وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ' إذا كان أحدكم يوما صائماً فلا يجهل ولا يرفث فإن امرؤ قاتله أو شتمه فليقل : إني صائم ' . وقد لا تخلص النية ولا يحصل الأجر : أخبرنا أبو بكر بن عبد الباقي بسنده عن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ، ورب قائم حظه من قيامه السهر ' . فأما ما يستحب صيامه فقد كان جماعة من السلف يصومون المحرم . وقد أخرج مسلم في أفراده من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ' أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم ' . وفي أفراده من حديث أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في صوم ! يوم عاشوراء : ' يكفر السنة الماضية ' . وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم في شهر من السنة أكثر من صيامه من شعبان كان يصومه كله . وفي أفراده من حديث أبي أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ' من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال فذلك صيام الدهر ' .
____________________
(2/264)
وفي أفراده من حديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ' من صام يوم عرفة إني احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده ' . وفي أفراده من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ' إن أبواب الجنة تفتح في يوم الاثنين والخميس ' . أخبرنا ابن الحصين بسنده عن أبي سعيد المقبري قال : حدثني أسامة بن زيد قال : قلت يا رسول الله إنك تصوم لا تكاد تفطر ، وتفطر لا تكاد تصوم إلا يومين إن دخلا في صيامك وإلا صمتهما . قال : أي يومين ؟ قلت : يوم ، الاثنين والخميس . قال : ذانك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم ' . ويستحب صيام ثلاثة أيام من كل شهر . ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : ' أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث : صيام ثلاثة أيام من كل شهر ، وركعتي الضحى ، وأن أوتر قبل أن أنام ' . وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام فصم ثالث عشر ورابع عشر وخامس عشر ' . وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ' أحب الصيام إلى الله صيام داود عليه السلام : كان يصوم يوما ويفطر يوما ، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه ، وينام
____________________
(2/265)
سدسه ' وقد كان جماعة من السلف يغتنمون العمر فيسردون الصوم ولا يفطرون إلا الأيام المحرمة . وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسرد الصوم ، وسرده أبو طلحة أربعين سنة وأبو أمامة . وسردته عائشة وعروة وسعيد بن المسيب . أخبرنا المحمدان : ابن عبد الملك وابن ناصر قالا : أنبأنا أحمد بن الحسن بن خيرون قال : قرى على أبي علي بن شاذان : أخبركم أبو بكر الأرموي القارئ ، حدثنا أحمد بن عبيد ، حدثنا محمد بن يزيد ، حدثنا عبد العزيز قال : قال نافع : خرجت مع ابن عمر في بعض نواحي المدينة ومعه أصحاب له فوضعوا سفرة لهم فمر بهم راع فقال له عبد الله : هلم يا راعي فأصب من هذه السفرة فقال : إني صائم . فقال له عبد الله : في مثل هذا اليوم الشديد حره وأنت بين هذه الشعاب في آثار هذه الغنم وبين هذه الجبال ترعى هذه الغنم وأنت صائم ؟ ! فقال الراعي : أبادر أيامي الخالية . فعجب ابن عمر وقال : هل لك أن تبيعنا شاة من غنمك نجترزها نطعمك من لحمها ما تفطر عليه ونعطيك ثمنها ؟ قال : إنها ليست لي إنها لمولاي . قال : فما عسيت أن يقول لك مولاك إن قلت : أكلها الذئب ؟ فمضى الراعي وهو رافع إصبعه إلى السماء وهو يقول : فأين الله ؟ . قال : فلم يزل ابن عمر يقول : قال الراعي : فأين الله ! فما عدا أن قدم المدينة فبعث إلى سيده فاشترى منه الراعي والغنم فأعتق الراعي ووهب له الغنم . وقد كان بعض السلف يبكي عند الموت فقيل : ما يبكيك ؟ قال : أبكي على يوم ما صمته وليلة ما قمتها ! فاغتنموا إخواني زمنكم ، وبادروا بالصحة سقمكم ، واحفظوا أمانة التكليف لمن أمنكم ، وكأنكم بالحميم وقد دفنكم ، وبالعمل في القبر قد ارتهنكم .
____________________
(2/266)
الكلام على البسملة ( ألم يأن تركي ما على ولا ليا % وعزمي على ما فيه إصلاح حاليا ) % ( وقد نال مني الدهر وابيض مفرقي % بكر الليالي والليالي كما هيا ) % ( أصوت بالدنيا وليست تجيبني % أحاول أن أبقى وكيف بقائيا ) % ( وما تبرح الأيام تحذف مدتي % بعد حساب لا كعد حسابيا ) % ( أليس الليالي غاصباتي مهجتي % كما غصبت قبلي القرون الخواليا ) % ( وتسكنني لحدا لذي حفرة بها % يطول إلى أخرى الليالي ثوائيا ) % ( فيا ليتني من بعد موتي ومبعثي % أكون ترابا لا علي ولا ليا ) % يا من ذنوبه كثيرة لا تعد ووجه صحيفته بمخالفته قد اسود ، كم ندعوك إلى الوصال وتأبى إلا الصد ، أما الموت قد سعى نحوك وجد ، أما عزم أن يلحقك بالأب والجد . أما ترى منعما أترب الثرى منه الخد ، كم عاينت متجبرا كف الموت كفه الممتد ، فاحذر أن يأتي على المعاصي فإنه إذا أتى أبى الرد ، إلى كم ذا الصبا والمراح ، أأبقى الشيب موضعا للمزاح ، لقد أغنى الصباح عن المصباح ، وقام حرب المنون من غير سلاح ، اعوجت القناة بلا قنا ولا صفاح ، فعاد ذو الشيبة بالضعف ثخين الجراح ، ونطقت ألسن الفناء بالوعظ الصراح ، وا أسفا صمت المسامع والمواعظ فصاح ، لقد صاح لسان التحذير يا صاح يا صاح ، وأنى بالفهم لمخمور غير صاح ، لقد أسكرك الهوى سكرا شديدا لا يزاح ، وما تفيق حتى يقول الموت : لا براح . ( ألا تبصر الآجال كيف تخرمت % وكل امرئ للهلك والموت صائر ) % ( وأنت بكأس القوم لا بد شارب % فهل أنت فيما يصلح النفس ناظر ) %
____________________
(2/267)
لقد وعظ الزمن بالآفات والمحن ، ولقد حدث بالطعن كل من قد ظعن ، ولقد أنذر المطلق في أغراضه المرتهن ، تالله لوصفت الفطن أبصرت ما بطن . إخواني : أمر الموت قد علن ، كم طحطح الردى وكم طحن ، يا بائعاً لليقين مشتريا للظنن ، يا مؤثرا للرذائل في اختيار الفتن ، إن السرور والشرور في قرن ، أنت في المعاصي مطلق الرسن وفي الطاعة كذي وسن ، يا رضيع الدنيا وقد آن فطامه ، يا طالب الهوى وقد حان حمامه . قال وهب بن منبه : إن لله مناديا ينادي كل ليلة : أبناء الخمسين : هلموا للحساب ، أبناء الستين ماذا قدمتم وماذا أخرتم ؟ أبناء السبعين عدوا أنفسكم في الموتى : ( كبرت وقاربت نصف المائة % وبدلت يا شيخ بالتسميه ) % ( وقد نشر الشيب في عسكر الشباب % على رأسك الألوية ) % ( تحول إلى توبة لا تحور % عساها تكون هي المنجية ) % ( ولا تطلق اللحظ في ريبة % ولا تسألن فتنة ما هيه ) % ( وهل غيرها قد تذوقته % فكم تعتد الإثم والمعصية ) % إلى كم يا ذا المشيب ، أما الأمر منك قريب ، كم تعب في وعظك خطيب ، كم عالجك طبيب . إنه لمرض عجيب ، إنه لداء غريب عظم واهن وقلب صليب ، يا هذا لا شيء أقل من الدنيا ولا أعز من نفسك ، وها أنت تنفق أنفاس النفس النفيسة على تحصيل الدنيا الخسيسة ، متى يقنعك الكفاف ، متى يردك العفاف متى
____________________
(2/268)
يقومك الثقاف ، إنك لتأبى إلا الخلاف ، مقاليدك ثقال وركعاتك خفاف ، يا قبيح الخصال يا سيء الأوصاف ، يا مشترياً بسني الخصب السنين العجاف ، قف متدبراً لحالك فالمؤمن وقاف ، وتذكر وعيد العصاة ويحك أما تخاف : ( ما من الحزم أن تقارب أمرا % تطلب البعد عنه بعد قليل ) % ( وإذا ما هممت بالشيء فانظر % كيف منه الخروج قبل الدخول ) % ( لا مفرا من المقادير لكن % للمعاذير عند أهل العقول ) % ويحك إن الدنيا فتنة ، وكم فيها من محنة ، غير أنها لا تخفى على أهل الفطنة ، لا يعز ذليلها ولا يودى قتيلها ، من سكنها خرج ، وساكنها منزعج : ( إنما الدنيا بلاء % ليس في الدنيا ثبوت ) % ( إنما الدنيا كبيت % نسجته العنكبوت ) % ( كل من فيها لعمري % عن قريب سيموت ) % ( إنما يكفيك منها % أيها الراغب قوت ) % يا هذا انتقم من حرصك بالقناعة ، فمن مات حرصه عاشت مروءته . خل فضول الدنيا وقد سلمت ، إن لم تقبل نصحي ندمت ، البلغة منها ما يقوت والزاهد فيها ما يموت ، فأعرض عنها جانبا ، وكن لأهلها مجانبا وإذا أقلقك : هجير المجاعة فلذ بالصبر في ظل القناعة .
____________________
(2/269)
الكلام على قوله تعالى : ! 2 < ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه > 2 ! . الإنسان : ابن أآدم ، وما توسوس به نفسه : ما تحدثه به ويكنه في قلبه . وهذا يحث على تطهير القلب من مساكنة الوساوس الرديئة تعظيما لمن يعلم . قال بعض السلف : إذا نطقت فاذكر من يسمع ، وإذا نظرت فاذكر من يرى ، وإذا عزمت فاذكر من يعلم . قوله تعالى : ! 2 < ونحن أقرب إليه من حبل الوريد > 2 ! الوريد : عرق في باطن العنق وهما وريدان بين الحلقوم والعلياوين ، والعلويان : القصبتان الصفراوان في متن العنق وحبل الوريد هو الوريد ، فأضيف إلى نفسه لاختلاف لفظي اسمه . سجع على قوله تعالى : ! 2 < ونحن أقرب إليه من حبل الوريد > 2 ! يا مطلقا نفسه فيما يشتهي ويريد ، اذكر عند خطواتك المبدئ المعيد ، وخف قبح ما جرى فالملك يرى والملك شهيد ! 2 < ونحن أقرب إليه من حبل الوريد > 2 ! . هلا استحيت ممن يراك إذا ركبت من هواك ما نهاك ، ستبكي والله عيناك مما جنت يداك ، أما تعلم أنه بالمرصاد فقل لي أين تحيد ! 2 < ونحن أقرب إليه من حبل الوريد > 2 ! . لو صدق علمك به لراقبته ، ولو خفت وعيده في الحرام ما قاربته ، ولو علمت سموم الجزاء في كأس الهوى ما شربته ، لقد أضعنا الحديث عند سكران يميد ، ! 2 < ونحن أقرب إليه من حبل الوريد > 2 ! قال بعض السلف : مررت برجل منفرد فقلت له : أنت وحدك ؟ فقال : معي ربي وملكاي . فقلت : أين الطريق ؟ فأشار نحو السماء ثم مضى وهو يقول : أكثر خلقك شاغل عنك .
____________________
(2/270)
راود رجل امرأة فقالت : ألا تستحي ؟ فقال : ما يرانا إلا الكواكب . فقالت : وأين مكوكبها ؟ ! ( كأن رقيبا منك يرعى خواطري % وآخر يرعى ناظري ولساني ) % ( فما نظرت عيناي بعدك نظرة % لغيرك إلا قلت قد رمقاني ) % ( ولا بدرت من في بعدك لفظة % لغيرك إلا قلت قد سمعاني ) % ( ولا خطرت في غير ذكرك خطرة % على القلب إلا عرجت بعناني ) % قوله تعالى : ! 2 < إذ يتلقى المتلقيان > 2 ! وهما الملكان يلتقيان القول ويكتبانه ، عن اليمين كاتب الحسنات وعن الشمال كاتب السيئات ! 2 < قعيد > 2 ! أي قاعد . والمعنى : عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد . وروى أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ' كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على شماله ، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات ، فإذا عمل حسنة كتبها له صاحب اليمين عشراً ، وإذا عمل سيئة قال لصاحب الشمال : أمسك ، فيمسك عنه سبع ساعات ، فإن استغفر منها لم يكتب عليه شيء ، وإن لم يستغفر كتبت عليه سيئة واحدة ' . وفي حديث علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ' مقعد مليكك على ثنيتك ، فلسانك قلمها وريقك مدادها ' .
____________________
(2/271)
سجع على قوله تعالى : ! 2 < عن اليمين وعن الشمال قعيد > 2 ! ما ظنك بمن يحصي جميع كلماتك ، ويضبط كل حركاتك ، ويشهد عليك بحسناتك ترفع الصحائف وهي سود وعمل المنافق مردود ، يحضره الملكان لدى المعبود ، يا شر العبيد ! 2 < عن اليمين وعن الشمال قعيد > 2 ! . يضبطان على العبد ما يجري من حركاته ، وما يكون من نظراته وكلماته واختلاف أموره وحالاته ، لا ينقص ولا يزيد ! 2 < عن اليمين وعن الشمال قعيد > 2 ! . قال سفيان الثوري يوما لأصحابه : أخبروني لو كان معكم من يرفع الحديث إلى السلطان ، أكنتم تتكلمون بشيء ؟ قالوا : لا . قال : فإن معكم من يرفع الحديث إلى الله عز وجل . قوله تعالى : ! 2 < ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد > 2 ! أي : ما يتكلم من كلام فيلفظه أي يرميه من فيه إلا لديه رقيب عتيد ، أي حافظ وهو الملك الموكل به ، والعتيد الحاضر معه أينما كان . السجع على قوله تعالى : ! 2 < ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد > 2 ! يا كثير الكلام حسابك شديد ، يا عظيم الإجرام عذابك جديد ، يا مؤثرا ما يضره ما رأيك سديد ، يا ناطقا بما لا يجدي ولا يفيد ! 2 < ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد > 2 ! . كلامك مكتوب وقولك محسوب ، وأنت يا هذا مطلوب ، ولك ذنوب وما تتوب ، وشمس الحياة قد أخذت في الغروب ، فما أقسى قلبك من بين القلوب ، وقد أتاه ما يصدع الحديد ! 2 < ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد > 2 ! .
____________________
(2/272)
أتظن أنك متروك مهمل ، أم تحسب أنه ينسى ما تعمل ، أو تعتقد أن الكاتب يغفل ، هذا صائح النصائح قد أقبل ، يا قاتلا نفسه بكفه لا تفعل ، يا من أجله ينقص وأمله يزيد ، ! 2 < ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد > 2 ! . ( أنا من خوف الوعيد % في قيام وقعود ) % ( كيف لا أزداد خوفا % وعلى النار ورودي ) % ( كيف جحدي ما تجرمت % وأعضائي شهودي ) % ( كيف إنكاري ذنوبي % أم ترى كيف جحودي ) % ( وعلى القول يحصى % برقيب وعتيد ) % قوله تعالى : ! 2 < وجاءت سكرة الموت بالحق > 2 ! وهي غمرته وشدته التي تغشي الإنسان وتغلب على عقله . وفي قوله : ! 2 < بالحق > 2 ! ) . قولان ذكرهما الفراء : أحدهما : بحقيقة الموت . والثاني : بالحق من أمر الآخرة . قوله تعالى : ! 2 < ذلك > 2 ! أي ذلك الموت : ! 2 < ما كنت منه تحيد > 2 ! . أي تهرب وتفر . قوله تعالى : ! 2 < ونفخ في الصور > 2 ! . وهي نفخة البعث ! 2 < ذلك يوم الوعيد > 2 ! أي يوم وقوع الوعيد . قوله تعالى : ! 2 < وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد > 2 ! . وفيه قولان : أحدهما : أنه ملك يسوقها إلى محشرها . قاله أبو هريرة . والثاني : أنه قرينها من الشياطين سمي سائقا لأنه يتبعها وإن لم يحثها .
____________________
(2/273)
وفي الشهيد ثلاثة أقوال : أحدها : أنه ملك يشهد عليها بعملها . قاله عثمان بن عفان والحسن . وقال مجاهد : الملكان سائق وشهيد . وقال ابن السائب السائق : الذي يكتب عليه السيئات . والشهيد : هو الذي كان يكتب له الحسنات . والثاني : أنه العمل يشهد على الإنسان . قاله أبو هريرة . والثالث : الأيدي والأرجل تشهد عليه بعمله . قاله الضحاك . إخواني احذروا من العرض على مالك الطول والعرض ، وأعدوا الجواب إذا سئلتم عن الفرض ، أين الحياء من قبح المضمرات ، أين البكاء على سالف الخطرات ، أين الخوف من الجزاء على خطوات الخطيئات . كتب يوسف بن أسباط إلى حذيفة المرعشي : أما بعد : فإني أوصيك بتقوى الله سبحانه والعمل بما علمك الله تعالى ، والمراقبة حيث لا يراك إلا الله عز وجل ، والاستعداد لما ليس لأحد فيه حيلة ولا ينتفع بالندم عند نزوله ، فاحسر عن رأسك قناع الغافلين ، وانتبه من رقدة الموتى وشمر للسباق غدا ، فإن الدنيا ميدان المسابقين ، ولا تغتر بمن أظهر النسك وتشاغل بالوصف وترك العمل بالموصوف ، واعلم يا أخي أنه لا بد لي ولك من المقام بين يدي الله تعالى ، يسألنا عن الدقيق الخفي وعن الجليل الخافي ، ولست آمن أن يسألني وإياك عن وسواس الصدور ولحظات العيون والإصغاء للاستماع ، واعلم أنه لا يجزي من العمل القول ولا من البذل العدة ولا من التوقي التلاوم .
____________________
(2/274)
يا من معاصيه كثيرة مشهورة ، يا من نفسه بمن يجني عليها مسرورة ، أفي العين كمه أم عشى أم الأمر إليك يجري كما تشا ، أعلى القلب حجاب أم غشا ، أيا من إذا قعد عصى وكذا إذا مشى ، كل فعلك غلط ، كل عملك سقط ، أترى هذا العقل اختلط ، أما قوم بهذا الشمط ، أما علم الشيب على حروف الموت ونقط ، لقد عزم الأجل على النهوض ، وطال ما أقام والدنيا قروض ، قصر يبنى وجسم منقوض ، شيب وعيب يزحلق الفروض : ( إلى متى أنت في ذنوب % قلبك من أجلها مريض ) % ( أقرضت عمرا فمر خلسا % وآن أن تطلب القروض ) % ( فاحذر مجيء الحمام بغتا % وأنت في باطل تخوض ) % سجع على قوله تعالى : ! 2 < لقد كنت في غفلة من هذا > 2 ! كأنك بالعمر قد انقرض ، وهجم عليك المرض ، وفات كل مراد وغرض ، وإذا بالتلف قد عرض أخاذا ! 2 < لقد كنت في غفلة من هذا > 2 ! . شخص البصر وسكن الصوت ، ولم يمكن التدارك للفوت ، ونزل بك ملك الموت فسامت الروح وحازى ! 2 < لقد كنت في غفلة من هذا > 2 ! . عالجت أشد الشدائد ، فيا عجبا مما تكابد ، كأنك قد سقيت سم الأساود فقطع أفلاذا ! 2 < لقد كنت في غفلة من هذا > 2 ! . بلغت الروح إلى التراقي ، ولم تعرف الراقي من الساقي ، ولم تدر عند الرحيل ما تلاقى ، عياذا بالله عياذا ! 2 < لقد كنت في غفلة من هذا > 2 ! .
____________________
(2/275)
ثم درجوك في الكفن وحملوك إلى بيت العفن ، على العيب القبيح والأفن ، وإذا الحبيب من التراب قد حفن ، وصرت في القبر جذاذا ! 2 < لقد كنت في غفلة من هذا > 2 ! . وتسربت عنك الأقارب تسرى ، تقد في مالك وتفري ، وغاية أمرهم أن تجري دموعهم رذاذا ! 2 < لقد كنت في غفلة من هذا > 2 ! . قفلوا الأقفال وبضعوا البضاعة ، ونسوا ذكرك يا حبيبهم بعد ساعة ، وبقيت هناك إلى أن تقوم الساعة ، لا تجد وزرا ولا معاذا ! 2 < لقد كنت في غفلة من هذا > 2 ! . ثم قمت من قبرك فقيرا ، لا تملك من المال نقيرا ، وأصبحت بالذنوب عقيرا ، فلو قدمت من الخير حقيرا صار ملجأ وملاذا ، ! 2 < لقد كنت في غفلة من هذا > 2 ! . ونصب الصراط والميزان ، وتغيرت الوجوه والألوان ، ونودي : شقي فلان بن فلان ، وما ترى للعذر نفاذا ! 2 < لقد كنت في غفلة من هذا > 2 ! . كم بالغ عذولك في الملام ، وكم قعد في زجرك وقام ، فإذا قلبك ما استقام ، قطع الكلام على ذا ! 2 < لقد كنت في غفلة من هذا > 2 ! . وصلى الله على محمد وآله وصحبه .
____________________
(2/276)
المجلس السادس في ذكر الحج الحمد لله الملك القديم ، الواحد العزيز العظيم ، الشاهد سامع ذكر الذاكر وحمد الحامد وعالم ضمير المريد ونية القاصد ، لعظمته خضع الراكع وذل الساجد ، وبهداه اهتدى الطالب وأدرك الواجد ، رفع السماء فعلاها ولم يحتج إلى مساعد ، وألقى في الأرض رواسي راسخات القواعد ، تنزه عن شريك مشاقق أو ند معاند ، وعز عن ولد وجل عن والد ، وأحاط علما بالأسرار والعقائد ، وأبصر حتى دبيب النمل في الجلامد ، وسطا فسالت لهيبته صعاب الجوامد ، ويقول في الليل : ' هل من سائل ' فانتبه يا راقد بنى بيتا أمر بقصده وتلقى الوافد ، وأقسم على وحدانيته وما ينكر إلا معاند ! 2 < والصافات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا إن إلهكم لواحد > 2 ! . أحمده على الرخاء والشدائد ، وأقر بتوحيده إقرار عابد ، وأصلي على رسوله الذي كان لا يخيب السائل القاصد ، وعلى صاحبه أبي بكر التقي النقي الزاهد ، وعلى عمر العادل فلا يراقب الولد ولا الوالد ، وعلى عثمان المقتول ظلما بكف الحاسد ، وعلى علي البحر الخضم والبطل المجاهد ، وعلى عمه العباس أقرب الأقارب والأباعد . قال الله تعالى : ! 2 < ولله على الناس حج البيت > 2 ! فرض الله عز وجل حج البيت بهذه الآية . وقوله : ! 2 < من استطاع إليه سبيلا > 2 ! قال النحويون : ' من ' بدل من الناس ، وهذا بدل البعض كما تقول : ضربت زيدا رأسه .
____________________
(2/277)
أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد الله النسفي بسنده عن محمد بن عباد بن جعفر ، عن عبد الله بن عمر قال : قيل يا رسول الله ما الاستطاعة إلى الحج ؟ قال : ' الزاد والراحلة ' . واعلم أن المجيب قد يجيب عن المشكل ويترك الظاهر ثقة بعلم السامع ، وإلا فقد يكون له زاد وراحلة فإذا خرج إلى الحج لم يكن له ما يترك لعياله أو لم يكن له ما يدبره في معاشه . واعلم أن وجوب الحج موقوف على وجود البلوغ والعقل والحرية والإسلام والزاد والراحلة . ويشترط في وجود الراحلة أن تكون صالحة لمثله ورحلها وآلتها ، لأنه قد يكون كبير السن فلا يمكنه الركوب على القتب ، وأن يكون وجود الزاد والراحلة فاضلا عما يحتاج إليه من مسكن وخادم إن احتاج إليه ، ونفقة لعياله إلى أن يعود وقضاء دين إن كان عليه ، وأن يكون له إذا رجع ما يقوم بكفايته من عقار أو بضاعة أو صناعة ثم ينبغي أن ينظر في أمن الطريق وسعة الوقت . إلى غير ذلك . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ' من قدر على الحج ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا ' . وقال ابن مسعود في قوله تعالى : ! 2 < لأقعدن لهم صراطك المستقيم > 2 ! قال : طريق مكة يمنعهم من الحج . وقد ذكرنا في أول هذا الكتاب بناء البيت وفضائله وفضل الحجر الأسود .
____________________
(2/278)
وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الركن اليماني : ' وكل الله عز وجل به سبعين ألف ملك ، فمن قال : أسألك العفو والعافية ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار قالوا : آمين ' . وعن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ' من طاف بالبيت سبعا وصلى خلف المقام ركعتين فهو عدل محرر ' . أخبرنا يحيى بن علي بسنده عن الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ' إن لله عز وجل في كل يوم وليلة عشرين ومائة رحمة تنزل على هذا البيت : ستون للطائفين وأربعون للمصلين وعشرون للناظرين ' . وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ' من طاف بالبيت لم يرفع قدما ولم يضع أخرى إلا كتب الله عز وجل له بها حسنة وحط عنه بها خطيئة ورفع له بها درجة ' . وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ' من طاف بالبيت خمسين مرة خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ' . وفي حديث بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ' النفقة في الحج تضاعف كالنفقة في سبيل الله تعالى : الدرهم بسبعمائة درهم ' .
____________________
(2/279)
فأما حج الماشي : فأخبرنا أبو منصور وعبد الرحمن بن محمد ، بسندهما عن إسماعيل ابن أبي خالد ، عن زاذان قال : مرض ابن عباس مرضا شديدا فدعا ولده فجمعهم فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ' من حج من مكة ماشيا حتى يرجع إلى مكة كتب الله له بكل خطوة سبعمائة حسنة من حسنات الحرم . فقيل له : وما حسنات الحرم ؟ قال : بكل حسنة مائة ألف حسنة ' . وروت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ' إن الملائكة لتصافح ركبان الحج وتعتنق المشاة ' . وأما فضيلة الحج : فأخبرنا هبة الله بن محمد بسنده عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ' الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ، والعمرتان - أو العمرة - إلى العمرة تكفر ما بينهما ' . أخبرنا محمد بن محمد الوراق بسنده عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ' من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه ' . الحديثان في الصحيحين . وروي عن علي كرم الله وجهه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ' من أراد دنيا وآخرة فليؤم هذا البيت ، ما أتاه عبد يسأل الله تعالى دنيا إلا أعطاه منها ولا آخرة إلا ادخر له منها ' .
____________________
(2/280)
وينبغي لمن أراد الحج أن يفهم معنى الحج ، فإنه يشار به إلى التجرد لله عز وجل ومفارقة المحبوبات . وليتذكر بأهوال الطريق الأهوال بعد الموت وفي القيامة ، وبالإحرام الكفن ، وبالتلبية إجابة الداعي ، وليحضر قلبه لتعظيم البيت ، وليتذكر بالالتجاء إليه التجاء المذنب ، وبالطواف الطواف حول دار السيد ليرضى ، وبالسعي بين الصفا والمروة التردد إلى فناء الدار ، وبرمي الجمار رمي العدو . وكما أن للأبدان حجا فللقلوب حج ؛ فإنها تنهض بأقدام العزائم وتمتطي غوارب الشوق ، وتفارق كل محبوب للنفس ، وتصابر في الطريق شدة الجهد ، وترد مناهل الوفاء لا غدران الغدر ، فإذا وصلت إلى ميقات الوصل نزعت مخيط الآمال الدنيوية ، واغتسلت من عين العين ، ونزلت بعرفات العرفان ، ولبت إذ لبت من لباب اللب ، ثم طافت حول الإجلال ، وسعت بين صفا الصفا ومروة المروءة ، فرمت جمار الهوى بأحجار ، فوصلت إلى قرب الحبيب فلو ترنمت بشرح حالها لقالت : ( لا والذي قصد الحجيج لبيته % من بين ناء طارق وقريب ) % ( والحجر والحجر المقبل تلتقي % فيه الشفاه وركنه المحجوب ) % ( لا كان موضعك الذي ملكته % من قلب عبدك بعد ذا لحبيب ) % ( لي أنة الشاكي إذا بعد المدى % ما بيننا وتنفس المكروب ) % ولما عبر الخليل هذه الحالة قيل له : قد بقي عيك ذبح يجانس هذا الحج ليس له إلا الولد وما المراد إراقة دمه بل فراغ قلبك عنه ، يا خليلي من المسنون استسمان الإبل وألا يكون في المذبوح عيب ، فاختبر ذبحك هل فيه عيب أو هو سليم مسلم ؟ فقال له : ! 2 < إني أرى في المنام أني أذبحك > 2 ! فأجابه : ! 2 < افعل ما تؤمر > 2 ! فعلم حصول الكمال وعدم العيوب ثم قال له : استحد مديتك وأسرع مر السكين على حلقي
____________________
(2/281)
وإذا عدت إلى أمي فسلم عليها عني . هذا قول من لم يلم بقلبه خوف ألم ! ( محنتي فيك أنني % لا أبالي بمحنتي ) % ( يا شفائي من السقام % وإن كنت علتي ) % وإذا وصل الحاج إلى المدينة المشرفة فيجعل على فكره تعظيم من يقصده ، وليتخايل في مساجدها وطرقاتها نقل أقدام المصطفى هناك وأصحابه ، وليتأدب في الوقوف وليستشفع بالحبيب وليأسف إذ لم يحظ برؤيته ولم يكن في صحابته . ( وما رمت من بعد الأحبة سلوة % ولكنني للنائبات حمول ) % ( وما شرقي بالماء إلا تذكرا % لماء به أهل الحبيب نزول ) % وينبغي لمن عاد من الحج أن يقوي رجاؤه للقبول ومحو ما سلف ، وليحذر من تجديد زلل . وقد سئل الحسن البصري : ما الحج المبرور ؟ فقال : أن تعود زاهدا : في الدنيا راغبا في الآخرة . أخبرنا أبو منصور القزاز بسنده عن عبد الرحمن بن عبد الباقي قال : سمعت بعض مشايخنا يقول : قال علي بن الموفق : لما تم لي ستون حجة خرجت من الطواف وجلست بحذاء الميزاب وجعلت أفكر لا أدري أي شيء حالي عند الله عز وجل وقد كثر توددي إلى هذا المكان ؟ فغلبتني عيني فكأن قائلا يقول لي : يا علي أتدعو إلى بيتك إلا من تحبه ؟ قال : فانتبهت وقد سرى عني ما كنت فيه .
____________________
(2/282)
( الكلام على البسملة ) ( غفلت وليس الموت في غفلة عني % وما أحد يجني علي كما أجني ) % ( أشيد بنياني وأعلم أنني % أزول ، لمن شيدته ولمن أبني ) % ( كفاني بالموت المنغص واعظا % بما أبصرت عيني وما سمعت أذني ) % ( وكم للمنايا من فنون كثيرة % تميت وقد وطنت نفسي على فن ) % ( ولو طرقت ما استأذنت من يحبني % كما أفقدتني من أحب بلا إذن ) % ( وقد كنت أفدي ناظريه من القذى % فغطيت ما قد كنت أفديه بالعين ) % ( ستسجنني يا رب في القبر برهة % فلا تجعل النيران من بعده سجني ) % ( ولي عند ربي سيئات كثيرة % ولكنني عبد به حسن الظن ) % من للعاصي إذا دعي فحضر ، ونشر كتابه ونظر ، لم يسمع عذره وقد اعتذر ، وناقشه المولى فما غفر ، آه لراحل لم يتزود للسفر ، ولخاسر إذا ربح المتقون افتقر ولمحروم جنة الفردوس حل في سقر ، ولفاجر فضحه فجوره فاشتهر ، ولمتكبر بالذل بين الكل قد ظهر ، وإلى محمول إلى جهنم فلا ملجأ له ولا وزر ، آه من يوم تكور فيه الشمس والقمر ، يا كثير الرياء قل إلى متى تخلص ، يا ناسي الأنكال إن كال فمتلصص ، ما يتخلص من معامل ولا هو عند الله مخلص ، الدهر حريص على قتلك يا من يحرص ، تفكر فيمن أصبح مسرورا فأمسى وهو متنغص ، ومتى أردت لذة فاذكر قبلها المنغص ، وتعلم أن الهوى ظل والظل متقلص ، وخذ على نفسك لا تسامحها ولا ترخص ، حائط الباطل خراب فإلى كم تجصص ، أين الهم المجتمع تفرق فما ينتفع ، يدعوك الهوى فتتبع ، وتحدثك المنى فتستمع ، كم زجرك ناصح فلم تطع ، سار الصالحون يا منقطع ، ما الذي عاقك لهو مختدع ، شروا ما يبقى بما يفنى وأنت لم تشر
____________________
(2/283)
ولم تبع ، أين تعبهم ؟ نسخ بالروح ولم يضع ، تلمح العواقب فلتلمها العقل وضع ، كأنه ما جاع قط من شبع . جز على الشونيزية أو على قبر أحمد ، وميز من أطاع ممن أضاع فمن أحمد ؟ قبور الصالحين تؤنس الزائر ، وقبور الظلمة عليها ظلام متوافر ، جذ على قبور العباد وناد في ذلك الناد : أيتها الأودية والوهاد ، ما فعلت تلك الأوراد : ( تعاهدتك العهاد يا طلل % خبر عن الظاعنين ما فعلوا ) % ( فقال لم أدر غير أنهم % صاح غراب البين فاحتملوا ) % ( لا طاب ليلي ولا النهار لمن % يسكنني أو يردهم قفل ) % ( ولا تحليت بالرياض وبالنور % ومغناي منهم عطل ) % ( خل هذا فما عليك لهم % قلت أنين وأدمع هطل ) % ( وأنني مقفل الضمائر عن % حب سواهم ما حنت الإبل ) % ( فقال هلا اتبعتهم أبدا % إن نزلوا منزلا وإن رحلوا ) % سبحان من قسم الأقسام ، فلقوم يقظة ولقوم منام . قال وهب بن منبه : كان في بني إسرائيل رجلان بلغت بهما عبادتهما أن مشيا على الماء ، فبينما هما يمشيان في البحر إذا هما برجل يمشي في الهواء فقالا له : يا عبد الله بأي شيء أدركت هذه المنزلة ؟ فقال : بيسير من الدنيا : فطمت نفسي عن الشهوات وكففت لساني عما لا يعنيني ، ورغبت فيما دعاني ، ولزمت الصمت . فإن أقسمت على الله أبر قسمي ، وإن سألته أعطاني .
____________________
(2/284)
يا بعيدا عن الصالحين ، يا مطرودا عن المفلحين ، لقد نصب الشيطان الأشراك وجعل حب الفخ هواك ، وكم رأيت مأسورا وسط ذاك ، وليس المراد الآن إلاك ، احذر فخه فهو بعيد الفكاك ، كم يوم غابت شمسه وقلبك غائب ، وكم ظلام أسبل ستره وأنت في عجائب ، كم ليلة بالخطايا قطعتها ، وكم من أعمال قبيحة رفعتها ، وكم من ذنوب جمعتها والصحف أودعتها ، كم نظرة ما تحل ما خفت ولا منعتها ، كم من موعظة تعيها وكأنك ما سمعتها ، وكم من ذنوب تعيب غيرك بها أنت صنعتها ، وكم أمرتك النفس بما يؤذي فأطعتها ، يا موافقا لنفسه آذيتها ، خالفها وقد نفعتها : ( طوى نفسه عنك الشباب المزايل % وأسلمت للشيب الذي لا يزايل ) % ( نسير إلى الآجال في كل ساعة % وأيامنا تطوى وهن مراحل ) % ( ولم أر مثل الموت حقا كأنه % إذا ما تخطته الأماني باطل ) % ( وما أقبح التفريط في زمن الصبا % فكيف به والشيب في الرأس شامل ) % ( ترحل عن الدنيا بزاد من التقى % فعمرك أيام وهن قلائل ) % الكلام على قوله تعالى : ! 2 < إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة > 2 ! كان مطرف بن عبد الله يقول : هذه آية القراء . ومعنى يتلون : يقرؤون . وفي أفراد البخاري من حديث عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ' خيركم من تعلم القرآن وعلمه ' . أخبرنا هبة الله بن محمد بسنده عن عبد الرحمن بن زيد العقيلي عن أبيه عن أنس ،
____________________
(2/285)
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ' إن لله عز وجل أهلين من الناس . فقيل : من أهل الله منهم ؟ قال : أهل القرآن هم أهل الله وخاصته ' . أخبرنا علي بن عبيد الله وأحمد بن الحسن وعبد الرحمن بن محمد بإسنادهم ، عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ' لا يعذب الله قلبا وعى القرآن ' . أخبرنا الكروخي بسنده عن محمد بن كعب القرشي قال : سمعت عبد الله بن مسعود قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ' من قرأ حرفا من كتاب الله تعالى فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها ، لا أقول آلم حرف ، ولكن الألف حرف واللام حرف والميم حرف ' . أخبرنا ابن الحصين بسنده عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ' يقال لصاحب القرآن يوم القيامة : اقرأ وارق ورتل في الدنيا فإن منزلك عند آخر آية يقرؤها ' . واعلم أن لتلاوة القرآن آدابا : منها : أن يقرأ وهو على وضوء متأدبا مطرقا مرتلا بتحزين وبكاء مسرا معظما للكلام والمتكلم به محضرا لقلبه ، متدبرا لما يتلوه . وقد كان في السلف من يختم في كل يوم وليلة . وقد كان عثمان رضي الله عنه يختم في الوتر . ومنهم من كان يختم ختمتين . وقد كان الشافعي رضي الله عنه يختم في رمضان ستين ختمة ومنهم من يختم ثلاث ختمات ، وهؤلاء الذين غلب عليهم انتهاب العمر ، ومنهم من كان يختم في كل
____________________
(2/286)
أسبوع اشتغالا بنشر العلم ، ومنهم من كان يختم كل شهر إقبالا على التدبر . وقد روى أبو ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام ليلة بآية يرددها : ! 2 < إن تعذبهم فإنهم عبادك > 2 ! . وقام تميم الداري بآية : ! 2 < أم حسب الذين اجترحوا السيئات > 2 ! . وكذلك قام بها الربيع بن خثيم . وقال أبو سليمان الداراني : إني لأقيم في الآية أربع ليال أو خمس ليال . وقد بقي بعض السلف سنتين في ختمة . قال ابن مسعود رضي الله عنه : من ختم القرآن فله دعوة : مستجابة . وقال عبد الرحمن بن الأسود : من ختم القرآن نهارا غفر له ذلك اليوم ، ومن ختمه ليلا غفر له تلك الليلة . أخبرنا إسماعيل بن أحمد قال : أنبأنا ابن النقور ، أنبأنا ابن حبابة ، حدثنا البغوي حدثنا هدبة ، حدثنا حماد بن مسلمة عن أبي مسكين عن طلحة بن مطرف قال : من ختم القرآن في أي ساعة من النهار كانت صلت عليه الملائكة حتى يمسي أو أي ساعة من الليل كانت صلت عليه الملائكة حتى يصبح . وقد روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ' إن الرجل الذي ليس في جوفه من القرآن شيء كالبيت الخرب ' . وروى سعد بن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ' ما من امرىء يقرأ القرآن ثم ينساه إلا لقي الله عز وجل يوم القيامة وهو أجذم ' .
____________________
(2/287)
وفي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ' اقرؤوا القرآن وابتغوا به الله عز وجل من قبل أن يأتي قوم يقيمونه مقام القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه ' . قال ابن مسعود : ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذ الناس نائمون وبنهاره إذ الناس مفرطون ، وبحزنه إذ الناس يفرحون ، وببكائه إذ الناس يضحكون ، وبصمته إذ الناس يخوضون . أخبرنا ابن ناصر قال حدثنا عبد القادر ، أنبأنا يوسف ، أنبأنا الحسن بن علي التميمي ، حدثنا أحمد بن جعفر ، حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثنا علي بن مسلم ، حدثنا سيار ، حدثنا جعفر قال : سمعت مالك بن دينار يقول : يا حملة القرآن ماذا زرع القرآن في قلوبكم ، فإن القرآن ربيع المؤمنين كما أن الغيث ربيع الأرض ، وقد ينزل الغيث من السماء إلى الأرض فيصيب الحش فتكون فيه الحبة فلا يمنعها نتن موضعها أن تخضر وتهتز وتحسن ، فيا حملة القرآن ماذا زرع القرآن في قلوبكم ؟ . قال الفضيل رحمه الله : حامل القرآن حامل راية الإسلام ، لا ينبغي أن يلهو مع من يلهو ولا يسهو مع من يسهو ، ولا ينبغي أن يكون له إلى أحد حاجة ، ' إلى الخلفاء إلى من دونهم ' ، وينبغي أن تكون حوائج الناس إليه . وقال أحمد بن حنبل رضي الله عنه : رأيت رب العزة عز وجل في المنام فقلت يا رب : ما أفضل ما يتقرب به المتقربون إليك ؛ فقال : بكلامي يا أحمد . فقلت : يا رب بفهم أو بغير فهم ؟ فقال : بفهم وبغير فهم .
____________________
(2/288)
قوله تعالى : ! 2 < وأقاموا الصلاة > 2 ! المعنى : ويقيمون الصلاة وهو إتمامها بحدودها وفي مواقيتها . قال بعض السلف : رأيت بجبل اللكام شابا مصفرا يصلي العشاء الآخرة ثم يصف قدميه فيختم القرآن في ركعتين ، ثم يبكي إلى الفجر . قوله تعالى : ^ ( وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ) ^ كانوا إذا قدروا على السر لم يخرجوا الصدقة علانية ، لأن صدقة السر تزيد على العلانية سبعين ضعفا . وفي الصحيحين أن أبا طلحة قال : أحب أموالي إلي بئرحاء وهي صدقة لله تعالى لو قدرت أن أسره لم أعلنه . يا مقصرا في أعماله بخيلا بماله ، لا تسألوا عن حاله يوم ترحاله ، يا دائم الخسران فما يربح ، يا مقيما على المعاصي ما يبرح ، متى رأيت من فعل فعلك أفلح ، تقبل من العدو ولا تقبل ممن ينصح ، قم على قدم الطلب فاقرع الباب بالأدب يفتح ، صاحب أهل الخير تكن منهم ، واستفد خصالهم وخذ عنهم . قوله تعالى : ! 2 < يرجون تجارة > 2 ! أي يرجون بفعلهم تجارة ! 2 < لن تبور > 2 ! أي لن تفسد ولن تكسد . وهذا جواب قوله تعالى : ! 2 < إن الذين يتلون كتاب الله > 2 ! . لما سمعوا مضاعفة الأجر في قوله تعالى : ! 2 < مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة > 2 ! . ثم سمعوا قوله تعالى : ! 2 < فيضاعفه له أضعافا كثيرة > 2 ! . قال ابن عباس : لا ينقضي عددها .
____________________
(2/289)
وقال أبو هريرة : إن الله تعالى يكتب للمؤمن بالحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة ولما سمعوا لفظ ' القرض في ذمة الله ' . بادروا بالأموال . أخبرنا يحيى بن علي المدير بسنده عن عبد الله بن مسعود قال : لما نزل قوله تعالى : ! 2 < من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة > 2 ! : قال أبو الدحداح يعني لرسول الله صلى الله عليه وسلم : وإن الله تعالى ليريد منا القرض ؟ قال : نعم : قال : أرني يدك يا رسول الله : قال فناوله يده فقال : إني قد أقرضت ربي حائطي . قال وحائطه فيه ستمائة نخلة ، وأم الدحداح فيه وعيالها فجاء أبو الدحداح فنادى : يا أم الدحداح . قالت : لبيك . قال : اخرجي من الحائط فقد أقرضته ربي عز وجل وفي رواية أخرى أنها لما سمعت ذلك عمدت إلى صبيانها تخرج ما في أفواههم وتنفض ما في أكمامهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ' كم من عذق رداح في الجنة لأبي الدحداح ' . سبحان من خلق تلك النفوس واختارها ، وصفاها بالتقى ورفع أكدارها ، وجعل حمى معرفته وجنته دارها ، فإذا مرت على النار أطفأ نورها نارها ، قوم تيقظوا في أمورهم وعقلوا ، وحاسبوا أنفسهم فما أضاعوا ولا غفلوا ، وحاربوا جنود الهوى فأسروا وقتلوا ، وتدبروا منازل اليقين مع سادة المتقين ونزلوا ، فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا . إخواني : رحل من أصفه وبقي من لا أعرفه ، سل عنهم الشعث الغبور ، وزر إذا اشتقتهم القبور .
____________________
(2/290)
( لمن الطول كأنهن ( م ) % يجزع ذي سلم سطور ) % ( تطوي معالمها الصبا % طورا وتنشرها الدبور ) % ( وكفت بها من أدمعي % في الركب غادية درور ) % ( ولقل ما تجدي الدموع % وينفع الصب الزفير ) % ( أقوت من الحي الديار % فما لها في العين نور ) % سجع على قوله تعالى : ! 2 < يرجون تجارة لن تبور > 2 ! كانوا يقومون الديجور ، ببكاء مطرود مهجور ، ورعد قلوبهم مقلق زجور ، فامتلأت بالخيرات الحجور ! 2 < يرجون تجارة لن تبور > 2 ! . رفضوا الدنيا شغلا عن الزينة ، وأذلوا نفوسهم فعادت مسكينة ، وعلموا أن الدنيا سفينة فتهيأوا للعبور ! 2 < يرجون تجارة لن تبور > 2 ! . يؤثرون بالطعام ويؤثرون الصيام ، ويأملون فضل الإنعام ، فما كانت إلا أيام حتى اخضرت البذور ! 2 < يرجون تجارة لن تبور > 2 ! بعثوا الأموال الحبيبة إلى بلاد البعث الغريبة ، فإذا الأرباح عن قريب قريبة ، وعلى هذا التجارة تدور ! 2 < يرجون تجارة لن تبور > 2 ! . العليل عليل ، والأنين طويل ، والعيون تسيل ، وما مضى إلا القليل حتى فرح الصبور ^ ( ترجون تجارة لن تبور ) ^ . يقفون وقوف مسكين ، ويذلون ذل مستكين ، فنالوا المقام الأمين ، وانشعب قلب الحزين بأكمل الحبور ^ ( ترجون تجارة لن تبور ) ^ سليمهم كالسليم ، وحزنهم مقيم ، يحذرون الجحيم ويرجون النعيم في كمال الحبور ^ ( ترجون تجارة لن تبور ) ^ .
____________________
(2/291)
للقلب مع الدنيا نبا ، كلما عارضه الهوى نبا ، يندبون ندب الأسرى الغربا ، والزفرات على ذنوب الصبا تزيد على الصبا والدبور ! 2 < يرجون تجارة لن تبور > 2 ! . يا من يدفن ماله تحت الأرض ولا يفهم معنى القرض ، سيخرج الوارث بالفرض إلى الدرهم والدور . ! 2 < يرجون تجارة لن تبور > 2 ! . سبحان من قضى لقوم سرورا ، وعلى آخرين ثبورا فما لهم من نور ! 2 < يرجون تجارة لن تبور > 2 ! . والله سبحانه وتعالى أعلم .
____________________
(2/292)
المجلس السابع في الأخوة والصداقة الحمد لله الذي لطف بالبرايا إذ براهم وبر ، وروح أرواح أهل الصلاح براح الفلاح وسر ، واطلع على ضمير من نوى وسر من أسر ، وقدر الأشياء فقضى الخير وقضى الشر ، وأمات وأحيا وأفقر وأغنى ونفع وضر ، جف القلم بتقديره فمضى الأمر واستقر ، بقدرته تقطع المراكب البحر والمركوب البر ، لطفه عظيم وجوده عميم قد استمر ' رب أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبر ' سميع يسمع المدنف المضطر ، بصير يرى في دجى الليل الذر ، عليم بانكسار من ندم وإصرار من أصر ، حليم فإن سطا رأيت الأمر الأمر ، ما ألطفه بعبده يدعوه لرفع ما عر ^ ( فإذا كشفنا عنه ضره مر ) ^ . يمد رواق الظلام فإذا لاح الصباح فر ، وينير النهار فإذا انقضى عاد الليل وكر ، فالقمر آية الليل والشمس تجري لمستقر ' . أحمده على إنعام كلما احتلب در ، وأقر بوحدانيته عن دليل قد استقر ، وأصلي على رسوله محمد الذي عمت رسالته البحر والبر ، وعلى صاحبه أبي بكر المنفق حتى تخلل وزر ، وعلى عمر الزاهد فما غره ما غر ، وعلى عثمان الذي ارتفع بالكرم فبر وأبر ، وعلى علي الذي ما أقدم قط ففر ، وعلى عمه العباس المقدم نسبا والفخر قد استقر . قال الله تعالى : ! 2 < هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين > 2 ! أيدك بمعنى قواك بنصره
____________________
(2/293)
وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم . التأليف : الجمع على ما يشاكل . والمراد بالآية الأوس والخزرج وهم الأنصار ، وكانت بينهم عداوة في الجاهلية فألف الله عز وجل بينهم ، وهذا من أعجب الآيات ، لأنهم كانوا ذوي أنفة شديدة ، فلو أن رجلا لطم رجلا لقاتلت عنه قبيلته حتى تدراك ثأره ، فآل لهم الإسلام إلى أن يقتل الرجل ابنه وأباه في طاعة الله عز وجل . وقد روى أبو الأحوص ، عن ابن مسعود في قوله تعالى ! 2 < لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم > 2 ! قال : هم المتحابون في الله تعالى . اعلم أن المعنى الجامع بين المسلمين الإسلام ، فقد اكتسبوا به أخوة أصلية ، ووجب عليهم بذلك حقوق لبعضهم على بعض . وفي الصحيحين من حديث النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ' مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ' . وفيهما من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ' وشبك بين أصابعه . وفيهما من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ' والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ' . وفي حديث مسلم : لجاره أو لأخيه .
____________________
(2/294)
وفيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ' حق المسلم على المسلم خمس : يسلم عليه إذا لقيه ، ويشمته إذا عطس ، ويعوده إذا مرض ، ويشهد جنازته إذا مات ، ويجيبه إذا دعاه ' . وإذا ثبتت هذه الحقوق للاشتراك في الإسلام فكلما زادت المخالطة وصفا زادت الحقوق ، مثل القرابة والمجاورة والضيافة والصحبة والصداقة والأخوة الخاصة في الله عز وجل . فأما حق القرابة : فمعلوم : وجوب بر الوالدين وتقديم الأم في البر ووجوب صلة الرحم . وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من أحب أن يوسع الله عليه في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه ' . وأما حق الجار ففي الصحيحين من حديث ابن عمر وعائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ' ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ' . وأما حق الضيف ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ' من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ' . وأما حق الصحبة فقال مجاهد : صحبت ابن عمر وأنا أريد أن أخدمه فكان يخدمني أكثر .
____________________
(2/295)
وأما حق الصداقة فإنها تطلق على ما دون الأخوة ، فالأخوة هي المرتبة العليا ، وإنما تقع الأخوة الصادقة إذا حصل التشاكل بين الأخوين في أصل الوضع . وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ' الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف ' . قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله : ومعنى هذا الحديث : الإخبار عن مبدأ كون الأرواح وتقدمها الأجساد ، على ما روي أن الله عز وجل خلق الأرواح قبل الأجساد بكذا وكذا ، فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنها خلقت على ائتلاف واختلاف فتأتلف الأجساد في الدنيا وتختلف على حسب ما وقع في مبدأ الخلقة . وفي هذا الحديث دليل على أن الأرواح ليست بأعراض وأنها كانت موجودة قبل الأجساد ، وأنها تبقى بعد الأجساد ، ويؤيد هذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام : ' أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تعلق في ثمر الجنة ' . وهذه الأخوة الخاصة هي التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه ، وقد علم أن الأخوة العامة في قوله تعالى : ! 2 < إنما المؤمنون إخوة > 2 ! واقعة قبل عقده ، غير أنه أراد الأمر الخاص . وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه آخى بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع . وقد آخى بين خلق كثير ذكرتهم في كتاب التلقيح .
____________________
(2/296)
وهذه الأخوة هي التي توجب المحبة في الله عز وجل ، وهي أوثق عرى الإيمان . كذلك روى البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ' أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله وتبغض في الله ' . ومن جملة ثواب المتحابين ما روي في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ' سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ' فذكر منهم رجلين تحابا في الله عز وجل اجتمعا عليه وتفرقا عليه ' . أخبرنا هبة الله بن محمد بسنده عن أبي الحباب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ' إن الله عز وجل يقول يوم القيامة : أين المتحابون بجلالي ؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي ' . انفرد بإخراجه مسلم . وبالإسناد عن أبي مسلم الخولاني قال : أتيت مسجد أهل دمشق فإذا حلقة فيها كهول من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وإذا شاب فيهم أكحل العين براق الثنايا كلما اختلفوا في شيء ردوه إلى الفتى ، فقلت لجليس لي : من هذا ؟ قال : هذا معاذ ابن جبل فجئت من العشي فلم يحضر ، فغدوت من الغد فلم يجيء ، فخرجت فإذا أنا بالشاب يصلي إلى سارية فركعت ثم تحولت إليه ، قال فسلم فدنوت منه فقلت : إني أحبك في الله تعالى . قال : فمدني إليه وقال : كيف قلت ؟ قلت : إني أحبك في الله . قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ' المتحابون في الله على منابر من نور في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله ' .
____________________
(2/297)
قال : فخرجت حتى لقيت عبادة بن الصامت فذكرت حديث معاذ بن جبل فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن ربه عز وجل يقول : ' حقت محبتي للمتحابين في ، وحقت محبتي للمتباذلين في ، وحقت محبتي للمتزاورين في ، والمتحابون في الله على منابر من نور في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله ' . وفي حديث عمرو بن عبسة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ' إن الله عز وجل يقول : حقت محبتي للذين يتحابون من أجلي ، وحقت محبتي للذين يتصافون من أجلي ' . وفي حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ' إن لله عز وجل عبادا على منابر من نور في ظل العرش يغبطهم الشهداء . قيل : من هم ؟ قال : المتحابون في جلال الله عز وجل ' . واعلم أن هذا الثواب في هذه المحبة إنما يكون إذا كانت لله تعالى خالصة لا يشوبها شيء من الكدر ، ومتى قويت محبة الله سبحانه وتعالى في القلب قويت محبة أوليائه والصالحين من عباده ، فلينظر الإنسان من يؤاخي ومن يحب ، ولا ينبغي أن يتخير إلا من قد سلم عقله ودينه . وقد قال عليه السلام : ' المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ' . وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : المرء مع من أحب ' .
____________________
(2/298)
فإذا أحب شخصا فليعلمه : وروى المقدام بن معدي كرب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إذا أحب أحدكم أخاه فليعلمه إياه . وقال عمران بن حطان : لقد أحببت في الله عز وجل ألف أخ كلهم أعرف اسمه واسم أبيه وقبيلته ومكان داره . وقال أبو زرعة بن عمرو بن جرير : ما تحاب رجلان في الله عز وجل إلا كان أفضلهما أشدهما حبا لصاحبه . وكان يقول : اصحب من ذا صحبته زانك ، وإن خدمته صانك ، وإذا أصابتك خصاصة مانك ، وإن رأى منك حسنة سر بها ، وإن رأى منك سقطة سترها ، ومن إذا قلت صدق قولك ، ومن هو فوقك في الدين ودونك في الدنيا ، وكل أخ وجليس وصاحب لا تستفيد منه في دينك خيرا فانبذ عنك صحبته . فإذا صفت المحبة وخلصت وقع الشوق والتزاور وصار بذل المال أحقر الأشياء . فأما التزاور فقد ذكرنا فضيلته . وقد كان عمر بن الخطاب يذكر الأخ من إخوانه في بعض الليل فيقول : يا طولها من ليلة ! فإذا صلى المكتوبة غدا إليه فاعتنقه . وقال مجاهد : إذا مشى أحد المتحابين إلى الآخر فأخذ بيده فضحك إليه تحاتت خطاياه كما يتحات ورق الشجر . أخبرنا عبد الرحمن بن محمد ، قال أنبأنا أبو بكر الخطيب ، أخبرني عبد العزيز الأزجي ، حدثنا عبد الله بن محمد بن سليم العلاف [ عن معروف الكرخي ] قال : امش ميلا صل جماعة ، امش ميلين صل جمعة ، امش ثلاثة أميال عد مريضا ،
____________________
(2/299)
امش أربعة أميال شيع جنازة ، امش خمسة أميال شيع حاجا أو معتمرا ، امش ستة أميال شيع غازيا في سبيل الله ، امش سبعة أميال بصدقة من رجل إلى رجل ، امش ثمانية أميال أصلح بين الناس ، امش تسعة أميال صل رحما وقرابة ، امش عشرة أميال في حاجة عيالك ، امش أحد عشر ميلا في معاونة أخيك ، امش بريدا والبريد اثنا عشر ميلا - زر أخا في الله عز وجل ! وأما بذل المال فله ثلاث مراتب : أهونها : المساهمة في المال ، وأوسطها المواساة ، وأعلاها تقديم الأخ في المال على النفس . وقد روينا آنفا : ' حقت محبتي للمتباذلين في ' . قال ابن عمر : لقد رأيتنا وما أحدنا بأحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم . وقال الحسن : كنا نعد البخيل الذي يقرض أخاه ! وقال : ليس من المروءة أن يربح الرجل على صديقه . وقال أبو جعفرالباقر لأصحابه : هل يدخل أحدكم يده في كم صاحبه فيأخذ منه ما يريد ؟ قالوا : لا . قال : فلستم بإخوان . وقد كان بعضهم يتلطف في إيصال البر إلى إخوانه فيأتي بالصرة فيها الأربعمائة والخمسمائة فيودعها أحدهم ثم يلقاه بعد فيقول : انتفعوا بها فهي لكم . وعلى هذا لا ينبغي للأخ أن يجحف بأخيه فيما يأخذ منه وإن علم أنه لا كلفة عليه في ذلك ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال له أبو بكر زمن الهجرة : قد علفت ناقتين فخذ إحداهما فقال : بالثمن . هيهات ! رحل الإخوان وأقام الخوان ، وقل أن ترى في الزمان إلا من إذا دعي مان .
____________________
(2/300)
( الكلام على البسملة ) ( أجد الديار كما عهدت وإنما % شكواي أني أفقد الجيرانا ) % ( يا وحدتي ما أكثر الإخوان لي % نظرا وأكثر فيهم الخوانا ! ) % ( في كل مطرح نظرة حولي أخ % صنو إذا هز الغنى الأفنانا ) % ( راع معي أبدا فإن هي أعجفت % إبلي تقلب أو يعدن سمانا ) % ( أشريه من خفض المعيشة غاليا % ويبيعني في ضنكها مجانا ) % ( ألقاهم عدد الكواكب كثرة % حولي وألقي وحدي الحدثانا ) % إخواني : إن البخل والجهل للقلوب قد خالط ، فما يعرف من يخالط . كان السلف يتعاشرون بنزع الغل على مناصحة النفوس ، فصارت عشرة العشيرة على موافقة الهوى بدخن الضمير ، كانوا يميلون على الدنيا بالذم فصار الميل إليها بالقلب ، تمالئوا على حبها ومالوا ، فإذا فرت عن صديقهم أعرضوا ومالوا ، فافتح بصر البصيرة فعلى هذا تراهم ، ثم التفت عنهم وإياك وإياهم : ( اسمعي مني أبثك شاني % إنما يبدي ضميري لساني ) % ( كم أخ لي كان مني فلما % أن رأى الدهر جفاني قد جفاني ) % ( لم يرعني غير خل غادر % موتر نحري لقوس الزمان ) % ( مستعد لي بسهم عندما % أن رأى الدهر رماني قد رماني ) % كان الأخ في الله يخلف أخاه في أهله إذا مات أربعين سنة ! وكان الرجل إذا أراد شين أخيه طلب حاجته من غيره . خرج إبراهيم بن أدهم رحمه الله في سفر ومعه ثلاثة نفر ، فدخلوا مسجدا في بعض المفاوز والبرد شديد وليس للمسجد باب ، فلما ناموا قام إبراهيم فوقف على الباب إلى
____________________
(2/301)
الصباح ، فقيل له : لم تنم ؟ فقال : خشيت أن يصيبكم البرد فقمت مقام الباب ! وجاء رجل من السلف إلى بيت صديق له فخرج إليه فقال : ما جاء بك ؟ قال : علي أربعمائة درهم فدخل الدار فوزنها ثم خرج فأعطاه ثم عاد إلى الدار باكيا فقالت زوجته : هلا تعللت عليه إذا كان إعطاؤه يشق عليك ؟ فقال : إنما أبكي لأني لم أفتقد حاله فاحتاج أن يقول لي ذلك ! ( هل تحسان لي رفيقا رفيقا % أو تصيبان لي صديقا صدوقا ) % ( قد فشا الغدر والخيانة في الناس % فما إن رأى رفيقا شفيقا ) % أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك بسنده عن رباح بن الجراح قال : جاء فتح الموصلي إلى منزل صديق له يقال له عيسى التمار فلم يجده في المنزل ، فقال للخادمة : أخرجي لي كيس أخي . فأخرجته ففتحه فأخذ منه درهمين . وجاء عيسى فأخبرته الخادمة فقال : إن كنت صادقة فأنت حرة . فنظر فإذا هي صادقة . فعتقت ! أخبرنا أبو بكر بن حبيب قال أبو سليمان الداراني : كان لي أخ في الله عز وجل فقلت له يوما : أعطني دراهم . فقال : كم تريد ؟ فسقط من عيني وخرجت أخوته من قلبي بقوله : كم تريد . واعلم أنه إذا علت مرتبة الأخوة وقع فداء الأخ بالنفس . أخبرنا عبد الرحمن بن محمد بسنده عن محمد بن داود قال سمعت أبا بكر القرطبي وأبا عمرو الأدمي يقولان وكانا يتآخيان في الله تعالى : خرجنا من بغداد نريد الكوفة ، فلما سرنا في بعض الطريق إذا نحن بسبعين رابضين على الطريق ، فقال أبو بكر لأبي عمرو : أنا أكبر منك سنا فدعني أتقدمك فإن كان حادثة اشتغلا بي
____________________
(2/302)
عنك وجزت أنت فقال له أبو عمرو نفسي ما تسامحني بهذا ، ولكن نكون جميعا في مكان واحد فإن كانت حادثة كنا جميعا . فجازا جميعا بين السبعين فلم يتحركا ومرا سالمين . وركب أخوان في الله تعالى في البحر فكسر بهما المركب فجعلا يسبحان ويتعلق أحدهما بالآخر فقال أحدهما للآخر : إن تعلقت بي هلكنا جميعا فدعني فربما سلم أحدنا فقال : ظننت أني أنا أنت فإذا وقع الفراق فنعم . فتنحى عنه ، فقدرت لهما السلامة فلم يصحبه ذلك باقي عمره . إخواني : نسخ في هذا الزمان رسم الأخوة وحكمه ، فلم يبق إلا الحديث عن القدماء ، فإن سمعت بإخوان صدق فلا تصدق . ( ما هذه الألف التي قد زدتم % فدعوتم الخوان بالإخوان ) % ( ما صح لي أحد أصيره أخا % في الله حقا ، لا ولا الشيطان ) % ( إما مول عن ودادي ما له % وجه وإما من له وجهان ) % الكلام على قوله تعالى : ! 2 < الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم > 2 ! في المراد بهذا الذكر ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الذكر في الصلاة ، يصلي الإنسان قائما ، فإن لم يستطع فقاعدا ، فإن لم يستطع فعلى جنب . هذا قول علي وابن مسعود وابن عباس وقتادة . والثاني : أنه ذكر في الصلاة وغيرها . والثالث : أنه الخوف . فالمعنى يخافون الله في جميع تصرفاتهم .
____________________
(2/303)
أخبرنا هبة الله بن محمد بسنده عن أبي صالح قال : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل : ' أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني ، إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ، ومن تقرب إلي شبرا تقربت منه ذراعا ، ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ، ومن جاءني يمشي جئته هرولة ' . أخرجاه في الصحيحين . وفي أفراد مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : سبق المفردون قالوا : وما المفردون ؟ قال الذاكرون الله كثيرا والذاكرات ' . وفي أفراده من حديث أبي هريرة أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده ' . وفي حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ' ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله لا يريدون بذلك إلا وجه الله إلا ناداهم مناد من السماء : قوموا مغفورا لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات . أخبرنا محمد بن عبد الباقي البزار بسنده عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ' إن لله تعالى ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تعالى تنادوا : هلموا إلى حاجتكم . فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء قال : فيسألهم ربهم تبارك وتعالى - وهو أعلم بهم : ما يقول عبادي ؟ قالوا : يذكرونك ويسبحونك ويحمدونك . قال : وهل رأوني ؟ فيقولون : لا والله
____________________
(2/304)
يا رب ما رأوك . قال : فيقول : فكيف لو رأوني ؟ قال : فيقولون : لو أنهم رأوك لكانوا أشد لك عبادة وأشد لك تمجيدا وأكثر تسبيحا . قال : فيقول : وما يسألوني ؟ قالوا : يسألونك الجنة قال : فيقول : وهل رأوها ؟ فيقولون : لا والله يا رب ما رأوها . فيقول : فكيف لو رأوها فيقولون : لو رأوها كانوا أشد عليها حرصا وأشد لها طلبا وأعظم فيها رغبة فيقول : فمم يتعوذون ! قال : يقولون : من النار قال : يقول : فهل رأوها ؟ قال : فيقولون : لا والله ما رأوها . قال يقول : كيف لو رأوها ؟ قال يقولون : لو رأوها كانوا أشد منها فرارا وأشد لها مخافة قال : فيقول : فأشهدكم أني قد غفرت لهم . قال : يقول ملك من الملائكة : فيهم فلان ليس منهم ، إنما جاء لحاجة فيقول : هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم ' . أخرجاه في الصحيحين . وفي حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : ' إن الله عز وجل يقول : أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه ' . وفي حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ' يقول الله تعالى : أخرجوا من النار من ذكرني يوما أو خافني في مقام ' . وفي حديثه عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : ' إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا ' . قالوا : يا رسول الله وما رياض الجنة ؟ قال : ' مجالس الذكر ' . وكان داود عليه الصلاة والسلام يقول : إلهي إذا مررت على ملأ يذكرونك فجاوزتهم فاكسر الرجل التي تليهم .
____________________
(2/305)
واعلم أن الذاكرين تختلف أحوالهم . فمنهم من يؤثر قراءة القرآن ويقدمه على كل ذكر . وقد كان فيهم من يختم كل يوم ومنهم من يختم ختمتين . ومنهم من أكثر ذكره التهليل والتسبيح والتحميد . ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من قال : ' لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في كل يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك . ومن قال في يومه مائة مرة : سبحان الله وبحمده حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر ' . وقال سعيد بن عبد العزيز قلت لعمر بن هانىء : أرى لسانك لا يفتر من ذكر الله عز وجل فكم تسبح كل يوم ؟ قال : مائة ألف إلا أن تخطىء الأصابع . وقال محمد بن ثابت البناني : ذهبت ألقن أبي وهو في الموت فقلت : يا أبت قل : لا إله إلا الله . فقال : يا بني خل عني فإني في وردي السادس أو السابع ! ( ذكرك لي مؤنس يعارضني % يعدني عنك منك بالظفر ) % ( وكيف أنساك يا مدى هممي % وأنت مني بموضع النظر ) % ومن الذاكرين من غلب على قلبه حب المذكور فلا يزال في الذكر والتعبد . أخبرنا ابن حبيب بسنده قال : سمعت فاطمة أخت أبي علي الروذباري تقول :
____________________
(2/306)
سمعت أخي يقول : سمعت الجنيد يقول : ما رأيت أعبد لله من سري السقطى ، أتت عليه ثمان وسبعون سنة ما رئي مضطجعا إلا في علة الموت . ومن الذاكرين من صار الذكر له إلفا لا عن كلفة ، فما له هم غيره ، فهو يذكر أبدا على جهة الحضور . وقال مجمش الجلاب : صحبت أبا حفص النيسابوري اثنتين وعشرين سنة فما رأيته ذكر الله تعالى على حد الغفلة والانبساط ، ما كان يذكر الله إلا على سبيل الحضور والحرمة والتعظيم ، وكان إذا ذكر الله تعالى تغير عليه حاله حتى كان يرى ذلك جميع من حضره . وقال بعض السلف : صحبت في طريقي رجلا أسود فكان إذا ذكر الله تعالى ابيض ! ( وشغلت عني فهم الحديث سوى % ما كان منك وعندكم شغلي ) % ( وأديم نحو محدثي نظري % أن قد فهت وعندكم عقلي ) % أين أهل الأذكار ، أين قوام الأسحار ، أين صوام النهار ، خلت والله منهم الديار ، وامتلأت بهم القفار فصل إليهم وصل عليهم فهم الأحرار . ( سلام على أهل الحمى عدد الرمل % وقل له التسليم من تائق مثلي ) % ( وقفت وقوف الغيث بين طلوله % بمنسكب سح ومنهمل وبل ) % ( وما رمت حتى خالني الريم رمة % وأذرف أطيار الحمى الدمع من أجلي ) % ( خليلي قد غدبتماني ملامة % كأن لم يطف في دمنة أحد قبلي ) %
____________________
(2/307)
( فلا برحت عيني تنوب عن الحيا % بدمع على تلك المناهل منهل ) % ( ليالي لا روض الكثيب بلا ندى % ولا شجرات الأبرقين بلا طل ) % السجع على قوله تعالى : ! 2 < الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم > 2 ! . سبحان من قضى على الغافلين كسلاً وقعوداً ، ورفع المتقين علواً وصعوداً ومنحهم من إنعامه فوزاً وسعوداً بمطلوبهم ! 2 < يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم > 2 ! . أنعم عليهم فأعطاهم ، واستخلصهم واصطفاهم وقليل ما هم ، اشتغل الناس بدنياهم واشتغلوا بذكر محبوبهم ! 2 < يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم > 2 ! . قنعوا بأدون المطعم واللباس ، وألقوا نفوسهم في المساجد كالأحلاس ، يمشون بالسكينة بين الناس وما دروا بهم في دروبهم ! 2 < يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم > 2 ! . اكتفوا من الليل بيسير النوم ، واشتغلوا بالصلاة وبالصوم ، وكانت والله همم القوم في صلاح قلوبهم ! 2 < يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم > 2 ! . تناولوا لقم الترتيل وقالوا : هذه للجوع تزيل ، فهم يقنعون بالقليل في مطعومهم ومشروبهم ! 2 < يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم > 2 ! . قاموا قيام المستعد ، ووردوا بحر الجود العد ، وتسلحوا سلاح العزم والجد في جميع حروبهم ! 2 < يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم > 2 ! . لبسوا ثياب السفر ، ورحلوا على أكوار السهر ، فلو سمعت وقت السحر ترنم طروبهم ! 2 < يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم > 2 ! .
____________________
(2/308)
تناولوا كؤوس الدمع يتجرعون ، فلو رأيتهم في طريق الخضوع يتضرعون والقوم يقلقون ويضرعون في ستر عيوبهم ! 2 < يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم > 2 ! . يستغيثون إلى الحق ويشكون ، واليتامى في الذل يحكون ، وجملة الأمر أنهم يبكون على قبح مكتوبهم ! 2 < يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم > 2 ! . يعتذرون من زلل القدم ، ويتمنون بعد الوجود العدم ، وقد بعثوا رسالة الندم مع مندوبهم ! 2 < يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم > 2 ! . قلبتهم الأشجان ، وغيرتهم الأحزان ، ينزعجون لما قد كان من سالف ذنوبهم ! 2 < يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم > 2 ! . أما الليل فسهارى ، وأما النهار فأسارى ، وكأنهم بالمحبة سكارى في شروقهم وغروبهم ! 2 < يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم > 2 ! . لو أصغيت في الدجى واستمعت ، وأحضرت قلبك عندهم وجممت ، وهيهات ليتك اطلعت على بعض كروبهم ! 2 < يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم > 2 ! . كانت رقدة ثم بقيت النياحة ، فانتقلوا من حضرة الحظر إلى الإباحة ، واستبدلوا بالرياضة الراحة ، فلم يبق أثر لجدوبهم ! 2 < يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم > 2 ! .
____________________
(2/309)
المجلس الثامن في ذكر العزلة الحمد لله الواحد القديم الجبار ، القادر العظيم القهار ، والمتعالي عن درك الخواطر والأفكار ، المنفرد بالعز والقهر والاقتدار ، الذي وسم كل مخلوق بسمة الافتقار ، فأظهر آثار قدرته بتصرف الليل والنهار ، سميع يسمع لا كالأسماع ، بصير يبصر لا كالأبصار ، قادر مريد حكيم عليم بالأسرار ، يبصر دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على القار ، ويسمع أنين المدنف يشكو ما به من أضرار ، كلم موسى كفاحاً لما قضى الأجل وسار ، ورآه نبينا صلى الله عليه وسلم دل على ذلك القرآن والأخبار ، ويراه المؤمنون إذا نزلوا دار القرار ، صفاته كذاته والمشبهة كفار ، نقر وغر وأرباب البحث في خسار ، هذا سيف السنة فتناوله باليمين لا باليسار ، واضرب به كف ' كيف ' ورأس ' لم ' وعنق ' ثم ' وخذ للتنزيه من التشبيه بالثار ^ ( أمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار ) ^ . أحمده في الإعلان والإسرار ، وأشهد بوحدانيته بأصح إقرار ، وأصلي على رسوله محمد سيد الأنبياء الأطهار ، وعلى أبي بكر رفيقه في الدار والغار ، وعلى عمر قامع الكفار ، وعلى عثمان شهيد الدار ، وعلى علي قسيم النار ، وعلى عمه العباس آخذ البيعة ليلة العقبة على الأنصار .
____________________
(2/310)
أخبرنا عبد الأول بسنده عن عطاء بن يزيد عن أبي سعيد الخدري قيل : يا رسول الله أي الناس خير ؟ قال : رجل يجاهد بنفسه وماله ، ورجل في شعب من الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شره . أخرجاه في الصحيحين . أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد البزار ، قال : أنبأنا رزق الله بن عبد الوهاب بسنده عن عبد العزيز أبي حازم ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ' إن من خير معايش الناس لهم رجل ممسك بعنان فرسه يطير على متنه كلما سمع هيعة أو قرعة طار على متن فرسه يلتمس الموت والقتل مكانه ، ورجل في رأس شعفة من الشعاف أو بطن واد من هذه الأودية يقيم الصلاة ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين ليس من الناس إلا في سبيل خير . قال أبو عبيدة : الهيعة : الصوت . قال الطرماح : ( أنا ابن حماة المجد من آل مالك % إذا جعلت خور الرجال تهيع ) % والخور جمع خوار وهو الضعيف . والشعفة واحدة الشعاف وهي رؤوس الجبال ، وهي الشماريخ والشناخيب واحدها شنخوبة . وروي عن عقبة بن عامر قال : قلت يا رسول الله : ما النجاة ؟ قال : ' املك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك ' .
____________________
(2/311)
قال الشيخ : وهذه الأحاديث تدل على فضل العزلة . وقد كان السلف يؤثرونها ويمدحونها فقال عمر بن الخطاب : خذوا بحظكم من العزلة وقال سعد بن أبي وقاص : والله لوددت أن بيني وبين الناس باباً من حديد لا يكلمني أحد ولا أكلمه حتى ألحق بالله تعالى . وقال ابن مسعود لأصحابه : كونوا ينابيع العلم مصابيح الليل أحلاس البيوت ، جدد القلوب خلقان الثياب ، تعرفون في أهل السماء وتخفون على أهل الأرض . وقال أبو الدرداء : نعم صومعة الرجل بيته يكف فيها بصره ولسانه ، وإياكم والسوق فإنها تلهي وتلغي . وقال ابن عباس : لولا مخافة الوسواس لرحلت إلى بلاد لا أنيس بها ، وهل يفسد الناس إلا الناس ! كان أبو جهم الأنصاري بدرياً وكان لا يجالس الناس وكان يعتزل في بيته ، فقالوا له : لو جالست الناس وجالسوك ؟ فقال : وجدت مقاربة الناس شراً . وقال أبو حذيفة : والله لوددت أن لي إنساناً يكون في مالي ثم أغلق علي باباً فلا يدخل علي أحد حتى ألحق بالله عز وجل . وقال الحسن : صوامع المؤمنين بيوتهم . وقال سعيد بن المسيب وابن سيرين : العزلة عبادة . وقال عمر بن عبد العزيز : إذا رأيتم الرجل يطيل الصمت ويهرب من الناس فاقربوا منه فإنه يلقى الحكمة .
____________________
(2/312)
وكان عثمان بن أبي دهرش إذا رأى الفجر أقبل عليه بثه وقال : الآن أصير مع الناس فلا أدري ما أجني على نفسي ! وقال داود الطائي : فر من الناس كما تفر من الأسد . وأوصى سفيان الثوري بعض أصحابه فقال : إن استطعت أن لا تخالط في زمانك هذا أحدا فافعل ، وليكن همك مرمة جهازك . وكان يقول : هذا زمان السكوت ولزوم البيوت . وجاء رجل إلى الفضيل فجلس إليه فقال : ما أجلسك إلي ؟ فقال : رأيتك وحدك . فقال : إما أن تقوم عني وإما أن أقوم عنك . فقال : أنا أقوم أوصني . فقال : أخف مكانك واحفظ لسانك . وجاء رجل إلى شعيب بن حرب فقال : ما جاء بك ؟ فقال : جئت أونسك . فقال : أنا أعالج الوحدة منذ أربعين سنة ! وقال مالك بن أنس : كان الناس الذين مضوا يحبون العزلة والانفراد من الناس . وقال بشر الحافي : من عامل الله بالصدق استوحش من الناس . وقد كان أحمد بن حنبل يحب العزلة وإبراهيم بن أدهم وسليمان الخواص ويوسف بن أسباط وحذيفة المرعشي في خلق كثير . واعلم أن العزلة لا ينبغي أن تقطع عن العلم والجماعات ومجالس الذكر والاحتراف للعائلة ، وإنما ينبغي أن يعتزل الإنسان ما يؤذي ، وقد يخاف من المخالطة المباحة أذى فيجتهد الإنسان في ترك ما يخاف عواقبه .
____________________
(2/313)
ويبعد حضور القلب مع المخالطة للناس ، إلا أن يكون لمعنى . وقد قال شعيب بن حرب : الناس ثلاثة : رجل تعلمه فيقبل منك ، ورجل تتعلم منه ، واهرب من الثالث . وقد كان الثوري يقول : أقل من معرفة الناس . وقال إبراهيم بن أدهم : لا تتعرف إلى من لا تعرف وأنكر من تعرف ! ( إني نظرت إلى الزمان % وأهله نظرا كفاني ) % ( فعرفته وعرفتهم % وعرفت عزي من هواني ) % ( فحملت نفسي بالقناعة % عنهم وعن الزمان ) % ( وتركتها بعفافها % والزهد في أعلى مكان ) % ( فلذاك أجتنب الصديق % فلا أراه ولا يراني ) % ( فتعجبوا لمغالت % وهب الأقاصي والأداني ) % ( وانسل من بين الزحام % فما له في الخلق ثاني ) % وفصل الخطاب في هذا : أن الناس على ضربين : عالم وعابد . فالعالم لا ينبغي له أن ينقطع عن نفع الناس فإنه خلف الأنبياء ، وليعلم أن هداية الخلق أفضل من كل عبادة . وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي عليه السلام : ' والله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم ' . فمتى ما جاء الشيطان فحسن للعالم الانقطاع عن الخلق في الجملة فذاك خديعة منه ، ولقد حسن لكثير من السلف
____________________
(2/314)
دفن كتبهم ومحو علمهم وهذا من الخطأ العجيب ، بل ينبغي للعالم أن يعتزل عن شر من يؤذي ويبرز لمن يستفيد ، فظهوره أفضل من إخفائه . فأما إن كان عابدا فالعابد لا ينافس في هذا ، فإن من القوم من شغلته العبادة ، كما روي أن الحسن رأى رجلا متعبدا فأتاه فقال : يا عبد الله ما يمنعك من مجالسة الناس ؟ قال : ما أشغلني عن الناس . قال : فما منعك أن تأتي الحسن ؟ فقال : ما أشغلني عن الحسن . قال : فما الذي شغلك عن الحسن ؟ قال : إني أمسي وأصبح بين ذنب ونعمة ، فرأيت أن أشغل نفسي بالاستغفار للذنب والشكر لله تعالى على النعمة . فقال له : أنت عندي أفقه من الحسن ! وقال رجل لعامر بن قيس : قف فكلمني . فقال : أمسك الشمس ! ومن القوم من استغرقته محبة الله تعالى والأنس به فاستوحش من الخلق . قيل لغزوان الزاهد : لو جالست إخوانك ؟ فقال : إني أصيب راحة قلبي في مجالسة من عنده حاجتي . ( تعبي راحتي وأنسى انفرادي % وشفائي الضنا ونومى سهادي ) % ( لست أشكو بعاد من صد عني % أي بعد وقد ثوى في فؤادي ) % ( هو يختال بين قلبي وعيني % هو ذاك الذي يرى في السواد ) % فهؤلاء عزلتهم أصلح لهم ، بل لا ينبغي أن تشغلهم العزلة عن الجماعات ومجالسة العلماء ، فإن فعلوا كان ذلك من الشيطان . وإنما نأمر العوام باعتزال الشر ، فحسب فإنه الجهاد في حقهم . واعلم أن السمع يوصل إلى القلب خبر المسموعات والبصر خبر المنظورات ، ورب نظرة نقشت في القلب صورة فبعد محوها ، فإن الإنسان ليمشي في الأسواق فيتغير قلبه ، والعزلة توجب السلامة من ذلك . وقد كان في الصالحين من إذا خرج للسوق فكسب ما يكفيه قام إلى المسجد . فالبدار البدار إلى حفظ القلوب بالعزلة عن كل ما يؤذي .
____________________
(2/315)
الكلام على البسملة ( ما عذر من جر عاصيا رسنه % ما عذره بعد أربعين سنة ) % ( أكلما طالت الحياة به % أطال عن أخذ حذره وسنه ) % ( قل لي إذا مت كيف تنقص من % سيئة أو تزيد في حسنه ) % يا مريضا ما يعرف أوجاعه ، يا مضيع العمر بالساعة والساعة ، يا كثير الغفلة وقد دنت الساعة ، يا ناسياً ذكر النار إنها لنزاعة ، كأنه وملك الموت قد أزعجه وأراعه ، وصاح بالنفس صيحة فقالت : سمعاً وطاعة ، ونهضت تعرض كاسد التوبة ، وهيهات غلق الباعة يا سيئ النظر لنفسه في وجه شمس فهمك غيم ، بين دائك ودوائك حجاب ، لو أهمتك نفسك سعيت لها في الخلاص ، لو رضيت بالبلغة ما استرهن قلبك كسب الحطام ، لو قنعت كلاب الصيد بالمنبوذ ما كانت السواجير في حلوقها . ( طلبتك يا دنيا فأعددت في الطلب % فما نلت إلا الهم والغم والنصب ) % ( فلما بدا لي أنني لست واصلاً % إلى لذة إلا بأضعافها تعب ) % ( وأسرعت في ذنبي ولم أقض شهوتي % هربت بديني منك إن نفع الهرب ) % ( تسربلت أخلاقي قنوعا وعفة % فعندي بأخلاقي كنوز من الذهب ) % ( ولم أر حظا كالقنوع لأهله % وأن يجمل الإنسان ما عاش في الطلب ) % يا من قد مال بالآمال إلى جمع المال ، كأنك به إلى غيرك قد مال واعجبا بالحرص تجمعونه ، وبالأمل تحفظونه ، وبالغفلة تأكلونه ، وفي الهوى تصرفونه ، المال نعمة فمن أنفق بعضه في الخير أقام للباقي حارسا ، إذا سمعت النعمة نغمة الشكر ألبت ولبت
____________________
(2/316)
بالمزيد ، واذا لم تشكر وقد وفرت نفرت وما كل شارد بمردود ، واعجباه ممن فرح بلذة يعلم سرعة زاولها ، وأعجب من ذلك الحساب عليها . ( أشد الغم عندي في سرور % تيقن عنه صاحبه زوالا ) % أين من لبس الحرير والقز ، وحرك الجواد تحته وهز ، وتعاظم على أبناء جنسه وعز ، وقهر وغلب وسلب وبز ، ذبحه سيف المنون وما قطع ولا حز ، فتسلب الحبيب بعد فراقه وجز ، وأكله الدود وقد كان يستزري الأوز ، بينا هو قد ركض في أغراضه وكر خر فقيل : كيف بات ؟ قيل : مر . فألبسه الغاسل ثوبا لا كفه ولا زر ، فرحل عن داره التي بها اغتر ، واستعمل الحفار لتمهيد لحده المر ، واستلبه جذباً عنيفاً وجر ، ورجع أهله لا يقدرون له على نفع ولا ضر ، وندم حين سكن البر إذ ما اتقى ولا بر ، وطولب بما أعلن من عمل وأسر ، ووجد الله وقد أحصى عليه الذر ، وبقي مكانه أسيراً لا يرى إلا الشر . ( هذي منازلهم وقد رحلوا % وعلى الكراهة غيرها نزلوا ) % ( رحلوا وأبقوها لغيرهم % إن المنازل والغنى دول ) % ( شادوا مبانيها وما سكنوا % إلا نزول الضيف وانتقلوا ) % ( وتفرقت عنهم أقاربهم % وجنودهم وخلوا بما عملوا ) % ( يا آمل الدنيا وقد عصفت % بالناس قبلك خانك الأمل ) % ( أتروم جهلا أن تقيم بها % ووراءك الأيام والأجل ) %
____________________
(2/317)
يا هذا إذا أسلمك الأتراب ، تسلمك التراب ، كيف يفرح بحياته من يعلم أنها مطية مماته ، يا من هجم الشيطان عليه وهو في بادية المخالفة ، فسباه فباعه فاشتراه الهوى بثمن بخس ، تالله لو كنت في حصن التقى ما قدر عليك ، إلى كم يستخدمك الهوى وأنت حر طال تشبهك في التثبط بزحل فانهض بحركة عطارد في الهرب مما يؤذي . تعرض لجياد المجاهدين لعل بعضهم يستصحبك . أما بلغك لطف : هل من سائل ؟ أما سمعت عفو : هل من تائب ؟ . ( % وتذنبون فنأتيكم فنعتذر ) % لا تيأس فباب الرجاء مفتوح ، لا تلق بيدك فعلم القبول يلوح : ( عسى وعسى من بعد طول التفرق % على كل ما نرجو من العيش نلتقي ) % ( ولو ظفرت عيني برؤياك ساعة % لكنت على عيني من العين أتقي ) % إخواني : ليس كل من قال : أنا تائب كان تائبا ، إنما التائب من صبر على فقد الأغراض صبر السحرة على الصلب ، واعتذر من جناياته اعتذار النابغة إلى النعمان ، وخضع خضوع الجرب للطالي ، وتضرع تضرع الصبي إلى المؤدب . لا تنأ وإن طردت ، ولا تبرح وإن زجرت : ( إذا هجروا عزا وصلنا تذللا % وإن بعدوا يأسا قربنا تعللا ) % ( وإن أغلقوا بالهجر أبواب وصلهم % وقالوا ابعدوا عنا طلبنا التوصلا ) %
____________________
(2/318)
( وإن منعونا أن نجوز بأرضهم % ولم يسمعوا الشكوى وردوا التوسلا ) % ( أشرنا بتسليم وإن بعد المدى % إليهم وكلفنا الرياح لتحملا ) % الكلام على قوله تعالى : ! 2 < تتجافى جنوبهم عن المضاجع > 2 ! تتجافى أي ترتفع ، والآية في قوام الليل . أخبرنا هبة الله بن محمد بسنده عن معاذ بن جبل ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : ! 2 < تتجافى جنوبهم عن المضاجع > 2 ! قال : قيام العبد من الليل . قال أحمد : وحدثنا علي بن عبد الله بسنده عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ' ثلاثة يضحك الله إليهم : رجل يقوم من الليل ، والقوم قد صفوا للصلاة ، والقوم إذا صفوا للقتال ' . قال أحمد : وحدثنا روح وعفان ، قال : أنبأنا حماد بن سلمة ، قال : أخبرنا عطاء ابن السائب ، عن مرة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ' عجب ربنا من رجلين : رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين حبه وأهله إلى صلاته فيقول ربنا : يا ملائكتي انظروا إلى عبدي ثار من فراشه ولحافه من بين حبه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقه مما عندي . ورجل غزا في سبيل الله عز وجل فانهزم فعلم ما عليه في الفرار وماله الرجوع فرجع حتى أهريق دمه فيقول الله عز وجل : انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي ورهبة مما عندي حتى أهريق دمه ' . وروى أبو أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ' عليكم بقيام الليل فإن دأب الصالحين قبلكم وهو قربة إلى ربكم ومغفرة للسيئات ومنهاة عن الإثم ' .
____________________
(2/319)
وقال الحسن البصري : لم أجد من العبادة شيئا أشد من الصلاة في جوف هذا الليل . وقال أنس بن مالك رضي الله عنه : فينا نزلت معاشر الأنصار : ! 2 < تتجافى جنوبهم عن المضاجع > 2 ! كنا نصلي المغرب فلا نرجع إلى رحالنا حتى نصلي العشاء مع النبي صلى الله عليه وسلم . واعلم أن السلف كانوا في قيام الليل على سبع طبقات . الطبقة الأولى : كانوا يحيون كل الليل ، وفيهم من كان يصلي الصبح بوضوء العشاء . وكان ابن عمر يحيي الليل . ومن القوم سعيد بن المسيب وصفوان بن سليم المدنيان ، وفضيل بن عياض ، ووهيب ابن الورد المكيان ، وطاووس ووهب ابن منبه اليمنيان ، والربيع بن خثيم والحكم الكوفياتن ، وأبو سليمان الداراني وعلي ابن بكار الشاميان ، وأبو عبيد الله الخواص وأبو عاصم البغداديان ، ومنصور ابن زاذان وهشيم الواسطيان ، وحبيب أوب محمد وأبو جابر السلماني الفارسيان ، ومالك ابن دينار وسليمان التيمي ويزيد الرقاشي وحبيب بن أبي ثابت ويحيى البكاء البصريون . الطبقة الثانية : كانوا يقومون شطر الليل ، منهم عبد الله بن عباس . قال ابن أبي مليكة : صحبته وكان يقوم شطر الليل يكثر في ذلك والله التسبيح . الطبقة الثالثة : كانوا يقومون ثلث الليل . وفي الصحيحين من حديث عبد الله ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ' أحب الصلاة إلى الله عز وجل صلاة داود ، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه ، وينام سدسه ' .
____________________
(2/320)
وفي حديث عمرو بن عبسة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ' أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله عز وجل في تلك الساعة فكن . وروي أن داود عليه السلام قال : يا رب أي ساعة أقوم لك ؟ فأوحى الله عز وجل إليه : لا تقم أول الليل ولا آخره ، ولكن قم في وسط الليل حتى تخلو بي وأخلو بك وارفع إلي حوائجك . وسأل داود عليه السلام جبريل عليه السلام : أي الليل أفضل فقال : ما أدري ، إلا أن العرش يهتز في السحر . الطبقة الرابعة : كانوا يقومون سدس الليل أو خمسه . الطبقة الخامسة : كانوا لا يراعون التقدير ، وإنما كان أحدهم يقوم إلى أن يغلبه النوم فينام ، فإذا انتبه قام . قال سفيان الثوري : إنما هي أول نومة فإذا انتبهت فلا أقيلها . الطبقة السادسة : قوم كانوا يصلون من الليل أربع ركعات أو ركعتين . وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ' صلوا من الليل ولو أربعا صلوا ولو ركعتين ' . وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ' من استيقظ من الليل وأيقظ امرأته فصليا جميعا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات ' . الطبقة السابعة : قوم يحيون ما بين العشاءين ويصلون في السحر فيجمعون بين الطرفين .
____________________
(2/321)
وفي أفراد مسلم من حديث جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ' إن في الليل لساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيرا إلا آتاه إياه وذلك كل ليلة ' . ومن أراد قيام الليل فلا يكثر من الأكل والشرب ولا يتعب أعضاءه في النهار بالكد ولا يعمل معصية ، وليستعن بالقيلولة . وأما آداب الباطن : فأن يكون القلب سليما للمسلمين ، ولا بد له من خوف مقلق أو شوق مزعج . كان شداد بن أوس إذا أوى إلى فراشه كأنه حبة على مقلى ثم يقول : اللهم إن جهنم لا تدعني أنام فيقوم إلى مصلاه . وكان طاووس يفرش فراشه ثم يضطجع فيتقلى كما تتقلى الحبة على المقلى ثم يثب فيتطهر ويستقبل القبلة حتى الصباح ويقول : طير ذكر جهنم نوم العابدين ! وقالت بنت الربيع بن خثيم له : يا أبت مالي أرى الناس ينامون ولا أراك تنام فقال : يا بنية إن أباك يخاف البيات . وقالت أم عمر بن المنكدر : يا بني أشتهي أن أراك نائما . فقال : يا أماه والله إن الليل ليرد علي فيهولني فينقضي عني وما قضيت منه أربي . وكان زمعة العابد يقوم فيصلي ليلا طويلا فإذا كان السحر نادى بأعلى صوته : يا أيها الركب المعرسون أكل هذا الليل ترقدون ألا تقومون فترحلون . فيسمع من ها هنا باك ومن هاهنا داع ومن ههنا متوضىء ؟ فإذا طلع الفجر نادى بأعلى صوته يقول : عند الصباح يحمد القوم السرى .
____________________
(2/322)
أخبرنا أبو بكر بن حبيب بسنده عن أحمد بن أبي الحواري قال : دخلت على أبي سليمان وهو يبكي فقلت له : ما يبكيك ؟ فقال لي : يا أحمد ولم لا أبكي وإذا جن الليل ونامت العيون وخلا كل حبيب بحبيبه ، وافترش أهل المحبة أقدامهم وجرت دموعهم على خدودهم وقطرت في محاريبهم ، أشرف الجليل سبحانه وتعالى فنادى جبريل : بعيني من تلذذ بكلامي فلم لا تنادي فيهم : ما هذا البكاء ؟ هل رأيتم حبيبا يعذب أحبابه ؟ ! أم كيف يجمل بي أن أعذب قوما إذا جنهم الليل تملقوني ؟ فبي حلفت إذا وردوا علي في القيامة لأكشفن لهم عن وجهي الكريم حتى ينظروا إلى وأنظر إليهم . وقال أحمد بن أبي الحواري أيضا : سمعت أبا سليمان يقول : بينا أنا ساجد ذهب بي النوم فإذا أنا بحوراء قد ركضتني برجلها وقالت : حبيبي أترقد والملك يقظان ينظر في المتهجدين في تهجدهم ! بؤسا لعين آثرت لذة نومة على لذة مناجاة العزيز ، قم فقد دنا الفراغ ولقي المحبون بعضهم بعضا فما هذا الرقاد حبيبي وقرة عيني ؟ أترقد عيناك وأنا أربي لك في الخدور ؟ فوثبت فزعا وقد عرقت استحياء من توبيخها إياي وإن حلاوة منطقها لفي سمعي وقلبي . وكان أبو بكر رضي الله عنه لقصر أمله يوتر أول الليل وعمر لتأميل الخدمة يؤخره إلى آخر الليل . وعثمان يتهجد في آناء الليل . وعلي يستغفر في أواخر الليل . قام القوم على أقدام ! 2 < قم الليل > 2 ! فبان في القوم سر ! 2 < وتقلبك في الساجدين > 2 ! لولا قيام تلك الأقدام ما كان يؤدي حق ' هل من سائل ' يا غافلين عما نالوا ، لقد ملتم عن التقى وما مالوا ، قاموا في غفلات الراقدين فقوبلوا بجزاء لم يطلع عليه الغير غيرة لهم .
____________________
(2/323)
ما أطيب أملهم في المناجاة ، ما أقربهم من طريق النجاة ، ما أقل ما تعبوا وما أيسر ما نصبوا ، وما كان إلا القليل ثم نالوا ما طلبوا ، لو ذاق الغافل شراب أنسهم في الظلام أو سمع الجاهل صوت حنينهم في القيام ، وقد نصبوا لما انتصبوا له الأقدام ، وترنموا بأشرف الذكر وأحلى الكلام ، وضربوا على شواطىء أنهار الصدق الخيام ، وركزوا على باب اليقين بالحق الأعلام ، وزموا مطايا الشوق إلى دار السلام ، وسارت جنود حبهم والناس في الغفلة نيام ، وشكوا في الأسحار ما يلقون من وقع الغرام ، ووجدوا من لذة الليل ما لا يخطر على الأوهام ، وإذا أسفر النهار تلقوه بالصيام وصابروا الهواجر بهجر الشراب وترك الطعام ، وتدرعوا دروع التقى خوفا من الزلل والآثام ، فنورهم يخجل شمس الضحى ويزري بدر التمام ، فلأجلهم تنبت الأرض ومن جراهم يجري الغمام ، وبهم يسامح الخطاؤون ويصفح عن أهل الإجرام ، فإذا نازلهم الموت طاب لهم كأس الحمام ، وإذا دفنوا في الأرض فخرت بحفظها تلك العظام ، فعلى الدنيا إذا ماتوا من بعدهم السلام . ( تتجافى جنوبهم % عن لذيد المضاجع ) % ( كلهم بين خائف % مستجير وطامع ) % ( تركوا لذة الكرى % للعيون الهواجع ) % ( ورعوا أنجم الدجى % طالعا بعد طالع ) % ( واستهلت دموعهم % بانصباب المدامع ) % ( فأجيبوا إجابة % لم تقع في المسامع ) % ( ليس ما تصنعونه % أو ليأتي بضائع ) % ( تاجروني بطاعتي % تربحوا في البضائع ) %
____________________
(2/324)
( وابذلوا لي نفوسكم % إنها في ودائعي ) % لو رأيت رياح الأسحار تحرك أشجار القلوب فتقع ثمار المحبة ! يا لذة خلوتهم بالحبيب ، يا وفور نصيبهم من ذلك النصيب . ( هبت رياح وصالهم سحرا % لحدائق الأشواق في قلبي ) % ( واهتز عود الوصل من طرب % وتساقطت ثمر من الحب ) % ( ومضت خيول الهجر سادرة % مطرودة بعساكر القرب ) % ( وبدت شموس الوصل خارقة % بشعاعها لسرادق الحجب ) % ( وصفا لنا وقت أضاء به % وجه الرضا عن ظلمة العتب ) % ( وبقيت ما شيء أشاهده % إلا ظننت بأنه حبي ) % السجع على قوله تعالى : ! 2 < تتجافى جنوبهم عن المضاجع > 2 ! لو رأيتهم بين ساجد وراكع ، وذليل مخمول متواضع ، ومنكسر الطرف من الخوف خاشع ، فإذا جن الليل حن الجازع ! 2 < تتجافى جنوبهم عن المضاجع > 2 ! . نفوسهم بالمحبة علقت ، وقلوبهم بالأشواق فلقت ، وأبدانهم للخدمة خلقت ، يقومون إذا انطبقت أجفان الهاجع : ! 2 < تتجافى جنوبهم عن المضاجع > 2 ! . يبادرون بالعمل الأجل ، ويجتهدون في سد الخلل ، ويعتذرون من ماضي الزلل ، والدمع لهم شافع ! 2 < تتجافى جنوبهم عن المضاجع > 2 ! . سبق والله القوم ، بكثرة الصلاة والصوم ، فإذا أقبل الليل حاربوا النوم والعزم في الطوالع ! 2 < تتجافى جنوبهم عن المضاجع > 2 ! .
____________________
(2/325)
ينادي منادي تائبهم : لا أعود ، والمنعم ينعم بالقبول ويجود ، هم والله من الكون المقصود ، فما حيلة المطرود والمعطي مانع ! 2 < تتجافى جنوبهم عن المضاجع > 2 ! . كن يا هذا رفيقهم ، ولج وإن شق مضيقهم ، واسلك ولو يوما طريقهم فالطريق واسع ! 2 < تتجافى جنوبهم عن المضاجع > 2 ! . اهجر بالنهار طيب الطعام ، ودع في الدجى لذيذ المنام ، وقل لأغراض النفس : سلام ، والله يدعو إلى دار السلام ، فما يقعد السامع ! 2 < تتجافى جنوبهم عن المضاجع > 2 ! . يا من يرجو مقام الصالحين ، وهو مقيم مع الغافلين ، ويأمل منازل المقربين ، وهو ينزل مع المذنين ، دع هذا الواقع . الصدق الصدق فيه تسلم ، الجد الجد فيه تغنم ، البدار البدار قبل أن تندم ، هذا هو الدواء النافع ! 2 < تتجافى جنوبهم عن المضاجع > 2 ! والله أعلم .
____________________
(2/326)
المجلس التاسع في ذكر الأمر بالمعروف الحمد لله مدبر الليالي والأيام ، ومصرف الشهور والأعوام ، المنفرد بالكمال والتمام ، الملك القدوس السلام ، تنزه جلاله عن درك الأفهام ، وتعالى كماله عن إحاطة الأوهام ، ليس بجسم فيشبه الأجسام ، ولا بمتجوف فيحتاج للشراب والطعام ، ارتدى برداء الكبرياء والإعظام ، وأبصر ما في بواطن العروق ودواخل العظام ، وسمع أخفى القول وألطف الكلام ، لا يعزب عن سمعه صريف الأقلام ، ولا يخفى على بصره دبيب النمل تحت سجف الظلام ، إله رحيم عظيم الإنعام ، ورب قدير شديد الانتقام ، قدر الأمور فأحسن إحكام الأحكام ، وصرف الحكم في فنون النقض والإبرام ، بقدرته هبوب الريح وتسيير الغمام ، ^ ( ومن آياته الجواري في البحر كالأعلام ) ^ . أحمده حمدا يبقى على الدوام ، وأقر بوحدانيته كافرا بالأصنام . وأصلي على رسوله محمد شفيع الأنام ، وعلى صاحبه أبي بكر أول سابق إلى الإسلام ، وعلى عمر الذي كان إذا رآه الشيطان هام ، وعلى عثمان الذي أنهض جيش العسرة بنفقته وأقام ، وعلى علي البحر الغطامط والأسد الضرغام ، وعلى عمه العباس أبي الخلفاء الأعلام . اعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل الدين ، فإنه شغل الأنبياء ، وقد خلفهم فيه خلفاؤهم ، ولولاه شاع الجهل وبطل العلم . أخبرنا محمد بن عبد الباقي البزار بسنده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ^ ( لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله شراركم على خياركم فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم ) ^
____________________
(2/327)
أخبرنا علي بن عبد الله بسنده عن جرير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ' ما من قوم فيهم رجل يعمل بالمعاصي وهم أعز منه وأمنع لا يغيرون إلا أصابهم الله بعقاب ' . واعلم أنه قد اضمحل في هذا الزمان الأمر بالمعروف حتى صار المعروف منكرا والمنكر معروفا ، وهذا زمن قوله عليه الصلاة والسلام : ' بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ ' . وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلا للمنكر والساكت عن الإنكار . أخبرنا ابن الحصين بسنده إلى عامر قال : سمعت النعمان بن بشير يخطب - وأومأ بإصبعه إلى أذنيه - : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ' إن مثل القائم على حدود الله والواقع فيها والمداهن فيها مثل قوم ركبوا سفينة فأصاب بعضهم أسفلها وأوعرها وشرها ، وأصاب بعضهم أعلاها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم فآذوهم ، فقالوا : لو خرقنا في نصيبنا خرقا واستقينا منه ولم نؤذ من فوقنا ، فإن تركوهم وأمرهم هلكوا جميعا ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعا ' . أخرجاه في الصحيحين . واعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الخلق . وفي أفراد مسلم من حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ' من رأى منكم منكرا فاستطاع أن يغيره بيده فليفعل ، فإن لم يستطع بيده فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ' .
____________________
(2/328)
وفي حديث أبي سعيد أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل : ما أفضل الجهاد ؟ فقال : كلمة عدل عند سلطان جائر ' . وقال الشافعي رحمه الله : أشد الأعمال ثلاثة : الجود من قلة ، والورع في خلوة وكلمة حق عند من يرجى ويخاف . وفي حديث عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ' إذا رأيتم أمتي تهاب الظالم أن تقول له أنت ظالم فقد تودع منهم ' . وفي حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ' إن من كان قبلكم كانوا إذا عمل العامل منهم بالخطيئة نهاه الناهي تعذيرا ، فإذا كان الغد جالسه وواكله وشاربه كأنه لم يره على خطيئته بالأمس ، فلما رأى الله عز وجل ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض ثم لعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم ، والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه فلتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم ' . وفي حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ' إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله عز وجل بعقابه ' . وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ' لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله شراركم على خياركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم ' .
____________________
(2/329)
قال مالك بن دينار : قرأت في التوراة : من كان له جار يعمل بالمعاصي فلم ينهه فهو شريكه . وقال مسعر : أمر ملك أن يخسف بقرية فقال : يا رب فيها فلان العابد . فأوحى الله تعالى إليه : أن به فابدأ فإنه لم يتمعر وجهه في ساعة قط . وينبغي للآمر بالمعروف أن يلطف فقد قال الله تعالى : ! 2 < فقولا له قولا لينا > 2 ! . ومر أبو الدرداء برجل قد أصاب ذنبا وكانوا يسبونه فقال لهم : أرأرتم لو وجدتموه في قليب ألم تكونوا مستخرجيه ؟ قالوا : بلى . قال : فلا تسبوا أخاكم واحمدوا الله الذي عافاكم . قالوا : أفلا تبغضه ؟ قال : إنما أبغض عمله فإذا تركه فهو أخي . ورأى محمد بن المنكدر رجلا يكلم امرأة في موضع خرب فقال : إن الله تعالى يراكما سترنا الله وإياكم . أخبرنا ابن ناصر بسنده عن ثابت البناني قال : كان صلة بن أشيم يخرج إلى الجبان فيتعبد فيها وكان يمر على شباب يلهون ويلعبون فيقول لهم : أخبروني عن قوم أرادوا سفرا فحادوا بالنهار عن الطريق وناموا بالليل متى يقطعون سفرهم ؟ فكان كذلك يمر بهم فيعظهم ، فمر بهم ذات يوم فقال لهم ذات يوم هذه المقالة ، فقال شاب منهم : يا قوم إنه والله ما يعني بهذا غيرنا ، نحن بالنهار نلهو وبالليل ننام ، ثم اتبع صلة فلم يزل يختلف معه إلى الجبان ويتعبد معه حتى مات . ومر بصلة بن أشيم فتى يجر ثوبه فهم أصحاب صلة أن يأخذوه بألسنتهم أخذا شديدا فقال صلة : دعوني أكفكم أمره . ثم قال له : يا بن أخي إن لي إليك حاجة .
____________________
(2/330)
قال : وما هي ؟ قال : أحب أن ترفع إزارك . قال : نعم ونعمى عين ! فرفع إزاره فقال صلة لأصحابه : هذا أمثل مما أردتم لو شتمتموه وآذيتموه لشتمكم . وقال سليمان التيمي : ما أغضبت أحدا فقبل منك . وقال فتح بن شخرف : تعلق رجل بامرأة ومعه سكين لا يدنو منه أحد إلا عقره وكان شديد البدن ، فبينا الناس كذلك والمرأة تصيح مر بشر بن الحارث فدنا منه وحك كتفه بكتف الرجل ، فوقع الرجل إلى الأرض ومرت المرأة ومر بشر ، فدنوا من الرجل وهو يرشح عرقا فسألوه : ما حالك ؟ فقال : ما أدري ولكن حاكني شيخ وقال : إن الله عز وجل ناظر إليك وإلى ما تعمل . فضعفت لقوله وهبته هيبة شديدة لا أدري من ذلك الرجل . فقالوا له : ذاك بشر بن الحارث . فقال : واسوأتاه كيف ينظر إلي بعد اليوم ! وحم من يومه ذاك . ومات يوم السابع . وينبغي للآمر بالمعروف أن يحذر من فعل ما نهى عنه وترك ما أمر به . فقد أخبرنا عبد الأول بسنده عن أمامة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ' يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه في النار فيدور كما يدور الحمار برحاه ، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون : أي فلان ما شأنك ، أليس كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ؟ قال : كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه ' . أخرجاه في الصحيحين .
____________________
(2/331)
واعلم أنه إذا هذب الآمر نفسه أثر قوله إما في زوال المنكر أو في إنكسار المذنب أو إلقاء الهيبة له في القلوب . خرج إبراهيم الخواص لإنكار منكر فنبح عليه كلب فما قدر على الوصول إلى مكان المنكر ، فرجع إلى مسجده وتفكر ساعة ثم قام فجعل الكلب يتبصبص حوله ولا يؤذيه حتى أزال المنكر ، فسئل عما جرى له فقال : إنما نبح علي لفساد دخل علي في عقد بيني وبين الله عز وجل فلما رجعت ذكرته فاستغفرت . ( الكلام على البسملة ) ( يسر بصفو عيشته الجهول % وتعجبه الإقامة والحلول ) % ( ودون مقامه حاد حثيث % عنيف السوق والموت السبيل ) % ( سبيل ما توجه فيه سفر % فكان لهم إلى الدنيا قفول ) % ( طريقي يستوي للخلق فيه % مسالكهم ويختلف المقيل ) % ( تغرهم زخارف دار دنيا % غوائلها بمعمعهم تعول ) % ( تطوف عليهم بكؤوس لهو % ومزج كؤوسها الداء الدخيل ) % ( وتصقل وجهها لهم خداعا % وتحت صقالها السيف الصقيل ) % يا هذا قد صانك بالحلال فلا تبتذل ، وبالقناعة فلا تذل ، وطهرك من الأدناس فلا تتوسخ ، ودعاك إلى الأرباح فلا تتوقف ، ويحك إذا خدمت الدنيا رأت نفسها فتدللت ، وإذا أعرضت عنها عرفت قدرها فتذللت ، ' أخدمي من خدمني واستخدمي من خدمك ' . يا جامع الدنيا لغيره جمعا يعوقه عن سيره . ( ماذا تؤمل لا أبالك في % مال تموت وأنت تمسكه ) %
____________________
(2/332)
( أنفق فإن الله يخلفه % لا تمض مذموما وتتركه ) % ( ما لم يكن لك فيه قط منفعة % مما جمعت فلست تملكه ) % يا هذا : إنما فضل العاقل لنظره في العواقب ، فأما من لا يرى إلا الحاضر فطفل : ( تصفو الحياة لجاهل أو غافل % عما مضى منها وما يتوقع ) % ( ولمن يغالط في الحقيقة نفسه % ويسومها طمع المحال فتتبع ) % قد أعد لك كأسا لا يشبه الكؤوس ، موت يسلب الأرواح ويختلس النفوس ، ورحلة لا تدري بالسعود أو بالنحوس ، إلى لحد ضيق وعر ما مهدته الفؤوس ، تحط فيه ذليلا وأنت محسوب منكوس ، لا يشبه المطامير ولا يجانس الحبوس ، المدر فيه فراش والتراب فيه لبوس ، أترى يكون لك روضة أو يشبه الناموس ، كم محنة يلقى ذلك الملقي المرموس ، رفقا إذا وطئت الأحداث فالأجداث تدوس ، ثم ينفخ في الصور فتطير إلى الأكف الطروس ، وتجني ثمار الجزاء يومئذ من قديم الغروس ، وتشتد الشدائد في قمطرير عبوس ، وتذل العتاة الجبابرة المتغطرسون الشوس ، ويتساوى في الخضوع الأتباع والرؤوس ، وتقسم بين الخلائق خلع السعود وملابس النحوس . واعجبا لجمود ذهنك وأنت في الإعراض تنوس ، كم بهرج ورمل وكم تجلى عليك عروس ، أهذا الذي تسمعه كلام الخالق أو صوت الناقوس ، يا مؤثرا شهوة لحظة تجني له حرب البسوس ، يا من قد غلب الأطباء دواؤه أمريض أنت أم ممسوس ، تعني بعلاجك ' بقراط ' وتحير ' جالينوس ' سبحان من خلق قلبك
____________________
(2/333)
من حجارة ، تعالى الملك القدوس ، واعجبا لعقلك ! العرض مبذول والعرض محروس ، جل همك مع الدنيا وحظ الأخرى منك مبخوس ، ثوبك جديد صحيح ولكن القلب منكوس ، وبلوغ الخمسين منذر وفي الستين تضرب الكوؤس ، هذا قدر النصائح أفآخذك بالدنوس . ( أنت في دنياك ضيف % والتواني منك حيف ) % ( مر بالقر شتاء % وأتى بالحر صيف ) % ( خاسر من نقده حين % تقوم السوق زيف ) % ( فاغتنم أجرا وذكرا % حسنا فالوقت سيف ) % صح على فرس الجد وقد فرس الغاية ، مجالس الذكر فصول وتعبئة المواعظ شربات ، فاصبر على مرارة المركب لعل الأخلاق تحسن . واعجبا تفيق في المجلس فتنطق بلفظ توبة كما يفيق المجنون فيتكلم بكلمة حكمة ، فإذا عادت السوداء خلط ! ( أيفيق من مرض كئيب % إذا جن الظلام عليه أنا ) % متى كان مرض الجسد عن أخلاط مجتمعة سهلت مداواته ، ومتى كان مرض الجسد التغير عن فساد في القلب فيا قرب التلف ، مداواة العني ممكن ، وأما مداواة الجنون فيتعذر . ( جعلت لعراف اليمامة حكمه % وعراف نجد إن هما شفياني ) % ( فقالا : شفاك الله والله ما لنا % بما ضمنت منك الضلوع يدان ) % حظ قلبك من هذا الكلام حظ الصدى من سمعك ، علتك علة طريفة يتحير في
____________________
(2/334)
مثلها المداوي ، تسرع في طلب الدنيا إسراع جواد وأنت في طلب الآخرة جبان . إن لاح لك ذنب وثبت وثب فهد وإن حرضت على طاعة أخذك فالج ابن أبي دؤاد . ( خذ الوقت أخذ اللص واسرقه واختلس % فوائده قبل المنايا الدوائب ) % ( ولا تتعلل بالأماني فإنها % عطايا أحاديث النفوس الكواذب ) % ( ودونك ورد العمر ما دام صافيا % فخذ وتزود منه قبل الشوائب ) % الكلام على قوله تعالى : ! 2 < فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون > 2 ! في هذه النفخة قولان : أحدهما : أنها الأولى والثاني : أنها الثانية . والقولان عن ابن عباس . وأما الصور فروى عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصور فقال : ' هو قرن ينفخ فيه ' . وقال مجاهد : الصور كهيئة البوق . وحكى ابن قتيبة أن الصور القرن في لغة قوم من أهل اليمن ، وأنشدوا : ( نحن نطحناهم غداة الجمعين % ) % ( بالصائحات في غبار النقعين % ) % ( نطحا شديدا لا كنطح الصورين % ) % أخبرنا أبو منصور بن محمد بن عبد الملك بن خيرون بسنده عن أبي هريرة قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه فقال : إن الله تبارك وتعالى لما فرغ من خلق السموات والأرض خلق الصور فأعطاه إسرافيل فهو واضعه على فيه
____________________
(2/335)
شاخص ببصره إلى الأرض ينظر متى يؤمر . قلت يا رسول الله وما الصور ؟ قال : القرن . قال : قلت : فكيف هو ؟ قال : عظيم والذي بعثني بالحق إن أعظم دارة فيه كعرض السماء والأرض ، فينفخ ثلاث نفخات : النفخة الأولى نفخة الفزع . والثانية نفخة الصعق . والثالثة نفخة القيام لرب العالمين عز وجل ، فيأمر الله عز وجل إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول : انفخ نفخة الفزع فينفخ نفخة الفزع ، فيفزع أهل السموات والأرض إلا من شاء الله ، فيأمره فيمدها ويطيلها فلا يفتر وهي التي يقول الله عز وجل : ^ ( وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة مالها من فواق ) ^ فيسير الله تعالى الجبال فتمر مر السحاب فتكون سرابا فترتج الأرض بأهلها رجا فتكون كالسفينة الموقرة في البحر تضربها الأمواج تكفأ بأهلها ، أو كالقنديل المعلق بالعرش ترجه الأرياح ، وهي التي يقول الله عز وجل : ! 2 < يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة قلوب يومئذ واجفة > 2 ! . فتميد الأرض بالناس على ظهرها فتذهل المراضع وتضع الحوامل ويشيب الولدان ، وتطير الشياطين هاربة من الفزع حتى تأتي الأقطار فتلقاها الملائكة فتضرب وجوهها فترجع ، ويولي الناس مدبرين مالهم من الله من عاصم ينادي بعضهم بعضا ، وهو الذي يقول الله عز وجل ! 2 < يوم التناد > 2 ! فبينا هم على ذلك تصدعت الأرض فانصدعت من قطر إلى قطر ، فرأوا أمرا عظيما لم يروا مثله وأخذهم من ذلك الكرب والهول ما الله به عليم ، ثم نظروا إلى السماء فإذا هي كالمهل ثم انشقت فانتثرت نجومها وانخسفت شمسها وقمرها . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والأموات يومئذ لا يعلمون بشيء من ذلك . قال أبو هريرة : يا رسول الله فمن استثنى الله تعالى حين قال : ففزع من في السموات
____________________
(2/336)
ومن في الأرض إلا من شاء الله ' ؟ قال : أولئك الشهداء وقاهم الله فزع ذلك اليوم وأمنهم منه ، وهو عذاب يبعثه الله على شرار خلقه يقول الله عز وجل : ' إن زلزلة الساعة شيء عظيم : يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ' فيمكثون في ذلك البلاء ما شاء الله إلا أنه يطول عليهم ، ثم يأمر الله عز وجل إسرافيل فينفخ نفخة الصعق ، فيصعق أهل السموات والأرض إلا من شاء الله ، فإذا اجتمعوا جاء ملك الموت إلى الجبار فيقول : قد مات أهل السموات والأرض إلا من شئت فيقول الله عز وجل وهو أعلم : من بقي ؟ فيقول : أي رب بقيت أنت الحي الذي لا تموت ، وبقيت حملة عرشك ، وبقي جبريل وميكائيل . فيقول : إني كتبت الموت على من تحت عرشي ، فيموتان ، ثم يأتي ملك الموت فيقول : قد مات جبريل وميكائيل فيقول وهو أعلم : من بقي ؟ فيقول : بقيت أنت الحي الذي لا تموت وبقيت حملة العرش وبقيت أنا فيقول الله عز وجل : فليمت حملة العرش فيموتون ويأمر الله تعالى العرش فيقبض القرن من إسرافيل ثم يقول : ليمت إسرافيل فيموت . ثم يأتي ملك الموت فيقول : يا رب قد مات حملة عرشك فيقول الله عز وجل وهو أعلم : فمن بقي ؟ فيقول : بقيت أنت الحي الذي لا تموت وبقيت أنا . فيقول الله عز وجل : أنت خلق من خلقي خلقتك لما رأيت فمت . فيموت . وفي رواية ابن أبي الدنيا : مت ثم لا تحيا . فإذا لم يبق إلا الله عز وجل طوى السماء والأرض كطي السجل للكتاب ثم دحاها ثم قال : أنا الجبار ، لمن الملك اليوم - ثلاث مرات - فلا يجيبه أحد فيجيب نفسه فيقول : لنفسه : لله الواحد القهار .
____________________
(2/337)
ثم يبسط الأرض بسطاً يمدها مد الأديم لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ، ثم يزجر الله الخلق زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة على ظهرها ، ثم ينزل الله تعالى ماء من تحت العرش كمني الرجال ثم يأمر السماء أن تمطر فتمطر أربعين يوما حتى يكون الماء فوقهم اثني عشر ذراعا ، ثم يأمر الله عز وجل الأجساد أن تنبت كنبات الطرائيث أو كنبات البقل ، حتى إذا تكاملت أجسادهم فكانت كما كانت قال الله عز وجل : ليحيى حملة العرش فيحيون فيأمر الله إسرافيل فيأخذ الصور فيضعه على فيه ثم يقول الله عز وجل : ليحي جبريل وميكائيل ، فيحييان ثم يدعو الله عز وجل الأرواح فيؤتى بها تتوهج أرواح المسلمين نورا والأخرى ظلمة ، فيقبضها جميعا ثم يلقيها في الصور ، ثم يأمر إسرافيل أن ينفخ نفخة البعث ، فتخرج الأرواح كأنها النحل قد ملأت ما بين السماء والأرض فيقول الله عز وجل : وعزتي وجلالي لترجعن كل روح إلى جسدها . فتدخل الأرواح في الخياشيم ثم تمشي في الأجساد مشي السم في اللديغ ثم تنشق الأرض عنهم سراعا . فأنا أول من تنشق عنه الأرض فيخرجون منها سراعا مهطعين إلى الداعي حفاة عراة غرلا ، ثم يقفون مقدار سبعين عاما لا ينظر إليكم ولا يقضي بينكم ، فتبكون حتى تنقطع الدموع ، ثم تدمعون دما ، وتعرقون حتى يبلغ ذلك منكم أن يلجمكم أو يبلغ الأذقان ، فتصيحون وتقولون : من يشفع لنا إلى ربنا عز وجل فيقضي بيننا فتقولون : من أحق بذلك من أبيكم آدم عليه السلام ، خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وكلمه قبلا ، فيأتون آدم فيطلبون ذلك إليه فيأتي ويقول . ما أنا بصاحب ذلك فيستقرون الأنبياء نبيا نبيا كلما جاءوا نبيا أبى عليهم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حتى يأتوني فأنطلق معهم حتى آتى قدام العرش فأخر ساجدا حتى يبعث الله تعالى ملكا فيأخذ بعضدي فيرفعني ويقول لي : يا محمد . فأقول : نعم يا رب . فيقول : ما شأنك ؟ وهو أعلم فأقول : يا رب وعدتني
____________________
(2/338)
الشفاعة . فشفعني في خلقك واقض بينهم . فيقول : قد شفعتك . فأرجع فأقف مع الناس ، فبينا نحن وقوف إذ سمعنا حسا من السماء شديدا فهالنا ، فينزل أهل سماء الدنيا فيأخذون مصافهم ، ثم ينزل أهل السماء الثانية بمثلي من نزل من الملائكة ومثلي من فيها من الجن والإنس حتى يأخذوا مصافهم ، حتى ينزل الجبار تبارك وتعالى في ظلل من الغمام ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية وهم اليوم أربعة ، أقدامهم في تخوم الأرض السفلى والأرض إلى حجرهم والعرش على مناكبهم لهم زجل من تسبيحهم ، يقولون : سبحان ذي العزة والجبروت ، سبحان ذي الملك والملكوت ، سبحان الحي الذي لا يموت سبحان الذي يميت الخلق ولا يموت ، سبوح قدوس ، سبحان ربنا الأعلى رب الملائكة والروح فيضع الله كرسيه حيث شاء من أرضه ثم يقول : يا معشر الجن والإنس إني قد أنصت لكم منذ خلقتكم إلى يومكم هذا أسمع قولكم وأنظر أعمالكم ، فأنصتوا ، فإنما هي أعمالكم وصحفكم تقرأ عليكم ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه . ثم يأمر الله جهنم فيخرج منها عنق مظلم ثم يقول الله عز وجل : ^ ( وامتازوا اليوم أيها المجرمون . ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين ) ^ إلى قوله : ! 2 < هذه جهنم التي كنتم توعدون > 2 ! فيميز الله الناس وتجثو الأمم ، فيقضي بين خلقه إلا الثقلين الجن والإنس فيقضي الله بين الوحش والبهائم ، حتى إنه ليقيد الجماء من ذات القرن ، فإذا لم تبق تبعة عند واحدة لأخرى يقال لها : كوني ترابا فعند ذلك يقول الكافر : ! 2 < يا ليتني كنت ترابا > 2 ! . فيقضي الله بين العباد ، فيكون أول ما يقضي فيه الدماء فيأمر الله كل من قتل فيحمل رأسه تشخب أوداجه ، فيقول : يا رب سل هذا فيم قتلني ؟ فلا تبقى نفس قتلها قاتل إلا قتل بها ولا مظلمة ظلم بها إلا أخذ بها ، وكان في مشيئة الله عز وجل
____________________
(2/339)
إن شاء عذبه وإن شاء رحمه ، ثم يقضي بين من بقي من خلقه حتى لا تبقى مظلمة لأحد عند أحد إلا أخذها المظلوم من الظالم حتى إنه ليكلف شائب اللبن بالماء ثم يبيعه أن يخلص اللبن من الماء ، فإذا فرغ من ذلك نادى مناد يسمع الخلائق كلهم فيقول : ألا ليلحق كل قوم بآلهتهم وما كانوا يعبدون من دون الله عز وجل فلا يبقى أحد عبد شيئا من دون الله عز وجل إلا مثلت له الآلهة بين يديه ، ويجعل الله عز وجل يومئذ ملكا من الملائكة على صورة عزير ، ويجعل ملكا من الملائكة على صورة عيسى بن مريم فيتبع هذا اليهود ويتبع هذا النصارى ، ثم قادتهم آلهتهم إلى النار ، فإذا لم يبق إلا المؤمنون وفيهم المنافقون بدأهم الله عز وجل فقال : يا أيها الناس ذهب الناس فالحقوا بآلهتكم وما كنتم تعبدون فيقولون : ما لنا إله إلا الله وما كنا نعبد غيره ، فيكشف لهم عن ساق ويتجلى لهم من عظمته ما يعرفون أنه ربهم تعالى فيخرون سجدا على وجوههم ويخر كل منافق على قفاه فيجعل الله أصلابهم كصياصي البقر ، ويضرب الله الصراط بين ظهراني جهنم كحد السيف عليه كلاليب وخطاطيف وحسك كحسك السعدان ، فيمرون كطرف العين أو كلمح البصر أو كمر الريح أو كأجاويد الخيل أو كجياد الرجال ، فناج مسلم ، وناج مخدوش ، ومكدوش على وجهه في جهنم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فآتي باب الجنة فأستفتح فيفتح لي فإذا دخلت فنظرت إلى ربي عز وجل خررت ساجدا . تم الكتاب بحمد الله تعالى .
____________________
(2/340)