بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين·
وبعد:
فيقول الله عز وجل: ((وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) (آل عمران:104).
ومما لا شك فيه أن الجهاد في سبيل الله تعالى ضرب مهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ إذ لا بد منه للأمة التي تدعو إلى الله عز وجل وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؛ وذلك في مرحلة من مراحلها؛ وذلك إما بجهاد الدفع عندما تبتلى الأمة بمن يفتنها في دينها أو دمائها أو أعراضها فيفرض عليها المدافعة فرضًا حسب الإمكان وإلا الفناء والهلاك، أو بجهاد الطلب ونشر دين الله تعالى عندما تكون قادرة على ذلك؛ إذ إن من سنن الله تعالى أن يجد الدعاة أنفسهم وهم يتقدمون بالدعوة إلى الناس أن الطواغيت يحولون بينهم وبين وصول الحق إلى الناس وأن يكون الدين كله لله، فيشرع حينئذ جهاد المفسدين الصادين عن سبيل الله تعالى حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله تعالى· وهذا فرع عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي تقوم من أجله الدعوة وتبذل فيه التضحيات في سبيل الله تعالى·
وإن الأمة الإسلامية اليوم تمر بظروف عصيبة تكالب فيها الأعداء وتنادوا من كل صوب، وتداعوا على حرب الإسلام وأهله الصادقين؛ وذلك في حملة شرسة وحقد دفين يريدون من ورائه مسخ الإسلام في قلوب أهله، وجر المسلمين إلى التبعية للغرب الكافر· وساعدهم في ذلك المنافقون من بني جلدتنا؛ فجاءت الحرب شاملة من خارج الأمة ومن داخلها: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (التوبة:32).(1/1)
ومع إيماننا بحتمية الصراع بين الحق والباطل، ومع أن جهاد الكفار أصبح أمرًا مفروضًا على المسلمين دفاعًا عن الدين والعرض حتى لا تكون فتنة، إلا أن المسلم الناظر في أحوالنا اليوم وما هي عليه من ضعف إيمان، وركون إلى الدنيا، وترهل في الهمم والأجسام، ويأس وإحباط ليَشعُر بالخطر على نفسه وعلى أمته، ويفرض عليه ذلك المبادرة مع إخوانه في وضع برامج علمية وعملية لإعداد النفوس وانتشالها من نومها أو موتها، وإحياء الجهاد وتحديث النفس به. فلقد قال رسول الله: "من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من شعب النفاق"(1).
وتحديث النفس بالغزو ليس المراد منه خاطرة تمر في النفس ثم تدفن في أودية الدنيا وزينتها التي سيطرت على كثير منا؛ وإنما المراد به العزيمة الصادقة على ذلك، ومن علاماتها الأخذ بالأسباب، وإعداد العدة الشاملة للجهاد في سبيل الله تعالى علماً وعملاً وحالاً· قال الله تعالى: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً ...) (التوبة: من الآية46).
وفي المقابل لأحوال المفرِّطين في إعداد العدة لجهاد الكفار وتربية النفوس على ذلك، توجد طائفة أخرى قد أفرطت وتعجَّلت في مواجهة الكفار والمنافقين بالصدام المسلح دون إعداد شامل لهذه المواجهة، وقبل أن يأخذ البلاغ العام للناس حقه كي تستبين لهم سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين، ويزول اللبس والاشتباه بينهما ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيَّ عن بينة·فنشأ من جراء ذلك مفاسد عظيمة على الدعوة وأهلها وعلى عامة المسلمين الذين لبس الأمر عليهم ولم يستبينوا سبيل المجرمين·(1/2)
وعندما نذكر المستعجلين للجهاد قبل الإعداد له فإنما نقصد أولئك الذين بادروا إلى المواجهة مع الأنظمة الكفرية المستقرة المتمكنة قبل الإعداد لذلك، وقبل وضوح الراية الكفرية للناس في هذه الأمكنة· أما الساحات الجهادية التي قد اتضحت فيها رايات الكفار فهذا جهاد مشروع ومطلوب كما هو الحال في كشمير وأفغانستان والشيشان وفلسطين·
والمقصود مما سبق أن كلا الفريقين: سواء المهملون للتربية الجهادية في برامجهم ومناهجهم وسيطرة حياة الترف والترهل على حياتهم، أو المستعجلون للجهاد المسلح قبل استكمال عُدته في النفس والواقع؛ أن كلا الفريقين محتاج لإعداد العدة للجهاد في سبيل الله تعالى بمفهومه الشامل، وهو ما دفع إلى كتابة هذه الأوراق التي أرجو أن تكون فاتحة خير في هذا الموضوع المهم، ولعلها أن تفتح الباب للمهتمين بالدعوة والجهاد كي يدلوا بدلوهم في هذا المجال المهم من مجالات التربية والإعداد للجهاد ويكملوا ما نقص منه حتى يجد المربون فيه بغيتهم من البرامج العلمية والعملية لإعداد شباب الصحوة وبقية الأمة للجهاد في سبيل الله تعالى·
وقبل الدخول في ذكر الوسائل والبرامج التي تُحيي في النفوس الجهاد والاستعداد له يحسن الحديث عن بعض المقدمات المهمة التي تتعلق بالجهاد والغزو في سبيل الله تعالى·
المقدمة الأولى: المعنى العام للجهاد ومراتبه·
المقدمة الثانية: أقسام الجهاد في سبيل الله عز وجل·
المقدمة الثالثة: غاية الجهاد في سبيل الله عز وجل·
المقدمة الرابعة: ثمرة الجهاد في سبيل الله عز وجل في الدنيا والآخرة·
المقدمة الخامسة: مخاطر إهمال الجهاد في سبيل الله عز وجل وترك الاستعداد له·
المقدمة الأولى
المعنى العام للجهاد ومراتبه
المعنى اللغوي:
قال الراغب في مفردات القرآن: (الجَهْد والجُهْد: الطاقة والمشقة· وقيل الجَهْد بالفتح: المشقة، والجُهْد: الوسع)(2).
وقال ابن حجر: (والجهاد بكسر الجيم: أصله لغة: المشقة)(3).(1/3)
المعنى الشرعي:
يدور المعنى الشرعي عند أغلب الفقهاء: على قتال المسلمين للكفار بعد دعوتهم إلى الإسلام أو الجزية ثم إبائهم·
فهو عند الأحناف: (بذل الوسع والطاقة بالقتال في سبيل الله عز وجل بالنفس والمال واللسان أو غير ذلك أو المبالغة في ذلك)(4).
وبأنه: (الدعاء إلى الدين الحق وقتال من لم يقبله)(5).
وعند المالكية هو: (قتال مسلم كافرًا غير ذي عهد لإعلاء كلمة الله تعالى)(6).
وعند الشافعية كما قال الحافظ ابن حجر: (وشرعًا: بذل الجهد في قتال الكفار)(7).
وعند الحنابلة: (قتال الكفار)(8).
وكل هذه التعريفات يُرى أنها قد حصرت الجهاد في قتال الكفار، وهذا هو تعريف الجهاد عند الإطلاق· وهناك أنواع أخرى قد أطلق عليها الشارع اسم الجهاد مع خلوها من القتال كجهاد المنافقين، وجهاد النفس·
ولذا فإن لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى تعريفًا عامًا للجهاد قال فيه: "والجهاد هو بذل الوسع - وهو القدرة - في حصول محبوب الحق، ودفع ما يكرهه الحق"(9).
وقال أيضاً: "··· وذلك لأن الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله
من الإيمان والعمل الصالح، ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان"(10).
وتحت هذا المعنى العام للجهاد يدخل جهاد النفس في طاعة الله تعالى وترك معاصيه، وجهاد الشيطان وجهاد المنافقين، وجهاد الكفار، ومن ذلك جهاد البيان والبلاغ، ومدافعة الفساد والمفسدين؛ بل إن جهاد الكفار بالسنان إن هو إلا جزء من القيام بفريضة الأمر بالمعروف الأكبر - وهو نشر التوحيد - والنهي عن المنكر الأكبر - وهو الشرك بالله عز وجل والكفر به - وذلك بعد دعوة الكفار إلى التوحيد ورفضهم له أو لدفع الجزية·(1/4)
ويبين الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى حقيقة الجهاد بمعناه العام وأنواعه فيقول: "لما كان الجهاد ذروة سنام الإسلام وقُبَّتَه، ومنازلُ أهله أعلى المنازل في الجنة، كما لهم الرفعةُ في الدنيا، فهم الأعلون في الدنيا والآخرة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذِّروةِ العُليا منه، واستولى على أنواعه كلِّها فجاهد في الله حقَّ جهاده بالقلب والجَنانِ، والدعوة والبيان، والسيف، والسِّنَانِ، وكانت ساعاته موقوفة على الجهاد، بقلبه، ولسانه، ويده· ولهذا كان أرفعَ العالمين ذِكرًا، وأعظمهم عند الله قدرًا·
وأمره الله تعالى بالجهاد من حين بعثه، وقال: (وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) (الفرقان:51-52).
فهذه سورة مكية أمر فيها بجهاد الكفار، بالحُجة، والبيان، وتبليغ القرآن· وكذلك جهادُ المنافقين إنما هو بتبليغ الحُجَّة، وإلا فهم تحت قهر أهل الإسلام؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (التوبة:73).
فجهادُ المنافقين أصعبُ من جهاد الكفار، وهو جهادُ خواصِّ الأمة، وورثة الرُّسل، والقائمون به أفرادٌ في العالم، والمشاركُون فيه، والمعاونون عليه، وإن كانوا هُم الأقلين عددًا، فهم الأعظمون عند الله قدرًا·
ولما كان من أفضل الجهاد قولُ الحقِّ مع شدة المُعارِضِ، مثلَ أن تتكلم به عند من تُخاف سَطوتهُ وأذاه، كان للرسلِ - صلواتُ الله عليهم وسلامُهُ - مِن ذلك الحظُّ الأوفَرُ، وكان لنبينا - صلوات الله وسلامه عليه - من ذلك أكملُ الجهاد وأتمُّه·(1/5)
ولما كان جهاد أعداءِ الله في الخارج فرعًا على جهادِ العبد نفسه في ذاتِ الله؛ كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (المجاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ في طَاعَةِ الله، والمُهاجِرُ مَنْ هَجَرَ ما نَهَى الله عنه)(11). كان جهادُ النفس مُقدَّماَ على جهاد العدوِّ في الخارج، وأصلاً له؛ فإنه ما لم يُجاهد نفسه أولاً لتفعل ما أُمِرَتْ به، وتترك ما نُهيت عنه، ويُحارِبها في الله، لم يمكنه جهادُ عدوه في الخارج، فكيف يُمكِنُهُ جهادُ عدوه والانتصاف منه، وعدوُّه الذي بين جنبيه قاهرٌ له، متسلطٌ عليه، لم يُجاهده، ولم يُحاربه في الله، بل لا يُمكنه الخروجُ إلى عدوه، حتى يُجاهد نفسه على الخروج·
فهذان عدوَّانِ قد امتُحِنَ العبدُ بجهادهما، وبينهما عدوٌ ثالث، لا يمكنه جهادُهما إلا بجهاده، وهو واقف بينهما يُثَبِّطُ العبدَ عن جهادهما، ويُخَذِّلُه، ويُرجِفُ به، ولا يزالُ يُخَيِّل له ما في جهادهما من المشاق، وترك الحظوظ، وفوت اللذات، والمشتهيات، ولا يُمكنه أن يُجاهِدَ ذَيْنكَ العدويْنِ إلا بجهاده، فكان جهادُه هو الأصل لجهادهما، وهو الشيطان؛ قال تعالى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً )(فاطر: من الآية6). والأمر باتخاذه عدوًا تنبيه على استفراغ الوسع في محاربته ومجاهدته، كأنَّهُ عدو لا يفتر،ولا يُقصِّر عن محاربة العبد على عدد الأنفاس·(1/6)
فهذه ثلاثة أعداء، أُمِرَ العبد بمحاربتها وجهادها، وقد بُلي بمحاربتها في هذه الدار، وسُلِّطت عليه امتحاناً من الله له وابتلاء، فأعطى الله العبد مدداً وعُدَّةً وأعوانًا وسلاًحًا لهذا الجهاد، وأعطى أعداءه مددًا وعُدَّةً وأعوانًا وسلاحًا، وبَلاَ أحدَ الفريقين بالآخر، وجعل بعضهم لبعض فتنة ليبلُوَ أخبارهم، ويمتحن من يتولاه، ويتولى رسله ممن يتولى الشيطان وحزبه؛ كما قال تعالى: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً)(الفرقان: من الآية20) ، وقال تعالى: (ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ)(محمد: من الآية4)، وقال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) (محمد:31).
إذا عُرِفَ هذا فالجهاد أربع مراتب:
جهاد النفس - وجهاد الشيطان - وجهاد الكفار - وجهاد المنافقين·
فجهاد النفس أربع مراتب أيضاً:
إحداها: أن يجاهدها على تعلُّم الهُدى، ودين الحق الذي لا فلاح لها، ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها عِلمُه، شقيت في الدَّارين·
الثانية: أن يُجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرَّدُ العلم بلا عمل إن لم يَضُرَّها لم ينفعْها·
الثالثة: أن يُجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهُدى والبينات، ولا ينفعه علمُهُ، ولا يُنجِيه من عذاب الله·
الرابعة: أن يُجاهدها على الصبر على مشاقِّ الدعوة إلى الله، وأذى الخلق، ويتحمَّل ذلك كله لله· فإذا استكمل هذه المراتب الأربع، صار من الرَّبَّانِيينَ؛ فإن السلف مجمِعُونَ على أن العَالِمَ لا يستحقُّ أن يُسمى ربانيًا حتى يعرف الحقَّ، ويعمل به، ويُعَلِّمَه، فمن علم وعَمِلَ وعلَّمَ فذاك يُدعى عظيماً في ملكوت السماوات·
وأما جهاد الشيطان، فمرتبتان:(1/7)
إحداهما: جهادُه على دفع ما يُلقي إلى العبد من الشبهات والشكوكِ القادحة في الإيمان·
الثانية: جِهادهُ على دفع ما يُلقي إليه من الإرادات الفاسدة والشهوات· فالجهادُ الأول يكون بعُدة اليقين، والثاني يكون بُعدة الصبر؛ قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24).
فأخبر أن إمامة الدين إنما تُنال بالصبر واليقين؛ فالصبر يدفع الشهوات والإرادات الفاسدة، واليقين يدفع الشكوك والشبهات·
وأما جهاد الكفار والمنافقين ، فأربع مراتب:
بالقلب، واللِّسان، والمال، والنفس، وجهادُ الكفار أخصُّ باليد، وجهادُ المنافقين أخصُّ باللسان·
وأما جهاد أرباب الظلم، والبدع، والمنكرات، فثلاث مراتب:
الأولى: باليد - إذا قَدَرَ - فإن عَجَزَ انتقل إلى اللسان، فإن عَجَزَ جاهد بقلبه، فهذه ثلاثة عشر مرتبة من الجهاد، و (من مات ولم يغزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بالغَزْوِ، مَاتَ عَلَى شُْعبَةٍ من النفاق)(12).
وأكملُ الخلق عند الله، من كمَّلَ مراتِبَ الجِهاد كُلَّهَا، والخلق متفاوتون في منازلهم عند الله، تفاوتهم في مراتب الجهاد، ولهذا كان أكمل الخلق وأكرمهم على الله خاتمُ أنبيائه ورُسُلِهِ؛ فإنه كمَّل مراتبَ الجهاد وجاهد في سبيل الله حقهَ جهاده ··"(13).
وقال أيضاً: "لا ريب أن الأمر بالجهاد المطلق إنما كان بعد الهجرة، فأما جهاد الحجة فأمر به في مكة بقوله: (فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ) أي: بالقرآن (جِهَاداً كَبِيراً) (الفرقان:52) فهذه سورة مكية والجهاد فيها هو التبليغ"(14).
من هذا الكلام النفيس حول المفهوم العام للجهاد وأنواعه يمكن الخروج بالفوائد التالية:(1/8)
الأولى: أن الجهاد بمفهومه العام يشمل جهاد النفس والشيطان في طاعة الله عز وجل وترك معصيته، كما يشمل جهاد الكفار والمنافقين بالحجة والبيان، وجهاد أهل البدع والمنكرات باليد أو باللسان أو بالقلب حسب الاستطاعة، كما يعني جهاد الكفار بالسيف والسنان إما جهاد دفع أو طلب وجهاد الكفار بالسيف هو الذي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذروة سنام هذا الدين وهو المراد من الجهاد في سبيل الله عند الإطلاق·
الثانية: أن جهاد الكفار في المعارك هو قمة الجهاد وكماله، بل هو قمة الإيمان وهو ثمرة جهاد طويل مع النفس والشيطان وتربية لها على الصبر والتضحية وقوة الصلة بالله عز وجل، ولا يصبر على جهاد الكفار وينتصر عليهم إلا أولئك الذين انتصروا على أنفسهم والشيطان في جهادهم لهما وكان لهم نصيب من جهاد البيان وقول الحق والصبر على الأذى فيه؛ إذ إن معركة الجهاد مع الكفار إن هي إلا ساعات أو أيام حاسمة لكنها ثمرة لمعركة سبقتها مع النفس والشيطان، وجهاد بالعقيدة مع الباطل بفضحه وبيان ما يضاده من الحق وقد يستغرق ذلك سنوات أو أجيال، وهذا أمر لا بد منه وهو ضرب من ضروب الجهاد وإعداد للجهاد الحاسم مع الكفار·
الثالثة: أن الكُمَّل من الناس في باب الجهاد من قام بمراتب الجهاد كلها وأعد نفسه بجميع متطلبات الإعداد للانتصار على النفس والهوى؛ والذي هو ممهد للانتصار على الكفار في ساحات الوغى، وممهد للدخول في ذروة سنام هذا الدين، والثبات أمام الأعداء، والاستجابة لداعي الجهاد، والتضحية في سبيل الله عز وجل بالمال والنفس عند النداء، لتكون كلمة الله هي العليا وليكون الدين كله لله، ولكن لا يسارع إلى ذلك إلا من كان له جهاد سابق مع نفسه وهواه وكان النصر له عليها·(1/9)
وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "··· إن جهاد الهوى إن لم يكن أعظم من جهاد الكفار فليس بدونه؛ قال رجل للحسن البصري رحمه الله تعالى: يا أبا سعيد أي الجهاد أفضل؟ قال جهادك هواك· وسمعت شيخنا يقول: جهاد النفس والهوى أصل جهاد الكفار والمنافقين؛ فإنه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولاً حتى يخرج إليهم"(15).
المقدمة الثانية
أقسام الجهاد في سبيل الله
بعد أن تعرفنا على المعنى العام للجهاد ومراتبه نأتي فنتعرف على أقسام الجهاد مع الكفار حيث ينقسم إلى قسمين: جهاد الدفع، وجهاد الطلب·
1- جهاد الدفع: وهو جهاد الصائل والمعتدي - سواءً كان فردًا أو طائفة - ومنعه من فتنة المسلمين في دينهم والاعتداء على الأنفس والأعراض أو الاستيلاء على بلاد المسلمين·
وهذا القسم من الجهاد فرض عين على كل مسلم مكلف قادر؛ وذلك عندما يهاجم الكفار المسلمين في عقر دارهم أو يحصل الاعتداء من الصائل على مال المسلم أو عرضه، أو نفسه، وقد يكون الصائل كافرًا أو محاربًا مسلمًا، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون حرمته فهو شهيد)(16).(1/10)
وعن مدافعة الصائل يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "وهذا الذي تسميه الفقهاء "الصائل" وهو الظالم بلا تأويل ولا ولاية، فإذا كان مطلوبه المال جاز دفعه بما يمكن، فإذا لم يندفع إلا بالقتال قوتل، وإن ترك القتال وأعطاهم شيئًا من المال جاز، وأما إذا كان مطلوبه الحرمة - مثل أن يطلب الزنا بمحارم الإنسان أو يطلب من المرأة، أو الصبي المملوك أو غيره الفجور به - فإنه يجب عليه أن يدفع عن نفسه بما يمكن، ولو بالقتال، ولا يجوز التمكين منه بحال؛ بخلاف المال فإنه يجوز التمكين منه؛ لأن بذل المال جائز، وبذل الفجور بالنفس أو بالحرمة غير جائز· وأما إذا كان مقصوده قتل الإنسان، جاز له الدفع عن نفسه· وهل يجب عليه؟ على قولين للعلماء في مذهب أحمد وغيره· وهذا إذا كان للناس سلطان، فأما إذا كان - والعياذ بالله - فتنة، مثل أن يختلف سلطانان للمسلمين، ويقتتلان على الملك، فهل يجوز للإنسان، إذا دخل أحدهما بلد الآخر، وجرى السيف، أن يدفع عن نفسه في الفتنة، أو يستسلم فلا يقاتل فيها؟ على قولين لأهل العلم، في مذهب أحمد وغيره"(17).
وقد عد شيخ الإسلام مدافعة الصائلين ومقاتلة المحاربين من المسلمين من أنواع الجهاد في سبيل الله عز وجل وذلك بقوله: "لا يحل للسلطان أن يأخذ من أرباب الأموال جعلاً على طلب المحاربين وإقامة الحد، وارتجاع أموال الناس منهم، ولا على طلب السارقين لا لنفسه ولا للجند الذين يرسلهم في طلبهم، بل طلب هؤلاء من نوع الجهاد في سبيل الله فيخرج فيه جند المسلمين كما يخرج في غيره من الغزوات التي تسمى (البيكار) وينفق على المجاهدين في هذا من المال الذي ينفق منه على سائر الغزوات"(18).(1/11)
ويفصل الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى أقسام الجهاد فيقول: "فمن المعلوم أن المجاهد قد يقصد دفع العدو إذا كان المجاهد مطلوباً والعدو طالبًا، وقد يقصد الظفر بالعدو ابتداء إذا كان طالباً والعدو مطلوبًا، وقد يقصد كلا الأمرين، والأقسام ثلاثة يؤمر المؤمن فيها بالجهاد·
وجهاد الدَّفع أصعب من جهاد الطلب؛ فإن جهاد الدفع يشبه باب دفع الصائل، ولهذا أُبيح للمظلوم أن يدفع عن نفسه - كما قال الله تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا)(الحج: من الآية39).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قُتِل دون ماله؛ فهو شهيد، ومن قُتِل دون دمه؛ فهو شهيد)(19) - لأن دفع الصائل على الدين جهاد وقربة، ودفع الصائل على المال والنفس مباحٌ ورخصة؛ فإن قتل فيه فهو شهيد·
فقتال الدفع أوسع من قتال الطلب وأعمُّ وجوبًا، ولهذا يتعيَّن على كل أحد أن يقوم ويجاهد فيه: العبد بإذن سيده وبدون إذنه، والولد بدون إذن أبويه، والغريم بغير إذن غريمه؛ وهذا كجهاد المسلمين يوم أحد والخندق·
ولا يشترط في هذا النوع من الجهاد أن يكون العدو ضعفي المسلمين فما دون؛ فإنهم كانوا يوم أحد والخندق أضعاف المسلمين، فكان الجهاد واجبًا عليهم؛ لأنه حينئذ جهاد ضرورة ودفع، لا جهاد اختيار، ولهذا تُباح فيه صلاة الخوف بحسب الحال في هذا النوع، وهل تُباح في جهاد الطلب إذا خاف فوت العدو ولم يخف كرَّته؟ فيه قولان للعلماء هما روايتان عن الإمام أحمد·
ومعلوم أن الجهاد الذي يكون فيه الإنسان طالبًا مطلوبًا أوجب من هذا الجهاد الذي هو فيه طالب لا مطلوب، والنفوس فيه أرغب من الوجهين·
وأما جهاد الطلب الخالص؛ فلا يرغب فيه إلا أحد رَجُلين: إما عظيم الإيمان يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كلُّه لله، وإما راغبٌ في المغنم والسبي·(1/12)
فجهاد الدفع يقصده كل أحد، ولا يرغب عنه إلا الجبان المذموم شرعاً وعقلاً، وجهاد الطلب الخالص لله يقصده سادات المؤمنين، وأما الجهاد الذي يكون فيه طالباً مطلوباً؛ فهذا يقصده خيار الناس؛ لإعلاء كلمة الله ودينه، ويقصده أوساطهم للدفع ولمحبة الظَّفَر"(20).
وقد جعل أهل العلم جهاد الدفع فرض عين على كل مسلم ذكر مكلف حتى يندفع العدو عن ديار المسلمين·
المقدمة الثالثة
غاية الجهاد في سبيل الله تعالى
الجهاد في سبيل الله تعالى عبادة من العبادات العظيمة التي يتعبد لله تعالى بها، وهو كما ذكرت سابقًا يعد من لوازم القيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإبلاغ التوحيد للناس وإزالة ما يضاده من الشرك·
فما أعظمه وأشرفه من عبادة؛ حيث لا ينحصر نفعها على القائم بها ولكنها تتعداه إلى الناس بهدايتهم إلى الخير والسعادة في الدنيا والآخرة وإنقاذهم بإذنه تعالى من الشر والشقاء في الدنيا والآخرة·
ويمكننا حصر الغاية من الدعوة والجهاد في الأهداف التالية:
1- التعبُّد لله عز وجل بهذه الشعيرة العظيمة؛ شعيرة الجهاد في سبيل الله تعالى؛ فشعور المجاهد أنه عبد لله عز وجل يحب ربه سبحانه، ويحب ما يحبه من الجهاد في سبيله، ويبغض ما يبغضه من الشرك والفساد، ويبغض من يبغضهم الله من أعدائه الكفرة، ويجاهدهم حتى تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى· إن هذا الشعور لمن أعظم الدوافع إلى بذل الجهد والجهاد في سبيل الله تعالى· ولو لم يحصل الداعية في دعوته وجهاده إلا على شعوره بالعبودية لله عز وجل والتلذذ بذلك لكفى بذلك دافعًا وغاية عظيمة(21).(1/13)
كما أن في مصاحبة شعور العبادة لله تعالى في جميع تحركات المجاهد أكبر الأثر في التربية على الإخلاص وتحري الحق والصواب واللذان هما شرطا قبول العبادة، وعلى العكس من ذلك عندما ينسى أو يغفل المجاهد أنه متعبد لله تعالى بدعوته وجهاده، فإنه بذلك يضعف إخلاصه وتبدأ حظوظ النفس والهوى يسيطران على القلب، مما ينتج عنه في نهاية الأمر فتور المجاهد أو مزلة قدمه عياذًا بالله تعالى·
وإن بذل النفس والمال في سبيل الله عز وجل ليعد من أكبر العلامات على محبة الله تعالى ودينه، وعلى العكس من ذلك فيما لو تقاعس المسلم عن الجهاد في سبيل الله تعالى وبخل بماله أو نفسه عندما يوجد داعي الجهاد؛ فإن هذا دليل على ضعف المحبة لله تعالى ولدينه·
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "فمن كان محبًا لله لزم أن يتبع الرسول فيصدقه فيما أخبر، ويطيعه فيما أمر، ويتأسى به فيما فعل، ومن فعل هذا فقد فعل ما يحبه الله، فيحبه الله· فجعل الله لأهل محبته علامتين: اتباع الرسول، والجهاد في سبيله؛ وذلك لأن الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح؛ ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان وقد قال تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ )(التوبة: من الآية24).(1/14)
إلى قوله: (حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) فتوعد من كان أهله وماله أحب إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله بهذا الوعيد ··· والجهاد هو بذل الوسع - وهو القدرة - في حصول محبوب الحق ودفع ما يكرهه الحق، فإذا ترك العبد ما يقدر عليه من الجهاد كان دليلاً على ضعف محبة الله ورسوله في قلبه· ومعلوم أن المحبوبات لا تنال غالبًا إلا باحتمال المكروهات، سواء كان محبة صالحة أو فاسدة؛ فالمحبون للمال والرئاسة والصور لا ينالون مطالبهم إلا بضرر يلحقهم في الدنيا مع ما يصيبهم من الضرر في الدنيا والآخرة لله(22).
وقال في موطن آخر: " والنصوص في فضائل الجهاد وأهله كثيرة، وقد ثبت أنه أفضل ما تطوع به العبد· والجهاد دليل المحبة الكاملة ··· فإن المحبة مستلزمة للجهاد؛ لأن المحب يحب ما يحب محبوبه، ويبغض ما يبغض محبوبه، ويوالي من يواليه، ويعادي من يعاديه، ويرضى لرضاه ويغضب لغضبه، ويأمر بما يأمر به وينهى عما ينهى عنه، فهو موافق له في ذلك، وهؤلاء هم الذين يرضى الرب لرضاهم ويغضب لغضبهم؛ إذ هم إنما يرضون لرضاه ويغضبون لما يغضب له"(23).(1/15)
2- الفوز برضوان الله تعالى وجنته في الدار الآخرة؛ وهذا هو ثمرة التعبُّد لله عز وجل السابق ذكرها، وهي الغاية العظمى التي وعد الله عز وجل بها عباده الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والمجاهدين في سبيله على بصيرة· ولقد تكاثرت الآيات في كتاب الله عز وجل التي تمدح المجاهدين في سبيله سبحانه والصابرين على ما أصابهم في سبيله وما أُعد لهم في الدار الآخرة من الرضوان والنعيم المقيم· وعندما ينْشَدُّ الداعية إلى هذه الغاية وتنجذب نفسه إليها فإنه يستسهل الصعاب ويمضي في طريقه بقوة وعزيمة وثبات، كما أنه عندما يتعلق بهذه الغاية العظيمة ولا ينساها، فإنه بذلك لا يلتفت إلى أعراض الدنيا الزائلة ولا ينتظر جزاء عمله ودعوته وجهاده في الدنيا، وإنما يروض نفسه ويربيها على أن تعطي من صبرها وجهدها وجهادها، ولا تأخذ منه شيئًا في الدنيا، وإنما تنتظر العطاء والثواب في الدار الآخرة من ربها الكريم في دار النعيم المقيم· ولذلك فإن أصحاب هذه النفوس المخلصة لا يتطرق إليهم الوهن ولا الفتور الذي يتعرض له أصحاب الأغراض الدنيوية القريبة، الذين إن حصلوا على أهدافهم في الدنيا رضوا وواصلوا العطاء، وإن تأخرت عليهم فتروا وكلوا وتوقفوا·
أما أصحاب الغاية العظيمة فهم لا يفترون ولا يتوقفون، لأن وقت ومكان توفية الأجر ليس مجاله الدنيا وإنما في الآخرة - دار الحساب والجزاء - ولذلك فهم يعملون ويجاهدون حتى يأتيهم اليقين·
3- تعبيد الناس لرب العالمين عز وجل، وإنقاذهم - بإذنه تعالى - من الظلمات إلى النور، وإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ومن جور الأديان والمذاهب إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا وشقائها إلى سعتها وسعادتها، ومن عذاب النار يوم القيامة إلى جنات النعيم·(1/16)
وهذا لا يتأتى إلا بإزالة الشرك وأربابه الذين يحولون بين الناس وبين أن يصل التوحيد إلى قلوبهم، ومن أجل ذلك شرع الجهاد لإزالة هذه الحواجز والعوائق التي تعترض طريق الحق وتمنعه من الوصول إلى قلوب الناس؛ وذلك حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله؛ قال الله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الأنفال:39).
وعندما يتذكر المجاهد هذه المهمة الجسيمة وهذا الهدف الأساس من دعوته وجهاده، فإنه يضاعف من جهده ولا يقر له قرار وهو يرى الشرك المستشري في الناس والفساد المستطير والظلم العظيم في حياتهم والذي يؤول بهم إلى الشقاء والعنت وكثرة المصائب في الدنيا وإلى العذاب الأليم في الآخرة· ولذلك فلا ترى المجاهد المدرك لهذه الغاية من جهاده إلا خائفًا على نفسه وعلى الناس من عذاب الله عز وجل في الدنيا والآخرة، ولا تراه إلا ناصحًا للعباد رحيمًا بهم يريد من دعوته وجهاده هداية الناس وإنقاذهم بإذن الله تعالى من الظلمات إلى النور ومن عذاب الله عز وجل في الدنيا والآخرة·
ولذلك فإن الجهاد في الإسلام إنما شرع رحمة بالناس، ولو كان فيه ما فيه من المشقة وبذل الأرواح والجراحات؛ فإن هذه المشقات والمكاره لا تساوي شيئًا في مقابلة ما يترتب على الجهاد من المصالح العظيمة وذلك من نشر التوحيد وتعبيد الناس لربهم سبحانه، وإزالة الفتنة والشرك والظلم عنهم·
وبعد هذا التفصيل في غايات الجهاد يمكن القول بأنها كلها ترجع إلى غاية في الدنيا، وغاية في الآخرة·
فأما غاية الجهاد في الدنيا:
فهي نشر التوحيد وتعبيد الناس لربهم سبحانه، ورفع الفتنة والشرك عنهم؛ وذلك لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله وحده·
وأما الغاية من الجهاد في الآخرة:
فهي الفوز بمرضاة الله عز وجل وجنته، والنجاة من سخطه وعذابه·(1/17)
والغاية من الجهاد في الدنيا إن هي في الحقيقة إلا وسيلة عظيمة لتحقيق الغاية العظمى في الآخرة؛ فعاد الأمر إلى غاية الغايات وهي رضوان الله وجنته·
ويوضح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مقصود الجهاد وغايته فيقول: "والجهاد مقصوده أن تكون كلمة الله هي العليا وأن يكون الدين كله لله؛ فمقصوده إقامة دين الله لا استيفاء الرجل حظَّه، ولهذا كان ما يصاب به المجاهد في نفسه وماله أجره فيه على الله؛ فإن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة"(24).
وسواء كان الجهاد جهاد دفع أو جهاد طلب فإن المقصود من الجهادين واحد؛ فهو في جهاد الدفع لرفع الفتنة عن المسلمين المعتدى عليهم في ديارهم؛ لأن في استيلاء الكفار على ديار المسلمين تعريضًا للمسلمين للفتنة في دينهم وأعراضهم وأموالهم، وفيه علو لكلمة الكفر على كلمة التوحيد· إذًا فجهاد الدفع شرع حتى لا تكون فتنة على المسلمين فيكفروا بتسلط الكفار عليهم، وحتى لا تعلو شعائر الكفر في بلد كان يرفع فيه شعار التوحيد·
وأما جهاد الطلب فالأمر فيه واضح وجلي؛ حيث إن مقصود المسلمين في طلبهم للكفار وفتح ديارهم إنما هو لرفع الفتنة - وهي الشرك - عن الناس في بلدانهم وليكون الدين فيها لله عز وجل وليس للكافرين والمشركين والطواغيت الذين يستعبدون الناس ويظلمونهم ويدعونهم إلى عذاب النار·
شبهة وجوابها :(1/18)
يثير بعض المهزومين روحيًا وعقليًا من أبناء المسلمين - وتحت ضغط الواقع اليائس وتحت الهجوم الاستشراقي الماكر - قولهم بأن الجهاد في الإسلام إنما شرع للدفاع عن النفس والأوطان وليس لإكراه الناس على الدخول فيه بالسيف والاستيلاء على ديار غير المسلمين بالقوة· ولقد ظهرت هذه الشبهة بشكل جلي في السنوات الأخيرة وبالأخص في هذه الأيام بعد الحملة الصليبية واليهودية على ديار المسلمين بحجة ما يسمى مكافحة الإرهاب، مما دفع بعض المهزومين من أبناء المسلمين بل - ويا للأسف - من بعض دعاتهم إلى أن يركزوا على أن الإسلام دين سماحة وسلام ومحبة للناس، وليس دين إرهاب ولا قتال ولا غلظة على الكفار، وصاروا يكررون الآيات والأحاديث التي فيها ذكر الصفح والسماحة والسلام، ويضربون صفحًا عن النصوص التي فيها جهاد الكفار والإغلاظ عليهم حتى يكون الدين كله لله، وحتى يسلم الكفار أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون·
وللرد على هذه الشبهة أورد جوابين: أحدهما مجمل والآخر مفصل:
أما المجمل :
فهو القول بأن دوافع الجهاد في الإسلام تختلف عن تلك الدوافع التي تنشأ عنها الحروب من أجل الملك فحسب؛ فالجهاد في الإسلام إنما شرع لتكون كلمة الله هي العليا وليكون الدين كله لله في جميع المعمورة، فمتى كان في المسلمين قوة وجب عليهم أن ينشروا هداية الله عز وجل في العالم، ولا يتركوا مكانًا تعلو فيه كلمة الكفر إلا فتحوه وأعلو كلمة التوحيد فيه· فإن لم يكن بهم قوة فلا أقل من أن يدافعوا عن بلادهم التي تحت أيديهم حتى لا يعلوا فيها الكفر ويفتن الناس في دينهم، مع إعدادهم لجهاد الفتح والطلب· وبناء على هذه الغاية الشريفة للجهاد تسقط كل بنود هيئة الأمم المتحدة الكافرة، وما يسمى بإعلان حقوق الإنسان التي تدعو إلى احترام حدود الغير، والسلام الدائم، والتعايش بين أصحاب الملل، وإلى حرية الاعتقاد لجميع الأفراد·
وأما الجواب المفصل :(1/19)
فيكفينا فيه ما سطرته يد الداعية المجاهد سيد قطب رحمه الله تعالى في ظلال القرآن الكريم؛ حيث لم أعثر حسب اطلاعي القاصر على من تكلم في هذا الموضوع المهم بكل عزة وصراحة كما تكلم هذا الرجل عليه رحمة الله·
وفيما يلي مقتطفات متفرقة من رده الحاسم على هؤلاء المهزومين: يقول رحمه الله تعالى: "إن الذين يلجأون إلى تلمس أسباب دفاعية بحتة لحركة المد الإسلامي إنما يؤخذون بحركة الهجوم الاستشرافية في وقت لم تعد للمسلمين شوكة ··· فيبحثون عن مبررات أدبية للجهاد في الإسلام· والمد الإسلامي ليس في حاجة إلى مبررات أدبيه له أكثر من المبررات التى حملتها النصوص القرآنية (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (الأنفال:38-40).
إنها مبررات تقرير ألوهية الله في الأرض، وتحقيق منهجه في حياة الناس، ومطاردة الشياطين ومناهج الشياطين، وتحطيم سلطان البشر الذي يتعبد الناس، والناس عبيد لله وحده، لا يجوز أن يحكمهم أحد من عباده بسلطان من عند نفسه وبشريعة من هواه ورأيه! وهذا يكفي ·· مع تقرير مبدأ: "لا إكراه في الدين" ·· أي لا إكراه على اعتناق العقيدة بعد الخروج من سلطان العبيد والإقرار بمبدأ أن السلطان كله لله، أو أن الدين كله لله بهذا الاعتبار·(1/20)
إنها مبررات التحرير العام للإنسان في الأرض، بإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك ·· وهذه وحدها تكفي ·· ولقد كانت هذه المبررات ماثلة في نفوس الغزاة من المسلمين؛ فلم يُسأل أحد منهم عما أخرجه للجهاد فيقول: خرجنا ندافع عن وطننا المهدد! أو خرجنا نصد عدوان الفرس أو الروم علينا نحن المسلمين! أو خرجنا نوسع رقعتنا ونستكثر من الغنيمة!
لقد كانوا يقولون كما قال ربعي بن عامر، وحذيفة بن محصن، والمغيرة بن شعبة، -رضي الله عنهم - جميعًا لرستم قائد جيش الفرس في القادسية، وهو يسألهم واحدًا بعد واحد في ثلاثة أيام متوالية، قبل المعركة: ما الذي جاء بكم؟ فيكون الجواب: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ·· فأرسل رسوله بدينه إلى خلقه، فمن قبله منا قبلنا منه ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه· ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى الجنة أو الظفر ····
حقًا إنه لم يكن بد لهذا الدين أن يدافع المهاجمين له؛ لأن مجرد وجوده، في صورة إعلان عام لربوبية الله للعالمين، وتحرير الإنسان من العبودية لغير الله، وتمثل هذا الوجود في تجمع تنظيمي حركي تحت قيادة جديدة غير قيادات الجاهلية، وميلاد مجتمع مستقل متميز لا يعترف لأحد من البشر بالحاكمية؛ لأن الحاكمية فيه لله وحده ·· إن مجرد وجود هذا الدين في هذه الصورة لا بد أن يدفع المجتمعات الجاهلية من حوله، القائمة على قاعدة العبودية للعباد، أن تحاول سحقه، دفاعًا عن وجودها ذاته· ولا بد أن يتحرك المجتمع الجديد للدفع عن نفسه·
هذه ملابسة لا بد منها؛ تولد مع ميلاد الإسلام ذاته، وهذه معركة مفروضة على الإسلام فرضًا، ولا خيار له في خوضها، وهذا صراع طبيعي بين وجودين لا يمكن التعايش بينهما طويلاً·(1/21)
هذا كله حق ·· ووفق هذه النظرة يكون لا بد للإسلام أن يدافع عن وجوده، ولا بد أن يخوض معركة دفاعية مفروضة عليه فرضًا··
ولكن هناك حقيقة أخرى أشد أصالة من هذه الحقيقة ·· إن من طبيعة الوجود الإسلامي ذاته أن يتحرك إلى الأمام ابتداء؛ لإنقاذ "الإنسان" في "الأرض" من العبودية لغير الله· ولا يمكن أن يقف عند حدود جغرافية، ولا أن ينزوي داخل حدود عنصرية؛ تاركًا "الإنسان" ·· نوع الإنسان ·· في "الأرض" ·· كل الأرض ·· للشر والفساد والعبودية لغير الله·
إن المعسكرات المعادية للإسلام قد يجيء عليها زمان تؤثر فيه ألا تهاجم الإسلام إذا تركها الإسلام تزاول عبودية البشر للبشر داخل حدودها الإقليمية، ورضي أن يدعها وشأنها ولم يمد إليها دعوته وإعلانه التحريري العام! ·· ولكن الإسلام لا يهادنها، إلا أن تعلن استسلامها لسلطانه في صورة أداء الجزية، ضمانًا لفتح أبوابها لدعوته بلا عوائق مادية من السلطات القائمة فيها·
هذه طبيعة هذا الدين، وهذه وظيفته بحكم أنه إعلان عام لربوبية الله للعالمين، وتحرير الإنسان من كل عبودية لغير الله في الناس أجمعين!
وفرق بين تصور الإسلام على هذه الطبيعة، وتصوره قابعًا داخل حدود إقليمية أو عنصرية، لا يحركه إلا خوف الاعتداء! إنه في هذه الصورة الأخيرة يفقد مبرراته الذاتية في الانطلاق!(1/22)
إن مبررات الانطلاق الإسلامي تبرز بوضوح وعمق عند تذكر أن هذا الدين هو منهج الله للحياة البشرية، وليس منهج إنسان، ولا مذهب شيعة من الناس، ولا نظام جنس من أجناس!·· ونحن لا نبحث عن مبررات خارجية إلا حين تفتر في حسنا هذه الحقيقة الهائلة ·· حين ننسى أن القضية هي قضية ألوهية الله وعبودية العباد ·· إنه لا يمكن أن يستحضر إنسان ما هذه الحقيقة الهائلة ثم يبحث عن مبرر آخر للجهاد الإسلامي! ·· والإسلام ليس مجرد عقيدة حتى يقنع بإبلاغ عقيدته للناس بوسيلة البيان· إنّما هو منهج يتمثل في تجمع تنظيمي حركي يزحف لتحرير كل الناس· والتجمعات الأخرى لا تمكنه من تنظيم حياة رعاياها وفق منهجه هو، ومن ثم يتحتم على الإسلام أن يزيل هذه الأنظمة بوصفها معوقات للتحرير العام· وهذا - كما قلنا من قبل - معنى أن يكون الدين كله لله؛ فلا تكون هناك دينونة ولا طاعة لعبد من العباد لذاته، كما هو الشأن في سائر الأنظمة التي تقوم على عبودية العباد للعباد!
إن الباحثين الإسلاميين المعاصرين المهزومين تحت ضغط الواقع الحاضر، وتحت الهجوم الاستشراقي الماكر، يتحرجون من تقرير تلك الحقيقة لأن المستشرقين صوروا الإسلام حركة قهر بالسيف للإكراه على العقيدة· والمستشرقون الخبثاء يعرفون جيدًا أن هذه ليست هي الحقيقة، ولكنهم يشوهون بواعث الجهاد الإسلامي بهذه الطريقة ·· ومن ثم يقوم المنافحون - المهزومون - عن سمعة الإسلام، بنفي هذا الاتهام! فيلجأون إلى تلمس المبررات الدفاعية! ويغفلون عن طبيعة الإسلام ووظيفته، وحقه في "تحرير الإنسان" ابتداء·
وقد غشي على أفكار الباحثين العصريين - المهزومين - ذلك التصور الغربي لطبيعة "الدين" ·· وأنه مجرد "عقيدة" في الضمير؛ لا شأن لها بالأنظمة الواقعية للحياة ·· ومن ثم يكون الجهاد للدين، جهادًا لفرض العقيدة على الضمير!(1/23)
ولكن الأمر ليس كذلك في الإسلام؛ فالإسلام منهج الله للحياة البشرية· وهو منهج يقوم على إفراد الله وحده بالألوهية - متمثلة في الحاكمية - وينظم الحياة الواقعية بكل تفصيلاتها اليومية! فالجهاد له جهادٌ لتقرير المنهج وإقامة النظام· أما العقيدة فأمرها موكول إلى حرية الاقتناع، في ظل النظام العام، بعد رفع جميع المؤثرات ·· ومن ثم يختلف الأمر من أساسه، وتصبح له صورة جديدة كاملة·
وحيثما وجد التجمع الإسلامي، الذي يتمثل فيه المنهج الإلهي، فإن الله يمنحه حق الحركة والانطلاق لتسلم السلطان وتقرير النظام، مع ترك مسألة العقيدة الوجدانية لحرية الوجدان ·· فإذا كف الله أيدي الجماعة المسلمة فترة عن الجهاد، فهذه مسألة خطة لا مسألة مبدأ، مسألة مقتضيات حركة لا مسألة مقررات عقيدة· وعلى هذا الأساس الواضح يمكن أن نفهم النصوص القرآنية المتعددة في المراحل التاريخية المتجددة، ولا نخلط بين دلالتها المرحلية، والدلالة العامة لخط الحركة الإسلامية الطويلة"(25).(1/24)
ويقول في موطن آخر: "والمهزومون روحيًا وعقليًا ممن يكتبون عن "الجهاد في الإسلام"ليدفعوا عن الإسلام هذا "الاتهام!" ·· يخلطون بين منهج هذا الدين في النص على استنكار الإكراه على العقيدة، وبين منهجه في تحطيم القوى السياسية المادية التي تحول بين الناس وبينه، والتي تعبد الناس للناس وتمنعهم من العبودية لله ·· وهما أمران لا علاقة بينهما ولا مجال للالتباس فيهما ·· ومن أجل هذا التخليط - وقبل ذلك من أجل تلك الهزيمة! - يحاولون أن يحصروا الجهاد في الإسلام فيما يسمونه اليوم: "الحرب الدفاعية" ·· والجهاد في الإسلام أمر آخر لا علاقة له بحروب الناس اليوم، ولا بواعثها، ولا تكييفها كذلك ·· إن بواعث الجهاد في الإسلام ينبغي تلمسها في طبيعة "الإسلام" ذاته، ودوره في هذه الأرض، وأهدافه العليا التي قررها الله؛ وذكر الله أنه أرسل من أجلها هذا الرسول بهذه الرسالة، وجعله خاتم النبيين، وجعلها خاتمة الرسالات ··(1/25)
إن هذا الدين إعلان عام لتحرير "الإنسان" في "الأرض" من العبودية للعباد - ومن العبودية لهواه أيضاً وهي من العبودية للعباد - وذلك بإعلان ألوهية الله وحده - سبحانه - وربوبيته للعالمين ·· إن إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها: الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها، والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصور ·· أو بتعبير آخر مرادف: الألوهية فيه للبشر في صورة من الصور ·· ذلك أن الحكم الذي مرد الأمر فيه إلى البشر، ومصدر السلطات فيه هم البشر، هو تأليه للبشر، يجعل بعضهم لبعض أربابًا من دون الله ·· ترى لو كان أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم قد أمنوا عدوان الروم والفرس على الجزيرة أكانوا يقعدون إذن عن دفع المد الإسلامي إلى أطراف الأرض؟ وكيف كانوا يدفعون هذا المد، وأمام الدعوة تلك العقبات المادية من: أنظمة الدول السياسية، وأنظمة المجتمع العنصرية والطبقية، والاقتصادية الناشئة من الاعتبارات العنصرية والطبقية، والتي تحميها القوة المادية للدولة كذلك؟!
2- جهاد الطلب: وهو طلب العدو الكافر والظفر به وبأرضه حتى تخضع البلاد والعباد للإسلام، ويقضى على الشرك، ويكون الدين كله لله وتكون كلمة الله هي العليا·
وهو الذي قال عنه ابن القيم في الفقرة السابقة: "وجهاد الطلب الخالص لله يقصده سادات المؤمنين"·
بينما قال عن جهاد الدفع: "فجهاد الدفع يقصده كل أحد، ولا يرغب عنه إلا الجبان المذموم شرعًا وعقلاً)·
قال الله تعالى عن جهاد الطلب: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) (الأنفال: من الآية39).
وعند القدرة على جهاد الطلب فإنه يكون على الكفاية إلا إذا استنفر الإمام جميع المسلمين للجهاد فلا يسوغ لأحد أن يتخلف، بل يصبح الجهاد عينًا على كل مسلم·(1/26)
ولا يعني كون جهاد الطلب كفائيًا أن يزهد المسلم فيه ويفرط في أن يكون من أهله؛ فإنه من شأن أولياء الله المتقين· ويكفي في فضل أهله وعلو منزلتهم على القاعدين قوله تعالى: (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) (النساء:95).
إنها سذاجة أن يتصور الإنسان دعوة تعلن تحرير "الإنسان" ·· نوع الإنسان ·· في "الأرض"·· كل الأرض ·· ثم تقف أمام العقبات تجاهدها باللسان والبيان! ·· إنها تجاهد باللسان والبيان حينما يخلى بينها وبين الأفراد؛ تخاطبهم بحرية، وهم مطلقو السراح من جميع تلك المؤثرات ·· فهنا: "لا إكراه في الدين" ·· أما حين توجد تلك العقبات والمؤثرات المادية، فلا بد من إزالتها أولاً بالقوة، للتمكن من مخاطبة قلب الإنسان وعقله؛ وهو طليق من هذه الأغلال!"(26).
تنبيه:
إن الحديث السابق عن غاية الجهاد في الإسلام لا يعني التغافل عن مراحل الجهاد ومدى قوة المسلمين وضعفهم وهل لهم شوكة وتمكين أو لا·
إن بيان غاية الجهاد لا يتعارض مع كف اليد في مراحل الاستضعاف، أو الاقتصار على جهاد الدفع في بعض الأمكنة أو الأزمنة؛ فهذا من باب السياسات الشرعية وترجيح المصالح أو المفاسد· وكل هذه الاعتبارات ما هي إلا أسباب مؤقتة يجب على المسلمين أن يتجاوزوها لينتقلوا من مرحلة إلى غيرها، وأن يأخذوا بالأسباب التي تؤول بالمسلمين إلى غايات الجهاد ومراحله الأخيرة التي يكون الدين فيها كله لله، ويخضع الناس لسلطان الإسلام، ويتحدد مواقف الناس فيها: إما مسلم مؤمن بدين الإسلام، وإما مسالم آمن يدفع الجزية، وإما محارب خائف·(1/27)
يقول شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: "كان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر مأمورًا أن يجاهد الكفار بلسانه لا بيده فيدعوهم ويعظهم ويجادلهم بالتي هي أحسن ·· وكان مأمورًا بالكف عن قتالهم لعجزه وعجز المسلمين عن ذلك، ثم لما هاجر إلى المدينة صار له بها أعوان أذن له في الجهاد، ثم لما قووا كتب عليهم القتال ولم يكتب عليهم قتال من سالمهم؛ لأنهم لم يكونوا يطيقون قتال جميع الكفار، فلما فتح الله مكة ووفدت إليه وفود العرب بالإسلام أمره الله بقتال الكفار كلهم إلا من كان له عهد مؤقت وأمره بنبذ العهود المطلقة"(27).
وهذا ما أوضحه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه القيم "زاد المعاد" وهو يستعرض مراحل الدعوة والجهاد منذ بعثته صلى الله عليه وسلم حتى نزلت سورة براءة حيث يقول: صلى الله عليه وسلم أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى: أن يقرأ باسم ربه الذي خلق وذلك أول نبوته فأمره أن يقرأ في نفسه ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ، ثم أنزل عليه (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ) (المدثر:1-2)؛ فنبأه بقوله: (اقْرَأْ) وأرسله بـ (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)، ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين، ثم أنذر قومه، ثم أنذر من حولهم من العرب، ثم أنذر العرب قاطبة، ثم أنذر العالمين، فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته يُنذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية، ويؤُمر بالكف والصبر والصفح·(1/28)
ثم أُذِنَ له في الهجرة، وأُذن له في القتال، ثم أمره أن يقاتل من قاتله، ويكف عمن اعتزله ولم يُقاتله، ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله، ثم كان الكفارُ معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام: أهل صلح وهدنة، وأهل حرب، وأهل ذمة، فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم، وأن يوفي لهم به ما استقامُوا على العهد، فإن خاف منهم خيانة، نبذ إليهم عهدهم، ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد، وأُمِرَ أن يقاتل من نقض عهده· ولما نزلت (سورة براءة) نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها؛ فأمره فيها أن يُقاتل عدوَّه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، أو يدخلوا في الإسلام، وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم؛ فجهاد الكفار بالسيف والسنان، والمنافقين بالحجة واللسان·
وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار، ونبذ عُهودهم إليهم، وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام: قسمًا أمره بقتالهم - وهم الذين نقضوا عهده، ولم يستقيموا له - فحاربهم وظهر عليهم، وقسمًا لهم عهد مُؤقت لم ينقضوه، ولم يظاهروا عليه، فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم· وقسمًا لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه، أو كان لهم عهد مطلق، فأمر أن يؤجلهم أربعة أشهر، فإذا انسلخت (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ )(التوبة: من الآية2).
قاتلهم؛ وهي الأشهر الأربعة المذكورة في قوله: وهي الحُرُمُ المذكورة في قوله: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ )(التوبة: من الآية5).(1/29)
فالحرم هاهنا: هي أشهر التسيير، أولها يوم الأذان - وهو اليوم العاشر من ذي الحجة، وهو يوم الحج الأكبر الذي وقع فيه التأذين بذلك - وآخرُها العاشر من ربيع الآخر، وليست هي الأربعة المذكورة في قوله: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) (التوبة: من الآية36) ؛ فإن تلك واحد فرد، وثلاثة سرد: رجبٌ، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحَرَّمُ· ولم يَسِرْ المشركين في هذه الأربعة؛ فإن هذا لا يمكن لأنها غير متوالية، وهو إنما أجلهم أربعة أشهر، ثم أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم، فقتل الناقض لعهده، وأجّل من لا عهد له، أو له عهد مطلق أربعة أشهر، وأمره أن يُتمَّ للموفي بعهده عهدَه إلى مدته، فأسلم هؤلاء كُلُّهم، ولم يُقيموا على كفرهم إلى مدتهم، وضَرَبَ على أهل الذمة الجزية·
فاستقر أمرُ الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام: محاربين له، وأهل عهد، وأهل ذمة، ثم آلت حالُ أهل العهد والصلح إلى الإسلام، فصاروا معه قسمين: محاربين، وأهل ذمة، والمحاربون له خائفون منه، فصار أهلُ الأرض معه ثلاثة أقسام: مسلم مؤمن به، ومسالم له آمن، وخائف محارب·
وأما سيرته في المنافقين: فإنه أُمِرَ أن يقبل منهم علانيتهم، ويكل سرائرهم إلى الله، وأن يجاهدهم بالعلم والحُجَّة، وأمره أن يُعْرِضَ عنهم، ويُغلِظَ عليهم، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم، ونهاه أن يُصلي عليهم، وأن يقوم على قبورهم، وأخبر أنه إن استغفر لهم فلن يغفر الله لهم؛ فهذه سيرته في أعدائه من الكفار والمنافقين"(28). ا.هـ.
ونخلص بعد هذا الكلام النفيس في بيان المراحل التي تنقل فيها الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته وجهاده إلى النتائج التالية:(1/30)
1- أن الرسول صلى الله عليه وسلم في المرحلة المكية قد أُمِرَ بكف اليد وترك الجهاد المسلح مع كفار قريش، وأُمِرَ فيها بجهاد البلاغ والبيان، وتحمل في سبيل ذلك هو وأصحابه رضي الله عنهم من الأذى أصنافًا كثيرة· ولا شك أن في الأمر بكف اليد في المرحلة المكية حكمًا وغايات عظيمة لعل من أبرزها:
- ضعف المسلمين وقلة عددهم بحيث لو تمت المواجهة مع المشركين فإن ذلك من شأنه أن يئد الدعوة في مهدها·
- ومنها: الإعداد والتربية للقاعدة الصلبة التي يقوم على كاهلها نشر الإسلام ونصرة الدين·
- ومنها: أن يأخذ البلاغ حقه، وتقوم الحجة على المشركين، ويتم البيان للناس عن حقيقة الإسلام وحقيقة سبيل المجرمين، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة·
وغير ذلك من الحكم(29).
2- أن الجهاد المسلح للكفار لم يؤذن فيه إلا بعد الهجرة بعد أن تهيأ للمسلمين المكان الذي يأمنون فيه وينطلقون منه ويفيئون إليه·
وجاء الإذن في أول الأمر لرفع الظلم، ثم تلا ذلك الأمر بجهاد المعتدي، ثم لمَّا قويت شوكة المسلمين بدأ جهاد الطلب حتى انتهى أمر الجهاد بعد آية السيف إلى أن لا يقبل من الناس إلا الإسلام أو الجزية أو الحرب·
وفي ضوء ما سبق عرضه من غايات الجهاد ومراحله يمكن مناقشة موقفين خاطئين من الجهاد اليوم أحدهما يقابل الآخر·
الموقف الأول:
هو من نظر إلى أحوال المسلمين اليوم وضعفهم وعجزهم عن مواجهة أعدائهم فرأى استحالة الجهاد في هذا الزمان، ورضي بالأمر الواقع ولم يسع للإعداد والاستعداد، وتجاوز تبرير ضعفه وموقفه إلى التشنيع على الحركات الجهادية التي قامت للدفاع عن المسلمين في بقاع الأرض؛ كما في كشمير وأفغانستان والشيشان وفلسطين وغيرها·(1/31)
ويستند أصحاب هذا الرأي على هديه صلى الله عليه وسلم مع المشركين في مكة؛ حيث أُمِرَ بكف اليد والصبر· وهذا الاستدلال صحيح في حد ذاته فيما لو نظر أصحاب هذا الرأي إلى أنها مرحلة مؤقتة يسعون فيها إلى بذل الجهد في الدعوة والإعداد لتغيير النفوس وشحذ الهمم وتربيتها على التضحية والبذل في سبيل الله عز وجل·
أما أن ينظر لهذه المرحلة وكأنها دائمة فيستسلم للواقع وتُستمرأ الذلة، وتفتر الهمم ولا يحصل الإعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل؛ فهذا مخالف لهديه صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان مع كف اليد يربي الصحابة على التوحيد الخالص، والصبر في سبيل الله عز وجل، ويعد النفوس للتضحية بالمال والوطن والنفس في سبيل الله عز وجل؛ وهذا مطلوب لذاته كما أنه من أعظم العدة والزاد لما يُنتظر من الهجرة والجهاد في سبيل الله عز وجل· ويلحق بأصحاب هذا الرأي أولئك المهزومون الذين سبقت الإشارة إليهم في الصفحات السابقة عند الحديث عن غاية الجهاد في سبيل الله؛ وهم الذين وقفوا مع المراحل الأولى للدعوة وفرضية الجهاد، وحاولوا تقييد النصوص التي تأمر بجهاد الكفار أينما ثُقِفُوا بنصوص المراحل السابقة التي فيها الأمر بجهاد الدفع ورد الأعداء فحسب·
وفي ذلك يقول سيد قطب رحمه الله تعالى: "إن هذه النصوص التي يلتجئون إليها نصوص مرحلية تواجه واقعًا معيناً· وهذا الواقع المعين قد يتكرر وقوعه في حياة الأمة المسلمة· وفي هذه الحالة تطبق هذه النصوص المرحلية لأن واقعها يقرر أنها في مثل تلك المرحلة التي واجهتها تلك النصوص بتلك الأحكام، ولكن هذا ليس معناه أن هذه هي غاية المنى، وأن هذه هي نهاية خطوات هذا الدين ·· إنما معناه أن على الأمة المسلمة أن تمضي قدمًا في تحسين ظروفها، وفي إزالة العوائق من طريقها حتى تتمكن في النهاية من تطبيق الأحكام النهائية الواردة في السورة الأخيرة، والتي كانت تواجه واقعًا غير الواقع الذي واجهته النصوص المرحلية"(30).(1/32)
ولذلك فهم يتعاظمون مثل قوله تعالى: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) (التوبة: من الآية5)، وقوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:123).
ويحاول سيد قطب - رحمه الله تعالى - تفسير مواقف هؤلاء المهزومين، ولماذا تهولهم مثل هذه النصوص حتى يحاولوا تقييدها بالمراحل السابقة من أحكام فرض الجهاد فيقول: "إننا نعرف لماذا يهولهم هذا الأمر ويتعاظمهم على هذا النحو ·· إنهم ينسون أن الجهاد في الإسلام جهاد في "سبيل الله" ·· جهاد لتقرير ألوهية الله في الأرض وطرد الطواغيت المغتصبة لسلطان الله ·· جهاد لتحرير "الإنسان" من العبودية لغير الله، ومن فتنته بالقوة عن الدينونة لله وحده والانطلاق من العبودية للعباد ·· "حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله" ·· وأنه ليس جهادًا لتغليب مذهب بشري على مذهب بشري مثله؛ إنما هو جهاد لتغليب منهج الله على مناهج العبيد! وليس جهاداً لتغليب سلطان قوم على سلطان قوم؛ إنما هو جهاد لتغليب سلطان الله على سلطان العبيد! وليس جهادًا لإقامة مملكة العبد؛ إنما هو جهاد لإقامة مملكة الله في الأرض ·· ومن ثم ينبغي له أن ينطلق في "الأرض" كلها، لتحرير "الإنسان" كله؛ بلا تفرقة بين ما هو داخل في حدود الإسلام وبين ما هو خارج عنها ·· فكلها "أرض" يسكنها "الإنسان" وكلها فيها طواغيت تُعَبِّد العباد للعباد!(1/33)
وحين ينسون هذه الحقيقة يهولهم طبعًا أن ينطلق منهج ليكتسح كل المناهج، وأن تنطلق أمة لتخضع سائر الأمم ·· إنها في هذا الوضع لا تستساغ! وهي فعلاً لا تستساغ! ·· لولا أن الأمر ليس كذلك، وليس له شبيه فيما بين أنظمة البشر اليوم من إمكان التعايش! إنها كلها اليوم أنظمة بشرية؛ فليس لواحد منها أن يقول: إنه هو وحده صاحب الحق في البقاء! وليس الحال كذلك في نظام إلهي يواجه أنظمة بشرية؛ ليبطل هذه الأنظمة كلها ويدمرها كي يطلق البشر جميعًا من ذلة العبودية للعباد، ويرفع البشر جميعًا إلى كرامة العبودية لله وحده بلا شريك!
ثم إنه يهولهم الأمر ويتعاظمهم لأنهم يواجهون هجوماً صليبيًا منظمًا لئيمًا ماكرًا خبيثًا يقول لهم: إن العقيدة الإسلامية قد انتشرت بالسيف، وإن الجهاد كان لإكراه الآخرين على العقيدة الإسلامية وانتهاك حرمة حرية الاعتقاد!
وأخيرًا فإن صورة الانطلاق في الأرض لمواجهة من يلون المسلمين من الكفار تهول المهزومين روحيًا في هذا الزمان وتتعاظمهم؛ لأنهم يبصرون بالواقع من حولهم وبتكاليف هذا الانطلاق فيهولهم الأمر ·· وهو يهول فعلاً! ·· فهل هؤلاء الذين يحملون أسماء المسلمين، وهم شعوب مغلوبة على أمرها؛ أو قليلة الحيلة عمومًا! هل هؤلاء هم الذين سينطلقون في الأرض يواجهون أمم الأرض جميعًا بالقتال، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله؟! إنه لأمر لا يتصور عقلاً ·· ولا يمكن أن يكون هذا هو أمر الله فعلاً!(1/34)
ولكن فات هؤلاء جميعًا أن يروا متى كان هذا الأمر؟ وفي أي ظرف؟ لقد كان بعد أن قامت للإسلام دولة تحكم بحكم الله؛ دانت لها الجزيرة العربية ودخلت في هذا الدين، ونظمت على أساسه· وقبل ذلك كله كانت هناك العصبة المسلمة التي باعت أنفسها لله بيعة صدق، فنصرها الله يومًا بعد يوم، وغزوة بعد غزوة، ومرحلة بعد مرحلة··· إن الناس لا يستطيعون أن يفهموا أحكام هذا الدين، وهم في مثل ما هم فيه من الهزال· إنه لن يفقه أحكام هذا الدين إلا الذين يجاهدون في حركة تستهدف تقرير ألوهية الله وحده في الأرض، ومكافحة ألوهية الطواغيت"(31).
الموقف الثاني:
وأصحاب هذا الموقف يرون أن آية السيف التي نزلت في سورة براءة قد نسخت كل مراحل الجهاد السابقة؛ سواء من كف اليد أو المسالمة مع الكفار، أو عقد صلح أو هدنة معهم ·· إلخ، ونظروا إلى أن قتال الكفار والمرتدين اليوم فرض دون أن ينظروا إلى أحوال المسلمين وضعفهم، ودون أن ينظروا إلى تحقيق شرائط الجهاد من: القدرة، وإقامة الحجة على الناس بالبيان الكافي لسبيل المؤمنين، والتعرية التامة لسبيل المجرمين؛ حتى يكفر من كفر ويهلك من هلك عن بينة، ويؤمن من آمن ويحيى من حيى عن بينة، ودون أن يكون هناك الإعداد المعنوي الروحي للمجاهدين علمًا وعملاً وعبادة وأخلاقًا·
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى-: "فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذي أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون"(32).(1/35)
وقد جاء هذا الموقف الذي لم ينظر إلا إلى المرحلة الأخيرة من مراحل فرض الجهاد في مقابل الموقف السابق الذي لم ينظر إلا إلى المرحلة الأولى - وهي كف اليد - ولم يُعِدّ للمراحل الجهادية التي تلت كف اليد والصبر على أذى الكفار·
وبين هذين الموقفين موقف ثالث نحسب أنه الموافق لهديه صلى الله عليه وسلم في الدعوة والجهاد؛ وهو الموقف الذي رأى أن واقع المسلمين اليوم وما يعيشونه من ذلة ومهانة وتسلط أعدائهم عليهم وذهاب دولتهم هو أشبه ما يكون بحال الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة؛ حيث الاستضعاف وتسلط الكفار· ولكن أصحاب هذا الموقف فارقوا الموقف الأول الذي رضخ للواقع في أنهم لم يرضوا بالاستسلام للواقع، ولم يرضوا بالذل والمهانة؛ بل قاموا باتباع أثر النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الظروف حيث جاهد وصبر وبلَّغ التوحيد الخالص للناس، وربى أصحابه رضي الله عنهم على التوحيد ومقتضياته، وأعدهم علمًا وعملاً للجهاد والتضحية في سبيل الله تعالى؛ فصبروا وصابروا، وهجروا الخلان والأوطان، واستعذبوا ذلك في سبيل الله عز وجل؛ حتى إذا علم الله عز وجل صدق ذلك منهم هيأ لهم المراحل التالية من مراحل الجهاد في سبيله سبحانه، وهيأ لهم الأنصار والدولة التي ينطلقون منها للجهاد في سبيل الله عز وجل، ففتحوا الدنيا ونشروا أنوار التوحيد ورسالة الإسلام في كل مكان قدروا عليه حتى أصبح الدين كله لله، وصارت كلمة الله هي العليا وكلمة الكافرين هي السفلى·
كما فارقوا الموقف الثاني بالصبر وعدم العجلة في جهاد الطلب للكفار والمرتدين قبل الإعداد الشامل لذلك·
تنبيه:(1/36)
ليس المعني في الموقف الثاني تلك الحركات الجهادية التي تدافع عن المسلمين في أفغانستان والشيشان وغيرها، وإنما المعني هم أولئك الذين يرون مواجهة الأنظمة الطاغوتية في بلدان المسلمين دون الحصول على الحد الأدنى من الإعداد والقدرة، وقبل وضوح راية الكفر في تلك البلدان للناس، ودون وضوح راية أهل الإيمان في مقابل ذلك؛ مما ينشأ عنه اللبس والتلبيس على الناس، فتختلط الأوراق ويجد هؤلاء المجاهدون المستعجلون أنفسهم وجهًا لوجه أمام إخوانهم المسلمين الذين غرر بهم ولبس عليهم وقيل لهم بأن حكومتهم شرعية، وأن الخارجين عليها متطرفون إرهابيون مفسدون، ولم يجد الناس من يزيل عنهم هذا اللبس· فحينئذ تقع الفتنة بين المسلمين، ويقتل بعضهم بعضًا·
أما تلك الحركات الجهادية التي أعلنت جهادها على الكفار في مثل أفغانستان لمواجهة التحالف الصليبي أو في كشمير لمواجهة الهندوس الوثنيين، أو في الشيشان لمواجهة الملاحدة الشيوعيين، أو في فلسطين لمواجهة اليهود الغاشمين فإنها حركات مشروعة لوضوح الراية الكفرية، وزوال اللبس عن المسلمين في تلك الأماكن، كما أنه جهاد للدفاع عن الدين والعرض والمكان حتى لا ترتفع فيه راية الكفار·
أما جهاد الطلب فإنه لا يكون إلا بعد قيام دولة وكيان قوي للمسلمين ينطلقون منه ويفيئون إليه، ويهاجر إليه وتصب طاقات المسلمين فيه· وقبل قيام هذا الكيان القوي الآمن فإنه ليس أمام المسلمين إلا إعداد العدة لإقامة هذا الكيان، والقيام بجهاد الدفع فيما لو تعرض المسلمون إلى عدو كافر يريد صرفهم عن دينهم أو استباحة دمائهم وأموالهم وأعراضهم وديارهم·
المقدمة الرابعة
فضائل الجهاد في سبيل الله تعالى وثماره في الدنيا والآخرة(1/37)
تقدم الحديث عن غاية الجهاد في سبيل الله عز وجل وثمرته الكبرى في الدنيا والآخرة، وأنه شرع لتعبيد الناس لرب العالمين، وحتى لا تكون فتنة ولا شرك ويكون الدين كله لله· هذا في الدنيا أما في الآخرة فرضوان الله وجنته والنجاة من سخطه والنار·
وقد نبه الله سبحانه إلى خيرية الجهاد في الدنيا والآخرة في قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:216).
وسيتم في هذه المقدمة تفصيل بعض الثمار والخيرات التي تترتب على الجهاد في سبيل الله عز وجل في الدنيا والآخرة، والتي هي فرع عن غاية الجهاد.
( أ ) الثمار التي تظهر في الدنيا :
1- بالجهاد تظهر حقيقة المحبة لله عز وجل وصدق العبودية له، ويظهر الصادق فيها من الكاذب؛ فالجهاد في سبيل الله تعالى وتقديم الروح رخيصة لله تعالى من أقوى البيان على صحة دعوى المحبة لله تعالى ولدينه، وبالجهاد يمحص ما في القلوب ويبتلى به ما في الصدور ويتخذ الله عز وجل من شاء من عباده شهداء·
وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى؛ فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخلىُّ حُرقَة الشَّجيِّ· فتنوع المدعون في الشهود· فقيل: لا تُقبل هذه الدعوى إلا ببينة (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)(آل عمران: من الآية31).
فتأخر الخلق كلهم، وثبت أتباع الحبيب في أفعاله وأخلاقه، فطولبوا بعدالة البينة بتزكية (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (المائدة: من الآية54).(1/38)
فتأخر أكثر المحبين وقام المجاهدون، فقيل لهم: إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم، فهلموا إلى بيعة (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ )(التوبة: من الآية111).
فلما عرفوا عظمة المشتري، وفضل الثمن، وجلالة من جرى على يديه عقد التبايع: عرفوا قدر السلعة، وأن لها شأنًا· فرأوا من أعظم الغَبْن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس· فعقدوا معه بيعة الرضوان بالتراضي، من غير ثبوت خيار· وقالوا: "والله لا نقيلك ولا نستقيلك"·
فلما تم العقد وسلموا المبيع، قيل لهم: منذ صارت نفوسكم وأموالكم لنا رددناها عليكم أوفر ما كانت، وأضعافها معًا: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) (آل عمران: 169-170)(33).
وقد تقدم قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "·· والجهاد دليل المحبة الكاملة ··· فإن المحبة مستلزمة للجهاد لأن المحب يحب ما يحب محبوبه، ويبغض ما يبغض محبوبه، ويوالي من يواليه، ويعادي من يعاديه، ويرضى لرضاه، ويغضب لغضبه، ويأمر بما يأمر به، وينهي عما نهى عنه؛ فهو موافق له في ذلك ···)(34).
وقال أيضًا: "فإذا ترك العبد ما يقدر عليه من الجهاد كان دليلاً على ضعف محبة الله ورسوله في قلبه"(35).(1/39)
وهنا يحسن الإشارة إلى مسألة مهمة تتعلق بعقيدة الولاء والبراء والحب في الله والبغض في الله؛ ألا وهي: أن هذه الشعيرة العظيمة التي هي صلب التوحيد وأسه المتين إنما تقوى وتصقل بالجهاد في سبيل الله تعالى، والدعوة إلى الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما أنها تضعف ويصيبها الوهن بترك ذلك أو ضعفه· وإن المتأمل في كتاب الله عز وجل وفي واقع الدعوة إلى الله عز وجل يرى أن هناك ارتباطًا وثيقًا بين الدعوة إلى الله تعالى والجهاد في سبيله، وبين عقيدة الولاء والبراء في نفس الداعية·
فكلما قويت الدعوة وقوي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحب الجهاد في نفس العبد المخلص لربه قويت هذه العقيدة في نفسه وظهرت بشكل واضح في حياته ومواقفه ومحبته وعداوته؛ حتى يصبح على استعداد أن يهجر وطنه وأهله وماله إذا اقتضى الأمر ذلك·
بل إن هذه العقيدة لتبلغ ذروة السنام في قلب الداعية ومواقفه؛ وذلك في جهاد أعداء الله ولو كانوا أقرب قريب؛ قال الله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة:71).
والعكس من ذلك واضح ومشاهد؛ فما من داعية فترت همته عن الدعوة والجهاد ومال إلى الدنيا وأهلها إلا كان الضعف في عقيدة الولاء والبراء مصاحبًا لذلك·(1/40)
والحاصل أن عقيدة الولاء والبراء ليست عقيدة نظرية تحفظ في الذهن المجرد، بل هي: عقيدة وعمل ومفاصلة ودعوة وجهاد وحب وبغض؛ فإذا أردنا أن تقوى هذه العقيدة فهذا هو طريقها: طريق الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله تعالى، وكلما ابتعد العبد عن هذه الأعمال مؤثرًا الراحة عليها فهذا معناه هشاشة هذه العقيدة وتعرضها للخطر والاهتزاز·
وهذه إحدى ثمار الجهاد؛ حيث يميز صادق الولاء لله تعالى ولدينه من كاذبه، كما أنه في نفس الوقت يقوي هذه العقيدة ويصقلها· والصلة بين الجهاد وعقيدة الولاء والبراء صلة تناسب مطرد متبادل؛ بمعنى أن الحماس للجهاد والتضحية في سبيل الله تعالى يقوى بقوة عقيدة الولاء والبراء في القلب، كما أن الولاء والبراء يقوى ويشتد بالجهاد في سبيل الله تعالى·
2- نشر التوحيد وشريعة الإسلام التي يهنأ الناس في ظلالها، وتسعد البشرية بها، ويرتفع عنها الظلم والشقاء بارتفاع الشرك الذي فيه استعباد الناس وظلمهم وقهرهم· والتاريخ يشهد بذلك؛ فما من أمة فشى فيها الشرك والكفر إلا وعانت من الظلم والشقاء وتسلط الطواغيت الشيء العظيم، وما من أمة دخلها الإسلام وحكمها بحكمه العادل القائم على توحيد الله عز وجل إلا صلح أمرها وعاشت هنيئة سعيدة تحت ظلاله الوارفه، فالجهاد إذن شرع رحمة بالعباد·(1/41)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "والطاعة عاقبتها سعادة الدنيا والآخرة؛ وذلك مما يفرح به العبد المطيع؛ فكان فيما أمر به من الطاعات عاقبته حميدة تعود إليه وإلى عباده؛ ففيها حكمة له ورحمة لعباده؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (الصف:10-13).
ففي الجهاد عاقبة محمودة للناس في الدنيا يحبونها: وهي النصر والفتح، وفي الآخرة الجنة، وفيه النجاة من النار؛ وقد قال تعالى في أول السورة (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) (الصف:4) فهو يحب ذلك؛ ففيه حكمة عائدة إلى الله تعالى وفيه رحمة للعباد؛ وهي ما يصل إليهم من النعمة في الدنيا والآخرة"(36).
3- بالجهاد يُدفع عذاب الله عز وجل ونقمته في الدنيا والآخرة ويعيش المسلمون حياة طيبة عزيزة خالية من التذلل للكفار والبقاء تحت سيطرتهم وقهرهم· والعكس من ذلك يحصل حين يُترك الجهاد ويركن الناس إلى الدنيا؛ حيث يحل محل العزة ذل المسلمين واستكانتهم لأعدائهم يسومونهم سوء العذاب في أديانهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم·
وهذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا ظن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء، فلم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم)(37).(1/42)
وواقعنا المعاصر أكبر شاهد على ذلك؛ حيث يعد عصرنا من أسوء العصور التي مرت بالمسلمين حيث بلغ المسلمون فيه من الذل والاستكانة والتفرق ما لم يبلغوه في أي عصر مضى، مما أغرى بهم أعداؤهم فتداعوا إلى بلدان المسلمين كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، وما ذاك إلا بترك طاعة الله عز وجل وحب الدنيا وكراهية الموت، وترك الجهاد في سبيل الله تعالى·
ولن يُرفع هذا الذل عن المسلمين إلا أن يراجعوا دينهم ويرفعوا عَلَم الجهاد على الكفار ويعدوا ما استطاعوا من قوة لقتالهم دفاعًا وطلبًا· وقبل أن يتم ذلك فلا نرجو عزة، ولا نطمع أن يكف الكفار شرهم عن المسلمين بمجرد المفاوضات السياسية أو عن طريق مجلس الأمن - أعتذر - مجلس الخوف، أو هيئة الأمم الكفرية الطاغوتية· كلا فلن يردع الأعداء المعاصرين إلا ما ردع أسلافهم المعتدين من قبل؛ إنه الجهاد في سبيل الله تعالى·
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال:24) ، فتضمنت هذه الآية أمورًا أحدها أن الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ورسوله؛ فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له وإن كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل البهائم· فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله والرسول ظاهرًا وباطنًا؛ فهؤلاء الأحياء وإن ماتوا، وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان· ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول؛ فإن كل ما دعا إليه ففيه الحياة؛ فمن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول·
قال مجاهد: لما يحييكم يعني للحق·
وقال قتادة: هو هذا القرآن؛ فيه الحياة والثقة والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة·(1/43)
وقال السدي: هو الإسلام؛ أحياهم به بعد موتهم بالكفر·
وقال ابن إسحاق وعروة بن الزبير واللفظ له: لما يحييكم يعني للحرب التي أعزكم الله بها بعد الذل، وقواكم بعد الضعف، ومنعكم بها من عدوكم بعد القهر منهم لكم·
وهذه كلها عبارات عن حقيقة واحدة، وهي: القيام بما جاء به الرسول ظاهرًا وباطنًا·
قال الواحدي: والأكثرون على أن معنى قوله لما يحييكم هو: الجهاد، وهو قول ابن إسحاق واختيار أكثر أهل المعاني·
قال الفراء: إذا دعاكم إلى إحياء أمركم بجهاد عدوكم، يريد أن أمرهم إنما يقوى بالحرب والجهاد؛ فلو تركوا الجهاد ضعف أمرهم واجترأ عليهم عدوهم· قلت: الجهاد من أعظم ما يحييهم به في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة"(38).
4- المجاهدون في سبيل الله تعالى من أهدى الناس إلى الحق، وأسعدهم بسبيل الله عز وجل عند اختلاف السبل؛ قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ولهذا كان الجهاد موجبًا للهداية التي هي محيطة بأبواب العلم؛ كما دل عليه قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) ، فجعل لمن جاهد فيه هداية جميع سبله تعالى؛ ولهذا قال الإمامان عبدالله بن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما: إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ماذا عليه أهل الثغر فإن الحق معهم لأن الله يقول: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)(39) ا·هـ، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ) (محمد:4-5).
قرأها الجمهور: "قاتلوا" وقرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم: "قتلوا".(1/44)
5- الجهاد في سبيل الله تعالى من أعظم وسائل التربية للنفس وتزكيتها باطنًا وظاهرًا: فكم من الأخلاق الفاضلة وأعمال القلوب الزكية لا يمكن إصلاحها والوصول بها إلى كمالها أو قرب كمالها إلا بالجهاد في سبيل الله تعالى· وبدون الجهاد ستبقى هذه الأعمال ضعيفة أو يصعب على العبد تكميلها وهو قاعد·
وهذا ما أشار إليه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في تعليقه على كون الجهاد ذروة سنام هذا الدين؛ حيث قال: "··· ولهذا كان الجهاد سنام العمل، وانتظم سنام جميع الأحوال الشريفة؛ ففيه سنام المحبة، كما في قوله: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) (المائدة: من الآية54). وفيه سنام التوكل وسنام الصبر؛ فإن المجاهد أحوج الناس إلى الصبر والتوكل؛ ولهذا قال تعالى: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (النحل:41-42).
وقال تعالى: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (لأعراف:128).(1/45)
··· وفي الجهاد أيضاً: حقيقة الزهد في الحياة الدنيا، وفي الدار الدنيا، وفيه أيضًا: حقيقة الإخلاص؛ فإن الكلام فيمن يجاهد في سبيل الله، لا في سبيل الرياسة، ولا في سبيل المال، ولا في سبيل الحمية، وهذا لا يكون إلا لمن قاتل ليكون الدين كله لله، ولتكون كلمة الله هي العليا· وأعظم مراتب الإخلاص تسليم النفس والمال للمعبود، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) (التوبة: من الآية111)(40).
6- وحدة صف المسلمين واجتماع كلمتهم: حيث إن استقراء التاريخ يدل على أن الجهاد في سبيل الله عز وجل يوحد صفوف المسلمين ويضيق أبواب الخلاف، وما من وقت كان المسلمون يقارعون فيه أعداءهم الكفار إلا وكانوا فيه في غاية الإخاء والاتحاد، وما كانوا ينتهون من غزوة أو معركة إلا ويدخلون في أخرى، ولم يجد الخلاف إليهم سبيلا، والعكس من ذلك يحدث عندما يعطل الجهاد وينشغل المسلمون بعضهم ببعض·
( ب ) الثمار الأخروية للجهاد :
في الآخرة تتحقق الثمرة العظمى للجهاد في سبيل الله تعالى، والتي تنافس فيها المتنافسون، وضحى في سبيلها المجاهدون بأرواحهم رخيصة راضية بها نفوسهم، وكيف لا وهم يرجون رحمة الله تعالى ورضوانه وجناته؟! هذه الغاية الشريفة والثمرة العظيمة التي يرخص في سبيلها كل شيء·(1/46)
وإن المتأمل في كتاب الله عز وجل والمتدبر لجميع الآيات التي ورد فيها ذكر الجنة وما أعد الله عز وجل فيها لأهلها من الرضوان والنعيم ليلفت نظره أمرٌ مهم وشيئ عجيب؛ ألا وهو أن جل ما ورد من الآيات التي يذكر فيها سبحانه ما أعد لأوليائه من الجنة والرضوان يسبقها في العادة صفات الموعودين بذلك، وبالتأمل في أوصافهم تلك نجد أنها تكاد تنحصر في: المجاهدين، والصابرين، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر· وفيما يلي ذكر بعض الآيات التي يذكر الله عز وجل فيها ما أعد لعباده المجاهدين من الرحمة والنعيم والرضوان·
- الآية الأولى: قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة:218).
- الآية الثانية: قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة:214).
- الآية الثالثة: قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (آل عمران:142).
- الآية الرابعة: قوله تعالى: )وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (آل عمران:157).(1/47)
- الآية الخامسة: قوله تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) (آل عمران:169-172).
- الآية السادسة: قوله تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) (آل عمران:195).
- الآية السابعة: قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (الأنفال:74).
- الآية الثامنة: قوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (التوبة: 20-22).(1/48)
- الآية التاسعة: قوله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:71-72).
- الآية العاشرة: قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:111).
- الآية الحادية عشر: قوله تعالى: (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) (محمد:4-6).
- الآية الثانية عشر: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (الصف: 10-12).(1/49)
وأما الأحاديث في فضائل الجهاد وما أعد الله للمجاهدين والشهداء في الآخرة فهي كثيرة جدًا والمتأمل في أحاديث الفضائل يجد أنه ما من عمل صالح جاء في فضيلته والترغيب فيه والثناء على أهله أحاديث كثيرة لم تأت لغيره من الصالحات كما جاء في شعيرة الجهاد؛ ومن هذه الأحاديث:
- قوله صلى الله عليه وسلم: (انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمانٌ بي، وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجرٍ أو غنيمةٍ أو أدخله الجنة، ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سَرية، ولوددت أني أقتلُ في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أُقتل، ثم أُحيا، ثم أُقتل)(41).
- وقوله صلى الله عليه وسلم: (مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المُجاهد في سبيل الله)(42).
- وقوله صلى الله عليه وسلم: (من قاتل في سبيل الله من رجل مسلم فواق ناقةِ، وجبت له الجنة)(43).
- وقوله صلى الله عليه وسلم: (إِن في الجنة مائة درجةٍ أعدها الله للمُجاهدين في سبيل الله؛ ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سأَلتم الله فاسألُوهُ الفرْدَوس؛ فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة)(44).
- وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي سعيد: (من رضي بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولاً، وجبت له الجنة) فعجب لها أبو سعيد، فقال: أعِدْهَا عليَّ يا رسول الله، ففعل، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وأُخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض) قال: وما هي يا رسول الله؟ قال: (الجهادُ في سبيل الله)(45).
- وقوله صلى الله عليه وسلم: (من اغبرَّت قدماه في سبيل الله حرَّمه الله على النار)(46).
- وقوله صلى الله عليه وسلم: (من راح روحة في سبيل الله كان له بمثل ما أصابه من الغبار مسكًا يوم القيامة)(47).(1/50)
- وقوله صلى الله عليه وسلم: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها)(48).
- وقوله صلى الله عليه وسلم: (رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه وأمن الفتان)(49).
- وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف)(50).
- وقوله صلى الله عليه وسلم: (طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يُشَفَّع)(51).
ولأجل هذه الفضائل كان السلف الصالح من الصحابة رضي الله عنهم ومَنْ بعدهم أحرص الناس على هذه الشعيرة العظيمة؛ فتسابقوا في بذل أنفسهم رخيصة في سبيل الله عز وجل راجين هذه الفضائل العظيمة، وعلى رأسها رضوان الله عز وجل ورحمته وجنته· وأسوق فيما يلي نماذج من حرص السلف على هذه الشعيرة العظيمة:
- عن حماد بن سلمة: حدثنا عليُّ بن زيد، عن ابن المسيِّب، قال: أقبل صُهيب مهاجرًا، واتبعه نفرٌ، فنزل عن راحلته، ونثل كِنانته، وقال: لقد علمتم أني من أرماكم، وأيمُ الله لا تصلون إليَّ حتى أرمي بكل سهم معي، ثم أضربُكم بسيفي، فإن شئتُم دللتُكم على مالي، وخلَّيتُم سبيلي؟ قالوا: نفعل· فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ربح البيعُ أبا يحيى!) ونزلت: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) (البقرة: من الآية207)(52).
- وقال الواقدي : حدثنا عبدالله بن نافع، عن أبيه عن ابن عمر، قال: رأيتُ عمارًا يوم اليمامة على صخرة وقد أشرف يصيح: يا معشر المسلمين، أَمِن الجنة تَفِرُّون، أنا عمارُ بن ياسر، هلمُّوا إليَّ! وأنا أنظر إلى أذنه قد قطعت، فهي تَذَبْذَبُ وهو يُقاتلُ أشد القتال"(53).(1/51)
- وقال ابن الجوزي في ترجمة سعد بن خيثمة : يكنى أبا عبدالله، أحد نقباء الأنصار الاثنا عشر· شهد العقبة الأخيرة مع السبعين· ولما ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناسَ إلى غزوة بدر قال له أبوه خيثمة: إنه لا بد لأحدنا أن يقيم، فآثرني بالخروج وأقم مع نسائك· فأبى سعد وقال: لو كان غير الجنة آثرتك به، إني لأرجو الشهادة في وجهي هذا فاستَّهما فخرج سهم سعد فخرج فقتل ببدر(54).
- وعن ابن عُيينة عن ابن أبي خالد، عن مولى لآل خالد بن الوليد أن خالدًا قال: ما من ليلة يُهدى إليَّ فيها عروسٌ أنا لها مُحِبٌّ أحبّ إليَّ من ليلة شديدة البرد، كثيرة الجليد في سريَّةٍ أُصَبِّحُ فيها العَدُوَّ(55).
- وعن جُبير بن نُفَير قال : جلسنا إلى المقداد بن الأسود بدمشق وهو يحدثنا وهو على تابوت ما به عنه فضل، فقال له رجل: لو قعدت العام عن الغزو؟ قال: أبت البحوث - يعني سورة التوبة - قال الله تبارك وتعالى: (انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً) قال أبو عثمان: بحثت المنافقين(56).
- وعن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه قال : بعثني النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحد أطلب سعد بن الربيع، فقال لي: إنْ رأيتَه، فأقْرِه مني السلام، وقل له: يقول لك رسول الله: كيف تجدك؟ فطفتُ بين القتلى، فأصبته وهو في آخر رمق وبه سبعون ضربة فأخبرته، فقال: على رسول الله السلام وعليك، قل له: يا رسول الله! أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن خُلِصَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم شفْر يطرف، قال: وفاضت نفسه رضي الله عنه(57).(1/52)
- وعن حَمَّادِ بنِ سلمة، عن ثابت وعلي بن زيد، عن أنس: أنَّ أبا طلحة قرأ: (انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً) فقال: استنفرنا الله، وأمرنا شيوخنا وشبابنا، جهزوني· فقال بنوه: يرحمُك الله! إنك قد غزوت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، ونحن نغزو عنك الآن· قال: فغزا البحر، فمات، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونَه فيها إلاَّ بعد سبعة أيام، فلم يتغير(58).
- وعن أنس رضي الله عنه قال : "بعث النبي صلى الله عليه وسلم أقوامًا من بني سليم إلى بني عامر في سبعين فلما قدموا قال لهم خالي: أتقدمكم، فإن أمنوني حتى أبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا كنتم مني قريبًا، فتقدم فأمَّنوه، فبينما يحدثهم عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ أومؤوا إلى رجل منهم فطعنه فأنفذه فقال: الله أكبر، فزت ورب الكعبة· ثم مالوا على بقية أصحابه فقتلوهم إلا رجل أعرج صعد الجبل، فأخبر جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم أنهم لقوا ربهم فرضي عنهم وأرضاهم ··"(59).
- وعن ثابت البناني عن ابن أبي ليلى، أن ابن أم مكتوم قال: أي ربِّ! أنزل عذري· فأنزلت (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) (النساء: من الآية95). فكان بعدُ يغزو ويقولُ: ادفعوا إليَّ اللواءَ، فإني أعمى لا أستطيع أن أفِرَّ، وأقيموني بين الصفين(60).
- وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : لما توجه النبيُّ صلى الله عليه وسلم من مكة حمل أبو بكر معه جميع ماله - خمسة آلاف، أو ستة آلاف - فأتاني جدِّي أبو قُحافة وقد عمِي، فقال: إن هذا قد فجعكم بماله ونفسه· فقلتُ: كلا، قد ترك لنا خيرًا كثيرًا· فعمدتُ إلى أحجارِ، فجعَلْتُهنَّ في كوَّة البيت، وغطيتُ عليها بثوب، ثم أخذتُ بيده، ووضعتُها على الثوب، فقلتُ: هذا تركه لنا· فقال: أَمَا إذْ ترك لكم هذا فنعم(61).(1/53)
- وروى عاصم بن بهدلة عن أبي وائل أظن قال: لما حضرت خالدًا الوفاةُ، قال: لقد طلبتُ القتل مظانَّه فلم يُقَدَّر لي إلا أن أموت على فراشي· وما من عملي شيءٌ أرجى عندي بعد التوحيد من ليلة بتُّها وأنا متترس، والسماء تهلّني ننتظر الصبح حتى نُغيرَ على الكفار· ثم قال: إذا متُّ فانظروا إلى سلاحي وفرسي، فاجعلوه عدة في سبيل الله· فلما تُوفي، خرج عمر على جنازته، فذكر قوله: ما على آل الوليد أن يَسْفَحْنَ على خالد من دمُوعهن ما لم يكن نَقْعًا أو لَقْلَقَةً(62).(1/54)
- ومن ترجمة أبي عقيل عبدالرحمن بن ثعلبة - وهو بدري شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - روى ابن الجوزي عن جعفر بن عبدالله بن أسلم قال: لما كان يوم اليمامة واصطف الناس كان أول من جُرح أبو عَقِيل؛ رُمي بسهم فوقع بين منكبيه وفؤادِه في غير مَقتل، فأخرج السهم ووهَن له شقَّه الأيسر في أول النهار، وجُرَّ إلى الرحل· فلما حمي القتال وانهزم المسلمون وجاوزوا رحالهم، وأبو عقيل واهن من جرحه، سمع معن بن عدي يصيح يا للأنصار! الله الله والكرّة على عدوكم· قال عبدالله بن عمر: فنهض أبو عقيل يريد قومه، فقلت: ما تريد؟ ما فيك قتال· قال: فد نوَّه المنادي باسمي قال ابن عمر: فقلت له: إنما يقول: يا للأنصار، ولا يعني الجرحى· قال أبو عقيل: أنا من الأنصار، وأنا أجيبه ولو حَبْوًا· قال ابن عمر: فتحزَّم أبو عقيل وأخذ السيف بيده اليمنى، ثم جعل ينادي: يا للأنصار، كرَةً كيوم حُنين فاجتمعوا رحمكم الله جميعاً تقدّموا فالمسلمون دريئة دون عدوهم، حتى أقحموا عدوّهم الحديقة فاختلطوا واختلفت السيوف بيننا وبينهم· قال ابن عمر: فنظرت إلى أبي عقيل وقد قُطعت يده المجروحة من المنكب فوقعتْ إلى الأرض وبه من الجراح أربعة عشر جرحًا كلها قد خلصت إلى مقتل، وقُتل عدو الله مسيلمة· قال ابن عمر فوقفت على أبي عقيل وهو صريع بآخر رمق فقلت: يا أبا عقيل! قال: لبيك - بلسان ملتاث (63)- لمن الدَبرَة(64).؟ قلت: أبشر قد قتل عدو الله· فرفع إصبعه إلى السماء يحمد الله· ومات يرحمه الله·
قال ابن عمر: فأخبرت عمر، بعد أن قدمت، خبره كله· فقال: رحمه الله؛ ما زال يسعى للشهادة ويطلبها، وإن كان - ما علمت - من خيار أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم وقديم إسلامهم رضي الله عنهم(65).(1/55)
- ومن ترجمة واثلة بن الأسقع رضي الله عنه: عن محمد بن سعد قال: أتى واثلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى معه الصبح· وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى وانصرف تصفح أصحابه· فلما دنا من واثلة قال: من أنت؟ فأخبره فقال: ما جاء بك؟ قال: جئت أبايع· فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيما أحببتَ وكرهتَ؟ قال: نعم· قال: فيما أطقت؟ قال: نعم· فأسلم وبايعه(66).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز يومئذ إلى تبوك فخرج واثلة إلى أهله فلقي أباه الأسقع فلما رأى حاله قال: قد فعلتها؟ قال: نعم· قال أبوه: والله لا أكلمك أبداً· فأتى عمه فسلم عليه، فقال: قد فعلتها؟ قال: نعم· فلامه أيسر من ملامة أبيه وقال: لم يكن ينبغي لك أن تسبقنا بأمر· فسمعت أخت واثلة كلامه فخرجت إليه وسلمت عليه بتحية الإسلام· فقال واثلة: أنىَّ لكِ هذا يا أخيّة؟ قالت: سمعت كلامك وكلام عمك فأسلمت· فقال: جهّزي أخاك جهازَ غَازٍ؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم على جناح سفر· فجهزته فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم قد تحمَّل إلى تبوك وبقي غُبَّراتٌ(67) من الناس وهم على الشخوص(68) فجعل ينادي بسوق بني قينقاع: من يحملني وله سهمي؟ قال: وكنت رجلاً لا رِحلة(69) بي. قال: فدعاني كعب بن عُجْرة فقال: أنا أحملك عقبة بالليل وعقبة بالنهار ويدك أسوة يدي وسهمك لي· قال واثلة: نعم· قال واثلة: جزاه الله خيرًا لقد كان يحملني ويزيدني وآكل معه ويرفع لي، حتى إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبدالملك بدومة الجندل خرج كعب في جيش خالد وخرجت معه فأصبنا فيئًا كثيرًا فقسمه خالد بيننا فأصابني ست قلائص(70) فأقبلت أسوقها حتى جئت بها خيمة كعب بن عجرة فقلت: اخرج رحمك الله فانظر إلى قلائصك فاقبضها· فخرج وهو يبتسم ويقول: بارك الله لك فيها ما حملتك وأنا أريد أن آخذ منك شيئًا(71).(1/56)
- وعن عبدالله بن قيس أبي أميَّة الغفاري قال: كنا في غزاة لنا فحضر عدوهم فصيح في الناس فهم يثوبون إلى مصافهم، إذا رجل أمامي، رأس فرسي عند عجز فرسه، وهو يخاطب نفسه ويقول: أي نفس ألم أشهد مشهد كذا وكذا فقلت لي: أهلك وعيالك، فأطعتُك ورجعتُ؟ ألم أشهد مشهد كذا وكذا فقلت: أهلك وعيالك فأطعتك ورجعت؟ والله لأعرضنَّك اليوم على الله، أخذك أو تركك· فقلت: لأرمقنه اليوم· فرمقته فحمل الناسُ على عدوهم فكان في أوائلهم، ثم إن العدو حمل على الناس فانكشفوا فكان في حماتهم، ثم إن الناس حملوا فكانوا في أوائلهم، ثم حمل العدو وانكشف الناس فكان في حماتهم· قال: فوالله ما زال ذلك دأبه حتى رأيته صريعًا· فعددتُ به وبدابته ستين، أو أكثر من ستين طعنة(72).
- وعن ابن المبارك عن السري بن يحيى، حدثنا العلاء بن هلال أن رجلاً قال لصلة: يا أبا الصهباء! رأيت أني أعطيتُ شهدة، وأُعطيت شهدتين، فقال تستشهد وأنا وابني، فلما كان يوم يزيد بن زياد؛ لقيتهم التركُ بسجستان فانهزموا· وقال صلة: يا بُني ارجع إلى أمك· قال: يا أبة؛ تريدُ الخير لنفسك، وتأمرني بالرجوع! قال فتقدم، فتقدم، فقاتل حتى أصيب فرمى صلة عن جسده - وكان راميًا - حتى تفرقوا عنه فأقبل حتى قام عليه فدعا له ثم قاتل حتى قتل رحمه الله(73).
- وقال حماد بن سلمة : أخبرنا ثابت أن صِلَةَ كان في الغزو، ومعه ابنه، فقال: أي بُنَي! تقدَّمْ، فقاتل حتى أَحْتَسبك، فحمل، فقاتل، حتى قُتِلَ، ثم تقدَّم صِلَةُ، فقُتل، فاجتمع النساءُ عند امرأته معاذة، فقالت: مرحباً إن كُنْتُنَّ جئتُنَّ لتُهنِّئنني، وإن كُنتُنَّ جِئتُنَّ لغير ذلك، فارجعْنَ(74).
سؤال وجوابه:
بعد ذكر هذه الفضائل والثمار العظيمة للجهاد والمجاهدين في سبيل الله عز وجل يتبادر إلى الذهن سؤال جدير بالجواب ألا وهو: لماذا هذه الفضائل العظيمة التي أُعدت للمجاهدين والشهداء في سبيل الله عز وجل دون غيرهم؟(1/57)
الجواب - والله أعلم - يكمن في معرفة غاية الجهاد وبواعثه في نفس المؤمن· وقد مر بنا في مقدمة سابقة أنه تعبد لله تعالى ومحك حقيقي لمحبة الله عز وجل؛ فالجهاد في سبيل الله تعالى وبذل الروح رخيصة له سبحانه أكبر دليل على صدق المحبة والعبودية لله تعالى؛ والتي يستحق صاحبها هذه الفضائل العظيمة دون غيرها من الأعمال·
كما أن تقديم الروح في سبيل الله عز وجل لأجل أن ينتشر التوحيد والعدل في الأرض، ويكون الدين كله لله، وينجو الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد لهو أيضًا عمل شريف كريم عظيم يستحق صاحبه هذه الفضائل العظيمة؛ حيث بذل نفسه في سبيل الله تعالى حتى ينجو بموته فئام من الناس ويخرجون من الظلمات إلى النور ومن الجحيم إلى النعيم؛ فأكرم به من عمل وأعظم بها من غاية·
وفي هذا يستطرد الأستاذ المودودي رحمه الله تعالى حيث يقول: "ما سبب فضل الجهاد في سبيل الله، وسبب امتداحه بهذا الشكل؟ ولماذا يقال للمجاهدين في سبيل الله مرة بعد مرة إنهم هم الفائزون، وإن لهم الدرجات العليا؟ ولماذا وُجّه مثل هذا التحذير للقاعدين في بيوتهم لا يشاركون في هذا الجهاد؟(1/58)
إن الإجابة على هذا السؤال تستلزم مراجعة النظر مرة ثانية في تلك الآيات التي ورد فيها ذكر حكم الجهاد وفضله، ومساوئ الفرار منه؛ ففي هذه الآيات لم يرد معنى الفوز والعظمة في أي موضع بالحصول على المال والثروة، والملك والسلطان مثلما كان كرشن يقول لأرجُن: "إذا فزت في هذا القتال فسوف تنال ملك الدنيا" (جيتا 2:73)، فمثل هذا لم يرد في القرآن، ولم يحث القرآن المجاهدين على القتال في سبيل الله لينالوا مقابله ثروة الدنيا وسلطانها، بل على العكس من هذا كلما ذكرت ثمار الجهاد في سبيل الله كان ذكرها مقترنا بمرضاة الله فقط، والحصول على مقام عالٍ عند الله، والنجاة من العذاب الأليم· وقد أرشد رب العزة عباده إلى أن الخروج في سبيل الله أفضل من سقاية الحاج وعمارة البيت - وكانتا من أكبر مصادر الدخل عند العرب، وأعظمها أثرًا ورسوخًا - ولم يذكر للجهاد من ثمرة سوى: "أعظم درجة عند الله"(75)، وفي مكان آخر أرشد عباده وعلمهم قاعدة من قواعد التجارة يظن منها أنه يذكر الثروة والمال، ولكن بعد قليل نلاحظ أن حقيقة هذه التجارة أو رأسمالها هو التضحية بالروح والمال في سبيل الله، والثمرة - أي ثمرة هذه التجارة - هي النجاة من العذاب، وفي موضع آخر يحذر ويعنف الهاربين من القتال لأنهم أصبحوا أسرى لمحبة زوجاتهم وأولادهم، وأنهم يخشون على أموالهم التي كسبوها، ويخشون كساد تجارتهم، بينما المجاهدون في سبيل الله يقاتلون في هذه الدنيا وينتصرون ويفتحون البلاد، ويحصلون على أموال طائلة، وتزدهر تجارتهم، ويجدون مساكن يسلبونها من الأمة المغلوبة، إلا أن هذا ليس هو المقصود بالجهاد ·· فإذا لم يكن المقصود من هذا الجهاد ثروة الدنيا وسلطانها فماذا ينال من هذا القتال حتى يعد عباده المقاتلين بالدرجات العليا؟ وماذا في هذا العمل الخطير حتى يجعل من أقدام المهرولين إليه المثيرة للغبار موردًا للطفه وعنايته؟ ثم أي نجاح وأي فوز يكمن فيه حتى يقال "مرة(1/59)
بعد مرة" عن المقاتلين في هذه الحروب الشديدة إنهم هم الفائزون (وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) (التوبة: من الآية20) ؟!·
إن الإجابة على جميع هذه التساؤلات تكمن في قوله تعالى: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) (البقرة: من الآية251)، (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) (الأنفال: من الآية73)؛ فالله لا يريد أن تنتشر الفتن وينتشر الفساد على أرضه، وهو لا يقبل أن يتعذب عباده دون ذنب، أو أن يحل بهم الدمار والبلاء، ولا يحب أن يأكل القوي الضعيف، وأن يسلبه أمنه وطمأنينته، أو أن يصاب عباده في حياتهم الأخلاقية والنفسية والمادية، وهو لا يرضى أن تنتشر أعمال السوء والشر في الدنيا، وأن ينتشر الظلم والإجحاف والقتل والغزو، كما لا يقبل أن يصبح عباده عبادًا لمخلوقيه من بقية العباد فيلطخوا شرفهم الإنساني بجراح الذلة والهوان، وبعد كل هذا فالجماعة التي تنهض لتطهير العالم من هذه الفتنة وتخلصه من الظلم، وتقيم العدل دون رغبة في نيل جزاء، وبغير أي طمع في ثروة أو في مال، وتضحي في سبيل هذا العمل الطيب بروحها وبمالها وبمصالحها التجارية وبحبها لأبنائها وآبائها وأخوتها، وبراحتها داخل بيتها ·· أهناك من هو أحق منها بمحبة الله ومرضاته؟ ··
هذه هي فضيلة الجهاد في سبيل الله التي جعلته يحتل الدرجة العليا بين جميع الأعمال الإنسانية بعد الإيمان بالله"(76).
المقدمة الخامسة
مخاطر ترك الجهاد في سبيل الله
بعد أن تبين لنا في المقدمة السابقة فضل الجهاد وثمرته في الدنيا والآخرة فإنه يسهل علينا في هذه المقدمة الحديث عن مخاطر ترك الجهاد والاستعداد له، وما يترتب على ذلك من المفاسد والشرور والعواقب السيئة في الدنيا والآخرة·(1/60)
ويكفي أن نعكس الفضائل والثمار السابقة لتظهر لنا تلك العواقب السيئة المضادة لتلك العواقب والثمار الحميدة، وقد عد أهل العلم ترك الجهاد العيني من كبائر الذنوب·
يقول ابن حجر الهيتمي في كتابه الزواجر: "الكبيرة التسعون والحادية والثانية والتسعون بعد الثلاثمائة: ترك الجهاد عند تعينه؛ بأن دخل الحربيون دار الإسلام أو أخذوا مسلمًا وأمكن تخليصه منهم، وترك الناس الجهاد من أصله، وترك أهل الإقليم تحصين ثغورهم بحيث يخاف عليها من استيلاء الكفار بسبب ترك ذلك التحصين"(77).
ولذلك كان ترك الجهاد وعدم الاستعداد له علامة على النفاق قال ": (من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق)(78).
وقد عده الله عز وجل علامة على عدم الإيمان باليوم الآخر، أو ضعف اليقين به فقال تعالى: (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ) (التوبة:44-46).
ويمكن تفصيل المخاطر والعواقب السيئة لترك الجهاد فيما يلي:
1- ترك الجهاد كما مضى كبيرة من الكبائر؛ لأن فيه تعريض النفس لسخط الله عز وجل وعقابه في الدنيا والآخرة·
قال تعالى: (إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (التوبة:39).(1/61)
وقال تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ) (التوبة:26).
ويصف الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى الذين يهملون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله بأنهم أقل الناس دينًا وأمقتهم إلى الله تعالى؛ فيقول: صلى الله عليه وسلموأما الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة لله ورسوله وعباده، ونصرة الله ورسوله ودينه وكتابه؛ فهذه الواجبات لا تخطر ببالهم فضلاً عن أن يريدوا فعلها، وفضلاً عن أن يفعلوها· وأقل الناس دينًا وأمقتهم إلى الله من ترك هذه الواجبات وإن زهد في الدنيا جميعها، وقَلَّ أن ترى منهم من يَحْمَرُّ وجهه ويمعره لله ويغضب لحرماته، ويبذل عرضه في نصرة دينه· وأصحاب الكبائر أحسن حالاً عند الله من هؤلاء"(79).
إذًا فترك الجهاد في سبيل الله سبب للهلاك في الدنيا والآخرة؛ وهذا ما يفهم من قوله تعالى: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة:195).(1/62)
قال ابن كثير: "وقال الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال: حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه - ومعنا أبو أيوب الأنصاري - فقال أناس: ألقى بيده إلى التهلكة· فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه الآية؛ إنما نزلت فينا؛ صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدنا معه المشاهد ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر اجتمعنا معشر الأنصار نجيًا فقلنا: قد أكرمنا الله بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونصره حتى فشا الإسلام وكثر أهله - وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد - وقد وضعت الحرب أوزارها، فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهم فنزل فينا: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (البقرة: من الآية195). فكانت التهلكة: الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد"(80).
كما أن في ترك الجهاد إضعافًا لعقيدة الولاء والبراء؛ وذلك كما مر بنا سابقًا أن عقيدة الولاء والبراء تتناسب طردًا مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله عز وجل؛ فكلما ركن العبد عن الجهاد ضعفت عقيدة الولاء والبراء وأصابها الوهن؛ وكفى بذلك خطرًا·
2- بترك الجهاد يفشو الشرك والظلم ويعلو الكفر وأهله ويستعبد الناس بعضهم بعضًا، ولا يخفى ما في ذلك من الشقاء والتعاسة والفساد الكبير على الناس قال الله تعالى: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة: من الآية251)، وقال تعالى: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج: من الآية40).(1/63)
"فلولا أن الله يدفع الكافرين بجهاد المؤمنين، ويكبت الكفار ويذلهم لاعتلوا على المؤمنين، وإذا اعتلى الكافر جعل الناس يعبدونه هو من دون الله سبحانه وتعالى، وإذا عبد الناس من دون الله أحدًا فسدت حياتهم كلها؛ لأن الحياة لا تستقيم إلا إذا سارت على المنهج الذي رسمه الله؛ وهو المنهج الذي يحقق العبودية لله، ويحقق الأخلاق الرفيعة والفضائل الحميدة للبشر؛ فالذي رسم المنهج هو الله الذي خلق الحياة والأحياء العالم بما يصلحهم، أما إذا اعتلى كافر على الأرض وشرع للناس من عند نفسه فإنه لا يعلم جميع الأمور، وليس مبرأ من النقص والهوى، ولا يعلم ما الذي يصلح النفس البشرية فيتخبط خبط عشواء ويفسد الحياة كما هو الحال اليوم· ونظرة على الواقع الذي يعتلي فيه كافر كافية بتقرير هذه الحقيقة، ولولا تخاذل المسلمين عن الجهاد الذي أمر الله به لصلحت حياة الناس الذين يحكمون بشرع الله· لأجل هذا شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجهاد حتى مع الإمام الفاجر الذي لم يصل إلى درجة الكفر؛ لأن بقاء الإسلام وأهله يحكمهم فاسق خير لهم من أن يحكمهم كافر يحكم بغير ما أنزل الله؛ فإن الحكم بغير ما أنزل الله هو سبب فساد الأرض"(81).
3- ترك الجهاد سبب للذل والهوان كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لئن تركتم الجهاد وأخذتم بأذناب البقر وتبايعتم بالعينة ليلزمنكم الله مذلة في رقابكم لا تنفك عنكم حتى تتوبوا إلى الله وترجعوا إلى ما كنتم عليه)(82).
وهذا أمر مشاهد وبارز في عصرنا اليوم؛ حيث تسلط الكفار على بلدان المسلمين، وعاش المسلمون في مؤخرة الركب؛ يأكل الكفار خيراتهم، ويتدخلون في شؤونهم، ويتسلطون عليهم بأنواع الذلة والمهانة؛ وما ذاك إلا بتعطيل أحكام الله وترك الاحتكام إلى شرعه، ومن ذلك تعطيل شعيرة الجهاد·(1/64)
وإن الكفار لن يلتفتوا إلى حقوق المسلمين ويراجعوا حساباتهم ويكفوا شرهم بمجرد الإدانات والشجب والكلام الأجوف، وإنما الذي يخيفهم ويجعلهم يكفون عن المسلمين وديارهم هو الجهاد في سبيل الله تعالى الذي فيه كبت للكفر وأهله، وفيه إعزاز وكرامة للمسلمين·
وهذا أمر يشهد له التاريخ كما يشهد له الواقع؛ فما من مكان علت فيه راية الجهاد إلا وشعر المسلمون فيه بالعزة، وخاف أعداء الله الكفرة من تكبيرات المجاهدين وتضحياتهم(83).
"فإذا وجد إحساس لدى أمة ما بضرورة دفع الشر عن نفسها، وضحت في سبيل ذلك براحتها ومتعها وثروتها ومالها، وبشهواتها النفسية، وبروحها وبكل عزيز لديها؛ فإنها لا يمكن أبدًا أن تظل أمة ذليلة مستضعفة، ولا يمكن لأية قوة مهما كانت أن تنال من عزتها أو شرفها· ويجب أن تتصف الأمة الشريفة العزيزة بأن تخفض الرأس أمام الحق، وأن تفضل الموت عن أن تخفض الرأس أمام الباطل، وإذا لم تتوافر لها القوة لإعلاء كلمة الحق ومساعدة الحق فلا بد على أقل تقدير أن تعمل للحافظ على الحق بكل شدة وبكل صلابة، وهذه أقل درجات الشرف"(84).
ويقول سيد قطب رحمه الله: "والذين يخشون العذاب والألم والاستشهاد وخسارة الأنفس والأولاد والأموال إذا هم جاهدوا في سبيل الله، عليهم أن يتأملوا ماذا تكلفهم الدينونة لغير الله في الأنفس والأموال والأولاد، وفوقها الأخلاق والأعراض ·· إن تكاليف الجهاد في سبيل الله في وجه طواغيت الأرض كلها لن تكلفهم ما تكلفهم الدينونة لغير الله؛ وفوق ذلك كله الذل والدنس والعار!"(85).
4- وفي ترك الجهاد تفويت لمصالح عظيمة في الدنيا والآخرة؛ منها الأجر العظيم الذي أعده الله تعالى للمجاهدين والشهداء في الآخرة، ومنها الحياة العزيزة في الدنيا وإقامة شرع الله عز وجل، والشهادة والغنائم والتربية الإيمانية التي لا تحصل إلا في أجواء الجهاد ومراغمة أعداء الله تعالى·(1/65)
5- إلقاء العداوة والفرقة بين المسلمين: وهذا أمر مشاهد؛ فما من وقت تركت فيه الأمة الجهاد في سبيل الله عز وجل إلا انشغلت بنفسها ووجه المسلمون حرابهم إلى صدور إخوانهم وانشغل بعضهم ببعض·
ونظرة فاحصة إلى أيام الفتن التي تلت مقتل عثمان رضي الله عنه تطلعنا على أثر ترك الجهاد في سبيل الله، وما يحدثه من الفتن والاختلاف والافتراق؛ فلقد توقف غزو الكفار طيلة تلك المدة، ولم يستأنف المسلمون فتوحاتهم إلا بعد أن اجتمعت الكلمة على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وهدأت الفتنة·
ذكر الذهبي - رحمه الله تعالى - في السير عن سعيد بن عبدالعزيز قال: "لما قتل عثمان رضي الله عنه ووقع الاختلاف لم يكن للناس غزو حتى اجتمعوا على معاوية رضي الله عنه، فأغزاهم مرات، ثم أغزى ابنه في جماعة من الصحابة برًا وبحرًا حتى أجاز بهم الخليج وقاتلوا أهل القسطنطينية على بابها ثم قفل"(86).
ونظرة أخرى إلى واقعنا المعاصر وما جرى فيه من تعطيل لشرع الله عز وجل - ومن ذلك الجهاد في سبيل الله - ترينا كيف حلَّ بالمسلمين من الفرقة والتحزب والاختلاف بين المسلمين حيث انشغل بعضهم ببعض· وما ذاك إلا من الانحراف عن المنهج الحق وتعطيل هذه الشعيرة العظيمة وما ترتب عليها من تسلط الكفار على بلاد المسلمين وتأجيجهم نار الخلاف والفرقة والتحريش بين المسلمين، وهذه سنة الله عز وجل في كل من أعرض عن شرعه سبحانه ونسي حظًا مما ذكر به قال تعالى: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (المائدة:14)
التربية الجهادية
وجوانب الإعداد للجهاد في واقعنا المعاصر(1/66)
بعد أن تعرفنا في المقدمات السابقة على معنى الجهاد العام والخاص، ومراتبه ومراحله، وغايته وأنواعه، وفضائله والمخاطر التي تترتب على تركه؛ يحسن بنا الآن أن ندخل إلى صلب موضوعنا؛ ألا وهو ذكر المجالات المختلفة للتربية الجهادية ووسائل الإعداد لذلك، والذي هو الدافع إلى كتابة هذا البحث، وذلك بعد ما رأيت من نفسي ومن كثير من العاملين في مجال الدعوة إلى الله عز وجل من التقصير الكبير في إعداد النفس للغزو والجهاد في سبيل الله تعالى، وما صاحب ذلك من الترف والركون إلى الدنيا والميل إلى زهرتها وزينتها· وقبل الدخول في تفاصيل هذا الموضوع أرى أنه لا بد من توصيف سريع لواقع المسلمين اليوم في ضوء المقدمات السابق ذكرها في الصفحات المتقدمة·
فأقول وبالله التوفيق:
- إن المسلمين اليوم يقاسون من الذلة والمهانة وتسلط الأعداء والغثائية الشيء العظيم؛ وما ذلك إلا من الإعراض عن الدين وحب الدنيا وترك الجهاد قال صلى الله عليه وسلم: (يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها) فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: (بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوَهْنَ) قالوا: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: (حب الدنيا وكراهية الموت)(87)، ومن ذلك أيضاً حديث العينة السابق ذكره(88).
- يواجه المسلمون اليوم في بعض الأقطار احتلالاً وغزوًا عسكريًا في عقر دارهم، وغزوًا فكريًا وأخلاقيًا في كل ديارهم، وساعد الأعداء في ذلك بطانة السوء والمنافقين من أبناء المسلمين الذين ربوا على عين الغرب وتسلطوا على أزمة الحكم في أكثر بلدان المسلمين وحكموا بقوانين الشرق والغرب ورفضوا الحكم بشرع الله عز وجل، ووالوا أعداءه وعادوا أولياءه·(1/67)
- وفي ظل هذه الظروف لم يترك الله العزيز الرحيم الحكيم العليم هذا الغزو العسكري أو الفكري بلا مدافعة؛ بل اصطفى من عباده المؤمنين طائفة تقوم بالحق وتدافع الباطل على ضعفها وقلة إمكانياتها؛ وهذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)(89).
وهذه الطائفة منتشرة في الأرض ومتنوعة المهام فمنهم العلماء الربانيون الذين يصدعون بالحق ويعلمون الناس أمور دينهم·
ومنهم المربون والدعاة الذين يدعون الناس إلى الخير ويحذرونهم من الشر، ويجوبون القرى والمدن لنشر التوحيد والخير بين الناس، ويستخدمون في ذلك جميع الوسائل المتاحة التي تساعد على ذلك من: المحاضرات والندوات، والدورات الشرعية، والتأليف، والأشرطة النافعة، إلى غيرها من الوسائل·
ومنهم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر الذين يحتسبون على الناس ويغيرون المنكرات بقدر استطاعتهم·
ومنهم المرابطون على الثغور الذين يجاهدون العدو الكافر الذي استحل ديار المسلمين ويدافعونه بقدر استطاعتهم· ومع وجود هذه الفئات التي تقوم كل واحدة منها بنوع من أنواع الجهاد إلا أن الفساد والباطل والغزو العسكري والفكري أكبر بكثير من جهد وإمكانات هذه الفئات، وقد تخلو بعض ديار المسلمين من هذه الفئات تمامًا·(1/68)
- لقد حذرنا الله عز وجل من أعدائنا الكفار وبطانتهم من المنافقين بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (آل عمران:118-119)، وإن ما يدور منذ سنوات ولا سيما بعد أحداث (11 سبتمبر) من حملة صليبية صريحة على الإسلام والمسلمين لهو أكبر شاهد ومصدق لهذه الآية وغيرها من الآيات التي تحذر المسلمين من الكفار وعداوتهم مثل قوله تعالى: (وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) (البقرة: من الآية217).
.(1/69)
وإن الحملة الصليبية على أفغانستان وما صاحبها من الدمار المروع الذي أهلك الحرث والنسل، وما زامن ذلك من أحداث فلسطين المروعة وتلويح الكفار بالتدخل في أي بلد إسلامي يوجد فيه من يرفض التبعية للغرب ويضع نفسه في صف المواجهة له؛ إن كل هذا يوجب على المسلمين - ولا سيما المتصدرين للدعوة والتربية والتعليم - أن يفكروا في جدية الموقف، وأن تبذل المساعي والمشاورات المستمرة في كيفية إحياء الأمة من سباتها وجعل المسلمين يدركون خطر الكفار المحدق بهم؛ فما يجري في بلدان المسلمين البعيدة والقريبة من عدوان على الدين والنفس والعرض والمال ليس ببعيد أن يحل بغيرهم· وإن لم يتحرك المخلصون من الدعاة والعلماء في إعداد الأمة لجهاد أعدائها الكفار والمنافقين فإنه لن ينفع الندم حين يفاجأ المسلمون بغزو الكفار لهم واستيلائهم لديارهم وإذلالهم لهم·
ولقد ذكر أهل العلم أن العدو إذا هاجم المسلمين في عقر دارهم فإن دفعه يصبح واجبًا على جميع المسلمين فهل أعددنا العدة الشاملة لذلك·
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "··· فأما إذا أراد العدو الهجوم على المسلمين فإنه يصير دفعه واجبًا على المقصودين كلهم، وعلى غير المقصودين لإعانتهم ··· وهذا يجب بحسب الإمكان على كل أحد بنفسه وماله، مع القلة والكثرة، والمشي والركوب؛ كما كان المسلمون لما قصدهم العدو عام الخندق لم يأذن الله في تركه لأحد كما أذن في ترك الجهاد ابتداء لطلب العدو"(90).
وهذا الكلام في جهاد الدفع، وأسبابه اليوم منعقدة في بلدان المسلمين المعتدى عليها أما جهاد الطلب وغزو الكفار في عقر دارهم فهذا يسبقه قيام دولة وكيان للمسلمين وقدرة تمكنهم من فتح بلاد الكفار· ولذلك يجب الإعداد له بإقامة هذا الكيان أولاً، ثم تقويته وإعداد المجاهدين لقتال الكفار حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله·(1/70)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "·· وكما يجب الاستعداد للجهاد بإعداد القوة ورباط الخيل في وقت سقوطه للعجز؛ فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"(91).
- في ضوء السنن الربانية، وفي ضوء ما سبق يمكننا القول بأن الجهاد مع الكفار والصراع مع الباطل وأهله أصبح أمرًا حتميًا لا سيما جهاد الدفع حيث فرض على المسلمين فرضًا ولا مناص منه - كما هو الحاصل اليوم في أفغانستان والشيشان وكشمير وفلسطين التي احتلها العدو الكافر - ووجب على أهل تلك الديار الدفاع عن دينهم وديارهم وأعراضهم بكل ما استطاعوا من قوة· كما وجب على المسلمين الذين يلونهم نصرتهم وعدم خذلانهم وإسلامهم لأعدائهم الكفار·
- ما دام أن جهاد الكفار وإخراجهم أو صدهم عن ديار المسلمين أصبح أمرًا مفروضًا - سواء ما كان من هذه البلاد محتلاً أو ما كان مهددًا بالاحتلال والغزو - فماذا يجب أن نعد لهذا الجهاد من الإعداد بمفهومه الشامل؟·
والجواب على هذا السؤال في الوقفات التالية:
الوقفة الأولى
الجهاد العام بمعناه لا يسقط عن المسلم المكلف
إن الجهاد بمعناه العام لا يسقط عن المسلم المكلف؛ فكما مر بنا في مراتب الجهاد أن جهاد النفس والشيطان ضرب من ضروب الجهاد - وهو الممهد لجهاد الكفار - والجهاد بهذا المفهوم لا يسقط عن أي مسلم·
بل إن جنس جهاد الكفار فرض عين إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالمال، وإما باليد والسنان - وذلك حسب القدرة والاستطاعة - وما وراء الجهاد القلبي ذرة إيمان· والجهاد القلبي يعني البراءة من الكفار، وبغضهم، والتربص بهم، وتحديث النفس بغزوهم، والإعداد لذلك؛ يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "والتحقيق أن جنس الجهاد فرض عين إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالمال، وإما باليد، فعلى كل مسلم أن يجهاد بنوع من هذه الأنواع·(1/71)
أما الجهاد بالنفس ففرض كفاية(92)، وأما الجهاد بالمال ففي وجوبه قولان، والصحيح وجوبه لأن الأمر بالجهاد به وبالنفس في القرآن سواء؛ كما قال تعالى: (انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (التوبة:41)، وعلق النجاة من النار به، ومغفرة الذنب، ودخول الجنة؛ فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (الصف:10-12).
أي: ولكم خصلة أخرى تُحبُّونها في الجهاد، وهي: (نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ)(93).
وجهاد النفس والشيطان هما الأصلان لجهاد الكفار· والانتصار على الكفار في ساحات القتال هو نتيجة للانتصار على النفس والشيطان قبل ذلك· بل إن جهاد النفس والشيطان يستغرق العمر كله؛ إذ لا بد منه قبل منازلة الكفار، وأثناءها، وبعدها·(1/72)
وعن أهمية هذا النوع من الجهاد يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (العنكبوت: من الآية69). علق سبحانه الهداية بالجهاد؛ فأكمل الناس هداية أعظمهم جهادًا، وأفرض الجهاد: جهاد النفس، وجهاد الهوى، وجهاد الشيطان، وجهاد الدنيا؛ فمن جاهد هذه الأربعة في الله هداه الله سبل رضاه الموصلة إلى جنته، ومن ترك الجهاد فاته من الهدى بحسب ما عطل من الجهاد؛ قال الجنيد: والذين جاهدوا أهواءهم فينا بالتوبة لنهدينهم سبل الإخلاص· ولا يتمكن من جهاد عدوه في الظاهر إلا من جاهد هذه الأعداء باطنًا فمن نُصِرَ عليها نُصِرَ على عدوه، ومن نُصِرَتْ عليه نُصِرَ عليه عدوه)(94).
وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى عند الحديث عن الإعداد الإيماني والمعنوي للجهاد في سبيل الله عز وجل·
الوقفة الثانية
الإعداد الإيماني قبل الجهاد لا يعني ترك جهاد الدفع
حتى يكتمل هذا الإعداد
إن القول بضرورة الإعداد الإيماني قبل جهاد الكفار لا يعني ترك جهاد الكفار وقتالهم في جهاد الدفع حتى يكتمل الإعداد الإيماني· إن هذا لا يقول به عاقل؛ بل إنه يصادم مقاصد الشريعة في حفظ الضرورات الخمس·
إن جهاد الدفع يجب أن يهب المسلمون له بالحالة التي هم عليها سواء كانوا في ضعف من الإيمان وتفريط في طاعة الله عز وجل أو كانوا في ضعف مادي؛ فإذا لم يندفع العدو عن الديار والحرمة والدين إلا بقتاله وجب ذلك على المسلمين بما تيسر من القوة دون اشتراط للقدرة، والقوة الإيمانية، إذ لا بد من التفريق بين جهاد الطلب الذي يشترط فيه الإعداد المادي والمعنوي وبين جهاد الدفع الذي لا يشترط فيه ذلك·(1/73)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين، فواجب إجماعًا؛ فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه، فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الإمكان، وقد نص على ذلك العلماء: أصحابنا وغيرهم، فيجب التفريق بين دفع الصائل الظالم الكافر وبين طلبه في بلاده"(95).
ولا يعني عدم اشتراط العدة الإيمانية أو المادية في جهاد الدفع التفريط فيها، بل يجب الدفع بما تيسر منهما مع الاهتمام بهما أثناء القتال والسعي لتقويتهما قدر المستطاع؛ فقد يستمر الدفاع شهورًا أو سنوات، فحينئذ يجب السعي أثناء القتال لتوفير القدرة المادية وإعداد المقاتلين إيمانيًا بوضع البرامج العلمية والعملية لتقوية هذا الجانب؛ لأثره العظيم في الثبات والصبر ونزول نصر الله عز وجل، وهزيمة الكفار ودفعهم عن ديار المسلمين وحرماتهم· وإن الحاجة لتشتد في مثل الظروف الراهنة التي يهدد فيها الكفار بالهجوم على ما تبقى من ديار المسلمين·
ومما ينبغي التنبيه إليه أن أجواء الجهاد في سبيل الله عز وجل من أفضل البيئات التي يعد فيها المجاهدون إيمانيًا وتربية وزهدًا وتضحية، وهذا شيء مشاهد؛ فما حصل عليه بعض المجاهدين من التضحية وتزكية أعمال القلوب والزهد والإخلاص في سنة من سنوات الجهاد لم يحصل عليه غيرهم إلا في عدة سنوات·
الوقفة الثالثة
مواطن الاتفاق والاختلاف بين جهاد الطلب وجهاد الدفع
يتفق جهاد الطلب مع جهاد الدفع في أمور، ويختلف معه في أمور أخرى؛ وذلك كما يلي:
1- يتفق هذان النوعان من الجهاد في ضرورة الإعداد لجهاد الكفار سواء المادي أو الإيماني، ولكنهما يفترقان في أن جهاد الطلب وقته موسع فلا يسارع فيه قبل توفر شروطه والتي من أهمها:
( أ ) القدرة في العدة والعتاد·
(ب) الإعداد الإيماني من جوانبه المختلفة؛ والذي سيأتي تفصيله قريبًا إن شاء الله تعالى·(1/74)
(حـ) وجود الكيان والمكان الآمن الذي يحتمي فيه المجاهدون وينطلقون منه·
( د ) إذا كان العدو منافقًا أو مرتدًا قد التبس أمره على المسلمين فلا بد أن يسبق ذلك جهاد البيان وفضحه للناس حتى يستبينوا سبيل المجرمين وتتضح راية الكفر للناس، وفي نفس الوقت يُعَرِّف المجاهدون أنفسهم للناس حتى يتبينوا حقيقة دعوتهم وأهدافهم، وأنهم لا كما يصورهم إعلام المجرمين بأنهم إرهابيون مفسدون خارجون على الشرعية· وسيأتي تفصيل هذه المسألة قريباً إن شاء الله تعالى·
أما جهاد الدفع فالغالب في القتال فيه أنه قتال مع الكفار المعتدين ورايتهم للناس واضحة، فلا يحتاج الأمر إلى جهد كبير في تعريف الناس بعدوهم كما هو الحال في المنافق الذي التبس أمره على الناس، ومن أمثلة ذلك اليوم ما يجري في أفغانستان أو كشمير أو الشيشان أو فلسطين·
كما أن جهاد الدفع لا يشترط أن يكون له كيان أو دولة تحميه، بل إنه ينطلق من الظروف والإمكانات المتاحة له؛ لأنه لا خيار للمسلمين في تركه، ولو وجد المكان الآمن فهو المفضل والمطلوب لكنه ليس بشرط·
2- كما أن جهاد الدفع يفترق عن جهاد الطلب في أن القيام به فرض عين على المسلمين ولو لم تتوفر الشروط لذلك من الإعداد المادي أو الإيماني؛ بشرط عدم انخرام أصل التوحيد والإيمان وقد سبق ذكر ذلك في الوقفة السابقة·
أما جهاد الطلب فعلى الكفاية إلا إذا استنفر الإمام جميع المسلمين فإنه يتعين حينئذ كما يتعين أيضاً إذا حضر المسلم الصف وتواجه مع العدو·(1/75)
أما من حيث غاية النوعين من الجهاد فيشتركان في كونهما لرد الفتنة عن الناس في دينهم وحرماتهم؛ لكنها في جهاد الدفع لرد الفتنة عن المسلمين فيما لو استولى الكفار على البلاد، أما جهاد الطلب فهو لرفع فتنة الشرك والكفر والظلم عن الناس بعامة؛ وذلك في بلاد الكفار التي استعبد طواغيتها الناس وحالوا بينهم وبين وصول الدين الحق إليهم، فيأتي جهاد الطلب ليرفع فتنة الشرك عن الناس ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويكون الدين كله لله تعالى·
الوقفة الرابعة
معنى الإعداد الإيماني أو المعنوي للجهاد في سبيل الله
ماذا نعني بالإعداد الإيماني - أو المعنوي - للجهاد في سبيل الله عز وجل؟ والجواب أن يقال: لقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من شعب النفاق)(96).
وإن المتأمل في أحوالنا اليوم وطريقة تفكيرنا ومعيشتنا وتعاملاتنا ليرى ضعف العزيمة عندنا في إعداد النفس للجهاد وتحديثها بالغزو على جميع المستويات إلا من رحم الله تعالى؛ فمجرد نظرة سريعة إلى اهتماماتنا، وما يشغل قلوبنا نرى أنها ليست اهتمامات مجاهدين· وكذلك أسلوب معيشتنا وما يشتمل عليه من الترف والترهل، وحب الدعة والراحة، والركون إلى الدنيا، وضعف الصلة بالله تعالى؛ كل هذا لا يتفق مع حقيقة تحديث النفس بالغزو وإعدادها للجهاد، ومن كانت هذه حاله فهو من أول الفارين عن الجهاد عندما ينادى إليه·
إن "تحديث النفس بالغزو" الذي ينجي من شعب النفاق لا يكفي له أن يحدث الإنسان نفسه أنه سيغزو ويجاهد ويكتفي بهذا الحديث النفسي وهو متكئ على أريكته مشحون قلبه بدنياه، كلا ليس هذا هو التحديث المنجي· إنما تحديث النفس بالغزو يعني أمورًا عملية لا بد من العزيمة عليها من الآن، وهذا ما نعنيه بالإعداد الإيماني أو المعنوي·(1/76)
إن الجهاد في سبيل الله عز وجل عبادة عظيمة تحتاج إلى صبر ومصابرة؛ لأن فيها من المشاق والتضحيات ما لا يوجد في عبادة غيرها لكنها خفيفة ولذيذة على من اصطفاهم الله لنصرة دينه وإعلاء كلمته· ولما كان الجهاد فيه ما فيه من المشاق وبذل المال والنفس في سبيل الله تعالى أصبح الاستعداد له بالإيمان والإخلاص والمتابعة والصبر وقوة الصلة بالله عز وجل أمرًا لا بد منه وإلا خارت القوى وانحلت العزائم· ومن ذلك أَمْرُ الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بقيام الليل الطويل استعدادًا لتحمل القول الثقيل وتبليغه للناس وتحمل أعباء الرسالة؛ قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) (المزمل:1-4).
كما أن الإعداد الإيماني قبل الجهاد ضروري لتحقيق النصر على الأعداء عند ملاقاتهم والثبات عند قتالهم؛ قال الله عز وجل: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً) (النساء:66-67).
والإعداد الإيماني علمًا وعملاً وحالاً يباعد بين المجاهدين وبين المعاصي والذنوب أو الميل إلى الدنيا والتي هي من أسباب الخذلان والهزيمة كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في مسيرة إلى غزو الفرس: "فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو ··· [إلى قوله:] فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم؛ وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة"·(1/77)
وذكر البخاري في كتاب الجهاد في صحيحه قال: "باب: عمل صالح قبل القتال، وقال أبو الدرداء: إنما تقاتلون بأعمالكم"(97).
وقال ابن حجر في فتح الباري: "جاء من طريق أبي إسحاق الفزاري عن سعيد بن عبدالعزيز عن ربيعة بن زيد أن أبا الدرداء قال: (أيها الناس عمل صالح قبل الغزو· إنما تقاتلون بأعمالكم) ثم ظهر لي تفصيل البخاري؛ وذلك أن هذه الطريق منقطعة"(98).
والأصل في الإعداد الإيماني للمجاهدين ما ذكره سبحانه في سورة التوبة من صفات المؤمنين المجاهدين الذين اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة؛ قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:111).
ثم عقب على هذه البيعة بصفات المؤهلين للجهاد الذين باعوا أنفسهم وأموالهم لله تعالى فقال سبحانه: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (التوبة:112).
وقال عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرجل قال له: أريد أن أبيع نفسي من الله فأجاهد حتى أقتل، فقال له: ويحك وأين الشروط؟ أين قوله تعالى: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)"(99).(1/78)
وقد اشتملت هذه الآية على أصول الأعمال الباطنة والظاهرة التي يحبها الله عز وجل؛ يقول الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآيات: "وإذا أردت أن تعرف قدر الصفقة، فانظر إلى المشتري من هو؟ وهو الله جل جلاله· وإلى العوض، وهو أكبر الأعواض وأجلها؛ جنات النعيم· وإلى الثمن المبذول فيها، وهو: النفس، والمال، الذي هو أحب الأشياء للإنسان· وإلى من جرى على يديه عقد هذا التبايع، وهو أشرف الرسل· وبأي الكتب رقم، في كتب الله الكبار المنزلة على أفضل الخلق·
كأنه قيل: من هم المؤمنون الذين لهم البشارة من الله بدخول الجنات ونيل الكرامات؟
فقال: هم (التائبون) أي: الملازمون للتوبة في جميع الأوقات، عن جميع السيئات·
(العابدون) أي: المتصفون بالعبودية لله، والاستمرار على طاعته، من أداء الواجبات والمستحبات، في كل وقت؛ فبذلك يكون العبد من العابدين·
(الحامدون): لله في السراء والضراء، واليسر والعسر، المعترفون بما لله عليهم من النعم الظاهرة والباطنة، المثنون على الله بذكرها وبذكره، في آناء الليل، وآناء النهار·
(السائحون): فسرت السياحة، بالصيام، أو السياحة في طلب العلم·
وفسرت بسياحة القلب في معرفة الله ومحبته، والإنابة إليه على الدوام· والصحيح أن المراد بالسياحة: السفر في القربات، كالحج، والعمرة، والجهاد، وطلب العلم، وصلة الأقارب، ونحو ذلك·
(الراكعون الساجدون) أي: المكثرون من الصلاة المشتملة على الركوع والسجود·
(الآمرون بالمعروف): ويدخل فيه، جميع الواجبات والمستحبات·
(والناهون عن المنكر): وهي جميع ما نهى الله ورسوله عنه·
(والحافظون لحدود الله): بتعلمهم حدود ما أنزل الله على رسوله، وما يدخل في الأوامر والنواهي والأحكام، وما لا يدخل، الملازمون لها فعلاً وتركًا"(100).(1/79)
ويقول سيد قطب رحمه الله تعالى عن هذه الآيات: "هذا النص الذي تلوته من قبل وسمعته ما لا أستطيع عدة من المرات، في أثناء حفظي للقرآن، وفي أثناء تلاوته، وفي أثناء دراسته بعد ذلك في أكثر من ربع قرن من الزمان ·· هذا النص - حين واجهته في "الظلال" أحسست أنني أدرك منه ما لم أدركه من قبل في المرات التي لا أملك عدها على مدى ذلك الزمان!
إنه نص رهيب! إنه يكشف عن حقيقة العلاقة التي تربط المؤمنين بالله، وعن حقيقة البيعة التي أعطوها - بإسلامهم - طوال الحياة؛ فمن بايع هذه البيعة ووفى بها فهو المؤمن الحق الذي ينطبق عليه وصف (المؤمن) وتتمثل فيه حقيقة الإيمان، وإلا فهي دعوى تحتاج إلى التصديق والتحقيق!(1/80)
حقيقة هذه البيعة - أو هذه المبايعة كما سماها الله كرمًا منه وفضلاً وسماحة - أن الله - سبحانه - قد استخلص لنفسه أنفس المؤمنين وأموالهم؛ فلم يعد لهم منها شيء ·· لم يعد لهم أن يستبقوا منها بقية لا ينفقونها في سبيله، لم يعد لهم خيار في أن يبذلوا أو يمسكوا ·· كلا ·· إنها صفقة مشتراة، لشاريها أن يتصرف بها كما يشاء، وفق ما يفرض ووفق ما يحدد، وليس للبائع فيها من شيء سوى أن يمضي في الطريق المرسوم، لا يتلفت ولا يتخير، ولا يناقش ولا يجادل، ولا يقول إلا الطاعة والعمل والاستسلام ·· والثمن: هو الجنة ·· والطريق: هو الجهاد والقتل والقتال ·· والنهاية: هي النصر أو الاستشهاد ··· إن الحق لا بد أن ينطلق في طريقه، ولا بد أن يقف له الباطل في الطريق! بل لا بد أن يأخذ عليه الطريق إن دين الله لا بد أن ينطلق لتحرير البشر من العبودية للعباد وردهم إلى العبودية لله وحده، ولا بد أن يقف له الطاغوت في الطريق ·· بل لا بد أن يقطع عليه الطريق ·· ولا بد لدين الله أن ينطلق في "الأرض" كلها لتحرير "الإنسان" كله· ولا بد للحق أن يمضي في طريقه ولا ينثني عنه ليدع للباطل طريقًا! ·· وما دام في "الأرض" كفر· وما دام في "الأرض" باطل، وما دامت في "الأرض" عبودية لغير الله تذل كرامة "الإنسان" فالجهاد في سبيل الله ماض، والبيعة في عنق كل مؤمن تطالبه بالوفاء وإلا فليس بالإيمان، "ومن مات ولم يغزو ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق"(101). ولكن الجهاد في سبيل الله ليس مجرد اندفاعة إلى القتال، إنما هو قمة تقوم على قاعدة من الإيمان المتمثل في مشاعر وشعائر وأخلاق وأعمال، والمؤمنون الذين عقد الله معهم البيعة، والذين تتمثل فيهم حقيقة الإيمان هم قوم تتمثل فيهم صفات إيمانية أصيلة: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ(1/81)
وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ) (التوبة:112). هذه هي الجماعة المؤمنة التي عقد الله معها بيعته، وهذه هي صفاتها ومميزاتها: توبة ترد العبد إلى الله، وتكفه عن الذنب، وتدفعه إلى العمل الصالح· وعبادة تصله بالله وتجعل الله معبوده وغايته ووجهته· وحمد لله على السراء والضراء نتيجة الاستسلام الكامل لله والثقة المطلقة برحمته وعدله· وسياحة في ملكوت الله مع آيات الله الناطقة في الكون الدالة على الحكمة والحق في تصميم الخلق· وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر يتجاوز صلاح الذات إلى إصلاح العباد والحياة· وحفظ لحدود الله يرد عنها العادين والمضيعين، ويصونها من التهجم والانتهاك·
هذه هي الجماعة المؤمنة التي بايعها الله على الجنة، واشترى منها الأنفس والأموال، لتمضي مع سنة الله الجارية منذ كان دين الله ورسله ورسالاته؛ قتال في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، وقتل لأعداء الله الذين يحادّون الله؛ أو استشهاد في المعركة التي لا تفتر بين الحق والباطل، وبين الإسلام والجاهلية، وبين الشريعة والطاغوت، وبين الهدى والضلال·
وليست الحياة لهوًا ولعبًا· وليست الحياة أكلاً كما تأكل الأنعام ومتاعًا· وليست الحياة سلامة ذليلة، وراحة بليدة ورضى بالسلم الرخيصة ·· إنما الحياة هي هذه: كفاح في سبيل الحق، وجهاد في سبيل الخير، وانتصار لإعلاء كلمة الله، أو استشهاد كذلك في سبيل الله ·· ثم الجنة والرضوان ··"(102).
الوقفة الخامسة
جهاد النفس ومراتبه
بعد أن تبين لنا من آية التوبة صفات المؤهلين للجهاد اتضح لنا بذلك أهمية الإعداد الإيماني للمجاهدين حتى يلقوا عدوهم وهم مستعدون معنويًا وإيمانيًا لذلك، وفي هذه الوقفة الأخيرة سيتم تفصيل جوانب هذا الإعداد والوسائل المختلفة لتحقيقه حسب ما يفتح الله عز وجل إنه هو الفتاح العليم، وهو المستعان وحده وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا به سبحانه·
فأقول وبالله التوفيق:(1/82)
الأصل في الإعداد الذي يسبق جهاد الكفار هو جهاد النفس والشيطان· والمعركة معهما مستمرة ومتواصلة منذ بلوغ المسلم سن التكليف إلى أن يوافيه الأجل· فهو إذن جهاد لا يتقيد بوقت، بل هو مطلوب قبل ملاقاة العدو وأثناء ملاقاته وبعد ملاقاته· والنصر على الأعداء في معارك القتال مرهون بالانتصار على النفس والشيطان في معركة الجهاد معهما·
والمطلوب في الإعداد المتمثل في جهاد النفس: أربعة جوانب مهمة سبق ذكرها في أول البحث نقلاً عن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى وأعيدها هنا لمناسبتها ولكونها أصول الإعداد الشامل التي بها ينجو العبد من الخسران في الدنيا والآخرة، ويثبته الله عز وجل بها في ميادين الجهاد وغيرها من المواقف(103).
يقول رحمه الله تعالى: "فجهاد النفس أربع مراتب أيضاً:
إحداها: أن يجاهدها على تعلم الهُدى، ودين الحق الذي لا فلاح لها، ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها عِلمُه، شقيت في الدَّارين·
الثانية: أن يُجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجردُ العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها·
الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه، وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهُدى والبينات، ولا ينفعُهُ علمُهُ ولا يُنجيه من عذاب الله·
الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاقِّ الدعوة إلى الله، وأذى الخلق، وبتحمَّل ذلك كله لله·
فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الرَّبَّانيين؛ فإن السلف مُجمِعُونَ على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانيًا حتى يعرف الحق، ويعمل به، ويُعلَّمه، فمن علم وعمل وعلَّمَ فذاك يدعى عظيمًا في ملكوت السماوات"(104).
وتحت كل مرتبة من هذه المراتب أمور تفصيلية وبرامج علمية وعملية لتحقيقها وتكميلها، ولذلك سأعيد هذه المراتب المذكورة آنفًا مصاغة بشكل تفصيلي؛ وذلك كما يلي:
المرتبة الأولى
مجاهدة النفس على تعلم الهدى ودين الحق(1/83)
العلم بالشرع والبصيرة بالحق أمر لازم لكل مسلم فضلاً عن الداعية إلى الله عز وجل والمجاهد في سبيله تعالى؛ قال تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف:108). فذكر الله سبحانه في هذه الآية أن الدعوة إليه - والجهاد من الدعوة - يجب أن يكون على بصيرة؛ أي على علم بأن ما يدعو إليه ويجاهد من أجله هو الحق الذي يحبه الله ويرضاه، وهو الموافق لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وبدون العلم بالشرع والفهم الصحيح للدين تفسد الدعوة ويتلوث الجهاد، ويتخلف شرط أساس من شروط قبول العمل عند الله عز وجل؛ ألا وهو المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم·
والعلم الذي يجب أن يستعد به المجاهدون في سبيل الله عز وجل نوعان: 1- عيني· 2- وكفائي·
أما العيني: فهو الذي يعنينا في هذا المقام وهو في حق المجاهد نوعان:
أ - نوع عام: يشترك فيه المسلمون جميعًا، وهو العلم بالفقه الواجب على كل مسلم، وهو: الفقه بالعقيدة، والفقه بالأحكام العينية، ومن ذلك فهم أصول الإيمان الستة على مذهب السلف الصالح، ومعرفة الإيمان والتوحيد وأنواعه، وما يضاده من الكفر والشرك والنفاق، والمعرفة المجملة بضوابط التكفير، وما يترتب على ذلك من الأحكام·(1/84)
ومن ذلك معرفة أركان الإسلام علمًا وعملاً، والمعرفة الإجمالية بقواعد الأحكام ومقاصد الشريعة، ومعرفة المحرمات العينية والفروض العينية الواجبة على كل مسلم· كل هذا مما يجب العلم به قبل الجهاد، فإن فرض على المسلمين القتال قبل إتمامه، فإنه يحصله أثناء الجهاد ويكمل منه ما نقص· والمقصود أن لا يُقدم المسلم - فضلاً عن المجاهد - على أمر حتى يعلم حكم الشريعة فيه، فإن لم يعلم فليسأل من يدله على حكم الشرع فيه؛ لقوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(الأنبياء: من الآية7)، ومما يدخل في هذا: العلم بسبيل المجرمين، والبصيرة بواقع الكفار الذين يراد قتالهم·
ب - نوع خاص: وهو العلم بمشروعية الجهاد وأحكامه، ومعرفة الراية التي سيجاهد المسلم تحتها·
كل هذا مما يجب أن يعلمه المجاهد قبل الشروع في الجهاد؛ حيث أن الإخلاص لا يكفي وحده، بل عليه أن يعرف ما إذا كان الجهاد الذي ينوي الدخول فيه مشروع ومحبوب إلى الله عز وجل أم ليس كذلك· وهذا فرض واجب؛ لأن الجهاد فيه ذهاب الأنفس والأموال، والمسلم لا يملك إلا روحًا واحدة، فلا يجوز المخاطرة بها في أمر قد لا يكون مرضيًا لله عز وجل· وأسوق فيما يلي مثالين اثنين يوضحان حرص السلف الشديد على علمهم بمشروعية أي جهاد قبل الدخول فيه·(1/85)
المثال الأول: المناظرة التي تمت بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في قتال المرتدين حيث خفي على عمر رضي الله عنه مشروعية قتالهم وناظر أبو بكر رضي الله عنه في ذلك فبين له أبو بكر ذلك حتى انشرح صدر عمر لقتالهم· فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر، وكفر من كفر من العرب قال عمر: يا أبا بكر كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله)، قال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتُهم على منعها· قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق(105).
المثال الثاني: روى الذهبي في السير قال: وقال حميد بن هلال: أتت الحرورية مطرف بن عبدالله يدعونه إلى رأيهم فقال: "يا هؤلاء، لو كان لي نفسان بايعتكم بإحداهما، وأمسكت الأخرى، فإن كان الذي تقولون هدىً أتبعتها الأخرى، وإن كان ضلالة هلكت نفس وبقيت لي نفس، ولكن هي نفس واحدة لا أغرِّر بها"(106).
ومما يلحق بالعلم بمشروعية الجهاد: العلم بالراية التي سيجاهد المسلم تحتها، وما غايتها؛ فهذا مما يجب العلم به، فلا يكفي أن يعلم هل قتال العدو واجب أم غير واجب، أم غير جائز، بل لا بد من معرفة الراية التي سيقابل العدو تحتها؛ قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) (النساء: من الآية76). فمما ينافي القتال في سبيل الله: القتال تحت راية عمية؛ قال صلى الله عليه وسلم: (من قتل تحت راية عِمِّية يدعو عصبية أو ينصر عصبية فقتلةٌ جاهلية)(107).(1/86)
والمقصود أنه كلما كان المسلم على بينة من سبيل المؤمنين الذي يحبه الله عز وجل، وعلى بينة من سبيل المجرمين كان هذا أكبر دافع للجهاد في سبيل الله تعالى·
وأما العلم الكفائي: فيكفي أن يعلمه طائفة من المجاهدين؛ حيث يفرغ بعضهم لطلب العلوم الشرعية اللازمة لسد حاجات الدعوة والتعليم والإفتاء، ويكونوا من ذوي الاستعداد لذلك· وإذا وجد الحد الأدنى من الكفاية سقط الوجوب عن الآخرين· والأصل في هذا أن يكون قبل ملاقاة الأعداء؛ لأن أيام القتال أيام شغل، لكن إن فرض على المسلمين القتال قبل إتمام حد الكفاية من هذا العلم فينبغي إتمامه أثناء الجهاد قدر المستطاع·
والخلاصة:(1/87)
أن العلم هو أساس العمل، وهو قبل القول والعمل· والجهاد من العمل، فإن لم يكن العلم صحيحًا موافقًا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإن العمل سيكون باطلاً ومنحرفًا· ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة يعلم أصحابه أصول هذا الدين، ويعلمهم العقيدة وما تقتضيه من ولاء وبراء وإذعان وانقياد لله تعالى، كما يعلمهم الإخلاص وإرادة الدار الآخرة في جميع الأقوال والأعمال· فلما جاء الإذن بالجهاد، ثم فرضه ظهرت آثار هذا العلم في تضحياتهم العظيمة وفتوحاتهم المباركة· ولذلك وجب على المهتمين بأمور الدعوة وتربية الناس وتوجيههم وإعدادهم للجهاد في سبيل الله عز وجل أن يولوا هذا الجانب اهتمامًا كبيرًا، وأن يركزوا في برامجهم الدعوية وأنشطتهم المختلفة على تحقيق الحد الأدنى من العلم بسبيل المؤمنين - وهم أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح - انطلاقًا من القرآن الكريم وتدبره، والسنة الصحيحة بفهم الصحابة رضي الله عنهم وأن يستفاد من كل وسيلة متاحة مشروعة لبناء العلم الشرعي في النفوس؛ سواء على هيئة دروس علمية عامة أو خاصة، أو بالاستفادة من الأشرطة العلمية المسجلة· والمقصود أن يهتم المربون بهذا الجانب المهم من الإعداد لأنه هو الأساس، فإن صلح صلح ما بعده، وإن فسد فسد ما بعده·(1/88)
وأختم هذه المرتبة من جهاد النفس بكلام نفيس لأحد الصحابة رضي الله عنهم يتبين منه أهمية معرفة الحق والعلم به، وأنه ضروري للمجاهد في سبيل الله عز وجل، وأنه لا يكفي في المجاهد أن يكون مخلصًا لله تعالى في جهاده، بل لا بد أن ينضم إلى ذلك أن يكون جهاده على الحق· والحق لا يتبين إلا بالعلم الشرعي والبصيرة في الدين، والواقع· فقد روى ابن وضاح - رحمه الله تعالى - في كتابه "البدع والنهي عنها" بسنده: "قال: حدثنا أسد قال: حدثنا مبارك بن فضالة عن يونس ابن عبيد عن ابن سيرين قال: أخبرني أبو عبيدة بن حذيفة قال: جاء رجل إلى حذيفة بن اليمان - وأبو موسى الأشعري قاعد - فقال: أرأيت رجلاً ضرب بسيفه غضبًا لله حتى قتل أفي الجنة أم في النار؟ فقال أبو موسى: في الجنة· قال حذيفة: استفهم الرجل وأفهمه ما تقول· قال أبو موسى سبحان الله، كيف قلت؟ قال: قلت: رجل ضرب بسيفه غضبًا لله حتى قتل أفي الجنة أم في النار؟ فقال أبو موسى: في الجنة· قال حذيفة: استفهم الرجل وأفهمه ما تقول· حتى فعل ذلك ثلاث مرات، فلما كان في الثالثة قال: والله لا تستفهمه، فدعى به حذيفة فقال: رويدك، إن صاحبك لو ضرب بسيفه حتى ينقطع فأصاب الحق حتى يقتل عليه فهو في الجنة، وإن لم يصب الحق ولم يوفقه الله للحق فهو في النار· ثم قال: والذي نفسي بيده ليدخلن النار في مثل الذي سألت عنه أكثر من كذا وكذا"(108).
المرتبة الثانية
مجاهدة النفس على العمل بالعلم بعد تعلمه
إن تعلم العلم والتزود به ليس مطلوبًا لذاته، وإنما هو مطلوب للعمل والسير في ضوئه إلى الله تعالى؛ بفعل ما يحبه ويرضاه واجتناب ما يسخطه وينهى عنه·(1/89)
والأقوال والأعمال التي يحبها الله عز وجل كثيرة؛ منها الواجبات، ومنها المستحبات، وكذلك الأقوال والأعمال التي يبغضها الله عز وجل كثيرة· وليس المقصود حصرها وعدها في هذا المقام، وإنما المقصود التنبيه على ضرورة إعداد النفوس ومجاهدتها - قبل جهاد الكفار - على الانقياد لأوامر الله عز وجل والقيام بها، والانتهاء عما نهى الله عز وجل عنه·
وهذا مطلوب من المسلمين بعامة، ومن المجاهدين أو الذين يعدون أنفسهم للجهاد بخاصة؛ وذلك لما للأعمال الصالحة من بركة وتثبيت لأهلها، وكونها زادًا للمجاهد في مشاق الطريق، وسببًا لمحبة الله تعالى ومعيته الخاصة - وما أحوج المجاهدين إلى معية الله تعالى ونصره وتأييده - كما أن في اجتناب المعاصي والمحرمات بعدًا عن أسباب الهزيمة والخذلان؛ فما شيء أخطر على المجاهدين من ذنوبهم؛ قال الله تعالى: {أّوّ لّمَّا أّصّابّتًكٍم مٍَصٌيبّةِ قّدً أّصّبًتٍم مٌَثًلّيًهّا قٍلًتٍمً أّنَّى" هّذّا قٍلً هٍوّ مٌنً عٌندٌ أّنفٍسٌكٍمً إنَّ پلَّهّ عّلّى" كٍلٌَ شّيًءُ قّدٌيرِ} [آل عمران: 165] ، وقال سبحانه عن بركة العمل الصالح والامتثال لأوامر الله تعالى: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً) (النساء:66-68).(1/90)
وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه سبحانه في فضل التقرب إلى الله عز وجل بالفرائض والنوافل: (·· وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه ···)(109).
كما أن فعل محاب الله واجتناب مساخطه يورث التقوى في القلب، والتقوى تورث ثمارًا عديدة منها تفريج الكروب وتيسير الأمور؛ قال تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) (الطلاق: من الآية2)، ومنها تأليف القلوب؛ قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً) (مريم:96). وكلما كثر في المجاهدين من يتصف بهذه الصفات كانوا أقرب إلى نصر الله تعالى· فلذلك وجب الاستعداد بالأعمال الصالحة التي تؤهل لهذه المقامات الرفيعة التي ينصر الله عز وجل أهلها ويثبتهم ويستجيب دعاءهم·
ذكر الذهبي - رحمه الله - في ترجمته لمحمد بن واسع العابد الزاهد المجاهد رحمه الله تعالى· قول الأصمعي: "لما صافَّ قتيبة ابن مسلم للترك وهاله أمرهم، سأل عن محمد بن واسع فقيل: هو ذاك في الميمنة جامع على قوسه يبصبص بأصبعه نحو السماء· قال: تلك الأصبع أحب إلي من مائة ألف سيف شهير وشاب طرير"(110).
ومن الأعمال الصالحة التي ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها الصحابة في مرحلة الإعداد في مكة واستمر عليها في المدينة بعدما شرع الجهاد ما يلي:
أولاً : أعمال القلوب:
وهي الأصل في الأعمال الصالحة الظاهرة، فإذا فسدت فسدت الأعمال كلها وإذا صلحت صلح العمل كله؛ وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله؛ وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب)(111).(1/91)
ومن الأعمال القلبية التي يجب أن يعتني بها المربون في الإعداد للجهاد ما يلي:
1- محبة الله عز وجل والحب فيه والبغض فيه:
المحبة هي أصل العبادة، وهي ثمرة معرفة الله عز وجل بأسمائه وصفاته الحسنى، وهي مستلزمة لتوحيده وطاعته، وكلما قويت المحبة في قلب العبد ظهر أثرها في الانقياد التام لأمر الله عز وجل والتضحية في سبيله، وبغض أعدائه ومجاهدتهم وموالاة أوليائه ونصرتهم· كما يظهر أثرها في البعد عن الحزبيات المقيتة والرايات العصبية والمنافع الدنيوية؛ فلا ينقلب بغيض الله حبيبًا له بإحسانه إليه، كما لا ينقلب حبيب الله له بغيضًا إذا وصله منه ما يكرهه ويؤلمه؛ والمجاهدون في سبيل الله عز وجل أو من يعدون أنفسهم للجهاد أحوج من غيرهم إلى تزكية هذا العمل القلبي الشريف؛ وذلك حتى لا يتورط المجاهد في رايات عمية ولوثات حزبية أو وطنية أو قومية·
والتربية على هذا الأصل تأتي من الفهم الصحيح للعقيدة على مذهب السلف الصالح، ولا سيما عقيدة الولاء والبراء، مع القراءة في سير الصالحين والمحبين وتضحياتهم وجهادهم، وما تحلوا به من صدق في المحبة له سبحانه والمحبة فيه· كما أن للقدوات من المربين والموجهين والعلماء أثرًا في تقوية هذا العمل القلبي وتزكيته· وكما ذكرت في أول البحث من أن كثيرًا من الأعمال القلبية ستبقى ناقصة وضعيفة ولا يكملها ويقويها ويبلغ بها ذروة سنامها إلا الجهاد في سبيل الله عز وجل، فهو ذروة سنام هذا الدين وفي بيئته وأجوائه تصل كثير من أعمال القلوب إلى ذروة قوتها وكمالها(112).
2- الإخلاص لله عز وجل:(1/92)
وهو من أعظم أعمال القلوب والتي لا يطلع عليها إلا الله عز وجل، وهو أن يريد الإنسان بقرباته وجه الله عز وجل والدار الآخرة، ومن ذلك الجهاد في سبيل الله عز وجل والذي يقدم فيه العبد أغلى ما عنده - وهي نفسه التي بين جنبيه - فإذا لم يكن قاصدًا بجهاده وجه الله عز وجل ورضوانه وجنته في الآخرة خسر خسرانًا مبينًا؛ ولذلك يجب إعداد المجاهدين قبل الجهاد بالإخلاص في أعمالهم والتجرد لله سبحانه في حركاتهم وسكناتهم·
وكما أن للإخلاص أثره في نيل رضا الله سبحانه وما أعده للمجاهدين الصادقين، فإن له أثرًا كذلك في الثبات أمام الأعداء لقوله تعالى: (فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (الفتح: من الآية18)، وإذا تمكن الإخلاص من القلوب أثمر التضحية والشجاعة في سبيل الله عز وجل، وأثمر الصبر، والزهد في الدنيا ومتاعها الزائل، وتوحد الهم في إعلاء كلمة الله تعالى وإقامة دين الله تعالى؛ وبذلك ترتفع الهمة ويعلو المقصد ويوجه إلى الله تعالى والدار الآخرة وما أعد الله فيها لعباده المجاهدين من الرضوان والنعيم ومرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا·
والإخلاص من أشرف أعمال القلوب التي يجب أن يعتنى بها في جميع الأعمال، ولا سيما في الإعداد للجهاد في سبيل الله تعالى؛ وذلك لما يتعرض له المجاهد من فتنة الشهرة، أو حب المدح، والثناء عليه بالشجاعة والبذل والتضحية·
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "والجهاد مقصوده أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله؛ فمقصوده إقامة دين الله لا استيفاء الرجل حظه، ولهذا كان ما يصاب به المجاهد في نفسه وفي ماله أجره فيه على الله؛ فإن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة"(113).(1/93)
ولذلك لا يكاد يذكر الجهاد في الكتاب والسنة إلا ويذكر بعده "في سبيل الله"· وكذلك من يقتل في القتال مع الكفار لا يسمى شهيدًا إلا إذا كان في سبيل الله· قال تعالى: (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ) (البقرة:154). أي الذين أخلصوا في جهادهم لله تعالى ولم يريدوا شيئًا من حظوظ هذه الدنيا الفانية.
ويعلق سيد قطب رحمه الله تعالى على هذه الآية بقوله: "ولكن من هم هؤلاء الشهداء الأحياء؟ إنهم أولئك الذين يقتلون "في سبيل الله" ·· في سبيل الله وحده، دون شركة في شارة ولا هدف ولا غاية إلا الله· في سبيل هذا الحق الذي أنزله· في سبيل المنهج الذي شرعه· في سبيل هذا الدين الذي اختاره ·· في هذا السبيل وحده، لا في أي سبيل آخر، ولا تحت أي شعار آخر، ولا شركة مع هدف أو شعار· وفي هذا شدد القرآن وشدد الحديث، حتى ما تبقى في النفس شبهة أو خاطر ·· غير الله ··
عن أبي موسى رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء. أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)(114) أخرجه مالك والشيخان·
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله: رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرضًا من الدنيا؟ فقال: (لا أجر له) فأعاد عليه ثلاثًا· كل ذلك يقول: (لا أجر له)(115) أخرجه أبو داود·(1/94)
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تضمن الله تعالى لمن خرج في سبيله؛ لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة· والذي نفس محمد بيده، ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم، لونه لون دم وريحه مسك· والذي نفس محمد بيده لولا أن يشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدًا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة، ويشق عليهم أن يتخلفوا عني· والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل)(116).
فهؤلاء هم الشهداء· هؤلاء الذين يخرجون في سبيل الله، لا يخرجهم إلا جهاد في سبيله، وإيمان به، وتصديق برسله·
ولقد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتى فارسي يجاهد أن يذكر فارسيته ويعتز بجنسيته في مجال الجهاد: عن عبدالرحمن بن أبي عقبة عن أبيه - وكان مولى من أهل فارس - قال: شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم أحدًا، فضربت رجلاً من المشركين، فقلت: خذها وأنا الغلام الفارسي· فالتفت إليّ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (هلا قلت: وأنا الغلام الأنصاري؟ إن ابن أخت القوم منهم، وإن مولى القوم منهم)(117).
فقد كره له " أن يفخر بصفة غير صفة النصر للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن يحارب تحت شارة إلا شارة النصر لهذا الدين· وهذا هو الجهاد، وفيه وحده تكون الشهادة وتكون الحياة للشهداء"(118).
ويقول في موطن آخر - رحمه الله -: "إنه لا جهاد، ولا شهادة، ولا جنة، إلا حين يكون الجهاد في سبيل الله وحده، والموت في سبيله وحده· والنصرة له وحده، في ذات النفس وفي منهج الحياة.(1/95)
لا جهاد ولا شهادة ولا جنة إلا حين يكون الهدف هو أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن تهيمن شريعته ومنهاجه في ضمائر الناس وأخلاقهم وسلوكهم، وفي أوضاعهم وتشريعهم ونظامهم على السواء.
عن أبي موسى رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية· ويقاتل رياء· أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)(119).
وليس هنالك من راية أخرى، أو هدف آخر، يجاهد في سبيله من يجاهد، ويستشهد دونه من يستشهد، فيحق له وعد الله بالجنة، إلا تلك الراية وإلا هذا الهدف· من كل ما يروج في الأجيال المنحرفة التصور من رايات وأسماء وغايات!
ويحسن أن يدرك أصحاب الدعوة هذه اللفتة البديهية، وأن يخلصوها في نفوسهم من الشوائب التي تعلق بها من منطق البيئة وتصور الأجيال المنحرفة، وألا يلبسوا برايتهم راية، ولا يخلطوا بتصورهم تصورًا غريبًا على طبيعة العقيدة·
لا جهاد إلا لتكون كلمة الله هي العليا؛ العليا في النفس والضمير، والعليا في الخلق والسلوك، والعليا في الأوضاع والنظم، والعليا في العلاقات والارتباطات في كل أنحاء الحياة· وما عدا هذا فليس لله ولكن للشيطان·وفيما عدا هذا ليست هناك شهادة ولا استشهاد· وفيما عدا هذا ليس هنالك جنة ولا نصر من عند الله ولا تثبيت للأقدام· وإنما هو الغبش وسوء التصور والانحراف"(120).(1/96)
ويقول في موطن ثالث: "ولقد كان القرآن ينشئ قلوبًا يعدها لحمل الأمانة، وهذه القلوب كان يجب أن تكون من الصلابة والقوة والتجرد بحيث لا تتطلع - وهي تبذل كل شيء وتحتمل كل شيء - إلى شيء في هذه الأرض، ولا تنتظر إلا الآخرة، ولا ترجو إلا رضوان الله· قلوبًا مستعدة لقطع رحلة الأرض كلها في نصب وشقاء وحرمان وعذاب وتضحية واحتمال، بلا جزاء في هذه الأرض قريب· ولو كان هذا الجزاء هو انتصار الدعوة وغلبة الإسلام وظهور المسلمين ··حتى إذا وجدت هذه القلوب التي تعلم أن ليس أمامها في رحلة الأرض شيء إلا أن تعطي بلا مقابل، وأن تنتظر الآخرة وحدها موعدًا للجزاء ·· وموعدًا كذلك للفصل بين الحق والباطل، وعلم الله منها صدق نيتها على ما بايعت وعاهدت، أتاها النصر في الأرض وائتمنها عليه، لا لنفسها، ولكن لتقوم بأمانة المنهج الإلهي وهي أهل لأداء الأمانة، منذ كانت لم توعد بشيء من المغنم في الدنيا تتقاضاه، ولم تتطلع إلى شيء من المغنم في الأرض تعطاه، وقد تجردت لله حقًا يوم كانت لا تعلم لها جزاء إلا رضاه· فالنصر ليس بالعدد وليس بالعدة، وليس بالمال والزاد؛ إنما هو بمقدار اتصال القلوب بقوة الله التي لا تقف لها قوة العباد"(121).
ومن ثمار الإخلاص في الدنيا أنه سبب من الأسباب القوية في سلامة القلوب، ووحدة الصف، وجمع الكلمة وائتلاف القلوب وقطع الطريق على من يريد التحريش بين المسلمين وإثارة الفرقة بينهم؛ لأن من أعظم أسباب الفرقة والاختلاف والتناحر بين الدعاة والمجاهدين بعضهم مع بعض ضعف الإخلاص، وتغلب الهوى وحظوظ النفس، فإذا حصل الإعداد القوي والتربية الجادة على الإخلاص قبل الجهاد وأثناءه فإن هذا من شأنه أن يقضي على الفرقة والتناحر، وأن يوحد الصف ويجمع الكلمة على قتال الأعداء، وبهذا يُقضى على سبب خطير من أسباب الفشل والهزيمة؛ قال تعالى: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ) (الأنفال: من الآية46).(1/97)
وإن مما يقوي الإخلاص وينميه: صدق المحبة لله تعالى - والتي سبق ذكرها - وصدق التوحيد والعبودية لله تعالى واليقين الصادق باليوم الآخر، والقراءة في سير الصالحين المخلصين وكيف كان حرصهم على تحقيق الإخلاص في جميع أعمالهم، وخوفهم من الرياء والنفاق، وإخفاؤهم لأعمالهم، وحفظهم لها من كل ما يكون سببًا في إحباطها وإبطالها؛ فإن ذلك مما يشوق النفوس إلى أعمالهم واللحوق بهم·
كما أن وجود القدوات المخلصة التي تعلم وتربي وتوجه يعد من الأسباب المهمة في إعداد المجاهدين المخلصين، كما أن من أعظم أسباب الإخلاص الزهد في الدنيا والتخفف منها، والإكثار من ذكر الموت، والتطلع إلى الدار الآخرة، والطمع في رضوان الله تعالى ونعيمه فيها، والخوف من سخطه وعذابه· وهذا ما سيدور الكلام حوله في الفقرة التالية من أعمال القلوب·
3- الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة:
إن الركون إلى الدنيا وإشغال الهم والفكر بها وبمتاعها الزائل لهو من أعظم أسباب الغفلة وضعف كثير من أعمال القلوب والجوارح· ومتى ما امتلأ القلب بحب الدنيا وزخرفها لم يعد فيه مكان للأعمال الشرعية من المحبة والإخلاص والتوكل وغيرها، لأن التحلية بالأعمال الشرعية لا بد أن يسبقها تخلية مما يضادها من الأعمال المهينة والحقيرة والمشغلة عن الله عز وجل والدار الآخرة·
إن حب الجهاد في سبيل الله تعالى لا يحل في قلب مشحون بالدنيا مائل إليها؛ لأن من أهم مقومات الإعداد للجهاد في سبيل الله تعالى الزهد في الدنيا والاستعلاء عليها، والاستعداد للتضحية بها في أي وقت؛ فالدنيا في حس المجاهد خادمة لا مخدومة، ومملوكة لا مالكة·(1/98)
وإن الناظر في حياتنا اليوم وما فيها من الترف والدعة والاهتمام الشديد بالتوسع في مراكبها ومساكنها ومآكلها ومشاربها، وكمالياتها ليرى الفرق الكبير والبون الشاسع بين هذه الحياة وحياة المجاهدين؛ ولذا كان لزامًا علينا وعلى كل من أراد إعداد نفسه للجهاد، وعلى من يتولون إعداد الأمة للجهاد؛ علينا جميعًا أن ندرك خطر ما نحن فيه من الترف والترهل والركون إلى الدنيا(122)، وأن نبادر للتخفف منها ونبذل الأسباب التي تزهدنا فيها وترغبنا في الآخرة،وإلا نفعل تكن فتنة ومصيبة على أنفسنا وعلى أمتنا؛ إذ لو فاجأنا داعي الجهاد أو هاجمنا الكفار في عقر دارنا - وهاهم من حولنا - فإن أول من يقعد عن الجهاد فيذل للكفار ويستكين أو يفر منهم بجلده هم أولئك المترفون الغافلون السادرون الذين ملأت الدنيا قلوبهم وصارت هي همهم ومبلغهم من العلم· والترف: هو التوسع في النعمة والمباحات، وبذل الجهد والوقت والهمة في تحصيلها والتنافس فيها· ولم يرد ذكر الترف في القرآن إلا بمعرض الذم؛ فلقد ذكر الله عز وجل في أكثر من آية أنه سبب الكفر والإعراض عن الحق أو رده؛ قال تعالى عن أصحاب الشمال )إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ) (الواقعة:45)، وقال سبحانه: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (سبأ:34-35)، وقال تعالى: (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ)(هود: من الآية116).(1/99)
ولا يفهم من ذم الترف التهوين من شأن المال؛ فالمال عصب الجهاد في سبيل الله تعالى، ولكن المقصود التحذير من الإسراف في التنعم وجعل ذلك من أكبر الهم، وبخاصة للعاملين في حقل الدعوة والجهاد والإعداد؛ لما لذلك من آثار سيئة في حياة المنتسبين إلى الدعوة والجهاد· والواقع شاهد بذلك؛ فكم رأينا من الدعاة ومن كانوا مهتمين بالجهاد قد تخلوا عن الجهاد والإعداد له وركنوا إلى الدنيا بسبب الترف والتوسع في النعيم·
ويبين ابن خلدون رحمه الله مضار الترف على الأمم وأثره في زوالها، وأثر التقشف وخشونة العيش في الغلبة على الأعداء فيقول في مقدمته: "الفصل السادس عشر: في أن الأمم الوحشية أقدر على التَّغَلُّب ممن سواها: اعلم أنه لما كانت البداوة سببًا في الشجاعة كما قلناه في المقدمة الثالثة، لا جرم كان هذا الجيل الوحشي أشد شجاعة من الجيل الآخر؛ فهم أقدر على التغلب وانتزاع ما في أيدي سواهم من الأمم، بل الجيل الواحد تختلف أحواله في ذلك باختلاف الأعصار، فكلما نزلوا الأرياف وتَفَنَّقوا(123) في النعيم، وألفوا عوائد الخصب في المعاش والنعيم، نقص من شجاعتهم بمقدار ما نقص من توحشهم وبداوتهم"(124).
وكلما تخفف المسلم من الدنيا ومتاعها وأصبحت في يده لا في قلبه هانت عليه وهان عليه فراقها والتضحية بها، وسهل عليه الجهاد والبذل، وقوي عنده الصبر على المصائب والبلايا·(1/100)
ولذلك كان المتقللون من الدنيا هم أتباع الرسل، وهم الذين يلبون منادي الجهاد عند النداء، "والأمة المجاهدة لا تكون مترفة، والأمة المترفة لا تكون مجاهدة؛ فلا يجتمع ترف وجهاد؛ لأن الترف نعومة وراحة واسترخاء وإغراق في الشهوات والملذات يصعب على صاحبه مفارقة ما ألفه منه، بل إنه يعيش وهو يفكر في إضافة المزيد منه ويخاف أن يحال بينه وبين ذلك الترف والنعيم· والجهاد بذل وتضحية ومشقة وبعد عن الملذات والشهوات ومفارقة للمحبوبات واقتحام للمكاره والعقبات؛ المترف يخاف كل شيء يعكر عليه صفو ترفه، والمجاهد لا يخاف في الله لومة لائم، المترف يتلهف للفسق والفجور والفواحش، والمجاهد يتطلع لقيادة البشر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر· فالمترفون فاسقون والمجاهدون مصلحون·
ولهذا كانت سنة الله في المترفين الفاسقين تدميرهم، والتدمير قد يكون بالاستئصال بعذاب الله كما كان في الأمم الماضية، وقد يكون بإنزال البأس الذي يحول بين المترف وما كان يتمتع به من شهوات، وهو عذاب وتدمير، وقد يكون أشق عليه من مفارقة ترفه بالموت· والعقوبة تعم المترفين ومن لم يقف في وجه ترفهم؛ قال تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً) (الإسراء:16)"(125).(1/101)
ويعلق سيد قطب رحمه الله تعالى على آية الإسراء فيقول: "والمترفون في كل أمة هم طبقة الكبراء الناعمين الذين يجدون المال ويجدون الخدم ويجدون الراحة، فينعمون بالدعة وبالراحة وبالسيادة حتى تترهل نفوسهم وتأس،ن وترتع في الفسق والمجانة، وتستهتر بالقيم والمقدسات والكرامات، وتلغ في الأعراض والحرمات، وهم إذا لم يجدوا من يضرب على أيديهم عاثوا في الأرض فسادًا، ونشروا الفاحشة في الأمة وأشاعوها وأرخصوا القيم العليا التي لا تعيش الشعوب إلاّ بها ولها، ومن ثم تتحلل الأمة وتسترخي، وتفقد حيويتها وعناصر قوتها وأسباب بقائها فتهلك وتطوى صفحتها· والآية تقرر سنة الله هذه ···"(126).
والحاصل التنبيه على خطورة الترف على حياة الداعية والمجاهد، وأن الجهاد والترف لا يجتمعان، وعلى من يعد نفسه للجهاد في سبيل الله عز وجل أن يربي نفسه على الزهد في الدنيا والتقلل منها، وتعويد النفس على شظف العيش وخشونته· وهذا يحتاج إلى مجاهدة للنفس الأمارة لأنها تميل إلى الدعة والراحة والتنعم·
كما لا ننسى دور المربين والقدوات الذين يربون الأمة ويعدوها للجهاد، فإن لم يكونوا مثالاً للزهد والبعد عن الترف بأشكاله كلها فإن التربية ستكون ضعيفة وهشة؛ لأن الناس لا ينظرون إلى أقوال الدعاة والمربين فحسب، بل إن نظرهم يتركز على أفعالهم وأحوالهم· ولنتصور شخصًا من الناس يحثه شيخه أو مربيه على الزهد في الدنيا ويحذره من الترف والتوسع في المباحات، ثم هو يرى شيخه في مركبه ومسكنه وملبسه ومطعمه في واد والزهد في واد آخر· فماذا سيكون حال هذا المتربي؟! إنه سيشعر بالاضطراب والازدواجية، وإن هذا لمما يعوق التربية والإعداد ويؤخرهما·(1/102)
وإن مما يعين على ترك الترف والرضى من الدنيا باليسير والتضحية بها حين يتطلب الأمر ذلك: النظر في سيرة المربي العظيم سيد الزاهدين وإمام المرسلين محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، وكيف كانت حياته، وكيف كان يعد أصحابه رضي الله عنهم ويربيهم بقوله وعمله وحاله، ثم النظر في حياة الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان من سادات المجاهدين والزاهدين· إن الإطلاع على حياة السلف رحمهم الله لمما يعين على الاقتداء بهم وبذل الجهد في اللحوق بهم؛ وإذا كان النعيم أثَّرَ في بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته فكاد يحول بين بعضهم وبين النفير مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وحال فعلاً بين بعضهم وبين ذلك، ولم ينفعه من عقاب الله وسخطه وسخط رسوله صلى الله عليه وسلم إلا التوبة، فكيف بمن بعدهم؟·
فهذا كعب بن مالك رضي الله عنه يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ويعرض في سياق حديثه بعض الأسباب التي أغرته بذلك التخلف، منها المشقات التي استقبلت المجاهدين كما قال: (فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفرًا بعيدًا ومفازًا، واستقبل عدوًا كثيرًا، فجلَّى للمسلمين أمرهم ···)(127).
ومنها النعيم ووسائل الراحة المتاحة في المدينة التي كان يميل إليها كما قال: (وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال فأنا إليها أصعر)(127) أي أميل.
وأختم هذا الحديث عن الزهد وما يضاده من الترف بكلام نفيس للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى يوجه فيها الأنظار إلى كيفية الاستقامة بالزهد في الدنيا فيقول: "لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين:(1/103)
نظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها وخستها، وألم المزاحمة عليها والحرص عليها؛ فطالبها لا ينفك من هم قبل حصولها، وهم في حال الظفر بها، وغم وحزن بعد فواتها· فهذا أحد النظرين·
النظر الثاني: النظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بُد، ودوامها وبقائها، وشرف ما فيها من الخيرات والمسرَّات، والتفاوت الذي بينه وبين ما ههنا؛ فهي كما قال الله سبحانه: (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (الأعلى:17).
فهي خيرات كاملة دائمة، وهذه خيالات ناقصة منقطعة مضمحلة، فإذا تم له هذان النظران آثر ما يقتضي العقل إيثاره، وزهد فيما يقتضي الزهد فيه؛ فكل أحد مطبوع على أن لا يترك النفع العاجل واللذة الحاضرة إلى النفع الآجل واللذة الغائبة المنتظرة إلا إذا تَبَيَّن له فضل الآجل على العاجل وقويت رغبته في الأعلى الأفضل، فإذا آثر الفاني الناقص كان ذلك إما لعدم تَبَيُّن الفضل له، وإما لعدم رغبته في الأفضل"(128).
وإن مما يعين على الزهد وترك الترف محاولة الانتقال من حياة الدعة والترف ما بين الفينة والأخرى؛ وذلك كأن يخصص الداعية أيامًا أو أسابيع في السنة يفارق فيها أهله وبلده ضمن برنامج دعوي في بعض القرى أو الهجر أو الأماكن النائية في الجبال والغابات التي يقطنها كثير من الناس الذين لا يعرفون التوحيد ولا كيف يصلون ولا يصومون وتنتشر فيهم الأخلاق والعادات السيئة؛ فإن مثل هذه الأجواء فيها تربية للداعية نفسه، وذلك بالتعود على حياة الخشونة والشظف، وفيها تربية وتعليم لسكان هذه الأماكن ما يجهلونه من أمر دينهم، ولا شك أن هذه الأعمال تحتاج إلى جهاد مع النفس بنقلها من حياة الدعة والترف التي تحبها إلى حياة الشظف والتعب التي تكرهها، كما أن في مثل هذه الأسفار بذلاً للمال في سبيل الله عز وجل ومجاهدة للنفس في حبها للمال والبخل به·
4- التوكل على الله عز وجل :(1/104)
وهذا العمل القلبي من أفضل الأعمال وأنفعها للعبد، ولا سيما المجاهد أو من يعد نفسه للجهاد في سبيل الله تعالى، وحقيقة التوكل: هو غاية الاعتماد على الله سبحانه وغاية الثقة به، مع الأخذ بالأسباب المأمور بها وعدم الاعتماد عليها ولا التعلق بها· وهو عبادة عظيمة تجمع بين تفويض الأمور إلى الله تعالى، وإحسان الظن به، والرجاء في رحمته ونصرته، وعدم الخوف إلا منه سبحانه؛ فهو الذي بيده النفع والضر، وما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها·
لذا وجب على المجاهد أن يقوي هذه العبادة في قلبه، ويسأل ربه صدق التوكل عليه، ويأخذ بالأسباب التي تحوِّل هذه العبادة من علم وعقيدة مجردة إلى عمل وحال يتحرك بها ويواجه الأخطار والمصائب والأعداء بها؛ لأن هناك فرقًا بين العلم بالتوكل والمعرفة به وبين كونه عملاً وحالاً·
وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "··· وكثير ما يشتبه في هذا الباب: المحمود الكامل بالمذموم الناقص ··· ومنه اشتباه علم التوكل بحال التوكل؛ فكثير من الناس يعرف التوكل وحقيقته وتفاصيله، فيظن أنه متوكل وليس من أهل التوكل· فحال التوكل أمر آخر من وراء العلم به···"(129).
والتربية على التوكل تأتي من الاعتناء بالفقه بأسماء الله تعالى وصفاته الحسنى؛ فهو ثمرة هذا العلم الشريف؛ كالفقه بصفات العلم والقدرة والرحمة والحكمة والتعبد لله سبحانه بها؛ لأن من أيقن كمال علم الله تعالى وأنه سبحانه يعلم ما كان وما يكون، وأنه القادر على كل شيء، وأن رحمته وسعت كل شيء، وأنه رحيم بالمؤمنين، وحكيم في أقضيته وأحكامه· من أيقن بهذا وتشرب به قلبه اعتمد على من هذه صفاته وفوض أمره إليه سبحانه·(1/105)
ولا ينافي هذا الأخذ بالأسباب، لأن الله عز وجل أمر بالأخذ بالأسباب في قتال الأعداء فقال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ) (لأنفال: من الآية60)، وأمر بأخذ الحذر من الكفار فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) (النساء: من الآية71).
وظاهر الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أُحد بين درعين ولبس المغفر، وحفر الخندق؛ وهو سيد المتوكلين· ولكن قلبه لم يتعلق بهذه الأسباب بل فوض أمره إلى الله عز وجل، ودعا ربه بالنصر وإهلاك الكافرين· قال سبحانه: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) (الأنفال: من الآية17).
ولما ظن الصحابة رضي الله عنهم ترتب النصر على الأسباب وأعجبوا بها يوم حنين هزموا في أول المعركة، وقال تعالى: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً) (التوبة: من الآية25).
فالأخذ بالأسباب من سنن المرسلين، والأخذ بها واجب وطاعة لله تعالى مع ترك الاعتماد عليها، بل الاعتماد على الله وحده لا شريك له في حصول المقصود بعد الأخذ بالأسباب· وقد تضيق بالعبد السبل وتنعدم الأسباب؛ وهنا ليس أمام العبد إلا عمل القلب وحده بصدق التوكل على الله عز وجل وصدق اللجوء والاضطرار إليه؛ كما لو أحاط العدو الكافر بالمجاهدين ولم يكن لهم حيلة في دفعه؛ قال الله تعالى عن المسلمين يوم أحد: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران:173).(1/106)
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "والتوكل تارة يكون توكل اضطرار وإلجاء بحيث لا يجد العبد ملجأ ولا وَزَرًا إلا التوكل؛ كما إذا ضاقت عليه الأسباب وضاقت عليه نفسه، وظن أن لا ملجأ من الله إلا إليه، وهذا لا يتخلف عنه الفرج والتيسير البتة، وتارة يكون توكل اختيار وذلك: التوكل مع وجود السبب المفضي إلى المراد، فإن كان السبب مأمورًا به ذُم على تركه، وإن قام بالسبب وترك التوكل ذم على تركه أيضاً؛ فإنه واجب باتفاق الأمة ونص القرآن والواجب القيام بهما والجمع بينهما· وإن كان السبب محرمًا حرم عليه مباشرته وتَوَحَّد السبب في حقه في التوكل فلم يبق سبب سواه؛ فإن التوكل من أقوى الأسباب في حصول المراد ودفع المكروه، بل هو أقوى الأسباب على الإطلاق· وإن كان السبب مباحًا نظرت هل يُضعف قيامك به التوكل أو لا يضعفه؟ فإن أضعفه وفرق عليك قلبك وشتت همك فتركه أولى، وإن لم يضعفه فمباشرته أولى؛ لأن حكمة أحكم الحاكمين اقتضت ربط المسبب به فلا تعطل حكمته - [إلى أن قال] - وسر التوكل وحقيقته هو اعتماد القلب على الله وحده؛ فلا يضره مباشرة الأسباب مع خلو القلب من الاعتماد عليها والركون إليها، كما لا ينفعه قوله توكلت على الله مع اعتماده على غيره وركونه إليه وثقته به، فتوكل اللسان شيء وتوكل القلب شيء"(130).
وإن من لوازم التوكل على الله عز وجل: اليقين بمعية الله سبحانه ونصرته لعباده المؤمنين وتثبيتهم، وإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم الكافرين بعد الأخذ بالأسباب المأمور بها وبذل الوسع في ذلك·
والناس في التوكل على الله عز وجل والأخذ بالأسباب في قتال الكافرين طرفان ووسط:(1/107)
الطرف الأول: الذين يرون أن الله عز وجل سينصر المسلمين بالآيات والجنود الذين يسخرهم للقضاء على الكافرين ولو لم يأخذوا بأسباب النصر أو لم يكملوها؛ فما داموا مسلمين وأعداؤهم من الكافرين فإن نصر الله عز وجل سينزل عليهم؛ لأنهم مسلمون وكفى· وهذا الفريق من الناس يفرِّط في العادة في الأخذ بأسباب النصر أو يستطول الطريق فلا يكملها، وإنما ينتظر خارقة وآية من الله عز وجل·
ولا يخفى ما في هذا القول من التفريط والغفلة عن سنن الله عز وجل في النصر والتمكين·
الطرف الثاني: وهو مقابل للطرف الأول، وقد يكون ردة فعل له، وذلك بقولهم بأنه لكي ينتصر المسلمون على أعدائهم ويمكن لهم في الأرض فلا بد أن يكونوا مكافئين لعدوهم في العدد والعتاد والسلاح والأخذ بالأسباب المادية، ومثل هؤلاء يغلبون الأسباب المادية ويتعلقون بها ويفرطون في الأسباب الشرعية،ولا يلتفتون إلى الآيات والمعجزات والإعانات التي ينصر الله سبحانه بها عباده المحققين لأسباب النصر متى شاء سبحانه وعلم أن عباده المؤمنين قد استفرغوا ما في جهدهم من الأخذ بأصول النصر وأسبابه· ومعلوم أن المسلمين في كل وقت - وبخاصة في هذا الوقت - لم يصلوا ولن يصلوا ولم يكلفهم الله سبحانه بأن يصلوا إلى مستوى أعدائهم في القوة والصناعة والسلاح؛ لأنه ليس شرطًا في نزول النصر، ولا يخفى ما في هذا القول من تطرف وغفلة عن مسبب الأسباب ونسيان لقوة الله تعالى والتي لا يقف أمامها أي قوة في الأرض ولا في السماء، والتي ينصر بها عباده المؤمنين الذين أخذوا بأسباب النصر واستحقوا أن يسخر لهم جنود السموات والأرض·(1/108)
الوسط: وهو الحق إن شاء الله تعالى، وهم الذين بذلوا كل ما في وسعهم في الأخذ بأسباب النصر السالفة الذكر، حيث بذلوا ما في وسعهم في الأخذ بالعلم النافع والعمل الصالح، وربوا أنفسهم على ذلك، وبلغوه للأمة قدر استطاعتهم حتى عرفتهم الأمة وما هم عليه من الحق، وعرفت أعداءهم وما هم عليه من كفر وفساد، وأخذوا بالأسباب المادية المباحة والمتاحة لهم· ومع أخذهم بهذه الأسباب فلم يعتمدوا عليها بل اعتمدوا على مسبب الأسباب ومن بيده ملكوت السموات والأرض، وانتظروا نصره المبين الذي وعد به عباده المؤمنين الذين أخذوا بأسباب النصر وبذلوا ما في وسعهم في ذلك، وانتظروا تأويل قوله سبحانه: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد: من الآية7)، ولم ينسوا قوله تعالى: (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (الفتح:7)، وقوله تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) (المدثر: من الآية31)، بل هم موقنون بظهور قوة الله عز وجل، وظهور الآيات بعد أن يبذلوا وسعهم في الأخذ بالأسباب وإعداد العدة للجهاد، ولم يرهبهم حينئذ قوة أعدائهم من الكفرة والمنافقين مهما بلغت من القوة والدمار؛ لأن قوة الله عز وجل فوق قوتهم، ونواصيهم بيده سبحانه، ولو يشاء الله تعالى دمرها عليهم وأبطل مفعولها· ولكن هذا لا يكون إلا لمن حقق أسباب النصر والتمكين الشرعية والمادية ولا بد هنا من التفريق بين جهاد الدفع وجهاد الطلب في إعداد العدة كما سبق بيانه(131).
ثانياً : أعمال اللسان :
1- الذكر والدعاء :(1/109)
الدعاء هو العبادة، وقد قال الله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر:60)، وفي الذكر ثناء وتمجيد وتسبيح وحمد لله تعالى، وفي الدعاء تبرؤ من الحول والقوة وتعلق بقوة الله وحده؛ فهو في الحقيقة يعبر عن حقيقة التوكل والاستعانة بالله عز وجل وحده·
وقد مر بنا في صفات المجاهدين الذين اشترى الله تعالى منهم أنفسهم وأموالهم أن من صفاتهم أنهم (العابدون الحامدون)· والدعاء: هو العبادة، والحمد: هو ذكر الله عز وجل والثناء عليه بما له من الأسماء الحسنى والصفات العلا، وبما أنعم وأحسن على عباده·
وقد أمر الله عز وجل عباده المجاهدين أن يستعدوا للقاء عدوهم بكثرة الذكر والدعاء والتضرع فإنها من أسباب النصر؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (لأنفال:45).
وقد سن الرسول صلى الله عليه وسلم أدعية وأذكارًا في اليوم والليلة ينبغي للمسلم وخاصة المجاهد ومن يعد نفسه للجهاد أن يحفظها ويذكر الله بها في أوقاتها؛ فهي من أكبر العون في طمأنينة القلب وتوكله على الله وحده واستحضار معية الله سبحانه له؛ وذلك كما جاء في الحديث القدسي: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني؛ فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ···)(132) الحديث·
وأعظم الذكر قراءة القرآن قال تعالى: (وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ) (الأنبياء: من الآية50)، وقال سبحانه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9)، وإن مما ينبغي على الداعية والمجاهد أن لا يغفل عن كتاب الله عز وجل، بل يتعاهده حفظًا وتلاوة وتدبرًا، وأن يكون له حزب يومي لا يخل به مع كتاب الله عز وجل·(1/110)
2- التوبة والاستغفار :
وقد ذكر الله عز وجل في آية التوبة أن من صفات المؤمنين المجاهدين الذين اشترى منهم أنفسهم وأموالهم أنهم (التائبون)·
والتوبة: الرجوع إلى الله عز وجل والإنابة إليه والندم على فعل الذنب بعد الإقلاع عنه، وعدم الرجوع إليه· وحاجة المجاهد إلى التوبة والاستغفار شديدة؛ لأن المجاهد معرض أكثر من غيره للعجب بعمله الصالح مع دنو أجله وتعرضه للموت في كل لحظة ولأن أكثر ما يخذل المجاهدين في المعارك ذنوبهم؛ فبالتوبة والاستغفار تمحى آثار الذنوب والمعاصي وتزول أسباب الهزيمة والخذلان، فضلاً عن أن التوبة عبادة عظيمة من العبادات التي يحبها الله عز وجل ويفرح بها·
والمجاهد بشر ليس بمعصوم، بل إنه معرض للذنوب، ولكنه لا يصر على الذنب، بل يسرع الرجوع ويستغفر ربه عندما تضعف نفسه وتزل قدمه؛ قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (الأعراف:201)، وقال سبحانه في الآيات التي سبقت قصة أحد في آل عمران: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران:135).
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم يكثر من الاستغفار ويقول: (والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة) (133)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة)(134).
3- الدعوة إلى الله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
وسيأتي التفصيل فيها إن شاء الله تعالى في المرتبة الثالثة من مراتب جهاد النفس وهي جهادها على الدعوة والتعليم·
4- صدق الحديث، وطيب الكلام :(1/111)
وهذا يحتاج إلى مجاهدة للنفس في تحقيقه، وليس المقام مقام تفصيل في فضل الصدق وأدلة ذلك، وإنما المراد أن الداعية والمجاهد في سبيل الله من أخص أوصافه أنه صادق لا يبطن خلاف ما يظهر، ولا يكذب على إخوانه في حديثه بل يصدقهم، وينصح لهم ولا يغشهم، وبهذا تصفو النفوس وتطيب القلوب·
ثالثاً: أعمال الجوارح، ومن أهمها في الإعداد للجهاد:
1- المحافظة على الصلوات فرضها ونفلها:
سبق وأن مر بنا في صفات المجاهدين المذكورين في سورة التوبة، والذين اشترى الله عز وجل منهم أنفسهم وأموالهم أن من صفاتهم: (الراكعون الساجدون)؛ وكأنها صفة لازمة لهم؛ لا تراهم إلا ركعًا وسجدًا يعبدون ربهم بهذه الشعيرة العظيمة، هي لذتهم ونور حياتهم وقرة عيونهم وسعادة قلوبهم، ولذلك لا يقدمون عليها مالاً ولا ولدًا ولا مرادًا من مرادات النفوس؛ يلبون نداء الصلاة فور سماعهم للنداء، يحافظون على أدائها في جماعة مبكرين لها محافظين على إتقانها بأركانها وواجباتها وخشوعها· ويزيدون عليها بالسنن الرواتب، لا يفرطون فيها ويحافظون على النوافل الواردة من صلاة الضحى وقيام الليل، يحذرون الآخرة ويرجون رحمة الله عز وجل؛ كما قال الله عز وجل في وصفهم: (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً) (الفرقان:64)، وقال أيضاً عنهم: (كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) (الذريات:17)، وهم بذلك يرجون أن يكون لصلاتهم آثارها ومنافعها الدنيوية والأخروية·(1/112)
وإن من الإعداد للجهاد الاهتمام الشديد بالصلاة فرضها ونفلها؛ وذلك لأنها أم العبادات، وهي تنهى عن الفحشاء والمنكر، فضلاً عن كونها زادًا للمجاهد في طريقه الشاق الطويل؛ يستعين بها على ما يواجهه في جهاده من تكاليف ومشاق وقتل وقتال وهجر للمال والأولاد؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة:153). فمن لم يكن له زاد من الصلة بالله عز وجل فإنه لا يقوى على مواصلة الطريق، ولا على الثبات أمام الأعداء في ساحات الوغى·
ثم لا ننسى الحديث القدسي الذي مر بنا قريبًًا، والذي يبين أثر التقرب إلى الله عز وجل بالفرائض والنوافل في محبة الله عز وجل لمن هذه حاله· وأن العبد ما يزال يتقرب بذلك حتى يحفظه الله عز وجل في سمعه وبصره ويده ورجله؛ فلا تنطلق جوارحه إلا فيما يحب الله عز وجل· وكفى بحفظ الله تعالى حفظًا وقوة وثباتًا وجهادًا·
ويعلق سيد قطب رحمه الله تعالى على آية البقرة الآنفة الذكر: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ...) فيقول: "وحين يطول الأمد ويشق الجهد، قد يضعف الصبر، أو ينفد إذا لم يكن هناك زاد ومدد ومن ثم يقرن الصلاة إلى الصبر؛ فهي المعين الذي لا ينضب، والزاد الذي لا ينفد· المعين الذي يجدد الطاقة، والزاد الذي يزود القلب؛ فيمتد حبل الصبر ولا ينقطع· ثم يضيف إلى الصبر، الرضى والبشاشة، والثقة، واليقين·(1/113)
إنه لا بد للإنسان الفاني الضعيف المحدود أن يتصل بربه الأعلى، يستمد منه العون حين يتجاوز الجهد قواه المحدودة، حينما تواجهه قوى الشر الباطنة والظاهرة، حينما يثقل عليه جهد الاستقامة على الطريق بين دفع الشهوات وإغراء المطامع، وحينما تثقل عليه مجاهدة الطغيان والفساد وهي عنيفة، حينما يطول به الأمد وتبعد به الشقة في عمره المحدود، ثم ينظر فإذا هو لم يبلغ شيئًا وقد أوشك المغيب، ولم ينل شيئًا وشرارة العمر تميل للغروب، حينما يجد الشر نافشًا والخير ضاويًا، ولا شعاع في الأفق ولا معلم في الطريق ·· هنا تبدو قيمة الصلاة؛ إنها الصلة المباشرة بين الإنسان الفاني وربه القوي الباقي ·· إنها مفتاح الكنز الذي يغني ويقني ويفيض· إنها الانطلاقة من حدود الواقع الأرضي الصغير إلى مجال الواقع الكوني الكبير، إنها الروح والندى والظلال في الهاجرة، إنها اللمسة الحانية للقلب المتعب المكدود ·· ومن هنا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في الشدة قال: (أرحنا بها يا بلال)(135) ·· ويكثر من الصلاة إذا حزبه أمر ليكثر من اللقاء بالله·
إن هذا المنهج الإسلامي منهج عبادة· والعبادة فيه ذات أسرار· ومن أسرارها أنها زاد الطريق، وأنها مدد الروح، وأنها جلاء القلب، وأنه حيثما كان تكليف كانت العبادة هي مفتاح القلب لتذوق هذا التكليف في حلاوة وبشاشة ويسر ·· إن الله سبحانه حينما انتدب محمدًا صلى الله عليه وسلم للدور الكبير الشاق الثقيل ، قال له: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) (المزمل:1-5).(1/114)
فكان الإعداد للقول الثقيل، والتكليف الشاق، والدور العظيم هو قيام الليل وترتيل القرآن ·· إنها العبادة التي تفتح القلب، وتوثق الصلة، وتيسر الأمر، وتشرق بالنور، وتفيض بالعزاء والسلوى والراحة والاطمئنان"(136) ا·هـ·
2- الصيام:
والصوم من العبادات الشريفة المحبوبة إلى الله عز وجل، وهو يعود صاحبه الصبر وقوة الإرادة والاستعلاء على شهوات النفس، فضلاً عن كونها عبادة يحبها الله عز وجل ويثيب عليها ثوابًا لا يضاهيه ثواب عبادة أخرى؛ كما جاء في الحديث القدسي: (الصوم لي وأنا أجزي به)(137).
والمراد بالصوم صيام الفرض أولاً وإتقانه وحفظه من المبطلات، ثم صيام أيام النفل؛ وهي كثيرة منها صيام يومي الاثنين والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر، وصيام ست من شوال، ويوم عرفة، وعاشوراء؛ وكلها ورد في فضل صومها أحاديث صحيحة·
وأهمية الصوم في الإعداد للجهاد في أنه يقوي الإيمان ويزيد في التقوى التي تدفع العبد إلى امتثال الأوامر واجتناب المحرمات؛ قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183).
وقد ذكر الله سبحانه في صفات المجاهدين الذين ورد ذكرهم في سورة التوبة وأنه سبحانه قد اشترى منهم أنفسهم وأموالهم؛ ذكر من صفاتهم أنهم (السائحون)، وقد ذكر المفسرون أن من معانيها: الصائمين·
والمحافظة على نوافل الصلاة والصوم تحتاج من العبد مجاهدة وصبرًا، ويقينًا بمنافعهما العظيمة في الدنيا والآخرة، وقناعة بأهمية هذا الزاد في الإعداد للجهاد في سبيل الله تعالى· كما تحتاج إلى تعاون وتواص بين الدعاة، وأن تكون هناك البرامج العملية، والأجواء التربوية، والعيشة الجماعية التي تسهل على النفوس الأخذ بهذه العبادات ويكون فيها القدوات الصالحة التي تشد الناس بقولها وفعلها إلى هذه الأعمال وتحببها إلى النفوس·(1/115)
3- الأخذ بمحاسن الأخلاق وترك مساوئها :
جاء الإسلام بمحاسن الأخلاق، وأرشد الناس إليها وحثهم على التحلي بها، ونفَّرَهم من مساوئ الأخلاق وقبحها وذم أهلها· وإذا كان المسلمون بعامة مأمورين بمحاسن الأخلاق والاتصاف بها ومنهيين عما يضادها، فإن الأمر بالأخذ بها يكون آكد وأوجب في حق الدعاة والمجاهدين لأنهم في موطن القدوة والصلاح والإصلاح· فضلاً عن أن الدعوة والجهاد يواجه أهلهما من المواقف والابتلاءات ما يحتاجون معه إلى الخلق الحسن والسلوك الجميل الذي يرغب الناس في الخير، ويدفع الداعية والمجاهد إلى الصبر والتحمل، والتحلي بالأخلاق الطيبة في تعامله وتصرفاته في المواقف؛ كما أن في اشتراك الدعاة والمجاهدين في برامج وأعمال مشتركة مجالاً لأن يظهر بينهم خلاف في وجهات النظر وتقدير المواقف· فإذا لم يكن هناك تربية أخلاقية وسلوكٌ إسلاميٌ قد تربى عليه المجاهد من قبل وإلا فقد تظهر بعض الأخلاق السيئة الكامنة، والتي لم تتهذب من قبل، مما قد ينشأ عنه مفاسد من الافتراق والتناحر والتشاجر كما نسمع أحيانًا هنا وهناك·
وقد وصف الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم وهو قدوة الدعاة والمجاهدين بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4)، ولما سُئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (كان خلقه القرآن)(138). وقال صلى الله عليه وسلم: (خياركم أحاسنكم أخلاقًا)(139). وقال أيضاً: (إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)(140)، والأحاديث في فضل حسن الخلق كثيرة جدًا والأخلاق الفاضلة كثيرة·
وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى أصول الأخلاق الفاضلة وأنها تقوم على أربعة أركان فقال: "وحسن الخلق يقوم على أربعة أركان لا يتصور قيام ساقه إلا عليها: الصبر، والعفة، والشجاعة، والعدل·
فالصبر: يحمله على الاحتمال وكظم الغيط، وكف الأذى، والحلم والإناة والرفق، وعدم الطيش والعجلة·(1/116)
والعفة: تحمله على اجتناب الرذائل والقبائح من القول والفعل، وتحمله على الحياء؛ وهو رأس كل خير، وتمنعه من الفحشاء، والبخل والكذب، والغيبة والنميمة·
والشجاعة: تحمله على عزة النفس، وإيثار معالي الأخلاق والشيم، وعلى البذل والندى، الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته· وتحمله على كظم الغيظ والحلم؛ فإنه بقوة نفسه وشجاعتها يمسك عنانها، ويكبحها بلجامها عن النزغ والبطش· كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد: الذي يملك نفسه عند الغضب)(141). وهو حقيقة الشجاعة، وهي ملكة يقتدر بها العبد على قهر خصمه·
والعدل: يحمله على اعتدال أخلاقه، وتوسطه فيها بين طرفي الإفراط والتفريط؛ فيحمله على خلق الجود والسخاء الذي هو توسط بين الإمساك والإسراف والتبذير، وعلى خلق الحياء الذي هو توسط بين الذل والقحة، وعلى خلق الشجاعة، الذي هو توسط بين الجبن والتهور، وعلى خلق الحلم، الذي هو توسط بين الغضب والمهانة وسقوط النفس·
ومنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة···)(142) ا·هـ·
والأخلاق الفاضلة كثيرة أذكر منها في هذا المقام بعض ما هو لصيق بحياة الدعاة والمجاهدين، وما يكونون فيه أحوج إلى التحلي بها من غيرهم· ومن ذلك:
( أ ) الكرم والجود والبذل في سبيل الله:
وهذه الأخلاق تنشأ من الشجاعة التي أشار إليه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى بأنها من أصول الأخلاق الحسنة؛ لأن الشجاعة تحمل صاحبها على البذل والندى الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته؛ بداية من بذل المال والجاه والعلم وغيرها من وجوه البذل والجود، ونهاية ببذل النفس والروح التي هي أعز وأغلى ما يملك الإنسان في سبيل الله عز وجل·(1/117)
ولذلك فإن البخيل في العادة لا تجده إلا جبانًا خوارًا، والبخل والجبن قرينان، كما أن الكرم والشجاعة قرينان، وقد قرن النبي صلى الله عليه وسلم بين الجبن والبخل في دعائه حيث قال: (اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن)(143).
ولذلك يجب مجاهدة النفس على بذل ما تحبه، وتعويدها على الجود والإيثار وحب الخير للمسلمين، وبذل الجاه لهم بالمساعدة والشفاعة والسعي في حوائجهم· وهذا أمر يحتاجه المجاهد في سبيل الله لأن بيئة الجهاد بيئة بذل فكانت بالضرورة بيئة إيثار وتكافل وتعاون بين المجاهدين، وأجواء الجهاد والمجاهدين لا مكان فيها لأهل الأثرة والشح والأنانية والبخل·
ومما يساعد على تقوية خلق الكرم والجود ما سبق ذكره في أعمال القلوب من الإخلاص والزهد في الدنيا والرغبة فيما أعد الله لعباده المجاهدين المنفقين في الآخرة من النعيم والرضوان، ومما يساعد على ذلك أيضًا العيش في بيئات أهل العلم والزهادة والجهاد؛ لأن في رؤية القدوات من أهل السخاء والشجاعة والجود وطول صحبتهم أثرًا في التربية على هذا الخلق الكريم وغيره من الأخلاق، كما أن فيها التواصي والتذكير والحث على هذه الأخلاق·
كما أن في قراءة سير أهل الشجاعة والجود والكرم من سلف هذه الأمة وعلى رأسها سيرة سيد المجاهدين وبطل الأبطال وأكرم الخلق محمد - صلى الله عليه وسلم - دافعًا ومحفزًا للاقتداء بهم واتباع آثارهم·
( ب ) العفو والصفح وكظم الغيظ :
وردت في الكتاب والسنة نصوص كثيرة تحث على هذا الخلق الكريم وتمدح أهله وتعدهم بالثواب الجزيل في الآخرة· قال الله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران:133-134).(1/118)
وبالتأمل في هذه الآية نجد أن الله عز وجل قد ذكر قبلها آيات في غزوة أحد والاستعداد لها؛ وذلك في قوله: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (آل عمران:121). ثم بعد أن ذكر تسع آيات في هذه الغزوة انتقل السياق إلى نهي المؤمنين عن أكل الربا، ثم حثهم على المسارعة إلى الجنة بالإنفاق في سبيل الله، والعفو عن الناس وكظم الغيظ، ثم عاد السياق مرة أخرى إلى مواصلة الحديث عن غزوة أحد بقوله: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ...) (آل عمران: من الآية137) فما معنى توسط هذه الآيات بين آيات الحديث عن غزوة أحد؟
يجيب عن ذلك سيد قطب رحمه الله تعالى بقوله: "··· وإذن فهذه التوجيهات الشاملة ليست بمعزل عن المعركة؛ فالنفس لا تنتصر في المعركة الحربية إلا حين تنتصر في المعارك الشعورية والأخلاقية والنظامية، والذين تولوا يوم التقى الجمعان في "أحد" إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا من الذنوب· والذين انتصروا في معارك العقيدة وراء أنبيائهم هم الذين بدأوا المعركة بالاستغفار من الذنوب، والالتجاء إلى الله، والالتصاق بركنه الركين· والتطهر من الذنوب إذن والالتصاق بالله والرجوع إلى كنفه من عدة النصر، وليست بمعزل عن الميدان! واطراح النظام الربوي إلى النظام التعاوني من عدة النصر؛ والمجتمع التعاوني أقرب إلى النصر؛ من المجتمع الربوي· وكظم الغيظ والعفو عن الناس من عدة النصر، فالسيطرة على النفس قوة من قوى المعركة، والتضامن والتواد في المجتمع المتسامح قوة ذات فاعلية كذلك"(144).
والأصل في العفو وكظم الغيظ وكف الأذى هو خلق الصبر الذي عدَّه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى أحد الأركان الأربعة للأخلاق الفاضلة· وسيأتي الحديث عن خلق الصبر إن شاء الله تعالى بشيء من التفصيل عند الحديث عن المرتبة الرابعة من مراتب جهاد النفس·(1/119)
وإن التأكيد على إعداد المجاهدين وتربيتهم على هذا الخلق الكريم نابع من أن المجاهد في طريق الجهاد الطويل قد يتعرض لبعض الأذى والأخطاء من إخوانه المشاركين له في درب الجهاد، أو من إخوانه المسلمين الذين قد يؤذونه بكلام أو تخذيل أو غير ذلك؛ فإن لم يكن على مستوى من التربية الأخلاقية - ولا سيما خلق الحلم والعفو والصفح - فإنه قد لا يصبر على ما يرتكب في حقه من الأخطاء، وقد يتصرف بما لا يليق بالمسلم فضلاً عن المجاهد الذي يفترض فيه أنه قد استعلى على حظوظ نفسه وأغراضها، وجعل غضبه وانتقامه لله عز وجل وحده لا شريك له· ولا يخفى ما في الانتقام للنفس والانتصار لها من مفاسد على وحدة صف الدعاة والمجاهدين واجتماع كلمتهم، وأنه باب للإحن والأحقاد والشحناء.
وان التحمل والعفو وكظم الغيظ يحتاج إلى جهاد شديد مع النفس، وتعويدها على الصبر والإخلاص لله وحده؛ لأن الإخلاص من أسباب سلامة الصدر وخلو القلب من الغل والحقد؛ قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يغل عليهن قلب مسلم - وذكر منها - إخلاص العمل لله)(145).
كما أن في التربية الجماعية ورؤية القدوات من ذوي الحلم والأناة والعفو والصفح، والقراءة في سير المخلصين والعافين عن الناس الأثر الكبير في التحلي بهذه الأخلاق الفاضلة·
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "·· وفي الصفح والعفو والحلم من الحلاوة والطمأنينة، والسكينة وشرف النفس، وعزها ورفعتها عن تشفيها بالانتقام ما ليس شيء منه في المقابلة والانتقام"(146).
( ج ) الأمانة وحفظ العهد والوعد :(1/120)
لقد ذكر الله عز وجل أن من صفات المؤمنين المفلحين محافظتهم على أماناتهم، ورعايتهم لعهودهم؛ فقال في صدر سورة "المؤمنون": (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ) (المؤمنون:1-2) إلى قوله: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) (المؤمنون:8). وأمر بتأدية الأمانة في قوله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء: من الآية58)، ونهى عن خيانة الأمانة فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (الأنفال:27).
والأمانة إذا أطلقت فالمراد منها القيام بجميع التكاليف التي كلف الله عز وجل بها عباده؛ سواء ما يتعلق منها بحقوق الله تعالى أو ما يتعلق منها بحقوق الخلق وهذا هو المعنى الوارد في آية الأحزاب في قوله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (الأحزاب:72).
وأما الأمانة بمعناها الخاص فالمراد منها جميع ما يُستَأمن عليه العبد من أموال أو أسرار أو مسؤوليات محددة أو عهود ومواثيق، أو غير ذلك من الأمانات؛ وذلك بحفظها وعدم الاعتداء عليها، أو التفريط فيها، أو الغش فيها وعدم إتقانها·(1/121)
وحفظ الأمانة من الأخلاق الكريمة والمروءات النبيلة التي تدل على تقوى صاحبها وخوفه من الله وعفته ووفائه· ولذلك وجب الاهتمام بتقوية هذا الخلق في التربية بعامة، وفي الإعداد للجهاد بصفة خاصة؛ وذلك لما يتعرض له المجاهد من مواقف تتطلب منه إبرام عهد وعقد للقيام بمهام معينة في الجهاد، أو يستودع بعض الأسرار التي تتعلق بالجهاد، أو توكل إليه بعض أموال الجهاد قبضًا وإنفاقًا وحفظًا، وغير ذلك من المهمات التي تحتاج إليها الدعوة ويتطلبها الجهاد في سبيل الله·
كما يدخل في الأمانة تولية الأعمال للأكفاء وإسنادها إلى أهلها؛ فالولايات من الأمانات، وقد روى الإمام مسلم رحمه الله تعالى عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: (يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة)(147). وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة) قيل: وكيف إضاعتها· فقال: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله)(148).
ونحن اليوم في زمن ضاعت فيه الأمانات، وضعفت في قلوب كثير من الناس حتى عز المتصفون بها· لذا وجب التركيز عليها في التربية والإعداد للجهاد، واستخدام الوسائل الشرعية لتقويتها؛ وذلك بتقوية أعمال القلوب السابق ذكرها من الإخلاص والزهد في الدنيا وأعراضها وأموالها ورئاساتها، وإنشاء هم الآخرة في النفس والخوف من الحساب·(1/122)
ومما يدل على قلة الأمناء في هذا الزمان حديث حذيفة رضي الله عنه في الأمانة، والذي يشتكي فيه من نقص الأمانة ومنه قوله: (ولقد أتى عليّ زمان وما أبالي أيكم بايعت؛ لئن كان مسلمًا ليردنه عليَّ دينه، وإن كان نصرانيًا أو يهوديًا ليردنه علىَّ ساعيه· وأما اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلانًا وفلانًا)(149). وقوله بايعت: من البيع والشراء؛ وهو يشير إلى رفع الأمانة ونقصها في الناس· فإذا كان حذيفة رضي الله عنه يشكو من ندرة الأمناء في زمانه فكيف بزماننا اليوم؟! والمقصود من ذكر حديث حذيفة هو قوله: (وأما اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلانًا وفلانًا) وفيه الإشارة إلى تحري الأمانة في من يعاملون في بيع أو شراء أو يراد ائتمانهم على الأمانات·
المرتبة الثالثة
مجاهدة النفس على الدعوة إلى الهدى وتعليمه للناس
والدعوة واسعة ومجالاتها متعددة، لكن الحديث في هذه المرتبة سيكون عن الدعوة والبيان اللذَيْن يسبقان جهاد السنان،ويمكن تسمية هذا النوع من الجهاد بجهاد البيان وتبليغ الناس الدين الحق، وتعليمهم توحيد الله عز وجل وحقيقة العبودية، ومعرفة الله عز وجل بأسمائه وصفاته وكيف يعبدونه بمعرفة الأحكام العينية كأركان الإسلام وما لا تقوم إلا به، كما أن مما لا يتم البلاغ والبيان إلا به بيان سبيل الكافرين والمجرمين، وبيان ما يناقض التوحيد والإسلام الحق، وتعرية أهله للناس·(1/123)
إذن فإنه يمكن القول في هذه المرتبة بأنها مجاهدة النفس على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر·ولقد ذكر الله سبحانه في صفات المجاهدين الذين عقدوا البيعة مع الله عز وجل في قوله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ...) (التوبة: من الآية111) الآية. ذكر من بين هذه الصفات أنهم: (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ) (التوبة: من الآية112). والجهاد في حقيقته فرع عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الغاية من الجهاد - كما مر بنا - هي إعلاء كلمة الله عز وجل بعلو المعروف الأكبر وهو التوحيد وعبادة الله وحده، وإزهاق المنكر الأكبر وهو الشرك وأهله·
ولكن لما كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يبدأ بجهاد البيان والبلاغ للناس، وتعريفهم بحقيقة سبيل المؤمنين الموحدين، وحقيقة سبيل الكافرين والمجرمين، كان لزامًا قبل جهاد الكفار والمرتدين أن يكون جهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تأخذ الدعوة حظها من البيان والتعريف للناس بحقيقة دين الإسلام وشموله، وحقيقة المنافقين والمجرمين الذين يتسلطون على الناس ويستعبدونهم، ويستخدمون في ذلك جميع الوسائل الإعلامية التي يسيطرون عليها في نشر باطلهم وثقافتهم والتلبيس على الناس بأنهم أصحاب حق وشرعية، وتشويه سمعة الدعاة الصادقين، ووصفهم بالتطرف والسعي إلى الفتنة والفساد، والخروج على الشرعية!!
والحديث هنا منصب على جهاد الطلب في واقع لم يستبن فيه الناس سبيل المؤمنين ولا سبيل المجرمين، وإنما الوضع عندهم ملتبس أو منعكس؛ بحيث ينظرون إلى المجرمين على أنهم مصلحون وإلى المؤمنين على أنهم مفسدون·(1/124)
أما جهاد الدفع، فكما أشرت في أكثر من مرة إلى أنه في الغالب تكون فيه راية الكفر قد اتضحت، وكذلك راية المؤمنين الذين يدفعون العدو عنهم وعن المسلمين، فلا لبس حينئذ ولا فتنة، وأما جهاد الطلب فإن من يتخطى فيه جهاد البيان إلى جهاد السنان سيجد نفسه متورطًا في مواجهة إخوانه المسلمين الذين يعيشون في ظل الأنظمة الكفرية التي لُبِّس أمرها على الناس فلم يعرفوا المجاهدين ولم تصل إليهم حقيقة دعوتهم، وليس عندهم إلا ما يتلقونه من إعلام المجرمين من تضليل وعكس للحقائق· وأما إذا أخذت الدعوة حظها من البيان والبلاغ، ووصل الحق إلى الناس وزال اللبس عنهم واتسعت قاعدة الدعوة، وحصل الحد الأدنى من تربية الناس على المفاهيم الصحيحة لهذا الدين وبيان حقيقة المجرمين المتسلطين، وبيان كفرهم وفسادهم؛ فإنه حينئذ يستطيع المجاهدون إذا ملكوا الحد الأدنى من القدرة المادية والإعداد الإيماني أن يواجهوا عدوهم الذي قد عرَّفوا الناس حقيقته وعرَّفوا حقيقة سبيل المؤمنين وأهدافهم النبيلة، فإذا اختار أحد من الناس سبيل المؤمنين أو سبيل المجرمين فإنه يكون قد اختاره عن علم ورضى واختيار، فحينئذ يزول الحرج الشرعي من قتال الكفار ومن هو في صفهم؛ لأن البينة قد تمت، والحجة قد قامت، وحينها يهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة·
وعندما يُؤكد على أهمية العلم بسبيل المؤمنين وسبيل المجرمين وتعليمهم ذلك فإنه يُفترض سلفًا أن الدعاة والمجاهدين قد فهموا وعلموا سبيل المؤمنين والمجرمين قبل غيرهم؛ وإلا فكيف سيبينونه للناس وفاقد الشيء لا يعطيه· وقد مضى في المرتبة الأولى من مراتب جهاد النفس ذكر مجاهدتها على تعلم الهدى والدين الحق، ومعرفة ما يناقضه· وعلم أصحاب الحق بسبيل المجرمين ضروري في توقيه ومحاربته، والاندفاع الشديد لمجاهدته ومجاهدة أهله·(1/125)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "فإن كمال الإسلام هو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتمام ذلك بالجهاد في سبيل الله، ومن نشأ في المعروف لم يعرف غيره فقد لا يكون عنده من العلم بالمنكر وضرره ما عند من علمه، ولا يكون عنده من الجهاد لأهله ما عند الخبير بهم؛ ولهذا يوجد الخبير بالشر وأسبابه إذا كان حسن القصد عنده من الاحتراز عنه ومنع أهله والجهاد لهم ما ليس عند غيره·
ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم أعظم إيمانًا وجهادًا ممن بعدهم، لكمال معرفتهم بالخير والشر، وكمال محبتهم للخير وبغضهم للشر، لما علموه من حسن حال الإسلام والعمل الصالح، وقبح حال الكفر والمعاصي، ولهذا يوجد من ذاق الفقر والمرض والخوف أحرص على الغنى والصحة والأمن ممن لم يذق ذلك· ولهذا يقال: والضد يُظهِر حُسْنَه الضِدُ)(150).
وقريب مما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله تعالى قد أشار إليه سيد قطب رحمه الله عند قوله عز وجل: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام:55) وذلك بقوله: "إن هذا المنهج هو المنهج الذي قرره الله - سبحانه - ليتعامل مع النفوس البشرية ·· ذلك أن الله سبحانه يعلم أن إنشاء اليقين الاعتقادي بالحق والخير يقتضي رؤية الجانب المضاد من الباطل والشر، والتأكد من أن هذا باطل ممحض وشر خالص، وأن ذلك حق ممحض وخير خالص ·· كما أن قوة الاندفاع بالحق لا تنشأ فقط من شعور صاحب الحق أنه على الحق؛ ولكن كذلك من شعوره بأن الذي يحاده ويحاربه إنما هو على الباطل ·· وأنه يسلك سبيل المجرمين؛ الذي يذكر الله في آية أخرى أنه جعل لكل نبي عدوًا منهم: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ) (الفرقان: من الآية31). ليستقر في نفس النبي ونفوس المؤمنين أن الذين يعادونهم إنما هم المجرمون؛ عن ثقة، وفي وضوح، وعن يقين·(1/126)
إن سفور الكفر والشر والإجرام ضروري لوضوح الإيمان والخير والصلاح· واستبانة سبيل المجرمين هدف من أهداف التفصيل الرباني للآيات؛ ذلك أن أي غبش أو شبهة في موقف المجرمين وفي سبيلهم ترتد غبشًا وشبهة في موقف المؤمنين وفي سبيلهم· فهما صفحتان متقابلتان· وطريقان مفترقتان ·· ولا بد من وضوح الألوان والخطوط ··
ومن هنا يجب أن تبدأ كل حركة إسلامية بتحديد سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين؛ يجب أن تبدأ من تعريف سبيل المؤمنين وتعريف سبيل المجرمين، ووضع العنوان المميز للمؤمنين، والعنوان المميز للمجرمين، في عالم الواقع لا في عالم النظريات· فيعرف أصحاب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية من هم المؤمنون ممن حولهم ومن هم المجرمون بعد تحديد سبيل المؤمنين ومنهجهم وعلامتهم، وتحديد سبيل المجرمين ومنهجهم وعلامتهم؛ بحيث لا يختلط السبيلان ولا يتشابه العنوانان؛ ولا تلتبس الملامح والسمات بين المؤمنين والمجرمين·(1/127)
وهذا التحديد كان قائمًا، وهذا الوضوح كان كاملاً يوم كان الإسلام يواجه المشركين في الجزيرة العربية· فكانت سبيل المسلمين الصالحين هي سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه، وكانت سبيل المشركين المجرمين هي سبيل من لا يدخل معهم في هذا الدين ·· ومع هذا التحديد وهذا الوضوح كان القرآن يتنزل، وكان الله سبحانه يفصل الآيات على ذلك النحو الذي سبقت منه نماذج في السورة - ومنها ذلك النموذج الأخير - لتستبين سبيل المجرمين! ولكن المشقة الكبرى التي تواجه حركات الإسلام الحقيقية اليوم ليست في شيء من هذا ·· إنها تتمثل في وجود أقوام من الناس من سلالات المسلمين في أوطان كانت في يوم من الأيام دارًا للإسلام يسيطر عليها دين الله، وتحكم بشريعته ·· ثم إذا هذه الأرض، وإذا هذه الأقوام تهجر الإسلام حقيقة، وتعلنه اسمًا· وإذا هي تنكر لمقومات الإسلام اعتقادًا وواقعًا - وإن ظنت أنها تدين بالإسلام اعتقادًا! - فالإسلام شهادة أن لا إله إلا الله ·· وشهادة أن لا إله إلا الله تتمثل في الاعتقاد بأن الله - وحده - هو خالق هذا الكون المتصرف فيه، وأن الله - وحده - هو الذي يتقدم إليه العباد بالشعائر التعبدية ونشاط الحياة كله، وأن الله - وحده - هو الذي يتلقى منه العباد الشرائع ويخضعون لحكمه في شأن حياتهم كله ·· وأيما فرد لم يشهد أن لا إله إلا الله - بهذا المدلول - فإنه لم يشهد ولم يدخل في الإسلام بعد؛ كائنًا من كان اسمه ولقبه ونسبه· وأيما أرض لم تتحقق فيها شهادة أن لا إله إلا الله - بهذا المدلول - فهي أرض لم تدن بدين الله، ولم تدخل في الإسلام بعد· وهذا أشق ما تواجهه حركات الإسلام الحقيقية في هذه الأوطان مع هؤلاء الأقوام!
أشق ما تعانيه هذه الحركات هو الغبش والغموض واللبس الذي أحاط بمدلول لا إله إلا الله، ومدلول الإسلام في جانب؛ وبمدلول الشرك وبمدلول الجاهلية في الجانب الآخر ··(1/128)
أشق ما تعانيه هذه الحركات هو عدم استبانة طريق المسلمين الصالحين، وطريق المشركين المجرمين، واختلاط الشارات والعناوين، والتباس الأسماء والصفات، والتيه الذي لا تتحدد فيه مفارق الطريق!
ويعرف أعداء الحركات الإسلامية هذه الثغرة فيعكفون عليها توسيعًا وتمييعًا وتلبيسًا وتخليطًا حتى يصبح الجهر بكلمة الفصل تهمة يؤخذ عليها بالنواصي والأقدام! ·· تهمة تكفير "المسلمين"!! ويصبح الحكم في أمر الإسلام والكفر مسألة المرجع فيها لعرف الناس واصطلاحهم، لا إلى قول الله ولا إلى قول رسول الله! هذه هي المشقة الكبرى ·· وهذه كذلك هي العقبة الأولى التي لا بد أن يجتازها أصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل!
يجب أن تبدأ الدعوة إلى الله باستبانة سبيل المومنين وسبيل المجرمين ·· ويجب ألا تأخذ أصحاب الدعوة إلى الله في كلمة الحق والفصل هوادة ولا مداهنة، وألا تأخذهم فيها خشية ولا خوف، وألا تقعدهم عنها لومة لائم، ولا صيحة صائح: انظروا! إنهم يكفرون المسلمين! ··
··· أجل، يجب أن يجتاز أصحاب الدعوة إلى الله هذه العقبة، وأن تتم في نفوسهم هذه الاستبانة، كي تنطلق طاقاتهم كلها في سبيل الله لا تصدها شبهة، ولا يعوّقها غبش، ولا يميعها لبس؛ فإن طاقاتهم لا تنطلق إلا إذا اعتقدوا في يقين أنهم هم "المسلمون"، وأن الذين يقفون في طريقهم ويصدونهم ويصدون الناس عن سبيل الله هم المجرمون"(151) ا·هـ·(1/129)
وإن المتدبر لهديه صلى الله عليه وسلم في مكة وكيف واجه الكفار فيها ليجد أن جهاده صلى الله عليه وسلم في تلك الحقبة من الدعوة كان جهاد بيان وبلاغ وتربية طيلة العهد المكي،ولم يعرف عنه عليه الصلاة والسلام أنه واجه المشركين بالسلاح، ولم يأذن لأصحابه في ذلك· وما ذاك - والله أعلم - إلا لتأخذ الدعوة حظها من البلاغ والقوة والتربية للقاعدة الصلبة· ولقد واجه عليه الصلاة والسلام في سبيل ذلك من الأذى والتعذيب لأصحابه الشيء العظيم حتى إذا استبانت سبيل المؤمنين واستبانت سبيل كفار قريش المجرمين، واتضحت السبيلان دون لبس ولا غموض، أذن الله عز وجل لرسوله والمؤمنين بالهجرة ثم الجهاد بعد أن تهيأ لهم الأنصار والمكان الذي يؤون إليه ويحتمون به وينطلقون منه، ولعل هذه هي إحدى الحكم التي من أجلها أُمر المسلمون أن يكفو أيديهم في مكة·
وعن هذه المرحلة وضرورة بيان سبيل المؤمن وسبيل المجرمين قبل مصادمة الكفار يتحدث محمد قطب وفقه الله تعالى فيقول: "نحتاج أن نقف وقفات طويلة نتأمل فيها نشأة الجيل الأول؛ لأن فيها زادًا كاملاً لكل من أراد أن يدعو، أو يتحرك بهذا الدين في عالم الواقع؛ فقد صُنع ذلك الجيل على عين الله سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه لموسى عليه السلام: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) (طه: من الآية39)، ونشأ على يدي أعظم مرب في تاريخ البشرية، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان جيلاً فريدًا في تاريخ البشرية كله، يوجهه الله بالوحي، ويتابعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتربية والتوجيه، فاكتملت له كل وسائل النشأة الصحيحة في أعلى صورة، فأصبح كالدرس "النموذجي"، الذي يلقيه الأستاذ ليعلّم طلابه كيف يدرّسون، حين يئول إليهم أمر التعليم·(1/130)
ثم إن إرادة الله سبحانه وتعالى قد اقتضت أن يتم أمر هذا الدين على السنن الجارية - لا الخارقة - لحكمة أرادها الله، لكي لا يتقاعس جيل من الأجيال فيقول: إنما نصر الجيل الأول بالخوارق، وقد انقطعت الخوارق بعد رسول الله ،! وفيما عدا هذه الخارقة التي اختص بها أهل بدر، وفيما عدا ما يختص بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد جرت أمور الإسلام كلها على السنة الجارية؛ من استضعاف في المبدأ، وابتلاء وصبر وتمحيص، ثم تمكين على تخوف، ثم تمكين على استقرار وقوة، ثم انتشار في الأرض· لذلك فإن الدروس المستفادة من نشأة الجيل الأول هي دروس دائمة، لا تتعلق بالنشأة الأولى وحدها، وإنما هي قابلة للتطبيق في كل مرة تتشابه فيها الظروف أو تتماثل؛ لأنها سنن جارية، وليست حوادث مفردة عابرة لا تتكرر·
وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد وَجَّهَنَا في كتابه المنزل، لتدبر السنن الربانية ودراسة التاريخ - الذي هو في الحقيقة مجرى السنن في عالم الواقع - فنحن جديرون أن نعكف على دراسة النشأة الأولى؛ لنستخلص منها الدروس والعبر، ولتكون هاديًا لنا في كل تحرك نقوم به، ومحكًا لاستقامتنا على الطريق أو انحرافنا عنه ··· يقول سبحانه وتعالى: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام:55).
وكأن المعنى: نظل نفصل الآيات حتى تستبين سبيل المجرمين·
وورود هذا المعنى في آية مكية له دلالة واضحة، أو ينبغي أن تكون واضحة؛ فاستبانة سبيل المجرمين هدف مقصود، تبينه لام التعليل في قوله تعالى: (وَلِتَسْتَبِينَ). ونزول هذه الآية في الفترة المكية، معناه أن استبانة سبيل المجرمين هي من أهداف الدعوة، بل من لوازم الدعوة في الفترة الأولى التي يتم فيها نشأة الجماعة المسلمة·
فما الذي تحققه استبانة سبيل المجرمين للدعوة؟
إن استبانة سبيل المجرمين تتضمن أمرين:(1/131)
أولاً: بيان من هم المجرمون؟ وثانياً: بيان السبيل الذي يسلكونه، والذي من أجله أصبحوا مجرمين·
فمَن هم المجرمون؟ وما سبيلهم؟ وما علاقة تفصيل الآيات باستبانة سبيلهم؟
لقد فصّلت الآيات قضية الألوهية، وهي القضية الأولى والكبرى في القرآن كله، والسور المكية بصفة خاصة·
فصلت الآيات أنه إله واحد لا شريك له، ولا يمكن أن يكون له شركاء في الخلق ولا في التدبير، ولا في أي شأن من الشؤون، وظلت الآيات تتنزل مبينة صفات ذلك الإله، وتنفي عنه الشركاء حتى صار المعنى واضحًا تمامًا، سواء لمن آمن أو لمن كفر؛ فقد كان الكفار قد أصبحوا على بينة تامة مما يريد منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلموه ويؤمنوا به، حتى قالوا كما روى الله عنهم: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) (صّ:5)... وعلى هذ فقد انقسم الناس فريقين اثنين: فريق المؤمنين، وهم الذين آمنوا أنه إله واحد، فعبدوه وحده بلا شريك، واتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم، وفريق المجرمين وهم الذين أبوا أن يؤمنوا به، وأن يعبدوه وحده، وأن يتبعوا ما أنزله إليهم·
وإذن، فأين تقع قريش في هذا التقسيم؟
لقد كانت قبل تفصيل الآيات هي صاحبة الشرعية، وكان المؤمنون في نظر قريش، وفي نظر الناس أيضًا، خارجين على الشرعية، فما الموقف الآن بعد تفصيل الآيات؟ وبعد ما رفضت قريش أن تؤمن بالله الواحد، وتعبده وحده بلا شريك، وتتبع ما أنزل الله؟ هل بقيت هي صاحبة الشرعية، وبقي المؤمنون هم الخارجين على الشرعية؟ أم تبدل الحال عند بعض الناس على الأقل، فأصبحت قريش وأمثالها هم المجرمين، وأصبح أصحاب الشرعية هم المؤمنين؟!
إنها نقلة هائلة في خط سير الدعوة، أن يتبين الناس من هم المجرمون، وما سبيلهم، ويتبينوا في المقابل من هم الذين على الحق، وما هو سبيل الحق·(1/132)
ولقد كان الإشكال بالنسبة لقريش خاصة أنهم هم سدنة البيت، الذي يعظمه العرب جميعًا، فضلاً عن كونهم أصحاب ثروة وأصحاب جاه وحسب ونسب، فاجتمعت لهم بمقاييس الجاهلية كل مقومات الشرعية، ممتزجة ببقايا الدين المحرف الذي ينتسبون به إلى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ·· فلم تكن زحزحة الشرعية عنهم أمرًا هينًا، خاصة والخارجون على شرعيتهم ضعاف فقراء لا قوة لهم ولا مال، ولا سند من أحد من ذوي السلطان!
لقد كانت العقيدة الصحيحة وحدها هي التي يمكن أن تُجْليَهم عن شرعيتهم المدعاة، وتكشفهم على حقيقتهم؛ وهي أنهم مجرمون لا شريعة لهم، لرفضهم الإيمان بالله الواحد، وعبادته وحده بلا شريك، واتباع ما أنزل الله·
وهنا نسأل: لو أن المؤمنين في مكة دخلوا في معركة مع قريش، فهل كانت تستبين سبيل المجرمين؟ لو دخلوا المعركة وفي حس الناس أن قريشًا هي صاحبة الشرعية، وأن المؤمنين خارجون على الشرعية، فهل كان يمكن أن يستقر في خَلَد أحد - كما استقر في خَلَد الأنصار - أن القضية لها معيار آخر غير سدانة البيت، وغير المال والجاه، وكثرة العدد، ورصيد العرف، ورصيد التاريخ؟ وأن هذا المعيار هو: لا إله إلا الله ·· هو الإيمان بألوهية الله وحده بلا شريك، وما يترتب على ذلك من ضرورة اتباع ما أنزل الله، وأن هذا هو الحق الذي لا شيء بعده إلا الضلال، وأن هذه هي القضية الكبرى التي يُقاس بها كل شيء، وينبني عليها كل شيء؟
هل كان يمكن أن يصل الحق الذي يحمله المؤمنون إلى أفئدة فريق من الناس، كما وصل إلى أفئدة الأنصار، لو أن المؤمنين دخلوا معركة مع قريش، أم كان غبار المعركة يغشى على حقيقة القضية، وتنقلب القضية بعد قليل إلى قضية ضارب ومضروب، وغالب ومغلوب، وتصبح قضية "لا إله إلا الله" على هامش الصورة، إن بقي لها في حس الناس وجود على الإطلاق؟!
أظن الصورة واضحة ··· لقد كانت (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) هي سر الموقف كله!(1/133)
كانت هي التي أتاحت لقضية لا إله إلا الله - وهي قضية الرسل جميعًا من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم - أن تبرز نقية شفافة واضحة، غير مختلطة بأي قضية أخرى على الإطلاق، فتنفذ إلى القلوب التي أراد الله لها الهداية صافية من كل غبش، فتتمكن من تلك القلوب، ويرسخ فيها الإيمان، كما تنفذ إلى القلوب التي لم يرد الله لها الهداية، صافية من كل غبش، فيكفر أصحابها كفرًا لا شبهة فيه؛ كفرًا غير مختلط لا بالدفاع عن النفس، ولا الدفاع عن المال، ولا الدفاع عن الأمن والاستقرار؛ إنما هو الرفض الصريح الواضح للا إله إلا الله ·· وذلك توطئة لقدر قادم من أقدار الله، هو سنة من السنن الجارية: (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) (الأنفال: من الآية42).
هذا الوضوح الذي أتاحته للقضية (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ)، هو من مستلزمات الدعوة ·· فبغير استبانة سبيل المجرمين، على أساس "لا إله إلا الله"، واستبانة سبيل المؤمنين في المقابل، على ذات الأساس، لا يمكن أن تتسع القاعدة بالقدر المعقول في الزمن المعقول، وتظل الدعوة تراوح مكانها، إن لم يحدث لها انتكاس بسبب من الأسباب·
وحين وضحت القضية على هذا النحو من خلال (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ)، جاء الأنصار! وحين جاء الأنصار اتسعت القاعدة، وحدث تحول في التاريخ!"(152).(1/134)
والمقصود من كل ما سبق أن الأمر بالمعروف - وأوله المعروف الأكبر وهو التوحيد - والنهي عن المنكر - وأوله المنكر الأكبر وهو الشرك الأكبر - هو أمر ضروري يسبق الجهاد بالسنان، وهو من جهاد النفس على تبليغ وبيان ما تعلمته من الهدى والنور فتدعو الناس إليه، وما علمته من الشرك والضلال فتحذر الناس منه ومن سبيل أهله من المجرمين وهذا البيان ضروري لا يتم الجهاد بالسنان بدونه، وهو يحتاج إلى وقت وجهد وبذل وتضحية وصبر، وليس بالأمر الهين؛ لأن البيان محتاج إلى وسائل قوية للبلاغ تواجه وسائل المجرمين التي يصدون بها الناس عن سبيل الله تعالى ويلبسوا عليهم دينهم· كما تحتاج إلى التكاتف بين الدعاة وتوظيف طاقاتهم كل بحسب حاله وقدرته؛ فالخطيب على منبره، وإمام المسجد في مسجده وحيه، والكاتب والمؤلف بقلمه، والمحاضر في محاضرته، والشيخ والمربي مع طلابه في دروسهم·
كما لا ننسى وسائل الإعلام الحديثة وأثرها في توسيع قاعدة الدعوة وإيصالها إلى فئام كثيرة من الناس، وهذا يؤكد ضرورة تميز الدعاة والمجاهدين بمؤسساتهم الإعلامية المتميزة النظيفة التي يرى فيها الناس الحق ويسمعونه، ويرون القدوات والقادة من العلماء والدعاة الذين يصدرون عن مواقفهم ويستمعون توجيهاتهم، ويتبصرون بسبيل المجرمين فينفرون منها ومن أهلها·
كما لا ننسى دور المال في التعريف بسبيل المؤمنين وبسبيل المجرمين على نطاق واسع؛ فإذا لم يكن هناك ما يدعم الوسائل الإعلامية ويسهم في إنشائها فسيكون أثر البيان ضعيفًا· وهذا مما يعوق الدعوة ويؤخرها·(1/135)
ومما يلحق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأهميته في الإعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل التواصي بين المتآخين في طريق الدعوة والجهاد، وأن لا يشغلهم الأمر والنهي الموجهان للناس عن الأمر والنهي فيما بينهم؛ فإن كل بني آدم خطاء، ولا عصمة إلا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام· لذا فمن الطبيعي أن تظهر بعض الأخطاء والمنكرات في صفوف الدعاة ومن يعدون أنفسهم للجهاد· وحينئذ لا بد من الاحتساب بين الإخوان بأن يناصح بعضهم بعضًا، وأن يتواصوا بالحق والمعروف، وينبه المقصر في الحق على تقصيره، وينصح المتلبس بالباطل حتى يقلع عن باطله·
وبهذا التناصح والتواصي وإشاعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الدعاة والمجاهدين تقل المنكرات، ويفشو المعروف، وتقل المعاصي، وتكثر الطاعات، وتسود المحبة والألفة، وتتحقق بذلك أهم أسباب النصر على الأعداء؛ وهما طاعة الله عز وجل، والاجتماع والائتلاف؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال:45-46). ووحدة الصف واجتماع الكلمة من أعظم ما يستعد به للجهاد·(1/136)
وما دمنا بصدد الحديث عن الاجتماع والفرقة فإنه من المناسب في الحديث عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التركيز على خطورة الفرقة والاختلاف، وبخاصة من الدعاة والمجاهدين؛ فإنها من أعظم المنكرات التي تضيع بها ثمار الدعوة والجهاد، ولذلك يجب التصدي لها ومحاربتها، وأن يُسعى للتغلب على أسبابها والمراتب السابقة في الإعداد كفيلة بإذن الله تعالى - عندما يأخذ بها المربون - أن تقضي على جذور الفتنة والفرقة· وقد سبق الإشارة إلى أثر العلم وأعمال القلوب والأعمال الصالحة في القضاء على هذه الآفة الخطيرة التي تعوق الدعوة والجهاد وتؤخر نصر الله عز وجل· وهذا لا يعني أن لا يحصل اختلاف في وجهات النظر وبعض الاجتهادات بين الدعاة والمجاهدين، لكنها لا يجوز أن تؤدي إلى الافتراق والمنابذة، ولنا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة؛ حيث اختلفوا في بعض المسائل لكنهم بقوا صفًا واحدًا وقلوبًا متآلفة فبارك الله فيهم وفي عملهم وجهادهم ودعوتهم· فالاجتماع أصل، والمسائل التي قد يختلف عليها فروع، فلا يجوز بحال أن نضيع الأصل وهو الاجتماع لنحافظ على فرع، وإلا كنا كمن يهدم مصرًا ليبني قصرًا·
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء: من الآية59). وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة، وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية، مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين· نعم من خالف الكتاب المستبين، والسنة المستفيضة أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافًا لا يعذر فيه، فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع"(153).
المرتبة الرابعة(1/137)
جهاد النفس في الصبر على الدعوة وبيان الحق وأذى الخلق
وهذه المرتبة من جهاد النفس لا يستغني عنها المسلم في جميع مراتبه السابقة، وفي عمره كله· وبدون الصبر أو بضعفه لا يستطيع العبد أن يجاهد نفسه على تعلم الشريعة والتبصر في الدين، كما أنه يعجز عن العمل بما تعلمه، فضلاً عن أن يدعو إلى هذا الهدى ويبينه للناس، ويتحمل ما يلاقيه في سبيل ذلك· وإذا كان لا غنى عن الصبر لكل مسلم، فإنه في حق المجاهدين والذين يعدون أنفسهم للجهاد أشد وآكد؛ وذلك لبعد الشقة وطولها·
إذن فالصبر خلق عظيم رفيع الشأن لا بد من التزود به في أداء الطاعات واجتناب المحرمات، وفي مواجهة المصائب والمكروهات وفي مقاتلة الأعداء قال تعالى عن المتقين: (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ) (البقرة: من الآية177).
والحديث عن الصبر وأنواعه ومراتبه وفضله لا يتسع له المقام(154)، وليس هو غرضنا في هذه الدراسة· وإنما مقصودنا هو الإشارة إلى ضرورة توطين النفس على الصبر والتحلي به للاستعداد للجهاد في سبيل الله تعالى لأنه الزاد، وهو من أسباب النصر على الأعداء؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال:45-46)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران:200).(1/138)
وما أحسن ما علق به سيد قطب رحمه الله تعالى على هذه الآية إذ يقول: "والصبر هو زاد الطريق في هذه الدعوة· إنه طريق طويل شاق، حافل بالعقبات والأشواك، مفروش بالدماء والأشلاء، وبالإيذاء والابتلاء ·· الصبر على أشياء كثيرة: الصبر على شهوات النفس ورغائبها، وأطماعها ومطامحها، وضعفها ونقصها، وعجلتها وملالها من قريب! والصبر على شهوات الناس ونقصهم وضعفهم وجهلهم وسوء تصورهم، وانحراف طباعهم، وأثرتهم، وغرورهم، والتوائهم واستعجالهم للثمار! والصبر على تنفج الباطل، ووقاحة الطغيان، وانتفاش الشر، وغلبة الشهوة، وتصعير الغرر والخيلاء! والصبر على قلة الناصر، وضعف المعين، وطول الطريق، ووساوس الشيطان في ساعات الكرب والضيق! والصبر على مرارة الجهاد لهذا كله، وما تثيره في النفس من انفعالات متنوعة من الألم والغيظ، والحنق، والضيق، وضعف الثقة أحيانًا في الخير، وقلة الرجاء أحيانًا في الفطرة البشرية؛ والملل والسأم واليأس أحيانًا والقنوط! والصبر بعد ذلك كله على ضبط النفس في ساعة القدرة والانتصار والغلبة، واستقبال الرخاء في تواضع وشكر، وبدون خيلاء وبدون اندفاع إلى الانتقام وتجاوز القصاص الحق إلى الاعتداء! والبقاء في السراء والضراء على صلة بالله، واستسلام لقدره، ورد الأمر إليه كله في طمأنينة وثقة وخشوع ··
والصبر على هذا كله - وعلى مثله - مما يصادف السالك في هذا الطريق الطويل ·· لا تصوره حقيقة الكلمات· فالكلمات لا تنقل المدلول الحقيقي لهذه المعاناة· إنما يدرك هذا المدلول من عانى مشقات الطريق، وتذوقها انفعالات وتجارب ومرارات!(1/139)
والذين آمنوا كانوا قد ذاقوا جوانب كثيرة من ذلك المدلول الحقيقي· فكانوا أعرف بمذاق هذا النداء؛ كانوا يعرفون معنى الصبر الذي يطلب الله إليهم أن يزاولوه ·· والمصابرة ·· وهي مفاعلة من الصبر ·· مصابرة هذه المشاعر كلها، ومصابرة الأعداء الذين يحاولون جاهدين أن يفلوا من صبر المؤمنين ·· مصابرتها ومصابرتهم، فلا ينفد صبر المؤمنين على طول المجاهدة· بل يظلون أصبر من أعدائهم وأقوى: أعدائهم من كوامن الصدور، وأعدائهم من شرار الناس سواء· فكأنما هو رهان وسباق بينهم وبين أعدائهم، يدعون فيه إلى مقابلة الصبر بالصبر، والدفع بالدفع، والجهد بالجهد، والإصرار بالإصرار ·· ثم تكون لهم عاقبة الشوط بأن يكونوا أثبت وأصبر من الأعداء· وإذا كان الباطل يصر ويصبر ويمضي في الطريق، فما أجدر الحق أن يكون أشد إصرارًا وأعظم صبراً على المضي في الطريق!
والمرابطة: الإقامة في مواقع الجهاد، وفي الثغور المعرضة لهجوم الأعداء ·· وقد كانت الجماعة المسلمة لا تغفل عيونها أبدًا، ولا تستسلم للرقاد! فما هادنها أعداؤها قط، منذ أن نوديت لحمل أعباء الدعوة، والتعرض بها للناس· وما يهادنها أعداؤها قط في أي زمان أو في أي مكان وما تستغني عن المرابطة للجهاد حيثما كانت إلى آخر الزمان!"(155) ا·هـ·
والمواطن التي يحتاج الداعية والمجاهد أن يوطن نفسه فيها على الصبر كثيرة منها ما ذكره سيد قطب في النقل السابق، ومنها ما لم يذكره، ومن أهمها:
- الصبر على شهوات النفس ورغباتها وميلها إلى الراحة والترف والدعة·
- الصبر على ضعف النفس ونقصها وسرعة ملالها·
- الصبر على ضغوط الواقع وأذى الأعداء؛ فلا يتغلب اليأس ولا القنوط·
- الصبر على طول الطريق وشدة الابتلاء؛ فلا يدفع إلى العجلة والمواجهة قبل أوانها·
- الصبر على الناس وشهواتهم وجهلهم وسوء تصوراتهم، وانحراف طبائعهم، وإعراضهم عن الحق·(1/140)
- الصبر على إخوان الدعوة والجهاد، وما يطرأ عليهم من ضعف أو ما يصدر منهم من بعض الأذى والأخطاء؛ فلا يؤدي ذلك إلى الفرقة والتنازع·
- الصبر على انتفاش الشر وانتفاخ الباطل، ووقاحة الطغيان، وقلة الناصر، وضعف أتباع الحق وقلة حالهم، وطول الطريق ووساوس الشيطان في ساعات الكرب·
- الصبر على ضبط النفس في ساعات القدرة والانتصار والغلبة، واستقبال ذلك بالتواضع والشكر لله عز وجل، وبدون خيلاء أو تجاوز في القصاص الحق إلى الاعتداء·
- الصبر على البقاء في صلة مستمرة مع الله عز وجل في السراء والضراء، والاستعانة به وحده، ورد الأمر إليه كله في طمأنينة وثقة·
- الصبر على مفارقة الأهل والأولاد والأوطان للدعوة والجهاد·
- الصبر على تخذيل المخذلين وإرجاف المرجفين، وشبهات المشبهين·
- الصبر في ساحات الوغى على قتال الكافرين، والمصابرة والمرابطة في ذلك·(1/141)
والتربية على الصبر، وتوطين النفس عليه يحتاجان إلى جهد ومشقة وأخذ بالأسباب المعينة عليه· ومن أعظم الأسباب تقوية الصلة بالله عز وجل وكثرة ذكره وتسبيحه وكثرة العبادة· وهذا واضح من توجيه الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم في كتابه الكريم؛ حيث يغلب على الآيات التي يأمر فيها الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر أن تكون مقرونة بالأمر بالتسبيح والصلاة والاستغفار؛ قال الله عز وجل: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) (طه:130)، وقال سبحانه: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر:97-99)، وقال عز وجل: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) (الإنسان:24-26)، وقال تعالى: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ) (الطور:49)، وقال عز وجل: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) (قّ:39-40)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة:153). والآيات في هذا المعنى كثيرة·(1/142)
كما أن مما يعين على الثبات والصبر وعدم النكول والضعف ما ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في منزلة الصبر عن أنواع الصبر، وأن هناك شروطًا ثلاثة إذا حققها العبد في صبره حصل له الثبات، وإن تخلف واحد منها أو أكثر ضعف صبره وخذل· وملخص هذه الشروط ما يلي:
1- أن يكون الصبر بالله تعالى؛ وذلك بالتبرؤ من الحول والقوة والاعتراف بالضعف والهلكة لو وكل العبد إلى نفسه· وهذا ينبه على ضرورة الاستعانة بالله عز وجل وسؤاله الصبر والثبات؛ لأنه سبحانه هو المصبر والمثبت ولولاه لم يصبر الصابرون ولم يثبت المجاهدون·
2- أن يكون الصبر لله تعالى؛ بأن يكون الباعث على الصبر محبة الله عز وجل وإرادة وجهه، والتقرب إليه ورجاء ثوابه، لا لإظهار الشجاعة وقوة النفس والاستحماد إلى الخلق وغير ذلك من الأغراض·
3- أن يكون الأمر المصبور عليه مرضيًا لله تعالى ودائرًا مع مراده الديني وأحكامه الدينية صابرًا نفسه معها سائرًا بسيرها، يتوجه معها أين توجهت ركابها، وينزل معها أين استقلت مضاربها(156).
ونظراً لأهمية هذه الشروط في تحقيق الصبر وكماله كان لزامًا على من يعدون أنفسهم للدعوة والجهاد في سبيل الله عز وجل أن يعتنوا بهذه الأمور، ويبذلوا الأسباب العلمية والعملية في تقويتها في النفس، وأن يتواصوا بها؛ فما خذل عبد في موقف وضعف صبره فيه إلا بتخلف واحد أو أكثر من هذه الشروط·
تنبيه مهم:
ينظر كثير من الناس إلى أن ضعف الصبر لدى الداعية أو المجاهد إنما يتمثل في عدم تحمله لأعباء الطريق وأذى الأعداء مما يجعله يرجع إلى الوراء فيفتر أو يترك الدعوة والجهاد، أو يداهن الأعداء أو ييأس ويصيبه الإحباط·(1/143)
وهذا لاشك أنه ضعف في الصبر والتربية، لكن ضعف الصبر لا ينحصر في هذا فقط، وإنما هناك نوع آخر من ضعف الصبر في طريق الدعوة والجهاد قد ينظر إليه في الوهلة الأولى أنه شجاعة وإقدام وقوة وصبر، ولكنه في الحقيقة إنما نشأ من ضعف في الصبر واستعجال للنتائج· وتتجلى أهمية هذا الأمر بخاصة في واقعنا المعاصر الذي يشهد من بعض الدعاة حماسًا مفرطًا واستعجالاً ومسارعة لمواجهة الأعداء قبل الإعداد والاستعداد لذلك علمًا وعملاً ودعوة وعدة وعتادًا·
وقد ينظر إلى هذه الممارسات - كما أسلفت - على أنها قمة الشجاعة والصبر والتحمل، لكنها - والله أعلم - قد تكون في أغلبها إنما نشأت من عدم الصبر على طول الطريق واستكمال جوانب الإعداد· وزاد في إذكائها أذى الأعداء وما يواجهون به الدعاة من السجن والتعذيب والتقتيل(157).
وهنا يحسن الاستئناس بآية (كف اليد) في مكة؛ حيث أُمِرَ المسلمون بذلك لحكمة عظيمة، وأحسب أن المقام مناسب لذكرها والوقوف عند مدلولاتها، وما مدى الاستفادة منها في ضوء الصراع القائم اليوم مع الكفار والمنافقين في داخل بلدان المسلمين·(1/144)
يقول الله عز وجل: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (النساء:77)، وامتثل الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه أمر ربهم فكفوا أيديهم في مكة وصبروا على الأذى والتعذيب، وعلى كل الممارسات الاستفزازية، مع قدرتهم الفردية على الرد والانتقام، ووجه الرسول صلى الله عليه وسلم همه إلى البيان والبلاغ بدعوة التوحيد، وإلى التربية الجادة لمن دخل في الإسلام، مع الاستمرار على ضبط النفس، حتى أذن الله عز وجل لهم بعد ذلك في الهجرة ثم الجهاد· ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلموصبره وعدم عجلته في تلك الظروف العصيبة أسوة حسنة، وبخاصة من يعيش اليوم في ظل الأنظمة التي تدعي انتسابها إلى الإسلام في الظاهر بينما حقيقتها أنها عدوة للإسلام وأهله؛ حيث يحكم فيها بحكم الطاغوت ويوالى أعداء الله ويؤذى فيها أولياء الله عز وجل ودعاته المصلحون· فما أشبه واقع المصلحين اليوم في ظل هذه الأنظمة بواقع الرسول صلى الله عليه وسلم في ظل سلطة قريش، مع وجود فارق مهم يؤكد على ضرورة الصبر على الدعوة والبيان في هذا الزمان أكثر من أي زمان مضى؛ ذلك أن الأنظمة المعاصرة لا تعلن عداءها للإسلام صراحة ولا كفرها برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، بل تدَّعي الإسلام والإيمان زورًا وتلبيسًا· ولا يخفى ما في هذا من التلبيس والخداع الذي يحتاج فيه الدعاة والمجاهدون إلى وقت ليس بالقصير، وجهد ليس بالقليل ليصبروا ويكفوا أيديهم ويركزوا على إزالة هذا اللبس وبيان حقيقة(1/145)
الإيمان الحق، وحقيقة الكفر والنفاق، وحقيقة سبيل المجرمين مع الإعداد الشامل المذكور في المراتب السابقة·
ولو قفزت مرحلة البيان للناس والإعداد الإيماني للمجاهدين إلى مرحلة الصدام مع هؤلاء الزنادقة المعاصرين فلا يخفى على اللبيب المتتبع لسنن الله عز وجل، وسنن المرسلين، ورصيد التجارب في القديم والحديث ما نشأ وينشأ من جراء ذلك من المفاسد والفتن والشرور· وإنَّ السعيد لمن جنب الفتن واتعظ بغيره· ولعل من المفيد في هذا المقام أن نقف على بعض ما كتب حول آية (كف اليد) المذكورة آنفًا·
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: "كان المؤمنون في ابتداء الإسلام وهم بمكة مأمورين بالصلاة والزكاة، ولم تكن ذات النصب، لكن كانوا مأمورين بمواساة الفقراء منهم، وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين والصبر إلى حين، وكانوا يحترقون ويودون لو أمروا بالقتال ليشتفوا من أعدائهم، ولم يكن الحال إذ ذاك مناسبًا لأسباب كثيرة منها: قلة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم، ومنها كونهم في بلدهم وهو بلد حرام وأشرف بقاع الأرض، فلم يكن الأمر بالقتال فيه ابتداءً لائقًا؛ فلهذا لم يؤمر بالجهاد إلا بالمدينة لما صارت لهم دار ومنعة وأنصار"(158).(1/146)
ويعلق صاحب الظلال رحمه الله تعالى على هذه الآية بقوله: "إن أشد الناس حماسة واندفاعًا وتهورًا، قد يكونون هم أشد الناس جزعًا وانهيارًا وهزيمة عندما يجد الجد، وتقع الواقعة ·· بل إن هذه قد تكون القاعدة! ذلك أن الاندفاع والتهور والحماسة الفائقة غالبًا ما تكون منبعثة عن عدم التقدير لحقيقة التكاليف، لا عن شجاعة واحتمال وإصرار، كما أنها قد تكون منبعثة عن قلة الاحتمال؛ قلة احتمال الضيق والأذى والهزيمة، فتدفعهم قلة الاحتمال، إلى طلب الحركة والدفع والانتصار بأي شكل؛ دون تقدير لتكاليف الحركة والدفع والانتصار ·· حتى إذا ووجهوا بهذه التكاليف كانت أثقل مما قدَّروا، وأشق مما تصوروا· فكانوا أول الصف جزعًا ونكولاً وانهيارًا ·· على حين يثبت أولئك الذين كانوا يمسكون أنفسهم، ويحتملون الضيق والأذى بعض الوقت، ويعدون للأمر عدته، ويعرفون حقيقة تكاليف الحركة، ومدى احتمال النفوس لهذه التكاليف· فيصبرون ويتمهلون ويعدون للأمر عدته ·· والمتهورون المندفعون المتحمسون يحسبونهم إذ ذاك ضعافًا، ولا يعجبهم تمهلهم ووزنهم للأمور! وفي المعركة يتبين أي الفريقين أكثر احتمالاً؛ وأي الفريقين أبعد نظرًا كذلك!
وأغلب الظن أن هذا الفريق الذي تعنيه هذه الآيات كان من ذلك الصنف الذي يلذعه الأذى في مكة فلا يطيقه، ولا يطيق الهوان وهو ذو عزة· فيندفع يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأذن له بدفع الأذى، أو حفظ الكرامة· والرسول صلى الله عليه وسلم يتبع في هذا أمر ربه بالتريث والانتظار، والتربية والإعداد، وارتقاب الأمر في الوقت المقدر المناسب، فلما أن أمن هذا الفريق في المدينة، ولم يعد هناك أذى ولا إذلال· وبعد لسع الحوادث عن الذوات والأشخاص لم يعد يرى للقتال مبررًا، أو على الأقل لم يعد يرى للمسارعة به ضرورة!(1/147)
(فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ) (النساء: من الآية77).
وقد يكون هذا الفريق مؤمنًا فعلاً؛ بدليل اتجاههم إلى الله في ضراعة وأسى! وهذه الصورة ينبغي أن تكون في حسابنا؛ فالإيمان الذي لم ينضج بعد، والتصور الذي لم تتضح معالمه، ولم يتبين صاحبه وظيفة هذا الدين في الأرض؛ وأنها أكبر من حماية الأشخاص، وحماية الأقوام، وحماية الأوطان؛ إذ أنها في صميمها إقرار منهج الله في الأرض، وإقامة نظامه العادل في ربوع العالم، وإنشاء قوة عليا في هذه الأرض ذات سلطان، يمنع أن تغلق الحدود دون دعوة الله، ويمنع أن يحال بين الأفراد والاستماع للدعوة في أي مكان على سطح الأرض، ويمنع أن يفتن أحد من الأفراد عن دينه - إذا هو اختاره بكامل حريته - بأي لون من ألوان الفتنة ···"(159).
ثم عرج على بعض الحكم من كف اليد في مكة والأمر بالصبر فقال رحمه الله تعالى: "أما حكمة هذا فلسنا في محل الجزم بها؛ لأننا حينئذ نتألى على الله ما لم يبين لنا من حكمة، ونفرض على أوامره أسبابًا وعللاً قد لا تكون هي الأسباب والعلل الحقيقية· أو قد تكون، ولكن يكون وراءها أسباب وعلل أخرى لم يكشف لنا عنها، ويعلم - سبحانه - أن فيها الخير والمصلحة ·· وهذا هو شأن المؤمن أمام أي تكليف أو أي حكم في شريعة الله لم يبين الله سببه محددًا جازمًا حاسمًا، وبهذا الأدب الواجب نتناول حكمة عدم فرض الجهاد في مكة وفرضيته في المدينة ·· نذكر ما يتراءى لنا من حكمة وسبب ·· على أنه مجرد احتمال ·· وندع ما وراءه لله· لا نفرض على أمره أسبابًا وعللاً، لا يعلمها إلا هو ·· ولم يحددها هو لنا ويطلعنا عليها بنص صريح!(1/148)
إنها أسباب ·· اجتهادية ·· تخطئ وتصيب، وتنقص وتزيد، ولا نبغي بها إلا مجرد تدبر أحكام الله وفق ما تظهره لنا الأحداث في مجرى الزمان:
( أ ) ربما كان ذلك لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد في بيئة معينة لقوم معينين ··· ومن أهداف التربية في مثل هذه البيئات تربية النفس على الصبر وضبط النفس لأناس كانوا يثورون لأول وهلة ولا يصبرون على الضيم·
(ب) وربما كان ذلك لأن الدعوة السلمية أشد أثرًا وأنفذ في مثل بيئة قريش ذات العنجهية والشرف، والتي قد يدفعها القتال في مثل هذه الفترة إلى زيادة العناد وإلى نشأة ثارات دموية ····
(جـ) وربما كذلك لما يعلمه الله عز وجل من أن كثيرين من المعاندين هم بأنفسهم سيكونون من جند الإسلام المخلصين ···
( د ) وربما كان كذلك لقلة عدد المسلمين حينذاك وانحصارهم في مكة؛ فلو وقع القتال لمحيت الجماعة المسلمة وبقي الشرك···
(هـ) لم يكن هناك حاجة للقتال؛ فقد كانت الدعوة تصل إلى الناس ويبلغها الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا هو المطلوب في هذه الفترة ···)(160).
ويشير الأستاذ محمد قطب وفقه الله تعالى إلى بعض هذه الأحكام فيقول: "من أشد ما استوقفني في مسيرة الجيل الأول، ذلك الأمر الرباني للمؤمنين أن يكفّوا أيديهم في مرحلة التربية بمكة، وأن يتحملوا الأذى صابرين، وقد أشار الله إلى هذا الأمر في قوله تعالى، مذكرًا به: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) (النساء: من الآية77).
وكان بعض الصحابة رضوان الله عليهم قد سأل الرسول صلى الله عليه وسلم حين اشتد الأذى بالمؤمنين: ألا نقاتل القوم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (ما أُمرنا بقتالهم)(161).(1/149)
ولم يرد في النصوص - لا في الكتاب ولا في السنة - بيان لحكمة هذا الأمر الرباني، ومن ثم فالأمر متروك للاجتهاد لمعرفة الحكمة منه، وربما كان أيسر سبيل للتعرف على حكمته أن نفترض أن المؤمنين كانوا قد دخلوا في معركة مع قريش في ذلك الحين، فماذا كان يمكن أن يترتب على ذلك؟ ثم نتدبر الفوائد التي تحققت حين كفوا أيديهم ولم يدخلوا في معركة في ذلك الوقت·
أبسط ما يمكن أن يتصور من نتائج هذه المعركة غير المتكافئة أن تتمكن قريش من إبادة المؤمنين، وهم حينئذ قلة مستضعفة لا سند لها، فينتهي أمر الدعوة الجديدة في معركة واحدة أو عدة معارك متلاحقة، دون أن يتحقق الهدف، ودون أن يتعرف الناس على حقيقة الدعوة، ودون أن يكتب لها الانتشار·
ونفترض أن المعركة - على الرغم من عدم تكافئها - لم تؤد إلى إبادة المؤمنين كلهم، فثمة أمر آخر على غاية من الأهمية، يلفت انتباهنا بشدة، لاتصاله بما يجرى من أحداث في وقتنا الحاضر·
لمن كانت الشرعية في تلك المرحلة في مكة؟ لقد كانت في حس الناس جميعًا لقريش··!
وما وضع المؤمنين يومئذ؟ وضعهم أنهم خارجون على الشرعية··! ومن حق صاحب الشرعية - ولا شك - أن يؤدب الخارجين عليه!
وصحيح أن قريشًا تشتد في "التأديب" إلى حد الفظاظة والقسوة، وأن بعض الناس قد يتأذى لهذه الفظاظة، حتى ليحاول أن يبسط حمايته - أو جواره - على بعض المعذبين المستضعفين، ولكن يظل الأمر في حس الناس - من حيث المبدأ - أن قريشًا هي صاحبة الشرعية، وأن المؤمنين خارجون على الشرعية، وأن من حق صاحب الشرعية أن يؤدب الخارجين عليه!
فهل كان من مصلحة الدعوة أن يدخل المؤمنون يومئذٍ في معركة مع قريش، وهذا التصور هو السائد بين الناس؟!
كلا بالطبع! والآن فلننظر ماذا تم حين استجاب المؤمنون للأمر الرباني وكفوا أيديهم·
لقد تمت أمور كثيرة في الحقيقة ····· ومن خلال (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) تكونت النواة الأم التي صنعت التاريخ!(1/150)
ولو كان المؤمنون قد دخلوا في معركة مع قريش في مكة، لتأخر كثيرًا تكوّن النواة الأم، ولتغيرت كثيرًا صفاتها التي اكتسبتها، وذلك فوق الغبش الذي كان سيصيب قضية لا إله إلا الله، حين تتحول إلى قضية ضارب ومضروب،وغالب ومغلوب، ولتأخر كذلك التجمع الصلب حول النواة الصلبة المصقولة المتينة البناء ·· لقد تمت أمور على غاية من الأهمية في مسيرة الدعوة·
تم تحرير موضع النزاع، إن صح التعبير ·· إنه قضية "لا إله إلا الله" دون غيرها من القضايا ··
ليس الصراع الدائر بين قريش وبين المؤمنين على سيادة أرضية، ولا على السلطة السياسية (وقد عُرضت السلطة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأباها، وأصرَّ على لا إله إلا الله، والمؤمنون من جانبهم لم يتحركوا حركة واحدة تهدف إلى الاستيلاء على السلطة) ··
ليس الصراع على "شرف" سدانة البيت، ولا "وجاهة" خدمة الحجيج ··
ليس على القوة الاقتصادية التي تملكها قريش وحدها دون المؤمنين، وتحارب المؤمنين من خلالها بالحصار والتجويع، والمؤمنون لا يتعرضون لها من قريب ولا بعيد·
الصراع كله على القضية الكبرى التي هي - والتي يجب أن تكون دائمًا - القضية الأولى، والقضية الكبرى في حياة الإنسان؛ قضية من المعبودُ؟ ومن ثَمَّ من صاحبُ الأمر؟ من المشرِّع؟ من واضع منهج الحياة؟ قريش تريدها حسب أهوائها وخيالاتها وموروثاتها وأعرافها، والمؤمنون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدونها لله·
وتم تركيز الجهد وتوفيره لتربية القاعد الصلبة، التي ستحمل البناء، وتم تحرير قضية "الشرعية"، بتفصيل الآيات واستبانة سبيل المجرمين·
وتم أخيرًا اتساع القاعدة بالجنود الذين استضاءوا بالنار التي اكتوى بها أهل النواة الأم، فتجمعوا بقدر من الله، وبحسب سنة من سنن الله، حول تلك النواة، مضيفين إليها قوة حقيقية في الصراع·
ثم تم أمر آخر بالغ الأهمية كذلك؛ وهو التجرد لله·(1/151)
إن التجرد لله عنصر من أهم العناصر التي تحتاج إليها الدعوة، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، بالنسبة للقاعدة بصفة خاصة، وبالنسبة لجميع العالمين على وجه العموم·
ولقد تعمق التجرد لله في قلوب الصفوة المختارة، خلال فترة التربية في مكة، من خلال الآيات المنزلة من عند الله، تدعو إلى إخلاص العبادة لله، ومن خلال القدوة المباشرة في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، يعلمهم بالسلوك العملي كيف يكون إخلاص العبادة لله"(162).
والمقصود بيان أن الاستعجال في جهاد الكفار قبل الإعداد الإيماني المتمثل في التربية على العلم بالشرع ورسوخ العقيدة، والعمل الصالح، والدعوة والبلاغ للناس؛ فيه من المفاسد والشرور التي يتحتم على الدعاة والمجاهدين أن يدرءوها بالصبر وضبط النفس ومواصلة الإعداد الشامل حتى يهيئ الله عز وجل الظروف والأسباب التي يُمَكِّن الله بها لأهل الحق ويدمغ الباطل وأهله·
وإن الناظر اليوم في بعض الحركات المتعجلة التي أعلنت الجهاد قبل الإعداد والدعوة والبيان الكافية لتجلية سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين للناس، ليرى فتنًا ومفاسد قد ظهرت بسبب هذا الاستعجال وضعف الصبر على طول الطريق· وقد يتهم بعض المتحمسين لبدء الصدام مع الكفار والمنافقين إخوانهم الذين يرون التربية والإعداد والبدء بجهاد البيان قبل جهاد السنان بأنهم مخذلون، أو أنهم يريدون السلامة وعدم التعرض لأي شيء يؤذيهم ويكدر عليهم حياتهم·
وللرد على هذه التهمة يقال لهم: إن إخوانكم الذين يرون الصبر على جهاد النفس وجهاد البيان للناس إنما هم في جهاد ويشاركونكم الغاية والهدف، وهم بذلك يعدون العدة لجهاد الكفار وقتالهم في الوقت المناسب بعد الأخذ بأسباب النصر والتمكين· وهم بطرحهم هذا يؤدون واجب النصح لكم لما في قلوبهم من الشفقة عليكم، والحب والولاء لكم، ولكل من يهمه أمر هذا الدين ويسعى لنصرته؛ فهم يتواصون معكم بالحق والصبر وليسوا مخذلين·(1/152)
أما القول بأنهم يسعون بطرحهم هذا إلى تجنيب أنفسهم البلاء والعناء، فلا شك أن السلامة والعافية مطلوبان، لكن الابتلاء والتمحيص سنة من سنن الله عز وجل في عباده وبخاصة الدعاة منهم والمجاهدين، قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) (محمد:31). وقال تعالى: (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت:1-2).
وإن جهاد النفس، والبيان للناس ليس أمرًا هينًا· وأصحابه معرضون لأذى الأعداء وسجونهم وتعذيبهم؛ لأن جهاد البيان يقتضي بيان الحق، وفضح ما يضاده من الباطل، وهذا أمر لا يرضى به الكفار والمنافقون ومن ثم سيجندون وسائلهم المختلفة من تشويه، وترغيب وترهيب، وكل ما يستطيعون لإخماد صوت الحق وإسكات أهله· وهذا كله بلاء وفتنة يتعرض لها الدعاة الذين يعدون أنفسهم وأمتهم للجهاد، وليكون الدين كله لله·
وإن مما يؤسف له أن الخطاب الدعوي اليوم يفتقد إلى البلاغ المبين، بل إن كثيراً منه يعطي الشرعية للطاغوت إما ضمناً وهو الأكثر وإما تصريحاً؛ ولا يخفى ما في ذلك من التلبيس·
والواجب على رموز الدعوة أن يبينوا الحق والباطل للناس ويتجنبوا الخطابات السياسية التي تشوش وتلبس على الناس فهذا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه لما سأله النجاشي عن قولهم في المسيح كان البيان منه واضحًا صريحاً· وكان هذا الجواب منه يمكن أن ينهي وجود المسلمين معه في الحبشة· لكن جعفرًا وأصحابه رضي الله عنهم قد تعلموا من مدرسة النبوة أن لا تنازل عن الثوابت والمحكمات حتى في مرحلة السلم والاستضعاف·(1/153)
ويحسن بهذه المناسبة إيراد ما ذكره الإمام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في أهمية وفضل جهاد البيان، وذلك في كتابه العظيم "منهاج السنة" وهو يرد على شبهة الرافضي في أن عليًا رضي الله عنه قد سبق الشيخين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما في الشجاعة والجهاد في سبيل الله عز وجل· حيث أوضح - رحمه الله تعالى - عكس ذلك بقوله:
"ومما ينبغي أن يُعلم أن الشجاعة إنما فضيلتها في الدين لأجل الجهاد في سبيل الله، وإلا فالشجاعة إذا لم يستعن بها صاحبها على الجهاد في سبيل الله، كانت: إمّا وبالاً عليه، إن استعان بها صاحبها على طاعة الشيطان، وإما غير نافعة له، إن استعملها فيما لا يقرّبه إلى الله تعالى·
فشجاعة عليّ والزبير وخالد وأبي دجانة والبراء بن مالك وأبي طلحة، وغيرهم من شجعان الصحابة، إنما صارت من فضائلهم لاستعانتهم بها على الجهاد في سبيل الله؛ فإنهم بذلك استحقّوا ما حمد الله به المجاهدين·
وإذا كان كذلك، فمعلوم أن الجهاد منه ما يكون بالقتال باليد، ومنه ما يكون بالحجّة والبيان والدعوة·
قال الله تعالى: (وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) (الفرقان:51-52) فأمره الله سبحانه وتعالى أن يجاهد الكفّار بالقرآن جهادًا كبيرًا· وهذه السورة مكيّة نزلت بمكة، قبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل أن يُؤمر بالقتال، ولم يؤذن له· وإنما كان هذا الجهاد بالعلم والقلب والبيان والدعوة لا بالقتال· وأما القتال فيحتاج إلى التدبير والرأي، ويحتاج إلى شجاعة القلب، وإلى القتال باليد· وهو إلى الرأي والشجاعة في القلب في الرأس المطاع أحوج منه إلى قوة البدن· وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما مقدّمان في أنواع الجهاد غير قتال البدن·(1/154)
قال أبو محمد بن حزم: "وجدناهم يحتجون بأن عليًا كان أكثر الصحابة جهادًا وطعنا في الكفّار وضربا، والجهاد أفضل الأعمال· قال: وهذا خطأ، لأن الجهاد ينقسم أقساما ثلاثة: أحدها: الدعاء إلى الله تعالى باللسان· والثاني: الجهاد عند الحرب بالرأى والتدبير· والثالث: الجهاد باليد في الطعن والضرب· فوجدنا الجهاد باللسان لا يلحق فيه أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر ولا عمر· أما أبو بكر فإن أكابر الصحاب أسلموا على يديه، فهذا أفضل عمل، وليس لعليّ من هذا كثير حظ· وأما عمر فإنه من يوم أسلم عزّ الإسلام وعُبِدَ الله علانية، وهذا أعظم الجهاد· وقد انفرد هذان الرجلان بهذين الجهادين اللذين لا نظير لهما·
وبقي القسم الثاني، وهو الرأي والمشورة، فوجدناه خالصاً لأبي بكر ثم لعمر·
بقي القسم الثالث، وهو الطعن والضرب والمبارزة، فوجدناه أقل مراتب الجهاد ببرهان ضروري، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لاشك عند كل مسلم في أنه المخصوص بكل فضيلة، فوجدنا جهاده صلى الله عليه وسلم إنما كان في أكثر أعماله وأحواله بالقسمين الأوّلين من الدعاء إلى الله عز وجل والتدبير والإرادة، وكان أقل عمله الطعن والضرب والمبارزة، لا عن جبن، بل كان أشجع أهل الأرض قاطبة نفساً ويَدًا، وأتمهم نجدة، ولكنه كان يؤثر الأفضل فالأفضل من الأعمال، فيقدمه ويشتغل به، ووجدناه يوم بدر - وغيره - كان أبو بكر معه لا يفارقه، إيثارًا من النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك، واستظهارًا برأيه في الحرب، وأُنْسًا بمكانه، ثم كان عمر ربما شُورك في ذلك، وقد انفرد بهذا المحل دون عليّ ودون سائر الصحابة، إلا في الندرة·(1/155)
ثم نظرنا مع ذلك في هذا القسم من الجهاد، الذي هو الطعن والضرب والمبارزة، فوجدنا عليًا لم ينفرد بالسيوف فيه، بل قد شاركه فيه غيره شركة العيان، كطلحة والزبير وسعد، ومن قُتل في صدر الإسلام، كحمزة وعبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب ومصعب بن عمير، ومن الأنصار سعد بن معاذ وسماك بن خرشة - يعني أبا دجانة - وغيرهما، ووجدنا أبا بكر وعمر قد شاركاه في ذلك بحظ حسن، وإن لم يلحقا بحظوظ هؤلاء، وإنما ذلك لشغلهما بالأفضل مع ملازمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومؤازرته في حين الحرب، وقد بعثهما على البعوث أكثر مما بعث عليًا، وقد بعث أبا بكر إلى بني فزارة وغيرهم، وبعث عمر إلى بني فلان، وما نعلم لعليّ بعثا إلا إلى بعض حصون خيْبر ففتحه· فحصل أرفع أنواع الجهاد لأبي بكر وعمر، وقد شاركا عليًا في أقل أنواع الجهاد، مع جماعة غيرهم"(163).
إذن فأمر الإعداد للجهاد بالإيمان والبيان ليس أمرًا سهلاً إذا أخذ بعزم وجد· وكم يحتاج من التضحيات والصبر والمصابرة وطول النفس· وقد يتعرض أهله فيه من البلاء والقرح والشدائد ما قد يفوق ما يتعرض له المجاهد في ساحات الوغى من المهالك والمتالف·
ونظرة سريعة إلى ما تعرض إليه الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين في مكة من البلاء والتعذيب والحصار والتجويع والتشريد تعطينا دليلاً على أن جهاد التربية والإعداد والبلاغ والبيان يحتاج إلى صبر وتضحية واستعلاء على حب الراحة والسلامة لا يقل عن الصبر على قتال الأعداء·
إذن فالقول بأن الدعوة إلى الصبر على إعداد النفوس للجهاد وبيان الحق للناس، وعدم العجلة في منازلة الكفار قبل أوانها؛ بأنه هروب من الشدائد وإيثار للسلامة ليس صحيحًا ولامقبولاً لما قدمنا·
نسأل الله عز وجل العافية في ديننا ودنيانا وعاجل أمرنا وآجله·
تعقيبات(1/156)
في ختام هذه الرسالة المتعلقة بالتربية الجهادية أورد بعض التعقيبات المهمة المتعلقة بالإعداد للجهاد أُضمن بعضها تتمات لمسائل لم تأخذ حظها من الإيضاح مع القناعة بأهميتها· وأضمن بعضها الآخر استدراكًا لبعض المسائل التي لها علاقة بالإعداد لكنني غفلت عن ذكرها في زحمة المسائل الأخرى·
التعقيب الأول : تداخل مراتب جهاد النفس بعضها مع بعض :
إن ما ذكر من جوانب الإعداد ومراتبه (العلم والعمل والدعوة والصبر) لا يعني البقاء في مرتبة بحيث لا ينتقل منها إلى التي تليها حتى تستكمل التي قبلها· إن هذا غلط وفهم خاطئ لتحقيق مراتب الإعداد· والمطلوب الأخد بالمراتب كلها وتكميل ما لم يكمل منها؛ فمجاهدة النفس وإعدادها بالتعلم والتبصر في الدين لا يعني ترك مجاهدتها بالعمل الصالح، ومجاهدتها بالدعوة إلى الهدى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على ذلك كله· وكلما علم العبد شيئًا من دين الله تعالى جاهد نفسه للعمل به والدعوة إليه والصبر على العمل والدعوة معًا· والمسلمون اليوم - وبخاصة من يهمهم أمر هذا الدين - لديهم رصيد لا بأس به من العلم يبدأون به الإعداد ويُحَوِّلون فيه هذا العلم إلى عمل ودعوة؛ أي إنهم لا يبدأون الإعداد العلمي وهم خلو منه؛ بل إن لديهم من العلم قدرًا جيدًا، وحينها يطالبون بالجهاد للعمل بهذا العلم وتكميل ما ينقصهم من العلم العيني لو وجد نقص في ذلك· والمقصود أن المربين لن يجدوا أنفسهم أمام أفراد لا علم عندهم، بل العلم موجود والحمد لله، والمطلوب تكميله في نفس الوقت الذي يحصل فيه المجاهدة بالعمل به والدعوة إليه·
التعقيب الثاني : تفاوت المتربين في تحصيل مراتب الجهاد، والعناية بالمبرزين منهم :(1/157)
يتفاوت المتربون الذين يُعدون للجهاد في الأخذ بهذه المراتب وتكميلها وإتقانها، وليس مطلوبًا أن يكونوا في مرتبة واحدة، وإنما المطلوب التأكيد عليها والسعي لمجاهدة النفس في الأخذ بها· مع التأكيد على ضرورة العناية بطائفة من الذين يعدون أنفسهم للجهاد، والذين تظهر عليهم علامات الصدق والجد والإخلاص والهمة العالية لتكميل هذه المراتب؛ فهؤلاء وأمثالهم ينبغي أن يكون لهم شأن آخر في الإعداد، وأن لا يتسامح معهم كما يتسامح مع غيرهم، وإنما يطلب منهم تكميل هذه المراتب قدر الإمكان؛ حتى يكونوا على قدر من العلم بالشريعة والواقع يؤهلهم لتربية أنفسهم والتأثير على الناس، ويكونوا على قدر كبير من: العمل الصالح، والإخلاص، والصدق، والتوكل على الله عز وجل، والزهد في الدنيا، والتقرب إلى الله عز وجل بالطاعات فرضها ونفلها؛ حتى يتحملوا الشدائد ويكونوا قدوات لغيرهم في العلم والعمل، ويكونوا على قدر كبير من الدعوة والتأثير في الناس وبيان الحق والباطل لهم، وعلى قدر عظيم من الصبر يتحملون به ما يواجههم من الأذى والابتلاء من الكفار والمنافقين وأصحاب القلوب المريضة·
وهذه الفئة من الدعاة والمجاهدين ضرورية لأنها بمثابة القاعدة الصلبة التي يثبتها الله عز وجل عند الشدائد، ويثبت بها الصف الإسلامي من التفكك والإضطراب عند النوازل· وهذا هو الذي قام به النبي صلى الله عليه وسلم أثناء الدعوة والإعداد في العهد المكي؛ حيث قام بتربية هذه الفئة من المسلمين ورباها بالعلم والعمل والتجرد والإخلاص والصبر والتوكل على الله عز وجل، فصلب عودها وثبتت أمام البلاء والمحن، وكانت القاعدة الصلبة التي قام عليها سوق الدعوة والجهاد، وفتح الله عز وجل بها الدنيا، وحمى بها بيضة الإسلام من الأعداء المتربصين·(1/158)
وعن أهمية إعداد القاعدة الصلبة يقول الدكتور/ عبدالله القادري حفظه الله تعالى: "كثير من الناس يستجيبون لنداء الحق ولتطبيق هذا الدين على أنفسهم فينفذون أوامر الله ويجتنبون ما نهى عنه، وقد يخلطون العمل الصالح بآخر سيء، ولكن قليل هم الذين يستجيبون لهذا الدين فيطبقونه على أنفسهم، ويحملون غيرهم من قريب أو بعيد على تطبيقه بالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبذل المال والجاه والمنصب في سبيل الله وتقديم النفس في ساح الوغى لجهاد أعداء الله وإعلاء كلمة الله·
هذا القليل يجب أن يأخذ حظًا أوفر من الدعوة والتوجيه والتزكية والتطهير والإعداد لتحمل أعباء الدعوة وتكاليفها، ويعنى به أكثر من غيره؛ لأن هذا الصنف هو الذي يثبت وقت الشدائد والمحن، وهو الذي يلتف حوله من لم يبلغ مثله في إيمانه وتحمله· ولولا أن الله تعالى يهيئ لعامة الناس رجالاً يلتفون حولهم ويقتدون بهم ويرون فيهم ما يجذبهم إلى الثبات معهم لما كان لأولئك العامة من شأن يذكر، بل لكانوا في مهب الرياح أينما تميلها تمل·(1/159)
لذلك كان من الواجب على الدعاة أن يختاروا ذوي المواهب العالية في العلم والعمل والذكاء والقدرة على الاستيعاب، والصبر والجلد والقيادة؛ يولوهم من العناية ما يأخذ بأيديهم إلى المستوى اللائق بهم، ويدربوهم على تحمل مسؤولياتهم؛ كلٌّ فيما يظهر أنه أنفع فيه من غيره، وذلك هو الذي يضمن بتوفيق الله استمرار صفوف الدعاة إلى الله وقادتها؛ لأن القائد الواحد يربي قادة، والصف يربي صفوفًا؛ كلما ذهب قائد حل قائد آخر محله، وكلما ذهب صف تقدم إلى مكانه الصف الذي يليه، كما يضمن بقاء الروح الجهادية في النفوس ··· وهذا الإعداد يكون بتقوية الإيمان، وتزكية الأخلاق الفاضلة، وكثرة الطاعة لله ولرسوله، والبعد عن المعصية، والتوعية الكاملة والفقه في الدين ومعرفة مشكلات العصر وحلها، والتدريب العملي على البذل والإنفاق وإيثار الدعوة الإسلامية بالنفس والنفيس، والإخلاص الكامل والتجرد لله وحده·
وهذا الإعداد مع صعوبته وطول مدته التي تحتاج إلى صبر وجلد خير من العجلة في جمع جماهير ذوي عواطف تبهج النفس وتنعشها العواطف ···"(164).
وعن ضرورة تكوين القاعدة الصلبة والاعتناء بها ودورها في حماية الدين وأهله يتحدث سيد قطب - رحمه الله تعالى - عن القاعدة الصلبة من المهاجرين والأنصار فيقول: "إن هذه القاعدة الصلبة من المهاجرين الأوائل هي التي انضم إليها السابقون من الأنصار، ليكونوا القاعدة في المدينة - قبل بدر - وليكونوا هم الحراس الأقوياء الأشداء في فترة التخلخل التي أعقبت النصر في بدر، بالتوسع الأفقي الذي جاء بأعداد جديدة لم تنضج بعد، ولم تتناسق مع القاعدة في مستواها الإيماني والتنظيمي·
وأخيراً فإن القاعدة الصلبة التي اتسعت أبعادها قبيل الفتح، حتى صارات تتمثل في المجتمع المدني بجملته، هي التي حرست الإسلام وصانته من الهزات بعد الفتح ثم من الهزة الكبرى بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتداد الجزيرة عن الإسلام·(1/160)
··· إنه ابتداء يجب توجيه الحرص كله لإقامة القاعدة الصلبة من المؤمنين الخلص، الذي تصهرهم المحنة فيثبتون عليها؛ والعناية بتربيتهم تربية إيمانية عميقة تزيدهم صلابة وقوة ووعياً ···"(165).
التعقيب الثالث : الحذر من اختراق المنافقين للصف المسلم، وتبوّئهم للمراتب العليا فيه :
وهو مرتبط بما قبله؛ وذلك من جهة التأكيد على ثمرة مهمة من ثمار الإعداد القوي للقاعدة الصلبة؛ ألا وهي تحصين الصف المسلم أثناء الإعداد وأثناء الجهاد من المنافقين الذين يظهرون الصلاح وحب الدعوة والجهاد حتى يخترقوا صفوف الدعاة والمجاهدين ويصلوا إلى مستويات متقدمة في التوجيه والتأثير، وهدفهم من الاختراق أمور خطيرة من أهمها: زعزعة الصف من داخله، وبث الشقاق والفرقة بين الدعاة والمجاهدين، ومن أخطر أهداف الاختراق: الاطلاع على خطط الدعاة وأسرار المجاهدين وإيصالها إلى أوليائهم من الطواغيت والكفرة حتى يقطعوا على الصف المسلم أهدافه ويعرضوا أهله للبلايا والمحن·
لذا وجب على المتصدرين للدعوة والإعداد والتربية الحذر الشديد من هؤلاء المنافقين الذين يتربصون بالمسلمين الدوائر؛ قال الله عز وجل في التحذير منهم ومن غيرهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) (النساء: من الآية71).
وإن المتأمل في تاريخ المسلمين في القديم والحديث ليرى أنه ما من مأساة و انتكاسة أو محنة وقعت بالصف المسلم إلا وكان للمنافقين يد فيها، ولذا فإن من أهم ما ينبغي الحرص عليه في الإعداد للجهاد الحذر من المنافقين وتحصين الصف من اختراقهم·(1/161)
ومن أهم وسائل التحصين الاهتمام بالقاعدة الصلبة، وحسن إعدادهم وتربيتهم ولو طال الزمان، وأن لا يصل إلى مستوى التوجيه والإعداد إلا من صهرته التربية وظهر صبره وفضله وتقواه وصدقه، وأن يحرص على التربية الجادة ودقة الاختيار، والحذر ممن كان له تاريخ في النفاق ولو صلح بعد ذلك، وكذلك الحذر من كل من ارتفع اسمه فجأة في أوساط الدعاة، ومعرفة السبب في اشتهاره هل هو عمله أم أن جهات أخرى تولت هذه المهمة؟! فينبغي الحذر من أمثال هؤلاء فلا تسند إليهم مسؤوليات مهمة في الدعوة والإعداد·
وعن خطر المنافقين في واقعنا المعاصر وضرورة تحصين الصف منهم يقول أحد الدعاة الناصحين: "مرت فترات من عصرنا الحديث اشتد فيها عود الجماعات الإسلامية، وقويت شوكتها، وعلا أمرها، وتحقق لها بعض أهدافها في أكثر من بلد من عالمنا الإسلامي الكبير·
وفي مثل هذه الأجواء يستغل المنافقون مبدأ التوبة إلى الله، فيترددون على المساجد، ويشهدون حلقات الذكر، ويكتبون المقالات التي يعربون فيها عن ندمهم على ما اقترفته أيديهم من ذنوب ومعاص، ويتبرأون من ماضيهم الأسود، ويشنون حربًا ضروسًا على رفاق دربهم القدامى من الفاسدين والعلمانيين·
ويرحب بتوبتهم الذين يأخذون الأمور على ظواهرها من الدعاة وبعض قادة الجماعات، وإذا قيل لهم: احذروا من هؤلاء الوافدين الجدد، ولا تسندوا إليهم مناصب قيادية، وتذكروا ظهور النفاق بعد غزوة بدر الكبرى، ولا تنسوا أنَّ تفشي هذه الظاهرة يكثر بعد انتصارات الدعاة والجماعات الإسلامية؛ قالوا: لم نكلف بالبحث عن نوايا الناس وما تخفيه قلوبهم، والذي نعلمه أن التوبة تجب ما قبلها، والله جل وعلا يغفر الذنوب جميعًا، إنه هو الغفور الرحيم·(1/162)
ونحن لا نطلب من إخواننا الدعاة القادة البحث عن نوايا الناس، وما تكنه قلوبهم، ولا نريد منهم طرد من جاء تائبًا مستغفرًا؛ ولكن الذي نريده ونؤكد عليه ألا تسند لهؤلاء التائبين وظائف قيادية لأن علمهم الشرعي وماضيهم لا يسمحان بذلك·
وفي خضم هذه الأنشطة السياسية التي تنقصها التربية والإعداد تم اختراق معظم الجماعات الإسلامية من قبل أشخاص مشبوهين يقولون ما لا يفعلون، ويظهرون ما لا يبطنون، أو من قبل أشخاص مترفين يظنون أن الدعوة إلى الله، والعمل من أجل تحكيم شريعته خالية من التمحيص والابتلاء وخشونة العيش ··· وإذا كانت معارك الموحدين الدعاة مع الطغاة دائمة ومستمرة، وشعار الحذر يجب أن يستمر مرفوعاً، فهناك مراحل تتضاعف فيها الحاجة إلى الحذر، ومنها هذه المرحلة التي مضى عليها أكثر من عقدين، وشهدنا فيها سقوط أصنام متعددة: شهدنا سقوط الصنم القومي، والصنم الثوري الاشتراكي، وشهدنا سقوط رائد القومية والتقدمية والوحدة، الصنم الذي عبده كثير من الجماهير من دون الله·(1/163)
كفر الناس بهذه الأصنام كلها، وأيقنوا أن بعدهم عن الإسلام هو سبب هذه الهزائم المتكررة، وعاد الشباب إلى دين الله أفواجاً، وأصبحت الصحوة الإسلامية حديث الشرق والغرب، وقويت شوكة الجماعات الإسلامية، وكثر أنصارها ··· إن قوة الدعاة والجماعات الإسلامية مسألة تهدد كل طاغية وتنذر بزواله، فلا بد من تسخير جميع إمكاناتهم وتنسيق جهودهم من أجل وأد الصحوة في مهدها· ومن الأساليب التي يستخدمونها كما قلنا فيما مضى زرع جندهم داخل الصف الإسلامي، والعمل على ضرب هذا الصف من داخله، وهذه هي المرحلة التي تتضاعف فيها الحاجة إلى الحذر واتباع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان يختار أمراءه وولاته من الصحابة الذين تنطبق عليهم الشروط الشرعية التي ينبغي أن تتوفر في أهل الحل والعقد، وكانت الأفضلية للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار رضوان الله عليهم، واستمر هذا النهج بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما كان في عهد أبي بكر رضي الله عنه وفي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذين كانا يتشددان في اختيار الولاة(166) وكانا في شخصيهما قدوة حسنة لكل مسؤول ··· أما القواعد والأسس التي يتم على أساسها اختيار المسؤولين فثابتة· وأهمها: الأمانة والتقوى، وأن لا يكون المسؤول ممن يسعى ويعمل من أجل الوصول إلى المنصب"(167).
ومن أجل هذا كان صف الصحابة رضي الله عنهم هو الصف المحصن الذي لم يخترق؛ وما ذاك إلا لكونهم القاعدة الصلبة الذين تعهدهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالتربية والتعليم وصقلتهم الشدائد والمحن؛ ولكونهم يملكون الموازين الشرعية الدقيقة في وزن الرجال، ومن أجل ذلك صعب على المنافقين اختراقهم، حيث لم يعرف أن أحداً من المنافقين قد أسندت له مهمة قيادية سواء في السلم أو الحرب·
التعقيب الرابع : يقبل في مستويات التربية الجهادية من عموم المجاهدين ما لا يقبل من قادتهم :(1/164)
إن المراتب السابقة من مراتب الإعداد للجهاد في سبيل الله لا تعني أن تتوفر بتمامها في كل الأفراد، ولكن المطلوب توفرها بقوة في القاعدة الصلبة الذين هم قادة الناس وقدواتهم، وهم أصحاب التوجيه والتربية·
أما من سواهم فإنه يقبل منهم الحد الأدنى، ولا يتشدد معهم في توفر كل صفات المجاهدين فيهم· نعم لو اكتملت هذه الصفات في الجميع لكان هو الأفضل والمطلوب، لكن طبائع البشر وما يتعرضون له من ضعف وفتور تأبى ذلك·
ومع ذلك فتستمر التربية والتزكية، والمقصود الإشارة إلى أنه مع التأكيد على ضرورة التربية والإعداد إلا أن ذلك لا يعني أن لا يشارك في الدعوة والجهاد في سبيل الله تعالى عندما يفرض على الأمة إلا من ليس عليه ملاحظات أو هفوات، بل قد يخرج للجهاد من هو متلبس ببعض الذنوب وبعض ما يقدح في كمال إيمانه الواجب لكنه يجاهد نفسه على ترك ذلك، ويستمر النصح والتوجيه له في جميع الأوقات بل إنه قد يخرج صاحب البدعة التي دون الكفر مع المجاهدين إذا احتاج المسلمون إلى ذلك؛ كأن يهاجَمون في عقر دارهم وهم على قلة من العدد والعتاد·
ولو لم يخرج للجهاد في سبيل الله تعالى إلا الكمل من الناس لتعطل الجهاد وتسلط الكفار على المسلمين وساموهم سوء العذاب، ولا يخفى ما في ذلك من المفاسد العظيمة·
وكذلك من هم في موطن التوجيه والقدوة والمسؤولية؛ فمع أنه لا يسعهم ما يسع غيرهم ممن هم دونهم إلا أنهم ليسوا معصومين، وصدور بعض الهفوات أو الذنوب لا يقدح فيهم ولا ينقص من منزلتهم إذا كانت ذنوبًا طارئة يرجعون منها ويتوبون ولا يصرون·؛ قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (لأعراف:201).
التعقيب الخامس : أنواع الإعداد المادي وضرورة وجوده بجانب الإعداد الإيماني :(1/165)
ما سبق ذكره من جوانب الإعداد للجهاد إنما كان منصباً على الإعداد المعنوي أو الإيماني، ولم يشر فيما مضى إلى الإعداد المادي والجسدي· وسبب ذلك أن الإعداد الإيماني للمجاهدين يحتاج إلى جهد وزمن طويلين، وهو الأساس الذي ينطلق منه المجاهد وتحقق به غايات الجهاد، وهو ما ينقصنا اليوم؛ حيث نعيش حياة الترف والترهل، والركون إلى الدنيا، وضعف الإيمان، وضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وضعف الصبر والتحمل· والانتصار على النفس في هذه المجاهدة والإعداد هو طريق النصر على الأعداء في ساحات القتال، والعكس صحيح·
أما الإعداد المادي والجسدي فإنه يتحقق في وقت يسير إذا قيس بالإعداد الإيماني·
ونظرًا لما تعيشه بلدان المسلمين اليوم من تسلط الأعداء وتهديداتهم مما يجعل الجهاد أمرًا مفروضًا على المسلمين للدفاع عن الدين والمال والعرض؛ وذلك في البلدان التي يحتلها العدو الكافر، أو أنه قريب الحدوث في البلدان التي يهددها العدو الكافر ويلمح بغزوها واحتلالها·
إنه نظراً لذلك فلا بد من الإشارة إلى الإعداد المادي والجسدي بأن يكون له حظ من الإعداد؛ وذلك في خط موازي للإعداد الإيماني والمعنوي؛ يسيران جنبًا إلى جنب دون أن يقطع إحدهم الآخر أو يؤخره·
والأصل في الإعداد المادي قوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (لأنفال:60)، ومن أهم جوانب هذا الإعداد ما يلي:
1- الإعداد المالي:(1/166)
وهو من أهم جوانب الإعداد المادي؛ فهو عصب الدعوة والجهاد، ولا تكاد تخلو آية من الآيات التي تحض على الجهاد إلا ويذكر الجهاد بالمال مع الجهاد بالنفس بل يقدم عليها· وإذا تأملنا آية الإعداد الآنفة الذكر وجدنا في خاتمتها ذكر النفقة، مما يدل على أهمية المال في الإعداد المادي للجهاد· والتفريط في توفير المال للجهاد في سبيل الله تفريط في الأخذ بأسباب النصر·
ولذا وجب السعي في توفير مصادر مالية ثابتة لدعم الجهاد والإعداد له؛ وذلك باقامة المؤسسات الاقتصادية، وبث روح البذل في الأمة وبخاصة الموسورن فيها، وإقامة المؤسسات الخيرية التي تعلم وتدعو وتدعم المحتاجين من المسلمين المهاجرين والمستضعفين·
2- الإعداد الإعلامي:
حيث لا يخفى على أحد ما للإعلام اليوم من أثر كبير في التعريف بالإسلام الحق والتعريف بأهله، وكذلك ما له من الأثر في فضح الباطل والتحذير منه ومن أهله؛ بحيث تستبين للناس سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين، وقد سبق التنويه على ضرورة المعرفة بالسبيلين للناس قبل المقاتله بالسنان· كما لا يخفى ما للإعلام من دور في التعريف بالجهاد والمجاهدين، ونقل أنباء انتصارات المسلمين وهزائم الكافرين، والاستفادة من الإعلام في الحرب النفسية ضد الكفار، ورفع معنويات المجاهدين والمسلمين بعامة؛ حيث إن أسلوب الحرب النفسية عن طريق الإعلام أصبح من الوسائل المهمة في تحطيم معنويات ونفسيات الأعداء وهزيمتهم·
فإذا لم يكن للمسلمين - سواء في إعدادهم للجهاد بالدعوة والبيان أو أثناء قتالهم الكفار - وسائل إعلامية قوية ومؤثرة فإن تفريطًا كبيرًا قد حصل في الأخذ بأسباب العدة للجهاد والانتصار على الأعداء·
3- الإعداد الجسمي:(1/167)
المطلوب من المسلم أن يعتني بجسمه في جميع الأحوال؛ فيعتني بصحته وكل ما من شأنه تقوية الجسد وشدته وتحمله للمشاق وشظف العيش؛ (فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)(168) والقوة هنا تشمل قوة الإيمان والنفس والجسم، وقد تعوذ الرسول صلى الله عليه وسلم من العجز والكسل، فإذا كان هذا في الأحوال العادية، فكيف بمن يعد نفسه للجهاد؟ بل فكيف بمن غزاه الكفار في عقر داره أو حاموا حول دياره؟! كما هو الحال اليوم في أكثر بلدان المسلمين·
إن الأمر في حقه يكون آكد وأوجب؛ لأن الأجسام الضعيفة المترهلة المترفة التي أخلدت إلى الراحة والإسراف في أنواع الطعام والشراب والأثاث سوف لن تلبي نداء الجهاد؛ وذلك لما فيه من الشدائد والجوع والجراحات، الأمر الذي لا تطيقه الأجسام المتنعمة المترهلة المترفة·
ووسائل تقوية الأجسام كثيرة ينبغي أن يهتم بها المربون والمهتمون بالإعداد للجهاد؛ منها:
( أ ) تجنب فضول الطعام والشراب والنوم لما في ذلك من الترفه، ولما فيه من الأدواء والأمراض للأجساد والقلوب·
(ب) تقوية الجسم بأنواع الرياضة المشروعة؛ كالمشي الطويل وصعود الجبال، والسباق، والسباحة، وركوب الخيل، والدفاع عن النفس، وغير ذلك مما فيه تقوية الجسم وتعويده على تحمل الشدائد·
(جـ) تعويد النفس على صوم النفل؛ فهو في المقام الأول عبادة عظيمة محبوبة لله عز وجل، وفيها من المصالح والحكم ما ذكره الله عز وجل في كتابه من أنه يورث تقوى الله عز وجل، كما أن فيه تعويد النفس على الصبر والتغلب على شهواتها وتقوية إرادتها·
ووسائل تقوية الأجسام كثيرة، لكن هذا هو الحد الأدنى الذي ينبغي لمن يعد نفسه للجهاد أن يأخذ به في حال الأمن والسلام·
أما في حال الحرب والتهديد فلا بد من الأخذ بالفقرة التالية·
4- الإعداد بالتدريب على الرماية بأنواعها:
حيث قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن القوة الرمي - ثلاثًا)(169).(1/168)
ويكون التدريب على الرماية واجبًا وفرض عين في حال ما يكون الجهاد عينيًا بأن يُهاجَم المسلمون في عقر دارهم·
وأما الإعداد لجهاد الطلب فيبقى كفائيًا تبعًا لحكم الجهاد الطلبي· ومعنى هذا أن البلاد التي غزاها الكفار اليوم يكون التدريب فيها واجبًا، والإعداد له متعينًا، وكذلك الحال فيمن هو مهدد بالغزو والاحتلال حتى لا يفاجأ المسلمون بعدوهم وهم على غير استعداد·
وقد يقال: إن المسلمين في مكة حيث كف اليد والتركيز على الإعداد الإيماني والمعنوي لم يتدربوا آنذاك ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالتدريب· والجواب أن يقال بأن الناس في ذلك الوقت ليسوا محتاجين إلى تدريب وتعليم لأنهم أهل القتال والخبرة بهذا الفن لطبيعة العرب في ذلك الوقت؛ حيث إن السلاح والرماية جزء من حياتهم كما هو الحال اليوم في بعض البيئات والبلدان·
التعقيب السادس : أخطاء بعض المجاهدين لا تعني خطأ الجهاد، ونصحهم يكون مع الولاء لهم حتى لا يستغله المبطلون في رد الجهاد :
إن المجاهدين بشر كغيرهم يخطئون ويصيبون، ولا عصمة لأحد بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولكن ينبغي الحذر كل الحذر عندما يكون هناك حاجة إلى ذكر هذه الأخطاء والتناصح حولها أن لا تكون في منابر عامة قد يفهم منها التعريض بالجهاد والمجاهدين، وقد يكون إبرازها في المنابر العامة مقصود لذاته من قبل أعداء الدين وأعداء الجهاد والدعاة والمجاهدين؛ وذلك ليوظفوها في مخططهم الماكر في القضاء على الدعاة الصادقين وتعطيل شعيرة الجهاد والاحتساب· وفي عدم الانتباه لمآلات الكلام عن أخطاء المجاهدين مفسدة كبيرة قد يجد المتحدث نفسه متورطًا في الإسهام مع أعداء الدين في عرقلة الدعاة والمجاهدين في إحياء الأمة من سباتها· وقد يجد نفسه وهو لا يشعر في خندق الطواغيت من الكافرين والمنافقين·(1/169)
ولو وجد الداعية نفسه مضطرًا للتعليق على بعض الأخطاء فيمكنه أن يتحدث عن ذلك بعبارة لا يستطيع الإعلام الماكر ومن وراءه أن يستفيدوا من ذلك في الوصول إلى مبتغاهم؛ وذلك كأن يثني على المجاهدين وأثرهم في إحياء الجهاد والعزة ودورهم في الدفاع عن بلدان المسلمين وأعراضهم، ودورهم في إرهاب الكفار، في الوقت الذي يتولى بالنقد والفضح تلك الأنظمة الطاغوتية التي تتولى الكفار وتضع نفسها في خندقهم في مواجهة الدعاة والمجاهدين· ثم يشير بعد ذلك إلى ما يراه من ملاحظات وأخطاء قد تصدر من بعض الطوائف الجهادية، وإن كان هناك ثمة عذر يشير إليه، وإن لم يجد فيضعها في حجمها الطبيعي، ويتوجه بالنصح للمجاهدين بعبارات مضمونها الود والشفقة والنصح والولاء·
إنه متى كان الحديث بهذه النفسية، وبهذا الحذر فلا أظن الإعلام الماكر سيسمح لأحد من الدعاة فضلاً عن أن يدعوه ويبرزه للناس ليقول هذا الكلام في منابره·
كما أن المجاهدين سوف لن تُجرح نفوسهم من هذا الداعية الذي هذا مقصده وهذا طرحه، ولن يتهموه بأنه من المخذلين أو أنه من الذين يعرضون بالمجاهدين ويشمتون بهم·
وبعد :
فهذا ما يسره الله عز وجل ووفق إليه من الكتابة في هذا الموضوع المهم الخطير ولا أزعم أني استوفيته أو قربت من تمامه، ففي الموضوع مسائل كثيرة تحتاج إلى العلماء العاملين ليبينوها للناس· وحسبي أني ساهمت ببضاعتي المزجاة وجهد المقل فما كان فيه من صواب فمن الله عز وجل وهو المان به وله الحمد والشكر. وما كان فيه من خطأ فمني ومن الشيطان واستغفر الله منه ومن جميع ذنوبي.
وأسأله سبحانه الإخلاص والصواب في القول والعمل. اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه وليك ويذل فيه عدوك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر ويرفع فيه علم الجهاد إنك سميع قريب وأنت على كل شيء قدير. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين·
الهوامش
رواه مسلم: (1910).
"المفردات": (ص99).
"الفتح": (6/3).(1/170)
"بدائع الصنائع": (9/4299).
"حاشية ابن عابدين": (4/121).
"الشرح الصغير على أقرب المسالك": (2/267).
"فتح الباري": (6/3).
"مطالب أولي النهى": (2/497).
"مجموع الفتاوى": (10/192، 193).
"مجموع الفتاوى": (10/191).
رواه أحمد: (6/21)، وقال محمقق زاد المعاد "الأرناؤوط": "سنده جيد، وصححه ابن حبان: (25)، والحاكم: (1/11)، ووافقه الذهبي.
رواه مسلم: (1910) في الإمارة: باب ذم من مات ولم يحدث نفسه بالغزو، وأبو داود: (2502).
"زاد المعاد" ت: الأرناؤوط: (3/5-12) مختصراً.
"زاد المعاد": (3/71).
"روضة المحبين": (ص478).
أبو داود: (4/246)، وابن ماجة: (2/681)، وقد روى شطره الأول البخاري: (2480).
"مجموع الفتاوى": (28/320).
"مجموع الفتاوى": (28/321).
تقدم تخريجه.
"الفروسية" لابن القيم: (ص187-189).
وعن شعور اللذة بالعبودية يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "... فقُرَّة عين المحب في الصلاة والحج وفرح قلبه وسروره ونعيمه في ذلك وفي الصيام والذكر والتلاوة وأما الصدقة فعجب من العجب، وأما الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله والصبر على أعداء الله سبحانه فاللذة بذلك أمر آخر لا يناله الوصف ولا يدركه من ليس له نصيب منه. وكل من كان به أقوم كان نصيبه من الالتذاذ به أعظم. ومن غلظ فهمه وكثف طبعه عن إدراك هذا فليتأمل إقدام القوم على قتل آبائهم وأبنائهم وأحبابهم، ومفارقة أوطانهم، وبذل نحورهم لأعدائهم". "طريق الهجرتين": (1/56) ط. دار الحديث.
"مجموع الفتاوى": (10/191-193) باختصار.
"مجموع الفتاوى": (10/57-58) باختصار.
"مجموع الفتاوى": (15/170).
"في ظلال القرآن": (3/1440-1444) باختصار.
"في ظلال القرآن": (3/1433-1436) باختصار.
"الجواب الصحيح": (1/74).
"زاد المعاد": (3/159-161).
انظر لمزيد من التفصيل عن هذه الحكم كتاب "في ظلال القرآن": (2/714، 715).
"في ظلال القرآن": (3/1581).(1/171)
"في ظلال القرآن": (3/1737-1739) باختصار.
"الصارم المسلول": (2/414).
"مدارج السالكين: (3/9) ط الفقي.
"مجموع الفتاوى": (10/57، 58) باختصار.
"مجموع الفتاوى": (10/193).
"مجموع الفتاوى": (8/36).
أبو داود (3462)، وأحمد: (2/28) واللفظ له، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود: (2956).
"الفوائد": (ص88).
"مجموع الفتاوى": (28/242).
"مجموع الفتاوى": (28/441-443) باختصار.
البخاري في الإيمان باب الجهاد من الإيمان، ابن ماجة (2753).
البخاري في الجهاد: باب أفضل الناس مجاهد بنفسه وماله (2787)، ومسلم (1878) واللفظ له.
أبو داود (2541)، وابن ماجة (7292) وصححه الأرناؤوط في حاشية زاد المعاد (3/78).
البخاري في الجهاد: باب درجات المجاهدين (2790)، وأحمد (2/335).
مسلم: (1884)، والنسائي: (6/19-20).
البخاري في الجمعة: باب المشي إلى الجمعة (907)، وأحمد (3/479).
ابن ماجه: (2775) بسند حسن.
البخاري في الجهاد: باب فضل رباط يوم في سبيل الله (2892).
مسلم: (1913).
قطعة من حديث رواه مسلم (1902)، وأحمد: (4/396).
البخاري: (2887).
"سير أعلام النبلاء":(2/23).
المصدر السابق: (1/422).
"صفة الصفوة": (1/468).
"سير أعلام النبلاء": (1/375).
"الجهاد" لابن المبارك: (1/88).
"سير أعلام النبلاء": (1/319).
"سير أعلام النبلاء": (2/34).
البخاري: (2801).
"سير أعلام النبلاء": (1/364).
"سير أعلام النبلاء": (2/290).
"سير أعلام النبلاء": (1/381). واللقلقة: الصوت الشديد المضطرب. والنقع: رفع الصوت وشق الجيب.
بسان ملتاث: ثقيل بطيء في الكلام.
الدَبَرة: النصر والغلبة.
"صفة الصفوة": (1/466، 467).
انظر "الطبقات الكبرى" لابن سعد: (1/232).
غُبَّرات: الجماعة الباقية.
الشخوص: المرتفعات.
لا رحلة بي: ليس لديه بعير أو ظهر يرتحل عليه.
قلائص: جمع قلوص وهي الناقة الشابة.
"صفة الصفوة": (1/674-676).
"صفة الصفوة": (4/421).
"سير أعلام النبلاء": (3/499).(1/172)
"سير أعلام النبلاء": (3/498).
المقصود هنا: أعظم الثمار وإلا فثمار الجهاد كثيرة كما مر بنا فيما سبق.
"شريعة الإسلام في الجهاد": (ص31-32).
"الزواجر عن اقتراف الكبائر" للهيتمي: (2/163).
مسلم (1910).
"عدة الصابرين": (ص121).
"تفسير ابن كثير": (1/228)، وصحح الحديث ابن حبان (1667)، والحاكم: (2/275) ووافقه الذهبي.
"أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية" د. العلياني: (ص252).
"الفتح الرباني" لترتيب مسند أحمد: (15/44) وقال المحقق الساعاتي: سنده جيد.
انظر إلى ما ذاقه الهندوس على أيدي المجاهدين الكشميريين، وانظر كيف تحركت قوافل اليهود للهجرة من فلسطين بعد أن عرفوا أن القتل ليس من نصيب المسلمين وحدهم، وفي أفغانستان كيف دفعت الإمبراطورية الروسية ثمناً باهظاً لعدوانها على المسلمين تفككت على إثره وتحولت إلى أمة متسولة لا تكاد تجد قوتها، ثم عادت لتدفع ثمناً غالياً لعدوانها على المسلمين في الشيشان. وفي البوسنة لما ولغ الكفار في دماء المسلمين وفرحت ملل الكفر بذلك لم يكبتوا ويكسروا إلا بعد نزول المجاهدين إلى أرض البوسنة.
"شريعة الإسلام في الجهاد" للمودودي: (ص34).
"في ظلال القرآن": (4/1941).
"نزهة الفضلاء في تهذيب سير أعلام النبلاء": (1/242).
رواه أبو داود في الملاحم: باب في تداعي الأمم على الإسلام: (4297)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود: (3610).
انظر الحديث: (ص54، 79).
البخاري في التوحيد: (7460)، ومسلم: (1037).
"مجموع الفتاوى": (28/358، 359).
"مجموع الفتاوى": (28/259).
هذا في جهاد الطلب، أما جهاد الدفع فإنه فرض عين على أهل البلد الذين يهاجمهم الكفار.
"زاد المعاد": (3/72).(1/173)
"الفوائد": (ص59)، وقد مضى في (ص56) قول ابن المبارك والإمام أحمد رحمهما الله تعالى: "إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ماذا عليه أهل الثغر فإن الحق معهم"، وعلى هذا فإن قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا) يدخل تحته جهاد الهوى وجهاد الكفار بالسنان.
"الاختيارات الفقهية": (ص309، 310).
تقدم تخريجه.
"فتح الباري": (6/29).
المصدر نفسه: (6/30).
"جامع الأصول": (2/580).
"تفسير السعدي": (2/290).
سبق تخريجه.
"في ظلال القرآن" (3/1716-1717) باختصار.
انظر تفاصيل هذه الأصول في رسالة "وقفات تربوية في ضوء سورة العصر" للمؤلف.
"زاد المعاد": (3/10).
البخاري: (1399، 1400)، ومسلم: (20).
"سير أعلام النبلاء": (4/195).
رواه مسلم: (1850).
"البدع والنهي عنها" لابن وضاح: رقم الأثر (86) ص (75)، ت: عمر عبد المنعم.
البخاري: (6502).
"سير أعلام النبلاء": (6/121).
البخاري (52)، ومسلم: (1599).
انظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية: (ص57).
"مجموع الفتاوى": (15/170).
البخاري في الجهاد: باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا (2810)، مسلم (1904).
أبو داود (2516) وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم: (2196).
مسلم (1876).
أبو داود (5123)، وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود (1096).
"في ظلال القرآن": (1/144).
البخاري: (123)، ومسلم: (1904).
"في ظلال القرآن": (6/3288).
"طريق الدعوة في ظلال القرآن": (ص361).
ومما يدل على أن حياتنا ليست حياة من يعد نفسه للجهاد أنه لو طلب من بعضنا بذل ربع ماله أو عشره أو طلب منه الانتقال إلى بلد غير بلده لمصلحة الدعوة والجهاد لامتنع أو تردد وتلكأ. فكيف بما هو أكبر من ذلك كبذل النفس وهجر الأهل والأولاد والأوطان.
تَفَنَّقوا: تنعموا؛ انظر: القاموس المحيط، مادة (فنق).
"المقدمة" لابن خلدون: (ص138).
"الجهاد في سبيل الله" (2/373)، د. عبد الله القادري.
"في ظلال القرآن": (5/2217).(1/174)
البخاري: (4418)، ومسلم (2121)، وانظر: "الجهاد في سبيل الله" الدكتور/ عبد الله القادري (2/376).
"الفوائد" لابن القيم: (ص94، 95) باختصار.
"مدارج السالكين": (2/125).
"الفوائد": (ص86، 87).
انظر المنارة الثانية والعشرين من (منارات في الطريق) للمؤلف: (ص199).
البخاري: (7405)، ومسلم: (2675).
البخاري: (6307).
مسلم: (2702).
أبو داود: (4986)، وأحمد: (5/364) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود: (4172).
"في ظلال القرآن": (1/141،142) باختصار وتصرف يسيرين.
البخاري: (7492)، ومسلم: (1151).
مسلم: (746).
البخاري: (3559)، ومسلم: (2321).
أبو داود: (4798)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود: (4013)، ورواه أحمد: (6/64).
مسلم: (2609)، والبخاري في الأدب باب الحذر من الغضب.
"مدارج السالكين": (2/308) ط. الفقي.
البخاري: (6370).
"في ظلال القرآن": (1/459).
مسند أحمد: (5/183)، والترغيب والترهيب: (1/23)، وعزاه الألباني إلى الشافعي في مسنده وصحح إسناده، انظر "مشكاة المصابيح" الحديث (229).
"مدارج السالكين": (2/319).
مسلم في الإمارة باب كراهة الإمارة بغير ضرورة (1825).
البخاري: (59).
البخاري: (6497)، ومسلم: (143).
"مجموع الفتاوى": (10/301).
"في ظلال القرآن": (2/1105-1107) باختصار.
"كيف ندعو إلى الإسلام": (ص 11-19) باختصار.
"مجموع الفتاوى": (24/172).
للتوسع في موضوع الصبر وما يتعلق به يمكن الرجوع إلى رسالة (وقفات تربوية في ضوء سورة العصر)، مبحث: "وتواصوا بالصبر" للمؤلف.
"في ظلال القرآن": (1/551، 552).
انظر "مدارج السالكين": (2/157).(1/175)
أكرر ما ذكرته سابقاً من أني لا أعني بذلك جهاد الدفع الذي يقوم به المجاهدون اليوم في ساحات الجهاد في أفغانستان والشيشان وكشمير وفلسطين وغيرها ضد المعتدين الكفرة؛ فهذا جهاد مشروع، ولكني أعني ما يقوم به بعض المتحمسين من جهاد الطلب في أماكن لم يتبين للناس فيها حقيقة المجاهدين، وحقيقة أعدائهم، مع ضعف في الاستعداد لذلك.
"تفسير ابن كثير": عند الآية (رقم: 77) في سورة النساء.
"في ظلال القرآن": (2/712، 713).
"في ظلال القرآن": (2/713-715) باختصار شديد وتصرف.
ورد هذا الجواب بلفظ مقارب في بيعة الأنصار البيعة الكبرى: انظر مسند أحمد: (3/460،462) وصحح إسناده الأرناؤوط في "زاد المعاد": (3/460).
"كيف ندعو إلى الإسلام": (ص 14-23) باختصار.
"منهاج السنة": (8/86-89).
"الجهاد في سبيل الله": (2/347-349) باختصار.
"في ظلال القرآن": (3/1577، 1578) باختصار.
ومن ذلك ما ذكره ا بن كثير – رحمه الله تعالى – في "البداية والنهاية": (6/323) في ترجمة طليحة الأسدي بعد أن ذكر ردته وتنبأه بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "وأما طليحة فإنه راجع الإسلام بعد ذلك وذهب إلى مكة معتمراً أيام الصديق واستحيا أن يواجهه مدة حياته وقد رجع فشهد القتال مع خالد. وكتب الصديق إلى خالد: أن استشره في الحرب ولا تؤمره – يعني معاملته بنقيض ما كان قصده من الرياسة في الباطن –وهذا من فقه الصديق رضي الله عليه عنه وأرضاه". ا.هـ.
انظر "مجلة السنة" الأعداد: (31، 33، 35، 36، 37، 39، 41، 42) باختصار شديد وتصرف يسير.
انظر نص الحديث في صحيح مسلم: (2664).
رواه مسلم (917) في الإمارة، باب فضل الرمي والحث عليه.
الفهرس
{ تمهيد ·······················································································
{ المقدمة الأولى: المعنى العام للجهاد ومراتبه ··········································(1/176)
المعنى اللغوي والشرعي للجهاد ····················································
مراتب الجهاد ···········································································
{ المقدمة الثانية: أقسام الجهاد في سبيل الله تعالى ···································
1- جهاد الدفع ·········································································
2- جهاد الطلب ········································································
{ المقدمة الثالثة: غاية الجهاد في سبيل الله تعالى ····································
شبهة وجوابها: في الرد على من قال أن الجهاد للدفاع ··························
تنبيه: الحديث عن غاية الجهاد لا يعني التغافل عن مراحل الجهاد ···········
مواقف خاطئة في النظر إلى مراحل الجهاد ········································
{ المقدمة الرابعة: فضائل الجهاد في سبيل الله تعالى وثماره في الدنيا والآخرة ·······
ثمار الجهاد في الحياة الدنيا ··························································
ثمار الجهاد في الآخرة ································································
الآيات الواردة في فضل الجهاد والمجاهدين ·····································
الأحاديث الواردة في فضل الجهاد والمجاهدين ·································
الآثار الواردة عن السلف وحرصهم على الجهاد وطلب الشهاة في سبيل الله تعالى
سؤال وجوابه حول الحكمة في ورود هذه الفضائل العظيمة للجهاد دون غيره من الأعمال ········································································
{ المقدمة الخامسة: مخاطر ترك الجهاد في سبيل الله ·································
{ التربية الجهادية وجوانب الإعداد للجهاد في واقعنا المعاصر ·······················(1/177)
- الوقفة الأولى: الجهاد بمعناه العام لا يسقط عن المسلم المكلف ·········
- الوقفة الثانية: الإعداد الإيماني للجهاد لا يعني ترك جهاد الدفع حتى يكتمل الإعداد
- الوقفة الثالثة: مواطن الاتفاق والاختلاف بين جهاد الطلب والدفع ········
- الوقفة الرابعة: معنى الإعداد الإيماني والمعنوي للجهاد في سبيل الله تعالى
الأصل في الإعداد الإيماني صفات المجاهدين في سورة التوبة {التائبون العابدون ···} الآية ··································································
- الوقفة الخامسة: أصول التربية الجهادية للنفس ومراتبها: ····················
+ المرتبة الأولى : مجاهدة النفس على تعلم الهدى ودين الحق ····················
+ المرتبة الثانية: مجاهدة النفس على العمل بالعلم بعد تعلمه·····················
أولاً: من أعمال القلوب ·······························································
1- محبة الله عز وجل والحب فيه والبغض فيه ····························
2- الإخلاص لله عز وجل ·····················································
3- الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة ······································
4- التوكل على الله عز وجل ··················································
ثانياً: من أعمال اللسان ······························································
1- الذكر والدعاء ·······························································
2- التوبة والاستغفار ···························································
3- الدعوة إلى الله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ·····
ثالثاً: من أعمال الجوارح ····························································
1- المحافظة على الصلوات فرضها ونفلها ·······························(1/178)
2- الصيام ···································································
3- الأخذ بمحاسن الأخلاق ··················································
- الكرم والجود والبذل في سبيل الله ·········································
- العفو الصفح وكظم الغيظ ··················································
- الأمانة وحفظ العهد والوعد ················································
+ المرتبة الثالثة: مجاهدة النفس على الدعوة إلى الهدى وتعليمه للناس ········
استبانة سبيل المجرمين ································································
+ المرتبة الرابعة: جهاد النفس في الصبر على الدعوة وبيان الحق ·················
ذكر بعض مجالات الصبر ····························································
شروط الصبر النافع ·····································································
<> تنبيه: العجلة في مصادمة الكفار قبل الاستعداد يدل على ضعف الصبر
الصبر على جهاد البيان لا يقل عن الصبر في ساحات القتال ···················
{ تعقيبات ····················································································
التعقيب الأول : تداخل مراتب جهاد النفس بعضها مع بعض ···················
التعقيب الثاني: تفاوت المتربين في تحصيل مراتب الجهل وضرورة العناية بالمبرزين منهم ······················································
التعقيب الثالث: الحذر من اختراق المنافقين للصف المسلم وتبوئهم للمراتب القيادية فيه ·················································
التعقيب الرابع: يقبل في مستويات التربية الجهادية من عموم المجاهدين ما لا يقبل من قادتهم ···················································(1/179)
التعقيب الخامس: الإشارة إلى الإعداد المادي وضرورة العناية به بجانب الإعداد الإيماني ·····················································
- الإعداد المالي ····················································
- الإعداد الإعلامي ·················································
- الإعداد الجسمي ·················································
- الإعداد بالتدريب على الرماية ··································
التعقيب السادس: الحذر من الحديث عن أخطاء المجاهدين في منابر عامة حتى لا يستغله المبطلون في رد الجهاد والنيل من المجاهدين
الهوامش .................................................................
الفهرس ····················································································(1/180)