التحذير
عن أهم صوارف الخير
تأليف
أبي عبد الرحمن: يحيى بن علي الحجوري
حفظه الله تعالى
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذه إحدى محاضرات فضيلة الشيخ يحيى بن علي الحجوري حفظه الله، القيمة، ألقيت في مسجد إخواننا آل جميدة بصعدة، وبعد تفريغها، عرضت عليه فراجعها، وأذن بطبعها، نسأل الله أن ينفع بها.
أبو مصعب:
حسين بن أحمد الحجوري.
الحمد لله نحمده ونستعنيه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}[النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}[الأحزاب: 70-71].
أما بعد: »فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار«.(1/1)
أيها الناس، نحمد الله الذي يسر لنا هذا اللقاء الطيب، في هذا المسجد الطيب، وجزى الله من سعى في حصوله خيراً، ولطالما اعتذرت لهم لكثرة المشاغل حتى يسر الله ذلك في هذا اليوم، الذي هو من أواخر شهر شعبان، ونسأل الله أن يجعله لقاءً مباركاً فيه النفع للجميع.
أيها الناس، ثبت عند الإمام البخاري في الأدب المفرد، من حديث أسامة بن شريك رضي الله عنه، أن النبي ? قال: »عباد الله، تداوا، فما جعل الله داءً إلا جعل له دواءً«، وهذا الحديث فيه الحث على التداوي من مرض الأجسام، فإن المرض قد يعيق الإنسان عن أداء واجبات عليه، وإن طول عمر المؤمن لا يزيده إلا خيراً، وصحة المؤمن خير له، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي ? قال: »المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير«، فالشاهد من هذا الحديث، أن المؤمن القوي في إيمانه، والمؤمن القوي في جسده، الذي يقوم بواجبات لم يقم بها من لا يستطع ذلك، يكتسب من الأجور ما لا يكتسبه غيره من الضعفاء، مع وجود الخير في ذلك المؤمن الضعيف، ضعيف الإيمان، وأنه مؤمن، وإيمانه خير، والإسلام فلاح، ولكن الخير يتفاوت، قال الله تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}[آل عمران:163].
وثبت من حديث عبد الله بن بسر رضي الله عنه، أن النبي ? قال: »خير الناس من طال عمره، وحسن عمله، وشر الناس من طال عمره وساء عمله«، وقال عليه الصلاة والسلام: »لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية«، في هذه الأدلة الحث على التداوي، والحفاظ على الأجسام، وقد قال الله عز وجل عن أولئك النفر أصحاب الكهف: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً}[الكهف:19].(1/2)
ففي هذه الآية المحافظة على الصحة، قال تعالى: {فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ}[الكهف:19] من أزكى الطعام، وفيها العمل بالأسباب، كما قال تعالى: {وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً}[الكهف:19] مع ما أبانه الله سبحانه وتعالى من حفظه لأولئك النفر، الذين كانوا في الكهف: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ}[الكهف:17].
سخر الله عز وجل الشمس، لأولئك النفر، من يمين ومن شمال، كل ذلك رعاية من الله سبحانه وتعالى لهم، وجعل لهم الهيبة، قال عزوجل: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً}[الكهف:18]، ونشر لهم الرحمة، قال الله عزوجل: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً}[الكهف:16].(1/3)
ومع ذلك فإن الله أمرهم بتلك الأسباب، وهكذا أمرهم بالتلطف فهذا دليل على محافظة الإنسان على نفسه، على جسده، على صحته، وإذا كان الأمر كذلك وقد أمر رسول الله ? المسافر بل ربنا سبحانه وتعالى أباح للمسافر الفطر في رمضان، حفاظاً على صحته لا يتضرر بالصوم، قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ }[البقرة:184]، في حالة مرضه، في حالة سفره، المرأة كذلك في حالة إرضاعها، حفاظاً على ولدها، في حالة حملها، حفاظاً على نفسها وعلى جنينها، كما في حديث أنس بن مالك الكعبي رضي الله عنه، أن النبي ? قال: »إن الله وضع شطر الصلاة عن المسافر، ووضع الصيام عن الحامل والمرضع«، والحديث ثابت عن النبي ?، وهو في الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين، للشيخ رحمة الله عليه، ولما رأى النبي ? كعب بن عجرة، والقمل يتناثر من رأسه، قال: »ما كنت أظن الجهد بلغ بك ما أرى، احلق رأسك، وانسك شاةً، أو صم ثلاثة أيام، أو تصدق بثلاثة آصع، أو تصدق على ستة مساكين«.(1/4)
شاهدنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أذن له وهو محرم، أن يحلق رأسه مما أصابه من الأذى، ولما يخشى عليه في ذلك من الضرر، وقد قال عليه الصلاة والسلام: »لا ضرر ولا ضرار«، وقال الله سبحانه: {وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ}[الطلاق:6]، ومن رحمة الله سبحانه وتعالى بهذا العبد، الضعيف المسكين، جعل له يسراً بعد العسر، قال الله عزوجل: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً}[الشرح: 5-6]، ومن رحمة الله سبحانه بالعبد، أنه يريد به اليسر، قال عزوجل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185]، ومن رحمة الله بالعبد أنه لا يريد له الشقاوة، قال الله تعالى: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى}[طه: 1-4].
ومن رحمة الله سبحانه وتعالى بهذا العبد، أن بين له السبيل، قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً}[النساء: 26-28].
فالأدلة تتوالى وتتوارد في الحفاظ على الأجسام، وغاية ما في الإنسان أنه إذا تلف جسمه، انقرضت صحته، أو ضعفت قواه، وقد يأتيه الأجل المحتوم، قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}[لأعراف:34].(1/5)
فمن باب أولى الحفاظ على الصحة الدينية، وأن يحافظ الإنسان على دينه حتى يكون دينه صحيحاً، وحتى يكون قلبه سليماً يحافظ على صحة معتقده، ويحافظ على صلاته، ويحافظ على صيامه، ويحافظ على أداء زكاته، ويحافظ على أداء حجه وعمرته، ويحافظ على ما خلقه الله سبحانه وتعالى من أجله، من سائر العبادات، وإقامة شعائر دين الله الحق، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذريات:56].
فيحافظ على ذلك، ويحرص جداً أن لا يُصرف عن هذه الصحة العظيمة، التي إن مات عليها تلك الصحة الدينية في المعتقد، في الأقوال، في الأفعال، في سائر حياته، فإنه يصير من السعداء، سعادة لا يبغي عنها حولا، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً}[الكهف: 107-108].(1/6)
سعادة لا هرم بعدها، ولا مرض بعدها، ولا تعاسة ولا نكد بعدها، فقد ثبت عن النبي ? عند الإمام مسلم من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد، أن النبي ? قال: »يقال لأهل الجنة، إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وأن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وأن تحييوا فلا تموتوا أبداً، وأن تنعموا فلا تبأسوا أبداً«، هذه سعادة لا يمكن أن توجد في هذه الحياة الدنيا أبداً، فإن الصوارف عن الحق، ودين الله سبحانه وتعالى، كثرت، وانتشرت بين العباد، الصوارف عن الإسلام، الصوارف عن السنة، الصوارف عن العلم، هذه أهم ما عند الإنسان في دينه، (الإسلام، السنة، العلم النافع، والعمل به)، ولو تدبرت كتاب الله سبحانه وتعالى ترى أن أمماً صرفوا بأسباب حصلت منهم، وصرفوا عن الإسلام بتلك الأسباب، التي من أعظمها، وأخطرها وأشدها ضرراً على الإنسان، هو ما ذكره الله سبحانه وتعالى في سورة الأعراف، قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ}[الأعراف:146].(1/7)
وقوله الله سبحانه وتعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ}[لأعراف:146]، يصرفه الله سبحانه وتعالى عن آياته المتلوة، وعن آياته المرئية الكونية، فلا يستفيد منها أبداً، قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [التوبة:127] فما استفادوا من القرآن، بل صرفوا عنه، وقال الله سبحانه: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ * أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ}[التوبة: 124-126].
هذا سبب رئيسي واضح بيّن من أسباب الصرف عن الهدى، الصوارف كثيرة، ولكن هذا تورط فيه ولج فيه إبليس عليه لعائن الله، وهو التكبر على الحق، فمن تكبر عن الحق صرفه الله عن فهم القرآن، يصرف عن الحجج، وعن البراهين، وعن الأدلة على شرع الله، والأدلة على قضاء الله، وعلى عظمة الله، حتى لا يكاد يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه، قال الله: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً}[الأعراف:146].
تتقلب عندهم الحقائق تماماً، إذا حصل التكبر على الحق، قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}[لأعراف:146]، فما حصل في العباد من ضعف الفقه في الدين هو بسبب هذا المرض الخطير.(1/8)
ولقد صرف كثير من الأمم الماضية بهذا المرض، فأول من صرف بهذا الداء، إبليس، كفر وارتد عن دين الله بسبب الكبر، قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]، قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[آل عمران:85]، وقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً}[المائدة:3]، نعمة عظيمة صرف عنها إبليس، بسبب تكبره، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ}[الأعراف: 11-18].(1/9)
وطرد به إبليس، وأهبط من السماء، وصار مذموماً مدحوراً، وهو أراد أن يرتفع، ما أراد أن يوضع؛ ولكن لما أراد أن يرتفع بغير ما أبانه الله له، وما أمره الله به، أهانه الله، وأهبطه، وأذله، وأخزاه، وحقره، بما هو معلوم من كتاب الله، وسنة رسوله ?؛ لأنه تكبر، عُومِل الشيطان بسبب كبره بما يلعنه به كل مسلم حتى تقوم الساعة، وحتى يقف خطيباً في نار جهنم.
فهذا صارف خطير جداً، به صُرف قوم نوح، بعد أن استمر معهم حقبة من الزمن، قال تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ}[العنكبوت:14]، وهو يدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى بشتى أنواع الدعوة، وأساليب الدعوة، من الحكمة والرفق، وغير ذلك مما أبانه الله عن نبيه عليه الصلاة والسلام.(1/10)
قال الله سبحانه: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً}[نوح: 1-12].(1/11)
حتى الآيات التي في نفسه، من سمع وبصر، وشمِ وطعم، وفؤاد، ولسان، وجوارح، ما يستفيد منها المصروف؛ بالتفكير فيها، قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}[الاسراء:36]، قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذريات:21] هذه آيات، والليل، والنهار، والشمس والقمر، والأشجار، والأحجار، قال تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ}[الغاشية: 17-22]، وقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت:37].
كل هذه الآيات يُصرف عن التفكر فيها، وعن العمل بآيات الله المتلوة المنزلة.(1/12)
وصُرف قوم هود عليه الصلاة والسلام بسبب هذا المرض، قال الله سبحانه: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ * إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ}[فصلت: 13-16].
فانظر كيف أهان الله تلك الأمة بسبب هذه المعصية، صُرفوا عن الإسلام، وعن دين الله الحق، وصاروا يتمرغون في المعاصي، ولم يعزهم الله بالإسلام بسبب كبرهم، قال تعالى: {فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}[فصلت:15]، الكبر في الأرض كله بغير الحق، وهذه صفة كاشفة موضحة، وليس معناه أن له مفهوم مخالفة، أن بعض الكبر من العباد يكون بحق، لا، وإنما الكبر من خصائص الله سبحانه، قال تعالى في الحديث القدسي: »العز إزاري، والكبرياء ردائي، من ينازعني في شيء منهما قصمته«.(1/13)
وصُرف ثمود قوم صالح عليه الصلاة والسلام، بسبب هذا المرض، صرفوا عن الإسلام، قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}[الأعراف: 73-78].
وأهانهم الله برجفة أهلكتهم، وقال عليه الصلاة والسلام: »لا تمروا ديار هؤلاء المعذبين، إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، أن يصيبكم ما أصابهم«، وكل هذا البلاء بسبب كبرهم، أرسلوا واحداً منيعًا في قومه فعقر ناقة الله، بعد أن أمرهم الله أن يجعلوا السقي لها يوماً، وهي تعطيهم اللبن بإذن الله عز وجل، ولهم يومًا، قال تعالى: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}[الشعراء:155] {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[الشعراء:156].(1/14)
كفروا نعمة الله، وتكبروا فانظر إلى ما صاروا بسبب هذا المرض الفتاك، صُرفوا عن الإسلام، إذ أن الإسلام يطلق بالمعنى العام على كل من استجاب لله ولرسوله في زمنه، وآمن به فهو مسلم، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ}[آل عمران:19]، وإبراهيم كان على ملة الإسلام، قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِراً لَأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[النحل: 120-121].
قال الله سبحانه: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[البقرة:132]، فكل أنبياء الله من آدام إلى قيام الساعة يدعوة إلى توحيد الله، وإلى الإسلام، فالإسلام بالمعنى العام يشمل الملل الماضية الذين استجابوا لرسلهم ولم يكفروا بالله سبحانه وتعالى، وبالمعنى الخاص هو خاص بهذا الدين، دين الإسلام الحق الذي نسخ جميع الأديان، ومن رضي بدين غيره صار من الكافرين، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً}[المائدة:48].(1/15)
وقال الله سبحانه في كتابه الكريم: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}[المائدة:44]، والمقصود في ذلك القرآن، وقد قال النبي ?: »والذي نفسي بيده، لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي، إلا كان من أهل النار«، فدل على: أن تلك الشريعة الماضية منسوخة، وما لم يبدل ويحرف من كتبهم فهو منسوخ، ومن دان لله عز وجل بدين غير دين الإسلام، الذي بُعث به محمد ? فهو كافر إن مات على ذلك، ومخلد في نار جهنم، إنما أردنا من ذلك أن نبين أن أولئك الأمم الذين صرفوا عن الاستجابة لرسلهم، بعد أن بذلوا وسعهم في دعوتهم، وحرصوا على ذلك كثيراً، كل ذلك بسبب الكبر من تلك الأمم التي امتنعت عن الاستجابة لرسلهم.(1/16)
وصُرف عن الحق قوم شعيب، أصحاب مدين، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ * وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا}[لأعراف: 85-89] الآيات.
فصُرف قوم شعيب عليه الصلاة والسلام بهذا المرض، وارتكبوا جرائم عديدة فإنه يُعتبر قدوةً لأمراض أخرى، مرض الكبر، قدوة وقائدً، ورائدً، لإمراض أخرى من تطفيف الكيل، فارتكبوها بسبب بعدهم عن الإسلام، وعدم استجابتهم لرسولهم، ابتلوا بالصد عن سبيل الله، والله قد قال في كتابه: {وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[النحل:94] فكل من صد عن سبيل الله يعرض نفسه للسوء.
يا هول مصيبة من تكبر على الله الحق، يُصرف عن كل خير، في الدنيا وفي الأخرى.(1/17)
وبسبب الكبر صُرف آل فرعون، فصاروا من أهل النار، قال تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46].
قال الله سبحانه: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [لأعراف:130] {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ }[لأعراف:131] أي: بسببنا نحن، قال تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ}[الأعراف: 131-133].
لم يستفيدوا من دعوة رسولهم عليه الصلاة والسلام، ولم يستفيدوا من الآيات التي جعلها الله لهم عبراً، يريد الإنسان أن يشرب فيعود دماً عبيطاً، لا يلتفت إليه إلا وهو دم، سخر الله عليهم الجراد تأكل أمتعتهم، وتؤذيهم في بيوتهم، والقمل والضفادع، سخرها عليهم، قال تعالى: {وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ}[يونس:101].
فكل من تكبر على الحق، يجر عليه ذلك الكبر ويلات، ومآثم، وجرائم أخرى، كما هو شأن أولئك، عادوا رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وآذوهم، قال تعالى: {وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ}[الأنعام:34].(1/18)
وقتلوهم، قال تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ}[البقرة:87]
ورسول الله ? قتله اليهود عليهم لعائن الله، قتلوه بسبب كبرهم، وبعدهم عن الحق، سموه في شاة، فأكل من تلك الشاة المسمومة، وبقي عليه آثار ذلك السم قال: »الآن صار أوان انقطاع أبهري«، أي بعد حين من أثر ذلك السم، جاءه الموت، وأهل العلم يقولون: إن رسول الله ? مات شهيداً، قتله اليهود، سموه، فقتلوا من بني إسرائيل ومن غيرهم، كل ذلك بسبب الكبر، الذي أبانه الله سبحانه وتعالى عنهم، وقد كانوا يعرفونه كما يعرفون أبنائهم، أنه الحق، قال تعالى: {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ}[البقرة:91].
وقال محمد بن إسحاق: عن عاصم بن عمرو، عن قتادة الأنصاري، عن أشياخ منهم قال : فينا والله وفيهم، -يعني في الأنصار- وفي اليهود الذين كانوا جيرانهم نزلت هذه القصة يعني: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة:89]، قالوا: كنا قد علوناهم قهرًا دهرًا في الجاهلية، ونحن أهل شرك وهم أهل كتاب وهم يقولون: إن نبيا سيبعث الآن نتبعه، قد أظل زمانه؛ فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما بعث الله رسوله من قريش، واتبعناه كفروا به يقول الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة 89]، اهـ من «سيرة ابن هشام» (1/213) وهو في «الصحيح المسند من أسباب النزول» لشيخنا العلامة الوادعي رحمه الله، وقال: هو حديث حسن، فإن ابن إسحاق صرح بالتحديث، فحديثه حسن، كما ذكره الذهبي في «الميزان».(1/19)
وفيه: أنه لما بعث الله رسوله ? من العرب، أخذ اليهود الكبر، واستكبروا على الحق، وابتلاهم الله بذلك بالكبر، وبالحسد، حتى ردوا الحق، وهم يعرفون ويقرأون عنه في الكتب، كما نقرأ عن الدجال آتي، وكما نقرأ عنه نحن أن القيامة ستقوم، وأن الشمس ستطلع من مغربها، وأن ناراً ستخرج من قعر عدن، كل هذه نؤمن بها، فكذلك أولئك كانوا يقرءون بما بشرهم به عيسى، قال تعالى: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}[الصف:6]، ويعلمون أنه حق، وقد بشر به كما في حديث سلمان راهب عن راهب، في آخر راهب منهم دله على رسول الله ?، وبشر به هرقل، وما رده عن الإسلام إلا الخوف على ملكه.(1/20)
هذا صارف خطير، صُرفت به أمم، وأشخاص، وصُرف به مشركو قريش، إذ دعاهم رسول الله ?، وعم وخص، حين صعد على جبل، ثم نادى: » يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني فلان«، فاجتمعوا، وكان من لم يستطع أن يخرج إلى رسول الله ? يرسل بعض أقاربه ليسمع ما يقول محمد، فلما اجتمعوا قال: »أرأيتم إن أخبرتكم أن جيشاً مصبحكم، أكنتم مصدقي؟«، قالوا: ما جربنا عليك كذباً، يعرفون أنه الصادق الأمين، قال: »إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد«، فقال أبو لهب: تباً لك، ألهذا جمعتنا، فأنزل الله عز وجل، قال تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ}[المسد: 2-5].وأبو طالب والله ما صرفه عن هذا الحق، وعن الإسلام إلا الكبر والعصبية لقومه، لقد كان رسول الله ? حين احتضاره حاضرًا، وقال: »يا عم قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله«، وهو لا يزال يردد عليه المقالة، ويأزه أبو جهل بن هشام، يأزه ويدفع به إلى العصبية وإلى الكبر، والتعالي ويقول: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ ولا يزال النبي ? يرد عليه هذا الطلب، وأبو جهل يأزه بالعصبية، وبالكبر حتى كان آخر أمر أبي طالب أن قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله.
وقال العباس رضي الله عنه: يا رسول الله، ما أغنيت عن عمك، فقد كان يحوطك ويغضب لك؟ كم دافع عن رسول الله ?، ومع ذلك منعه الكبر عن الحق، قال النبي ?: »هو في ضحضاح من نار، له جمرة يغلي منها دماغه«، لأنه تكبر على الله الحق، وصُرف عن الحق بسبب كبره، قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}[الأعراف:146].(1/21)
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بعد أن أنصرف النبي ? ومات أبو طالب، يا رسول الله، إن عمك الشيخ الضال قد مات، قال: »أذهب فواره، ولا تحدث شيئاً«.
هذا المرض الذي هو سبب للصرف عن الهدى، وعن الخير، عن الاستقامة، وعن السنة، وعن الإسلام، خطير جداً، وقد نزه الله عنه ملائكته، وصالحي البشر من عباده، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ}[الأعراف:206].
وقال سبحانه: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً}[النساء: 172-173].
وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت:38]،
فأنبياء الله ورسل الله، وملائكة الله، وعباد الله الصالحون، منزهون عن هذا المرض، روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي ? قال: »احتجت الجنة والنار فقالت النار فيّ المتكبرون والجبارون، وقالت الجنة: فيّ ضعفاء الناس ومساكينهم، فقضى الله بينها أنتِ الجنة أرحم بك من أشاء، وأنتِ النار عذابي أعذب بك من أشاء، ولكليكما عليّ ملئها«.(1/22)
النار تباهي وتفتخر بالمتكبرين، أنهم حطبها، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: »ثلاثة لا ينظر الله إليهم، ولا يكلمهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر«.
الصارف الثاني: وهو من أشد الصوارف عن الخير، الحسد، فبالحسد صُرف إبليس، حسد آدم، وقال: {هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:62]، وصُرف ابن آدم الأول عن الحق وقتل أخاه، قال الله سبحانه وتعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[المائدة: 27-30].
هذا مرض خطير، به قطع رحمه، وبه قتل أخاه.
وقال النبي ?: »ما من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كِفل من دمها، لأنه أول من سن القتل«.(1/23)
أول ما سن القتل بسبب جريمة الحسد، وأهبط الشيطان، وأهين الشيطان بجريمة الحسد، وأخبر الله سبحانه بقصة عظيمة جداً عند قراءتها كان عمر بن الخطاب يبكي، عند قراءة سورة يوسف، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ * إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[يوسف:7-8]، ارتكبوا العقوق، وارتكبوا الكذب، وارتكبوا المكر، وارتكبوا قطيعة الرحم، وبيع الحر، كل ذلك بسبب الحسد، قال تعالى: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ}[يوسف: 8-9]، صالحين مقبولين عند أبيكم، وعند الناس، وإلا هذا سيكون الوجيه عند أبيكم،قال الله: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ}[يوسف:10].
وهكذا ما زالوا مستمرين في المكر حتى قالوا: {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ * قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخَاسِرُونَ * فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}[يوسف: 11-15].(1/24)
انظر كيف فضحهم الله، قال تعالى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}[يوسف:18].
جاءوا يقولون أنه أكله الذئب، وأتوا عليه بالدم، وارتكبوا أكاذيب ومكرًا وفجورًا، استدل به شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في »جامع المسائل« وتلاه السيوطي في رسالة سماها: »دفع التعسف عن إخوة يوسف«، على أن إخوة يوسف ليسوا أنبياء، وإنما أسباط عبارة عن قبائل من بني إسرائيل.
ومشركو قريش، صرفوا كل ذلك بسبب الحسد، قال تعالى: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلأ مِنْهُمْ أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ}[ص: 5-7]، وتالله أنهم يعرفون الحقائق، من انشقاق القمر، ووصف بيت المقدس، وكل ذلك ما منعهم إلا الكبر والحسد لرسول الله ?.
إن الحاسد لو استطاع أن يمنع عنك الريح والهوى، أن تشم الهوى لفعل، فضلاً من أن يتبعك على الحق، قال الله سبحانه وتعالى: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً * أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً} [النساء: 53-54].(1/25)
ولهذا تجد الحاسد يجر حسده عليه شرورًا كثيرة، قال تعالى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ}[القلم:51]، من شدة الحسد يكادون يصيبونه بالعين، ويتهمونه بعد هذا كله بالجنون، وهم كذابون ما حملهم على ذلك إلا الحسد، مشركو قريش، واليهود وسائر المبطلين، وأنزل الله عليه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}[الفلق: 1-5].
الحسد يجعل في قلب صاحبه الشر، واليهود أحسد الناس، قال تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة:105].
وقال الله سبحانه في كتابه الكريم: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ}[البقرة:109]، ما الذي يدفعهم إلى هذا؟ قال الله: {حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ}[البقرة:109]، وقال النبي ?: »ما حسدكم اليهود على شيء، ما حسدتكم على الإسلام والتأمين«، قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}[البقرة:120].
وقال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم عنهم: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً}[النساء:89]، ولهذا رسول الله ?، أمر بمحاربة النفس عن هذا المرض الخطير، فقال عليه الصلاة والسلام: »لا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا«، الحسد مرض قاتل، قال بعضهم:(1/26)
لله در الحسد ما أعدله ... بدأ بصاحبه فقتله
وقال آخر:
ألا قل لمن كان لي حاسداً ... أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في فعله ... بأنك لم ترضى لي ما وهب
فجازاك منه بأن زادني ... وسد عنك وجوه الطلب
الصارف الثالث: التقليد، وهو: اتباع من ليس بحجة بغير حجة، قال العمريطي رحمه الله:
تقليدنا قبول قول القائل ... من غير ذكر حجة للسائل
أما إتباع رسول الله ? فهو إتباع وليس بتقليد، إتباع، واهتداء واقتداء، وسنة، ورحمة، وهدى، ونور، وبصيرة.
الإمام محمد بن عبد الوهاب النجدي رحمة الله عليه يجعل التقليد سنة من سنن الجاهلية، وبسببه لج المشركون في باطلهم، وقلدوا آبائهم، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23].
فالواجب إتباع الحق، سواء كان مع هذا الإمام أو مع غيره، من وافق الدليل أخذ به، فإنك تبعث يوم القيامة وحدك، والله سبحانه وتعالى يقول: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [النحل:111].
الصارف الرابع: البعد عن أهل العلم، والانفراد بالرأي، والركون إلى الجهلة، وهذا صارف هلكت به أمم، انظروا إلى الخوارج كيف صُرفوا عن الحق، لما ابتعدوا عن أصحاب رسول الله ?، وأتاهم ابن عباس رضي الله عنه، قال علي له: إلى أين؟ قال: أذهب إلى هؤلاء، قال: إني أخافهم عليك، قال: لا، إني أذهب إليهم.(1/27)
فقال: ماذا تنقمون على أصحاب رسول الله ? الذين نزل عليهم الوحي، وهم أعلم بكتاب الله منكم، وليس فيكم منهم أحد، وعلى صهر رسول الله ?؟ قالوا: ننقم عليه ثلاثاً، لماذا غزا ولم يسبِ، قاتل ولم يسب، ولماذا محى من اسمه أمير المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو من الكافرين، ولماذا حكم الرجال؟ فما شأن الرجال في الحكم، إن الحكم إلا لله.
وكان بقاياهم يقاتلون ويقولون: إن الحكم إلا الله، إن الحكم إلا لله، رجل يقال له: شبيب، وكان شجاعاً منهم، ويكنى بأبي المدلّه، كان يقاتل ويقول:
أنا شبيب أبو المدلّه ... إن الحكم إلا لله
وأين هو وأين الفهم الصحيح للأدلة، فكان علي بن أبي طالب يصك المصحف، ويقول: انطق يا مصحف، انطق يا مصحف، قالوا: ماذا تخاطب من حبر وورق؟ قال: هؤلاء يقولون الحكم لله، فمن الذي يحكم بحكم الله إلا أهل العلم، من الذي ينفذ الحكم، من الذي يأمر، إلا أهل العلم، كما في مسند أحمد بنحوه.
ولما ناظرهم ابن عباس رضي الله عنهما، قال: أرأيتكم إن جئتكم ببطلان ما تقولون أترجعون؟ قالوا: نعم، فقال: أما قولكم في حكم الرجال، فقد حكم الله الرجال في بضع امرأة، وفي قصة أرنب، أي في جزاء الصيد، قال تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ}[المائدة:95]، وقال تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35].
ثم انتقل إلى الثانية: قال: أما قولكم أنه قاتل ولم يسب ولم يغنم، أرأيتم يسبي أمكم، فإن قلتم يسبي أمكم كفرتم، قال تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}[الأحزاب:6]، وإن قلتم يستحل منها ما يستحل من سبيه كفرتم، لأنها أم، والأم محرمة، قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ}[النساء:23] الآية.(1/28)
أخرجت من هذه؟ قالوا: خرجت، قال: وأما محو من اسمه أمير المؤمنين، فإن رسول الله ? قاضى المشركين، فجاء سهيل بن عمرو وقال: اكتب يا علي هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله رسول الله ? سهيل بن عمرو على كذا وكذا، وأنه يدخل البيت بالسيف، والجراب، وأنه يبقى ثلاثة أيام ثم ينصرف، وأنه من أتاه من المشركين يرده، إلى آخر ما ذكر في ذلك الحديث. فقال سهيل: لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، ولكن اكتب من محمد بن عبد الله، فأبى علي أن يمح هذا الاسم وقال: والله لا أمح اسمك، فأخذ النبي ? ومحى اسم رسول الله ?، وقال: »الله يعلم أني رسوله«، أرأيتم لما محى رسول الله ?، أمحى رسول الله ? رسالته؟، أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم، فرجع منهم أربعة آلاف، وبقي ألفان، قاتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بسبب بغيهم وجهلهم، واعتدائهم على المسلمين، وكان يمر على القتلى منهم، ويقول: قد ضركم من غركم، قد ضركم من غركم. فالبعد عن أهل العلم، العاملين، الناصحين، هذا خطر عظيم، ففي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي ? قال: »كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً ثم سئل عن أعلم أهل الأرض، فدل على راهب فأتاه فقال: أله توبة؟ فقال: لا، فقتله وكمل به المائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على عالم فقال: هل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينك وبين التوبة، اذهب إلى أرض كذا، فإن بها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم، وبينما هو في الطريق أتاه ملك الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب، قالت ملائكة الرحمة: إنه جاء تائباً مقبلاً على ربه، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط، فأرسل الله ملكاً يقيس بين الأرضين، فأيهما أدنى إليها فهو له، فاقسوا بين الأرضين فوجدوه إلى الأرض التي أراد، فأخذته ملائكة الرحمة.(1/29)
شاهدنا من ذلك أن هذا الرجل ببعده عن العلماء، لما لم يكن عنده من يسأله عن العلم، ويتفهم بالدليل صار قتّالاً، ولما هداه الله إلى عالم أفتاه بالدليل، وبصره بالحق، وخرج كانت تلك الفتوى وذلك العلم من أسباب نجاته من عذاب جهنم، وأخذته ملائكة الرحمة.
والمعتزلة صرفوا عن الحق، وهم من تلاميذ الحسن، لما ابتعدوا عن شيخهم الحسن البصري رحمة الله عليه، إمام من أئمة الدين، هذا الإمام أنبرى عنه أناس بسبب الفكر، والبعد عن أهل العلم، وذهب واصل بن عطاء الغزال، ومجموعة معه يقررون لهم خمسة أصول، وظاهرها السلامة، ولكنها انحرافات عن دين الله الحق، العدل والتوحيد، والمنزلة بين المنزلتين، وإنفاد الوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ويقصدون بالعدل أن الله ما قدر الشر على عباده، والله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ}[القمر: 49-50]، ويقول: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً}[الفرقان:2] إلى غير ذلك من أدلة القدر المدونة في كتبها، ومن ذلك جمع شيخنا رحمة الله عليه، »الصحيح في القدر«، ومن ذلك »شفاء العليل«، لابن القيم، و«خلق أفعال العباد» للبخاري، ومن ذلك ما ضمنه الإمام البخاري في «صحيحه»، وما ضمنه الإمام مسلم في «صحيحه»، وما ضمنه أئمة الدين، في الرد على القدرية الذين ينكرون قدر الله سبحانه، ردًا على ذلك الفكر الذي هو بسبب ابتعادهم عن العلماء.
والتوحيد عنوا بذلك نفي الصفات، أن الله سبحانه وتعالى ليس له سمع، لا بصر، ولا علم، ولا حكمة، ولا قدرة، وسائر الصفات لله سبحانه نفوها، والله سبحانه يقول: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى}[الروم:27]، يقول النبي ?: »لا أحصي ثناء عليك«.(1/30)
وهي ثابتة في الكتاب والسنة، ولكنهم تركوا علماء الكتاب والسنة، وعمدوا إلى ذلك المدبر واصل بن عطاء العزّال قرر عليهم هذا المنهج الباطل، وتابعته أمة على هذا التقرير، وصار هذا المنهج ديدناً لهم.
وإنفاذ الوعيد عنوا به: أن من مات مرتكبًا كبيرة، دون الشرك بالله يخلد في النار، والله عزوجل يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عنوا به: الخروج على ولاة أمور المسلمين، والله عزوجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59].
والمنزلة بين المنزلتين، عنوا بها: أن مرتكب الكبيرة في الدنيا لا مؤمن، ولا كافر، والله عزوجل يقول: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف:29]، ويقول: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3].
ففكر الخوارج والقدرية وفكر الرافضة مبني على الجهل والبعد من علماء السنة من الصحابة رضوان الله عليهم، وفكر المعتزلة مبني على الجهل والبعد عن علماء السنة من التابعين، رحمهم الله.(1/31)
ثبت في «صحيح مسلم» من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن يحيى بن يعمر وصاحب له قدم على عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقال: يا أبا عبد الرحمن، ظهر قِبلنا إناس يتقفرون العلم، ويقولون: الأمر أنف، ومعناه أنهم ما زالوا طلبة، وليسوا براسخين في العلم، ولا عندهم علم.
يقولون: الأمر أنف، أي ما علم الله الأمور إلا بعد حصولها، قال: أخبروهم أني منهم بَرَاء، وأنهم مني بُراء، والله لو أنفق أحدهم مثل أحد ذهباً ما تقبل الله منه، حتى يؤمن بالقدر خير وشره، ثم بين لهم العلم في هه المسألة، فقال: حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وساق الحديث إلى آخره وفيه: »وأن تؤمن بالقدر خيره وشره«، وراجع نص الحديث في صحيح مسلم برقم (8)، وهو حديث مشهور بحديث جبريل.(1/32)
والبعد عن علماء الهدى سنة من سنن اليهود والنصارى، قال الله تعالى: عن بني إسرائيل أؤلئك لما ابتعدوا عن علمائهم ولم يقبلوا نصحهم: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ}[لأعراف: 163-165]، ولاحظ معي كلمة: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ}[لأعراف:165] ذكرهم علماؤهم، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ} [الشعراء:197]، ذكرهم علماءهم بالله، وخوفوهم، وحذروهم، فلم يستفيدوا من علمائهم، فصُرفوا ولعنوا وطردوا ومسخوا قردة وخنازير، قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف: 165-166].
وقال تعالى عنهم: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:79].(1/33)
وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً}[النساء: 66-68].
يا أيها الناس، الحذر من الصوارف عن الحق، فإنك تحافظ على جسمك، فالواجب عليك أن تحافظ على صحة دينك أشد، ولا تُصرف عن هذا الدين، واسأل الله سبحانه وتعالى من فضله، فإن رسول الله ? كان يكثر من هذا الدعاء: »يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف الأبصار صرف قلبي على طاعتك« يخشى على نفسه أن يُصرف، وهو معصوم، فكيف بنا؟، ينبغي أن نخشى أشد الخشية، أن نصرف؛ لأننا لسنا معصومين، فقد صُرف أمم كثير، وقال الله في كتابه الكريم: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103].
صُرف أناس عن الإسلام، وصُرف آخرون عن السنة بعد أن عرفوها، ودونوها، ودعوا إليها، وخطبوا بها على المنابر، وصرف أناس عن طلب العلم النافع، بعد أن عرفوا طريق العلم، ودعوا إلى ذلك.
ومن الصوارف عن الحق: هو الخوف على المال، أو على الولد، أو على المنصب، فقد ثبت في «الصحيح» أن هرقل دعا قومه، وقال: من أراد منكم الرشد والفلاح، فليتبع هذا النبي، ولما قال هذا الكلام وقد سكر الأبواب، حاص من حوله حيصة الحمر إلى الأبواب، فقال: ردوهم، فلما ردوهم قال: إنما قلت هذا لأختبر ثباتكم، ولقد كان قريباً من الإسلام، والصحيح من أقوال أهل العلم أنه لم يسلم، وخاف على ملكه.(1/34)
وقوم فرعون منعهم عن الإسلام الخوف منه، قال تعالى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} [يونس:83].
ومن الصوارف عن الحق: الهوى، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[لقمان: 6-7].
وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}[الجاثية: 23-23]، وقال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [صّ:26] وأدلة كثير في الباب، تبين أن الهوى صارف عن إتباع الحق.(1/35)
ومن الصوارف عن الحق: الدنيا، ومطامع الدنيا، والله سبحانه وتعالى ما حذر منها إلا لما فيها من أضرار، قال تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[يونس: 24-25]، قال تعالى: {أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ}[التكاثر: 1-2]، وهذا في سياق الذم، فإنها تلهي، وتصرف عن الإنسان عن الحق، والله يقول في كتابه محذراً ممن انصرف عن الحق إلى الدنيا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 9-10].
فيحذرهم أن ينصرفوا إلى الدنيا، وتكون صارفة لهم عن ذكر الله، وقال: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}[الجمعة:11].(1/36)
وثبت من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه: أن النبي ? قال: »ما ذئبان جائعان أرسل في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على الشرف والمال لدينه«، وقال عليه الصلاة والسلام عن كعب بن عياض: »لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال«، فهي فتنة، وصارف عن الحق، ولقد رأينا ورأيتم من صرف عن الهدى، وعن السنة، وعن العلم، بسبب مطامع دنيوية، وبسبب ما يجمعونه، ويأكلونه، ويشربونه، قال تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً}[النساء:77].(1/37)
وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً}[البقرة:79]، هلكوا بسبب الدنيا، وصرفوا عن الخير، قال تعالى: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}[البقرة:79]، قال تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[البقرة:75]، يحرفونه، ويكتبونه بأيديهم، ويدعون أنهم كلام الله، من أجل يبيعوا ويشتروا، فصرفوا عن الإسلام، وعن الحق، من أجل مطامع الدنيا، ورب إنسان يصير عالماً ويصرف عن علمه، ويُصرف عن الخير، ويصير مثل الكلب قال الله سبحانه في كتابه العزيز: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ}[الأعراف: 175-176]، ما سبب إهانة هذا الرجل حتى صار من وصف عالم، إلى مثل كلب؟، بسبب الدنيا، صار يلهث بعدها مثل الكلب، قال تعالى: {إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ}[الأعراف:176].(1/38)
هذه والله قصة عظيمة قصها الله في كتابه، تحذيرًا لطلبة العلم، وتحذيرًا لدعاة السنة، وتحذيرًا للعلماء، أيها العالم يجب أن تخاف على نفسك، أيها الداعي يجب أن تخاف على نفسك، أيها السني، أيها الطالب، أيها المسلم، يجب أن تخاف على نفسك، فإن الإنسان إذا انحرف وانصرف عن الحق، يذله الله ويصير رديئاً، ويزيغ قلبه، قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[الصف:5].
شأن الآيات أن الله يرفع بها أهلها، »إن الله ليرفع بهذا القرآن أقوامًا، ويضع به آخرين«، وشأن العلم أنه رفعة لأصحابه، يرفع الله {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}[المجادلة:11].
يقال لقارئ القرآن: »اقرأ ورتل وارتقِ، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها في الجنة«، منزلته في الجنة رفيعة، عالية، ومع ذلك هذا الرجل يصير إلى مثل كلب، قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ}[الأعراف:176]، يا علماء السوء هذه ذكرى، يا علماء السوء، لا تخزوا أنفسكم، ولا تحقروا ما عندكم، واقرأ يا طالب العلم من كتاب الله ما يصون دينك، وكن مشرفاً معزاً لدين الله يعزك الله، قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً}[فاطر:10]، من صان هذا الدين؛ صانه الله، واعلم أن هذا العلم ما هو من أجل دنيا، علم كتاب الله، وسنة رسول الله ? علم دين، كما قال ابن سيرين، في »مقدمة صحيح مسلم«: (إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذوا دينكم).(1/39)
ومن الصوارف عن الهدى: مجالسة أهل الباطل، قال النبي ?: »مثل الجليس الصالح، والجليس السوء، كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً منتنة«.
وقال عليه الصلاة والسلام: »المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل«، ولما قال رجل: يا رسول الله متى الساعة؟ قال: »ماذا أعددت لها؟«، قال: حب الله ورسوله، قال: »أنت مع من أحببت«.
وانظر معي قصة أبي طالب إذ مات على الكفر بسبب مجالسة أبي جهل، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[سبأ: 31-33].(1/40)
يتخاصمون في النار، وكلهم ظلمة، وكلهم مجرمون، المتَبِع، والمتَبَع، لأنهم لم يتحروا الحق، ولأنه قلد بعضهم بعضاً، ولأنهم جالسوا وتجالسوا على السوء، وعلى الخنا، قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}[البقرة: 166-167].
ويقول سبحانه: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً}[الفرقان: 27-29].
وقال الله سبحانه في كتابه الكريم: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً * إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا}[الأحزاب: 63-66].
وانظر على ندم، قال الله تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً}[الأحزاب: 67-68].(1/41)
وقال تعالى: {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنْ الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ}[الصافات: 54-61].
فيا أيها العبد اتق الله، ولا تنبهر بالدعايات والتزييفات، فإنك في زمن كثر كذابوه، وقل صادقوه، قال النبي عليه الصلاة والسلام: »قبل الساعة سنوات خداعة، يخون فيها الأمين، ويؤتمن فيها الخائن، ويصدق فيها الكاذب، ويُكذب فيها الصادق، وينطق فيها الرويبضة«، قيل: وما الريبضة يا رسول الله؟ قال: »السفيه يتكلم في أمر العامة«.
كن مع الدليل، مع الكتاب، ومع السنة، قال تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ}[الجاثية:6].
وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[العنكبوت:51].
وقال تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}[يونس:32].
وعلينا وعليكم بالإخلاص لله سبحانه وتعال، فيما نقول ونفعل، وفيما نأتي ونذر، فإن الله عزوجل إذا علم من العبد صدق النية، وصلاح الطوية، يسر له سبل الهدى، وجنبه موارد الردى، وهو أعلم بالسر وأخفى، ففي «الصحيحين» من حديث عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أن النبي ? قَالَ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى».(1/42)
وفي «صحيح مسلم» من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ?: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ، وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ».
أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما قلنا، وبما سمعنا، وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من إصداراتنا:
1) أحكام التيمم. ... ...
2) الإتحافات بتلخيص الحاوي للسيوطي رحمه الله ونقد ما فيه من الشطحات. ... ...
3) توضيح الإشكال في أحكام اللقطة والضوال.
4) الأدلة الزكية في بيان أقوال الجفري الشركية.
5) أضرار الحزبية على الأمة الإسلامية.
6) التحذير عن أهم الصوارف عن الخير.
7) جلسة ساعة في الرد على المفتين في الإذاعة.
8) الحث والتحذير على تعلم أحكام المريض.
9) السيل العريض الجارف لبعض ضلالات الصوفي عمر بن حفيظ.
10) فتوى في حكم الدراسة الإختلاطية.
11) الأجوبة السنية وكشف بعض أباطيل الصوفية.(1/43)