التبيان
لكل شيءٍ من خلال القرآن
إعداد
د. عبد الرحمن بن جميل بن عبد الرحمن قصاص
أستاذ مساعد بقسم الدعوة والثقافة الإسلامية
كلية الدعوة وأصول الدين - جامعة أم القرى - مكة المكرمة
ص. ب: 13090 مكة - فاكس: 5583888
ت: 0505512475 - عمل: 5563845
E: lehyani88@yahoo.com
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه نستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلاّ الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا، أمّا بعد؛(1/1)
فإنّ رحمة الله تعالى وسعت كل شيء في الوجود، قال الله العليم الخبير سبحانه: ?ورحمتي وسعت كل شيء? (الأعراف: 156)، وقد قالت الملائكة عليهم الصلاة والسلام في دعواتهم المباركات: ?ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلمًا? (غافر: 7)، وقال الله السميع العليم سبحانه عن نفسه تعالى: ?فقل ربكم ذو رحمة واسعة? (الأنعام: 147)، ومن هذه الرحمة الواسعة الربانية أن أنزل الله تعالى ذكره كتابه المبين رحمة بالخلق، يقول الله الواسع العليم سبحانه: ?ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء وهدًى ورحمة وبشرى للمسلمين? (النحل: 89). وكانت لهذه الرحمة الواسعة الإلهية علاقة بأن جعل الله سبحانه القرآن الكريم تبيانًا لكل شيء حتى يكتمل عِقْد الفض، وتزدان حلية الرحمة، ولذلك قُرن في الآية الحكيمة السابقة بين صفة تبيان هذا الكتاب المبارك لكل شيء وصفة أنه هدى ورحمة وبشرى للمسلمين. ثم إني بعد هذا أردت أن أعرض عظمة القرآن المبين وأتحدث إلى العالمين عن أن هذا الكتاب المجيد تبيان لكل شيء، فتناولت القلم بمداده، والورق بأسطره فكتبتُ هذه البحث تعظيمًا لهذا الكتاب الكريم الذي هو كلام رب العالمين نزل به الروح الأمين جبريل عليه الصلاة والتسليم على قلب الصادق الأمين سيدنا محمد عليه الصلاة والتسليم، فأكرمني الله تعالى بهذه الكلمات ومنّ عليّ بهذا البحث فلله تعالى الحمد والمنة، وله الحمد في الأولى والآخرة. واستخرت الله سبحانه وتعالى أن يكون عنوان هذا البحث: (التبيان لكل شيء من خلال القرآن).
خطة البحث:
وقد اشتمل هذا البحث على مقدمة وثلاثة مباحث وخاتمو، جاء تفصليها على النحو التالي:
- مقدمة.
- المبحث الأول: من خصائص القرآن المبين.
- المبحث الثاني: المجالات التي بيّنها القرآن المجيد.
- المبحث الثالث: أصول وقواعد قرآنية في هذا الموضوع.
- خاتمة.(1/2)
أسأل الله تعالى العظيم رب العرش الكريم الحيّ القيوم ذا الجلال والإكرام واسع العلم والرحمة والحكمة أن يتقبله مني، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم سبحانه، وأن يجعله مفيدًا في بابه. وصلى الله وسلم على نبينا وسيدنا محمد وآله وصحبه. والله تعالى أعلم.
وكتب
العبد الفقير إلى الله تعالى
عبد الرحمن بن جميل قصاص
ضحى الأحد الموافق 27/7/1425هـ
في السماء الدنيا، في الطريق إلى أميركا
المبحث الأول
من خصائص القرآن المبين
إن من أعظم النعم الربانية والمنح الإلهية ما تفضل به الله العليم القدير سبحانه من جعل هذا الكتاب الحكيم القرآن المبين يمتاز بميزات، ويختص بخصائص، وينفرد عن غيره من الكتب المقدسة وغير المقدسة، فهو فريد في بابه، وحيد في نوعه، لا يشابهه شيءٌ.
وقد كثرت خصائصه، وتعددت مزاياه، وفي هذا المبحث أحاول أن أتناول بعضًا منها، فمن خصائص القرآن المبين:
أولاً: أنه كلام رب العالمين المحفوظ من أيدي العابثين:(1/3)
لقد وصف الله سبحانه وتعالى القرآن الحكيم بأنه كلامه وحده سبحانه في ثلاثة مواطن من الكتاب الكريم، قال الله البصير سبحانه عن بني إسرائيل: ?أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ? (البقرة: 75)، ويقول الله السميع العليم سبحانه: ?وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ? (التوبة: 6)، وقال الله الخبير سبحانه: ?سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً? (الفتح: 15).
فهذه الميزة ترفع هذا القرآن الكريم في أعين من يقرأه ويتعلمه ويعلّمه ويعمل به ويدعو إليه.
ولقد كانت بعض الكتب السماوية السابقة تتصف بهذه الصفة إلا أنه دخلها التحريف والتفسير البشري، ومن أمثلة ذلك التوراة التي كانت يوم إنزالها على نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام من كلام الله سبحانه، قال الله تعالى ذكره: ?قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ? (الأعراف: 144).(1/4)
إلاّ أن الأيدي الآثمة والعقول السيئة قامت بالتحريف والتزوير، يقول ربنا علاّم الغيوب سبحانه: ?مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ? (النساء: 46)، وذلك على الضدّ من حفظ الله تعالى لكلامه الحكيم في كتابه الكريم القرآن المبين، يقول الله ا لواحد الأحد سبحانه: ?إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ? (الحجر: 9)، فهو كلام الله تعالى المحفوظ بحفظه سبحانه.
ثانيًا: أنه مصدِّق ما سبقه من الكتب ومهيمن عليها:(1/5)
لقد جعل الله سبحانه وتعالى كتاب القرآن الكريم آخر الكتب السماوية، فجعله سبحانه مصدقًا لما سبقه من الكتب، قال الله العظيم الحليم سبحانه عن موقف بني إسرائيل من الكتاب الحكيم: ?وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ? (البقرة: 89)، ويقول ربنا الكريم سبحانه: ?وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ? (الأنعام: 92)، وجعل الله سبحانه وتعالى أيضًا بعض كتبه السابقة مصدقة لما سبقها من الكتب، فمن الأمثلة على ذلك الإنجيل؛ يقول الله العزيز الحميد سبحانه عن بني إسرائيل: ?وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ? (المائدة: 46)، إلاّ أن القرآن المبين امتاز عن تلك الكتب المصدقة لبعضها بأنه مهيمن عليها ناسخ لها، ليس بعده كتاب، قال الله القوي العزيز سبحانه مخاطبًا رسوله صلى الله عليه وسلم: ?وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ? (المائدة: 48).
ثالثًا: أنه كتاب مفصّل مبين:(1/6)
ومن مشيئة الله تعالى وقدرته سبحانه أن جعل القرآن الحكيم كتابًا مفصّلاً مبينًا؛ لأنّ الله تعالى يعلم حاجة الناس الماسة والملحة إلى كتاب مفصّل يبيّن لهم ما يحتاجون إلي بيانه في حياتهم الدنيوية والآخروية، العلمية والعملية، يقول الله الحكيم الخبير سبحانه: ?الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ? (هود عليه الصلاة والسلام: 1)، وقال الله الرحمن الرحيم سبحانه: ?حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ? (فصلت: 1-3).
ويقول الله القدير سبحانه: ?أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً? (الأنعام: 114)، وقال الله العظيم الحكيم سبحانه: ?وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ? (النحل: 89)، ووصف الله الحكيم سبحانه كتابه القرآن المجيد بأنّه مبين في تسعة مواضع: سبعة منها في صدور سبعة سور، وهي: سورة يوسف عليه الصلاة والسلام والحجر والشعراء والنمل والقصص والزخرف والدخان، منها قول الله تعالى ذكره: ?الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ? (يوسف عليه الصلاة والسلام: 1)، وقال الله العظيم سبحانه: ?الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ? (الحجر: 1)، وموضعان آخران تمام التسعة؛ أحدهما قول الله الجليل سبحانه: ?قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ? (المائدة: 15)، والآخر يقول الله تعالى شأنه فيه: ?إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ? (يس: 69)، فهذه الميزة الربانية لهذا الكتاب العظيم تبيّن شموله وكماله بحيث لا يحتاج معه إلى كتاب آخر، والأمة المسلمة تستغني به عن غيره من المصادر البشرية والمراجع الإنسانية.
رابعًا: أنه كتاب وذكر مبارك:(1/7)
وهذا يعني أن البركة الحقيقية قد وضعها الله تعالى ذكره في هذا الكتاب الكريم، حيث ذكر الله تعالى ذلك في أربع آيات لا خامس لها؛ يقول الله تبارك وتعالى: ?وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ? (الأنعام: 92)، وقال الله الفتاح العليم سبحانه: ?وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ? (الأنعام: 155)، وقال الله علاّم الغيوب سبحانه: ? )وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ? (الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: 50)، ويقول الله البصير سبحانه: ?كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ? (ص: 29).
فإن كان القرآن الكريم يختص بصفة وميزة البركة كما وصفه الله سبحانه وتعالى، فهو موضع حقيقي لالتماس البركة منه على مدى الأزمان، واختلاف الأماكن والأشخاص.
خامسًا: أنه ذكر وذكرى للعالمين جميعًا:(1/8)
عندما اختار الله تبارك وتعالى القرآن الكريم لإنزاله جعله كتابًا نذيرًا وذكرًا وذكرى للعالمين جميعًا، من بَعُد وطنه منهم أو قرُب، من نأى به المنزل أو دنى، لا بد أن تصله نذارة هذا الكتاب الحكيم وذكراه يقول الله العليم الحكيم سبحانه عن القرآن المجيد: ?تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا? (الفرقان: 1)، ويقول الله العزيز الحميد سبحانه: ?قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ? (الأنعام: 90)، ووصف الله سبحانه وتعالى كتابه القرآن الكريم بأنه ذكر للعالمين في أربعة مواضع كلها في أواخر السور: ففي أواخر سورة يوسف عليه الصلاة والسلام آية (104) يقول الله سبحانه: ?وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ?، وفي أواخر سورة ص آية (86، 87) يقول الله الواحد سبحانه: ?قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ. إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ?، وفي أواخر سورة ن آية (51، 52) يقول ربنا البصير سبحانه: ?وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ. وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ?، وفي أواخر سورة التكوير آية (25، 27) يقول الله العزيز العليم سبحانه: ?وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ. فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ. إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ?.
وبهذه الخصائص الخمس أختم هذا المبحث، وإن كان في جعبتي الكثير والكثير منها. وقد اخترتُ شيئًا من عيون هذه الخصائص وما تركته أكثر(1).
المبحث الثاني
المجالات التي بيّنها القرآن المجيد(1/9)
لقد جعل الله سبحانه وتعالى القرآن المجيد أصلاً للعلوم التي تحتاجها البشرية كلها، واختاره تعالى مرجعًا للعالمين ينهلون منه. فالقرآن الكريم كتاب هداية للبشر أجمع في حياتهم الدينية والدنيوية، ولا تقتصر هدايته على النواحي الدينية والروحانية فقط - كما يظن البعض -، بل إنها تتعدى ذلك إلى نواحي الحياة المختلفة، وإن كان قصب السبق وصدارة الأمر يعود إلى الهداية الربانية في الدين والدنيا.
وعند تأمل وتدبر وتذكر آيات الله البينات التي بثّها سبحانه في هذا الكتاب العظيم نجد أنه كتاب الأمة جميعًا، حوى مجمل أصولها العلمية والعملية، التي لا بد لهم أن يعودوا إليها، ويغترفوا من معارفها، وما زال العالمون يتوافدون إلى مأدبة القرآن الكريم ينهلون منه، ويملأون أفئدتهم وكتبهم مما وجدوه أو عثروا عليه، وهم في الحقيقة لم يعثروا إلا على الزهيد والقليل، وفاتهم - بكل صراحة - الكثير جدًا.
يقول الله العليم الحكيم سبحانه في وصف هذا الكتاب الحكيم المبين: ?وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ? (النحل: 89)، فهاتوا لي يا أهل الدنيا من شتى العلوم والفنون والمجالات أردها لكم - بإذن الله تعالى - إلى شيء من أصولها في القرآن المبين. قال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (أُنزل في القرآن كل علم، وكل شيء قد بيّن لنا في القرآن) (2).
وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: (ليست تنزل بأحد في الدين نازلة إلا في كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها)(3).
وقال بمكة مرّة رحمه الله تعالى: (سلوني عمّا شئتم أخبرْكم عنه من كتاب الله) (4).
وقد كثرت المجالات التي بينّها القرآن العظيم إمّا تناولاً أو إشارة فحسبي هنا أن أذكر غرفات مباركات من ذلك الحوض الطاهر المبارك، وهذا يدل على ذاك.
فأول هذه المجالات: إصلاح القلوب والعناية بها وأدويتها ومعرفة أمراضها.(1/10)
لقد اعتنى القرآن المبين بالقلب وأحواله وأمراضه وعلاجاته؛ حتى إن القلب ذكر في كتاب الله تعالى اثنتان وثلاثون ومائة مرّة، مفردًا ومثنًى وجمعًا.
ومن أمثلة هذه الآيات المحكمات ما ورد في أقسام القلوب من قول الله الجليل سبحانه: ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ. وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ? (الحج: 52 - 54).
وجاء في القرآن العظيم أيضًا مرادفات للقلب نحو لفظ الفؤاد الذي ذكر ستة عشرة (16) مرة مفردًا وجمعًا، وكذلك الحديث عمّا في الصدور، والمقصود بها القلوب، وهكذا.
فإلى من يبحث عن إصلاح القلوب وردّها إلى علاّم الغيوب سبحانه وتعالى عليك بآيات الله البيّنات المذكورات في القلب والفؤاد وذات الصدور. واعتناء القرآن العظيم بالقلب هذا الاعتناء الكبير دليل على أنه مجال ينبغي الاعتناء به ورعايته وعدم إغفاله، أو الانشغال عنه بما دونه في الأهمية. والله تعالى.
وهو أصل العبادات، ومحل النوايا، وإذا صلح صلح الجسد كله.
وثاني هذه المجالات: العناية بالطب الحسي.(1/11)
لا يستغني العباد في حياتهم الخاصة والعامة عن الطب الحسي وأنواعه وأدويته، ومداره على حفظ نظام الصحة، واستحكام القوة، وقد جمع الله سبحانه وتعالى ذلك في آية واحدة، وهي قول الله العليم الخبير سبحانه: ?وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا? (الفرقان: 67)، وذكر لنا ربنا تعالى أنواع العلاجات الحسية، ومنها: العسل الذي فيه شفاء للناس؛ يقول ربنا الجليل سبحانه: ?وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ. ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ? (النحل: 68، 69) (5).
ومن تأمّل وتدبّر آيات الله البيّنات الواردة في الأمراض وطبها علم علْم اليقين أن القرآن الكريم اعتنى بهذا الفن، واهتم بحالاته التي تطرأ على البشر دومًا.
ثالثها: أصّل القرآن الكريم علم النفس، وما يتفرع عنه من الطب النفسي.
وهو علم راقٍ يهتم بالنفس الإنسانية، ويُبدع في معرفة أحوالها ومراحلها، وما يؤثر فيها، ومن ثَم يكون علاج المتضرر منها بالطب النفسي.
وعن ملاحظة القرآن الكريم وتتبع آياته المحكمات نجد أنه أكثر من الحديث عن النفس البشرية بشكل واضح كبير، فقد تكرر ذكر لفظ (النفس) في القرآن المجيد خمسًا وتسعين ومائتي (295) مرّة بالإفراد والجمع ما يدل على أهمية هذا الاعتناء.
وإننا ندعو علماء النفس والأطباء النفسيين إلى استخراج درر علمهم وفنهم من لطائف الآيات الكريمات.(1/12)
ومن الأمثلة القرآنية على هذا العلم قول الله الرحيم الرحمن سبحانه وتعالى: ?وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ? (القيامة: 2)، ويقول الله الخبير البصير سبحانه: ?يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ. ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً? (الفجر: 27، 28).
رابعها: بيان علم الاجتماع.
وهو علم يبحث في النفس الإنسانية وسلوكياتها وعلاقتها بالمجتمع وبالعكس، مع الاهتمام بالمظاهر السلوكية العامة، وما عليه المجتمع والنظام الأسري، وتأثير البيئة على ذلك، كما يهتم بالنواحي العمرانية والتطورية من جانب.
والمتبحر عند قراءة القرآن الكريم ومراجعته يجد أنه كتاب عزيز اهتم بالنفس الإنسانية، كما اهتم بالمجتمع والنواحي الاجتماعية المتعددة.
ومن الأمثلة البارزة على ذلك الخطاب المتكرر إلى الخلق بصفة الجماعة أكثر من الخطاب بالصفة الفردية، فهذه نداءات القرآن المتعاقبة للناس، والذين آمنوا، وللعباد، وللقوم بأفعال الأمر بصيغة الجمع، ولفظ الجماعة غالبًا.
ولبيان هذا مفصلا نجد أن النداء بـ ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا? قد ذكر في القرآن الكريم تسعون (90) مرة، والنداء بـ ?يا قوم? ذكر سبع وأربعون (47) مرة، والنداء بـ ?يا أيها الناس? ذكر عشرون (20) مرة، والنداء بـ ?يا بني آدم? خمس (5) مرات، وكذلك النداء بـ ?يا عبادي?.(1/13)
وتحدث القرآن الحكيم عن كثير من المظاهر الاجتماعية التي مرت على سائر الأزمان، فقسّم القرآن المبين بعض الأحوال الاجتماعية فجعل منها الجاهلي والإسلامي، بل وفصّل في الحديث عن الجاهلية، فرمز لبعض مظاهرها بأنها من الجاهلية الأولى ليشعرنا - والله تعالى أعلم - أن هنالك جاهلية أخرى قادمة؛ يقول الله العظيم سبحانه وتعالى: ?يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا. وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى? (الأحزاب: 32، 33).
ومن أراد المزيد في علم وفن الاجتماع فعليه بقراءة سورة الأحزاب والحجرات على سبيل الذكر والمثال.
خامسها: بيان علم التربية وأصولها.
وهو من العلوم الإنسانية الشهيرة التي تعتني بالإنسان منذ نشأته إلى قبل وفاته ومغادرته الدنيا.
وقد أفاض القرآن العظيم الحديث عن التربية ووسائلها وأصولها وسماها (تربية وتزكية) مع التعليم والهداية.
ومن أمثلة هذا الاعتناء القرآني والبيان الإيماني ما أمر الله تعالى به عباده البارين بآبائهم وأمهاتهم أن يقولوا في دعائهم ?وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا? (الإسراء: 24).(1/14)
بل إن الله سبحانه وتعالى أرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام للعناية بتزكية الخلق؛ قال الله عز وجل: ?كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ? (البقرة: 151)، وأمر الله سبحانه وتعالى نبيّه الكليم موسى عليه الصلاة والتسليم بهذا الأمر أيضًا حين بعثه إلى فرعون: ?اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى. فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى. وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى? (النازعات: 17- 19).
سادسها: العناية بحقوق الإنسان في السّلم والحرب.
وهذا علمٌ يتناول ضمان حقوق الإنسان وكرامته وحريته في أوقات الرخاء والسِّلم، وعند الحروب والقلاقل والأزمات، ويسمى المعارك والحروب بالقانون الدولي الإنساني.
والقرآن المبين اعتنى غاية العناية بالحقوق الإنسانية في السلم والحرب. وقد جاءت النصوص القرآنية تلو النصوص التي تبين هذا وتحث عليه. يقول الله تبارك وتعالى: ?وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً? (الإسراء: 70)، ويقول ربنا العظيم سبحانه: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ? (الحجرات: 13).(1/15)
أمّا في حالة الحرب وما بعدها يقول الله الحليم سبحانه في وصف أهل الجنة: ?وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا. إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا? (الإنسان: 8، 9)، وقال الله الواحد الأحد سبحانه: ?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ? (الأنفال: 70، 71). وأذكر بأن القرآن الكريم قد خصّ سورة كاملة تتحدث عن الإنسان، بل عنوانها (سورة الإنسان) وقد اشتملت على إحدى وثلاثين آية.
سادسها: القرآن الكريم أسس علم الأخلاق.
لقد تناول القرآن المبين علم الأخلاق وفروعه، فبناه على أصول شرعية عليا، وآداب مرعية حسنى. فالآيات القرآنية المكية والمدنية متضافرة متواترة في البحث على الأخلاق الحسنة، والتحذير من الأخلاق السيئة.
فمن أصول الأخلاق الحسنة مثلاً: الصدق، ومن أصول الأخلاق السيئة: الكذب، وكلاهما ذُكرا في كتاب الله تعالى كثيرًا، فالأول للحثّ عليه والتحريض، والآخر للحذر منه والتحذير.
وكذلك خلق الصبر الذي هو من أصول الأخلاق الحميدة، وعكسه الجزع والتعجل، أم الإحسان فجاء تناوله في القرآن العظيم كثيرًا، ومدح من أقامه واستقام عليه.
ويكفي من هذه الأصول الأخلاقية كلها ما امتدح الله تعالى به خير البشر وسيدهم عليه الصلاة والسلام، فقال الله العليم سبحانه: ?وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ? (القلم: 4).
ثامنها: بيان علم السياسة.(1/16)
وهو علم يدور حول إدارة الناس وقياتهم، وكيفية ذلك. والكتاب المبين قدّم جملة من الآيات الكريمات تبين أصول السياسة، والنماذج التي يقتدي بها في السياسة، ومن لا ينبغي علينا التأسي به فيها، مع الحذر ممّا يقع فيه بعض أهل السياسة من الظلم والرشوة والقسوة.
فإذا أردتم الحديث عن صفات القائد السياسي المحنّك فعليك بما ورد في قصة الملك المصلح طالوت عليه رضوان الله تعالى الذي اتسم بصفتي: القوة والعلم، يقول الله تبارك وتعالى: ?إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ? (البقرة: 247)، وقصة سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام عندما خرج من السجن، يقول ربنا العلي سبحانه: ?وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ. قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ? (يوسف عليه الصلاة والسلام: 54، 55) ففي هذه الآيات صفة التمكن والأمانة والحفظ والعلم.
وعلم السياسة يقوم في الأصل - كما وضح ذلك القرآن الكريم - على الحزم والرحمة (المرونة). كما أن الشورى تعد أساسًا متينًا من أساسيات علم السياسة، يقول الله العليم الحكيم سبحانه آمرًا نبيّه وخليله سيدنا محمدًا عليه الصلاة والسلام: ?وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ? (آل عمران: 159).
تاسعها: بيان علم الاقتصاد والمال.(1/17)
المال عصب الحياة، وتتعلق به كثير من حقوق الخلق، وتقوم به - بإذن الله تعالى - كثير من المشروعات البشرية. والقرآن الكريم يؤصّل هذا العلم ويرده إلى مرجعه وأساسه، وهو أنه من عند الله تعالى يهبه لمن يشاء من عباده سبحانه وتعالى، فالمال مال الله تعالى، ونحن مستخلفون فيه، يقول الله سبحانه وتعالى: ?وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ? (النور: 33)، وقال الله الكريم سبحانه: ?وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ? (الحديد: 7).
وشرّع الله تعالى لنا طريقة الإنفاق الصحيحة، وهي دون التبذير والإسراف، وأعلى من التقتير والبخل، قال الله تبارك وتعالى: ?وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا. إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا? (الإسراء: 29، 30).
وقال الله العليم سبحانه: ?وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا? (الفرقان: 67).
والخطة الاقتصادية المثلى ما ذكرها القرآن المبين في قصة سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام حين أوّل وفسّر رؤيا الملك، وعمل بهذه الخطة السبعية الاقتصادية، فأصبحت مصر في زمانه حاضرة اقتصادية يقدم إليها الأباعد لينهلوا من اقتصادها ومالها.
عاشرها: بيان القرآن لكثير من العلوم المعاصرة والصناعات.
لقد تنوعت معارف بني آدم، وتعددت العلوم التي أدركها أو ورثها، أو ما زال يحصّلها، والزمان يتطور يومًا بعد يوم، والمصانع تقذف بشتى أنواع الصناعات الحِرْفية والمهنية، اليدوية والآلية، النافع منها والضار.
وكثير من هذه العلوم المعاصرة مبثوث أصولها في الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتتبعها الصناعات المختلفة.(1/18)
فالعلم الجنائي، ونظام العقوبات، وعلم الإدارة، وأدب الرحلات، وعلم التاريخ، والجغرافيا، وعلم الأرض، وعلم الهيئة (الفلك والكواكب)، وفن القصص، وعلم الأمثال، وصناعة الألبسة، وفن رعاية الدواب والعناية بها، وعلم الإرث، والحساب والمحاسبة، وإدارة الحروب والقتال، وفن الإعلام، وفقه الواقع والنوازل، وعلم الدقائق والخفايا. كلها علوم وفنون وبعضها صناعات أصلها مستمد من ماضٍ قريبٍ أو بعيد، بَيْد أنها جميعًا قد بيّن القرآن الكريم كثيرًا من أصولها وما تبنى عليها.
فسورة البقرة مثلاً التي اشتملت على ست وثمانين ومائتي (286) آية، وسورة النحل وآياتها ثمان وعشرون ومائة (128) آية هما جزء من مائة وأربع عشرة (114) سورة من القرآن الحكيم، وفيهما كثير ممّا أشرت إليه من العلوم والفنون والصناعات لمن أراد مطالعتها ومراجعتها(6).
وبعدُ؛ فهذه خلاصة مصطفاة من المجالات التي بيّنها القرآن المجيد، وما تركته أكثر، ولكن حسبي أن المجالات المذكورة رؤوس معروفة وعيون مشهورة بين سائر الفنون والعلوم والمجالات، وخصوصًا في عصرنا هذا.
المبحث الثالث
أصول وقواعد قرآنية في هذا الموضوع
بعد الجولة مع بعض خصائص القرآن الكريم، ثم الرحلة مع كثير من المجالات التي بيّنها القرآن المبين؛ أقف في هذا المبحث لألتمس الأصول والقواعد القرآنية التي تتعلق ببيان القرآن الكريم.
ولا بد في هذا العلم من أصول وقواعد يرجع إليها حتى تستقيم الأفهام، وتتقيد الأفكار بالأصول الشرعية والقواعد القرآنية.
فمن هذه الأصول والقواعد القرآنية في هذا الموضوع ما يلي:(1/19)
1- إن القرآن الكريم بيّن السنة النبوية وأنها أصل يرجع إليه ويعتمد عليه معه، يقول الله تبارك وتعالى: ?وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا? (الحشر: 7)، وبالمقابل فإن السنة المطهرة جاءت لبيان القرآن الحكيم ولتوضيحه، يقول الله العليم سبحانه: ?وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ? (النحل: 44).
فهما صنوان لا يفترقان ولا يختلفان، ولا يقبل من أحد الأخذ بأحدهما دون الآخر، ونحتاج في كثير من الأحيان والحالات إلى بيان القرآن الكريم بالسنة النبوية المشرفة، فهما من وحي الله بيد أنه يقدّم القرآن الحكيم قبل السنة في الاستدلال.
2- إننا نكتفي بالقرآن الكريم والسنة النبوية، ونستطيع أن نستغني بهما عن علوم أهل الأرض وفنونهم، ولسنا أمة بحاجة إلى بيان أكثر من بيان الوحي وإيضاحه، لأنهم إن أصابوا فهذا من صميم ما يؤصله القرآن المبين من قبلهم وإن أخطأوا كنا بمنأى عن خطئهم وانحرافهم.
ولقد ضل فئام من المسلمين عندما هجروا الوحي وجهلوا ما فيه، وانخرطوا بكليتهم وراء أصحاب هذه الفنون والعلوم الأرضية ظنًا منهم أنها شيء عظيم لا يعرف من قبل، فانبهروا بالحضارات الشرقية والغربية.
والأصل الذي يُرجع إليه في هذا أن كتاب الله تعالى وصفه الله سبحانه بأحسن الأوصاف، ومنها قول الله العزيز العليم سبحانه: ?إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا. وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا? (الإسراء: 9، 10)(7).(1/20)
3- إن القرآن المبين يواكب الأعصار والأزمان، وهو كتاب عزيز مفتوح يستطيع أن ينهل منه من كان ذا فهم وتدبر عميق، ولغة صحيحة، وفهم آياته البينات ليست حكرًا على أحد من الخلق ما دام أنها لم تقيد أو تفسر بالوحي، فهي على عمومها وإجمالها، وهذا نوع من أنواع تدبر القرآن المجيد وتذكره والتبصر به، فإن الله سبحانه وتعالى أنزل هذا الكتاب الكريم للتدبر العميق، يقول الله سبحانه وتعالى: ?كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ? (ص: 29)، ولا نرى الجمود في تفسير القرآن الحكيم، بل لا بد أن نبذل الجهد في تدبره وتفهم معانيه.
4- تعظيم القرآن الكريم بالحذر من إدخال ما لا يليق بالقرآن وآياته الكريمات فيه؛ كمن يذكر أمورًا لا أصل لها في القرآن الكريم، فيأخذ من بعض حروفه، وأرقام آياته مثلاً ما يستدل به على ما يريد أو يذهب إليه.
وهؤلاء من المفترين على الله تعالى الكذب، وقد ضعف تعظيمهم للقرآن.
وقد رأينا وسمعنا من حكم في مسائل علمية دنيوية بأنها بعينها مذكورة في القرآن الكريم، وهي بعيدة أشد البعد عن كتاب الله وآياته المحكمات، فنستغفر الله تعالى من هذا الفعل.
5- يقول الله تبارك وتعالى: ?وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ? (النحل: 8)، فإن الله سبحانه يخلق ما لا يعلم المخاطبون، وأبهم تعالى ذلك الذي لم يخلقه، ولم يصرّح بشيء منه، وهذه الآية الكريمة أصل في بيان المخترعات والمصنوعات المستحدثة.
وأقصد بهذا الأصل أنه لا يستنكر الناس الحوادث والمستجدات التي لم يقفوا عليها، أو لا علم لهم بها، و(المرء عدو ما جهل)، فإن الله قادر على أن يستحدث أشياء وأشياء لا تُعرف لدينا الآن.
فأولى من الرد والرفض أو التكذيب أن ننتظر ونتمهل ونتملى في هذه المستحدثات، ومن لم يحكم عليها بالقبول أو عدمه.
خاتمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبعد؛(1/21)
فقد انقضت أيامي المتتالية وأنا أدوّن في هذه الأوراق عبر تلك الأسطر ما أظنّه يشرف لتعلقه بالكتاب العزيز، ولعلني أكون بها قد قرّبت الناس إلى هذه المأدبة المباركة لينهلوا منها، ويعتمدوا عليها، ويعتزوا بها.
إن هذا آخر أوان لوضع قلمي عن هذه الأسطر بعد عيش رغيد مبارك مع كتاب الله تبارك وتعالى، وإنها لحياة سعيدة يوم أن يتفرغ المرء فيها لكتاب الله تبارك وتعالى ودراسته وتدبره.
أختم بأن هذا المبحث محاولة مني لزيادة تعظيم القرآن الكريم، ولا يزال الموضوع مفتوحًا للزيادة والاستزادة.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلها خالصًا لوجهه الكريم سبحانه، وصلى الله وسلم على نبينا وسيدنا محمد وآله وصحبه وأ.واجه وذريته.
والله تعالى أعلم.
الهوامش
(1) للاستزادة والإفادة يراجع الكتاب الممتع (خصائص القرآن الكريم) للعلامة الأستاذ الدكتور فهد بن عبد الرحمن الرومي، فقد أبدع في جمع كثير من خصائص القرآن الكريم، فجزاه الله خيرًا.
(2) رواه ابن جرير في تفسيره (7/634)، وبنحوه ابن أبي حاتم في تفسيره (7/2297)، وانظر: السيوطي: الدر المنثور (5/185).
(3) انظر: البيهقي: مناقب الإمام الشافعي.
(4) المرجع السابق.
(5) انظر: الإكليل في استنباط التنزيل للسيوطي (ص 163). والشنقيطي: أضواء البيان (3/3119).
(6) لمزيد من المعرفة والاطلاع على العلوم والفنون والصناعات الأخرى المذكورة في القرآن يطالع كتاب الإمام السيوطي رحمه الله تعالى (الإكليل في استنباط التنزيل) فإنه أفاض فيه جدًا.
(7) للفائدة الكبرى انظر ما سطرته يد الشيخ الشنقيطي في أضواء البيان(3/372- 417) عند تفسير هذه الآية، فقد أطال النفس فيها، وأبدع.
المراجع
- القرآن الكريم.
- البيهقي: مناقب الإمام الشافعي.
- ابن أبي حاتم: تفسير القرآن العظيم. ت: أسعد الطيب. مكتبة نزار الباز. مكة. الطبعة الأولى. 1417هـ.(1/22)
- الرومي: د. فهد بن عبد الرحمن الرومي. خصائص القرآن الكريم. الطبعة الخامسة. 1410هـ.
- السيوطي: الإكليل في استنباط التأويل. ت: سيف الدين عبد القادر الكاتب. دار الكتب العلمية. بيروت. الطبعة الثانية 1405هـ.
- السيوطي: الدر المنثور في التفسير بالمأثور. دار الفكر. بيروت. عام 1414هـ.
- الشنقيطي: محمد الأمين الجكني. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن. مكتبة ابن تيمية. القاهرة. عام 1413هـ.
- الطبري: محمد بن جرير. التفسير (جامع البيان في تأويل آي القرآن). دار الكتب العلمية. بيروت. الطبعة الأولى. 1412هـ.
- عبد الباقي: محمد فؤاد. المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم. دار الحديث. القاهرة. الطبعة الثانية. 1408هـ.
- عمايرة، والسيد: د. إسماعيل عمايرة، ود. عبد الحميد السيد. معجم الأدوات والضمائر في القرآن الكريم. مؤسسة الرسالة. بيروت. الطبعة الثانية. 1408هـ.
الفهرس
مقدمة…………………………
المبحث الأول:
من خصائص القرآن المبين.…………………
المبحث الثاني:
المجالات التي بيّنها القرآن المجيد.………………
المبحث الثالث:
أصول وقواعد قرآنية في هذا الموضوع.……………
خاتمة.………………………
الهوامش………………………
المراجع………………………
الفهرس………………………
??
??
??
??
شبكة التبيان دعوة متجددة لثوابت أصيلة
التبيان لكل شيءٍ من خلال القرآن 16(1/23)