إنها تمثل الانشغال برب الناس مذهب الباس، بدل الاشتغال أو التفكير في البأس ذاته ومضاعفاته، إنها تشغل المريض بالبديل المجدي، كما تشغله بما يبعث في نفسه الأمل بدل القنوط، إنها تشغله بقضية الشفاء لا بقضية المرض، والشفاء التام الذي لا يغادر سقماً يطلبه من الشافي الذي لا شفاء إلا شفاؤه.
طلب الشفاء بالرقية:
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب رقية العين ح(5739) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة ح(2197) والبيهقي في السنن: كتاب الضحايا: باب إباحة الرقية بكتاب الله (9/ 348) وانظر شرح معاني الآثار للطحاوي (4/327) قال النووي: السفعة يعني بوجهها صفرة، وقيل سواد وقال ابن تيمية هي لون يخالف لون الوجه، وقيل أخذه من الشيطان -انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/185) قال ابن عبد البر: فيه دليل على أن العين تسرع إلى قوم فوق اسراعها إلى آخرين، وأنها تؤثر في الإنسان بقضاء الله وقدره وتصرعه في أشياء كثيرة. وإنما يسترقى من العين إذا لم يعرف العائن. وأما إذا عرف الذي أصابه بعينه فإنه يؤمر بالوضوء -التمهيد (2/269).(1/200)
إن المعايشة بالرقية في مناخ الشفاء تشغل المريض بالصحة والقوة والنشاط والتفاؤل، حيث يطلب الراقي شفاء المريض وهو ينفث على يديه بكلمات الله التامة من السور القرآنية، أو من غيرها من جوامع الدعاء والعوذ النبوية، وقد انطلقت من قلب تقي ليكون من هذا القلب وما انطلق منه من نفس قد تندى بتلك الكلمات إلى يد تتلقى نفث الراقي ليكون من هذا مزيج شفائي يبعث على التفاؤل بمسح الباس مع مسح الراقي بيده على بدن المريض أو على ما يألم منه.
بين التعوذ وطلب الشفاء:
وإذا قيل ما جدوى التعوذ بالمعوذات عموماً وبالمعوذتين بصفة خاصة مع أن المجال مجال طلب الشفاء فما العلاقة؟
قيل في الجواب: أوليس المريض معرضاً لوساوس الشيطان ونوازع النفس تنأى به عما ينبغي أن ينشغل به مما ألمحنا إليه آنفاً؟!.
إن تعوذ المريض بالله من شر شياطين الإنس والجن يحصنه ممن يزين له الضيق بالألم، وسوء الظن بالله أو بالطبيب، وقد يتمادى معه فيزين له الانتحار.
إن التعوذ بالله رب الناس ملك الناس إله الناس، تعوذ بالله المحسن إلى خلقه، فلا مجال إلا لإحسان الظن به سبحانه، وإذا علم المؤمن أو تذكر نحو قوله تعالى:
(وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) (1) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما يصيب المؤمن من وصب (ألم ملازم) ولا نصب ولا سقم، ولا حزن حتى الهم يهمه (يغمه) إلا كفر الله به من سيئاته" م: (2573) خ: (5641،5642) كلاهما من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة (2).
__________
(1) سورة الشورى: (30).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب المرض، باب ما جاء في كفارة المرض ح(5641) و(5642) ومسلم في صحيحه: كتاب البر والصلة: باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك، حتى الشوكة يشاكها ح(2573).(1/201)
وفي رواية لمسلم عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من شيء يصيب المؤمن حتى الشوكة تصيبه إلا كتب الله له بها حسنة أو حطت عنه بها خطيئة" م: (2572) (1) . فكم لهذا من أثر نفسي!؟.
التعوذ برب الناس:
فالتعوذ برب الناس المحسن إليهم يصرف المريض إلى وجوه إحسان الله إليه في مرضه. ولعله إن صبر كفرت خطيئته، وإن رضي كتبت له حسنته، وربما دعاه هذا إلى أن يبصر في المحنة منحة فينقلب شاكراً صابراً راضياً بدل أن يكون جزوعاً هلوعاً ساخطاً متبرماً.
والبلاء اختبار كما قال تعالى: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون) (2) .
وطوبى لمن نجح في هذا الاختبار. وقد روى مسلم في صحيحه (2575) (3) . من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أم السائب أو أم المسيب فقال: "مالك؟ يا أم السائب! أو يا أم المسيب! تزفزفين؟" (تُرعَدين) قالت: الحمى. لا بارك الله فيها. فقال: لا تسبي الحمى؛ فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد".
فكم يكون من أثر للتعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس!!.
إن النفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل!
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب البر والصلة: باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك، حتى الشوكة يشاكها ح(2572) وانفرد به.
(2) سورة الأنبياء: (35).
(3) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب البر والصلة: باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك، حتى الشوكة يشاكها ح(2575). وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب الحمى ح(3469).(1/202)
وهذا أعرابي يزوره النبي صلى الله عليه وسلم ليسرى عنه من ألم الحمى التي أصابته، وليعلمه بأن البلاء يطهر المرء من ذنوبه إن صبر عليه؛ فإذا بالرجل بجفائه وجهالته، وانسياقه وراء ما يزين الشيطان له يأبى أن يتسامى بسلوكه لمقتضى هذه المعلومة فيقول- كما يروي البخاري قصته في صحيحه (5656)" (1) . بل هي حمى تفور، أو تثور، على شيخ كبير، تزيره القبور"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فنعم إذاً". أي إذا أبيت إلاّ أن ترى في المحنة مظهرها دون جوهرها كان الأمر كما ظننت، ولعله صلى الله عليه وسلم أعلم بدنو أجله لما أجابه بما أجابه فقال -كما أورد ابن حجر في الفتح 10/124 عن الدولاني في الكني وابن السكن في الصحابة: "ما قضى الله فهو كائن"، فأصبح الأعرابي ميتاً.
ولو أن الأعرابي أحسن تلقي ما بشره به النبي صلى الله عليه وسلم إن صبر ورضى ثم أحسن الجواب على النبي صلى الله عليه وسلم إذ أحسن تعليمه وإعلامه أن لا بأس عليه حيث إن المرض كفارة لذنوب الصابر عليه فإن تعافى منه فقد ربح العافية وتكفير الخطايا، وإن مات فيه كان ممن ختم له بخاتمة السعادة، حيث يبعث على ما مات عليه صابراً طاهراً.
بيد أن الرجل كان قد فاته أن يرقي نفسه أو يسترقي غيره فكان فريسة شيطانه. إنه كان ظلوماً لنفسه جهولاً لعاقبة أمره؛ وإن يكن لذلك من سبب فهو النأى عن هدي القرآن، وبيان السنة وصدق الله: (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور) (2) .
الرقية في التراث الديني:
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب المرض: باب عيادة الأعراب ح(5656).
(2) سورة الشورى: (52-53).(1/203)
في كتاب الأنبياء من صحيح البخاري؛ يروي البخاري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين ويقول: "إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق: أعوذ بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة".
ورواية الترمذي لهذا الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين، ويقول: أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة، ويقول: هكذا كان إبراهيم يعوذ إسحاق وإسماعيل عليهم السلام". وقد عقب الترمذي بقوله: هذا حديث حسن صحيح. وقد رواه في أبواب الطب ضمن ما جاء في الرقية من العين ح(2061) (1).
السنن:
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب أحاديث الأنبياء: باب (10) ح(3371) وأبو داود في سننه: كتاب السنة: باب في القرآن ح(4737) وقال: هذا دليل على أن القرآن ليس بمخلوق. مستدلاً على أنه كان مخلوقاً لما صح الاستعاذة به. وأخرجه الترمذي في سننه: كتاب الطب: باب (18) ح(2067) وقال: هذا حديث حسن صحيح وابن ماجه في سننه: كتاب الطب: باب ما عوذ به النبي (صلى الله عليه وسلم) وما عوذ به ح(3525) وانظر تحفة الأشراف ح(5627) وأخرجه أحمد في مسنده (1/270)-136) والنسائي في اليوم والليلة ح(1007) الهامة: واحدة من الهوام وعي ذوات السموم اللامة: بتشديد الميم أي ذات لمم، واللمم كل داء يلم من خبل أو جنون أو نحوهما. أي في كل عين تصيب بسوء -انظر شرح السندي على سنن ابن ماجه (4/125).(1/204)
أما أبو داود فروى هذا الحديث في كتاب السنة: باب في القرآن ح(4737) بنحو ما عند البخاري والترمذي؛ بيد أنه عقب عليه بقوله: هذا دليل على أن القرآن ليس بمخلوق. وفي شرحه للحديث أبان الخطابي عن أساس قوله أبي داود هذا فقال: الهامة إحدى الهوام وذوات السموم كالحية والعقرب ونحوهما. وقوله: من كل عين لامة معناه ذات لمو واللمم كل داء يلم من خبل أو جنون أو نحوهما أي من كل عين تصيب يسوء، ومعنى يلم يقرب منه ويعتريه. ثم قال: وكان أحمد بن حنبل يستدل بقوله: "بكلمات الله التامة"، على أن القرآن غير مخلوق وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستعيذ بمخلوق، وما من كلام مخلوق إلا وفيه نقص، والموصوف منه بالتمام هو غير المخلوق وهو كلام الله سبحانه.
ابن حجر وشرح الحديث:
أما ابن حجر فعند ما شرح الحديث أرانا سر التعوذ والرقية بكلمات الله التامة حيث حكى ما قيل فيها من أن المراد كلامه تعالى أو أقضيته، أو ما وعد به. وقيل التامة: الكاملة، وقيل النافعة، وقيل الشافية، وقيل المباركة، وقيل القاضية؛ التي تمضي وتستمر ولا يردها شيء، ولا يدخلها نقص ولا عيب.
أقول: ولا تنافي بين هذه الأقوال جميعاً فيمكن الجمع بينها، حيث أنها أوصاف كلمات الله فهي التامة الكاملة النافعة الشافية المباركة القاضية التي لا يردها شيء ولا يدخلها نقص ولا عيب وفيها أقضيته سبحانه وما وعد به عباده المرسلين وتابعيهم من المؤمنين والمتقين. وقد بان سر التعوذ بها منذ أبينا إبراهيم عليه السلام فهي النافعة والشافية والمباركة.
الرقية عند أهل الكتاب:(1/205)
وليس بمستغرب أن تكون الرقية بمعنى التعوذ بالله والاستشفاء به في شريعة موسى وعيسى عليهما السلام وغيرهما من الأنبياء والمرسلين، كما كانت في شريعة إبراهيم عليه السلام، وكما شرعت لنبينا صلى الله عليه وسلم. وقد قال تعالى في الآية (13) من سورة الشورى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه).
ومن الموروث الديني تناهت الرقية إلى العرب وإلى أهل الكتاب، لكن دخلها الزيف، كما شابها الشرك، وبقى منها القليل الصحيح صحيحاً لم ير صلى الله عليه وسلم به بأسا؛ بيد أنه اشترط أن تعرض عليه فما كان منها موافقاً للقرآن والسنة أجازه ومالا فلا.
وفي التحرير والتنوير (29/359). قال العلامة الشيخ الطاهر بن عاشور: "وأصل الرقية: ما ورثه العرب من طلب البركة بأهل الصلاح والدعاء إلى الله".
وأصلها وارد من الأديان السماوية، ثم طرأ عليها سوء الوضع عند أهل الضلالة، فألحقوها بالسحر أو بالطب، ولذلك يخلطونها من أقوال ربما كانت غير مفهومة، ومن أشياء كأحجار أو أجزاء من عظم الحيوان أو شعره، فاختلط أمرها في الأمم الجاهلة، وقد جاء في الإسلام الاستشفاء بالقرآن، والدعوات المأثورة المتقبلة من أربابها، وذلك من قبيل الدعاء". أ. هـ.
وفي الموسوعة العربية العالمية (11/255-256): "الاستعاذة من الجن والإنس: وعن أبي ذر في حديث أخرجه الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يتعوذ من شياطين الإنس والجن، ويُفعل ذلك في غير المرض؛ لأن المسلمين يعتقدون بوجود الجن، وأن منهم الكافر، ومنهم المسلم، وأن كافرهم قد يؤذي المسلم إذا لم يتحصن بتعوذات الصباح والمساء، ويقرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة وإذا أوى إلى فراشه؛ فهي حافظة بإذن الله".
مفهوم الرقية (لغة وشرعاً):
عند علماء اللغة:
فسرها عامتهم بالعوذة = التعويذة، وأضاف بعضهم بعض خواصها.(1/206)
فأما الراغب في كتابه: "مفردات ألفاظ القرآن"، ففسر العوذة أولاً ثم انتقل منها إلى الرقية حيث قال: "والعوذة ما يعاذ به من الشيء، ومنه قيل للتميمة والرقية: العوذة. ثم قال: وعوذه إذا وقاه".
وبهذا أبان الراغب أن العوذة في مفهومها أعم من الرقية؛ إذ أن العوذة = التعويذة أو ما يعوذ به ويوقّى يشمل التميمة والرقية، فالرقية إحدى أنواع العوذة.
وقد فسر الراغب- أولاً معنى العوذة، ثم فسر لنا ثانياً لم سميت الرقية عوذة.
ذلك أن الرقية هي ما يلتجأ به إلى الله من الدعاء بكيفية خاصة على ما سيأتي ليقي المريض شر ما يجد وشر ما يحاذر وجوده.
بيد أن الراغب لم يفسر لنا المأخذ الاشتقاقي للرقية، ولا وجه العلاقة بين المعنى اللغوي والمفهوم الشرعي، ولا وجه العلاقة اللغوية بين رقى وعوذ.
أما ابن منظور فلم يزد على ما قال الراغب في تفسيرها وإنما عنى بذكر تصريفات الكلمة ثم أضاف قوله: يقال: رقى الراقي رقية ورقياً إذا عوّذ ونفث في عوذته… الخ.
وقد استقى ابن منظور أصول ما أضاف من السنة النبوية على ما سوف يجيء من أن النفث في الرقية أحد خواص الرقية التي تتميز بها عن الدعاء المجرد، والتعوذ المجرد وغيرهما؛ إذ بدون النفث لا يكون المرء راقياً.
قد تقرأ سورة الفلق في إحدى ركعات صلاتك، فتكون قد تعوذت برب الفلق، من شر ما خلق؛ بيد أنك لا تكون راقياً.
قد ينزع الشيطان بينك وبين زوجك، أو بينك وبين إخوتك، فتستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، كما علمك الله، فتكون مستعيذاً دون أن تكون راقياً.
فكل راقٍ مستعيذ بالله لكن ليس كل مستعيذ بالله راقياً.
لقد حكى الله عن نوح عليه السلام ما استرحم به ربه لولده أن يستنقذه من الطوفان:
(ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين) (1) .
__________
(1) سورة هود: (45-46).(1/207)
فماذا كان جواب نوح عليه السلام؟
(قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلاّ تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين) (1) . فهل كان نوح عليه السلام -حينئذ- راقياً؟
لقد تعوذ بالله أن يسأل ربه ما ليس له علم بإباحة سؤاله إياه، ثم استغفر الله واسترحمه كيلا يكون من الخاسرين.
وما كان المقام مقام بدن مئوف، ولا مرض مخوف، والرقية لا تعدو أن تكون لواحد من نحو هذين الأمرين، فهي إما لتوخي الشفاء والعافية من مرض كائن، أو لتوقي مرض أو محذور يخشى أن يكون.
ابن الأثير في تعريفه للرقية:
وقد لحظ ابن الأثير ذلك في تعريفه للرقية؛ حيث قال: "الرقية [هي] العوذة التي يرقى بها صاحب الآفة كالحمى والصرع وغير ذلك من الآفات". نهاية 2/231.
__________
(1) سورة هود: (47).(1/208)
والذي لم يلحظه ابن الأثير هو ما يتعلق في الرقية بجزئية التعوذ بالله من شر ما يحاذره المرء. وقد أخذنا هذا مما رواه مسلم في صحيحه (2202) (1) . من حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعاً يجده في جسده منذ أسلم؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل: بسم الله (ثلاثاً) وقل (سبع مرات): أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر". وعن مسلم في صحيحه أورد ابن القيم هذا الحديث في الزاد (4/188) مترجماً له بهذا العنوان:
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الوجع بالرقية.
ثم علق على الحديث بقوله:
ففي هذا العلاج من ذكر الله، والتفويض إليه، والاستعاذة بعزته وقدرته من شر الألم: ما يذهب به.
وتكراره ليكون أنجح وأبلغ، كتكرار الدواء لإخراج المادة. وفي السّبْع خاصية لا توجد في غيرها.
خواص الرقية:
ويتحصل لنا إلى الآن من خواص الرقى أمور ثلاثة:
1- النفث.
2- أنها تعويذ للمريض من شر ما يجد من أذى كائن به.
3- أنها تعويذ للمريض من شر ما يحاذر من أذى يخاف أن يكون. ونستكمل باقي الخواص بعد استكمال المعنى اللغوي.
في القاموس:
__________
(1) أخرجه مالك في موطأه: كتاب العين: باب التعوذ والرقية من المرض (2/942) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب استحباب وضع يده على موضع الألم مع الدعاء ح(2202) وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب كيف الرقى ح(3891) والترمذي في سننه: كتاب الطب: باب (29) ح(2087) وقال هذا حديث حسن صحيح وابن ماجه في سننه: كتاب الطب: باب ما عوذ به النبي (صلى الله عليه وسلم) وما عوذ به ح(3522) وانظر تحفة الأشراف ح(9774) وأخرجه أحمد في مسنده (6/390) والنسائي في اليوم والليلة ح(1001) قال النووي يستحب وضع يده على موضع الألم ويأتي بالدعاء المذكور -انظر شرح للنووي على صحيح مسلم (14/189) شرح (2202).(1/209)
مهد الفيروزباذي لبيان معنى الرقية في مادة "عوذ" فذكر أن "العَوْذ" هو الالتجاء كالعياذ والمعاذ والمعاذة والتعوذ والاستعاذة، وأنه بالهاء [العوذة]: الرقية كالمعاذة والتعويذ. وبهذا فرق بين المصدر والاسم. ولعل المراد بالتعويذ المذكور قرين الرقية عمل الراقي، ولعل الأوفق في معنى الرقية أن يقال: التعويذة، حتى لا يلتبس الاسم بالمصدر(1) .
والهاء في العوذة هي المميزة للاسم عن المصدر، كما ذكر في القاموس، فليكن ذلك مع كلمة التعويذ أيضاً.
في المعجم الوسيط: "عاذ"(2) .
"أعاذه بالله: حصنه به وبأسمائه.
وعوذه: أعاذه و- علق عليه العُوذة.
وتعوذ به: لجأ إليه واعتصم، ويقال: تعوذ بالله.
واستعاذ به: تعوذ، يقال: استعاذ بالله.
والعوذ: الملجأ، يقال: فلان عوذ لبني فلان.
ويقال: عوذ بالله منك أي أعوذ بالله".
وهي أمثلة منوعة تقرب معنى التعوذ بالله في الرقية ثم قال: "والعُوذة" التميمة و- الرقية يرقي بها الإنسان من فزع أو جنون. ج عوذ.
فأفاد أن العُوذة بضم العين وزان الرقية.
وأن الجمع عُوَذ كجمع الرقية: رُقىً.
أما في مادة "رقى" فقد جاء في المعجم أيضاً: رقى المريض ونحوه رَقْياً ورقيَّا ورُقية عوّذه.
فأفادنا مصدراً آخر، ثم ضبط الرقية بفتح الراء وضمها.
ثم قال: باسم الله أرقيك والله يشفيك.
ورقيت فلاناً إذا تملقت له.
ورقاه: سل حقده في رفق.
…. والرقية: العوذة التي يرقى بها المريض ونحوه، والجمع رُقى، ويقال لما يؤثر: رقية.
وأفدنا من هذا في الجانب اللغوي أن من خواص الرقية:
1- التملق = التودد والتلطف.
2- الترفق في طلب المأمول.
3- تكرير الطلب مرة بعد أخرى حتى تتحقق الغاية.
4- التأثير.
5- استلال ما بالمرء من شر.
الزمخشري في الأساس: (247-248)
ذكر أن من المجاز في هذه المادة:
ورقى عليه كلاماً: رفع
ورُقي إلى سمعه كذا: [نُمى ورُفع]
__________
(1) القاموس المحيط للفيروزآبادي (1/369).
(2) المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية: (2/641).(1/210)
ورقيت فلاناً إذا تملقت له، وسللت حقده بالرفق؛ كما تُرقى الحية حتى تجيب، ثم استشهد لهذا بقول كثير لعبد الملك بن مروان:
ومازالت رُقاك تسُلّ ضغني وتخرج من مكامنها ضِبابي
ويرقيني لك الحاوون حتى أجابك حية تحت الحجاب
فأكد ما ذكر آنفاً، إلا أنه أفادنا ما ذكره عن مجاز الاستعمال في هذه المادة، وسوف نفيد منه فيما يتعلق باستكمال خصائص الرقية، تمهيداً لاستكمال عناصر تعريفها، وبيان وجه العلاقة اللغوية بين كلمتي الرقية والعوذة، حتى يتبين لنا لماذا سميت العوذة: رقية، أو لماذا فسرت الرقية بالعوذة؟.
ولنتابع الاستقراء بحثاً عن باقي خصائص الرقية:
1- المسح على الوجه وما بلغت اليدان من الجسد:
ففي صحيح البخاري: (5748) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بـ "قل هو الله أحد"، وبالمعوذتين جميعاً ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده قالت عائشة: فلما اشتكى كان يأمرني أن افعل ذلك به"(1) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب فضائل القرآن: باب فضل المعوذات ح(5017) وأبو داود في سننه: كتاب الأدب: باب ما يقول عند النوم ح(5056) والترمذي في سننه: كتاب الدعوات: باب ما جاء فيمن يقرأ من القرآن عند المنام ح(3413) وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح.(1/211)
وفي صحيح مسلم (2191) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى منا إنسان مسحه بيمينه، ثم قال: أذهب الباس رب الناس! وأشف أنت الشافي… الحديث وهو عند البخاري: (5675) (1) .
2- وضع اليد على موضع الألم مع الدعاء:
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب دعاء العائد للمريض ح(5675) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب استحباب رقية المريض ح(2191) وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب في تعليق التمائم ح(3883) والترمذي في سننه: كتاب أحاديث شتى: باب في دعاء المريض ح(3576) وقال هذا حديث حسن وابن ماجه في سننه: كتاب الجنائز باب ما جاء في ذكر مرض الرسول (صلى الله عليه وسلم) ح(1619) وانظر تحفة الأشراف ح(17638) وأخرجه أحمد في مسنده (3/267) و(4/259) و(6/42) والنسائي في اليوم والليلة ح(1042) وابن السني في اليوم والليلة ح(543) قال النووي: الحديث فيه استحباب مسح الريض باليمين والدعاء له وقد جاءت فيه روايات كثيرة صحيحة جمعتها في كتاب الأذكار انظر النووي على صحيح مسلم (14/180).(1/212)
ففي حديث عثمان بن أبي العاص عن مسلم (2202) (1) . أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعاً يجده في جسده منذ أسلم؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ضع يدك على الذي يألم من جسدك وقل: باسم الله ثلاثا وقل سبع مرات: أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر".
3- الدعاء فقط من غير ذكر تعوذ:
__________
(1) أخرجه مالك في موطأه: كتاب العين: باب التعوذ والرقية من المرض (2/942) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب استحباب وضع يده على موضع الألم مع الدعاء ح(2202) وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب كيف الرقى ح(3891) والترمذي في سننه: كتاب الطب: باب (29) ح(2087) وقال هذا حديث حسن صحيح وابن ماجه في سننه: كتاب الطب: باب ما عوذ به النبي (صلى الله عليه وسلم) وما عوذ به ح(3522) وانظر تحفة الأشراف ح(9774) وأخرجه أحمد في مسنده (6/390) والنسائي في اليوم والليلة ح(1001) قال النووي: يستحب وضع يده على موضع الألم ويأتي بالدعاء المذكور -انظر شرح للنووي على صحيح مسلم (14/189) ش ح (2202).(1/213)
في إحدى روايات الحديث السابق في صحيح مسلم (2191) (1) . عن أم المؤمنين عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا عاد مريضاً يقول: "أذهب الباس رب الناس! اشفه أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقماً".
وفي رواية أخرى لهذا الحديث: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى المريض يدعو له قال: "أذهب الباس رب الناس… الحديث".
وفي رواية ثالثة: فدعا له وقال: "وأنت الشافي".
وفي رواية رابعة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرقي بهذه الرقية: "أذهب الباس رب الناس بيدك الشفاء لا كاشف له إلا أنت".
4- التعوذ في الرقية:
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب دعاء العائد للمريض ح(5675) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب استحباب رقية المريض ح(2191) وابو داود في سننه: كتاب الطب: باب في تعليق التمائم ح(3883) والترمذي في سننه: كتاب أحاديث شتى: باب في دعاء المريض ح(3576) وقال هذا حديث حسن وابن ماجه في سننه: كتاب الجنائز: باب ما جاء في ذكر مرض الرسول (صلى الله عليه وسلم) ح(1619) وانظر تحفة الأشراف ح(17638) وأخرجه أحمد في مسنده (3/267) و(4/259) و(6/42) والنسائي في اليوم والليلة ح(1042) ،وابن السني في اليوم والليلة ح(543) ،قال النووي: الحديث فيه استحباب مسح المريض باليمين والدعاء له وقد جاءت فيه روايات كثيرة صحيحة جمعتها في كتاب الأذكار انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/180).(1/214)
قد يكون بمادة التعوذ وقد يكون بمادة الرقية، فمن الأول: قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم من حديث عثمان السابق (2202)… وقل سبع مرات: "أعوذ بالله وقدرته… الحديث". ومن الثاني ما رواه مسلم في صحيحه (2185) من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان إذا اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم رقاه جبريل قال: "باسم الله يبريك، ومن كل داء يشفيك، ومن شر حاسدٍ إذا حسد، وشر كل ذي عين"(1) .
ومن هذا أيضاً ما رواه مسلم في صحيحه عقب هذا الحديث من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمداً اشتكيت؟ فقال: "نعم". قال: "باسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسدٍ الله يشفيك، باسم الله أرقيك".
وهذا الحديث يفسر سابقه.
فقول عائشة رضي الله عنها: "رقاه جبريل تعنى: عوذه، وقولها: قال: باسم الله تقديره: أعوذك باسم الله، ومعناه أعوذك بالله: وقول جبريل عليه السلام يبريك معناه: الله يبريك يعني: يشفيك… وقول جبريل: ومن شر حاسدٍ… أي وأعوذك بالله من شر حاسدٍ… الحديث".
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب الطب والمرض والرقى ح(2185) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب الطب والمرض والرقى ح(2186) والترمذي في سننه: كتاب الجنائز: باب ما جاء في التعوذ للمريض ح(974) وابن ماجه في سننه: كتاب الطب: باب ما عوذ به النبي (صلى الله عليه وسلم) وما عوذ به ح(3523) وانظر تحفة الأشراف ح(5363) وأخرجه أحمد في مسنده (3/28-56) والنسائي في اليوم والليلة ح(1005) قال النووي هذا تصريح بالرقى بأسماء الله تعالى وفيه توكيد الرقية والدعاء وتكريره، وقوله من شر كل نفس قيل: يحتمل أن المراد بالنفس نفس الأدمى وقيل يحتمل أن المراد بها العين فإن النفس تطلق على العين ويقال رجل نفوس إذا كان يصيب الناس بعينه. انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/170).(1/215)
التقدير في الحديث الثاني واضح، وقوله أرقيك لا تحتمل إلا معنى: أعوذك.
6- وقد يتبادر من الفقرة (3) التي أوردناها عن الرقية بالدعاء من غير ذكر تعوذ أن الرقية تتم بالدعاء وحده في بعض صورها. بيد أن روايات الحديث في صحيح البخاري ترينا أن الأمر ليس على ما قد يتبادر.
469-
فأول روايات الحديث فيه (5675) (1) جاءت دعاء فحسب بنحو ما عند مسلم (2191) (2)
__________
(1) "أذهب الباس رب الناس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما" أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب دعاء العائد للمريض ح(5675) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب استحباب رقية المريض ح(2191) وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب في تعليق التمائم ح(3883) والترمذي في سننه: كتاب أحاديث شتى: باب في دعاء المريض ح(3576) وقال هذا حديث حسن وابن ماجه في سننه: كتاب الجنائز: باب ما جاء في ذكر مرض الرسول (صلى الله عليه وسلم) ح(1619) وانظر تحفة الأشراف ح(17638) وأخرجه أحمد في مسنده (3/267) و(4/259) و(6/42) والنسائي في اليوم والليلة ح(1042) وابن السني في اليوم والليلة ح(543) قال النووي: الحديث فيه استحباب مسح المريض باليمين والدعاء له وقد جاءت فيه روايات كثيرة صحيحة جمعتها في كتاب الأذكار انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/180).
(2) "كان يعوذ بعض أهله، يمسح بيده اليمنى ويقول: اللهم رب الناس اذهب الباس، اشفه أنت الشافي، لا شفاء ألا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما". أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب دعاء العائد للمريض ح(5675) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب استحباب رقية المريض ح(2191) وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب في تعليق التمائم ح(3883) والترمذي في سننه: كتاب أحاديث شتى: باب في دعاء المريض ح(3576) وقال هذا حديث حسن وابن ماجه في سننه: كتاب الجنائز: باب ما جاء في ذكر مرض الرسول (صلى الله عليه وسلم) ح(1619)، وانظر تحفة الأشراف ح(17638) وأخرجه أحمد في مسنده (3/267) و(4/259) و(6/42) والنسائي في اليوم والليلة ح(1042) وابن السني في اليوم والليلة ح(543) قال النووي: الحديث فيه استحباب مسح المريض باليمين والدعاء له وقد جاءت فيه روايات كثيرة صحيحةجمعتها في كتاب الأذكار انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/180).(1/216)
.
وثاني الروايات للحديث في البخاري (5743) (1) عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوذ بعض أهله يمسح بيده اليمنى ويقول: "اللهم رب الناس! اذهب الباس واشفه… الحديث".
وثالث الروايات (5744) (2) عنها رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرقي يقول: "امسح الباس رب الناس… الحديث".
__________
(1) "كان يرقي يقول: امسح الباس، بيدك الشفاء لا كاشف له إلا أنت" أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب دعاء العائد للمريض ح(5675) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب استحباب رقية المريض ح(2191) وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب في تعليق التمائم ح(3883) والترمذي في سننه: كتاب أحاديث شتى: باب في دعاء المريض ح(3576) وقال هذا حديث حسن وابن ماجه في سننه: كتاب الجنائز: باب ما جاء في ذكر مرض الرسول (صلى الله عليه وسلم) ح(1619) وانظر تحفة الأشراف ح(17638) وأخرجه أحمد في مسنده (3/267) و(4/259) و(6/42) والنسائي في اليوم والليلة ح(1042) وابن السني في اليوم والليلة ح(543) قال النووي: الحديث فيه استحباب مسح المريض باليمين والدعاء له وقد جاءت فيه روايات كثيرة صحيحة جمعتها في كتاب الأذكار انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/180).
(2) كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يعوذ بعضهم، بمسحه بيمينه: "اذهب الباس، رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء ى يغادر سقما".(1/217)
أما الرواية الرابعة (5750) (1) .ففيها قول عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ بعضهم يمسحه بيمينه، ويقول: "أذهب الباس رب الناس… الحديث".
__________
(1) رواية مسلم: "اذهب الباس، رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما". أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب دعاء العائد للمريض ح(5675) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب استحباب رقية المريض ح(2191) وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب في تعليق التمائم ح(3883) والترمذي في سننه: كتاب أحاديث شتى: باب في دعاء المريض ح(3576) وقال هذا حديث حسن وابن ماجه في سننه: كتاب الجنائز: باب ما جاء في ذكر مرض الرسول (صلى الله عليه وسلم) ح(1619) وانظر تحفة الأشراف ح(17638) وأخرجه أحمد في مسنده (3/267) و(4/259) و(6/42) والنسائي في اليوم والليلة ح(1042) وابن السني في اليوم والليلة ح(543) قال النووي: الحديث فيه استحباب مسح المريض باليمين والدعاء له وقد جاءت فيه روايات كثيرة صحيحة جمعتها في كتاب الأذكار انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/180).(1/218)
وهي روايات تكمل رواية مسلم التي خلت من التعويذ ومن لفظ الرقية، كما تكمل الرواية الأولى للحديث عند البخاري، إذ أنها جميعاً رواية أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. فإذا كانت الرواية عند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا عاد مريضاً يقول، أو يدعو له، قال: "أذهب الباس رب الناس!… الحديث". وبنحوه عنه البخاري في روايته الأولى للحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أتى مريضاً أو أتى به قال: "أذهب الباس رب الناس… الحديث". فمعنى الحديث بضميمة ما في الروايات الأخرى عند البخاري أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أتى مريضاً أو أتى له به- من أهله أو من غيرهم- عوذه بأن قال مثلاً باسم الله أرقيك، ونفث في عوذته ثم مسح بيده أو بيديه اللتين تلقتا نفسه الشريف ونفثه الندي برقيته- على موضع الألم أو على ما بلغت يده أو يداه الشريفتان من جسد المريض. ثم دعا له بقوله: "اللهم رب الناس أذهب الباس… الحديث"، ونحو ذلك.
فكل عنصر يستفاد من رواية يضم إلى باقي عناصر الروايات الأخرى، ثم تفهم كل رواية في ضوء ما يفهم من غيرها، وفقه المسألة وحكمها وكيفيتها يؤخذ من الروايات جميعاً سواء أكانت الروايات لراو واحد من الصحابة أو لعدة رواة.
تعريف الرقية (شرعاً):
وبناء على ما سبق نستطيع أن نعرف الرقية بما يلي:
الرقية هي ما شرعه الله وبينه رسوله ليلتجئ المرء به إلى الله عز وجل وحده تطلباً لمعافاته سبحانه من شر كائن، أو وقاية له من شر يحاذر أن يكون.
كيفيتها:
أما كيفيتها فهي تلقي نفث المتعوذ أو نفسه المتندى بريقه على باطن كفيه حين يرقي بكلمات الرقية ثم مسحه بيده على وجهه وما بلغت يداه من ظاهر بدنه، أو وضع اليد على موضع الألم حين الرقية.
شروط صحتها:
1-… أن تكون بما جاء عن الله ورسوله في الكتاب والسنة نصاً، وهو الأولى والأفضل، أو معنى إن لم يتيسر التزام اللفظ.(1/219)
2-… أن تكون باللسان العربي أو بما يعرف معناه من غيره.
3-… أن يعتقد الراقي أن الشافي والواقي هو الله وحده، وأنه لا شفاء إلا شفاؤه، ولا معافاة إلا معافاته.
4-… أن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها، إنما التأثير بأمر الله وإذنه، حتى لا يتنافى عمل الراقي مع حقيقة التوكل، ولا مع التوكل الحقيقي على الله عز وجل ويراجع –لزاماً- ما أورده ابن حجر في الفتح (10/205-208) تعليقاً على حديث رقم (5735) كتاب الطب: باب الرقية بالقرآن والمعوذات(1) .
تسمية العوذة رقية:
ونحسب أن التعويذة سميت رقية لما يلي:
1-… أن الاستعمال اللغوي للرقية يأتي بمعنى التعويذ، ومن ذلك قول جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم: "باسم الله أرقيك"، أي أعوذك، وتقديم الجار والمجرور يفيد القصر، وكما مضى: فالتقدير بالله أعوّذك لا بغيره؛ فما لدى غيره نفع ولا ضرر.
2-… ذكرنا المعنى اللغوي لقولهم: "رقى عليه كلاماً" -أي: رفع. والمعوذ كأنما يرقَي على نفسه أو على غيره بكلام الرقية؛ سيما وهو يمسح بيده نفثه على الوجه، وما نالته اليدان من ظاهر البدن.
3-… التأثير؛ حيث يتوخى الراقي التأثير بالرقية، والعرب تقول لما يؤثر: رقية، وقد سبق ذلك.
إلا أن المسلم يوقن –كما قلنا- أن التأثير بذاته تعالى لا برقية الراقي، أما غير المسلم فيعتقد أن للرقية تأثيراً بذاتها؛ ولهذا أبطل الإسلام هذا الاعتقاد، واعتبره شركاً، كما اعتبر من الشرك كل ما يعتقد المسلم أن له تأثيراً بذاته كالتميمة والتِّولَة وما إليها.
4-…الاستسلال؛ حيث يضرع الراقي إلى الله أن يستل ما به أو بمن يرقيه من مرض كائن أو خوف من خطر يوشك أن يكون.
__________
(1) انظر فتح الباري لابن حجر (10/205-208) ش ح (5735).(1/220)
ومن ذلك ما رواه أبو داود (3883) (1) . وابن ماجه (3530) (2) .وغيرهما بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرقى والتمائم والتولة شرك". والمقصود بالرقى ما كان على نهج الجاهلية بأسماء الشياطين والأصنام واعتقاد تأثيرها بذاتها.
والتمائم: جمع تميمة وهي الخرزات التي يعلقها النساء في أعناق الأولاد بزعم أنها تؤثر وتدفع العين وتحفظ الطفل. قال أبو منصور: "وجعلها ابن مسعود من الشرك لأنهم جعلوها واقية من المقادير والموت، وأرادوا دفع ذلك بها، وطلبوا رفع الأذى من غير الله الذي هو دافعه، فكأنهم جعلوا له شريكاً فيما قدر وكتب من آجال العباد والأعراض التي تصيبهم، ولا دافع لما قضى، ولا شريك له تعالى وتقدس فيما قدر.
والتولة: نوع من السحر تجلب به المرأة محبة زوجها، وهي شرك إذ تقترن –عادة- باعتقاد أن لها تأثيرا حقيقة ويراجع فتح الباري (10/206) ومصباح الزجاجة (4/128) واللسان (تمم) وكان الأولى بأبي منصور الثعالبي أن يقول: وجعلها الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الحديث المرفوع ينبئ عن ذلك وإن كان الراوي له عبد الله بن مسعود (3) .
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الطب: باب في تعليق التمائم ح(3883) وابن ماجه في سننه: كتاب الطب: باب تعليق التمائم ح(3530) وانظر تحفة الأشراف ح(9643) وأخرجه أحمد في مسنده (1/381) والحاكم في مستدركه (4/217) وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأقره الذهبي. وأخرجه البيهقي في الكبرى: كتاب الضحايا: باب التمائم (9/350) وانظر صحيح سنن أبو داود للألباني ح(3288).
(2) انظر شرح السندي على ابن ماجه (4/128) ش ح(3530) بتصريف.
(3) انظر لسان العرب لابن منظور (12/70) مادة (تمم) وكان أولى بأبي منصور الثعالبي أن يقول: وجعلها الرسول (صلى الله عليه وسلم) لأن الحديث المرفوع ينبئ عن ذلك وإن كان الراوي له عبد الله بن مسعود.(1/221)
5-…التكرار: وهذا ظاهر فالعربي كان حين يرقي (يعزم) للحية يكرر رقياه ويتلطف في ذلك حتى تخرج من مكمنها.
والرقية الشرعية: تكرر في نفسها وكل يوم وليلة حسبما ورد في السنة الصحيحة. ولا غنى عنها لمؤمن لأنه لا يخلو حاله من أذى يجده أو أذى يحاذره.
الترفق والتلطف:
ودليل هذا: النفث في الرقية الذي يتطلب خفض الصوت في مخاطبة المولى سبحانه والإخبات والضراعة في طلب الشفاء منه سبحانه، سواء في ذلك ما كان بآيات الشفاء وسوره، أو ما كان بالمأثور الصحيح من السنة.
وفي تفسير آيات الاستشفاء ومساقها وسور الرقي والشفاء معاني آياتها كالفاتحة والإخلاص والمعوذتين أورد ابن القيم في زاد المعاد والعلاَّمة الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير والعلامة البقاعي في نظم الدرر في تناسب الآيات والسور الرائع والفريد.
ضرورة الخبرة بالرقية:
ولنمهد لذلك بالسؤال التالي:
هل من ضرورات المجتمع الإسلامي أو حاجياته أن يكون من بين أفراده خبراء في فقه الرقية الشرعية، بصراء بالسنة الصحيحه فيها؛ بحيث يفزع إليهم المجتمع كلما نصب الباطل شر آله فيها، أو لوح الدجل بشراعه في محيطها، وبحيث يرجع إليهم الفرد الذي لا خبرة له بها، أو لا صلاحية عنده –آنياً- لممارستها، وذلك إذا حزبه للرقية مرض، أو حفزه إليها غرض؟.
استقراء التاريخ والسنة:
وقبل أن نجيب على هذا السؤال يحسن بنا أن نستقرئ التاريخ والسنة النبوية.
ولعلنا واقفون من السنة –بعون الله- على توثيق التاريخ وتأصيل الحكم الذي يجاب به على السؤال الآنف.
1-…خبراء الرقية في العهد النبوي:
في واقعة الرقية بالفاتحة:
وهي واقعة مشهورة يروي قصتها الشيخان وأصحاب السنن وغيرهم، وسنركز منها على ما يتعلق بهذه الجزئية.
أ -…في صحيح البخاري:(1/222)
في مواضيع مختلفة روى البخاري هذه الواقعة، سيما من رواية أبي سعيد الخدري. وأول هذه المواضع: 37- كتاب الإجارة: 16-باب ما يعطى في الرقية على أحياء العرب بفاتحة الكتاب ح (2276) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: انطلق نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة سافروها حتى نزلوا على حي من أحياء العرب، فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا؟ لعله أن يكون عند بعضهم شيء؟ فأتوهم، فقالوا: يأيها الرهط! إن سيدنا لدغ، وسعينا له بكل شيء، لا ينفعه، فهل عند أحد منكم من شيء؟ فقال بعضهم: نعم والله! إني لأرقي… الحديث (1).
وقبل أن نمضي إلى الروايات الأخرى ينبغي أن نكون على ذكر مما يلي:
1-…قول أهل الحي: "لعله أن يكون عند بعضهم شيء".
وهم يرومون الرقية كما سوف يجيء.
وقولهم هذا يشى بما كان متعارفا حتى قبل الإسلام من أن الخبرة بالرقية لم تكن أمراً شائعاً، بل كانت عند الخبراء بها، وأهل ذاك الحي لم يجاوزوا هذا العرف عند ما قال بعضهم… لعله أن يكون عند بعضهم شيء.
2-…قول أهل الحي للمسلمين –وقد استنفدوا وسائل العلاج المتاحة لهم: فهل عند أحد منكم شيء؟ (أي من رقية؟) فهي التي لا علم لنا بها، ولا خبرة لنا فيها.
3-…قول الخبير بالرقية –وهو أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: نعم والله! إني لأرقي… الحديث.
واستغراب أصحابه كما سوف يجيء.
ب -…الموطن الثاني للحديث في صحيح البخاري:
__________
(1) راجع الفتح 4/532.(1/223)
في: 66 -كتاب فضائل القرآن: 9 –باب فاتحة الكتاب ح (5007) وفيه يقول أبو سعيد: كنا في مسير لنا فنزلنا (أي بقوم ليلاً فسألناهم القرى) فجاءت جارية (منهم أي وكان معها غيرها جمعا بينها وبين ما جاء في غيرها عند البخاري وغيره كما أفاد ابن حجر في الفتح (4/533) فقالت: إن سيد الحي سليم، وإن نفرنا غيب؛ (أي الذين يرقون أو يبحثون عمن يرقي) فهل منكم راق؟ فقام معها رجل ماكنا نأبنه برقية (أي ماكنا نظنه يحسن رقية) فرقاه فبرأ… الحديث (1).
ولنلحظ هنا قول الجارية: فهل منكم راق؟
وكيف أنه لم يقم معها ومع من جاء معها إلا رجل واحد وليتأكد به ما سبق أن أومأنا إليه.
جـ- الموضع الثالث في صحيح البخاري:
في: 76 –كتاب الطب: 33 –باب الرقى بفاتحة الكتاب ح (5736) وفيه أن أهل الحي قالوا لهم: هل معكم من دواء أوراق؟… الحديث.
ولنلحظ قول أهل الحي: هل معكم… إلخ.
ليتأكد لنا ما قاله ابن حجر في الفتح (4/533) تعليقاً على قول الجارية (يحمل على أنه كان معها غيرها زاد البزار في حديث جابر فقالوا لهم: قد بلغنا أن صاحبكم جاء بالنور والشفاء؟ قالوا: نعم".
ورواية البزار تفيد بالإضافة إلى ما صرح به ابن حجر: أن الدافع لهم إلى الاسترقاء بهذا الرهط من الصحابة ما بلغهم عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنه جاء بالنور والشفاء، وهؤلاء هم صحابته، والآخذون عنه ما جاء به.
وينظر أيضاً صحيح مسلم ح (2201) بطرقه ووجوهه.
ومن حديث أبي سعيد كذلك رواه أحمد في المسند (11070) قال أبو سعيد: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية، ثلاثين راكباً، قال: فنزلنا بقوم من العرب، قال: فسألناهم أن يضيفونا فأبوا قال: فلدغ سيدهم قال: فأتونا فقالوا: فيكم أحد يرقى من العقرب؟ قال: فقلت: نعم أنا… الحديث.
ويلحظ أن أبا سعيد كان هو أمير السرية، وكان هو الراقي وأن أهل الحي سألوا عمن لديه خبرة برقية العقرب.
__________
(1) راجع الفتح 4/532.(1/224)
كما رواه أحمد في المسند (11472) من حديث أبي سعيد أيضاً وفيه أن رجلاً من أهل القرية جاءهم فقال: يا معشر العرب! فيكم رجل يرقى؟ فقال أبو سعيد: قلت: وما ذاك؟ قال: ملك القرية يموت قال: فانطلقنا معه، فرقيته بفاتحة الكتاب، فرددتها عليه مرارا فعوفى، فبعث إلينا بطعام وبغنم تساق فقال أصحابي: لم يعهد إلينا النبي صلى الله عليه وسلم في هذا بشيء لا نأخذ منه شيئاً حتى نأتي النبي صلى الله عليه وسلم فسقنا الغنم حتى أتينا النبي صلى الله عليه وسلم فحدثناه فقال: كل وأطعمنا معك وما يدريك أنها رقية؟ قال: قلت: ألقي في روعي".
ويلحظ من هاتين الروايتين أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه كانت لديه خبرة برقية العقرب بيد أنه لما قام يرقى بها الرجل ألقى الله في روعه أن يرقيه بالفاتحة، وسأله النبي صلى الله عليه وسلم "وما يدريك ؟".
وكما ذكر ابن حجر (4/534) ففي رواية أخرى "وما أدراك؟" وفي رواية ثالثة: "وما كان يدريه؟" وهي كلمة تقال عند التعجب من الشيء، وتستعمل في تعظيم الشيء أيضاً وهو لائق هنا، وقد فسر أبو سعيد كيف رقى الرجل بالفاتحة.
وعند الدارقطنى في السن (2/48) ح (3018) قلت: يا رسول الله! "شيء ألقى في روعى".
دلالة هذه الروايات:
والدلالة بيّنة من هذه الروايات:
1- إن كلا منها يؤكد أن الخبرة بالرقية إنما هي عند أهل الفقه فيها والصلاحية لها.
2-… الأمر بالتماس الخبير بالرقية ذى الأهلية لها.
في: 76 –كتاب الطب: 35 –باب رقية العين ح (5739): روي البخاري في صحيحه من حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة (صفرة وشحوبا) فقال: "استرقوا لها؛ فإن بها النظرة".
والاسترقاء هو التماس الراقي العارف بفقهها وصيغتها، الخبير بشروطها وكيفيتها.(1/225)
ولقد كان من الممكن أن يرقيها صلى الله عليه وسلم كما كان من الممكن أن يأمر أم سلمة أن ترقيها؛ ولعله صلوات الله وسلامه عليه أراد أن يقر المبدأ الهام في هذا أعني مبدأ وجوب تخير الفقيه العارف المبارك، أو الفقيهة الصالحة المباركة، سيما والمراد رقيتُها: جاريةٌ أصابتها عين.
وليس كل الناس يحسنون الرقية، أو يصلحون لها.
وكل مسلم مدعو إلى الأخذ بسنة الرقية:
…وذلك لا ينافي دعوة الإسلام كل مسلم ومسلمة إلى سنة الرقية، سيما إذا كانت وقاء للمرء مما يحاذر، أو كانت عند افتقاد الطبيب، أو تعذر الراقي.
3- التماس المبارك مع وجود الخبرة:
…ونحن على ذكر من صنيع أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين استرقاها الرسول صلى الله عليه وسلم لنفسه، وذلك عندما ثقل به المرض، لقد رأيناها ترقى وتنفث في الرقية على يد الرسول صلى الله عليه وسلم لتمسح بها بدنه لأنها كانت توقن أنها أعظم بركة من يدها، وأطيب أثراً.
ابن حجر يوضح معنى الاسترقاء:
وتعليقاً على ما رواه البخاري في صحيحه: 76 –كتاب الطب: 35 –باب رقية العين ح (5738) عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أمر أن يسترقى من العين".
قال ابن حجر في الفتح (10/211):أي أمر بطلب الرقية ممن يعرف الرقى بسبب العين.
4- عرض الخبير بالرقية على الرسول صلى الله عليه وسلم وترخيصه منها بما ليس شركاً:
روى مسلم في صحيحه: 39 –كتاب السلام: 21 –باب لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك ح (2200) من حديث عوف ابن مالك الأشجعي قال:
…كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله! كيف ترى في ذلك؟ فقال: اعرضوا على رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك".
حديث جابر:
وفي باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة من الكتاب نفسه روى مسلم حديث جابر رضي الله عنه (2199) قال: أرخص النبي صلى الله عليه وسلم في رقية الحية لبني عمرو.(1/226)
وفي رواية تالية يقول جابر: كان لي خال يرقى من العقرب فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقى، قال: فأتاه فقال: يا رسول الله! إنك نهيت عن الرقى، وأنا أرقى من العقرب فقال: "من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل".
هل نفع الآخرين مطلق؟
وقد يتبادر إلى الذهن أن هذا القول النبوي الجامع ترخيص مطلق غير مشروط.
…كما قد يتبادر أنه صلى الله عليه وسلم فوض إليهم في ذلك دون أن يبلو الرقية بنفسه.
…ولهذا أعقب مسلم هذه الرواية بما رواه عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقى فجاء آل عمرو بن حزم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! إنه كانت عندنا رقية نرقى بها من العقرب، وإنك نهيت عن الرقى؟ قال: فعرضوها عليه فقال: ما أرى بها بأساً، من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه".
…وعرضهم للرقية على النبي صلى الله عله وسلم قد يكون لأمره إياهم في هذا الحديث ولم يذكر اكتفاء بما يدل عليه من قول جابر: فعرضوها عليه، أي بعد أمره صلى الله عليه وسلم بذلك.
…وقد يكون ذلك لسبق علمهم بأمره صلى الله عليه وسلم لخبراء الرقية بعرض ما عندهم منها عليه صلى الله عليه وسلم ليبلو ما فيها من حق، ومن براءة من الشرك.
…وقد سبق أن ذكرنا حديث عوف بن مالك الأشجعي في صحيح مسلم (2200) وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "اعرضوا على رقاكم".
5- تنمية مهارات الرقية ورقية المفضول مع وجود الأفضل:
كان صلى الله عليه وسلم يرقي نفسه، كما كان يرقي غيره، كما كان يأمر المسلم أن يرقي نفسه ويرقي غيره ويأذن لمن استأذنه أن يرقي غيره.(1/227)
…وقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول (2198): رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لال حزم في رقية الحية، وقال لأسماء بنت عميس: "مالي أرى أجسام بني أخي (جعفر بن أبي طالب) ضارعة؟ تصيبهم الحاجة؟ قالت: لا ولكنها العين تسرع إليهم، قال: ارقيهم قالت: فعرضت عليه فقال: ارقيهم".
…وذلك تنمية لمهارة الرقية، وإجازة لرقية المفضول مع وجود الفاضل.
…ثم روى عقبه من حديث أبي الزبير قال: وسمعت جابر بن عبد الله يقول: لدغت رجلاً منا عقرباً ونحن جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل من القوم أرقيه؟ يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل".
…ولولا ضيق المقام لأوردنا من ذلك ما يقفنا على بعض أسراره، ويضيء حياتنا بقبس من أنواره، ولعل من واجبنا أن نفرد لذلك بحثاً على حياله، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
http://www.islamset.com/arabic/ahip/altashfe/rewshed.htm
رسالة إلى الرقاة
عبد المحسن محمد الرويشد
مقدمة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده،
أما بعد:
فلما ابتعد الناس عن منهج الله وأصبحوا في منأى عن آياته في عصرنا هذا، جرت فينا السنة الإلهية ابتلاءً من الله تعالى لينظرنا هل نكفر أو نرجع، قال تعالى: (ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا فلا تعجل عليهم) (1) .
وحيث إن ظاهرة الأمراض المتعلقة بالجن قد انتشرت، فقد انبرى لها من سخرهم الله تعالى لخدمة عباده من أصحاب المنهج القويم، ثم فُتِح الباب فكان الناس فيه ثلاثة أصناف:
الأول: مرتزقة مشعوذون فهؤلاء- لا حياهم الله - لا يستحقون منا إلا الطرد كي لا يفسدوا على الناس عقائدهم.
الثاني: من التزموا منهج السلف في العلاج بالقرآن، فأفادوا واستفادوا لهم الأجر الجزيل من الله تعالى.
__________
(1) سورة مريم: (83).(1/228)
الثالث: جماعة من المسلمين يحبون الخير وابتغاء مرضاة الله، ولكنهم ضلوا الطريق عن حسن نية، ولم يجدوا موجها، ولم يدركوا أصول هذا الفن من العلم.
لذلك كان لزاما علىَّ أن أكتب إليهم هذا البحث؛ فإلى الصنف الأول: تحذير الناس منه وصرفهم عنه. وإلى الصنف الثاني: ذكرى لي ولهم لعل الذكرى تنفعنا. وإلى الصنف الثالث: تعليم وتوجيه.
وبعد، فهذه رسالة مفيدة مختصرة أوجهها لكل راق سلك طريق العلاج بالقرآن الكريم. أوجهها لكل مؤمن ومؤمنة من أتباع الرسول المعلم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. فيها ذكرى لمن أراد أن يذكر، أو أراد شكورا. وأوجهها لمن نذروا أنفسهم لخدمة إخوانهم المسلمين. لمن يخافون الله ويرجون ثوابه، ولمن يشعرون بالمسؤولية الملقاة على عاتقهم بالدعوة إلى الله وعلاج إخوانهم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وقد ضمنتها ثلاثة فصول:
الأول: فيما يتعلق بالرقية؛ كونها آيات وأحاديث لمساعدة الناس.
الثاني: فيما يتعلق بالراقي نفسه والآداب التي يجب أن يتحلى بها، وأدواته، وأهم المعلومات التي يحتاج إليها.
الثالث: خمنته مسألة طال الخلاف فيها وهي: مسألة الجلوس للرقية. وقد وضعت لها ضوابط وشروط؛ توفيقا بين الآراء وخروجا من الخلاف، والله أعلم.
وأسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يرزقني والمسلمين العلم النافع والعمل الصالح الخالص لوجهه الكريم. وصلى الله وسلم على قدوتنا ومعلمنا وإمامنا وقائدنا محمد بن عبد الله وآله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين.
أخي في الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: يقول الله عز وجل: (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) (1) .
وقال تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى) (2) .
__________
(1) سورة الذاريات: (55).
(2) سورة المائدة: (2).(1/229)
وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أنه قال: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم" (1) . ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" (2)
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الإيمان: باب بيان أن الدين النصيحة ح(55). وأبو داود في سننه: كتاب الأدب في النصيحة ح(4944) والترمذي في سننه: كتاب البر والصلة: باب ما جاء في النصيحة ح(1932). وقال: هذا حديث حسن صحيح. والنسائي في سننه: كتاب البيعة: باب النصيحة للإمام ح(4208). وانظر تحفة الأشراف (2053). وأخرجه أحمد في مسنده (1/351) و(2/297) قال الخطابي: النيحة كلمة يعبر بها عن جملة هي إرادة الخير للمنصوح له فمعنى النصيحة لله سبحانه: صحة الاعتقاد في وحدانيته وإخلاص النية في عبادته. والنصيحة لكتابه: الإيمان به والعمل بما فيه. والنصيحة لرسوله: التصديق بنبوته وبذل الطاعة له فيما أمر به ونهى عنه. والنصيحة لعامة المسلمين: إرشادهم إلى مصالحهم -انظر جامع العلوم والحكم لابن لاجب ص (74). كما أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الشروط: باب ما يجوز من الشروط في الإسلام والأحكام والمبايعة ح(2715) ومسلم في صحيحه: كتاب الإيمان: باب بيان أن الدين النصيحة ح(56). والترمذي في سننه: كتاب البر والصلة: باب ما جاء في النصيحة ح(1933). وقال: وهذا حديث صحيح. والنسائي في سننه: كتاب البيعة: باب البيعة على النصح لكل مسلم ح(4167). وانظر تحفة الأشراف ح(3210) وأخرجه أحمد في مسنده (4/358 و365).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الإيمان: باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ح(13). ومسلم في صحيحه: كتاب الإيمان: باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير ح(45). والترمذي في سننه: كتاب صفة القيامة: باب (59) ح(2523) وقال: هذا حديث حسن صحيح. والنسائي في سننه: كتاب الإيمان: باب علامة الإيمان ح(5031) وابن ماجة في سننه: كتاب السنة: باب في الإيمان ح(66) وانظر تحفة الأشراف ح(1239). قال العلماء رحمهم الله: معناه لا يؤمن الإيمان التام وإلا فأصل الإيمان يحصل لمن لم يكن بهذه الصفة. والمراد يحب لأخيه من الطاعات والأشياء المباحات -شرح النووي على صحيح مسلم (2/16).(1/230)
.
أخي في الله
بدافع من التوحيد، والحب لكم في الله، أكتب لكم هذه الرسالة لعل الله أن ينفع بها؛ سائلا المولى عز وجل أن يزيدني وإياكم علماً وعملا وإخلاصا، وأن يجعلني وإياكم ممن إذا أعطي شكر، وإذا أذنب استغفر، وإذا ابتلي صبر.
أخي في الله
اعلم وفقك الله للعلم والعمل والإخلاص في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من دل على خير فله مثل أجر فاعله" (1) . ويقول رسول صلى الله عليه وسلم: "لأنْ يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم" (2) .
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الإمارة: باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب وغيره وخلافته في أهله ح(1893).وأبو داود في سننه: كتاب الأدب: باب في الدال على الخير ح(5129). والترمذي في سننه: كتاب العلم: باب ما جاء الدال على الخير كفاعله ح(2680) وقال: هذا حديث حسن صحيح. وأحمد في مسنده (4م120) و(5/272 و273). قال النووي: المراد بمثل أجر فاعله أن له ثوابا بذلك الفعل كما أن لفاعله ثواباً ولا يلزم أن يكون قدر ثوابهما سواء -أنظر شرح النووي على صحيح مسلم (13/39).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الجهاد والسير: باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام والنبوة وأن لا يتخذ بعضهم بعضاً أربابا من دون الله ح(2942). ومسلم في صحيحه: كتاب فضائل الصحابة: باب فضائل علي بن أبي طالب ح(2406). وأبو داود في سننه: كتاب العلم: باب فضل نشر العلم ح(3661). وأحمد في مسنده (5/333). قال النووي: حمر النعم: هي الإبل الحمر وهي أنفس أموال العرب يضربون بها المثل في نفاسة الشيء وأنه ليس هناك أعظم منه. انظر شرح النووي على صحيح مسلم (15/178).(1/231)
وأن كل عمل له مثوبته إذا أقدم عليه الإنسان باحتساب وإخلاص ومتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والشعور بأنه رسالة يجب أن يؤديها وبشرط أن لا يتحول العمل إلى وظيفة لكسب الرزق؛ وكذلك العلاج بالقرآن إذا تحول إلى وظيفة لكسب المال - فتلك طامة كبرى.
تمهيد
القرآن شفاء من كل داء
قال تعالى:
(وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا) (1) .
قال: ابن كثير - رحمه الله: القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين، أي يذهب ما في القلوب من أمراض، من شك ونفاق وشرك وزيغ وميل. فالقرآن يشفي من ذلك كله، وهو أيضا رحمة يحصل فيها الإيمان والحكمة وطلب الخير والرغبة فيه، وليس هذا إلا لمن آمن به وصدقه واتبعه فإنه يكون شفاء في حقه ورحمة.
أما الكافر الظالم نفسه بذلك فلا يزيده سماعه للقرآن إلا بعدا وكفرا، والآفة من ذلك الكافر لا من القرآن لقوله تعالى:
(قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد) (2) .كما فهمها المفسرون (3) .
قال قتادة - في قوله تعالى:(وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين)
قال: إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه. (ولا يزيد الظالمين إلا خسارا)، أي لا ينتفع به الظالم ولا يحفظه ولا يعيه. فإن الله جعل هذا القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين (4) .
قال القرطبي - رحمه الله: القرآن شفاء للقلوب بزوال الجهل عنها وإزالة الريب، ولكشف غطاء القلب من مرض الجهل. وكذلك شفاء من الأمراض الظاهرة بالرقي والتعوذ ونحوه (5) .
فالأصل في التداوي يكون بالقرآن ثم بالأسباب الدوائية - فالقرآن طب القلوب ودواؤها، وعافية الأبدان وشفاؤها فمنه ينزل ما هو شفاء للإنسان.
__________
(1) سورة الإسراء: (82).
(2) سورة فصلت: (44).
(3) انظر مثلاً تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/59).
(4) المرجع السابق (3/59).
(5) انظر جامع لأحكام القرآن للقرطبي (10/316).(1/232)
فالله تبارك وتعالى قال "شفاء" ولم يقل "دواء" لأنها نتيجة ظاهرة، أما الدواء فيحتمل أن يشفي وقد لا يشفي.
يقول ابن قيم: فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية وأدواء الدنيا والآخرة، وما كل أحد يؤهل ولا يوفق للاستشفاء به، وإذا أحسن العليل التداوي به، ووضعه على دائه بصدق، وإيمان، وقبول تام، واعتقاد جازم، واستيفاء شروطه، لم يقاومه الداء أبدا -إلى أن يقول- فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل الدلالة على دوائه وسببه فمن لم يشفه القرآن فلا شفاه الله، ومن لم يكفه فلا كفاه الله (1) .
ولقد أعلن إبراهيم عليه السلام الاحتياج الحقيقي إلى الله تعالى، كما جاء على لسانه عليه السلام:(الذي خلقني فهو يهدين. والذي هو يطعمني ويسقين. وإذا مرضت فهو يشفين. والذي يميتني ثم يحيين. والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين) (2) .
ومن هنا نعلم أن حسن القصد ونية التوكل، وطلب الشفاء من الله. كل ذلك مقرون بالإيمان، فالإيمان من المعالج بأن الله هو الشافي، والإيمان من المريض بأنفي القرآن الشفاء، وبدون ذلك لا يتم الشفاء؛ لأن الشافي هو الله تعالى.
ولا يفهم من هذا الكلام وذاك ترك الأسباب الدوائية كالذهاب إلى المستشفيات والمصحات النفسية مثلا، لكن الأساس في علاج أي مرض هو القرآن الكريم ويضم إليه السبب الدوائي لأنه لابد من اليقين بأن الشفاء من الله. وإذا نزل الشفاء نفع الدواء بإذن الله، وليس العكس لقوله تعالى:(وإذا مرضت فهو يشفين) (3) .
فالدواء مجرد سبب من الأسباب الشفائية.
والعلاج بالقرآن الكريم والرقى الشرعية هو إحياء لسنة نبوية كريمة كانت مهجورة، وقد عدها ابن قيم -رحمة الله- من هجر القرآن فقال: ومن هجر القرآن هجر التدواي والاستشفاء به (4) .
__________
(1) انظر زاد المعاد لابن القيم (4/352).
(2) سورة الشعراء: (78-82).
(3) سورة الشعراء: (80).
(4) انظر الفوائد لابن القيم (ص 156).(1/233)
فالعلاج بالقرآن حقيقة واقعة لا ينكرها إلا جاهل أو حاقد، استفاد منه كثير من الناس، بل إن هناك بعض الأمراض ليس لها علاج إلا في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وقد جاء في الفتوى رقم 8016 في 22 / 1 / 1405 هـ الصادرة عن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية برئاسة سماحة الوالد الشيخ بن باز ما نصه: "تجوز الرقية بالقرآن وبالأذكار والدعوات الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم للحفظ والوقاية ولدفع ما أصيب به الإنسان من الأمراض …. إلخ" (1) .
الفصل الأول:
أحكام الرقية الشرعية
المبحث الأول: الرقى
المبحث الثاني: حكم الرقي والعلاج بالقرآن
المبحث الثالث: الرقية تحصين وعلاج
المبحث الرابع: الاستشفاء بالرقي
المبحث الخامس: النصوص التي جاءت في الرقى
المبحث السادس: طلب الرقية
المبحث السابع: الرقية لجميع الأمراض
المبحث الأول
الرقى
الرقى جمع رقية، وهي عوذة يتعوذ بها، من العوذ وهو الالتجاء -وهي آيات وأذكار وأدعية تقرأ على المريض. والاستعاذة لا تكون إلا بالله، والالتجاء لا يكون إلا إلى الله تعالى. جاء في كتاب الله العزيز أن امرأة عمران نذرت ما في بطنها محررا.. (فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله اعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) (2) .
وقال تبارك وتعالى: (فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا. قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا) (3) .
وقال تعالى: (إدفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون) (4) .
__________
(1) انظر فتاوي اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء -العقيدة (1/164).
(2) سورة آل عمران: (36).
(3) سورة مريم: (17-18).
(4) سورة المؤمنون: (96-98).(1/234)
همزات الشياطين. المراد بها نزغات الشياطين كما في قوله تعالى: (وإما ينزغك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم) (1) .
نلاحظ من النصوص الآنفة أن امرأة عمران استعاذت لابنتها بالله من الشيطان الرجيم. وأن مريم استعاذت لنفسها بالرحمن من هذا الذي تمثل لها بشرا سويا.
فسواء كان مصدر الخوف والخطر هو الشيطان، أو كان إنسانا يعجز المستعيذ عنه، فالمستعاذ به والملتجأ إليه هو الله تعالى. فدفع عداوة الشيطان واتقاء كيده ووساوسه وإيذائه لا يكون إلا بالالتجاء منه إلى الله.
والرقية في حقيقتها التجاء ولوذ بالله وإلى الله، وهو تعالى وحده الذي يرفع البلاء عما ألم بمن نرقيه من عين، أو جن، أو حسد، أو سحر، أو سائر الأمراض والأسقام.
وجاءت النصوص في الرقية متعددة مختلفة، فمنها ما يفيد النهي عنها، ومنها ما يفيد الندب إليها، ومنها ما يفيد الإباحة.
(1) فالذي يفيد النهي، قوله صلى الله عليه وسلم: "أن الرقى والتمائم والتوله شرك" (2) . فالحديث جمع الرقى مع التمائم والتولة تحت مسمى الشرك.
__________
(1) سورة الأعراف: (200).
(2) أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الطب: باب في تعليق التمائم ح(3883). وإبن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب تعليق التمائم ح(3530). وانظر تحفة الأشراف ح(9643) وأخرجه أحمد في مسنده (1/381). والحاكم في مستدركه (4/217) وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأقره الذهبي. وأخرجه البيهقي في الكبرى. كتاب الضحايا: باب التمائم (9/350). وأنظر صحيح سنن أبو داود للألباني ح(3288).(1/235)
والتمائم جمع تميمة وهو ما يعلق على المريض، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من علق تميمة فقد أشرك" (1) .
والتوله نوع من السحر. وهي شيء تصنعه المرأة تجلب محبة زوجها لها، أو الرجل يصنعه يجلب محبة امرأته له.
وهذا الحديث لا حجة فيه لمن منع الرقي مطلقا، فهو محمول على الرقي الشركية. ولهذا الحديث قصة مع ابن مسعود وزوجته - رضي الله عنها - حيث رأى في عنقها خيطا فقال: ما هذا؟ قالت: خيط رقي لي فيه، فأخذه ابن مسعود فقطعه ثم قال: إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الرقى والتمائم والتولة شرك"، وعلَّم زوجته رقية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: إنما يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أذهب البأس رب الناس، واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما" (2) .
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده (4/156). وقال الهيثمي في المجمع: رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد ثقاب (5/103). وأخرجه الحاكم في مستدركه (4/219) وسكت عنه وكذلك الذهبي. قال الألباني: وهذا إسناد صحيح. رجاله ثقاب رجال مسلم غير دخين وهو ابن عامر الحجري أبو ليلي المصري وثقة يعقوب بن سفيان وابن حبان وصحح له الحاكم (4/384) وقد أخرجه (4/219) من طريق أخرى عن يزيد بن أبي منصور -انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني ح(492).
(2) أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الطب: باب في تعليق التائم ح(3883). وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب تعليق التمائم ح(3530). وانظر تحفة الأشراف ح(9643) وأخرجه أحمد في مسنده (1/381) والحاكم في مستدركه (4/217) وقال هذا حديث صحيح إسناده ولم يخرجاه. وأقره الذهبي. وأخرجه البيهقي في الكبرى: كتاب الضحايا: باب التمائم (9/350). وانظر صحيح سنن أبو داود للألباني ح(3288).(1/236)
فهذا الحديث لا حجة فيه لمن منع الرقى مطلقا لان ابن مسعود رضي الله عنه منع من تلك الشركية التي فيها خيط ولا يعلم بما رقي. ثم هو نفسه رضي الله عنه يعلم زوجته رقية رسول الله صلى الله عليه وسلم "أذهب البأس رب الناس.."
(2) ومن النصوص التي تفيد الندب ما وراه جابر رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إني أرقي من العقرب"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل" (1) .
وهذا الحديث يحمل على رقية جربت منفعتها دون أن يكون فيها شرك. فالرقى التي تؤدى إلى الشرك تُمَنع. وكذلك الرقي التي لا يُفْهم معناها، لأنها قد تؤدي إلى الشرك، فتُمْنع أيضا احتياطا، كما جاء في حديث عوف بن مالك رضي الله عنه قال: كنا نرقي في الجاهلية فقلنا: يا رسول الله! كيف ترى ذلك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اعرضوا على رقاكم، لا بأس بالرقي ما لم يكن فيه شرك" (2) .
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة ح(2199) وأحمد في مسنده (3/382) والبيهقي في الكبرى: كتاب الضحايا: باب إباحة الرقية (9/348) قال الألباني: وفي الحديث إستحباب رقية المسلم لأخيه المسلم بما لا بأس به من الرقى، وذلك ما كان معناه معروفاً مشروعا، وأما الرقى بما لا يعقل معناه من الألفاظ فغير جائز -انظر الصحيحة ح(472).
(2) أخرجه مالك في الموطأ (2/272 التمهيد) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك ح(2200). وأبو داود في سننه: كتاب الطب باب ما جاء في الرقى ح(3886) والحاكم في مستدركه (4/212) وقال وهذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. والطبراني في الكبير (18/49) والبيهقي في الكبرى: كتاب الضحايا: باب إباحة الرقية (9/349).(1/237)
فالمشروع من الرقى مندوب إليه سواء كان من العين أو من غيرها. ورسول الله صلى الله عليه وسلم رقى واسترقى، وأمر بالرقى وأجازها. فإذا كانت بالقرآن أو بأسماء الله تعالى وصفاته فهي مباحة، أو مأمور بها، إنما جاءت الكراهية والمنع فيما كان بغير اللسان العربي، فإنه ربما كان كفرا أو قولا يدخله شرك.
قال القرطبي الرقي ثلاثة أقسام:
أحدها: ما كان يرقى به في الجاهلية، مما لا يعقل معناه، فيجب اجتنابه؛ لئلا يكون شرك أو يؤدى إلى شرك.
الثاني: ما كان بكلام الله تعالى أو أسمائه، فيجوز، وما كان مأثورا فيستحب.
الثالث: ما كان بأسماء غير الله تعالى من ملك أو صالح أو مُعَظَّم من المخلوقات فهذا يجب اجتنابه (1) .
قال الحافظ بن حجر في فتح الباري: وقد اجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط:
1) أن تكون بكلام الله أو بأسمائه أو بصفاته.
2) أن تكون باللسان العربي أو بما يعرف معناه من غيره.
3) أن يعتقد كل من الراقي والمرقي أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بتقدير الله تعالى (2) . قال صديق حسن خان (3) .: وكل عمل ودعاء ينشر المرض والداء ينفع من الأسقام والأدواء يصدق أنه نشرة، ويجوز الانتفاع به، إن كان من ألفاظ القرآن والسنة، أو من المأثور من السلف الصلحاء، الخالي عن أسماء الشرك وصفاته، باللسان العربي، وإلا كان حراما وشركا.
__________
(1) انظر فتح الباري لابن حجر (10/196-197) ش ح(6735).
(2) انظر فتح الباري لابن حجر (10/195) ش ح(5753).
(3) المحدث المفسر ناصر السنة، قامع البدعة، السيد أبو الطيب صديق بن حسن بن علي الحسيني القنوجي البخاري. ولد في قنوج بالهند 1248 هـ الموافق 1832م وتوفى 1307 هـ الموافق 1889م -انظر الدين الخالص للقنوجي (2/343).(1/238)
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين: الرقية بالنسبة للراقي سنة لما فيها من الإحسان للمرقي، أما بالنسبة للمرقي فإنها مباحة، والأفضل عدم طلبها لحديث الذين يدخلون الجنة بغير حساب ومن أوصافهم أنهم لا يسترقون.
المبحث الثاني :حكمة الرقى والعلاج بالقرآن
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: والصائل المعتدي يستحق دفعه سواء كان مسلما أو كافرا. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من قتل دون ماله فهو شهيد" -أخرجه أحمد، وهو صحيح- فإذا كان المظلوم له أن يدفع عن ماله ولو بقتل الصائل العادي، فكيف لا يدفع عن عقله وبدنه وحرمته؟ فإن الشيطان يفسد عقله ويعاقبه في بدنه، وقد يفعل معه فاحشة إنسى بإنسى، وإن لم يندفع إلا بقتل جاز قتله.
له أن يدفع عن ماله ولو بقتل الصائل العادي، فكيف لا يدفع عن عقله وبدنه وحرمته؟ فإن الشيطان يفسد عقله ويعاقبه في بدنه، وقد يفعل معه فاحشة إنسى بإنسى، وإن لم يندفع إلا بقتل جاز قتله.
وأما إسلام صاحبه والتخلي عنه فهو مثل إسلام أمثاله من المظلومين، وهذا فرض على الكفاية مع القدرة. ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم "المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه." فإن كان عاجزاً عن ذلك، أو هو مشغول بما هو أوجب منه أو قام به غيره لم يجب. وإن كان قادرا، وقد تعين عليه، ولا يشغله عما هو أوجب منه؛ وجب عليه (1) .
جاء في كتاب الدليل والبرهان على صرع الجن للإنسان لشيخ الإسلام ابن تيمية تحت عنوان "استحباب ووجوب دفع أذى الجن، وجوب نصر الإنسان المصروع" بما نصه: إذا عرف الأصل في هذا الباب فنقول يجوز بل يستحب وقد يجب أن يذب عن المظلوم وأن ينصر، فإن نصر المظلوم مأمور به بحسب الإمكان (2) .
__________
(1) انظر مجموع لفتاوي لابن تيمية (19/56).
(2) انظر الدليل والبرهان على صرع الجن للإنسان لابن تيمية (ص 47).(1/239)
أما قول السائل هل هذا مشروع؟ فهذا من أفضل الأعمال، وهو من أعمال الأنبياء والصالحين، فإنه ما زال الأنبياء والصالحون يدفعون الشياطين عن بني آدم بما أمر الله ورسوله (1) .
المبحث الثالث :الرقية تحصين وعلاج
رقية التحصين:
هي التي تعمل قبل حصول المرض كالالتزام بأذكار الصباح والمساء وأذكار النوم وغيرها من أذكار اليوم والليلة، وقراءة آية الكرسي والإخلاص والمعوذتين بعد كل صلاة وقبل النوم. كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين ويقول إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحق: "أعوذ بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة" (2) .
رقية العلاج:
__________
(1) المرجع السابق (ص 53).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب أحاديث الأنبياء: باب (10) ح(3371) وأبو داود في سننه: كتاب السنة: باب في القرآن ح(4737) وقال: "هذا دليل على أن القرآن ليس بمخلوق. مستدلا على أنه ولو كان مخلوقاً لما صح الاستعاذة به". وأخرجه الترمذي في سننه: كتاب الطب: باب (18) ح(2067) وقال: هذا حديث حسن صحيح وأبن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب ما عوذ به النبي صلى الله عليه وسلم وما عوذ به ح(3525) وأنظر تحفة الشراف ح(5627) وأخرجه أحمد في مسنده (1/270-136) والنسائي في اليوم والليلة ح(1007). الهامة: واحدة من الهوام وهي ذوات السموم. اللامة: بتشديد الميم أي ذات لمم، واللمم كل داء يلم من خبل او جنون أو نحوهما. أي في كل عين تصيب بسوء - أنظر شرح السندي على سنن ابن ماجة (4/125).(1/240)
هي التي تعمل بعد حصول المرض بقصد الاستشفاء من هذا المرض، أو تخفيف الألم. كرقية جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم عندما اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل فقال: يا محمد اشتكيت؟ قال. نعم، قال: "بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك…." (1) .
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب الطب والمرض والرقى ح(2186) والترمذي في سننه: كتاب الجنائزك باب ما جاء في التعوذ للمريض ح(974) وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب ما عوذ به النبي صلى الله عليه وسلم وما عوذ به ح(3523) وانظر تحفة الأشراف ح(4363) واخرجه أحمد في مسنده (3/28-56) والنسائي في اليوم والليلة ح(1005) قال النووي هذا حديث تصريح بالرقى باسماء الله تعالى وفيه توكيد الرقية والدعاء وتكريره، وقوله في شر كل نفس قيل: يحتمل أن المراد بالنفس نفس الأدمى وقيل يحتمل أن المراد بها العين فإن النفس تطلق على العين ويقال رجل النفوس إذا كان يصيب الناس بعينه. انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/170).(1/241)
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرقى أهله يقول: "أذهب البأس، رب الناس اشف وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما" (1) .
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من اشتكى شيئا يضع يده على الذي يشتكي ويقول: "بسم الله (ثلاث مرات) أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر (سبع مرات)" (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب دعاء العائد للمريض ح(5675) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب استحباب رقية المريض (2191) وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب في تعليق التمائم ح(3883) والترمذي في سننه: كتاب أحاديث شتى: باب في دعاء المريض ح(3576) وقال هذا حديث حسن ، وابن ماجة في سننه: كتاب الجنائز: باب ما جاء في ذكر مرض الرسول صلى الله عليه وسلم ح(1619) وانظر تحفة الأشراف (17638) وأخرجه أحمد في مسنده (3/267) و(4/259) و(6/32) والنسائي في اليوم والليلة ح(1042) ، وابن السني في اليوم والليلة ح(543) قال النووي: الحديث فيه استحباب مسح المريض باليمين والدعاء له وقد جاءت فيه روايات كثيرة صحيحة جمعتها في كتاب الأذكار انظر النووي على صحيح مسلم (14/180).
(2) أخرجه مالك في موطأه: كتاب العين: باب التعوذ والرقية من المرض (2/942) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب استحباب وضع يده على موضع الألم مع الدعاء (2202) وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب كيف الرقى ح(3891) والترمذي في سننه: كتاب الطب: باب (29) ح(2087) وقال هذا حديث حسن صحيح وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب ما عوذ به النبي صلى الله عليه وسلم وما عوذ به ح(3522) وانظر تحفة الأشراف ح(9774) وأخرجه أحمد في مسنده (6/390) والنسائي في اليوم والليلة ح(1001) قال النووي: يستحب وضع يده على موضع الألم وياتي بالدعاء المذكور -انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/189) شرح (2202).(1/242)
وعن عائشة رضي الله عنها "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، قالت: فلما اشتد وجعه كنت أنا أقرأ عليه وأمسح عليه بيمينه رجاء بركتها"(1) .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عاد مريضا وضع يده على صدره وقال: "أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك - سبع مرات" (2) .
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ: كتاب العين: باب التعوذ والرقية في المرض (2/193) والبخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب في المرأة ترقي الرجل ح(5751) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب رقية المريض بالمعوذات والنفث ح(2192) وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب كيف الرقى ح(3602) وابن ماجة في سننه كتاب الطب: باب النفث في الرقية ح(3529) وانظر تحفة الأشراف ح(16589) واحمد في مسنده (6/104) والنسائي في اليوم والليلة ح(1009) قال النووي: وسُئلت عائشة عن نفث النبي صلى الله عليه وسلم في الرقية فقالت كما ينفث آكل الزبيب لا ريق معه. قال: ولا اعتبار بما يخرج عليه من بله ولا يقصد ذلك -انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/182)، انظرأيضا التمهيد لابن عبد البر (8/129).
(2) أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الجنائز: باب الدعاء للمريض عند العيادة ح(3106) والترمذي في سننه: كتاب الطب: باب (32) ح(2060) وقال حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث المنهال بن عمرو وأحمد في مسنده (1/239-243) ، والحاكم في مستدركه (1/432) عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من عاد مريضاً لم يحضر أجله فقال عنده سبع مرات أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك إلا عافاه الله من ذلك المرض قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وأخرجه ابن حبان في صحيحه (714) موارد ،والنسائي في اليوم والليلة ح(1043) وابن السني في اليوم والليلة ح(544) وانظر صحيح سنن الترمذي للألباني ح(1698).(1/243)
من غير شك أن يرقي الإنسان نفسه أفضل من أن يرقيه غيره. فالأحاديث التي أتت بالرقى تحث على أن يرقي المسلم نفسه. كأن يقول : اللهم رب الناس أذهب الباس اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما (1) .
وإذا اشتكى يضع يده مكان الذي يؤلمه ويقول: بسم الله (ثلاثا)، أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر (سبعاً) (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب دعاء العائد للمريض ح(5675) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب استحباب رقية المريض (2191) وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب في تعليق التمائم ح(3883) والترمذي في سننه: كتاب أحاديث شتى: باب في دعاء المريض ح(3576) وقال هذا حديث حسن وابن ماجة في سننه: كتاب الجنائز: باب ما جاء في ذكر مرض الرسول صلى الله عليه وسلم ح(1619) وانظر تحفة الأشراف (17638) وأخرجه أحمد في مسنده (3/267) و(4/259) و(6/42). والنسائي في اليوم والليلة ح(1042) وابن السني في اليوم والليلة ح(543) قال النووي: الحديث فيه استحباب مسح المريض باليمين والدعاء له وقد جاءت فيه روايات كثيرة صحيحة جمعتها في كتاب الأذكار أنظر النووي على صحيح مسلم (14/180).
(2) أخرجه مالك في موطأه: كتاب العين: باب التعوذ والرقية من المرض (2/942) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب استحباب وضع يده على موضع الألم مع الدعاء ح(2202) وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب كيف الرقى ح(3891) والترمذي في سننه: كتاب الطب: باب (29) ح(2087) وقال هذا حديث حسن صحيح وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب ما عوذ به النبي صلى الله عليه وسلم وما عوذ به ح(3522) وانظر تحفة الأشراف ح(9774) وأخرجه أحمد في مسنده (6/390) والنسائي في اليوم والليلة ح(1001) قال النووي: يستحب وضع يده على موضع الألم ويأتي بالدعاء المذكور -انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/189) شرح (2202).(1/244)
فالأفضل أن يرقي الإنسان نفسه وأولاده وزوجه، ويعوذ أولاده كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين: "أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامه" (1) .
فإن تعسر عليه أن يرقي نفسه وأولاده وزوجه، كأن يكون جاهلاً بالرقية وشروطها، ذهب لمن يثق بدينه وعلمه من أهل الصلاح ليرقيه.
المبحث الرابع : الاستشفاء بالرقى
الاستشفاء لغة طلب الشفاء، كالاستغفار طلب المغفرة. والاستشفاء يكون من مرض، والمرض نوعان:
1) مرض حسي: وهو المرض العضوي، والمسبب عن علة.
2) مرض غير حسي (معنوي): وهو ما لا تعرف له علة، ولاتدرك له حقيقة؛ كالعين مثلا، فإنها ليست مرضا محسوسا ولا عضويا.
والاستشفاء بالرقى والتعاويذ يشمل القسمين معا الحسي والمعنوي، واليقين بالله تعالى ضرورة. لأن الله تعالى هو الذي أنزل الداء، وأنزل الدواء، وبيده
الشفاء، مهما كان نوع الدواء أو قوة الداء. كما قال تعالى: (وإذا مرضت فهو يشفين) (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب أحاديث الأنبياء: باب (10) ح(3371) وأبو داود في سننه: كتاب السنة: باب في القرآن ح(4737) وقال: هذا دليل على أن القرآن ليس بمخلوق. مستدلاً على أنه لو كان مخلوقاً لما صح الاستعاذة به. وأخرجه الترمذي في سننه: كتاب الطب: باب (18) ح(2067) وقال: هذا حديث حسن صحيح وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب ما عوذ به النبي صلى الله عليه وسلم وما عوذ به ح(3525) وانظر تحفة الأشراف ح(5627) وأخرجه أحمد في مسنده (1/270-136) والنسائي في اليوم والليلة ح(1007) الهامة: واحدة من الهوام وهي ذوات السموم. اللامة: بتشديد الميم أي ذات لمم، واللمم كل داء يلم من خبل أو جنون أو نحوهما. أي في كل عين تصيب بسوء -انظر شرح السندي على سنن إبن ماجة (4/125).
(2) سورة الشعراء: (80).(1/245)
فالواجب على المسلم المحافظة على عقيدته مما يفسدها أو يخل بها، فلا يتعاطى ما لا يجوز من الأدوية، ولا يذهب إلى المخرفين والمشعوذين ليتعالج عندهم من الأمراض لأنهم يمرضون قلبه وعقيدته؛ ومن توكل على الله كفاه.
وبعض الناس يعلق أشياء على نفسه سواء كانت هذه الأشياء من القرآن أو من غيره كالخرز، والعظام، والودع، والخيوط، وأسماء الشياطين والجن، والطلاسم؛ بقصد دفع الضر أو جلب المنفعة. وهو ليس فيه مرض حسي، وإنما فيه مرض وهمي، وهو الخوف من العين أو الحسد. أو يعلق هذه الأشياء على سيارته، أو بيته، أو دكانه. وهذا كله من ضعف العقيدة، وضعف توكله على الله. وإن ضعف العقيدة هو المرض الحقيقي الذي يجب علاجه بصدق التوحيد والعقيدة الصحيحة.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تعلق شيئا وكل إليه" (1) . أي وكله الله إلى ذلك الشيء الذي تعلقه. فمن تعلق بالله، والتجأ إليه، وفوض أمره إليه كفاه، وقرب إليه كل بعيد، ويسر له كل عسير. ومن تعلق بغيره من المخلوقين، والتمائم، والأدوية؛ خسر عقيدته، وانقطعت صلته بربه، وخذله الله.
المبحث الخامس : النصوص التي جاءت في الرقى
جاءت النصوص في الرقية من كل ألم، من العين، وألم السن، والرأس، والبطن، ومن كل عرق ينبض في الجسم.
__________
(1) أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الطب: باب ما جاء في كراهية التعليق ح(2079) وقال وفي الباب عن عقبة بن عامرك قال المبارك فوري في التحفة (6/20) وحديث عقبة بن عامر أخرجه احمد وأبو يعلي والطبراني بمعناه. قال الهيثمي في المجمع: رجاله ثقات. وأخرجه أحمد في مسنده (4/310-311) والحاكم في مستدركه (4/216) وسكت عنه هو والذهبي. وأخرجه البغوي في شرح السنة (12/160) وانظر صحيح سنن الترمذي للألباني ح(1691).(1/246)
1) تقدم حديث ابن مسعود مع زوجته رضي الله عنه في قوله لها: كان يكفيك أن تقولى كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أذهب الباس رب الناس واشف، أنت الشافي، شفاء لا يغادر سقما" (1) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب دعاء العائد للمريض ح(5675) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب استحباب رقية المريض (2191) وأبو داود في سننه كتاب الطب: باب في تعليق التمائم ح(3883) والترمذي في سننه كتاب أحاديث شتى: باب في دعاء المريض ح(3576) وقال هذا حديث حسن وابن ماجة في سننه: كتاب الجنائز: باب ما جاء في ذكر مرض الرسول صلى الله عليه وسلم ح(1619) وانظر تحفة الأشراف (17638) وأخرجه أحمد في مسنده (3م267) و(4/259) و(6/42) والنسائي في اليوم والليلة ح(1042) وابن السني في اليوم والليلة ح(543) قال النووي الحديث فيه استحباب مسح المريض باليمين والدعاء له وقد جاءت فيه روايات كثيرة صحيحة جمعتها في كتاب الأذكار انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/180).(1/247)
2) عن عثمان بن أبي العاص أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بي وجع قد كاد يهلكني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "امسحه بيمينك سبع مرات، وقل: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد، قال: فعلت ذلك فأذهب الله عز وجل ما كان بي، فلم أزل آمر به أهلي وغيرهم" (1) .
3) عن عائشة رضي الله عنها، كان النبي صلى الله عليه وسلم، إذا اشتكى الإنسان أو شكا -إذا كانت به قرحة أو جرح قال: "بإصبعه هكذا بالأرض ثم رفعها وقال: بسم الله، تربه أرضنا، بريقة بعضنا، يشفي بها سقيمنا، بإذن ربنا" (2) .
__________
(1) أخرجه مالك في موطأه: كتاب العين: باب التعوذ والرقية من المرض (2/942) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب استحباب وضع يده على موضع الألم مع الدعاء ح(2202) وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب كيف الرقى ح(3891) والترمذي في سننه: كتاب الطب: باب (29) ح(2087) وقال هذا حديث حسن صحيح وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب ما عوذ به النبي صلى الله عليه وسلم وما عوذ به ح(35229 وانظر تحفة الأشراف ح(9774) وأخرجه احمد في مسنده (6/390) والنسائي في اليوم والليلة ح(1001) قال النووي: يستحب وضع يده على موضع الألم ويأتي بالدعاء المذكور -انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/189) شرح (2202).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب رقية النبي صلى الله عله وسلم ح(5746) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة ح(2194) وابو داود في سننه: كتاب الطب: باب كيف الرقى ح(3895) وابن ماجة في سننه: باب ما عوذ به النبي صلى الله عليه وسلم وما عوذ به ح(3521) وانظر تحفة الأشراف ح(17906) واخرجه أحمد في مسنده (6/93) والبغوي في شرح السنة (5/224) والنسائي في اليوم والليلة ح(1023) وابن السني في اليوم والليلة ح(576).(1/248)
4) وقد رقى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد اشتكيت؟ قال: نعم قال: "بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، بسم الله أرقيك" (1) .
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب الطب والمرض والرقى ح(2186) والترمذي في سننه كتاب الجنائز باب ما جاء في التعوذ للمريض ح(974) وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب ما عوذ به النبي صلى الله عليه وسلم وما عوذ به ح(3523) وأنظر تحفة الأشراف ح(5363) واخرجه أحمد في مسنده (3/28-56) والنسائي في اليوم والليلة ح(1005) قال النووي هذا تصريح بالرقى بأسماء الله تعالى وفيه توكيد الرقية والدعاء وتكريره، وقوله من شر كل نفس قيل يحتمل أن المراد بالنفس نفس الأدمي وقيل يحتمل أن المراد بها العين فإن النفس تطلق على العين ويقال رجل نفوس إذا كان يصيب الناس بعينه. انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/170).(1/249)
(5) عن خالد بن الوليد - رضي الله عنه، أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعا بالليل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أعلمك كلمات علمنيهن جبريل عليه السلام، وزعم أن عفريتا من الجن يكيدني، فقال: أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر ما ينزل من السماء، وما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض وما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمن" (1) .
6) عن علي - رضي الله عنه، قال: "لدغت النبي صلى الله عليه وسلم عقربٌ وهو يصلي، فلما فرغ قال: "لعن الله العقرب، لا تدع مصليا ولا غيره، ثم دعا بماء وملح فجعل يمسح عليها ويقرأ: قل يا أيها الكافرون، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس" -رواه إبن ماجه والترمذي، وإسناده حسن (2) .
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده (3/419) والهيثمي في المجمع (10/127) وقال رواه أحمد وابو يعلي والطبراني بنحوه ورجال أحد إسنادي أحمد وأبي يعلي وبعض أسانيد الطبراني رجال الصحيح، وكذلك رجال الطبراني. وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه: كتاب الدعاء: (10/357) ح(9650) وعبد الرزاق في مصنفه (36:11) ح(19833) وأبو نعيم في الحلية (5/377) وابن السني في اليوم والليلة ح(637) قال الألباني في شرح العقيدة الطحاوية (178) صحيح رواه أحمد (3/419) وابن السني (631) عن عبد الرحمن بن حنبش مرفوعاً بسند صحيح.
(2) أخرجه ابن ماجة في سننه: كتاب إقامة الصلاة: باب ما جاء في قتل الحية والعقرب في الصلاة ح(1246) وأنفرد به. وأنظر تحفة الأشراف (16125) قال الهيثمي في المجمع (5/111) رواه الطبراني في الصغير وإسناد حسن انظر صحيح سنن ابن ماجة للألباني ح(1030) وانظر السلسلة الصحيحة للألباني ح(547) و(548).(1/250)
7) عن الشفاء بنت عبد الله عن رسول الله صلى اله عليه وسلم أنه قال: "ألا تُعلِّمين هذه رقية النملة كما علمتيها الكتابة" (1) .
8) عن عائشة رضي الله عنها، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "ما لصبيكم هذا يبكي؟ فهلا استرقيتم له من العين" (2) .
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه كتاب الطب: باب ما جاء في الرقى ح(3887) واحمد في مسنده (6/372) والحاكم في مستدركه (4/56) عن أبي حثمة القرشي ان رجلا من الأنصار خرجت به نملة فدل أن الشفاء بنت عبد الله ترقي من النملة فجاءها فسألها أن ترقيه فقالت والله ما رقيت منذ أسلمت فذهب الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بالذي قالت الشفاء فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفاء فقال: أعرضي على فأعرضتها عليه فقال أرقيه وعلميها حفصة كما علمتها الكتابة -قال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. واخرجه البيهقي في الكبرى: كتاب الضحايا: باب إباحة الرقية (9/349) وانظر صحيح سنن أبي داود للألباني ح(3291) والسلسلة الصحيحة للألباني ح(178) النملة: قروح تخرج في الجنبين، ويقال أنها تخرج أيضاً في غير الجنب ترقى فتذهب بإذن الله عز وجل. قال الخطابي: وفي الحديث دليل على أن تعليم الكتابة للنساء غير مكروه -انظر معالم السنن (5/364).
(2) أخرجه أحمد في مسنده (6/72) وقال الهيثمي في المجمع (5/112) رواه الطبراني في الأوسط عن شيخه سهل بن مودود ولم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح قال الألباني: وهذا إسناد حسن رجاله كلهم ثقاب، رجال الشيخين غير أبي أويس وهو عبد الله بن أويس، قال في التقريب (صدوق يهم) وأخرج له مسلم في الشواهد -انظر السلسلة الصحيحة للألباني ح(1048).(1/251)
9) عن أبي سعيد الخدري أن نفرا رقوا لديغا بفاتحة الكتاب على قطيع من الغنم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما يدريك أنها رقية، قد أصبتم، اقسموا لي واضربوا لي معكم سهما" (1) .
10) عن علي رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "ما من مريض لم يحضر أجله يتعوذ بهذه الكلمات إلا خفف عنه: بسم الله العظيم، أسأل الله رب العرش العظيم أن يشفيه - سبع مرات"(2) .
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ: كتاب العين باب الرقية من العين (2/940) والبخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب النفث في الرقية ح(5749) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب جواز أخذ الأجر على الرقية بالقرآن والأذكار ح(2201). وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب كيف الرقى (3900) والترمذي في سننه: كتاب الطب: باب ما جاء في أخذ الأجر على التعويذ ح(2070) وقال هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجة في سننه: كتاب التجارات: باب أجر الراقي ح(2156) وانظر تحفة الأشراف ح(4249) و(4307).
(2) أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الجنائز: باب الدعاء للمريض عند العيادة ح(3106) والترمذي في سننه: كتاب الطب: باب (32) ح(2060) وقال حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث المنهال بن عمرو وأحمد في مسنده (1/239-243) والحاكم في مستدركه (1/432) عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من عاد مريضاً لم يحضر أجله فقال عنده سبع مرات أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك إلا عافاه الله من ذلك المرض. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وأخرجه ابن جان في صحيحه (714) موارد والنسائي في اليوم والليلة ح(1043) وابن السني في اليوم والليلة ح(544) وانظر صحيح سنن الترمذي للألباني ح(1698).(1/252)
11) عن ابن عباس رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "هاتوا ابنَّي حتى أعوذهما بما عوذ به إبراهيم ابنيه إسماعيل وإسحق، أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة" (1) .
المبحث السادس : طلب الرقية
بعض الناس يتحرجون من طلب الرقية والعلاج، مع أنهم بحاجة إليها، محتجين بأن هذا ينافي التوكل.
هؤلاء الذين يتحرجون من طلب الرقية يحتجون بحديث السبعين ألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب.
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب أحاديث الأنبياء: باب (10) ح(3371) وأبو داود في سننه: كتاب السنة: باب في القرآن ح(4737) وقال: هذا دليل على أن القرآن ليس بمخلوق. مستدلاً على أنه لو كان مخلوقاً لما صح الاستعاذة به. وأخرجه الترمذي في سننه: كتاب الطب: باب (18) ح(2067) وقال: هذا حديث حسن صحيح. وإبن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب ما عوذ به النبي صلى الله عليه وسلم وما عوذ به ح(3525) وانظر تحفة الأشراف ح(5627) وأخرجه أحمد في مسنده (1/270-136) والنسائي في اليوم والليلة ح(1007). الهامة: واحدة من الهوام وهي ذوات السموم. اللامةك بتشديد الميم أي ذات لمم، واللمم كل داء يلم من خبل او جنون أو نحوهما. أي من كل عين تصيب بسوء -انظر شرح السندي على سنن ابن ماجة (4/125).(1/253)
والحديث رواه ابن عباس، رضي الله عنه، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: عرضت على الأمم فجعل النبي يمر ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي ومعه الرهط، والنبي ليس معه أحد. ورأيت سوادا كثير سد الأفق فرجوت أن تكون أمتي؛ فقيل هذا موسى وقومه، ثم قيل انظر إلى الأفق، فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق، فقيل لي هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب. فتفرق الناس ولم يبين لهم. فتذاكر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أما نحن فولدنا في الشرك، ولكن آمنا بالله ورسوله، ولكن هؤلاء هم أبناؤنا. فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "هم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون، وعلى ربهم يتوكلون. فقام عكاشة بن محصن فقال: أمنهم أنا يا رسول الله؟ قال: نعم. فقام آخر فقال أمنهم أنا يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - سبقك بها عكاشة" (1) .
هذه ثلاثة أصناف للسبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب: لا يتطيرون، ولا يكتوون، ولا يسترقون؛ فمن حقق هذه الصفات كان من الذين على ربهم يتوكلون.
وقيل هذه أربع صفات للسبعين ألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب، أنهم لا يتطيرون، ولا يكتوون، ولا يسترقون، وعلى ربهم يتوكلون.
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب من لم يرق ح05752) ومسلم في صحيحه: كتاب الإيمان باب الدليل هلى دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب ح(216) والترمذي في سننه: كتاب صفة القيامة: باب (81) ح(2454) وقال هذا حديث حسن صحيح. وأحمد في مسنده (1/271) وقال الهيثمي في المجمع (10/405) رجال أحمد والبزار رجال الصحيح. وأخرجه الطبراني في الكبير (18/23) والبيهقي في الكبرى: كتاب الضحايا: باب ما جاء في استحباب ترك الاكتواء والاسترقاء (9/341) وأخرجه البغوى في شرح السنة (15/135) ح(4322).(1/254)
التطير يأتي بمعنى التشاؤم ويأتي بمعنى الفأل. فإن كان في شؤم فهو المراد بهذا الحديث، وهو المنهي عنه. كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا عدوى ولا طيرة والشؤم في ثلاث: المرأة، والدار، والدابة" (1) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب الطيرة ح(5753) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب الطيرة والفأل وما يكون فيه من الشؤم ح(2225) وابو داود في سننه: كتاب الطب: باب في الطيرة ح(3921) والترمذي في سننه: كتاب الأدب باب ما جاء في الشؤم ح(2833) وقال هذا حديث حسن صحيح. والنسائي في سننه كتاب الخيل: باب شؤم الخيل ح(3570) وانظر تحفة الأشراف (6826) وأخرجه أحمد في مسنده (2/153) قال الخطابي: الشؤم في هذه الأشياء: أنه لا يأتي الرجل في اختيارها والتفتيش عن دين المرأة وأخلاقها، وعن أصالة الفرس وجودتها، وعن أساس الدار ومتانة بنيانها، ولا يتفحص عن ذلك ويسأل أهل الخبرة العارفين الناصحين، بل يغتر بظاهر جمالها، وحسن منظرها. ثم يتبين بعد ذلك سوءها، وما بها من شر، ويصعب عليه التخلص منها فيبقيها على مضض، موهما نفسه أنه يمكنه الإنتفاع بها، مع أنه لا يحاول إصلاحها، أو تكون هي غير قابلة للإصلاح فيكون ذلك شقاء عليه أي شقاء، ولو أنه تخلص منها لكان خيراً له، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفروه بن مسيك "دعها عنك" -انظر معالم السن للخطابي (5/380).(1/255)
أما إذا أريد بالتطير الفأل فهذا حسن، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا طيرة وخيرها الفأل" (1) . فالفأل من الطيرة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم "إذا خرج لحاجته يعجبه أن يسمع يا نجيح، يا راشد" (2) . وكان إذا بعث عاملاً سأله عن اسمه فإن أعجبه فرح به" (3) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب الطيرة ح(5754) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب الطيرة والفأل وما يكون فيه من الشؤم ح(2223) وابو داود في سننه: كتاب الطب: باب في الطيرة ح(3916) والترمذي في سننه: كتاب السير: ما جاء في الطيرة ح(1621) وقال هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب من كان يعجبه الفأل ويكره الطيرة ح(3537) وانظر تحفة الأشراف ح(1259) وقال النووي: قيل يا رسول الله وما الفأل؟ قال: الكلمة الحسنة يسمعها أحدكم. وفي رواية لا طيرة ويعجبني الفأل الكلمة الحسنة الكلمة الطيبة. وفي رواية واحب الفأل الصالح -انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/218).
(2) أخرجه الترمذي في سننه كتاب السير: باب ما جاء في الطيرة ح(1622) وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح. انظر صحيح سنن الترمذي للألباني (1316) وانظر فتح الباري لابن حجر (10/215) ش ح(5755-5756).
(3) أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الطب باب في الطيرة ح(3920) وأحمد في مسنده (1/257-304) و(5/347) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود ح(3319) وانظر السلسلة الصحيحة للألباني ح(762) وأنظر فتح الباري لابن حجر (10/215) ش ح(5756) قال البغوي: وينبغي للإنسان أن يختار لولده وخادمه الأسماء الحسنة فإن الأسماء المكروهة قد توافق القدر -شرح السنة (12/176).(1/256)
وأصل التطير أنهم كانوا في الجاهلية يعتمدون على الطير، فإذا خرج أحدهم لأمر، فإن رأي طيرا طار عن يمينه تيامن به واستمر، وإن رآه طار عن شماله تشاءم به ورجع. وكان بعضهم يزجر الطير فإذا طار الطير شمالا تطير به (1) .
أيضا من صفات السبعين ألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب أنهم لا يكتوون. والكي أيضا نوعان: فإن كان الشفاء من المرض بالكي محتملا وليس محققا. أو كان الجرح الذي يتركه الكي أكبر من المرض، أو وجد دواء يصار إليه قبل الكي، فلا يجوز الكي، لأنه من باب التعذيب بالنار. وكذلك كي الصحيح لئلا يعتل، هذا هو الكي المنهي عنه، والمراد به في حديث السبعين ألف (2) .
__________
(1) انظر فتح الباري (10/121) ش ح(5753-5754).
(2) قال الحافظ ابن حجر: والنهي فيه محمول على الكراهية أو على خلاف الأولى لما يقتضيه مجموع الأحاديث -فتح الباري (10/155) ش ح(5704).(1/257)
أما إذا كان الكي سبباً في حصول الشفاء، ككي الجرح إذا فسد ونزف وككي العضو إذا قطع، فالكي هنا واجب؛ خاصة إذا لم توجد طريقة للاستشفاء غير الكي. والنبي صلى الله عليه وسلم اكتوى للجرح الذي أصابه في أُحُد، فقد أحرقتفاطمة - رضي الله عنها - حصيرا فحشت به جرحه صلى الله عليه وسلم(1) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن كان في شيء مما تداوون به خير ففي شرطة محجم أو لسعة بنار" (2) .
وقد كان الكي نافعا ومجربا لبعض الأمراض. والنهي الوراد في الحديث "لايكتوون" محمول على من ينسب الشفاء إليه كالجاهلية، بخلاف من يراه سببا وأن الله هو الشافي.
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب حرق الحصير ليسد به الدم ح(5722) ومسلم في صحيحه: كتاب الجهاد والسير: عزوة احد ح(1790) والترمذي في سننه: كتاب الطب: باب التداوي بالرماد ح(2092) وقال هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجة في سنة. كتاب الطب: باب دواء الجراحة ح(3464) وانظر فتح الباري لابن حجر (10/156) ش ح(5704).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب من اكتوى أو كوى غيره وفضل من لم يكتو ح(5704) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب لكل داء دواء واستحباب التداوي ح(2205) وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب الكي ح(3491) وانظر تحفة الأشراف ح(5509) وأخرجه البيهقي في الكبرى: كتاب الضحايا: باب ما جاء في استحباب ترك الاكتواء والاسترقاء (9/341) قال السندي في شرحه على سنن ابن ماجة: وقوله "الشفاء في ثلاث" "أي منفردة لا مجتمعة" و"شرطه محجم" من شرط الحاجم إذا ضرب على موضع الحجامة ضرباً شق به الجلد وإضافتها إلى الحجم للملابسة. والكي فإنه أشد الثلاثة فلا ينبغي استعماله إلا لضرورة. وبالجملة فإن النهي للتنزيه -انظر سنن ابن ماجة (4/113).(1/258)
أيضا من صفات السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب، أنهم لا يسترقون. أي لا يطلبون الرقيه، وذلك في حال الصحة وخشية وقوع المرض، اعتقادا منهم أنها تمنع حلوله.
أما من يطلب الرقيه والعلاج بعد حصول المرض، فهذا لا بأس به، ولا شيء فيه. وهذا من تعاطي الأسباب التي أمرنا الله بالأخذ بها. فمن وثق بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا ونبيا؛ لم يخدش في توكله تعاطيه للأسباب.
فالنبي صلى الله عليه وسلم رقى واسترقى وأمر بالرقية. والصحابة رضوان الله عليهم رقى بعضهم بعضا، واسترقى بعضهم من بعض، وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم ينههم.
والنبي صلى الله عليه وسلم استرقى. كما قالت عائشة، رضي الله عنها، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بقل هو الله أحد والمعوذتين جميعا ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده. قالت عائشة رضي الله عنها فلما اشتكى -أي في مرضه الذي مات فيه- كان يأمرني أن أفعل ذلك به (1) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: باب النفث في الرقية ح(5748) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب رقية المريض بالمعوذات والنفث ح(2192) وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب كيف الرقى ح(3902) وابن ماجةفي سننه: كتاب الطب: باب النفث في الرقية ح(3529) وأنظر تحفة الأشراف ح(16589) قال النووي: وسئلت عائشة عن نفث النبي صلى الله عليه وسلم في الرقية فقالت كما ينفث آكل الزبيب لا ريق معه -انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/182) قال ابن حجر: فائدة النفث التبرك بتلك الرطوبة أو الهواء الذي ماسه الذكر كما يتبرك بغسالة ما يكتب من الذكر -انظر فتح الباري (10/197) ش ح(5735).(1/259)
فالنبي صلى الله عليه وسلم رقى واسترقى وأمر بالاسترقاء، فقد أمر عائشة رضي أن تسترقى من العين، كما قالت عائشة، رضي الله عنها: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أسترقي من العين" (1) . وقال صلى الله عليه وسلم لأم سلمة عندما وجد عندها الجارية وبها السفعة قال: استرقوا لها فإن بها النظرة" (2) .
فطلب الرقيه لا يخدش في التوكل إذا كان بعد وقوع المرض، بل هو من تعاطي الأسباب.
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب رقية العين ح(5738) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة ح(2195) وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب من استرقى من العين ح(3512) وانظر تحفة الأشراف (16199) وأخرجه البيهقي في الكبرى: كتاب الضحايا: باب إباحة الرقية بكتاب الله (9/347) وأنظر شرح معاني الآثار للطحاوي (4/327) قال الحافظ ابن حجر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عائشة أن يسترقى من العين أي يطلب الرقية ممن يعرف الرقى بسبب العين -انظر فتح الباري (19/201).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب رقية العين ح(5739) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة ح(2197) والبيهقي في السنن: كتاب الضحايا: باب إباحة الرقية بكتاب الله ح(9/348) وانظر شرح معاني الآثار للطحاوي (4/327) قال النووي: السفعة يعني بوجهها صفرة، وقيل سواد وقال ابن تيمية هي لون يخالف لون الوجه، وقيل أخذه من الشيطان -انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/185) قال ابن عبد البر: فيه دليل على أن العين تسرع إلى قوم فوق اسراعها إلى آخرين، وأنها تؤثر في الإنسان بقضاء الله وقدره وتصرعه في أشياء كثيرة. وإنما يسترقى من العين إذا لم يعرف العائن. وأما إذا عرف الذي أصابه بعينه فإنه يؤمر بالوضوء -التمهيد (2/269).(1/260)
"ورأى النبي صلى الله عليه وسلم ابني جعفر بن أبي طالب وهما ضارعان فقال: مالي أراهما ضارعين؟ قالوا تسرع إليهما العين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استرقوا لهما" (1) .
قال الزرقاني: والأمر بالرقى وأنها نافعة لا يعارضه النهي عنها في عدة أحاديث كخبر الذين لا يسترقون، لأن الرقية المأذون فيها ما كانت باللسان العربي أو بما يفهم معناه، ويجوز شرعا، مع اعتقاد أنها لا تؤثر بذاتها بل بتقدير الله عز وجل، والمنهي عنها ما فقد فيها شرط من ذلك (2) .
قال النووي: لا مخالفة، بل المدح في ترك الرقى التي هي من كلام الكفار، والرقى المجهولة التي بغير العربية، وما لا يعرف معناه؛ فهذه مذمومة لاحتمال أن معناه كفر أو قريب منه، أو مكروه. وأما الرقي بالقرآن والأذكار المعروفة فلا نهي عنها، بل هي سنة.
ومنهم من قال بالجمع بين الحديثين؛ أن المدح في ترك الرقى للأفضلية وبيان التواكل، والذي فعل الرقى وأذن فيها لبيان الجواز مع أن تركها أفضل؛ وبهذا قال ابن عبد البر.
والمختار الأول، وقد نقلوا الإجماع على جواز الرقى بالآيات وأذكار الله تعالى كما في كتاب الطب والإيمان.
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ: كتاب العين: باب الرقية من العين (2/939) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة ح(2198) والترمذي في سننه: كتاب الطب: باب ما جاء في الرقية من العين ح(2066) وقال: هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب من استرقى من العين ح(3510) وأحمد في مسنده (3/333) وقال الهيثمي في المجمع (5/109) رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. وأخرجه البيهقي في الكبرى: كتاب الضحايا: باب إباحة الرقية بكتاب الله (9/348) والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/327).
(2) انظر شرح الزرقاني على موطأ مالك (4/232) ش ح(1812).(1/261)
ثم قال النووي: وأما قولهم في الرواية الأخرى يا رسول الله! إنك نهيت عن الرقى، فأجاب العلماء بأجوبة منها:
1- كان نهيا أولا، ثم نسخ، وأذن فيها وفعلها واستقر الشرع على الإذن.
2- النهي عن الرقى المجهولة كما سبق.
3- النهي لقوم كانوا يعتقدون منفعتها وتأثيرها بطبعها. أقول في النهاية، أنه من يستطيع الصبر وتحمل المرض فالصبر أفضل له من الاسترقاء والتداوي، كما جاء في حديث الجارية عندما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "إن شئت دعوت الله لك، وإن شئت تصبري ولك الجنة. فقالت أصبر ولكن ادع الله أن لا أتكشف" (1) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب المرض: باب فضل من يصرع من الريح ح(5652) ومسلم في صحيحه: كتاب البر والصلة: باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن ح(2576) وأحمد في مسنده (1/347) قال الحافظ ابن حجر: من فوائد الحديث: فضل من يصرع. وأن الصبر على بلايا الدنيا يورث الجنة. وأن الأخذ بالشدة أفضل من الأخذ بالرخصة لمن علم من نفسه الطاقة ولم يضعف عن التزام الشدة. وفيه دليل على جواز ترك التداوي. وفيه أن علاج الأمراض كلها بالدعاء والالتجاء إلى الله أنجع وأنفع من العلاج بالعقاقير، وأن تأثير ذلك وإنفعال البدن عنه أعظم من تأثير الأدوية البدنية ولكن إنما ينجع بأمرين: أحدهما من جهة العليل وهو صدق القصد، والآخر من جهة المداوي وهو قوة توجهه وقوة قلبه بالتقوى والتوكل على الله والله أعلم -انظر فتح الباري (10/115).(1/262)
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: "عجبا لأمر المؤمن كل أمره له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له. وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له. وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن" (1) . أما من لا يستطيع الصبر، وقد يصاب بالجزع نتيجة المرض فالتدواي والاسترقاء في حقه أفضل، والله أعلم.
المبحث السابع : الرقية لجميع الأمراض
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا رقية إلا من عين أو حمة" (2) .
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الزهد: باب المؤمن أمره خير كله ح(2999)، وأحمد في مسنده (4/332)، وانظر فتح الباري لابن حجر (10/106): كتاب المرض. قال المنذري: النبي صلى الله عليه وسلم يبشر المؤمن بما يصيبه ويخبره أن كل شيء أحاطه كسب منه ثوابا: فإن أمده الله بنعم فحمده نال أجرا، وإن أصابته سيئة فصبر نال ثوابا؛ فهو في الحالتين مكرم مثاب مؤجر -الترغيب والترهيب (4/278).
(2) أخرجه أبو داود في سننه كتاب الطب: باب في تعليق التمائم ح(3884) والترمذي في سننه كتاب الطب باب ما جاء في الرخصة في ذلك ح02064) وقال: وروى شعبه هذا الحديث عن حصين عن الشعبي عن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب ما رخص فيه من الرقى ح03513) وانظر تحفة الأشراف ح(1945) وأخرجه البيهقي في الكبرى: كتاب الضحايا: باب إباحة الرقى (9/348) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود ح(3289) قال الخطابي الحمة: اسم ذوات السموم. وقد تسمى أبره العقرب والزنبور حمة، وذلك لأنها مجرى السم، وليس في هذا نفي جواز الرقية في غيرها من الأمراض والأوجاع، لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رقى بعض أصحابه من وجع كان به، وقال للشفاء"علمي حفصة رقية النملة" وإنما معناه: أنه لا رقية أولى وأنفع من رقية العين والسم. وهذا كما قيل لا فتى إلا علي. ولا سيف إلا ذو الفقار -معالم السنن (5/363) ش ح(3736).(1/263)
العين معلومة ومعروفة، وهي الإصابة بالعين أو الحسد. والحمة هي ذوات السموم كالعقرب والحية أو غيرهما من ذوات السموم.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا رقية إلا من عين أو حمة" هذا ليس معناه تخصيص جواز الرقية من العين والحمة فقط. وإنما معنى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرقية من العين والحمة. وقد رقى النبي صلى الله عليه وسلم من غير العين والحمة. فقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم في رقية النملة وغيرها والنملة جروح وقروح تكون في الجسم.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي سعيد الخدري، عندما رقى سيد القوم اللديغ؛ بالفاتحة. قال له صلى الله عليه وسلم: "وما أدراك أنها رقية؟" فيه تصريح بأن الفاتحة رقية، فيستحب أن يقرأ بها على المريض واللديغ وغيرهما من أصحاب الأسقام والأمراض.
والمراد من الحصر في قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا رقية إلا من عين أو حمة" أي لا رقية أنفع. كما قيل: "لا سيف إلا ذو الفقار" (1) .
الفصل الثاني :الراقي في الكتاب والسنة
المبحث الأول : صلة الراقي بربه
المبحث الثاني : قبل البدء في العلاج
المبحث الثالث : ادعاء علم الغيب في العلاج
المبحث الرابع : كلام المصروع من فعله
المبحث الخامس : العلاج بالقرآن
المبحث السادس: : أدوات الراقي
1- العلم قبل العمل
2- الإخلاص
3- الاتباع
4- قوة الإيمان
5- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
6- القدوة
7- الدعوة قبل العلاج
8- الفتنة الكبرى
المبحث الأول : صلة الراقي بربه
التقلبات التي تصيب القلوب سببها الفتن التي تواجه المسلم أو توجه إليه. فقد يقترن المرء بأصدقاء أشرار. وقد يبتلى بمجتمع فاجر ضال تحكمه شريعة الشيطان. وقد تسيطر الجاهلية على وسائل الإعلام، وتملك توجيه الناس؛ والقلوب تتأثر بما حولها. ولذلك كان على المسلم أن يكون حذرا، وعليه أن يأخذ بالأسباب التي تثبته وتديم صلته بربه ومنها:
__________
(1) انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/184-188).(1/264)
1) أن يلح على الله أن يثبته ويحفظه من شياطين الجن والإنس، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم القول: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" (1) .
. 2) أن يُكْثِر من ذكر الله، فذكر الله حصن حصين، يشرح النفس ويطمئن القلب. كما قال الله تبارك وتعالى: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) (2) .
وقوله تبارك وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا) (3) .
وجاء في وصف أولى الألباب أنهم: (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم) (4) .
__________
(1) أخرجه الترمذي في سننه كتاب الدعوات: باب (95) ح(3533) وقال هذا حديث حسن. وأحمد في مسنده (3/257) وقال الهيثمي في المجمع (10/176) رواه أحمد في إسناده حسن وانظر صحيح سنن الترمذي للألباني ح(2792) وانظر كتاب السنة لابن أبي عاصم (1/98-106).
(2) سورة الرعد: (28).
(3) سورة الأحزاب: (41- 42).
(4) سورة آل عمران: (191).(1/265)
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله في كل أحوال حياته وفي كافة الأحيان (1) .
3) أن يديم قراءة القرآن، فإنه حبل الله المتين والصراط المستقيم. فمن عمل به سعد. وهو يُقوِّم ويصلح النفوس
(إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه تعليقا: كتاب الآذان: باب هل يتبع المؤذن فاه وههنا وههنا وهل يلتفت في الآذان. ومسلم في صحيحه: كتاب الحيض: باب ذكر الله تعالى في حال الجنابة ح(373) وأبو داود في سننه: كتاب الطهارة: باب في الرجل يذكر الله تعالى على غير الطهر ح(18) والترمذي في سننه: كتاب الدعوات: باب ما جاء أن دعوة المسلم مستجابة ح(3395) وقال هذا حديث حسن غريب. وابن ماجة في سننه: كتاب الطهارة: باب ذكر الله عز وجل على الخلاء والخاتم في الخلاء ح(302) وانظر تحفة الأشراف ح(16361). قال النووي: هذا الحديث أصل في جواز ذكر الله تعالى بالتسبيح والتهليل والتكبير والتحميد وشبهها من الأذكار وهذا جائز بإجماع المسلمين وإنما اختلف العلماء في جواز قراءة القرآن للجنب والحائض فالجمهور على تحريم القراءة عليهما جميعا ولا فرق عندنا بين آية وبعض آية فإن الجميع يحرم ولو قال الجنب سم الله أو الحمد لله ونحو ذلك إن قصد به القرآن حرم عليه وإن قصد به الذكر أو لم يقصد شيئا لم يحرم ويجوز للجنب أو الحائض أن يجريا القرآن على قلوبهما وأن ينظرا في المصحف -انظر شرح النووي على صحيح مسلم (4/68) على هذا فلا يجوز للجنب ولا للحائض أن يرقي أحدهما بشيء من القرآن قبل التطهر.
(2) سورة الإسراء: (9).(1/266)
4) أن يحافظ على الفرائض، ويكثر من النوافل؛ كما جاء في الحديث القدسي: "وما تقرب إلي عبدي بأحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها. ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه" (1) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الرقاق: باب التواضع ح(6502) والبيهقي في الكبرى (3/346) وأبو نعيم في الحلية (4-5) والحديث رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكملة "وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته". قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هذا حديث شريف قد رواه البخاري من حديث أبي هريرة وهو أشرف حديث روي في صفة الأولياء، وقد ورد هذا الكلام طائفة وقالوا: إن الله لا يوصف بالتردد فإنما يتردد من لا يعلم عواقب الأمور، والله أعلم بالعواقب وربما قال بعضهم: إن الله يعامل معاملة التردد: -انظر الفتاوي لابن تيمية (18/129). قال ابن رجب: المراد بالتردد أن الله تعالى قضى على عباده بالموت كما قال تعالى: كل نفس ذائقة الموت -آل عمران (185)-والموت مفارقة الروح للجسد، ولا يجعل ذلك إلا بألم عظيم جداً، وهو أعظم الآلام التي تصيب العبد في الدنيا، قال عمر رضي الله عنه لكعب: أخبرني عن الموت؟ قال: يا أمير المؤمنين، هو مثل شجرة كثيرة الشوك في جوف ابن آدم، فليس منه عرق ولا مفصل إلا ورجل شديد الذراعين، فهو يعالجها ينزعها، فبكى عمر الحلية (5/365) قال ابن رجب: فلما كان الموت بهذه الشدة والله تعالى قد حتمه على عباده كلهم، ولا بد لهم منه، وهو تعالى يكره أذى المؤمن ومساءته، سمي ذلك ترددا في حق المؤمن، فأما الأنبياء فلا يقبضون حتى يخيروا -انظر جامع العلوم والحكم (ص 348) ش ح(38).(1/267)
5) أن يحرص على الصحبة الطيبة، وحضور مجالس العلم، والسعي إلى لقاء الإخوة في الله. كما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده" (1) .
المبحث الثاني
قبل البدء في العلاج
لمن أرد أن يهيء نفسه للعلاج بالقرآن، عليه قبل البدء في ذلك بدراسه التوحيد دراسة كافية، حتى لا يقع في حبائل الشرك والكفر، فيقرأ كتب التوحيد ويدرسها دراسة وافية ككتاب فتح المجيد، أو كتاب التوحيد والعقيدة الطحاوية. ويقرأ كتب شيخ الإسلام ابن تيميه، وتلميذه ابن القيم؛ خاصة في هذا العلم.
المبحث الثالث : ادعاء علم الغيب في العلاج
لا يعلم الغيب إلا الله وحده: (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله) (2) . وقد يُطلع رسله على ما شاء من غيبه، لحكمه يعلمها الله: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا. إلا من ارتضى من رسول) (3) .
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الذكر: باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن ح(2699) وأبو داود في سننه: كتاب الأدب: باب في المعونة للمسلم ح(4946) والترمذي في سننه: كتاب القراءات: باب (12) ح(2954). وابن ماجة في سننه: كتاب السنة: باب فضل العلماء والحث على طلب العلم ح(225) وانظر تحفة الأشراف ح(12510) وقوله "في بيت من بيوت الله: قال الطيبي شامل لجميع ما يبني لله تقربا إليه من المساجد والمدارس والربط". وقوله "يتدارسونه" قيل شامل لجميع ما يتعلق بالقرآن من التعلم والتعليم والتفسير والاستكشاف عن دقائق معانيه. ونقول: والاستشفاء به. وقوله: حفتهم الملائكة أي طافوا بهم وداروا حولهم تعظيماً لصنيعهم -انظر شرح السندي على سنن ابن ماجة (1/148).
(2) سورة النمل: (65).
(3) الجن : 26-27.(1/268)
فمن ادعى علم الغيب بأي وسيلة من الوسائل غير من استثناه الله من رسله؛ فهو كاذب كافر، سواء ادعى ذلك بواسطة قراءة الكف، أو الفنجان، أو الكهانة، أو السحر، أو التنجيم، أو غير ذلك. وهذا الذي يحصل من بعض المشعوذين والدجالين في الإخبار عن مكان الأشياء المفقودة، وعن أسباب بعض الأمراض؛ فيقولون فلان عمل لك كذا وكذا فمرضت بسببه، إنما هو استخدام للجن والشياطين، ويُظْهرون للناس أن هذا يحصل عن علم منهم.
وقد يذهب بعض الجهال وضعاف الإيمان إلى هؤلاء المشعوذين فيسألهم عن مستقبل حياته، وما يجري عليه، وعن زواجه، وغير ذلك.(1/269)
ومن ادعى علم الغيب، أو صَدَّق من يدعيه فهو مشرك كافر، لأنه يدعي مشاركة الله فيما هو من خصائصه. إنما هذا كله من أعمال الشياطين الذين يسترقون السمع (1) . قال رسول صلى الله عليه وسلم: "من أتى كاهنا أو عرافا فسأله عن شيء فلا تقبل له صلاة أربعين ليلة" (2) . هذا مجرد السؤال، أما إن كان مصدقا فينطبق عليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد" (3)
__________
(1) قال النووي: كانت الكهانة في العرب ثلاثة أضرب أحدها يكون للإنسان ولي من الجن يخبره بما يسترقه من السمع من السماء وهذا القسم بطل من حين بعث الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. والثاني: إن يخبره بما يطرأ أو يكون في أقطار الأرض وما خفي عنه مما قرب أو بعد وهذا لا يبعد وجوده، ونفت المعتزلة وبعض المتكلمين هذين الضربين وأحوالهما ولا استحالة في ذلك ولا بعد في وجوده لكنهم يصدقون ويكذبون والنهي عن تصديقهم والسماع منهم عام. والثالث: المنجمون وهذا الضرب يخلق الله تعالى فيه بعض الناس قوة ما لكن الكذب فيه أغلب. ومن هذا الفن العرافة وصاحبها عراف وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفته بها وقد يعتضد هذا الفن ببعض في ذلك بالزجر والطرق والنجوم وأسباب معتادة وهذه الأحزاب كلها تسمى كهانة وقد أكذبهم كلهم الشرع ونهى عن تصديقهم وإتيانهم والله أعلم -انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/223).
(2) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب تحريم الكهانة وإتيان الكهانة ح(2230). وأحمد في مسنده (4/68) و(5م380). والبيهقي في الكبرى: كتاب النكاح: باب إتيان النساء في أدبارهن (7/198).
(3) أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الطب: باب في الكاهن ح(3904). والترمذي في سننه: كتاب الطهارة: باب ما جاء في كراهية إتيان الحائض ح(135). وقال لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث حكيم الأشرم عن أبي تيمية الهجيمي عن أبي هريرة. وأبن ماجة في سننه: كتاب الطهارة: باب النهي عن إتيان الحائض ح(639). وانظر تحفة الأشراف (13536). وأخرجه أحمد في مسنده (2/408-476). والبيهقي في الكبرى (7/198) والطحاوي في شرح معاني الآثار (3/44). وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي ح(116).(1/270)
.
المبحث الرابع :كلام المصروع من فعله
فائدة :في بيان حركات المصروع وكلامه، هل هي من فعله أو فعل الجني؟ .
قال العلامة بدر الدين شلبي: أكثر الناس يعتقدون أن كلام المصروع من فعل الجن ويضيفونه إليه. ولا دليل نقطع به على أن ما سمع منه كلام له أو للشيطان فيكون الكلام للمصروع، وإضافته إلى الشيطان مجازاً. فالمتكلم من قام بالكلام، لا من فعل الكلام. والكلام الذي يقوم به البشر قد يكون من فعله وكسبه، وقد يكون مضطراً إليه (1) .
قال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل: قلت لأبي إن قوما يقولون إن الجن لا تدخل في بدن الإنسي؟ قال يا بني! يكذبون، هو ذا يتكلم على لسانه، يعني لسان المصروع، فقد جعل المتكلم هو الجني. فكذلك الحركة والله أعلم (2) .
المبحث الخامس : العلاج بالقرآن
على المعالج بالقرآن، قبل البدء في الرقية والعلاج، أن يتبع الخطوات التالية:
(1) أن يأمر من معه بالمحافظة على الطاعات، ويعرفهم أن الشافي الحقيقي هو الله وحده.
(2) أن يخرج ما مع المريض من أحجبة، أو تمائم، أو نحوهما؛ فهذا شرك يجب إنكاره بالقول، وإزالته بالفعل.
(3) أن لا يتم علاج النساء إلا في وجود محارم لكل منهن. ويجب على المرأة ألا تكون متبرجة، ولا متعطرة؛ بل ترتدي الملابس الشرعية.
(4) أن يأمر صاحب البيت إن كان متزينا بزينة محرمة أن يدعها. فإن العلاج بالقرآن ما هو إلا دعاء وقبول.
المبحث السادس :أدوات الراقي
1- العلم قبل العمل :
__________
(1) انظر آكام المرجان في أحكام الجان للشبلي (ص 110).
(2) المصدر السابق (ص 107-110).(1/271)
إبليس عليه لعنة الله يعمل جاهدا للنيل من دين العبد ما استطاع. فهدفه الأول أن يجعل العبد يشرك بالله ويكفر به. فإن لم يستطع جاهده على ترك الفرائض وفعل الكبائر. فإن لم يستطع جاهده على ترك السنن وفعل المكروهات. فإن لم يستطع لبَّس عليه في الطاعة، فيحبب له التلهي بالمباح عن المستحب والواجب. فإن لم يقدر حبب إليه التلهي بالمستحب عن الواجبات. فإن ترك ما أوجبه الله عليه، فقد عصى الله وخالف أوامره، ولا ينفعه انشغاله بالمستحب، فالله لم يوجب المستحبات إلا بعد الفراغ من الواجبات.
لذا نرى كثيرا ممن اشتغل بالعلاج بالقرآن دخل في هذا المجال قبل تحصيله وإلمامه به. وقد ظنوا الأمر سهلا، ونسوا أن العدو في هذه المعركة ليس بالهين ولا بالساذج، بل هو عدو لدود ماكر، قد ملأ الحقد قلبه. لدرجة أنه يقتل نفسه من أجل إضلال العباد وكفرهم.
فينبغي لمن أراد أن يشتغل في مجال العلاج بالقرآن أن يتسلح بالعلم النافع، والدعوة إلى الله، ومعرفة مكائد الشيطان.
قال تعالى: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) (1) .
أخبر الله تعالى أن الشياطين يوحون إلى أوليائهم من السحرة والكهنة، ومن يتولاهم، ولو دعى دين الإسلام، فهو من المشركين الذين يوحي لهم الشيطان.
فالشيطان يلبس على الإنسان يوقعه في الشرك من حيث لا يشعر، يزعم له. كذبا أنه قد اسلم على يديه، وتاب لله عز وجل، وندم على ما فعل، فَيُهوِّن عليه المعالج ويخبره أن الله غفور رحيم، ويطمئن ويركن إليه، والجن بدوره يعرض على هذا المعالج العون والمساعدة. فإن صدقه هذا المعالج، وقع في الفخ، فيترك هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ويُقبل على عدوه، وبه يستعين، فيصحبه هذا الجني في علاج المرضى فيخبره أن هذا به جني، وذاك به سحر، وآخر به عين وحسد، فيلبس عليه؛ حتى يخرج هذا المعالج عن هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ويتبع هدي إبليس اللعين.
__________
(1) سورة الأنعام: (121).(1/272)
هذا أخطر ما يمكن أن يناله الشيطان من هذا المعالج، فإن ظفر بذلك وإلا فإنه سيجاهده حتى يوقعه في الكبائر والمعاصي.
2- الإخلاص
لاشك أن المعالج بالقرآن المخلص لله تعالى في عمله يكون علاجه للمريض نافعاً بإذن الله، وينفع به الناس.
والإخلاص هو عمل القلب الذي يراد به وجه الله تعالى لا غيره. وهو شرط لقبول الأعمال. لأن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصا لوجهه كما قال تعالى:
(وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة) (1) .
وقال تعالى: (قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله) (2) .
__________
(1) سورة البينة: (5).
(2) سورة آل عمران: (29).(1/273)
والإخلاص هو المقياس الحقيقي لقوة الرقية. وذلك أن المعالج حين يرقي المريض يكون همه علاج هذا المريض محتسبا لله، جاعلا نصب عينيه قول النبي صلى الله عليه وسلم "من نَفَّس عن أخيه كربة، نفس الله بها عنه كربة من كرب يوم القيامة" (1) .وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" (2) .
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الذكر: باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن ح(2699) وأبو داود في سننه: كتاب الأدب: باب في المعونة للمسلم ح(4946) والترمذي في سننه: كتاب القراءات: باب (12) ح(2954). وابن ماجة في سننه: كتاب السنة: باب فضل العلماء والحث على طلب العلم ح(225) وانظر تحفة الأشراف ح(12510). وقوله "في بيت من بيوت الله: قال الطيبي: شامل لجميع ما يبني الله تقرباً إليه من المساجد والمدارس والربط". وقوله"يتدارسونه" قيل شامل لجميع ما يتعلق بالقرآن من التعلم والتعليم والتفسير والاستكشاف عن دقائق معانيه. ونقول: والاستشفاء به". وقوله: "حفتهم الملائكة" أي طافوا بهم وداروا حولهم تعظيماً لصنيعهم-انظر شرح السندي على سنن ابن ماجة (1/148).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب بدء الوحي: باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ح(1). ومسلم في صحيحه: كتاب الإمارة: باب قوله صلى اله عليه وسلم إنما الأعمال بالنية ح(1907). وأبو داود في سننه: كتاب الطلاق: باب فيما عني به الطلاق والنيات ح(2201) والترمذي في سننه: كتاب فضائل الجهاد: باب ما جاء فيمن يقاتل رياء للدنيا ح(1653) وقال: هذا حديث حسن صحيح. والنسائي في سننه: كتاب الطهارة: باب النية في الوضوء ح(75). وابن ماجة في سننه: كتاب الزهد: باب النية ح(3227). وانظر تحفة الأشراف ح(10612). والبيهقي في الكبرى (1/298).(1/274)
والنية هي الأصل، تجد رجلين يصليان في صف واحد مقتديين بإمام واحد، يكون بين صلاتيهما كما بين المشرق والمغرب. لأن القلب مختلف؛ أحدهما قلبه غافل، بل ربما يكون مرائيا في صلاته - والعياذ بالله - يريد بها الدنيا، والآخر قلبه حاضر، يريد بصلاته وجه الله واتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بينهما فرق عظيم، فالعمل على ما في القلب، وعلى ما في القلب يكون الجزاء يوم القيامة.
فإذا كان الله في كتابه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته يؤكدان على إصلاح النية، فالواجب على الإنسان أن يُصلح نيته، ويُصْلح قلبه.
فالواجب على المعالج بالقرآن أن يكون همه وهدفه شفاء المريض وإخلاص النية لله تعالى.
3- الاتباع(1/275)
ينبغي للمعالج بالقرآن أن يكون متبعا لهدي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم في رقيته وعلاجه. ولا ينبغي له التوسع في مجال الرقى. خاصة أن بعض الرقاة والمعالجين بالقرآن يتوسعون في هذا المجال، محتجين بقول النبي صلى الله عليه وسلم "وما أدراك أنها رقيه"(1) . وكأن هناك رُقى لم يوضحها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو القائل: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" وفي رواية" "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" (2)
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب الرقى بفاتحة الكتاب ح(5736). ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن والأذكار ح(2201). وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب كيف الرقى ح(3900). والترمذي في سننه: كتاب الطب: باب ما جاء في أخذ الأجر على التعويذ (2071) وقال: هذا حديث حسن صحيح، ثم قال: ورخص الشافعي للمعلم أن يأخذ على تعليم القرآن أجرا ويرى له أن يشترط على ذلك. وابن ماجة في سننه: كتاب التجارات: باب أجر الراقي ح(2156). وانظر تحفة الأشراف ح(4249) و(4307) وأخرجه الداقطني في سننه (3/65). والبيهقي في الكبرى (6/124). والبغوي في شرح السنة ح(2187) .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الصلح: باب "إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود ح(2697). ومسلم في صحيحه: كتاب الأقضية: باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور ح(1718).وأبو داود في سننه: كتاب السنة: باب في لزوم السنة ح(4606). وابن ماجة في سننه: كتاب السنة: باب تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والتغليظ على من عارضه ح(14). وانظر تحفة الأشراف ح(17455). وأخرجه أحمد في مسنده (6/240-270). والبيهقي في الكبرى: كتاب آداب القاضي: باب من اجتهد ثم رأى أن اجتهاده خالف نصاً أو إجماعاً أو ما في معناه رده على نفسه وعلى غيره (10/119). قال النووي: هذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام وهو من جوامع كلمة صلى الله عليه وسلم فإنه صريح في رد كل البدع والمخترعات سواء أحدثها الفاعل أو سبق بإحداثها -انظر شرح النووي على صحيح مسلم (12/16).(1/276)
.
قال ابن رجب الحنبلي: هذا الحديث أصل من أصول الإسلام، وكما أن حديث "إنما الأعمال بالنيات" ميزان للأعمال في باطنها، وكل عمل لا يراد به وجه الله فليس لعامله فيه ثواب، فكذلك هذا الحديث ميزان للأعمال في ظاهرها، فكل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله فهو مردود على عامله، وكل من أحدث في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله فليس من الدين في شيء (1) .
وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك" (2) .
بعض المعالجين بالقرآن يقتفون أثر المشعوذين فيضعون الآيات في غير مواضعها، ويستعينون بالجن المسلم -حسب زعمهم- في علاجهم عن طريق التبخير أو غيره، مما يؤدي إلى الشرك -والعياذ بالله- فالحذر الحذر من ذلك.
4- قوة الإيمان
__________
(1) أنظر جامع العلوم والحكم لابن رجب (1/176) شرح (5).
(2) أخرجه أبو داود في سننه: كتاب السنة: باب في لزوم السنة ح(4607). والترمذي في سننه: كتاب العلم: باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع ح(2685). وقال: هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجة في سننه: كتاب السنة: باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين ح(43). وانظر تحفة الأشراف ح(9891). وأخرجه أحمد في مسنده (4/126). والدرامي في سننه (1/44-45). والحاكم في مستدركه (1/95-96) وقال: هذا حديث صحيح ليس له علة ووافقه الذهبي. وأخرجه البيهقي في الكبرى: كتاب آداب القاضي: باب ما يقضي به القاضي ويفتي به المفتي (10/114). وانظر صحيح سنن الترمذي للألباني ح(2157). قال أبو الدرداء رضي الله عنه: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم تركنا والله على مثل البيضاء عليها ونهارها سواء -انظر صحيح سنن ابن ماجة للألباني ح(5).(1/277)
يُشترط في المعالج بالقرآن أن يكون قوى الإيمان. فالإيمان سلاح المؤمن. ويختلف هذا السلاح قوة وضعفا من شخص لآخر. وحيث إن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، وكذلك جميع شعب الإيمان وما تزيده ضدها ينقصه.
فيجب على المعالج أن يكون قوي الإيمان، لأنه يتعامل مع كفرة الجن. والله تبارك وتعالى يقول: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) (1) .
فقوة الإيمان عند المعالج تجعله يملك السيطرة على الشيطان، فيتحكم في الحالة التي أمامه.
والمعالج بالقرآن يجب أن يكون تقيّاً يخاف الله، فيخوف الله منه عدوه. يخشى الله، فيجعل الله في وجهه مهابة. وبقدر ما يكون العبد المسلم تقيّاً بقدر ما يخضع له عدوه. والشيطان ضعيف بكفره ومعاصيه، والعبد قوي بإيمانه وتقواه.
وقد بلغ من تقوى الإمام أحمد بن حنبل أنه أرسل قبقابه للجني بدون أن يذهب إلى المريض، فقال الجني المتلبس للجارية: سمعا وطاعة، وخرج من الجارية. وبعد أن مات الإمام أحمد بن جنبل رجع الجني وصرع الجارية، وذهب إليه من يأمره بالخروج فرفض، وقال: ذاك أحمد أطاع ربه فأطاع الله له كل شيء (2) .
5- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ينبغي للمعالج بالقرآن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بدرجاته الثلاث: باليد، أو باللسان، أو القلب. وبشرط العلم فيما يأمر والعلم فيما ينهي، والرفق فيمن يأمر وفيمن ينهي، فقد وصف الله المؤمنين فقال: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة) (3) .
__________
(1) سورة الحجر: (42) .
(2) آحكام المرجان في أحكام الجان لبدر الدين الشلبي ص(114).
(3) سورة التوبة: (71).(1/278)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأي منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" (1) .
وقال تبارك وتعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) (2) .
وظاهر النصوص وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل مسلم؛ كل على قدر طاقته، أينما كان.
فإذا رأى المعالج بالقرآن في المريض منكراً كتعليق حجاب أو غيره، وجب عليه إزالة هذا المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة، وينصح المريض بالسر ويخوفه من الله وأليم عقابه، سواء كان هذا المنكر ترك صلاة، أو شرب دخان، أو حلفا بغير الله، أو لبس خاتم ذهب للذكور، أو تصويراً، أو غناء وموسيقى، أو غيره ذلك من المناكير.
وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر آداب يجب على المعالج بالقرآن أن يتخلق بها، منها:
(1) أن يكون عالما بحقيقة ما يأمر به من أنه معروف في الشرع، وأنه قد تُرِكَ، عالماً بحقيقة المنكر الذي ينهى عنه، وأن يكون قد ارتكب حقيقة.
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الإيمان: باب كون النهي عن المنكر من الإيمان ح(49). وأبو داود في سننه: كتاب الصلاة: باب الخطبة يوم العيد ح(1140). والترمذي في سننه: كتاب الفتن: باب ما جاء في تغير المنكر باليد ح(2179) وقال: هذا حديث حسن صحيح. والنائي في سننه: كتاب الإيمان: باب تفاضل أهل الإيمان ح(5023). وابن ماجة في سننه: كتاب إقامة الصلاة: باب ما جاء في صلاة العيدين ح(1275). وانظر تحفة الأشراف ح(4085). قال النووي: أما قوله صلى الله عليه وسلم "فليغيره" فهو أمر إيجاب بإجماع الأمة وقد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكتاب والسنة وإجماع الأمة وهو أيضاً من النصيحة التي هي الدين. ونقول: ما لم يؤدي ذلك إلى منكر اشد وما لم يؤدي ذلك إلى إيذاء الأمر والناهي -انظر شرح النووي على صحيح مسلم (2/22).
(2) سورة آل عمران: (104).(1/279)
(2) أن يكون ورعا لا يأتي الذي ينهى عنه، ولا يترك الذي يأمر به؛ لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) (1) .
وقوله تعالى: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون) (2) .
(3) أن يكون حسن الخلق حليما يأمر بالرفق، وينهى باللين، ولا يغضب لنفسه بل يصبر لقوله تعالى: (وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور) (3) .
قال تعالى: "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة" (4) .
أي لا تختص بالمعتدي، بل تتناول من رأى منكراً ولم يغيره.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من الناس مفاتيح للخير، مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير. فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، و ويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه" (5) .
فعلى المعالج بالقرآن أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأن يحسن الظن بمن يأمرهم وينهاهم، باعتبارهم بشراً على الأرض وليسوا ملائكة.
فإذا أخطأ بنو آدم خطأ، وإذا أذنبوا فقد أذنب أبوهم الأول:(ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزما) (6) .
فلا غرابة إذاً أن يخطئ الناس ويصيبوا: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم) (7) .
__________
(1) سورة الصف: (3).
(2) سورة البقرة: (44).
(3) سورة لقمان: (17).
(4) سورة الأنفال: (25).
(5) أخرجه ابن ماجة في سننه كتاب السنن: باب من كان مفتاحاً للخير ح(237) وانفرد به. وانظر تحفة الأشراف ح(550). وصححه الألباني: انظر صحيح سنن ابن ماجة ح(194). قال ابن الأثير: وقوله صلى الله عليه وسلم "فطوبى" فعل من الطيب، وقيل اسم للجنة، وقيل شجرة فيها -انظر النهاية في غريب الحديث (1413) -والويل: الهلاك.
(6) سورة طه: (115).
(7) سورة الزمر: (52).(1/280)
فانظر إلى إيناسه تبارك وتعالى لهم، حين ناداهم "يا عبادي"، وأضافهم إلى ذاته المقدسة تلطفاً بهم.
إن سب الناس ولعنهم ولو كانوا عصاة منحرفين، لا يصلحهم، ولا يقربهم من الخير. وأولى من هذا أن تتقدم إلى أخيك العاصي فتدعوه أو تدعو له، ولا تدعه فريسة للشيطان، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تكونوا عونا للشيطان على أخيكم" (1) . وقد قال أحد الحكماء "بدلاً من أن تلعن الظلام أضيء شمعة تنير الطريق".
6 - القدوة
ينبغي للمعالج بالقران أن يكون قدوة للناس. فإذا أنعم الله عليه بكونه سبباً في شفاء الناس، فإن الناس يتساءلون بم استحق هذه المنزلة؟ فينبغي له أن يكون قدوة للناس في عبادته ومعاملته، وفي شأنه كله. وهذه التزكية مطلب شرعي، قال تعالى: (قد أفلح من زكاها) (2) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتق المحارم تكن أعبد الناس" (3) .
فينبغي للمعالج بالقرآن أن يكون مقتديا برسول الله صلى الله عليه وسلم في كل شيء عاملا بقوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) (4) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الحدود: باب ما يكره من شارب الخمر وأنه ليس بخارج عن الملة ح(6781). وأبو داود في سننه: كتاب الحدود: باب الحد في الخمر ح(4477). واحمد في مسنده (1/438). والبيهقي في الكبرى (8/331).
(2) سورة الشمس: (9).
(3) أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الزهد: باب الصحة والفراغ نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس ح(2312)، قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث جعفر بن سليمان. وأحمد في مسنده (2/310). وصححه الألباني: انظر صحيح سنن الترمذي ح(1876). وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني ح(930).
(4) سورة الأحزاب: (21).(1/281)
محبا لله صادقا في محبته؛ متبعا للنبي صلى الله عليه وسلم في عبادته، ومعاملته، وأخلاقه، وسلوكه، وسياسته، واقتصاده، وأمور حياته كلها. قال تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) (1) .
ومن ذلك جمال المظهر، وطيب الباطن والظاهر. ويتحقق ذلك بإزالة الشهوات والشبهات، وتعلم ما يحتاجه المسلم من العلوم الإسلامية من: توحيد، وقرآن، وحديث، وفقه، وسيرة. وليكن جميل المظهر، لأن الله جميل يحب الجمال. ومن ذلك حف الشارب، وإكرام اللحية، عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: "خالفوا المشركين، اخفوا الشوارب، وأوفروا الحى"(2) .
ومن جمال المظهر عدم إسبال الثياب تحت الكعبين لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار" (3) . فالإسبال حرام سواء قصد الخيلاء أم لم يقصدها.
فحياة المعالج بالقرآن وسلوكه الخاص والعام موضع ملاحظة، فحين يكون بعيدا عن الالتزام بالسنن والنوافل - فضلا عن الواجبات - فإنه يكون فتنة للناس، حيث يصرفهم بسلوكه عن دين الله.
7 - الدعوة قبل العلاج
__________
(1) سورة آل عمران: (31).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب اللباس: باب تقليم الأظفار ح(5892) ومسلم في صحيحه: كتاب الطهارة: باب خصال الفطرة ح(259) والترمذي في سننه: كتاب الأدب: باب ما جاء في إعفاء اللحية ح(2772) وقال: هذا حديث حسن صحيح. وانظر تحفة الأشراف ح(8177) والنسائي في سننه: كتاب الطهارة: باب إحفاء الشارب وإعفاء اللحية ح(15). وأخرجه أحمد في مسنده (2/16).
(3) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب اللباس: باب ما أسفل من الكعبين فهو في النار ح(5787). وابن ماجة في سننه: كتاب اللباس: باب موضع الإزار أين هو ح(3573). وانظر تحفة الأشراف ح(4136). وأخرجه أحمد في مسنده (3/5-6-31-97). والبيهقي في الكبرى (2/244).(1/282)
مما لا شك فيه أن مجال العلاج بالقرآن أحسن مجال للدعوة إلى الله تعالى، إذ يلتقي هذا المعالج بعشرات المرضى، يجلسون إليه، ويستمعون لما عنده من معلومات ومبادئ، ينظرون إلى سلوكه وتعامله؛ فإذا كان المعالج بالقرآن يحمل توحيدا علميا وعمليا أثر في مرضاه تأثيرا طيبا بإذن الله.
فينبغي للمعالج بالقرآن أن يعيد تنظيم حياة المريض، ويرسم له البرنامج العلاجي والإصلاحي، ويربط المريض بخالقه: (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه) (1) .
مذكراً المريض بقوله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له) (2) .
فالبعد عن الله عز وجل يورث العيش المر، والضنك، وتسلط الشياطين.
8 - الفتنة الكبرى :
أعظم الفتن ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنها حيث قال: "ما تركت فتنة بعدى أضر على الرجال من النساء" (3) .
__________
(1) سورة الكهف: (28).
(2) سورة الزمر: (53-54).
(3) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب النكاح: باب ما يتقي من شؤم المرأة ح(5096). ومسلم في صحيحه: كتاب الرقاق: باب أكثر أهل الجنة الفقراء ح(2740). والترمذي في سننه: كتاب الأدب: باب ما جاء في تحذير فتنة النساء ح(2789) وقال: هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجة في سننه: كتاب الفتن: باب فتنة النساء ح(3998) وانظر تحفة الأشراف ح(4188) وأخرجه أحمد في مسنده (5/200) والبيهقي في الكبرى (7/91).(1/283)
وقال صلى الله عليه وسلم: "فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء" (1) .
هذا باب عظيم من أبواب الفتنة قد يقع فيها المعالج من حيث لا يدري ولا يشعر. فقد يزين الشيطان للمعالج أن الخلوة بالمريضة أفضل من جهة عدم إحراجها، ومن جهة عدم إطلاع الناس من أقربائها على أسرارها، فيحدث في ذلك معصية، وكبيرة من الكبائر، يكفر بسببها صاحبها إذا استحلها.
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الذكر والدعاء: باب أكثر أهل الجنة الفقراء، وأكثر أهل النار النساء وبيان الفتنة بالنساء ح(2742). وأحمد في مسنده (3/19-22-46-61-84). وابن حبان في صحيحه -انظر الإحسان ح(3211). والبيهقي في السنن (7/91). والحميدي في مسنده ح(752). والمنذري في الترغيب (3/448). وابن خزيمة في صحيحه ح(1699) وابن أبي شيبة في مصنفه (13/424).(1/284)
فالحذر الحذر أيها الأخ المعالج من أن ينال منك الشيطان ذلك، بأن يوقعك في شيء من هذه الكبائر من المعاصي والمنكرات، فإن هذا أعظم مطلب يطلبه منك الشيطان بعد الشرك بالله. وحديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر معلوم ومشهور. فقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال: "إياكم والدخول على النساء" (1) . وقال صلى الله عليه وسلم أيضا: "لا يخلو رجل بامرأة إلا مع ذي محرم" (2)
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب النكاح باب لا يخلون رجل بإمرأة إلا ذو محرم والدخول على المغيبة ح(5232). ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها ح(2172). والترمذي في سننه: كتاب الرضاع: باب ما جاء في كراهية الدخول على المغيبة ح(1174) وقال: حديث عقبة بن عامر حديث حسن صحيح. وأحمد في مسنده (4/149) والبيهقي في الكبرى (7/90) وابن أبي شيبة في مصنفه (4/409) .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب النكاح: باب لا يخلون رجل بإمرأة إلا ذو محرم والدخول على المغيبة ح(5233). ومسلم في صحيحه: كتاب الحج: باب سفر المرأة مع محرم إلى الحج وغيره ح(1341) وأحمد في مسنده (1/18). والمنذري في الترغيب (3/39). وعبد الرزاق في مصنفه ح(12548). قال النووي: محتمل أن يريد محرماً لها أوله وهذا الاحتمال الثاني هو الجاري على قواعد الفقهاء فإنه لا فرق بين أن يكون معها محرماً لها كإبنها وأخيها وأمها وأختها أو يكون محرماً له كأخته وبنته وعمته وخالته فيجوز القعود معها في هذه الأحوال ثم إن هذا الحديث مخصوص أيضاً بالزوج فإنه لو كان معها زوجاً كان كالمحرم وأولى بالجواز وأما إذا خلى الأجنبي بالأجنبية من غير ثالث معها فهو حرام بإتفاق العلماء أو كذا لو كان معها من لا يستحي منه لصغره كإبن سنتين أو ثلاث ونحو ذلك فإن وجوده كالعدم وكذا لو اجتمع رجال بإمرأة أجنبية فهو حرام بخلاف ما لو اجتمع بنسوة أجانب فإن الصحيح جوازه -انظر شرح النووي على صحيح مسلم (9/109).(1/285)
. (600) -فكيف بجلسة بين اثنين الشيطان ثالثهما، فيكون بذلك وليهما والله عدوهما، فأنَّى يستجاب لهما، وأنَّى يكون الخير.
هذه بعض القواعد للرقية الشرعية أقدمها نصيحة للإخوة العاملين في مجال العلاج بالقرآن الكريم والرقية الشرعية. وكذلك لمن ابتلوا ببعض الأمراض، عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة"(1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
http://www.islamset.com/arabic/ahip/altashfe/soltan.htm
الاستشفاء بالقرآن
الدكتور مصطفى محمود حلمي
الدكتور يوسف يعقوب السلطان
لقد أُعد هذا الفصل باللغة الإنجليزية ليكون أحد الفصول الرئيسية في الكتاب بغية توصيل مفهوم ومضمون وأسس الاستشفاء بالقرآن للمسلمين غير الناطقين بالعربية ولغير المسلمين كذلك لعله يكون لهم نبراساً ، يتضمن الفصل ما يلي:
مقدمة
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الإيمان: باب بيان أن الدين النصيحة ح(55). وأبو داود في سننه: كتاب الأدب باب في النصيحة ح(4944). والترمذي في سننه: كتاب البر والصلة: باب ما جاء في النصيحة ح(1932). وقال: هذا حديث حسن صحيح. والنسائي في سننه: كتاب البيعة: باب النصيحة للإمام ح(4208). وانظر تحفة الأشراف (2053). وأخرجه أحمد في مسنده (1/351) و(2/297). قال الخطابي: النصيحة كلمة يعبر بها عن جملة هي إرادة الخير للمنصوح له فمعنى النصيحة لله سبحانه: صحة الاعتقاد في وحدانيته وإخلاص النية في عبادته. والنصيحة لكتابه: الإيمان به والعمل بما فيه. والنصيحة لرسوله: التصديق بنبوته وبذل الطاعة له فيما أمر ونهى عنه. والنصيحة لعامة المسلمين: إرشادهم إلى مصالحهم -انظر جامع العلوم والحكم لابن رجب ص (74).(1/286)
يتطرق الباحثان في المقدمة إلى أدبيات استعرض به مؤلفيها إلى أهمية الصلاة إلى صحة الإنسان وكوسيلة للعلاج. كما أفاد أحدهم بعدم جدوى الاستعانة بالطبيب التقليدي عندما يعجز الطب التقليدي عن العلاج، وبعدم الاعتماد على الوسائل البديلة عندما يكون الطب التقليدي نافعاً. وأضاف الباحثان بأن بحثهم سيركز على ثلاثة أمور رئيسية وهي:
أولاً : مصطلح الرقية
ثانياً : آراء حول الرقية
ثالثاً : فلسفة أو مبادئ الاستشفاء بالقرآن
أولاً : مصطلح الرقية
يفيد لسان العرب بأن أرقاه تعني تهدئة الإنسان، لذا، فإن الرقية هي التعويذة أو الحماية. ويسرد الباحثان بعد ذلك تعاريف مرجعية للرقية. ويضيفان بأن النفث يعتبر إحدى عناصر الرقية.
ثانياً : آراء حول الرقية
أوضح الباحثان بأن هنالك تبيان حول الرقية. فمن بين حاثاً لها إلى ناهياً عنها (كراهية). [في المذهب السني]. وفي المذهب الشيعي، يتفق معظم علمائهم على تفضيل الرقية.
كما أن البعض استند في ذلك إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه لا رقية إلا لروح أو حمى أو عين موضحين الحالات التي بينها صلى الله عليه وسلم لرقية الشخص لنفسه أو لغيره. بينت الأدبيات بأن الرقية كانت قليلة الاستعمال في فجر الإسلام.
ثالثاً : مبادئ الاستشفاء في القرآن
بدء الباحثون بتعريفهم لمعنى "القلب والمرض" في القرآن حيث استشهدوا بقوله تعالى في الآية (10) من سورة البقرة، والآية (7) من سورة المائدة، والآيتين (2،1) من سورة الأعراف، والآيتين (15،14) من سورة التوبة. وأن القلوب تعنى ما في داخل الصدور التي تصاب بالأمراض وليس هي العضلة التي تضخ الدم، إذ أنها مرتبطة بالصحة الروحية. كما تطرق الباحثان إلى مفهوم القلب في سورة أخرى مثل: الآية (54) من سورة الحج، الآية (89) من سورة الشعراء، الآية (49) من سورة العنكبوت، الآية (5) من سورة فصلت، الآية (5) من سورة الصف.(1/287)
وأضاف الباحثان أن المنافقين هم من أصحاب القلوب المريضة بالتصرف وليس بالمرض كما ورد في الآية (12) من سورة الأحزاب. كما أن القرآن الكريم ربط أحياناً أمراض القلب بالخوف، كما ورد في الآية (50) من سورة النور. وبين الباحثان كذلك أن أحد أسباب أمراض القلب، وهو من المراحل البدائية للشقاء، يقود إلى جحود وجمود القلب، كما ورد في الآية (53) من سورة الحج. وبعد ذلك تطرق الباحثان أمر تطور واختلاف مفهوم الأمراض في الحضارات المتعاقبة مثل:
1- طب ما قبل التاريخ في العصر الحجري وخلافه حيث كان يتم حفر جمجمة المريض لإخراج الشيطان.
2- الطب المصري القديم: ثم اكتشاف عدة وصفات طبية على ورق البردي المصري ثم ربط الأمراض بقوى خارجية.
3- الطب اليوناني القديم والذي ارتبط في القرن الخامس قبل ميلاد سيدنا المسيح عليه السلام بأبوقراط.
4- العصور الوسطى والتي افترض بها بأن الله هو الطبيب الشافي وأن المريض عقوبة من الخطايا مما استوجب التوجه إلى الصلاة.
5- عصر النهضة الأوربية وذلك في القرون 14-16 ميلادية حيث أدخلت علوم حديثة مثل التشريح والعقاقير، الخ. وكان هنالك جملة تتكرر بأن الطبيب يعالج والشافي هو الله.
6- القرن السابع عشر وفيه اكتشفت آلات ومعدات طبية مثل الترمومتر والميكروسكوب.
7- القرن الثامن عشر وفيه طورت نظريات للعلاج.
8- القرن التاسع عشر وفيه تطور علمي التخدير والتعقيم.
9- القرن العشرون وفيه شهد العالم تطورات طبية عديدة في الأجهزة والمعدات ووسائل التشخيص والعلاج.
واختتم الباحثان البحث بالتطرق لآيات شفاء القلب في القرآن كما وردت في سورة الإسراء (82)، يونس (57)/ فصلت (44)، الشعراء (80). وكذلك شفاء نادى به القرآن للناس جميعاً وليس فقط للمسلمين كما ورد في الآيتين (68، 69) من سورة النحل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
http://www.islamset.com/arabic/ahip/altashfe/FTAWE.htm(1/288)
فتاوى صادرة عن قطاع الإفتاء والبحوث الشرعية
بشأن التشافي بالقرآن
فتوى رقم 87 ع / 92
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد، فقد عرض على لجنة الأمور العامة في هيئة الفتوى في جلستها المنعقدة صباح يوم الخميس 15 محرم 1413هـ الموافق 16 / 7 / 1992م الاستفتاء المقدم من ونصه: ما حكم الشرع في طريقة العلاج بالقرآن حسب الأوراق المرفقة.
وبعد اطلاع اللجنة على الأوراق المرفقة أجابت اللجنة بما يلي:
تجوز الرقية بشروط ثلاثة:
أولها : أن تكون بكلام الله تعالى أو بأسمائه وصفاته.
ثانيها : أن تكون باللسان العربي أو بما يعرف معناه من غيره.
ثالثها : أن يعتمد الراقي والمرقي أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بإذن الله تعالى وقدرته.
لما روى عوف بن مالك رضي الله عنه قال: كنا نرقي في الجاهلية فقلنا يا رسول الله كيف ترى في ذلك فقال صلى الله عليه وسلم اعرضوا عليَّ رقاكم لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك (أخرجه مسلم).
أما الرقى المرفقة بالفتوى فهي وإن كانت من آيات القرآن الكريم إلا أن تخصيص الآيات المذكورة بما يقابلها من أمراض مخصوصة على أن تقرأ مرات بعدد معين هو تخصيص بلا مخصص فلا يكون العمل به مشروعاً فضلاً عما فيها من حمل للآيات على غير معانيها كما في ألم الأذن والاصفرار والحصر والدم ونحوها كثير، كما أنه قد وردت بعض الصيغ فيها تحريف لنص الآية الكريمة كما في رقية الأمراض الجلدية حيث كررت كلمة "موتوا" سبع مرات.
لهذا ترى اللجنة عدم مشروعية الرقى بهذه الآيات الكريمة على النحو الوارد في السؤال والله أعلم.
رئيس قطاع الإفتاء والبحوث الشرعية
المدير العام للإفتاء والبحوث الشرعية
مشعل مبارك عبد الله الأحمد الصباح
****
فتوى رقم 3ع / 94
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:(1/289)
فقد عرض على لجنة الأمور العامة في هيئة الفتوى في اجتماعها المنعقد صباح يوم السبت 3 من محرم 1415هـ الموافق 12 / 6 / 1994 الاستفتاء المقدم من رئيسة لجنة الاستشفاء بالقرآن الكريم في وزارة الصحة، ونصه: تتقدم لجنة الاستشفاء بالقرآن الكريم في مركز الكويت لمكافحة السرطان لأصحاب الفضيلة أعضاء لجنة الفتوى بجزيل التحية والتقدير على جهودهم المخلصة في خدمة الإسلام والمسلمين متمنين لكم دوام التوفيق.
تعتزم لجنة الاستشفاء بالقرآن الكريم اتخاذ القرآن الكريم كأسلوب علاجي للمريض يتحقق من خلاله رقية المريض بالماء والزيت كما ورد عن رسولنا عليه أفضل الصلاة والتسليم في دعائه المأثور. جاء جبريل عليه السلام إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو موجع فقال يا محمد اشتكيت؟ قال نعم. فقال بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ومن شر كل نفس أو عين وحاسد: بسم الله أرقيك والله يشفيك. لهذا تتقدم لكم بطلب بيان الحكم الشرعي في اتخاذ الرقية كأسلوب علاجي للأمراض المستعصية.
وقد أجابت اللجنة بالتالي:
ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز الرقية من كل داء يصيب الإنسان بشروط أربعة:
الأول : أن يكون بكلام الله تعالى أو بأسمائه وصفاته وبالمأثور الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبذكر الله مطلقاً.
الثاني : أن يكون بكلام مفهوم المعنى، وألا يستعمل فيها الطلاسم والرموز التي لا يفهم معناها.
الثالث : أن يعتقد الراقي والمرقي أن الرقية لا تؤثر بذاتها، بل بإذن الله تعالى وقدرته.
الرابع : أن لا تشتمل الرقية على شرك أو معصية.
وقد روي عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: كنا نرقى في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله، فكيف ترى في ذلك فقال صلى الله عليه وسلم: اعرضوا عليَّ رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك. أخرجه مسلم.
وقد روي جواز القراءة على الماء عن ابن عباس، وعائشة، ومجاهد، وأبي قلابة، وابن تيمية، والقاضي عياض.(1/290)
وعلى ذلك فترى اللجنة جواز القراءة على الماء ثم شربه أو الاغتسال أو التمسح به.
وأما القراءة على زيت الزيتون والادهان به فلا ترى اللجنة بأسا به أيضاً قياساً على الماء، ولأنه من شجرة مباركة، وذلك ما لم يكن في استعماله ضرر على المريض.
وتنبه اللجنة إلى أن هذا النوع من الرقى لا يكون حائلاً دون التطبب لدى الطبيب، وبخاصة أن التداوي قد أمر به في نصوص متعددة، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
رئيس قطاع الإفتاء والبحوث الشرعية
المدير العام للإفتاء والبحوث الشرعية
مشعل مبارك عبد الله الأحمد الصباح
****
فتوى رقم 138 ع / 96
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فقد عرض على لجنة الأمور العامة في هيئة الفتوى في اجتماعها المنعقد صباح يوم الثلاثاء 23 من صفر 1417هـ الموافق 9 / 8 / 1996، الاستفتاء المقدم من / ، ونصه:
لوحظ في الآونة الأخيرة قيام بعض الأدعياء والزاعمين بالإعلان في الصحف المحلية مدعين قدرتهم على العلاج بالقرآن الكريم مستغلين جهل البسطاء وسهولة خداعهم وأكل أموالهم بالباطل ولا يخفى عليكم أن القرآن الكريم دستور خالد نزل لهداية الناس والتشريع لهم وتنظيم عباداتهم ومعاملاتهم وقد جاءت جميع آيات القرآن الكريم مؤكدة هذه الحقيقة مثل قوله تعالى: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته) (29ص)، (وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه) (64 النحل)، (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) (2 البقرة)، وغير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على مراد الشارع الحكيم من إنزال الكتب السماوية وخاصة القرآن الكريم.
ورغبة في حفظ كتاب الله عن امتهان الأدعياء والزاعمين، ونأياً به عن أن يستغل لكسب غير مشروع فإنني التمس من سيادتكم إصدار فتوى بهذا الخصوص تبين الضوابط الشرعية لهذا العمل لتكون مرجعاً لمن أراد معرفة الحكم الشرعي.(1/291)
وقد أجابت اللجنة بالتالي:
ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز الرقية بالقرآن من كل داء يصيب الإنسان لقوله تعالى: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين..) ولما أخرجه البخاري في صحيحه عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه سألت عائشة رضي الله عنها عن الرقية من الحمة فقالت: رخص النبي صلى الله عليه وسلم الرقية من كل ذي حُمَةٍ، والحمة: ذوات العوم، وأيضاً لما أخرجه البخاري في صحيحه عند عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذتين فلما ثقل كنت أنفث عليه وأمسح بيده نفسه لبركتها.
وجواز الرقية مشروط بأربعة أمور وهي:
الأول : أن يكون بكلام الله تعالى أو بأسمائه وصفاته أو بالمأثور الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الثاني : أن يكون بكلام مفهوم المعنى، وألا يستعمل فيها الطلاسم والرموز التي لا يفهم معناها.
الثالث : أن يعتقد الراقي والمرقي أن الرقية لا تؤثر بذاتها، بل بإذن الله تعالى وقدرته.
الرابع : أن لا تشمل الرقية على شرك أو معصية.
وقد روي عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: كنا نرقى في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله، كيف ترى في ذلك فقال صلى الله عليه وسلم: اعرضوا عليّ رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك. أخرجه مسلم.
إلا أن اللجنة ترى التنزه عن اتخاذ الرقية مهنةً لما فيها من تزكية الراقي لنفسه، ولأنه قد يؤدي عدم تحقق الفائدة المرجوة أحياناً إلى تشكيك العوام في القرآن، وضعف ثقتهم بأنه شفاء، هذا ولم يعهد العمل بذلك عن سلف الأمة وعلمائها. والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
رئيس قطاع الإفتاء والبحوث الشرعية
المدير العام للإفتاء والبحوث الشرعية
مشعل مبارك عبد الله الأحمد الصباح
****
فتوى رقم 215 ع / 97
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد:(1/292)
فقد عرض على لجنة الأمور العامة في هيئة الفتوى في اجتماعها المنعقد صباح يوم الثلاثاء 9 من شعبان 1418هـ الموافق 9 / 12 / 1997م، الاستفتاء المقدم من/ (جريدة الأنباء)، ونصه:
ما رأي فضيلتكم والسادة العلماء الكرام في لجنة الفتوى بمن يدعو إلى شراء مادة تسمى (عرق الحلاوة) وهي متوفرة في محلات العطارة ويقوم بوضعها في قليل من الماء ثم قراءة سورة "يس" على الماء المخلوط بمادة (عرق الحلاوة) ومسح الماء بالمنزل، وأن ذلك يحمي المنزل من الجن. وهل هذه الأمور كانت سائدة في عصر النبوة.
وقد أجابت اللجنة بالتالي:
لا يوجد دليل شرعي على أن مادة عرق الحلاوة مع قراءة سورة ياسين عليها تنفع في الحماية من الجن، ولم يثبت عن أحد الصحابة أو التابعين أو الأئمة أنه قال بذلك أو فعله، وعليه فلا يجوز الاعتقاد بأن وضع عرق الحلاوة في الماء مع قراءة سورة ياسين عليه ثم مسح الماء بالمنزل ينفع في التوقي من الجن لعدم قيام الدليل الشرعي على صحته، ولا تجوز الدعوة إلى تبني هذا الاعتقاد لعدم صحته، إنما الجائز شرعاً هو الرقية الشرعية بالشروط التالية:
1- أن تكون بكلام الله تعالى أو بأسمائه، أو صفاته، أو بالمأثور الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو بذكر الله مطلقاً.
2- أن تكون بكلام مفهوم المعنى، وألا تستعمل فيها الطلاسم والرموز التي لا يفهم معناها.
3- أن يعتقد الراقي والمرقي أن الرقية لا تؤثر بذاتها، بل بإذن الله تعالى وقدرته
4- أن لا تشمل الرقية على شرك أو معصية.
ولا بأس بتحصين البيت من الشياطين بما يلي:
( أ ) قراءة المعوذتين والإخلاص:(1/293)
لحديث عبد الله بن حبيب قال: (خرجنا في ليلة مظلمة، نطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي لنا فأدركناه، فقال: قل، فلم أقل شيئاً، ثم قال: قل فلم أقل شيئاً ثم قال: قل. قلت: يا رسول الله، ما أقول؟ قال: "قل هو الله أحد" والمعوذتين حين تمسي، وحين تصبح ثلاث مرات تكفيك من كل شيء) رواه الترمذي. وقال: حديث حسن صحيح.
( ب ) قراءة سورة البقرة لحديث:
(اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، اقرءوا الزهراوين -البقرة وآل عمران- فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف، تحاجان عن صاحبهما، اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة) قال معاوية بن سلام: بلغني أن البطلة هم السحرة، رواه مسلم.
وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر وإن البيت الذي تقرأ فيه البقرة لا يدخله الشيطان) رواه الترمذي، وقال عنه: حديث حسن صحيح.
( جـ ) قراءة خواتيم سورة البقرة لحديث:
إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام، أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة، ولا يقرءان في دار ثلاث ليال فيقر بها الشيطان) رواه الترمذي بإسناد حسن.
( د ) قراءة آية الكرسي:(1/294)
لحديث أبي هريرة رضي الله عنه (لما وكله الرسول صلى الله عليه وسلم بحفظ الصدقة، فتمثل له الشيطان بصورة إنسان محتاج إلى الطعام فجعل يحثو من الطعام، فأخذه أبو هريرة رضي الله عنه وقال: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكرر ذلك ثلاث ليال، إلى أن قال له: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها. قال: وما هي؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟ قال: لا، قال: ذلك الشيطان) رواه البخاري. والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
رئيس قطاع الإفتاء والبحوث الشرعية
المدير العام للإفتاء والبحوث الشرعية
مشعل مبارك عبد الله الأحمد الصباح
****
شكر وتقدير(1/295)
تتوجه الجمعية الكويتية لمكافحة التدخين والسرطان بخالص الشكر والتقدير لدولة الكويت المضيافة أميراً وحكومة وشعباً على تفضلهم برعاية تلك الندوة والدعوة لها وإحسان استقبال العلماء المشاركين فيها كما تتوجه بالشكر إلى معالي وزير العدل والأوقاف والشئون الإسلامية الأسبق الأستاذ محمد ضيف الله شرار على رعايته ودعمه للندوة وكذلك إلى مسئولي وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية على تعاونهم الفعال لإنجاح الندوة، كما توجه الشكر إلى اللجنة المنظمة لها برئاسة الدكتور يوسف يعقوب السلطان وتخص بالشكر المجهود الكبير الذي قام به الدكتور خالد أحمد الصالح وكل من عاونه من الإداريين كما تتقدم بالشكر إلى فضيلة شيخ الأزهر الأستاذ الدكتور محمد سيد طنطاوي على تفضله بإيفاد ممثل شخصي لفضيلته وهو الأستاذ الدكتور عبد الله النجار، وتتوجه بالشكر إلى معالي وزير الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة بالمملكة العربية السعودية معالي الأستاذ الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي الذي أوفد إلى الندوة الأستاذ الدكتور ناصر فقيهي، هذا وقد كان لمشاركة الأستاذ الدكتور محمد الأحمدي أبو النور رئيس لجنة الصياغة ووزير الأوقاف الأسبق بمصر أثر كبير في إثراء الندوة ودعم مناقشتها. وتشكر الندوة كافة الذين شاركوا بالحضور والمناقشات سواء بالندوات الخاصة أم بالمحاضرات الجماهرية.
وترفع كذلك الجمعية أسمى آيات التقدير والامتنان إلى معالي وزير العدل والأوقاف والشئون الإسلامية أحمد باقر العبد الله لتبنيه ودعمه أللا محدود لنشر هذه الوثيقة، إذ كان لمعاليه نظرة ثاقبة وفكر سديد ورأي صائب لأهمية نشر أبحاث من هذه الندوة لما فيه الخير والسلام إن شاء الله للأمة العربية والإسلامية.(1/296)
كما ترفع الجمعية جزيل الشكر إلى الشيخ مشعل مبارك عبد الله الأحمد الصباح رئيس قطاع الإفتاء والبحوث الشرعية بوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية لرحابة صدره وتشجيعه أللا محدود لإعداد هذه الوثيقة.
وفق الله الجميع لما يحب ويرضى وبالله التوفيق ،،،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1/297)