التبشير
في منطقة الخليج العربي
طباعة و أخراج
Dark_army
بسم الله الرحمن الرحيم
التبشير
في منطقة الخليج العربي
دراسة في التاريخ الاجتماعي والسّياسي
تأليف
د. عبد المالك خلف التّميمي
الكتاب: التبشير في منطقة الخليج العربي
الناشران: دار الشباب للنشر والترجمة والتوزيع
ص. ب: (4362) نيقوسيا ـ قبرص.
الطبعة الأولى: الكويت 1982
الطبعة الثانية: دار الشباب ـ قبرص ـ مؤسسة الكميل ـ الكويت 1988.
التاريخ: مايو(أيار) 1988
الرقم: 14/ 11/ 5/ 1988/ 2000/ 2
جميع الحقوق محفوظة للناشر
تمهيد
لقد تسلل الفكر الغربي الامبريالي إلى مجتمعنا العربي بوسائل متعددة ولفترة زمنية طويلة أي منذ أن اتجهت أناظر الدول الاستعمارية للسيطرة على وطننا العربي.
وهذا النوع من التغلغل كان سابقا على السيطرة العسكرية والسياسية ممهداً لها ثم معاضدا لوجودها واستمراره بمواكبته لها. إن الهدف الامبريالي لهذا النشاط كان ولا يزال هو ايجاد القابلية لدى الشعب العربي بقبول سياساته وترويض الناس وتدجينهم بحيث يحقق أهدافه على أرض سهلة بأقل صعوبة وتضحية وأقصر طريق. لقد كان التبشير بمعناه الشامل ـ ليس فقط الديني بل التبشير للثقافة الغربية الامبريالية ـ احدى الوسائل التي سلكها الغربيون وأقاموا لها المؤسسات التبشيرية لاغراض دينية ولكنها سرعان ما استغلت واستخدمت لاغراض سياسية.
إنه في الوقت الذي كانت فيه القوى الامبريالية الغربية تتسابق وتتنافس للسيطرة على منطقة الخليج العربي في القرن التاسع عشر كان النشاط التبشيري المسيحي يتهيأ لمواكبتها والتحالف معها.(1/1)
ولم تأخذ خطط الارساليات التبشيرية دور التنفيذ الفعلي في هذه المنطقة الا في نهاية القرن التاسع عشر والقرن العشرين. لقد تركزت نشاطاتها سلميا عن طريق وسائل تقدم بها خدمات انسانية للمواطنين وتمارس من خلالها تأثيرها الثقافي، وبوجود السيطرة الغربية على هذه المنطقة كان المبشرون يشعرون بأنها المظلة الواقية والحامية لنشاطاتهم ولم يكن أوائل المبشرون يرون تناقضا بينهم وبين القوى الاستعمارية حيث كان التعاون بين الطرفين طبيعيا في أكثر الأحيان.
لقد بدأ النشاط التبشيري في المنطقة مع السيطرة الغربية فعليا وانتهى بانتهائها وإن كان له بضع التأثير المحدود بعدها، كما إن نوعية الارساليات التبشيرية هذه مذهبيا كانت بروتستنتية البريطانية والامريكية والتي تنسجم مع كون كل من بريطانيا والولايات المتحدة، دولا بروتستنتية بالدرجة الأولى.
إن الاسئلة التي ستحاول هذه الدراسة الاجابة عليها هي. كيف قامت هذه المؤسسات وما هي الوسائل التي اتبعتها ثم ما هي طبيعة النشاط السياسي للمبشرين، ولماذا فشل العمل التبشيري في هذه المنطقة؟ وليعذرنا القراء لمرورنا في الفصل الأول على قضايا تاريخية هامة مرورا سريعا فهي ليست قضيتنا الاساسية التي نعالجها ولكنها خلفية لا بد منها للتعرف على الظروف والدوافع للعمل التبشيري في هذه المنطقة.
المحتوى
تمهيد ... ... ... ... ... ... ... ... 5
الفصل الاول: المسيحية في شبه الجزيرة العربية ... ... ... 9 ...
الفصل الثاني: الارسالية الامريكية العربية ... ... ... ... 39
الفصل الثالث: الخدمات الطبية كمدخل للتبشير ... ... ... 75
الفصل الرابع: الخدمات التعليمية كمدخل للتبشير ... ... ... 155
الفصل الخامس: نشاط الارسالية التبشيري الديني ... ... ... 195
الفصل السادس: النشاط السياسي للارسالية الامريكية العربية ... 243 ...
الفصل السابع: تقويم نشاطات الارسالية الامريكية العربية ... ... 275
الملاحق: ... ... ... ... ... ... ... 307
حول البيبلوغرافيا
المختصرات
احصائيات مقارنة
الفصل الأول
المسيحية والجزيرة العربية(1/2)
من المبررات التي كان يستند اليها المبشرون للتبشير في هذه المنطقة أن الجزيرة العربية كانت في يوم من الأيام قبل الإسلام متأثرة بالمسيحية ويجب اعادتها اليها، كما رأوا في مكانة المسيح في القرآن وسيلة ومدخلا لاقناع العرب المسلمين بالمسيحية لذا من الأهمية بمكان أن نبحث إلى أي مدى تأثرت المنطقة بالمسيحية وما هي مكانة المسيح في القرآن وطبيعة المحاولات التبشيرية حتى وقتنا الحاضر.
من الامور المسلم بها تاريخيا أنه كان للمسيحية تأثير على سكان هذه المنطقة قبل ظهور الإسلام وبعده والسؤال الذي يطرح نفسه، هو كيف تم هذا الاتصال وما هي الظروف التي أحاطت به؟
القديس بولس والجزيرة العربية:
لا يزال الاتصال الأول بين المسيحية وشعب الجزيرة العربية مثاراً للجدل، والمصادر التاريخية لا تذكر عن هذا الحدث الهام سوى القليل ويذهب رايت تومس Wright Thoms إلى القول بأن المسيحية قد دخلت البلاد العربية لاول مرة على يدي القديس بولس الذي أقام بهذه البلاد ثم عاد إلى دمشق، ويرى تومس أن المسيحية قد أحرزت تقدما على يديه.
وبالاضافة إلى هذه فقد ورد في الانجيل أن القديس بولس نفسه كما يظهر من رسالته (للخلقدونيين) GaIarians ذكر بأنه قد ذهب إلى البلاد العربية وعاد بعدها إلى دمشق.
وبالرغم من زيارة القديس بولس للبلاد العربية واشارة تومس إلى التقدم الذي أحرزته هذه الزيارة فانه من الصعب بل يكاد يكون من المستحيل اثبات ما إذا كانت المسيحية قد دخلت الجزيرة العربية على يدي القديس بولس أم لا. فأولا وقبل كل شيء ان المنطقة التي أشار اليها القديس بولس باسم البلاد العربية.
ونقطة الخلاف هي الآتية:
ما الذي يعنيه القديس بولس بالبلاد العربية بالمعنى الجغرافي؟
ومن سوء الحظ أن المصادر المسيحية قد أخفقت في تعريف أو تحديد البلاد العربية التي قام القديس بولس بزيارتها.(1/3)
والحقيقة أن الكتاب المسيحيين لم يكونوا متأكدين من ذلك وقد كانوا يخلطون بين ما كان يعرف عادة ببلاد العرب وبين شبه الجزيرة العربية بمعناها الضيق. فستورم Storm على سبيل المثال يعرف الجزيرة العربية بقوله انها احدى بلاد التوراة الكبرى ومن المحتمل جداً أن تكون البلاد العربية التي زارها القديس بولس هي المناطق الشمالية لشبه الجزيرة العربية الواقعة في سوريا والتي كان العرب يقطنونها.
والسؤال الثاني هو: هل أدخل القديس بولس المسيحية أو بشر بها حقا بطريقة أو بأخرى بين العرب القاطنين في شمال الجزيرة العربية؟
والاجابة على هذا السؤال أيضاً تفتقر إلى الوضوح. ولكن جميع الدلائل تشير إلى العكس وقد انتهى رتشارد بل Richard Bell إلى أن طبيعة زيارة القديس بول ذاتها تفتقر إلى الوضوح كما أن مدتها أيضاًَ غير واضحة. وقد قام بل بتفسير هام فيما يتعلق بطول الزيارة حيث قال:
((إن السنوات الثلاث التي يذكرها القديس بولس لا تشير إلى مدة اقامته في البلاد العربية ولكنه تشير إلى المدة التي انقضت بين اعتناقه للمسيحية وذهابه إلى القدس بما في ذلك فترة من النشاط في دمشق)).
ومن هنا يتضح أن النتائج التي استخلصها "بل" تشير إلى أن زيارة القديس بولس لا تعتبر دليلا على قيامه بأي نشاط تبشيري، وعلى هذا فان الزيارة لم تكون تهدف إلى نشر المسيحية بين العرب.
ويرى "بل" أن زيارة القديس بولس كانت ترمي إلى توضيح الطبيعة المستقلة لمعتقداته الدينية وإلى تحديد سياسته المقبلة.
وليس هناك أية مؤشرات محددة تساعد على تحديد أي أثر للقديس بولس في ذلك الجزء الذي قام بزيارته من البلاد العربية.
وإذا نظرنا إلى النتيجة التي استخلصها "بل" بعين الاعتبار فاننا نستطيع على أساسها أن ننفي احتمال قيام القديس بولس بأي نشاط تبشيري.(1/4)
وعلى أية حال فان الحقيقة المؤكدة هي أن زيارة القديس بولس جاءت بعد اعتناقه للمسيحية، ولكننا لا نستطيع أن ننفي مع ذلك احتمال مشاركته في الأفكار التي يحملها عن السيد المسيح والمسيحية مع بعض أهالي ذلك الجزء من البلاد العربية، فهذا الاحتمال قوي ومقبول ويصعب انكاره. وهكذا فاننا نستطيع أن نقول إن القديس بولس لم يدخل المسيحية إلى البلاد العربية أو انه أتى على ذكر الجزيرة العربية ولكن من المؤكد أنه قد شارك سكان تلك المنطقة من الشام بعض المبادئ الاساسية للفكر المسيحي وبهذا يكون قد هيأهم لقدوم المسيحية فيما بعد.
دخول المسيحية إلى شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام:
يمكن أن نعزو دخول المسيحية إلى الجزيرة العربية بعد القديس بولس وقبل الإسلام إلى مصدرين رئيسيين:
أ ـ المصدر الأول وهو الحركة النسطورية
التي دخلت إلى الجزيرة العربية عن طريق فارس.
ب ـ والمصدر الثاني أتى عن
طريق الأحباش الذين احتلوا جنوب الجزيرة العربية وحكموها قبل الإسلام.
النسطورية:
في الواقع أن بداية القرن الرابع يعد مرحلة حاسمة في تاريخ المسيحية فقد حصلت في الكنيسة انشقاقات مذهبية أدت إلى انقسام الكنيسة إلى شطرين تزعم اولهما سيرل Cyril في الاسكندرية. وتزعم ثانيهما نسطوريوس في سوريا، وكان محور الخلاف بينهما حول طبيعة السيد المسيح والعلاقة بين الطبيعة الالهية والطبيعة الإنسانية في شخصه. وقد أكدت مدرسة سيرل الاسكندري على الطبيعة الالهية الخالصة للسيد المسيح أي وحده الطبيعة الالهية الخالصة.
والمدرسة الثانية والتي كان يتزعمها نسطوريوس الانطاكي والتي هي موضوع بحثنا فقد كانت تعتقد أن الطبيعة الالهية والطبيعة الإنسانية للسيد المسيح كانتا تتمثلان في جانبين مختلفين وقد اعترض دعاة هذه المدرسة على تسمية مريم العذراء بوالدة الاله.(1/5)
وكان نسطوريوس الذي عين سنة 428 ب. م بطريركا للقسطنطينية يظهر حماسا شديدا ضد الهراطقة وكان يتحدث عن الطبيعة المزدوجة للسيد المسيح من الهية وانسانية واتحاد هاتين الطبعتين معا.
وقد أدت هذه المعتقدات إلى نبذهم ومعاداتهم من قبل جماعة سيرل الاسكندري التي كانت تنادي بالطبيعة الالهية الخالصة للسيد المسيح ولذلك فانهم أدينوا وحرموا من مجمع افسوس Ephesus ومجمع خلقيدونه Chalecedon في سنتي 431و 451 ب. م.
وبالرغم من الاجراءات التي اتخذت ضده فقد استمر نسطوريوس في وعظه ونشر معتقداته التي لاقت قبولا واسعا في موطنه انطاكية Anti och وانتشرت إلى الشرق في فارس وبلاد ما بين النهرين وامتد تأثره حتى وصل إلى الجزيرة العربية.
وقد تمسك النسطوريون بمعتقداتهم عن طبيعة السيد المسيح بشدة ويقول عزيز عطيه
"لقد تحاشى النسطوريون الفيليوك(1).Filioque في العقيدة واعتبروا فكرة انبثاق الروح القدس من الأب والابن بدعه(2). ومن ناحية أخرى فان النسطوريين بالرغم من تقديسهم للسيدة العذراء والصليب يعترضون على تسمية السيدة العذراء بوالدة الاله ويمتنعون عن اقامة الصلبان في كنائسهم.
وأراء نسطوريوس مبنية على قناعته بأن طبيعتي السيد المسيح الالهية والإنسانية يجب أن تكونا متميزتين ولكنهما متحدتين. وفي حين كان يؤمن بأن السيد المسيح قد عاش حياة انسانية حقه فان خصمه سيرل كان يعتقد بأنه ليس هناك انفصال في طبيعة المسيح الالهية والإنسانية وأن الطبيعتين كانتا متحدتين في واحدة.
وفيما يتعلق بمعقدات النسطوريين يقول كيلي J. N. A. Kelly
"إن انسانية السيد المسيح هي Bypostasis prospon
__________
(1) ـ تعني كلمة Filioque الأب معا.
(2) ـ لأنهم يعتقدون أن الروح القدس The Holy Ghost قد انبثقت عن الابن فقط.(1/6)
ولم يكن المقصود أن تعنى ضمنا أنها شخص متميز ولكن مجرد أنه كان انسانا حقيقيا على نحو موضوعي وتأكيد نسطوريوس على الناحية الأخيرة يجب أن تعتبر فضلا له لأن دافعه إلى ذلك هو انصاف تجربة المسيح الإنسانية"
ولا يقتصر الخلاف بين اتباع نسطوريوس وأتباع سيرل على العقيدة فقط بل يمتد ليشمل الطقوس الدينية فقد أولى النسطوريون العبادة والطقوس الدينية أهمية كبيرة ويبدو أنهم قد طوروا طقوسهم الدينية الخاصة منذ السنوات الأولى من انفصالهم عن الكنيسة الام. والنسطوريون يلتقون للصلاة في الصباح الباكر وفي المساء.
وهم لا يختلفون كثير بالعشاء الرباني والذي يعتبرونه مناسبة خاصة ليست مرتبطة بالضرورة بالطقوس الدينية لجميع أيام الآحاد.
ويرى النسطوريون أن الاعتراف ليس من الأمور الهامة ويعتبرون الخميرة المقدسة أو الخبز المقدس Holy Leonen واحدا من المقدسات السبعة(1). والتي تعتبر تكملة لازمة للعشاء الآخير.
ونظرا للمصاعب التي لاقتها هذه الحركة في نشر تعاليمها في موطنها في الشام فقد اضطر اتباعها للهجرة إلى بلاد فارس والتي كانت في ذلك العصر في صراع مع الامبراطورية البيزنطية، وهكذا فقد أصبحت بلاد فارس هي الملجأ الوحيد لهم.
وقد استفادت هذه الحركة من لجوئها إلى فارس فأقامت عدداً من الكنائس واستطاع اتباعها أن يحملوا البعض من عرب الحيرة على اعتناق عقيدتهم.
__________
(1) ـ والنسطوريون يؤمنون بسبعة مراسم أساسية Sacrments هي: الكهنوت التعميد، المسح بالزيت، قربان جسم ودم المسيح، الغفران، الخميرة المقدسة وعلامة الصليب.(1/7)
وعلى أية حال فان حماستهم ونجاحهم النسبي في دعوتهم أثار المخاوف في نفوس ملوك فارس الذين أصبحوا يشعرون بأنهم لا يجب أن يسمحوا لهذه الحركة الدينية أن تنتشر بين اتباعهم. وفي عهد شابور الثاني Shapore 11 سنة 379 ب. م. تعرضت الحركة النسطورية للاضطهاد مما اضطرها للهجرة مرة أخرى وكان الطريق المفتوح أمامها هو الهجرة إلى شبه الجزيرة العربية عن طريق الخليج العربي فاستقروا في بداية الأمر في عمان ثم بدأوا ينتشرون إلى الاحساء على السواحل الشرقية لشبه الجزيرة.
وهناك احتمال أن تكون هذه الحركة قد استخدمت الطرق التجارية في شمال شبه الجزيرة في هجرتها من بلاد فارس. وما أن جاء عام 325 ب. م. حتى أصبح للجزيرة العربية أساقفة في مجمع نيقيا ويقال بأن قطر قد أصبحت أسقفية سنة 225 ب. م.
ولم يعترض أحد من سكان الجزيرة العربية على هجرتهم ومع مرور الايام اعتنق الديانة المسيحية عدد قليل من سكان المنطقة. وكان الساحل الشرقي للجزيرة العربية ملجأ ممتازا لهم لعدم وجود حركة دينية مناوئة لهم في ذلك الحين. وقد ازدهرت الحركة النسطورية في شرقي الجزيرة العربية واستطاعت الوصول عبر الطرق التجارية التقليدية باتجاه الشمال الغربي حتى المدينة دون أن يكون لها تأثير من الجزيرة العربية فان حركتهم لم يكتب لها البقاء طويلا بسبب
التطورات الهامة غير المتوقعة التي حدثت في المنطقة وأدت إلى توقف حركتهم: اولهما دخول
الاحباش الذين كانوا ينتمون إلى مدرسة سيرل Cyrul والثاني ظهور الإسلام.
وسوف نعرض لهذين التطورين الهامين باعتبارهما أهم العوامل تأثيرا على المسيحية في الجزيرة العربية.
ب: الأحباش:(1/8)
تقع الحبشة (أثيوبيا) عبر الزاوية الجنوبية للبحر الأحمر في الجهة المقابلة لشبه الجزيرة العربية، وكان لها علاقات تجارية وسياسية وثيقة مع شبه الجزيرة العربية وبخاصة جنوب شبه الجزيرة وكانت الحبشة أحد معاقل المسيحية منذ السنوات الأولى لانتشار الدين المسيحي.(1)
لقد دخلت المسيحية إلى جنوب الجزية العربية عن طريق الحبشة ويمكن أن نرجع الاتصال الأول لجنوب الجزيرة بالديانة المسيحية إلى 356 ب. م. عندما أرسل الامبراطور الروماني قسطنطين أول وفد إلى المنطقة وبدأت المسيحية نتيجة لذلك بالانتشار واقيمت ثلاث كنائس من خزينة ملوك حمير في اليمن.
وعلى اية حال يمكننا أن نعزو القوة التي وصلت اليها المسيحية في جنوب الجزيرة بدرجة كبيرة إلى الصراع بين الامبراطورية الرومانية والامبراطورية الفارسية. حيث كانت الامبراطورية الرومانية تسعى دوما لأن تفرض سلطتها السياسية وسيطرتها على المراكز الاستراتيجية الحساسة بالسيطرة على الحبشة وكذلك على جنوب الجزيرة العربية، ولهذا فان المسيحية انتشرت في المنطقة لكونها الدين الرسمي للامبراطورية الرومانية، وتمكن مسيحيو الحبشة من تأسيس سلطتهم على جانبي النهاية الجنوبية للبحر الأحمر.
وبحلول القرن الرابع لم يكن للمسيحية تأثير يذكر في الجزء الشرقي من الجزيرة العربية وكانت تتركز في الجزء الجنوبي الشرقي لشبه الجزيرة الواقع تحت سيطرة الاحباش حيث استخدموا القوة لأخضاع اليمن.
__________
(1) ـ دخلت المسيحية إلى الحبشة عن طريق مصر، وقد كان هنالك في الأساس اعداد كبيرة من اليهود في الاسكندرية وفي وادي النيل، وقد وصل المسيحيون إلى تلك البقاع منذ بدأوا بالتبشير بين اليهود. ومن هناك انتشرت المسيحية إلى أفريقيا بشكل خاص عن طريق نهر النيل حيث انتقلوا من مصر العليا إلى النوبة ثم إلى الحبشة وقد اعتنق المسيحية عدد كبير من اليهود القاطنين في تلك المناطق.(1/9)
ويمكن أن نستنتج من هذا أن المسيحية قد ازدهرت في المنطقة منذ القرن الميلادي الرابع وبدأت تتوسع في الانتشار. وإلى جانب المسيحية كانت هناك ديانتان لهما تأثير هام رغم اقتصارهما على مناطق محددة وهما اليهودية في المدينة وخيبر وبعض المناطق في اليمن والوثنية في معظم أجزاء الجزيرة الشمالية والوسطى.
والواقع إن الحكم المسيحي لم يكن مستقرا في اليمن وكانت تتخلله الثورات وعلى الأخص في النصف الأول من القرن السادس. وقد أقام ابرهه وهو أحد الحكام الاحباش كنيسة في عاصمته صنعاء، وأراد أن يحج اليها أهالي الجزيرة، بدلا من الكعبة في مكة فجمع جيشا عظيما وسار به إلى مكة لهدم الكعبة ولارغام القبائل التي تعيش في الشمال على اعتناق المسيحية، ولكن الحملة منيت بالفشل وقد اشتهرت هذه الحملة وجاء ذكرها في القرآن الكريم.
وكانت حملة ابرهه محاولة لارغام شمال شبه الجزيرة العربية على اعتناق المسيحية بالقوة، ولكن الحملة لم تفلح في تحقيق هدفها ولم يكن للمسيحية في الشمال وجود يذكر، وهي حقيقة يثبتها الوضع الديني الحالي في المنطقة حيث عجزت المسيحية في تثبيت جذورها وقد أكد رتشارد بل ذلك:
"إننا لا نملك دليلا قويا على وجود أي مركز
للمسيحية في الحجاز أو المناطق المجاورة لمكه
أو حتى المدينة".
وبالاضافة إلى ذلك فان الأدب وهو في غالبيته من الشعر في ذلك الجزء من الجزيرة العربية لم يذكر الكثير عن وجود المسيحية. اما عيسى فهو الاسم الشائع في الإسلام وقد ورد كثيرا في القرآن الكريم والاسم مشتق من الكلمة السريانية "يشو" والمشتقة بدورها من الكلمة العبرانية "يشوعا"
ويعتقد الباحثون المسلمون أن هذا الاسم ربما يكون قد انتقل إلى الجزيرة العربية عن طريق المسيحيين النسطوريين الذين وصلوا الجزيرة كما سبق أن أوضحنا ذلك.(1/10)
وعندما ترد كلمة "عيسى" في القرآن تسبقها دوماً كلمة نبي وكثيرا ما يلحقها عبارة "ابن مريم" ومن المحتمل أيضاً أن يكون المقصود باضافة عبارة" "ابن مريم" الاشارة إلى أنه كان انسانا كغيره من انبياء الله أو لمجرد الاشارة إلى انسانيته.
أما في المسيحية فان استخدام العبارة "ابن مريم" نادرة جدا ولكنها مذكورة في العهد الجديد مرقص 6/3
"اليس هذا هو ابن النجار؟ اليس
هو"ابن مريم"؟
إن عبارة "ابن مريم" وردت مرة واحدة في الانجيل ويظهر أنها لم تكن تستخدم في الكنيسة القديمة، ولا وجد لهذا اللقب في الكتابات المسيحية.
3. معجزات المسيح:
إن المعجزة الكبرى المميزة لعيسى هي"شفاء المرضى" وقد أكد عليها القرآن الكريم في السورتين 3/ 49و 5/ 110.
وما من شك أن هذه المعجزات كانت تعتبر علامة من علامات النبوة.
الانجيل أيضاً يولي هذه الناحية اهتماما كبيراً (انظر انجيل متى 9/ 12متى 11/ 5) والسؤال الهام الذي كثر حوله الجدل والخلاف هو ما إذا كانت معجزات الشفاء ذات طبيعة مادية خالصة ام طبيعة روحية. وأهمية هذه المعجزات كانت اقناع من كانوا يشكون في رسالة المسيح واقتران هذه المعجزات هو دوما بشفقته على المحتاجين.
والحق أن ما من أحد من الانبياء الآخرين قد أتى بمثل هذه المعجزات من مولده حتى مماته، وما من شك أن الظروف الدينية المعاصرة له وغيرها كانت تطلب هذا الدور وهذه المكانة المنفردة.
. موت المسيح:
إن موت المسيح هو أخطر وأعقد المشكلات حيث ثار حولها الجدل بين المسلمين والمسحيين على طول الزمان. ويعتقد المسيحيون أن عيسى قد صلب ولكن المسلمين يخالفونهم الرأي ويؤمنون بأن تدخل الله قد حال دون ذلك، وأول ذكر لموته في القرآن يظهر في سوره
19/ 13 وسورة النساء الآية 156 والآية الأخيرة هي أهم هذه الآيات وتفسر ما حدث من وجهة نظر الإسلام.
"وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم"(1/11)
والمشكلة الكبرى هي الطريقة التي مات فيها وهل الموت موتا ماديا حقيقيا أم لا؟ هل حقا انه مات صلبا؟ وهل رافق موته أي عذاب؟
والاناجيل الأربعة تجمع على أن المسيح مات فعلا على الصليب والدين المسيحي قائم على تضحية المسيح تكفيرا لذنوب بني الإنسان. والقرآن ينفي هذا الرأي ويقول بأن اليهود يعتقدون بأنهم قد صلبوا المسيح ولم يقتلوه حقا وعبارة "شبه لهم" تستخدم لوصف ما حدث.
وهكذا فبالرغم من أن المسيح قد حكم عليه بالموت ودبر اليهود موته على الصليب الاّ أن الله تعالى أحبط خطتهم وانقذه من بين أيديهم بأن يكون البيت التالي من الأمثلة النادرة التي تشير إلى وجود المسيحية والذي يذكره رتشارد بل بقوله:
"وكأس كعين الديك باكرت حدها بفتيان صدق والنواقيس تضرب".
ولذا يمكن القول بأن التأثير المسيحي في شمال الجزيرة العربية يكاد يكون معدوما وفي النصف الأول من القرن السابع ظهر الإسلام في مكة والمدينة وكان هو الدين الذي أدى إلى تغيير الصورة الدينية في شبه الجزيرة العربية.
المسيح والإسلام:
إن الإسلام و الدين الوحيد فيما عدا المسيحية الذي أعطى المسيح مكانة ذات أهمية كبيرة. فالقرآن يعترف بأنه نبي من أنبياء الله والقرآن يمجده ويحوي العديد من السور التي تتحدث
عن قصة حياته ورسالته. وقد كان المسلمون دوما يكرمون عيسى ويضيفون عبارة "عليه السلام" كلما ذكر اسمه وقد وردت هذه العبارة في القرآن: "والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا".
إن موقف الإسلام من المسيح والمسيحية يقوم على ذكر القرآن عن مولده، واسمائه، ومعجزاته، ورسالته وموته وفيما يلي محاولة موجزة لتوضيح مكانة المسيح في القرآن لنعرف إلى أي مدى ساعدت المبشرين في نشر المسيحية بين المسلمين.
1. مولده
نظرا لأن مولد المسيح لم يكن مولدا طبيعيا كسائر بني الإنسان فان هذا الموضوع كان ولا يزال مثارا للجدل والنزاع. وردت قصة مولده بالتفصيل مرتين في القرآن:(1/12)
"اذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم".
وقد أوضح القرآن الكريم إن الله تعالى أراد أن يكون مولد عيسى معجزة ليكون دليلا على قدرته على السيطرة على أي شيء يحدث في الحياة الواقعية. وقد اكتمل هذا الدليل بمعجزة المسيح عندما كلم الناس وهو لا يزال طفلا في المهد:
"ويكلم الناس في المهد".
2. أسماؤه
وللمسيح ثلاثة اسماء رئيسية في القرآن: المسيح وعيسى وابن مريم.
وهنالك تفسيرات عديدة لسبب تسميته بالمسيح فالبعض كانوا يعتقدون أن اسمه مشتق من العبرية ويعني "المبارك" في حين يعتقد آخرون أن اسمه والذي يطلق عادة على من كان كثير الترحال أطلق على السيد المسيح لكثرة ما كان يقوم به من أسفار إلى الشرق.
والتفسير الآخر لاسم المسيح هو "خادم الله" وكلمة "مسيح" في العربية الدارجة معناها "السيد" وتستخدم دلاله على التعظيم. وكلمة مسيح أيضاً من المسح بالزيت والتي هي أحد المراسم الدينية للمسيحية.
ويقول كوبيت دونCuppit Don
"إن عيسى والمسيح هما اسمان لشيء واحد وهو الأساس الذي تقوم عليه الكنيسة.
وهذه التفسيرات المختلفة لكلمة مسيح كلها تدل على التمجيد سواء في المسيحية أو الإسلام. وقد ورد هذا الاسم عدة مرات في القرآن.
رفعه إلى السماء لهذا فان موته كان معجزة كمولده. وموت المسيح هو أحد أهم موضوعات الخلاف بين المسيحية والإسلام وهذا الخلاف هو من الصعوبات التي تقف عقبه أمام أية محاولة للحوار بين أهل الديانتين.
5. الثالوث المقدس:
ينكر القرآن تعاليم المسيحية بشأن الثالوث المقدس. فالقول بأن الله حل في المسيح أمر يرفضه الإسلام والقرآن يوضح ذلك بجلاء عندما يقول:
"لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من اله إلا اله واحد)).(1/13)
وهذا الرأي لا يقتصر على المسلمين، اذ في الواقع أن بعض المسيحيين يؤمون بذلك وقد كان موضوعا للخلاف والجدل منذ القرن الرابع عندما أصبح رأي النسطوريين في انسانية المسيح مسموعا. ويؤكد القرآن على أن المسيح ليس سوى رسول من عند الله.
واعتقاد المسيحية الرسمي هو أن هناك ثلاثة اقانيم في اله واحد وهي الاب والابن والروح القدس.
ويقول كينيث كراد في شرحه للعقيدة المسيحية للمسلمين.
"على المسيحيين أن يبدأوا من منطلق
أن المسلمين لا يعتقدون أن الثالوث
المسيحي طعن في وحدانية الله بل
شكل من أشكال التعبير عن هذه الوحدانية.
ولا يمكننا أن نبدأ بالتبشير الا بالاتفاق
على أننا واياهم نحمل ايمانا لا يتزعزع
بأن الله واحد".
الآن وقد علمنا المكانة السامية التي للمسيح في القرآن والسؤال هو:
إلى أي مدى تمكن العاملون في مجال التبشير المسيحي الاستفادة من هذه المكانة في التبشير بين المسلمين؟
إن المسلمين يعتقدون أن المسيحية هي اقرب الديانات إلى الإسلام، ومع وجود نقاط للخلاف بين الديانتين إلا أن هناك أيضاً نقاط للالتقاء والمكانة الرفيعة التي يتمتع بها المسيح في القرآن فتحت الطريق أمام المبشرين واعطتهم المفتاح الذي يمهد طريق الحوار بينهم وبين المسلمين.(1/14)
والمبشرون عادة يبدأون الحوار بالاستشهاد ببعض الآيات القرآنية التي تتحدث عن المسيح ثم يوجهون الحوار بالتدريج إلى المفاهيم والمعتقدات المسيحية. وحتى الايات التي كانت ترفض المعتقدات المسيحية كانت تفسر بطريقة مغايرة لموقف الإسلام من هذه القضايا. لقد كان المبشرون يلجأون لامثال هذه الطرق عندما تعترضهم صعوبات تتعلق بالتوفيق بين المعتقدات الإسلامية والمسيحية حول دور السيد المسيح. ومثال على ذلك رفض الإسلام للاعتقاد القائل بأن المسيح ابن الله والذي كان المبشرون يفسرونه بقولهم إن المسيح هو ابن الله روحيا وليس ماديا. اما يتعلق بموت المسيح فقد كانوا يقللون من شأن هذا الخلاف بقولهم إنه مجرد اختلاف في التفسير وهو أمر يحدث في كل مجتمع ولكن المهم هو أن الديانتين متفقتان على أنه قد رفع الى السماء.
هذه فكرة موجزة لمكانة المسيح في الإسلام ولو هي قضية عقائدية لا تبدو متصلة عضويا بالموضوع ولكن فقط لمعرفة الكيفية التي استخدم المبشرون هذه المكانة في نشاطهم بين المسلمين.
6. الأوضاع السياسية:
كانت الأوضاع السياسية في الجزيرة العربية في بداية الإسلام غير مستقرة ولم يكن هناك سلطة مركزية قوية. والسلطتان اللتان كانتا تتمتعان بتأثير يذكر هما الامبراطورية البيزنطية في الشمال (سوريا) والامبراطورية الفارسية في الشرق وكان نفوذ الامبراطوريتين ضعيف جدا في شبه الجزيرة العربية أضف إلى ذلك أن الخلافات المستمرة بين الامبراطوريتين قد أنهكت قواهما وجعلتهما عاجزتين عن مواجهة قوة محاربة فتية كالمسلمين.(1/15)
وكانت القبائل هي مراكز القوة الرئيسية في الجزيرة، والتركيب السياسي الوحيد في الجزيرة هو النظام القبلي. وكانت الجزيرة مقسمة إلى مناطق صغيرة خاضعة للنفوذ القبلي لكل واحدة من هذه المناطق شخصية سياسية متميزة ولهذا فقد كانت الحروب مستمرة بين القبائل. فالجزيرة العربية اذن لم تعرف حكومة محلية قوية في كل تاريخها باستثناء اليمن. وكانت هذه الأوضاع السياسية وخلو الجزيرة من حكومة قوية مناخا مثاليا لتوسع حركة نشطة كالإسلام. ولم يجد جيش الإسلام الطموح مقاومة تذكر، وفي كثير من المناطق قوبلت الجيوش الإسلامية وقوادها بالترحيب، حيث كانت هذه المناطق تعيش أوضاعا سيئة.
ومنذ بداية التوسع الإسلامي الذي لم يقتصر على الجزيرة العربية بل شمل بلادأ أخرى أيضا، فقدت المسيحية حقا كل نفوذ لها في الشرق ولم تقم لها قائمة بعد ذلك. ولكن هذا لا يعني أن المسيحية قد استسلمت ولم تحاول استرجاع نفوذها، فقد كانت هناك محاولات وبعض هذه المحاولات كادت أن تنجح ومن الأمثلة الواضحة على ذلك الحروب الصليبية التي بدأت سنة 1096 ب. م. عند توقف الزحف الإسلامي الذي اعترضته فترة من الأزمات في أواخر عهد الخلفاء العباسيين.
الحروب الصليبية:
كتب بعض الكتاب المسيحيين عن الحروب الصليبية أو عن الإسلام معتبرين الفتوح الإسلامية غزوا دينيا لا يختلف عن الغزو الصليبي.
ومن هؤلاء الكتاب أشخاص بارزين مثل ولسون كاش Wilson Cash الذي كان سكرتيرا لـ. C.M.S. وزويمر S.M.Zwemer أحد زعماء الارسالية العربية ودنكان ب. ماكدونالد B.Macdonald Duncan وبالمقابل فان بعض الكتاب العرب بنوا مواقفهم من المسيحية والعلاقة بين المسلمين والمسيحيين على ردود فعلهم تجاه الحروب الصليبية.(1/16)
وكان للحروب الصليبية بواعث دينية وسياسية واقتصادية، وكانت البواعث السياسية والاقتصادية مرتبطة بمصالح المدينتين التجاريتين الايطاليتين البندقية وجنوا. وكانت المدينتان واقعتين في شمال ايطاليا وكانتا تطمعان باقامة مراكز لهما في شرق البحر الأبيض المتوسط لخدمة مصالحهما التجارية، ولذلك فقد كانت لديهما رغبة كبيرة بتوجيه الحملات الصليبية إلى تلك الجهات، في حين أن النورمان في جنوب ايطاليا كانوا يقدمون العون للحملات الصليبية لأنهم كانوا يتطلعون إلى مغامرات جديدة وإلى احتلال بلاد جديدة.
وادعى بعض الكتاب المسيحيين أن السبب الرئيسي لهذه الحروب هو الغزو السلجوقي الذي أدى إلى احتلال القدس في 1076 والصعوبات التي يلقاها الحجاج المسيحيون للأماكن المقدسة على أيدي هؤلاء الغزاة، حيث استمر الامبراطور الكسيوس كومينيوس بالالحاح طيلة خمس سنوات على البابا وعلى ملوك أوروبا الغربية لمساعدته ضد المسلمين. واتفاق السلطتين الدينية والزمنية على هذه الحروب يدل بوضوح على أن البواعث من ورائها لم تكن دينية محضة وقد ظهر هذا بجلاء عندما قام الصليبيون بتأسيس ممالك لهم في الشرق أثناء محاولاتهم لاسترجاع القدس.
"تلقى البابا اربان الثاني الرسالة من الامبراطور البيزنطي بحماسة شديدة فقد كان يريد استرجاع المدينة المقدسة القدس من أيدي "الكفار" ويجعل المدينة آمنة للحجاج المسيحيين وكان يريد أيضاً أن يضع حدا للنزاعات التي تنشب بين المسيحيين في الغرب."
وكان هذا الدافع في نظر المسيحيين الأوربيين هو الدافع الأساسي للحروب الصليبية والسؤال المهم هو من هم ضحايا الحرب في كلا الجانبين؟ ففي الغرب كان الفقراء هم الذي يدفعون للاشتراك في هذه الحروب وقد التحقوا بالجيش لأن البابا أعلن في مجمع كليرمونت في نسة 1095.
"... ستغفر ذنوب كل من يموت في الحرب، أو في طريق الرحلة".(1/17)
وكان ضحايا الحرب في الجانب الآخر أيضاً من الفقراء. وبما أن أهداف الحملات لم تكن دينية فحسب فان بعض المشتركين فيها كانوا يسعون وراء المكاسب الفردية. وكانوا يظنون أن هذه الحروب ستحقق لهم ما عجزوا عن تحقيقه في بلادهم من الطموحات. وما من شك أن الحصول على المغانم كان من الحوافز الأساسية للكثير من الصليبيين.
وما قام به الصليبيون عند وصولهم إلى الشرق كان بعيداً كل البعد عن المثل المسيحية. وقد كتبت آن ويليامز Ann Williams تقول إن الصليبيين عند احتلالهم انطاكية ذبحوا السكان وأضافت إن هذه المذبحة قد أثارت اشمئزاز المسيحيين في أوروبا.
ولتبرير ما حدث في الحروب الصليبية دأبت الكنسية على القول بأنه لم يكن هناك بديل عن حج مسلح وهو تفسير كان يلقى الكثير من القبول لدى الناس أبان الحروب الصليبية، فهذا الجيش لم يكن ذاهبا للاعتداء وإنما للدفاع عن النفس.
والواقع إن هذا كان بعيدا عن الواقع لأن الهدف منها كان محاربة المسلمين واسترجاع الأراضي المقدسة.
وقد لخص الأستاذ H. E. Mayer أهداف الصليبين كما يلي:
"حب المغامرة، شهوة الحصول على المغانم ـ وهذه من الصفات التي كانت تميز الأفراد المشتركين في هذه الحروب".
كان مسيحيو القرن الحادي عشر ينظرون إلى الحروب الصليبية على أنها حروب مقدسة معتقدين أن الايمان يجب أن يعتمد على القوة لحمايته، وقد بقي المسيحيون يؤمنون بذلك عبر القرون حتى القرن التاسع عشر. وكانوا يعتبرون المسلمين كفارا، وهذا الموقف ولد الحقد وسوء التفاهم وفقدان الثقة بين الفريقين.
ويكمن القول إن أي موقف عدائي اتخذه المبشرون في القرن التاسع عشر سواء على نحو مباشر أو غير مباشر كان ينبعث من نفس الموقف الذي كان يتخذه الصليبيون.(1/18)
لقد كان مبشرو القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين يعتمدون على القوى الامبريالية لحماية نشاطهم خارج البلاد المسيحية ومساعدتهم على تحقيق أهدافهم لأنهم كانوا يعتقدون أن القوة السياسية والعسكرية ضرورية لمساندة نشاطهم ولهذا السبب تورط بعضهم في القضايا السياسية، ومع انه كانوا يعرفون أن الأهداف الحقيقية لهذه القوى الاستعمارية هي اقتصادية وسياسية الا أنهم كانوا يعتقدون أن من البديهي أن تعمل الدول المسيحية على
مساعدته وهذا هو ما حدث فعلا كما سيتضح لنا ذلك في فصل قادم.
العصر الحديث
ومهما يكن من أمر فان المحاولات لا دخال المسيحية إلى شبه الجزيرة العربية لم تنقطع. وأهم هذه المحاولات هو الاتجاه التبشيري مع أن الأعمال التبشيرية لنشر الكتاب المقدس كانت دوما موجودة بصورة أو بأخرى.
إن العمل التبشيري بأحدث أشكاله هو شكل متأخر من أشكال النشاط المسيحي والذي بدأ في القرن الثامن عشر عندما أصبح مؤسسة تبشيرية تنظمها وتدعمها الهيئات الدينية العالمية.
وبالتأكيد فان الاتجاه التبشيري هو تطور حديث، وقد استطاع أن يدخل أو يعيد المسيحية إلى عدد كبير من البلاد الجديدة وبخاصة في افريقيا وأمريكا الجنوبية والهند.
إن تطور هذه المؤسسات التبشيرية وتأثيرها الواسع على الموقف الديني هو أمر بالغ الأثر، والأسباب التي دعت إلى قيام هذه المؤسسات ومهدت لها كثيرة. والعوامل الثلاثة الرئيسية التي تضافرت بشكل مباشر أو غير مباشر في قيام العمل التبشيري هي: عصر النهضة وحركة الاصلاح والتوسع الأوروبي.
وهذه الحركات تمثل ثلاثاً من التطورات الكبرى في الغرب في القرون القليلة الماضية، وكان لها تأثير كبير في تكوين المجتمع العالمي الحالي، ولكن عصر النهضة وحركة الاصلاح لا تدخلان في نطاق بحثنا هذا.(1/19)
وكان للانقسام الذي وقع في الكنيسة والجهود التي قام بها الكاثوليكيون وخصومهم الجدد من البروتستانتينين لنشر أفكارهم وتقوية كنائسهم أثر كبير في جميع الاتجاهات الدينية بما في ذلك العمل التبشيري أثناء حركة الإصلاح وبعدها كان تحولا رئيسيا بعيد الأثر وكان لكل من الكنيستين موقف خاص في معالجة الأعمال التبشيرية. والحقيقة المؤكدة هي أن أساليب التبشير منذ حركة الإصلاح قد تحولت من الاعتماد بشكل رئيسي على الاتصال الشخصي إلى التأكيد على الخدمات الإنسانية. ولم يكن هناك تنسيق أو تكامل في العلاقات بين الكنيستين، وأحيانا كانت كل من الكنيستين تعمل على تحويل اتباع الكنيسة الأخرى إلى معتقداتها. ويقول جورج انطونيوس إن الارسالية البروتستانية في سوريا نجحت في تحويل عدد من اتباع الكنيسة الكاثولكية مما أدى إلى قيام التنافس بين البروتستانيين والكاثوليكيين هناك.
الاختلاف في العلم التبشيري بين الكاثوليك والبروتستانت:
أ ـ اتساع العمل التبشيري:
كان المبشرون البروتستانت أكثر نشاطا في مواقفهم التبشيرية ويستخدمون مناهج متنوعة في أعمالهم. وقد شجعهم بالاضافة إلى ذلك نشر الانجيل عن طريق جمعيات الانجيل والمكتبات وغيرها من أماكن التوزيع والراديو، كما وسعوا استخدام دورات المراسلة لتعليم الانجيل.(1/20)
ومن المؤكد أن الكنيسة الكاثوليكية قد تعلمت بعض هذه الأساليب الجديدة منذ حركة الإصلاح واستخدمتها في أعمالها التبشيرية، ولكن ليس بنفس الدرجة التي استخدمها بها البروتستانت. والكاثوليك يميلون إلى الأساليب التقليدية كما أن الهيكل التنظيمي للكنيستين يختلف في بعض الجوانب اختلافاً كبيرا. فالكنيسة الكاثوليكية في أعمالها التبشيرية تعمل ضمن هيكل تنظيمي واسع ومعقد يتطلب ضبطا وفي بعض الأحيان فرضا لأنواع معينة من السلوك والمسؤوليات والواجبات على أفرادها، وهذه القيود تحرم المبشرين الكاثوليك من قدر كبير من المرونة التي يتمتع بها المبشرون البروتستانت كما أن عدد أفراد الكنيسة البروتستانتية كبير جدا ويتمتع هؤلاء الأفراد بقدر كبير من اللامركزية كما يؤكد القس يونج Rev. Young.
"عندما يفقد أحد أجزاء الكنيسة حيويته يقام جزء آخر مفعم بالحيوية في مكان آخر".
ب ـ الاتجاهات المنظمة والفردية:
كانت الكنيسة الكاثوليكية بتنظيمها التقليدي المعقد تركز على الكنيسة وانتشارها، واقامة الكنيسة في كل مكان تذهب إليه، فوجود الكنيسة الكاثوليكية وتأسيسها في نظر المبشر الكاثوليكي أهم من نشر الانجيل. أما البروتستانت فقد أكدوا على الانجيل ونشره. وبمعنى آخر فان البروتستانت يكافحون بعناد في سبيل تحقيق هدف معين وهو تحويل أكبر عدد من الناس إلى اعتناق المسيحية مستخدمين أنسب الطرق لتحقيق هذا الهدف. ومن هذا نرى أن الاختلاف الرئيسي بين الكنيستين هو مسألة الكمية والكيفية، ففي حين أكدّ الكاثوليك على أهمية ادخال الكنيسة الكاثوليكية بهيئاتها وتنظيماتها في المناطق التي يعملون بها وهو أمر يستغرق زمنا طويلا، فإن البروتستانت يفضلون أن يقوموا بتغطية أكبر قدر ممكن من المساحة وينتقلون إلى بلاد أكثر ، وهكذا نجد أن توزعهم أقل كثافة من الكاثوليك ولهم وجود في عدد أكبر من البلاد ومؤسسات تبشيرية أكثر.
التوسع الأوربي والتبشير(1/21)
إن التطور الحديث في العمل التبشيري يدين بالفضل إلى عصر النهضة وعصر الإصلاح الديني سواء على نحو مباشر أو غير مباشر فقد هيأ الاثنان الجو الصالح لتحديث العمل التبشيري وعلى أية حال فهناك عامل ثالث كان له دور هام في الوصول بالعمل التبشيري إلى ما هو عليه اليوم ألا وهو التوسع الأوربي. وإذا كانت حركة الإصلاح تعتبر العامل الرئيسي في تنشيط العمل التبشيري فان التوسع الأوربي يجب أن يعتبر العامل الذي أكسب العمل التبشيري طابعاً عالميا. فحركة الإصلاح عالجت المحتوى الديني للعمل التبشيري في حين حمل التوسع الأوربي الرسالة إلى العالم. وفي الواقع أن الحاجة إلى اكتشاف ما كان يعرف يومئذ بالعالم المجهول للحصول على المواد الخام هي التي دفعت إلى التوسع الغربي وأدت إلى التعجيل به.
وفي نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر فتح عصر الاكتشافات الجغرافية العالم على مصراعية أمام الأوربيين وكان الهدف من وراء هذه الاكتشافات الرغبة في العثور على طرق بحرية جديدة أقل كلفة لنقل منتجات الشرق إلى الغرب وقد جرى البحث في اتجاهين: الطريق الشرقي عبر افريقيا والطريق الغربي عبر المحيط الأطلسي. وكانت نتائج هذه الرحلات هي اكتشاف أمريكا ثم تلا ذلك التوسع في الشرق وأمريكا. ولم يكن التوسع الغربي مجرد توسع للقوى أو النفوذ إذ إن أهم ما نتج عنه هو إنشاء الثقافة الغربية، والتوسع الغربي الذي كان من أهم الاحداث في تاريخنا الحديث والمعاصر وأبعدها أثراً لا يدخل أيضاً في نطاق هذه الدراسة ولكنه مع ذلك يتصل بها إتصالاً مباشرا، ولهذا فسنركز عليه نظراً للدور الهام الذي لعبه في العمل التبشيري اذ لولاه لما رأت الحركة التبشيرية التي نراها اليوم النور.
فقد كان التوسع الغربي هو العربة التي حملت رجال الكنيسة المسيحية وافكارها ورسالتها إلى جميع اطراف الأرض.(1/22)
واول النتائج الهامة التي تمخض عنها هذا التوسع كانت انتشار الثقافة الغربية والسلوك الغربي في الحياة وأهم من ذلك كله الدين.
وقد نقلت المسيحية قاعدتها تدريجيا عبر السنين من الشرق ـ حيث نشأت وترعرعت إلى الغرب فأصبحت مؤسسة غربية.
إن المؤسسات المسيحية وزعامة العالم المسيحي في يومنا هذا ليست في القدس أو أي جزء آخر من فلسطين أو الشرق الأوسط بل توجد في أماكن مثل روما والعالم الغربي عامة.
وعندما بدأ التوسع الغربي يبسط نفوذه في عالمنا الحديث والمعاصر، كانت المسيحية واحدة من السلع الثقافية التي صدّرها، أما فيها يختص بالبلاد العربية فقد قامت الإرساليات الغربية بإدخال المسيحية إلى بلادنا ثانية في العصر الحديث، ولكن بوسائل جديدة.
النشاط التبشيري في البلاد العربية
وكما هو الحال في افريقيا وآسيا وامريكا اللاتينية فقد قام التوسع الغربي باعادة المسيحية إلى بلاد العرب وقد شعر مسيحيو الغرب ابان التوسع الغربي بأنهم كانوا في مركز يسمح لهم بان يبدأوا نشاطهم الديني في بلاد العرب، وقد بدأت الإرساليات الغربية عملياتها في هذه المنطقة منذ مطلع القرن الثامن عشر في الشام(1)
وكان نشاطهم فيها محدودا حيث اقتصر على مدارس متفرقة قليلة وبعض معاهد اللاهوت ونشر الكتب الدينية. وكان جميع المبشرين كاثوليك وغالبيتهم من الفرنسيين.
__________
(1) 1ـ كانت سوريا ولبنان وفلسطين والأردن جميعا تدعى الشام قبل ان يوم الاستعمار بتجزئتها إلى عدة مناطق.(1/23)
وأول إرسالية أميركية بروتستانتيه وصلت إلى سوريا في سنة 1830. وكان اعضاؤها يتبعون الهيئة الأميركية للارساليات العربية والتي سبق أن انشأت محطة لها في مالطا وشعروا بضرورة نقل نشاطهم التبشيري والتوغل في الشرق، وحطوا رحالهم في بيروت التي كانت أول محطاتهم وجعلوا منها أهم مركز لهم، وبدأ المبشرون الأميركيون نشاطهم التعليمي هناك متخذين منه وسيلة لتحقيق أهدافهم وادى ذلك في الواقع إلى تطور ملموس في سوريا في ذلك الوقت. وقد استطاعوا التأثير في الناس عن طريق التعليم والطب. وعندما بدأوا يحسون بالاستقرار شعروا أن الوقت قد حان لفتح ميادين جديدة. والواقع أن جهود الارساليات المسيحية للانتقال إلى شبه الجزيرة العربية ومنطقة الخليج العربي بدأت مع هنري مارتن سنة 1811، وكان أهم ما قام به من أعمال ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة العربية والمحاولة التي قام بها لبيع بعض النسخ منه. وفي سنة 1824 ذهب جون ولسون ليقوم بعملية استكشافية لشبه الجزيرة العربية تمهيدا للبدء بأعمال التبشير، ولكنه لم يمكث هناك طويلا. وفي عام 1829 ذهب طبيب أسنان من اكستر في بريطانيا اسمه انتوني ن جروفي Antony Groves N. إلى بغداد في العراق وقام ببيع بعض الكتب الدينية هناك وهكذا بدأ محاولته بالعمل التبشيري في تلك البلاد. والعمل التبشيري الوحيد الذي جرى في منطقة الخليج العربي في النصف الاول من القرن التاسع عشر كان على يد الدكتور جون ولسون من بومباي Wilson John الذي قام بارسال بائع متجول للكتاب المقدس إلى هذه المنطقة في عام 1843. وكان ينتمي إلى الكنيسة الاسكتلندية. وفي سنة 1848 بدأت الهيئة الأميركية للارساليات الأجنبية بترجمة عربية جديدة للكتاب المقدس ثم قام القس سترن Stern Rev .برحلة تبشيرية عام 1856 إلى صنعاء في اليمن وبغداد واجزاء أخرى من بلاد العرب وهو يحمل الكتاب المقدس معه.(1/24)
وفي عام 1884 قام السيد وليام ليثالي William Lethaly من انجلترا بصحبة زوجته وبدأ حملة تبشيرية في المدينة في شبه الجزيرة العربية ثم تبعته إرسالية إيان كيث فولكونر Felcone lan Keith من كنيسة اسكتلندا الحرة والتي بدأت عملها التبشيري في عدن في جنوب اليمن عام 1885. وفي بداية العام التالي حاولت إرسالية شمال افريقيا Mission Africa Mission الوصول إلى القبائل البدوية في شمال الجزيرة دون أن يحالفها النجاح.
ثم جاءت محاولة "الإرسالية العربية" التي بدأت عملياتها على الشاطئ الشرقي للجزيرة العربية (الخليج العربي) في عام 1889.
وهذه الدراسة تهدف إلى تقويم وتحليل أعمال هذه المنظمة التبشيرية التي حاولت ادخال المسيحية إلى بلاد العرب من جديد، واتخذت من النشاط الطبي والتعليمي وسائل أساسية لها كما كان لكثير من أعضائها نشاطات سياسية في المنطقة.
الفصل الثاني
الإرسالية العربية الأمريكية
الخليج العربي:
1) الموقع والمناخ:
يقع الخليج العربي على الحدود الشرقية للوطن العربي وفي الجانب الشرقي من شبه الجزيرة العربية، ويمتد باتجاه جنوبي شرقي من العراق إلى بحر العرب والمحيط الهندي لقد كان ممراً للتجارة بين مراكز الحضارة القديمة منذ فجر التاريخ بسبب موقعه الذي يسيطر على الطريق الرئيسي بين الشرق والغرب ولا يزال يتمتع بأهمية تجارية خاصة حتى عصرنا الحاضر مما جعله ميدانا للتنافس الدولي
يبلغ طول طريقه المائي من أقصى الجنوب إلى اعلاه في الشمال ثمانمائة ميل، ويتراوح عرضه بين 180 ميلا في أعرض أجزائه إلى عرض أدنى لا يتجاوز ثمانية وعشرين ميلا فقط عند مضيق هرمز، ويقع على جانبيه هضبتان عظيمتان هما هضبة ايران وهضبة الجزيرة العربية.(1/25)
ومن الناحية الطبيعية فان منطقة الخليج تتكون في غالبيتها من صحاري أو سهوب صحراوية، فيما عدا عمان التي تتمتع بتربة خصبة صالحة للزراعة، والجبال واعلى قمة فيها الجبل الأخضر ومنطقة الاحساء من المملكة العربية السعودية.
ويتأثر مناخ منطقة الخليج بالمناطق المحيطة به فالجبال في الشمال والشمال الغربي تسمح بمرور الرياح المعتدلة الجافة وهي رياح حارة وصحية وتهب الرياح الجنوبية الشرقية في أواخر الصيف وفي الخريف وأحيانا في فصل الشتاء فتزيد من رطوبة الجو صيفا والأمطار شتاء. ومناخ الخليج بشكل عام ذو صيف طويل حار، وشتاء بارد تتخلله الامطار القليلة فيما عدا مناخ جنوب عمان الذي يتعرض لهطول الأمطار الغزيرة في فصل الخريف.
ب) السكان:
الواقع أن معظم سكان منطقة الخليج قد هاجروا إليها من شبه الجزيرة العربية والمناطق المجاروة. ويبلغ عدد هؤلاء السكان حسب إحصاء 1975 ثلاثة ملايين نسمة تقريبا. ويتوزعون على النحو التالي:
عمان 000،750, 1, الكويت 000, 850، البحرين000, 150, قطر 000, 100، والإمارات العربية المتحدة 000, 100ولكن مؤشرات الإحصاء الذي جرى في المنطقة لعام 1980 يدل على أن عدد السكان قد تضاعف تقريباً، وكان معظم سكان المنطقة يحصلون على ضرورات معيشتهم من الزراعة وتجارة اللؤلؤ وصيد الأسماك، أما سكان عمان والبصرة يعتمدون في معيشتهم بشكل أساسي على الزراعة ولكن المناطق الأخرى كالكويت والبحرين وقطر والإمارات العربية المتحدة فكانت تعتمد على صيد الأسماك وتجارة اللؤلؤ والرعي. هذه هي الصورة الاقتصادية للمنطقة في الماضي ولكنها تغيرت فجأة بعد اكتشاف النفط وبشكل خاص بعد إنتاجه بكميات اقتصادية بعد الحرب العالمية الثانية. ونتيجة لذلك هجر سكان المنطقة البحر واتجهوا إلى التنمية الداخلية. واصبحوا يعملون منذ ذلك الحين كموظفين في مؤسسات الحكومة المختلفة وفي التجارة مع العالم الخارجي.
جـ) أهمية الخليج العربي:(1/26)
كان الخليج العربي مهدا للحضارات القديمة، وما نعرفه عن تاريخ الخليج وجغرافيته في القرون التي سبقت العصر المسيحي قليل، وقد وصلنا هذا القليل عن طريق ما كتبه الجغرافيون والمؤرخون الرومانيون، ولكن المنطقة أصبحت معروفة للاوربيين عندما عثر المكتشفون البرتغاليون على طريق الهند في القرن السادس عشر. فقد وصلوا الخليج العربي حقا وأقاموا قاعدة لهم في هرمز أحد أهم المناطق الإستراتيجية في الخليج العربي والشرق الأوسط. ثم بدأت القوى الأوربية الأخرى بالتحرك نحو هذه المنطقة بالتنافس فيما بينها للسيطرة على هذا الممر المائي الهام، وكانت النتيجة إن وضعت بريطانيا حدا لهذه المنافسة الدولية عندما احتكرت السيطرة على المنطقة. أن الأهمية المعاصرة لهذه المنطقة هي أنها منطقة غنية بالثروة النفطية ـ 60% من الكمية التي يستوردها العالم من البترول تعبر مياهه ـ كما أن المنطقة سوق ممتاز للمنتجات الأوربية والولايات المتحدة، بالإضافة إلى أهميتها الاستراتيجية السياسية والعسكرية في الخريطة الدولية. وقد اختيرت هذه المنطقة لتكون هدفا للإرساليات المسيحية للبدء منها في تحويل المسلمين إلى الدين المسيحي كما كانت هدفا للأطماع الاستعمارية للسيطرة عليها، ومن الإرساليات التي تحملت المسؤولية للعمل والتأثير على سكان المنطقة هي الإرسالية الأمريكية العربية.
الإرسالية الأمريكية العربية:
هي ارسالية أمريكية بروتستانتية ذات أهداف تبشيرية في منطقة الخليج العربي وشبه الجزيرة.(1/27)
لقد قام الدكتور لانسنج Dr. Lansing(1). وثلاثة من مساعديه (وهم جيمس كانتين Contine James وصموئيل زويمر Zwemer Samuel وفيليب فيلبس Phelps Phelps) بتشكيل هذه الإرسالية. والدكتور لانسنج كان أستاذاً للغة العربية في معهد اللاهوت(2). في نيوبرونسوك BrunswicK New في ولاية نيوجرسي الاميركية. وكان اسم الإرسالية الأصلي هو "العجلة Wheel The "وقد أطلق الدكتور لانسنج ومساعدوه الثلاثة هذا الاسم عليها ولكنه اضطر لتغييره إلى الإرسالية العربية عام 1889 تلبية لطلب رسمي مقدم إلى "هيئة الإرساليات الأجنبية" (التابعة لكنيسة الإصلاح الهولندية في أمريكا) للسماح بالقيام بعمل تبشيري في البلاد الناطقة باللغة العربية. وبدأت الارسالية عملها كمشروع مستقل لاعتقاد مؤسسيها في بادئ الأمر انه من الصعب أن يجوز على رضا الكنيسة, ولكنها في الحقيقة أصبحت وثيقة الارتباط بالكنيسة الإصلاحية وتابعة لها حيث أصبحت هذه الارسالية عضوا رسميا بها منذ عام 1894.
__________
(1) 1ـ إن ما دفع الدكتور لانسنج إلى إنشاء الإرسالية للعمل في هذه المنطقة لأن والده كان مبشرا في سوريا لمدة طويلة في النصف الأول من القرن التاسع عشر.
(2) 2ـ وقد أنشئ هذا المعهد اللاهوتي في 1784 لتدريب المبشرين التابعين لكنيسة الإصلاح في الولايات المتحدة وكان مركز المعهد في نيوبرونزول في ولاية نيوجرسي حتى عام 180 عندما إنضم إلى جامعة رتجوز Rutgers University(1/28)
ولم يكن للكنيسة الأم في الولايات المتحدة سوى سيطرة جزئية على الإرسالية العربية حيث كان يغلب على العلاقة بينهما النظام اللامركزي, ولذا فان الإرسالية العربية كانت تدير شؤونها اليومية مستقلة, ولا ترجع إلى الكنيسة الام الا لطلب الأموال وتزويدها بأعضاء الهيئة التبشيرية. وكان الهدف الرئيسي للإرسالية العربية الأميركية هو القيام بالتبشير في شبه الجزيرة العربية, ولكنها فيما بعد نظرا لافتقادها إلى المبشرين فقد قصرت نشاطها جغرافيا على منطقة الخليج العربي. والجزيرة العربية هي موطن الدين الإسلامي, حيث كان الإسلام الخصم الرئيسي للمسيحية والعقبة الكبرى التي واجهت استراتيجية التبشير في المنطقة, لذا قرر مؤسسو الإرسالية أن ينشروا الإنجيل المسيحي في المكان الذي نشأ فيه الإسلام, وحيث كان الأمل في تحويل عدد كبير إلى المسيحية ضعيفا, وكان مؤسسو الإرسالية يدركون تماما الصعوبات التي تعترض العمل التبشيري هنا, لكنهم مع ذلك كانوا يعتقدون انه غير مستحيل,. لقد كانت المهمة الرئيسية للإرسالية هي التبشير الديني والتعليم وتقديم الخدمات الصحية. وكانت عملياتهم اليومية تدار محليا عن طريق لجان مشكلة لهذا الغرض.
وقد حذروا مرارا من المصاعب الكبيرة التي سيلاقونها وخاصة أنهم سيقومون بالتبشير في جميع أنحاء الجزيرة العربية مهد الإسلام.
وبعبارة أخرى فان المبشرين الذين يضطلعون بهذه المهمة يجب أن يكونوا من المؤمنين إيمانا عميقا برسالتهم التبشيرية لانهم سيذهبون إلى ميدان خاص للتبشير لمسلمين شديدي التمسك بدينهم, والعمل في جو شديد الحرارة, وقبل البدء بالعمل التبشيري وضعت قيادة الإرسالية خطة للعمل في عام 1889 لتحديد سياسة ومجالات نشاطاتها.
الخطة الأولى للإرسالية:(1/29)
يتضح من قراءة خطة عمل الارسالية ودستورها(1)ان الهدف الرئيسي للإرسالية كان تحويل أهالي الجزيرة العربية إلى المسيحية وكان تركيزها على سياسة الإرسالية وتنظيمها ومهما يكن فان المصادر الأخرى قد أكدت على الجانب التبشيري الديني فقد ذكرت السيدة آن هاريسون Harrison Ann "لقد أرسلنا لتحويل الناس الى المسيحية والدعوة الى قدرة الله".
وكان هذا هو الاساس الذي سترتكز عليه مشروعات الارسالية في المستقبل حيث إن الهدف الأساسي هو تنصير الجزيرة العربية وحمل اهلها على اعتناق المسيحية. إن موقف الارسالية الاساسي موقفا متصلبا ضد الإسلام وكان هدف صموئيل زويمر ورفاقه هو دفع جميع بني الإنسان ليصبحوا اتباعا للسيد المسيح وكانت خطة الارسالية تجسيدا لهذه الافكار. والنقطة الثانية في مناقشة الخطة هي تسمية المنظمة فقد اختاروا اسم "الارسالية العربية" نظرا للاعتبارات التالية:
أولا: إن الهدف الاساسي لهذه الجمعية كان العمل التبشيري في بلاد عربية وبشكل أساسي شبه الجزيرة العربية والتي هي موطن العرب والدين الإسلامي.
ثانيا: إنهم أرادو أن تكون هذه الإرسالية مختلفة ومميزة عن غيرها من الإرساليات المسيحية لكي تستطيع أن تلفت الانتباه لهذا الميدان الجديد والذي كانوا يعتقدون انه مهيأ لاستقبال أمثال هذه الدعوة.
ثالثا: ان اختيار هذا الاسم يهدف إلى التغلب على الشكوك التي يحملها العرب نحو أنشطة الأجانب. وهذه الشكوك كانت طبيعية جدا وخاصة في ذلك الوقت عندما كان الصراع الأجنبي على أشده في منطقة الخليج العربي بشكل خاص. وقد وضعت الخطة الخطوط العامة لنشاط الإرسالية في المرحلة المقبلة واختارت الجزيرة العربية هدفا لها.
الأسباب التي دعت لاختيار الجزيرة العربية هدفا للإرسالية:
__________
(1) 1 ـ خطة الإرسالية ودستورها بنهاية هذا البحث في الملحق رقم (1).(1/30)
إن لاختيار الجزيرة العربية هدفا لنشاط الإرسالية التبشيري أسباب عديدة, وأحد هذه الأسبال الرئيسية هو الادعاء بأنه كان في السابق للمسيحية تأثير في هذه المنطقة. وقد سبق أن أشرنا لهذه النقطة في الفصل الأول ـ ولهذا فقد كانوا يعتقدون أن إرجاع المسيحية إليها غير مستحيل. وقد أكد صموئيل زويمر وجيمس كانتين وهما من رواد هذه الحركة على أهمية هذا السبب عندما ذكرا:
"إن من بين الدوافع للعمل في (الجزيرة العربية) أولا الأسباب التاريخية...... إن للمسيح حق في استرجاع الجزيرة العربية وقد أكدت الدلائل التي تجمعت لدينا في الخمسين سنة الأخيرة على إن المسيحية كانت منتشرة في هذه البلاد في بداية عهدها. وهناك دلائل أثرية واضحة على وجود الكنيسة المسيحية هناك ولهذا فان من واجبنا أن نعيد هذه المنطقة إلى أحضان المسيحية".(1/31)
والسبب الثاني هو أن النجاح المسيحي في الجزيرة العربية سيكون نقطة تحول في العمل التبشيري المسيحي. وهذه الفكرة كانت تفترض أن نجاحهم سيكون منطلقا لفتح أبواب المنطقة باكملها أمام التبشير المسيحي. وقد اكدت الارسالية على ضرورة التعاون مع المنظمات المشابهة والتي سبق لها العمل داخل المنطقة. ولوضع هذه الفكرة قيد التنفيذ توقف جيمس كانتين في ادنبره في السادس عشر من اكتوبر سنة 1889 في طريقة إلى المنطقة ليضع أس التعاون مع إرسالية كيث فولكانزMission Keith Falconeis في عدن والتابعة الى كنيسة اسكتلندا الحرة. وبعد وصوله المنطقة قامت الارسالية العربية بالاتصال بارسالية كيث فولكنز للتعاون وتقديم المساعدة. والواقع إن هذه الارسالية قدمت للمبشرين الاميركيين مساعدات قيمة, واهم هذه المساعدات ما يتعلق بتقديم المعلومات عن أحوال المنطقة وخاصة الجغرافية والاجتماعية والدينية. بالاضافة الى هذا فان الارسالية العربية حصلت على تعاون المنظمات المشابهة في العراق ـ الارسالية المتحدة في العراق ـ المجلس المسيحي للشرق الاوسط وجمعية الكنيسة التبشيرية.
بدء العمليات الميدانية للارسالية:
وبعد أن اتمت الارسالية العربية وضع تفاصيل خطة العمل بدأت بالاعداد للعمل الميداني. وفي بادئ الامر اجتمع المبشرون وقاموا بدراسة كل ما يتصل بالمنطقة من معلومات جغرافية واجتماعية واقتصادية ودينية وغير ذلك. وقد كانوا يعتبرون المنطقة غير مستكشفة في ذلك الوقت حيث أكد ماسون Mason وبارني Barny على هذه النقطة:
"إن الجزيرة العربية كانت من الناحية العملية غير مكتشفة وسكانها مجهولون ولذا فان من الاهمية بمكان أن نكرس جزءاً من وقتنا لدراسة أجوالها واختيار الموقع المناسب للعمليات المقبلة قبل القيام بأية محاولات ايجابية".(1/32)
والواقع إن النقص في المعلومات كان كبيرا مما أدى الى وقوع الإرسالية في متاعب كثيرة. وأهم هذه المتاعب عدم تقديرهم الصحيح لمشكلات المنطقة كاللغة والطقس والدين.. الخ..... وقد وصف الجنرال هيج Heig في رحلته إلي الجزيرة العربية الأحوال الجغرافية والاقتصادية والتجارية والدينية للبلاد والقبائل المختلفة التي قام بزيارتها وقد خرج من جولته بالقناعة التالية:
"إن كل الجزيرة العربية بدرجات متفاوتة مهيأة لاستقبال الكتاب المقدس بذراعين مفتوحتين".
وقد ثبت أن تنبؤات الجنرال هيج لم تكن صائبة حيث أخفقت الإرسالية في نشر الكتاب المقدس سواء في شبه الجزيرة العربية أو في منطقة الخليج العربي. وسنبحث هذه النقطة بالتفصيل فيما بعد. ولكن يجدر بنا أن نحاول تقصي الأسباب التي دعته إلى التنبؤ بالنجاح. ومن الأمور التي يمكن أن تكون قد أدت إلى تضليل الجنرال هيج هو ان شبه الجزيرة لم تكن معروفة جيدا في تلك الأيام وربما حمل جهل سكان الجزيرة بالقراءة والكتابة الجنرال على الاعتقاد بأنهم ليسوا على درجة كبيرة من الأيمان. ومن الأسباب القوية الأخرى التي أدت إلى قناعة تلك أنه ظن أن سيطرة البريطانيين على هذه المنطقة قد مهدت الطريق أمام المسيحية ولكن لم يحدث في التاريخ أن استطاعت قوى الاستعمار تغيير شخصية وأفكار الناس بالقوة في أي بقعة من بقاع العالم.(1/33)
والعامل الهام هو أن الإرسالية لم تقم بدراسة الإسلام دراسة وافية, فقد كانت مقتنعة من أن المسيحية لن تواجه منافسة دين آخر اكثر ألفة لدى أهل المنطقة منها, واكثر انسجاما مع حاجاتهم. وليس أدل على فشلهم في فهم الإسلام وأهميته وتعلق سكان تلك المناطق به من الانطباعات والقناعات التي خرج بها أحد رواد التبشير في الجزيرة السيد ستونStone(1)والذي ذهب إلى حد القول:
"إن الحاجة الى المسيحية ليست أمرا مبالغا به, فالعقيدة المحمدية لا تقل سوءا عن الصورة التي نحملها عنها, وانني أعتقد جازما بان الإسلام ليس بالقوة التي نتصورها, وأن الكنيسة إن اقتنعت بأن تلقي بثقلها ضده فان المعركة ستكون اسهل مما نظن. وأنني اعتقد أن نهاية الإسلام قد أصبحت محتومة".
وبالإضافة إلى هذا العامل الهام فان الإرسالية لم تكن متمكنة من اللغة العربية بحيث تستطيع أن تقيم صلات طبيعية مع الناس, يضاف إلى ذلك أن صلاتهم بالدوائر الحكومية البريطانية والأميركية أعطت الناس انطباعا بأن أهداف الإرسالية واهداف السلطات الاستعمارية واحدة. وسنبحث المضامين السياسية للإرسالية بالتفصيل في فصل مستقل من هذه الدراسة.
المحطات الميدانية:
كانت العاصمة اللبنانية بيروت أول محطة انتقالية للعمل الميداني للإرسالية العربية في المنطقة كلها, فأقام المبشرون هناك عدة شهور لجمع المعلومات ودراسة اللغة العربية والتدريب على استخدامها, والنظر الى ميدان عملهم المقبل للمرة الأولى, والاهم من ذلك كله مقابلة رفيقهم المقبل كميل عبد المسيح وهو مسيحي سوري اصبح فيما بعد مساعدا للإرسالية وقد لعب دورا هاما ومفيدا في اعمال الإرسالية, وقال عنه ماسون Mason .
__________
(1) 1 ـ السيد ستون هو أحد رواد الإرسالية العربية وقد عمل في مسقط في سنة 1899 ثم تخلى عن العمل بسبب المرض ولم يلبث أن مات في السنة التالية.(1/34)
"إنه واحد من اكثر الشخصيات نفعا وإثارة للإعجاب.......... وقد كان شابا سوريا يسكن في بيروت ويتمتع بطبيعة تواقة للمعرفة وفكر رصين."
وقد تلقت الارسالية العون ايضا من المبشرين الاميريكيين الذين كانوا يزاولون نشاطهم في بيروت قبل أن تولد هذه الارسالية بوقت طويل.
افتتاح محطة البصرة:
وبعد بيروت ذهبت الارسالية العربية الى البصرة وبدأت باقامة اول محطة لها وقد اصبحت هذه المحطة في السنوات التالية مركزا وقاعدة لعملياتهم في منطقة الخليج العربي, وكانت بين المناطق الهامة التي كانوا يخططون لاحتلالها(1)
ولم يكن اختيار البصرة قاعدة ومحطة اولى لعملياتهم أمرا اعتباطياً بل أمرا مدروسا, فقد كان موقع هذه المدينة يتمتع بأهمية استراتيجية في المنطقة كلها لأنها تسيطر على الرأس الشمالي للخليج العربي. وكانت الحكومة الاميركية قد سبق أن انشأت قنصلية هناك واستطاع المبشرون الاميركيون أن يعيشوا ويعملوا تحت حمايتها. وقد كان في هذا عون كبير لهم خاصة في الوقت الذي كانت فيه تحت سيطرة الدولة العثمانية وكان صموئيل زويمر S.M. Zwemer وجيمس كانتين James Cantime أول رائدين للعمل التبشيري في تلك المحطة ولهذا كانا أول من واجه ردود فعل المواطنين وقياداتهم الدينية بالاضافة الى السلطات التركية.
__________
(1) 1 ـ أن كلمة "احتلال المنطقة" استخدمها المبشرون في أدبياتهم وهي أقرب إلى اللغة العسكرية منها إلى التبشير السلمي الذي يتبنونه ويعملون من أجله.(1/35)
ومن البصرة بدأ عمل الارسالية بتغطية معظم أراضي الخليج وبعض أجزاء شبه الجزيرة العربية, وقد قام المبشرون بزيارة موانئ الخليج والمناطق الداخلية في عمان ومناطق أخرى في شبه الجزيرة العربية مبتدئين بمسقط ثم البحرين والاحساء والكويت. وكان المبشرون عندما يرغبون بفتح ميادين جديدة يعتمدون على رحلاتهم الأولية. وكانت هذه الرحلات هي الوسيلة الصحيحة لاكتشاف ودراسة الاوضاع الجغرافية والسياسية عن طريق مباشر، وبعد هذه الرحلات تكون الإرسالية قد تهيأت لبدء عملياتها في المنطقة الجديدة. وكان المبشرون يركزون على تأمين الحاجات الاساسية كالسكن والمستشفى والمكتبة والمدرسة والكنيسة، ويختارون لهذه المنشآت الأحياء التي تمكنهم من الاتصال بالناس بسهولة.
وقد لاقى تأسيسهم لمحطتهم في البصرة عام 1891 معارضة وعداء شديدين من جانب السلطات التركية وبخاصة فيما يتعلق بالحصول على الابنية الضرورية. وكان مشروع البناء التبشيري الأول في البصرة مدرسة البنات بحديقتها الواسعة المغروسة بالنخيل. وأقاموا مسكنا قريبا منها لأعضاء الإرسالية وأنشأوا مكتبة داخل أسوار مجمع مدرسة البنين في العشار في وسط مدينة البصرة في نفس الوقت الذي بنوا فيه مدرسة البنات، وكان لوجود السيد دايكسترا Dykstra ـ وهو أحد رؤساء الإرسالية ـ في البصرة والذي كان لديه خبرة في هذه الأمور فرصة ثمينة للاستفادة من خدماته في هذا الميدان وقد تم الانتهاء من المشروعات المختلفة في سنة 1930.(1/36)
ومن المعالم البارزة للنشاطات التبشيرية الأولى في البصرة توزيع الكتب المقدسة على الناس، واول مؤسسة تبشيرية افتتحت في تلك المنطقة هي مكتبة الكتاب المقدس ويدعى المبشرون بأنهم كانوا يبدأون أولا ببيع أعداد كبيرة من الكتب الدينية واعتبروا ذلك دليلا على تأثيرهم على عقول الناس. ولكن الامر في الحقيقة لم يكن كذلك لأن الناس كانوا متعطشين للقراءة وبخاصة في أمور لم يكونوا يعلموا عنها شيئا في وقت كانوا لا يزالون يعيشون بعيدا عن الحضارة الحديثة. وسنعود إلى هذه النقطة بالتفصيل في فصل النشاط التبشيري الديني.
ولم يجد المبشرون صعوبة في استئجار المنازل في البصرة في العقد الثاني من نشاط الإرسالية؛ فقد تمكنوا من الحصول على مساكن عديدة وكانت الحاجة إلى التأثير العظيم للخدمات الطبية هي من أهم القضايا التي واجهت الإرسالية في عام 1908 وفي نفس تلك السنة تبرع أحد أصدقاء الإرسالية بملغ 000, 6 ستة آلاف دولار لبناء مستشفى آخر في المنطقة وبعد مناقشات طويلة حصلت الارسالية على ترخيص بناء المستشفى الجديد، وهو مستشفى لانسنج التذكاري Lansing Memorial Hospital والذي أنشئ في سنة 1909.
وهكذا نرى أن العمل التبشيري قد نما بالتدريج بالرغم من الصعوبات التي زادت حدتها بعد الانقلاب التركي في عام 1908 واستمر هناك إلى سنة 1958 عند قيام الثورة في العراق. ونتيجة للحدث الأخير فقد قررت الإرسالية اغلاق هذه المحطة وتسليم مؤسساتها إلى (الإرسالية المتحدة في العراق) والتي كانت تعمل في الجزء الشمالي من البلاد. وعند استقرار أوضاع الإرسالية في البصرة رأى المبشرون أن الوقت قد حان لافتتاح محطة جديدة في الخليج ووقع اختيارهم على البحرين.
افتتاح محطة البحرين:(1/37)
تقع جزيرة البحرين في الخليج العربي وتأتي أهمية هذه الجزيرة أنها تقع في منتصف الطريق بين البصرة ومسقط وقربها من الاحساء في المملكة العربية السعودية. والواقع أن هذه الجزيرة كانت في يدي قوى عديدة منذ بداية القرن السادس عشر، فقد احتلها البرتغاليون في عام 1521 والفرس في عام 1622 والقبائل العربية في منتصف القرن الثامن عشر والبريطانيون في عام 1920
وصل المبشرون إلى الجزيرة في نهاية القرن التاسع عشر عندما قام القس صموئيل زويمر بزيارة هذه المنطقة عدة مرات لكي يفتتح محطة تبشيرية جديدة هناك, وقد كتب يقول عن زيارته الأولى عام 1892:
"إن العرب جميعا يكرمون الغرباء وبوجه العموم فان عرب الساحل العربي... لابد أن يساورهم الشك عندما يأتيهم مسيحي حاملاً الكتاب المقدس ولكنهم استقبلوني بأقل مضايقة مما توقعت". وفي بداية العام التالي أقام زويمر مكتبة للكتاب المقدس وخلال عام 1893 استمر العمل في انشاء المحطة في البحرين ببطء بافتتاح مستشفى ومدرسة. ومع أن البحرين كانت تعتبر في أول الأمر محطة تابعة للبصرة الا انها أصبحت فيما بعد محطة رئيسية ثانية لا بل قاعدة للعمل التبشيري التابع للارسالية, فقد ظهر بنتيجة التجربة أن النشاط التبشيري في تلك الانحاء كان محدودا, كما وجد المبشرون أن العمل في البحرين اسهل من العمل في البصرة بسبب موقعها أولا ولكونها محمية بريطانية ثانيا وقد ذكر أحدهم:(1/38)
"إن وضعها السياسي يعطي قدرا اكبر من الأمان للعمل التبشيري مما هو الحال في البلاد العربية التي تنعم بقسط أكبر من الاستقلال". وكان العمل السياسي للمبشرين في البحرين هو الخدمات الطبية, وقد تطور هذا العمل عندما جاء السيد تومس Thoms وزوجته من البصرة في سبتمبر سنة 1900, (وكانت الحاجة الى مستشفى ماسة جدا) ووضع الحجر الأساسي لمستشفى ماسون التذكاري Mason Memorial Hospital في 19 آذار (مارس) عام 1902 جرى تكريس المستشفى كأول مستشفى تبشيري في منطقة الخليج. وكما هو الحال في المحطة الأخرى فقد اقيمت مدرسة وكنيسة في الحجرات الارضية من المسكن. وقد تبرعت عائلة ماسون Mason من بروكلين في نيويورك بالأموال اللازمة لبناء هذا المستشفى. وفي عام 1926 تم انشاء مستشفى آخر وهو مستشفى ماريون ويلز توماس التذكاري Marion Wells Thomas Memorial وجرى بعد ذلك تغيير شامل في مساكن المبشرين, فبنى منزل كبير بجانب المجمع الصحي, وقد اعيد تصميم هذا المنزل لتقسيمه الى شقتين منفصلين. وقد هدم مسكن الطبيب القريب من المستشفيين بسبب قدمه واقيم مكانه مسكن الطبيب القريب الشرقي والذي يتمتع بقيمة تاريخية كبيرة والذي كان يعتبر مكانا مثاليا للراحة عندما أقيم سنة 1908 فقد كان يستعمل على مدى السنين مركزا للعديد من الانشطة التبشيرية. وقد بنى منزل منفصل بجواره فيما بعد تابع للارسالية.
افتتاح محطة مسقط :
عند استقرار اوضاع الارسالية في البحرين حان الوقت للتحرك الى منطقة هامة أخرى الا وهي مسقط. وكانت مسقط تعتبر موقعا حساسا لا يقل اهمية عن البصرة فقد كانت تسيطر على الطرف الجنوبي للخليج العربي وهو طريق مائي هام في الشرق. وكان التبشير في تلك المنطقة بالذات على درجة كبيرة من الأهمية. ولأهمية الدور التاريخي الذي لعبه العمانيون في شرق افريقيا, فانه من الأهمية بمكان الحديث عن هذا الدور قبل الدخول في مناقشة نشاطات الارسالية العربية في مسقط.(1/39)
دور عرب عمان في افريقيا :
لقد كانت افريقيا واحدة من البلاد التي حمل اليها دعاة الإسلام نشاطهم, وعندما جاء الإسلام كان قد مضى على تأسيس المسيحية هناك زمن طويل وبخاصة في مصر والحبشة ومنها انتقل إلى بلاد النوبة (السودان). وقد نجح الإسلام هناك بالوسائل السلمية, وقد انتشر نفوذه عن طريق النساك الذين كانوا يقيمون في أماكن منعزلة للانقطاع لعبادة الله وتمكنوا بالتدريج من اجتذاب سكان المناطق المجاورة إليهم وكان أول من وصل إلى تلك الجهات من الاوربيين هم البرتغاليون الذين بنوا الكنائس في تلك المناطق في سنة 1501 ومنذ عام 1560 بدأت الارساليات الاوربية بالوصول والقيام بتحويل الناس إلى المسيحية وكان العرب يعرفون المناطق الشرقية من افريقيا منذ وقت طويل والتجارة بين شواطئ البحر الأحمر كانت مزدهرة قبل مجيء الإسلام حيث لعبت التجارة بين الجزيرة العربية وافريقيا دورا كبيرا في نشر الإسلام في افريقيا وخاصة في المناطق المتاخمة للبحر, وكان تأسيس الدول الإسلامية في افريقيا منذ القرن العاشر لا يشكل خطرا على المملكة المسيحية في الحبشة ومنذ القرن العاشر إلى القرن السادس عشر كانت مراكز الدعوة الإسلامية منتشرة في شرق افريقيا مثلاً في مناطق زائلة Zaila وحرار Harar واريتريا Erirtre.
وكان انتشار الإسلام في افريقيا بطيئا بالرغم من قربها من الجزيرة العربية, وكانت السفن الشراعية العربية تبحر من جنوب الجزيرة ومناطق الخليج إلى افريقيا بالاضافة إلى الهند والصين خلال الاشهر الاربعة من السنة التي يعتدل فيها المناخ وتعود عند تغير اتجاه الريح.(1/40)
وكانت القارة الافريقية معروفة عند الاوربيين من أيام فاسكو دي جاما الذي وصل إلى مدن شرق افريقيا في عام 1498 ورأى مراكز المسلمين التجارية. وقد قلب وصول البرتغاليين ميزان القوى لانهم احتلوا عدة اماكن وسيطروا على الساحل منذ 1530, وقد أدى ذلك بطبيعة الحال الى انهيار السيطرة العربية والنفوذ الفارسي في المنطقة. ولكن في عام 1698 طرد عرب عمان البرتغاليين من الشمال واستولوا على زنجبار وكلوا Kilwa مما أدى الى القضاء على نفوذ البرتغاليين في المنطقة وفي سنة 1840 أنشئت مراكز دائمة للتجارة العربية ولكن نفوذ الدول الاوربية الأخرى وبخاصة بريطانيا بدأ يتسلل الى جنوب الجزيرة العربية والى منطقة الخليج العربي. وفي أثناء سنوات النزاع السياسي والاقتصادي استمر الإسلام بالانتشار على أيدي الدعاة المستقلين والتجار وعن طريق الصلات الاجتماعية كالزواج. وفي القرن التاسع عشر دخل المبشرون المسيحيون افريقيا مع توسع الاستعمار الغربي والمشاريع التجارية, ولم تفعل الحركات الإسلامية شيئا لمنع المبشرين المسيحيين من ممارسة نشاطهم هناك. وبدأ المبشرون يعملون بنشاط منذ عام 1850. وقد ساعدت العوامل الاجتماعية والسياسية كالنمو الاستعماري والتوسع التجاري وانتشار الخدمات الإنسانية مثل الطب على تقدم الحركة التبشيرية المسيحية في المنطقة. وقام المبشرون المسيحيون بزيادة نشاطهم زيادة كبيرة في حين استمر تأثير الدعاة المسلمين(1)في المناطق الساحلية والداخلية من أفريقيا. ونظرا لاستقرار العرب هناك منذ زمن طويل فان التقاليد الاجتماعية العربية كانت مألوفة للسكان ولذا فقد وجد العرب جودا ملائما لمزاولة نشاطهم كما انهم لم يجدوا صعوبة في التكيف مع التقاليد والأعراف الاجتماعية المحلية للأهالي الأفريقيين.
__________
(1) 1 ـ تختلف الدعوة الإسلامية في افريقيا عن التبشير المسيحي كثيرا فقد كانت تعتمد على جهود فردية غير مرتبطة بدولة أو جماعة منظمة معينة.(1/41)
والواقع أن النشاط الإسلامي في أفريقيا ظهر كنتيجة طبيعية للاتصال التجاري والتزاوج بين المسلين وأهالي البلاد، ولهذا فان التعاطف بين الداعية المسلم والمواطن الافريقي أقوى من التعاطف بين الزنوج والاوربيين. ويذكر بارندر Parrinder انه "يوجد اليوم العديد من الإرساليات المسيحية في مناطق إسلامية عديدة في خط الاستواء ولكن عددها اقل في الشمال. وعدد من اعتنقوا المسيحية من المسلمين قليل جدا في شمال أفريقيا لان التحول عن الدين الإسلامي أمر يتنافى مع المجتمع كله والذي يفرض على الفرد أن ينفصل عنه، ولكن التأثير غير المباشر للتعليم والنفوذ الغربي كان كبيرا في المائة سنة الأخيرة وتأثير الإسلام على المسيحية أقل وضوحا.
وهناك تنافس اليوم بين الدعاة المسلمين والمبشرين المسيحيين في أفريقيا وإذا أخذنا في الاعتبار المحاولات التي جرت للحوار بين انصار الديانتين في السنوات الماضية، فان من المناسب أن نتساءل ما إذا كان هذا سيؤثر على التنافس بينهما أم لا ؟ ومن العصب الإجابة على هذا السؤال إلى أن يحقق الحوار تقدما إيجابيا.
وباختصار فإن العمانيين قد لعبوا دروا كبيرا في اقامة اتصال بين أهالي الساحل الشرقي لافريقيا وبين أهالي جنوبي الجزيرة والخليج العربي في تاريخ مبكر. لقد استغل العرب التجارة في نشر الدين الإسلامي حتى وصل إلى جزر الهند الشرقية وقد أدت اتصالاتهم مع القبائل الرحل من الحامبين الذين يعشون على شواطئ البحر الاحمر والقرن الافريقي الشرقي إلى إسلام السكان، ومع ذلك فان تأثيرهم على عالم البانتو Bantu خلال قرون من الاتصالات الساحلية المستمرة لا يكاد يذكر. وكان الإسلام إذن يحاول أن يحصل على موطئ قدم له بين الشعوب الموزعة على الساحل والذين كونوا صلات مع التجار العرب، ولكن تغلغل نفوذهم في اعماق أفريقيا لم يبدأ فعلا الا في هذا القرن.(1/42)
وكان للعمانيين الذين حاولت الإرسالية العربية الامريكية التأثير عليهم وتحويلهم إلى المسيحية دور كبير في نشر الدين الإسلامي في أفريقيا. ومن الواضح الآن أن كلا الديانتين الإسلامية والمسيحية تعملان بنجاح في افريقيا. والسؤال الذي يهمنا في هذا البحث هو: لماذا استطاع التبشير المسيحي النجاح في أفريقيا في حين انه فشل في الخليج العربي؟ والحقيقة أن هناك عدة اختلافات بين المجتمع الافريقي ومجتمع الخليج العربي والذي قد يكون السبب المباشر في التأثير هناك وعدمه هنا في الخليج، أولها: إن المسيحية كانت عميقة الجذور في المجتمع الافريقي منذ بداية عهدها وخاصة في مصر والحبشة.وثانيها: إن المبشرين المسيحيين في أفريقيا كانوا يبشرون عامة بين قبائل من الوثنيين، في حين كانوا يعملون في الخليج بين المسلمين. وثالثا: إن نفوذ الاستعمار الاوربي في أفريقيا كان أقوى منه في الخليج العربي وهذه الحقيقة ساعدت المبشرين على التوسع في تبشيرهم بحرية وبدون عراقيل. ورابعا: إن الارساليات التبشيرية في أفريقيا كانت أقوى من تلك التي عملت في الخليج العربي فارسالية الكنيسة التبشيرية، C.M.S. على سبيل المثال قد قويت بتأثير دعم وحماية السلطات البريطانية. وخامسا: إن استخدام اللغة العربية كان واحدا من أهم الأسباب. إن القرآن قد نزل باللغة العربية، وبما أن اللغة العربية هي اللغة المحلية فلم تكن هناك صعوبة في فهمه. اما فيما يختص بالافريقيين فقد كان الحال يختلف لان فهمهم للاسلام كان ضعيفا ولذا فقد كان من السهل على المبشرين التأثير عليهم. هذه هي الاسباب الرئيسية التي أدت إلى نجاح المسيحية في أفريقيا وعدم نجاحها في الخليج العربي. ومن الجدير بالملاحظة أن الدعاة المسلمين المستقلين قد نجحوا في أفريقيا بسبب وثنية أهلها، كما أن اقامة الصلات الاجتماعية بينهم سهلت عليهم سبل الاتصال.(1/43)
إن الصلات التي تربط بين عمان وشرق أفريقيا مكنت ارسالية الكنيسة التبشيرية الانجليزية من ارسال أول المبشرين إلى مسقط، وهذه الصلاة نفسها هي التي مكنت الإسلام من التغلغل في أفريقيا، والتي كانت فيما عدا ذلك ميدانا مفتوحا للارساليات المسيحية.
وقد أكد الكسندر ماكي Alexander Mackay وهو أحد رواد التبشير في أوغندا مرارا على ضرورة انشاء مراكز للتبشير في مسقط، وقد انطلق هو نفسه إلى تلك المنطقة في شباط (فبراير) 1891 ولكنه لم يتمكن من الاستمرار في عمله بسبب مرضه وقد مات في نفس تلك السنة. تحركت الإرسالية العربية التي سبق أن مارست نشاطها في مناطق أخرى من الخليج إلى مسقط سنة 1893 وبدأت بانشاء ثالث محطة هامة لها في المنطقة.
والواقع أن المبشرين عندما كانوا ينوون اقامة محطة جديدة كانوا يقومون عادة بعدة رحلات إلى المكان الذي يقررون اقامتها فيه كما سنرى فيما بعد. وقد قام القس بيترج. زويمر أحد رواد الإرسالية العربية بزيارة إلى مسقط في كانون اول ديسمبر) سنة 1893 بهدف دراسة امكانية ادخال العمل التبشيري إلى هناك, ويبدو إن نتائج الزيارة كانت مشجعة فقد كتب يقول في أول رسالة له من الميدان الجديد:(1/44)
"منذ بعض الوقت ومسقط تقدم فرصة مفتوحة لنشر الانجيل ومزاولة النشاط التبشيري فيها. إن قدومي إلى هنا كان بهدف التعرف على أساليب العمل المناسب لهذا المكان. والعرب مستعدون للقدوم إلى منزلي لمناقشة الأمور الدينية إذا دعوتهم. وقد ثبت أن بائع الكتب المقدسة "نعوم" قارئ جيد للانجيل. وقد قمت بزيارة معظم القرى الواقعة على الممرات الجبلية, والكتب المقدسة تباع في معظم الاماكن وتقرأ في السوق أو في المقهى".لقد حاول القس بيتر زويمر أن يبين الفرص المفتوحة للعمل أمام الإرسالية العربية في ذلك الميدان الجديد. وقد سبق إن ذكرنا بخصوص البصرة ان المبشرين كانوا يعتبرون أن مجرد بيع عدد من الكتب المقدسة دليل على نجاح عملهم التبشيري. ولكن الواقع ان الناس في ذلك الوقت كانوا على استعداد لقراءة أي شيء يصل إلى أيديهم علماً بأن عدد الذين يستطيعون القراءة واحداً كان محدودا.(1/45)
لم يواجه المبشرون أية مقاومة عندما بدأوا يباشرون في عملهم في مسقط ولكنهم واجهوا العديد من المصاعب عندما بدأوا يمدون نشاطهم إلى مطرح mattrah التي أصبحت محطة فرعية لهم وقد جاءت ردود الفعل من عدة جهات: من المواطنين ومن الحكومة المحلية ومن السلطة البريطانية. وفي السنة الاولى من عملهم في مسقط كانوا يركزون اهتمامهم على تأمين المرافق اللازمة حتى استطاعوا أخيرا شراء قطعة من الارض واقامة الابنية عليها أصبحت هذه نقطة تحول تدل على الاستقرار والاقامة الدائمة في تلك المنطقة. وعندما جاء القس بيتر زويمر إلى تلك الجهات استأجر أحد منازل الاهالي وكان واحداً من أحسن المنازل في مسقط. وكان وضع زويمر أقل خطورة بسبب وجود القنصل الامريكي لانه كان يجد ملجأ له في القنصلية عندما يواجه المتاعب حيث عاملته القنصلية هو ورفاقه على انهم رعايا امريكيون يجب حمايتهم. واستطاع استخدام حمايتها لمتابعة عمله التبشيري وسنعالج هذه النقطة بتوسع اكبر في الفصل الخاص بالتورط السياسي وعلى اية حال استطاع المبشرون شراء منزل, وقدم لهم سلطان مسقط قطعة من الارض لتكون حديقة للمنزل الذي أعادو بناءه, وبناء مقبرة على بعد قريب منه.
وفي ربيع سنة 1908 انتهى بناء مدرسة بيتر زويمر التذكارية وهي بناية مؤلفة من طابق واحد مساحتها 600 قدم مربع وقد تكلف البناء 1,200 دولارا وقد استخدمت الإرسالية جزءا من هذا البناء كمستشفى, وقد اجريت بعض الاصلاحات وادخلت بعض التحسينات على المنزل الذي تستخدمه الإرسالية من قبل. وقد جرى توسيع كنيسة بيتر زويمر التذكارية واصبحت كنيسة لمسقط ومطرح أيضا. وعندما أصبح للمبشرين سكن دائم هناك بدأوا يمارسون نشاطهم بحماسة وثقة كبيرين.
وفي سنة 1909 تملكت الإرسالية العربية فدانين من الارض بغرض المحافظة على الشروط الصحية للمنطقة المحيطة بالمنزل التابع لها.(1/46)
وهناك حقيقة لا بد من ذكرها هنا وهي ان المبشرين قد قاموا بمحاولات كبيرة لشراء الارض في كل من المحطتين الأخيرتين بدلا من استئجار أبنية جاهزة ويتضح السبب لهذا التصرف هو نصيحة القنصل البريطاني للمبشرين الأمريكان عندما قال لهم:
"إنه من الأفضل أن تسجل الارض رسميا باسمكم حتى لا يكون هناك مجال في المستقبل لسحب الامتياز". وجرى العمل في هذه المحطة بنفس الاسلوب الذي اتبع في البحرين لان الموقعين يتمتعان بنفس الاهمية من حيث الموقع والظروف السياسية. وعندما أصبحت مسقط محطة تبشيرية رسمية تحول الاهتمام إلى منطقة جديدة. وفي اطار سياستهم لنشر عملهم التبشيري في جميع انحاء الخليج وجد المبشرون أن الكويت هي المكان المناسب لمحطتهم الجديدة.
افتتاح محطة الكويت للعمل التبشيري :
تقع الكويت في الجانب الشمالي الغربي من رأس الخليج العربي وقد كتب أرنولد ويلسون يقول عن أهميتها:
"إن المزايا الاستراتيجية والتجارية لموقعها, وقربها من مدخل دجلة والفرات, واتصالها الوثيق بمملكة ابن سعود في وسط الجزيرة, وكونها تسمح بالعبور اليها بسهولة كل هذه الامور تجعل موقع الكويت ذو أهمية خاصة".(1/47)
وقد سبق أن قام المبشرون بزيارة للكويت سنة 1900 وزاروها للمرة الثانية في 1903 عندما فتحوا فيها مكتبة للكتاب المقدس, ولكن الشيخ مبارك حاكم الكويت في ذلك الوقت رفض إن يسمح لهم باقامة المكتبة أو أية منشأة تبشيرية أخرى في البلاد وأمرهم أن يغلقوا المكتبة وان بغادروا في الحال. ومن الطبيعي ان يستغرب المبشرون من الشيخ هذا القرار, اذ لم يسبق أن حدث معهم مثل ذلك الاجراء في غيرها من المحطات بعد أن يبدأوا ممارسة نشاطهم فعلا. ولم يتمكنوا طبعا من الدخول في جدل مع الحاكم لاسباب متعددة: أولها: إن المبشرين قد افتتحوا مكتبة الكتاب المقدس بدون اذن رسمي. وثانيها: انهم كانوا في المرحلة الاولى من عملهم التبشيري ولهذا فان أوضاعهم لم تكن قد وصلت درجة من الاستقرار تمكنهم من مواجهة مثل هذه الصعوبة وثالثها: إنه كان من الصعب عليهم المجادلة في مجتمع متمسك بدينه ويستطيع افراده وقياداته الدينية أن يضغطوا على حاكمهم. وكان رد الفعل الأول للمبشرين على هذا الموقف هو ارسال رسالة إلى المعتمد البريطاني في الكويت وممارسة نشاطهم فيها وقد أرسلت هذه الرسالة في السابع عشر من أيلول (سبتمبر) سنة 1904 عن طريق المسؤول عن مكتبة الكتاب المقدس التابعة للإرسالية يطلبون المعونة من أجل التفاهم مع الحاكم في هذا الأمر: ونص الرسالة كما يلي:
"17 أغسطس 1904
حضرة صاحب السعادة الكابتن نوكس Knox اقدم لكم تحياتي واحترامي. وأرغب بأن أعلمكم بأنه قد مضى على وجودنا (أي المبشرين) في الكويت ستة أشهر وبترخيص من الشيخ مبارك. وكنا قد تقدمنا بعرض للمجيء من قبل وكان الشيخ على علم تام بطبيعة عملنا ولكنه أمرني منذ يومين بمغادرة البلاد، وأنا لا أعلم حتى الآن سبب هذا القرار، ونحن بانتظار معونتكم.
مع جزيل شكرنا.
مسؤول مكتبة الكتاب المقدس في الكويت برئاسة السيد صموئيل زويمر في البحرين".(1/48)
والواقع أن المعارضة الرسمية للنشاط التبشيري في الكويت استمرت حتى سنة 1910 عندما طلب الشيخ مبارك أثناء زيارته للبصرة من الدكتور بينيت Binitt أحد قادة الإرسالية العربية المجيء إلى الكويت لمعالجة ابنته. ولدى نجاح الدكتور Binitt في معالجتها طلب منه الشيخ مبارك البقاء في الكويت. وممارسة الطب فيها. فاستشار المبشرون حاكم الكويت بشأن مشروعهم لافتتاح مستشفى في الكويت فوافق الشيخ على الفكرة، ولكن العديد من الرجال البارزين عارضوها لاعتقادهم بأن الخدمات الطبية قد يكون لها تأثير ديني على الناس لأنهم كانوا على علم بما حدث في البحرين فقد بدأ المبشرون نشاطهم هناك بتقديم الخدمات الطبية ثم انتقلوا إلى النشاط الديني. وقد قاوم الشيخ هذه المعارضة لاقتناعه بأن المستشفى سيوفر الفائدة لعائلته ولشعبه، وبخاصة بعد العملية الناجحة التي اجراها الدكتور بينيت على عين ابنته، بالاضافة إلى قناعته بأن المبشرين لن يستطيعوا التأثير على شعبه دينيا.
غادر الدكتور بينيت الكويت إلى البصرة وبعد شهر من مغادرته أرسل الشيخ مبارك يستدعيه لمزاولة الطب في الكويت. وعندما عاد مع عدد قليل من مساعدية منحه الشيخ منزلا كبيرا كان يملكه ابن أخيه تحت تصرفهم وكان المنزل قريبا من قصره، ربما لرغبته بأن يكون نشاط المبشرين تحت مراقبته الشخصية، أو لأنه كان يعتقد بأن قربهم من قصره سيكون نافعاً إذا احتاج إلى معونتهم الطبية لنفسه أو لعائلته.(1/49)
ومنذ ذلك التاريخ استمر العمل التبشيري في الكويت بدون انقطاع وكان قد بدأ بشكل بسيط ومحدود، ولم يلبث أن أخذ بالنمو تدريجيا. والواقع أن تأسيس فرع الإرسالية العربية في الكويت بدأ عندما طلب المبشرون من الحاكم أن يسمح لهم بشراء قطعة من الأرض في غرب مدينة الكويت بثمن معقول ليقيموا عليها الابنية اللازمة لأعضاء الإرسالية على غرار محطتهم في البحرين والتي كانت المحطة الثانية من حيث الاهمية للعمليات التبشيريه في المنطقة بعد محطة البصرة. ومنذ البداية كان من الواضح أن الشيخ مبارك كان يرغب بقبول عروض الدكتور بينيت لاقتناعه بأن هذا الأمر لن يولد أية تعقيدات سياسية في حين أنه سيضمن لنفسه ولأهله عناية طبية حديثة ومستقلة.
وقد تعهد المبشرون للسلطة البريطانية في المنطقة على النحو التالي:
الإرسالية العربية
الكنيسة الاصلاحية في امريكا
تعهد مع الحكومة البريطانية
18 نوفمبر 1910
نحن الموقعين أدناه المديرين للإرسالية العربية في الخليج (الفارسي) لارسالية الكنيسة الاصلاحية الهولندية في الجزيرة العربية اعترافا منا بالوضع الخاص للحكومة البريطانية في الكويت نتعهد هنا انه في حال حصولنا من الشيخ مبارك بموافقة الحكومة البريطانية على قطعة أرض في الكويت سواء عن طريق الشراء أو الايجار لانشاء مركز دائم لارساليتنا لممارسة نشاطنا فاننا سنعمل على تذليل الصعوبات الصغيرة التي قد تنشأ من وقت لآخر بالاتصال بالشيخ مباشرة وفي حال عدم تمكننا من حل خلافاتنا بهذه الطريقة فاننا سنلجأ إلى تحكيم المساعي الطيبة لمثل الحكومة البريطانية فقط، أو حال غيابه إلى المقيم البريطاني في الخليج (الفارسي). وستكون الإرسالية في الكويت مستقلة كلية عن فرع ارساليتنا في البصرة، ولن نسعى تحت اية ظروف على نحو مباشر أو غير مباشر الاتصال بالسلطات التركية أو موظفي القنصليات المفوضين إلى المناطق التركية".
التوقيع ي مورديك E.Moerdyk(1/50)
د. داكسترا D.Dykstra
وبعد توقيع هذا التعهد من رؤساء الإرسالية العربية في البحرين أصبح من الممكن للمبشرين أن يستمروا في برنامجهم في الكويت محطتهم الجديدة، وحصلوا على موافقة الشيخ لشراء قطعة أرض لاقامة متشفى وغيرها من الأبنية اللازمة في مدينة الكويت. وفي سنة 1913 وضع الحجر الاساسي مستشفى الرجال وبعد عام أصبح المستشفى جاهزا للعمل، وكان الدكتور بينيت قبل ذلك هو والدكتور هاريسون والدكتور ملري يقدمون الخدمات للأهالي في منزل أحد المواطنين. وهكذا فقد كان هذا المشروع خطوة إلى الأمام في تطور الخدمات الإنسانية للإرسالية في تلك المنطقة.
وقد توقفت هذه الخدمات خلال الحرب العالمية الأولى وعادت إلى ما كانت عليه بعد انتهاء الحرب. ثم ركزت الهيئة العاملة هناك على مستشفى السيدات، والذي افتتح في سنة 1920 تحت اسم مستشفى كيت او لكوت التذكاري Kate V. S. Olcott Memorial Hospital وقد سمي باسم واحدة من اصدقاء الإرسالية المخلصين.(1/51)
وكان أهم ما يميز عمل المبشرين هناك هو تصميمهم على العمل والاستمرار فيه رغم جميع المتاعب التي واجهتهم وبغض النظر عما إذا كان عملهم سيحقق شيئا ذا قيمة أم لا فقد كانوا دوما يتطلعون إلى الأمام بتفاؤل. وقد واجهوا صعوبات في الكويت منذ بداية عملهم من حاكمها أولا ثم من رجال الدين فيها وكانوا يتوقفون عن عملهم التبشيري عندما يواجهون موجة من المعارضة ويركزون على الخدمات الصحية ولكنهم يعودون إلى نشاطهم التبشيري عندما تخف حدة هذه المعارضة. وكانت لديهم المقدرة على تكييف أنفسهم مع جميع الظروف المحيطة بهم، وهذا يفسر قدرتهم على الاستمرار كل هذه الفترة الطويلة رغم عدم نجاح عملهم دينيا بالشكل الذي كانوا يريدونه أو يأملون منه. وفي عام 1967 قررت الإرسالية أن تتخلى عن عملها في الكويت بسبب التطور المحلي في المنطقة وبسب الخلاف بين أعضاء الإرسالية وخاصة بين الدكتور سكدر R. Scudder والدكتور فل Fell في عام 1964إلى 1965 وكان لكل منهما رأي مختلف في طريقة التعامل مع الاهالي.
لكن يبدو أن السبب الحقيقي هو شعور الإرسالية العربية بعدم جدوى العمل في هذه المنطقة من الناحية التبشيرية.
المحطات الفرعية:
أ ـ العمارة والناصرية:
كان المبشرون يولون المحطات الفرعية اهتماما خاصا ويعتبرونها المحطات الرئيسية للمستقبل وفي نهاية عام 1895 بدأ العمل في محطة فرعية في العمارة على نهر دجلة وفي محطة أخرى حصلوا عليها في الناصرية على نهر الفرات وفي عام 1897 افتتحوا مكتبة للكتاب المقدس في كل منهما وكلاهما كانا في جنوب العراق وكانت نشاطاتهم في العمارة في أول الأمر محدودة، وفي 1914 أصبحت فرعا لمحطة البصرة وفي الوقت نفسه كانوا قد أقاموا مستشفى في البصرة واصبح المرضى من العمارة يأتونه اليه للعلاج وبخاصة عند افتتاح مستشفى لانسنج التذكاري هناك في 1911 أولا برئاسة الدكتور وورل Worrall ثم الدكتور Arthur Binitt .(1/52)
واستمر العمل التبشيري في النمو في هذه المحطات الفرعية إلى بداية الحرب العالمية الأولى عندما توقف العمل فيها بسبب العمليات الحربية التي عطلت النشاط التبشيري لبعض الوقت، لكن العمل عاد إلى طبيعته بعد الحرب عندما أعيد افتتاح هاتين المحطتين الفرعيتين في عام 1920 وكان العمل آنذاك تحت رعاية القس بيلكر Bilker وزوجته وبعدها تحت رعاية السيد والسيدة دايكسترا Dykstra لكن العمل بدأ في التدهور تدريجيا في الناصرية وتوقف تماما مع نهاية الحرب العالمية الثانية. والتفسيرالوحيد لذلك هو أن الإرسالية بدأت بالتركيز على منطقة الخليج العربي هدفها الرئيسي، وكقاعدة تنطلق منها إلى بقية أجزاء شبه الجزيرة العربية، يضاف إلى ذلك أن الاوضاع السياسية في العراق لم تكن تساعد على خلق مناخ ملائم لنشاطهم، ومع ذلك فان عملهم في البصرة بقي مستمرا. ومن الجدير بالملاحظة أن الحركة الوطنية قد نمت هناك منذ انتهاء الحرب العالمية الاولي، حيث قامت عدة انتفاضات ضد الوجود الاستعماري الغربي واصبحت الدعوة للتحرر من النفوذ الغربي هو الامر الذي يشغل أفكار المواطنين. واستمر العمل التبشيري في العمارة حتى عام 1959 عندما اعتبرت هذه المحطة مغلقة لان الإرسالية أجبرت على مغادرة المنطقة بعد ثورة 1958.
ب ـ افتتاح محطة مطرح الفرعية:(1/53)
اصبحت مطرح وهي ميناء بحري قريب من مسقط محطة تابعة لمسقط عندما بدأ المبشرون بتقديم خدماتهم الطبية هناك سنة 1914 وافتتحوا مستشفى وعيادة للنساء في السنوات التالية. ولم يكن هدف الإرسالية عندما بدأت نشاطها في تلك المنطقة محصورا في المنطقة ذاتها فقد كان في نيتها الوصول إلى المناطق الداخلية في عمان وشبه الجزيرة العربية. وكانت مطرح صالحة جدا للقيام بهذا الدور لكونها واقعة على الطريق المؤدية إلى تلك الجهات. وكانت الإرسالية تخطط للعمل بين سكان المناطق الداخلية مستخدمة مطرح قاعدة لها. ولكن الإرسالية أصيبت بالصدمة لرفض حاكم مسقط بالسماح للإرسالية بالعمل في تلك الانحاء، ونتيجة لذلك وجدت الإرسالية نفسها في موقف حرج، والذي كان تهديدا في الواقع لجميع أعمال الإرسالية التبشيرية في عمان. ولكن تدخل الحكومة الأمريكية عن طريق قنصليتها في مسقط وضع حدا لهذا النزاع وانتهى بالسماح للإرسالية بالبقاء ومزاولة نشاطها. وسنأتي على ذكر التفاصيل المتعلقة بهذا النزاع في الفصل الخاص بالنشاط السياسي وقد أدى هذا الموقف إلى التزام الإرسالية جانب الحذر في أنشطتها والتركيز على تقديم الخدمات الطبية فقط.
وبعد فترة طويلة من العمل في تلك المنطقة قامت الإرسالية ببناء مستشفى جديد في سنة 1934 وقد بنى مسكن الطبيب في نفس الوقت وافتتح مستشفى شارون تومس للامراض المعدية في عام 1948 وأضيف اليه مبنى آخر لعلاج المصابين بالجذام.
وبعد انتهاء جميع الجهود الأولية للإرسالية لفتح منطقة الخليج أمام التبشير وبناء محطاتها الرئيسية والفرعية، بدأ المبشرون عملهم على نحو جاد وفعال ابتداء من العقد الثاني من بدء عملياتهم في هذه المنطقة، أي منذ بداية هذا القرن.
جـ ـ محاولة فتح قطر:(1/54)
وكانت قطر واحدة من المناطق التي استأثرت باهتمام الإرسالية وتقع قطر على ساحل الخليج العربي غير بعيدة عن البحرين. ومن الناحية الطبيعية تعتبر امتداداً لصحراء شبه الجزيرة في الخليج. وقد قام مبشرو الإرسالية العربية بزيارة المنطقة عدة مرات قبل أن يحصلوا على اذن بالسماح لهم بمزاولة العمل هناك. وهم القس جيريت بنينجز Gerrit Pen nings والدكاترة هاريسون وديم وتومس والانسة كورنيلياد النبرج Harri- son Cornelia Delenberg
Dame, Storm, Thoms and Miss في عام 1945 ذهب القس ج فان بيرسم G. Van Peursem والدكتور و. هـ . ستورم W.H.Storm في رحلة طبية تبشيرية إلى قطر. وقد طلب منهم القيام بفحص ضغط دم الحاكم في قصره وفي خلال تلك الزيارة طلب الشيخ منهم أن يأتوا إلى بلده لافتتاح مستشفى وبعض العيادات الطبية في مشيخته ووعدهم بأنه سيبنى لهم مستشفى ووجدوا في هذا الأمر فرصة جيدة لافتتاح فرع لهم في تلك المنطقة لتكون محطة فرعية تابعة لمحطتهم في البحرين. وطلب منهم الشيخ وضع تصميم للمستشفى ووعد أن يبدأ العمل فيه بالحال، وعند الانتهاء من البناء سيعهد به اليهم لادارته.(1/55)
وفي خريف عام 1947 اصبح المستشفى جاهزا للعمل. وجاء الدكتور ستورم وزوجته مع عدد من أعضاء الهيئة الطبية التي تعمل في مستشفى ماسون التذكاري في البحرين إلى قطر في العشرين من شهر تشرين ثاني (نوفمبر) لتجهيز المستشفى واعداده للعمل. ولكن الخدمة الطبية في هذه المنطقة لم يكتب لها أن تستمر طويلا ففي عام 1952 اضطرت الإرسالية إلى التوقف عن العمل في قطر بسبب الصعوبات المتعلقة بتأمين الهيئة الطبية، حيث تم ارجاع المستشفى إلى الحكومة القطرية. وهذا هو نفس ما حصل عندما حاولت الإرسالية افتتاح فرع لها في الزبير في جنوب العراق، فسرعان ما تخلت عن عملها هناك للسبب نفسه وهو النقص في اعضاء الهيئة الطبية. وعلى أية حال فان الرحلات إلى قطر لم تنقطع وبقي هناك بعض النشاط الطبي والتبشيري ولكن هذا النشاط لم يؤد إلى فتح هذه المناطق امام التبشير أو اقامة محطات رئيسية أو فرعية هناك.
علاقة الإرسالية بغيرها من الارساليات العاملة في المنطقة:
كانت الإرسالية العربية الأمريكية هي أكبر المؤسسات المسيحية العاملة في المنطقة ولكنها لم تكن الوحيدة اذ كان هناك اربع ارساليات أخرى تعمل. وكان للإرسالية العربية نوع من العلاقات مع كل من هذه الارساليات.(1/56)
وأول هذه الارساليات كان إرسالية كيث فولكنر Keath Falconer في عدن والتي كانت قائمة قبل أن تبدأ الإرسالية العربية نشاطاتها في منطقة الخليج بعدة سنوات. وقد حصلت الإرسالية العربية على معونة كبيرة من هذه الارساليات. والارسالية الثانية هي الإرسالية المتحدة في العراق والتي قدمت للإرسالية العربية أيضا معونة قيمة في سنواتها الاولى في العراق وفي سنواتها الأخيرة أيضاً عندما سلمت الإرسالية العربية أعمالها إليها بعد أن اضطرت لمغادرة المنطقة بعد ثورة 1958. وقبل الانتقال من هذا الموضوع لا بد أن نتحدث عن نشاط الارساليات في العراق منذ انهيار الكنيسة النسطورية في الشرق في القرن الخامس عشر أصبح السكان المسيحيون في العراق في ثلاثة مراكز: الموصل في الشمال وبغداد في الوسط والبصرة في الجنوب، وبعض هؤلاء المسيحيين من النسطوريين الاصليين والبعض الآخر من المبشرين الاوربيين الذين جاءوا إلى العراق فيما بعد، وبشكل رئيسي من جمعية الكنيسة التبشيرية C.M.S.(1)وقد اصبحوا جميعا تحت النفوذ البريطاني بعد الحرب العالمية الاولى اذ إن جميع البلاد أصبحت تخضع للحكم البريطاني.
__________
(1) 1ـ بدأت هذه الإرسالية عملياتها في مالطة في عام 1815 ثم نقلتها إلى بيروت وغيرها من الأماكن في شرقي البحر الأبيض المتوسط فيما بعد.(1/57)
وكانت الجماعة النسطورية في العراق قائمة على النظام القبلي تحت قيادة رئيس المنطقة وكان جميع الزعماء يدينون له بالولاء في الشؤون الدينية والمدنية، اما في المناطق الكردية في شمال البلاد فان النسطوريين كانوا يخضعون للزعيم التركي (الأمير) وعندما بدأت الصراعات السياسية في العراق بعد الحرب العالمية الاولى هرب النسطوريين ونفي البطريرك النسطوري من العراق في عام 1939. وبالرغم مما حدث للنسطوريين ولوجود النفوذ الغربي فقد بدأ النشاط التبشيري هناك والذي أدى إلى ازدياد عدد المسيحيين. ومن أهم الارساليات التي عملت هناك واكثرها نفوذا هي جميعة الكنيسة التبشيرية C.M.S. وقد بدأت هذه الإرسالية عملياتها عند تثبيت الحكم البريطاني لنفوذه العسكري والسياسي في المنطقة. ولم يكن هذا هو الحال في العراق فقط بل في كثير من المناطق في الشرق الواقعة تحت النفوذ البريطاني نذكر منها عدن على سبيل المثال وكانت الإرسالية تلعب دورا سياسيا في المنطقة بسبب العلاقات التي تربطها بالسلطات البريطانية بالاضافة إلى عملها التبشيري.
جاء المبشرون الأمريكيون إلى المنطقة في نهاية القرن التاسع عشر وكانوا يرجون أن تدعم الكنيسة النسطورية جهودهم التبشيرية. وقد قامت جمعية الكنيسة التبشيرية بتقديم العون لهم في عملهم لأن الارساليتين كانتا مؤسستين بروتستانتيتين، وقد حدث هذا في العراق وفي عدن حيث بدأوا التعاون بمساعدة الأميركيين بدراسة اللغة العربية وطباعة منشوراتهم.
ويقول عبد اللطيف الطيباوي بهذا الخصوص:(1/58)
"نظرا إلى أن المطبعة الأمريكية لم تكن قد بدأت الطباعة باللغة العربية فقد عين فاريس Faris في مطبعة جمعية الكنيسة التبشيرية كمعاون عام في القسم العربي، وقد ذكر بالتحديد أنه قد انتج لجمعية الكنيسة التبشيرية تفسيرا للأمثال وربما يكون قد ساعد سمث Smith وغيره من أعضاء جمعية الكنيسة التبشيرية وبخاصة الاعضاء البارزين مثل الاسقف فرنش French والجنرال هيج Haig الطريق أمام الإرسالية العربية للعمل في منطقة الخليج العربي.
وآخر هذه الارساليات هي الإرسالية الانجيلية المتحدة والتي يقودها الدكتور كنيدي Kenneyh في واحة البريمي في أبو ظبي والتي كان بينها وبين الإرسالية الأميركية ارتباط تاريخي مع أن الروابط لم تكن منتظمة عبرالسنين، وكانت لجنتها أعضاء في الإرسالية العربية وقد انفصلت عنها لأن لها رأيها الخاص في التبشير بين العرب وقد لخص القس لويس سكدر الابن رأيها فيما يلي:
"إن العمل التبشيري يجب أن يتوجه بشكل مباشر للتأثير على الناس من خلال جميع مؤسسات الإرسالية وقد كانوا يعتقدون على سبيل المثال أن المريض لا يجب أن يترك المستشفى دون التأثير على عقيدته الدينية".
ويبدو أن هذه الإرسالية لم تستطع تحقيق اية نتيجة ايجابية باتباعها هذه السياسة، وقد قابل مؤلف هذا البحث القس يونخ Rev. Young وهو أحد أعضاء ارسالية التبشير الانجيلي المتحدة ولم يلاحظ من مناقشة معه أن هذا هو سبب الانفصال بين ارساليته وبين الإرسالية العربية، ويبدو أن هناك أسباب أخرى لا تزال مجهولة حتى الآن. والارسالية الرابعة هي "الكنيسة المشيخية" وكانت هذه الإرسالية تعمل في الشرق في لبنان وفارس قبل الإرسالية العربية ولها صلات جيدة مع الإرسالية العربية.
نهاية الإرسالية العربية:(1/59)
بعد خمس وثمانين سنة من النشاط المتواصل للإرسالية العربية في الخليج العربي اتخذ مؤتمر الكنيسة الاصلاحية المنعقد في شهر آذار (مارس) في سنة 1973 قرارا بوضع حد لعمل الارسالية العربية الأمريكية والمؤسسات التابعة لها. ومنذ ذلك التاريخ والارسالية مغلقة رسميا وصارت كل واحدة من مؤسساتها تدار محليا، وأصبحت علاقتها بالكنسية الاصلاحية مجرد علاقة أدبية، ولم تعد الكنسية الام مسؤولة رسميا عن تمويلها وقد أحزن هذا القرار المبشرين العاملين في الميدان، ولكن يبدو انه اتخذ لقناعة الكنسية الأم بعدم جدوى الاستمرار بالعمل في هذه المنطقة، ولم تذكر الكنيسة الاصلاحية علنا السبب الذي دعاها لاتخاذ هذا القرار، ونعتقد أن الاسباب المحتملة هي الآتية:
أ ـ شعور الكنيسة الاصلاحية بان تقديم الخدمات الطبية والتعليمية ليس من واجبها وأن واجبها هو القيام بمهمتها الدينية الأساسية عن طريق مساعدة الكنائس المحلية في نشاطها الديني.
ب ـ لم يحقق استخدام تلك الأساليب في العمل التبشيري في المنطقة الأهداف المرجوة خلال هذه المدة الطويلة من عمل الإرسالية في نظرهم.
ج ـ التطور السريع الذي حدث في المنطقة في العشرين سنة الأخيرة جعل من العسير على مؤسسات الارسالية أن تنافس مستشفيات الحكومات المحلية ومدارسها، وبما أن هذه الخدمات قد توفرت هناك فلم يعد هناك مبرر للبقاء مدة أطول.
وبعد هذا التطور الخطير في سياسة الكنيسة الأم تحول أعضاء الهيئات العاملة في الإرسالية إلى مؤسسات الحكومة في الكويت ثم في مسقط. أما الحال في البحرين فقد كان مختلفا ولا تزال مؤسسات الإرسالية تعمل والعلاقة بينها وبين الكنيسة الأم أوثق مما هي عليه في المناطق الأخرى.
وهذه هي قصة الإرسالية العربية منذ مولدها ووصولها إلى ميدان العمل وافتتاح المحطات الرئيسية والفرعية والصعوبات التي لاقتها. وقد أصبح من الممكن الآن مناقشة نشاطها مبتدئين بالخدمات الطبية.(1/60)
في الحقيقة عند افتتاح المحطة الرئيسية أو الفرعية، كانت الخدمات الطبية أهم جزء في عمل الإرسالية، لأن هذا النوع من النشاط في هذه المنطقة وبين هؤلاء الناس في ذلك الوقت هو المجال الوحيد الذي يبرر العمل التبشيري، والسبب الوحيد الذي يسمح لهم بالبقاء والعمل والاستمرار. وستكون الخدمات الطبية هي موضوع الفصل التالي.
الفصل الثالث
الخدمة الطبية كوسيلة للتبشير
أهميتها:
كانت الخدمة الطبية كوسيلة للتبشير تحظى دوما بالاولوية في مهمات المبشرين، وقد لعبت دوما الدور الاكبر بين أنشطة الإرسالية الاجتماعية ـ وكان تقديم مثل هذه الخدمة جزء من الخلق المسيحي الذي يدعو لمساعدة الناس وشفائهم. وقد قال الدكتور/ بننجز Pennings في معرض اجابته على سؤال للباحث عن السبب الذي يدعو الإرسالية لاختيار هذه الوسيلة طريقا للتبشير.
"ومن السهل معرفة السبب بأن المسيح كان معلما ومداويا، وفي الواقع كان طبيبا، إن ما نفعله هو تأثر خطاه".
إن المداواة في المسيحية نشاط ديني عميق الجذور تبدأ مع بداية معجزات السيد المسيح الذي شفى المرضى. لكن في الحقيقة أن المسيح لم يكن طبيباً أو مداويا بالمعنى الذي نألفه في المستشفيات. فهو لم يستخدم أي نوع من الدواء لشفاء الناس. إن ما فعله المسيح في هذا الميدان هو القيام بالمعجزات.(1/61)
إن الاولوية التي حظي بها هذا المدخل والاسلوب تعتمد على اشباع حاجات الاهالي الملحة إلى العلاج الطبي. ولم يكن مجتمع الخليج في ذلك الحين ينعم بالرعاية الطبية الحديثة والعلاج الوحيد المتوفر في تلك الايام هو العلاج أو الطب الشعبي، أضف إلى ذلك أن العلاج الطبي هو أكثر الوسائل قربا إلى النفوس، فقد كان مدخلا وأسلوبا انسانيا يحظى بتقدير الشعب العربي ويقف حائلا امام ردود الفعل السلبية سواء كانت دوافعها دينية أم سياسية، لذلك فقد كان افضل طريق لخلق جو اجتماعي ودي مع الناس. وقد ذكر هـ. ستورم H.Storm احد قادة الإرسالية بقوله: "لقد ثبت أن العمل الطبي هو مفتاح القلوب المغلقة ووسيلة لتوثيق عرى الصداقة واداة لتحطيم المعارضة".
لقد كان المبشرون يؤكدون على هذا المدخل كوسيلة رئيسية للتبشير، واسلوب لكسب قلوب الاهالي وخلق جمهور متعاطف معهم، والأهم من ذلك كله تهيئة الفرصة للتبشير بالانجيل وقد ذهب صموئيل زويمر إلى القول "إن جميع العاملين في ميدان التبشير في الجزيرة العربية متفقون على أن الطبيب القدير والجراح الماهر يحمل جوازا يفتح الأبواب المقفلة، ويغزو القلوب مهما كانت عنيدة. إن المستشفيات في الجزيرة العربية هي مكان تلتقي فيه الرحمة بالخلق ويتعانق فيه الصلاح والسلام"
إن للمدخل الطبي مزايا عدة اهمها الاثر النفسي الذي يتركه في المجتمع وبالاضافة إلى حاجة اهالي البلاد الماسة اليه فقد كانوا أيضاً ينظرون إلى الطبيب القدير نظرتهم إلى انسان متفوق يستخدم احدث الوسائل الطبية التي كانت ارقى بكثير من الوسائل التي يملكها المعالجون المحليون. لذا فقد كان الاهالي يرغبون دائما الالتصاق به وطلب النصح والمشورة منه. ومن يكون على اية حال احق بالثقة من مداو قدير؟ كما ان المدخل الطبي يجد قبولا لدى العربي الذي يحمل اعجابا كبيرا بالخدمة الطبية وقد أكد أحد الرحالة وهو وندل فيلبس Phillips Wendell على ذلك بقوله:(1/62)
"في الواقع أن لدى العرب شغف كبير بالطب والعلاج الطبي".
وهذا الشغف نفسه هو الذي جعل العرب يساهمون في تقدم الطب في الماضي عن طريق الاطباء العرب المشاهير من أمثال ابن سينا والرازي.
ولكن الاغراق في استخدام الخدمات الطبية كمدخل للتبشير على أية حال لم يحظ دوما بالتشجيع من القيادات التبشيرية، وقد نقده البعض على انه مغامرة باهظة الكلفة يمكن أن تؤدي إلى انحراف كبير عن اهداف التبشير الاساسية، وهي التبشير بالانجيل ونشر الايمان المسيحي. ويرى البعض أن الاغراق في الخدمات الطبية يؤدي إلى تورط كبير في ادارة المستشفيات والعيادات المحلية ويتطلب مجهودات جبارة، وهذه المجهودات تستغرق وقتا وتستنزف طاقة مما يعني الحد من مجهودات المبشر الرامية إلى التبشير بالانجيل. وقد بلغ الأمر بالدكتور بول هارسون P.Harrison وهو احد كبار رجال الإرسالية سموئيل زويمر S.Zwemer أن ذكر: "إن المبشر لا يكتفي بتطوير المستشفيات حتى ولو غطت خدمات جميع اطراف الاقليم؛ إن الهدف من وجودنا في الجزيرة العربية هو أن نجعل من الرجال والنساء مسيحيين"
وهذا الخلاف يبين أحد المفاهيم التبشرية الاساسية وهو أن الانخراط في الخدمات الطبية لا يجب أن يكون غاية في حد ذاته بل وسيلة لغاية أسمى.
وقد أكد القس جيرت د فان برسيوم Gerrit D.Van Peraeum على ذلك: "إن المبشر الطبيب لا يجب ولا يمكن أن يتخلى عن العمل التبشيري النشيط فالطب ليس هو غاية الطبيب في حقل العمل التبشيري... بل يجب أن يتضمن العمل التبشيري بالاضافة إلى غيره من أعمال."(1/63)
وهذا الخلاف يشير أيضاً إلى الخوف الذي يساور بعض كبار قادة التبشير من أن الاغراق في النشاط الطبي قد يؤدي إلى موقف تتحول فيه الوسائل إلى غايات وتفقد بذلك الغرض الاساسي منها كوسائل إلى غاية رئيسية وهي التبشير بالانجيل وقد عبر الدكتور/ برسيوم عن ذلك بالقول: "أرجو أن لا يعتقد أحد بأنني أقلل من شأن الجوانب الاخرى لنشاطنا عندما أقول إنها ليست غايات في ذاتها ولكنها وسائل نبيلة وتستحق الاعجاب لتحقيق غاية لقد كان الرب يتنقل فعل الخير ولكنه نادرا ما كان يبرئ المرضى أو يحيي الموتى الا عندما يعود ذلك بالنفع على الجانب الروحي"
ومن هنا يتبين أن التوازن بين الوسيلة والغاية هو نقطة الخلاف وهذا الخلاف يبين بوضوح أن الخدمة الطبية كانت دوما وسيلة تبشيرية وليست خدمة طبية مجردة. ومهما يكن فان الفكرة التي تقول بأن الخدمة الطبية يجب أن لا تتجاوز الحد الضروري لتكون وسيلة وليست غاية هي ايضا موضوع للخلاف، وقد رفض القس لويس سكدر الابن الموقف الذي تنادي به بعض الهيئات التبشيرية والذي يقول بأن المستشفيات والمدارس يجب أن تستخدم كشراك لايقاع المسلمين وتحويلهم إلى مسيحيين. وفي رأي القس سكدر أن على هذه العناصر الاعتراف بالفشل لأن دعواهم لا يمكن أن تقبل في أي محكمة دينية، وفي مقابلة له مع الكاتب دافع عن موقف الإرسالية نحو الخدمة الطبية بقوله إنها كانت تعتبر خدمة انسانية أكثر منها مدخلا تبشيريا.
وحول ضرورة التوازن بين الهدف التبشيري والنشاط الطبي قالت دورثي فان إيس D.Van Ess " الاغراء بتبني خط أكثر فاعلية واوسع انتشارا من الامور التي تدرس بعناية لتحقيق التوازن مع التأكيد على التبشير بقوله: (لا بد أن السيد المسيح قد ترك بعض المرضى بدون شفاء ليقوم بعمل ما يعتقد أنه أهم وترك هؤلاء ليقوم اتباعه بمهمة علاجهم).(1/64)
إن العمل في المستشفيات مكرس لجعل من يأتيها من المرضى المسلمين يحسون بوجود حقيقي للسيد المسيح. إنهم يأتون للتحرر من الآلام الجسدية أو العجز ولكنهم يجب أن يسمعوا عن المسيح الشافي الذي لا يشفي فقط من الام الجسد بل من عذاب الروح أيضاً. اننا لسنا هنا لنجعل من الإرسالية مؤسسة محترمة ومفيدة في خدماتها الاجتماعية فقط ولكن لنقيم كنيسة السيد المسيح في الجزيرة العربية حتى ولو عن طريق الخدمة الطبية."
ويعتقد المبشرون بأن المستشفيات لا تنفصل عن الكنيسة وليست أهم مها بل يجب أن تكون امتدادا لها والمبشرون البروتستانتيون سعوا لاستخدام الوسائل الطبية لكسب غير المسيحيين والنقطة الاساسية في الجدال هي أن اطباء الإرسالية يعتقدون بأنهم يؤدون واجبهم الديني عن طريق الخدمات الطبية، لأن هذا النوع من النشاط هو جزء من الخلق المسيحي واقتداء بسنة المسيح كشاف للامراض، ويعتقد ف. بارني F.Barny بأن المدخل الطبي في شبه الجزيرة العربية كان هو العمل الوحيد الممكن للوصول إلى الناس والتأثيرعليهم.
ويذكر الدكتور/ س. ت تومس S.T. Thoms بأن طموحهم كان بالاضافة إلى شفاء اجساد المرضى العرب اعطائهم شيئا أفضل لحاجاتهم الروحية وقد عبر الدكتور/ هارسون عن ذلك بقوله "اننا نأمل أن يكون المستشفى المزدحم والقذر والسعيد وسيلة افضل لنشر الانجيل من مستشفى نظيف وخال من الناس"
والدكتور/ هارسون يتفق مع الدكتور/ تومس من أن المستشفى يجب أن يكون مكانا للتبشير بالانجيل والشيء والذي كان يقلق المبشرين هو أن بعض أطباء الإرسالية كانوا يعطون العلاج الطبي أهمية أكبر والذي من شأنه أن يؤدي إلى صراع بين الكنيسة والمستشفى وهذا حتما سيؤثر على العمل التبشيري بأكمله.(1/65)
وقد تحول هذا الجدل إلى حقيقة على يدي أحد اطباء الإرسالية في النسة الاولى من بدء نشاطهم في البصرة. ويمكن اعتبار عام 1892 بداية النشاط الطبي الحديث على يد الإرسالية في البصرة ولكن هذه البداية كانت مخيبة للامام والسبب ليس من رد فعل المواطنين بل من أول طبيب للإرسالية يبدأ العمل في هذه المنطقة وهو الدكتور/ ريجز Dr. Riggs الذي ارسله مجلس أمناء الإرسالية في الولايات المتحدة في كانون الثاني 1892 إلى البصرة.
لقد وصف هذا الطبيب من قبل صموئيل زويمر بأنه يحمل شهادات تثبت كفائته كطبيب وأنه كان عضوا في الكنيسة التبشيرية. وبعد وصوله بفترة قصيرة أنهت الإرسالية خدمته وعاد إلى أمريكا، ولم يكن هناك أية علاقة بين فصله من العمل ومسلكه كطبيب فقد كان على درجة عالية من الكفاءة ولكن الفصل كان بسبب موقفه الديني وبخاصة عدم ايمانه بألوهية المسيح، ومن الطبيعي أن يؤدي ذلك اعادته إلى البلاد (بلاده) وقد عرض ماسون وبارني Mason And Barny للمشكلة على النحو التالي:
"لقد ظهر أن أراءه المذهبية حول بعض الموضوعات الرئيسية مثل ألوهية المسيح وغيرها من أمور الايمان لم تكن تتفق مع أراء المسيحيين الانجيليين، كما أنه لم يكن على وفاق مع زملائه في العمل بخصوص أمور أخرى.
أما صموئيل زويمر المنظر والقائد الاساسي للإرسالية فقد عرض إلى الشك في عقيدته الدينية بشيء من التحديد حيث قال: "وبعد وصوله (Dr, riggs) إلى ميدان العمل بقليل أعلن عدم ايمانه بألوهية المسيح"(1/66)
ولسوء الحظ فاننا لا نعرف الكثير عن خلفية الدكتور/ ريجز Dr. Riggs اذ لم يقم أحد بتحري ماضية في العمل أو معتقداته أو شخصيته. وما من شك أنه كان مصدرا لخيبة أمل الإرسالية لأن الكتاب الثلاثة الذين أتوا على ذكره وهم ـ زويمر ـ وماسون ـ وبارني لم يذكروا عنه سوى القليل، ويرجع ذلك إلى شعور الإرسالية بالضيق لسوء اختيارها، وعدم رغبتها بتشجيع غيره من الاطباء على تبني مثل هذا السلوك، وكانوا يرغبون في اغلاق هذا الفصل المؤسف من تاريخ الإرسالية. فالكتاب الثلاثة يعبرون عن اعجابهم الشخصي به ويذكرون الشهادات والكفاءة كطبيب وكرجل ذو صفات جذابة وشخصية فوق مستوى الشبهات ومهارة طبية عالية وفوق هذا كله ايمانه برسالته التبشيرية.
بالاضافة على ذلك فان التقرير الوحيد الذي كتبه الدكتور ريجز يشهد على مقدرته وعلمه وروحه التعاونية، كما أن التقرير يشير أيضاً إلى شعبيته، فقد بلغ عدد مرضاه 980 مريضاً خلال المدة التي قضاها في العمل وهي ستة أشهر فقط لم يحدث بينهم سوى ثلاث حالات وفاة.
وقد أدى به حبه للاستطلاع أن يحاول التعرف على دين المرضى الذي كان يفترض أن يعمل على تنصيرهم. وقد حصل كاتب هذا البحث على تقرير كتبه مجلس الإرسالية في الولايات المتحدة يذكر فيه بأنهم قد تسلموا رسالة من الدكتور ريجز يذكر فيها بأنه ينوي أن يتخلى عن نشاطه التبشيري لأنه لا يؤمن بالوهية المسيح وان المجلس قد عين ثلاثة من الرؤساء من بينهم الدكتور لانسنج لمعالجة الموضوع والتحقيق فيه.
الأوضاع الصحية في المنطقة أثناء بدء الإرسالية لنشاطاتها:(1/67)
كانت الأوضاع الصحية في المنطقة تدعو إلى اليأس وكان الجدري والحصبة والسعال الديكي والتراخوما والسل والأمراض المعوية والتناسيلة والملاريا من الأمراض الشائعة. ولعل الموقع الجغرافي من العوامل الهامة ـ فالملاريا كانت شائعة في البصرة والبحرين وعمان بسبب وجود البعوض الذي كان يكثر في المستنقعات. أما الكوليرا والطاعون فكانا نادرين ومع ذلك فقد كانا ينتشران أحيانا ويقضيان على أعداد كبيرة من السكان. وقد كانت بعض الأمراض تدخل المنطقة من الهند وشرق أفريقيا نظرا للعلاقة التجارية معهما.
أما العمى وتشوهات الجسم كانت شائعة بسبب مرض الجدري والذي كان يقتل كثيرا من الاطفال أحيانا. وقد كانت حالات مرض السل تظهر في المناطق الساحلية. أما مرض الحارش فقد كان معروفا في المناطق الداخلية، لكن السرطان والنوبات القلبية فلم تكن معروفة. ربما نوع الغذاء والراحة النفسية لعبا دورا كبيرا في منعها.
أما الانفلوانزا فكانت شائعة في أشهر الشتاء كذلك أمراض الحصى في الكليتين كانت منتشرة أيضاً، وبالاضافة إلى هذه الأمراض الرئيسية كان هناك أخطار الوضع والولادة والأمراض الناشئة عن سوء الشروط الصحية والتي كانت تعلب دورا كبيرا في نسبة الوفاة الغالبية بين الاطفال وكان العلاج الطبي المعروف في الخليج العربي في ذلك الوقت عندما بدأت الإرسالية الأمريكية العربية عملها يعتمد على ما يعرف بين الأهالي "بالطب الشعبي" وأحيانا بالطب العربي
وهذا النوع من العلاج هو مزيج من الطب الجسدي والنفسي.(1/68)
أما العلاج الجسدي فكان يعتمد على مزيج من الأدوية تؤخذ من الأعشاب الصحراوية. وعندما كان أحد افراد هذا المجتمع يصاب بالمرض لم يكن يلجأ إلى الراحة والعلاج منذ بداية المرض بل كان يستمر في عمله كالمعتاد إلى أن يصبح عاجزا عن العمل تماماً ـ وهكذا يصبح المرض في حالة متقدمة ربما تكون عائلة المريض سببا في ذلك لانها لم تكن تدرك أن مرض بسيطا يمكن أن يتحول إلى مرض خطير في المستقبل القريب، هذا بالاضافة إلى انها يمكن أن تكون بحاجة إلى جهده المتواصل نظرا للظروف الاجتماعية التي كانت سائدة في المنطقة آنذاك. وفي ذلك الوقت لم يكن هناك تأمين صحي أو اجتماعي لمساعدة الناس. لقد كان المريض يستعمل الدواء المعد بشكل رئيسي من الاعشاب وأوراق الاشجار حيث كانت هذه الأعشاب تمزج مع بعضها عادة بطريقة تختلف من شخص إلى آخر حسب التقاليد المعروفة والمتعارف عليها وحسب الخبرة في اعداد هذا النوع من الدواء، ومن ثم يعطي العلاج للمريض عدة مرات لعدة أيام وفي الوقت ذاته لم يكن هناك اهتمام بالنظافة سواء في تحضير الدواء أو في نظافة المريض نفسه أو نظافة ملابسه وحتى الطبيب الشعبي نفسه لم يكن نظيفا، ذلك كله كان بدون شك يؤدي إلى تفاقم المرض أو توليد امراض أخرى مما يهدد حياة المريض بالخطر. وفي حالة عدم تحسن صحته نتيجة لتعاطي الدواء كانوا يغيرون العلاج عدة مرات أي يخضعوا جسمه للتجارب إلى أن يجدوا علاجا يعطي نتائج أفضل. ولم يكونوا يدركون طبعا أن هذا يضر بالمريض نظرا لجهلهم، ولهذا لم يكن لهذا النوع من العلاج نتائج ايجابية الا نادرا، وما من شك أن بعض المرض كانوا يشفون أحيانا من مرضهم ولكن هذه الحالات كانت نادرة وقد ثبت في عصرنا الحاضر أن العلاج بالأعشاب مفيد، ولكن الوصفات التي كانت تستعمل في تلك الايام كانت ملوثة وتحتوي مزيجا من عناصر مختلفة كانت ربما تتفاعل ضد بعضها البعض وتحدث مضاعفات للمريض.(1/69)
أما العلاج بالكي فقد كان شائعا كذلك ويستخدم لعلاج كثير من أنواع الورم والحالات المستعصية والتي يصعب تشخيصها. وكان الأهالي يعتقدون أن نجاح الكي مضمون ولكن هذا يعتمد بشكل اساسي على مهارة المعالج، فيكوي الجسم بقطعة من الحديد المحمى في نار شديدة الحرارة، وكانت الفكرة من وراء الكي للقضاء على مصدر المرض بسرعة لكن ذلك يترك وراءه أحيانا بثرة متقيحة قد يطول علاجها وربما تسبب متاعب جديدة ولمدة من الزمن للمريض، في الحقيقة لقد كان أثر الصدمة بالكي وحدة كافيا لشفاء بعض المرضى.
وقد كانت طريقة العلاج بالكي مخيفة، فقد كان أقارب المريض واصدقاؤه يمسكون به بقوة من شدة الألم الذي يسببه الكي، وكان المريض في آخر الامر يترك بين يدي الله، وقد كانت نظرة الناس بأن الشفاء من عند الله لأنهم بحكم شعورهم الديني يجدون تعليلا دينيا لكل شيء في حياتهم.(1/70)
وكان العلاج النفسي الذي يعتمد على القراءة الدينية دورا كبيرا في حياة الناس ـ وكانوا يشعرون بأن لهذا النوع من العلاج اثر بالغ في الشفاء، ولم يكن هناك فرق في نظرهم بين العلاج الجسدي والروحي وكثيرا ما كانوا يقومون بالاثنين معا. والعلاج النفسي على نوعين الأول ديني ـ والثاني خرافي وانواع العلاج الديني كثيرة ومتنوعة ـ وأهمها استخدام سور من القرآن والاحاديث النبوية وسيلة للشفاء، وكان رجل الدين المحلي والذي يدعى "الملا" هو الطبيب بالاضافة إلى وظيفته الاساسية وهي التعليم كان يستدعى ليقرأ آيات من القرآن على المريض وكان الناس يؤمنون بأن هذا العمل الدال على التقوى سياتي بالتحسن المرغوب في صحة المريض وعلى الرغم من كل هذا فقد كانوا يؤمنون أيضا بأنه لولا عناية الله لما شفى أحد من مرضه. وكان يدعم قدرة القرآن على الشفاء واعتقاداته والنوع الثاني من الطب النفسي يعتمد على الخرافات ـ واكثر هذه الأنواع شيوعا هو "الزار" والزار في الأصل عادة افريقية جلبها العرب عندما كانوا يتعاملون مع الافريقيين في النشاط التجاري قبل أن تخضع بلادهم لنفوذ الاستعمار الغربي. وكان يشرف على طقوس الزار رجل أو امرأة ممن يمتهنون هذا العمل ويسعون لطرد الارواح الشريرة من جسد المريض.(1/71)
وكانت العملية تبدأ بأن تدعو عائلة المريض في يوم معين لحضور حفلة الزار ومعظم اقارب المريض وأصدقائه في العادة يحضرون مثل هذه المناسبة، يحيطون بالمريض ويبدأ العراف أو العرافة العمل بتغطية المريض بملائة داكنة في حين يصاحب هذه الطقوس رقصات خاصة ودقات معينة صاخبة على الدفوف واطلاق البخور ويبدأ العراف أو العرافة بتلاوة بعض العبارات الدينية وتهديد الأرواح الشريرة بضرب المريض بالعصا عدة مرات، وبعد فترة قصيرة من بدء هذه الطقوس تسأل العرافة أو العراف عن طلبات الأرواح الشريرة مقابل توقف الضرب إذا اجابت بسرعة، عندها يقول المريض أن الارواح تطلب أشياء معينة كالطعام أو الملابس أو زيارة أماكن خاصة فإذا رفضت الأرواح الكلام وصمت المريض فان العراف أو العرافة يقرر ما إذا كان المريض قد شفى أو انه لا زال بحاجة إلى جلسة زار أخرى أو أن حالته صعبة، وفي هذه الحالة ليس امامهم الا تسليم أمره لله. لقد كانت الأمراض آنذاك تعالج بالطب الشعبي
ومعظم هذه العلاجات لم تكن تعود بأية فائدة، لكن المجتمع كان عاجزا عن الاتيان بوسائل أفضل للعلاج. هذه صورة عن الحالة الصحية التي كانت تعيشها منطقة الخليج العربي عندما بدأت الإرسالية نشاطاتها.
منجزات الإرسالية في ميدان الطباعة الأخيرة
أولا الخدمات الطبية في البصرة:(1/72)
يعتبر عام 1891 بداية لقيام الخدمة الطبية في البصرة، وبالرغم من حاجة السكان الماسة لهذه الخدمة ، فان الإرسالية الأمريكية العربية واجهت عدة صعوبات في هذه المنطقة، وأهم هذه الصعوبات، جهل الناس في أهمية نشاطات الإرسالية الطبية خاصة في مراحلها الأولى. لقد كان الناس يترددون في قبول خدماتها في البداية ولكنهم مع ذلك أصبحوا أكثر تقبلا لها فيما بعد ثم تطورت العلاقة إلى التعاون إلى درجة التسابق للاستفادة من الخدمات الطبية التي وفرتها الإرسالية لهم، وأدت التجربة المحزنة مع الدكتور/ ريجز والتي سبق الحديث عنها إلى أن تحرم الإرسالية من طبيب ممتاز في مرحلة هامة من عملها وبقي النشاط الطبي يعتمد لمدة عام كامل على هيئة طبية غير مؤهلة وغير محترفة مهنة الطب تقوم بعلاج الأمراض البسيطة حتى تحافظ على استمرارية هذا النوع من النشاط ريثما تتمكن الإرسالية من ترتيب أوضاعها في هذا المجال وتوفر الاطباء القادرين على تحمل المسؤولية المزدوجة الإنسانية والدينية.
وعادت الخدمة الطبية بالفعل إلى طبيعتها عندما التحق الدكتور/ ج. ت ويكوف J.T. Wyckoff في عام 1894 كعضو في الإرسالية في البصرة. وقام الطبيب المذكور بعلاج المرضى وفي نفس الوقت كان يتعلم اللغة العربية ويتعرف على أحوال الناس.
وفي منتصف عام 1894 تقريبا ازداد حجم العمل بشكل ملحوظ عندما انتشرت الحمى بالاضافة إلى الأمراض الأخرى التي اعتادت عليها المنطقة. وبحلول عام 1895 أصبح النشاط العلاجي المطلوب فوق طاقة طبيب واحد للقيام به مما أدى ذلك إلى انضمام الدكتور/ تومس Thoms إلى الهيئة الطبية التابعة اللارسالية في البصرة.(1/73)
وقد واجهت الإرسالية صعوبات جمة منها جهلها بأوضاع الناس الاجتماعية والمشكلة التي ترتبت على رحيل الدكتور/ ريجز ثم عدم وضوح الهدف التبشيري الذي تحمله نشاطات الإرسالية لذا كان عدد المرضى الذين يترددون على عيادات الإرسالية ضئيلاً في السنوات الاولى والجدول التالي يوضح ذلك.
الديانة ... عدد الحالات ... الجنس ... عدد الحالات ... نوع المعالجة ... عدد الحالات ... نتيجة ... العدد
العلاج
مسلمون ... 12 ... رجال ... 146 ... أمراض باطنية ... 135 ... شفاء ... 192
مسيحيون ... 87 ... نساء ... 37 ... أمراض جراحة ... 33 ... تحسن ... 30
يهود ... 24 ... أطفال ... 42 ... أمراض عيون ... 34 ... موت ... 3
صابئة ... 2 ... أمراض أذن ... 3
ـ ... ـ ... موت ... 1 ... ـ
المجموع ... مجاري بولية ... 3
225 ... 225 ... ورم ... 1 ... 225
أمراض أخرى ... 15
225
جدول رقم 3: 1
Source: Neglected, Arabia, 1895, p.7
يطلق اسم الصابئة على فرقتين دينيتين مختلفتين:
1ـ المندائيين: وهو مذهب يهودي ـ مسيحي وهم كتابيون من اتباع يوحنا المعمدان.
2ـ صائبة حران: وفئة من هؤلاء من الوثنيين.
وإذا تأملنا هذا الجدول نجد أن عدد الحالات المعالجة ضئيلة في مدينة يبلغ تعداد سكانها حوالي نصف ميلون نسمة ولكن لذلك اسباب واضحة:
أولاً: إن الطب الشعبي أو الأهلي الذي اعتاد عليه الناس لفترة طويلة من الزمن أصبح جزءاً من حياتهم ذلك يعني أن القائمين على احلال الطب
الحديث محله عليهم أن يكافحوا طويلاً من أجل أن يعي المواطن أهمية هذا النوع من العلاج ويقبل عليه. لقد كان الطب الشعبي أو الأهلي يتصل مباشرة بعادات وتقاليد ومعتقدات الناس وأيضاً الطب الحديث الذي جاء به المبشرون كان يتصل بالدين ويستخدم وسيلة للتبشير.
ثانياً: الأمر الثاني يتعلق بالوضع السياسي، لقد كانت البصرة كجزء من العراق تحت الحكم العثماني، هذا الحكم كان على نزاع شديد مع السلطات البريطانية في نهاية القرن التاسع عشر أي في الوقت الذي بدأ فيه المبشرون النشاط في هذه المنطقة.(1/74)
وللبصرة أهمية استراتيجية كونها تقع على رأس الخليج العربي الذي كان آنذاك تحت النفوذ البريطاني، يضاف إلى ذلك ان السلطات العثمانية كان لها نشاط طبي منافس للطب التبشيري.
ثالثا: في ظل الأوضاع السياسية في تلك الفترة كان ردة فعل الناس تجاه كل ما هو غربي تشكل عائقا أمام المبشرين، حيث كان الناس يعتبرون أي وجود غربي مهما كانت هويته يحمل هدفا سياسيا خاصة في فترة كانت القوى الدولية الاستعمارية تتجه نحو حرب عالمية أولى في بداية القرن العشرين.
رابعا: الهدف التبشيري للإرسالية والرامي إلى تحويل الناس عن دينهم، أثار حفيظة زعماء الدين المحليين المسلمين ضد هذا النوع من النشاط حيث بدأوا يحذرون الناس من خطورة النشاط التبشيري في بلادهم.
خامسا: أيضا من الاسباب الجهل العام الذي كان يعيشه الناس حيث إن ايمإنهم بالخرافات كان يقف عائقا في وجه النشاط الطبي الحديث.
لهذه الاسباب تردد الناس في الاقبال على نشاطات الارسالية ولم بأت للعلاج في عياداتها الا اعداد قليلة في الفترة الأولى، لكن هذه الاسباب لم تكن توقف نشاط الإرسالية حيث إن المبشرين كانوا مصممين على تأدية رسالتهم الدينية.
في الحقيقة كان المبشرون يتميزون بالصبر والعمل ويبحيثون عن الحلول لمشكلاتهم ولا يستسلمون بسهولة، وكانت هذه طريقتهم في البصرة وفي غيرها من المناطق فيما بعد.
لقد اعتبروا الاعداد المحدودة التي كانت تتردد للعلاج في السنوات الاولى من عملهم امرا طبيعيا لا بل نجاحا وتوقعوا لها أن تزداد مع الوقت، وقد تزايدت فعلا رغم العقبات التي كانت تحول في احيان كثيرة دون النجاح المطلوب في هذا الميدان.(1/75)
وفي السنوات القليلة التالية اصبح للرعاية الطبية مكانة جيدة واخذ الناس ينظرون إلى هذه الرعاية على إنها خدمة انسانية في حين كانت الكنيسة تنظر اليها على إنها وسيلة لغاية دينية، وقد ادى هذا النوع من سوء الفهم المتبادل إلى حمل الكنيسة على الاعتقاد بأن اقتناع الناس بالمعالجة الطبية هو اقتناع بصدق الرسالة المسيحية، ولهذا فان معظم المبشرين اعتبروا قبول الناس لهذا النوع من الخدمة خطوة أولى هامة نحو التبشير بالانجيل ودليلا على تأثر الناس بالمسيحية! والواقع إن الازدياد في عدد المرضى صحبه ازدياد في بيع الكتب الدينية أيضا والذي كان سببه حاجة الناس للعلاج في وقت لم يكن هناك بديل وسيتضح هذا في فصل قادم من هذا البحث ـ ولم يدرك المبشرون ذلك الأمر الا بعد مضي وقت طويل عندما قاموا بعملية تقويم لعملهم في تلك المنطقة على مدى السنيين التي أمضوها حيث تبين لهم أن عدد من تأثر أو أعتنق المسيحية من المسلمين كان قليلاً جداً.
وكانت الخدمة الطبية عادية ومنتظمة في عامي 1893و 1894. أما عام 1895 فقد مرت الارسالية بمحنة قاسية عندما انتشر مرض الطاعون بشكل مفاجئ في منطقة البصرة، وتبين أن الموقف فوق طاقة الإرسالية.
وقد أدى هذا الوباء إلى إضعاف ثقة الأهالي بخدمات الإرسالية الطبية نظراً لعدم تمكنها من السيطرة عليه رغم جهودها الكبيرة في مواجهته، هذه المحنة جعلت الإرسالية تفكر جديا في بناء مستشفى في هذه المنطقة لإرساء دعائم النشاط الطبي على قواعد ثابتة ولتتمكن من مواجهة أمثال هذه الاوبئة في المستقبل.
والواقع إن الأمراض المعدية تجد أرضا خصبة في هذه المناطق لعدم توفر الشروط الصحية والرعاية الطبية الحديثة. وفي عام 1896 عادت الخدمات الصحية إلى طبيعتها وازداد عدد المرضى إذا قورن ذلك بالاعوام السابقة. وفي تلك السنة انضم إلى هيئة الإرسالية الطبية طبيب جديد هو الدكتور/ لانكفورد ورال.(1/76)
ومضى العام التالي بدون حدوث شيء هام. ولقيت الخدمة الطبية في هذه المنطقة اهتمام العاملين في الإرسالية، ولوحظ زيادة عدد المرضى الذين كانوا يحصلون على العلاج في مستوصف الإرسالية والجدول التالي يوضح هذه الزيادة.
جدول رقم 3: 2
الديانة ... عدد ... الجنس ... عدد ... نوع ... عدد
الحالات ... الحالات ... العلاج ... الحالات
مسلمون ... 760 ... رجال ... 464 ... علاج باطني ... 713
مسيحيون ... 200 ... نساء ... 376 ... جراحة ... 150
يهود ... 40 ... أطفال ... 160 ... علاج العيون ... 162
صابئة ... 25
المجموع ... 1025 ... 1025 ... 1025
المصدر: Do. Worrall L.,Neglected Arabia, 1897,pp.11_12.
ويبدو أن عدد المراجعات من النساء قد فاقت عدد الرجال، وهذه ظاهرة تستحق التأمل، وتشير إلى تحول واضح في نظرة المجتمع إلى الطب الحديث وتدل كذلك على منو في الوعي. إن موقع البصرة كميناء على رأس الخليج العربي واتصال اهلها بالخارج جعلهم يتمتعون بالمرونة والتنور. ولم يمضِ وقت طويل حتى حازت أساليب الرعاية الطبية الحديثة على قبول الناس ورضاهم.
وشهد عام 1898 زيادة في عدد المرضى عن العام الذي سبقه حيث بلغ 1137 مريضا وفي هذا الوقت اصبح للإرسالية نشاط طبي جيد ومنتظم فيما عدا ظهور عدة أصابات في أمراض العيون والتي كانت تكثر في فصل الصيف بسبب شدة الحرارة وتقل في فصل الشتاء.
وشهد العام التالي 1899 حدثان هامان في ميدان الطب لم يسبق للإرسالية أن واجهتها في المنطقة الاول: هو اجراء العمليات الجراحية لأول مرة والثاني: انتشار وباء الكوليرا، وقد بدأت العمليات الجراحية بعد سبع سنوات من بدء الخدمة الطبية في المحطة لأن العمليات تحتاج إلى أدوات خاصة والى أطباء مهرة بالاضافة إلى موافقة وتأييد الأهالي، وكل هذه الأمور بحاجة إلى وقت.(1/77)
وقد قام الدكتور/ ورال باجراء عدة عمليات في ذلك العام. لقد كان يجري هذه العمليات في احدى غرف الإرسالية، لأن مستشفى البصرة لم يكن قد بني حتى ذلك الوقت والسؤال المطروح هو لماذا لم تكن تجري مثل هذه العمليات في العيادة؟ وبالرغم من أن أحد لم يقدم تعليلا لهذا الامر الا إنه من المحتمل أن يكون السبب قلة الأماكن أو إنه أراد أن يجريها بعيدا عن الازدحام. واثناء انتشار وباء الكوليرا في البصرة في ذلك العام فرض الحجر الصحي بين البصرة والعاصمة بغداد، ومما لا شك فيه أن هذا الاجراء كان مضايقاً للمسافرين بين المدينتين لكنه إجراء لا بد منه في مثل هذه الظروف.
وبعد انتهاء هذا الوباء ظهرت حالات قليلة منه في مدينة العمارة التي اصبحت محطة فرعية للإرسالية فيما بعد، فذهب الدكتور/ ورال إلى هناك في حين بقي الدكتور/ تومس للاشراف على عيادة البصرة.
وظن الدكتور/ تومس أن صداقة الحاكم العثماني في المدينة ستؤمن الحماية للإرسالية وقد عبر عن ذلك بقوله "وبعد أن اسعدني الحظ بالحصول على صداقة حاكم المقاطعة أو الولاية أصبح جميع الموظفين الاتراك ممن كان لي اتصال معهم يعاملوني معاملة طيبة".(1/78)
وكان المبشرون يولون صداقتهم مع حكام جميع المناطق التي يعملون فيها أهمية خاصة وبدأوا بالحاكم التركي في البصرة ثم اخذوا يسعون لإرضاء شيوخ منطقة الخليج العربي وكان هذا اسلوبا مكنهم من ممارسة نشاطهم بدون تدخل من أحد، كما ساعدهم أيضا في تنقلاتهم من مكان لآخر، وافتتاح محطة فرعية في العمارة على نهر دجلة، مهد الطريق أمام عملياتهم القادمة في محطاتهم الأخرى على طول ساحل الخليج العربي، ولكن هذا الاسلوب لم يفلح في اقناع عبد العزيز بن سعود في شبه الجزيرة العربية بالسماح لهم بالعمل في بلاده وقد اعلم الدكتور/ هرزون والدكتور/ ديم Dame بإنه سيسمح لهم بالمكوث في السعودية بعض الوقت، وعليهم أن يعودوا بعدها إلى البحرين على أن يطالب منهم في حين الحاجة اليهم العودة من جديد لمعالجة عائلته وغيرهم من السكان المرضى.
وتعتبر السنوات 1895 ـ 1900 سنوات المنو في نشاط الإرسالية، حيث قام المبشرون بعدة رحالات على طول ساحل الخليج العربي، وتوغلوا في الاجزاء الداخلية للبلاد بالقدر الذي تسمح به الحكومتان التركية والبريطانية، وكانت هذه الحملات الاستكشافية التي قام بها المبشرون هي الطريق الوحيد للتعرف على ميدان العمل بطريقة مباشرة والتوسع فيه تدريجيا. وهكذا تم انشاء العديد من المحطات الرئيسية والفرعية في المنطقة.(1/79)
لقد استمرت هذه النشاطات مدة طويلة وساعدت المرضى مساعدة لا تنكر، وجلبت هذه الرحالات الشهرة للدكتور/ هرزون والدكتور/ ديم والدكتور/ ستورم/ والدكتور تومس وسنأتي على هذا الامر بالتفصيل فيما بعد، وفي عام 1900 توقفت النشاطات الطبية بالبصرة بسبب انتقال الدكتور/ تومس إلى البحرين، وأصيبت المحطة بالصدمة لأن البصرة كانت قاعدة جميع الاعمال التبشيرية للإرسالية وعدم الاهتمام بها كان يسبب للمبشرين ارباكا وكثيرا من الضيق،ولكن الذي كان يعزيهم هو أن خسارتهم هنا ستكون ربحا في مكان آخر لأن الدكتور/ تومس سيذهب للعمل في مكان هام آخر يحتل مركزا متوسطا في الخليج العربي والذي سيصبح فيما بعد قاعدة العمليات التبشيرية للإرسالية.
ولكن الإرسالية على أية حال اعتبرته أمرا خطيرا لأن النشاط الطبي الذي اقامته في البصرة كان ملائما وكانت تتوقع نتائج ايجابية منه مستقبلاً.
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن حول سبب نقل الدكتور/ تومس في حين إنه كان الطبيب الوحيد في البصر، وفي وقت بلغت فيه الخدمة الطبية هناك حدا كبيرا من الاستقرار، ثم ماذا حدث للمرضى الذين كانوا يترددون على مستوصف الإرسالية للعلاج؟ قد تكون الآتية ببعض الاسباب المحتملة:
أولا: ربما شعرت الإرسالية بأن نشاطها الطبي في البصرة لم يكن له نتائج دينية مشجعة لذا فضلت نقل هذا النشاط إلى منطقة أخرى.
ثانياً: لقد تبين للمبشرين من خلال بدء نشاطهم في البحرين أن النتائج الأولية اكثر تشجيعاً من البصرة، فإذا كانت البحرين والحالة هذه بحاجة إلى طبيب فيجب تلبية حاجتها أولا نظرا لإنها ستكون محطتهم الدائمة لا بل قاعدة نشاطاتهم.
ثالثا: وهناك احتمال بأن الدكتور/ تومس لم يعد راغبا بالبقاء في البصرة اكثر من ذلك ويفضل الانتقال إلى منطقة أخرى.(1/80)
رابعا: ونظرا لأن الهدف الرئيسي للإرسالية الأمريكية العربية منذ أن بدأ عملها على الساحل الشرقي للخليج العربي هو التوسع في نشاطها التبشيري في الأجزاء الداخلية من شبه الجزيرة العربية؛ فقد رأت أن تعطي الاولوية لهذه المناطق لتكون منطلقا لداخل شبه الجزيرة.
خامسا: وربما يكون منع السلطات التركية أطباء الإرسالية من مزاولة مهنة الطب في المناطق التي تحت نفوذهم بدون الحصول على شهادة دبلوم تركية من تلك الأسباب التي دعت الدكتور/ تومس وبموافقة الإرسالية على ترك البصرة.
كل هذه الاسباب محتملة لنقل الدكتور/ تومس من البصرة إلى البحرين في وقت كانت البصرة في أمس الحاجة إلى مجهوداته لعدم قدرة الإرسالية على تعيين بديل له ولمدة تزيد عن سنة كاملة.
والأثار المترتبة على هذا الرحيل المفاجئ أصابت المرضى قبل غيرهم، لقد كان المرضى وخاصة أولئك الذين كانوا يعانون من أمراض مزمنة بائسة جدا في تلك الفترة قد اعتاد هؤلاء على العلاج الحديث وأصبح من العسير عليهم العودة إلى اساليب العلاج الشعبي المحلي. وبعد معاناة استمرت أكثر من عام وصل الدكتور ورال والدكتورة زوجته لافتتاح العيادة في عام 1902.
لقد كان الاعتقاد بأن وقف العمل الطبي في محطة البصرة بشكل مؤقت أمر ضروري محطة لافتتاح جديدة في البحرين، ومن ثم استئناف العمل بها ثانية.
وعندما أعيدت الخدمة الطبية إلى محطة البصرة عام 1902 ظهرت الحاجة اليها بشكل واضح إذ لم يكد المرضى يسمعون بإعادة النشاط الطبي حتى تقاطروا على عيادة الإرسالية، وقد تطلب إعادة الخدمة الطبية إلى ما كانت عليه بعض الوقت، وظهرت الحاجة إلى بذل المزيد من الجهد ليصبح هذا النشاط منتظما.(1/81)
وقد كتب الدكتور ورال Worrall في تقريره الذي أوجز فيه نشاط عام 1902 إنه أجرى عدة عمليات لاخراج الحصى من الكليتين كما جاءه عدد من المرضى يشكون من آلام في عظام الفك بسب سوء علاج (طبيب) الأسنان المحلي الشعبي، وكثير من المرضى كانوا يشكون من أمراض العيون، وبلغ عدد المرضى الذين عولجوا في ذلك العام 5864 مريضاً.
وبعد ذلك بعامين شعر أطباء الإرسالية في البصرة بأن الوقت قد حان للاستقرار طبيا حيث بدأوا يفكرون ببناء مستشفى. لقد واجهت خطتهم لهذا المشروع كثيرا من العقبات بعضها بسبب السلطات التركية والبعض الآخر بسبب تكاليف المشروع. ولم توضع هذه الخطة موضع التنفيذ الا في عام 1910 ومضى عام 1930 بصورة طبيعية، ولكن عام 1904 شهد انتشار وباء الكوليرا، والذي أودى بحياة الكثيرين من المواطنين وبذلت الهيئة الطبية للإرسالية جهوداً كبيرة لمكافحة الوباء وفرضت السلطات التركية حجزاً صحياً مشدداً على المدينة وتوقفت الحياة الطبيعية فيها. وفي النصف الثاني من تلك السنة افتتحت الدكتورة ورال عيادتها الخاصة للسيدات.
واستمر العمل في عيادة السيدات في سنة 1905 رغم غيابهم حيث تولى عنها زوجها تقديم العلاج في تلك الفترة ولكن ليس بنفس المستوى من الفاعلية بسبب التقاليد المحلية التي تفضل أن تقوم طبيبة بمعالجة السيدات. وفي عام 1906 أجرى الدكتور/ ورال عدداً من العمليات الجراحية للعيون وتكلل بعضها بالنجاح.
وفي الحقيقة إن الدكتور/ ورال وزوجته قدموا خدمات جليلة لهذه المنطقة وعندما أصبح العمل فوق طاقتهم كان لا بد من زيادة عدد اطباء الإرسالية في البصرة لتلبية حاجة المواطنين إلى العلاج لذا وصل الدكتور/ أرثر بينت إلى البصرة في سنة 1907 للمساهمة في تقديم الخدمات الطبية اللازمة،وقد قام هذا الطبيب بتوسيع مجال الخدمة الطبية بالعمل بين رجال القبائل في شمال وشرق البصرة.(1/82)
والحقيقة أن كل خطوة تبشيرية كانت تخضع لدراسة دقيقة. وعندما بدأ الدكتور/ بينت بالعمل بين هذه القبائل كان له هدف يريد تحقيقة رغم الأعداد الكبيرة من المرضى في البصرة نفسها. وقد كان العمل بين القبائل هاما لأن الإرسالية كانت تهدف اقامة محطات فرعية في العمارة الواقعة إلى الشمال من البصرة وفي الكويت الواقعة في جنوبها.
وكان يحكم القبائل التي في شرق البصرة الشيخ خزعل وتدعى هذه المنطقة "عربستان" ومن الغريب أن الإرسالية لم تفتح محطة رئيسية أو فرعية هناك رغم علاقات المودة بين بعض قادة الإرسالية والشيخ خزعل، في الحقيقة لم يرد أي ذكر لهذه الفكرة في تقارير الإرسالية ولا في كتابات روادها وكل ما يذكرونه هو أن شيخ الكويت قابل الدكتور/ بينت في قصر الشيخ خزعل وتوصلا إلى اتفاق للسماح للإرسالية بالعمل في الكويت كما سبق أن ذكرنا في فصل سابق.
والسبب الوحيد الذي منع الإرسالية من العمل في عربستان هو أن هدف الإرسالية الرئيسي كان الخليج وشبه الجزيرة العربية، وكانت الارسالية على علم بالخلاف بين حاكم عربستان والسلطات الايرانية التي كانت تدعي أن عربستان جزء من اراضيها، ولهذا فان أي نشاط للإرسالية هناك سيعرضها للنزاع مع ايران التي كانت خارج مجال نشاطها. ومن المحتمل أن يكون قد خطر للدكتور/ بينت أن إقامة علاقات طيبة مع حاكم عربستان عن طريق تقديم الخدمات الطبية في بلاده سيمكنه من الوصول إلى الكويت بسبب الصداقة القوية التي تربط بين الشيخ مبارك حاكم الكويت والشيخ خزعل. وكانت خطته ناجحة وأدت إلى فتح محطة فرعية في العمارة ومحطة فرعية أخرى في الكويت.
وقد شهدت السنوات 1908, 1909, 1910، النجاح الذي حققه الدكتور/ بينت بين قبائل شمال البصرة وشرقها.(1/83)
وقد زار الكويت عندما دعاه حاكمها لمعالجة عين ابنته، وقد نجح الدكتور بينيت في علاجها وعند ذلك طلب منه الشيخ أن يبقى في الكويت لمعالجة عائلته والمرضى من أبناء شعبة، ومنذ ذلك الحين أصبحت الكويت احدى المحطات الفرعية للإرسالية ثم أصبحت واحدة من أهم محطاتها الرئيسية.
وكانت سنة 1910 من السنوات الهامة في تاريخ الخدمة الطبية للإرسالية في البصرة، وفي كل محطاتها في شبه الجزيرة العربية، فقد كانت السنة التي وضع فيها الحجر الاساسي لمستشفى الإرسالية الثاني، وهو مستشفى لانسنج التذكاري، وتم إنهاء البناء وتكرسه في السنة التالية 1911 من الدكتور ورال وزوجته الذي أرسيا الخدمة الطبية هناك على أسس ثابتة وكان انشاء مستشفى في ذلك الوقت يعني الكثير للإرسالية ولعملها التبشيري لان ذلك كان يعني الاستقرار والنجاح في عملهم الموقت كما كان يعني أيضاً ازدياد في مسؤولياتهم وفي عدد هيئتهم الطبية والذي يعني بشكل عام أن موقف الإرسالية كان جيدا وأن التوسع في أنشطتها كان ممكنا.(1/84)
وبعد هذا الحدث الهام بدأت علاقة جديدة بين الإرسالية في ميدان العمل ومؤيديها في امريكا، وقد تحولت هذه العلاقة الجديدة إلى برنامج على يدي حركة الطلاب المتطوعين في جامعه ميتشغان للعمل الطبي والصناعي في البصرة، وقد قام الدكتور زويمر بتقديم عرض إلى حركة الطلاب المتطوعين والذي أدى إلى وضع برنامج يمكن هذه الحركة من القيام بعمل صحي على أسس مشابهة للاعمال التي تقوم بها غيرها من الجامعات الكبيرة وكانت الخطة ترمي في بدايتها إلى دعم عمل الدكتور بينيت في مستشفى لانسنج التذكاري في البصرة ولكن الخطة تحولت أخيرا إلى برنامج اصبح اتحاد الطلبة المسيحيين بموجبه مسؤولاً عن دعم ممثليه وعين الدكتور هول ج. فان فلاك Hall G.Vln Vlack للعمل الطبي والسيد شو Shaw والسيد Haynes للعمل الصناعي والتعليمي، وقد جرى أيضاً تعيين هؤلاء الرجال بالاضافة إلى السيدة فان فلاك والسيدة شو من مجلس أمناء الإرسالية كاجراء شكلي.
وكان الأصل أن يتمكن البرنامج من السيطرة على الميدان كله من الناحية الطبية حيث كان البرنامج مدروسا جيدا مما بشر بالمنو العاجل.
ومع ذلك فان الجزء الانشائي من البرنامج تعثر ثم اصيب بالفشل ويقول ماسون وبارني بهذا الصدد:
"لقد كتب السيد شو في ذلك الحين معربا عن رأيه بأن البرنامج قد بدأ قبل الوقت المناسب بخمس سنوات، وقد ذكر من بين الأسباب التي يمكن أن تعتبر مسؤولة عن فشل برنامجهم الأوضاع السياسية المضطربة بالمنطقة والاوضاع المختلفة للبلاد. يضاف إلى ذلك أن اتحاد الطلبة المسيحيين كان يجد صعوبة في مواجهة الاعباء المالية لمشروعاته !!(1/85)
ونتيجة لذلك فقد فشل البرنامج في تحقيق أهدافه ولكن العمل بشكل عام وبخاصة الخدمة الطبية استمرت كالمعتاد. ومما لا شك فيه أن مستشفى الإرسالية في البصرة بهيئته الطبية قد لعب دورا هاما في مساعدة الأهالي في هذه المنطقة خاصة في الفترات التي كانت الأوبئة مثل الكوليرا تهاجم مدينتهم. وبالاضافة إلى هذا الدور الهام فقد قام المبشرون الطبيون بتوعية الناس بأساليب الوقاية من الامراض وكيفية الحد من انتشارها، بالإضافة إلى الأمراض المتعارف عليها هناك مرض الجذام كان منتشرا في البصرة. وفي عام 1912 بدأت الإرسالية بتخصيص جزء من خدماتها الطبية للعناية بمرض الجذام، وقد كان عدد هؤلاء كبيرا نسبيا وأطباء الإرسالية واجهوا صعوبة في محاولة عزل الأصحاء عن المرض لمنع العدوى الا أن عامة الناس نتيجة الجهل لم يكونوا يأبهون بالمرض إلى أن يستفحل ويصبح علاجه عسيرا. وكان بعض المجذومين يختلطون بالناس ولسنوات عديدة دون أن يشتبه بأن لذلك خطرا يؤدي إلى انتشار هذا الوباء.
كما أن مرض الجذام من الامراض الشائعة وبشكل أخطر في مسقط أيضاً، ومضت نشاطات الإرسالية في عام 1913 بدون مشاكل كبيرة. وكانت هذه الاوضاع قائمة في وقت تستعد فيه القوى الدولية للحرب العالمية الأولى، والبصرة من ضمن المناطق التي تقع تحت النفوذ العثماني وبما أن الامبراطورية العثمانية دخلت هذه الحرب فان البصرة كانت مسرحا لعمليات عسكرية مما نتج عنها صعوبات واجهت العمل التبشيري.(1/86)
وفي بداية سنة 1914 شعر الأهالي بأن الخدمة الطبية ستتوقف بسبب ازدياد المتاعب السياسية ولكن ذلك لم يحدث. وقد لعبت الهيئة الطبية للإرسالية اثناء الحرب دوراً بارزاً في معالجة الجنود البريطانيين في البصرة بسبب العلاقات الجيدة التي كانت تربطهم بالقنصلية البريطانية هناك وسنأتي على هذه العلاقات بالتفصيل في فصل النشاط السياسي للمبشرين. لقد عقب القس لويس سكدر على أهتمام اطباء الإرسالية بالجيش البريطاني اثناء الحرب بقوله:
"مهما يكن من أمر، لا بد أن تؤخذ ظروف الحرب في الحسبان. إن الجيش أي جيش لا يرجو الحصول على الخدمة الطبية ولكنه يطلبها. إنه لا يرجو أن تخصص له الغرف والأسرة في المستشفيات بل يصادرها. إن هذه هي ظروف الحرب ولا قدرة للمدنيين على مقاومتها".
وازدياد عدد المرضى في ذلك العام يؤكد أن العمل كان يسير سيراً طبيعياً حيث بلغت الحالات التي عولجت 20013 حالة، ويدل هذا الأزدياد أيضاً على أن منو الوعي الصحي عند الناس كان يزداد. وفي سنوات الحرب التالية توقفت الخدمات الطبية بسبب إنهيار الامبراطورية العثمانية، ولكن نشاط الإرسالية عاد إلى طبيعته عند نهاية الحرب في عام 1918. وعندما بدأت عمليات الإرسالية في البحرين وغيرها من مناطق الخليج العربي لم تعد محطة البصرة تلقى نفس الاهتمام السابق لأن المبشرين كانوا يتوغلون نحو هدفهم وهو منطقة الخليج العربي وشبه الجزيرة، وبدأت أهمية البصرة الاستراتيجية تتضاءل. أضف إلى ذلك ما لا قوة من مصاعب هناك والتي اجبرتهم على التحول التدريجي عنها.
ثانياً: الخدمات الطبية للإرسالية في البحرين:
تعتبر البحرين ثاني المحطات الهامة للإرسالية العربية وأصبحت قاعدة لجميع أنشطتها التبشيرية في منطقة الخليج العربي. ومنذ عام 1892 منت الخدمات الطبية في هذه الجزيرة منوا سريعا كما ونوعا، ويرجع ذلك إلى أسباب عديدة:(1/87)
أولها: إن الإرسالية اكتسبت خبرة لا بأس بها من تجربتها في البصرة والتي مكنتها من تثبيت وجودها هناك في وقت مبكر واقامة مؤسسات دائمة.
وثانيهما: توفر المال اللازم لتطوير البرنامج الطبي ومصادر هذه الاموال كانت الكنيسة الاصلاحية في الولايات المتحدة ثم الاموال التي يدفعها المرضى نظير الخدمات الطبية التي يحصلون عليها بالاضافة إلى تبرعات الاهالي بين الحين والآخر. والسبب الثالث لمنو الخدمات الطبية في البحرين هو المناخ السياسي المشجع لنشاط الإرسالية والذي يمكن أن يعود لخضوع الخليج للسيطرة البريطانية. ورابع هذه الاسباب ازدياد عدد المرضى مما شجع الإرسالية على بناء المزيد من المستوصفات بالاضافة إلى المستشفى وفي وقت مبكر في هذه المحطة. وخامسها، إن الإرسالية كانت قد قررت سلفا أن البحرين قاعدة نشاطاتها في المنطقة بدلا من البصرة مما أدى إلى تركيز الاهتمام فيها، ولذا فإن مؤسساتها الدائمة كانت تحظى دوما بالأولوية، وكان المستشفى أهم هذه المؤسسات، هذه الأسباب مجتمعة أدت إلى دعم العمل التبشيري في هذه المحطة خاصة في المجال الطبي.
لقد كانت السنتان 1892, 1893 من أهم السنوات, حيث تم فيهما وضع أسس الخدمة الطبية المباشرة, وفي الوقت ذاته قام المبشرون بدراسة ميدان العمل والأماكن المحيطة بالبحرين باعتبار ذلك أحد واجباتهم لضمان مستقبل العمل وانتشاره. وفي نهاية عام 1894 انتشر وباء (أبو الركب) في البحرين, مما أدى إلى ازدياد تردد الأهالي على مستشفى الإرسالية ولكن لم يكن يشكل ضغطا هاما لأن الأعداد لم تكن كبيرة كما يتبين من الجدول التالي بالنسبة للعلاجات المقدمة لمختلف الامراض:
جدول رقم 3: 3
نوع العلاج ... عدد الحالات ... ملاحظات
مراض باطنية ... 380 ... لقد كان من بين هذه الحالات
جراحة ... 38 ... التي عولجت مرض أبو الركب
أسنان ... 33 ... الذي جاء بشكل
أمراض أخرى ... 29 ... مفاجئ في تلك السنة
Source: Neglected Aradia, Oct. Dec. 1894, p.5.(1/88)
وقد أدى هذا العلاج إلى كسب ثقة الأهالي تدريجياً في الطب الحديث الذي دخل الخليج والجزيرة لأول مرة عن طريق الإرسالية. ولم ينسَ المبشرون في الوقت ذاته هدفهم الرئيسي أي النشاط التبشيري الديني. وقد أعطتهم الأوبئة الفرصة للاتصال بالناس وتقديم العلاج لهم وبيعهم الإنجيل والكتب الدينية الأخرى. وكان التصاق الناس بالإرسالية كبيرا بسبب حاجتهم للعلاج لا أكثر, وكان المبشرون يتحدثون إلى المرضى عن الإنجيل والمسيح المخلص الشافي.
وخلال عامي 1895 ـ 1896 سارت الخدمة الطبية في البحرين سيرا طبيعيا, وقد كتب صموئيل زويمر يصف الخدمة الطبية في هذه المحطة خلال عام 1897.
"لم يكن النشاط الصحي واسعا خلال الربع الثاني من العام لسببين
الأول: المنافسة. الطبية. والثاني: الكساد التجاري في البلاد. أما الأول فسببه إبراهيم سعيد الذي سعى بعد تركه الخدمة في الإرسالية إلى العمل حكيما (طبيبا) والسبب الآخر هو صيام الأهالي في شهر رمضان, بالإضافة إلى فصل الأمطار. وعلى أية حال يمكننا أن نعلق المفتاح فوق الباب بعد فتحه دون أن نخشى شيئا لنستخدمه مستقبلا لفتح أبواب أخرى"(1/89)
وقد مكنتهم الخدمة الطبية بالوضع الذي كانت عليه من التغلغل بين الناس منذ البداية, وكان المبشرون يأملون أن تمكنهم الخدمة الطبية الجيدة من تحقيق قدر أكبر من النجاح في المنطقة في المستقبل القريب. وفي سنة 1899 عبر الدكتور سزجز تومس عن ذلك بأن للعمل في البحرين أهمية خاصة بالنسبة للمبشرين لإنها ستصبح مركزهم الرئيسي خاصة وان أطباء الإرسالية لا يملكون دبلومات تركية(1)تسمح لهم بالعمل في البصرة. إن هذا الشرط الذي فرضته السلطات العثمانية وضع عقبة كبيرة في طريق الإرسالية لأن الشهادة كانت تتطلب معرفة باللغة التركية في وقت كان فيه المبشرون ينكبون على تعلم اللغة العربية. ولم تكن هناك شروط مماثلة بالنسبة لممارسة النشاط الطبي في البحرين. هكذا أصبحت البحرين قاعدة العمل التبشيري في المنطقة، ولكن آمالهم بأن تصبح هذه الجزيرة منطلقاً للعمل التبشيري في شبه الجزيرة العربية باءت بالفشل رغم المحاولات المتعددة لتحقيق هذا الهدف.
وفي عام 1899 وصل الدكتور هـ. ورال إلى البحرين وبدأ بتقديم خدمته الطبية هناك، وكان معدل المرضى الذين يأتون للعلاج يوميا يقارب عشرة أشخاص.
وقد اتضح منذ البداية أن معالجة النساء لم تكن مشكلة كبيرة في البحرين لأن السيدة زويمر كانت ترافق الهيئة الطبية للإرسالية واستطاعت أن تعالج معظم النساء بمعرفتها الطبية المحدودة. ثم انضم إلى الإرسالية أيضاً السيدة ورال التي كانت طبيبة كما سبق أن أشرنا إلى ذلك.
__________
(1) ـ لقد فرضت السلطات العثمانية في البصرة على أي أجنبي يمارس مهنة الطب في المناطق التي تقع تحت نفوذها أن يحصل على شهادة دبلوم تركية كشرط لممارسة هذه المهنة.(1/90)
واستمرت الإرسالية في تقديم الخدمة الطبية لهذه الجزيرة بهدوء، وكان زويمر يباشر عمله التبشيري بين المرضى يوميا بأن يقرأ عليهم مقتطفات من الأنجيل ويناقش معهم تعاليم الديانة المسيحية. وكان الحديث في معظم الحالات من طرف واحد فقط، فقد كان زويمر يتكلم والمرضى يصغون اليه. وكان الفضل في اقامة منشآت الإرسالية في الجزيرة يرجع إلى حد كبير للاصدقاء الذين كسبتهم الإرسالية في وقت الحاجة. لقد ساهم العون الذي كان الأهالي يقدمون في زيادة نفوذ الإرسالية وكان هذا العون يقدم لدعم الخدمة الطبية وليحصلوا على هذه الخدمة لهم ولعائلاتهم. وقد كان وضع الخليج الاقتصادي لا بأس به بالنسبة لعدد سكإنه ولرواج تجارة اللؤلؤ.
وفي عام 1900 بدأ المبشرون يفكرون جديا باقامة مستشفى في جزيرة البحرين اذ لم يعد المستوصف قادرا على تلبية حاجة جميع من يأتون من المرضى لضخامة أعدادهم، وكثرة الحالات التي تحتاج بعضها إلى الأقامة في المستشفى واجراء العمليات. وكان الجميع متفقين أن تقديم العلاج على هذا المستوى المحدود لم يعد يتمشى مع العصر، وأن الوقت قد حان لبناء أول مستشفى للإرسالية في هذه المنطقة.
لقد كان الصيام في رمضان من المشكلات التي واجهت أطباء الإرسالية، فقد كان سببا في عدم انتظام المرضى في تعاطي العلاج، حيث كانوا يقتصرون على تناوله ليلا.(1/91)
في الحقيقة إن الدين الإسلامي يتمتع بمرونة في هذا الخصوص ويسمح للمسلم الصائم بالافطار في حالات الضرورة. وخلال عام 1900 لم تكن الخدمة الطبية المقدمة للسيدات تفي بالحاجة لعدم وجود مكان مناسب لعلاجهن، وقد ظهر بوضوح أن حاجة النساء للعلاج لا تقل عن حاجة الرجال إن لم تكن أكبر . وكان العمل الدائم لا يعطي أعضاء الهيئة الطبية للإرسالية فرصة للراحة فيما عدا موسم صيد اللؤلؤ. إن الغوص على اللؤلؤ كان العمل الرئيسي لأهالي البحرين شإنهم شأن اخوتهم في مناطق الخليج الأخرى، حيث كان الطلب على اللؤلؤ الطبيعي كبيراًُ واسعاره مرتفعة في الاسواق العالمية قبل ظهور اللؤلؤ الصناعي في اليابان والذي أصبح منافسا للؤلؤ الطبيعي.
ويعتبر قدوم اللؤلؤ الصناعي واكتشاف النفط بمقادير تجارية فيما بعد من الاسباب التي أدت إلى القضاء على صيد اللؤلؤ. أما في ذلك الوقت فقد كان جميع الرجال القادرين على الغوص يركبون البحر، وكانت كل رحلة تبعدهم عن بلادهم وأسرهم عدة أسابيع أو أشهر لهذا فإن عدد المرضى الذين كانوا يأتون للعلاج في مستوصف الإرسالية أثناء موسم الغوص قليلا ليس فقط بسبب غياب الرجال في البحر وامنا لأن النساء كن يحضرن للعلاج بصحبة أزواجهم أو أفراد العائلة من الذكور، وقد كان لا يسمح لبعضهن بمغادرة المنزل وحدهن وعند عودة الغواصين من البحر يصبح الضغط على مستوصف الإرسالية كبيرا. لقد كان الغواصون يعانون من أمراض الأذان بالاضافة إلى الامراض العادية الأخرى. وكانت النساء بدورهن يعانين من أمراض مزمنة لإنهن كن لا يستطعن زيارة المستوصف للعلاج في غيبة أزواجهن، وهكذا فان الخدمة الطبية في البحرين كانت تتغير حسب المواسم.(1/92)
وبعد جهود نجحت الإرسالية في شراء قطعة من الأرض لبناء المستشفى في البحرين والذي أطلق عليه اسم "مستشفى ماسون التذكاري". وقد وضع حجر الأساس لهذا المستشفى في التاسع عشر من شهر مارس عام 1902. وفي الاجتماع السنوي التالي للإرسالية في البحرين يناير 1903 تم افتتاح المستشفى كأول مستشفى تبشيري في الجزيرة العربية، وكان الدكتور شارون تومس وزوجته اللذان كانا يقومان بالعلاج في البحرين هما أول أطباء الإرسالية في هذا المستشفى.
إن بناء المستشفى في أوائل عهد الإرسالية في البحرين أمر هام يتضمن معنى خاصا فقد كان ذلك يعني أن المدخل الطبي الذي اعتمدته الإرسالية وسيلة رئيسية لأعمالها التبشيرية قد ثبت نجاحه وأصبح يقوم على دعائم ثابتة في تلك المنطقة, وكان يعني ثانيا أن المدان كان مفتوحا أمام نشاط تبشيري وطبي أوسع وأشمل يكون المستشفى فيه مكانا للتبشير بالانجيل بين المرضى. والواقع أن المستشفى قد ساعد كثيرا في تخفيف آلام المعذبين, وكان الناس يحملون لهذا العمل كل تقدير في وقت لم يكن لديهم رعاية طبية محلية حديثة خاصة بهم.وهكذا بالتحاق الدكتور تومس وزوجته بمستشفى الإرسالية في البحرين حدث تقدم جيد في الخدمة الطبية عام 1901. وبالرغم من الجهود الطبية التي قدمها السيد زويمر وزوجته هناك بمعرفتهما الطبية المحدودة ألا إنهما لم يكونا طبيبين, ومع ذلك تمكنا من إبقاء الخدمة الطبية مستمرة إلى حين وصول الأطباء لتسلم المهام الطبية والنهوض بمستواها(1).
__________
(1) 1 بدون أدنى شك إنه من الصعب أن يتولى هؤلاء مهمة علاج المرضى وهم ليسوا أطباء، ولكن من المؤكد إنهم لم يكونوا يعالجوا الامراض الخطيرة، وامنا اقتصر نشاطهم على العلاجات الطبية البسيطة والنصائح الصحية، وإن مهمتهم كانت صعبة جدا لإنهم في نظر الناس البسطاء قادرين على هذه المهمة في الوقت الذي كانوا فيه غير قادرين على علاج بعض الامراض.(1/93)
وفي عام 1902 واجهت الإرسالية في هذه المحطة صعوبة عندما رفض صيدلي مسيحي من البصرة كان يعمل مع الإرسالية في البحرين الاستمرار في عمله. إذ إنه لم يكن راغبا في العيش بعيدا عن وطنه وأصحابه. وفي شتاء ذلك العام استطاعوا الحصول على صيدلي مسيحي مدرب من بغداد, ولكن ما أن جاء فصل الصيف بحرارته الشديدة حتى قرر بأن السيد المسيح لم يعد بحاجة إلى خدماته بعد ذلك في البحرين وعاد إلى بلده ثانية . ولم يتضح من أدبيات الإرسالية ما إذا كان هؤلاء الصيادلة من المتنصرين أم إنهم أصلا من عائلات مسيحية, على أي حال لقد كان ايمإنهم في الحالتين ضعيفا. والحقيقة إن إحدى المصاعب التي كانت تواجه المبشرين هي عدم تمكنهم من الاعتماد على المسيحيين من أهالي البلاد وهو أمر سنعرض له فيما بعد. وفي عام 1903 مرت البحرين بفترة عصيبة عندما انتشرت فيها ثلاثة أوبئة في آن واحد وهي الجدري والدفتريا والطاعون. وكانت مواجهة هذه الاوبئة الثلاثة من أشق الأمور التي واجهت الهيئة الطبية للإرسالية والتي بذلت جهودا كبيرة ومضنية لمكافحتها، ولكن ظهورها المفاجئ وانتشارها السريع وامكانيات الإرسالية المحدودة لم تتح للإرسالية الفرصة للقضاء عليها بسهولة أو منع خطرها. لقد كانت المأساة أكبر من طاقتهم بكثير، حيث أدى ذلك إلى موت الكثيرين من المواطنين. وبما أن هذا العام قد شهد افتتاح أول مستشفى للإرسالية في المنطقة ولكن المستشفى لم يتمكن من التغلب على هذه الأوبئة رغم الجهود الكبيرة التي بذلت، وقد أبلغ طبيب الإرسالية الدكتور تومس المعتمد السياسي البريطاني ج . س . جاسكن J.C.Gaskin بالحالة في مايو 1903 شرح له أن مرض الطاعون بالاضافة إلى أمراض أخرى تستشري في الجزيرة وان كثيرين قد ماتوا بسبب هذه الامراض ومع نهاية ذلك العام بدأ خطر هذه الأوبئة يقل ويتلاشى مخلفا وراءه كثيرا من الشقاء والمتاعب والأحزان.(1/94)
وفي عام 1904 وصلت الدكتورة لوسي باترسون Dr. Lucy Patterson إلى البحرين موفدة من قبل الإرسالية للعمل في هذه المنطقة فوجدت الخدمة الصحية في حالة مضطربة. إن المستشفى كان يعمل ليل نهار ويغص بالمرضى رغم الامكانيات المحدودة. وفي فترة أسبوعين أجرت الدكتورة باترسون عدة عمليات جراحية وحاولت تنظيم عمل المستشفى وكانت تشكو من مشكلة عدم ذهاب المرضى لمستشفى الإرسالية للعلاج الا بعد أن يصبح المريض في حالة متقدمة ويستفحل خطره.
والواقع إن السبب في هذا هو جهل الناس الذين لم يكونوا يعرفون أن المرض البسيط قد يصبح خطيرا إذا اهمل هذا بالاضافة إلى أن بعض الناس كانوا يلجأون إلى العلاج المحلي لبعض الوقت وعندما يشعرون بعدم جدوى هذا النوع من العلاج يتوجهون إلى عيادة الإرسالية أو مستشفاها.
وفي النصف الثاني من عام 1905 هاجم وباء الكوليرا البحرين ويقدر عدد السكان الذين اصيبوا بهذا المرض في المنامة والمحرق وهما من أكثر المناطق في البحرين اكتضاضا بالسكان بثلاثة آلاف من أصل ثلاثين ألفا، وقد مات منهم ألفين. وفي المراحل الخطيرة من انتشار المرض سخرت الإرسالية جميع امكانياتها لمكافحته. لقد هاجم هذا الوباء الجزيرة بعد أقل من عامين من مهاجمة الاوبئة الثلاث لها وهي الطاعون والدفتريا والجدري. وفي نهاية العام انتهى الوباء مخلفا وراءه سلسلة لا تنتهي من الموت والأحزان، ونتيجة لذلك ازداد اقبال المرضى على العلاج الذي يظهر واضحا من الجدول التالي:
جدول رقم 3: 4
نوع الأمراض ... عدد الحالات ... ملاحظات
أمراض باطنية ... 4500
جراحة ... 2700
أمراض أخرى ... 1800
المجموع ... 9000
Source: Neglected Arabis, April _ June, Dr. Thoms, J.S.,pp.8_11.(1/95)
وفي السنوات التالية استراح الناس بعض الوقت من هذه الأمراض المعدية. ويبدو إنه أصبحت لديهم مناعة ضد هذه الأمراض. ثم سارت الخدمة الطبية سيرا عاديا ومنتظما وفي سنة 1911 ذكرت السيدة ي. زيمر بأن الحالات التي تأتي إلى العيادة عادية أهمها مصابه بالملاريا ويندر أن يكون هناك شخصا سليم العينين. وكانت بالاضافة إلى ذلك الأمراض النسائية المألوفة تعالج يوميا في العيادة.
وقد أدرك المبشرون من خبرتهم الطويلة في تقاليد المنطقة الحاجة إلى خدمة طبية خاصة بالنساء وقد وجدوا أن اقبال النساء قد أزداد عندما باشرت السيدة زويمر والدكتورة باترسون العمل في عيادة النساء. وقد ظهر أن هذا سيتحول إلى مشكلة في القريب العاجل لأن الإرسالية بهيئتها الطبية المحدودة لن تتمكن من تزويد المحطة بكل احتياجاتها. وفي نهاية عام 1914 كتبت السيدة فان برسيوم Mrs. Van perseum التي كانت مديرة المستشفى والمسؤولة عن العيادة النسائية تقول بأن عملها في عيادة النساء والتمريض العام والاشراف على المرضى والمساعدة في العمليات والقيام بالزيارات الخارجية مع الطبيب أو منفردة بالاضافة إلى ادارة المستشفى وذكرت بإنهم كانوا يتحدثون إلى المرضى كل على انفراد حول الأمور الروحية، وكان هذا بنظرهم أهم واجب يؤدونه وربما أكثرها متعة.
ومن هذا نرى أن المستشفى كان مكانا للنشاط التبشيري الديني وهو الهدف الذي وجد من أجله بالاضافة إلى الهدف الإنساني وكان المبشرون يقيمون وزنا كبيرا للاتصال الشخصي. لقد كان المرضى يتظاهرون بقبول ما يقوله لهم المبشرون ويظلون صامتين بسبب حاجتهم إلى العلاج وبسبب جهلهم الذي جعلهم يعجزون عن الدخول في نقاش معهم. وقد اتضح هذا التظاهر للمبشرين فيما بعد عندما ثبت عجزهم عن التأثير دينيا على واحد من كل عشرة آلاف من مرضاهم وسنأتي على هذا الأمر بالتفصيل في أحد الفصول القادمة.(1/96)
وعند اندلاع الحرب العالمية الأولى سنة 1914 كان لها بعض التأثير على منطقة الخليج العربي كما أوضحنا سابقا، ومن الطبيعي أن يتأثر نشاط الإرسالية بالحرب فقد كانت البحرين قاعدة عسكرية بريطانية، وقد استخدمت ابان الحرب لهذا الغرض وأصبحت الحالة في الجزيرة غير مناسبة للنشاط التبشيري، حيث انقطعت علاقة البحرين بالعالم الخارجي تماما وأصبح من العسير على الإرسالية الحصول على ما تحتاجه من اللوازم الطبية بما في ذلك الأدوية والمعدات الطبية، كما إنهم كانوا يجدون صعوبة الاتصال بمجلس الإرسالية في أمريكا أضف إلى ذلك أن البصرة وهي محطتهم الأولى أصبحت ميدانا للمعركة بين القوات البريطانية والقوات التركية، واستخدمت مستشفاهم وعيادتهم لمعالجة الجنود البريطانيين، وهكذا تركزت جميع الجهود التابعة للإرسالية لخدمة القوات العسكرية، وأصبح حظ المواطنين في الرعاية الطبية ضئيلا هذا بالاضافة إلى ظروف الحرب الأخرى سببا في عدم الاستمرار في تقديم الخدمة الطبية بنفس المستوى الذي كانت عليه قبل الحرب. وعند انتهاء الحرب عام 1918 عادت خدمة الإرسالية الطبية تدريجياً إلى حالتها الطبيعية. ولم يحدث أي تطور جديد في هذا المجال في البحرين حتى عام 1924 عندما بدأت الإرسالية برنامجها في بناء مستشفى للنساء في المحطة فقد كان من الصعب في مجتمع كهذا معالجة الرجال والنساء في مستشفى واحد أو حتى قيام الأطباء الرجال بمعالجة النساء الا في حدود ضيقة، وقد ذكر تقرير للإرسالية بأن هذه الحالة هي التي دفعت المبشرين للتقدم من مجلس الإرسالية بطلب لاقامة مستشفى للنساء والأطفال، وفي عام 1924 وافق المجلس على ذلك وقدم اليهم السيد عبد العزيز القصيبي الممثل المحلي لحاكم نجد نتيجة لمساعي المعتمد السياسي البريطاني قطعة من الأرض ملاصقة للمجمع الصحي لبناء المستشفى عليها.(1/97)
ووافق مجلس الإرسالية على تخصيص مبلغ ألف دولار لبناء المستشفى وجرى جمع تبرعات تقدر بعشرين الف روبيه كما قدم الشيخ حمد حاكم البحرين خمسة آلاف دولار بالاضافة إلى منحه من شركة الزيت الانجليزية الايرانية قدرها أيضا خمسة آلاف دولار. وثم جمع تبرعات لاحقة إلى أن بلغ المبلغ الكلي خمسين الف روبية، ومن ثم بدأت عمليات بناء المستشفى.
وفي 1926 أصبح مستشفى النساء جاهزا للعمل، وبدأ فعلا في استقبال المرضى وسمي باسم "مستشفى ماريون ويلز التذكاري" وكان فيه ملحق لسكن الممرضات. وأخذ المستشفى يقوم بخدمات التوليد والتي أخذت بالمنو التدريجي، ثم جرى دمجها بدار رعاية الطفولة التي كانت لها عيادة خاصة في المستشفى، بالاضافة إلى ذلك بدأت الهيئة الطبية بعطاء دروس في رعاية الطفل للطالبات في مدرسة الإرسالية. وكان العمل في القرى جزءاً يتجزأ من برنامج المبشرين.
وكان يدير مستشفى الرجال في المنطقة طبيب هندي قدير والذي دعي للقيام بالعمل عندما ذهب طبيب المستشفى في رحلة طبية خارج البحرين. وفي عام 1930 كان الدكتور ديم والدكتور لاركا Dr. Dame and Dr. Larka وهما من أعضاء الإرسالية يقومان بتقديم الخدمات الطبية في المحطة. وفي عام 1932 انضم الدكتور ويلز توماس Wells Thoms إلى هيئة مستشفى ماريون ويلزم ولعب دورا كبيرا في خدمة الناس كما فعل والده الدكتور تومس من قبل. وفي هذا الوقت بدأ مستشفى السيدات يقوم بعملية التوليد وأصبح المختبر ملحقا ممتازا يستفيد منه المستشفيين.(1/98)
وفي ذلك الوقت بدأت الحكومة تفكر جديا بتقديم الخدمة الطبية الحديثة، وليس هناك من يعلم الدوافع التي حدت بها إلى ذلك ولكن من المحتمل أن تكون الحكومة قد قررت ذلك عندما رأت فوائد الخدمة الطبية التي تقدمها الإرسالية. وأصبحت لدى الحكومة قناعة بأن البلاد بحاجة إلى خدمة طبية خاصة بها، وبدأ التفكير بهذا الأمر منذ ذلك الحين وسارت خدمة الحكومة وخدمة الارسالية الطبية على أسس حديثة جنبا إلى جنب، وبازدياد عدد الاطباء والمستوصفات في تلك المنطقة لم يكن هناك بد من انتشار الوعي بأهمية الطب الحديث، والحاجة إلى مزيد من المستشفيات المجهزة تجهيزاً جيداً والمزودة بالهيئة الطبية القديرة. وبعد كل هذه التطورات أصبحت البحرين كما توقعت الإرسالية وخططت له المركز الطبي لجميع محطاتها في المنطقة. وفي هذا الوقت أي عام 1932 حصلت زيادة مستمرة في حالات مرض الملاريا في البحرين والمناطق المحيطة بها، وقد حققت الهيئة الطبية للإرسالية بعض النجاح في مكافحة هذا المرض. وعند زوال هذه المحنة بدأ المبشرون برحلاتهم خارجها وداخلها. وفي الامكان القول إن الخدمة الطبية فيها كانت طبيعية في السنوات التالية إلى أن اندلعت الحرب العالمية الثانية في عام 1939. وفي الحقيقة لم تتأثر المنطقة بالحرب مباشرة الا في أمرين، الأول : انقطاع الاتصال بين الإرسالية وادارتها في الولايات المتحدة. والثاني: الشعور العدائي القومي لدى المواطنين العرب ضد كل ما هو غربي حيث واكب هذا الشعور ظهور الحركة القومية العربية والشعور الوطني الجارف المطالب بالاستقلال والتحرر من الاستعمار الغربي.(1/99)
كما ظهرت القضية الفلسطينية حيث غذت هذا الشعور ضد قوى الاستعمار وأصبح الغربيون الموجودون في الوطن العربي في موقف حرج وكان المبشرون من بين الذين كانوا يشعرون بأن كل ما بذلوه من جهود مهدد بالضياع، ولكن الناس عرب المنطقة لم يسببوا لهم اية مضايقات، وكانت الحرب العالمية الثانية نقطة تحول في النشاط التبشيري في الخليج العربي، ذلك أن تطوران هامان قد حدثا في المنطقة بعد الحرب،
الأول: قيام الحركة القومية العربية حيث جعل عامة الناس أكثر تأثرا وتفاعلا مع الحياة السياسية منها بالدين: والثاني: اكتشاف النفط بكميات تجارية أتاح لحكومات المنطقة فرصة تقديم خدمات طبية افضل مما تقدمه الإرسالية الأمريكية العربية، وهذا مما لا شك فيه كان له أهمية خاصة في نشاط الإرسالية الطبي كمدخل ووسيلة للعمل التبشيري وبدون هذا النشاط لم يكن أمام المبشرين من وسيلة أخرى مؤثرة تفتح المجالات أمام الانشطة التبشيرية الأخرى، ولهذا فإن تقلص نشاط الإرسالية الطبي أدى في نفس الوقت إلى تقلص نشاطهم الديني.
ثالثا: الخدمات الطبية للإرسالية في مسقط:
تعتبر مسقط موازية للبحرين في الأهمية. فهي طريق العبور إلى شبه الجزيرة من الجنوب الشرقي وهي بوابة الخليج، ولهذا فإن الإرسالية أولت هذه البقعة الهامة الثالثة أهمية لا تقل عن أهمية المنطقتين الاخريين، وبدأت الإرسالية عملها التبشيري هناك في نهاية عام 1893، وكان القس بيتر زويمر Peter Zwemer أول مبشر من الارسالية يعمل هناك، وسار العمل في مسقط على الطريق الذي سارت عليه الإرسالية في البحرين نظرا لتشابه الموقع والوضع السياسي حيث كانت الاهمية الاستراتيجية مماثلة وكون مسقط أيضاً تحت السيطرة البريطانية. أما من الناحية الطبية فقد كانت الامور تختلف لأن مرض الجذام كان شائعا في تلك المنطقة وكان هناك منطقة خاصة للمصابين بالجذام والتي لم يكن يسمح لأحد من المناطق الأخرى بدخولها خوفا من العدوى.(1/100)
وبدأت الخدمة الطبية هناك بعد افتتاح محطة البصرة بوقت قصير، وكانت الأمراض تنتشر في المنطقة بكثرة وحاجاتها الطبية كانت تفوق امكانيات الإرسالية، ومع ذلك فإن الهيئة الطبية فعلت كل ما تستطيع للتخفيف من آلام الناس رغم عدد أعضائها المحدود وامكانياتها الضئيلة، وقد ورد في التقرير الطبي للإرسالية في عام 1897 ما يلي:
"من المعروف أن مرض الجذام ينتشر في هذه الاجزاء من الجزيرة العربية حيث يعمل مبشرونا..... ومعظم المجذومين من الطبقات الدنيا والحياة في المستعمرة لا تختلف عن الحياة التي ألفوها".
ومن الأسباب الرئيسية لانتشار الجذام عدم توفر العناية الطبية الحديثة وعدم العناية بنظافة المرضى. وفي حين كان يمكن شفاء المرض في مراحله الأولى الا أن العلاج مستحيل بدون الأدوية الحديثة. وفي ذلك العام 1897 تقدمت الخدمات الطبية بوصول الدكتور تومس وزوجته اللذين استقرا في مدينة مطرح ليقوما بخدمة سكان مسقط ومطرح في آن واحد.
وكانت خدمات الإرسالية الطبية في عمان تهدف إلى الوصول إلى المناطق الداخلية وعلى أية حال فإن الهيئة الطبية للإرسالية كانت قادرة على القيام بمهماتها في المدينتين. ولم يتمكن المبشرون من التأثير في المناطق الداخلية. والأمراض في المنطقة كانت متعددة ولكن أخطرها كان مرض الملاريا.(1/101)
وكانت الخدمة الطبية النسائية في مسقط شبيهة بما كانت عليه في المحطات الأخرى، حيث لم يكن هناك أي اختلاف جوهري في التركيب الاجتماعي للسكان، والاختلاف الوحيد هو أن هذه المنطقة كانت أفقر من المناطق الأخرى ويشيع فيها مرض الجذام المعدي، وبدأ العمل في الخدمة الطبية للنساء عندما جاءت السيدة كانتاين Mrs. Cantine وأقامت هناك من سنة 1904 إلى سنة 1907، ولكن المنطقة لم يكن فيها مستوصف للنساء حتى سنة 1913 عندما قررت الإرسالية بناء مستوصف هناك. وقد أوفدت الدكتورة سارة هوسمان Sarah Hosman إلى المنطقة سنة 1911 وعندما إنهت دراسة اللغة العربية، بدأت بوضع أسس الخدمة الطبية النسائية الجيدة. وكان عدد مرضاها كبيرا، وفي الوقت ذاته كانت تقوم بمهمتها التبشيرية حيث كانت تقرأ للنساء من الأنجيل. أما علاج الرجال فقد كان يتم على يد الدكتور توماس Thoms في مدينتي مسقط ومطرح من سنة 1910 إلى سنة 1913 ثم توقفت الخدمة الطبية فجأة بوفاته(1). واستمر التوقف في مطرح لمدة طويلة وامكانيات الإرسالية لم تكن تسمح بارسال طبيب آخر ليحل محله في قوت قصير. ولكن الخدمة الطبية للرجال عادت إلى وضعها الطبيعي عام 1927 عندما قررت الإرسالية إرسال الدكتور ستورم Storm لاعادة افتتاح العيادة في تلك المحطة وقد جاء في تقريره لسنة 1930 إنه كان يعاني مشاكل في توفير الاجهزة والعلاج والمكان المناسب للقيام بمهمته كما أشار إلى أن الجولات التي كان يقوم بها في عمان هي من أبرز نشاطه وذكر بإنه متفائل من أن العمل الطبي قادر الآن على الاستمرار والنجاح في المنطقة.
__________
(1) 1ـ توفي الدكتور تومس Thoms نتجية سقوطة عل صخرة حادة من الصخور الواقعة على شاطئ مسقط وهو متسلق عمودا ليركب خطا تلفونيا بنفسه ولأول مرة في تاريخ مسقط خارج حدود الهيئات الرسمية والدبلوماسية يتم تركيب خط تلفون كهذا.(1/102)
وفي الفترة بين سنة 1926 ـ 1943 قام الأطباء ديم وهارسون وستورهم وهوسمان وويلز وتومس وملري برحلات واسعة في داخل وشبه الجزيرة العربية وقدموا خدمات طبية جيدة للقبائل التي تعيش في تلك المنطقة حيث وجدوا أهلها يعانون العديد من الأمراض المعدية والأمراض المزمنة، وكانت حالتهم تستصرخ طلبا للمعونة الطبية ولكن الإرسالية لم تكن في وضع يمكنها من تلبيه كل حاجات المنطقة بسبب امكانياتها المحدودة ولأن هذه الجولات لم تكن تهدف أساسا إلى تقديم الخدمات الطبية في حد ذاتها بل كانت تهدف فتح المناطق الداخلية من عمان تمهيداً للتغلغل في أعماق شبه الجزيرة العربية. ولم تستطع الهيئة الطبية البقاء هناك طويلا نظرا للبيئة الطبيعية الصعبة وبسبب حاجة المحطات الاخرى القائمة إلى مجهوداتها. وقد كتبت الدكتورة سارة هوسمان سنة 1935 تقول: "إن ما اصبو اليه هو أن أعثر بعون الله على بلدة وأحيا حياة تبشيرية عادية بين الناس".
وتشير عبارات الدكتورة هوسمان إلى احتمال وقوع شيء ما. وفي عام 1938 استقالت من الإرسالية لتقوم بهذا النوع الرائد من العمل الطبي على نحو مستقل أولا في عمان ثم في الشارقة على ساحل الخليج العربي. وبدأت الدكتورة هوسمان بخدمة ناجحة في مسقط واتسع ميدان نشاطها إلى داخل عمان حيث كان يأتي إليها المرضى من أماكن بعيدة، والصفة المميزة لنشاطها هي إنها كانت تقوم بجولات منتظمة إلى داخل المنطقة.
ولم تقدم الإرسالية تفسيرا لاستقالتها فيما عدا إنها كانت ترغب بالقيام بالعمل على نحو مستقل. وكانت الدكتورة هوسمان عضوا من أعضاء الإرسالية، وقد عملت أكثر من 22سنة في الميدان التبشيري ومما لا شك فيه أن هناك أسبابا عديدة حملتها على اتخاذ ذلك القرار مع أنها لم تذكر شيئا عن ذلك. وهناك الاحتمالات التالية:
أولا: إنها كانت ترغب في العمل مستقلة دون أن تكون مقيدة بأنظمة الإرسالية.(1/103)
ثانيا: قد تكون خبرتها الطويلة حملتها على الاعتقاد بأن سياسة الإرسالية لن تحقق الأهداف المنشودة.
ثالثا: ربما تكون قد شعرت بأن الإرسالية قد بدأت تبتعد عن هدفها الحقيقي.
لذلك قررت الانفصال عنها. ومهما تكن الاسباب فإن هذا الأمر قد أدى إلى زعزعة أوضاع الإرسالية في عمان حيث واجهت الخدمة الطبية بعد استقالتها كثيرا من الصعوبات ولسنوات عديدة وبشكل اضطراري حلت مكإنها الممرضة الهندية ماري التي كانت تعمل تحت اشراف طبيب الإرسالية في مطرح.
وقد نالت الخدمة الطبية التقدير من الناس منذ البداية، حيث كانت الإرسالية تنعم باستقرار مستمر، وقد استبدلت الأبنية المستأجرة بمستشفى حديث تم بناؤه في عام 1933، وقام الطبيبان في مطرح بجولات واسعة داخل عمان. وفي عام 1937 كتبت دورثي فإن ايس Ess D.Van تقول: "إن مستشفى نوكس Knox التذكاري يزداد شهرة في عمان، وعدد المرضى يزداد من المناطق الداخلية.
وكانت الخدمات الطبية تسير سيرا طبيعيا فيما عدا بعض التوقف القليل أثناء الحرب العالمية الثانية لموقع مسقط الاستراتيجي الذي يسيطر على مدخل الخليج العربي. وقد مر العمل التبشيري بمرحلة صعبة بعد الحرب في مسقط ومطرح كما هو الحال في سائر مناطق الخليج العربي. وكانت المشكلة هي السياسة المتشددة لسلطان مسقط ولكنها لم تكن عقبة كبيرة بفضل السيطرة البريطانية، وقد شعر السلطان بأن تأثير الإرسالية قد يؤدي إلى خلق تطلعات جديدة لدى المواطنين في المستقبل مما يهدد بتفويض سلطته. وفي عام 1948جرى افتتاح (مستشفى شارون تومس التذكاري للامراض المعدية، في مسقط). وقد لعب هذا المستشفى دورا هاما في اغاثة المرضى المصابين بالجذام والذي كان منتشرا في المنطقة.(1/104)
إن خدمات الإرسالية الطبية لا تزال قائمة في تلك المنطقة، لأن عمان لا تزال بحاجة إلى هذا النوع من الخدمة. ولكن المتشفيات أصبحت تحت اشراف الحكومة المحلية منذ عام 1972 ـ 1973 وهيئة الإرسالية الطبية تعمل داخل مستشفيات الدولة.
رابعاً: الخدمات الطبية للإرسالية في الكويت:
إن موقع الكويت الهام على رأس الخليج على طريق القوافل المتجهة إلى داخل الجزيرة العربية جعلها تتمتع بأهمية خاصة في نظر الإرسالية الأمريكية العربية التي انتظرت أن تفتح لها أبواب العمل التبشيري فيها لسنوات طويلة، وأخيرا واتتها الفرصة وتمكنت من تحقيق الكثير مما كانت تصبو إليه حتى أصبحت الكويت واحدة من أهم محطاتها وقد كتب الدكتور بينيت Bennit يقول: "إننا نهدف إلى احتلال الأجزاء الداخلية من الجزيرة العربية بأن نجعل من الساحل قاعدة لنا. إن موقع الكويت الاستراتيجي في نهاية الخط الحديدي المزمع اقامته، ولكونها أفضل موانئ الخليج العربي يكسبها أهمية خاصة".
وهكذا فقد تركز اهتمام الإرسالية على الكويت منذ عام 1900، ولكنها لم تتمكن من افتتاح محطة لها فيها الا في عام 1910 عندما التقى الشيخ مبارك حاكم الكويت آنذاك بالدكتور بينيت في البصرة وطلب منه المجيء إلى الكويت لمعالجة عين ابنته، ووافق الدكتور بينيت على الحضور. وقد وجدت الإرسالية في هذا فرصة ذهبية طال انتظارها لها.
وبعد نجاح العملية التي حضر الدكتور بينيت من أجلها عرض عليه الشيخ مبارك البقاء في الكويت. وقد بدأ الدكتور بينيت العلاج في بداية الأمر في منزل تابع لقصر الشيخ مبارك. وتبادل العمل في الكويت ثلاثة من أطباء الإرسالية هم الدكتور بينيت والدكتور هاريسون والدكتور ملري. وتمكن هؤلاء الاطباء من افتتاح مستوصف صغير وتعيين مساعد عراقي(1).
__________
(1) 1ـ لم تذكر مصادر الإرسالية اسم هذا الشخص ولا مهنته بالتحديد ولا حتى ما إذا كان مسيحيا أو محولا إلى المسيحية أو مسلما.(1/105)
مؤقت إلى أن يجري تعيين شخص دائم. وأثناء العام التالي 1911 سمح للإرسالية ببناء مستشفى وقد قام بتشييده مهندسان أمريكيان متجولان من ولاية ميتشجان Michigan وكان المسؤول عن عمليات البناء هو الدكتور ستانلي ملري. وكانت هذه هي المحاولة الاولى لادخال الخدمات الطبية الحديثة إلى الكويت. وقد تأخرت الإرسالية في تعيين طبيب دائم في الكويت مما ضايق الدكتور مبارك ولم يمنحهم الأرض اللازمة الا بعد قيام الإرسالية بتعيين الدكتور هارسون ثم ملري كطبيبين دائمين.
ومن سنة 1911 إلى سنة 1949 كانت مستشفيات الإرسالية هي الوحيدة في الكويت(1). وخلال السنوات الخمس التي استغرقها بناء المستشفى كان الاطباء يعالجون المرضى في منزل أحد الأهالي. واستمر نشاط الإرسالية في الكويت دون أن تعترضه صعوبات كبيرة. وتم بناء المستشفى بعد حصولهم على اذن بتقديم الخدمات الطبية هناك لعدم وجود أي اعتراض على هذا النوع من النشاط وبسبب الخبرة التي اكتسبوها في مناطق أخرى من ميدان عملياتهم.
لقد استقبل الناس في الكويت الخدمة الطبية الحديثة بسرور، وبدأوا يأتون إلى المستشفى يوميا للعلاج، وأخذ عدد المرض يزداد تدريجيا. ويوضح الجدول التالي عدد الحالات التي تلقت العلاج في عام 1911وهي أول سنة تقدم فيها مثل هذه الخدمة الطبية، وترينا الارقام التالية مدى تقبل الناس السريع للخدمة الطبية الحديثة التي كانت تقدمها الإرسالية.
جدول رقم 3: 5
الحالات ... العدد ... نوع العلاج ... العدد ... ملاحظات
حالات جديدة ... 2387 ... عمليات جراحية ... 165
حالات قديمة ... 4287 ... استخدام الكلوروفورم ... 25 مرّة
النوفوكين ... 51
Source: Dr. Malrey, Neglected Arabia, 1911, p,15.
__________
(1) 1ـ لقد حددت هنا الفترة الزمنية حتى عام 1949وهو العام الذي شهد بناء أول مستشفى حكومي في الكويت وهو المستشفى الاميري الذي يعاد بناؤه الآن.(1/106)
واستمرت الخدمة الطبية في الامارة على نحو طبيعي، وفي عام 1913 ازداد عدد المرضى بشكل ملحوظ حيث بلغ حوالي 4521 وقد كتبت الدكتورة كالفرللي Caleverly وهي أول طبيبة عملت في الكويت تقول: "لقد كان التقدم في هذه السنة (1913) بطيئا ولكنه مستمر، ولم يكن هناك ما يدعو لتثبيط العزائم. وقد ازدادت صداقة الشعب والشيخ لنا، والعمل التبشيري في المستشفى يتقدم تقدما ثابتا." وفي العامين الاولين من الخدمة الطبية في الكويت كان معظم المرضى من البدو، وكان عدد من المرضى يأتون من منطقة الفاو عند مصب شط العرب إلى الجنوب من البصرة. وقد سيطر البدو على الموقف سيطرة تامة، بأعدادهم الكبيرة. وكان هؤلاء النساء والرجال يأتون من أماكن بعيدة، حيث كان بعضهم يأتي للعلاج من المناطق الداخلية في شبه الجزيرة. لقد بذل أطباء الإرسالية جهودا كبيرة في مكافحة أمراض متعددة بما فيها الامراض المزمنة والأمراض المعدية. وفي عامي 1915, 1916 ازدادت أعداد المرضى كما يوضح جدول رقم 3: 6 وتوضح هذه الارقام ازدياد عدد المرضى بالمقارنة بالسنوات السابقة، وتدل أيضا على تحسن موقف النساء من الخدمة الطبية الحديثة والتي كانت تمنو جنبا إلى جنب مع منو الخدمة الطبية للرجال. ولا نبالغ إذا قلنا بأن موقف الناس من الطب الحديث مكان مشجعا وجيدا حيث أصبحوا ينظرون إليه بعين التقدير والاحترام.
جدول رقم 3: 6
الزيادة في عدد الحالات في الكويت في سنتي 1915 ـ 1916
العلاج ... عدد الحالات ... العلاج ... عدد الحالات ... الجنس ... الأجور
في المستشفى ... في العيادة
جراحة ... 182 ... حالات جديدة ... 6166 ... ذكور رجال ... 711 روبية
أمراض عيون ... 13 ... حالات جديدة ... 796 ... إناث ... 300
أمراض باطنية ... 9 ... أسنان ... 1986 ... نساء(1/107)
لقد كان العمل التبشيري الديني في المستشفى يجري بنشاط، حيث كان السيد ميخائيل بائع الكتب الدينية التابع للإرسالية يقضي بعض الوقت صباح كل يوم مع مرضى العيادة وأصبح يبيع عددا أكبر من الكتب الدينية لمرضى المستشفى. ونتيجة لذلك فقد كان للمستشفى وظيفة مضاعفة طبية وتبشيرية، وكل من هذين المظهرين يخدم غاية واحدة وهي غاية دينية تهدف إلى تنصير سكان الخليج العربي والجزيرة الهدف الاساسي الذي جاءت الإرسالية إلى المنطقة من أجل تحقيقه.
لقد كان مستشفى الإرسالية في الكويت يعالج المرضى من الجنسين في بادئ الأمر، ولكن تبين أن هذا الأمر يخلق كثيراً من المصاعب. وأخيرا تمت الموافقة على بناء مستشفى للنساء، وبدأ العمل في بنائه بعد الانتهاء من مستشفى الرجال بقليل وانتهى العمل فيه عام 1916. وفي تلك السنة قدم الكولونيل جراي Gray المعتمد السياسي البريطاني في الكويت هبة مالية قدرها 1000 روبية للمستشفى! وهناك عدة تفسيرات محتملة لهذه المساعدة.
أولها: إن المقيمين البريطانيين في الكويت كانوا يتلقون العلاج في مستشفى ومستوصف الإرسالية، وكانت هذه المساعدة اعترافا بالجميل.
ثانيا: إن العلاقة التي تربط القنصلية البريطانية والارسالية في هذه الامارة كانت جيدة كما ذكرت ذلك الدكتورة كالفرللي عدة مرات في كتابها "كنت أول طبيبة في الكويت"، فالمساعدة المالية اذن مقدمة للأصدقاء.
ثالثاً: الموقف البريطاني من نشاط الارسالية في منطقة الخليج العربي ورغبتها في توثيق العلاقات معها لتعرف أن كان للولايات المتحدة الاميركية أية أهداف سياسية في المنطقة أم لا، وسنعرض لهذا الامر بالتفصيل في فصل قادم.
رابعاً: أن المعتمدين السياسيين البريطانيين كانوا أيضاً من المسيحيين. البروتستانت ولهذا يمكن أن يكون الكولونيل جراي قد قدم هذه المساعدة بدافع شخصي محض، لا بصورة عامة.(1/108)
إن الخدمة الطبية في الكويت لم تتأثر كثيراً بسبب الحرب العالمية الاولى بل استمرت وتوسعت بصورة طبيعية. وفي عام 1921 أهدى الشيخ سالم حاكم الكويت قطعة جديدة من الأرض للإرسالية. وفي عام 1923 أضاف السيد عبد اللطيف بن عيسى وهو أحد وجهاء الكويت قطعة أخرى من الأرض إلى مجمع الإرسالية، وقد استخدمت هاتين القطعتين لبناء مستشفى النساء ومساكن الهيئة الطبية. وكانت طاقة كل من المستشفيين حوالي خمسة آلاف حالة سنويا مع مائة عملية جراحية. وكانت الطاقة المحدودة في السنوات الاولى تسبب ارهاقا كبيرا للهيئة الطبية أثناء انتشار الاوبئة عندما كانت قدرة الهيئة الطبية على التحمل تخضع لتجربة قاسية. وقدم قدم أعضاء الهيئة الطبية خدمة كبيرة في شهر اكتوبر عام 1921 عندما هاجم الاخوان(1)قرية على حدود الكويت، وقد توترت على أثرها العلاقات بين الكويت ونجد مما أدى إلى الاضرار بمصالح الأولى تجاريا. وكان الهجوم واسعا مما أدى إلى أن يقع العديد من الرجال بين قتلى وجرحى حيث نقل إلى مستشفى الإرسالية مائة وعشرين جريحا ليقوم الدكتور ملري بعلاجهم وهو عدد كبير بالمقارنة بعدد سكان الكويت في ذلك الوقت.
__________
(1) 1 ـ الاخوان: اسم يطلق على أتباع محمد بن عبد الوهاب قائد الحركة الوهابية، وقد بدأت هذه الحركة في أوائل القرن الثامن عشر في وسط شبه الجزيرة العربية وأخذت تدعو إلى احياء الإسلام وتطهيره من البدع. وكان محمد بن عبد الوهاب يعتقد أن الإسلام قد دخله الكثير من الضلال. وكان يدعو إلى العودة بالاسلام إلى ما كان عليه. وكانت حركته دينية سياسية انتشرت في شبه الجزيرة العربية وخارجها حتى وصلت العراق وسوريا ولكن نفوذها الرئيسي ظل في نطاق شبه الجزيرة العربية.(1/109)
ومنذ عام 1929 زاد الإقبال على مستشفى النساء حيث دل ذلك على ثقة النساء به وتقديرهن لما يقدمه من خدمات. وكان حجم العمل في عام 1931 مرضيا ومريحا للإرسالية فقد كان مجموع الخدمات التي قدمتها العيادة أضخم بكثير مما سبق تسجيله حيث وصل عدد الحالات التي عولجت في ذلك العام إلى 27042 وكان الدكتور ملري يعالج 263 مريضا يوميا أثناء الصيف وذلك يدل على نجاح في العمل مع العناية الخاصة التي كانت توليها الإرسالية للعائلة الحاكمة عرفانا بالجميل لسماحها لها بالعمل وطمعا في كسب حماية ومساعدة الحكومة. وفي عام 1932 انتشر أسوأ وباء للجدري في تاريخ المنطقة بأسرها وأدى إلى وقوع العديد من الوفيات، وقد شكل ذلك تحديا وعبئا كبيرا على الإرسالية إلى درجة أن الانتشار السريع لهذا الوباء والنتائج المترتبة عليه كان أمرا صعبا واجه الإرسالية ذلك لصعوبة السيطرة عليه نظرا لوجود القوافل التجارية التي تمر بالكويت في طريقها إلى شبه الجزيرة العربية واستمرارية حركتها.
وبعد انتهاء الوباء كانت النتيجة أعدادا كبيرة من الوفيات وفقدان البصر والتشوه. وتلى ذلك مشكلة أخرى ففي اثناء انتشار الوباء لم يكن الوقت يسمح بعلاج الحالات المرضية الموجودة مما أدى إلى استفحال خطرها، واحتاج الأمر وقتا طويلا وجهودا شاقة حتى عادت الحالة الصحية في المنطقة إلى حالتها الطبيعية.
ومنذ ذلك الوقت والخدمة الطبية المقدمة للنساء في الكويت في حالة تحسن مما شجع الإرسالية على بناء مستشفى للولادة عام 1933. وكان من أهم المشكلات الطبية في المنطقة أمراض الغواصين على اللؤلؤ، وقد بذل الأطباء كل ما لديهم من طاقة للقضاء على انتشار الأمراض الناتجة عن الغوص. كما انتشرت الأمراض الناتجة عن سوء التغذية أيضاً.(1/110)
وكان الدكتور ملري مسؤولاً عن هذه الحملة في عام 1934. وقد استطاع أن يقنع ربابنة السفن باستعمال عصير الليمون والخل والزبدة بدلا من الزيوت النباتية الرخيصة لطهي الرز وبهذا لم يعد يظهر أثر لهذه الأمراض في موسم الغوص التالي بالشكل الذي كانت تظهر فيه. وكانت الأحوال الطبية في المنطقة بحاجة إلى مزيد من الجهود لمعالجة مشكلاتها الصحية, وهكذا ففي عام 1938 افتتح حاكم الكويت الشيخ أحمد الجابر "مستشفى الكويت التذكاري للنساء" وبدأ عهد جديد في عمل الإرسالية الطبي للنساء والأطفال. وتم تعيين ممرضة بشكل مؤقت في هذا المستشفى وتعهدت شركة نفط الكويت بدفع جميع النفقات باتفاق ودي بينها وبين الإرسالية, والذي تعهدت بموجبه الإرسالية بتوفير العناية الطبية لموظفيها وفي أثناء الحرب العالمية الثانية كلف طبيب الإرسالية بالأشراف على الحجر الصحي لبعض الوقت, ونظرا للنقص في الهيئة الطبية للإرسالية فقد كان لذلك أثر على الخدمة الطبية. وبعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها بدأت الحكومة الكويتية تهتم بالخدمة الطبية الخاصة بها. وقد مكنت عائدات النفط الأمارة من تطوير الخدمة الطبية, ونتيجة لذلك بدأت باقامة المستشفيات والمستوصفات الحديثة منذ بداية الخمسينات. وبما إنه لم يكن يوجد أطباء من أهالي البلاد في ذلك الوقت فقد استقدمت الحكومة أطباء من البلاد العربية للعمل في مستشفيات الأمارة.(1/111)
ومن الجدير بالذكر أن العدد المحدود للسكان آنذاك مكن الحكومة من تزويد البلاد بما تحتاجه من مستلزمات الخدمة الطبية وبازدياد السكان وتطور الخدمة الطبية الحكومية أصبح من الطبيعي أن يثار السؤال التالي: هل لا تزال هناك حاجة إلى نشاط الإرسالية الأمريكية العربية الطبي؟ وعلى أية حال فان الإرسالية استمرت في تقديم الخدمة الطبية حتى عام 1967 عندما بادرت بتسليم مستشفياتها إلى الدولة, وتم نقل معظم العاملين فيها إلى مستشفيات الحكومة واقتصر نشاط الإرسالية في الكويت منذ ذلك الحين على الخدمات الدينية العادية للمسيحيين الذين قدموا للعمل في الكويت من مختلف البلدان عربية وأجنبية بعد اكتشاف النفط.
الخدمات الطبية للإرسالية في المحطات الفرعية :
أولا : العمارة والناصرية :
كان ينظر إلى العمارة دوما على إنها بقعة هامة, فهي القاعدة التي يمكن الوصول منها إلى عشرات القرى المنتشرة على ضفتي نهر دجلة إلى شرق العراق وغربه.(1/112)
لقد بدأت الخدمة الطبية في هذه المدينة في نهاية عام 1895 بعد أن قام رجال الإرسالية الأميركية العربية في البصرة بعدد من الرحلات الطبية إليها. وقاموا بمعالجة الأهالي هناك والذين كانوا يعانون من أمراض كثيرة خاصة "مرض الملاريا" الذي كان منتشرا بسبب المستنقعات ومزارع الأرز. ولكن الخدمة الطبية لم تصبح منتظمة هناك إلا في عام 1914 عندما افتتحت الإرسالية عيادة فيها, واعتبرت العمارة محطة فرعية تابعة للبصرة. وعمل الدكتور وورال Worral هناك بنشاط لمدة أربع سنوات 1895 ـ 1898, وعالج العديد من الحالات المرضية لكن الحاجة إلى العلاج كانت أكبر من طاقته بكثير. لقد أولت الإرسالية نشاطها التبشيري الديني أهمية مع الجهود الطبية التي كانت تقوم بها, وقد تكفل السيد فان إيس وزوجته Mr.and Mrs. Van Ess بهذه المهمة بالإضافة إلى عملهم في البصرة. وبالرغم من الجهود التي بذلها أعضاء الإرسالية دينيا لم تحقق النجاح المطلوب في التأثير على الناس وتحويلهم عن دينهم وسنشرح هذا الأمر في الفصل الأخير من هذه الدراسة.
وبقيت الخدمة الطبية النشاط الفعال للإرسالية حيث لم يعرقل هذا النشاط أي شي بسبب الطبيعة الإنسانية لهذا النشاط وحاجة الناس الماسة إليه في ذلك الوقت
وفي عام 1897 كانت الخدمة الطبية تسير بانتظام وجرى تسجيل الإحصائيات التالية والتي بدون شك تعبر عن الجهود الكبيرة التي بذلها أعضاء الإرسالية في هذا الميدان رغم قلة عددهم.
جدول رقم 3 : 7
الديانة ... عدد الحالات ... الجنس ... عدد الحالات ... نوع العلاج ... العدد
مسلمون ... 1253 ... رجال ... 673 ... عيون ... 495
مسيحيون ... 135 ... نساء ... 494 ... جراحة ... 212
يهود ... 45 ... أولاد ... 205 ... باطني ... 790
صابئة ... 64 ... بنات ... 116 ... باطني
1497 ... 1497 ... 1497(1/113)
وفي السنوات القليلة التالية كانت الخدمة الطبية في العمارة طبيعية ومنتظمة لكنه أثناء الحرب العالمية الأولى اضطربت هذه الخدمة حيث أصبحت المدينة واحدة من أكبر معسكرات الجنود البريطانيين بعد إنهيار الإمبراطورية العثمانية, لأهمية موقعها الذي يسيطر على طريق بغداد أو عاصمة البلاد. وقضى رجال الإرسالية معظم وقتهم في خدمة الجنود البريطانيين هناك. وكان من أثر ذلك حرمان الأهالي من العناية الطبية المعتادة مما أدى إلى وجود متاعب للإرسالية بعد الحرب لأن العديد من الحالات المرضية أصيبت بمضاعفات خطيرة نتيجة عدم حصولها على العلاج اللازم في فترة الحرب وهكذا فان المدينة قد تأثرت بالأوضاع السياسية والعسكرية التي كانت سائدة آنذاك.
وبعد انتهاء الحرب تغير الموقف نتيجة وقوع العراق تحت الانتداب البريطاني. وكان موقف الإرسالية هو مراقبة الموقف الجديد بيقظة وهي تتطلع إلى إعادة خدمتها الطبية إلى المدينة والتي انقطعت خلال سنوات الحرب ولم ترجع الخدمة بالفعل إلى حالتها الطبيعية إلا عام 1926 عندما شعرت الإرسالية بالاطمئنان على سلامة نشاطاتها حيث أقدمت على تطوير خدماتها هناك.(1/114)
وكانت الخدمة الطبية في العمارة تعتمد على المحطة الرئيسية في البصرة. فقد حولت الإرسالية المنحة الخاصة بمستشفى لا نسنج التذكاري The Lansing Memorial Hemorial في البصرة إلى محطتها الفرعية في العمارة, واشترت المبنى الذي أقامه صندوق لانسنج التذكاري. ويعود السبب في ذلك إلى أن الإرسالية قد تمكنت من تلبية حاجات البصرة الطبية في حين كانت العمارة في حاجة ماسة إلى خدمة طبية مناسبة, لذا الخدمة الطبية في العمارة قد أقيمت على قواعد ثابتة منذ البداية وقامت بدور فعال أثناء انتشار الأوبئة خاصة وباء التيفوئيد. وعاد المرضى القدامى بأعداد كبيرة لمراجعة مستشفى ومستوصف الإرسالية بعد إعادة افتتاح الخدمة الطبية في العمارة مما يدل على عودة ثقة الناس بهذا النشاط من جديد, كما أن عدد المرضى أخذ يزداد وبعضهم من المناطق البعيدة. بعد ذلك أصبح الأمر يتطلب التوسع في الخدمة الطبية فتم بناء المستشفى الجديد مع الملحقات اللازمة لإقامة أعضاء الهيئة الطبية من الجنسين.
وقد واجهت الإرسالية صعوبة جديدة في ذلك الحين بسبب موجه المعارضة التي أثيرت في العمارة عندما استخدم المبشرون المتشفى لأغراض تبشيرية دينية بالاضافة إلى النشاط الطبي المعتاد ولكن المعارضة تلاشت بدون ان يكون لها أثر على النشاط الطبي للإرسالية.(1/115)
وفي عام 1930 ذكر الدكتور موردايك Dr. Moerdyk في تقرير له إنه بالرغم من المعارضة الشديدة، فأن الخدمة ظلت صامدة ولم تتأثر، وكانت عيادات الرجال والنساء واسعة لا ستيعاب الأعداد المتزايدة من المرضى، كما أن الإرسالية كونت العديد من الصداقات بسبب ما تقدمه من خدمات. وقد ساعدت الزيارات الخارجية العديدة التي يقوم بها الطبيب على فتح المنطقة أمامهم. وكان الطبيب يشرف مباشرة على معاجلة النساء حيث خص صباحا كاملا في العيادة لمعالجة جميع الحالات. والواقع إنه كان من الصعب على طبيب واحد أن يقوم بتلبية حاجة كل الجموع التي كانت تزدحم للعلاج، مما نتج عنه عدم توفر العناية الكافية التي يحتاجها المريض.
وكانت السيدة موردايك زوجة الطبيب تساعدها ممرضة عراقية تقوم بجميع العلاجات وبعمليات التسجيل وتنظيم المراجعات بالاضافة إلى القيام بالاعمال الروتينية في جميع الأيام ومساعدة الدكتور موردايك أثناء العمل.
وفي عام 1931 فرضت الحكومة العراقية أنظمة وقيودا جديدة على المستشفيات والمؤسسات والخدمات الطبية غير الحكومية، مما جعل نشاط الإرسالية صعبا وكان المبشرون يفضلون لو أن الأمور بقيت على حالها. ولكن وضع الخدمات الطبية تحت مراقبة الحكومة المحلية كان خطوة طبيعية ترمي إلى تأمين هذا النوع من الخدمة الحكومية.
وفي تلك السنة 1931السنة الآنسة س. دالينبرج C.Dalenbarg بعدة جولات في قرى المنطقة حيث عالجت الكثيرين من المرضى، وقد أقنعتها تلك الرحلة بحاجة الناس الماسة إلى خدمات القبالة والتوليد والتي لم تكن تتوفر لهم الا بشكلها التقليدي. وقد قامت الإرسالية بتلبية هذه الحاجة بسرعة في السنوات التالية وقد كتبت الآنسة دالينبرج تقول:
"لقد أتت صرخات الاستغاثة من أشد الناس فقرا. لقد أخذوني إلى شوارع البلدة وأزقتها، إلى الاكواخ والزرائب التي تفيض بالشقاء ولا تلمح فيها اثرا للسعادة الإنسانية.(1/116)
وفي سنة 1932 كتب الدكتور موردايك قائلا: "لقد تحسنت الخدمة الطبية كثيراً في العمارة في هذه السنة... وربما تكون أفضل تجربة أمر بها في هذا العام هي الدور الذي استطعت القيام به في مكافحة وباء الكوليرا، وبالرغم من أن المرض قد انتشر في جميع أرجاء منطقة العمارة لكننا تمكنا من السيطرة عليه في البلدة نفسها في أقل من اسبوعين. وبالاضافة إلى ذلك فإن الآنسة دالينبرج وأنا قد سعدنا بالسماح لنا بالمساهمة في تطعيم سبعة آلاف شخص في اقل من شهر ونصف... كما أن طبيب الحكومة يستحق الشكر لما قام به من جهود جبارة للسيطرة على الوباء.
كان مرض الجذام واحدا من أهم مشكلات مدينة العمارة. ومنذ اعادة الخدمة الطبية فيها سنة 1926 والدكتور موردايك يظهر اهتماما بالغا بحالة المصابين بالجذام. وبدأ معالجته لهذه الحالات بشكل محدود وتدريجيا تمكن من أن يكوّن منطقة صغيرة معزولة للمجذومين في مكان لا يبعد كثيرا عن المستشفى وقدم اليهم ما يحتاجونه من الاهتمام والرعاية الطبية على نحو شبيه بما حدث في مسقط، ولكن المرض كان أقل شيوعا هنا مما كان عليه في مسقط.
وكانت الإرسالية تفكر كثيرا في أقل خدمة جراحية في المنطقة، وقد قامت بذلك فعلا في 1948 عندما بدأت باجراء عمليات جراحية للعيون كما قام طبيب الإرسالية بالتعاون مع طبيب الحكومة في اجراء عمليات الفتق وغيرها مما يدل على ثقة الدولة بالخدمات الطبية التي تقدمها الإرسالية.(1/117)
وفي عام 1950 افتتحت عيادة للأطفال وحققت نجاحا عظيما. وقد ساهمت المختبرات في الخدمة الطبية وكانت الامكانات لا بأس بها في تلك الأيام لادخال هذا النوع من التحسينات. وقد قام بالعمل في العمارة أعداد متعاقبة من الأطباء والممرضات وهم: الدكتور موردايك وزوجته والدكتور سكدر وزوجته Dr. and Mrs Scudder والدكتور هوسينكفلد وزوجته Dr and Mrs.Heusenkveld والدكتور فوس Dr Voss والدكتور بوش Dr.Bosh والدكتور نايكرك Dr. Nykerk وكذلك الممرضات الآنسة كورنيليا دلينبرج والآنسة جانيت فلدان والسيدة ج. هولر والآنسة ج. بوسما والآنسة كريستين فوس والآنسة آن دي يونج والآنسة ايلين شمالذريت، هؤلاء جميعا خدموا في العمارة لمدة تخلتف طولا وقصرا. وقد توقف العمل في هذه المنطقة في عام 1959 بعد الثورة التي قامت في العراق عندما أجبرت الإرسالية على مغادرة البلاد.
وما قدمناه هو صورة عن النشاط الطبي للإرسالية الأمريكية العربية في العمارة في العراق أولى المحطات الفرعية التي أقامتها الإرسالية.
والمحطة الفرعية الأخرى في العراق هي الناصرية وتحتل هذه المدينة موقعا هاما على نهر الفرات، وكانت من الناحية الطبية تحت اشراف ادراة الإرسالية في البصرة والعمارة، ولم تكن الخدمة في هذه المدينة منتظمة في غالب الأحيان ويرجع ذلك إلى النقص في أفراد الهيئة الطبية للإرسالية.(1/118)
وكانت المنطقة تعاني من أمراض تشبه الأمراض التي كانت تنتشر في العمارة وكانت حالة الأهالي الصحية تعيسة إلى أن بدأت الحكومة بتقديم الخدمات الطبية للسكان في أواخر الثلاثينات.(1)وفي خلال الحرب العالمية الثانية تخلت الإرسالية تدريجيا عن نشاطها في تلك المحطة النائية.
ثانيا: الخدمات الطبية للإرسالية في مطرح:
تحتل مطرح موقعا ممتازا في عمان في عمان قريبا من مسقط. وهي البوابة المؤدية إلى مناطق عمان الداخلية والطبيب الذي يقيم فيها يستطيع أيضا أن يخدم سكان مسقط وفي نفس الوقت يكون له تأثير على المناطق الداخلية. وقد واجه نشاط الإرسالية في هذه المحطة بعض المعارضة في بداية الأمر، ولكن هذه المعارضة سرعان ما انتهت، وبدأت الخدمة الطبية هناك بنشاط شإنها شأن المناطق الأخرى حيث بلغ عدد الحالات التي عولجت في العام الأول 1897...ر10 حالة مرضية. ويعطينا هذا الرقم فكرة واضحة عن الحالة الصحية الصعبة في المنطقة كما يشير إلى الجهود الكبيرة التي بذلها المبشرون في ميدان الخدمة الطبية.
__________
(1) 1ـ إن الخدمات الطبية التابعة للحكومات المحلية في المناطق التي عملت فيها الإرسالية العربية جاءت بعد فترة من نشاط الإرسالية الطبي. وهناك احتمالين لهذا، الأول: ان هذه الحكومات شعرت بالتحدي عندما قدمت الإرسالية الخدمة الطبية في بلادها وهي أي الحكومات المحلية غير قادرة على توفير مثل هذه الخدمة للناس. والاحتمال الثاني: هو الخوف من مصاحبة النشاط الديني للنشاط الطبي حيث شكلت معارضة رجال الدين تيارا ضاغطا على هذه الحكومات لسحب البساط من تحت أقدام الإرسالية. طبعا لا يجب أن نغفل ان بعض المناطق أصبحت قادرة على تقديم الخدمة الطبية الحديثة بعد أن تحسنت أوضاعها المادية.(1/119)
لقد بدأت الخدمة الطبية في مطرح بوصول الدكتور شارون تومس. S Thoms وفي عام 1897 استطاع هذا الطبيب في سعيه لاقامة محطة فرعية هناك أن يضع الأساس لخدمة طبية ناجحة في المنطقة في السنوات الأولى من وصوله ولكن العمل هناك توقف بسبب الاجازة التي قام بها هذا الطبيب في سنتي 1910و 1911.
وقد عين الدكتور بول هرسون Harrison p. للقيام بالعمل نيابة عنه أثناء غيابه. وبعد أن استلم الدكتور هرسون العمل قام بعدة جولات في أنحاء مختلفة من عمان. وعندما عاد الدكتور تومس من اجازته استمر في نشاطه الطبي. لقد كان المرضى ياتون للعلاج أيضاً من الأجزاء الداخلية من عمان مما كان يشكل ضغطا أضافيا على خدمة الإرسالية الطبية، ولنا أن نتصور أن طبيبا واحدا يقوم بهذه الجهود كلها في منطقة متخلفة مثل عمان فالعبئ الذي كان يتحمله كبيرا والخدمة التي قدمها جليلة. وفجأة وصلت إلى الإرسالية أنباء سيئة مفادها أن الدكتور تومس قد توفي اثر سقوطه على صخور الشاطئ العماني في مسقط عام 1913 وقد سبق أن أشرنا إلى هذا الحادث.
ومما لا شك فيه أن موت الدكتور تومس المفاجئ قد أدى إلى توقف الخدمة الطبية ولكن محضر الأدوية قام بالعمل اليومي في المستوصف تحت اشراف الدكتور بول هرسون الذي جاء من محطة الكويت في زيارة امتدت بضعة شهور، ومن المؤسف القول بأن الخدمة الطبية في مطرح قد توقفت بسبب فقدان الدكتور تومس.(1/120)
ولم تقتصر خسارة الدكتور تومس على توقف الخدمة الطبية اليومية بل أيضا توقف مشروع بناء مستشفى في مطرح والذي بذل مساعية لاقناع السلطات المحلية بشراء أو استئجار قطعة أرض لاقامة مستشفى عليها. أن المساعي لانجاز هذا المشروع قد توقفت لأن الأطباء الذين خلفوه لم تتهيأ لهم نفس الفرص التي كانت مهيأة له للسير قدما فيه, بسبب تغير الظروف والعلاقات بين الجانبين الإرسالية والحكومة المحلية. ولكن هذا الوضع لم يدم طويلا وأخيراً سنحت الفرصة للإرسالية مرة أخرى لتحقيق ما كان الدكتور تومس يخطط ويسعى له. وكان الدكتور تومس قد قدم خدمات جليلة في ميدان عمله الذي بدأه منذ سنة 1897 وتابع نشاطه طيلة خمسة عشر سنة متنقلا بين البصرة والبحرين ومطرح. ولو إنه عاش إلى أن ينتهي بناء المستشفى في مطرح لأقام الخدمة الطبية على أسس وطيدة كما فعل في البحرين قبل ذلك.(1/121)
ويوضح تقرير الإرسالية الطبي لعام 1914. أن الاتصال بين مطرح والمناطق الداخلية قد انقطع طوال ذلك العام والاعوام اللاحقة, ولكن حجم العمل في مطرح بلغ درجة من الضخامة تدعو إلى الاستغراب ولكن الذي يعرف ظروف عمان الاجتماعية والاقتصادية يرى أن ذلك أمر طبيعي.فقد تمت معالجة ما يزيد على 4500 مريض في سنة 1914. وبعد وفاة الدكتور تومس توقف العمل الطبي في مطرح لأن الدكتور هرسون الذي تولى العمل مكإنه كان لفترة وجيزة لإنه مسؤول عن مهمات طبية في مناطق أخرى من الخليج. ومضت فترة طويلة قبل أن تتمكن الإرسالية من ارسال طبيب إلى مطرح ثانية لمواصلة النشاط الذي بدأه الدكتور تومس. وفي عام 1927 أعيد افتتاح الخدمة الطبية في تلك المدينة وبالتدريج أصبحت هذه الخدمة طبيعية ونشيطة.أن الفراغ الذي نتج عن وفاة الدكتور تومس كان مليئا بالاَلام والأحزان والذي جعل طريق من جاءوا بعده صعبا.وفي عام 1933 أصبح في الامكان اعتبار خدمات الإرسالية في مطرح منتظمة بعد مشقة واجهها الذين جاؤوا لمواصلة الخدمة الطبية.وفي عام 1934 صمم القس ديرك دايكسترا Dirik Daekstra بناء مستشفى للنساء في مطرح وأشرف بنفسه على بنائه مما شجع أعدادا أكبر من النساء على الاقبال على العلاج الحديث.
وفي أثناء الحرب اثناء العالمية الثانية مرت الخدمة الطبية في مطرح بنفس الظروف التي مرت بها مسقط. وقد حصل بعض التوقف بسبب تأثر عمان بظروف الحرب لموقعها الاستراتيجي الهام, ولكنه لم يكن توقفا خطيرا, حيث استمرت الخدمة الطبية بالرغم من بعض الصعوبات التي واجهتها في الاتصال في قيادة الإرسالية في الولايات المتحدة وبحصول الإرسالية في هذه المنطقة على الأدوية والأجهزة والتموين.(1/122)
وفي عام 1948 حان الوقت لتحقيق حلم الدكتور تومس في المنطقة, عندما أهدى سلطان مسقط الارسالية ـ في ذكرى الدكتور تومس ـ قطعة من الأرض لبناء مستشفى لمعالجة الأمراض المعدية, وبنى على اثر ذلك مستشفى شارون تومس التذكاري ونظرا لأن المنطقة كانت تعاني من مرض الجذام أضيف اليه مبنى آخر في نفس المجمع لمعالجة ورعاية المجذومين.وفي نفس السنة 1948 عولجت أربعمائة اصابة بالسل ومائة وأربعين اصابة بالجذام في ذلك المستشفى.وفي السنة التالية وبعد موت الدكتور تومس بوقت طويل ذهب ابنه الدكتور ويلس تومس Wells Thoms ليعمل مبشرا في نفس المنطقة التي خدمها والده ليكمل الرسالة التي بدأها هناك. وفي الواقع أن الدكتور ويلس تومس وزوجتة حتى عام 1955 كانا هما الغربيان الوحيدان في المنطقة اللذان يعرفان المناطق الداخلية من عمان معرفة جيدة لإنهما كانا يقومان برحلات منتظمة إليها بين الحين والآخر.
وقد تسلم الدكتور موريس هوسكنفلد Dr. M.Heuskiveld زمام المسؤولية في مستشفى الإرسالية في مطرح فيما بعد، والدكتور المذكور من المختصين في المسائل الفيزيولوجيه ممن لهم خبرة طويلة في محطات الإرسالية الرئيسية والفرعية كالكويت والبحرين والعمارة.
والواقع اننا يمكن أن نعتبر العمل في مطرح من بعض النواحي عمل محطة رئيسية ولو تمكنت الإرسالية من افتتاح محطة فرعية لها في داخل عمان، فان مطرح بالتأكيد تصبح محطة رئيسية. وكان رجال الإرسالية يطمحون إلى ذلك ولكن هذه الجهود لم تكن تصادف النجاح مما اضطر الإرسالية إلى الغاء الفكرة كما حدث لمنطقتي قطر والزبير مع الأخذ بعين الاعتبار اختلاف الظروف التي واجهت الإرسالية في كل منطقة من هذه المناطق.
الخدمات الطبية للإرسالية في قطر والزبير:(1/123)
تقع قطر على ساحل الخليج العربي إلى الجنوب الشرقي من البحرين، وكانت امارة صحراوية صغيرة عدد سكإنها الآن حوالي مائة وخمسون ألفاً وتظهر على الخريطة على شكل ذراع ممتد من شبه الجزيرة العربية.
لقد قام المبشرون بعدة رحلات إلى قطر لافتتاح محطة فرعية فيها. وفي عام 1943 قام الدكتور شاندي Chandy Dr. وهو طبيب هندي الجنسية يعمل في مستشفى الإرسالية في البحرين بثلاث رحلات إلى قطر، كما قام كل من السيدة ملري والسيد ستورم برحلات مماثلة. وكان للنقص الحاد في المعدات الطبية أثناء الحرب العالمية الثانية أثر سلبي على الرحلات وعلى نشاط المبشرين في المحطات أيضاً. وفي عام 1947 بدأ حكام قطر يلحون في طلب الخدمة الطبية. وكان المبشرون قد عرفوا المنطقة من خلال رحلاتهم كما منت بينهم وبين أمرائها علاقات من الصداقة والثقة، مما أدى إلى أن يطلب شيخ قطر من الإرسالية تزويد بلاده بالخدمات الطبية كما وعد الإرسالية بأن يقوم ببناء مستشفى تديره الإرسالية على أن تكون محطة فرعية تابعة للبحرين.
وفي خريف عام 1947 أصبح المستشفى جاهزا للعمل، فرحل الدكتور ستورم مع عدد من أعضاء الهيئة الطبية إلى قطر لتهيئة المستشفى واعداده للخدمة الفعلية واستخدمت الهيئة الطبية في بداية الأمر احدى المباني الجاهزة واتخذت منها عيادة مؤقتة إلى أن يتم اعداد المستشفى للخدمة الطبية.
وفي عام 1952 قررت الإرسالية فجأة التخلي عن العمل في قطر بسبب النقص في أعضاء الهيئة الطبية وأصبح من الواضح أن عليهم أما تعيين شخص متفرغ لهذا النوع من الخدمة أو التخلي عن الالتزام في اقامة هذه المحطة الفرعية كلية، ولم يعد من مفر أمام الإرسالية سوى اختيار البديل الأخير عندما اضطر الدكتور نايكرك Dr.Nykerk إلى مغادرة ميدان العمل فجأة بسبب مرضه وضاعت على الإرسالية الفرصة للعمل في قطر أو افتتاح محطة فرعية فيها إلى الأبد.(1/124)
وقامت محاولة مماثلة لافتتاح محطة فرعية للإرسالية في الزبير جنوبي البصرة، وكانت الإرسالية تتوق إلى الوصول إلى هذه المنطقة لإنها كانت تعتقد بإنه من الممكن أن تكون مفتاحا للوصول إلى داخل الجزيرة العربية عن طريق وجود العائلات النجدية فيها التي كانت تتنقل عادة بين شبه الجزيرة والعراق بغرض التجارة مارة بالزبير حيث كانت هذه الضاحية استراحة لهؤلاء التجار بين البلدين. وقد أدركت الإرسالية أن النشاط التبشيري بين هذه القبائل قد يمهد أمامها الطريق للوصول إلى مناطق شبه الجزيرة الداخلية والتي كان من الصعب الوصول إليها بنفس الوسائل التي مكنتها من اقامة محطات رئيسية وفرعية في منطقة الخليج العربي.
وقام أعضاء الهيئة الطبية للارسالية بعدة رحلات إلى المنطقة تمهيدا لاقامة نوع من النشاط الثابت فيها ولكن جهودها لم تحقق أية نتائج ايجابية بسبب قلة أعضاء الهيئة الطبية، وكذلك بسبب الشعور الديني لدى هذه القبائل والمعارض للتبشير بتأثير الحركة الوهابية.
ولهذا فان محاولة فتح الزبير كمحطة فرعية أخفقت كما أخفقت من قبلها جهود الإرسالية لجعل امارة قطر محطة فرعية. وبعد ذلك لم تحاول الإرسالية فتح أية محطات فرعية لها واكتفت بترسيخ نشاطاتها في محطاتها الرئيسية والفرعية القائمة فعلا.
رحلات الإرسالية الطبية في منقطة الخليج العربي:(1/125)
لقد كانت الرحلات جزءا هاما من نشاط المبشرين في المنطقة حيث كان واضحا أن هدفهم هو انتشار نشاطهم في كل الجزيرة العربية وتحويل سكإنها إلى المسيحية. وكانوا يقومون برحلاتهم الواسعة إلى داخلها بواسطة القوارب الصغيرة حول شواطئ شبه الجزيرة وإنهار العراق، وعلى الجمال والخيل والحمير فوق الصحراء في قلب الجزيرة وعمان. ان أهم ما يميز هذه الرحلات هو النشاط الطبي الذي كان يقوم به المبشرون الذين كانوا يقدمون للناس أثناء هذه الرحلات. أن الخدمة الطبية كانت الوسيلة الوحيدة آنذاك لاقتناع الناس والسلطات المحلية في تلك المناطق بقبول المبشرين والسماح لهم بالعمل. وأول مبشر من مبشري الإرسالية دخل شبه الجزيرة العربية هو الدكتور بول هارسون سنة 1917، وفي عام 1927 قام هو وزوجته والآنسة لينبرج برحلة ثانية إلى داخل شبه الجزيرة حيث قاموا بزيارة الدمام والقطيف وقدموا لأهلها الخدمات الطبية. لقد كانوا من خلال هذه الرحلات يقومون بدراسة الأوضاع الاجتماعية للناس ليستطيعوا أن يبنوا خططهم المستقبلية على ضوئها.(1/126)
أن المواطنين في هذه المناطق كانوا يتلقون الخدمة الطبية الحديثة لأول مرة. وفي عام 1929 تلقى الدكتور ديم Dr. Dame وهو أحد أعضاء الإرسالية العاملين في البحرين أثنائها دعوة لزيارة الاحساء(1)لمعالجة الأمير سعود الابن الأكبر للملك عبد العزيز آل سعود الذي أصبح ملكا للسعودية بعد وفاة والده وأيضاً لمعالجة حاكم منطقة الاحساء، وسمح للدكتور ديم أثناء هذه الزيارة بمعالجة البعض من الأهالي. لقد كان الكثيرين من المرضى يأتون منها للعلاج في البحرين لقرب المسافة. وفي عام 1932 وصلت إلى الدكتور ديم برقية مستعجلة من الملك عبد العزيز آل سعود يدعوه فيها للتوجه إلى الطائف لمعالجة أحد أفراد العائلة المالكة، ورحل الدكتور ديم إليها في حوالي أسبوع من البحرين وأقام هناك شهرين لهذا الغرض. وكان أعضاء الإرسالية يرحبون بمثل هذه الدعوات على أمل أن تفتح أمامهم المجال لاقامة نشاط تبشيري في تلك المناطق.
وبعد هذه الرحلات المتكررة شعر المبشرون بعدم وجود عائق كبير يمنعهم من التوغل في شبه الجزيرة لأغراض طبية وتعليمية وتبشيرية. وبعد هذا ادعى المبشرون "أن شبه الجزيرة العربية أصبحت مفتوحة لا ستقبال الرسالة المسيحية.
__________
(1) 1ـ تقع الاحساء في الجانب الشرقي من شبه الجزيرة العربية على ساحل الخليج العربي وفيها معظم منابع البترول في المملكة السعودية ونسبة كبيرة من سكإنها من الطائفة الشيعية.(1/127)
وفي حزيران ـ يونيو عام 1935 قام الدكتور ستورم برحلة إلى داخل شبه الجزيرة العربية وكتب يقول: "لقد أقيمت خدمة مسيحية هامة في الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية، حيث التقى فريقان من مبشري الإرسالية العربية في العاصمة الصحراوية، وكان الفريق الأول يتكون من الدكتور ديم والقس جـ. فان ديرسيوم وزوجته وروبرت فان ديرسيوم والذين عادوا توا من الرياض بعد رحلة تاريخية ناجحة جداً في الأجزاء الشمالية من نجد، حيث تمكنوا من زيارة حائل وبريدة وعنيزة. وكانت هذه أولى الرحلات التبشيرية إلى هذه المنطقة في شمال الجزيرة العربية.
ولكن الدكتور ستورم لم يحدثنا عن نوع الخدمة المسيحية التي أقيمت هناك، ويبدوا أن ما حدث لا يزيد عن بيع بعض الكتب المقدسة، والتحدث إلى بعض الناس عن السيد المسيح ورسالته. وفي عام 1937 قام الدكتور ويلس تومس برحلة إلى الرياض وقدم الخدمة الطبية للعائلة المالكلة بشكل خاص، وقد قام أيضاً بمعالجة البعض من الناس ولكن باعداد قليلة.
وفي عام 1938 طلب الملك عبد العزيز بن سعود من الدكتورة ي. بارني Dr. Y.Barny الحضور إلى الرياض، وكانت أول طبيبة تدخل إلى أعماق شبه الجزيرة حيث قضت أربعة أشهر هناك تعالج نساء العائلة المالكة، وفي عام 1941 قام الدكتور ستورم وزوجته برحلة ثانية إلى تلك المنطقة في حين زار الدكتور هارسون وزوجته الاحساء في نفس السنة. وكتب الدكتور هارسون قائلاً:
"اننا نضع الاسس الصلبة للحصول على موطئ قدم لنا في الصحراء الداخلية الجرداء بين الرجال العجاف نصف الجياع من البدو الذين لا يقهرون. أن الناس يتزاحمون حولنا... وهم بحاجة الينا أكثر من أي وقت مضى، ولم يعد المعارضون يناصبوننا العداء، وفي واحدة من هذه الرحلات مستقبلا سنحصل على الاذن الذي
نريده لبناء أول صرح تبشيري في معقل الإسلام."(1/128)
ويستنتج من هذا أن المبشرين قد اعتقدوا أن رحلاتهم إلى داخل شبه الجزيرة العربية وعدم وجود معارضة علنية ضد نشاطهم الطبي دليل على النجاح في ارساء دعائم عمل تبشيري في تلك المناطق، وظنوا أن مضاعفة جهودهم ستكفل لهم تحقيق أهدافهم التبشيرية لقد كانوا يعتقدون أن نجاحهم في تنصير شبه الجزيرة العربية ستسهل عليهم الانطلاق إلى المناطق المجاورة الاخر. وكان الدكتور هارسون شديد التفاؤل عندما اعتقد أن خدمة الإرسالية الطبية وبيع عدد من الكتب الدينية قاعدة صلبة لكسب سكان المنطقة.
وظل نشاط الإرسالية محصورا بشكل رئيسي بالخدمة الطبية ولم تنجح في الحصول على موافقة بالبقاء في داخل شبه الجزيرة بشكل دائم واقامة منشآت ثابتة يمكن أن تؤدي إلى افتتاح محطات تبشيرية جديدة فقد رفضت الحكومة السعودية أن تسمح للعمل التبشيري بالتواجد على أرضها ولكنها كانت فقط تريد الاستفادة ـ خاصة الاسرة المالكة ـ من نشاط الإرسالية الطبي دون بناء مستشفيات أو مستوصفات داخل المملكة بل تستدعي أطباء الإرسالية لفترات مؤقتة وقت الحاجة. لهذا فان الإرسالية قد فشلت بالرغم من كل محاولاتها في اقامة نشاط ثابت ودائم لها هناك.
وكانت جميع جهود الإرسالية على طول ساحل الخليج العربي تهدف في الواقع إلى تطويق شبه الجزيرة، ومن ثم التغلغل داخلها، ولكن هذا الهدف الرئيسي لم يتحقق بالرغم من كل الجهود المضنية التي بذلت. وقد طرح الدكتور بول هارسون هذا السؤال على نفسه وحاول الإجابة عليه: "هل يستطيع المبشر الطبيب أن يحقق شيئا؟ أن الممارسات الصحية لا يمكن أن تتغير فجأة وعلى نحو ثوري ولكنها بالتدريج تتحسن قليلاً.
إنه يخفف كثيرا من آلام الناس. إنه يكسب صداقة الأعداء ويفتح طريقا لدخول الانجيل إنه يصلي طالبا التوفيق لعمله وبخاصة أولئك الذين هم في رعايته. وربما يتمكن من أن يحقق بهذه الطريقة أكثر مما يمكن أن يحققه بأية طريقة اخرى".(1/129)
لقد أكد الدكتور هارسون ـ وهو نفسه طبيب ومبشرـ على العلاقة بين الرسالة الدينية والوسائل الطبية, وهو يميل لاعتبار الخدمة الصحية طريق إلى النشاط التبشيري الناجح.لكن الهدف الديني لم يتحقق رغم الجهود التي بذلت والوقت الطويل الذي أمضوه في المنطقة.
ماذا اذن بعد هذا العمل الطبي للمبشرين وما هي النتائج التي توصلوا إليها عبر نشاطهم الطبي طوال هذه الفترة؟
إنه في الامكان اختصار خدمات الإرسالية الطبية في المنطقة بتحديد الحقائق التالية:
أولا: لقد كانت المنطقة بحاجة ماسة إلى الخدمات الطبية عندما بدأت الإرسالية الأمريكية العربية بالعمل، وكان هذا أول عهد السكان بهذا النوع من الخدمة الطبية الحديثة. وكانت المنطقة تعاني من انتشار الكثير من الأمراض المعدية وعلاج هذه الأمراض كان يتم بأساليب تقليدية تعتمد في الغالب على الخرافة إلى حد كبير.
ثانيا: وعندما بدأت الإرسالية بتقديم خدماتها الطبية الحديثة تحول الناس تدريجيا إليها بدون معارضة تذكر واعتبرت الإرسالية ذلك مقدمة ناجحة للتبشير الديني.
ثالثا: لقد أدى النجاح الذي حققته الإرسالية في الميدان الطبي إلى توسيع نشاطاتها عن طريق افتتاح المحطات الرئيسية والفرعية الجديدة.
رابعا: ركزت الإرسالية خلال الربع الأول من هذا القرن على تقدم الخدمات الطبية والذي كان النشاط الوحيد الفعّال والمصرح به، وقد امتص هذا النشاط أكبر جهود الإرسالية مما أدى إلى نشوء الخلاف بين أعضاء الهيئة الطبية الذين كانوا يعتقدون بأن الخدمة الطبية هامة وصحيحة وتتصل بالخلق المسيحي، وبين المبشرين من رجال الدين المختصين بالعمل التبشيري الديني والذين كانوا يشعرون أن العمل الطبي قد أصبح طاغياً على العمل التبشيري دومنا مبرر وأنه يجب الحد منه وأن يكون وسيلة لغاية أسمى وهي التبشير الديني.(1/130)
ولم يكن جميع رجال الدين يقفون هذا الموقف بل فئة منهم، ومع ذلك فان الخلاف بين الفئتين ظل قائماً. وفي بعض الحالات كان بعض رجال الدين هم الذين يتصدون للدفاع عن أطباء الإرسالية والدور الذي يقومون به.
خامسا: لقد كانت الخدمة الطبية في الواقع متصلة بالنشاط الديني وكان المستشفى يستخدم أيضاً للتبشير الديني. أما من الناحية الطبية فقد قدمت الإرسالية خدمات جليلة لسكان المنطقة يعتمدون على خدماتها الطبية طيلة أكثر من نصف قرن من الزمان حتى تمكنوا من الاعتماد على أنفسهم.
سادسا: وللوصول إلى المناطق الداخلية من الجزيرة والتأثير فيها قام المبشرون بعدة رحلات ذات طابع طبي لتحقيق هذا الغرض على الرغم من صعوبة التنقل وحرارة الطقس. لقد كان الهدف الأساسي من هذه الرحلات هو الوصول إلى مناطق الجزيرة العربية الداخلية وتنصير سكإنها، ولكن هذا الهدف لم يتحقق رغم الجهود الكبيرة المبذولة.
سابعا: لقد أدى اكتشاف النفط في منطقة الخليج العربي إلى تطوير الخدمات الطبية الحكومية، مما نتج عنه وضع حد لنشاط الإرسالية حيث تأثر نشاط الإرسالية في جميع الميادين بهذا التطور. لقد كانت نشاطات الإرسالية تعتمد بعضها على بعض، وعندما إنهارت الخدمة الطبية في بعض المناطق إنهارت معها الخدمات التعليمية والتبشيرية وتركزت معظم نشاطات الإرسالية بين الوافدين المسيحيين الذين كانوا يحضرون الكنيسة لتأدية العبادات الدينية المسيحية، وبما ان الاعتقاد المسيحي هو أن المسيح جاء شافيا ومعلما لذا فان المبشرين استخدموا التعليم كذلك كوسيلة تبشيرية. لقد أعطت الإرسالية الأولوية للنشاط الطبي نظرا لظروف المنطقة وللطابع الإنساني المؤثر لهذا النوع من النشاط، لكنها أيضاً لم تغفل النشاط التعليمي الذي كان وسيلتها الثانية للتبشير وستكون الخدمات التعليمية للإرسالية هي موضوع الفصل القادم.
جدول رقم: 3 :8(1/131)
المحطة ... متشفى ... مستوصف ... طبيب ... ممرضة ... مساعد مدرب ... اسرة في المستشفى ... ملاحظات
البصرة ... 2 ... 2 ... 7 ... 5 ... 8 ... 83
البحرين ... 2 ... 2 ... 5 ... 4 ... 6 ... 80
الكويت ... 2 ... 2 ... 3 ... 3 ... 4 ... 32
مسقط ... 2 ... 2 ... 3 ... 3 ... 4 ... 50
العمارة ... ـ ... 1 ... 2 ... 2 ... 2 ... ـ
مطرح ... 1 ... 1 ... 3 ... 5 ... 5 ... ـ
الناصرية ... ـ ... 1 ... 1 ... 1 ... 1 ... ـ
المجموع ... 9 ... 11 ... 24 ... 23 ... 30 ... 245
المصدر: Storm, H., Wither Arabia, N.Y.1938, p.110
See Also,Masonand Barny, The History of the Arabian Mission,N.Y.
PP. 242_ 247.
جدول رقم 3: 9
أطباء الإرسالية العربية
1923 ـ 1982
الطبيب ... سنوات ... المحطات الرئيسية والمحطات الفرعية ... ملاحظات
1.شارلز ي. ديجز ... 1982 ... البصرة ... ترك الإرسالية في السنة الاولى
2.جيمس ت. ويكوف ... 1893 ... البصرة
3. هنري د. ل وورول ... 1895 ... البصرة والعمارة ... استقالت سنة 1938
4.شارون ج. تومس ... 1898 ... البصرة ـ البحرين ـ مطرحئ ... تعيين لأجل قصير
5.السيدة ماريون و. تومس ... 1898 ... البحرين ـ مطرح ... ترك الإرسالية سنة 1936
6. السيدة ايما د. وورول ... 1901 ... البصرة ـ مطرح
7.ادترك بينيت ... 1904 ... البصرة ـ الكويت ... تعيين لأجل قصير
8. شارلز سز ما يلريا ... 1906 ... البحرين ـ الكويت
9. الانسة تاير س. جوسلين ... 1908 ... البحرين
10.السيدة أناسي بينت ... 1909 ... البحرين
11.الانسة اليانور كالقرلي ... 1909 ... الكويت
12.بول و. هاديسون ... 1909 ... الكويت ـ البحرين ـ مطرح
13.الانسة سارة. ل. هوسمان ... 1911 ... مسقط
14.الانسة لوس باترسون ... 1914 ... البحرين
15.هول ج فان قلوك ... 1917 ... البصرة ـ الجزيرة العربية البحرين
16.لويس ب. ديم ... 1919 ... العمارة
17وليم ج مورديك ... 1923
ولترن. ليك ... 1923 ... مسقط
الجدول 3: 10
أطباء الإرسالية العربية
1957 ـ 1924
البحرين ... مسقط ومطرح ... الكويت ... البصرة والعمارة
1.لويس ديم ... 1.سارة هوسمان ... 1.أ. بينيت ... 1.قوس
2. س. ج. تومس ... 2. ماري أليسون ... 2.ب هاديسون ... 2. بوش
3. ب. هاديسون ... 3. ب. هاديسون ... 3. س. مايلريا ... 3. نايكرك
4. و. ستورم ... 4. س. تومس ... 4.و. ستورم ... 4. مورديك
5. نايكرك ... 5. و. ستورم ... 5. ل. سكدر ... 5. ل. سكدر
6. هوستكفلد ... 6. هوسنكفلد ... 6. هوسنكفلد ... 6. هوسنكفلد(1/132)
7. سي. ما يلريا ... 7. قوس ... 7. هوسنكفلد
8. قوس ... 8. ببنجر ... 8. ي. كالقرلي
9. مارجريت ... 9. استر بارني
10. س بارني ... 10. ماري أليسون
11. م. ن. تبناني ... 11. روث كروز
المصدر:
Vwness, D., History of the Arabian Mission, New Brunswick, New
Jersey, U.S.A. pp. 37_ 39; 75_79(Unpublished)
جدول رقم 3: 11
أطباء الإرسالية الذين عملوا في الكويت
1910ـ 1975
الرقم ... الاسماء ... سنوات العمل ... ملاحظات
1. ... الدكتور ارتر بينيت ... 1910ـ 1912 ... ثلاثة من هؤلاء الاطباء
الدكتور بول هاريسون ... 1912ـ1913 ... توفوا ودفنوا في الكويت وهم:
02 ... الدكتورة اليانور كالقرلي ... 1912ـ 1929 ... الدكتور مايلريا 1952
03 ... الدكتور ستاتلي ما يلريا ... 1913ـ 1442 ... الدكتور نايكرك 1964
04 ... الدكتورة استربارني ... 1930ـ 1937 ... الدكتور
05 ... ما يلريا والدكتور
الدكتورة ماري اليسون ... 1937ـ 1940 ... الدكتور سكدر 1975
6. ... الدكتور لويس سكود ... 1939ـ 1975 ... سكدر عملا في الكويت
7. ... مدة طويلة
الدكتور ويلز تومس ... فترة قصيرة
80 ... الدكتور هارولد ستورم ... فترة قصيرة ... توفي عام 1975 حيث
9. ... الدكتور الفرد بيننجر فترة قصيرة ... كان يشغل منصب مدير
10. ... الدكتور ايجبرت فل ... فترة قصيرة ... المستشفى العسكري في الكويت
11. ... الدكتور جيرالد نايكرك ... فترة قصيرة
12. ... الدكتور موريس هوسنكفلد ... فترة قصيرة
13. ... الدكتورة برنارد فوش ... فترة قصيرة
14.
المصدر. السيدة دوروثي سكدر من بحيث مقدم إلى ندوة عقدت في الكويت في شهر نيسان (ابريل) 1976 الصفحة2.
عنوان البحث: الخدمة الطبية في الكويت
جدول رقم 3: 12
ممرضات الإرسالية العربية
1924ـ 1957
البحرين ... مسقط ومطرح ... الكويت ... البصرة والعمارة
1.سي. دالينبرج ... 1.الانسة ج. بورسيما ... 1. الانسة قان بلت ... 1.الانسة سي دالينرج
2. السيدة 5. ستورم ... 2. الانسة م. والقورد ... 2. الانسة م. تل ... 2. الانسة جـ. قلدمان
3. السيدة جـ. بيرسوم ... 3. الانسة أ. شانالاز ... 3. الانسة سكدر ... 3. السيدة ج. هولر(1/133)
4. ه. اوديمول ... 4. الانسة جـ قلدمان ... 4. الانسة هوسنكفلد ... 4. الانسة جـ بوكسما
5. جـ. باست ... 5. الانسة أ. دي يوبغ ... 5. السيدة هولر ... 5. الانسة سي. قوس
6. د. بيكسر ... 6. الآنسة س. دالينبرج ... 6. السيدة جـ بكلي ... 6. الانسة أ. دي يوبغ
7. 5. اندوي ... 7. الانسة ت. بومجاددن ... 7. الانسة شمالذ ديدت
8. ن. هيخوس ... 8. الاسنة م. هولمز
9. ن. وود
10. م. شوب
11. السيدة ح. هولد
12. م. تانيس
13. أ. دي يونغ
14.جـ. قلدمان
Van Ess. D., Ibid, pp. 75_79
جدول رقم 3: 13
ممرضات الإرسالية العربية
1902 ـ 1923
الممرضة ... سنة التعيين ... ملاحظات
1 السيدة ي كانيتن ... 1902 ... عملت هؤلاء الممرضات في مختلف محطات
2 السيدة س. زويمر ... 1903 ... الإرسالية، ولا يوجد أي مصدر يعطي
3 السيدة قان بيرسوم ... 1910 ... تفصيلات عن كل منهن وعن المحطة التي
4 الانسة م. هورلز هاوزد ... 1913 ... عملت فيها، كما لا توجد أيضاً أية
5 السيدة د. هاريسون ... 1915 ... معلومات عن الممرضات اللاتي عملن
6 الانسة م. قان بلت ... 1917 ... قبل 1902
7 الانسة سي. دالينبرج ... 1921
8 السيدة سي مورديك ... 1923
المصدر: Van Ess, D., op. cit., pp. 70 _ 75
الفصل الرابع
الخدمات التعليمية كمدخل ووسيلة للتبشير
مفهوم التعليم التبشيري
لقد كان التعليم يحظى باهتمام الإرسالية الأمريكية العربية كوسيلة للتبشير فهو يتصل بالخلق المسيحي لاعتقاد المسيحيين بأن المسيح كان معلما وكان يدعو أتباعه دوما لنشر تعاليمه بين الناس. وقد أكد العهد الجديد على أهمية التعليم كما هو واضح من الآيات التالية:
"وكان يسوع يطوف كل الجليل يعلم في مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت". ويذكر أيضاً:
"وأبتدأ أيضاً يعلم عند البحر.... فكان يعلمهم كثيراً بالامثال".
وفي موضع آخر:
"وفي سبت آخر ذهب إلى مجمعهم وكان يعلم".
ويفهم المسيحيون المبشرون التعليم كما أوضحه باسيل ماثيو بإنه:(1/134)
"وهو تعليم يكشف عن أسرار الكون (عن طريق الجغرافيا والتاريخ والعلوم والرياضيات ونحوها) كما أنشأه الله ودبر أمره. هو روح قاهرة كشف عنها السيد المسيح..... تعليم لحقيقة المسيح وما يعنيه للفرد والمجتمع".
وانطلاقا من هذا المفهوم للتعليم كان المبشرون يعتقدون أن من واجبهم تعليم الايمان المسيحي متخذين من التعليم وسيلة للتأثير على غير المسيحيين. يتضح من تعريف ماثيو للتعليم بإنه بشكل رئيسي تعليم ديني يهدف إلى نشر الفكر المسيحي وفي مقدمته الأنجيل. وهناك آراء مختلفة وربما أكثر تحديدا حول التعليم من قبل قادة التبشير المسيحي منهم القس هوتون Hoton حيث حدد راية بالنقاط التالية:
"أ ـ يجب أن يكون الهدف التبشيري غالبا على التعليم.
ب ـ يجب أن يكون للانجيل المقام الأول في الدروس اليومية وحضور هذا الدرس كما يجب أن يكون شرطا للقبول في المدرسة.
حـ ـ يجب أن يكون الهدف التبشيري ظاهرا وأن يعلم الآباء بأن أبناءهم يحضرون إلى المدرسة ـ ليتحولوا إلى المسيحية.
د ـ يجب بذل الجهود للحد من استخدام المدرسين غير المسيحيين وتزويد المؤسسة بهيئة قادرة على التأثير الفردي المباشر.
هـ ـ يجب على خبراء التبشير أن يضعوا في حسابهم أهمية هذه الامور وارتباطها بالنشاط التبشيري الآخرى."
هذه السياسة أو الاستراتيجية للتعليم التبشيري لاقت حماساً من قبل قادة المنظمات التبشيرية حيث اعتبروا التعليم وسيلة هامة مباشرة لنشر الدين المسيحي.
هذه السياسة المباشرة في استخدام التعليم كوسيلة مباشرة للتبشير واجهت صعوبات عدة يمكن تلخيصها بالنقاط التالية.(1/135)
أولاً ـ إن أولياء أمور التلاميذ الذين يرسلون أبناءهم إلى المدارس التبشيرية قد فوجئوا بأن أطفالهم يتعلمون الديانة المسيحية بشكل أساسي بيمنا كان غرضهم الاساسي من الالتحاق بهذه المدارس هو تعلم اللغة الانجليزية والعلوم الحديثة في الوقت الذي لم تكن هذه تعلم في المدارس الإرسالية الأمريكية العربية في منطقة الخليج العربي وديانة التلاميذ:
جدول رقم 4: 1
موضوعات الدراسة ... ديانة التلاميذ ... الحالة
الانجيل ... مسلمون ... أكثرية
قراءة وكتابة ... مسيحيون ... أقلية
لغة انجليزية ... يهود ... قلة ضئيلة
حساب ... ايرانيون ... قلة ضئيلة
جغرافيا ... هنود ... قلة ضئيلة
زنوج ... قلة ضئيلة
Source: Marson and Barny, Aradian Mission, pp.217_218
ثانيا ـ ومن مشاكل التعليم التبشيري عدم اهتمامه بمستقبل تلاميذ المدارس التبشيرية: وكانت خطة المبشرين في ميدان التعليم اعداد مدرسين وقادة للكنيسة المحلية من المواطنين، ولكن مؤسسات الإرسالية المحدودة لم تكن تستطيع استيعاب سوى عدد قليل من هؤلاء الذين تخرجهم مدارسها حيث أن بعضهم يبقى بدون عمل. ولهذا فان غالبية من تأمل الكنيسة تعليمهم يواجهون البطالة نظرا لعدم وجود المؤسسات المسيحية والغير مسيحية لا ستيعابهم. فالمؤسسات المحلية ذات الطابع الثقافي التقليدي وعدم وجود المجالات الادارية الحديثة آنذاك كانت من المشاكل التي واجهتم فهذه الاعداد استفادت تعليما وثقافة وتنويرا دون أن تجد مجالات لتعمل بها مستفيدة من هذا التعليم المحدود الذي أمضت فيه بضع سنوات(1/136)
ثالثا: أن ما حققه التعليم الحديث من تقدم في جميع أنحاء العالم والاتجاه محليا للاستفادة منه جعل التعليم التبشيري يبدو عديم الجدوى بالطريقة والمفهوم الذي كان يطبق به. ولقد أكد جون موت Mott Jhon على أن التعليم الغربي (التبشيري) لا بد أن يسعى ليلعب دورا أوضح في توجيه الزراعة والتجارة والصحة أبعد من الدور الذي لعبه حتى الآن، وهذا التعليم يواجه أزمة في البلدان الاسلامية إذا لم يواكب تطورها، وهو يحتاج ويستحق الاهتمام والتفهم والدعم من الوطن"
ويتضح من هذه الفقرة بأن التعليم التبشيري كان يواجه أزمة حقيقية، حيث أن نجاح الخدمة الطبية على يد المبشرين لم يؤد كما كان متوقعاً من قبل المبشرين إلى نجاح الوسيلة التعليمية ذلك لحاجة المنطقة الماسة إلى الخدمة الطبية الحديثة، والى عدم استخدام الخدمة الطبية بشكل مباشر في العملية التبشيرية.
رابعا: إنه ومنذ أكثر من نصف قرن كانت المنطقة تمر بالمراحل الأولى من يقظتها الوطنية والقومية، لذا كان القادة الشباب يريدون تعليماً حديثاً يحل محل المدارس التقليدية (الكتاتيب) وليس مجرد استبدالها بالتعليم المسيحي الغربي وقد ظهرت هذه الآراء نتيجة للأسباب التالية:
1ـ طبيعة التعليم التبشيري التي كان واضحا هدفها في التأثير الديني على التلاميذ.
2ـ التركيز على التنصير بالاسلوب المباشر.
3ـ تجاهل التعليم التبشيري للثقافة الوطنية والتاريخ والدين واللغة العربية.
ونتيجة لذلك فإن التعليم التبشيري لا صلة له بواقع المنطقة وأصبح هدف الآباء الاساسي من ارسال أبناءهم إلى هذه المدارس هو تعلم اللغة الانجليزية.(1/137)
فهذا النوع من التعليم قد فشل في أداء رسالته لتحقيق أهدافه في منطقة الخليج العربي. وفي مؤتمر القدس سنة 1924 التبشيري المسيحي طرح موضوع التعليم التبشيري للبحيث وتمكن المبشرون المتعدلون من فرض رأيهم باجراء تعديل على سياسة ومفهوم ومنهج التعليم التبشيري بما يتلائم وظروف المناطق التي يمارسون بها نشاطاتهم، ويتضح المفهوم الجديد مما يلي:
"وكانت مدرسة التبشير فيما مضى تستخدم بشكل أساسي كوسيلة لأشكال أخرى من العمل التبشيري. ولكن هذا الموقف لم يعد ضروريا الآن بسبب تغير الظروف...... يجب أن نؤكد على ضرورة توجيه الطلبة نحو دراستهم التاريخية والعالمية". ولتحديد الهدف الأساسي للتعليم التبشيري يقول أحد قادة التبشير:
"أن الهدف الاساسي الذي يجب على التعليم التبشيري أن يحققه هو تدريب الكنيسة المحلية على تحمل أعبائها..... ويجب أن ينصب تفكيرنا أولا على المعاهد الخاصة بالمسيحيين وحدهم كالمدارس الداخلية ومعاهد التدريب وكليات اللاهوت". ـ ...... أن الكليات المسيحية لا تهدف فقط إلى كسب المتنصرين من بين الوثنيين فحسب بل تساعد على تحقيق الوظيفة الهامة وهي اعداد القادة للكنيسة. وبهذه الغاية التبشيرية التي حددت والتزام هذا النوع من التعليم بالخط التبشيري أصبح وسيلة لتحقيق الأهداف وهو تنصير الاخرين وتحويلهم إلى المسيحية. وفي الواقع أن هذا النوع من التعليم عند ممارسته في منطقة الخليج العربي لم يحقق الكثير من الناحية العلمية والدينية وسيتضح لنا ذلك من دراسة نشاط الإرسالية الأمريكية العربية التعليمي في المنطقة وتقييم تجربتها في هذا المجال، ولكن قبل أن نبدأ بمعالجة هذه النقطة إنه من الضروري اعطاء فكرة عن التعليم التقليدي الذي كان سائدا.
التعليم التقليدي في منطقة الخليج العربي(1/138)
كانت المحاولات الاولى لتزويد التلاميذ بالتعليم الأولي تجري فيما مضى في الكتاب ومهمته الاساسية تحفيظ القرآن وتعليم القراءة والكتابة. وكان "الملا" أو معلم الكتاب يستخدم منزله حيث يقصده التلاميذ لتلقي العلم، وبمرور الوقت حيث أدى الطلب المتزايد على التعليم إلى البحث عن أماكن أخرى للتعليم.
واتجه نتيجة لذلك هذا النوع من المعلمين لكسب أرزاقهم عن طريق الدعوة إلى أن يصبح هذا التعليم رسمياً، وحيث إنه لم يكن هناك تعليم حديث بالمعنى المتعارف عليه اليوم فقد وجد التعليم الكتاتيبي طريقة ليجذب أعداد كبيرة وانخراطها فيه. وعندما بدأ معلمو الكتاتيب يستقبلون تلاميذهم في أماكن خاصة ولنقل غرفة في أحد المنازل أو دكانا في سوق شعبي أو عام أصبح هذا المكان يعرف باسم "الكتاب" وكان الكتاب من الناحية التاريخية هو المكان الذي سيطر على الموقف التعليمي لمدة طويلة وقد كان التعليم في كثير من الكتاتيب مختلطاً، والبرامج تالف بشكل رئيسي من حفظ القرآن وقليل من القراءة والكتابة.
وعندما يختم التلميذ أو التلميذة القرآن ويحفظه يقيم والده أو والدها وأصدقاؤه احتفالاً شعبياً بديعاً يعرف بالختمة(1)وهو احتفال أشبه ما يكون باحتفالات التخرج في هذه الأيام لا بل أكثر أهمية.
لقد كان على الأب عندما يقرر أن يرسل ابنه إلى الكتاب أن يفعل أمرين هامين من وجهة نظر القائمين على هذا النوع من التعليم أولهما: شراء قطعة من الخشب ليكتب أبنه عليها، وكانت الكتابة تمحى بغسلها بالماء. وثانيهما: دفع مبلغ من المال عند دخول الكتاب.
__________
(1) 1 ـ الختمة: كلمة مشتقة من الفعل ختم أي انتهى وسميت الختمة لأن التلميذ قد نجح في ختم القرآن.(1/139)
وكان هذا النوع من التعليم متدرجاً يرعى فيه مستوى المبتدئ والمتوسط والمتقدم فتعلم الحروف الأبجدية كانت المرحلة الأولى وعندما يتمكن التلميذ من السيطرة عليها يبدأ دروسه المتقدمة في القراء والكتابة، وبعد أن يتمكن من هاتين المهارتين يبدأ تعلميه الحقيقي من وجهة نظر "الملا" ألا وهو حفظ القرآن حيث كانوا يبدأون عادة بقصار السور.
أما طريقة القراءة ففي البداية كانت التهجئة، وعندما يشعر الملاّ أن قراءة التلميذ قد تحسنت ينقله إلى مستوى متقدم ويبدأ هو بالقراءة والتلميذ يردد ويصاحب هذا الترديد تحريك الرأس يمينا ويساراً من الملاّ وتلاميذه معاً تعبيرا عن نشوتهم بقراءة الآيات القرآنية وكان التلميذ يختم هذا النوع من الدراسة في سنة أو سنتين وربما أكثر لبعض التلاميذ. ولم يكن هناك امتحان والشيء الوحيد الذي كان يعتبر دليلاً على أن التلميذ قد تعلم هو حفظه القرآن بأكمله. وكان يتبع هذا المستوى من الدراسة مستوى آخر يقوم التلميذ فيه بدراسة القراءة والكتابة بشكل عام، ولكن هذه المرحلة كانت مرحلة عالية ولم يكن يحضرها سوى القليل. لقد كان التلاميذ يتلقون بعض الامثلة الشعبية والأبيات الشعرية والآيات القرآنية أثناء مرحلة تعلم الكتابة ونذكر هنا مثال على ذلك:
"الخط يبقى زماناً بعد كاتبه
وكاتب الخط تحت التراب مدفون"
وعندما يصبح التلميذ ماهرا في الكتابة على اللوح الخشبي يسمح له بالكتابة على الورق والتي كانت المرحلة الأخيرة، وبعدها كان الناس يعتبرونه شخصا متعلماً
"والملاّ" أو المعلم هو الآمر الناهي في الكتاب، حيث لم يكن أحد من التلاميذ يستطيع المناقشة أو المعارضة أو حتى الشكوى، بل كان يأمر وعلى التلاميذ جميعا أن يمتثلوا لأمره ودورهم الوحيد هو التلقي. لقد كان يعامل تلاميذه عادة بشيء من الغطرسة والقسوة.(1/140)
ما يؤكد ذلك أن هذا المربي كان يحتفظ بنوعين من العصي لضرب التلاميذ وترويعهم، واحدة منهما كان طويلة تستخدم لمن يخطئ في دروسه، وكانت من الطول بحيث تصل إلى التلاميذ جميعاً وهو جالس في مكإنه أما الثانية فكانت قصيرة وغليظة وتستعمل للأنواع القاسية من العقاب كالتأخر في الحضور أو احداث الشغب أو الهروب من الكتاب. ولقد كان الملاّ يعتقد ان الضرب ضروري لتعويد تلاميذه على النظام وليثبت لأولياء أمورهم حرصه على مصلحتهم . وكان يردد باستمرار(1)
"رحم الله من بكاني ... لإنه هو الذي رباني"
والحقيقة أن هذه العقوبة لا تمس أبناء الأغنياء أما خوفا من نفوذهم أو طمعا في أموالهم، وكان الملا يبرر هذا التمييز الطبقي وصب عقابه على أبناء الفقراء في الغالب بإنه إذا عاقبت أبناء العامة يتأدب أبناء الخاصة. هذه العقوبة كانت بالغة القسوة في بعض الأحيان وتؤدي بالبعض من التلاميذ إلى المرض المزمن أو الجنون. أما ميزانية الكتاب فقد كانت تأتي من أجور التعليم التي كان يدفعها الآباء في مناسبات عديدة والهدايا التي كانت تقدم له وكان لكل واحدة من هذه اسماً خاصاً:
1) الدخلة: وهي الرسم الذي يدفع لدخول الكتاب وكان يزيد أو ينقص تبعا لمستوى معيشة أهل التلميذ.
2) الخميسية: وكانت تدفع يوم الخميس من نهاية كل أسبوع اما نقدا أو عينا.
3) النافلة: وهي نوع من الاحسان يدفع للملا في الأعياد الدينية كالمولد النبوي مثلا.
4) الفدية: وكانت تدفع للملاّ في صباح أول أيام العيد.
5) الفطرة: وهي زكاة يدفعها أهل التلاميذ في شهر رمضان للملا وكان يعتبرها حقا من حقوقه.
6) الجزاء: وهي هدية يقدمها التلميذ للملاّ عندما يختم جزءا من القرآن.
__________
(1) 1ـ التعليم الكتابي في منطقة الخليج العربي متشابه في طريقته ومنهجه وليست لهذا النوع من التعليم خصوصيات مميزة في امارة عن أخرى.(1/141)
7) الختمة: وهذه هي الدفعة الأخيرة. وكانت هذه الدفعات بخاصة تلك التي تأتي من الأسر الغنية هامة جدا في نظر الملاّ وتدفع له أثناء الاحتفالات التي تقام عند انتهاء التلميذ من دراسته.
لقد كان هذا النوع من التعليم جزءا من حياة الناس ارتبط بواقعهم الثقافي مدة طويلة وقد اختفى تدريجيا عندما دخل التعليم الحديث إلى منطقة الخليج العربي وقد ظل مواكبا له لعدة سنوات حتى تمكن وانتشر التعليم الحديث وانتهى التعليم التقليدي في نهاية الاربعينات وبداية الخمسينات من هذا القرن رغم أن التعليم الحديث قد بدأ في المنطقة منذ العقد الثاني من القرن العشرين.
ذلك يعني ان التحول عن التعليم التقليدي لم يكن فجائيا أو كاملا. فقد مضى بعض الوقت والتعليم الديني التقليدي يسير جنبا إلى جنب مع التعليم الحديث ويؤثر فيه. هذا النوع من التعليم قد لعب دورا هاما في حياة الناس الفكرية والاجتماعية في منطقة الخليج العربي.
لقد بدأ نشاط الإرسالية الامريكية العربية التعليمي في المنطقة والتعليم الكتاتبي قائما والتعليم التبشيري يحمل طابعا حديثا اذ يصحب المواد الدينية علوما أخرى وأسلوباً آخر في العملية التعليمية والتربوية.
الخدمات التعليمية للإرسالية في البصرة(1/142)
شهد العقد الاول من القرن العشرين بداية الخدمات التعليمية للإرسالية الأمريكية العربية في البصرة. وقد استقبل المبشرون التلاميذ في السنوات الاولى من نشاطهم في هذه المنطقة باعداد مشجعة حيث كان أثنائها وبالتحديد عام 1905 السيد بارني Mr. Barny على رأس هذا النشاط، وهو من قادة الإرسالية لقد بدأ عمله في هذا الميدان بافتتاح مدرسة صغيرة في مسكنة، ولكن السلطات التركية أغلقتها بعد فترة قصيرة لعدم وجود ترخيص مسبق بها ولكن هذا الاجراء لم يوقف خطط الارسالية في تقديم الخدمة التعليمية خاصة وإنها تعتبرها من وسائلها الهامة في العمل التبشيري. وفي سنة 1908 سمحت السلطات التركية والمحلية في البصرة للسيد مورديك بافتتاح مدرسة بعد جهود كبيرة للحصول على ترخيص بذلك.
بدأت هذه المدرسة بثلاثين تلميذا وكانت المهمة كبيرة خاصة والارسالية في بداية نشاطاتها وذلك لتأمين البناء المدرسي والمناهج الدراسية المناسبة والكتب والمدرسين علما بأن مناهجها يجب أن تكون باللغة العربية واللغة العربية التي تعلمها المبشرون في فترة وجودهم القصيرة لا تؤهلهم للتعليم بها ولكنها قد توفر الحد الأدنى للتفاهم مع المواطنين. والنشاط التعليمي للإرسالية في البصرة بدأ فعلاً عندما عاد السيد فان إيس وزوجته من اجازتهما عام 1912 حيث أصبحا مسؤولين عن التعليم في هذه المنطقة وبدأ التدريس المنتظم للبنات والأولاد في مدرستين منفصلتين لهما بعد حصولهما على اذن بذلك في نفس العام. وقد سميت مدرسة الأولاد بأسم مدرسة "الرجاء العالي" أما مدرسة البنات فقد سميت مدرسة "الرجاء للبنات" وقد ذكر محمود السمرا في اطروحته للدكتوراة عن سبب اهتمام المبشرين بتعليم الفتيات حيث قال:(1/143)
"لإنهن سيكن أمهات الجيل القادم وكسبهم يعني كسب الأمة كلها." وبعد أن تغلبت الإرسالية على مشكلة الترخيص من السلطات التركية واجهتها مشكلة تأمين المدرسين الذين يجيدون اللغة العربية ومؤهلين لأداء المهمة التبشيرية عن طريق التعليم. وليس هناك حل غير طلب مدرسين أمريكان يختارون بدقة لفترات قصيرة مدتها ثلاث سنوات. ثم جاءت المشكلة الثالثة الخاصة بالمناهج الدراسية ومحاولة التوفيق بين ما تريده الإرسالية وأهدافها وبين قوانين السلطات التركية في ميدان التعليم بالاضافة إلى مراعاة شعور المواطنين وردود فعلهم في اختيار هذه المناهج ونتيجة لدراسة هذه الامور أصبحت الموضوعات (الكتاب المقدس،لغة انجليزية، جغرافيا، صحة وألعاب) وهذا الموضوعات كانت تعطى في مدرسة الأولاد ومدرسة البنات بالاضافة إلى درس في الخياطة والتطريز للبنات. وكان الكتاب المقدس يدرس في جميع سنوات الدراسة حيث كان المبشرون يركزون على هدفهم الرئيسي وهو الهدف الديني.
وفي الحقيقة كان المبشرون على ثقة تامة بنجاح عملهم ولم يكن هناك أدنى شك في قدرتهم على تحقيق هدفهم فقد ذكرت دورثي فان إيس Van Ess D. "يجب أن يكون المسيح في صميم المنهج، وأنا شخصيا لا أرضى أن أقضي خمسة دقائق من حياتي في الشرق وأعلم في مدرسة ما لم يكن التبشير بالديانة المسيحية من صميم المنهج".
وقد استطاع المبشرون وضع نظام ناجح للتعليم، حيث قسموا كل موضوع إلى أجزاء كان التلميذ يسير في دراستها طبقا لقدراته الفردية وكان يهمهم نوعية التعليم لا كميته. وقد نجح النظام التعليمي التبشيري في بعض المناطق لإنه استطاع أن يتكيف مع الأوضاع المحلية وبمراعاة للفروق بين التلاميذ ولكن ليست في وضع المناهج بل في تطبيقها أيضاً. والواقع أن تدريس الانجيل كان ممنوعا عند افتتاح مدرسة البنات في البصرة وكان لا بد من الحصول على اذن بذلك.(1/144)
ولم يسكت الأهالي عندما علموا بأن أبناءهم يتعلمون الانجيل على يد المبشرين وكانت ردود فعلهم مختلفة؛ فمنهم من اشتكى للسلطات المحلية التركية ومنهم من اشتكى الأمر إلى ادارة المدرسة وآخرون أقدموا على سحب أبناءهم من المدرسة.وقد سببت ردود الفعل هذه متاعب كثيرة لنشاط الإرسالية التعليمي في سنواته الأولى. وكما سبق ان ذكرنا في الفصل الماضي فان عمل الإرسالية قد توقف تقريبا أثناء الحرب العالمية الأولى، وقد تأثرت الخدمة التعليمية بذلك أيضا. وبالرغم من الصعوبات فقد بذلت الإرسالية جهودا كبيرة لتستمر خدماتها التعليمية.
وعندما وضعت الحرب أوزارها عاد عمل الإرسالية في المنطقة إلى ما كان عليه. وقد سبق أن ذكرنا أن المؤتمر التبشيري في القدس في سنة 1924 كان يميل إلى تطوير خدمات التعليم التبشيري وأن لا يقتصر هذا التعليم على الايمان المسيحي كي يتمكن من الاستمرار والانسجام مع الأوضاع الجديدة في البلاد العربية، ونتيجة لذلك التزمت خدمات الإرسالية التعليمية بهذا الخط. وفي السنوات القليلية التي تلت الحرب بدأت الإرسالية في تحديث التعليم في مدارسها التي أصحبت تقبل التلاميذ من مختلف الطبقات الاجتماعية الفقيرة والمتوسطة والغنية. وفي عام 1932 سمح للعراق بدخول عصبة الأمم، وفي تلك الأيام كان الشعور الوطني في تصاعد مستمر حيث بدأت مشاعر الكراهية ضد الغربيين تتزايد. وفي نفس السنة عقد مؤتمر تعليمي في بغداد نظمته وزارة المعارف العراقية دعي اليه ستة مدرسين من رجال الإرسالية الأمريكية العربية، وكان لحضور المبشرين المؤتمر أهمية خاصة للأسباب التالي:
ـ أولها ان تعليم الإرسالية كان ذا مستوى لا تستطيع الوزارة تجاهله.
ـ وثانيها أن الإرسالية قد حصلت على اعتراف الحكومة بها وسماحها لها بالبقاء والعمل.
ـ وثالثها أن مستوى الخدمات التعليمية التي تقدمها الإرسالية جيد ومرضي عنه والا لما سمحت الدولة لممثليها بحضور مثل هذا المؤتمر.(1/145)
ـ ورابعها أن موقف نظام الحكم الجديد في العراق كان يختلف عن موقف من سبقهم من الأتراك الذين يحكمون البلاد قبل الحرب العالمية الأولى.
وبحصول العراق على استقلاله الوطني بدأت الحكومة العراقية ترسم سياستها الخاصة، فبدأت التجنيد الاجباري في سنة 1936 وأعفت طلبه المدارس من الخدمة العسكرية إذا نجحوا في الامتحان الذي كانت تضعه ادارة المعارف آنذاك. ومنذ ذلك الحين اضطرت الإرسالية إلى تبني مناهج الدولة حرفيا. ولكن هذا لا يعني أن المبشرين كانوا راضين عنها تماماً، بل لم يكن أمامهم خيار آخر لإنهم في الوقت ذاته كانوا يطبقون مناهجهم الخاصة. وكان يصاحب حماسة العراقيين للتعليم شعور وطني عارم، والذي منا منوا سريعاً بعد الاستقلال وكان التلاميذ يشجعون على دخول المدارس الحكومية بدلا من المدارس الأجنبية, وبالاضافة إلى ذلك لم تكن تعترف بشهادات مدارس الإرسالية، لهذا لم يعد بالامكان أن يحصل حاملوها على وظائف في التعليم، وهو أحد المهن القليلة المفتوحة أمامهم في ذلك الوقت. وما من شك أن الأوضاع التربوية في البلاد قد أثرت على مدرسة الإرسالية وأخذت أعداد المسجلين في المدرسة التبشيرية تتناقص باستمرار وبخاصة من الطلبة العرب المسلمين.
والواقع أن مدرسة الارسالية بامكاناتها المحدودة لم تكن تستطيع أن تنافس ما تقوم به الحكومة في مدارسها أو حتى أن تقوم بمثله، ولهذا قررت الإرسالية أن تتجه لتعليم أبناء جميع الطبقات ومنها الفقيرة التي كانت تشكل غالبية السكان حيث لم تكن مدراس الدولة تتسع لهم أو ترغب في قبولهم. وفي سنة 1940 أصدرت الحكومة قانونا جديدا تمشيا مع سياستها تمنع بموجبه جميع تلاميذ المرحلة الابتدائية من الالتحاق بالمدارس الأجنبية أو الخاصة.(1/146)
وقد اثر هذا القانون على مدراس الإرسالية التي غالبيتها ابتدائية. هذا الاجراء هدد بوضع حد لنشاط الإرسالية التعليمي في تلك المنطقة. ومنذ ذلك الوقت دخلت خدمة الإرسالية التعليمية مرحلة جديدة خاصة عندما طلبت الحكومة منها تسجيل مدراسها رسميا في ادارة المعارف المحلية.
لقد فتحت هذه الخطوة بالمجال أمام الإرسالية لعقد اتفاق مع الحكومة يضفي على نشاطاتها صفة الشرعية، وتم بالفعل التوصل إلى اتفاق بهذا الشأن عندها أصبح للإرسالية صفة رسمية وحصلت على تأكيد بعدم وجود أي تمييز ضد المدارس التبشيرية، وأصبحت العلاقات بينها وبين الحكومة ودية. وبالرغم من أن هاذ الاتفاق قد منح مدارس الإرسالية صفة قانونية الا إنها اعاقت خدماتها التعليمية، ولكنها مع ذلك استمرت في العمل. ويشير تقرير الإرسالية لسنة 1951 إلى زيادة القيود المفروضة على مدارس الإرسالية والصعوبات التي كانت تواجه خدماتها التعليمية في البصرة، وقد أشارت دورثي فان إيس إلى ذلك بقولها:
"لقد بدأ عملنا التعليمي يأخذ طابع الجمود بازدياد القيود التي تفرضها الدولة علينا اذ أننا لم نعد منلك الحرية في إستخدام كتاب مقرر جديد ما لم يكن ضمن القائمة التي تطلبها ادارة التعليم، كما اننا يجب أن نحصل على موافقتها عند تعيين جميع المدرسين لتقرر صلاحية المدرسين لتعليم التاريخ العربي وغيره من الموضوعات المتعلقة بالاسلام".
هذا ما كانت عليه أوضاع خدمات الإرسالية ونشاطاتها التعليمية في البصرة حتى عام 1958 عندما حدثت الثورة في العراق ووضع الحكم الجديد حدا لجميع أنشطة الإرسالية في العراق فيما بعد. وترك أعضاء الإرسالية البصرة إلى غيرها من مناطق الخليج العربي التي كان للإرسالية نشاطا فيها. وكان أعضاء الهيئة التعليمية التبشيرية في البصرة هم:(1/147)
جون فان ايس، جورج جوسلنك وقد ادارا مدرسة الأولاد بنجاح. هنري بلكرت، هاري أماند ودوالد ماكنيل وادوين لويدنز الذين كانوا يعملون مساعدين والآنسة شاولوت كيلين وراشيل جاكسون والآنسة سوانيتنا دي يونج والآنسة روث جاكسون والسيدة دورثي فان ايس والآنسة لاخينا هوجيفين كن مدرسات في مدرسة البنات وقد أسهم مدرسون آخرون لمدة قصيرة بخدمات في مدارس الإرسالية في هذه المنطقة.
الخدمات التعليمية للإرسالية في البحرين:
بدأت الخدمة التعليمية للإرسالية الأمريكية العربية في البحرين في نفس الوقت الذي بدأت فيه الخدمة الطبية فيها، وكانت أول مدرسة للتعليم الحديث على النظام الغربي أنشأت هناك هي المدرسة التي أقامتها الإرسالية في سنة 1892، والتي افتتحتها السيدة س. زويمر Zwemer S. وكانت هذه المدرسة هي الأولى من نوعها في منطقة الخليج العربي وليس في البحرين وحدها. أما عدد التلاميذ والتلميذات الذين التحقوا بهاتين المدرستين فقد كان صغيرا جدا في السنوات الثلاث الأول حيث لم يكن يزيد عن اثنا عشر في كل منهما، وقد ازداد هذا العدد تدريجيا في السنوات التالية ولكنه لم يصل إلى الحد الذي وصل اليه عدد المرضى في عيادة الإرسالية بسبب الطبيعة الإنسانية التي تتصف بها الخدمات الطبية بالمقارنة بالصبغة التبشيرية المباشرة للعمل التعليمي. وكان الآباء قلقون على أبناءهم خشية أن يتحولوا عن دينهم وكان المنهج التعليمي يتالف من:
اللغة الانجليزية، الكتاب المقدس، الحساب، اللغة العربية. وقد أتت المصادر على ذكر موضوعات أخرى. وفي مقابلة صحفية مع السيد ناصيف وهو أحد مدرسي الإرسالية القدامى حيث ذكر بأن موضوعات الدراسة كانت اللغة العربية، اللغة الانجليزية، الكتاب المقدس، الحساب، الجغرافيا، التاريخ. وربما تكون الموضوعات الجديدة هنا قد أضيفت فيما بعد وحول طبيعة هذه الدراسة تحدث السيد أحمد إبراهيم أحد اقدم تلاميذ الإرسالية في البحرين حيث قال:(1/148)
"لقد كانت الدراسة اليومية تبدأ عادة بالصلاة المسيحية وقراءة من الإنجيل. والواقع اننا رغم صغر سننا كنا نناقش مدرسينا في ديننا حيث اننا قد تعلمنا الدين الإسلامي في البيت، وكانت القاعدة الدينية لدينا متينة فكان من الصعوبة التأثير دينيا(1). وكان الدافع الرئيسي لالتحاق التلاميذ بمدرسة الإرسالية هو تعلم اللغة الانجليزية والقراءة والكتابة حيث لم يكن آنذاك بديل عنها.
ولقد كان مدرسون الإرسالية يشكون من بعض المشكلات من أبرزها أن بعض التلاميذ لم يكونوا يستمرون في تعليمهم إلى نهاية المرحلة والتي كانت مدتها أربع سنوات. فقد كان آباؤهم يرسلونهم لتعلم القراءة والكتابة وقليل من اللغة الإنجليزية، وعندما يشعرون بأن أولادهم قد أتقنوها كانوا يسحبونهم من المدرسة للبحيث عن عمل في الحكومة أو في مكاتب التجار. وربما للخوف عليهم من التأثير التبشيري المسيحي إذا طالت مدة مكوثهم في هذه المدرسة
ولم تلاق خدمات الإرسالية التعليمية أية معارضة في بداية الأمر، ولكن هذه المشكلة انفجرت فيما بعد وقد ذكر السيد ناصيف بهذا الخصوص:
__________
(1) 1ـ المقابلة مع السيد أحمد إبراهيم قام بها الكاتب عام 1974 أثناء قيامه بالدارسة لهذا البحيث. والسيد أحمد إبراهيم هو من أوائل تلاميذ الإرسالية الأمريكية العربية وقد كان عمره آنذاك قد تجاوز الثمانين عاما.(1/149)
"لقد حصلت موجة قوية من المعارضة ضد خدمات الارسالية التعليمية، واتهمنا المسلمون المتشددون بأننا نسعى لتنصير المجتمع وليس لتعليم أطفالهم. وأكدت هذا القول دورثي فان ايس D. Van Ess حيمنا ذكرت أن معلمو القرآن حاولوا إقناع أولياء أمور الفتيات بعدم الالتحاق بالمدرسة المسيحية وقد حل بعضهن المشكلة بالذهاب إلى مدرسة القرآن "الكتاب" أولا ثم الحضور إلى مدرسة الإرسالية بعد ذلك. ومما لا شك فيه أن ذلك كان يشكل اضطرابا في التعليم التبشيري حيث كان يؤثر على حضور التلاميذ والتلميذات. والإحصائية التالية تبين أعدادهم في مدرسة الإرسالية والتي كانت ضئيلة:
الجدول رقم 4: 2
التلاميذ المسجلون ... مسلمون مسيحيون يهود
مجموع المسجلين حتى 1 ديسمبر 1907 ... 17 8 ـ
مجموع المسجلين حتى 1 ديسمبر 1908 ... 12 6 3
المقبولون خلال العام الدراسي ... 6 ـ 3
التاركون خلال العام الدراسي ... 11 3 ـ
مجموع الحضور في السنة ... 2656 628 117
معدل الحضور في السنة ... 4ر11% 69ر2% 5%
مجموع أيام السنة الدراسية ... 223 ـ ـ
Source: Van Ess, D.op. cit., p.20
وفي عام 1910 فكر بعض المسلمين المتنورين من أبناء المذهبين السني والشيعي بتقديم التعليم الحديث لأبناءهم في البحرين وبدأ الفريقان بالتنفيذ.
وقد أنشأت الأقلية الايرانية في المنامة "مدرسة الاتحاد: وفي نفس الوقت أسس محمد الزينال وهو تاجر لؤلؤ من الحجاز "مدرسة الفلاح" وكان التركيز على تعليم اللغة العربية والدين الإسلامي والحساب. وبعد ذلك بقليل أنشأت مدرسة مشابهة في المحرق وهي مدرسة "دار العلم" لتعليم نفس الموضوعات.
وبشكل عام فقد كان الدافع من افتتاح تلك المدارس دينيا لمقاومة تأثير المدرسة التبشيرية هناك كما يتبين من التركيز على الدين الإسلامي في مناهجها. وقد اتسعت فكرة اقامة المدارس الحديثة في المنطقة باضافة موضوعات علمية حديثة. يؤرخ للتعليم الحديث في البحرين في الحقيقة(1/150)
منذ عام 1919 عندما أفتتحت "مدرسة الهداية" والتي أقيمت في الطرف الشمالي من المحرق، وقد أسهم الأهالي في تكاليفها، ومناهجها في غالبها مستعارة من مناهج البلاد العربية والمدرسون كانوا من سوريا ولبنان ومصر والعراق.
وفي الوقت ذاته كانت الإرسالية لا تزال تباشر نشاطها التعليمي رغما عن جميع الصعوبات والمعوقات التي واجهتها. لقد تطورت مدرسة الإرسالية للبنات في عهد السيدة لوزديم بعد الحرب العالمية الأولى، واشتمل المنهج في عام 1926 على الكتاب المقدس والحساب والجغرافية واللغة العربية، واللغة الانجليزية والخياطة وقد تبين من سجلاتها أن بعض الزيادة الطفيفة كانت تحصل سنويا في أعداد التلميذات الملتحقات بها.
وفي سنة 1928 انتقلت هذه المدرسة إلى أملاك الإرسالية وشغلت حجرتين من الطابق الأرضي في مبنى الكنيسة، وفي ذلك الحين أنشأت الإرسالية مكتبة مدرسية صغيرة لأول مرة وبدأت المدرسات يشجعن الطالبات على قراءة الكتب البسيطة عندما ينتهون من دروسهم الأخرى.
وكان المبشرون يؤكدون على توجيه البنات نحو الايمان المسيحي.
وفي عام 1929 أفتتح ناد للبنات في المدرسة وأصبح جهاز هيئة التدريس يتألف من المبشرات المسؤولات واحدى المدرسات المحليات يساعدهن المبشرون من الرجال في دروس الكتاب المقدس بالاضافة إلى الممرضة الامريكية التي تدرس مادة رعاية الطفل.
هذه هي أوضاع مدرسة البنات في ذلك الوقت. أما مدرسة البنين فقد كانت تعاني من عجز في الموارد المالية مما دفع التلاميذ أنفسهم بالتبرع مساهمة منهم في حل المشكلة كي يحصلوا على بناء أفضل لمدرستهم. بعد ذلك ارتفع عدد التلاميذ المسجلين فيها إلى 151 تلميذا عام 1932 وكان يمكن أن يستمر العدد في الازدياد لولا ضيق المكان. ويدل هذا الاقبال على حماسة الناس للتعليم في تلك المنطقة آنذاك.(1/151)
ويذكر أحد تقارير الإرسالية عن هذه المدرسة التبشيرية بأن بعض التلاميذ استمر في المدرسة مدة طويلة وان نفور التلاميذ من التعليم المسيحي يضعف كلما طالت مدة بقائهم في المدرسة والمعارضة الشديدة تأتي من التلاميذ الجدد. أن تفسير ما جاء في هذا التقرير يدل بوضوح على أن جهودا كان تبذل في المدرسة للتأثير دينيا على هؤلاء التلاميذ.
لكن عام 1936 شهد اغلاق مدرسة البنين في البحرين بسبب الحاجة إلى الاموال، ومما لاشك فيه أن الإرسالية كانت تشعر بعد ذلك الاجراء بالخسارة الكبيرة الا انها كانت مضطرة إلى ذلك.
والسؤال: لماذا لم تبادر الكنيسة الأم في الولايات المتحدة إلى دعم نشاط الإرسالية التبشيري في ميدان التعليم في هذه المنطقة؟ فقد أوضح السيد ناصيف أن مجلس الإرسالية في الولايات المتحدة رفض تقديم المساعدة الضرورية لتمكين الإرسالية من التغلب على الصعوبات المالية التي كانت تواجهها. ولكن السيد ناصيف والارسالية لم يذكروا الاسباب التي دفعت قيادة الإرسالية والكنيسة إلى هذا الموقف، لكنه يبدو أن الإرسالية وقيادتها في الولايات المتحدة قد قررت أن تعتمد تنظيمات الإرسالية محليا في تمويل نشاطاتها خاصة وانها نشاطات محدودة وفي منقطة بدأت بوادر الثروة تظهر بها منذ نهاية الثلاثينات من هذا القرن. ما الذي حدث لطلبة المدرسة عندئذ؟ الحقيقة أن المصادر المتوفرة جميعها لم تذكر شيئا عن ذلك بعد اغلاق المدرسة ونعتقد ان هناك الاحتمالات التالية:
ـ الاحتمال الأول أن بعض التلاميذ قد توقفوا عن الدراسة وأخذوا يساعدون أولياء أمورهم في أعمالهم في الحقول أو في الغوص في البحر للحصول على للؤلؤ
ـ الاحتمال الثاني ربما يكون بعض من قضوا وقتا طويلا في المدرسة وأتقنوا القراءة والكتابة قد حصلوا على أعمال في الوظائف الحكومية المحدودة آنذاك أو في القطاع الخاص خاصة في وقت كان عدد من يقرأون ويكتبون قليلا جدا.(1/152)
ـ والاحتمال الثالث: أن بعض هؤلاء التلاميذ الذين أغلقت مدرستهم قد التحقوا بالكتاب لاستكمال دراستهم، وآخرون قد التحقوا بالمدارس التي افتتحتها الجماعات المحلية أو الحكومة.
ولكن هذه المدرسة التابعة للإرسالية والتي أغلقت في منتصف الثلاثينات تقريبا افتتحت ثانية بعد فترة طويلة من الزمن أي في نهاية الخمسينات،وفي أثناء ذلك كان التعليم الحديث قد انتشر في أنحاء المنطقة وبدأت الحكومة تفكر جديا في مسؤوليتها عن التعليم عندما أقدمت على تكوين لجنتين احداها كانت مهتمة بشؤون مدارس السنة والأخرى بمدارس الشيعة كان ذلك منذ نهاية العشرينات وفي عام 1930 كان هناك محاولة لدمج اللجنتين في مجال تعليمي واحد تحت الادارة الحكومية. ولكن هذه الخطوة فشلت. وفي عام 1933 اتخذت الحكومة اجراء إيجابيا جديدا بتوحيد مدرسة السنة ومدرسة الشيعة في مدرسة ابتدائية واحدة فيها قسم خاص للبنات من المذهبين وكان الانجاز المبكر في 1932 ـ 1933 نقطة تحول في تقدم التعليم في البحرين.
وبدأت الحكومة بعد ذلك بتطوير المدارس التي تقوم على أسس حديثة وتختلف كثيرا عن المدارس التقليدية التي تعرف بالكتاب، وفي ذلك الحين بدأ ضغط الفئات الدينية على المواطنين كما حدث في المناطق الأخرى لاجبارهم على ارسال ابنائهم إلى مدارسهم وليس إلى مدارس الإرسالية. وكان هذا التطور الجديد في ميدان التعليم في البحرين مصدر قلق ومتاعب للإرسالية والذي اضطرها للتفكير جديا في مستقبل هذا النوع من النشاط التبشيري لقد كان المبشرون يعتقدون بعدم جدوى الدخول في منافسة مع المدارس الحكومية لعدة أسباب:
أولها: ان إمكانيات الإرسالية المالية لا تقارن بامكانيات الدولة.
ثانيا: ان الإرسالية لم تكن في موقف يمكنها من الدخول في خلاف مع الحكومة فوق أراضيها وبين شعبها من العرب المسلمين اذ لم يكن أسهل على الحكومة من مصادرة مدارسها وطرد جميع المبشرين من أراضيها.(1/153)
ثالثا: ان التعليم الحديث الذي جاءت به الحكومة هو ما كانت الإرسالية تدعو إليه لأن هدفها الحقيقي هو تنصير الناس ولذلك لا تستطيع أن ترفض هذا النوع من التعليم وإلا تكون بذلك متناقضة مع نفسها ولهذا فقد قبلت الإرسالية بالتطوير الذي أحدثته الحكومة في التعليم وحاولت أن تقيم علاقات طيبة معه لكي تتمكن من الاستمرار في نشاطها التعليمي في هذه المنطقة.
أما أوضاع مدرسة البنات فقد كانت طبيعية في فترة إغلاق مدرسة البنين. وتطور التعليم فيها كما شهدت زيادة في عدد التلميذات الملتحقات فيها سنويا وبلغ عدد الخريجات ممن نجحن في نيل شهادة مدرسة الإرسالية أحد عشر طالبة. وقد تعمل بعضهن مدرسات في مدرسة الإرسالية وبعضهن أقمن في بيوتهن بسبب ظروف الجزيرة الاجتماعية في تلك الأيام والتي لم تسمح للفتاة بالعمل خارج المنزل. وكان هدف الآباء من تعليمهن هو تنوير عقولهن ليتمكن من القيام بواجباتهن المنزلية ويربين أطفالهن بطريقة سليمة وفكر مفتوح. ولم يعتنق المسيحية أو يتحول عن الإسلام أحد من طالبات وطلاب المدرسة المسلمين الذي درسوا في مدارس الإرسالية. لقد حصل التلاميذ والتلميذات على العلم الذي كانوا يطلبونه لكن مجهودات الإرسالية التبشيرية كنت تصطدم بالعقيدة الاسلامية الراسخة للأبوين وكذلك بالبنية الاجتماعية والدينية للمنطقة.
أما التطورات المتأخرة في نشاطات الإرسالية التعليمية فقد حدثت على النحو التالي:
لقد أعيد فتح مدرسة البنين في نهاية الخمسينات كما سبق أن ذكرنا وتابعت مدرسة البنين والبنات عملها بدون أية متاعب تعرقل مسيرتها. وبعد اكتشاف البترول جاء كثير من الوافدين العرب والاجانب للعمل في المنطقة وكان من بين هؤلاء القادمون مسيحيون. أن الكنيسة الانجليزية أقدمت على اقامة مدارس خاصة بها اضافة إلى مدارس الإرسالية الأمريكية العربية.(1/154)
وفي مقابلة مع السيد يوسف حيدر مدير مستشفى الإرسالية في البحرين عام 1974 ذكر أنه يوجد في مدارس الإرسالية حوالي 450 تلميذا وتلميذة ويتولى مهمة تدريسهم 23 مدرسة. وهذه المدارس ابتدائية ومناهجها هي نفس مناهج المدارس الحكومية فيما عدا الدروس الاضافية في الدين المسيحي. وذكر أنه في منتصف نوفمبر 1974 أمرت وزارة التربية في البحرين مدارس الإرسالية بعدم السماح للتلاميذ المسلمين حضور دروس الدين المسيحي. وهذه كانت من المشاكل الكبيرة في حينها التي واجهت الإرسالية والتي حاولت ادارتها اعادة الدرس إلى ما كان عليه لكنها لم تفلح في ذلك.
وهكذا نرى انه بعد مضي ثلاثة أرباع القرن على بدء نشاطات الإرسالية الأمريكية العربية في البحرين لم تتمكن الإرسالية من تحقيق هدفها الأساسي ولكنها بدون شك قد خدمت سكان المنطقة تعليمياً في وقت لم يكن لديهم أية مؤسسات تعليمية حديثة خاصة بهم. ومما يدعو إلى الغرابة أن هذا النوع من النشاط التبشيري كان أحد العوامل التي أثرت بشكل مباشر أو غير مباشر على تشجيع التربية الإسلامية والتعليم الحديث وتقدمه في المنطقة كرد فعل لهذا النشاط.
الخدمات التعليمية للإرسالية في مسقط:
كانت مسقط ثالث محطة هامة للإرسالية الأمريكية العربية، وكانت تعتبر من المحطات الهامة. في عام 1896 افتتح القس بيتر زويمر Peter Zwemer مدرسة للبنين هناك. لقد كانت حقا ثمرة جهوده الخاصة، وقد عهد اليه بثمانية عشر تلميذا في بادئ الأمر وسميت هذه المدرسة باسم "مدرسة الرقيق المحرر" ذلك انها أسست في البداية لتعليم أطفال العبيد ورعايتهم من أجل تحويلهم إلى الدين المسيحي.
وكان معظم هؤلاء الاطفال من اليتامى وقد كانت رعايتهم والعناية بهم بالنسبة للإرسالية عملا انسانيا يجب أن تضطلع به ولكن أيضا لغرض تبشيري.(1/155)
لقد بدأت المدرسة بأعداد قليلة من الأطفال وكرست السنة الأولى لتأسيس المدرسة، وبعد تنظيم المدرسة جيدا جرى تعيين أول مدرسة ومسؤولة عنها وكانت السيدة راشيل أرملة أحد بائعي الكتب المقدسة المتجولين وخريجة مدرسة الارسالية الامريكية الثانوية في ماردين بتركيا في الحقيقة كانت اللغة لانجليزية من أهم موضوعات الدراسة ولكن باعتبار أنهم في بلاد عربية كان لزاما عليهم أن يقوموا بتدريس اللغة العربية أيضاً وقد قاموا بذلك فعلا.(1)والكتاب المقدس "الانجيل" بالطبع كان من أهم موضوعات الدراسة الرئيسية في هذه المدرسة التبشيرية. أما المشكلة الأولى التي واجهت مدرسة الإرسالية هذه فهي تعدد اللغات التي يتكلمها الأطفال الذين جاؤوا من بلدان متعددة، وكان عدد الاطفال الذين لا يتكلمون اللغة العربية كبيراً مما جعل تنظيم الفصول الدراسية أمرا صعبا حيث كانت لغات هؤلاء الأطفال تتوزع بين البلوشية والسواحلية والهندوستانية والفارسية والعربية. وأكثر الأطفال لم يكونوا يعرفوا غير لغتهم الأصيلة. ولذلك فقد كانت اللغة الانجليزية من أهم موضوعات الدراسة في المدرسة، وقد بدأوا بتعلم الحساب والجغرافية فيما بعد ولكنهم كانوا يقضون بعض الوقت في تعلم القراءة والكتابة والتهجئة.
__________
(1) 1 ـ لقد ذكر القس لويس سكدر الابن في مقابلة له مع الكتاب في سبتمبر 1976 في مدينة نيوبرونزويك في الوالايات المتحدة بأن الاسطول الانجليزي قد أخذ هؤلاء الاطفال من سفينة للعبيد، وقد تطوع القس بيتر زويمر برعايتهم.
** تجدر الاشارة هنا إلى أن مستوى تعليم اللغة العربية لم يكن بالمستوى المطلوب ذلك أن المعلومات المتوفرة توضح بأن المبشرين أنفسهم كانوا يقومون بهذه المهمة في الوقت الذي كانوا فيه أنفسهم يشكون من ضعفهم في اللغة العربية.(1/156)
وقد ذكر جيمس كانتين حول مدى اهتمام التلاميذ وحماسهم للدراسة حيث قال: "وبعض هؤلاء الاولاد وبخاصة الهنود كانوا يتمتعون بقدرة على تعلم اللغات لو ثابروا عليها. أما الأولاد المسلمون فقد كانوا غير منتظمين ولم أكن لأتمكن من اغرائهم بالحضور لولا مكافأت الحضور التي كنت أقدمها لهم". ولكن جيمس كانتين لم يشرح لماذا كان الأولاد المسلمين غير منتظمين في الدراسة، وربما كان السبب الرئيسي هو نفورهم من فرض تعلم الدين المسيحي عليهم، وقد كانت خلفيتهم الدينية وبيئتهم المسلمة تمنعهم تلقائيا من تشرب الدين المسيحي. والدارسة في مدرسة الإرسالية كانت تبدأ وتنتهي بتلاوة من الانجيل والصلاة، كما كان الاولاد يؤخذون إلى الكنيسة بين الحين والآخر. ولم يكن هذا نشاطا مستقلا بل كان يشكل جزءا من نشاط الإرسالية الديني، وهو في الحقيقة اقرب إلى النشاط الديني منه إلى التعليمي.
وأخذ عدد التلاميذ يتناقص في السنوات القليلة التالية حتى بلغ مجموعهم أحد عشر تلميذا من أصل ثمانية عشر في البداية، والجدول التالي يوضح جنسيات التلاميذ ودياناتهم.
جدول رقم 4: 3
جنسية التلاميذ ودياناتهم ... عدد التلاميذ ... ملاحظات
مسيحيون ... 2 ... أختفى أحدهما دون
من عائلة بائع الكتب المقدسة ... معرفة ظروف اختفائه
(عضو في الإرسالية) ... 1 ... أو مصيره.
ابن المترجم في القنصلية البريطانية ... 1
مسلمون من أهالي البلاد ... 2
مسلمون هنود ... 2
أفارقة
المجموع ... 2
11
Source: N.A., Jan_ March 1907, p.13_14(1/157)
وفي الوقت ذاته كان في مدرسة الإرسالية صفا خاصاً للبنات كانت السيدة كانتين تتولى مسؤولية التدريس فيه ستة اشهر في السنة. وكان البنات يتعلمن اللغة العربية واللغة الانجليزية والكتاب المقدس والخياطة. لقد كان معدل عدد الطالبات يتراوح بين خمسة وثمانية، وكانوا يعلمون الاولاد والبنات أجزاء من الكتاب المقدس في اللغة الانجليزية والعربية. وبعد أربع سنوات من افتتاح المدرسة تخرج منها خمسة أولاد ووجد اثنان منهم عملا في القنصلية البريطانية وثلاثة آخرون وجدوا أعمالا في اماكن اخرى وقد أرسل بعضهم إلى فروع الإرسالية في البحرين والبصرة. وترك جميع الاولاد الكبار المدرسة ولم يبق فيها غير صغار السن وورد في أحد تقارير الإرسالية من أن عددا من التلاميذ في مدرسة الإرسالية مستمر في دراسته وهناك صعوبات جمة تحول دون استمرار نشاط المدرسة في نفس الطريق الذي كانت تسير عليه. وبما أن بعض هؤلاء التلاميذ يعملون في المنازل بعد تركهم المدرسة نظرا لظروفهم الاجتماعية فقد رأت الإرسالية من الضروري توجيه بعضهم للعمل في خدمة الاسر المسيحية تحقيقا للهدف التبشيري الذي تسعى له الإرسالية. ويرينا الجدول التالي أسماء بعض تلاميذ وأساتذة المدرسة التبشيرية في السنوات الاربع من نشاطها.
ولسنوات عديدة متتالية كانت الخدمة التعليمية أو النشاط التعليمي للإرسالية في مسقط محدودة
جدول رقم 4: 4
اسماء المدرسين ... أسماء التلاميذ ... ملاحظات
1) القس بيتر زويمر ... 1) جيمس ... ليس بين هؤلاء أي طفل من
2) ف. ج. بارني ... 2) صموئيل ... ابناء المواطنين العمانيين
3) القس ج. كانيتين ... 3) حنا ... بل انهم جميعا يتامى
4) السيدة كانتين ... 4) مرقص ... ولقطاء.(1)
__________
(1) 1ـ يتضح من قراءة أسماء التلاميذ في الجدول أعلاه انها أسماء مسيحية. لقد كان هؤلاء الاطفال هم لقطاء وأبناء العبيد تولت الإرسالية مسؤولية تربيتهم وتعليمهم وأطلقت عليهم أسماء مسيحية.
5) السيدة راشيل ... 5) أندرية ... ... ... ... ... Source: N.A., April_ June 1899, p.8. ... ... ...
6) ستيفن
المجموع (5) ... 7) أدريان ...(1/158)
8) هنري
9) ناثان
المجموع (9)
وغير ناجحة لأن العمل كان في أيدي مبشرين مسؤولين بشكل رئيسي عن أعمال تبشيرية أخرى ولم يكونوا متفرغين للمهمة التعليمية، مثل القس بيتر زويمر والقس ج. كانتين و ف. بارني هؤلاء كانوا رجال دين أساسا تحملوا مسؤولية التعليم لأسباب:
الأول: قلة عدد أعضاء الإرسالية مما أدى إلى تركيز النشاطات في أيدي قلة منهم في هذا المجال.
الثاني: الحرص على أن يتولى مبشرون هذه المهمة لتحقيق الغرض التبشيري الديني من التعليم كونه وسيلة تبشيرية من أهم الوسائل التي استخدمتها الإرسالية.
وبالرغم من كل ذلك يمكننا القول بأن الخدمة التعليمية كانت منتظمة نسبيا في السنوات العشر الأولى من عملها في تلك المنطقة، وخلال الحرب العالمية الأولى لم تتأثر خدمات الارسالية هناك بشكل مباشر ولكن نشاط الإرسالية بمجمله قد تأثر بشكل غير مباشر بظروف الحرب فقد كانت مسقط موقعا استراتيجيا هاما يسيطر على مدخل الخليج العربي ويطل على المحيط الهندي. وبعد انتهاء الحرب عادت الخدمة التعليمية إلى حالتها الطبيعية، وفي الوقت ذاته استمر الكتاب بتأثيره الديني الواسع في تقديم الخدمات التعليمية التقليدية للمواطنين.
وفي عام 1936 بدأت الحكومة المحلية بالتفكير في التعليم الحديث وافتتحت أول مدرسة لها في عام 1938 واستقدمت المدرسين من سوريا، واستطاعت هذه المدرسة أن تجذب اليها بعض تلاميذ الارسالية. ونتيجة لهذا الظرف وسعت الإرسالية من خدماتها التعليمية، ويبدو أن ظروفها آنذاك أصبحت أفضل من السابق وقد ورد في تقرير للإرسالية ما يلي:(1/159)
"هناك رغبة ظاهرة في التعليم هنا، ولكن الحكومة لا تستطيع تأمين المدارس الكافية. هناك فرصة رائعة أمام الإرسالية لتدريب الشبان المحليين وفتح آفاق مستقبل أفضل أمامهم. يضاف إلى ذلك أنه يوجد هنا عدد متزايد من الأطفال من أبناء من نجحنا في تنصيرهم(1). ممن يجب أن يكونوا في مدارس مسيحية وليس في مدرسة القرآن الكتاب. ويجب استغلال الفرص المتوفرة من اجل ملكوت الله".
وقد وجد خريجوا مدرسة العبيد المحررين، في مسقط أعمالا في أماكن مختلفة والقائمة التالية توضح مجالات عمل هؤلاء:
جدول رقم 4: 5
مجالات عمل المتخرجين من مدرسة الإرسالية ... عددهم ... ملاحظات
الملتحقون ببرنامج تدريب الممرضات في البصرة ... 3
فتيات انتقلن إلى البحرين لرفع قدرتهن على التعليم
فتيات يعملن في مستشفى النساء في مسقط ... 2
عملوا في أماكن أخرى في مؤسسات الإرسالية ... 3
عملوا في مستشفى الرجال في مسقط ... 2
عملوا بصورة متقطعة في مؤسسات الإرسالية ... 3
المجموع ... مجهول
13
Source: Van Ess, D., op. cit., p. 33.
ولم يكن عدد متخرجي الإرسالية كبيرا حتى الآن وربما يعود ذلك إلى الصعوبات الكثيرة التي كانت تعترض نشاط الإرسالية والتي كانت تحاول جاهدة التغلب عليها.
وبعد فترة من الزمن أصبح التلاميذ الملتحقين بمدرسة الإرسالية يتكونون من أبناء الاسر المسيحية بالاضافة إلى أبناء المبشرين مع عدد ضئيل من أبناء الأهالي. وبعد افتتاح المدارس الحكومية شعر المبشرون بالقلق خوفا من أن تجذب هذه المدارس التلاميذ الملتحقين بمدارسهم، وقد علق السيد دايكسترا أحد قادة الإرسالية سنة 1943 على ذلك بقوله:
__________
(1) 1ـ لقد ذكر تقرير الإرسالية هذا ان هناك عدد من الاطفال في مدرسة الإرسالية من أبناء من نجحوا في تنصيرهم. والحقيقة أن مصادر الإرسالية وغيرها لم تذكر الا عدد قليل جدا من الذين أصبحوا مسيحيين في كل منطقة الخليج (انظر فصل النشاط الديني).(1/160)
"ولم نكن نستطيع أن نسمح لأطفال مجموعتنا المسيحية أن يضيعوا منا أو أن يقعوا تحت تأثير الآخرين. أن المجموعة المؤلفة من 24 طفلا هي نواة القوة من الأهالي ممن سيقومون بتنصير مسقط والجهود التي صرفناها عليهم لا يجب أن تذهب هباء".
في الحقيقة لقد كان السيد دايكسترا متفائل جدا بمستقل خدماتهم في المنطقة ولكن آماله لم تتحقق بسب التطورات الحديثة في الأوضاع التعليمية والاجتماعية والسياسية والدينية والاقتصادية.
وهكذا فبرغم الجهود التي بذلها المبشرون في منطقة كانت الإرسالية تعتبرها هامة جدا لم تكن النتائج مشجعة أو ناجحة. وكأن عدد من استطاعت الإرسالية تنصيرهم في المنطقة ضئيلا جدا هذه صورة أخرى من صور نشاط الإرسالية التعليمي في مسقط. وللحقيقة يجب القول أنه رغم أن الغرض التبشيري كان وراء النشاط التعليمي للإرسالية الا أن أهالي المنطقة كانوا ولا يزالون يشعرون بالتقدير لجهود الإرسالية لادخالهم التعليم الحديث إلى المنطقة.
النشاط التعليمي للإرسالية في الكويت
قبل أن تبدأ الإرسالية الأمريكية العربية نشاطها التعليمي في الكويت كان "الكتاب" أو التعليم التقليدي هو الاسلوب الوحيد الذي يسيطر على النشاط التعليمي في البلاد كما كان الحال في غيرها من مناطق الخليج العربي فيما عدا أن فكرة اقامة المدارس الحديثة بدأت مبكرة في الكويت كما سيتضح.(1/161)
وفي عام 1913 قررت الإرسالية أن تبدأ نشاطها التعليمي في الكويت وأخذ أدوين كالفرللي بالإعداد لافتتاح مدرسة في المستشفى الأمريكي التابع للإرسالية، ولكنه عدل عن ذلك وأوجدها في منزل تابع لأحد المواطنين يدعى "بيت الربان" لقد كان عدد التلاميذ في البداية قليلا حيث لم يكن يزيد عن اثني عشر تلميذا. وقد ألف السيد كالفرللي كتابا لتعليمهم مبادئ اللغة الانجليزية واللغة العربية أن الدافع لالتحاق هؤلاء التلاميذ بهذه المدرسة هو تعلم القراءة والكتابة واللغة الانجليزية. وكان المبشرون في الحقيقة يعولون الكثير على رسالة ودور هذه المدرسة بالرغم من قلة عدد تلاميذها. وحول أهمية هذه المدرسة قال السيد أدوين كالفرللي:
"باعتبار أنها الطريقة الوحيدة أمامنا في الكويت للتأثير على الشباب بشكل متصل، لقد مكننا العدد البسيط من التلاميذ من أن نثق بهم وبمستقبل هذا النشاط واننا كنا على استعداد لقبول أعداد اكبر لو تمكنا من اقناعهم للالتحاق بمدرستنا". وخلال ثلاثة أشهر من افتتاح المدرسة ظهرت معارضة دينية قوية من المواطنين ضد نشاطها، والتي أدت إلى سحب أولياء الأمور معظم أبنائهم من المدرسة، وكانت هناك عدة أسباب لهذه المعارضة:
السبب الأول: أن السيد كالفرللي كان يأخذ الأولاد اسبوعيا إلى الصلاة يوم الأحد في الكنيسة. الثاني: أنه كان يعلمهم الدين المسيحي ويعطي كلا منهم نسخة من الكتاب المقدس في اللغة العربية ليأخذها معه إلى والدية في المنزل السبب الثالث: أن نشاطات الإرسالية التبشيرية كانت أيضاً تلقى معارضة متزايدة خاصة عندما افتتحت الإرسالية مكتبة في السوق الرئيسي لبيع الكتاب المقدس وكتب دينية أخرى مما لفت انتباه رجال الدين، فبدأوا حملة واسعة من الوعظ في المساجد وفي لقاءاتهم مع الناس ضد النشاط التبشيري.(1/162)
ونتج عن هذه المعارضة تطوران هامان: الاول: تأسيس "المدرسة المباركية" وهي أول مدرسة حديثة في الكويت. والثاني تكوين "الجمعية الخيرية" والتي سنأتي على توضيح مهمتها.
المدرسة المباركية
أنشأت هذه المدرسة في سنة 1912 على أسس حديثة نوعا، وقد سميت المدرسة باسم حاكم الكويت آنذاك الشيخ مبارك. وكان الهدف الأول من انشائها مواجهة تحدي نشاط التعليم التبشيري الذي كان قائما في البحرين وكان في طريقه إلى الكويت، والهدف الثاني كان لتدريب الكتبة لادارة أعمال التجار الذين ساهموا في بناء هذه المدرسة عن طريق جمع التبرعات. لقد شيدوا مبنى ضخماً للمدرسة وعينوا السيد عيسى بن يوسف العيسى ناظرا عليها. وكانت المدرسة لا تختلف كثيرا في بداية الامر عن "الكتاب" التقليدي فيما عدا اهتمامها بالقراءة والكتابة والحساب التجاري. أما في بقية الموضوعات فقد كان الدين الإسلامي محور العملية التعليمية، لكن مناهج المدرسة ما لبثت أن تطورت تدريجيا لتستوعب المزيد من الموضوعات الحديثة في الصفوف العليا.
ولم يكن حضور التلاميذ في المدرسة منتظما خاصة في موسم الغوص على اللؤلؤ عندما كان بعض التلاميذ يرافقون آباءهم إلى البحر.
والاحصائية التالية تبين عدد التلاميذ في المدرسة في السنوات الخمس الأولى.
جدول رقم 4: 6
السنوات ... عدد التلاميذ ... الرسوم بالروبيات ... ملاحظات
1912 ... 254 ... 3580
1913 ... 346 ... 3820
1914 ... 332 ... 4700
1915 ... 304 ... 2600
1916 ... 341 ... 3420
المصدر: عبد الله النوري، قصة التعليم في الكويت، القاهرة، ص 45.(1/163)
وكان هناك ثلاثة أنظمة للتعليم في البلاد في آن واحد "الكتاب" بشكله ومضمونه التقليدي ثم المدرسة التبشيرية التابعة للإرسالية الأمريكية العربية باسلوبها الحديث وأخيرا المدرسة الاهلية الحديثة "المباركية" والتي كانت في الحقيقة منافسة للاثنين. واتضحت المنافسة بين هذه المدارس عندما أدخلت المدرسة التبشيرية بعض المواد استحدثتها المدرسة المباركية والتي تعني بالموضوعات التجارية وقد أشارت دورتي فان ايس إلى ذلك بقولها:
"كانت المهن التجارية تلوح في آفاق الكويت، يبدو أن التدريب التجاري هو ما يجب أن تقدمه الإرسالية لشباب الكويت. وقد خصصت ساعات المساء في المدرسة الأولاد لهذه الدراسة والتي اشتملت أيضاً على الكتاب المقدس وطرق الحياة المسيحية"
وفي سنة 1932 وصل العدد الاجمالي لتلاميذ الإرسالية والذي جرى تقديره بجمع الحضور الشهري للدوام الكامل والدوام الجزئي والدوام المسائي إلى 421 تلميذا. وفي الوقت ذاته أصبح عدد طالبات مدرسة الإرسالية للبنات والتي بدأت بخمس طالبات احدى وأربعين طالبة في سنة 1932. والمنهج الدراسي في مدرسة البنات هو نفس منهج مدرسة الاولاد ما عدا مادة الخياطة.
وهكذا فان مدراس الإرسالية استمرت بالعمل رغم المعارضة الشديدة التي واجهتها. ولكن إلى متى؟ في الحقيقة أن الإرسالية قد وجدت نفسها في عام 1933 غير قادرة على الاستمرار في نشاطها التعليمي في مدرسة البنين في هذه المنطقة والسبب الرئيسي لذلك هو العجز المالي الذي كانت تعاني منه مما أدى ذلك إلى اغلاقها.(1/164)
وهذه المدرسة كانت باشراف القس كالفرللي والقس يونج والقس في. بارني. ولم تفتح هذه المدرسة أبوابها ثانية في الكويت، لأن الكويت كانت قد بدأت رسمياً بتقديم الخدمات التعليمية الحديثة لأبنائها منذ ذلك الوقت عن طريق افتتاح عددا من المدارس الحديثة مزودة بمدرسين من البلاد العربية. وبدأت قصة هذا التطور التعليمي في عام 1936(1)عندما شعر بعض وجهاء البلاد ان المدرسة المباركية لم تعد تكفي حاجة البلاد من الخدمات التعليمية فقرروا تأسيس مديرية المعارف. وقامت الادارة الجديدة بدعوة المجلس الإسلامي الأعلى في فلسطين لارسال بعثة تعليمية لتنظيم المدارس الجديدة، ونتج عن ذلك افتتاح أربع مدراس ابتدائية سنة 1936. 1937 ثلاثة منها للبنين وواحدة للبنات أما الهيئة التدريسية فقد كانت من فلسطين وسوريا والعراق ومصر وبعد اكتشاف النفط في المنطقة أصبحت المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية للبنين والبنات تزداد وتتضاعف أعدادها. ولم يفسح هذا التطور السريع المجال للإرسالية بمواكبته والاستمرار في نشاطاتها التعليمية فقامت باغلاق مدرسة البنات في نهاية الاربعينات. وهكذا انتهت نشاطات الإرسالية الأمريكية العربية التعليمية في الكويت قبل أن تنتهي خدماتها الطبية بوقت طويل والخلاص أن هذا النوع من النشاط لم يحقق أهدافه كمدخل ووسيلة للتبشير المسيحي، ولم يكن له دور اجتماعي يذكر بالمقارنة بالخدمات الطبية التي قامت بها الإرسالية في المنطقة.
الخدمات التعليمية للإرسالية في المحطات الفرعية
لم يكن للإرسالية الأمريكية العربية نشاطات تعليمية في محطاتها الفرعية مثل العمارة ومطرح للاسباب التالية:
أولا: أن امكانيات الإرسالية التعليمية كانت محدودة ولهذا فانها لم تتمكن من التوسع في تقديم هذه الخدمات خارج محطاتها الرئيسية.
__________
(1) 1 ـ يلاحظ أن التعليم الحديث بدأ رسميا في مناطق الخليج العربي تقريبا في وقت واحد وهو الثلاثينات من هذا القرن.(1/165)
ثانيا: أن نشاطاتها التعليمية في محطاتها الرئيسية كانت تلقى معارضة شديدة من الزعامات الدينية في المنطقة ولذلك فان الإرسالية قد ركزت هذه النشاطات في محطاتها الرئيسية، لأن أي توسع في هذا المجال كان يعني توسيع نطاق المعارضة ضد عملها ككل.
ثالثا: أن عدد التلاميذ المسلمين في مدارس الإرسالية كان محدودا وذلك لم يكن مشجعاً على افتتاح المزيد من المدارس في المحطات الفرعية لهذه الاسباب فان نشاطات الإرسالية التعليمية لم تمتد إلى محطاتها الفرعية.
ويمكن تلخيص نشاطات الإرسالية التعليمية بالحقائق الهامة التالية:
أولا: لقد كان الهدف من التعليم من وجهة نظر الإرسالية هو وسيلة لنشر الايمان المسيحي والكتاب المقدس.
ثانيا: أن خدمات الإرسالية ونشاطاتها قد اختلفت من محطة لاخرى. ففي البصرة واجهت معارضة السلطات التركية والتي لم تكن موجودة في غيرها من محطات الإرسالية في تقديم نشاطاتها التعليمية بقليل وقبل أن تبدأ في محطاتها الأخرى.
لقد كانت خدمات الأرسالية التعليمية غير مستقرة في الكويت والبحرين بسبب المعارضة الدينية القوية هذا بالاضافة إلى متاعب الإرسالية المالية.
رابعا: لقد كان للنشاط التعليمي المستمر في البحرين ومسقط أسباب ومبررات:
أ ـ ان هاتين المنطقتين كانتا تحت النفوذ البريطاني والسياسة البريطانية لم تكن تعارض العمل التبشيري أبدا في المناطق الخاضعة لنفوذها.
ب ـ لأن البحرين جزيرة فقد كانت معزولة عن طريق القوافل التجارية البرية التي كانت تمر عادة بالمناطق الاخرى كالكويت. وكانت ذات أثر ديني خاصة القادمة من نجد.
ويضاف إلى ذلك ان البحرين أصبحت قاعدة لنشاط الإرسالية بعد البصرة ولذا فانها قد ركزت امكانياتها واهتمامها في هذه المنطقة.
جـ ـ لقد كانت عمان ولا تزال بحاجة شديدة للتعليم الحديث لأن هذه المنطقة لم تتطور كغيرها من مناطق الخليج، لذلك فان خدمات الإرسالية الطبية وغيرها من الخدمات استمرت هناك.(1/166)
خامساً: ـ ان الخدمات التعليمية أثبتت فشلها كمدخل ووسيلة للتبشير المسيحي في هذه المنطقة لتعليم الاجيال الجديدة في منطقة الخليج العربي الايمان المسيحي بهدف تنصيرهم، لقد كان الهدف نفسه دينيا وليس تعليميا. أيضا أن الإرسالية كانت تقوم بنشاطها التبشيري فور بدء عملها في أي محطة حيث كانت هذه الوسيلة تولد ردود فعل سريعة. لقد كانت الإرسالية تمارس أنشطتها الدينية من خلال مؤسسات متعددة من بينها المدارس والمستشفيات وغيرها والتي كانت تستخدم لأغراض دينية. وسنتعرض للدور التبشيري لهذه المؤسسات في فصل قادم.
الفصل الخامس
النشاط الديني للإرسالية العربية الامريكية
أن هدف الارسالية العربية هو التنصير التام للجزيرة العربية، ابتداء من الخليج العربي الذي أتخذ قاعدة للانطلاق، وقد عبر الدكتور هاريسون عن هذا الرأي بوضوح:
"اننا نريدهم ان يصبحوا مسيحيين"
والتبشير هو تقديم الانجيل ورسالته إلى العالم أجمع، والاعمال التي تؤدي إلى تحقيق هذه الرسالة هي صلب العمل التبشيري، وهذا الاسلوب يتصل اتصالا وثيقا بالخلق المسيحي أيضاً والذي ينص على ان الوسيلة الاساسية لنشر المسيحية في العالم هي التبشير بالانجيل وقد أكد الانجيل على هذه الرسالة اكثر من مرة:
"فلتذهب اليهم وليكن لك اتباع بين جميع الامم"
"ويجب أن يعم الانجيل كل الامم"
التبشير في المفهوم المسيحي اذن هو نشاط ديني يهدف إلى تنصير غير المسيحيين وقد عرف صموئيل بوم ات Samuel Boom Itt من سيام التبشير كما يلي: "العيش والعمل والحديث من أجل المسيح"
وقد ذهب الدكتور رويو هيكو كاواوا Royohiko Kaqawa إلى أبعد من ذلك معتبرا التبشير مطلبا دينيا أساسيا فقال:
"التبشير يعني تحويل الناس عن الامور الدنيوية إلى ملكوت السموات. أن هذا التحويل ضرورة مطلقة لانه بدون ايقاظ الجوع الروحي فليس هناك أمل للفرد أو المجتمع أو الجنس أو الامة"(1/167)
وقد اعتبر المبشرين الكنديين في الصين أن هدف التبشير هو "احداث تغيير في الحياة بحيث يصبح الإنسان مخلوقا جديدا يعيش حياة يمكن أن نصفها بأنها انتقال من الموت إلى الحياة"
والواقع أن جميع هذه التعريفات تتفق على أن التبشير كفكرة مسيحية تعني نشر المسيحية في العالم. ويذهب العلماء والمسيحيون إلى التأكيد على ضرورة التبشير إلى حد دفع هيو تومسون كير Hugh Thomson Kerr للقول: "لقد ارسلناه لا للوعظ الاجتماعي ولكن للخلاص، لا للحديث عن الاقتصاد بل للتبشير، لا للتقدم بل للصفح، لا للنظام الاجتماعي الجديد بل للمولد الجديد، لا للثورة بل للانبعاث الروحي، لا للتجديد بل للاحياء، لا للانعاش بل للبعث، لا للتنظيم الجديد بل للخلق الجديد، لا للديموقراطية بل للانجيل، لا للحضارة بل للمسيح، اننا سفراء ولسنا سياسيين".
ويتفق الجميع على ان التبشير هو ركن أساسي من أركان الكنيسة الحديثة. ومع هذا فان هناك خلافا كبيرا على طبيعة النشاط التبشيري. لقد كان المبشرون يعملون على تحقيق أهدافهم بممارسة أنشطة مختلفة وبعض هذه الأنشطة كالتعليم والخدمات الطبية هي وسائل غير مباشرة لتحقيق هدف ديني كما أوضحنا في الفصلين السابقين إن التبشير نشاط مباشر حيث يقوم المبشرون بمهمة التبشير بالانجيل وعقد الاجتماعات الدينية والوعظ لمن يرغب بالاستماع. ومهما يكن فان صلاة الأحد والمراسم الكينسية من الجوانب الهامة في النشاط الديني وهي بالتأكيد جزء أساسي هام من نشاط الإرسالية العربية. ولكن هل هذه الاعمال ذات طبيعة تبشيرية؟ وبعبارة أخرى هل تحقق أية أهداف تبشيرية؟ وهذه القضية من الموضوعات التي يكثر حولها الجدل وهناك بعض قادة التبشير المعاصرين ممن لا يؤمنون مطلقا بالفكرة القائلة بأن هذين النشاطين تبشيريان. وقد أكد أحد الباحثين المسيحيين ممن لهم خلفية تبشيرية بعبارات صريحة بأن مراسم العبادة التي تؤديها الكنيسة ليست عملا تبشيريا وهو يضيف قائلاً:(1/168)
أن هذه الخدمات تهدف إلى تحقيق ثلاثة أهداف:
1) عبادة الله الخالق المخلص.
2) تقوية عرى المودة بين جميع من يعبدون الله باسم السيد المسيح.
3) تقوية ايمان اولئك الناس وممارستهم لذلك الايمان في حياتهم اليومية "عن طريق قراءة الانجيل والوعظ والمراسم المقدسة والاناشيد الروحية وما إلى ذلك".
ووجهة النظر الاخرى ترى أن التبشير ليس كلمة بسيطة ولا عملا بسيطا انها عملية معقدة تهدف في حال نجاحها إلى تنصير التابع بعدة طرق منها ما هو مباشر ومنها ما هو غير مباشر وكلها تهدف في النهاية إلى كسب التابع إلى الكنيسة ويصبح عندها واجب الكنيسة أن تعمق فهم التابع للمسيحية وتعمل على تنصيره النهائي. أن الصلوات والخطب والأحاديث مع أتباع الكنيسة وأخيرا الجو الديني المسيحي ضرورة للتابع المسيحي المخلص. وبعبارة أخرى فان آخر مراحل العملية التبشيرية الناجحة هي الكنيسة وصلوات الاحد. وبهذا المعنى يمكن اعتبار الكنيسة وصلوات الأحد وسائل تبشيرية وهناك من المبشرين من يعلمون وفق هذه الطريقة وقد أكد الدكتور ستانلي ما يلري ان العمل التبشيري في الكويت كان ينتهج ثلاثة أساليب رئيسية في التبشير(1)وكانت صلوات الأحد واحدا من هذه الاساليب.
ويشتمل العمل التبشيري الديني في المنطقة على أنشطة متعددة كالرحلات، مكتبات الكتاب المقدس، الاتصالات الشخصية، استخدام المدارس والعيادات والمستشفيات للنشاط الديني، والمطبوعات التبشيرية وأخيرا صلوات الأحد والكنيسة. وسوف نتوسع في معالجة هذه الأنشطة في الصفحات التالية.
الرحلات التبشيرية:
__________
(1) 1 ـ عندما ذكر الدكتور مايلري انه كان العمل التبشيري في الكويت ينتهج ثلاثة أساليب رئيسية في التبشير فهو يعني النشاط الطبي والتعليمي والديني.(1/169)
لقد بدأ العمل التبشيري بعدد من الرحلات، وكان الهدف منها هو استكشاف المنطقة ودراسة عادات الشعب وتقاليده والأهم من ذلك التعرف على الاتجاهات الدينية في المنطقة، وكان المبشرون يقومون خلال جميع هذه الرحلات بتوزيع الكتاب المقدس بقصد التعرف على رد الفعل لهذا العمل عند المواطنين وكان أحد الأطباء يصاحب كل فريق في هذه الرحلات لكي يعطي الرحلة طابعاً طبيا تجنبا لأي معارضة من الناس أو الحكومات المحلية. وكانت معالجة بعض المرضى بمثابة جواز ينتقلون بواسطته من منطقة إلى أخرى.
وقد مرت هذه الرحلات بمراحل عدة وكان هدفهم في البداية استكشاف المنطقة جغرافيا ودراسة حياة الناس وأفكارهم وكانت الرحلات واسعة وسريعة ولم تكن تستغرق الواحدة منها سوى بضعة أيام.
والمرحلة الثانية كانت أكثر شمولا وعمقا وبعد افتتاح محطة رئيسية أو فرعية في المنطقة أصبحت رحلاتهم تسير في اتجاهين الاول يغطي القرى المحيطة بالمحطة والثاني يتجه إلى الاماكن التي يزعمون اقامة محطاتهم التالية فيها. وكانوا خلال هذه الرحلات يبيعون الكتب الدينية باسعار رمزية. ليس ذلك فقط بل كان المبشرون يحاولون التحاور مع الناس عن حياة المسيح ورسالته.
وكانت المشكلة الرئيسية التي تواجه المبشرين في هذه الرحلات هي كيفية التعرف إلى الناس وقد كانوا يبدأون دوما بالسؤال عن عادات الناس الدينية ثم يبدأون بالانتقال إلى رسالة المسيحية وعن الآيات القرآنية التي تحدثت عن السيد المسيح والعذراء.(1/170)
وكان السيد جـ كانتين والسيد ص زويمر هم الرواد وأول من بدأوا هذا النوع من الرحلات التبشيرية لدراسة الميدان الذي سيعملون فيه وقد غادر السيد كانتين إلى بغداد ثم إلى المحمرة في اكتوبر 1892، وتبعه السيد زويمر في هذا النوع من النشاط وذهب أيضا إلى بغداد في شهر آذار (مارس) من ذلك العام بحثا عن بائع متجول للكتب الدينية في محطتهم الجديدة في البصرة كما أنه اشترى بعض الكتب الدينية لمكتبة الكتاب المقدس هناك.(1/171)
وبعد هذه الرحلات قام السيد س. زويمر برحلته الاولى إلى الاحساء على ساحل الخليج العربي في عام 1892. ومن هناك سافر إلى بعض المناطق القريبة منها لدراسة امكانية اقامة عمل تبشيري هناك. وفي اثناء هذه الرحلات أجرى مقابلات مع الناس ومع الموظفين الاتراك وباعهم بعض الكتب الدينية. وكان موقف الناس والسلطات منهم في ذلك الحين طبيعيا ولم يجدوا ما يريب في زيارة هذا العدد القليل من الافراد، أضف إلى ذلك عدم معرفتهم بالأهداف الدينية للزيارة. وقد شجعتهم رحلة السيد زويمر بنجاحها المحدود على تكرار الزيارة مرة بعد أخرى لتحقيق الاغراض ذاتها. وبدأوا بعد ذلك بتوسيع رحلاتهم مع التركيز على بيع الكتب الدينية، وفي عام 1899 امتدت رحلاتهم إلى البحرين أيضاً وقد قام بزيارتها ثلاثة من رجال الإرسالية هم السيد زويمر والدكتور ورال وأحد باعة الكتب الدينية حيث زاروا معظم قرى البحرين، وكانت رحلاتهم هذه واسعة ونشيطة والذي يتضح من عدد الرحلات إلى تلك المنطقة والتي بلغت احد عشر رحلة في سنة 1900 قطعوا خلالها ما لا يقل عن 3735 ميلا واستغرق ذلك 487 يوما من بائعي الكتب المقدسة، وفي نفس تلك السنة قام الدكتور ورال وأحد بائعي الكتب المقدسة برحلة إلى القطيف إلى الشمال من الاحساء، ومما ساعد على قيامهم بهذه الرحلة أن الدكتور ورال وهو قائد الرحلة كان حاصلا على شهادة دبلوم تركية تسمح له ممارسة الطب. وقد كانت هذه الشهادة شرطا أساسيا لممارسة الطب في تلك المناطق من قبل الاطباء غير الاتراك. وتتلخص منجزاتهم في السنوات الماضية في تأسيس عدة محطات في البصرة والبحرين ومسقط ومد رحلاتهم إلى المناطق الداخلية من الساحل كالقطيف. وقد وجدوا أن عليهم أن يعملوا الكثير إذا أرادوا تغطية المنطقة التي كانوا يعتبرونها ميدانا لعملهم.(1/172)
لقد كانت عمان وشبه الجزيرة العربية من المناطق التي شملتها هذه الرحلات في تلك المدة لأن هذه المناطق كانت تقع ضمن ميدان عمل الإرسالية وقد باعوا 3646 نسخة من الكتاب المقدس في السنة الأخيرة أي سنة 1900.
وقد بلغت هذه الرحلات الناصرية في العراق والتي أصبحت واحدة من محطاتهم الفرعية وحازت على اهتمام الإرسالية فترة من الزمن في سنة 1901 قام الدكتور هاري ويرسوم Harry Wiesum وأحد باعة الكتب المقدسة بزيارة تلك المنطقة في قارب صغير وقد اعترضهم في الطريق بعض رجال السلطات التركية وكان الدكتور ويرسوم ورفيقه يحملان معهما بعض الكتب الدينية. وبما أن قانون الجمارك كان يقضي بالتصريح بكل ما يحملونه معهم لكن تفتيشهم أدى إلى العثور على الكتب الدينية ومصادرتها. وكان تفتيش أمتعة المبشرين درسا قاسيا لهم ولكنهم لم يعرفوا كيف يستفيدوا من ذلك الدرس. وكان من الواضح أن اسلوب التبشير المباشر لم يكن مجديا وفكروا في التركيز على الاساليب غير المباشرة، ولكنهم استمروا بالعمل المباشر وغير المباشر دون أن يحققوا النتائج المرجوة. وقد أدركوا مؤخرا ان العمل المباشر لا يعود عليهم الا بالمتاعب، ولذلك فقد كانوا يسعون جاهدين لاصطحاب طبيب معهم في كل رحلة من هذه الرحلات. وبالتدريج أصبحت معظم هذه الرحلات طبية يرافقها أحد رجال الدين وليس العكس كما كان الحال سابقا.(1/173)
وفي اثناء هذه الرحلات كانوا يقابلون أنواعا كثيرة من الناس واولهم الأهالي المسلمين والذين كان معظمهم من الاميين والموظفين الاتراك والجنود. وكان لكل من هذه الفئات خليفتها الثقافية، التعامل والتفاهم مع هذه الفئات المتنوعة من الناس يقتضي من المبشرين عدم اقتصار نشاطهم على هذه الرحلات القصيرة. وقد أدركت الإرسالية هذه الحقيقة وهذا هو ما دعاهم إلى اعطاء الاولوية لاقامة اكبر عدد من المحطات. وقد جلبت عليهم هذه السياسة مزيدا من المتاعب لأن عملهم أصبح يغطي مساحات شاسعة وجعلهم يتوسعون اكثر مما تتيحه لهم امكاناتهم. وهكذا فان هيئتهم التبشيرية وكذلك امكاناتهم كانت محدودة، والذي جعل تأثيرهم على الناس محدودا أيضاً واضطرهم إلى التخلي عن بعض محطاتهم كالناصرية وبعدها العمارة كما سيتضح لنا فيما بعد. وأحيانا كانوا يقلصون من عدد رجالهم في بعض المحطات الرئيسية أو الفرعية تاركين فيه أثنين أو ثلاثة من المبشرين في مناطق يعد سكانها بمئات الألوف من الناس، ومع كل هذا فان رحلاتهم قد امتدت إلى الساحل الجنوبي الشرقي من منطقة الخليج العربي.
وفي عام 1904 قام المبشرون بعدة رحلات من مسقط إلى المناطق الداخلية المجاورة والى داخل عمان، وحاولوا زيارة اكبر عدد من الأماكن. ولم تواجه هذه الرحلات أية معارضة ملحوظة ولكن عدم وجود المعارضة لم يكن يعني الرضى بالاهداف التبشيرية وكان السبب يرجع بشكل رئيسي إلى وجود الطبيب من أعضاء الفريق والذي جعل هذه الرحلات مفيدة ومقبولة بسبب حاجة المنطقة الشديدة إلى المعونة الطبية يضاف إلى ذلك أن الاهالي والذين كانوا في غالبيتهم من الأميين لم يتمكنوا من هضم الافكار الجديدة وكان المبشرون يستخدمون لغة عربية ركيكة ويحملون أفكارا جديدة وغريبة مما جعل من العسير على الناس ادراك المرامي البعيدة لهذه الرحلات.
مكتبات الكتاب المقدس:(1/174)
كانت مكتبة الكتاب المقدس واحدة من أهم المؤسسات التبشيرية والتي كان تقام عادة في مكان يتوسط السوق لاجتذاب اكبر عدد من المواطنين. وكان المبشرون يعتقدون أن دور المكتبة أهم بكثير من مجرد بيع الكتب الدينية. اذ كان أهم أهدافها هو لقاء الناس والتحدث اليهم وكسب صداقتهم. وكانت البصرة أول قاعدة للإرسالية ولهذا فانها شهدت افتتاح أول مكتبة للكتاب المقدس في عام 1892.
وكانت هذه المكتبة شيء لم يألفه الناس ولم يسبق لهم رؤية ما يشابهها في بلادهم من قبل ولذلك فقد كان الكثيرون يزورونها لشراء الكتب والتحدث إلى هؤلاء الغرباء ومعرفة ما يجري من الأمور. وكان لكل من زوار المكتبة دافع خاص، فبعضهم كان يأتي بدافع حب الاستطلاع، وبعضهم كانوا مرضى وجاؤوا يسألون عن المستشفى أو المستوصف. وبشكل عام فان معظم الناس لم يكونوا يدركون السبب الذي يدعو هؤلاء الاوروبيين الذين كانوا يسيطرون على معظم أجزاء العالم في ذلك الوقت للمجيء إلى بلادهم الفقيرة لبيع بعض الكتب مقابل قليل من المال!
وبمضي الوقت بدأ الناس يدركون أن هذا المكان لم يكن مجرد مكتبة عادية ولكنه كان مؤسسة مسيحية وأحد الوسائل التي يستخدمها المبشرون للتأثير عليهم تأثيرا دينيا. ولم يكن من الممكن بقاء مكتبة الكتاب المقدس وحدها في هذه البلاد وبين هؤلاء الناس. ولهذا ظهرت مؤسسات مسيحية أخرى كالمؤسسات التعليمية والطبية والتي كانت تهدف إلى دعم المكتبة واعطائها طابعا انسانيا بالاضافة إلى مهمتها التبشيرية.(1/175)
وقد لاقى نشاط المكتبة في البداية مقاومة شديدة من أهالي البصرة من المسلمين وبخاصة من زعمائهم الذين شعروا بأن هذا النشاط يمكن أن يسيء إلى الدين الإسلامي. وقد اعتبرت الإرسالية هذه المعارضة أمرا طبيعيا، وأن الناس قد بدأوا يستمعون تدريجيا إلى الرسالة المسيحية. وقد زاد الاقبال على الكتب الدينية في السنة الثانية والثالثة من افتتاح المكتبة، ويمكن ارجاع ازدياد الاقبال عليها إلى عدة عوامل والعوامل التالية هي أهمها:
أ ـ حاجة الاهالي إلى القراءة نظرا لعدم وجود مكتبات حديثة مشابهة في ذلك الوقت.
ب ـ كان بعض الزعماء الدينيين والمتعلمين من أهالي البلاد يشترون هذه الكتب لمعرفة ما تحويه ومدى خطورتها حتى يتمكنوا من مواجهتها.
جـ ـ كما أن البعض يشترون الكتب تقربا من الإرسالية للحصول على العناية الطبية.
د ـ لقد أنشئت هذه المكتبات في فترة هامة شهدت حربين عالميين، وكان المتعلمون والمتنورون من الناس يرغبون معرفة أخبار العالم والتي كانت مكتبة الكتاب المقدس توفرها عن طريق الجرائد والمجلات.
ان دور بائع الكتب لا يقل عن دور الكتاب الذي يبيعه، حيث كان يقوم بالزيارات المحلية وفي كل زيارة من هذه الزيارات كان يبيع الكتب المقدسة ويتحدث مع الصيادين والتجار في متاجرهم ومنازلهم ومع عامة الناس في الاسواق، وكانت هذه الزيارات تغطي مسافات قصيرة وتستغرق ما لا يزيد عن بضعة ساعات. أما الزيارات البعيدة والتي تتطلب عدة ايام تترك للمبشرين، وعلاوة على ذلك فقد كان بائع الكتب كثيرا ما يغلق مكتبته لبعض الوقت ويرافق المبشرين في زيارتهم للقرى والمناطق المجاورة.. وكان الدور الذي يلعبه بائع الكتب الدينية على جانب كبير من الاهمية مما جعل الإرسالية تدقق كثيرا في اختيار من يقوم بهذه المهمة، لقد كانت هناك أسس معينة لاختيار هؤلاء الاشخاص وأهم هذه الأسس ما يلي:(1/176)
1ـ يجب ان يكون بائع الكتب المقدس محليا ومن أهل البلاد لأنه هو القادر على فهم الناس وكيفية التعامل معهم، ويعرف كيف يقدم لهم الرسالة المسيحية.
2ـ يجب أن يكون مسيحيا ملتزما التزاما عميقا وعلى ايمان تام بسمو وعظمة الرسالة التي يحملها.
3ـ يجب أن يتمتع بموهبة خاصة للعلاقات العامة ليدرك طبيعة من يقابلهم ويتعامل معهم. يتضح هذا الفهم من التصور التالي لدى المبشرين عن الإنسان العربي:
"أن العربي المعتز بنفسه.... يجب أن ندنو منه بالطريقة السليمة. ويجب أن ننظر بالاحترام اللائق للحيته، وللأفكار التي يحملها عن الحشمة ولاحترامه لجميع المقدسات والتقاليد الراسخة"
ويجب أن يعرف بائع الكتاب المقدس كيف يشجع ويقوي ايمان المتنصر الجديد لأنه المبشر الأقرب من غيره إلى الناس.
ولم يكن العمل في مكتبة الكتاب المقدس مقتصرا على بائع الكتب ولكن أحد المبشرين الدينيين كان يقضي ساعتين أو ثلاثا يوميا في المكتبة محدثا الناس عن المسيحية محاولا الابتعاد قدر الامكان عن التعرض للاسلام(1). وبالاضافة إلى ذلك فقد كان يحاول أن يبسط أفكار الانجيل لانه كان يعلم بأنه يتعامل مع اناس أميين وجهلة في الغالب.
والحقيقة أن مكتبة الكتاب المقدس كانت ذات طبيعة تبشيرية، وكان هدفها الرئيسي توزيع الكتب المقدسة والتحدث إلى الناس عن الايمان المسيحي، والذي كان يطبعها بالطابع التبشيري الصريح مما حدا برجال الدين والزعماء المسلمين إلى اعتبارها نوعا من الغزو المسيحي للمنطقة لا بد من مواجهته.
__________
(1) 1 ـ لقد اتبع بعض المبشرين هذا الكتاب وهو عدم مهاجمة الإسلام ولكنه ليس قاعدة عامة حيث كانت اجتهادات فردية، وكما يتطلب الموقف لكن المبشرين مع ذلك كانوا حذرين وهم يخوضون في الأمور الدينية أو غيرها.(1/177)
وقد حملت هذه المكتبات الناس على الاعتقاد بأنها كانت تهدف إلى تحدي السيطرة الاسلامية في المنطقة بأجمعها. ومن الطبيعي أن تبدأ المعارضة على مقياس ضيق في البداية ثم أخذ نطاقها بالاتساع تدريجيا. وكان حب الاستطلاع يسيطر على الناس في بادئ الامر ويحدوهم الشوق لمعرفة المزيد عنها ولكن طبيعتها التبشيرية كانت سريعا ما تتضح للكثيرين. وفي هذه المرحلة تبدأ المعارضة في اتخاذ شكل ظاهر. وقد بدأت المعارضة والصراعات المحلية حول المؤسسات التبشيرية وبخاصة مكتبة الكتاب المقدس منذ الايام الأولى من انشائها. وأخذت المعارضة المحلية تقوى وتمنو تدريجيا إلى أن أصبحت قوية مع مرور الأيام.
جدول رقم 5: 1
احصائيات بيع الكتب المقدسة وغيرها
من شهر يناير إلى شهر مارس 1893
اللغة ... الانجيل ... العهد القديم والجديد ... الاجزاء ... مجموع مبيعات الكتب المقدسة ... الكتب التعليمية ... الكتب
الدينية
العربية ... 3 ... 7 ... 68 ... 78 ... 60 ... 81
العبرية ... 6 ... 7 ... 13
التركية ... 1 ... 1 ... 18 ... 20 ... 5 ... 37
الفارسية ... 1 ... 1 ... 3 ... 5 ... 103
الانجليزية ... 3 ... 9 ... 12
2 ... 12
الفرنسية ... 2 ... 1 ... 1 ... 3
الالمانية ... 4 ... 4
الفرنسية ـ العربية ... 2 ... 2
الانجليزية العربية ... 3 ... 3
التركية ـ العربية ... 1
العربية الانجليزية
Source: N.A.,Jan_May 1893 Basrah,p.6
جدول رقم 5: 2
قيمة الكتب المباعة بالدولار
النوع ... يناير ... فبراير ... مارس ... المجموع
كتب مقدسة ... 08ر2 ... 50ر3 ... 58ر5 ... 16ر11
كتب دينية ... 05ر8 ... 40ر2 ... 42ر4 ... 87ر14
كتب تربوية ... 25ر9 ... 50ر13 ... 85ر20 ... 60ر43
المجموع ... 38ر19 ... 40ر19 ... 85ر30 ... 63ر69
Source: N.A.,Jan _ May 1893 Basrah, p.6.
جدول رقم 5: 3
مبيعات الكتب، الربع الأول 1895
اللغة ... انجيل ... العهد ... اجزاء ... كتب ... كتب ... كتب
القديم ... مقدسة ... دينية ... تربوية
والجديد
العربية ... 4 ... 5 ... 153 ... 162 ... 64 ... 77
الفارسية ... 1 ... 23 ... 24 ... 1
التركية ... 1 ... 21 ... 21 ... 4 ... 4
العبرية ... 1 ... 1 ... 18 ... 18
الارمنية ... 1 ... 1 ... 1 ... 43
الانجليزية ... 6 ... 1 ... 2
الفرنسية ... 1 ... 2 ... 70 ... 124
البرتغالية ... 9 ... 216 ... 1
المجموع ... 231
Source: N.A., First Quarter 1895,p.7.(1/178)
وقد واجهت كتبة الكتاب المقدس في مسقط سنة 1897 مشكلة رئيسية عندما بدأ رجال الدين حملتهم ضد النشاط التبشيري هناك. كانت هذه المعارضة بتأثير الافكار الوهابية. وفي اعتقاد بعض المبشرين ان للعربية السعودية بموقعها الهام في شبه الجزيرة العربية وقيادتها الدينية ومعارضتها للنشاط المسيحي تأثير في اثارة وتشجيع هذه المعارضة. ولكن ذلك النوع من المعارضة لم يكن مقتصرا على مكان محدد بل كان في الواقع يشمل المنطقة التي كانت الإرسالية تعمل بين سكانها، تلك المعارضة كانت تختلف من مكان إلى آخر وكانت تتنوع طبقا ليقظة الناس ومستوى نشاط العمل التبشيري. ونتيجة لهذه الموجة من المعارضة اغلقت الإرسالية مكتبة الكتاب المقدس في الناصرية في سنة 1902 وقد جاء اغلاقها في وقت كانت الإرسالية تتوقع لمحطاتها الفرعية ان تمنو وتتوسع وما من شك أن الإرسالية لم تكن في موقف يمكنها من الدخول في منازعات مع اهالي البلاد في أرضهم وبين شعبهم ولكنها كانت تأمل أن يأتي اليوم عندما يتمكنون من التغلب على تلك المشكلة. ولكن ذلك اليوم في تلك المحطة كما ورد في تقرير الإرسالية لم يأت أبدا ولم تفتتح المكتبة هناك بعد ذلك مطلقا. وكانت المعارضة في الكويت والبحرين أشد وأكثر تنظيما مما كانت عليه في المناطق الأخرى، وفي سنة 1913 شدد الزعماء الدينيين حملتهم ضد العمل التبشيري وافتتحوا ناد ثقافي اسلامي في البحرين باسم "النادي العربي الإسلامي" برئاسة أحد رجال الدين وهو محمد بن مانح والذي كان من أصل نجدي. ويعتبر من المسلمين المتحمسين ومن انصار المذهب الوهابي. ولم يكن بن مانح هو قائد المعارضة الوحيد في البحرين، بل أن قاضي البحرين الشيخ قاسم بن مهزع والذي يرجع اصله إلى الاجزاء الوسطى من شبه الجزيرة العربية أي الحجاز كان أيضاً من كبار زعماء المعارضة. وقد أخذ القاضي بالتركيز على تعليم الشباب الذين درسوا العلوم الاسلامية في مدرسة أخيه "أحمد".(1/179)
وكان يؤكد في تعليمه على خطورة العمل التبشيري. وكان الشيخ بن مهزع واخوه يشكلان جناحا قويا للمعارضة في البحرين عندما كان س. زويمر يبذل كل ما في وسعه لتأسيس مكتبة الكتاب المقدس وغيرها من المؤسسات المسيحية. وفي سنة 1913 قامت في الكويت جمعية أخرى للمعارضة وهي "الجمعية الخيرية" وكان هدفها الرئيسي هو مناهضة العمل التبشيري، وقد حاولت الجمعية بناء مقاومتها كرد فعل لنشاط المبشرين كما سيتضح من البندين الاول والثاني من خطتها:
1) أن أول ما ستقوم به جمعيتنا من أعمال هو:
تعيين واعظ مسلم عالم بأمور ديننا ليعظ أبناء شعبنا.
2) وقد قررنا أن نأتي بطبيب وصيدلي مسلم لمعالجة مرضى بلادنا".
وقد قامت هذه الجمعية بانشاء مكتبة جيدة ولكن الجمعية لم تستمر طويلا لأن الشيخ مبارك أمرها بالتوقف عن أعمالها لأنه شعر بأنها تعارض سياسته فهو نفسه الذي سمح للإرسالية بالعمل في بلاده. يضف إلى ذلك أن معظم من كانوا يزورون مكتبة الكتاب المقدس من الكويتيين كانوا يذهبون هناك للمحاورة فقط متهمين الإرسالية بانها تهدف إلى هدم الإسلام وابداله بالمسيحية.
اختار المبشرون موقع مكتبتهم بالقرب من السوق الكبيرة مقابل الجامع الرئيسي. وكان هذا الموقع هو أنسب مكان للقاء جموع كبيرة من الناس والعمل بينهم ولكنه في الوقت سبب للمبشرين كثيرا من المتاعب بسبب موقعه مقابل أكبر مساجد المدينة والذين جعلهم يقفون وجها لوجه مع زعماء المسلمين التقليديين الذي كانوا يستخدمون المسجد للصلاة واللقاءات اليومية.
الجدول 5: 4
مكتبات الكتاب المقدس في محطات الإرسالية
المحطات الرئيسية ... العدد ... سنة ... المدة ... ملاحظات
والفرعية ... التأسيس
البصرة ... 1 ... 1891 ... 0 ... أغلقت بانتهاء عملهم
هناك.
البحرين ... 1 ... أوائل 1893 ... 2 ... أعيد افتتاحها
مسقط ... 1 ... 1893 ... 1
الناصرية ... 1 ... 1897 ... 4 ... أغلقت سنة 1902
العمارة ... 1 ... 1897 ... 0 ... أغلقت بعد الحرب
العالمية الأولى
الكويت ... 1 ... 1903 ... 6 ... أغلقت 1904 وافتتحت
سنة 1910 أغلقت ثانية(1/180)
في نهاية الخمسينات
Source: Neglected Arabia, 1891_1910
ويرينا هذا الجدول سنوات افتتاح مكتبات الكتاب المقدس(1). وسنوات اغلاقها في جميع محطات الإرسالية الرئيسية والفرعية.
لقد حاول المبشرون الاستمرار في نشاطهم التبشيري بالرغم من المعارضة: وكان اهتمامهم ينصب على عدم اثارة المزيد من المعارضة ولكن هذه السياسة كانت صعبة ولم يكن تحقيقها بالأمر السهل في مدينة صغيرة كالكويت والتي تتمتع بنظام ديني واجتماعي متماسك. وكان الشيء الوحيد الذي مكنهم من البقاء في الكويت هو موقف أمير البلاد المؤيد بسبب حاجة عائلته وشعبه لخدماتهم الطبية.
الدور التبشيري للمتشفى والمستوصف:
لقد كانت الخدمات الطبية دوما هي المدخل الرئيسي للتبشير وقد عالجنا هذا الموضوع بالتفصيل في فصل سابق. وسنؤكد في هذا الفصل على الدور التبشيري غير المباشر للمستشفى والمستوصف.
كان المستشفى والمستوصف يستخدمان استخداما جيدا للعمل التبشيري الذي كان معظمه يجري عن طريق هاتين المؤسستين وكان الاطباء يقومون بالوعظ وكذلك مساعدوهم ورجال الدين الذين كانوا يجلسون بين المرضى ويقرأون آيات من الكتاب المقدس وكان المرضى يصغون بصمت اثناء القراءة والتفسير الذي كان يتبعها كما كانت الصلاة تتلو القراءة عادة. وقد قال السيد علي حسين يصف ذلك:
__________
(1) 1ـ لا تزال بعض مكتبات الإرسالية موجودة في بعض مناطق الخليج في مسقط والبحرين والكويت وهي تابعة للكنيسة الانجليكانية البروتستنتية.(1/181)
"ومنذ عشرين عاما مضت كنت مريضا وقررت أن أذهب إلى المستشفى الأمريكي في الكويت وكنت بحاجة إلى عملية. وقد أجراها لي الاطباء، ولقيت في المستشفى كل الرعاية وقد قضيت هناك ثلاثة أسابيع وفي كل يوم كان أحد رجال الدين يأتي للجلوس بجانب كل مريض ويحدثه بعض الوقت وقد تحدث أحدهم معي وبدأ يسألني عن أحوالي الاجتماعية وعن أحوال عائلتي ثم انتقل بالحديث إلى الدين وكانت لغته العربية جيدة. ولم يهاجم الإسلام بل كان معظم حديثه يتركز حول السيد المسيح وكان أحيانا يقرأ لي من الانجيل وفي اليوم الأخير اهدوني نسخة منه".
وكان المبشرون يقومون بالوعظ بين المرضى في العيادات أو في الاجنحة أو عندما كانوا يزورونهم في منازلهم. وكان رجال الدين كثيرا ما يزورون المرضى ويجلسون عند أسرتهم ويحدثونهم عن موضوعات مختلفة تتعلق بحياتهم وأحوالهم الاجتماعية والاقتصادية وبالتدريج ينتقلن إلى الحديث عن الدين، وقد قال أحدهم:
"لقد كان لزيارة المرضى قيمة كبيرة".
وكان الطبيب أيضاً يلعب دورا مزدوجا، اذ كان يعالج المريض من ناحية ويحدثه بضعة دقائق عن الدين من ناحية أخرى وعند خروج المريض من المستشفى كان المبشرون يحاولون زيارته في منزله وكثيرا ما كانوا يدخلون معه في نقاش ديني واجتماعي.
وكان الشيء نفسه يحدث مع المرضى من النساء. وعلى أية حال لم يكن النساء بنفس تعاون الرجال واهتمامهم لان القليل منهن يأتين يوميا والأقل كن يستطعن القراءة والكتابة ولذلك فان حديث المبشرين مع النساء كان في غاية البساطة وقد أكد أحد تقارير الإرسالية على ذلك:
"وخلال الصلاة كان بعض النساء يوشكن أن يقلن آمين؛ ولكنهن لم يكن ينهضن للصلاة".
وقد ذكر القس جـ. بيننجز يصف الحال في الكويت:
"وكان السيد دي يونج بمساعدة بائع الكتب الدينية يقوم بالتبشير في المستشفى بانتظام واخلاص".(1/182)
وكان عدم الاهتمام الذي يوليه بعض المرضى من المسلمين لهذا المنحى التبشيري الذي يتبناه العاملون في المستشفى والعيادة دليل على القناعة بعدم إيجابيته وكانت حاجة الأهالي للعناية الطبية وعدم وجود بديل آخر للعلاج الطبي الحديث في المنطقة في ذلك الوقت يجعلهم يقبلون هذا الوضع ويصغون إلى المناقشات التبشيرية.
والواقع أن معظم المواطنين الذين كانوا يأتون إلى المستشفى كانوا من المسلمين العاديين، وكانوا يأتون أساسا للعلاج الطبي وكانت مشاعرهم الدينية الاسلامية تجعلهم أكثر صلابة في أمور دينهم. وكان هذا الموقف هو الرد العام الذي كان يشعر به الكثيرون من المرضى الذين قابلهم كاتب هذه السطور اثناء عمله الميداني وقد أيده المعمرون ممن عاشوا مع المبشرين في أواخر الاربعينيات والخمسينيات والستينيات في الكويت والبحرين.
وكانوا اثناء قيامهم بالعلاج يبيعون الكثير من الكتب الدينية للمرضى:
"أن الكتاب المقدس هو العمود الفقري للمستشفى وهو السبب الوحيد لوجودنا هنا"
وكان بعض المرضى يشترون هذه الكتب تظاهرا منهم بالاهتمام بها، في حين كان الآخرون يشترونها اعتقادا منهم بأنهم لن يلقوا العلاج اللازم أن لم يشتروها، وأخيرا كان هناك من يشترونها من باب المجاملة. لجهلهم بالقراءة. ولم تكن هذه الحقيقة لتغيب عن المبشرين ولكنهم كانوا يظنون بان المرضى سيجدون من يستطيعون قراءتها لهم.(1/183)
أن المستشفى والمستوصف كانا يهيئان فرصة جيدة للعمل التبشيري ويخلقان الجو المناسب للاتصال الشخصي مع المرضى بعد مغادرتهم المستشفى. يضاف إلى ذلك أن الخدمة الطبية التي يقدمها المستشفى كانت ذات أهمية كبرى للأهالي مما اضطر الزعماء المحليين إلى التغاضي عن العمل التبشيري الذي كان يصاحبها أو يتبعها بعد انتهاء العلاج، وكان الأهالي يشعرون في كثير من الأحوال وبخاصة اولئك الذين لديهم حساسية خاصة نحو التبشير بأن الجانب الديني الذي يرافق المستشفى والمستوصف هو الثمن الذي يدفعونه لقاء العلاج الطبي الحديث. وفي بعض الحالات شجع الجو في السنوات الاولى من عملهم في الكويت على توسيع افاق عملهم التبشيري خارج حدود المستوصف حيث كان يزور المواطنين كثيرا ويشجعهم على زيارته مما أثار معارضة رجال الدين المحليين الشديدة والذي أدى إلى تدخل الشيخ مبارك شخصياً ليطلب من القس بينجر أن يكتفي بمزاولة نشاطه الديني في حدود المستوصف ومن هذه الواقعة يتبين لنا مدى الخدمة التي كان العمل الطبي يؤديها للتبشير. وقد استطاع حاكم البلاد أن يوقف نشاطهم التبشيري خارج المستشفى والذي يعني اعتراف الحكومة المحلية بالعمل التبشيري واعطائها اذنا ضمنيا بمزاولته ضمن حدود المستوصف فقط وكان الحاكم والناس يدركون حاجتهم البالغة إلى العلاج ولهذا كان عليهم أن يدفعوا الثمن كما كان هناك شعور بعدم قدرة العمل التبشيري على التأثير الديني وفي واقعة مماثلة استطاعت السيدة ما يلري والتي كانت تعمل أيضا في الكويت حيث أن زوجها كان واحدا من أطباء الإرسالية أن تقوم بزيارة عدد من المنازل حيث ذكرت:
"وقد قابلوني بالترحيب وأجلسوني في ارفع مكان، وتلقيت عدة دعوات بالبقاء وتناول العشاء مع الاصدقاء،وقد قمت بتلبية عدة دعوات للغداء مع الاصدقاء كلما سنحت لي الفرصة"
وفي الحقيقة لم تكن هذه الزيارات ناجحة من الناحية التبشيرية وقد قالت السيدة ما يلري تعلل السبب:(1/184)
"لم تكن الفرصة تتهيأ دوما للقراءة لهم"
وقد أكدت ذلك في تقريرها الميداني لمجلس الإرسالية في الولايات المتحدة الذي قالت فيه:
"ان الرغبة في الدخول في مناقشات دينية أو الاستماع إلى رسالة الانجيل تكاد تكون معدومة، أن المستشفى هو الذي يهيئ للاتصالات مع المرضى ودوره هام"
والسبب في ذلك أن الناس الذين كانت تزورهم من باب المجاملة والضيافة لم يكونوا ليستطيعوا منعها من الزيارة أو عدم مقابلتها لان هذا المجتمع لا يسمح بسوء معاملة الضيف إضافة إلى ذلك أن السيدة مايلري كانت زوجة الطبيب الوحيد في الإرسالية وكان المجتمع يرحب بها اكراما له. والواقع أن الدكتور مايلري كان الطبيب الوحيد في الكويت في ذلك الوقت، وكان يقوم بدور هام في خدمة المجتمع مما جعله هو وزوجته من الناس المهمين في نظر الجميع.
وقد ارتكب المبشرون في تلك الايام خطأ في تفسيرهم لمواقف الاهالي. وحقيقة الأمر أن سكان شبه الجزيرة العربية بما فيهم سكان الخليج كانوا يعرفون بكرمهم ولذلك فان تقاليدهم الاجتماعية تفرض عليهم أن يلاقوا ضيوفهم بكل ترحاب. وكان عليهم أن يعاملوهم بحرارة ومودة كبيرين مما يشجع ضيوفهم على قول ما يرغبون. أما قبول ما يقولون والاقتناع به فهو أمر آخر ولكن الانطباع العام الذي كان المبشر يخرج به هو النجاح التام في التأثير عليهم. والواقع إنه لم ينجح مطلقا، فالمضيف حريص على ارضاء ضيفه ـ أي المبشر ـ ولذلك فانه كان يتركه يقول كل ما يشاء على أمل أن يغير موضوع الحديث ولم يكن المضيف يتجادل مع الزائر في العادة اما رغبة منه بأن لا يتيح له فرصة للاطالة، واما أن معلوماته كانت غير قادرة على مجاراة ضيفه أو ادراك مرامة. ومهما كان موقف المضيف فان أحدا منهم لم يكن يرغب في معرفة أي شيء عن المسيحية أكثر مما ذكره القرآن. وكان المبشرون في مخططاتهم يرون أن:(1/185)
"ان العمل التبشيري هو أصل الشجرة أما بقية المؤسسات كالطب والتربية فهي مجرد فروع لهذه الشجرة"
وبعبارة أخرى فان الغاية هي العمل التبشيري وليست المؤسسات الأخرى سوى الوسائل الرامية لتحقيق هذه الغاية. وكان أهالي منطقة الخليج ينظرون إلى الأمر بطريقة مغايرة تماما. فهم يرون أن كل ما يحتاجونه هو المستشفى وان عليهم قبول المؤسسات الاخرى لأن الإرسالية لم تكن لتفتتح المستشفى والمستوصف بدونها. وكان كل من الفريقين يحمل وجهة نظر متعارضة مع الفريق الآخر والسبب في ذلك حاجة المنطقة الماسة للخدمة الطبية ولان هذه الخدمات كانت تمس حياة كل فرد في هذا المجتمع. وكان الناس يرغبون الاستفادة من الخدمات الطبية لانها كانت الخدمات الطبية الحديثة الوحيدة في المنطقة. أما من الناحية الدينية فانهم لم يكونوا يشعرون بأنهم يعيشون في فراغ ديني ولم تكن لديهم رغبة في تبديل ديانتهم بديانة أخرى.
صلاة الأحد
لقد كانت صلاة الأحد هي العبادة الوحيدة التي أدخلها المبشرون إلى المنطقة، وهي أشد المداخل التبشيرية صراحة.
وتهدف إلى تعريف وتنوير من يحضرون هذه الصلاة بالعقيدة المسيحية، واشراك اكبر عدد ممكن من الناس في هذه الصلاة. وهكذا فان أهداف هذه الصلاة واضحة، وكان من الطبيعي أن تولي الإرسالية هذه الطقوس أهمية خاصة بين الأنشطة التي تقوم بها في المنطقة فهي أولا تتيح لأفراد الإرسالية ممارسة شعائرهم وتؤثر على الأهالي ثانيا بدعوتهم لحضور هذه الصلوات. ولم تكن صلاة الأحد تلقى اهتماما من الناس لطبيعتها التبشيرية الصريحة، بل انها على العكس من ذلك أثارت المعارضة المحلية التي كانت تقاوم هذا النوع من النشاط التبشيري. ولذلك لم يتمكن المبشرون من اقناع الناس بحضور هذه الصلاة وحتى القلة النادرة ممن حضروها مرة لم يعودوا إلى تكرارها أبدا.(1/186)
وقد مرت صلاة الاحد بمرحلتين: الاولى من بداية عمل الإرسالية حتى اكتشاف النفط، حيث ان هذا النوع من العبادة مقصورا على المبشرين ومساعديهم وقليل جدا من المواطنين، وبدأت المرحلة الثانية منذ اكتشاف النفط حتى الآن وخلال هذه المرحلة كانت الصلاة للمبشرين وقلة من المواطنين بالاضافة إلى الأعداد الكبيرة من المسيحيين التي وفدت على المنطقة بحثا عن العمل.(1/187)
وكانت صلاة الأحد في البداية تقام بالانجليزية ثم اصبحت تقام تدريجيا بالعربية والانجليزية في آن واحد واقامة الصلاة باللغة العربية تهدف إلى اغراء الأهالي للانضمام اليهم، ومع ذلك فقد بقي عدد من يؤمونها قليلا جدا. وكان القسم الأكبر من الحضور يتألف من اعضاء الإرسالية الأوربيين والبحارة من السفن الراسية في موانئ الخليج كالبصرة ومسقط. وللتغلب على تردد المواطنين في حضور هذه الصلاة قررت الإرسالية أن تفتح مدرسة الأحد في كل محطة من محطاتها. وكانت هذه المدارس تختلف عن خدمات الإرسالية التعليمية العادية والتي سبق أن عالجناها في فصل سابق والطلبة في هذه المدارس صغاراً وكباراً لا يتعلمون سوى الايمان المسيحي وقد أنشأت السيدة وورول أول مدرسة من هذا النوع في البحرين في عام 1911 وقد جمعت عددا من الاطفال وبدأت تعلمهم الانجيل وكيف يؤدون الصلوات المسيحية. وكان عدد الحضور غير مستقر ولكن المعدل كان في حدود خمسة عشر تلميذا كل يوم أحد. وكان الآباء يرسلون أبناءهم إلى هذه المدارس لعدم معرفتهم بأنها تعلم الايمان المسيحي فقط، وكانوا يرغبون في أن يتعلم أبناؤهم العلوم الحديثة واللغة الانجليزية، وعند اكتشافهم أن أولادهم لا يتعلمون هذه العلوم سحبوا معظمهم من المدرسة. ومع هذا فان الإرسالية لم تتوقف عن القيام بهذا النوع من العمل واستمرت بالعدد الباقي من الأطفال والذين كانوا من اليتامى والاطفال غير الشرعيين ثم بدأت الإرسالية في البحرين في افتتاح صف للنساء في مدرسة الأحد، ويبدو أن الإرسالية كانت تهتم بالتأثير على النساء اكثر من اهتمامها بالتأثير على أية فئة أخرى من سكان المنطقة ويرجع السبب إلى ان النساء لم يكن لديهن أزواجهن لإنشغالهم في أعمال الحقل.(1/188)
وبالنسبة للكويت والبحرين في موسم الغوص (والذي يستغرق من شهرين إلى ثلاثة أشهر والتي يقضيها الرجل في البحر بعيدا عن أسرهم) فقد كانت النساء تجد جو الإرسالية ملائما جدا لقضاء الوقت بشيء من الفائدة وفي وقت لم يكن يوجد فيه أندية أو مدارس أو غيره مما يمكن أن يعينهم على قضاء الوقت. فكان هذا واحدا من الأسباب التي كانت تدعوهم إلى الاشتراك في أمثال هذه الأنشطة. والسبب الآخر هو حاجتهم للرعاية الطبية التي كانت الإرسالية تقدمها للمنطقة، وكن يعتقدان أن الالتحاق بأنشطة الإرسالية سيدفع الإرسالية على تقديم ما يحتجن اليه من علاج ويعطيهن الأولوية عند احتياجهن لمثل هذه الرعاية.
وكانت صلاة الأحد في الكويت تجري بنفس الاسلوب الذي كانت تجري عليه في البحرين. وكان المبشرون يقيمون هذه الشعار عادة في الهواء الطلق في "بيت الربان"؛ الذي استأجروه لهذا الغرض قبل انشاء الكنيسة في تلك المنطقة وكان الاهالي الذين يشتركون في هذه الصلاة قليلون جدا وأخذت أعدادهم تتناقص لنفس الأسباب التي حدثت في البحرين.
وكما كان عليه الحال بالنسبة لمكتبة الكتاب المقدس فقد كانت صلاة الأحد لا تتمتع بأية شعبية بين سكان المنطقة. والواقع فان كاتب هذه السطور في لقاء له مع المعمرين(1)في المنطقة واولئك الذين عملوا مع الإرسالية من المواطنين قد أكدوا على أن طقوس الأحد بصلواتها ومناقشاتها ومدرستها لم يكن لها أية جاذبية لدى الأهالي. فالناس لم يكونوا يجنون منها أية فائدة كالفوائد التي كانوا يجنونها من الخدمات الأخرى كالمستشفى أو المستوصف أو حتى الأخبار أو القراءة العامة في مكتبة الكتاب المقدس.
__________
(1) 1ـ ان لفظ (المعمرين) هنا يعني المسنين أردنا توضحيه لأن هذا اللفظ يطلق في المغرب العربي على المستوطنين الغربيين الذين كانوا يسيطرون على اقتصاد المنطقة ويدعمون الاستعمار فيها.(1/189)
أما فيما يختص بالحكومات فقد كان رد فعلها على مدارس الاحد يختلف من منطقة إلى أخرى فحكومة الكويت مثلا لم تعر الأمر أي اهتمام، ورغم انها لم تكن تؤيدها الا انها كانت تعتقد أن تأثيرها ضئيل جدا. أما السلطات التركية في البصرة فقد عارضت وجود هذه المدرسة وحاولت أن تقيدها. اما في البحرين ومسقط فان نفوذ السلطات البريطانية منع الناس من مقاومة هذه الممارسات أو معارضتها وبوجه العموم فان صلاة الأحد لم تتمكن من تثبيت جذورها في المنطقة لأن الإرسالية لم تتمكن من تنصير عدد كبير من الأهالي ولهذا فقد بقيت مقتصرة على أعضاء الإرسالية وعائلاتهم وغيرهم من المسيحيين ممن قدموا إلى المنطقة في السنوات التالية.
الكنيسة:
أن الكنيسة هي أهم مؤسسة تبشيرية على الاطلاق، فقد كانت مكانا للصلاة والوعظ ولقاء الناس، والمعنى الآخر للكنيسة هو المجتمع المسيحي أو الجماعة المسيحية وليس المبنى فقط. وكانت إقامة الكنيسة تعطي العمل التبشيري طابع الدوام وهي في نظر المبشرين صلب العمل التبشيري وغاية النهائية. وقد أكدّ القس هوتون ذلك بقوله: Rev.Hoton
"ان الكنيسة حقا هي غاية ونهاية جميع مجهوداتنا"
وكانت الفكرة التي تسيطر على المنتمين إلى الإرسالية العربية هي التبشير في كل شبه الجزيرة العربية والتمسك بها إلى ان تمنو الكنائس المحلية وتتمكن من الاضطلاع بمسؤوليات العمل التبشيري، وهكذا فان اقامة الكنيسة كان المرحلة النهائية في العمل التبشيري وهو الهدف الذي تتوجه جميع المجهودات لتحقيقه، والواقع أن الهدف من العمل في تلك المنطقة كان ذا شقين كما عبر عنه ادوين كالفرللي:
"تعريف العرب بالمسيح ليتقبلوه مخلصا لهم، وثانيا تأسيس كنيسة مسيحية محلية تتمتع بالحكم الذاتي والكفاية الذاتية والقدرة على التوسع".(1/190)
وكان أول أهداف الكنيسة هو كسب المتنصرين ولكن خبرة الإرسالية وادراكها لصعوبة تنصير الناس جعلها تؤمن أخيرا بأن الكنيسة المحلية هي أهم المؤسسات التبشيرية واكثرها الحاحا لان تنصير غير المسيحيين يجب أن يتم على أيدي أبناء شعبهم بعد تنصير بعض هؤلاء الناس وافساح المجال أمامهم لمتابعة العمل حيث كانوا يعتقدون أن هذه أحدى الوسائل وأبعدها اثرا لان الكنيسة ستتقدم على أيدي الوعاظ والمعلمين المحليين.
وكان المبشرون يؤجلون اقامة الكنيسة تجنبا إثارة معارضة المواطنين ويبدأون باقامة الخدمات الإنسانية إلى أن يستطيعوا كسب عطف الناس ومودتهم عندها يقيمون الكنيسة الركيزة الهامة في العمل التبشيري.
وجاء تأسيس الكنائس في المنطقة بعد عدة سنوات من العمل هناك. لقد كانوا يؤدون شعائرهم الدينية في أول الأمر في المستشفى أو في منازلهم. ثم بدأوا بعدها باقامة الكنائس الصغيرة والتي تطورت فيما بعد حتى أصبحت كنائس عادية.
وفي عام 1904 منعهم ضيق المكان في محطة البحرين من اقامة شعائرها الدينية وأصبح بناء الكنيسة أمرا لا مفر منه وقد استخدم المبشرون ومساعدوهم هذه الكنيسة الصغيرة للصلاة والاجتماعات لمدة ثلاثين عاما إلى أن أصبحت الكنيسة مركزا لنشاط الإرسالية التبشيري في تلك المنطقة. وقد وفد إلى المنطقة فيما بعد أعداد كبيرة من المسيحيين نتيجة لتطور المنطقة ومنوها في السنوات التالية وأصبحت الكنيسة عندها مركزا اجتماعيا ودينيا في آن واحد، ومكانا لاقامة الاعراس والجنائز والتعميد والصلاة بالاضافة إلى ادارة الاعمال التبشيرية بين المسلمين. وقد أنشئت أول كنيسة صغيرة في البصرة سنة 1913م واعتبر المبشرون إنشاءها خطوة إلى الامام في عملهم التبشيري. وكان يؤم هذه الكنائس المبشرون أنفسهم ومساعدوهم والذين كانوا في غالبيتهم من المسيحيين والبحارة الأجانب الذين كانوا يأتون أحيانا إلى موانئ الخليج أما المسلمون فقد كانوا قلة ضئيلة.(1/191)
وقد تطورت الكنيسة في مسقط بنفس الاسلوب المتبع في المحطات الأخرى ويدعى المبشرون أن الثلاثين سنة الأولى من عملهم التبشيري شهدت تقدما في عدد الحضور إلى الكنيسة. أما فيما يتعلق بالاهالي فقد كان حضورهم محدودا جدا لأن مجموع من تنصروا لم يزد عن اربعة أشخاص بالاضافة إلى العدد القليل من اليتامى الذين نشأوا في محيط الكنيسة وبيئة مسيحية.
ولم تختلف أوضاع الكنيسة في الكويت عما كانت عليه في المحطات الاخرى وبعد مدة طويلة من اقامة الشعائر الدينية في المنازل وفي مستشفى النساء قرر المبشرون أن يبنوا كنيسة لهم وبدأت الاستعدادات لهذا العمل في نهاية العشرينات. وفي سنة 1932 تم بناء الكنيسة في الكويت وأصبحت جاهزة لاقامة الشعائر. وكانت مؤسسات الإرسالية بالطبع تهيئ تسهيلات وفرصا أفضل لتنفيذ المخططات التبشيرية في المنطقة، وكانت الصلوات تقام في الكنيسة باللغتين العربية والانجليزية.
وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية اصبحت الكويت من المناطق الهامة المنتجة للنفط. وقامت الحكومة ببناء ميناء كبير في الجزء الجنوبي الشرقي من البلاد، ونشأت هناك بالتدريج مدينة حديثة سميت بالأحمدي. وفي سنة 1956م أنشأت شركة النفط لاتباعها كنيسة انجليكانية جديدة في مدينة الأحمدي وأصبح المسيحيون من مختلف الجنسيات ممن يعملون في الكويت يحضرون الصلاة في كنيسة الإرسالية وفي الكنيسة الانجليكانية بالأحمدي، ولا تزال هاتان الكنيستان قائمتين إلى الآن وتقام فيهما الشعائر الدينية كالمعتاد.وفي السنوات التالية تم انشاء عدد من الكنائس للطوائف المسيحية المختلفة المتواجدة في المنطقة.(1/192)
وجرى العمل في اقامة الكنائس في المحطات الفرعية بنفس الخطوات التي تم فيها انشاء المؤسسات المشابهة في المحطات الاخرى. وفي عام 1945 شهدت العمارة انشاء أول كنيسة صغيرة فيها، وكانت الشعائر الدينية تقام فيها لاعضاء الإرسالية ولبعض المرضى الذين كانوا يأتون للعلاج من أماكن نائية، ولكن الكنيسة أغلقت على أية حال مع اغلاق المحطة بأجمعها نتيجة لقيام الحكومة باغلاق المستشفى.
وكانت مطرح هي المحطة الفرعية التالية التي اعتبرتها الإرسالية منطقة استراتيجية لأنها تفتح الطريق أمام العمل التبشيري في الأجزاء الداخلية من عمان، وقد أكد الدكتور بول. هاريسون على هذه الناحية بقوله:
"أن أمل عمان هو في كنيسة مخلصة نشيطة، مهما كانت صغيرة، والتي تكون بداية لاشياء أفضل في تلك الامبراطورية بحجارتها السوداء وفقرها المدقع. ولكن ما الذي ستكون عليه كنيسة المستقبل في مطرح وعمان؟ انها كنيسة تتميز بالتفاني والاستقلال عن كل دعم ضار من القوى الدخلية".
ومهما يكن من أمر فان آمال الإرسالية بالانتشار داخل عمان لم تتحقق رغم كل ما بذلته من الجهود بسبب التأثير الكبير للمعارضة الداخلية في شبه الجزيرة ونفوذها الكبير في المناطق المجاورة لها مثل عمان. والحق أن بعض المبشرين قاموا بمحاولات جادة لتزويد هذه الكنائس بالوعاظ والقادة من مؤسساتهم الاخرى. وكانوا يعتقدون أن هذه الكنائس يجب أن تقوم على ثلاثة مبادئ كما ذكر القس هوتون Rev.Hioton
"الاكتفاء الذاتي، والحكم الذاتي والتوسع الذاتي... أن المثل الأعلى الذي تطمح لها هذه المبادئ الرئيسية هو طبعا... اننا يجب أن نقيم في كل ميدان كنيسة مستقلة، ليست كالابنة التي تتطلع إلى الدعم المادي أو الروحي من والديها ولكن كأخت مستقلة استقلالاً تاما من خلال المشاركة التامة".(1/193)
ومن الأهمية بمكان أن نعرف ما إذا كانت الإرسالية قد حاولت تطبيق هذه المبادئ أم لا. أن الإرسالية قد أنشأت عدة كنائس في محطاتها الرئيسية وقد كانت هذه الكنائس تحت اشراف أعضاء الإرسالية المباشر حتى الآن، وهناك أسباب عديدة تجعلهم يصممون على التمسك بهذه الكنائس ويرفضون تسليمها إلى المسيحيين من أهالي البلاد. ان المبشرين يميزون بين المسيحي العادي وبين المسيحي المبشر، فالمبشر يحمل رسالة لتنصير الاخرين ولكن هذه ليست مهمة المسيحي العادي، ولهاذ فان الإرسالية ترى أن الهيئة التبشيرية هي التي يجب أن تتولى العمل التبشيري إلى أن يجدوا المبشرين من بين من يتم تنصيرهم من الأهالي. ولكن الإرسالية إلى ذلك الوقت لم تتمكن من تنصير العدد اللازم من الناس القادرين على الاضطلاع بهذه المسؤولية ولهذا لم يكن هناك بديل عن أن يقوموا بذلك بأنفسهم ويستمروا فيه. ولكن المسيحيين المحلين الذين قابلهم المؤلف اثناء عمله الميداني كانوا ينظرون إلى الأمر من زاوية أخرى ويقولون انه يصعب على المبشرين الذين أنشأوا العمل أن يتركوه لغيرهم لأنهم يعتقدون أن المسيحيين المحليين غير مؤهلين لمتابعة هذا العمل بنفس الاسلوب الذي انتهجته الإرسالية، وهم يعتقدون أن هذه المواقف كانت من الاسباب التي أدت إلى فشل الإرسالية في تحقيق أهدافها وهكذا فان الإرسالية قد تمكنت من بناء الكنائس العديدة في محطاتها الرئيسية والفرعية، لكن الأمر الذي لا يزال غامضا هو لماذا لم تتحول هذه الكنائس إلى "كنائس محلية" وظل المبشرون يستخدمونها ويخضعونها لاشرافهم. ولم يتحول حلم تسليم العمل إلى المتنصرين المحليين إلى حقيقة وظل الهدف أبعد ما يكون عن التحقيق.
التأثير الديني(1/194)
لقد كان التنصير هو الهدف الاساسي للعمل التبشيري وهذا هو السبب الذي دعى الإرسالية العربية إلى الذهاب إلى منطقة الخليج العربي لتحويل المسلمين إلى اعتناق المسيحية. وذلك فان المعيار الوحيد الذي يمكن به الحكم على نجاح مهمتهم هو التنصير. ان الموضوع الرئيسي الذي سنسعى لتقويمه فيما يلي هو أثر المدخل التبشيري من خلال جميع الأعمال التبشيرية للإرسالية.(1/195)
من الغريب أن المبشرين في كتاباتهم وتقاريرهم كانوا لا يشيرون إلى هذا الأمر إلا بشكل عام أو مقتضب مع أنه الهدف الأساسي الذي نذروا أنفسهم لتحقيقه ! ومن الواضح على أية حال أن تجنبهم للدخول في تفاصيل هذا الموضوع يعود إلى ضآلة عدد من نجحوا في تنصيرهم. والمعلومات المتوفرة بين أيدينا تبين أن عدد من نجحوا في تنصيرهم خلال هذه الفترة الطويلة من العمل في المنطقة لا يزيد عن أربعة أشخاص وهم عيسى الداوي واصله من الاحساء والذي اعتنق المسيحية في الكويت في سنة 1925. وكان مصابا بمرض خطير, وقد أهملت عائلته أمره فالتجأ إلى المستشفى الأمريكي في الكويت حيث وجد رعاية جيدة وشفي من مرضه, وعندئذ اعتنق الديانة المسيحية ومات في سنة 1950 ودفن خلف الكنيسة البروتستانتية في الكويت والشخص الثاني هو مراش بن بلال في مسقط الذي توفي في نهاية عام 1930 ووقع خلاف حول ما إذا كان سيدفن على الطريقة الإسلامية أم المسيحية كما أن أسرته قد اشتكت إلى الحاكم طالبة منه التدخل لإرجاع أرملته إلى بيتها عندما التجأت إلى مقر الإرسالية بعد موت زوجها والشخص الثالث هو السيدة خيرية حيدر من البحرين والتي كانت من أصل فارسي وجاءت إلى البحرين مع زوجها بعد الحرب العالمية الأولى بحثا عن عمل, وكان زوجها يعمل في الغوص على اللؤلؤ وكان عمله يتطلب منه أن يغيب من شهرين إلى ثلاثة أشهر في البحر حيث كانت زوجته تعيش أثناء غيابه في ظروف سيئة وأحيانا لم تكن تستطيع الحصول على وجبة واحدة في اليوم ولم تلق أية رعاية من المجتمع. وأصيب أطفالها الثلاثة بالجدري وقد قالت عندما قابلها كاتب هذه السطور سنة 1974 وكان عمرها حينئذ 82 عاما :(1/196)
"كنت أتردد كثيرا على مستشفى الإرسالية في البحرين لمعالجة أطفالي ونفسي. وكنت أحصل على معونة إنسانية ورعاية جيدة ووجدت أن المسيحيين أفضل من المسلمين. وفي أثناء ذلك الوقت كان المبشرون يقومون بتعلمي ويحدثونني عن الدين المسيحي. وبعد وفات زوجي ذهبت إلى المستشفى وأخبرتهم بأنني أرغب في أن أصبح مسيحية فرحب بي المبشرون وعينوني رئيسة لدار الأيتام التابعة للإرسالية في هذه المحطة وتضم الأطفال غير الشرعيين وكان هؤلاء الأطفال ومن بينهم أطفالي الثلاثة يعيشون في جو مسيحي وهكذا أصبحوا مسيحيين. وأريد أن أعترف بأن ظروفي الإجتماعية وبخاصة ضرورات العيش هي السبب الأساسي لتحولي عن
الأسلام واعتناقي للمسيحية"
وكان الرابع رجل من عمان جاء إلى مستشفى الإرسالية في مسقط وأخبر المبشرون بأنه يؤمن بالمسيحية, إلا أن جميع المصادر قد أغفلت ذكر أسمه. وقد أنتجت مدرسة "العبيد المحررين للبنين" وهي المؤسسة المسيحية الثانية للتنصير المباشر عددا من المسيحيين والذين كانوا بدورهم من اليتامى, وقد مات بعضهم والبعض الآخر يعملون الآن في الولايات المتحدة, وقد نشأوا في جو ّمسيحي, وهكذا أصبحوا مسيحيين. وقد أتينا على ذكر التفاصيل المتعلقة بهذه المدرسة في فصل سابق. وكان هناك أيضا بعض الأشخاص ممّن تظاهروا بالإقتناع بالمسيحية خدمة لمآربهم الشخصية ولكنهم ما لبثوا أن عادوا إلى الإسلام بعد تحقيق أغراضهم, وأحد هؤلاء كان يدعى يوسف المال من قطر والذي اعتذر عن مقابلة المؤلف. وقد دل البحث(1)غير المباشر أن حاجته للطعام والدواء كانت السبب في تظاهره باعتناق المسيحية وهو الآن في السبعين من عمره ولا يميل إلى التحدث عن هذه التجربة.
__________
(1) 1 ـ كان أحد المراجع في هذا الشأن الدكتور/ علي الكواري وهو الآن من العاملين في شركة نفط قطر وله بحوث قيمة في المجال الاقتصادي.(1/197)
وهذا في الواقع هو جميع ما تمكّنت الإرسالية من تحقيقه في مجال التنصير. وهناك أسباب عديدة لتأثير الإرسالية الضعيف على هؤلاء الناس. أما من وجهه نظر المبشرين فأنهم يرجعون فشلهم إلى عدّة أسباب, فيعتقد الدكتور بيننجز المسؤول عن الخدمات الطبية للإرسالية في البحرين أن سبب فشلهم يرجع إلى :
الأساسي من وراء هذا العمل هو هدم دينهم وإحلال الدين المسيحي مكانه.
رابعا: أن المبشرين بالغوا في تقدير جهل أهالي المنطقة واستنتجوا أنه سيسهل من مهمتهم في التأثير عليهم ومع ذلك فإن المبشرين لم يستهينوا بشدّة تمسّك هؤلاء الناس بدينهم, كما أن سكوتهم كان يرجع بشكل رئيسي إلى حاجتهم إلى خدمات المبشرين الطبيّة. وقد ظنّ المبشرون أن جهل أهالي المنطقة كان دليلا على جهلهم لأمور دينهم والذي جعل من السهل عليهم تحويلهم إلى المسيحية.
خامسا: قلة عدد أفراد الإرسالية وضيق مواردها المالية من الأسباب التي أدّت إلى عجز الإرسالية عن تحقيق أهدافها.
سادسا: تورط بعض المبشرين في الأوضاع السياسية للمنطقة وعلاقتهم بالسلطات الاستعمارية أعطى الناس انطباعا بأن المنظمات التبشيرية كان لها أهداف سياسية وسنعالج هذا الموضوع بالتفصيل في الفصل القادم من هذه الدراسة.
المطبوعات التبشيرية
أن الكلمة المكتوبة من الوسائل التبشيرية الهامة وعن طريق الكلمة المكتوبة كان المبشرون يستطيعون الوصول إلى الناس الذين كانوا يسعون إلى تنصيرهم والتأثير على أفكارهم, أضف إلى ذلك أن تطور الطباعة في عصرنا الحديث قد سهّل عملية انتقال الأفكار. وكانت المهمة الأولى بالطبع التي يسعى المبشرون لتحقيقها في هذا المجال هي ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة العربية.
الكتاب المقدّس (الإنجيل)(1/198)
ومما يدعو إلى الغرابة أن الترجمة المكتوبة للكتاب المقدس إلى اللغة العربية لم تستخدم كثيرا إلا في عصرنا الحديث. وبوجه العموم فقد قامت محاولات لترجمة الكتاب المقدس في الماضي ولكن الترجمات الأولى كانت ابعد ما تكون عن الصحة، وربما كانت الترجمات العربية القديمة للكتاب المقدس والتي اكتشفت في دير القديسة كاترين في سيناء هي أقدم الترجمات المعروفة. وتكشف هذه الترجمات كما ذكر ل. سكدر عن ظاهرة تدعو إلى الاهتمام وهي أن المسيحيين كانوا يتحدثون اللغة العربية والمسلمين كانوا يستخدمون نفس الادعية ونفس الكلمات. وبعض الترجمات الأولى تعود إلى بداية الحروب الصليبية.
ومن الجدير بالذكر أن الشكوك تدور حول مدى تداول الترجمات العربية القديمة للكتاب المقدس والذي كان رغم جميع الجهود محدودا وتقتصر أهميته على قيمته الترايخية. ويبدو أن معظم الترجمات القديمة للكتاب المقدس قد فقدت.
ويتفق بعض العلماء المسيحيين وبخاصة المتصلون منهم بالارسالية العربية على ما ترجمه الدكتور فانديك للكتاب المقدس إلى العربية سنة 1865 من الترجمات الهامة وهي الترجمة الرئيسية التي اعتمدت عليها الإرسالية العربية والتي جعلت العمل التبشيري أمرا ممكنا. ومع هذا فان المبشرين الآخرين في البلاد العربية الاخرى كان لهم ترجماتهم الخاصة. وكانت ترجمة الكتاب المقدس إلى العربية وطباعته بحروف عربية جيدة أحد أهم الأعمال التي قام بها المبشرون الأميركيون في بيروت(1)وليست هذه هي المحاولة الاخيرة لترجمة الكتاب المقدس فهناك ترجمات حديثة أخرى.
__________
(1) 1 ـ انظر الفصل الأول حول تاريخ ترجمة الكتاب المقدس.(1/199)
أن المشكلات التي واجهت ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة العربية كثيرة وأبرز هذه المشكلات هي أن اللغة العربية المستخدمة لم تكن لغة ممتازة: أن الاسلوب الجيد على الاخص لكتاب مقدس كالانجيل في العالم العربي أمر بالغ الاهمية. ومن الأهمية بمكان الاشارة إلى أن المسلمين يعتبرون لغة القرآن هي كلام الله فجمال ايقاعها وعمق معانيها هي في نظر العرب جزء من معجزة وحي القرآن. أن لغة القرآن تتمتع بمكانة سامية تجعل اللغويين والشعراء ينظرون اليها على انها المثل الأعلى والقدوة التي يسعون للتشبه بها. ولهذا فان ترجمات الكتاب المقدس والتي
قام بها مترجمون من ذوي المقدرة المتوسطة في اللغة العربية كانت ترجمة ذات مستوى رديء. وهكذا فان الكتاب المقدس وهذا النوع من الترجمات لا تستطيع منافسة القرآن الكريم لذا فان المسلمين الذين كانوا يحاولون تنصيرهم يتوقعون من الكتاب المقدس أن يكون مكتوبا بلغة أدبية راقية، ولكن لغة الكتاب المقدس لم تعط مثل هذا الانبطاع، وقد أكد العديد من الكتاب على هذه الحقيقة وقال الاب هوتون بهذا الخصوص:
"ان الترجمات الأولى كثيرا ما تكون ضعيفة"
والواقع أن العديد من العرب المحليين واللغويين ممن قرأوا بعض أجزاء الكتاب المقدس وممن قابلهم المؤلف في عمله الميداني أجمعوا على أن ترجمة الكتاب المقدس ضعيفة وينقصها التشوق والجاذبية ولا تغري بالقراءة أن العرب كانوا يفخرون دوما بلغتهم والكلمات سواء كانت مسموعة أو مقروءة تعني بالنسبة لهم الشيء الكثير.
مطبوعات الإرسالية التبشيرية:(1/200)
وبالاضافة إلى الكتاب المقدس وترجمة بعض أجزاء منه كان المبشرون يطبعون ويوزعون قليلاً من الاعمال المطبوعة والكتيبات والنشرات والكتب، وكان هذا العمل المحدود يهدف إلى تعريف المنطقة بالمسيحية ومناهضة الانشطة الدينية الاخرى وبخاصة الاسلامية. ومن سوء الحظ لم يتمكن المؤلف في عمله الميداني من العثور على مطبوعات تبشيرية متوفرة أو متداولة أو حتى مصنفة الا القليل والذي على ضآلة العمل التبشيري في هذا المجال. وقد جاء ذكر الكتيبات القليلة المكتوبة لتعريف أهالي المنطقة بالمسيحية في التقارير المكتوبة عن الإرسالية العربية الأمريكية بأيدي روادها وقادتها.
وأحد المنشورات التي يكثر الاشارة اليها ترجمة لمقالة مناوئه للاسلام بعنوان:
"المسيح أو محمد وبأيهما تثق".
ومن مساوئ هذا النوع من المطبوعات انها تعمل على خلق التعقيدات بدلا من حلها، وبدلا من تعريف المسلمين بالجوانب الإنسانية والدينية للمسيحية فان هذه المقالة قد جلبت نقمة الناس. أن العمل التبشيري يجب أن يتميز بالمرونة في بدايته ليتمكن من تعريف المسلمين بالمسيحية واقناعهم بها مبتعدا قدر الامكان عن ايذاء مشاعر الناس.
وما من شك أن الكلمة المطبوعة هي احدى الوسائل التبشيرية. وكانت الإرسالية العربية تستطيع الافادة منها في خدمة أهدافها، ولكنها على أية حال لم تستخدم هذا الاسلوب بالكثافة اللازمة، ومع ذلك فقد نجحت الإرسالية باستخدام وسائل أكثر كلفة واستهلاكا للوقت كالطب والتعليم. والسؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا لم تستخدم الإرسالية المطبوعات على هيئة منشورات تطبع محليا لتوزيعها بين السكان المحليين؟ ويمكن أن نجد الإجابة في النقاط التالية:(1/201)
1ـ اللغة العربية: لم يكن من الممكن أن تطبع المواد التبشيرية في اللغة العربية لأن أحدا من قادة المبشرين أو كبار أعضاء الهيئة التبشيرية لم يكن يتقن اللغة العربية وقد شكلت هذه الصعوبة عقبة رئيسية. أن القدرة على التحدث باللغة العربية وكتابتها بشكل مقبول يتطلب عمقا جيداً في فهم اللغة والذي لم يكن متوفرا لهيئة الإرسالية في ذلك الوقت.
2ـ كان المبشرون يعتمدون كثيرا على توزيع الكتب المقدسة وبخاصة الانجيل وكان بعضهم يعتقد أن توزيع الانجيل أهم الاعمال التبشيرية في حين كان آخرون يرون أنه عمل غير كاف كما ذكر الاب بارني:
"ليس هناك عامل منشط كالانجيل ولذلك فان الإرسالية حاولت اقامة نظام لتوزيع الكتب المقدسة يجعل الانجيل في متناول كل من هم في مجال نشاطه. ولكن لا أحد يقول أن هذا وحده كاف كعامل تبشيري. لا شك أن هناك حاجة للشرح والاقناع وحتى مهاجمة الخطأ"
أن التأكيد على توزيع الكتاب المقدس اكثر من غيره من المطبوعات الدينية واحد من أهم الوسائل الراسخة لدى البروتستانتيين في عملهم التبشيري، وهذا كما سبق أن ذكرنا من نقاط الخلاف بينهم وبين الكاثوليكيين وهكذا فان الإرسالية العربية كأي مؤسسة بروتستانتية أخرى كانت تعمل ضمن هذه الخطة ولذلك فانها لم تول المطبوعات الاخرى الهادفة إلى التأثير على أهالي المنطقة أي اهتمام.
3ـ الطباعة والتوزيع: كانت الإرسالية تواجه صعوبة في الطباعة ولم يكن يوجد أية دور للطباعة الحديثة في معظم محطاتها، ولهذا فقد كانوا مجبرين على البحث عن مصادر أخرى ليبقى العمل مستمرا لقد كانوا يطبعون ما يحتاجونه من منشورات في امريكا والقاهرة وبيروت وينقلون المطبوعات إلى ميدان العمل وكانت معظم مطبوعات الإرسالية تأتي من ثلاثة مصادر:(1/202)
الاول: من المؤسسات الأمريكية البروتستانتية في مصر منها "الجمعية الادبية الاميريكية المسيحية"(1)وكان انتاج هذه الجمعية ردئيا ومحدودا جدا بالمقارنة بحاجات الإرسالية اليومية ولكنها مع ذلك سدت فراغا في وقت لم يكن للإرسالية مصادر أخرى. وقد ساعدت حيلفتهم في بيروت وهي "المطبعة الأميريكية"(2)في هذا الأمر بطباعة بعض المواد التي تلزمهم. وكان المصدر الثالث للمطبوعات يأتي عن طريق محاولاتهم إنشاء مطبتعهم الخاصة والتي كانوا يعقدون عليها آمالا عظيمة، ولكنها لم تصل إلى الحد الذي يلبي حاجاتهم. وكانت المطبعة المذكورة هامة جدا لاعمالهم الدينية والدنيوية في الميدان. وقد وجدت الإرسالية من الضروري اقامة مطبعتها الخاصة في مسقط عام 1895. اختاروا مسقط بالذات بسبب سيطرة البريطانيين القوية عليها. ومع هذا فان طاقة هذه المطبعة الصغيرة كانت محدودة وكان منوها بطيئا. وربما تكون الابعاد السياسية لمطبوعاتها قد حدت من انتاجها، ولكن يبدو أن المقالة التي نشرتها ضد الإسلام والتي سبق أن ذكرناها هي التي أدّت إلى القضاء عليها ما أثارته من معارضة دينية حادة.
__________
(1) 1ـ قامت هذه الجمعية في عام 1911 باسم "اللجنة الاميركية لمطبعة النيل" وبعد عدة سنوات رسمت نشاطها ليشمل بعض الدول الاخرى وكانت هذه الجمعية تهتم بنشر الانجيل عن طريق الكلمة المطبوعة.
(2) 2 ـ ساعد المبشرون الاميركيون في بيروت والذين كانوا يعملون هناك قبل قيام الإرسالية العربية بكثير هذه المؤسسة الجديدة على الوقوف على قدميها وعلى الأخص في المراحل الأولى من عملها.(1/203)
4ـ كان معظم سكان المنطقة من الاميين حيث كان عدد من يستطيعون القراءة والكتابة منهم قليل جداً. هذه هي العقبات الرئيسية التي كانت تحول دون وصول المبشرين إلى عقول الناس عن طريق المطبوعات ولهذا فانهم وجدوا الاتصال المباشر أكثر سهولة وأعمّ فائدة في منطقة كهذه. لقد كان المبشرون على درجة كبيرة من النشاط في توزيع الانجيل على من يستطيعون القراءة ولكن أثر ذلك كان محدودا في اقليم شديد الاتساع وبين هذه الاعداد الكبيرة من السكان الذين كان معظمهم من الاميين.
جدول رقم 5: 6
مقدار مبيعات الانجيل والكتب الاخرى
لمحطة البحرين سنة 1900
في اللغات: عربي ـ انجليزي، وعربي تكي
النوع ... الكمية
1ـ ... اناجيل ... 11
2ـ ... العهد القديم والعهد الجديد ... 14
3ـ ... اجزاء ... 695
4ـ ... كتب دينية ... 868
5ـ ... كتب تربوية ... 185
المجموع
1773
Source: Neglected Arabia, Jan, _ April, 1901, p.21
ولايضاح هذه النقطة فان الجدول رقم 5: 5 يعطينا فكرة عن الكمية المحدودة من المطبوعات التي تم توزيعها في محطة واحدة ـ البحرين ـ في عام واحد. وما يتضح من الجدول فان عدد الأناجيل الموزعة في المنطقة لم يزد ـ عن احد عشر إنجيلا وعدد العهود اربعة عشر عهدا. وإذا قارنا هذا العدد بعدد سكان البحرين آنذاك البالغ خمسين ألفا يتضح لنا ضآلة هذا التوزيع.
5ـ كما أن العامل السياسي لعب دورا في عدم وصول المطبوعات التبشيرية إلى اهدافها. وقد بدأت الإرسالية عملها في البصرة والتي كانت حينئذ تحت الحكم التركي. وكانت السلطات التركية تراقب كل ما يتصل بالعمل التبشيري، كما كانت جميع مطبوعاتها تحتاج إلى موافقة السلطات، وقد أشار الاب ف. بارني إلى ذلك بقوله:
"ولا يمكننا أن نبيع كتابا أو حتى وريقة بدون ختم الرقابة... والواقع أن الاعمال الكبيرة ممنوعة بما فيها توزيع الكتب الدينية، ويعتبر العثور عليها في حيازة أي مواطن تركي أمرا خطيراً".(1/204)
وحتى في المناطق الخاضعة للحكم البريطاني فقد كانت الإرسالية تواجه بعض الصعوبات ولكنها ليست بنفس خطورة الصعوبات التي كانت تواجهها في البصرة.
6ـ وهناك أيضاً المعارضة الدينية المحلية والتي كان يقودها الزعماء المسلمون والذين كان لهم تأثير قوي على الناس. وكانوا يناهضون المطبوعات التبشيرية التي تهدف إلى تنصير شعبهم. لقد استخدموا كل الوسائل المتاحة لمعارضتهم كالمسجد والمؤسسات التعليمية (الكتّاب) والاتصالات الشخصية. وكان لهؤلاء الزعماء الدينيين تأثير حتى على حكوماتهم المحلية. وكان المسجد يستخدم لأمرين في هذه الحملة: لتحذير الناس من خطورة العمل التبشيري إذا تركت له حرية العمل بينهم، وللضغط على السلطات المحلية لوضع حد لهذه النشاطات، وكانوا أيضاً يستخدمون الاتصالات الشخصية والتي كانت ذات فائدة كبيرة في مجتمع كهذا في ذلك الوقت. وقد كان للكتّاب أيضا دور كبير في مناهضة الاعمال التبشيرية. ولم تكن المطبوعات تستخدم كثيرا للدعاية، لأن طباعتها كان يجب أن تتّم خارج البلاد كما ان عدد من يستطيعون القراءة كان ضئيلاً.
المطبوعات المتعلقة بالارسالية
أن نشاط الإرسالية المحدود في اصدار المطبوعات الهادفة للفت انظار الناس وتهيئتهم لتقبل المسيحية كان يقابله نشاط واسع في الكتابات والمطبوعات التي تدور حول الإرسالية العربية وتاريخها ومشكلاتها والنواحي السياسية والاجتماعية والجغرافية المتعلقة بالمنطقة. وكان قادة الإرسالية وبخاصة س. زويمر يكتبون كثيرا وكانت كتاباتهم غنية بالمعلومات المفيدة مما جعل معلومات الناس في الغرب عن المنطقة تتأثر كثيرا بكتاباتهم ومن الصعب أن نتصور كيف تمكنت الإرسالية العربية من اصدار هذا الفيض الغزير من المطبوعات عن الإرسالية والمنطقة وعجزت عن كتابة المادة التبشيرية التي تؤثر في ابناء المنطقة وتساعد على تنصير اعداد منهم.(1/205)
ومن المؤكد أن صعوبة اللغة كان لها دور في هذه النتيجة كما أن سهولة الكتابة باللغة الانجليزية جعلت من الممكن لقادة الإرسالية أن يكتبوا عن الإرسالية العربية وعن المنطقة ولا شك أن الدعاية والتأييد التي يمكن ان تحققها الإرسالية عن طريق هذه الكتابات في الغرب كانت سببا قويا لنشاطهم البالغ في نشر أخبار الإرسالية والاقليم بدلا من العمل بما يعود بالفائدة على أهالي الاقليم أنفسهم.
أثر المطبوعات التبشيرية للإرسالية
كانت المطبوعات أسلوب تبشيري أضعف المداخل التي لجأت اليها الإرسالية بما في ذلك المدخل الطبي والتعليمي والاتصالات الشخصية الخ ويرجع ذلك إلى عاملين رئيسيين:
فمن ناحية كانت كمية المطبوعات ونوعيتها كما سبق أن ذكرنا محدودة. ومن ناحية أخرى فان عرب المنطقة والذين هم من المسلمين كانوا يملكون ثروة غزيرة من الأدب والكتابة الدينية المكتوبة بلغتهم. وحقيقة الأمر أن عرب ذلك الاقليم كانوا يملكون لغة ذات أدب غني بالنثر والشعر الذي كان يتمتع بشعبية كبيرة لديهم. أما الانجيل فقد أشرف على ترجمته أناس لا يتقنون العربية الذي نتج عنه نصوص ذات مستوى منخفض عجزت عن التأثير في الناس. أن عرب هذه المنطقة لديهم دين يؤمنون به. وهم ينظمون شؤون معاشهم طبقا لتعاليمه. وقد أكد بول هاريسون من كبار قادة الإرسالية على هذا الامر بقوله:
"يتمتع العربي بعقلية متدينة، وهو اكثر تدينا من الامريكي العادي"
ولهذا فان أي كتابة مسيحية لا بد أن تكون ذا مستوى رفيع لتتمكن من الوقوف أمام الادب العربي والاسلامي في المنطقة.(1/206)
ومن الأسباب الهامة التي اضعفت دور الأدب والكتابات كمدخل تبشيري هو أن أهالي المنطقة وزعمائها الدينيين كانوا يدركون جيدا أن هذه الكتابات هي هجوم مباشر على دينهم وهو موجه ضد تراثهم وثقافتهم، وهذا فقد كان ردهم على الكتابات المسيحية بشكل عام سلبياً. لكنه كان محدوداً حيث انهم لم يدركوا الأبعاد الاخرى للنشاط التبشيري خاصة النشاط السياسي.
الفصل السادس
النشاط السياسي للمبشرين
العمل التبشيري والاستعمار:
كان الاستعمار نتيجة لحدثين هامين وقعا في أوروبا. أولهما الاكتشافات الجغرافية في القرن السادس عشر، وثانيهما: الثورة الصناعية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وبناء على ذلك بدأت الدول الاوربية مغامراتها التوسعية في العالم في القرن التاسع عشر بحثا عن أسواق جديدة لبضائعها وعن مصادر جديدة للمواد الخام.
عندها بدأ المبشرون أيضاً أعمالهم التبشيرية في البلاد غير المسيحية التي وقعت تحت النفوذ الاستعماري. وقد وجد الجانبان بأن بينهما هدفا مشتركا يجب أن يتعاونا لتحقيقه. والواقع أن زعماء الفريقين كانا يحملان فكرة دينية سياسية مشتركة. وقد تكونت هذه العقلية الغربية نتيجة للتطورات منذ فجر تاريخهم ابتداء بالحروب الصليبية وعصر النهضة والاصلاح الديني والاكتشافات الجغرافية والثورة الصناعية والاستعمار في القرن التاسع عشر. وقد أحدثت هذه الأمور تغييرات طبيعية وثقافية واقتصادية وسياسية عميقة والتي كانت مصحوبة دون شك بتغيرات عظيمة مماثلة في الجانب الروحي.
وبالرغم من مرور السنين الطويلة ومن هذه التغيرات العميقة فان العقلية الغربية في القرن التاسع عشر ظلت تحمل طابع التفكير الصليبي ولهذا فان المبشرين والقوى الاستعمارية كانا يعملان معا.(1/207)
ومن المفيد أن نحاول التعرف على طبيعة العلاقة التي كانت تربط بينهما، وكيف رأى المبشرون أن الاستعمار هو الجسر الذي يمكنهم بواسطته العبور إلى البلاد غير المسيحية؟ لقد ذكرت السيدة كرو Crowe بهذا الخصوص ما يلي:
"انها لحقيقة جغرافية أن التوسع الاستعماري كان الاشارة المباشرة لبدء العمل التبشيري".
وقد أكد السيد دي لاسي أوليري De Lacy O,Leary ذلك بقوله:
"أن النفوذ الغربي هو أيضا مسؤول عن وجود المبشرين المسيحيين".
وقد أضاف القس لويس سكدر الابن بقوله:
"الواقع ان هناك ارتباط بين الارساليات المسيحية والمؤسسات الاستعمارية. أن فتح العالم امام الاستعمار قد أتاح الفرصة كذلك للكنائس المسيحية الغربية للتفكير في الارساليات التبشيرية في البلاد الأجنبية".
وقد أكد جيمس باركس على "أن مصالح المبشرين الدينية قبل الحرب العالمية الأولى كانت تجد عونا كبيرا في وجود القناصل الاوروبيين الذين كانوا يؤمنون لها قدرا معينا من الهيبة السياسية".
ولكن جيمس كانتين وهو من رواد الإرسالية العربية عبر عنها بالطريقة التالية:
"من المؤكد ان البرتغاليين... الذين نهبوا سواحل شبه الجزيرة العربية الشرقية لم يفعلوا شيئا يحبب بتعاليم الرب..... وقد خضع الساحل الشرقي من عمان طيلة مائة وخمسين عاما لحكومة مسيحية مطلقة. أن القصة بمجملها محزنة لنا، حيث لم يكن هناك تأثير ديني مسيحي".
وقد ختم ستيفن نيل Stephen Niell هذه الآراء بعبارة واحدة عندما قال:
"ونتيجة للارساليات المسيحية في عهد الاستعمار فان الكنيسة المسيحية موجودة في كل ركن من أركان الدنيا".
هذه بعض الأمثلة من آراء المبشرين عن طبيعة العلاقة بين العمل التبشيري والاستعمار. ويمكن أن نخلص من قراءة هذه الآراء إلى أن هناك ارتباطا بين الاثنين. وقد خدمت القوى الاستعمارية العمل التبشيري في اتجاهين:
ـ تمهيد الطريق أمامها لممارسة نشاطها.
ـ توفير الحماية لها في ميدان عملياتها.(1/208)
ويرى المبشرون أن وجود عملهم وحمايته لم يكن ممكنا بدون مساعدة القوى الاستعمارية. ولم يكن هذا الدعم بدون ثمن فقد وجد المبشرون أنفسهم متورطين في السياسة عن طريق تقديم التفاصيل عن الاوضاع السياسية والاجتماعية وغيرها في المنطقة في تقارير منتظمة إلى السلطات في بلادهم وقد مكن اتصال المبشرين المباشر باهل البلاد وبزعمائهم من الحصول على معلومات لم تكن القوى الاستعمارية تستطيع الحصول عليها بدونهم.
وقد أجبرت هذه العلاقة الأهالي على مقاومة الاستعمار والتبشير بنفس المستوى دون أي تمييز بينهما، لقد كان الاثنان غربيان وميسيحيان وكان المبشرون يعملون تحت جناح القوى الاستعمارية واستمر هذا الارتباط السياسي حتى الحرب العالمية الثانية ولكنه بدأ يضعف باضمحلال الاستعمار التقليدي. لقد وضعت هذه المرحلة الجديدة حدا للروابط المشتركة الطويلة بين التفكير السياسي والديني عند الغربيين والذي بدأ مع نشوء الاستعمار الغربي في العصر الحديث. ولكن هذا لا يعني على أية حال أن الصلات بينهما قد انقطعت تماما وسيتضح لنا ذلك من دراسة العلاقة بين الإرسالية العربية والقوى السياسية في منطقة الخليج العربي ولا بد من اضافة نقطة أخيرة قبل التقدم في هذا البحث وهي أن هذا التورط السياسي لم يكن ليشمل المبشرين جميعا اذ أن بعضهم كانوا غير راضين عن الاستعمار في شتى صوره وأشكاله ولكن هؤلاء كانوا قلة ولم يكونوا قادرين على التأثير على الروابط بين ارساليتهم والقوى الاستعمارية في وقت كان كل جانب يحتاج إلى معونة الجانب الآخر. يضاف إلى ذلك المفهوم الذي كان يحمله معظم المبشرين: وهو أن الاستعمار هو الذي فتح أبواب العالم على مصراعيها أمام العمل التبشيري: وأن الحضارة الغربية هي حضارة مسيحية والتي يجب ان تصل إلى العالم عن طريق التعاون بين المؤسسات السياسية والمؤسسات الدينية.
الإرسالية العربية الأمريكية والقوى السياسية في المنطقة:(1/209)
لقد بدأت الإرسالية نشاطها في المنطقة في وقت أصبحت فيه العلاقات بين القوى المختلفة معقدة وصعبة ودخلت القوى المحلية والقوى العالمية في صراع حاد للسيطرة على هذه المنطقة الهامة من العالم (منطقة الخليج العربي). لقد أدى هذا الصراع إلى القضاء على الامبراطورية العثمانية واخضاع الوطن العربي لنفوذ القوى الغربية، وكان عمل الإرسالية حساسا في تلك الفترة الحرجة ولكنها نجحت في الخروج منها، ووجدت مجالا جيدا لنشاطها في ظل السيطرة الغربية.(1/210)
وكانت القوتان الرئيسيتان في المنطقة هما السلطات العثمانية والبريطانية وكانت حدة الصراع السياسي بينهما تتزايد إلى أن بلغ حدا ينذر بالانفجار عندما بدأت الإرسالية عملها في منقطة الخليج العربي، وما من شك في أن هذا الصراع قد ترك بصماته على نشاط الإرسالية حيث وجود السلطات التركية في جنوب العراق والسلطة البريطانية في منطقة الخليج. وقد كان لهذا الموقف اثر كبير في الحد من نشاط الإرسالية وأدى إلى نشوء علاقة خاصة بين الإرسالية وبين هذه القوى السياسية. فالسلطات التركية أولا كانت تسيطر على جميع البلاد العربية كسلطة إسلامية، وكان لهذا أثر سلبي على جميع أنواع العمل التبشيري في البلاد. والواقع أن الصدام بينها وبين هذه السلطات بدأ بافتتاح أول محطة تبشيرية لها في البصرة، وفي أثناء ذلك أصبح للاستعمار البريطاني نفوذ كبير في المنطقة التي ستكون المسرح الحقيقي لنشاط الإرسالية العربية التبشيري، وكان للاستعمار البريطاني موقف خاص من هذا النوع من النشاط فقد كان يهمه أن يعلم ما إذا كان هذا النوع من النشاط سيؤدي إلى احتمال مجيء مواطنين أمريكان للاستقرار في المنطقة والذي كان من وجهة نظرها سيمهد الطريق أمام الادارة الامريكية لتحقيق أطماعها السياسية هناك، وفي الوقت ذاته كان المسيحيون بحاجة إلى مساعدتها والذي حمل السلطات البريطانية على أن تنظر اليهم بعين العطف كونهم مسيحيون بروتستانت غربيون.(1/211)
وكانت الإرسالية تجد نفسها في موقف حرج عندما يحتدم الصراع بين هاتين السلطتين، ولكن هذه المشكلة سرعان ما تلاشت بانهيار الامبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الاولى. ومنذ ذلك الحين خضعت المنطقة للنفوذ البريطاني، فأصبحت علاقات الإرسالية ترتبط بالنفوذ البريطاني فقط وكان الهدف الرئيسي لهذه العلاقات هو تأمين وجود العمل التبشيري في المنطقة ومساندته هذا الهدف يتطلب أيضاً إقامة علاقات طيبة مع الحكومات المحلية: وقد اضطر هذا الموقف السياسي المعقد الإرسالية لانتهاج مسلك يبتعد كثيرا عن مهمتها الأساسية كقوة تبشيرية. والواقع أن هذا المسلك
كان يهدف إلى خلق مناخ ملائم لأعمالها التبشيرية. ولا بد من معالجة علاقات الإرسالية العربية بالقوى السياسية في المنطقة بشيء من التفصيل.
علاقات الإرسالية مع السلطات التركية:
كانت الإرسالية العربية في بادئ الأمر تتعامل مع السلطات العثمانية في البصرة التي أقامت فيها محطتها وقاعدتها الأولى. وكانت هذه المنطقة كجزء من العراق واقعه تحت النفوذ التركي عندما بدأت الإرسالية نشاطها هناك, ولم تكن الإرسالية تتوقع أن تلاقي أية صعوبات رئيسية على يدي السلطات العثمانية لأنها كانت تمر في ذلك الوقت بفترة من الضعف. وتحدد اعتراض السلطات التركية الرئيسي بأن أطباء الإرسالية يجب أن يحصلوا على شهادة دبلوم تركية ليسمح لهم بمزاولة العمل هناك؛ كما أن هذه السلطات كانت تخشى أن يكون للمبشرين علاقات سياسية مع السلطات البريطانية والتي كانت العدو الرئيسي للعثمانيين في ذلك الوقت.(1/212)
إن موقف السلطات التركية لا يسمح للمبشرين بمهاجمة الإسلام أو إلقاء الخطب ضده أو بيع أو توزيع أية منشورات ضد الإسلام في الأماكن العامة. وكانت تعتبر هذا أمر طبيعيا لأنهم كانوا يحكمون البلاد باسم الإسلام وكانوا يخشون أن يكون وراء هذه الأعمال التبشيرية أهدافا سياسية, وقد سبب هذا الموقف بعض المتاعب للإرسالية ولكنها لم تكن من الخطورة بحيث تهدد العمل التبشيري في المنطقة.
وما من شك في أن وضع الإرسالية القلق في ذلك العهد كان بين المشكلات التي واجهتها ولكنها كانت تدرك أن مستقبل المنطقة سيكون في أيدي السلطات البريطانية ولهذا فإنها رسمت ساستها على هذا الأساس أي أن تتعامل مع السلطات البريطانية أكثر من تعاملها مع أية جهة أخرى, وموقفها هذا كان طبيعيا جدا بسبب التعاطف الكبير بين القوى الإستعمارية الغربية وبين المبشرين: ولأنهم كانوا يستطيعون الحصول على حمايتها والتعاون معها, وقد أكد هذا الشعور الرسالة التي تلقتها الإرسالية من وزارة الخارجية البريطانية بتاريخ الخامس من نيسان (أبريل) سنة 1910 جاء فيها:
"إن حكومة صاحب الجلالة تتعاطف تعاطفا تاما مع مشروع الإرسالية الأميركية في مسقط." وقد واجه نشاط الإرسالية بعض الصعوبات في المناطق الخاضعة للسلطات التركية, ولكن عمل الإرسالية كان يتصف بالمرونة كي تتمكن من البقاء وتصل إلى هدفها بالتأثير على منطقة الخليج وشبه الجزيرة العربية, ولذلك فإنها لم تتخذ مواقف متشددة من هذه السلطات في أي ظرف من الظروف لأنها لم تكن تملك القوة التي تمكنها من الوقوف في وجه السلطات في تلك الأنحاء كما لم تكن ترغب في الدخول في نزاعات قد تضع حدا لنشاطها التبشيري كلية وتنحرف بها عن هدفها الأساسي وهو الهدف الديني.(1/213)
والحقيقة أن السلطات التركية كانت تخشى النشاط التبشيري, ولكنها لم تتخذ أية إجراءات ضده لأنها كانت تعلم أن المبشرين كانوا يعملون بصفتهم رعايا للبلاد التي ينتمون إليها وتحت حماية علم بلادهم. وقد حافظت الإرسالية العربية على وجودها بسبب جنسيتها الأميركية لأن نزاع السلطات التركية الحقيقي كان مع السلطة البريطانية وليس مع السلطة الأميركية, وعندما كانت تعترض المبشرين أية صعوبات يلجأون إلى قنصلياتهم طلبا للمعونة والتي كانت تقدم لهم في العادة وتوفر لهم الحماية اللازمة.
ولم تقف الصعوبات التي لاقتها الإرسالية في البصرة أمام نشاطها في منطقة الخليج ابتداء بالبحرين التي كانت خاضعة للنفوذ البريطاني, لكن الإرسالية كانت تقوم بنشاطها في غاية الحذر بسبب الأوضاع السياسية الحساسة في المنطقة في ذلك الوقت.
علاقات الإرسالية بالسلطات البريطانية
عندما بدأت الإرسالية عملها في المنطقة كان النفوذ البريطاني يمنو تدريجيا إلى أن تمكن من السيطرة على المنطقة بكاملها وكان خصمه الرئيسي في الشرق هو الأمبراطورية العثمانية ولهذا فقد كانت تهتم بكل نشاط يأتي من المناطق التي تسيطر عليها وحيث أن نشاط الإرسالية قد بدأ من البصرة فقد أهتم البريطانيون كثيرا بنشاطها هناك وكانوا يخشون من أمرين: الأول, هل يمكن أن تقبل السلطات العثمانية بمثل هذا النشاط بدون مقابل؟ والثاني: هل يمكن أن يكون هؤلاء المبشرين الأمريكان بداية لنفوذ أمريكي يخطط له في المنطقة؟ ولهذا كان موقف السلطات البريطانية منهم هو السماح لهم بالعمل مع وضعهم تحت سيطرتها التامة. كما أنها حاولت أن تقدم خدمات طبية مشابهة لخدماتهم لأهالي المنطقة. وكانت وجهة نظرهم هي أن توفّر هذه الخدمات سيجعل من الوجود الأمريكي أمرا لا مبرر له في المنطقة.(1/214)
وقد وضعت هذه السياسة موضع التنفيذ في عمان عندما طلب سلطان عمان تزويد بلاده بالخدمات الطبية في سنة 1900 ويبدو أن هذا الطلب جاء بتأثير النفوذ البريطاني وبمشورتهم حيث قدمت بعثة طبيّة هندية لهذا الغرض ووضعتها الحكومة البريطانية تحت أشرافها وفي نفس تلك السنة أيضا أوقفت الحكومة البريطانية مجلس الطب الصحي في البحرين عن العمل, وفي عام 1905 انتقلت المسؤولية إلى معتمدها في تلك المنطقة بعد انتشار وباء الطاعون في الجزيرة وقد شهد ذلك العام بناء مستشفى فكتوريا التذكاري, والذي أنشأته السلطات البريطانية في البحرين. وفي عام 1904 قامت المعتمدية البريطانية أيضا بافتتاح صيدلية وعيادة خارجية في الكويت. والواقع أن جميع الأنشطة الطبية التي أقامتها السلطات البريطانية جاءت ردا على أعمال الإرسالية العربية لكي تثبت عدم وجود أي مبرر للوجود الأمريكي في المنطقة مع أن هذه الخدمات كانت بشكل رئيسي موضوعة تحت تصرف الجنود والمواطنين البريطانيين وتقدم لهم الخدمات الطبية اللازمة.
ولكن هذه السياسة لم تضع حدا لنشاط الإرسالية العربية ولهذا فكرت السلطات البريطانية في وضعها تحت إشرافها التام. ويتضح هذا من رسالة الكابتن شكسبير المعتمد السياسي البريطاني في الكويت والمؤرخة في الثالث من آب (أغسطس) سنة 1910 والتي جاء فيها:
"إن إرسالية الكويت (فرع الإرسالية العربية) ستكون مستقلة تماما من إرسالية البصرة... والإرسالية تقدر وضع البريطانيين الخاص في الكويت"
ويتبين من هذه الرسالة أن السلطات البريطانية كانت تشك في فرع الإرسالية في البصرة, وقد تأكد ذلك أيضا في "تعهد الإرسالية" والذي جرى توقيعه في اجتماعها السنوي في البحرين في 18 تشرين ثاني (نوفمبر) سنة 1910. سبق أن أتينا على ذكر هذه الوثيقة في فصل سابق.
وقد جرى إصدار هذا التعهد بسبب الضغوط البريطانية على الإرسالية وخاصة في الكويت التي تقع على الحدود الجنوبية للأراضي العراقية.(1/215)
والحقيقة أن السلطات البريطانية قد عارضت سياسة الشيخ مبارك في بادئ الأمر بالسماح للإرسالية بالعمل في الكويت ولكنها لم تفرض رأيها عليه وترغمه على عمل ما لا يريد, بسبب وجود معاهدة بين الطرفين وقعت في عام 1889 والتي أصبحت الكويت بموجبها تحت الحماية البريطانية وقد تعلمت السلطة البريطانية درساً بعدم التدخل من خبرتها في مسقط. أضف إلى ذلك أنها كانت حريصة على نيل صداقة حاكم الكويت بسبب موقع بلاده على رأس الخليج العربي في وقت كان الصراع بين البريطانين والعثمانيين على أشده قبل الحرب العالمية الأولى.
لقد كان أهم ما يعني البريطانيين هل موقف المبشرين معاد للسياسة البريطانية أم لا, وقد جرى التأكد من ذلك في عدد من التقارير الرسمية والرسائل التي كان معظمها سريا. والرسالة التالية الموجهة من المعتمد السياسي البريطاني في المنطقة إلى نائب المقيم البريطاني في منطقة الخليج يوضح هذا القلق البريطاني حول هذا الأمر, جاء فيها:
"اننى على يقين من أن موقف بعض من قابلتهم من المبشرين لا يتصف بمودة حقيقية، وأي فرد يحمل مشاعر معادية للبريطانيين يجد فرصة كبيرة للاساءة الينا نظرا لما للإرسالية من تأثير عن طريق المستشفى أو المدرسة، ومن الامور التي يصعب اكتشافها أو محاربتها الزيارات التي تقوم بها المبشرات إلى الحريم. ويبدو أن الحكومة الامريكية على علم... بنشاطات الإرسالية العربية... وأي فرد من اعضائها يسبب متاعب بخصوص الحرب فان على جميع أفراد الإرسالية أن يتركوا المنطقة... ومن المناسب الوصول إلى اتفاق مع حكومة الولايات المتحدة لتحذير الإرسالية العربية من أن للحكومة البريطانية وضعاً خاصا في الخليج (الفارسي)، وأنه وعندما يقوم المبشرون بعمل يسيئ للمصالح البريطانية يجب عندها أن يتعرضوا للسحب." (انظر الملحق رقم 2).(1/216)
وفي هذا الموقف انعكاس نشاط الإرسالية العربية التبشيري على المسؤولين البريطانيين في المنطقة، لقد جاء رد الفعل هذا من أولئك الذين يخشون أن يكون لهذا النشاط هدف مزدوج ديني وسياسي وخصوصا أن بريطانيا نفسها قد مرت بمثل هذه التجربة، فقد كان هناك الجنرال هيج Haig على سبيل المثال والذي كان شخصا عسكريا وسياسيا ومبشرا في آن واحد قد زار سواحل الجزيرة العربية وكان وراء فكرة التبشير المسيحي في المنطقة.
وبقي خوف البريطانيين من النشاط التبشيري الامريكى قائما، وعقدت بعض عناصر مخابراتهم صلاة وثيقة معهم ليعرفوا بالضبط موقفهم من بريطانيا ويتضح هذا جيدا من قراءة الرسالة التالية:
"إلى: هـ. ف. بيكو H.V. BISCO المقيم السياسي البريطاني في الخليج (الفارس)
سرى 505 رقم 18 من المعتمدية السياسية البريطانية في الكويت بتاريخ 18 شباط (فبراير) 11932 في اعتقادي إن فان ايس افضل المبشرين هنا على الاطلاق وهو يتفوق على الجميع في سعة الافق واتساع التفكير. وهو مؤيد للبريطانيين أيضاً ولذلك فانه لا يتمتع بشعبية كبيرة لدى الباقين من جماعته."
يتضح من قراءة هذه الرسالة أن بعض المبشرين الأمريكان كانوا يؤيدون الانجليز في حين كان البعض الآخر ضدهم وربما يكون هناك البعض ممن كانوا حيادين. ولكن ما الذي يحدث عندما يصبح احد المبشرين مؤيدا للبريطانيين؟ ما من شك ان هذا يعني تورطه في السياسة حين يحاول جاهدا ان يثبت للسلطة أنه ليس معاديا لها. وقد ادى ذلك إلى تورط المبشرين في السياسة لكى يبقوا ويعملوا في المنطقة، وهذا واضح من هذا التقرير الهام الذي كتبه الدكتور/ بول هاريسون وهو واحد من انشط قادة الإرسالية العربية قال فيه:(1/217)
".... اما فيما يتعلق بالاوضاع السياسية فان أقوى شيخ في المنطقة على الاطلاق هو حمدان شيخ "ابوطبي". أنه رجل فريد من نوعه، أنه يخلص للحكومة البريطانية كل الاخلاص إلى درجة أنه يستحق التقدير لهذا الشعور أو تقديم أحد الأوسمة له... من تلك الحكومة... أما من الناحية الظاهرية فاننا لا نجد شيئا سوى الولاء الصادق بشيء من التحفظ. فمن ناحية هناك تخوف من ازدياد النفوذ البريطاني لانهم يشعرون أن تفوقهم يعني اختفاء العبودية، وهذا الشعور يقتصر بشكل كبير على الطبقة العليا الضئيلة... أن الهيبة البريطانية، على أية حال، تعاني كثيرا بسبب ممثل الحكومة هناك ويرجع اليه السبب إلى حد كبير في أن الاحترام والإعجاب الذي يجب أن يصاحب الولاء يكاد يكون معدوما. وبغض النظر عن صحة ذلك أو عدمه، فانه قد نجح في تكوين انطباع بأنه قادر على تحقيق كل ما يريد".
وتشير هذه الرسالة إلى أن الإرسالية متورطة على نحو مباشر في الأمور السياسية للمنطقة، وهذا الأمر لا يزال بكل ما في الكلمة من معنى. والسؤال هو: ما هي العلاقة بين نشاط الإرسالية الإنساني والقضايا السياسية؟ وما هي الفائدة التي تعود على الإرسالية عندما يقوم الدكتور/ هاريسون كطبيب بكتابة تقرير للسلطات البريطانية عن الشيخ حمدان حاكم "أبو ظبى" يقول فيه أنه حاكم ذكي وموال للحكومة البريطانية الخ...؟!.(1/218)
هناك عدة احتمالات لتفسير تقرير الدكتور/ هاريسون: الأول، أن هناك اتصالا وثيقا في عقول ذلك الجيل من المبشرين بين الفكر الديني والفكر السياسي الإمبريالي، ولذلك فقد كانوا يشعرون بأنهم يجب أن يتعارفوا في كلا الميدانين السياسي والديني بالرغم من انهم كمبشرين يدعون أن لهم أهدافاً مختلفة، بالاضافة إلى أنهم كأناس متعلّمين قادمين من بلاد منفتحة فانهم لا يستطيعون أن يفصلوا أنفسهم عن الحياة الثقافية والتي تعتبر السياسية جزءا منها. ولكن تقرير الدكتور/ هاريسون يبين بوضوح أنه قد انحاز إلى جانب الاستعمار البريطاني كعميل ينصح هذه السلطات بكيفية التعامل مع شيوخ المنطقة ويقدم لها التفاصيل عن الاوضاع السياسية في المناطق التي قام بزيارتها. والثاني، كما اوضح القس لويس سكدر الابن فان الدافع من وراء مثل هذا التقرير هو أن الدكتور/ هاريسون نظراً لشكوك السلطات البريطانية في النشاط التبشيري أراد أن يثبت لها أن موقف الإرسالية غير معاد للسياسية البريطانية لتسمح للإرسالية بالبقاء والاستمرار في عملها التبشيري في هذه المنطقة ولكن تفسير القس سكدر لا يكفي لتبرير تورط الإرسالية السياسي لأنه من الخطأ الاعتقاد بان هذا التصرف سيقضي على شكوك السلطات البريطانية في نشاط الإرسالية لأن مثل هذا الموقف قد يؤكد للسلطات البريطانية تدخل الإرسالية بالقضايا السياسية واحتمال انها تلعب دورا مزدوجا بالعمل للمصالح البريطانية والامريكية في آن واحد بالاضافة إلى ان هذا النشاط يتعارض مع الاهداف الدينية والانساية التي يجاهر بها المبشرون الا إذا كانوا يعتبرون مثل هذا النشاط هو أحد أهدافهم الإنسانية. أن هذا التقرير يبين تورط الإرسالية في خدمة الاستعمار.(1/219)
لقد اقدمت السلطات البريطانية على اعادة النظر في سياتها هناك، حيث "بدأت في مد نفوذها على طول ساحل الخليج كما ذكر المعتمد السياسي في البحرين في رسالته الموجهة إلى نائب المقيم البريطاني في المنطقة والمؤرخة في الرابع من أيار (مايو) سنة 1917.
أن السماح للمبشرين الامريكان بالعمل في منطقة خاضعة خضوعا تاما للنفوذ البريطاني لم يكن بدون مقابل. لقد تعاونت الإرسالية مع السلطات البريطانية لأنها أدركت انها لا يمكن أن تضمن مستقبلها في المنطقة بدون هذا التعاون ولا تستطيع الحصول على موافقة الحكومة البريطانية للعمل هناك. ولم يكن هذا التعاون يقتصر على هذا التقرير فقط فقد حدث اكثر من ذلك في الكويت على سبيل المثال. فبعد ابرام المعاهدة البريطانية ـ الكويتية في عام 1899 حاول المبشرون الامريكان التدخل في القضايا السياسية عن طريق مساعدتهم لحاكم الكويت ضد عدوه الذي كان يقوم بهجمات متكررة على حدود بلاده من شبه الجزيرة العربية التي يحكمها ابن سعود. وقد ذكرت اليانور كالفرلى وهي أول طبيبة في الكويت وعضوة في الإرسالية العربية بأن المبشرين كانوا يعقدون اجتماعات متوالية مع الكابتن شكسبير المعتمد السياسي البريطاني في الكويت ليشرحوا له السياسية الامريكية وأضافت أن الدكتور/ مايلري وهو أحد أهم اعضاء الهيئة الطبية في الكويت قد اصطحب الطيار البريطاني في عام 1920 لا ستطلاع جيش ابن سعود الذي كان يتحّرك لغزو الكويت. وكان الدكتور/ مايلرى يلقي المنشورات من الطائرة على هذا الجيش والتي تطلب من المهاجمين الانسحاب من أراضي الكويت والا فإن الطائرة ستهاجمهم. كما ذكرت بأن الدكتور/ ما يلرى قد دُعي لحضور اجتماع سياسي للقيادة البريطانية على ظهر سفينة حربية بريطانية كانت راسية في المياة الاقليمية للكويت وقد حضر الدكتور/ مايلرى عدة اجتماعات من هذا النوع.(1/220)
والحدث الهام التالي الذي وقع أثناء الحرب العالمية الأولى في البصرة والذي يؤكد على وجود تعاون بين المبشرين والسلطات البريطانية فقد أشارت دوروثى فان ايس إلى ذلك بقولها:
"... وبعد ذلك بعدّة أيام اجتمع الشيوخ العرب الخمسة الكبار في المنطقة في غرفة المطالعة مع زوجي (جون فان ايس) وقد كتبوا بمساعدته ومشورته تصريحا بتأييد الحلفاء والذي سيكون ذا فائدة كبرى للقوّات البريطانية."
لقد كان الباعث على هذه الانشطة والتي كانت كلها سياسية اقتناع الإرسالية بأن القوى الاستعمارية هي مفتاح للعمل التبشيري في البلاد غير المسيحية. وقد أكد بول هاريسون هذه الفكرة بقوله:
"ان اكبر رصيد سياسي للادارة الاستعمارية في اقليم ما هو سمعه طبيب الإرسالية المقيم. وهكذا فان الانجيل، بما له من تأثير في قلوب المسلمين يجب أن يتحمل وزر جميع شرور الاستعمار الغربي. أن المبشّر يؤمن في كثير من الأحيان ان الامل الوحيد للانجيل هو في حماية الحراب الغربية. وما لم يحصل المبشرون على حماية الحكومات الغربية بقوتها الحربية فان حياتهم ستكون مهددة ولن يتمكنوا من اعلان الرسالة المسيحية."
والحقيقة أن الإرسالية قد حصلت على دعم السلطات البريطانية في المنطقة وكان المبشرون يرحبون في منازلهم في جميع محطات الإرسالية بالعديد من البريطانيين الذين كانوا يعملون في المنطقة والعديد من الجنود البريطانيين في مستشفياتهم
وخصوصا أثناء الحربين العالميتين. ومن الأمثلة الأخرى على التعاون بين الإرسالية والسلطات البريطانية ما ذكره صموئيل زويمر عن مساعدة البريطانيين له عندما قرّر أن يسافر إلى داخل الجزيرة العربية حيث ذكر:
"لقد تلطف الكولونيل موكلر Mockler المقيم البريطاني بمنحي جواز سفر خاص وليّ الحق في استخدام موافق من البوليس في حالة الضرورة."(1/221)
ومع أن قلق البريطانيين كان لا يزال مصحوبا بالحذر، الا أنه كان يلازم كل عمل من أعمال الإرسالية حتى في الأمور التافهة كما حدث عندما استقدمت الإرسالية اجهزة الاشعة السينية لأول مرة فان المعتمد السياسي البريطاني في البحرين بعث برسالة إلى المقيم السياسي في منطقة الخليج يعلمه بأن الإرسالية العربية تفكر في شراء وحدة للاشعة السينية لاستخدامها في مستشفى البحرين.
وما من شك أن السلطات البريطانية كانت قلقة بشأن نشاط الإرسالية لأنها كانت لا تريدها ان تحرك الأهالي باعتبار أن نشاط الإرسالية قد يؤدي إلى توعية الناس بواقعهم خاصة وأن التعليم كان أحد وسائلها والحقيقة أن المبشرين عندما جاءوا إلى منطقة الخليج العربي حملوا معهم مشاعرهم القومية ومزجوها بتفكيرهم الديني ومن هنا جاء قلق البريطانيين فيما إذا كان لهذا التفكير أثر على وجودهم أم لا. ومن المفيد أن نعرف موقف المبشرين المتأخرين نحو العلاقة بين السلطات البريطانية والارسالية. لقد ذكر القس لويس سكدر الابن:
"أن هذه السلطات الاستعمارية تميل إلى النظر إلى المبشرين الامريكان كخطر دخيل على المصالح البريطانية في أي منطقة تتواجد فيها. لقد كان البريطانيون يحملون هذه النزعة من الشك نحو كل ما يتصل بالارسالية العربية."(1/222)
ومن الواضح أن موقف القس سكدر يختلف عن موقف رواد الإرسالية فهو ضد الاستعمار وكل نوع من انواع العلاقة معه ولكنه يعتبر العلاقة بين الطرفين كانت أمرا طبيعيا وهو يفسّر ذلك بقوله أن هناك رباطا ثقافيا بين البريطانيين والامريكان، وهذا العامل في نظره عامل هام فهناك اللغة المشتركة وشعور الاخوة بينهم كمسيحيين وغربيين كما أن أعداد الفريقين كانت قليلة في المنطقة. أن ما يوحي اليه القس سكدر في تفسيره لتورط الإرسالية في الشؤون السياسية في ذلك الحين هو أن الإرسالية لم يكن لها غرض سياسي ولكنه فرض عليها. وهو في الواقع يعبر عن التفكير التبشيري المعاصر والذي كان قد تغيّر عما كان عليه في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
وهكذا فان العلاقة بين الإرسالية والسلطات البريطانية قد سمحت للإرسالية بالبقاء ومتابعة نشاطها طيلة كل هذه السنين وقد لعبت هذه العلاقة أيضاً دورا في فشل المبشرين لأن تورطهم السياسي جعل الناس ينظرون اليهم على انهم عملاء للسلطات الاستعمارية. ومن جهة أخرى فان هذه العلاقة قد ساعدت السلطات البريطانية في المنطقة بتزويدها بمعلومات مفيدة عن حياة السكان السياسية والاجتماعية وعن حكامهم. كما أن السلطات البريطانية كانت تستخدم منشآت الإرسالية وخاصة أثناء الحربين العالمتين الأولى والثانية.
علاقات الإرسالية بالحكومة الامريكية(1/223)
كانت الولايات المتحدة وانجلترا تعتبران نفسيهما أكبر ممثلتين للمسيحية البروتستانتية في العالم، ولقد بحيث هذا الموضوع في المؤتمر التبشيري المنعقد في أدنبره عام 1910 وأقر المجتمعون على أن هناك تأثيرات قوية تدفع الحكومات إلى تبني سياسة تحد من حرية العمل التبشيري في المناطق الخاضعة لسيطرتها. وقد وضعت هذه السياسة موضع التطبيق ولكن بشيء من الحذر. وقد وجدت بعض هذه الحكومات أثناء الحرب العالمية الأولى أن من الضروري عدم فسح المجال أمام المبشرين من الجنسيات المعادية ولكن الحكومات وبخاصة الحكومة البريطانية لم تكن تطبق هذه السياسة ما لم تشعر بتورط المبشرين في السياسة المعادية لها.
أما فيما يتعلق بالارسالية العربية وعلاقاتها بالحكومة الامريكية، فان من الممتع أن نرى كيف استطاعت الإرسالية اقامة علاقات طيبة مع السلطات الامريكية والبريطانية في وقت واحد. لقد ذكر لوريمر:
"أن النشاط الامريكى في الخليج (الفارسي) بقي على حاله حتى سنة 1900 وفي تلك السنة جرى تعيين قنصل امريكي في البصرة. وفي احدى المرات سببت نشاطات الإرسالية العربية في البحرين بعض المتاعب للسلطات البريطانية التي كانت مسؤولية عن سلامة المبشرين
وهناك ثلاث نقاط رئيسية تتصل بهذا الموضوع: أولا:ـ
أن البريطانيين قد اقتنعوا بأن النشاط التبشيري يمكن أن يرتبط بالوضع السياسي عندما ذكر لوريمر Lorrimer أن الممثل القنصلي الامريكي قد عين نفس الوقت الذي بدأت فيه الإرسالية أعمالها في البحرين التي سببت بعض المتاعب للسلطات البريطانية هناك.
ثانياً: لم يذكر لوريمر شيئاً عن طبيعة المتاعب التي ذكرها وما إذا كانت سياسية أو غير سياسية.(1/224)
ثانياً: ـ لقد أكد لوريمر على حماية البريطانيين للمبشرين والذي ساعدهم بدون شك على العمل هناك لأنهم شعروا بأن القوى الاستعمارية تحميهم ولكن المبشرين كانوا يشعرون بأن الحماية الحقيقة هي حماية حكومتهم لهم. وقد رحب المبشرون بدخول امريكا الحرب العالمية الأولى لأن هذا سيوحد العالم الانجلوا ـ ساكسون سياسيا ودينيا ويساعدهم على الاستمرار في نشاطهم.
وقد حمل هذا الامر الولايات المتحدة على تبني سياسة حماية جميع الرعايا الامريكان في خارج البلاد سواء مبشرين أو تجارا. لقد كان في هذه السياسة تشجيع كبير للمؤسسات الدينية. ومن هنا يتبين أن حكومة الولايات المتحدة كانت أكثر حزما في التمسك بالايمان المسيحي وفي تشجيع المحاولات التبشيرية المسيحية في الشرق الأوسط وفي غيرها من الدول وقد أكد جون دى نوفر على هذا عندما قال: ـ
"ومن الامريكان العاملين في الشرق الأوسط المبشرون من الطوائف البروتستانتية المختلفة والذين تغلغلوا في أجزاء عديدة من المنطقة.
لقد كانوا يطلبون المعونات المالية والدعم الأدبي من وطنهم وكانوا المرآة التي يرى الأمريكان الشرق الأوسط من خلالها كما كانوا كثيرا ما يطلبون الدعم الدبلوماسي من دولهم ويحصلون عليه"
واستنادا لهذا فان من الواضح تماما وبدون أدنى مجال للشك أن المبشرين كانوا متورطين سياسيا ولا يبدو هذا غريبا على ضوء التطور الاستعماري في نهاية القرن التاسع عشر أو بداية القرن العشرين ولكن عندما نسمع تبريرا لهذا من أحد قادة الإرسالية العربية في الوقت الحاضر فان هذا يوحي بأن العقلية السائدة في القرن التاسع عشر لا تزال حية بين مبشري اليوم والذي يظهر بوضوح من رد السيدة نايكرك بخصوص تورط الإرسالية العربية السياسي:(1/225)
"اننا أحيانا نتورط في السياسة عندما تقول بلادنا أو تفعل شيئا لمصلحة العرب الذين نعيش ونعمل بينهم... لقد حاولنا أن نكون مواطنين صالحين وسفراء لبلادنا بالاضافة إلى خدمة الله باخلاص بخدمتنا للانسانية."
لقد اعترفت السيدة نايكرك بوجود روابط سياسية بين الإرسالية والحكومة الامريكية وانهم يتورطون في السياسية عندما تفعل حكومتهم شيئا لا يتعارض مع مصلحة العرب كما يدعون. وهذه الكلمات في الواقع ذات صفة عامة وليس من الواضح ما إذا كانت تعني انهم يؤيدون مواقف دولتهم أم لا، كما أن عبارة "في مصلحة العرب" تحتاج أيضاً إلى توضيح.
ومن المحتمل أن تفكير المبشرين وخلفيتهم قد جعلهم يعتقدون أن سياسة دولتهم كانت جيدة وصحيحة في وقت كانت هي ضارة بمصالح العرب. كما أن عبارة "أننا حاولنا أن نكون مواطنين صالحين... وسفراء لبلادنا". غير واضحة أيضاً!
هل لهذا الأمر أية أبعاد سياسية؟ وان كان الأمر كذلك فان هذا يعني أن المبشرين كانوا مرتبطين بسياسة الولايات المتحدة الخارجية ارتباطا جديا أم أنها تعني بهذا أن المبشرين يجب أن يحافظوا على مستوى جيد من الخدمات الإنسانية كي يثبتوا للعالم الخارجي أن الشعب الأمريكي يقوم بمساعدة الشعوب المتخلفة؟ وهذا الموقف على أية حال بعيد جدا عن هدف المبشرين الحقيقي والذي هو في جوهره ديني يهدف لخدمة الايمان المسيحي.
والواقع أن المبشرين كانوا يعملون في المنطقة بصفتهم مواطنين أمريكيين وقد استخدموا جنسيتهم مظلة لتحمي وجودهم وعملهم التبشيري. وحدث مرة أن قبض أحد رجال البوليس الاتراك على السيد جيمس كانتين أحد رواد الإرسالية في البصرة وعندما أخذ إلى مركز الشرطة قال:
"لقد قبض هذا الرجل عليَّ في الطريق، وبما أنني مواطن أمريكي فليس له حق في ذلك، لقد سبب لي حرجاً وهو أمر خطير يسيئ للعلاقات بين حكومتكم وحكومتي"(1/226)
ولم يكن السيد كانتين يستطيع أن يقول لو لم يكن متأكدا من حماية حكومته. وأكثر من ذلك عندما اتى السيد زويمر في أول الأمر إلى مسقط ليفتتح فيها محطة للإرسالية ساعده الوجود البريطاني على ذلك كما يتضح من الآتى:
"وبسبب وجود قنصل بريطاني في تلك البقعة فان موقف السيد زويمر كان أقل صعوبة".
وقد أكد اثنان من كبار رواد الإرسالية على المساعدة الفعالة التي كانت الدول الغربية تقدمها وهما س. زويمر و جـ. كانتين واللذين قالا:
"وكان يساعدنا كثيرا في هذا الخصوص العلاقات الودية بين الإرسالية في ميدان العمل وبين القنصليات الامريكية والبريطانية".
وهكذا فان المبشرين كانوا يعملون في جو من الأمان بسبب الحماية التي تكفلها حكوماتهم لهم حتى في المناطق الواقعة تحت السيطرة البريطانية بسبب الترتيبات المعقودة بين بريطانيا وامريكا في السياسة الخارجية وبخاصة فيما يتعلق بالعمل التبشيري كما سبق أن ذكرنا،ولكن كان يشوب هذه السياسة شيء من الحذر من جانب السلطات البريطانية خاصة عندما كان البريطانيون يشكلون القوة الوحيدة التي تسيطر سيطرة تامة على المواقع الاستراتيجية هناك وأهمها البحرين ومسقط.
والواقع أن التطورات الأولى في مسقط ومطرح كانت مشابها لما حدث في البحرين والبصرة والكويت. فقد كانت السلطات البريطانية تشك في العمل التبشيري في مطرح وقد احتج حاكم مسقط بشدة على نشاطهم ورفض في بادئ المر أن يسمح لهم بمتابعة العمل في مطرح. وجاء هذا الرفض بعد أن أرسل سلطان مسقط يبلغ القنصلية الامريكية بأن المبشرين قد قاموا بالتدابير لاستئجار منزل وافتتاح مستشفى في مطرح بدون الحصول على اذن منه وقد أعلمهم في مطلع عام 1909 بانه لن يوافق على مشروعهم المقترح ورجاهم أن يقتصروا نشاطهم على مسقط.
والأسباب التي دعته لا تخاذ هذا القرار هي الآتية:ـ(1/227)
1ـ ان الإرسالية لم تسع للحصول على اذن منه وقد كان يرى أي نشاط أجنبي في أرضه يجب أن يحصل على موافقته.
2ـ أنه كان يخشى أن تتمكن الإرسالية بخدماتها الطبية من التأثير على شعبة وتحاول تحويلهم عن دينهم والذي كان يبدو له أنه هدفهم النهائي.
3ـ أنه كان يعتقد بسماحة لهم بتقديم الخدمات الطبية في مطرح سيكون من الصعب عليه أن يرفض طلبهم بالتوغل في المناطق الداخلية من البلاد لنفس الغرض، لأن توغلهم في هذه المناطق من شانه أن يخلق له المتاعب.
3ـ وقد خشى أيضاً من التعرض للضغط السياسي في حالة لجوء الإرسالية لحكومة الولايات المتحدة الامريكية لارغامه على الموافقة والذي من شأنه أن يؤثر على موقفه وعلاقاته مع السلطات البريطانية
وكان موقف الولايات المتحدة الرسمي من النشاط التبشيري في مسقط واضحا من الرسائل التالية المتبادلة بين نائب القنصل الأمريكي بالوكالة في مسقط وفيصل سلطان مسقط وعمان:
"من نائب القنصل الامريكي بالوكالة في مسقط..
إلى: سلطان مسقط
التاريخ 23 مارس 1909
سيدي،
.... طبقا للقوانين الدولية الخاصة بحماية المبشرين، فان المبشرين الموفدين من الطوائف الدينية في الولايات المتحدة إلى البلاد المحمدية (أو) بلاد الوثنيين لهم الحق في الحصول على جميع أنواع الحماية التي يخول القانون الدولي هذه الحكومة بتقديمها إلى المواطنين للاقامة في بلاد أجنبية لمزاولة أعمالهم المشروعة."
يتضح لنا من هذه الرسالة حماية الولايات المتحدة ودعمها المباشر للمبشرين، وقد أصرّ السّلطان قّوة في اجابته على قدرته تأمين الحماية للرعاية الأمريكان في بلاده بدون أي تدخّل من أية جهة. وكان رده كالآتى:
من سلطان مسقط..
إلى: نائب القنصل الأمريكي بالوكالة
التاريخ الثاني من ابريل 1909، مسقط
.....(1/228)
ان هناك تفاهم متبادل بيننا بخصوص السماح للآخرين بالتجارة والعيش هنا. وإنني أحمى رعاياكم بكل عناية في جميع الأوقات وأزودهم بكلّ ما يشعرهم بالراحة فيما عدا الطبيب الذي يريد افتتاح مستشفى هنا وهذا ما لا استطيع السماح له به. وقد سبق ان قمت بالترتيبات اللازمة كي يقوم طبيب بتقديم العلاج المجاني هنا في مطرح ولا أظن اننا بحاجة إلى أكثر من ذلك هناك."
ولكن ردّ السلطات أدّى إلى احتجاج أمريكي شديد اللهجة والذي يّتضح من ردّ القنصل الأمريكي التالى:
"من نائب القنصل الأمريكي بالوكالة..
إلى: سلطان مسقط
بتاريخ الثالث من ابريل سنة 1909مسقط
.... يشرفنى أن أقول اننى احتج بشدّة على هذا التمييز المهين ضد الأطباء الأميريكيين وحقوقهم في أراضي سّموكم."
وردا على هذا الموقف الأمريكي كتب السلطان رفضا شديد اللهجة أيضاً في رسالته لنائب القنصل الأمريكي بالوكالة المؤرخة الثالث من ابريل 1909
"انني أرفض السماح للمبشرين بافتتاح مستشفى في مطرح، بلّغ الحكومة الأمريكية انها لا تستطيع ارغامي على فعل ما لا أريد."
"سلطان مسقط"
والواقع أن الحكومة الأمريكية قد وقفت موقفا حازما في تأييدها للمبشرين ومعارضة موقف السلطان نحوهم كما يظهر بوضوح من الرّسالة التالية:
"من القنصل الأمريكي في مسقط..
إلى: سلطان مسقط
بتاريخ 15 نوفمبر 1909
.... ان الحكومة الأمريكية تؤكّد أن حق الرعايا الأمريكيين في ممارسة الطب على أراضي جلالتكم قد ضمنته المعاهدة بين حكومة جلالتكم وحكومة الولايات المتحدة في سنة 1833...... يجب ان يحظى الرعايا الأمريكيون بالحماية في عمان...... وللمبشرين الحق في نفس الحماية كغيرهم من رعايا الولايات المتحدة الأمريكية."(1/229)
والواقع أن الأمر لا يتعلق بحق الأطباء الأمريكيين في ممارسة الطب في عمان ولكنه يتعلق باحتمال قيام هؤلاء الأشخاص بنشاط ديني بين عرب عمان، ويمكن تفسير موقف السلطان بأنه يتضمن رفضه لقيام المبشّرين بعمل ديني وقلقه من أن يحاول المبشّرون التدخّل في قضايا ادارية لصالح حكومتهم. ولم يكن يرغب في أن تعتبره الحكومة الأمريكية مسؤولا عن حماية المبشرين، كما يجب أن لا ننسى اثر النفوذ البريطاني على موقف السلطان (والواقع أن السلطان قد اضطر للسماح للمبشرين بالعمل في أرضه بعد أن تعرّض للضغط الشديد، لقد انتهى المبشرون من بناء المستشفى هناك في عام 1910 واستمروا في العمل بدون مواجهة أية متاعب محلوظة. وبالاضافة إلى هذا فان السيد جون فان ايس وهو أحد قادة الإرسالية العربية البارزين في بداية عهدها قد قام بدور سياسي في البصرة عندما عينّ قنصلا أمريكيا فيها أثناء الحرب العالمية الأولى كما ذكرت دوروثى فان ايس:
"والآن ولأول مرة في حياته يتولى جون فان ايس منصبا حكوميا. فقد طلب منه السفير هنرى مورجانثا و Henry Morganthau في القسطنطينة (السفير الأميريكي) أن يتولى منصب القنصل الأمريكي في البصرة."(1)
__________
(1) 1ـ ان تعيين المبشر جون فان إيس في هذا المنصب له دلالات سياسية:
أ ـ ذلك يعني أن الحكومة الأمريكية تأمل من المبشرين الكثير في تثبت نفوذها.
ب ـ أن المبشرين يقومون بدور سياسي لصالح دولتهم مهما كانت تبريراتهم.
جـ ـ أن قبولهم لمثل هذه المناصب وخاصة في ظروف الحرب يعني تورطهم السياسي.(1/230)
ولذلك فان جميع هذه الحقائق ـ على طول تاريخ الإرسالية الطويل في المنطقة ترينا العلاقات المتينة بينها وبين الحكومة الأمريكية والبريطانية والتي سمحت للإرسالية بالبقاء والعمل دون أن يكون هناك أي احتمال بأن يتعرض مستقبلها وعملها للخطر، ومن الضروري أيضا الاشارة إلى الحقيقة التالية وهي أن الأمريكيين خاصة في ذلك الوقت بالذات لم يكونوا ليقدّموا للإرسالية كل هذا الدعم لولا تأييد الحكومة البريطانية لأن النفوذ الأمريكي لم يكن قويا هناك حيث كانت المنطقة تخضع للسيطرة البريطانية.
علاقة الإرسالية بالحكومات المحلية.
أن العلاقة بين الإرسالية وبين الحكومات المحلية يجب أن تقوم بشكل عام على المبادئ التي عبر عنها و. س. هوتون حيث قال:
"يجب أن يوجه المبشّرون عناية دائمة لعدم التدخّل في القضايا السياسية أو يحاولوا مضايقة السلطات الشرعية".
ولكن التجربة الفعلية كانت في الواقع مغايرة لما ذكره هوتون فان رغبة الإرسالية "في البقاء والعمل" وفي المنطقة قد حملها على التدخل في القضايا السياسية، ولذلك كانت لها علاقات بالقوى السياسية في المنطقة ومن بينها الحكومات المحلية، وكانت علاقاتها بهذه الحكومات تتطلب حرصا بالغا وكانت تقوم على الاعتبارات التالية:ـ
أولا: لقد كان البقاء في المنطقة والاستمرار في العمل هو ما يشغل بال المبشرين وكان هذا يتطلب علاقات خاصة مع الحكومات المحلية.
ثانيا: كان يجب أن تبدأ هذه العلاقات باقامة صداقات مع الحكّام وعائلاتهم لتساعدهم عندما تواجههم المتاعب التي كانت متوقعه من زعماء الدين المحلين أو من أي جهة أخرى، بالاضافة إلى الحصول على الاذن بالعمل في المنطقة وفي المناطق الأخرى التي كانوا يخططون للوصول اليها.(1/231)
ثالثا: أن الإرسالية قد دخلت هذه المناطق عن طريق العلاقات الوثيقة مع الأسر الحاكمة هناك من خلال خدماتهم الطبية لهم والتي أصبحت تدريجيا أمرا لا يمكن الاستغناء عنه وخاصة في ذلك الوقت عندما لم تكن مثل هذه الخدمات متوفّرة في المنطقة. ونتيجة لهذا استطاع المبشرون الحصول على دراسة سلوك مبشري الإرسالية العربية في منطقة الخليج العربي أنهم قد قاموا بدراسة هذا المجتمع بعناية قبل أن يبدأوا عملياتهم لأن هذه العلاقات الشخصية مفيدة جدا في المجتمعات القبلية، وكانت هذه الاتصالات حقّا من الوسائل التي استخدمها المبشّرون في عملهم.(1/232)
رابعا: وبالاضافة إلى الخدمات الطبية التي كان المبشّرون يقدمونها للأسر الحاكمة فانهم أيضا كانوا يساعدونهم في حل بعض مشكلاتهم السياسية. لقد كانوا ينظرون إلى المبشرين على أنهم أناس متعلمين يمكن الاستفادة منهم ويقبلون مساعدتهم عندما يحتاجون وخاصة في وقت كانت المنطقة محرومة من الأشخاص المؤهلين في العلوم الحديثة. وقد اكّد السيد ادوين كالفرللى أحد أعضاء الإرسالية في الكويت بعد الحرب العالمية الأولى التزام الإرسالية بسياسة الحكومة في خلافاتها مع القبائل العربية. وكان هذا الموقف أمرا لا مبّرر له وبعيدا غاية البعد عن أهداف الإرسالية. لقد كان نزاع القبائل من القضايا السياسية المحلية، ولا يجب أن يكون لها أية علاقة مطلقا بمثل هذه النزاعات كما ان من غير المفروض أن تتدخل الإرسالية في هذه النزاعات القبلية المحلية وتساعد طرفا ضد آخر، وإذا كان المبشرون يريدون أن يثبتوا تأييدهم للحكومة فليس هناك حاجة لسلوك مثل هذا السبيل وباعتبار أن المبشرين يدّعون أنهم قد جاءوا لأهداف دينية وانسانية فقط فليس من مهمتهم التدخل في مثل هذه النزاعات المحلية حيث كان عليهم أن يفعلوا كل ما في وسعهم للابتعاد عن هذه الخلافات ويساعدوا على ايجاد الحلول لفض الخلافات بين الأطراف المتنازعة أن لم يكن هناك بد من التورط في الأحداث الجارية.
خامسا: وبين هذه الاعتبارات أن المبشرين يجب أن يكونوا في غاية الحرص في تفهم مواقف الناس كي لا يسببوا المتاعب للحاكم مع زعماء الدين التقليديين من أهل البلاد. وهناك من كانوا يعتقدون أن العمل التبشيري كان عملا خطيرا وأن من واجب الحكومات محاربته، في حين أن الحكّام لم يكن لديهم مثل هذا الشعور لاعتقادهم بأنه من الصعب إقناع الناس بقبول المسيحية، وان مناطقهم بحاجة إلى الخدمات الطبية التي يقدمها المبشرون.(1/233)
سادسا: للابتعاد عن هذه الأحداث المربكة فان جهود الإرسالية الرئيسية تركزت على الخدامات الصحية. والواقع أن طبيعة العلاقات بين الإرسالية والحكومات المحلية في الوقت الذي كانت البلاد تخضع للسيطرة البريطانية خضوعا تاما كانت جزءا لا يتجزأ من علاقاتها مع السلطات البريطانية.
لقد تغيرت علاقات الإرسالية بهذه الحكومات الملحية تدريجيا بعد التغيرات التي طرأت على المنطقة باكتشاف النفط وأصبحت الحياة أكثر تعقيدا وتحولت هذه الامارات إلى دول مستقلة. بالاضافة إلى هذا فان عمل الإرسالية الرئيس أصبح يتركز على المسيحيين الذين قدموا إلى المنطقة بحيثا عن عمل وعلى مزاولة الطب. كما يجدر بالملاحظة أيضاً أن العمل التبشيري هناك قد بدأ يموت تدريجيا والذي من شأنه ان أضحت العلاقات بين الإرسالية والحكومات المحلية غير ذات شأن بالمقارنة بما كان عليه الحال منذ بداية نشاطهم إلى نهاية الحرب العالمية الثانية. وشعر المبشرون بأنه من الصعب الاستمرار في هذه العلاقات المبنية على الاتصالات الشخصية ليس فقط بسبب صعوبة الاحتفاظ بمثل هذه العلاقات في الظروف الجديدة المعقدة ولكن أيضاً لأن هذه الحكومات شعرت بعدم حاجتها لخدماتها لأنها أصبحت تملك خدماتها الطبية والتعليمية الخاصة والتي هي أفضل كثير من الخدمات التي تملكها الإرسالية. أضف إلى ذلك أن الإرسالية قد فقدت الأمل في التأثير الديني على الناس.(1/234)
وباختصار يمكننا القول أن الإرسالية قد تورطت في القضايا السياسية للمنطقة مرغمة حينا ومختارة حينا آخر. والفكرة الأساسية التي كانت تلجأ الإرسالية اليها لتبرير تورّطها هي المحافظة على البقاء، ولكن السبب الحقيقي كما سبق أن ذكرنا هو أن هؤلاء المبشرين كانوا غربيين لهم مثل أعلى ديني وسياسي مشترك وهذا المثل الأعلى كان في الواقع جزءا من ثقافة تطورت منذ الحروب الصليبية واستمرت أثناء نهوض الاستعمار في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. وهذا الارتباط بين العمل التبشيري والاستعمار كان يقوم على الاعتقاد بأن العالم غير المسيحي الواسع سيكون مفتوحا أمام العمل التبشيري. لقد كان هناك نوع من التعاون والارتباط بين الفريقين بسبب العقلية الغربية السائدة في القرن التاسع عشر، وقد وجد هذا العمل التبشيري نفسه يتورط في علاقات معقدة مع القوى الاستعمارية والحكومات المحلية. واستمر هذا التورط حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، بعدها تغيّرت الأوضاع في العالم فقد انهار الاستعمار التقليدي وحصلت دول كثيرة على الاستقلال وبدأت في تمنية نفسها، وعندها وجد العمل التبشيري نفسه في موقف صعب اصبح بحاجة إلى أفكار ومواقف جديدة لتوجيه سياسته، وقد بدأت هذه المواقف الجديدة بالنظر إلى الأديان الأخرى من زاوية مختلفة مع أن العمل التبشيري هناك كان يتلاشى تدريجيا وكان تورطه السياسي أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى هذه النتجية والتطور الحديث في العلاقات بين المسيحيين والمسلمين قد أخذ يتركز على الحوار بين الطرفين ولهذه المحاولة دوافعها ومبرراتها، وستكون هذه النقطة بين النقاط التي سنعالجها في الفصل الأخير.
الفصل السابع
الإرسالية العربية وتوقعات المستقبل
مقدمة:(1/235)
باستطاعتنا الآن تلخيص جميع نتائج هذا البحث. منذ النصف الثاني من القرن السابع والاتصالات بين المسيحيين والمسلمين مستمرة، وقد اتسع مدى هذا الاتصال بين الجماعتين، فأحيانا كان الإسلام يكتسح ميدان الصراع وأحيانا أخرى تتقدم المسيحية، وحتى يومنا هذا فان ممثلي هاتين الديانتين القويتين يلقون فوق مساحات شاسعة من الأرض، وقد اكتسبت العلاقات بين الديانتين طيلة هذه القرون طابع العداوة والشك. ومنذ أقدم العصور إلى اليوم والكنيسة المسيحية تحاول الوصول إلى المسلمين وتحويلهم إلى المسيحية، هذه المحاولات التبشيرية تلقى بعض النجاح في بعض المناطق وتفشل في مناطق أخرى.
وسنقوم في هذا الفصل الأخير من هذه الدراسة بمعالجة ثلاثة موضوعات هامة:
الاول، منجزات الإرسالية العربية وما قدمته من عطاء حتى الآن سواء كان ذلك سلبا أو ايجابا.
الثاني: التطورات الحديثة في التبشير.
الثالث: فيستناول مستقبل العمل التبشيري بشكل عام وفي الخليج وشبه الجزيرة العربية بشكل خاص. وسنعالج هذا الموضوع من وجهة نظر أهالي البلاد ووجهة نظر المبشرين الذين عملوا سابقا في منطقة الخليج العربي.
منجزات الإرسالية العربية:
لقد ركزنا في الفصول السابقة على تاريخ الإرسالية وتقويم تجربتها التبشيرية حيث كانت هذه الإرسالية منظمة مسيحية وهدفها النهائي هو تنصير شبه الجزيرة العربية.(1/236)
لقد استخدم المبشرون وسائل متنوعة في محاولاتهم للوصول إلى هذا الهدف، وقد تناولنا في الفصول في الفصول السابقة هذه الجوانب باكبر تفصيل ممكن والذي يعني به هذا الفصل هو الآثار والنتائج التي نجمت عن المحاولات التبشيرية. ومن الضروري أن نقول أن تجربة الإرسالية لا تنفصل أبدا عن طموحات المسيحية وتطلعاتها لنشر الانجيل والتأثير على أكبر عدد ممكن من سكان العالم. وهذا الطموح أمر طبيعي واتجاه عام لا يقتصر على حركة دون أخرى أو مذهب دون آخر فجميع الحركات الحيوية في التاريخ كانت دوما تعمل على نشر أفكارها بشتى السبل والوسائل. ولهذا فاننا سنعمل على تقويم نتائج المحاولة التبشيرية التي قامت بها الإرسالية الامريكية العربية للتعرف على مدى تأثيرها على الجزيرة العربية وعلى منطقة الخليج بشكل خاص. وربما يكون أبرز نتائج هذه التجربة هو أن عملها الذي يغطي ما يقارب خمساً وثمانين عاما قد فشل في اجتذاب جماهير الأهالي في المنطقة، وبالتالي أخفق في تحقيق أهدافه حيث كان عدد معتنقي المسيحية ضئيلا جدا كما سبق أن ذكرنا. وهذه النتيجة تدعو العجب اذ لم يسجل التاريخ سوى قليل من الحركات بضخامة الإرسالية العربية وطول فترة عملها دون أن تحقق شيئا له أهميته دينيا على مدى كل هذه السنين.
كان مولد الإرسالية العربية في معهد اللاهوت في نيوبرونزوك في مقاطعة نيوجرس في الولايات المتحدة عام 1889. وقد بدأت عملياتها الميدانية حالما انتهى روادها من الاتفاق على دستورها وخطة عملها. وقد تبنت هيئتها الاولى موقفا عنيفا من الإسلام وكانوا متفائلين بان يسارع أهالي تلك البلاد بالتحول عن دينهم.(1/237)
ويمكن أعتبار العقد الاول من نشاط الإرسالية العربية في المنطقة فترة للدراسة في محاولة أولية لتفهم المنطقة وكان عليهم أن يفعلوا الكثير لتمهيد الطريق للعمل التبشيري فيها. وقد استغرق البحث عن أماكن استراتيجية لمحطاتهم وتأسيسها وقتا وجهودا ضخمة من المبشرين بحيث جعلهم هذا يدركون أن التجول بين الناس أمر ضروري ليتمكنوا من التعرف على حياة الناس عن قرب ولتمهيد الطريق لافتتاح المزيد من المحطات الرئيسية والفرعية. وقد اكتشف المبشرون بالتدريج أن الغربيين يمكنهم أن يعيشوا ويعملوا في المنطقة دون أن يواجهوا اية مصاعب كبيرة. ثم أنهم بدأوا يشعرون بعد ذلك بأن في امكانهم القيام بعملهم التبشيري في مناطق كانوا يعتقدون أن العمل فيها ضرب من المستحيل. ولم يلاق المبشرون عندما بدأوا عملياتهم أية مقاومة جادة مما كان سببا في بعث التفاؤل في نفوسهم.
وشهد العقد الثاني منوا مشجعا في نشاط الإرسالية ولكن هذا لم يحدث بدون مصاعب وبعد هذا بدأت المعارضة بالظهور أولا من قبل السلطات التركية في البصرة، وثانيا في الخليج من الزعماء الدينيين التقلديين، ثم جاءت الحرب العالمية الاولى بآثارها وتعقيداتها.
لقد كان العمل التبشيري يسير جنبا إلى جنب مع الخدمات الإنسانية التي كانت الوسيلة التي مكنت المبشرين من الوصول إلى الناس. وكان المبشرون جميعا يشتركون في هذا النشاط التبشيري سواء كانوا داخل مؤسساتهم أم خارجها، في رحلاتهم أم بالاسواق.(1/238)
ولم يكن الرأي العام قد تأثر بأفكارهم بعد وكان ذلك الوقت هو بداية الفترة الحاسمة في عملهم التبشيري حيث توقع المبشرون أن يلاقوا كثيرا من المتاعب؛ ومع هذا ظلوا دوما متفائلين بالمستقبل لأنهم كانوا يعتقدون أن ظهور هذه المشكلات أمر طبيعي وأن واجبهم هو المثابرة. وقد اعطاهم هذا الشعور وأعطى المجلس الاعلى في أمريكا انطباعا بأن المنطقة كانت مهيأة لاستقبال المسيحية. وكان قبول المواطنين بوجودهم ونشاطهم بداعى الحاجة إلى خدماتهم الإنسانية فقط والتي كانوا في أمس الحاجة اليها ولكن المبشرين أساءوا فهم موقفهم نحوهم وفسروه على أنه بداية لقبول أفكارهم، وادعى المبشرون بأن لهم تأثير غير مباشر على عقول الناس وان العديد منهم قد بدأوا يؤمنون بالمسيحية ولكنهم لم يغيروا دينهم خوفا من حكوماتهم وسيطرة التقاليد وأساليب الحياة الإسلامية. والحقيقة أن الأدعاء بوجود ضغط من الحكومات ضد المتنصرين كان أمرا مبالغا فيه حتى فيما يختص بمنطقة البصرة التي كانت خاضعة لحكم العثمانيين والمناطق التي تقع تحت نفوذ الوهابيين في شبه الجزيرة العربية، أما بالنسبة للمناطق الواقعة على طول الخليج من الكويت إلى مسقط فان هذا الادعاء غير صحيح لأن احدا لم يمس القلة القليلة ممن اعتنقوا المسيحية في البحرين ومسقط بأي سوء.(1/239)
وماذا يمكن للباحيث أن يقول بعدما يقرب من قرن من العمل التبشيري في تلك المنطقة؟ أما من الناحية الطبية فان الإرسالية قد فعلت كل ما في وسعها لمساعدة الناس في وقت لم يكن لديهم خدمات طبية حديثة، وقد كان هؤلاء الناس لهذا السبب يحملون لها كل تقدير واجلال. لقد أنشأ المبشرون المستشفيات والمستوصفات وأدخلوا الخدمات الطبية الحديثة لأول مرة إلى المنطقة. أما من ناحية التعليم فان أثرهم كان محدودا ولم يلعبوا دورا هاما في تطوير المنطقة للأسباب العديدة التي سبق أن أتينا على ذكرها في الفصل الرابع وأهمها هو أن التعليم الحديث الحكومي كان في طريقه للدخول إلى المنطقة عندما بدأ المبشرون بادخال هذا النوع من الخدمات. أما من الناحية الدينية فان الإرسالية قد فشلت في تحقيق أهدافها في كسب الأتباع وفي تنصير أهالي المنطقة بالرغم من كل ما بذلته من الجهود والتي أدت إلى اقامة عدة كنائس هناك كما أوضحناه في فصل سابق.
ومن الجدير بالذكر أن بعض رجال الإرسالية قد نقلوا للرأي العام الغربي عن طريق كتاباتهم صورة مغلوطة عن العرب والديانة الاسلامية. لقد شعر المبشرون في ذلك الوقت بأن لهم الحق في اعطاء تلك الصورة لأن هذا كان يؤدي إلى تشجيع مواطنيهم على دعمهم، كما كان يظهر أن دينهم هو الدين الوحيد الصحيح والصالح للعالم أجمع. وقد سبب هذا احراجا كبيرا للإرسالية ورجالها عندما اكتشفت شعوبهم أن الكثير مما كانوا ينقلونه عن شعب الخليج العربي والجزيرة العربية كان بعيدا عن الحقيقة. فعند استعراض نتائج عملهم في تلك الفترة تبين أنها أبعد ما تكون عن النجاح مما جلب عليهم اللوم وبدأ الناس يفقدون ثقتهم بالمعلومات التي تأتيهم من مثل هذه المصادر.(1/240)
أن قصة العمل التبشيري في المنطقة فيها الكثير من الدروس. لقد اكتشف المبشرون أنه من الصعب اقناع الناس بتغيير دينهم كما تعلموا أيضاً أن موقفهم القديم غير مجد ويجب تبني موقف اكثر مرونة والذي يعني الوصول إلى أساليب جديدة للتعامل مع هؤلاء الناس ومن هنا جاءت فكرة التفاهم واجراء الحوار مع المسلمين. ويبدو أنهم قد تعلموا أيضاً بأن الزمن قد تغير وان من الافضل لهم ان يعملوا بين أبناء شعبهم الذين كان الكثيرون منهم مسيحيين بالاسم فقط. ومما لا شك فيه أن مبشري الإرسالية العربية كانوا مؤهلين للقيام بعملهم تأهيلاً جيداً وكانوا جميعا من المهتمين بالمنطقة، ومن ذوي الاستقامة والصلاح. لقد حاولوا ان يتفهموا العقلية واللغة والعادات والتقاليد العربية ليتمكنوا من تحقيق الاهداف التي نذروا أنفسهم من أجلها كما كانوا يؤمنون بانهم يحملون الرسالة الصحيحة لهدم ديانة (مزيفة) واحلال الديانة المسيحية التي كانوا يعتقدون أنها الدين الصحيح الوحيد في مكانهم.
والوقع ان كل الدلائل تؤكد على أن هذا النوع من التبشير الذي قام في المنطقة غير مجد، ولكن يبدوا أيضاً أن الاستفادة من هذا الدرس لم تتحقق وان التجربة لم تعلمهم الكثير لأنهم عندما تخلوا عن عملهم في احدى المناطق ـ كالكويت مثلا ـ كانوا مصممين على أن يستمروا في عملهم في منطقة أخرى بالرغم من النتيجة المحدودة لهذا العمل بسبب الصعوبات التي كانت تعترض سبيلهم.
اما من وجهة نظر المبشرين فان الصعوبات الرئيسية التي كانت تواجههم هي الآتية:
1)أن التعاليم المسيحية لا تعني المسلمين بمستوى ما تعنيه للمسيحيين. لقد تعامل المبشرون مع المسلمين بدون أن يأخذوا بالاعتبار خلفيتهم الثقافية.(1/241)
2)أن المسلم يعتقد أن تغيير الدين يعني بصورة رئيسية تغيير الولاء والاواصر التي ترتبطه بمجتمعه لأن ديانته تقدم له تشريعا شاملاً لجميع جوانب الحياة وقد اقترح السيد ريجز(1). ما يلي للتغلب على هذه العقبات:
1ـ يجب معالجة القضايا المذهبية بمنتهى الحرص كما يجب تشجيع السائل على دراسة العهد الجديد.
2ـ اننا نشجع سرا بكل محبة على تحقيق التقدم في العقيدة بمعنى أن يحاولوا فصل انفسهم عن التبعية لشعبهم. لا يجب أن يطلب من أتباع المسيح ان يحملوا أسم "مسيحيين" بسبب ما يرتبط به هذا الاسم من معان في الشرق. كماه يجب أن نجد مرادفا روحيا آخر للتعميد.
3ـ ليس هناك من سبب أساسي يمنع الإسلام من أن يتبنى المسيح عيسى في عقيدته دعماً له"
ولكن هذه الافكار لقيت معارضة من الدكتور ص زويمر والدكتور كريس ولسون وهذه هي حجتهم:
"إذا كنا (نحن المبشرين) قد جئنا إلى هنا للفوز ببلاد المحمديين (المسلمين) من أجل المسيح وكنا نؤمن بأننا نستطيع تحقيق ذلك فان هذا الهدف يتطلب اعترافا صريحا واقامة كنيسة منظمة"
أن موقف القس زويمر والدكتور ويلسن هو الموقف الذي كان يتبناه المبشرون الاوائل في شبه الجزيرة العربية لأن القس زويمر كان القائد الحقيقي للإرسالية العربية في مراحلها الاولى. أما فيها يختص بمنطقة الخليج العربي فان هذا الموقف قد كان له دور في الانهيار النهائي لعمل الإرسالية العربية. ان هذه المؤسسة قد فشلت في تحقيق أهدافها ولاسباب هامة نجملها فيما يلي:
أسباب فشل الإرسالية العربية
صعوبة المنطقة:
__________
(1) 1ـ ليست لدينا معلومات كافية لتوضح ما إذا كان الدكتور ريجز Riggs الذي سبق الحديث عنه والذي ترك العمل التبشيري لتشكيكه في العقيدة المسيحية هو نفسه السيد ريجز صاحب هذا الكلام أم شخص آخر من نفس العائلة.(1/242)
أ ـ جغرافيا: أن حرارة الجو البالغة خلال فصل الصيف الطويل حوالي 48 مئوية أو أعلى من ذلك بقليل كانت واحدة من أهم العقبات الجغرافية التي واجهت المبشرين، كما أن صعوبة الانتقال من مكان إلى آخر بالوسائل القديمة كان يشكل عقبة واضحة في طريق العمل التبشيري.
ب ـ اجتماعيا: كان التنظيم القبلي التقليدي بعاداته وتقاليده الخاصة يقف عقبة في طريق الوصول إلى عقول الناس كما أن وعي الناس الفكري للقضايا التي يطرحها المبشرون كان معدوما.
جـ ـ دينيا: كان الشعور الإسلامي قويا بين هؤلاء الناس ومما كان يشجعهم على الثبات في عقيدتهم قربهم من الأماكن المقدسة وتأثير الحركة الوهابية في ذلك الوقت. وبما أن هدف المبشرين الرئيس في تلك المنطقة هو هدف ديني فان هذه النقطة بحاجة إلى المزيد من التفصيل.(1/243)
من البديهى أن نفترض أن أي حركة مهما كان نوعها لا يمكن أن تنتشر ان لم يكن هنا حاجة لها. أن الحركات الاجتماعية والدينية والسياسية لا تجد اقبالا لدى الناس أن لم تكن شروط نجاحها متوفرة وهذه الحقيقة يمكن أن تفسر الفشل الذي لاقته الإرسالية العربية إلى حد بعيد، والواقع أن الإرسالية لم تدرك أن هذا الجزء من العالم لا يعاني من فراغ ديني. لقد شهد القرنان الثامن عشر والتاسع عشر عددا من الحركات الدينية التي كانت تهدف إلى احياء الافكار والمثل الاسلامية، يضاف إلى ذلك أن الإسلام لم يكن دينا فحسب فالاهم من ذلك أنه كان مؤسسة سياسية. وقد استطاع عدد من الحركات القوية أن تلعب دورا كبيرا في تشكيل شبه الجزيرة العربية، فالحركة الوهابية مثلا كانت تسيطر على الجزء الأوسط من الجزيرة العربية واستطاعت في وقت قصير أن تمتد إلى المناطق المجاورة، كما كانت هناك حركة الأشراف التي ادعت انها من سلالة النبي محمد والتي سيطرت على الحجاز. والاهم من ذلك كله الامبراطورية العثمانية في ذلك الوقت والتي كانت ظاهريا على الأقل دولة إسلامية وكانت كل هذه القوى والحركات تعمل في المنطقة بنشاط عندما بدأت الإرسالية العربية عملياتها التبشيرية.
ومن الحقائق الهامة الاخرى أن الإسلام لم يكن دينا فحسب بل كان أيضاً مؤسسة ثقافية اجتماعية وكان الإسلام يعالج حاجات القبائل ومشكلاتها ويشكل أساسا قانونيا يمكن حل النزاعات والخلافات القبلية في إطاره فقد كانت الشريعة الإسلامية هي المنظم لجميع مؤسسات المجتمع العربي كالاسرة والعلاقات الاجتماعية والجهاز الحكومي... الخ..(1/244)
وقد تجاوب الإسلام مع عقلية أهالي تلك البلاد فرأوا فيه مؤسسة قوية والصفة الأساسية التي ادت إلى منو الإسلام السريع هي أن الإسلام قد ملأ الفراغ الديني ولم يعد هناك مجال لان تنافسه ديانة أخرى في المنقطة. وهي حقيقة اثبتها الفشل الذي منيت به الإرسالية العربية في محاولتها للتأثير الديني على الخليج العربي والجزيرة وتحقيق التوسع الجغرافي الذي كانت تهدف اليه، والذي يبين أن الإسلام كان السبب الرئيسي لفشل العمل التبشيري في المنطقة.
ثانيا: العوامل السياسية:
وقد يكون من سوء حظ الإرسالية الامريكية العربية أن بدأت نشاطاتها في نفس الوقت الذي كانت القوى الغربية تقوم بمحاولاتها للسيطرة على تلك المنطقة. وكانت القوى الغربية وبخاصة بريطانيا هي المظلة التي لجأت الإرسالية للاحتماء بها وهي حقيقة لا يمكن تجاهلها كما سبق أن ذكرنا في فصل النشاط السياسي للمبشرين. وكانت العلاقة بينهم وبين السلطات البريطانية علاقة متبادلة فالمبشرون كانوا يريدون الاعتراف بهم وحمايتهم والاتصال المباشر بممثلي القوى الاستعمارية في المنطقة لضمان الاقامة في المنطقة وتزويدهم بالتوصيات والجوازات وسمات المرور وغيرها، وبالمقابل فان المبشرين قد زودوا القوى الغربية سواء كان ذلك عن قصد أو غير قصد بمعلومات مباشرة عن المنطقة وسكانها عن طريق التقارير التي كان يكتبها قادة الإرسالية عن نتائج رحلاتهم حيث كان لهذه التقارير قيمة كبرى لدى القوى الغربية فقد كانوا يستفيدون منها ويستخدمونها في خدمة نشاطهم كما سبق أن ذكرنا في فصل سابق، وهكذا فان الإرسالية قد أعطت انطباعا بشكل أو بآخر بأنها متورطة سياسيا حيث كان لذلك دور هام في تأكيد شكوك العرب المسلمين من أهالي البلاد الذين كانوا في صراع مع القوى الاستعمارية خاصة في النصف الأول من هذا القرن.(1/245)
وكانت الإرسالية تركز جهودها دوما على الأعمال التي تؤدي إلى تنصير الناس، وكان دورها في الشؤون المحلية ثانويا ولم تعتبر نفسها مطلقا جزءا من المجتمع حيث لم تهتم أبدا بآمال السكان وطموحاتهم الوطنية وكان هؤلاء السكان العرب بشكل عام يسعون لنيل الاستقلال والحكم الذاتي وكانوا يريدون أن يضعوا حدا لسيطرة القوى الغربية على مقدرات بلادهم، ولم تكن الإرسالية العربية تولي هذه التطلعات أي اهتمام. ولم تكتف الإرسالية بالابتعاد عن هذه القضايا الملحية الهامة بل أنها أيضاً كانت متورطة سياسيا مع القوى الاستعمارية التي كانت تعمل ضدها وقد أكد هذا التورط عدد كبير من قادة الإرسالية كما سبق أن أوضحنا. وقد بذل المؤلف في عمله الميداني جهودا لمقابلة عدد من الأهالي في بعض مناطق الخليج ليسألهم هذا السؤال: ما هي الابعاد السياسية لنشاط الإرسالية العربية؟ وكان أغلبهم يعتقدون أن الإرسالية كانت تخدم مصالح القوى الغربية في المنطقة. وقد كان واضحا لدى هؤلاء الناس ان تورط المبشرين مع القوى الاستعمارية واهمالهم للمشاعر الوطنية لأهالي البلاد كان من الاسباب التي أدت إلى فشل مهمتهم. وكان نقد العديد من المثقفين من أهالي البلاد يتركز حول تجاهل الإرسالية العربية لهذه القضايا وعدم توضيح موقفها منها رغم تورطها في الشؤون السياسية كان يجب عليها تأييد حقوق الإنسان ودفع الظلم عنه، ولكنهم آثروا الصمت عندما وقعت نكبة فلسطين والاعتداء الصارخ على حقوق الإنسان فيها وتقاعسوا عن مؤازرة التطلعات الوطنية بالاستقلال والحرية وتعاونوا بدلا من ذلك مع القوى الغربية! ومن الواضح أن عدم اهتمام الإرسالية بالقضايا المصيرية لأهالي البلاد كان من أهم الاسباب التي أدت إلى فشلها بالاضافة إلى العلاقة التي كانت تربطها بالقوى الاستعمارية.(1/246)
أن الظروف السياسية في المنقطة لم تكن مواتية للإرسالية، فمنذ أن بدأت عملياتها كان الصراع بين السلطات البريطانية والتركية يتفاقم وتلا ذلك الحرب العالمية الأولى، وفي العشرينات والثلاثينات من هذا القرن بدأت اليقظة القومية العربية وأخذت في مناهضة القوى الغربية والمطالبة بالاستقلال السياسي، ثم اندلعت الحرب العالمية الثانية وانفجرت المشكلة الفلسطينية وبدأ استغلال النفط يغير الموقف في المنطقة بصورة تامة والذي كان له أثر واضح على نشاط الإرسالية. لقد خلقت هذه الظروف صعوبات كثيرة في وجه العمل التبشيري وجاءت بشكل متتابع لمقاطعة العمل التبشيري واعاقته. وكان لهذه المشكلات السياسية وغيرها من المشكلات الأخرى دور كبير في الحد من تأثير الإرسالية واضعافه، ونتج عن دراسة التجربة التي خاضتها الإرسالية العربية وغيرها من الارساليات في المنطقة شعور لدى بعض الزعماء المسيحيين بأن عليهم أن يعيدوا النظر في الأساليب التبشيرية المستخدمة في التعامل مع المسلمين العرب.
ثالثا: متاعب الإرسالية الخاصة.
أ ـ مشكلة الهيئة العاملة:
من مشكلات الإرسالية مشكلة الهيئة العاملة في المنطقة فقد كان عدد المبشرين ضئيلا بالمقارنة بحاجة المنطقة فمساحة البلاد حوالي مليون ميل مربع وعدد سكانها يقارب العشرة ملايين (شبه الجزيرة والخليج العربي) في حين أن المبشرين كانوا يعدون بالعشرات وما من شك في أن حجم العمل كان يفوق طاقتهم وقد يكون سبب هذا النقص هو عدم قدرة مجلس الإرسالية على تزويدهم بالاعداد اللازمة من المبشرين بسبب طبيعة المنطقة وجوها الحار. وهناك احتمال بأن بعض المبشرين كانوا يرفضون الذهاب إلى المنطقة لاقتناعهم بعدم جدوى العمل التبشيري فيها لكونها مهد الإسلام وقوة التماسك القبلي والاجتماعي الذي يصعب معه على الأجنبي اختراقه والتأثير فيه.
ب ـ مشكلة اللغة العربية:(1/247)
أن عدم معرفة اللغة العربية كان في الواقع من الاسباب الرئيسية في فشل العمل التبشيري فهذا العمل يحتاج إلى مناقشة واقناع متصلين، ولا يمكن لاحد أن يقوم بذلك أن لم يكن يتقن لغة الأهالي. أن معرفة كلمات قليلة لا تجدي في التأثير على الناس لان ضعف المبشرين باللغة العربية كان يحرمهم من القدرة على عرض رسالتهم بوضوح. كما أن التعليم الذي كان أحد الوسائل التي استخدمتها الإرسالية يتطلب معرفة باللغة العربية أيضا ولكن هذا بدوره كان مفقودا وخصوصا لأن الإرسالية كانت ترفض أن توظف من غير المبشرين الا القليل حتى ولو كانوا من مسيحي البلاد العربية الأخرى لمساعدتهم في تقديم هذه الخدمة لأنها كانت تعتقد انه ليس كل مسيحي يصلح أن يكون مبشرا كما أنها كانت تحتكر العمل وسط الاوربيين بشكل أساسي.
جـ ـ المشكلة المالية:
كان لميزانية الإرسالية عدة مصادر وأول هذه المصادر هو الدعم الذي يقدمه المجلس التبشيري الأعلى، ثم التبرعات التي تأتي من داخل ميدان العمل وأخيرا الاجور التي كانت تحصل عليها لقاء تقديم خدماتها الطبية والتعليمية بالاضافة إلى الأرباح التي كانت تأتيهم من بيع الكتب الدينية. وبما أن الميزانية لم تكن كافية لتغطية تكاليف عملياتها الواسعة فليس من الغريب أن نجد المبشرين يتذمرون دوما من هذه المشكلة
د ـ الخدمات الإنسانية (الطب والتعليم):
كانت الخدمات الإنسانية تستهلك معظم جهود المبشرين ووقتهم والذي جعل المواطنين يعتقدون بأن المبشرين أناس مؤهلون جاءوا إلى بلادهم لمساعدتهم طبيا وتربويا، وعندما كان نفس هؤلاء المبشرين يبدأون بعرض رسالتهم والحديث عن القضايا الدينية لم يكن الأهالي يأبهون كثيرا بما يقولون وكانوا يعتقدون أن ذلك كان أمرا عرضيا.
هـ ـ الموقف العدائي من الإسلام:(1/248)
كان الموقف العدائي الذي كان يقفه المبشرون من الإسلام بخاصة المبشرون الاوائل يسبب للأرسالية كثيرا من المتاعب، ولقد كان هذا واضحا منذ بداية نشاطهم من المنطقة.
هذه هي المصاعب الرئيسية التي أدت إلى فشل الإرسالية في المنطقة ولكن بقي أن نذكر وجهة نظر المبشرين والمصاعب التي منعتهم من النجاح. لقد أدعى المبشرون:
أ ـ أن تعصب المسلمين كان المشكلة الكبرى التي واجتهم في المنطقة.
ب ـ صعوبة الحصول على الحماية للمتنصرين في تلك المناطق ويعتقد المبشرون أن بعض المواطنين قد تأثروا بالمسيحية ولكنهم لم يغيروا دينهم خوفا من العقاب.
جـ ـ كان جهل عامة الناس من الصعوبات التي اعترضتهم فقد كان اقناع الناس والدخول في نقاش معهم حول المسيحية أمرا صعبا كما أن التسلل إلى الحياة القبلية وكسب البدو من اصعب الأمور.
د ـ صعوبة العثور على الناس المؤهلين للقيام بمهمة التبشير وبخاصة في هذه المنطقة الصعبة وكان هذا طبعا مسؤولية المجلس الأعلى للكنيسة الاصلاحية.
هـ ـ صعوبة عرض أفكارهم مباشرة وبصورة علنية في الشوارع وضرورة اللجوء إلى الوعظ غير المباشر في مؤسساتهم فقط كلها من الأمور التي عرقلت العمل التبشيري.
هذه هي الاسباب التي أدت مجتمعة إلى فشل عمل الإرسالية العربية التبشيري في المنطقة.(1/249)
والواقع أن قضية نجاح أو فشل العمل التبشيري في المنطقة ككل من الأمور التي لا تزال تعتبر مثارا للجدال بين قادة المسيحية في وقتنا الحاضر. وهناك رأيان في هذا الموضوع: الاول: أن العمل التبشيري بين غير المسيحيين كاف في حد ذاته حتى وان لم يحقق نتائج ملموسة لأن عمل الكنيسة ليس الا التقرب من الله. وإذا اخذنا بهذا الرأي فان عمل الإرسالية كان ناجحا لأنه ساعد الناس وعرفهم بالمسيحية. والرأي الثاني يرى أن مهمة الإرسالية هي التنصير ويقاس نجاح الكنيسة بعدد من تستطيع تنصيرهم. وتقوم الكنيسة الاصلاحية في أمريكا الآن بتقويم عمل الإرسالية العربية الامريكية، والمناقشات الجارية تضع هذين الرأيين في اعتبارها. وقد ناقش المؤلف هذا الموضوع مع أنصار كلا الرأيين عندما قابلهم في شهر سبتمبر سنة 1976 في نيويورك ونيوبرونزوك في الولايات المتحدة (انظر الملحق رقم1) وكان هذا الموضوع ضمن موضوعات مؤتمر الكنيسة الاصلاحية في نوفمبر 1977. ويعتمد أنصار الرأي الأول على وجهة النظر التي عبر عنها جون فان ايس أحد رواد الإرسالية الأوائل:
"ليس واجبنا أن نحصل على نتائج بل أن واجبنا ان نعمل ومنوت.... لان المسيح لم يرسلني للتعميد بل للوعظ".
وهكذا فانهم يعتبرون عمل الإرسالية ناجحا لمجرد القيام به وقد أيد ذلك القس أدوين لويدنر Edwin Luider الذي قال
"أن مسألة النجاح أو الفشل ليس مهمتنا ولا يمكن معرفته في سنوات قليلة أو حتى في قرن."
وأيدته السيدة ماكنيل Evelyn Macnill التي قالت:
"لقد قضيت وقتا طويلا في الكويت وعندما كنت أعمل لم أكن أتطلع إلى النجاح وانا سعيدة بعدم معرفتي لنتائج عملي."
وأهم المنادين بالرأي الثاني هو الاستاذ جون بيردل الذي يقول: "أن الوجود المسيحي في الجزيرة العربية لم يصبح قوة تبشيرية ولم تتحقق الرؤيا بعد."(1/250)
وقد أيد الاب جون ي بتير John E. Buteyr هذا الرأي بقوله: "ان السبب الرئيسي لفشل العمل التبشيري هو أن المسلمين يعيشون في مجتمع اسلامي قوي كما أن أساليب التبشير كان يجب أن تكون أفضل مما كانت عليه."
ومهما كانت الآراء التي يحملها زعماء الدين المسيحيين فإن معظمهم يؤكدون على ضرورة اقامة علاقة جديدة مع المسلمين والذي يدعو إلى اقامة حوار مع المسلمين.
التطورات الحديثة في التبشير:
ما من شك ان الخمسة والثمانين عاما التي قضيتها الإرسالية العربية في الخليج العربي كان لها أثرها على التجربة التبشيرية على الأقل في منطقة المشرق العربي. والحق أن العمل التبشيري قد خرج من هذه التجربة بعدة دروس والتي تؤثر حاليا وستؤثر مستقبلا على هذا النوع من النشاط الديني. ومن أهم الدروس التي نتجت عنها هذه التجربة هي ان العمل التبشيري قد أخفق في تحويل الناس عن دينهم في جميع الظروف. والدرس الثاني هو أن السبب الاساسي في هذا الفشل كان المعارضة التي نشأت بسبب الشعور الديني والتماسك القبلي والظروف السياسية. وقد ظهرت نتيجة لهذين الدرسين الحاجة إلى أفكار جديدة والأهم من ذلك كله أن الزعماء المسيحيين قد بدأوا يدركون أن العمل التبشيري المباشر والمواجهة مع الدين الإسلامي لا يجديان. كما انهم قد أدركوا أن التعايش مع الإسلام بدلا من الاصطدام معه قد يؤدي إلى نتائج افضل.(1/251)
أن القناعات والدوافع التي تختفي وراء الاسلوب الجديد حديثة المنشأ، والاتجاه الجديد لا يزال في مرحلة التكوين. والحوار بين المسلمين والمسيحيين يعني اعترافا بفشل المواجهة بين هاتين الديانتين والحاجة للتوصل إلى فهم مشترك. ولا نتوقع أن يؤدي هذا الحوار إلى أي نوع من التسوية الدينية ولكنه يقوم على شعور بعض زعماء الدين بانهم يجب أن يصلوا إلى نوع من التعايش السلمي أو حالة من الانفراج الديني. أن الحوار بين المسلمين والمسيحيين هو تطور جديد كل الجدة، ولا يمكن ارجاع اصوله إلى فرد معين أو تاريخ معين ولكن بعض الهيئات المسؤولة والافراد البارزين ممن هم على اتصال مباشر بالجهود التبشيرية الحديثة في الدول الاسلامية قد قاموا بتطويره وتعديله ودعمه.
ويمكن ارجاع منشأ هذه الحركة إلى مجموعة صغيرة من الشبان المسلمين والمسيحيين الذين تقابلوا في جنيف في سويسرا سنة 1969 وقد ولدت الفكرة في كليات سيلي اوك Selly Oak Collegec في مدينة برمنغهام البريطانية في يناير عام 1968 عندما التقت مجموعة من المسلمين لمناقشة القضايا التي يمكن أن يدور حولها الحوار بينهم. ومنذ ذلك الوقت بدأ الحوار يكتسب طابعا دوليا وقد تبنى مجلس الكنائس البريطاني هذا الحوار وبدأ يطوره بحماسة واهتمام كبيرين. وقد قوى الاهتمام بهذا الموضوع في بريطانيا بسبب وجود ما يقرب من مليون مسلم ممن يعيشون حاليا فيها ان الحاجة إلى فهم هؤلاء الناس وفهم دينهم من الاهمية بمكان إذا كان يراد للتعايش النجاح. وقد أظهر بعض أعضاء كنيسة الاصلاح في الولايات المتحدة اهتماما كبيرا بالحوار مع المسلمين. وكان لفشل الإرسالية العربية في تحقيق أهدافها في منطقة الخليج أثر كبير في اذكاء هذا النوع من الاهتمام.(1/252)
وقد ظهر في السنوات الأخيرة ان هذا الحوار قد بدأ يستأثر بالاهتمام في مستويات عليا ولم يعد يقتصر على الأفراد بل أصبح يشمل الدول والسلطات الدينية ومن الامثلة على ذلك المؤتمرات المسيحية ـ الاسلامية التي تعقد في أماكن مختلفة في جنيف سويسرا عام 1969 وفي لبنان 1972، وفي اسبانيا سنة 1974، وفي ليبيا في سنة 1976 وغيرها. وكانت الموضوعات المعالجة في هذه المؤتمرات متنوعة منها القضايا الدينية والمشكلات الحديثة التي تواجه الديانتين. ولم تصل هذه المؤتمرات إلى مستوى من التعاون أو أي خطة للعلاقات المتبادلة بين الجانبين والانجاز الهام الذي تحقق هو في اهتمام الفريقين في متابعة الحوار وفي محاولتهما للوصول للمزيد من التفاهم فيما بينهما والبحث عن طريق لاقامة علاقات جديدة بين المسيحيين والمسلمين.
وهذه التطورات تشير إلى الحاجة الملحة لمثل هذا الحوار ومن الجدير بالملاحظة ان الحوار قد استطاع في هذه الفترة القصيرة أن يتخذ صبغة عالمية. ومهما يكن فان البواعث التي أثارت هذا الحوار ليست جدية لأننا سنجدها في المخاوف والشكوك والنجاح المشكوك فيه للعمل التبشيري والحاجة إلى تجنب أخطار المواجهة الدينية. وقد دعا الدكتور بينجز رئيس الهيئة الطبية للإرسالية العربية في البحرين إلى بدء الحوار:
"لقد حان الوقت ليبدأ المسيحيون والمسلمون الحوار وليس الصراع".
وقد دعا القس سكدر الابن إلى ضرورة ايجاد وسائل جديدة للتعامل مع المسلمين حيث قال:
"ان العالم العربي الذي خبرناه عالم متيقظ". وينتهي إلى النتيجة التالية:
"لقد دعا الإسلام وقد بدأ يستجيب لمقابلة التحدي في أن يصبح المعين الروح] للأمة."(1/253)
ان الدكتور بينجز والقس سكدر كانا مبشرين وقد علمتهما التجربة أن هذا الحوار ضروري، وكان هذا الاكتشاف نتجية للانتقادات التي وجهت للمبشرين الاوائل الذين لم يسعوا لدراسة الإسلام ووجهوا كل جهودهم إلى التبشير بالانجيل في بيئة لا يفهمونها وقد أكد القس هوتون على هذه الحقيقة بما يلي:
"انا في عصر الديانة المقارنة ومع أن دراسة الديانات لم يشكل جزءا كبيرا من مهمة المبشرين حتى الآن فان أفكار هذا العلم قد أضحت منتشرة.... ونحن نسمعهم يقولون أن المسيحية ليست معادية للديانات الأخرى ولكنها رؤيا أعم لما يسعى الناس للبحيث عنه بالغريزة.
بواعث الحوار:
من المؤكد أن الحوار بما له من شعبية لدى الناس يمكن تفسيره على أنه مرحلة جديدة في المواجهة التاريخية بين المسلمين والمسيحيين ولا ترغب أي من الجماعتين بالتخلي عن دعواها بالعالمية أو وقف نشاطها بين أبناء الملة الأخرى وكل منهما تعتقد أن دينها هو الصحيح ولذا فان من الصعب عليهما أن يتعاونا على صعيد مشترك. فالحوار يرمي إلى اكتشاف نقاط الالتقاء للتفاهم وقد قال المطران كينيث كراج:
"أن رغبتنا بالاتصال مع المسلمين.... توجب أن نضع في اعتبارنا ان الإسلام نفسه قد بدأ يخضع لعملية تجديد.... يجب على الكنيسة أن تكون مستعدة لتفكر مليا وتستوعب الحالة الجديدة بجميع أبعادها.... يجب أن نبشر للوصول إلى غرض المسيح... أن الصعوبات القانونية قد تميل إلى تعزيز أو ايجاد العذر لبعض ما نراه من فقدان روح الجرأة التبشيرية".
أن بواعث الاهتمام البالغ بالحوار كقضية دولية تختلف في نظر كل من الطرفين، كما أنها تختلف بالنسبة للفئات التي تضمها هذه الاطراف ولكل طائفة بواعثها للاشتراك في هذه المحاولة وللعوامل السياسية دور كبير فيها.(1/254)
أن التحرك التبشيري نحو الأماكن النائية من العالم كان إلى حد ما جزءا من التوسع الشامل للنفوذ الغربي الذي سبق أن أشرنا اليه، وبانحسار هذه الموجة من التوسع الاستعماري واستقلال البلاد التي كانت خاضعة للنفوذ الغربي فقد قضى على العمل التبشيري ولكن بعض الزعماء المسيحيين لا يزالون يقاومون لابقاء العمل التبشيري على قيد الوجود ويعملون على ايجاد الوسائل الجديدة التي تمكنهم من تحقيق هذا الهدف وفكرة الحوار هي تعبير عن مثل هذه التطورات وقد وجد المسيحيون أن هذا الحوار هو البدليل الوحيد أمامهم إذا أرادوا اقامة اتصال جديد مع العالم الإسلامي والذي ينتج عنه أن تتعايش المسيحية مع الإسلام وان تجد الديانتان أرضا مشتركة. وقد أدرك جيمس أديسون ان على المسيحيين أن يبحيثوا عن وسيلة تمكنهم من التغلب على الصعوبات التي تعترض العمل التبشيري:
"يقترن تغيير الدين في افكار المسلمين بشكل ما بتغيير الارتباطات الاجتماعية والولاء الاجتماعي. وعلينا ان نجد وسيلة للألتفاف حول هذه العقبات كي لا نكون في موقف نهاجم فيه الاسم وجها لوجه في أقوى معاقلة."(1/255)
ويعتقد بعض علماء الدين المسيحيين والمسلمين أن الديانتين تواجهان أخطارا ضارة لكليهما؛ وأشد هذه الاخطار هي المادية التي أنتجتها الحضارة الحديثة والتي تدفع الناس بسرعة فائقة نحو النواحي الدنيوية. وهم يخشون أن يتراجع أثرهم بين أبناء أمتهم بسبب التغيرات الساحقة التي نراها في العصر الحديث. هذا هو السبب الأساسي الذي دعي بعض العلماء المسيحيين والمسلمين إلى محاولة البحث عن قاعدة مشتركة للتعاون فيما بينهم لمواجهة هذا الخطر. أما بالنسبة للمسلمين الذين استجابوا متخذين مواقف ايجابية من المسيحية فان لهم بواعث متعددة؛ فهم يعتقدون أن المسلمين كانوا دوما يتعايشون مع الاقليات المسيحية بانسجام وفي جميع مراحل التوسع الإسلامي فان الكنيسة كانت تترك مستقلة دون أن يتدخل أحد في شئونها، ولهذا فان كفرة الحوار تجد قبولا لدى بعض المسلمين. والباعث الثاني سياسي وهو الاستفادة من دعم المسيحيين الغربيين وكسب تأييدهم لقضاياهم حيث يعتقد هؤلاء العرب المسلمون بأن المسيحيين يجب أن يتخذوا مواقف مؤيدة لقضاياهم القومية العادلة كقضية فلسطين والتخلص من نفوذ القوى الغربية والصهيونية.(1/256)
ومن المؤكد أن هناك تخوفا من الجانبين من هذه المحاولة الجديدة للحوار. لقد أوضح بعض المسلمين مواقفهم بصراحة وانهم لا يريدون أن يكون هذا الحوار غطاء يتستر تحته العمل التبشيري ويعرب بعض الزعماء المسلمين عن شكوكهم بصدق نوايا بعض الجهات المسيحية ويؤكدون على أن نجاح هذه الكفرة أوفشلها يعتمد على استعداد المسيحيين للتخلي نهائيا عن العمل التبشيري بين المسلمين. وقد أشار بعض المسلمين إلى أن السلطات الاستعمارية هي التي كانت في الماضي تمهد الطريق أمام الارساليات التبشيرية وتقدم لهم العون والحماية أما الان فان هذه البلاد قد أصبحت مستقلة ولم يعد فيها مكان للعمل التبشيري بالاضافة إلى أن بعض هذه البلاد قد أصبحت على درجة من الغني تمكنها من توفير الخدمات الطبية اللازمة لأبناء شعبها وهكذا فان الحوار قد يكون وسيلة جديدة لافساح المجال أمام المبشرين للعودة إلى المنطقة من جديد.
وللمسيحيين مخاوفهم أيضا وهم يخشون أن يؤدي هذا الحوار إلى تورطهم في قضايا سياسية وبخاصة أزمة الشرق الاوسط التي كانوا بمنأى عنها حتى الآن. إن الزعماء المسيحيين في الغرب بنفوذهم المحدود على الحكومات الغربية وعلاقاتهم الحساسة بالقوى الأخرى ومراكز النفوذ يخشون أن يؤدي هذا إلى خلق المزيد من المشكلات المحلية ويخسرون محليا أكثر من أية فائدة يجنونها من الحوار مع المسلمين. ومن الأمثلة الجيدة على ذلك ما حدث في المؤتمر الديني في ليبيا في شباط (فبراير) 1976 حيث سحب الفاتيكان مندوبه بسبب تورطه في القضايا السياسية ولكن هذا لا يمثل الموقف المسيحي كله، فبعض أعضاء كنيسة الاصلاح في الولايات المتحدة متفقون على:
"إن الكنيسة قد صمتت فيما يتعلق بقضية فلسطين ومن واجب الكنيسة أن تعلن عن رأيها فيها. وهذا الموضوع مع غيره من الموضوعات الهامة كانت موضع نقاش في المؤتمر التالي لكنيسة الاصلاح
المشكلات التي يتوقع أن تعترض طريق الحوار:(1/257)
إن الحوار لا يزال قضية تحتاج إلى المزيد من البحث والتمحيص اذ لم يتمخض عن شيء واضح أو ملموس بعد ولم يتم التوصل إلى الاسس الرئيسية حتى الآن. والمحاولة تواجه صعوبات دينية وسياسية عديدة والتي يمكن أن نلخصها فيما يلي:
1) هناك مشكلة العمل التبشيري والذي يتصل بالخلق المسيحي وهو واحد من الواجبات الدينية، لذلك يصعب أن يرضي المسيحيون باستثناء البلاد الاسلامية من العمل التبشيري مهما كانت الظروف.
2) أن التنافس في ميدان العمل التبشيري بين المسلمين والمسيحيين وخاصة في أفريقيا يمكن أن يخلق مزيدا من الصعوبات في وجه الحوار ولم يغرب هذا عن بال رواد التبشير في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وقد ذكر صموئيل زويمر وآرثر براون ما يلي:
"إن أولئك الذين يعرفون الاحوال في غرب أفريقيا مثلا يجب أن يدخروا وسعا في استباق دخول الإسلام إلى البلاد... قبل أن يجعل هذا الدين التبشير المسيحي أصعب بعشر مرات مما هو عليه بين الوثنيين من الافريقيين".
والمنافسة على ما يبدو لم تنته في ذلك الجزء من العالم ولا يتوقع أحد أن تنتهي لان كل دين ينادي بأنه أرسل للبشرية جمعاء وكل جماعة تتمسك بمبادئها الدينية.
3) إن الاوضاع السياسية من بين الصعوبات التي تواجه وستواجه الحوار الإسلامي المسيحي اذ لا بد أن يتخذ زعماء الدين المسيحي قرارات صعبة قيما يتعلق بالمشكلات السياسية الحديثة وبخاصة ما يتعلق منها بالقضية الفلسطينية وقضايا التحرر فعليهم أن يقرروا ما إذا كانوا سيظلون على صمتهم أم أنهم سيتخذون موقفا واضحا.
4) إن شكوك الجانبين في بواعث الحوار وأهدافه من المشكلات القائمة والتي لن تنتهي نظرا لما بين الجماعتين من علاقات تاريخية مريرة منذ عصور طويلة.
5) كما أن المتعصبين من كلا الطرفين سيضعون العقبات في طريق هذه المحاولة الجديدة ويقاومونها.(1/258)
6) وهناك ما يتعلق بطبيعة الديانتين فكلاهما يدعي أنه الدين الصحيح وانه أرسل للناس جمعيا ولهذا لا يمكننا التكهن بالمدى الذي ستسمح به الديانتان لاتباعها بالسير في هذا الطريق الجديد.
7) ان الضغوط والظروف الخارجية كتأثير الحضارة الحديثة ومنو الأفكار الماركسية في العالم يولد وسيولد صعوبات أكبر أمام النشاط الديني. هذه في الواقع هي الصعوبات الرئيسية التي تواجه وستواجه محاولة الحوار بين المسلمين والمسيحيين والتي لا يمكن التغاضي عنها إذا أريد لهذه العلاقة الجديدة بين الجماعتين التقدم والنجاح. والواقع أن المبشرين يأملون أن تحقق هذه الفكرة نتائج ايجابية.
ان نجاح المحاولة يعتمد على استعداد كل من الفريقين لفهم الجوانب الروحية والثقافية والسياسية والاجتماعية للفريق الآخر، كما أنه يعتمد أيضا على وضع حد للمواقف العدائية التي يقفها كل فريق من الفريق الآخر.
ويقوم بعض المسيحيون في الوقت الحاضر بمناقشة موضوع التبشير. وهناك خلاف بينهم حول جدوى العمل التبشيري بين المسلمين ومنذ أيام ثورة البوكسر Boxer والتبشير المسيحي يلقي معارضة قوية وقد ذكر اللورد سالزبروي:
"وبعد ثورة البوكسر(1)في الصين في مطلع هذا القرن فقد المبشرون ما كانوا يتمتعون به من تأييد".
وبعد تلك الثورة بدأ العديد من الزعماء المسيحيين في الارساليات الاجنبية يعيدون التفكير من أمر التبشير خارج البلاد. وقد انتهى بعضهم إلى الاعتقاد بأن العمل التبشير قد فشل وخاصة في البلاد العربية, ولم يعد هناك من مبرر لمتابعته بعد الآن. والشكوك تساور حتى بعض المبشرين أنفسهم حول مستقبل العمل التبشيري في هذه الايام. وقد ذكرت السيدة ر. نايكرك على سبيل المثال:
__________
(1) 1ـ البوكسر هم أعضاء احدى الحركات الوطنية القومية الصينية السرية، قاموا بثورة ضد الأجانب في الصين سنة 1900 بعد احتلال بكين من قوى دولية وقد قاوم البوكسر العمل التبشيري في بلادهم بضراوة.(1/259)
"ان المبشرين الاجانب قد لا يلقوا الترحيب في المستقبل إذا اقتصر عملهم على الاغراض التبشيرية".
ومن ناحية أخرى هناك حركة قوية يؤيدها مسيحيون آخرون ممن يرفضون هذه الآراء ويقاومون بضراوة لابقاء العمل التبشيري على قيد الوجود (ومنهم كريستي ولسون وآخرون). وأصحاب الرأيين يعتقدون أن الغالبية العظمى من الناس تنتمي إلى أديان لا نفع فيها لأحد. ويعتقد أنصار هذين الرأيين بأن أي ادعاء يقول بأن الاديان الأخرى ملائمة لا يمكن ان ينادي به الا من لا يؤمنون بالمسيحية. انهم يكفرون بأحد واجباتهم كمسيحيين والذي يملي عليهم ان لا يتركوا الآخرين يمارسون شعائرهم دون أن يعمل مبشرون مسيحيون بينهم.
أن اولئك الذين يؤيدون فكرة التخلي عن العمل التبشيري خارج البلاد المسيحية يعتقدون بأنه قد فشل. ولكن معارضي هذه الفكرة يرون أنه على الرغم من ذلك فليس هناك من سبب رئيسي يدعوهم للتخلي عن التبشير مع أن ذلك لا ينفي ان تكون هناك ضرورة لتبني أساليب جديدة. أضف إلى ذلك أن التبشير يتصل بالخلق المسيحي كما سبق أن ذكرنا وواجبهم هو العمل وليس انتظار النتائج. ويخلص المبشرون الى القول بأنهم حتى الآن كانوا يتخذون موقف الدفاع وقد حان الوقت لينتقلوا إلى الهجوم. وهذا الموقف المتصلب يهدد فكرة الحوار بين المسلمين والمسيحيين. ويبدوا أن الجدل قد بدأ بين المبشرين وبين أتباع الديانات الأخرى الذين أعترضوا على تحويل بعض أفراد جماعتهم عن دينهم ثم انتقل الجدال إلى الجماعة المسيحية نفسها وتركز حول ما إذا كان العمل البتشيري مفيدا أم لا وما إذا كان يحتاج إلى تبني أساليب جديدة.(1/260)
يتضح مما تقدم أن الحوار بين المسلمين والمسيحيين لن يؤدي إلى حل الخلافات بينهم بسهولة. أن هاتين الديانتين الكبيرتين لا شك ستستمران في البقاء جنبا إلى جنب في العالم. أما كيف ستتعاملان سويا وعلى أي أساس فهذا ما لا يستطيع أحد أن يتكهن به. ولكن يبدو أن بعض المسيحيين مصممون على المضي في هذا الأمر الذي يستحوذ على اهتمام العديد من الزعماء الدينيين في "كنيسة الاصلاح" في الولايات المتحدة الامريكية وفي (مجمع الكنائس البريطاني) و( كليات سيلي أوك) في بريطانيا.
مستقبل التبشر في الخليج العربي
لا مندوحة من الاعتراف بأن عمليات التبشير الماضية بين المسلمين كانت محدودة وبخاصة في منطقة الخليج العربي وشبه الجزيرة. والواقع اننا يمكن أن نذهب إلى حد القول بأنه من المشكوك فيه أن يكون للعمل التبشيري الحديث أي تأثير ديني في شبه الجزيرة العربية للأسباب العديدة التي سبق أن أشرنا اليها. فبعد ما يقارب القرن من العمل التبشيري في منطقة الخليج العربي فان تأثيرة الديني يكاد أن يكون معدوما والارساليات تواجه طريقا مسدودا من هذه الناحية. ويجب الاعتراف بهذه الحقيقة بصراحة كما يجب اعادة النظر في أوضاع التبشير.
انهم يقرون بأن النشاط التبشيري في الخليج العربي والجزيرة العربية قد تقلص، وبخاصة عندما سحبت حكومات المنطقة البساط من تحت أقدام المبشرين بتقديم الخدمات التعليمية والصحية المتطورة لشعوبها.(1/261)
أن المبشرين بشكل عام يؤيدون الرأي القائل بأن العمل التبشيري في المستقبل يجب أن يتركز على اعداد جيل من المبشرين والقادة من بين المسيحيين المحليين أنفسهم والذي يجب أن تكون المهمة الاساسية للتبشير الأجنبي بدلا من القيام بالعمليات التبشيرية المباشرة. وهكذا فانهم يؤمنون بأن دور المبشرين الأجانب هو اعداد المسيحيين المحليين للاضطلاع بعمليات التبشير المحلية وهذا يتطلب العمل على تنصير بعض الأهالي والثقة بهم وترك العمل التبشيري بين أيديهم، ولكن هذا لم يحصل في معظم المناطق التي كان المبشرون الغربيون يعملون بها. أما بالنسبة للإرسالية العربية فانها لم تتمكن من كسب الاتباع ممن يستطيعون الاضطلاع بهذه المسؤوليات بأنفسهم.
ويعتقد المبشرون أن عليهم أن يبدأوا في المستقبل بالتبشير المباشر لكسب الأتباع، ولكن تجربة الإرسالية العربية تبرهن على أن هذه المهمة لم تفلح لأنها قد أثارت معارضة السكان المحليين ولذلك فان أعضاءها قد بدأوا يبحيثون عن أساليب جديدة للعمل على أمل أن يؤدي الحوار مع المسلمين إلى تمهيد طريق العمل التبشيري أمامهم. وهم يفكرون في عرض الكتاب المقدس على غير المسيحيين بطريقة أكثر جاذبية والذي يحتاج إلى مبشرين قادرين على تحقيق ذلك، وهناك احتمال لأن عرض الانجيل على المسلمين لم يكن جذابا فعندما يقرأونه كأنهم يقرأون كتابا عاديا أو قصة تاريخية.
ونأتي الآن على ذكر بعض آراء المبشرين الذين كانوا يعملون في منطقة الخليج العربي (انظر الملحق رقم 1) وآراء بعض أصدقائهم من الأهالي حول مستقبل الإرسالية العربية في هذه المنطقة.
لقد ذكر القس لويس سكدر الابن:
"أن موقف العمل التبشيري القديم العداء للاسلام قد تدهور في السنوات الاخيرة، وسنستمر في دراستها وتطويرها على ضوء المتغيرات الحديثة في العالم وقد انتقد هذا الاسلوب بعنف عندما قال:(1/262)
"لقد ذهب المبشرون إلى تلك المنطقة وهم يستخدمون لغة عسكرية لأن (يحتلوا) الجزيرة العربية و (يدمروا) الإسلام.
وقد عبر يعقوب شماس عن ذلك بالطريقة التالية:
"أن التبشير في المنطقة يتدهور وسيتوقف تدريجيا".
وقد ذكر السيد حسين معرفي أحد المواطنين الذين عرف المبشرين في الكويت عن قرب:
"لا أعتقد بأن هناك أي مستقبل للعمل التبشيري في المنطقة أن انتهاء عملهم هو الأمر الطبيعي... انني أعتقد بأن عصر التبشير قد انتهى".
هذه أمثلة من الآراء التي تتفق جميعها حول نقطة أساسية وهي عدم وجود أي أمل أمام العمل التبشيري في منطقة الخليج. وهذا هو ما يجعل المبشرين وأصدقاءهم غير متفائلين بمستقبل العمل التبشيري وهو عكس ما كان يتوقعه المبشرون الأوائل من أمثال جون فان ايس الذي قال:
"أن الآمال بتحقيق النصر النهائي لملكوت الرب في الجزيرة العربية كثيرة واكيدة وباهرة".
ومن كل هذا يتضح لنا أن الآراء تختلف بين هذين الجيلين من المبشرين. وبالرغم من ذلك كله فاننا نرى أن بعض المبشرين المعاصرين لا يزالون يخططون لمستقبلهم في المنطقة والسؤال الآن هو ما هو تصور المبشرين لمسؤولياتهم المقبلة في هذا الجزء من العالم.
أ ـ ان الحوار بين المسلمين والمسيحيين هام جدا ويجب أن يكون هذا الحوار هو الاسلوب السائد في التعامل مع المسلمين مستقبلا.
ب ـ من الضروري اتقان اللغة العربية جيدا فالمعرفة الاولية لهذه اللغة غير كافية للعمل التبشيري.
جـ ـ أن تكون الصداقات هو الاسلوب الأساسي الذي نتمكن بواسطته من التغلب على تعصب الناس مما يمكن المبشرين من عرض آرائهم بسهولة.
د ـ أن التصميم على البقاء والعمل مهما كانت الصعوبات هو الطريق الأكيد لابقاء العمل التبشيري حيا.
هـ ـ أن النقد الموجه من قيادة التبشير في الوطن الأم ضروري لتطوير العمل.(1/263)
و ـ كما يعتقدون بأن الحكومات المحلية تقدم الخدمات الطبية لشعوبها في المدن فقط: ولهذا فان على المبشرين ان ينقلوا خدماتهم الى القرى وبين البدو الرحل في الصحراء.
هذه الأمور في نظر المبشرين ذات أهمية كبرى لمستقبل العمل التبشيري. ولكن يبدو أن الفرصة لتحقيق هذه الأهداف قد فاتت.
والآراء التالية تعكس قناعات المؤلف حول مستقبل العمل التبشيري ككل:
أ ـ أن العمل التبشيري في طريق الاحتضار في الدول العربية إذا استمر في استخدام أساليبه التقليدية وفي حال نجاح فكرة الحوار والتعاون المتبادل بين الجماعتين فان هذا ولا شك سيضع العقبات في طريق العمل التبشيري حتى ولو كانوا يخططون لاستخدامه كوسيلة جديدة للعمل التبشيري، وقد سبق أن أشرنا إلى ذلك.
ب ـ لا شك ان العمل التبشيري سيكون ضعيفا ليس بسبب مشكلاته الداخلية فقط ولكن لان الشعور الديني نفسه
ضعيفا بتأثير المادية والحضارة الحديثة. والواقع ان الحركات الدينية سواء كانت إسلامية أم مسيحية بحاجة إلى أن تتحرر من التعصب وتفهم الدين على أنه ثورة كاملة ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية وليس طقوسا تؤدى.
ان معظم الحركات الدينية لا تزال تسير على الافكار والاساليب التقليدية. أن الزمن يجري ويجب ان تعمل جمعياتهم على خلق عقلية دينية قادرة على التلائم مع التطور السريع والمعقد للحياة المعاصرة وأن توظف تلك الأفكار في الحياة العملية بالتركيز على قضايا المجتمع الاساسية والجوهرية.
الملاحق
خطة الإرسالية الامريكية العربية
نحن الموقعين ادناه قد عزمنا على القيام بنشاط تبشيري رائد في البلاد الناطقة باللغة العربية وبشكل خاص من اجل المسلمين والعبيد مقرين منذ البداية بالحقائق التالية:
1ـ الحاجة البالغة لهذا العمل التبشيري وضرورة تشجيعه في العصر الحالي.
2ـ عدم وجود مثل هذا العمل التبشيري تحت اشراف مجلس الارساليات الأجنبية في الوقت الحالي.(1/264)
3ـ عدم قيام أي مجهود يذكر حتى الآن في المجالات آنفة الذكر.
4ـ عدم قدرة مجلسنا الحالي باوضاعه الراهنة على الشروع بمثل هذا العمل.
وبناء عليه ولتحقيق الاهداف المرجوة فاننا نتقدم من المجلس، وبتأييده إلى الكنيسة عامة، بالمقترحات التالية:
1ـ الشروع بهذا العمل بأسرع وقت ممكن.
2ـ أن يكون ميدان العمل الجزيرة العربية أو أعالي النيل أو أي ميدان آخر خاضع للوصف المذكور في المقدّمة والذي يبينّ أفضليته على غيره من الميادين.
3ـ ويكون تمويل الإرسالية المذكورة من المصادر التالية:
أ: الاشتراكات السنوية بمبالغ تتراوح بين خمسمائة ومائتي دولار؛ ويشكل المساهمون بمثل هذه المبالغ هيئةّ يجري تنظيمها بالشكل المرغوب.
ب ـ الهيئات المؤلفة من أمثال هؤلاء الافراد، والكنائس والمنظمات التي تتعهد بدعم المبشرين الافراد أو تسهم في تمويل أمور محددة يمكن ان تحتاجها الإرسالية.
4ـ يجري تشكيل هذه الهيئات وتدفع الالتزامات المالية على مدى خمسة أعوام.
5ـ بعد انتهاء الاعوام الخمسة الاولى يتولى مجلسنا الاشراف على الإرسالية كما هو الحال بالنسبة للإرسالية الاخرى. وفي حال عجز المجلس عن تحمل النفقات المالية يعاد تشكيل الهيئات وتحديد الالتزامات المالية.
6ـ وفي أثناء ذلك تخضع الإرسالية بشكل عام لاشراف المجلس والذي يجري تمويل الإرسالية من خلاله.
7ـ ويلتمس الموقعون أدناه موافقة المجلس على هذا التعهد بشكل عام وبخاصة فيما يتعلق بموضوع طلب التبرعات.
الموقعون.
جـ. جـ لا نسنح
جاس كانتين
ب . ت فيلبس
ص. م. زويمر
:المصدر؛
Zwemer, S. Arabia: The Cradle of Islam, N.Y. 1900,pp354_55.
دستور الإرسالية العربية
مادة اولى: سيكون اسم هذه المنظمة الإرسالية العربية
مادة ثانية: سيكون هدف هذه المنظمة القيام بالعمل التبشيري في الجزيرة العربية أو البلاد الناطقة بالعربية.(1/265)
مادة ثالثة: تتكون هذه المنظمة من سبعة أعضاء ـ الاعضاء الاساسيون والاب الدكتور جون جـ . لا نسنح مؤسس الإرسالية ـ وهم يخضعون للشروط المبينة فيما يلي.
مادة رابعة: تعقد الإرسالية العربية اجتماعها السنوي في الاثنين الثاني من شهر اذار (مارس) ويتم في الاجتماع اختيار الموظفين لذلك العام.
مادة خامسة: والموظفون هم الرئيس والسكرتير وأمين الصندوق مادة سادسة: ويأخذ أعضاء المجلس قدر الامكان رغبات المساهمين بعين الاعتبار.
مادة سابعة: يتمتع المجلس بصلاحية تعيين الأجهزة التي يرى في تعيينها، سواء داخل الوطن أو خارجة، تحقيقاً لاهداف الإرسالية.
مادة ثامنة: يقدم المجلس تقريراً سنوياً عن عملياتها وعن أعمال المبشرين مع تقرير مفصل يقدمه أمين الصندوق إلى جميع المساهمين.
مادة تاسعة: يجتمع المجلس كل ثلاثة أشهر حسب إتفاق أعضائه وفي حال اجتماعه فإن حضور أربعة أعضاء يعتبر نصابا ويمكن عقد اجتماعات خاصة بدعوةٍ من موظّفيه أو يطلب اثنين من الأعضاء.
مادة عاشرة: يمكن تعديل هذا الدستور أو تغييره في أي اجتماع من الاجتماعات العامة بتصويت غالبية الأعضاء بشرط ان يتم اقتراح التغيير كتابةّ في اجتماع عاديّ سابق.
قوانين داخلية
أولا ـ تكون واجبات الرئيس هي الواجبات العادية لتي تناط بهذا المنصب كما أنه يوقع للتصديق على جميع الشيكات التي يسحبها أمين الصندوق.
ثانياً ـ تكون واجبات السكرتير وأمين الصندوق هي الواجبات العادية التي تناط بهذين المنصبين. ويتمتع بحق تعيين الموظفين اللازمين للأعمال الكتابية الذين يحددهم المجلس.
ثالثاً ـ يكون جدول العمل في اجتماعات المجلس كما يلي:
1. الصلاة
2. قراءة الاسماء
3. قراءة وقائع الاجتماع والتصديق عليها
4. تقرير أمين الصندوق
5. الاتصالات والاعمال التي يُقدّمها السكرتير.
6. تقارير اللجان
7. أعمال متفرّقة
8. فضّ الاجتماع بالصلاة(1/266)
رابعاً: تعقد الاجتماعات ربع السنوية في أيام الاثنين من الاسبوع الثاني من حزيران (يونيو) وأيلول (سبتمبر) وكانون أول (ديسمبر) وآذار (مارس).
المصدر
Arabian Mission Minutes of Meetings, Vol.I
(sheet attached) theological Seminaey, New Brunswick, New Jersey, U
S.A., 1890.
مؤسسات الإرسالية الحالية في المنطقة
البحرين:
مستشفى الإرسالية الامريكية
مدرسة الإرسالية الامريكية
مكتبة العائلة في البحرين
الكنيسة الانجيلية الوطنية في البحرين
الكويت:
مكتبة العائلة في الكويت
الكنيسة الانجيلية الوطنية في الكويت
عمان:
الكنيسة البروتستانتية في عمان مكتبة العائلة في عمان
مدرسة الإرسالية الامريكية للبنات
يمكن ان يلتقي الموظّفون الذين يعملون في المؤسسات المذكورة في "زمالات الإرسالية العربية المحلية". وليس لهذه الزّمالات أية مهام ادارية ومهمتها الرئيسية هي تهيئة اللقاءات الروحية.
تمويل الإرسالية
كانت كنيسة الاصلاح في نصف القرن الاول من عمل الإرسالية تتحمل المسؤولية التامة لتمويل انشطة الإرسالية. وكان المبشر يتلقى منحة قدرها ثلاثمائة دولار لاعداد نفسه قبل الانطلاق إلى ميدان العمل. وقد حدد مرتب المبشر في السنة الواحدة ثمامنائة دولاراً. وكانت نفقات الإرسالية تتوزع كما يلي: مرتبات، مصروفات العمل التبشيري، نفقات السفر والسكن. وقد ذكرت الإرسالية في تقاريرها أن نفقات الخمسة والعشرين عاماً الاولى لم تتجاوز 000، 250 دولاراً. ولكن هذا المبلغ ارتفع بسرعة في السنوات التالية. وهذا بالطبع بالا ضافة إلى دخل الإرسالية من ميدان العمل وبخاصة من أجور الخدمات الطبية. والمعلومات المتوفرة عن احوال الإرسالية المالية في العقد الثاني تبين زيادة نفقات الإرسالية سنة بعد أخرى.
سنوات العمل ... ... المصروفات
1902 762، 10 دولار
1903 600، 12 دولار
1904 300، 13 دولار
1905 66، 826، 17 دولار
1906 14، 189، 19 دولار
1907 14، 572، 17 دولار(1/267)
1908 70، 511، 19 دولار
1909 19، 838، 21 دولار
1910 46، 822، 30 دولار
المصدر:
Arabian Mission Ministers of Meeting:
The theological Seminary, New Brunswick, New Jersey, U.S.A., Vol.
l,June27, 1890,p.5 also Vol.2, 1897, p.6and Vol 2,p.247.
دخل الإرسالية بالعقود
النقابات مصادر أخرى مصادر خاصة المجموع
... ... ... ... (بما فيها الارث)
العقد الاول 10، 310، 29 30، 295، 29 28، 206، 11 41، 811، 29
1890 ـ 1899
القد الثاني 89، 257، 67 68، 685، 109 60، 406، 41 17، 350،218
00 19 ـ 1909
نصف عقد 15، 706، 67 29، 052، 89 64، 997، 39 08، 756، 196
1910ـ 1914
العقد الثالث 80، 162، 179 76، 964، 367 50، 199، 171 06، 327، 718
المجموع العام 94، 436، 343 76، 997، 595 02، 810، 263 72، 244، 263, 11
ملاحظة: تبين هذه الأرقام دخل الإرسالية بعد ثلاثة عقود ونصف فقط من بدء نشاطها.
المصدر:
Mason and Barny, the History of the Arabisn Mission, 1926,N.Y.,p. 251.
إحصائيات مقارنة لتوسّع أعمال الإرسالية بالعقود
... ... ... ... ... ... ... 1894 1904 1914 1924
محطات رئيسية ... ... ... ... ... 3 ... 3 ... 5 ... 5
محطات فرعية ... ... ... ... ... 00 3 ... 3 ... 00
مبشرون، رجال، معّينون ... ... ... ... 3 ... 6 ... 8 ... 11
مبشرون، رجال، غير معينين ... ... ... 1 ... 2 ... 4 ... 5
مبشرون مساعدون ... ... ... ... 00 ... 6 ... 9 ... 14
مبشرات، غير؟ متزوجات ... ... ... 00 ... 2 ... 4 ... 10
مساعدون محليون ... ... ... ... 00 ... 18 ... 33 ... 15
مساعدات محليات ... ... ... ... 00 ... 3 ... 11 ... 7
كنائس ... ... ... 00 ... 00 ... 00 ... 5
مبلغون ... ... ... ... 00 ... 00 ... 00 ... 19
مقبولون ... ... ... ... 00 ... 2 ... 00 ... 7
مدارس داخلية، بنين ... ... ... 00 ... 0000 ... 1 ... 1
الطلاب ... ... ... ... 00 ... 00 ... 12 ... 22
مدارس الاحد ... ... ... 00 ... 4 ... 6 ... 6
الطلاب ... ... ... ... 00 ... 42 ... 90 ... 88
مدارس نهارية ... ... ... 00 ... 1 ... 7 ... 10
الطلاب ... ... ... ... 00 ... 68 ... 193 ... 349
مستشفيات ومستوصفات ... ... 2 ... 4 ... 5 ... 4
المرضى المعالجون ... ... ... 1888 ... 20755 23709 59413 ... ...
التبرعات المحلية (ما يعادله ذهباً) ... 00 ... 214 ... 227 ... 1600
غير منظمة
الارقام المأخوذة في عام 1923
المصدر:
Mason and Barny, the History of the Arabian Mission, N.Y., 1926,p. 251(1/268)
المبشرون وغيرهم ممن قابلهم المؤلف في عمله الميداني
نوفمبر ـ ديسمبر 1974 وسبتمبر 1976
أوّلاً: أثناء العمل الميداني في منطقة الخليج. نوفمبر ـ ديسمبر 1974
ويونيو ـ ويوليو 1977
1. الدكتور. سكدر من كبار أطباء الكويت ـ 1939ـ 1977
2. السيدة ر. سكدر ... احد ممرضات الإرسالية النشيطات
في الكويت 1939ـ 1973
3. القس لويس سكدر ابن القس المسؤول عن الخدمات الانجليزية
في الكنيسة الانجليكانية في الكويت
4. القس يوسف عبد النور القس المسؤول عن الخدمات العربية
... ... ... في الكنيسة الانجليكانية في الكويت
5. السيد يعقوب شماس بائع كتب قديم في ارسالية الكويت
6. السيد سامي شماس مواطن متنصر حديثاً من اتباع الكنيسة
الانجليكانية في الكويت.
7. السيد حيدر خليفة من أصدقاء الكنيسة المقربين في الكويت
ومن الفنيين القدامى في مستشفى
الإرسالية هناك.
8. السيد بينامين ممرض مسيحي قديم في الكويت والذي
عمل مع الإرسالية لفترة طويلة
9. السيد حسين معرفي من أصدقاء الإرسالية في الكويت
10. السيدة روز نايكرك مديرة الإرسالية العربية في البحرين
... ... ... وزوجة الدكتور جـ. نايكرك الذي عمل
... ... 11 . في الكويت ومات فيها سنة 1964
... ... ... في البحرين من 1967 إلى الآن وقد
... ... ... كان والده كاهناً في المنطقة
12. السيدة خيرة حيدر متنصرة في البحرين عمرها 82 عاماً
13. السيد يوسف حيدر ابن السيدة خيرة وهو مدير مستشفى
... ... ... الإرسالية في البحرين
14. السيد أحمد حـ . إبراهيم أول تلميذ من الاهالي في مدرسة
... ... ... الإرسالية في البحرين، 1905 وهو
... ... ... لا يزال حياً حتى الآن وعمره 83 عاماً.
15. السيد مبارك الخاطر أحد المسلمين ممن كتبوا بحيثاً قصيراً
... ... ... عن الإرسالية العربية في البحرين
الذين تمت مقابلتهم في المملكة المتحدة يناير 1975
1. القس هادي يونج ... مبشّر عمل عدة سنوات في منطقة
... ... ... الخليج وأحد أعضاء ارسالية الدكتور
... ... ... كنيدي في "ابوظبي". وكان اعضاؤها(1/269)
... ... ... يتبعون أصلا للإرسالية العربية وانفصلوا ...
... ... ... عنها في نهاية الخمسينات
ثانيا: أثناء العمل الميداني في الولايات المتحدة سبتمبر 1976
قابل المؤلف عددا من أعضاء كنيسة الاصلاح في الولايات المتحدة. وكان من بينهم من عملوا مبشرين في الجزيرة العربية وكانوا لايزالون يعملون في خدمة الكنيسة وآخرين كانوا أعضاءً في الكنيسة واعضاء في الهيئة الاكاديمية لمعهد اللاهوت في نيوبرونزوك. وفيما يلي اسماؤهم وأعمالهم:
1. القس ادوين لويدنز سكرتير القسم الكهنوتي الاسيوي لما
... ... ... وراء البحار (D.O.M.)
... ... ... المجمع الوطني لكنائس المسيح في الولايات المتحدة الامريكية
... ... ... سابقاً: مبشر في الإرسالية العربية في
... ... ... البصرة والبحرين والعمارة ومدير راديو
... ... ... صوت الكتاب المقدس في بيروت، لبنان
... ... ... من 1958 ـ 1964
2. السيدة ايفلين ماكنيل
... ... ... ... زوجة المبشر الاب دونالدر.
... ... ... ... ما كنيل الذي كان يعمل في الكويت في
... ... ... ... الخمسينات
3. القس الدكتور جون ي بولين
John E.Buleyn
... ... ... ... سكرتير كنيسة الاصلاح في امريكا
... ... ... ... وكان يشرف اشرافاً كاملاً على الاعمال الادارية
... ... ... للإرسالية العربية في كنيسة الاصلاح منذ أواخر الخمْسينات
4. السيد رتشارد جـ بتل سكرتير 22D. O. M. N. لاوروبا
Richard J.Butle والشرق الاوسط
... ... ... ... تابع خدمات الكنيسة العالمية ومجلس الكنائس
... ... ... ... العالمي لاغاثة اللاجئين ومركزه الاردن
... ... ... ... وبيروت وجنيف
5. القس لويس سكدر الابن ... مسؤول اللغة الانجليزية في الكنيسة
... ... ... ... الانجليكانية الوطنية في الكويت
... ... ... ... عينته كنيسة الاصلاح مبشراً للجزيرة العربية
... ... ... في عام 1966،
وهو باحيث حصل أخيراً على الدكتوراه من جامعة ماكيل في كندا.
المقابلات في نيوبرونزوك. معهد اللاهوت في نيوجرسي
سبتمبر 1976
** الهيئة الاكاديمية:
1. الدكتور دافيد ونذرز 2. الدكتور داي انجلهارت
3. الدكتور بول فرير 4. الدكتور هيو أ. كوبز
5. الدكتور تاشرلز وسنْك 6. الدكتور ايرل اليس(1/270)
7. الدكتور نورمان توماس 8. الدكتور فيرجيل دوجرز
9. السيدة راي انجلهارت 10. مستر ومسز هيلالتو
11. السيدة هوارد هاجيمون 12. السيدة جان هوفهان
13. القس لويس سكدر الابن وزوجته كانا بين من حضروا الاجتماع(1/271)