التأصيل في طلب العلم
بقلم محمد عمر بازمول
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده، و نستعينه ، و نستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
{ يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ حَقّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مّسْلِمُونَ }[آل عمران :102].
{ يَآ أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوْا رَبَّكُمُ الَّذِيْ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيْراً وَنِسَآءً وَاتَّقُوْا اللَّهَ الَّذِيْ تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيْباً }[النساء :1].
{ يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } [الأحزاب : 70-71].
أما بعد: فإن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أمّا بعد:
فإني أحمد الله إليكم أن يسر لي هذا اللقاء بكم، الذي اسأله سبحانه وتعالى أن يجعل فيه الخير والبركة للجميع.
هذا اللقاء في مسجد الأمير متعب، بجدة، يوم الخميس ليلة الجمعة في السادس من شهر ربيع الأول العام الحادي والعشرين بعد الأربع مائة وألف من الهجرة النبوية، في محاضرة بعنوان "التأصيل في طلب العلم".
لا يخفى على كل مسلم أن العلم مهم، حتى إن كل إنسان يدعيه لنفسه حتى الجاهل لا يرضى أن يقال عنه جاهل، ويفرح أن يقال عنه عالم!(1/1)
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من لا يحسنه ويفرح به إذا نسب إليه وكفى بالجهل ذمّاً أن يتبرأ منه من هو فيه"()
وكيف يخفى فضل العلم والعلماء على المسلم وهو يقرأ قول الله تعالى:{ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِيْنَ يَعْلَمُوْنَ وَالَّذِيْنَ لاَ يَعْلَمُونَ } [الزمر :9]، وهو يسمع قوله تعالى: { شَهِدَ اللّهُ أَنّهُ لاَ إِلََهَ إِلاّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلََهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }[آل عمران :18] فقرن سبحانه بين شهادة أولي العلم والملائكة بشهادته سبحانه وتعالى؟!
كيف لا يعرف المسلم فضل طلب العلم حينما يسمع قوله صلى الله عليه وسلم: "من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله به طريقاً إلى الجنة"(1)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم"(2).
بل كيف يُشَك في ضرورة العلم الشرعي فيما يحتاجه المسلم في حياته، وهو يدين بدين يقوم على قاعدتين :
ـ أن لا يعبد إلا الله.
ـ وأن لا يعبد الله إلا بما شرع.
وهما حقيقة كلمة التوحيد: "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله"؛ فتحقيق كلمة التوحيد لابد فيه من العلم الشرعي الذي يحتاجه لتحقيقها، إذ كيف يحقق المسلم الأصل الثاني وهو أن لا يعبد الله إلا بما شرع بدون أن يطلب العلم، ولذلك كان العلم قبل القول والعمل، وهذا المعنى ترجم له البخاري رحمه الله في صحيحه فقال في كتاب العلم: "بَاب الْعِلْمُ قَبْلَ االْقَوْلِ وَالْعَمَلِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}[محمد :19]؛ فَبَدَأَ بِالْعِلْمِ.
وَأَنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ ووَرَّثُوا الْعِلْمَ؛ مَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ.
وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ بِهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ.(1/2)
وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[سورة فاطر :28]. وَقَالَ: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}[العنكبوت :43] وقال : {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[الملك :10] وَقَالَ: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}[الزمر :9].
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ" وَ "إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ"
وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: "لَوْ وَضَعْتُمْ الصَّمْصَامَةَ عَلَى هَذِهِ وَأَشَارَ إِلَى قَفَاهُ ثُمَّ ظَنَنْتُ أَنِّي أُنْفِذُ كَلِمَةً سَمِعْتُهَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ تُجِيزُوا عَلَيَّ لَأَنْفَذْتُهَا".
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "كُونُوا رَبَّانِيِّينَ حُلَمَاءَ فُقَهَاءَ" وَيُقَالُ: الرَّبَّانِيُّ الَّذِي يُرَبِّي النَّاسَ بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ"انتهى كلام البخاري رحمه الله .
هذه كلها أوردها البخاري رحمه الله في هذا الباب.
ولمّا كان حال العلم كذلك سعى قطاع الطريق إلى قطعه ووضع العوائق والصوارف والزيوف لقطع الطريق على طلاب العلم، ولكن هيهات هيهات فإن أهل العلم وقفوا لهم وكان من جهدهم في هذا الباب الإشارة إلى الآداب والمهمات التي تكشف تلك الزيوف والأباطيل، ومن باب الذكرى فإن الذكرى تنفع المؤمنين، تأتي هذه المحاضرة تذكيراً بكلام أهل العلم في هذا الجانب عسى أن يجعل الله في ذلك النفع والخير العميم فأقول مستعيناً بالله:(1/3)
أسوق لكم ـ وفقكم الله تعالى ـ ما يتعلق بهذه المحاضرة من كلام أهل العلم من خلال أصول أرتبها لكم أذكر الأصل واذكر ما يتعلق بإثباته من الدليل ثم أذكر بعد ذلك الأمور التي تنبني على هذا الأصل وهذه الأصول هي التالية أذكرها جملة ثم نفصلها :
طلب العلم الذي يحتاجه المسلم للقيام بما يجب عليه من عبادة ربه فرض واجب عليه، وما زاد على ذلك فتحصيله من باب فروض الكفايات .
العلم المقصود في الآيات والأحاديث هو العلم الشرعي، أمّا العلوم الكونية والطبيعية والواقعية فإنها من باب فروض الكفايات .
- الإخلاص في طلب العلم شرط تتابعي لا ابتدائي.
العلم هو قول الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وقول الصحابة مع الإجماع والقياس الصحيح .
- العلماء ورثة الأنبياء. فيراعى الأدب معهم.
- عوائق الطلب.
وسائل تثبيت العلم.
مقامات النظر في مسائل العلم .
- الناس في العلم على قسمين : الذين يعلمون و الذين لا يعلمون.
هذه هي الأصول التسعة التي تنبني عليها هذه المحاضرة ونبدأ بالأصل الأول .
الأصل الأول :
طلب العلم الذي يحتاجه المسلم للقيام بما يجب عليه من عبادة ربه فرض واجب عليه، وما زاد على ذلك فتحصيله من باب فروض الكفايات وهو لطالب العلم من باب المستحبات والفضائل.
ودليل هذا الأصل ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم".ودليله أيضاً أن هذا الدين يقوم على قاعدتين وهي أن لا نعبد إلا الله وأن لا نعبد الله إلا بما شرع .
وتحقيق عبادة الله بما شرع لا تكون إلا بطلب العلم الذي تحتاجه لتقوم بهذه العبادة التي فرضها الله عليك والتي خلقك من أجلها .(1/4)
وفي هذا المعنى يقول إسحاق ابن راهويه: "طلب العلم واجب، ولم يصح فيه الخبر إلا أن معناه: أنه يلزمه طلب علم ما يحتاج إليه في وضوئه وصلاته وزكاته إن كان له مال، وكذلك الحج وغيره. وقال: وما وجب عليه من ذلك فلا يستأذن أبويه في الخروج إليه وما كان فضيلة لم يخرج إليه حتى يستأذن أبويه"().
وقال ابن تيمية رحمه الله: "طلب العلم الشرعي فرض على الكفاية إلا فيما يتعين مثل طلب كل واحد علم ما أمره الله به، وما نهاه الله عنه؛ فإن هذا فرض على الأعيان"()
وهذا الأصل من الأصول المهمة التي يفارق فيه أهل الحديث غيرهم ولذلك أصحاب البدع يعيرون أهل الحديث بأن غاية كلامهم في مسائل الطهارة والصلاة ونحو ذلك ، وهذا ليس بعيب في الحقيقة لأنك بالطهارة تقوم بتحقيق مفتاح الصلاة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم "(2) وقوله أيضاً " بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام من استطاع إليه سبيلا "(3) ولذلك أول أمر ينبه عليه طالب العلم أنه ينبغي أن يحرص على تحصيل العلم الواجب عليه. ولذلك لما سئل الإمام مالك عن طلب العلم قال :" كله خير ولكن انظر إلى ما تحتاجه في يومك وليلتك فاطلبه" .
لأنك لا تحقق عبادة الله إلا إذا تحصلت على العلم الذي شرعه الله لك في هذه الأمور ،فتعرف كيف تتوضأ وكيف تصلي وكيف تغتسل وكيف تؤدي الزكاة إذا كان لك مال وكيف تحج إذا أردت الحج وأحكام النكاح إذا أردت أن تنكح وأحكام الطلاق إذا أردت أن تطلق ونحو ذلك من الأمور .
وينبني على هذا الأصل الأمور التالية:(1/5)
1ـ حكم الوجوب وهذا يتعلق بالمسلم المكلف فإن كان صغيراً فعلى والديه تعليمه أمور دينه التي يحتاجها إذ يقول صلى الله عليه وسلم " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ قُوَاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [ التحريم : 6].
إذاً على الوالد المسلم والوالدة المسلمة أن يعلموا أولادهم ما يحتاجونه من أمور الدين ومن الآداب .
2ـ على طالب العلم أن يقدم تحصيل ما يجب عليه على ما يستحب، واشتغاله بالمستحبات وإضاعة الواجبات هو من زيوف طلب العلم وعوائقه، وكم هو تقصير الذي يطلب المستحب ويترك الواجب!
فترى بعضهم يتكلم في مسائل اللغة والنحو والمصطلح والبلاغة والأصول وهو لا يحسن أن يتوضأ وضوء رسول الله، و لا يحسن أن يصلي كما كان صلى الله عليه وسلم يصلي.. وقس على هذا!
3ـ على طالب العلم أن لا يخالف والديه بالرحلة لطلب العلم الذي هو بالنسبة إليه من المستحبات، أمّا إن كان العلم الذي يريد الرحلة إليه من الواجبات التي يحتاجها لعبادة الله عزوجل في يومه وليلته فله أن يرحل كما نبه على ذلك الإمام إسحاق في قوله في العبارة السابقة: "وما وجب عليه من ذلك فلا يستأذن أبويه في الخروج إليه وما كان فضيلة لم يخرج إليه حتى يستأذن أبويه"().
4ـ العلوم المساعدة أو ما يسميه بعض أهل العلم بـ "علوم الآلة" كاللغة العربية والبلاغة والأصول والمصطلح وعلوم القرآن يطلب منها ما يحقق المقصود الأصلي وهو القيام بعبادة الله تعالى، التي خلقنا من أجلها، وإلا دخل ذلك في باب الترف العلمي، والله اعلم.(1/6)
فلا يطلب من طالب علم النحو أن يكون كسيبويه، و من طالب اللغة أن يكون كالخليل والأزهري، ومن طالب البلاغة أن يكون كالجرجاني، يكفيه من كل ذلك ما يحتاجه لفهم القرآن والسنة، والقيام بما أوجبه الله عليه من عبادته!
الأصل الثاني :
العلم المقصود في الآيات والأحاديث هو العلم الشرعي، أمّا العلوم الكونية والطبيعية والواقعية فإنها من باب فروض الكفايات.
وتدخل تحت قوله تعالى { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِن رِبَاطِ الْخَيْلِ} [التوبة :60]. وتدخل تحت قاعدة: "لا ضرر ولاضرار". وتدخل تحت قاعدة "وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب".
ومن الأمور التي تنبني على هذا الأصل :
1ـ أنه لا يطلق القول عن شيء من العلوم غير العلوم الشرعية: إنها فرض على كل مسلم أو طالب علم، كقول بعضهم : أن ما يسمى بفقه الواقع الذي يدور حول تتبع التحليلات والأخبار من الصحف والمجلات؛هو علم واجب يجب على كل طالب علم تعلمه.
2ـ أن العلم الذي مدحه السلف وأرادوه في كلامهم هو علم الشرع وهو المقصود في مثل قول معاذ: "تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية وطلبه عبادة ومدارسته تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة وبذله لأهله قربه وهو الأنيس في الوحدة والصاحب في الخلوة والدليل على السراء والمعين على الضراء والوزير عند الأخلاء والقريب عند الغرباء ومنار سبيل الجنة، يرفع الله به أقواماً فيجعلهم في الخير قادة وسادة، يقتدي بهم، أدلة في الخير تقتفى آثارهم وترمق أفعالهم".
إذاً من الأمور الذي تنبني على هذا الأصل أن العلم الذي مدحه الله تعالى ومدحه الرسول صلى الله عليه وسلم ومدحه السلف من الصحابة والتابعين هو العلم الشرعي وإن ما عداه من العلوم ليس هو المقصود مدحه في تلك الآيات والأحاديث وكلام السلف .
فعلم الطب وعلم الهندسة وعلم الكيمياء وعلم الفيزياء ليست هي المقصود في الآيات والأحاديث .(1/7)
فإذا عرفنا هذا ،فما هو الحكم لتعلم هذه العلوم ؟
أقول :هو من باب فروض الكفايات تحصيلها من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .تحصيلها من باب قوله تعالى { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِن رِبَاطِ الْخَيْلِ }[ التوبة :60]
هذا حكم هذه العلوم إذا قام بها البعض سقطت عن الآخرين .
ما ذكرته لكم من أنه لا يطلق القول من أن هذه العلوم أو نحوها واجبة على كل مسلم ينبني على هذا الأصل .
إذاً ومن باب أولى ما كان من هذه العلوم يتعلق بما يأتي في الصحف وفي المجلات فإنه لايطلق القول فيها أنها من العلوم الواجب تعلمها على كل طالب علم .
الأصل الثالث:
الإخلاص في طلب العلم شرط تتابعي لا ابتدائي.
ومعنى ذلك أن طالب العلم يحرص على متابعة الإخلاص في نفسه، و لا يمتنع عن الطلب بدعوى أنه لم يتحقق لديه الإخلاص.
ومعنى الإخلاص فسره بعض أهل العلم فقال ابن جماعة : "هو حسن النية في طلب العلم بأن يقصد به وجه الله تعالى، والعمل به، وإحياء الشريعة وتنوير قلبه وتجلية باطنه والقرب من الله تعالى يوم القيامة، والتعرض لما أعد لأهله من رضوانه وعظيم فضله".
قال سفيان الثوري رحمه الله: "ما عالجت شيئاً أشد عليّ من نيتي" .
و لا يقصد به الأغراض الدنيويه من تحصيل الرياسة والجاه والمال ومباهاة الأقران، وتعظيم الناس له، وتصديره في المجالس ونحو ذلك فيستبدل الأدنى بالذي هو خير.
قال أبو يوسف رحمه الله:" يا قوم أريدوا بعلمكم الله تعالى، فإني لم أجلس مجلساً قط أنوي فيه أن أتواضع إلا لم أقم حتى أعلوهم، ولم أجلس مجلساً قط أنوي فيه أن أعلوهم إلا لم أقم حتى افتضح.
والعلم عبادة من العبادات وقربة من القرب فإن أخلصت فيه النية قبل وزكي وتمت بركته، وإن قصد به غير وجه الله تعالى، حبط وضاع وخسرت صفقته وربما تفوته تلك المقاصد و لا ينالها فيخيب قصده ويضيع سعيه"اهـ ().
وينبني على هذا الأصل أمور أهمها:(1/8)
أن ما يلم به الشيطان قلب بعضهم يريد صرفهم عن العلم بدعوى ترك الطلب حتى يتحقق إخلاص النية، حيلة شيطانية ومكر وخديعة. بل على المسلم أن يستمر في طلب العلم ويتابع نيته، كما قال سفيان الثوري: "ما عالجت شيئاً اشد عليّ من نيتي"، هذا وهو سفيان، فمن باب أولى غيره! فلا يجعل ذلك صارفاً له عن طلب العلم.
ولمّا قال هشام الدستوائي رحمه الله: "والله ما أستطيع أن أقول: إني ذهبت يوماً قط أطلب الحديث أريد به وجه الله".
علّق عليه الذهبي رحمه الله بقوله: "والله ولا أنا". فقد كان السلف يطلبون العلم لله فنبلوا، وصاروا أئمة يقتدى بهم، وطلبه قوم منهم أوّلاً لا لله، وحصّلوه ثم استفاقوا وحاسبوا انفسهم فجرّهم العلم إلى الإخلاص في أثناء الطريق. كما قال مجاهد وغيره:" طلبنا هذا العلم وما لنا فيه كبير نية، ثم رزقنا الله النية بعد".
وبعضهم يقول:" طلبنا هذا العلم لغير الله فأبى العلم أن يكون إلا لله" فهذا أيضاً حسن، ثم نشروه بنية صالحة.
وقوم طلبوه بنية فاسدة لأجل الدنيا وليثنى عليهم، فلهم مانوَوْا.
قال عليه السلام: "من غزا ينوي عقالاً فله مانوى" ،وترى هذا الضرب لم يستضيئوا بنور العلم، و لا لهم وقع في النفوس، و لا لعلمهم كبير نتيجة من العمل، وإنما العالم من يخشى الله تعالى.
وقوم نالوا العلم وولوا به المناصب فظلموا وتركوا التقيد بالعلم وركبوا الكبائر والفواحش، فتباً لهم فما هؤلاء بعلماء.
وبعضهم من لم يتق الله في علمه بل ركب الحيل وأفتى بالرخص وروى الشاذ من الأخبار.
وبعضهم اجترأ على الله، ووضع الأحاديث فهتكه الله وذهب علمه، وصار زاده إلى النار.(1/9)
وهؤلاء الأقسام كلهم رووا من العلم شيئاً كبيراً وتضلعوا منه في الجملة، فخلف من بعدهم خلف بأن نقصهم في العلم والعمل وتلاهم قوم انتموا إلى العلم في الظاهر ولم يتقنوا منه سوى نزر يسير أوهموا به أنهم علماء فضلاء، ولم يدر في أذهانهم قط أنهم يتقربون به إلى الله؛ لأنهم ما رأوا شيخاً يقتدى به في العلم، فصاروا همجاً رعاعاً غاية المدرس منهم أن يحصل كتباً مثمنة يخزنها وينظر فيها يوماً ما، فيصحف ما يورده و لا يقرره، فنسأل الله النجاة والعفو، كما قال بعضهم:" ما أنا عالم و لا رأيت عالماً"().
هذا الأصل الثالث من الأصول المهمة وهو أن على الطالب أن يحرص على تحقيق الإخلاص لله عز وجل في طلبه للعلم وتحقيق الإخلاص أمر مطلوب قال تعالى :{وَمَآ أُمِرُوَاْ إِلاّ لِيَعْبُدُواْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ }[البينة :5] ، وكما تقدم طلب العلم الشرعي فيما يتحقق به عبادة الله هو من عبادة الله وهو من تحقيق لا إله إلا الله وبالتالي هو عبادة ينبغي أن يحرص فيها على الإخلاص والرسول صلى الله عليه وسلم يقول :" إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى "(2)، وعليه نقول : يجب على طالب العلم أن يحرص على تصحيح النية وإخلاصها لله عز وجل .
قد يقول قائل :هل معنى هذا أني لا أطلب العلم حتى أصحح نيتي ؟
أقول : لا ، أطلب العلم. وأنت في طلبك راجع نفسك وعالج نفسك في باب تصحيح النية .
فإن قال : أنا أريد أن أترك طلب العلم حتى أصحح نيتي ؟
أقول : هذه حيلة شيطانية فتح لك باباً من أبواب الخير يريد أن يصرفك عن ما هو خير وأولى،ولذلك استمر في طلب العلم وعالج نفسك فإن في علمك سيهديك إن شاء الله إلى إخلاص النية لله تعالى. والسلف كانوا يقولون :"طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون العلم إلا لله" .
الأصل الرابع :
العلم هو قول الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وقول الصحابة مع الإجماع والقياس الصحيح.(1/10)
فيفهم القرآن والسنة على ضؤ فهم الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
وهذا هو سبيل المؤمنين، قال تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلّى وَنُصْلِهِ جَهَنّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً}[النساء :115] ،ولله درّ القائل:
العلم قال الله قال رسوله ... قال الصحابة ليس خلف فيه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة ... بين الرسول وبين رأي سفيه
كلا ولا نصب الخلاف جهالة ... بين النصوص وبين رأي فقيه
كلا ولا ردّ النصوص تعمداً ... حذراً من التجسيم والتشبيه
قال الأوزاعي رحمه الله: "العلم ما جاء به أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فما كان غير ذلك فليس بعلم"()
وقد كان الزهري رحمه الله يكتب كلام التابعين وخالفه صالح بن كيسان ثم ندم على تركه ذلك().
وعلى هذا سار أبو حنيفة النعمان عليه من الله الرحمة والرضوان.
قال ابن المبارك رحمه الله: سمعت أبا حنيفة [رضي الله عنه] يقول: "إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نختار من أقوالهم، وإذا جاء عن التابعين زاحمناهم"() .
وسار عليه مالك بن أنس الأصبحي إمام دار الهجرة رحمه الله ورضي الله عنه وأرضاه.
قال مالك - وقد ذكر له كتابه الموطأ -: "فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول الصحابة والتابعين ورأيهم. وقد تكلمت برأيي على الاجتهاد، وعلى ما أدركت عليه أهل العلم ببلدنا ولم أخرج عن جملتهم إلى غيره"اهـ() .
وسبيل التزمه الشافعي رحمه الله ورضي عنه وأرضاه() .
قال الشافعي رحمه الله: "العلم طبقات:
الأولى: الكتاب والسنة؛ إذا ثبتت السنة.
ثم الثانية : الإجماع فيما ليس فيه كتاب و لا سنة.
والثالثة: أن يقول بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم و لا نعلم له مخالفاً منهم.
والرابعة: اختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم.(1/11)
والخامسة: القياس على بعض هذه الطبقات.
ولا يصار إلى شيء غير الكتاب والسنة وهما موجودان وإنما يؤخذ العلم من أعلى"().
وهو نهج أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله، ورضي عنه وأرضاه.
قال أحمد بن محمد بن حنبل: "إذا كان في المسألة عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث؛ لم نأخذ فيها بقول أحد من الصحابة و لا من بعدهم خلافه.
وإذا كان في المسألة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قول مختلف نختار من أقاويلهم ولم نخرج عن أقاويلهم إلى قول غيرهم.
وإذا لم يكن فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم، و لا عن الصحابة قول؛ نختار من أقوال التابعين..."().
وقال محمد بن الحسن: "ومن كان عالماً بالكتاب والسنة، وبقول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما استحسن فقهاء المسلمين، وسعه أن يجتهد رأيه فيما ابتلي به، ويقضي به ويمضيه في صلاته وصيامه وحجه وجميع ما أمر به ونهي عنه، فإذا اجتهد ونظر وقاس على ما أشبه ولم يأل وسعه العمل بذلك، وإن أخطأ الذي ينبغي أن يقول به"().
وقال محمد بن الحسن أيضاً: "العلم على أربعة أوجه:
ما كان في كتاب الله الناطق، وما أشبهه. وما كان في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المأثورة، وما أشبهها.
وما كان فيما أجمع عليه الصحابة رحمهم الله وما أشبهه.
وكذلك ما اختلفوا فيه لا يخرج عن جميعه؛ فإن أوقع الاختيار فيه على قول فهو علم تقيس عليه وما أشبهه.
وما استحسنه عامة فقهاء المسلمين، وما أشبهه وكان نظيراً له.
قال: ولايخرج العلم عن هذه الوجوه الأربعة"اهـ().
وينبني على هذا الأصل أمور منها:
1ـ أن طالب العلم عليه أن يعوِّد نفسه ضبط المسائل بأدلتها من الكتاب والسنة، على فهم السلف الصالح، وهنا تأتي أهمية الكتب المصنفة في آيات الأحكام وأحاديث الأحكام، والمصنفات في آثار الصحابة رضوان الله عليهم.
2ـ أن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم على قسمين : سنة ظاهرة صريحة. وسنة باطنة غير صريحة.(1/12)
أمّا القسم الأول : فالسنة الظاهرة الصريحة فهي ما أضيف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم صراحة من قول أو فعل أو تقرير، أو صفة خلقية أو خلقية. وهذه السنة عند المحدثين، والذي يتعلق منها بالحكم الشرعي التكليفي والوضعي هو القول والفعل والتقرير، ولذلك اقتصر على هذا الأصوليين والفقهاء؛ لأن قصدهم بيان الأحكام.
أمّا القسم الثاني : فالسنة غير الصريحة، وهي ما أضيف إلى الصحابي مما لا مجال للرأي فيه، أو مما له حكم الرفع، ويشمل ذلك الصور التالية:
ـ قول الصحابي فيما لا مجال للرأي فيه.
ـ قول الصحابي الذي لا مخلف له.
ـ قول الصحابي في سبب نزول الآية بصيغة صريحة.
ـ قوله في تفسير مرويه.
ـ ما نقل عنهم من اختلاف في صفات العبادات.
ولهذا على طالب العلم أن يشمر عن ساعده للاعتناء بالوارد عن الصحابة في مسائل العلم.
وهذا الجانب يقع فيه قصور من جهات:
الأولى: أن الغالب عدم الاعتناء ببيان الصحيح من الضعيف من الآثار.
الثاني: عدم تحرير قول الصحابي في المسألة.
الثالث: الهجوم على نسبة القول إلى الصحابي، قبل تحرير إن كان آخر القولين له أوْ لا.
3ـ ومن تمام هذا الأصل أن تعلم أنه لا يجوز لنا إحداث قول خارج عن أقوالهم في المسألة.
وقد اتفقت كلمتهم رحمة الله عليهم، على هذا النهج؛ فمن خرج عنه خرج عن سبيل المؤمنين. وقد سبق نقل كلماتهم في ذلك قبل قليل!
قال أبو المظفر السمعاني رحمه الله: "إنا أمرنا بالإتباع وندبنا إليه، ونهينا عن الابتداع وزجرنا عنه. وشعار أهل السنة اتباعهم للسلف الصالح، وتركهم كل ما هو مبتدع محدث"اهـ().
قال ابن تيمية رحمه الله: "من فسّر القرآن أو الحديث وتأوّله على غير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين فهو مفتر على الله، ملحد في آيات الله، محرِّف للكلم عن مواضعه. وهذا فتح لباب الزندقة والإلحاد، وهو معلوم البطلان بالإضطرار من دين الإسلام"اهـ().(1/13)
فليس لأحد أن يتأوّل الآية أو الحديث على معنى يخالف مخالفة تضاد المعنى الذي فسّره به صحابة الرسول رضوان الله عليهم.
قال ابن رجب رحمه الله: "وفي زماننا (قلت: وفي زماننا أوكد) يتعين كتابة كلام أئمة السلف المقتدى بهم إلى زمن الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد. وليكن الإنسان على حذر مما حدث بعدهم فإنه حدث بعدهم حوادث كثيرة، وحدث من انتسب إلى متابعة السنة والحديث من الظاهرية ونحوهم وهو أشد مخالفة لها لشذوذه عن الأئمة، وانفراده عنهم بفهم يفهمه، أو يأخذ مالم يأخذ به الأئمة من قبله"().
قلت: قال أحمد ابن حنبل رحمه الله: "إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام"().
4ـ ومن أجل هذا الأصل (وهو فهم القرآن العظيم والسنة النبوية على ضؤ فهم الصحابة رضوان الله عليهم)، ترى أهل السنة والجماعة، أهل الحديث، لا يخوضون في تفسير القرآن العظيم، وبيان معاني الحديث بمجرد اللغة، والرأي والمعقول؛ بل ينظرون في الآثار، ويجمعون ما جاء عن السلف في مصنفاتهم، ويبنون عليه فقههم واجتهادهم. وعلى خلافهم أهل البدع والأهواء!
قال ابن تيمية رحمه الله : "وقد عدلت المرجئة في هذا الأصل (يعني: الإيمان)، عن بيان الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان، واعتمدوا على رأيهم، وعلى ما تأوّلوه بفهمهم اللغة، وهذه طريقة أهل البدع؛ ولهذا كان الإمام أحمد يقول: أكثر ما يخطيء الناس من جهة التأويل والقياس.
ولهذا نجد المعتزلة والمرجئة والرافضة وغيرهم من أهل البدع يفسرون القرآن برأيهم، ومعقولهم، وما تأوّلوه من اللغة؛ ولهذا تجدهم لا يعتمدون على أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، فلا يعتمدون لا على السنة، و لا على إجماع السلف وآثارهم، وإنما يعتمدون على العقل واللغة.(1/14)
ونجدهم لا يعتمدون على كتب التفسير المأثورة، والحديث وآثار السلف، وإنما يعتمدون على كتب الأدب، وكتب الكلام التي وضعها رؤوسهم. وهذه طريقة الملاحدة أيضاً، إنما يأخذون ما في كتب الفلسفة وكتب الأدب واللغة، وأمّا كتب القرآن والحديث والآثار؛ فلا يلتفتون إليها.
هؤلاء يعرضون عن نصوص الأنبياء إذ هي عندهم لا تفيد العلم.
وأولئك يتأوّلون القرآن برأيهم وفهمهم بلا آثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وقد ذكرنا كلام أحمد وغيره في إنكار هذا وجعله طريقة أهل البدع"اهـ().
وقال أيضاً: "أهل البدع إنما دخل عليهم الداخل لأنهم أعرضوا عن هذه الطريق، وصاروا يبنون دين الإسلام على مقدمات يظنون صحتها إما في دلالة الألفاظ وإما في المعاني المعقولة. ولا يتأملون بيان الله ورسوله وكل مقدمات تخالف بيان الله ورسوله فإنها تكون ضلالاً"اهـ() .
وهجر الأحاديث والآثار السلفية، واعتماد مجرد اللغة والعقل في فهم القرآن والحديث، طريق ركبه في هذا القرن أهل الاستشراق، فإن أحوجهم البحث إلى خبر نقلوه من كتب الجاحظ، أو من كتاب الأغاني، أو من العقد الفريد، فإن ضاق عليهم النقل، قالوا: هذا مقتضى العقل!!
فالمسلم الذي يتبع ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، يقيد فقهه وفهمه للقرآن العظيم والسنة النبوية بفقه الصحابة رضوان الله عليهم، لا يخرج عنهم، فإن بدى له اجتهاد أو نظر في مسألة نظر هل له سلف فيها يأتمّ به، و إلا ترك؛ إذ كل خير في اتباع من سلف، وكل شر في ابتداع من خلف، وعليكم بالأمر العتيق.
الأصل الخامس :
العلماء ورثة الأنبياء. فيراعى الأدب معهم.(1/15)
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة والملائكة تضع أجنحتها رضا لطالب العلم وإن العالم يستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في الماء وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب إن العلماء ورثة الأنبياء إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وأورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر" (1).
قال أبو حاتم ابن حبان رضي الله عنه: " في هذا الحديث بيان واضح أن العلماء الذين لهم الفضل الذي ذكرنا هم الذين يعلمون علم النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره من سائر العلوم ألا تراه يقول العلماء ورثة الأنبياء والأنبياء لم يورثوا إلا العلم وعلم نبينا صلى الله عليه وسلم سنته فمن تعرى عن معرفتها لم يكن من ورثة الأنبياء"(2).
وينبني على هذا الأصل أمور منها:
1ـ الأدب مع العلماء .
فلا يمارى الشيخ.
لا يكثر عليه من السؤال.
لا يشغب في مجلسه.
يعظمه في خطابه وعند ذكره في غيبته.
يحسن الظن به وبعلمه.
ويتأدب في مجلسه.
ويعظمه في معاملته.
وليس معنى هذا أن لا يخالف الطالب شيخه إذا قام لديه الدليل الذي يلزم المصير إليه، فقد ورد عن أيوب السختياني رحمه الله : "إذا أردت أن تعرف خطأ شيخك فجالس غيره".
2ـ الأخذ عن الشيوخ هو الأصل في طلب العلم، فيأخذ الطالب عنهم يشافههم ويقتبس من هديهم وسمتهم، إذا كان معاصراً لهم، مدركاً لحياتهم! أو يأخذ عن كتبهم ومصنفاتهم فيقرأ فيها طالباً الاستفادة والتفهم، مع إحسان الظن!
الأصل السادس:
عوائق الطلب.
لمّا كان العلم طريقاً إلى الجنة.
ولمّا كانت الجنة محفوفة بالمخاطر.
إذا طريق العلم محفوف بالمكاره.
ففيه أمور كثيرة تكرهها النفس الأمّارة بالسؤ.
ولمّا كان العلم يسهل طريقاً إلى الجنة.
ولمّا كان إبليس تعهد بقطع الطريق إلى الجنة.(1/16)
فإن طريق العلم طريق يضع فيه إبليس من التلبيسات ما يحاول به صرف السالك له عن طلبته.
وإذا كانت أصول الخطايا هي: الحرص، والحسد، والكبر.
الحرص الذي أخرج أبانا آدم من الجنة، وبه وسوس له الشيطان، لما رأى حرصه على الجنة، {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبّكُمَا عَنْ هََذِهِ الشّجَرَةِ إِلاّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَآ إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النّاصِحِينَ} [الأعراف:20].
{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشّيْطَانُ قَالَ يَآدَمُ هَلْ أَدُلّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاّ يَبْلَى}[طه:120].
الحسد الذي أوقع العداوة بين ابني آدم، لما قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، فبسط إليه يده ليقتله حسداً.
والكبر هو الذي أوقع إبليس في الكفر، {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}البقرة :35] .
أقول : إذا كانت هي أصول الذنوب والخطايا تعود إلى هذه المذكورات، فإن صوارف وعوائق الطلب تعود إليها كذلك!
ومن ذلك :
1ـ قد يوقع حرص الطالب على العلم ـ إذا لم يراع الحقوق الأخرى عليه ـ إلى تركه للعلم وتضييعه، ولهذا صور:
ـ إذا ضغط الطالب على جدوله في التحصيل فيشتغل في كل يوم ويحضر عدة دروس وحلقات، فلا يريح بدنه، وإن لنفسك عليك حقاً و إن لبدنك عليك حقاً، فاعط كل ذي حق حقه. وإن المنبت لا ظهراً أبقى و لا طريقاً قطع.
ـ قد يجر الحرص الطالب إلى الانتقال من علم إلى آخر قبل إتمام الأول، فيحرم الفهم والتمكن في العلمين جميعاً.
ومثاله : إذا بدأ في كتاب ثم يسمع عن درس آخر في مكان آخر فيترك إتمام الكتاب الأول على الشيخ فيأتي للدرس الآخر وهذا كله من الحرص وهذا في الأصل خير لكنه قد يوقع في عكس مطلوبه .(1/17)
وهنا أتذكر كلمة قال بعض السلف: "إن الشيطان يفتح تسعاً وتسعين باباً من أبواب الخير، ليوقع في باب من أبواب الشر".
قال ابن شهاب الزهري رحمه الله ليونس بن يزيد: "يا يونس لا تكابر العلم؛ فإن العلم أودية، فأيها أخذت فيه قطع بك قبل أن تبلغه ولكن خذه مع الأيام والليالي، ولاتأخذ العلم جملة فإن من رام أخذه جملة ذهب عنه جملة، ولكن الشيء بعد الشيء مع الأيام والليالي"().
2ـ قد يحرم الحسد طالب العلم نيل العلم، ومن صور ذلك:
ـ أن يحسد أقرانه في الطلب فقد يفوته فهم المسألة فيستنكف أن يسألهم حسداً منه لهم فلا يتباحث معهم و لا يتذاكر وحياة العلم مذاكرته فيحرمه ذلك طلب العلم.
ـ أن يحسد أستاذه ومدرسه على ما لديه فيشغب عليه في درسه و لا يريده أن يعلمهم ويستفيد.فيرى أن لا فرق بينه وبين شيخه فيحرمه ذلك طلب العلم .
ـ أن يحسد زملائه على فهمهم وحرصهم فيشغب في الدرس حتى يحرمهم الفائدة حسداً، وهو يحرم بهذا نفسه.
واصبر على حسد الحسود فإن صبرك قاتله
النار تأكل بعضها إذا لم تجد ما تأكله
3ـ وقد يمنع الكبر طالب العلم من التعلم والتعليم. ومن صور ذلك:
ـ قد يوفق الله لنيل العلم من يراه الحسود المتكبر دونه فلا يتعلم منه.
ـ ترك عزو العلم إلى ناقله يحرمه بركة العلم، وقد يكون باعثه إلى ذلك الحسد أو الكبر.
ـ قد يحرمه التكبر فهم ما أشكل عليه أو سؤال الشيخ للفهم والتعلم، بل قد يحرمه الطلب أصلاً أنفة أن يجلس مجالس طلاب العلم بين يدي الشيوخ.
ـ أن يتكبر على أقرانه فيستنكف عن سؤالهم والاستفهام منهم عما أشكل عليه أو عن ما غاب.
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان() عن أبي حازم قال: "لا تكون عالماً حتى تكون فيك ثلاث خصال:
لا تبغي على من فوقك
ولا تحقر من دونك
ولا تأخذ على علمك دنيا"
ـ قد يجره الكبر إلى المفاخرة والدعاوى والمماراة وهي من الأمور المنهي عنها شرعاً.(1/18)
عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء أو تماروا به السفهاء ولا لتحيزوا به المجلس فمن فعل ذلك فالنار النار"(2).
الأصل السابع: وسائل تثبيت العلم.
من أهم وسائل تثبيت العلم : العمل به، وتعليمه والتأليف فيه.
وهذه الأصول هي المشار غليها في قوله تعالى: {والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} [سورة العصر].
فقد حكم الله بالخسران على جميع الناس ثم استثنى من ذلك الذين ءامنوا ما دام ءامنوا فقد حصلوا العلم النافع ثم عملوا ثم دعوا إلى هذا العمل والعلم النافع الذي كان لديهم فأهم وسائل تثبيت العلم العمل به وتعليمه والتأليف والتصنيف .
والعمل بالعلم من أهم ما يثبت العلم، بل هو المقصد الأصلي لطلب العلم. وقد جاء عن السلف: "نادى العلم العمل فإن أجابه وإلا ارتحل".
قال وكيع: "كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به"().
وتحت العمل بالعلم يأتي الكلام عن ترك الذنوب والمعاصي إذ الوقوع فيها خلاف مقتضى العلم.
وفي هذا المعنى الأبيات الشهيرة:
شكوت إلى وكيع سؤ حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأنبأني بأن العلم فضل وفضل الله لا يؤتى لعاصي
عن محمد بن النضر الحارثي قال: "كان يقال أول التعليم الإنصات له ثم الاستماع له ثم حفظه ثم العمل ثم النشر"
قال سفيان : "العالم لا يماري ولا يداري ينشر حكمة الله فإن قبلت حمد الله وإن ردت حمد الله"().
عن جابر قال: "تعلموا الصمت ثم تعلموا الحلم ثم تعلموا العلم ثم تعلموا العمل ثم انشروا"().
وقد كانوا يحرصون على العمل بالأحاديث التي تبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى ولو لم يظهر فيها معنى التعبد، اتباعاً لما كان عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم.
قال عبدالرحمن بن مهدي سمعت سفيان يقول: "ما بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث قط إلا عملت به ولو مرة"().(1/19)
وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: "ما كتبت حديثاً إلا وقد عملت به، حتى مرّ بي أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى أبا طيبة ديناراً فأعطيت الحجام ديناراً حين احتجمت"().
فإذا أخلص في العلم وعمل كان تطلعه للآخرة وإنما يمشي على الأرض هونا.
عن إبراهيم بن أدهم يقول: "من طلب العلم خالصا ينفع به عباد الله وينفع نفسه كان الخمول أحب إليه من التطاول فذلك الذي يزداد في نفسه ذلا وفي العبادة اجتهادا ومن الله خوفا وإليه اشتياقا وفي الناس تواضعا لا يبالي على ما أمسى وأصبح من هذه الدنيا"().
وتعليم العلم يثبته، و ليس معنى هذا أن يحر ص الحدث على التصدر، ولكن المراد أن يسعى إلى أن يذاكر بعلمه ويبذله لمن يسأله من زملائه ومن هم دونه، فيعلمهم ويعيد عليهم الدرس، لا سعياً للمشيخة عليهم، والتصدر قبل الأوان فإن هذا من المخاطر العظيمة، حتى قالوا: "تزبب قبل أن يحصرم"، وقال الشافعي: "إذا تصدر الحدث فاته خير كثير".
و التصنيف فيه: أن يدون المسائل ويرتبه، ويقيم بحثه فيها على أساس الدليل، وجمع كلام أهل العلم في كل مسألة مصنفاً ومرتباً، متجنباً الغرائب والشواذ، حريصاً على طلب الحق.
وليس المقصود من اشتغال الطالب بالتصنيف أن يسعى ويقصد إخراجه للناس، فإن الطالب في هذه المرحلة لمّا يبلغ هذا الحد بعد، وإنما يعرض كتبه ومصنفاته على أهل العلم ومن فوقه وقبله في الطلب مسترشداً مستأنساً بكلامهم وتوجيهاتهم، المقصود أن التصنيف في العلم يساعد على حفظ العلم والمسائل.
الأصل الثامن :
مقامات النظر في مسائل العلم.
كل مسألة علمية يمر النظر فيها على أربعة مقامات، يصل بعدها طالب العلم إلى معرفة الراجح في المسائل المختلف فيها، وهذه المقامات هي:
المقام الأول : ثبوت الدليل .
المقام الثاني : صحة الاستدلال بالدليل.
المقام الثالث: السلامة من الناسخ.
المقام الرابع : السلامة من المعارض.(1/20)
وهذه المقامات تمر بها أي مسألة يطلب النظر والترجيح فيها.
مسائل العلم كثيرة ولكن من تأصيل طالب العلم أن يراعي هذا الأصل أنه إذا نظر في كل مسألة يراعي أولاً ثبوت الأدلة فيها ثم ينظر ثانياً في صحة الاستدلال فيها ثم ينظر ثالثاً سلامة هذه الأدلة من النسخ ثم ينظر رابعاً سلامتها من المعارض ونضرب على ذلك مثالاً :
نواقض الوضوء كثيرة نأخذ منها مثلاً ( نقض الوضوء بالقيء) فقرأ الطالب نقض الوضوء بالقيء، فقال: أنا أريد أن أنظر في هذه المسألة فنقول: له نعم أنظر في هذه المسألة هل ثبت دليل في أن القيء ينقض الوضوء .قال :نعم أورد العالم حديث "أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ "وهذا الحديث حديث صحيح .إذاً ثبت المقام الأول ( ثبوت الحديث ) فينظر في المقام الثاني صحة الاستدلال هل يصح الاستدلال بهذا الحديث على أن القيء ناقض للوضوء .ينظر هل في الحديث دلالة واضحة على أن وضوء الرسول صلى الله عليه وسلم كان من أجل القيء ؟ لايوجد للحديث دلالة واضحة على أن وضوء الرسول كان من أجل القيء .لماذا؟ لأن ليس فيه إلا مجرد الفعل ،والفعل المجرد عند العلماء لا يدل على الوجوب إنما يدل على الاستحباب .
ويعنون بالفعل المجرد الفعل الذي يأتي من الرسول لا يقع بياناً لمجمل من آية أو حديث آخر . هل نأخذ من هذا الحديث أنه يجب على من قاء أن يتوضأ؟ لا .لا نأخذ هذا من الحديث .
إذاً نقول هذا الحديث مع صحة دلالته على نقض الوضوء بخروج القيء فيه نظر ووجه النظر أن الحديث لم يشتمل إلا على مجرد فعل وهو لا يدل على الوجوب إذاً طبق طالب العلم المقام الأول والمقام الثاني وانتهت المسألة على هذه الصورة ولا يحتاج إلى تطبيق المقام الثالث والرابع .
وقد تأتيه مسائل تتجاذب فيها الأحاديث فنأخذ مسألة ثانية من مسائل نقض الوضوء مثلاً حديث " من مس فرجه فليتوضأ "(1/21)
نقول طبق القاعدة :بحث فوجد أن هذا الحديث مختلف فيه والراجح أنه حديث حسن فانتهى من الأصل الأول ،يأتي إلى المقام الثاني هل يصح الاستدلال به نقول: نعم الاستدلال به صحيح ظاهره يدل على أن الوضوء ينتقض بمس الفرج ،بعد ذلك يأتي للمقام الثالث ينظر في السلامة من الناسخ هنا في هذا الحديث .حكى بعض أهل العلم أنه منسوخ وأن الناسخ له حديث طلق رضي الله عنه قال :" سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مس الفرج فقال : هل هو إلا بضعة منك " ، وقال بعض العلماء هذا الحديث متأخر وذاك الحديث متقدم فينسخ المتقدم بالمتأخر . إذاً هذا الحديث الثاني نسخ الحديث الأول وتجد بعض العلماء يقول أنا لا أسلم القول بالنسخ لأن الأصل عدم النسخ لكن هذا الحديث يعارض الحديث الأول ، فينقل إلى المقام الرابع السلامة من المعارض : فيقول هذا الحديث يعارض الحديث الأول وأنا أجمع بينهما فأقول من مس فرجه بشهوة انتقض وضوءه عملاً بحديث " من مس فرجه فليتوضأ " ومن مس فرجه مثل أي عضو من أعضائه أي بدون شهوة فإن وضوءه لا ينتقض لقوله صلى الله عليه وسلم " هل هو إلا بضعة منك "وآخرون ومنهم محمد بن يحيى الذهلي شيخ البخاري يقول أحمل الحديث الأول على الاستحباب لا على الوجوب بقرينة الحديث الثاني وأجمع بين الحديثين بهذه الطريقة وهذا اختيار شيخ الاسلام ابن تيمية قال مس الفرج لا ينقض الوضوء إنما يستحب معه الوضوء جمعاً بين الحديثين وهذا قاله محمد بن يحيى الذهلي كما حكاه عنه الحاكم في "معرفة علوم الحديث".
إذاً هذه مسائل العلم أي مسألة تطبق فيها هذه المقامات الأربع .
والمقصود بهذا الأصل أن ترك مراعاة هذه المقامات عند النظر في المسائل العلمية يوقع طالب العلم في ما يسمى بعدم التحرير للمسائل، ومن مهمات طالب العلم أن يسعى إلى تحير العلم الذي لديه، وذلك ممكن عن طريق مراعاة هذه المقامات عند النظر في كل مسألة، تعددت فيها الأقوال وتنوع فيها الاستدلال.(1/22)
ويقصد بالنظر في ثبوت الدليل، أن ينظر الطالب في الدليل هل هو ثابت أم لا؟
فإذا كان الدليل آية قرآنية فالقرآن ثابت متواتر لا نظر فيه من جهة ثبوته.
وإذا كان الدليل حديثاً فإنه ينظر في ثبوت الحديث ودرجته من القبول والرد.
وإذا كان الدليل هو الإجماع، ينظر في صحة ثبوت الإجماع، وأنه لا مخالف في المسألة.
وإذا كان قياساً نظر في صحة شروط القياس وثبوتها. وإلا كان قياساً مع الفارق.
هذا مجمل ما يقصد بثبوت الدليل وتحت هذه الجملة تفاصيل كثيرة.
ويقصد بالنظر في صحة الاستدلال أن ينظر هل الدليل مطابق للدعوى، أم لا؟ فكم من مستدل بحديث صحيح لا يطابق دعواه، بل هناك من يستدل بآية قرآنية و لكنها لا تطابق دعواه! وذلك لعدم صحة الاستدلال!
ويقصد بالنظر في السلامة من الناسخ أن ينظر هل هذا الدليل الذي استدل به على الدعوى ثابت محكم أو هو من قبيل المنسوخ؟ ويطبق في ذلك قواعد الناسخ والمنسوخ؟
ويقصد بالنظر في السلامة من المعارض أن لا يكون الدليل قد جاء ما يخالفه، فيطبق قاعدة مختلف الحديث ومشكله.
وبعد هذه المقامات يسلم له القول الراجح!
الأصل التاسع :
الناس في العلم على قسمين :
ـ الذين يعلمون.
ـ الذين لا يعلمون.
ووظيفة الذين لا يعلمون أن يسألوا أهل العلم، ويأخذوا بقولهم، مع بذلهم لما يقدرون عليه في معرفة الحجج والبينات.
قال الله تبارك وتعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاّ رِجَالاً نّوحِيَ إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ . بِالْبَيّنَاتِ وَالزّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنِّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 42ـ43].
فمن علم حكم الشرع في المسألة بدليلها فهو من الذين يعلمون؛ فهو عالم .(1/23)
ومن أخذ بقول غيره دون معرفة الدليل فهو مقلد ليس بعالم. وقد نقل ابن عبدالبر الإجماع على أن المقلد وهو من يأخذ بقول غيره دون دليل ليس من العلماء.
ومن علم المسألة بدليلها، إن علمها بدليلها مع نظره في الأقوال المختلفة فيها وأدلتها، وأخذه بحسب الراجح عنده بما ظهر له فهو مجتهد.
ومن علم المسألة بدليلها، بمعنى أنه أخذ بالقول في المسألة الذي ظهر له دليله، دون أن يعمل نظره في الأقوال الأخرى وينظر فيها، إنما علم الراجح بدليله، فقط، فهو متبع.
والمجتهد أن كان هذا نهجه في جميع مسائل العلم، لا يلزم نفسه في النظر بأصول مذهب معين فهو المجتهد المطلق.
فإن الزم نفسه عند النظر في المسألة بأصول مذهب معين فهو مجتهد مقيد.
فإن كان حاله من الاجتهاد في جميع مسائل الشرع فهو المجتهد الكلي.
وإن كان هذا حاله في بعض المسائل دون بعض فهو المجتهد الجزئي. فقد يكون الرجل في مسألة مجتهداً اجتهاداً جزئياً، وفي مسألة متبعاً،
وفي مسألة مقلداً، وذلك بحسب ما تيسر له حال نزول النازلة التي تتعلق بها المسألة.
وعليه أن يحذر الرأي وهو الكلام في دين الله دون حجة صحيحة معتبرة.
واعلم يا أخي أن السنة والقرآن هما أصل الرأي والعيار عليه، وليس الرأي بالعيار على السنة، بل السنة عيار عليه، ومن جهل الأصل لم يصل الفرع أبداً.
وقال ابن وهب: حدثني مالك أن إياس بن معاوية قال لربيعة: إن الشيء إذا بني على عوج لم يكد يعتدل. قال مالك: يريد بذلك المفتي الذي يتكلم على أصل يبني عليه كلامه"اهـ().
قال الشافعي رحمه الله: "من تعلم القرآن عظمت قيمته.
ومن تكلم في الفقه نما قدره.
ومن كتب الحديث قويت حجته.
ومن نظر في الحساب جزل رأيه.
ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه"اهـ().(1/24)
وقال ابن حبان رحمه الله: "إن في لزوم سنته صلى الله عليه وسلم: تمام السلامة، وجماع الكرامة؛ لا تطفأ سُرُجها، ولا تدحض حججها، من لزمها عصم، ومن خالفها يُذم؛ إذ هي الحصن الحصين، والركن الركين، الذي بان فضله، ومتن حبله، من تمسك به ساد، ومن رام خلافه باد، فالمتعلقون به أهل السعادة في الآجل، والمغبوطون بين الأنام في العاجل"اهـ().
وبهذا تتم هذه المحاضرة، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك، وصل اللهم على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك اللهم على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.(1/25)