بسم الله الرحمن الرحيم
التأدب مع رسول الله في ضوء الكتاب والسنة
تأليف /حسن نور حسن
- شكر وتقدير:
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد.. فإن شكر النعمة أمر واجب لمعطيها ولمن كان سبباً لها لقوله تعالى: ((وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)) [لقمان:14].
ومن هذا المنطلق، أشكر الله تعالى على ما أسداه إليّ من نعم وفضل وبخاصة نعمة التوفيق والانتساب لجامعة أم القرى العريقة لأنهل من مواردها الصافية وبخاصة في مجال دراسة علوم القرآن والحديث.
وبعد شكر الله تعالى أتوجه بالشكر لعباده الخيرين القائمين على أمر كلية الدعوة وأصول الدين وعلى رأسهم سعادة عميد الكلية وسعادة وكيله وسعادة رئيس قسم الكتاب والسنة.
ولا يفوتني أن أوجه الشكر لسعادة الأستاذ الدكتور أحمد أحمد علوش على ما بذله معي في هذه الرسالة من نصح خالص وتوجيه سديد وإرشاد مستمر، وتشجيع صادق.
كما أني أشكر الأخ الفاضل الذي سعى إلى طبع هذه الرسالة والله أسأل أن يجزيه عني خير الجزاء.
وأخيراً وليس آخراً أشكر للقائمين على إدارة دار المجتمع بجدة التي تولت طبع هذه الرسالة.
وختاماً أشكر لكل من ساعدني ولو بالدعاء والأماني الطيبة وجزى الله الجميع خيراً والله الموفق.
المؤلف
المقدّمة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أنّ لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.(1/1)
وبعد: فإنّ كل مسلم مخلص يجد نفسه مرتبطاً برسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب الفضل في إيصال الإسلام إلى الناس كافة فهو الذي بواسطته جاء الوحي بشقيه القرآن والسنة إلى البشر أجمعين، يأخذون منهما منهج السعادة في الدنيا والآخرة.
وقد أراد الله -سبحانه وتعالى- بفضله ومنّه الخير لي إذ جعلني من طلاب العلم الذين يدرسون العلوم الشرعية، وبالأخص علوم القرآن الكريم والسنة النبوية اللذين هما مصدرا الإسلام الأساسيان.
وهذه نعمة من نعم الله تعالى التي لا تعد ولا تحصى: ((وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)) [النحل:18].
وأشكر الله على ذلك آملاً في المزيد.
((لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ)) [إبراهيم:7].
وقد ازداد هذا الخير بأن مكّنني الله من الاستمرار في نفس التخصص في مرحلة الدراسات العليا حيث قبلت بالدراسات العليا الشرعية بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة أم القرى فرع الكتاب والسنة في بلد الله الحرام الذي تهوى إليه أفئدة المؤمنين من أنحاء المعمورة تحقيقاً لدعوة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام كما حكى لنا القرآن الكريم: ((رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)) [إبراهيم:37].
وهذه نعمة أخرى أحمد الله سبحانه وتعالى عليها وأشكره وأنا راض سعيد، حيث ازدادت صلتي بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتحققت أمنيتي بالاستمرار في هذا الطريق الحبيب.(1/2)
ولمّا حان موعد كتابة رسالة الماجستير لم أجد أفضل من أن أعيش مع صاحب الرسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله أسوة وقدوة للمؤمنين ليقتدوا به. حيث يقول سبحانه: ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)) [الأحزاب:21].
وقد عشت مع هذا الأمل ووفقني الله لاختيار موضوع: (التأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم في ضوء الكتاب والسنة) عساي أن أوضح هذا الجانب الهام الذي يحتاج إليه البشر عموماً والمسلمون على وجه الخصوص.
وأهمية كل دراسة ترتبط بموضوعها، وبذلك يأخذ موضوعي هذا أهمية كبرى لتعلقه بأسلوب التعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته وتعاليمه حياً وميتا.
فلقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحق للناس جميعاً، يدعوهم للهدى، ويوجههم للخير، ويحرص على تحقيق المصلحة يقول تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً)) [سبأ:28].
ويقول تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً)) [الأحزاب:45-46].
ويقول تعالى: ((وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) [الشورى:52].
ويقول تعالى: ((لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)) [التوبة:128].(1/3)
ولرسول الله صلى الله عليه وسلم فضل على أمته، فلقد بلغهم الوحي ونصحهم وأتم لهم الدين وكمل لهم الرسالة وأدى الأمانة المكلف بها من قبل الله على أتم وجه بشهادة الصحابة في حجة الوداع حينما قال لهم أثناء خطبته بوادي عرنة يوم عرفة قال: (وأنتم مسؤولون عنّى فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنّك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها(1) إلى الناس: اللهم أشهد اللهم أشهد) ثلاث مرات(2).
وقد منّ الله على المؤمنين ببعثه صلى الله عليه وسلم فيهم معلماً ومزكياً ورسولاً يأخذهم إلى طريق الفوز والنجاة.
يقول تعالى: ((لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)) [آل عمران:164].
يقول بعض المفسرين: (اعلم أنّ بعثة الرسول إحسان من الله إلى الخلق، ثم أنّها لمّا كان الانتفاع بالرسول أكثر كان وجه الإنعام في بعثه الرسل أكثر. وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم كانت مشتملة على الأمرين:
أحدهما: المنافع الحاصلة من أصل البعثة.
الثاني: المنافع الحاصلة بسبب ما فيه من الخصال التي ما كانت موجودة في غيره.
__________
(1) ينكتها بتاء مثناة من فوق في رواية مسلم والصواب ينكبها بباء موحدة كما قال القاضي عياض ومعناه يقلبها ويرددها إلى الناس مشيراً إليهم من نكب كنانته إذا قلبها. وهكذا في شرح النووي على صحيح مسلم (8/184)، ويشهد له رواية أبي داود وابن ماجة حيث وردت فيها بالباء الموحدة. انظر سنن أبي داود، كتاب المناسك، باب صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم (2/85)، وسنن ابن ماجة، كتاب المناسك، باب حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم (2/1025).
(2) صحيح مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-.(1/4)
أما المنفعة بسبب أصل البعثة فهي التي ذكرها الله تعالى في قوله: ((رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً)) [النساء:165].
وأمّا المنافع الحاصلة بسبب ما كان في محمد صلى الله عليه وسلم من الصفات فأمور ذكرها الله تعالى في هذه الآية)(1).
والخصال التي تشير إليها هذه الآية هي: أنّه صلى الله عليه وسلم من أنفسهم لا من غيرهم من الأجناس الأخرى من الأمم ولا من المخلوقات الأخرى كالملائكة وأنّه يبلغ إليهم الوحي ويزكيهم من كل مخلفات الجاهلية من عبادة الأصنام والأوثان ويعلمهم القرآن والسنة مع أنهم كانوا قوماً أميين كما تشير إليه آية أخرى وهي قوله تعالى: ((هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)) [الجمعة:2].
وكما منّ الله تعالى على المؤمنين ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم فيهم، وجههم إلى ضرورة التأدّب معه وذلك يتم بعدة وجوه تشير إليها الآيات التالية: يقول تعالى: ((وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)) [الحشر:7].
ويقول تعال: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)) [الحجرات:1].
ويقول تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ)) [الحجرات:2].
ويقول تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)) [الأحزاب:56].
__________
(1) التفسير الكبير للأمام فخر الدين الرازي (9/78).(1/5)
ويقولى تعالى: ((لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً)) [النور:63].
ومجمل الآيات يوضح مسؤولية المسلم إزاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من ناحية الطاعة العملية والاعتقاد القلبي والسلوك الخلقي والكيفية التي يجب على المسلم أن يتعامل بها مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع شرعه حيّاً وميّتا. وعلى الجملة أهمية الموضوع تنحصر فيما يلي:
أولاً: أنّ المسلم يجد نفسه مرتبطاً برسول الله صلى الله عليه وسلم بذكره آناء الليل وأطراف النهار -فهو يشهد له بالرسالة في كلمة التوحيد وفي التشهد وفي الأذان ويصلي عليه في الصلوات المكررة كل يوم ويراه في كل عبادة وحياة المؤمن كلها عبادة وحيث أنّ الأمر كذلك فهو في حاجة إلى أن يعرف مقام رسول الله بحق حتى يتأدب معه بطريقة مشروعة وبمنهج مثاب عليه.
ثانياً: هنالك من الناس من يغفل عن التأدب مع رسول الله -عن جهل أو عن تقصير- ويحتاج هذا الأمر إلى بيان كيفية التأدب مع رسول الله لكي يلتزم المقصر باقتناع ويصحو الغافل بعلم.
ثالثاً: وهناك فريق من المسلمين يغالون في التأدّب مع الرسول ويتصورون المغالاة ديناً، ولذا وجب أن يحدد الأدب المشروع بدليله الصحيح لتبطل المغالاة، ويستقيم الناس على الحق والصواب.
رابعاً: ظهرت بعض مذاهب منحرفة تدعي حب الرسول والتوجه إليه بأدب. وتخترع في سبيل ذلك شرائع وعقائد بقصد تشويه تعاليم الإسلام الصحيحة، وصرف المسلمين عن حقيقة الإسلام وتطبيقاته، وهذا أمر يحتاج إلى التصدي بالعلم وبالأدلة الصحيحة من الكتاب والسنة ليتبين الرشد من الغي ويحيا من يحيا عن بيّنة، ويضل من يضل عن بينة كذلك.
خامساً: الأدب مع الرسول بصورة عامة من القضايا التي يحتاج إليها كل مسلم في كل عصر ومصر، ولذا فإن جمعه في مؤلف واحد يوضح الطريق وييسر الاستفادة أمر يستحق الاهتمام وخاصة في عصرنا الحاضر المليء بالنظريات الهدامة.(1/6)
ولتحقيق تلك الأهداف التي أشرت إليها اتبعت منهجاً علمياً يعتمد على الأسس التالية:
(أ) قسّمت الموضوع إلى أبواب وفصول ومباحث حسب ما تتطلبه الدراسية وعلى ضوء التسلسل العلمي السليم.
(ب) في كل مبحث أبيّن المراد منه ثم أوضّح آراء العلماء فيه.
(ج) أورد أدلة كل فريق من العلماء في المسائل المختلف فيها مع توجيه الأدلة نحو الرأي التي سيقت له كما ذكر العلماء أنفسهم.
(د) أعقد مناقشة بين الأدلة وذلك بمواجهة أدلة كل فريق بأدلة معارضيه.
(هـ) انتهي من المسألة ببيان الرأي الراجح مع بيان وجه الترجيح.
وقد اعتمدت على القرآن الكريم والسنة النبوية وعلى عديد من المصادر والمراجع الأصلية التي لها صلة بالموضوع ككتب التفسير وكتب السنة وشروحها وكتب السيرة والمغازي وكتب الشمائل والخصائص وكتب العقيدة والفرق، وكتب الفقه وأصوله، وغيرها من الكتب.
(و) بالنسبة لآيات القرآن وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم فسوف أجعلها في قوسين، واحد في بدايتها وآخر في نهايتها مع وضع نقاط في البداية إذا كان النص جزءاً ممّا قبله، وأمّا إذا كان ما بعده جزءاً منه فسوف أضع النقاط في آخر الكلام لبيان أنّ النص لم ينقل بأكمله، وأمّا إذا حذفت بعض النص من الوسط فسوف أضع النقط في الوسط للعلة نفسها بشرط أن يكون الحديث من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
وبالنسبة للنصوص المقتبسة من غير القرآن الكريم والسنة النبوية فسوف أحصرها بعلامات الاقتباس "" هكذا مع وضع النقاط في مواطن الحذف التي أشرت إليها.
وكل هذا في النصوص التي لم أتعرض لها بالتصرف، وأمّا إذا أحلتها إلى أسلوبي الخاص فسوف أكتفي بالإشارة إلى مصدرها أو مرجعها في الهامش مع الذكر أني تصرفت فيها تحقيقا للأمانة العلمية.
وسوف أقوم أيضاً بعزو كل نص مقتبس إلى موضعه الأصلي وفق المنهج الآتي:
أولاً: النصوص القرآنية: أشير في الهامش إلى اسم السورة ورقم الآية.(1/7)
ثانياً: أما النصوص النبوية فسوف أقوم بعزوها إلى مصادرها الأصلية مكتفياً بمصدر واحد إذا لم يكن هناك ما يقتضي ذكر أكثر من مصدر مع الإشارة إلى اسم الكتاب والباب والجزء والصفحة في الهامش.
وبالنسبة لدرجة الحديث، فسوف أذكر من نص من الأئمة على ذلك صحة وضعفاً إذا كان في غير الصحيحين لاتفاق الأمة على قبول ما ورد فيهما مرفوعاً مسنداً.
ومن ناحية أسانيد الأحاديث فلا أتطرق إلى رجالها إلا ما ورد في الباب الثالث من هذه الرسالة وخاصة أسانيد الأحاديث من طرف الخصم المرجوح مع الاكتفاء بذكر الرجل المجروح من قبل أئمة هذا الشأن لا كل الرجال في السند لحصول الغرض بواحد أو اثنين منهم في مقام التضعيف والرد بعكس ما هو مطلوب في مقام التصحيح والقبول إذ أن وجود رجل واحد في السند يكفي لرد قبول الاحتجاج بالحديث وليس العكس كما هو معلوم.
من ناحية النصوص المقتبسة من كتب المعاجم والقواميس فأذكر المادة أحياناً مع الإشارة إلى اسم الكتاب والجزء والصفحة.
من ناحية النصوص المقتبسة من المراجع والمصادر غير ما ذكرت فسوف أقوم بعزوها إلى مرجعها مع الإشارة إلى الاسم المتعارف عليه للكتاب والجزء والصفحة في الهامش وأؤخر اسم الكتاب كاملاً في ثبت المراجع مع ذكر الطبعة وتاريخها ودار النشر ومكانها إن أمكن.
بالنسبة لمؤلفي المصادر والمراجع فلا أتطرق إلى الترجمة لكل واحد بل أكتفي بذكر اسمه المشهور مع كتابه في أول وروده وأؤخر ذكر اسمه الكامل مع كتابه في ثبت المراجع إذا كان المؤلف من المشهورين أو المعاصرين، وأمّا غيرهم فسوف أضيف إلى ذلك ترجمة موجزة لهم أذكر فيها أسماءهم كاملة وتاريخ ولادتهم ووفاتهم كلما أمكن ذلك.
هذا هو المنهج الذي اتبعته مع النصوص الواردة في هذا البحث، وقد جاء مشتملاً على مقدمة وثلاثة أبواب وخاتمة.(1/8)
ففي المقدمة: تحدثت عن أهمية الموضوع وسبب اختياري له، والمنهج الذي اتبعت في بحثه، وأهم المشاكل التي واجهتني وخطة البحث بإجمال.
وأما في التمهيد: فقد تحدثت فيه عن تعريف الأدب في اللغة وفي الاصطلاح وضرورة الالتزام بالتأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم بما جاء في القرآَن الكريم والسنة النبوية الثابتة.
وفي البالب الأول: تحدثت فيه عن أسباب قيام الأمة بالأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم وذكرت فيه نسبه الطاهر وتربيته وأهم صفاته قبل النبوة وبعد النبوة ومواقفه من المشركين المعاندين لرسالته من احتمال الأذى وعدم خضوعه لمغرياتهم، وإكمال الدين على يديه.
وفي الباب الثاني: -وهو أهم الأبواب- فقد تحدثت فيه عن أنواع الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم وقد قسّمتها إلى ثلأثِة أنواع:
النوع الأول: الأدب القلبي -وهو ما كان محله القلب كالإيمان بنبوته- صلى الله عليه وسلم ومحبته.
النوع الثاني: الأدب القولي -وهو ما كان محله اللسان. مثل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
النوع الثالث: الأدب العملي -وهو ما كان محله الجوارح غير اللسان مثل اتباعه صلى الله عليه وسلم وتنفيذ أمره.
وفي الباب الثالث: -فقد تحدثت فيه عمّا ينافي التأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان يقصد فاعله التأدب بعينه عن جهل أو تأويل أو غير ذلك مثل الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم وشد الرحال إلى قبره صلى الله عليه وسلم دون مسجده وغيرها من البدع الأخرى التي تصحب ذلك أو تفعل في مسجده صلى الله عليه وسلم.
وفي الخاتمة: فقد ذكرت أهم النتائج التي توصلت إليها أثناء البحث.
ولا شك أنّ عملاً كهذا يتطلب جهداً كبيراً لإنجازه حتى يخرج إلى حيز الوجود في أكمل صورته.(1/9)
وقد بذلت جهداً متواصلاً تجاه هذا البحث مع أنّي لاقيت صعوبات كثيرة وأهمها ما هو متعلق بمراجع الموضوع من بحث وتنقيب في الكتب المطبوعة وغير المطبوعة ومن تنسيق وترتيب واستنباط وغير ذلك. وأخيراً: أسجل هنا أهم الصعوبات التي واجهتني:
(أ) لم أجد من تكلم عن هذا الموضوع في مؤلف واحد مما كلفني مراجعة بطون الكتب التي لها صلة بهذا الموضوع من قريب ومن بعيد ككتب التفسير وكتب الحديث وشروحها وكتب السيرة والمغازي وكتب الشمائل وغير ذلك من مطبوع ومخطوط.
(ب) الذين تطرقوا إلى موضوع من مواضيع هذه الرسالة ينقسمون إلى فئتين:
الفئة الأولى: تذكر النصوص الواردة في المسألة من القرآن والسنة سرداً دون تعليق.
وأما الفئة الثانية: فهي على نقيض ذلك إذ تخصص كتاباً كاملاً لموضوع من مواضيع رسالتي وتتكلم عنه بالتفصيل، وحينئذٍ أجد صعوبة في استخلاص المعلومات التي تتمشى مع حجم رسالتي وخاصة المبحث الذي خصصت لتلك المسألة إذ أنّ كتاباً واحداً من تلك المؤلفات يوازي ما في هذه الرسالة أو أكثر، فما بال المبحث الذي هو جزء من فصل ضمن باب من رسالة مكونة من عدة أبواب.
(ج) بعض المراجع لهذا الموضوع ما زالت مخطوطة ولم أتمكن من الوصول إليها، ولذلك اضطررت إلى اقتباس بعض النصوص المعزوة إلى تلك المخطوطات من مراجع فرعية.
(د) بعض المراجع التي رجعت إليها واقتبست منها يعزو أصحابها بعض النصوص التي لها علاقة وثيقة بالموضوع إلى شخص غير مشهور ويذكرون كنيته أو نسبته إلى قبيلة، أو بلد دون المؤلف أو الاسم الكامل للشخص والقرن الذي عاش فيه مع أنّ هذه النسبة أو الكنية مشتركة بين عدة أشخاص عاشوا قبل صاحب ذلك المرجع أو من أقرانه، وحينئذ أجد صعوبة في الوصول إلى الشخص المقصود منهم.
التمهيد(1/10)
يحتاج موضوع بحثي هذا (التأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم) إلى بيان بعض المسائل التي تبيّن المراد منه حتى تكون الدراسة محددة من ناحية الموضوع ومن ناحية الهدف معاً.
وهذه المسائل هي:
1- بيان المراد بالتأدّب مع الرسول صلى الله عليه وسلم.
2- ضرورة الالتزام في التأدّب معه صلى الله عليه وسلم بما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية.
وسوف أتناول بحث هاتين النقطتين فيما يلي:
1- بيان المراد بالتأدّب مع الرسول صلى الله عليه وسلم:
التأدب مصدر من الفعل الخماسي (تأدّب) بتشديد الدال، وله معان متعددة يشترك فيها مع كلمة الأدب مع الزيادة بسبب ما فيه من تضعيف. ولذا حسن أن أبدأ ببيان معنى الأدب أولاً، وبعدها أبيّن معنى التأدّب مع ملاحظة الفرق بين الصيغتين.
أ- الأدب في اللغة:
يقول ابن فارس(1): (الهمزة والدال والباء أصل واحد تتفرع مسائله وترجع إليه، فالأدْب أن تجمع الناس إلى طعامك، ومن هذا القياس، الأدب -أيضاً- لأنّه مجمع على استحسانه...)(2).
ولهذا قال ابن منظور(3): (أصل الأدب الدعاء)(4).
__________
(1) هو أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا المتوفى سنة (395هـ). انظر ترجمته في بغية الدعاة للسيوطي (1/352).
(2) معجم مقاييس اللغة (1/74-85).
(3) هو محمد بن مكرم بن علي بن أحمد الأنصاري الأفريقي ثم المصري جمال الدين أبو الفضل المتوفى سنة (711هـ). انظر ترجمته في بنية الوعاة (1/248).
(4) لسان العرب (1/206).(1/11)
هذا أصل كلمة الأدب، وأمّا عن اشتقاقها، فيقول الجواليقي(1): (واشتقاقه من شيئين يجوز أن يكون من الأدب وهو العجب، ومن الأدب مصدر قولك: أدب فلان القوم يأدبهم أدباً بالكسر إذا دعاهم... ثم قال: فإذا كانت من الأدب الذي هو العجب فكأنّه الشيء الذي يعجب منه لحسنه ولأنّ صاحبه هو الرجل الذي يعجب منه لفضله، وإذا كان من الأدب الذي هو العجب فكأنه الشيء الذي يدعو الناس إلى المحامد والفضل وينهاهم عن المقابح والجهل)(2).
وأمّا عن استعمالاتها فيقول الشيخ أحمد رضا: (الأدب: ملكة تقصى من قامت به عن كل ما يشينه، ويقع على كل رياضة محمودة يتخرج بها الإنسان من فضيلة من الفضائل: حسن الخلق، فعل المكارم، الظرف، حسن التناول، وهذا كله أدب النفس. والأدب: درس العلوم العربية مولد، وهذا أدب الدرس)(3).
ولهذا قال الجوهري(4): (الأدب: أدب النفس والدرس، تقول منه: أدب الرجل بالضم فهو أديب وأدّبته فتأدّب)(5).
ومعنى ذلك أنّ لكلمة الأدب استعمالين: حسن الخلق ودرس العلوم العربية.
وهذا ما عبّر عنه ابن هذيل (6) بالأدب الطبيعي والأدب الكسبي، حيث قال:
فالطبيعي: ما يفطر عليه الإنسان من الأخلاق الحسنة السنية والاتصاف بالصفات المرضية مثل الحلم والكرم وحسن الخلق والحياء والتواضع والصدق وغير ذلك من الصفات الحميدة.
__________
(1) هو أبو منصور موهوب بن أحمد الجواليقي المتوفى سنة (465هـ)، وقيل غير ذلك. انظر ترجمته في بغية الوعاة (2/308).
(2) شرح أدب الكتب للجواليقي (13).
(3) معجم متن اللغة (1/153).
(4) هو إسماعيل بن حماد الجوهري المتوفى سنة (393هـ)، وقيل: في حدود الأربعمائة. انظر ترجمته في بغية الوعاة (1/446-447).
(5) الصحاح: (1/86).
(6) أبو الحسن علي بن عبد الرحمن بن هذيل، من أعيان القرن الثامن.(1/12)
والكسبي: فهو ما يكتسبه الإنسان بالدرس والقراءة والحفظ والنظر، وهو عبارة عن ستة أشياء: الكتاب والسنة والنحو، واللغة والشعر، وأيام الناس)(1).
والاستعمال الأول هو الشائع ولهذا قال الجواليقي: (والأدب الذي كانت العرب تعرفه هو ما يحسن من الأخلاق وفعل المكارم مثل ترك السفه، وبذل المجهود وحسن اللقاء)(2).
وأمّا الاستعمال الثاني: فهو اصطلاح مولد جاء بعد الإسلام.
يقول الجواليقي: (واصطلح الناس بعد الإسلام بمدة طويلة على أنّ يسمّوا العالم بالنحو والشعر وعلوم العربية أديباً، ويسمون هذه العلوم أدباً. وذلك كلام مولد، لأنّ هذه العلوم حدثت في الإسلام).
وخلاصة القول أنّ كلمة الأدب كانت تطلق عند العرب على الأخلاق الحسنة، وأمّا بعد الإسلام فقد أطلق بجانب ذلك على الكلام الحسن والجيد من الأقوال سواء كان نثراً أو شعراً.
والاستعمال الأول هو الذي يتمشى مع مقامنا هذا.
ولهذا نقول: إنّ كلمة الأدب في بحثي هذا تعني الأخلاق الحسنة والاتصاف بالصفات الحميدة.
وعلى ضوء معنى الأدب المذكور يمكن فهم المراد من التأدّب لأنّهما من أصل واحد، ويشتركان في معانٍ كثيرة مع ملاحظة ما بين الصيغتين تركيباً ومعنى؛ لأنّ الأولى من المجرد، والثانية من المزيد. لأنّه يقال: إنّ الزيادة في المبنى تفيد الزيادة في المعنى غالباً.
وكلمة تأدّب وزنها تفعّل، في الميزان الصرفي، وهي تأتي لعدة معان ولكن المعنى الذي يتمشى مع مقامنا هذا هو أنّها مطاوع أدّب على وزن (فعّل) لأنّه يقال: أدّبته فتأدّب أي تلقى الأدب، والتأدّب مصدرها. وعلى هذا فمعنى التأدّب: المبالغة في التخلق بالصفات الحسنة والمكارم الجميلة.
ب- الأدب في اصطلاح الشرع:
وكلمة الأدب في اصطلاح الشرع لا تخرج عن المعنى اللغوي الذي أشرنا إليه آنفاً.
__________
(1) عين الأدب: (95).
(2) شرح أدب الكاتب: (13).(1/13)
ولهذا قال الجرجاني(1): (الأدب عبارة عن معرفة ما يحترز به عن جميع أنواع الخطأ، وأدب القاضي، وهو ما ندب إليه الشرع من بسط العدل ورفع الظلم وترك الميل)(2).
ويقول صاحب البحر الرائق(3): (كتاب أدب القاضي: أي ما ينبغي للقاضي أن يفعله وما ينبغي أن ينتهي عنه، والأولى التعبير بالملكة؛ لأنها الصفة الراسخة للنفس فما لم يكن كذلك لا يكون أدباً كما لا يخفى)(4).
وكلمة الأدب في التعريفين السابقين تعني الاتصاف بالأخلاق الجميلة، والاحتراز عما يقابلها من سفاسف الأمور.
وهذا هو المعنى المتبادر من إطلاقها إلاّ أنّها قد تطلق على المظهر الخارجي للخلق.
يقول محمد جمال الدين رفعت في التفريق بين الأدب والخلق: (فكلمة الآداب تعني السلوك كما تعني الأسلوب الذي يسير عليه الإنسان في تصرفاته الشخصية أو حين يتعامل مع الناس.. أمّا كلمة الأخلاق فتطلق لغة على الطبع والسجية والعادة بل وعلى غريزة الإنسان العاقلة)(5).
وخلاصة القول، أنّ كلمة الأدب تعني المظهر الخارجي للأخلاق الجميلة أو السلوك الذي ينبغي أن يراعي الشخص مع غيره.
ولهذا قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: (وحقيقة الأدب استعمال الخلق الجميل)(6).
وأما كلمة التأدّب في عنوان رسالتنا فنقصد بها استنتاجأ مما سبق من معنى كلمة الأدب -ما ينبني أن يفعله المسم تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سلباً وإيجاباً مما يدخل في حقوقه على الأمة من احترام وتقدير وطاعة وأتباع وغير ذلك والاحتراز مما يخالف ذلك من مخالفة ورفع الصوت وغيرها.
__________
(1) هو علي بن محمد الشريف الجرجاني المتوفى سنة (816هـ). انظر ترجمته في بغية الوعاة (2/196-197).
(2) كتاب التعريفات: (14).
(3) هو الإمام العلامة زين الدين بن إبراهيم بن محمد الشهير بابن نجيم المتوفى سنة (969هـ).
(4) البحر الرائق شرح كنز الدقائق: (6/377).
(5) آداب المجتمع في الإسلام: (9-10).
(6) مدارج السالكين: (2/381).(1/14)
يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى-: (فرأس الأدب معه صلى الله عليه وسلم كمال التسليم له والانقياد لأمره وتلقي خبره بالقبول والتصديق دون أن يحمله معارضة خيال باطل يسميه معقولاً أو يحمله شبهة أو شكاً، أو يقدم عليه آراء الرجال وزبالات أذهانهم، فيوحده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان، كما وحد المرسل -سبحانه وتعالى- بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل، فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما توحيد المرسل وتوحيد متابعة الرسول فلا يحاكم إلى غيره ولا يرضى بحكم غيره ولا يقف تنفيذ أمره وتصديق خبره على عرضه على قول شيخه وإمامه وذوي مذهبه وطائفته ومن يعظمه)(1).
2- ضرورة الالتزام في التأدب بما جاء في القرآن والسنة:
إن هذا الدين الذي لا يقبل عند الله سواه له أصلان هما الكتاب والسنة النبوية الثابتة.
يقول الله تعالى: ((وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ)) [آل عمران:85].
وهذان المصدران هما القرآن الكريم والسنة النبوية.
يقول تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)) [النساء:59].
والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى رسوله هو الرد إليه في حال حياته وإلى سنته في حال وفاته كما قال المفسرون.
كما أنّهما المصدران اللذان تركهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرنا بالتمسك بهما لئلا نضل بقوله صلى الله عليه وسلم:
(تركت فيكم أمرين لن تضلّوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنتي)(2).
__________
(1) مدارج السالكين: (2/387).
(2) رواه الإمام مالك بلاغاً في الموطأ (2/899) وقال الألباني في تعليقاته على مشكاة المصابيح (1/66) له شاهد من حديث ابن عباس أخرجه الحاكم.(1/15)
وعلى هذا الأساس فهذا الدين غني عن الزيادة والإضافة أياً كان نوعها، بعدما أكمله الله -سبحانه وتعالى- كما تشير آية المائدة وهي قوله تعالى: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً)) [المائدة:3].
وقد لحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى بعد نزول هذه الآية بأشهر.
وبناء على هذا، عندما نتعامل أو نتأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم فيجب أن نلتزم بما جاء في القرآن وفي السنة النبوية الثابتة دون أن نختلق من تلقاء أنفسنا أموراً لم تثبت عن الشارع بقصد حسن النية ثم التقرب بها إلى الله راجياً منه الثواب والمغفرة؛ لأنّ الأمور التي يتقرب بها المسلم إلى الله لا بد أن تجتمع فيها أربعة شروط:
1- أن تكون مشروعة بنص من الكتاب أو السنة الثابتة أو باجتهاد معتمد عليه.
2- أن تقع في الحدود المقرر لها من الزمان والمكان.
3- أن تقع بالكيفية التي أمر بها الشارع.
4- الإخلاص في القربى إلى الله تعالى.
وإذا انتفى شرط من هذه الشروط فلا تعتبر قربة بل تكون بدعة حينئذ.
ونحن نرى اليوم أناساً يغالون في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدح يرفعونه إلى مرتبة الألوهية أو يصفونه بصفات لا تليق إلا بالله أو يطلبون طلبات لا دخل له في حصولها أثناء حياته فضلاً عن بعد مماته صلى الله عليه وسلم.
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الغلو بقوله: (لا تطروني (1) كما أطرت النصارى ابن مريم فإنّما أنا عبده، فقولوا عبد الله ورسوله)(2).
__________
(1) من الإطراء: وهو مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (3/123).
(2) صحيح البخاري، كتاب الأنبياء، باب: (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها.) (2/256).(1/16)
وعندما نرفض الغلو في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعني بالضرورة أن نقصر في توقيره وتعظيمه وحبه ولكن نعني أن نلتزم بما هو مشروع في حقه صلى الله عليه وسلم دون إفراط أو تفريط بعيدين عن الغلو والتقصير لنتصف بالوسطية التي أشار إليها القرآن الكريم في قوله تعالى: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)) [البقرة:143].
ومعنى الوسطية هنا الخيار والأجود ومنه الصلاة الوسطى التي هي أفضل الصلوات(1).
ومع هذا فلا نضطر بالضرورة عندما نرد على المغالين إلى أن نصف الرسول صلى الله عليه وسلم بصفات قد وصفه بها الشارع دون أن نبيّن معناها من جميع الجهات.
مثال ذلك: أن نقول أن الرسول بشر ونجتهد في إثباتها مستدلين بقوله تعالى: ((قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)) [الكهف:110].
والمثلية يقصد بها هنا أنه يعتريه ما يعتري الإنسان من جوع وظمأ ومرض غير منفر وغير ذلك ولكن هو بشر يوحى إليه كما تدل عليه بقية الآية.
((قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ...)) [الكهف:110].
لأنّ المثلية قد يفهم منها أنّه كأحاد الناس إذا لم نبيّن القصد من ذلك...
وغالباً عندما يريد شخص أن يصحّح انحرافاَ معيناً ويجتهد في تصحيحه قد يقع في انحراف آخر مضاد للأول دون أن يشعر بذلك.
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير (1/190).(1/17)
يقول سيد قطب -رحمه الله تعالى-: (إن استحضار انحراف معين أو نقص معين والاستغراق في دفعه... منهج شديد الخطر، وله معقباته في إنشاء انحراف جديد لدفع انحراف قديم، والانحراف انحراف على كل حال(1). ثم ضرب مثلاً لذلك قائلاً: (يتّعمد بعض الصليبيين والصهيونيين مثلاً أن يتهم الإسلام بأنّه دين السيف، وأنّه انتشر بحد السيف فيقوم منّا مدافعون عن الإسلام يدفعون عنه هذا الإتهام، وبينما هم مشتطون في حماسة (الدفاع) يسقطون قيمة (الجهاد) في الإسلام، ويضيقون نطاقه ويعتذرون عن كل حركة من حركاته بأنّها كانت لمجرد (الدفاع)! بمعناه الإصطلاحي الحاضر الضيق! وينسون أنّ للإسلام بوصفه المنهج الإلهي الأخير للبشرية -حقه الأصيل في أن يقيم (نظامه) الخاص في الأرض لتستمتع البشرية كلها بخيرات هذا النظام بحرية العقيدة التي اختارها حيث (لا إكراه في الدين) من ناحية العقيدة أمّا إقامة (النظام الإسلامي) ليظلل البشرية كلها ممن يعتنقون عقيدة الإسلام وممن لا يعتنقوها فتقتضي الجهاد لإنشاء هذا النظام وصيانته، وترك الناس أحراراً في عقائدهم الخاصة في نطاقه، ولا يتم ذلك إلاّ بإقامة سلطان خير وقانون خير ونظام يحسب حسابه كل من يفكر في الإعتداء على حرية الدعوة وحرية الإعتقاد في الأرض)(2).
وهكذا شأن بعض الذين يردون على المغالين في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يصفونه بالبشرية دون أن يصفوه بالرسالة؛ ويجتهدون في إثبات ذلك الجانب دون قصد إلى تقليل قيمة الرسول صلى الله عليه وسلم بل إلى نفي غلو هؤلاء المغالين عنه إلا أن المغالين بدورهم يأخذون عبارات هؤلاء التي ظاهرها الجفاء ومن ثم يكيلون لهم شتائم عدة ويصفونهم بأنهم جفاة وأنّه نزع من قلوبهم حب الرسول صلى الله عليه وسلم بينما حبّه هو الاتباع لما جاء به صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) خصائص التصور الإسلامي (ص:25).
(2) المصدر السابق (ص:26).(1/18)
((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ...)) [آل عمران:31].
وعلى هذا يجب على المسلم الغيور على دينه أن يلتزم بما شرعه الله سبحانه وتعالى حين يرد على غيره، وحين يصحح انحرافاً معيناً حق لا يقع في انحراف آخر مقابل تصحيح انحراف قديم.
ويجب على المسلم -أيضاً- أن يلتزم بصورة دقيقة بكل ما ثبتت مشروعيته في كل حياته بصورة عامة، وبما يتصل بالتأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة لأنّ ذلك حق وهو الصراط المستقيم.
الباب الأول
أسباب قيام الأمة بالأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم
الرسول صلى الله عليه وسلم صاحب فضل كبير على أمته لأنه صلى الله عليه وسلم بواسطته وصل إلينا الوحي بشقيه القرآن الكريم والسنة النبوية اللذين هما مصدرا الشريعة الإسلامية وأساس الدين كله.
ووصول الوحي إلى الناس لم يتم بسهولة ويسر، وإنّما تم بجهود متواصلة وصبر كبير وتحمّل لمشقات متنوعة من صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم.
وقد تحمّل -عليه الصلاة والسلام- هذه كلها حتى تحقق منهج الله - سبحانه وتعالى- في الأرض وكمل الدين وتمّت النعمة.
يقول تعالى: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً)) [المائدة:3].
وبتمام النعمة قامت الأمة وتحقق وعد الله -سبحانه وتعالى- للمؤمنين بالاستخلاف والتمكين في الأرض.
قال تعالى: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً)) [النور:55].(1/19)
وتقديراً لهذه النعمة التي أنعم الله بها على المؤمنين عليهم أن يشكروا الله ويعرفوا حق صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم.
ولا يتم الشكر والعرفان إلاّ بالتأدب معه صلى الله عليه وسلم حيّاً وميّتاً، سراً وجهراً، في المنشط والمكره.
وهناك من الأسباب الأخرى ما يدفع إلى ضرورة التأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك ككرم محتذه، ورفعة نسبه، واتصافه بالأخلاق الكريمة وتمتعه بالصفات النبيلة طوال حياته -عليه الصلاة والسلام-. ومنها أيضاً ما اتصف به صلى الله عليه وسلم من صفات ساعدت على نشر الدين، وتبليغ الأمانة.
وفي هذا الباب سوف أتكلم عن الأسباب التي من أجلها كان التأدّب معه صلى الله عليه وسلم وهي في مجملها ترجع إلى أمرين:
أولهما: ما يرجع إلى ذاته صلى الله عليه وسلم من ناحية عراقة الأصل، وكرم الخلق في تبليغ الله تعالى.
ثانيهما: ما يرجع إلى عمله صلى الله عليه وسلم وحرصه على هداية الناس وإسعادهم بمنهج الله تعالى.
وقد عقدت لكل من الأمرين فصلاً مستقلاً: ولذلك اشتمل الباب على الفصلين التاليين:
الفصل الأول: نسبه وصفاته صلى الله عليه وسلم.
الفصل الثاني: عمله صلى الله عليه وسلم في نشر الدعوة وحرصه على هداية الناس. وسيأتي تفصيل ذلك فيما يلي بمشيئة الله تعالى.
الفصل الأول
نسبه صلى الله عليه وسلم ونشأته وصفاته
منذ أن خلق الله -سبحانه وتعالى- أبا البشر آدم عليه السلام وأهبطه هو وزوجه إلى الأرض لم يترك الناس سدى يتصرفون برؤية عقولهم واتجاهاتهم لأن عقل البشر مهما كانت قدرته قاصر عن إدراك الطريق المستقيم ومعرفة الحق بصورة تامة، وإن أدرك بعض الجوانب بالفطرة التي فطر الله الناس عليها.
ولكي تستقيم الفطرة وتكمل نحو الأفضل كانت تأتي هداية الله - سبحانه وتعالى- للناس متتابعة على ألسنة الرسل -عليهم السلام- فكلما انحرفت البشرية عن طريق الله القويم جاءها مبعوث من الله سبحانه وتعالى - لهدايتها، ودعوتها.(1/20)
يقول الله تعالى: ((وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ)) [فاطر:24].
فكل أمة جاءها رسول من بينها مبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه، وسراجاً مضيئاً ينير الطريق. ويهدي للتي هي أقوم. وبذلك تقوم الحجه على الناس.
يقول تعالى: ((رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)) [النساء:165].
يقول ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: (أنّه تعالى أنزل كتبه وأرسل رسله بالبشارة والنذارة، وبين ما يحبه ويرضاه مما يكرهه ويأباه لئلا يبقى للمعتذر عذر)(1).
ومما يؤيد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس أحد أحب إليه المدح من الله -عز وجل- من أجل ذلك مدح نفسه، وليس أحد أغير من الله من أجل ذلك حرّم الفواحش، وليس أحد أحب اليه العذر من الله من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل)(2).
وكانت الرسل قبل رسولنا صلى الله عليه وسلم يأتون أقوامهم خاصة ليكون التبليغ مناسباً للناس، وليدينوا الله بشريعة يستطيعون القيام بتكاليفها. وقد ختم الله -سبحانه وتعالى- الرسل -عليهم الصلاة والسلام بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة رحمة لهم.
يقول الله تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)) [سبأ:28].
ويقول الله تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)) [الأنبياء:107].
__________
(1) تفسير القرآن العظيم (1/588).
(2) البخاري كتاب التفسير باب قوله: (ولا تقربوا الفواحش) (3/129). ومسلم كتاب التوبة باب غيرة الله تعالى وتحريم الفواحش (4/2114) واللفظ لمسلم.(1/21)
وبذلك بعث رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم للناس جميعاً وختم الله به الرسل وقضى باستمرار رسالته إلى يوم القيامة. وأصبح الرسول صلى الله عليه وسلم اللبنة الأخيرة في البناء العظيم الذي يمثل الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- لبناته. كما أخبر صلى الله عليه وسلم حيث يقول: (مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأجمله إلا موقع لبنة من زاوية من زواياه فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين) (1).
واختيار الرسول صلى الله عليه وسلم للرسالة كانت بمشيئة الله - تعالى- الذي خلق الناس جميعاً، وهو العليم بذواتهم وخصائص كل منهم يقول الله تعالى: ((وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ)) [القصص:68] ويقول الله تعالى: ((اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)) [الأنعام:124].
يقول الألوسي في تفسير هذه الآية: (إنّ منصب الرسالة ليس مما ينال مما يزعمون من كثرة المال والولد وتعاضد الأسباب وإنما ينال بفضائل نفسانية ونفس قدسية أفاضها الله - تعالى- بمحض الكرم والجود على من كمل استمداده. ونص بعضهم على أنه تابع للاستعداد الذاتي وهو لا يستلزم الإيجاب الذي يقول به الفلاسفة لأنه -سبحانه- إن شاء أعطى وإن شاء أمسك، وإن استعد المحل)(2). ومن ثم اختار الله للدعوة الإسلامية التي ختم الله بها كل الرسالات المكان الملائم واختار لحملها خير أمة أخرجت للناس كما اختار رجلها المتميز -وهو الرسول صلى الله عليه وسلم- بصفات جعلته خير من يتلقى الوحي ويبلغه للناس ويتحمل في سبيل ذلك كل اضطهاد وعنت كما هي سنة الله مع كل رسالاته ورسله(3).
__________
(1) البخاري كتاب المناقب - باب خاتم النبييون- (2/270).
(2) روح المعاني (8/21-22).
(3) انظر الدعوة الإسلامية أصولها ووسائلها للدكتور أحمد غلوش (ص:114).(1/22)
وقبل اختيار الرسول للتبليغ صنعه الله، وهيأه، وكفل الله له التنشئة السليمة حتى يكون أهلاً للرسالة والتبليغ، ومن المعلوم أن اصطفاء الله للرسل يتم على مرحلتين، مرحلة تهيئة، ومرحلة تكليف وإبلاغ. ولولا أن النبوة اصطفاء وإحسان لقلنا أن الرسل بصفاتهم يستحقونها كسباً لكنّ جمهور المسلمين أجمعوا على أن الرسالة لا تكتسب فلا بد أن يخلق الله لها استعداداً خاصاً عند صاحبها بحيث يجعله أهلاً لحملها وإبلاغها. وبعد ذلك يصطفيه للرسالة(1).
وفي هذا الفصل سوف أتحدث فيه عن مرحلة تهيئة الرسول صلى الله عليه وسلم لحمل الرسالة الخاتمة وإبلاغها إلى الناس كافة.
ولذا سيأتي مكوناً من ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: عراقة أصله.
المبحث الثاني: نشأته وتربيته.
المبحث الثالث: اتصافه بصفات طيبة وأخلاق فاضلة.
وذلك فيما يلي:
المبحث الأول: عراقة أصله:
يذكر علماء الوراثة أنّ الشخص يتأثر بنسبه سواء من ناحية الجسم والبنية أو من ناحية الذكاء والعقل أو من ناحية الفكر والعقيدة.
يقول د. محمد بيصار: (ولا تكون الوراثة عاملاً هاماً في نقل الصفات الحسية فحسب وإنما كذلك عن طريقها تنتقل الصفات الأدبية كالأمزجة والميول والغرائز، والصفات العقلية كالذكاء والبلادة وحسن تقدير الأمور أو سوء أو شدة الانتباه أو ضعفه إلى غير ذلك من صفات يكون لها الأثر الأقوى في تكوين أخلاق المرء وتكييفها وطبعها بطابع معيّن خيراً كان ذلك الطابع أو شراً حسناً أو قبيحاً).
__________
(1) انظر الدعوة الإسلامية أصولها ووسائلها للدكتور أحمد غلوش (ص:114).(1/23)
ويؤيد هذا علم القيافة. الذي أقره الرسول صلى الله عليه وسلم فعن عائشة - رضي الله عنها-: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها سروراً تبرق أسارير وجهه فقال: (ألم تسمعي ما قال المدلجي لزيد وأسامة ورأى أقدامهما فقال: إنّ بعض هذا الأقدام من بعض) (1).
يدل عليه قوله تعالى حاكياً عن نبي الله نوح عليه السلام: ((وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً)) [نوح:26-27].
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: (أي فاجراً في الأعمال كافر القلب وذلك لخبرته بهم ومكثه بين أظهرهم ألف سنة إلا خمسين عاماً)(2).
ويدخل في هذا المفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة (3) فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء(4). يقول أبو هريرة راوي الحديث: واقرأوا إن شئتم: ((فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ)) [الروم:30]) (5).
__________
(1) العقيدة والأخلاق وأثرهما في حياة الفرد والمجتمع (ص:240) البخاري -كتاب المناقب- باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم (2/272)
(2) تفسير ابن كثير (4/427).
(3) على الفطرة: على معرفة الله فلست واحداً أحداً إلا ويقر بأن له صانعاً وإن سمّاه بغير اسمه أو عبد غيره. غريب الحديث لابن الجوزي (2/199).
(4) جدعاء: أي مقطوعة الأطراف. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (1/247).
(5) صحيح مسلم كتاب القدر باب معنى: (كل مولود على الفطرة وحكم أطفال الكفار وأطفال المسلمين (4/2047).(1/24)
وبهذا يثبت أنّ الولد يتأثر بأبويه من ناحية الجسم والبنية، ومن ناحية العقل والذكاء، ومن ناحية الفكر والعقيدة، قليلاً أو كثيراً، سلباً أو إيجاباً، وذلك بإرادة الله وقدرته. إذا عرف هذا ننظر إلى نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدى تأثره به.
يقول الأستاذ الدكتور/ أحمد غلوش: (هيأت عناية الله تعالى سلسلة ممتازة من الآباء والأجداد للنبي صلى الله عليه وسلم ليأخذ منها عن طريق الوراثة كثيراً من الخلق والطبائع)(1).
وقد وردت في هذا المضمار نصوص كثيرة تدل على أنّ نسب النبي صلى الله عليه وسلم هو أفضل الناس نسباً.
من ذلك ما أخرجه الإمام مسلم عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشاً من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم) (2).
وقد أشار النووي -رحمه الله- إلى أنّ بني هاشم أفضل العرب لا يدانيهم في الأفضلية إلاّ بنو المطلب مستدلاً بهذا الحديث(3).
ويقول المباركفوري عند شرحه لهذا الحديث: قوله: (إن الله اصطفى) أي اختار. يقال استصفاه واصطفاه، إذا اختاره وأخذ صفوته والصفوة من كل شيء خالصه وخياره)(4).
__________
(1) الدعوة الإسلامية أصولها ووسائلها (ص:114).
(2) صحيح مسلم كتاب الفضائل باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم (4/1782) والترمذي في سننه، أبواب المناقب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في فضل النبى صلى الله عليه وسلم (5/245).
(3) شرح النووي على صحبح مسلم (15/36).
(4) تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي (10/74).(1/25)
ومن ذلك أيضاً ما أخرجه الترمذي عن العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنّ الله خلق الخلق فجعلني من خير فرقهم وخير الفريقين ثم خير القبائل فجعلني من خير القبيلة ثم خص البيوت فجعلني من خير بيوتهم فأنا خيرهم نفساً وخيرهم بيتاً) (1).
أي: أصلاً إذا جئت من طيب إلى طيب إلى صلب عبدالله بنكاح لا سفاح(2).
ومما يدل على أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم كانت له مكانة عند قومه من جهة النسب شهادة أعدائه كما ورد في قصة أبي سفيان وهو مشرك ومن ألد أعداء صاحب الرسالة آنذاك -مع هرقل ملك الروم عندما وجه إليه أسئلة عديدة تتعلق بشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم من بينها: (كيف نسبه فيكم؟ قال -أي أبو سفيان-: هو فينا ذو نسب. ثم قال هرقل في آخر القصة: سألتك عن نسبه فذكرت أنّه فيكم ذو نسب فكذلك تبعث الرسل في أنساب قومها) (3).
__________
(1) أخرجه الترمذي في سننه في أبواب المناقب - باب ما جاء في فضل النبي صلى الله عليه وسلم انظر (5/244)، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.
(2) انظر: تحفة الأحوذي (10/76).
(3) صحيح البخاري، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/8)، وصحيح مسلم، كتاب الجهاد باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل ليدعوه إلى الإسلام (3/1394) واللفظ للبخاري.(1/26)
يقول النووي: (أي في أفضل أنسابهم)(1). ومما يدل على ذلك أيضاً ما جاء على لسان مفوض مشركي قريش عتبة ابن أبي ربيعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال عند افتتاح كلامه مع الرسول: (يا ابن أخي إنّك منّا حيث قد علمت من السطة (2) في العشيرة والمكانة في النسب وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم...) (3).
وهاتان القصتان تشهدان بما للرسول صلى الله عليه وسلم من المكانة في النسب عند قومه لإقرار أعدائه وأعداء رسالته حيث لم يستطيعوا أن يخفوا هذه الحقيقة مع أنهم كانوا يتهمونه بتهم باطلة، مرة بالسحر، ومرة بالجنون، ومرة بالشعر والكهانة. ومع هذا لم ينقل إلينا عن أحدهم تهمة واحدة يقدحون بها الرسول صلى الله عليه وسلم من جهة النسب، كما أن النصوص الأخرى التي أوردناها تدل على أن العرب أفضل الناس من ناحية النسب وأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم من أفضلها نسباً، وأن هذه سنة الله في اختيار رسله جميعاً كما جاء في قول هرقل السابق.
يقول الحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث: (الظاهر أن اخبار هرقل بذلك بالجزم كان على العلم المقرر في الكتب السالفة)(4).
والحكمة في ذلك كما قال النووي -رحمه الله- أنه أبعد من انتحاله الباطل وأقرب إلى انقياد الناس له لأن الناس يأنفون من الانقياد إلى رجل وضيع من جهة وكذلك الوضيع لا تسول نفسه له قيادة الناس عن جهة أخرى(5).
ولهذا كان نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم له تأثير على نفسه من ناحية وعلى قومه من ناحية أخرى، كما ذكر غير واحد من العلماء.
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم (12/105).
(2) السطة: أي عن أوساطهم حسباً ونسباً.
(3) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/91)، وحسّن الألباني هذه القصة في تعليقه على فقه السيرة للغزالي. انظر هامش (ص:113).
(4) فتح الباري شرح صحيح البخاري (1/36).
(5) شرح النووي على صحيح مسلم (12/35).(1/27)
يقول د. محمد قلعت في هذا المقام: (هذا النسب له أثره في رسول الله وكان له أثر فيمن يبلغهم رسول الله شريعة الله، أمّا أثره في رسول الله فقد شب -عليه الصلاة والسلام- مرفوع الرأس رغم يتمه لا يعرف الذل ولا الخنوع. جريئاً في إعلان رأيه، تملأ الثقة نفسه، أما أثره فيمن دعاهم رسول الله إلى الإيمان والانضواء تحت راية الإسلام فإن أكبر شخصية في العرب لا تجد غضاضة من الانضواء تحت راية الإسلام، وقبول محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً وحاكماً لأنهم يعترفون بأن محمداً صلى الله عليه وسلم من أعرق بيوت قريش نسباً)(1).
وهذه حقيقة ثابتة لا جدال فيها وإن كان هناك من يعارضه من قومه لكن ليس هذا من جهة نسبه ولا رفضاً لشخصيته وإنما كان رفضاً موجهاً لرسالته صلى الله عليه وسلم.
وصدق الله إذ يقول: ((فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)) [الأنعام:33].
وممَا يؤيد ذلك ما جاء على لسان أبي جهل عدو الله وعدو رسوله إذ قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (قد نعلم يا محمد أنك تصل الرحم وتصدق الحديث ولا نكذبك ولكنّ نكذب الذي جئت به) (2) فأنزل الله -عز وجل-: ((قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)) [الأنعام:33].
__________
(1) التفسير السياسي للسيرة (ص:11-12).
(2) أخرجه الحاكم في مستدركه (2/315) وقال: هذا صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه قال الذهبي: ما أخرجاه لناجية، وقال الشيخ أحمد شاكر في عمدة التفسير (5/25): (وهذا صحيح فإن الشيخين لم يخرجا لناجية بن كعب الأسدي ولكنه تابعي ثقة والحديث صحيح وإن لم يكن على شرطهما).(1/28)
أي إن رفض قريش كان موجهاً للدعوة التي دعاهم إليها الرسول صلى الله عليه وسلم لا لشخصيته كما يفيد منطوق قول أبي جهل السابق. ولهذا ورد أنهم عرضوا عليه الجاه والسيادة والملك وجمع الأموال والمغريات الأخرى مقابل ترك هذه الدعوة كلية أو جزءاً منها كحل وسط (1) ولكنهم لم ينجحوا فيها لأن موقف الرسول صلى الله عليه وسلم كان ثابتاً. وعرض هذه الأمور عليه يدل على سمو مكانة النبي صلى الله عليه وسلم من جهة النسب عند قومه قريش الذين كانوا يأنفون أن يخضعوا للوضيع مهما كان الأمر وخاصة إذا جاء بأمر يخالف عاداتهم وتقاليدهم مثل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدين الحنيف والدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك والأوثان وما كان سائداً في مجتمع مكة من عادات وتقاليد جاهلية.
المبحث الثاني: نشأته وتربيته:
كما هو معروف في كتب السيرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل يتيماً حيث مات أبوه وهو في بطن أمّه، وماتت أمّه وهو ابن ست سنوات، ولهذا لم يتنعم بحنين الأبوين، وقد كفله جده عبد المطلب حتى مات ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن ثماني سنوات(2).
وبعد وفاة جده عبد المطلب كفله عمّه أبو طالب الذي بذل كل ما في وسعه في رعاية الرسول صلى الله عليه وسلم في زمن طفولته وشبابه، وكذلك بعد البعثة حيث دافع عنه تعصباً وحمية مع أنه لم يؤمن به حتى فارق الحياة. يقول الغزالي: (فالمجتمع العربي الأول كان يقوم على العصبيات القبلية الحادة، التي تفنى القبيلة كلها دفاعاً عن كرامتها الخاصة وكرامة من يمت إليها بالصلة، وقد ظل الإسلام حيناً من الدهر يعيش في حمى هذه التقاليد المرعية حتى استغنى بنفسه كما تستغني الشجرة عمّا يحملها بعدما تغلظ وتستوي)(3).
__________
(1) انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير: (4/91).
(2) انظر سيرة ابن هشام: (1/167) وما بعدها.
(3) فقه السيرة: (ص:58).(1/29)
وقد كان أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم مثالاً حياً لهذه العصبيات لقيامه بالدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى أنّه جوزي وهو كافر بما جاء به من عند الله بتخفيف العذاب عنه يوم القيامة مقابل دفاعه عنه لما ثبت في الصحيح عن العباس بن عبد المطلب أنّه قال: (يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: نعم هو في ضحضاح (1) من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) (2)، وفي رواية أخرى: (وجدته غمرات (3) من النار فأخرجته إلى ضحضاح) (4).
ولقد مرّ الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة بمراحل عديدة، واجه حياة كدح صعبة وشاقةْ حيث أنه أصبح يتيماً فقيراً إلى أن أغناه الله فاتجه إلى الانعزال والعبادة في غار حراء.
__________
(1) ضحضاح: ما رق من الماء على وجه الأرض، غريب الحديث لابن الجوزي (2/6).
(2) صحيح مسلم كتاب الإيمان باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب والتخفيف عنه بسببه (1/195).
(3) غمرات: أي المواضع التي تكثر فيها النار. واحدتها غمرة. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (3/383-384).
(4) صحيح مسلم كتاب الإيمان، باب شفاعة الني صلى الله عليه وسلم لأبي طالب والتخفيف عنه بسببه (1/195).(1/30)
فلقد كان -عليه الصلاة والسلام- في صباه يشتغل برعاية الغنم كما هو سنة الأنبياء، لأنّه ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان يرعى الغنم لأهل مكة على قراريط، وهو -عليه الصلاة والسلام- القائل: (ما بعث الله نبياً إلا ورعى الغنم، فقال له أصحابه -رضي الله عنهم-: وأنت؟ فقال:، نعم كنت أرعاها على قراريط (1) لأهل مكة) (2). وهذا الحديث إنّما يدل على أنّه صلى الله عليه وسلم كان يعتمد على نفسه في فترة مبكرة من عمره.
وبجانب رعايته للغنم كان صلى الله عليه وسلم يذهب إلى الشام مع عمّه أبي طالب للتجارة.
أخرج الترمذي عن أبي موسى الأشعري قال: (خرج أبو طالب إلى الشام وخرج معه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش فلمّا أشرفوا على الراهب هبط فحلوا رحالهم فخرج إليهم الراهب...) (3).
هذا ما ورد في فترة صباه، وأمّا بعد بلوغه، فقد ورد أيضاً أنّه كان صلى الله عليه وسلم يذهب إلى الشام للتجارة بأموال خديجة - رضي الله عنها- قبل اقترانه بها.
__________
(1) قراريط: مفردها قيراط وهو جزء من أجزاء الدينار وهو نصف عشر في أكثر البلاد وأهل الشام يجعلونه جزءاً من أربعة وعشرين. والياء فيه بدل الراء فإن أصله من قّراط، النهاية في غريب الحديث (4/42).
(2) أخرجه البخاري في كتاب الإجارة، باب رعي الغنم على قراريط: (2/32-33).
(3) سنن الترمذي، أبواب المناقب باب ما جاء في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم (5/250)، وقال: (هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه).(1/31)
يقول ابن إسحاق: (وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال تستأجر الرجال في مالها، وتضاربهم إياه بشيء وتجعله لهم وكانت قريش قوماً تجاراً، فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغها من صدق حديثه وعظيم أمانته وكرم أخلاقه بعثت إليه فعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجراً، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار مع غلام لها يقال له ميسرة، فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم منها وخرج في مالها ذلك، وخرج معه غلامها ميسرة حتى قدم الشام(1).
فقام صلى الله عليه وسلم بواجبه في التجارة خير قيام حتى كانت سبباً في زواجه إياها إثر رجوعه من ذلك السفر بعدما عرضت نفسها عليه بناء على ما رأته فيه من صدق وأمانة، وما سمعته من ميسرة في شأن الرسول صلى الله عليه وسلم من خير طوال مرافقته له في تلك الرحلة الميمونة.
يقول ابن كثير في السيرة: (فلمّا أخبرها ميسرة ما أخبرها بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له فيما يزعمون: يا ابن عم إنّي قد رغبت فيك لقرابتك ووسطتك في قومك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك، ثم عرضت نفسها عليه، فلمّا قالت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذكره لأعمامه فخرج معه حمزة حتى دخل على خويلد بن أسد فخطبها إليه فتزوجها -عليه الصلاة والسلام-(2). وبعد اقترانه صلى الله عليه وسلم بخديجة أم المؤمنين -رضي الله عنها استغنى بمالها عن الكسب والضرب في الأرض لأنّه لم يرد في كتب السيرة أنّه زاول نشاطاً اقتصادياً بعد ذلك بل ورد أنّه كان يذهب إلى غار حراء ليتعبد فيه فترة يرجع بعدها إلى خديجة ليتزود بمثلها حتى جاءه الملك بأول آيات من القرآن وهي صدر العلق من قوله تعالى: ((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)) [العلق:1] إلى قوله تعالى: ((عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)) [العلق:5].
__________
(1) سيرة ابن هشام: (1/171-172).
(2) السيرة النبوية: (1/263).(1/32)
عن عائشة -رضي الله عنها- أنّها قالت: (أول ما بدىء رسول الله من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه- وهو التعبد- الليالي ذات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك (1) فقال: إقرأ.. إلى قوله: ((عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)) [العلق:5].
وهذه هي المراحل التي مر بها الرسول صلى الله عليه وسلم قبل النبوة وقد أشار القرآن الكريم إليها في آيات من سورة الضحى وهي قوله تعالى: ((أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى)) [الضحى:6-8].
قال قتادة في هذه الآيات: (كانت هذه هي منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعثه الله -عز وجل-)(2).
وقد ذكر أكثر المفسرين هذه المراحل التي مرّ بها الرسول صلى الله عليه وسلم عند تفسيرهم هذه الآيات من سورة الضحى إلاّ أنهم يذكرون في كل مرحلة عدة أقوال محتملة ومعان متقاربة لا يتسع لذكرها هذا المقام لأن القصد هنا ليس ذكر أقوال المفسرين قاطبة وإنّما ذكر ما يشير إلى هذه المراحل.
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/6).
(2) تفسير ابن كثير: (4/523).(1/33)
وقد لخّص الشهيد سيد قطب معنى هذه الآيات فيقول: (لقد ولدت يتيماً قآواك إليه وعطف عليك القلوب.. ولقد كنت فقيراً فأغنى الله نفسك بالقناعة كما أغناك بكسبك ومال أهل بيتك خديجة - رضي الله عنها- عن أن تحس الفقر أو تتطلع إلى ما حولك من ثراء. ثم لقد نشأت في جاهلية مضطربة التصورات والعقائد منحرفة السلوك والأوضاع فلم تطمئن روحك إليها ولكنّك لم تكن تجد لك طريقاً واضحاً مطمئناً لا فيما عند الجاهلية ولا فيما عند أتباع موسى وعيسى الذين حرّفوا وبدّلوا وانحرفوا وتاهوا ثم هداك الله بالأمر الذي أوحى به إليك وبالمنهج الذي يصلك به)(1).
ويفهم من تفسير سيد قطب للآيات الثلاث من سورة الضحى كغيره من المفسرين أن المراحل الثلاثة ليست على ترتيب الآيات من المصحف حيث أنّ مرحلة الإغناء مقدمة على مرحلة الهداية.
يقول الدكتور محمد عزت دروزة ملخصاً ما ذكره المفسرون في هذا الصدد: (إن الآية تحتوي إشارة إلى حادث تيهان وقع للنبي صلى الله عليه وسلم في طفولته أو في إحدى رحلاته ورووا في ذلك روايات كما قالوا أنّها تعني أنّه كان غافلاً عن الشريعة التي لا تتقرر إلا بالوحي الرباني أو أنّه كان حائراً في أسلوب العبادة لله ونفوا عنه أي حال أن يكون ضالاً أي مندمجاً في العقائد والتقاليد الشركية والنفس لا تطمئن إلى رواية تيهان النبي صلى الله عليه وسلم مضموناً وسنداً بل إنّها ليست متسقة مع ما تضمنته الآية من منّ الله على النبي صلى الله عليه وسلم بأعظم إفضاله عليه، وتفسير ضال بحائر يحمل معنى الآية على أنه المقصود الحيرة في الطريق التي يجب أن يسار فيها إلى الله وعبادته على أفضل وجه. وهو المعنى الذي نراه)(2).
__________
(1) في ظلال القرآن: (6/3927).
(2) سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم: (1/32).(1/34)
والحكمة في تلك المراحل التي مرّ بها الرسول صلى الله عليه وسلم هو أنّ الله - سبحانه وتعالى- كان يدربه حتى يكون مهيأ ومؤهلاً لحمل عبء الرسالة الخاتمة وإبلاغها إلى الناس المنغمسين في بحر من الفساد في كل ناحية من نواحي الحياة حتى يصدق عليهم قوله تعالى: ((ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ)) [الروم:41].
يقول صاحب كتاب "دراسة في السيرة" مشيراً إلى الحكمة من تلك المراحل:
"ومن مرارة اليتم ووحشية العزلة وانقطاع معين العطف والحنان قبس الرسول صلى الله عليه وسلم الصلابة والاستقلال والقدرة على التحمل... وبالفقر والحرمان تربى ونما بعيداً عن ترف الغنى وميوعة الدلال.. وعبر رحلته إلى الشام في رعاية عمّه فتح الرسول صلى الله عليه وسلم عينيه ووعيه تجاه العالم الذي يتجاوز حدود الصحراء وسكونها إلى حيث المجتمعات المدنية التي تضطرب نشاطاً وقلقاً... وفي رحلته الثانية إلى الشام مسؤولاً عن تجارة للسيدة خديجة تعلّم الرسول الكثير الكثير عمّق في حسّه معطيات المرحلة الأولى وزاد عليها إدراكاً أكثر لما يحدث في أطراف عالمه العربي من علاقات بين الغالب والمغلوب... كما علمه الانشقاق الأخلاقي عن الوضع المكي القدرة على مجابهة الأحداث(1).
المبحث الثالث: سمو صفاته صلى الله عليه وسلم وأخلاقه:
نشأ الرسول صلى الله عليه وسلم في بيئة وثنية يعبد أهلها الأصنام والأوثان، ويستعبد القوي منهم الضعيف حتى أصبح الظلم شيئاً معروفاً كما تنبىء به أشعارهم المأثورة كقول زهير بن أبي سلمى:
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه ... ... يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم(2)
__________
(1) دراسة ني السيرة للدكتور عماد الدين خليل (ص:47-49) مع تصرف يسير.
(2) في ديوانه: (ص:88).(1/35)
إضافة إلى ما كانوا عليه من فساد في العادات والسلوك مثل وأد البنات خوفاً من العار والفقر، وأكل أموال اليتامى بحجة أنهم ضعفاء لا يستطيعون حمل السلاح والدفاع عن القبيلة، وأكل الربا واستحلاله راضين بذلك حتى اشتهر فيهم تعريف البيع به كما حكى لنا القرآن الكريم: ((إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا)) [البقرة:275].
وقد وصف جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- للنجاشي ملك الحبشة أثناء الهجرة الثانية إلى الحبشة أحوال المجتمع المكي آنذاك وصفاً دقيقاً فقال:
"أيها الملك، كنّا أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسبي الجوار، ويأكل القوي منّا الضعيف، حتى بعث الله إلينا رسولاً منّا نعرف نسبه وأمانته وعفافه، فدعا إلى توحيد الله وأن لا نشرك به شيئاً ونخلع ما كنّا نعبد من الأصنام، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة، وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل أموال اليتيم..."(1).
هكذا كانت حالة المجتمع المكي آنذاك ولكنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم برعاية من الله لم يتأثر ببيئته مع اشتراكه في بعض الأعمال مع قومه لأنّها كانت أعمالاً لا تخدش نبله أو لا تسيء إلى سمعته، وأخلاقه الطيبة.
نذكر في هذا الصدد ما روي من الأعمال التي اشترك فيها الرسول صلى الله عليه وسلم مع قومه.
__________
(1) الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد مع شرحه بلوغ الأماني من أسرار الفتح الربّاني (20/226) كلاهما لاْحمد البنا "وقال البنا عقب هذا الهديث: "الحديث صحيح ورواه ابن هشام في سيرته بطوله عن ابن إسحاق، وأورده الهيثمي وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، غير ابن إسحاق وقد صرّح بالسماع".(1/36)
فلقد اشترك الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة في حلف الفضول الذي وقع بين بطون من قريش لرد المظالم إلى أهلها. يروي ابن هشام بسنده عن ابن إسحاق قال(1): "تداعت قبائل من قريش إلى حلف فاجتمعوا له في دار عبد الله بن جُدعان لشرفه وسنه... فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا في مكة مظلوماً من أهلها وغيرهم ممّن دخلها من سائر الناس إلاّ قاموا معه وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته فسمّت قريش ذلك الحلف حلف الفضول"(2).
ويقول ابن كثير -رحمه الله- بعد إيراده ذلك الحلف: "وكان حلف الفضول أكرم حلف سمع به وأشرفه في العرب وكان أول من تكلم به ودعا إليه الزبير بن عبد المطلب"(3).
وعلى هذا فكان اشتراكه صلى الله عليه وسلم في ذلك الحلف أمراً ذا أهمية كبيرة لأنّ ردّ المظالم إلى أهلها أمر هام وقد جاء به الإسلام فيما بعد ولهذا أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك الحلف بعد البعثة، لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لقد شهدت في دار عبد الله بن جُدعان حلفاً ما أحب لي به حمر النعم ولو دعيت إليه في الإسلام لأجبت"(4).
ومن الأعمال التي اشترك فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومه قبل البعثة، حرب الفِجار التي وقعت وعمره صلى الله عليه وسلم عشرون سنة كما ذكر ابن إسحاق صاحب السيرة(5).
__________
(1) سيرة ابن هشام: (1/122-123).
(2) سمي هذا الحلف بالفضول إما نسبة إلى الأشخاص المتحالفين الثلاث الذين سمى كل واحد منهم بالفضل أو إما السبب الذي من أجله تحالفوا وهو أن ترد الفضول على أهلها. السيرة النبوية لابن كثير (1/258-261) مع التصرف.
(3) السيرة النبوية (1/259).
(4) انظر سيرة ابن هشام (1/123-124).
(5) المصدر السابق (1/170).(1/37)
وسبب ذلك الحرب (1) كما ذكر ابن هشام في سيرته أنّ عروة الرحال بن عتبة من هوازن أجار لطيمة (2) للنعمان بن المنذر فقال له البراض بن قيس أحد بني ضمرة: أتجيرها في كنانة؟ قال: نعم وعلى الخلق فخرج فيها عروة الرحال وخرج البراض لطلب غفلته حتى إذا كان بتيمن ذي طلال بالعالية غفل عروة فوثب عليه البراض فقتله في الشهر الحرام فلذلك سمي حرب الفجار(3).
وكانت دوره صلى الله عليه وسلم في تلك الحرب أن يرد على أعمامه نبل عدوهم إذا رموهم بها، لأنّه روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "كنت أنبل على أعمامي"(4).
وفي اشتراكه صلى الله عليه وسلم في تلك الحرب ما يبرره وهو أنّ القتال لم يكن جائزاً في الأشهر الحرم زمن الجاهلية حتى أنّهم إذا أرادوا القتال في الأشهر الحرم أخّروها إلى شهر آخر لكي يستحلوا فيها القتال كما بينها الله -سبحانه وتعالى- في القرآن معيباً عليهم: ((إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ)) [التوبة:37].
وعلى هذا فما دامت تلك الحرب دفاعاً عن انتهاك حرمة الأشهر الحرم فلا بأس في اشتراكه صلى الله عليه وسلم فيها.
وقد أقر الله ذلك في قوله تعالى: ((إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)) [التوبة:36].
__________
(1) في حرب الفجار التي وقعت بين قريش ومن معه من كنانة وبين قيس عيلان. انظر سيرة ابن هشام (1/168).
(2) اللطيم تحمل العطر والبزّ غير الميرة. النهاية في غريب الحديث (4/251).
(3) انظر سيرة ابن هشام (1/169) بتصرف.
(4) انظر السيرة النبوية لابن كثير (1/256).(1/38)
ومن الأعمال التي اشترك فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومه قبل البعثة وضع الحجر الأسود في مكانه من الكعبة حين بناء قريش لها بعد ما اختلفت بطونها في ذلك حيث كانت كل قبيلة تريد أن تنفرد بمزية وضع الحجر الأسود في مكانه وكادوا أن يقتتلوا لولا مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكمه فيهم حكماً يرضى كل الأطراف المتنازعة على ذلك.
عن عبد الله بن السائب قال: كنت فيمن بنى البيت وأخذت حجراً فسويته ووضعته إلى جنب البيت.. وأن قريشاً اختلفوا في الحجر حيث أرادوا أن يضعوه حتى كاد أن يكون بينهم قتال بالسيوف فقال: اجعلوا بينكم أول رجل يدخل من الباب فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذا الأمين وكانوا يسمونه في الجاهلية الأمين، فقالوا: يا محمد قد رضينا بك فدعا بثوب فبسطه ووضع الحجر فيه ثم قال لهذا البطن، ولهذا البطن، غير أنّه سمى بطوناً: "ليأخذ كل بطن منكم بناحية من الثوب" ففعلوا ثم رفعوه وأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه بيده(1).
واشتراكه صلى الله عليه وسلم في هذا العمل يظهر مدى فطانته ورجاحة عقله حيث حل المشكلة بسهولة ويسر بعدما كادت أن تؤدي إلى إسالة الدماء والحرب كما أنّه يدل على مكانته صلى الله عليه وسلم عند قومه بحيث إنّهم رضوا بحكمه دون تردد.
هذه هي أهم الأعمال التي وردت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد اشترك فيها قبل البعثة مع قومه، وكلها كما ذكرت سابقاً من أعالي الأمور ومن مكارم الأخلاق التي من شأنها أن ترفع مكانته وشأنه وبخاصة إذا علم أن بيئته قد عم فيها الفساد وانتشرت فيها الرذائل التي عصمه الله -سبحانه وتعالى- منها وأبعده عنها لينشأ خالياً من الدنايا والشوائب.
__________
(1) أخرجه الحاكم في مستدركه (1/458) وقال: صحيح على شرط مسلم وله شاهد صحيح على شرطه ووافقه الذهبي.(1/39)
يؤيد ذلك ما رواه أبو نعيم بسنده عن علي بن أبي طالب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما هممت بقبيح مما كان أهل الجاهلية يهمون بها إلا مرتين الدهر كلتاهما يعصمني الله -عز وجل- منها، قلت ليلة لفتى من قريش بأعلى مكة في أغنام لأهلنا نرعاها: أنظر غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة كما يسمر الفتيان قال: نعم، فخرجت فجئت أدنى دار من دور مكة فسمعت غناء وضرب دفوف وزمراً فقلت ما هذا؟ قالوا: فلان تزوج فلانة المرجل من قريش فلهوت بذلك الغناء وبذلك الصوت حتى غلبتني عيني، فما أيقظني إلا مسَّ الشمس ثم رجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت؟ فأخبرته ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك ففعل فخرجت فسمعت مثل ذلك، فقيل لي مثل ما قيل لي، فلهوت بما سمعت حتى غلبتني عيني فما أيقظني إلا مسّ الشمس ثم رجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت؟ فقلت: ما فعلت شيئاً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فوالله ما هممت بعدهما بسوء مما يعمل أهل الجاهلية حتى أكرمني الله بنبوته"(1).
وهذا الحديث دليل واضح على بعده صلى الله عليه وسلم ونزاهته عن أمور الجاهلية التي كانت سائدة آنذاك في المجتمع المكي ومن حوله بعناية من الله -سبحانه وتعالى- وبجانب ذلك كان صلى الله عليه وسلم متصفاً بصفات فاضلة وأخلاق حميدة أقر له بها المؤيدون والمعاندون على السواء.
__________
(1) دلائل النبوة لأبي نعيم (ص:54) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/226) رواه البزار ورجاله ثقات.(1/40)
وقد أوجزت لنا خديجة أم المؤمنين -رضي الله عنها- صفاته وأخلاقه بقولها بعد فزعه إليها من شدة بدء الوحي: "كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً فوالله إنك تصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل (1) وتكسب المعدوم (2) وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق.."(3).
وخديجة -رضي الله عنها- أقرب شخصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم تصفه بهذه الصفات بناء على تجربة دقيقة وممارسة طويلة ابتداء من ائتمانها له أن يتاجر في مالها ثم اقترانها به ومعاشرته فترة تبلغ خمس عشرة سنة.
وهذه شهادة من جانب أحد المؤمنين بدعوته صلى الله عليه وسلم وهى شهادة حق وصدق أقر بها وبحقيقتها من لم يتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم ويؤمنوا بدعوته.
__________
(1) الكل: العيال والثقل. غريب الحديث لابن الجوزي (2/293).
(2) وتكسب المعدوم - يقال: فلان يكسب المعدوم إذا كان مجذوذاً محظوظاً أي يكسب ما يحرمه غيره، وقيل أرادت -أي خديجة -رضي الله عنها- تكسب الشيء المعدوم الذي لا يجدونه مما يحتاجون إليه، وقيل أرادت بالمعدوم الفقير الذي صار من شدة حاجته كالمعدوم نفسه. النياية في غريب الحديث (3/191-192).
(3) صحيح البخاري في كتاب التفسير باب تفسير سورة اقرأ باسم ربك الذي خلق (3/218).(1/41)
من ذلك ما أخرجه الشيخان بسندهما عن ابن عباس -رضي الله عنهما - قال: "لما نزلت: ((وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ)) [الشعراء:214] خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فهتف يا صباحاه، فقالوا: من هذا؟ فاجتمعوا إليه، فقال: "أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟ "قالوا: ما جربنا عليكَ كذباً، قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" قال أبو لهب: تباً لك ما جمعتنا إلا لهذا ثم قام: فنزلت: ((تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)) [المسد:1](1).
ففي قولهم: ما جربنا عليك كذباً دليل واضح على اتصافه صلى الله عليه وسلم بالصدق التام قبل الرسالة بشهادة أعدائه الذين وقفوا في وجه نشر الدعوة الإسلامية.
وهذه الشهادة قد صدرت من مجموع المشركين ومثلها صدرت من أفرادهم، وقد قالها أبو سفيان -رضي الله عنه- وهو مشرك- عند هرقل ملك الروم الذي وجه إليه عدة أسئلة تتعلق بأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم من بينها قول هرقل: "فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ "قلت: لا، ثم قال هرقل: في آخر القصة لأبي سفيان:
وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فزعمت أن لا فعرفت أنّه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب ويكذب على الله"(2).
تلك شهادة الخصوم والمؤمنين تنطق صريحة في أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكذب أبداً قبل البعثة، بل كان صادقاً دائماً.
__________
(1) صحيح البخاري في كتاب التفسير باب تفسير سورة: (تبت يدا أبي لهب وتب) (3/222). وصحيح مسلم في كتاب الإيمان، باب (وأنذر عشيرتك الأقربين) (1/194).
(2) جزء من الحديث الطويل المتفق عليه؛ انظر صحيح البخاري باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/8)، وصحيح مسلم في كتاب الجهاد باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام (3/1394)-(1395هـ)، واللفظ له.(1/42)
والصدق أساس الفضائل الأخلاقية وعنوان الإنسانية الكريمة، وقد انطبع رسول الله صلى الله عليه وسلم بفضل الله تعالى.
وكما اتصف صلى الله عليه وسلم بالصدق اتصف بكل مكارم الأخلاق ومنها الأمانة.
وخير ما يدل على ذلك قصة وضع الحجر الأسود في مكانه من الكعبة أثناء تجديد بنائها حينما اختلفت قريش في ذلك حيث أتفقوا على تحكيم أول رجل يدخل من الباب فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا يسمونه في الجاهلية الأمين فقالوا: "قد دخل الأمين، فقالوا يا محمد رضينا بك"(1).
وهذه شهادة صدرت من مجموع المشركين وإن لم يكن بينه وبينهم عداوة حين نطقوا بذلك القول لأنّ ذلك كان قبل البعثة إلا أنّها تشهد على اتصافه صلى الله عليه وسلم بالأمانة حتى أصبحت لقباً له.
وعلى هذا نجزم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان متصفاً بصفات فاضلة وأخلاق حميدة قبل البعثة اعترف بها أعداؤه وآمن بها أصحابه مع شيوع الظلم والعدوان وسوء الأخلاق في المجتمع المكي يومذاك. وذلك بفضل الله وعنايته ورعايته.
وأمّا بعد البعثة فقد كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن كما ورد في حديث عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- حيث قالت: "... فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن"(2).
وهذه الأخلاق الكريمة كانت سبباً في تقريب قلوب أصحابه -رضوان الله عليهم- له ولولا اتصافه بها لما تمكن من تأثير دعوته عليهم وخاصة في أيامها الأولى في مكة.
وقد أشار الله -سبحانه وتعالى- إلى تأثير اتصافه صلى الله عليه وسلم بالأخلاق الفاضلة على أصحابه -رضوان الله عليهم- بقوله تعالى: ((فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ)) [آل عمران:159].
__________
(1) جزء من الحديث الذي أخرجه الحاكم في مستدركه (1/458). وقد تقدم تخريجه في (ص:73).
(2) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه (1/513).(1/43)
وكما أن الأخلاق الفاضلة لها تأثير كبير على الأصحاب كذلك أيضاً لها تأثير كبير على الأعداء كما يدل عليه قوله تعالى: ((وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)) [فصلت:34-35].
وقد شهد الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بالخلق العظيم بقوله: ((وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)) [القلم:4].
الفصل الثاني
عمله صلى الله عليه وسلم في نشر الدعوة وحرصه على هداية الناس
إن نزول الوحي الإلهى للناس يحتاج إلى رسول يتلقاه ويبلغه للمدعوين، ولذلك اختار الله رسله -عليهم السلام- قادرين على تحمل المسؤولية مهيئين بفضل الله- للقيام بواجب الدعوة خير قيام.
ومن هنا كان إرسال الرسل مسقطاً لحجة الناس بأن الدعوة لم تبلغهم.
يقول الله تعالى: ((رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)) [النساء:165].
وعمل الرسل مع الدعوة يحتاج إلى جهد كبير وصبر واضح، ومثابرة شاقة بالإضافة إلى تحمل أذى القوم وعنتهم وعدوانهم القولي والفعلي على الرسول والذين معه.
وتلك سنة عامة مع كل الرسل وسائر الدعوات من لدن نوح عليه السلام إلى خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم.
ولقد تحدث القرآن الكريم عن الرسل السابقة -عليهم الصلاة والسلام- وبين ما لقوا من أقوامهم من أذى وتعنت أو قتل أو تشريد، ولكن لا يتسع المقام لأن أسرد كل قصصهم إلاّ أنّي أذكر ما يدل على ذلك من الكتاب والسنة على وجه الإجمال.(1/44)
فمن الكتاب قوله تعالى: ((وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ)) [الأنعام:34].
يقول الشهيد سيد قطب -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: "ويستطرد من تطييب خاطر الرسول صلى الله عليه وسلم وبيان الأسباب الحقيقية لموقف المكذبين منه ومن دعوته، ومن آيات الله الناطقة بصدقه وصدق ما جاء به... يستطرد من هذا إلى تذكيره بما وقع لإخوانه الرسل قبله، وقد جاءه من أخبارهم في هذا القرآن ثم ما كان منهم من الصبر والمضي في الطريق حتى جاءهم نصر الله ليقرر أنّ هذه سنة الدعوات التي لا تبديل ولا يغير منها اقتراحات المقترحين كما أنها لا تستعجل مهما ينزل بالدعاة من الأذى والتكذيب والضيق"(1).
__________
(1) في ظلال القرآن (2/1077).(1/45)
- وأما السنة فمنها ما جاء على لسان ورقة بن نوفل حينما ذهبت خديجة أم المؤمنين -رضى الله عنها- بالرسول صلى الله عليه وسلم إليه بعد فزع الرسول من رؤية الملك جبريل عليه السلام في بداية الوحي كما رواه البخاري عن عائشة -رضى الله عنها-: وفيه:.. فانطلقت به خديجة إلى ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة وكان امرأ تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخاً كبيراً قد عمي فقالت له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك؟ فقال ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟! فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس (1) الذي نزّل الله على موسى يا ليتني فيها جذعاً (2) ليتني أكون حيّاً إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمخرجيّ هم" قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً ثم لم ينشب (3) ورقة أن توفي وفتر الوحي"(4).
__________
(1) الناموس: صاحب سر الملك، وقيل صاحب سر الخير، وأراد به جبريل عليه السلام لأنّ الله تعالى خصّه بالوحي والغيب اللذين لا طلع عليهما غيره. النهاية في غريب الحديث (5/119).
(2) يا ليتني كنت جذعاً: أي يا ليتني كنت شاباً عند ظهورها حتى أبالغ في نصرتها وحمايتها. وأصل الجذع من أسنان الدواب وهو ما كان شاباً فتياً. النهاية في غريب الحديث (1/250).
(3) لم ينشب: من نشب. يقال نشب في الشيء إذا وقع فيما لا مخلص له منه، ولم ينشب أن فعل كذا أي لم يلبث، وحقيقته لم يتملق بشيء غيره ولا اشتعل بسواه. وهنا لم يلبث حتى مات. النهاية في غريب الحديث (5/52).
(4) صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/7).(1/46)
وهذا الحديث نص صريح في الموضوع الذي نحن بصدده إذ أنّه يعطينا صورة واضحة عن معاداة الأمم السابقة لرسلهم من غير استثناء رسول واحد من الرسل -عليهم السلام- ابتداء من نبي الله نوح عليه السلام وانتهاء بخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم كما هي سنة الله تعالى في إرسال الرسل.
وما دامت سنة الله في كل دعوة من دعوات الرسل -عليهم الصلاة والسلام- أن تواجه الابتلاء والاختبار فلا بد لدعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن تواجه أيضاً ذلك من قبل المعاندين من المشركين وأهل الكتاب وغيرهم.
وفي هذا الفصل أتحدث عن ما لاقاه الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل أعداء الدعوة الإسلامية وكيف قاومهم ومدى ما تحمل من المتاعب في سبيل نشر الدعوة الإسلامية مع مراعاة ظروف ذلك الزمان.
وقد قسمت هذا الفصل إلى ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: تحمل مشاق نشر الدعوة.
المبحث الثاني: الصبر على الأذى والعدوان من قبل الخصوم.
المبحث الثالث: إكمال الله تعالى الدين على يده صلى الله عليه وسلم.
وذلك على النحو التالي:
المبحث الأول: تحمل مشاق نشر الدعوة:
من المعلوم أنّ الإسلام بدأ غريباً كما ورد في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء) (1).
وتلك الغربة قد زالت بفضل الله تعالى ثم بفضل جهود رسول الله صلى الله عليه وسلم في نشر الدعوة الإسلامية في مراحلها الخمسة وتحمله المشاق في سبيل إنجاحها.
وقد ذكر ابن القيم -رحمه الله- تلك المراحل الخمس وهي على النحو التالي:
المرحلة الأولى: النبوة.
المرحلة الثانية: إنذار عشيرته الأقربين.
المرحلة الثالثة: إنذار قومه.
المرحلة الرابعة: إنذار قوم ما أتاهم من نذير من قبله وهم العرب قاطبة.
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أنّ الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً (1/130).(1/47)
المرحلة الخامسة: إنذار جميع من بلغته الدعوة من الجن والإنس إلى آخر الدهر(1).
ويمكن تقسيم هذه المراحل التي أشرتها آنفاً إلى مرحلتين: المرحلة المكية، والمرحلة المدنية أي بعد الهجرة.
أولاً: المرحلة المكية:
وهذه المرحلة هي أصعب المرحلتين لقلة المؤمنين بالرسول صلى الله عليه وسلم وضعفهم وقوة المعادين له وكثرتهم، ولكنه صلى الله عليه وسلم كان على ثقة بالله -سبحانه وتعالى- في أن يتم هذا الأمر فلم يتزحزح عن طريق الحق قيد شبر طيلة المدة التي كان يدعو الناس إلى الله.
وفي السنوات الثلاث الأولى من هذه المرحلة كان الرسول صلى الله عليه وسلم يسر دعوته ولا يدعو الناس إلا فرادى، ويأمر من آمن به أن لا يظهر إسلامه خوفاً على نفسه.
ويؤيد هذا ما أخرجه الحاكم عن عمر بن عبسة -رضي الله عنه- قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أول ما بعث وهو يومئذ مستخف فقلت أنت ما أنت؟ قال: "أنا نبي" قلت: وما نبى؟ قال: "رسول الله" قلت: أرسلك الله؟ قال: "نعم" قلت: بم أرسلك؟ قال: "بأن تعبدوا الله وتكسروا الأوثان وتصلوا الرحم" قلت: نعما أرسلت فمن تبعك على هذا؟ قال: "حر وعبد" يعني أبا بكر وبلالاً، فكان عمر بن عبسة يقول: لقد رأيتني وأنا ربع الإسلام فأسلمت فقلت: أتبعك يا رسول الله؟ قال: "لا، ولكن الحق بأرض قومك فإذا ظهرت فأتني"(2).
ويشير ابن القيم -رحمه الله- إلى هذه المرحلة قائلاً:
__________
(1) انظر زاد المعاد (1/86).
(2) مستدرك الحاكم (3/617)، وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.(1/48)
"وأقام صلى الله عليه وسلم بعد ذلك (1) ثلاث سنين يدعو إلى الله -سبحانه وتعالى- مستخفياً ثم نزل عليه: ((فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ)) [الحجر:94]. فأعلن صلى الله عليه وسلم بالدعوة وجاهر قومه بالعداوة واشتد الأذى عليه وعلى المسلمين حتى أذن الله لهم بالهجرتين"(2).
ولا يخفى ما لهذه الفترة من مشقة نفسية بالنسبة لصاحب الرسالة - صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنين على السواء بحيث أنّهم كانوا لا يقدرون أن ينطقوا بالحق الذي آمنوا به أمام الناس فضلاً عن دعوة الناس إليه جهراً خائفين على أنفسهم لأنّه من المحتمل وأد الدعوة في مهدها إذا أعلنوها آنذاك إمّا بقتل صاحبها أو معتنقيها أو إفتتانهم عن دينهم والفتنة أشد من القتل.
إضافة إلى ذلك فقد كان صلى الله عليه وسلم يعاني مشقة أخرى ينفرد بها عن أصحابه وهي شدة تلقي الوحي وخاصة في أيامه الأولى التي لم يتعوده بعد حتى أنّه كان يفزع من رؤية الملك جبريك عليه السلام أمين الوحي.
ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه فرجعت فقلت: زملوني فأنزل الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)) [المدثر:1].. إلى قوله: ((وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ)) [المدثر:5] فحمى الوحي وتتابع)(3). وَمن شدائد الوحي أيضاً ما لقيه الرسول صلى الله عليه وسلم من حفظه وقراءته حتى إنه كان يسابق الملك في القراءة إلى أن نزل قوله تعالى: ((لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ)) [القيامة:16-17].
__________
(1) بعد بدء نزول الوحي عليه صلى الله عليه وسلم.
(2) زاد المعاد (1/86).
(3) صحيح البخاري، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/7).(1/49)
يقول ابن عباس -رضي الله عنه- ما في هاتين الآيتين المذكورتين: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة وكان مما يحرك شفتيه فأنزل الله تعالى: ((لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ)) [القيامة:16-17] فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أَتاه جبريل استمع فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما قرأه"(1).
يقول ابن كثير في تفسير هاتين الآيتين: "هذا تعليم من الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم في كيفية تلقيه الوحي من الملك فإنّه كان يبادر إلى أخذه ويسابق الملك في قراءته، فأمره الله -عز وجل- إذا جاءه الملك أن يستمع له، وتكفل الله له أن يجمعه في صدره وأن ييسره لأدائه على الذي ألقاه إليه وأن يبينه له ويفسره ويوضحه، فالحالة الأولى جمعه في صدره والثانية تلاوته، والثالثة تفسيره وإيضاح معناه"(2).
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنّه كان يعاني من الوحي شدة طوال فترة بعثته غير أنّه تعود وتحمل دون رعب وفزع منه ومن الملك بخلاف ما كان يعاني وقت بدايته.
ويؤيد هذا ما روته عائشة -رضي الله عنها- أنّ الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أحياناً يأتيني مثل صلصلة (3) الجرس وهو أشده عليَّ حتى يفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول"، قالت عائشة -رضي الله عنها-: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقاً"(4).
__________
(1) صحيح البخاري، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/7).
(2) تفسير القرآن العظيم: (4/449).
(3) الصلصة: صوت الحديد إذا حرك. انظر النهاية في غريب الحديث (3/46).
(4) صحيح البخاري، كتاب الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/6).(1/50)
وأما بعد أن أمر الله -سبحانه وتعالى- رسوله صلى الله عليه وسلم بالجهر بالدعوة إلى الله- فقد ازدادت الشدة عليه وعلى المؤمنين بسبب معاداة قومه دعوته وإيذائه هو وأصحابه بكل ما أوتي لهم من قوة حسيّاً ومعنوياً.
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بذل أقصى جهده في إبلاغ الدعوة إلى الناس وهو لا يخاف لومة لائم مهما كانت قوته وسلطته وتحمل المشاق في سبيل إنجاحها.
وقد سلك الرسول صلى الله عليه وسلم في إبلاغ قومه في هذه المرحلة طرقاً شتى وهي إمّا أن يطلب الناس إلى التجمع ليبلغ رسالة ربّه أو أن يذهب إلى أماكن تجمعهم كالمواسم والأسواق، أو أن يذهب إلى مواطنهم ومكان إقامتهم..
وأذكر هنا ما يؤيد ذلك من النصوص الصحيحة:
الطريقة الأولى: تجمع الناس لدعوتهم: ومما يدل على ذلك ما رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لما نزلت: ((وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ)) [الشعراء:214] خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فهتف يا صباحاه فقالوا: من هذا فاجتمعوا إليه فقال: "أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل أفكنتم مصدقي؟ "قالوا: نعم ما جربنا عليك كذباً. قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" قال أبو لهب: تباً لك ما جمعتنا إلا لهذا؟ (1)
وهذا الحديث يدل على مدى اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم إبلاغ الدعوة إلى قومه بحيث وقف على جبل الصفا في الصباح الباكر قائلاً بأعلى صوته: يا صباحاه لينبه هؤلاء حتى يجتمعوا له ومن ثم يبلغهم ما كلف به من قبل الله -سبحانه وتعالى- كما أنّه يدل على ما عانى الرسول صلى الله عليه وسلم من قومه من الاستهزاء والاستكبار والإعراض عنه والدعاء عليه وخاصة من أقرب شخص إليه وهو عمه أبو لهب الخاسر.
__________
(1) صحيح البخاري في كتاب التفسير، باب تفسير سورة (تبت يدا أبي لهب وتب) (3/222)، ومسلم في كتاب الإيمان باب (وأنذر عشيرتك الأقربين) (1/194) واللفظ للبخاري.(1/51)
ولا يخفى ما لهذه الواقعة من المشقة إذ أنها تؤدي إلى اليأس بالنسبة لصاحب الرسالة وللمؤمنين من هؤلاء لولا لطف الله وعنايته المستمرين عليهم وكذلك إخبار الله تعالى عن الأمم السابقة وموقفهم من الرسل - عليهم الصلاة والسلام- من تكذيب وتعنت تسلية له صلى الله عليه وسلم ولأصحابه.
الطريقة الثانية: وهي الذهاب إلى أماكن تجمعهم كالمواسم: ومما يدل على ذلك ما أخرجه الحاكم عن جابر بن عبد الله قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس بالموقف فيقول: "هل من رجل يحملني إلى قومه فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي" فأتاه رجل من همدان فقال: أنا فقال: "وهل عند قومك منعة؟" قال: نعم وسأله من أين هو؟ فقال: من همدان ثم إن الرجل الهمداني خشي أن يحفزه قومه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: آتي قومي فأخبرهم ثم ألقاك من عام قابل قال: نعم، فانطلق وجاء وفد الأنصار في رجب)(1).
وهذا الحديث يدل دلالة واضحة على ما قام به مشركو قريش في وقف الدعوة الإسلامية حتى اضطر صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم أن يبحث عن قوم آخرين يوجه إليهم الدعوة التي كلف بتبليغها.
وفي ترك وطنه مشقة كبرى لا يشعرها إلا من مارس ذلك بالفعل لأنّه يقال ليس الخبر كالمعاينة مع الالتفات إلى الأسباب الداعية إلى ذلك وهي ما لقي من مشركي قريش من الأذى حسياً كان أو معنوياً.
__________
(1) مستدرك الحاكم (2/612-613) وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/35) رواه أحمد ورجاله ثقات.(1/52)
ومن ذلك أيضاً ما أخرجه البخاري ومسلم عن عائشة -رضي الله عنها- أنّها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: "لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة (1) إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلاّ وأنا بقرن الثعالب(2) فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم فناداني ملك الجبال فسلم عليَّ ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين(3). فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجوا أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً"(4).
__________
(1) يوم العقبة: هو اليوم الذي وقف صلى الله عليه وسلم على العقبة التي بمنى داعياً الناس إلى الإسلام.
(2) قرن الثعالب: قرن المنازل ميقات أهل نجد - النهاية في غريب الحديث (4/54).
(3) الأخشبين - الجبلان المطيفان بمكة وهما أبو قيس والأحمر وهو جبل مشرف على قيقعان - والأخشب كل جبل غليظ الحجارة. النهاية في غريب الحديث (2/32).
(4) صحيح البخاري، في كتاب بدء الخلق باب ذكر الملائكة (2/214)، وصحيح مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين (3/1420)، واللفظ لمسلم.(1/53)
من هذه النصوص التي نقلتها آنفاً يتبين لنا مدى اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بنشر الدعوة الإسلامية واستفادته من كل فرصة متاحة في إبلاغ الدعوة إلى قومه وتحمله المشاق في سبيل ذلك من سفر وترحال مع مراعاة وسائل النقل المتاحة له في ذلك الزمان إضافة إلى ما يلقاه من أعدائه المشركين الذين بذلوا كل الجهد واستعملوا كل الوسائل المتاحة لهم بإيقاف الدعوة الإسلامية.
ثانياً: المرحلة المدنية:
بعد ما أذن الله -سبحانه وتعالى- لرسوله صلى الله عليه وسلم والذين معه بالهجرة إلى المدينة ووصلوا هناك نشأت الدولة الإسلامية الأولى قائدها الرسول صلى الله عليه وسلم ودستورها القرآن الكريم.
وقد سلك الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله طرقاً أخرى غير الذي ذكرت في المرحلة السابقة حسب ما يقتضيه المقام.
من تلك الطرق إرسال الرسل ينوبون عنه ويعلمون الدين الأقوام الذين أرسل إليهم مثل اليمن.
ويؤيد هذا ما أخرجه البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: "إنّك ستأتي قوماً من أهل الكتاب فإذا جئتم فادعهم إلى أن يشهدوا أنّ لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أنّ الله قد فرض عليم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أنّ الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على
فقرائهم فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنّه ليس بينه وبين الله حجاب"(1).
__________
(1) صحيح البخاري في كتاب المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذاً إلى اليمن (3/72-73).(1/54)
ومن ذلك أيضاً ما أخرجه البخاري بسنده عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه قال: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم جده أبا موسى ومعاذاً إلى اليمن فقال: "يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا وتطاوعا"(1).
من تلك الطرق التي سلك الرسول صلى الله عليه وسلم في نشر الدعوة إلى الله إرسال الرسائل إلى ملوك الأمم في ذلك الزمان مثل هرقل عظيم الروم وكسرى ملك الفرس وغيرهم.
وقد أخرج الإمام مسلم عن أنس: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي (2) وإلى كل جبار. يدعوهم إلى الله تعالى وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم(3).
وأذكر هنا رسالة واحدة من تلك الرسائل إلى ملوك الكفار آنذاك كنموذج يشهد لما نحن بصدده. والرسالة التي نختارها لهذا المقام هي التي وجهها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هرقل ملك الروم ونصها كما يرويها الشيخان عن ابن عباس -رضي الله عنهما هو الآتي: "بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى. أما بعد - فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين(4).
__________
(1) صحيح البخاري في كتاب المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذاً إلى اليمن (3/72-73).
(2) لقب لكل من ملك الحبشة.
(3) صحيح مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الكفار ودعوتهم إلى الله عز وجل.
(4) الأرسيون: هم الخدم والخول وقيل هم الأكارون - النهاية في غريب الحديث (1/38).(1/55)
((قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)) [آل عمران:64](1).
وبجانب هاتين الطريقتين في الفترة المدنية فقد سلك الرسول صلى الله عليه وسلم مسلكاً آخر في نشر الدعوة الإسلامية، وهو مسلك الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمته تنفيذاً لأمر الله تعالى: ((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ)) [الأنفال:39].
ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة...) (2).
وقد نفذ الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك الأمر بواسطة إرسال سرايا وبواسطة غزوات اشترك فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه حتى أنّه جرح في بعضها مثل غزوة أحد.
ولا شك أن هذا الأمر يحتاج إلى جهد كبير وصبر على الأذى وثبات في المعركة وتحمل مشقة السفر والترحال إلى مكان العدو الذي يبعد عن المدينة عاصمة الدولة في أكثر الأوقات مع مراعاة الظروف في ذلك الزمان ووسائل النقل المتاحة له صلى الله عليه وسلم ولأصحابه -رضوان الله عليهم-.
__________
(1) صحيح البخاري، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/9). وصحيح مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام (3/1396) واللفظ لمسلم.
(2) صحيح البخاري في كتاب الإيمان، باب: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلو سبيلهم (1/13)، وصحيح مسلم في كتاب الإيمان باب الأمر بقتال الناس حق يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله (1/53) واللفظ لمسلم.(1/56)
وبالإضافة إلى ذلك هناك معارضة داخلية وهي المتمثلة في اليهود وأعوانهم المنافقين الذين وقفوا في وجه نشر الدعوة الإسلامية بكل ما لديهم من قوة من غدر وتشكيك وتثبيط المؤمنين عن القتال وموالاة المشركين والتآلب مع أعداء الإسلام بغية القضاء على الإسلام ومعتنقيه.
ولا يتسع هذا المقام لأن أذكر بالتفصيل كل المؤامرات التي قام بها كلا المعسكرين اليهود والمنافقين في سبيل إيقاف نشر الدعوة الإسلامية إلى الآفاق إلا أن الحقيقة التي لا بد من ذكرها هي أنهم كانوا حجر عثرة على طريق الدعوة إلى الله طوال الفترة المدنية.
وأذكر هنا على سبيل الإجمال بعض جرائم معسكري اليهود والمنافقين: أولاً - أهم جرائم اليهود:
(أ) الكفر بآيات الله كما يدل عليه قوله تعالى: ((يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ)) [آل عمران:70].
(ب) تضليل الناس - كما يدل عليه قوله تعالى: ((وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ)) [آل عمران:69].
(ج) تلبيس الحق بالباطل وكتمان الحق كما يدل عليه قوله تعالى: ((يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)) [آل عمران:71].
(د) تحريف الكلم عن مواضعه كما يدل عليه قوله تعالى: ((مِنْ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ)) [النساء:46].
(هـ) الحسد على صاحب الرسالة وعلى المؤمنين - كما يدل عليه قوله تعالى: ((مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ)) [البقرة:105].
وأما جرائم المنافقين فهي الآتي:(1/57)
(أ) تثبيط همم المسلمين عن القتال -كما يدل عليه قوله تعالى: ((فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ)) [التوبة:81].
(ب) السعي في التفريق بين المؤمنين كما يدل عليه قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)) [التوبة:107].
(ج) القدح في أعراض المسلمين كما يدل عليه قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) [النور:11].
(د) مظاهرة أعداء الله كما يدل عليه قوله تعالى: ((بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً)) [النساء:138-139].
وبفضل الله -سبحانه وتعالى- فقد تغلب الرسول صلى الله عليه وسلم على هذين الفريقين اليهود والمنافقين.
أما اليهود فقد قضى عليهم بواسطة إجلاء فريق منهم وهم بنو النضير وغيرهم وبقتل رجال الفريق الآخر وسبي نسائهم وذريتهم وأموالهم كما هو معروف في كتب السيرة.(1/58)
ويؤيد هذا ما أخرجه البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: (حاربت قريظة والنضير فأجلي بني النضير وأقر قريظة ومنّ عليهم حتى حاربت قريظة، فقتل رجالهم، وقسم نسائهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين إلا بعضهم لحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا وأسلموا، وأجلي يهود المدينة كلهم، بني قينقاع وهم رهط عبد الله بن سلام، ويهود بني حارثة، وكل يهود المدينة "(1).
وأمّا بالنسبة للمنافقين فقد اكتفى الرسول صلى الله عليه وسلم بالجهاد معهم باللسان دون السنان والغلظة عليهم لإظهارهم الإسلام دون الاعتقاد به حقيقة.
يقول تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)) [التوبة:73].
يقول الشهيد سيد قطب في تفسير هذه الآية: "وقد اختلف في الجهاد والغلظة على المنافقين، أتكون بالسيف.. أم تكون في المعاملة والمواجهة وكشف خبيئاتهم للأنظار.. والذي وقع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقتل المنافقين"(2).
وهذه الأمور التي ذكرتها كلها تدل على اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بنشر الدعوة الإسلامية طيلة ثلاثة وعشرين عاماً في مكة والمدينة.
المبحث الثاني: الصبر على الأذى في سبيل الدعوة:
لقي النبي صلى الله عليه وسلم صنوفاً من الأذى من المشركين وأهل الكتاب والمنافقين وغيرهم محاولين إيقاف الدعوة أو إضعافها على الأقل.
وسوف أتحدث في هذا المبحث عما لقي الرسول صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الأعداء وأثر ذلك عليه صلى الله عليه وسلم وأقتصر هنا على بيان موقف المشركين لأنّ اليهود والمنافقين قد ظهر أذاهم للرسول صلى الله عليه وسلم بعدما قويت شوكة الإسلام وقامت دولته في المدينة بعد الهجرة على يدي رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب حديث بنى النضير (3/15).
(2) في ظلال القرآن: (3/1677).(1/59)
وقد سلك المشركون من قريش سبلاً شتى في إضعاف الدعوة الإسلامية وإيقافها ومحاولة وأدها في مهدها بعد ظهورها في مكة وذلك بإيذاء صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام وبمنع الناس من الإيمان به وبالتحذير منه تارة وبتعذيب المؤمنين تارة أخرى.
ولقد اتخذ العدوان الجاهلي على رسول الله وأصحابه صوراً شتى وألواناً عديدة.
ومنه ما كان يتمثل في الدعايات الكلامية الموجهة إلى شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى التهجم على الوحي بقسميه القرآن الكريم والسنة النبوية.
فلقد وجه كفار قريش اتهامات باطلة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حيث وصفوه بالجنون وبالسحر، وإنشاء الشعر مع إيمانهم وتيقنهم بأنه صلى الله عليه وسلم بريء من كل هذا.(1/60)
وممَّا يؤيد ذلك ما أخرجه الحاكم عن ابن عباس -رضي الله عنه- أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال: يا عم إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالاً. فقال: لم؟ قال: ليعطوكه، وإنك آتيت محمداً لتعرض لما قبله قال: قد علمت قريش أنّي من أكثرها مالاً، قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك إنك منكر له أو إنّك كاره له. قال: وماذا أقول؟، فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار منّي ولا أعلم برجز ولا بقصيدة منّي ولا بأشعار الجن والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا والله إنّ قوله الذي يقول لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة (1) وإنه لمثمر أعلاه مغدق (2) أسفله، وإنه ليعلوا وما يعلى وإنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه. قال: فدعني حتى أفكر، ففكر، فلمّا فكر قال: هذا سحر يؤثره عن غيره، فنزلت: ((ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً)) [المدثر:11](3).
هكذا كان شأنهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أنهم يقرّون الحق في ضميرهم دون النطق به، بل ينكرونه ويجحدونه مصداقاً لقوله تعالى: ((وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً)) [النمل:14]، ومصداقاً لقوله تعالى أيضاً:
((فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)) [الأنعام:33].
وقد صور الله تعالى بعض أقاويلهم في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى حاكياً عن أقوالهم حيث قالوا:
__________
(1) طلاوة: رونقاً وحسناً، وقد تفتح الطاء. النهاية في غريب الحديث (3/137).
(2) مغدق: من غدق، والغدق بفتح الدال المطر الكبير القطر، يقول: أغدق المطر يغدق إغداقاً فهو مغدق. النهاية في غريب الحديث (3/345).
(3) مستدرك الحاكم (2/507) وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد على شرط البخاري ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.(1/61)
((يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ)) [الحجر:6].
وقالوا: ((هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ)) [ص:4].
وقالوا: ((إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً)) [الإسراء:47].
وقالوا: ((وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ)) [الصافات:36].
وقالوا: ((مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ)) [ص:7].
وقالوا: ((مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ)) [الدخان:14].
وأمّا تهجمهم على القرآن فكثير أذكر طرفاً منه على سبيل المثال لا الحصر كما يحكي ربّنا عنهم.
من ذلك قولهم: ((أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً)) [الفرقان:5].
ومنها قولهم: ((لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)) [فصلت:26].
ومنها قولهم: ((إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ)) [المدثر:24].
ومنها قولهم: ((لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً)) [الفرقان:32].
ومنها قولهمِ: ((لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)) [الزخرف:31].
وكان هذا دأب كل قوم مع رسولهم كما يدل عليه قوله تعالى حاكياً عن موقف الأمم السابقة من رسلهم: (كَذَلِكَ مَا أتَى الذِينَ مِن قبلِهم مِن رَسُولِ إلا قَالُوا سَاحِر أو مَجنُونٌ * أتَوَاصَوا بهٍ بَل هُم قومٌ طَاغُونَ) (6).
يقول الشوكاني عند تفسيره هاتين الآيتين: "في هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ببيان أنّ هذا شأن الأمم المتقدمة وأنّ ما وقع من العرب من التكذيب لرسول الله ووصفه بالسحر والجنون قد كان ممن قبلهم لرسلهم"(1).
__________
(1) تفسير فتح القدير (5/91-92).(1/62)
ويقول الشهيد سيد قطب في هذا الصدد: " فهي جبلة واحدة وطبيعة واحدة للمكذبين وهو استقبال واحد للحق وللرسل يستقبلهم به المنحرفون"(1).
وهذه الاتهامات التي ذكرتها يعتبر قطرة من بحر بالنسبة لما وجه إلى صاحب الرسالة ورسالته من اتهامات وافتراءات إلا أنها تدل دلالة واضحة على تعنت هؤلاء المشركين وموقفهم المتزمت تجاه الدعوة وصاحبها صلى الله عليه وسلم طيلة المدة التي أقام المصطفى بين أظهرهم.
وقد رد الله -سبحانه وتعالى- عن رسوله وعن دينه هذه التهم في كثير من الآيات: منها قوله تعالى: ((مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ)) [القلم:2].
ومنها قوله تعالى: ((وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ)) [يس:69].
ومنها قوله تعالى: ((مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى)) [النجم:2-4].
ومنها قوله تعالى: ((وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ)) [الحاقة:41-42].
ومن العدوان الذي قام به المشركون أيضاً ما كان يتمثل في إيذائه صلى الله عليه وسلم جسدياً بغية أن يعدل عن دعوته كلية أو جزءاً منها.
من ذلك إيذاؤه صلى الله عليه وسلم بالخنق بواسطة ثوبه كما فعل عقبة بن أبي معيط.
__________
(1) في ظلال القرآن الكريم: (6/3386).(1/63)
يدل على ذلك ما أخرجه البخاري بسنده عن عمرو بن العاص لما سأله عروة بن الزبير عن أشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ودفع عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ((أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ)) [غافر:28](1).
ومن ذلك إلقاء القاذورات عليه صلى الله عليه وسلم كما فعل عقبة بن معيط أيضاً.
أخرج البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "بينا النبي صلى الله عليه وسلم ساجد وحوله ناس من قريش جاء عقبة ابن أبي معيط بسلا جزور فقذفه على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرفع رأسه فجاءت فاطمة -عليها السلام- فأخذته من ظهره ودعت على من صنع فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم عليك بالملأ من قريش أبا جهل بن هشام بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلف أو أبي بن خلف(2) "شعبة الشاك" فرأيتهم قتلوا يوم بدر فألقوا في بئر إلا أمية أو أبي تقطعت أوصاله فلم يلق في البئر"(3).
ومن ذلك أيضاً المقاطعة العامة التي فرضت عليه صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين من أقربائه وغير المؤمنين الذي وقفوا بجانبه تعصباً وحميّة.
__________
(1) كتاب المناقب باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكة (2/321).
(2) والصحيح أمية لأن أبي قد قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد كما هو مشهور في كتب السيرة. انظر زاد المعاد (3/199).
(3) صحيح البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكة (2/321).(1/64)
وقد ذكر أصحاب السير هذه المقاطعة العامة ومن بينهم الإمام ابن كثير -رحمه الله- في كتابه السيرة النبوية يروي ذلك تعليقاً عن ابن إسحاق صاحب المغازي قال: " فلما رأت قريش أنّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزلوا بلداً أصابوا منه أمناً وقراراً، وأنّ النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم وأن عمر قد أسلم، فكان هو وحمزة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وجعل الإسلام يفشوا في القبائل فاجتمعوا وأتمروا على أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب على ألا ينكحوا إليهم ولا يناكحوهم، ولا يبيعوهم شيئاً ولا يبتاعوا منهم، فلما اجتمعوا لذلك كتبوا في صحيفة، ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم"(1).
ويقول ابن إسحاق أيضاً: " فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثاً، حتى جهدوا ولم يصل إليهم بشيء إلا يسراً مستخفياً من أراد صلتهم من قريش "(2).
وقد ظل الحصار مفروضاً عليهم في تلك المدة حين كان يسمع أصوات صبيانهم يتضاغون من وراء الشعب من الجوع(3).
ومن ذلك محاولة إغرائه صلى الله عليه وسلم بواسطة ما عرضوا عليه من مغريات مادية عساه أن يجنح لبعضها حسب ما تقتضي عقولهم وأهواؤهم وحسب ما تقتضي الموازين الأرضية.
__________
(1) السيرة النبوية: (2/47-48).
(2) المصدر السابق: (2/50).
(3) انظر المصدر السابق: (2/47).(1/65)
يروى أنّ عتبة بن ربيعة وكان سيداً قال يوماً وهو جالس في نادي قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها فيعطيه أيها شاء ويكف عنّا وذلك حين أسلم حمزة -رضي الله عنه- ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون، فقالوا يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخي إنك منّا حيث علمت من السطة في العشيرة والمكان في النسب وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل يا أبا الوليد أسمع" قال: يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع ردّه عن نفسك طلبنا لك الأطباء وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه أو كما قال له، حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال: "أفرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، قال: فاستمع مني" قال: أفعل، فقرأ صلى الله عليه وسلم صدر سورة فصلت إلى السجدة منها ثم قال: "قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك"(1).
ومن إيذائهم أيضاً التآمر على قتله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/91) ويروي البنوي هذه القصة في تفسيره (6/107) عن جابر -رضي الله عنه- وحسن الألباني سندها في تعليقاته على فقه السيرة للغزالي. انظر هامش (ص:113) من فقه السيرة.(1/66)
ويؤيد هذا ما روي عن ابن عباس -رضي الله عنه- أن الملأ من قريش اجتمعوا في الحجر فتعاقدوا باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ونائلة وإساف (1) لو قد رأينا محمداً لقمنا إليه قيام رجل واحد فلم نفارقه حتى نقتله، فأقبلت ابنته فاطمة تبكي حتى دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: هؤلاء الملأ من قومك قد تعاقدوا عليك لو قد رأوك لقاموا إليك فقتلوك فليس منهم رجل إلا قد عرف نصيبه من دمك(2).
وقد أشار القرآن إلى تلك الحادثة بقوله تعالى: ((وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)) [الأنفال:30].
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواجههم بالصبر على أذاهم والثبات على مبدئه طيلة الفترة المكية إيماناً بأنّ الله -عز وجل- سوف ينصره وينصر دينه وإن تأثر بإيذائهم له صلى الله عليه وسلم تأثراً حتى نبهه الله - سبحانه تعالى- بذلك في عدة مواضع من القرآن على سبيل التسلية والتوجيه.
يقول تعالى: ((وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ)) [الحجر:97-98].
ويقول الله تعالى: ((فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)) [هود:12].
ويقول تعالى: ((فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً)) [الكهف:6].
__________
(1) الخمسة أسماء لآلهة المشركين.
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/303)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/228) رواه أحمد بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح، وقال الشيخ أحمد شاكر في شرح المسند (4/2763) كلا الإسنادين صحيح.(1/67)
ويقول تعالى: ((...فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)) [فاطر:8].
المبحث الثالث: تكميل الدين وإتمام النعمة:
لقد جعل الله -سبحانه وتعالى- نبينا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين.
يقول تعالى: ((مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ)) [الأحزاب:40].
ويقول صلى الله عليه وسلم: "إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة قال: فأنا تلك اللبنة وأنا خاتم النبيين"(1).
وقال صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: " ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه ليس نبي بعدي "(2).
فهذه النصوص من القرآن والسنة كلها تدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وإن ادّعى المدعون النبوة قديماً وحديثاً.
يقول ابن كثير عند تفسيره الآية السابقة: " فهذه الآية نص في أنّه لا نبي بعده وإذا كان لا نبي بعده فلا رسول بالطريق الأولى والأحرى لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة فإنّ كل رسول نبي ولا ينعكس، وبذلك وردت الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث جماعة من الصحابة -رضوان الله عليهم- "(3).
وعلى هذا فإن رسالته ختمت بها الرسالات السابقة كلها ومن ثم لا يقبل الله أن يدين أحد بسواها بعد نزولها لنسخها ما قبلها سواء كان يدين برسالة سماوية سابقة كاليهودية والنصرانية أو لا كعبدة الأوثان والأصنام. يقول تعالى: ((وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ)) [آل عمران:85].
__________
(1) صحيح البخاري كتاب المناقب، باب خاتم النبيين (2/370).
(2) صحيح البخاري كتاب المغازي، باب غزوة تبوك (3/86).
(3) تفسير القرآن العظيم: (3/493).(1/68)
ويقول صلى الله عليه وسلم مؤكداً ذلك: " لو كان موسى حيّاً ما وسعه إلاّ أن يتبعني "(1).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار "(2).
يؤيد هذا قوله تعالى: ((وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ)) [آل عمران:81].
يقول ابن عباس -رضي الله عنهما- في هذه الآية التي نحن بصددها: "ما بعث الله نبياً من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث الله محمداً وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه"(3).
ويروى مثل هذا القول عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-(4).
وقد تميزت رسالته صلى الله عليه وسلم بأمور ثلاثة تفوق بها على الرسالات التي قبلها وتؤهلها لأن تكون خاتمة:
أولاً: العموم: بمعنى أن رسالة الإسلام ليست محددة بزمن من الأزمان ولا بمكان من الأمكنة ولا بأمة دون الأمم منذ نزولها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
يقول تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)) [سبأ:28].
__________
(1) رواه الدارمي (1/115-116) وحسنه الألباني في تعليقه على مشكاة المصابيح (1/63).
(2) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته (1/134).
(3) انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/378).
(4) انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/378).(1/69)
ويقول تعالى أيضاً: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)) [الأنبياء:107].
ويقول تعالى أيضاً آمراً إعلان هذا الأمر: ((قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً)) [الأعراف:158] وهذه النصوص كلها تدل على عمومية رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وهي من إحدى خصائصه كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: " أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي... -ثم ذكر من بينها- وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس كافة "(1).
ويؤيد خصوصية الرسالات السابقة قوله تعالى((وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ)) [فاطر:24].
ثانياً: الحفظ: حيث تكفل الله بحفظها باقية كما نزلت إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها دون تغيير شيء منها بالنقص منها أو الزيادة عليها.
يقول تعالى: ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)) [الحجر:9] وهذا أمر مشاهد اليوم لا ينكره أحد بحيث لم يتغير منها شيء بعد أربعة عشر قرناً وستبقى كذلك إلى حين يشاء الله تعالى، بخلاف الكتب السابقة التي تعرضت للتحريف والتبديل من قبل أصحابها كالتوراة والإنجيل.
ثالثاً: الكمال والتمام: ولقد أكملها سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم كما يدل عليه قوله تعالى: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً)) [المائدة:3].
وقد نزلت هذه الآية في حجة الوداع في العام العاشر من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم كما ورد في الحديث الصحيح.
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب التيمم (1/70).(1/70)
روى البخاري بسنده عن طارق بن شهاب قال: قالت اليهود لعمر: إنكم تقرأون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيداً فقال عمر: " إني لأعلم حيث أنزلت وأين أنزلت وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت يوم عرفة، وإنا والله بعرفة "(1).
ومن هنا أقول إنّ هذه الآية نزلت بعد جهاد طويل دام ثلاثة وعشرين سنة وفي وقت أظهر الله دينه وفي حجة الوداع الذي لم يحج فيه مشرك لما ورد في الصحيح.
روى البخاري بسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: " بعثني أبو بكر -رضي الله عنه- في تلك الحجة في المؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان "(2).
وكان ذلك في العام التاسع من الهجرة. ولهذا لم يحج عام حجة الوداع الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرك.
كما أني أقول أيضاً: إنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد أبلغ الأمة ما كلف به دون كتمان شيء تنفيذاً لأمر الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)) [المائدة:67].
وتقول عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- في هذا الصدد: " من حدثك أنّ محمداً قد كتم شيئاً مما أنزل عليه، فقد كذب، والله يقول: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ)) [المائدة:67] (3)(4).
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب: (اليوم أكملت لكم دينكم) (3/123).
(2) صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب: (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج) (3/134).
(3) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) (3/125).
(4) قال القاضي عياض: كذا الرواية فيه بالتاء المثناة فوق وهو بعيد المعنى، قيل صوابه ينكبها. ومعناه ويرددها إلى الناس مثيراً إليهم، ومنه نكب كنانته إذا قلبها. شرح النووي على صحيح مسلم (8/184) وانظر مقدمة هذا البحث.(1/71)
وقد شهد له بذلك جموع من أصحابه -رضوان الله عليهم- في حجة الوداع حينما قال لهم أثناء خطبته بوادي عرنة في يوم عرفة: ".. أنتم مسؤولون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: "نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت" فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكبها (1) إلى الناس: "اللهم أشهد اللهم أشهد، ثلاث مرات.. "(2).
ولا يخفى أن مثل هذا الأمر يتطلب جهداً وتحملاً للمشقة كما أنّه يتطلب الصبر على الأذى والثبات أمام المغريات.
وقد تحمل صلى الله عليه وسلم مشقة كبيرة في سبيل نشر الدعوة وإبلاغها إلى الناس كما أنه تحمل أذى المشركين والمنافقين واليهود ومن في حكمهم بالصبر تارة وبالجهاد معهم تارة أخرى طيلة ربع قرن من الزمن تقريباً.
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الحج، باب: حجة النبي صلى الله عليه وسلم (2/890).
(2) ذكرى المولد النبوي (ص:41-42).(1/72)
وقد ذكر محمد رشيد رضا خلاصة عمله صلى الله عليه وسلم في مكة والمدينة حيث قال: "أقام صلى الله عليه وسلم في مكة بعد بدء التبليغ عشر سنين، يدعو إلى أصول الإيمان وكليات الدين، من التوحيد الخالص، والعمل الصالح، وتزكية النفس بتطهيرها من أدران الرذائل، وتحليتها بأحاسن الأخلاق وعقائل الفضائل، واستعمال نعم الله تعالى من بدنية وعقلية، وسماوية وأرضية، فيما تظهر به حكمه ونشاهد آياته في الخلق، وتتسع بها العلوم التي يعرف بها الحق وتكثر موارد الرزق، صابراً مع السابقين من المؤمنين، على الاضطهاد والأذى من المشركين، على أنهم عرضوا عليه الملك والمال والدثر، على أن يترك هذا الأمر، ولو كان لطلب الرياسة لآثر على الضعف والفقر، ثم دخل الإسلام بالهجرة في عهد الحرية، وتكونت له قوة العصبية، وجاء الوحي فيه مفصلاً لما أجمل في السور المكية من الأحكام، وبيان الحلال والحرام، وفيه فرضت الزكاة والحج والصيام، وكانت الصلاة فرضت بمكة في أول الإسلام وبينت السنة النبوية جميع فروع العبادات، وكل ما يحتاج إليه من النصوص والقواعد السياسية وأنواع المعاملات، فبذلك كله أكمل الله الدين وأتم نعمته على المؤمنين وقد تربى على ذلك الألوف من المهاجرين والأنصار ".(1/73)
وهذه الأمور التي ذكرها تمت كلها في فترة وجيزة للغاية لا تتجاوز ربع قرن من الزمن بل أقل من ذلك. بحيث تقتضي هنا الإعجاب والتقدير معاً لمن قام بها وحققها في واقع الحياة وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم بفضل من الله سبحانه وتعالى: يقول أبو الحسن الندوي معرباً إعجابه بذلك: "لقد كان الانقلاب (1) الذي أحدثه صلى الله عليه وسلم في نفوس المسلمين وبواسطتهم في المجتمع الإنساني أغرب ما في تاريخ البشر، وقد كان هذا الانقلاب غريباً في كل شيء، كان غريباً في سرعته، وكان غريباً في عمقه، وكان غريباً في سمعته وشموله، وكان غريباً في وضوحه وقربه إلى الفهم. فلم يكن غامضاً ككثير من الحوادث الخارقة للعادة ولم يكن لغزاً من الألغاز "(2).
وقد نتج عن عمله صلى الله عليه وسلم الأمور التالية:
1- القضاء على الوثنية وإحلال محلها الإيمان بالله واليوم الآخر.
2- القضاء على الرذائل الجاهلية وأقام مقامها الفضائل ومكارم الأخلاق.
3- إقامة الدين الحق الذي يصل بالإنسان إلى أقصى ما قدر له.
4- إحداث انقلاب (3) وتغيير شامل للأوضاع ونظام الحياة الذي درج عليه أهل الجاهلية.
5- توحيد الأمة العربية تحت راية القرآن في فترة وجيزة(4).
يقول سيد سابق بعد ذكره النقاط السابقة: "هذه هي الأعمال التي تمثل نجاح الرسول صلى الله عليه وسلم في مهمته وهي كما تبدو كلها أمور كبيرة وإقامتها بل إقامة واحد منها من الخطورة بمكان وأنّه لا يمكن أن يتأتى النجاح لفرد في بعض هذه الأعمال فضلاً عن توفر النجاح في كل ناحية من هذه النواحي "(5).
__________
(1) الانقلاب مصطلح حديث يستعمل للخير والشر معاً وخاصة للشر في هذا العصر لذلك من الأفضل والأولى وصف الإسلام بالتغيير الكلي أو الإصلاح الجذري.
(2) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين (ص:88-89).
(3) انظر هامش رقم (2) في الصفحة السابقة.
(4) العقائد الإسلامية (ص:200-201) مع التصرف.
(5) المصدر السابق (ص:201).(1/74)
وعلى هذا فعلى المسلم أن يتأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم تقديراً لما قام به من أعمال جليلة في سبيل وصول الإسلام إلى الناس في زمانه وإلى الذين من بعده حتى يرث الله الأرض ومن عليها ولما أثر عنه صلى الله عليه وسلم من صفات حميدة من ناحية الخلقية والخلقية والتي بينتها في الفصل الأول من هذا الباب مع ما أنعم الله عليه من النبوة والرسالة التي ختم الله بها الرسالات كلها.
الباب الثاني
أنواع الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم
الأدب مفهوم يتعلق بأعمال الإنسان بصورة عامة، وأنواع الأعمال تبعاً للتقسيم الواقعي لا تتعدى ثلاثة أنواع لأنها إمّا أن يكون مصدرها القلب وهي الأعمال القلبية كالحب والألفة والسرور، وإمّا أن يكون مصدرها اللسان وهي الأقوال والألفاظ، وإمّا أن يكون مصدرها الجوارح وهي الحركة والمشي وهكذا.
والأدب متصل بهذه الأنواع الثلاثة، ولذلك كان على المسلم أن يلتزم بكل منها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا بد من حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وتوقيره ولا بد من الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم، ولا بد من اتباعه وطاعته واتخاذه أسوة وقدوة.
وقد عقدت هذا الباب للحديث عن أنواع الأدب مع الرسول -صلى الله عليه وسلم -، ولذلك جاء في ثلاثة فصول:
الفصل الأول: الأدب القلبي.
الفصل الثاني: الأدب القولي.
الفصل الثالث: الأدب العملي.
وسوف أبحثها بعون الله بنفس الترتيب فيما يلي:
الفصل الأول
الأدب القلبي
الأدب القلبي هو ما كان مصدره القلب مثل التصديق، والحب، والإخلاص وهكذا..
والآداب القلبية لها شأن عظيم تبعاً لأهمية مصدرها، لأنّ القلب سيد أعضاء الجسد يقودها ويوجهها، ويصبغها بصبغته ومحتواه.(1/75)
لقوله صلى الله عليه وسلم: "...ألا إن في الجسد مضغة (1) فإذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب "(2).
ولهذا يعتبر القلب طاقة ذات أهمية كبيرة بالنسبة لحياة الإنسان في الدنيا والآخرة.
فهو أساس الأعمال الظاهرة لقوله صلى الله عليه وسلم: " إنّما الأعمال بالنيات وإنّما لكل امرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى امرأة ينكحها أو لدنيا يصيبها فهجرته إلى ما هاجر إليه "(3).
وبه يكون قبول الأعمال عند الله تعالى لقوله سبحانه: ((لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ)) [البقرة:225].
وهو محل الإيمان لقوله تعالى: ((وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ)) [الحجرات:7].
ولقوله تعالى: ((كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ)) [المجادلة:22].
وهو أيضاً محل الهداية لقوله تعالى: ((وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ)) [التغابن:11]. كما أنّه محل للتقوى. لقوله تعالى: ((ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)) [الحج:32].
__________
(1) المضغة: القطعة من اللحم، قدر ما يمضغ، وجمعها مضغ، وهنا تعني القلب، لأنه قطعة لحم من الجسد. انظر النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (4/339).
(2) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب من استبرأ لدينه (1/19-20).
(3) صحيح البخاري، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/6).(1/76)
والقلب كما يوجه صاحبه للإيمان والهداية إذا استقام على الفطرة، وتدبر آيات الله واستفاد منها، يوجه صاحبه كذلك إلى المعصية والضلال إن بعد عن فطرته. وانشغل بالهوى والشهوات وحينئذ يكون مصدر الكفر لقوله تعالى: ((وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ)) [البقرة:93].
ومحل الشك والريب لقوله تعالى: ((إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ)) [التوبة:45].
ومحل التعصب وحمية الجاهلية لقوله تعالى: ((إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ)) [الفتح:26].
يقول النيسابوري: "القلب صالح لأن يميل إلى الإيمان وصالح لأن يميل إلى الكفر وكل منهما يتوقف على داعية ينشئها الله تعالى فيه، إذ لو حدثت بنفسها لزم سد باب إثبات الصانع فإن كانت داعية الكفر فهو الخذلان والإزاغة والصد والختم والطبع والريبة وغيرها مما ورد في القرآن، وإن كانت داعية الإيمان فهو التوفيق والرشاد والهداية والتثبيت والعصمة ونحوها"(1). ثم استشهد بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء "(2).
ومن هنا قيل سمي القلب قلباً لتقلبه وتغايره.
وعلى هذا سأل الرسول صلى الله عليه وسلم ربّه -عز وجل- أن يثبت قلبه على طاعته قائلاً: " اللهم مصرف القلوب صرّف قلوبنا على طاعتك "(3).
وفي هذا الفصل سوف نتحدث عن الآداب التي محلها القلب وسيأتي مكوناً من مبحثين هما:
المبحث الأول: الإيمان بنبوته صلى الله عليه وسلم.
المبحث الثاني: محبته صلى الله عليه وسلم.
وذلك فيما يلي:
__________
(1) غرائب القرآن، (3/131-132).
(2) صحيح مسلم، كتاب القدر، بات تصريف الله القلب كيف شاء (4/2045).
(3) صحيح مسلم، كتاب القدر، باب تصريف الله القلب كيف شاء (4/2045).(1/77)
المبحث الأول: الإيمان بنبوته صلى الله عليه وسلم:
من الآداب القلبية المتصلة برسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان بنبوته صلى الله عليه وسلم بل هو رأس الآداب كلها لأن الإيمان به صلى الله عليه وسلم ركن من أركان العقيدة وأساس من أسس الدين وأما غيره من الآداب فتابعة له بحيث إذا اختل هذا الركن يختل معه الآداب الأخرى.
وعلى هذا، فأول ما يطلب من الأنام تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان به صلى الله عليه وسلم بعد الإيمان بالله عز وجل بل إنهما متلازمان لقوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً *أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً *وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً)) [النساء:150-152].
ولأهمية الإيمان به صلى الله عليه وسلم جعلت الكلام عنه في صدارة الباب المتعلق بالآداب مع رسول صلى الله عليه وسلم.
وسوف نتطرق في هذا المبحث إلى المسائل المتعلقة بهذا الموضوع وهي على النحو التالي:
1- تعريف الإيمان لغة واصطلاحاً.
2- حكم الإيمان به صلى الله عليه وسلم.
3- أصناف الناس في الإيمان به صلى الله عليه وسلم.
4- ثمرة الإيمان به صلى الله عليه وسلم.
وسوف أبحثها بمشيئة الله وفق هذا الترتيب.
1- تعريف الإيمان: يعد التعريف اللغوي مدخلاً للتعريف الاصطلاحي ولذلك سأبدأ بتعريف الإيمان لغة وبعده أعرّفه بما قال علماء الاصطلاح. وذلك فيما يلي:(1/78)
(أ) تعريف الإيمان في اللغة: يقول الأزهري(1): " الإيمان: مصدر آمن يؤمن إيماناً، واتفق أهل العلم من اللغويين وغيرهم على أنّ الإيمان معناه التصديق "(2).
ويقول ابن فارس(3): " الهمزة والميم والنون أصلان متقاربان أحدهما الأمانة التي هي ضد الخيانة ومعناها سكون القلب، والآخر التصديق، والمعنيان كما قلنا متدانيان "(4).
ويقول الفيروزأبادي (5) في مادة (آمن): " آمن به إيماناً صدقه "(6).
ويقول ابن منظور (7) في مادة (آمن): " والإيمان بمعنى التصديق، وضده التكذيب، ويقال آمن به قوم وكذبه قوم"(8). أي: صدقه بعضهم دون بعض.
وهذه التعاريف التي نقلتها عن أهل اللغة تدور حول معنى واحد وهو التصديق ومنه قوله تعالى حكاية عن قول إخوة يوسف عليه السلام لأبيهم يعقوب عليه السلام.
((وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ)) [يوسف:17] أي بمصدق لنا.
يقول الأزهري بعد ذكر الآية السابقة: " لم يختلف أهل التفسير أنّ معناه وما أنت بمصدق لنا "(9).
ولهذا نقول: اتفق أهل التفسير مع أهل اللغة على أنّ الإيمان في اللغة هو التصديق.
(ب) الإيمان في الشرع: الإيمان عند جهور أهل السنة هو التصديق بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان، أي عقد وقول وعمل.
يقول ابن تيمية -رحمه الله تعالى- حكاية عن أقوال السلف في تفسير الإيمان: " فتارة يقولون: قول وعمل.
وتارة يقولون: قول وعمل ونية.
__________
(1) هو أبو منصور محمد بن أحمد الأْزهري (292-370هـ).
(2) تهذيب اللغة مادة أمن (15/513).
(3) تقدمت ترجمته في (ص:25).
(4) معجم مقاييس اللغة (1/133).
(5) مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزأبادي المتوفى سنة (817هـ). انظر ترجمته في بغية الوعاة (2/273-275).
(6) القاموس المحيط (4/199).
(7) تقدمت ترجمته في (ص:25).
(8) لسان العرب (13/21).
(9) تهذيب اللغة، (15/514).(1/79)
وتارة يقولون: قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، وكل هذا صحيح "(1).
وكل هذه الأقوال المنقولة عن السلف والمتعلقة في تفسير الإيمان تؤول إلى معنى واحد وإن اختلفت ألفاظها كمّاً وكيفاً كما وضح ذلك شيخ الإسلام حيث قال: " إن من قال من السلف: الإيمان قول وعمل أراد قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح، ومن أراد الاعتقاد رأى أنّ لفظ القول لا يفهم منه إلاّ القول الظاهر أو خاف ذلك فزاد الاعتقاد بالقلب، ومن قال: قول وعمل ونية، قال القول يتناول الاعتقاد وقول اللسان، وأمّا العمل فقد لا يفهم منه فزاد ذلك، ومن زاد اتباع السنة فلأن ذلك كله لا يكون محبوباً لله إلاّ باتباع السنة "(2).
وإذا نظرنا إلى التعاريف الاصطلاحية التي ذكرناها لتفسير الإيمان نجد أنه لا يوجد تعريف خال عن عمل القلب أو ما يفيد معناه.
ولهذا السبب تكلمت عن الإيمان بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الفصل الذي عقدته للأدب القلبي وإن كان يشمل الأعمال الظاهرة على قول أهل السنة إلا أنّ النية عمود الأعمال الظاهرة وأساسها وبها الثواب والعقاب وإن لم يصاحبها عمل أحياناً، والنية محلها القلب كما هو معلوم.
يقول ابن القيم -رحمه الله-: " الإيمان له ظاهر وباطن، وظاهره قول اللسان وعمل الجوارح، وباطنه تصديق القلب وانقياده ومحبته، فلا ينفع ظاهر لا باطن له، وإن حقن الدماء وعصم به الأموال والذرية، ولا يجزئ باطن لا ظاهر له، إلاّ إذا تعذر بعجز وإكراه أو ضعف وإكراه "(3).
هذا هو تعريف الإيمان بصورة عامة، وأمّا تعريف الإيمان بنبوته - صلى الله عليه وسلم- فهو الإقرار بنبوته صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً والتسليم له بما جاء به صلى الله عليه وسلم جملة وتفصيلاً عند العلم به.
__________
(1) الإيمان (146).
(2) المصدر السابق: (146-147).
(3) الفوائد: (85).(1/80)
يقول القاضى عياض: " والإيمان به صلى الله عليه وسلم هو تصديق بنبوته ورسالة الله تعالى له وتصديقه في جميع ما جاء به وما قاله، ومطابقة تصديق القلب بذلك بشهادة اللسان بأنّه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا اجتمع التصديق به بالقلب والنطق بالشهادة بذلك باللسان، تم الإيمان به -عليه الصلاة والسلام- والتصديق له صلى الله عليه وسلم(1).
ومن هذا يتبيّن أنّ الإيمان به صلى الله عليه وسلم يستلزم ثلاثة أمور هي: 1- الإيمان به صلى الله عليه وسلم باطناً جازماً بذلك دون شك.
2- شهادة اللسان بذلك إظهاراً لما في قلبه ما لم يكن صاحبه عاجزاً عن ذلك.
3- العمل بمقتضى ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم دون اعتراض أو ترك.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " فلا يكون الرجل مؤمناً حتى يقر بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وهو تحقيق شهادة أنّ لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله، فمن شهد أنّه رسول الله شهد أنّه صادق فيما يخبر به عن الله -تعالى-، فإنّ هذا حقيقة الشهادة بالرسالة.. وبالجملة فهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام لا يحتاج إلى دليل، وهو الإقرار بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وهو نفس ما جاء به القرآن وجاءت به السنة "(2).
ويقول ابن القيم -رحمه الله تعالى-: " والإيمان هو حقيقة مركبة من معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم علماً والتصديق به عقداً، والإقرار به نطقاً، والانقياد به محبة وْخضوعاً، والعمل به باطناً وظاهراً، وتنفيذه والدعوة إليه بحسب الإمكان "(3).
هذا هو الإيمان المعتد به عند الله -سبحانه وتعالى- في الدنيا والآخرة، وأمّا إذا فقد أمر من الأمور الثلاثة التي ذكرناها فلكل حكمه الخاص كما سوف نبينه عند كلامنا عن أصناف الناس في الإيمان به - صلى الله عليه وسلم-.
__________
(1) الشفا بتعريف حقوف المصطفى: القاضي عياض (2/539).
(2) القاعدة المراكشية: (24-25).
(3) الفوائد (107).(1/81)
حكم الإيمان به صلى الله عليه وسلم: الإيمان به صلى الله عليه وسلم واجب على كل مكلف بلغته الدعوة الإسلامية على وجهها الصحيح، والأدلة على ذلك كثيرة في القرآن وفي السنة.
أمّا أدلة القرآن الكريم فإنّها تنقسم إلى قسمين: قسم يشهد له ولغيره من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وقسم يشهد له صلى الله عليه وسلم خاصة.
أمّا ما يشهد له ولغيره من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فمنه قوله تعالى: ((آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ)) [البقرة:285] وقوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً)) [النساء:149-150].
وأمّا ما يشهد له صلى الله عليه وسلم خاصة فكثيرة: منها قوله تعالى: ((فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)) [الأعراف:158].
ومنها قوله تعالى: ((فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)) [التغابن:8].
ومنها قوله تعالى: ((وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً)) [الفتح:13].
وأمّا أدلة السنة فإنها تنقسم إلى قسمين على نمط أدلة القرآن الكريم ولذلك ترى في السنة ما يشهد لرسول الله ولغيره من الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، وما يشهد له صلى الله عليه وسلم خاصة.(1/82)
أمّا ما يشهد له ولغيره من الرسل -عليهم الصلاة والسلام- جميعاً: فمنه إجابة النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام بعد ما سأله عن الإيمان حيث قال: " الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث "(1).
وأمّا ما يشهد له صلى الله عليه وسلم فكثيرة منها ما أخرجه الشيخان عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاّ بحق الإسلام وحسابهم على الله "(2).
ومنها ما أخرجه الإمام مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلاّ كان من أصحاب النار "(3).
والنصوص السابقة تفيد وجوب الإيمان به صلى الله عليه وسلم من عدة وجوه: الأول: الأمر بالإيمان به صلى الله عليه وسلم كما يفيده قوله تعالى: ((فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ)) [الأعراف:158].
وقوله تعالى أيضاً: ((فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا)) [التغابن:8].
__________
(1) البخاري في كتاب الأيمان في باب سؤال جبريل صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة (1/18).
(2) البخاري في كتاب الإيمان، باب: (فأن أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) (1/13). واللفظ له، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله محمد رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. (1/53).
(3) مسلم في كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته (1348).(1/83)
الثاني: تسمية من لم يؤمن به كافراً كما يفيد قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقّاً)) [النساء:150-151].
الثالث: الوعيد لمن لم يؤمن به صلى الله عليه وسلم بإدخال العذاب.
كما يدل عليه قوله تعالى: ((وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً)) [الفتح:13].
الرابع: الأمر بقتال من لم يؤمن به صلى الله عليه وسلم كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أنّ لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلاّ بحق الإسلام وحسابهم على الله "(1).
الحاصل أنّ الإيمان به صلى الله عليه وسلم يستلزم الإيمان بالرسل السابقين جميعاً -عليهم الصلاة والسلام- وأنّ الكفر بأحد منهم كفر بهمِ جميعاً كما يدل عليه قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقّاً)) [النساء:150-151].
__________
(1) تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.(1/84)
وكل هذه الأمور التي استنبطت من الأدلة السابقة في القرآن وفي السنة تدل على وجوب الإيمان به صلى الله عليه وسلم لورود الأمر به والأمر يقتضي الوجوب ما لم يعارض ولا معارض له هنا، ولورود الوعيد على عدم الإيمان به صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أنّ الوعيد لا يتأتى إلاّ على ترك أمر واجب أو فعل محرم، ووصف من لم يؤمن به - صلى الله عليه وسلم- بالكفر، ولا يوصف بالكفر إلا من ترك واجباً متعمداً، ولورود الأمر بقتال من لم يؤمن به صلى الله عليه وسلم ولا يقاتل إلا على ترك واجب.
3- أصناف الناس في الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم: الناس في الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أصناف: الأول: صنف آمن بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً وعمل بمقتضى ذلك.
الثاني: صنف آمن به صلى الله عليه وسلم ظاهراً دون الباطن.
الثالث: من آمن به صلى الله عليه وسلم ولم يظهر ما يؤيد ذلك أو يخالفه.
أما الصنف الأول فهو المسلم الذي يقبل الله إيمانه ويجازيه عليه في الدنيا والآخرة، وأمّا الصنف الثاني فهو المنافق الذي لا يقبل إيمانه عند الله، وأمّا عند الناس فيقبل بناء على ما أظهره لنا كالنطق بالشهادتين إذ أنّه لا سبيل لأحد إلى معرفة ما في قلبه إلاّ الله ومن ثم يحقن دمه ويعصم ماله وذريته ويجري عليه ما يجري على المسلمين في الظاهر بالنسبة للأمور الدنيوية في معاشه وعند موته، أمّا في الآخرة فسوف يجد جزاءه العادل عند الله تعالى.(1/85)
يقول القاضي عياض: " وأمّا الحالة المذمومة فالشهادة باللسان دون تصديق القلب وهذا هو النفاق، فلما لم تصدق ذلك ضمائرهم لم ينفعهم أن يقولوا بألسنتهم ما ليس في قلوبهم فخرجوا عن اسم الإيمان ولم يكن لهم في الآخرة حكمة إذ لم يكن معهم إيمان، وألحقوا بالكافرين في الدرك الأسفل من النار، وبقي عليهم حكم الإسلام بإظهار شهادة اللسان في أحكام الدنيا المتعلقة بالأعمال وحكام المسلمين الذين أحكامهم على الظواهر بما أظهروه من علامة الإسلام إذ لم يجعل الله للبشر سبيل إلى السرائر ولا أمروا بالبحث عنها بل نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التحكم عليها وذم ذلك (1) وقال: "... هلا شققت قلبه... "(2).
__________
(1) الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/540).
(2) جزء من حديث أسامة، وتمامه: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا في الخرقات من جهينة فأدركت رجلاً فقال: لا إله إلا الله فطعنته فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقال: لا إله إلاّ الله وقتلته؟" قال: قلت: يا رسول الله، إنما قالها خوفاْ من السلاح. قال: "أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟" فما زال يكررها عليَّ حتى تمنيت أنّي أسلمت يومئذ. انظر صحيح مسلم في كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلاّ الله (1/56).(1/86)
وأمّا الصنف الثالث فقد فصّل القاضي عياض -رحمه الله- في شأنه حيث قال بعد ذكر الصنفين السابقين: "بقيت حالتان أخريان بين هذين الصنفين: إحداهما: أن يصدق بقلبه ثم يخترم قبل أن يتسع الوقت للشهادة بلسانه فاختلف فيه، فشرط بعضهم من تمام الإيمان القول والشهادة، ورآه بعضهم مؤمناً موجباً للجنة لقوله صلى الله عليه وسلم: "... يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان" (1) فلم يذكر سوى ما في القلب وهذا مؤمن بقلبه غير عاص ولا مفرط بترك غيره. وهذا هو الصحيح في هذا الوجه.
الثانية: أن يصدق بقلبه ويطول مهلة، وعلم ما يلزمه من الشهادة فلم ينطق بها جملة ولا استشهد بها في عمره مرة، فهذا اختلف فيه أيضاً، فقيل: هو مؤمن لأنّه مصدق، والشهادة من جملة الأعمال فهو عاص بتركها غير مخل، وقيل: ليس بمؤمن حتى يقارن عقده شهادة اللسان، إذ الشهادة إنشاء عقد والتزام إيمان وهي مرتبطة مع العقد ولا يتم التصديق مع المهلة إلا بها وهذا هو الصحيح)(2).
__________
(1) الحديث في صحيح البخاري، في كتاب الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان (1/13) بلفظ: "يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان".
(2) الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/541).(1/87)
4- ثمرة الإيمان بنبوته صلى الله عليه وسلم: إذا أطلق الإيمان في لسان الشرع فإنّه يفيد الإيمان بالله ورسوله وما يتبع ذلك من شعب الإيمان لقوله تعالى: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ)) [النور:62]. قال الإمام الشافعي -رحمه الله- في تأويل هذه الآية: "جعل الله كمال الإيمان الذي ما سواه تبع له الإيمان بالله ثم برسوله فلو آمن عبد بالله ولم يؤمن بَرسوله لم يقع عليه إسم كمال الإيمان أبداً حتى يؤمن برسوله معه "(1).
وثمرة الإيمان كثيرة نذكر طرفاً منها:
1- الاستخلاف والتمكين في الأرض والاستقرار فيها كما يقول تعالى: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً)) [النور:55].
2- البشرى في الدنيا والآخرة. كما يدل عليه قوله تعالى: ((أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) [يونس:62-64].
والمراد بالبشرى في الدنيا الرؤيا الصالحة، وأما في الآخرة فهي الجنة(2).
3- الهداية إلى الصراط المستقيم، كما يدل عليه قوله تعالى: ((وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) [الحج:54].
__________
(1) موسوعة سماحة الإسلام لمحمد صادق عرجون (1/82).
(2) انظر تفسير ابن كثير (2/422).(1/88)
4- الحياة الطيبة والجزاء الحسن. كما يفيد قوله تعالى: ((مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) [النحل:97].
5- النصر في الدنيا وفي الآخرة. كما يدل عليه قوله تعالى: ((إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ)) [غافر:51].
وقوله تعالى أيضاً: ((وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)) [الروم:47].
6- قبول الأعمال. كما يدل عليه قوله تعالى: ((فَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ)) [الأنبياء:94].
7- دخول الجنة. كما يدل عليه قوله تعالى: ((وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ)) [التوبة:72].
وهذه أهم الثمرات الحاصلة بالإيمان بنبوته صلى الله عليه وسلم وما يتبع ذلك من شعب الإيمان الأخرى الواردة في قوله صلى الله عليه وسلم: " الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق...)(1).
المبحث الثاني: محبته صلى الله عليه وسلم
من الآداب القلبية محبته صلى الله عليه وسلم وهي من الأمور الخفية التي لا يطلع عليها إلاّ الله -سبحانه وتعالى- ويمكن معرفتها بالعلامات الظاهرة مثل الاتباع والطاعة. ولهذا قال تعالى في شأن من ادعى محبة الله اختباراً لهم: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ)) [آل عمران:31].
__________
(1) صحبح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها (1/63).(1/89)
ويفهم من هذه الآية أنّ محبة العبد لله تستلزم اتباعه باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم واتباع الرسول يستلزم محبة الله للعبد.
ومحبته صلى الله عليه وسلم من موجبات الإيمان بل من الإيمان نفسه كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن أحداً حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين "(1).
وفي هذا الحديث جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أقسام المحبة التي تكون بين الناس وهي ثلاثة:
1- محبة إجلال وإعظام كمحبة الولد والده.
2- محبة إشفاق ورحمة كمحبة الوالد ولده.
3- محبة مشاكلة واستحسان كمحبة سائر الناس.
ومحبته صلى الله عليه وسلم فوق هذا كله كما يفيد أفعل التفضيل في قوله: " أحب إليه ".
وفي هذا المبحث سوف نتحدث عن المسائل المتعلقة بهذا الموضوع وهي على النحو التالي:
1- معنى المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
2- أنواعها.
3- علاماتها.
4- ثمرتها.
5- صور من حب السلف للرسول صلى الله عليه وسلم.
وسوف أبحثها -إن شاء الله تعالى- وفق هذا الترتيب.
1- معنى المحبة: ذكر العلماء في أصل اشتقاق المحبة عدة أقوال. وإني هنا أذكر أهم ما قيل فيها: يقول الفيروزأبادي: "وهذه المادة تدور في اللغة على خمسة أشياء:
أحدها: الصفاء والبياض -ومنه قيل: حبب الأسنان لبياضها ونضارتها.
الثاني: العلو والظهور -ومنه حبب الماء وحبابه وهو ما يعلو من النفخات عند المطر وحبب الكأس منه.
الثالث: اللزوم والثبات -ومنه حب البعير وأحب إذا برك ولم يقم.
الرابع: اللباب والخلوص - ومنه حبة القلب للبه وداخله، ومنه الحبة الواحدة الحبوب إذ هي أصل الشيء ومادته وقوامه.
الخامس: الإمساك والحفظ - ومنه حبب الماء للوعاء الذي يحفظ فيه ويمسكه. وفيه معنى الثبوت.
ثم قال: ولا ريب أنّ هذه الخمسة من لوازم المحبة(2).
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان (1/12).
(2) بصائر ذوي التمييز: (2/416-417).(1/90)
هذه أصل اشتقاق المحبة، وأمّا معناها اللغوي فيقول الفيروزأبادي في مادة (الحب): " الحب: الوداد كالحباب والحب بكسرها والمحبة والحباب بالضم "(1).
ويقول ابن منظور في مادة "حبب " ما يلي: "الحب نقيض البغض، والحب الوداد والمحبة وكذلك الحب بالكسر"(2).
وهذا هو المعنى اللغوي للمحبة وهو يدور حول الود أو نقيض الكراهية والبغض.
وأمّا علماء الاصطلاح فقد ذهبوا إلى أنّ لفظها يدل عليها وتحديد معناها بألفاظ أخرى لا يحقق الغرض من أتضاحها.
ولهذا قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: " لا تحد المحبة بحد أوضح منها، فالحدود لا تزيدها إلاّ خفاء وجفاء، فحدها وجودها، ولا توصف المحبة بوصف أظهر من المحبة، وإنما يتكلم الناس في أسبابها وموجباتها، وعلاماتها وشواهدها وثمراتها وأحكامها، فحدودهم ورسومهم دارت على هذه الستة "(3).
وبذلك فمن الصعب أن نجد لها حداَ جامعاً، ومع ذلك فإنّي أحاول أن أجليها بذكر آراء العلماء فيها.
__________
(1) القاموس المحيط: (1/52).
(2) لسان العرب: (1/289).
(3) مدارج السالكين: (3/10).(1/91)
يقول القاضي عياض مبيناً ذلك: "اختلف الناس في تفسير محبة الله ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم وكثرت عباراتهم في ذلك وليست ترجع بالحقيقة إلى اختلاف مقال ولكنّها أختلاف أحوال، فقال سفيان(1): المحبة اتباع الرسول كأنه التفت إلى قوله تعالى: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ)) [آل عمران:31] وقال بعضهم: محبة الرسول اعتقاد نصرته والذب عن سنته والانقياد لها وهيبة مخالفته، وقال بعضهم: المحبة دوام الذكر للمحبوب، وقال آخر: إيثار المحبوب وقال بعضهم: المحبة الشوق إلى المحبوب، وقال بعضهم: المحبة مواطأة القلب لمراد الرب بحب ما أحب وبكره ما كره، وقال آخر: المحبة ميل القلب إلى موافق له، ثم قال: وأكثر العبارات المتقدمة إشارة إلى ثمرات المحبة دون حقيقتها، وحقيقة المحبة الميل إلى ما يوافق الإنسان "(2).
وكذلك الراغب الأصفهاني حدّها بتعريف مماثل لقول الأخير قائلاً: " المحبة ميل النفس إلى ما تراه أو تظنّه خيراً، وذلك ضربان أحدهما: طبيعي وذلك في الإنسان والحيوان وقيل قد يكون بين الجمادات كالألفة بين الحديد وحجر المغناطيس.
والثاني: اختياري -وذلك يختص به الإنسان "(3).
والذي يهمنا في هذا المقام المحبة الإختيارية التي بين الناس وهي لا تكون إلاّ لأسباب مثل اللذة والنفع والفضل. وسيأتي تفصيلها عند حديثي عن أنواع المحبة وأقسامها.
وأما المحبة التي أقرها الشرع فتكون في ثلاثة: محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم ومحبة المؤمنين.
يقول أبو عبد الله المحاسبي: "والمحبة في ثلاثة أشياء لا يسمى محباً لله عز وجل إلاّ بها:
1- محبة المؤمنين في الله عز وجل.
2- محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لله عز وجل.
__________
(1) يحتمل أنّه ابن عيينة أو الثوري كما ذكر الخفاجي في شرح الشفا (3/371).
(2) الشفا بتعريف حقوق المصطفى: (2/578-579).
(3) الذريعة إلى مكارم الشريعة: (190).(1/92)
3- محبة الله -عز وجل- في إيثار الطاعة على المعصية "(1).
وعلى هذا فمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم هي ميل القلب المؤمن إليه مودة لسبب من الأسباب الموجبة على ذلك لله -عز وجل- ثم الانتفاع برسالته والفضل الذي أوثر عنه مثل مكارم الأخلاق والاتصاف بصفات حميدة.
2- أنواع المحبة: قسّم العلماء المحبة إلى عدة أنواع: فمنهم من قسّمها إلى طبيعية واختيارية، ومنهم من قسّمها إلى حسيّة ومعنوية، ومنهم من قسّمها حسب الأسباب الموجبة لها مثل اللذة والنفع والفضل، ومنهم من قسّمها بحسب الرتب والدرجات.
وقد قسّم الراغب الأصفهاني المحبة إلى قسمين حيث قال: أحدهما: طبيعي -وذلك في الإنسان والحيوان، وقيل: قد يكون بين الجمادات كألفة بين الحديد وحجر المغناطيس.
الثاني: اختياري -وذلك يختص به الإنسان فأما ما يكون بين الحيوانين فألفة، وهذا الثاني أربعة أضرب:
الأول: للشهوة -وأكثر ما يكون ذلك بين الأحداث.
والثاني: للمنفعة -ومن جهة ما يكون بين التجار وأرباب الصناعات المهنية.
والثالث: ما يكون مركباً من ضربين كمن يحب آخر للنفع وذلك يحبه للشهوة.
والرابع للفضيلة -كمحبة المتعلم للعالم. ثم قال: وهذه المحبة -أي الأخيرة- باقية على مرور الأوقات وهي المستثناة بقوله تعالى: ((الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ)) [الزخرف:67]، وأمّا الضروب الأخر فقد تطول مدتها وتقصر بحسب دوام أسبابها "(2).
__________
(1) رسالة المسترشدين: (177-179).
(2) الذريعة إلى مكارم الشريعة: (190).(1/93)
وقال الراغب الأصفهاني أيضاً في مكان آخر: وهي على ثلاثة أوجه: محبة للذة -كمحبة الرجل المرأة ومنه ((وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً)) [الإنسان:8] ومحبة النفع كمحبة شيء ينتفع به ومنه ((وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ)) [الصف:13]، ومحبة للفضل كمحبة أهل العلم بعضهم لبعض لأجل العلم "(1).
وهذه الأنواع التي نقلناها مبنية غالباً على الأسباب الموجبة للمحبة الإختيارية سواء كانت حسية أو معنوية وخاصة التقسيم الأخير وهو الذي يتمشى مع هذا المقام الذي نحن بصدده.
وقد ذكر القاضي عياض -رحمه الله تعالى- هذه الأقسام الثلاثة المسببة للمحبة حيث قال: "وحقيقة المحبة الميل إلى ما يوافق الإنسان وتكون موافقته إمّا لاستلذاذه بإدراكه كحب الصور الجميلة والأصوات الحسنة والأطعمة والأشربة اللذيذة وأشباهها مما كل طبع سليم مائل إليها لموافقتها له، أو لاستلذاذه بإدراكه بحاسة عقله وقلبه معاني باطنة شريفة كحب الصالحين والعلماء وأهل المعروف المأثور عنهم السير الجميلة والأفعال الحسنة فإن طبع الإنسان مائل إلى الشغف بأمثال هؤلاء حتى يبلغ التعصب بقوم لقوم والتشيع من أمة في آخرين ما يؤدي إلى الجلاء عن الأوطان وهتك الحرم واحترام النفوس أو يكون حبه إيّاه لموافقته له من جهة إحسانه له وإنعامه عليه فقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها "(2).
__________
(1) مفردات في غريب القرآن: (105).
(2) الشفا: (2/579).(1/94)
ثم ذكر بعد ذلك أنّ هذه الأنواع المسببة للمحبة كلها مجتمعة في شخصيته صلى الله عليه وسلم على أتم وجه حيث قال: "فإذا تقرر لك هذا نظرت هذه الأسباب كلها في حقه صلى الله عليه وسلم فعلمت أنّه صلى الله عليه وسلم جامع لهذه المعاني الثلاثة الموجبة للمحبة. فقد تميّز بجمال الصورة والظاهر وكمال الأخلاق والباطن، كما تميّز بإحسانه وإنعامه على أمته. وقد ذكر الله تعالى في أوصافه رأفته بهم ورحمته لهم وهدايته إياهم وشفقته عليم واستنقاذهم من النار وأنّه بالمؤمنين رؤوف رحيم ورحمة للعالمين ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه، ويتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ويهديهم إلى صراط مستقيم، فأي إحسان أجلّ قدراً وأعظم خطراً من إحسانه إلى جميع المؤمنين، وأي إفضال أعمّ منفعة وأكثر فائدة من إنعامه على كافة المسلمين، إذ كان ذريعتهم إلى الهداية، ومنقذهم من العماية وداعيهم إلى الفلاح والكرامة، ووسيلتهم إلى ربّهم وشفيعهم والمتكلم عنهم والشاهد لهم والموجب لهم البقاء الدائم والنعيم السرمدي فقد استبان لك أنّه صلى الله عليه وسلم مستوجب للمحبة الحقيقية شرعاً... إلى أن قال: فإذا كان الإنسان يحب من منحه في دنياه مرة أو مرتين معروفاً أو أستنقذه من هلكة أو مضرة مدة التأذي بها قليل منقطع فمن منحة ما لا يبيد من النعيم ووقاه ما لا يفنى من عذاب الجحيم أولى بالحب، وإذا كان يحب بالطبع ملك لحسن سيرته أو حاكم لما يؤثر من قوام طريقته أو قاص بعيد الدار لما يشاد من علمه أو كرم شيمته فمن جمع هذه الخصال كلها على غاية مراقب الكمال أحق بالحب وأولى بالميل "(1).
3- علامات محبته صلى الله عليه وسلم: المحبة من الأمور القلبية التي لا يطلع عليها أحد إلاّ من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. ولذلك جعل الله لها دليلاً عملياً وعلامات كثيرة.
__________
(1) الشفا: (2/580-581).(1/95)
ونذكر هنا طرفاً من علاماتها: منها الإيثار -أي إيثار النبي- صلى الله عليه وسلم- على النفس كما يدل عليه قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ)) [الحشر:9].
والآية وإن كانت عامة في إيثار المهاجرين إلا أنه صلى الله عليه وسلم هو رئيس المهاجرين وقائدهم، وهو المحبوب الأول من الخلق أساساً، وأمّا غيره فتبع له بحسب قربهم إليه صلى الله عليه وسلم ومتابعتهم إيّاه.
ومنها: بغض من أبغض الله ورسوله مهما كانت صلته ورتبته لقوله تعالى: ((لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ)) [المجادلة:22].
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: "قيل في قوله تعالى: ((وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ)) [المجادلة:22]: نزلت في أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح حين قتل أباه يوم بدر ((أَوْ أَبْنَاءَهُمْ)) [المجادلة:22]: في الصديق همّ يومئذ ابنه عبد الرحمن ((أَوْ إِخْوَانَهُمْ)) [المجادلة:22]: في مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يومئذ، ((أَوْ عَشِيرَتَهُمْ)) [المجادلة:22]: في عمر قتل قريباً له يومئذ أيضاً.."(1).
وهؤلاء قاموا بقتل أقرب أقربائهم في معركة بدر لأن حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم يقتضي قتل من حاد الله ورسوله وبغض من أبغض الله ورسوله.
__________
(1) تفسير القرآن العظيم: (4/329).(1/96)
ومنها: حب من أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أي عكس الصورة السابقة لقوله صلى الله عليه وسلم: " الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً بعدي فمن أحبم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله يوشك أنْ يأخذه "(1).
4- ثمرة محبته صلى الله عليه وسلم: وثمرة محبته صلى الله عليه وسلم كثيرة ولكن نذكر هنا أهمها وشواهدها: من ذلك: أنّ محبته صلى الله عليه وسلم تؤدي إلى مرافقته في الجنة.
ومما يدل على ذلك ما أخرجه الإمام مسلم -رحمه الله- عن أنس بن مالك قال:، " بينما أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم خارجين من المسجد فلقينا رجلاً عند سدة (2) المسجد فقال: يا رسول الله: متى الساعة؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: " ما أعددت لها؟ " قال: فكأن الرجل استكان ثم قال: ما أعددت لها كبير صلاة ولا صيام ولا صدقة ولكنّي أحب الله ورسوله، قال: "فأنت مع من أحببت"(3).
ومن ثمرة محبته صلى الله عليه وسلم أنّها من الخصال الموجبة لحلاوة الإيمان لقوله صلى الله عليه وسلم: " ثلاث من كنّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، من كان الله ورسوله أحب إليه ممّا سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلاّ لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار "(4).
__________
(1) أخرجه الترمذي في سننه، أبواب المناقب، باب فيمن سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (5/358) وقال: حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
(2) سدة المسجد: يعني الظلال التي حوله. النهاية في غريب الحديث: (2/353).
(3) صحيح مسلم في كتاب البر والصلة والأداب، باب المرء مع من أحب (4/2033).
(4) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان (1/12)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان (1/66) واللفظ له.(1/97)
ومن ثمرة محبته صلى الله عليه وسلم مرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين لحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: إنّك لأحبّ إليّ من نفسي وإنّك لأحب إليّ من ولدي وإنّي لأكون في البيت فأذكرك، فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتك عرفت إنّك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإنّي إذا دخلت خشيت أن لا أراك فأنزل الله تعالى(1): ((وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً)) [النساء:69].
ومن ثمرة محبته - صلى الله عليه وسلم- إتمام إيمان من اتصف بها لقوله صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من والده وولده والناس أجمعين "(2).
__________
(1) مجمع الزوائد (7/7) وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الصغير والأوسط ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن عمران الغامدي وهو ثقة.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان (1/12).(1/98)
5- صور من حب السلف للرسول صلى الله عليه وسلم: هناك صور متعددة من حب السلف للرسول صلى الله عليه وسلم نذكر طرفاً منها في هذا المقام وخاصة ما روي في حب الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- للرسول صلى الله عليه وسلم: من ذلك ما أخرجه الحاكم عن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: لمّا فرض عمر لأسامة بن زيد ثلاثة آلاف وفرض لي ألفين وخمسمائة فقلت له: يا أبت لم تفرض لأسامة بن زيد ثلاثة آلاف وتفرض لي ألفين وخمسمائة والله ما شهد أسامة مشهداً غبت عنه ولا شهد أبوه مشهداً غاب عنه أبي قال: صدقت يا بني، ولكنّي أشهد لأبوه كان أحبّ الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك ولهو أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك "(1).
ومنها ما أخرجه البخاري عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: " أنَّ خياطاً دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه، قال أنس: فذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته يتتبع الدباء (2) من حوالي القصعة قال: فلم أزل أحب الدباء من يومئذ "(3).
ومنها ما روي أنّه لما أخرج أهل مكة زيد بن الدثنة من الحرم ليقتلوه، قال له أبو سفيان بن حرب: أنشدك بالله يا زيد: أتحب أن محمداً الآن عندنا مكانك لضرب عنقه وإنّك في أهلك؟ فقال زيد: والله ما أحبّ أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة وإنّي جالس في أهلي، فقال أبو سفيان: ما رأيت الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً "(4).
__________
(1) مستدرك الحاكم (3/559)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(2) الدباء: القرع واحدتها دباءة. النهاية في غريب الحديث (2/96).
(3) صحيح البخاري، كتاب الأطعمة، باب من تتبع حوالي القصعة مع صاحبه إذا لم يعرف منه كراهية (3/291).
(4) انظر سيرة ابن هشام: (3/95).(1/99)
ومنها ما أخرجه الإمام مسلم عن أنس بن مالك أن أعرابياً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: متى الساعة؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أعددت لها؟ " قال: حب الله ورسوله، قال: " أنت مع من أحببت "(1).
ومنها ما روي أن امرأة من الأنصار قتل أبوها وأخوها وزوجها فأخبروها بذلك فقالت: ما فعل الله برسول الله؟ قالوا: بحمد الله كما تحبين.
قالت: أرونيه حتى أنظره، فلما رأت قالت: كل مصيبة بعدك جلل (2) "(3).
الفصل الثاني
الأدب القولي
التأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم متعدد الجوانب متنوع الصور، وقد تحدثت عن التأدّب القلبي في الفصل السابق وأتبعه -بعون الله تعالى- بالحديث عن التأدّب القولي. ونقصد بالتأدّب القولي ما كان متلفظاً به - وهو عمل اللسان.
والآداب -سواء كانت قلبية أو قولية أو فعلية- مترابطة إلاّ أن التقسيم منهجي للتوضيح والدراسة لأنّ من استقام قلبه استقام لسانه واستقامت جوراحه.
والأدب اللساني له أهميته لأنّ اللسان هو دليل القلب وهو الوسيلة الرئيسية التي تساعد الإنسان على الاتصال بالآخرين وبواسطته تتضح معالم شخصية صاحبه، وبه تقوم الدعوة ويتم البلاغ.
ولهذا السبب سأل موسى -عليه الصلاة والسلام- ربّه عز وجل- حل العقدة من لسانه حتى يقوم بتبليغ الدعوة على وجهها خير قيام، وذلك حين كلفه ربّه بالرسالة وأمره بدعوة فرعون وقومه يقول تعالى: ((وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي)) [طه:27-28].
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب المرء مع من أحب (4/2032).
(2) جلل: هين يسير، والجلل من الأضداد، يكون للحقير والعظيم. النهاية في غريب الحديث (10/289).
(3) انظر سيرة ابن هشام (3/43).(1/100)
كما أنه- عليه الصلاة والسلام- طلب من ربّه أن يرسل معه أخاه هارون -عليه الصلاة والسلام- لفصاحة لسانه ووضوح بيانه يقول تعالى: ((وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي)) [القصص:34].
يقول الفخر الرازي في تفسير هذه الآية: "ليس الغرض بتصديق هارون أن يقول له صدقت أو يقول للناس صدق موسى، وإنّما هو أن يلخص بلسانه الفصيح وجوه الدلائل ويجيب عن الشبهات ويجادل الكفار، فهذا هو التصديق المفيد "(1).
والبيان ميزة الإنسان عن سائر المخلوقات، وبه يستطيع الإنسان أن يعبر عن مراده بأسلوب واضح وبطريقة مفهومة.
وقد ذكر الله -سبحانه وتعالى- هذه الميزة على وجه الامتنان فقال تعالى: ((الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)) [الرحمن:1-4].
يقول الفخر الرازي في تفسيره: "لم يقل وعلمه البيان لأنه لو عطفه عليه لكان مغايراً له، أمّا إذا ترك الحرف العاطف صار قوله: ((عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)) [الرحمن:4] كالتفسير لقوله: ((خَلَقَ الإِنسَانَ)) [الرحمن:3] كأنه إنما يكون خالقاً للإنسان إذ علمه البيان، وذلك يرجع إلى الكلام المشهور من أنّ ما هية الإنسان هو الحيوان الناطق "(2).
ولهذا اعتبر اللسان نصف الإنسان لأنّه يقال: المرء بأصغريه قلبه ولسانه.
يقول زهير بن أبي سلمى مشيراً إلى ذلك:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... ... فلم يبق إلاّ صورة اللحم والدم(3)
واللسان مع أهميته مثل آلة ذات حدين حيث يستعمل للخير كالصدق في القول والإرشاد والتعليم والذكر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدفاع عن الحق، كما أنه يستعمل للشر من إيذاء الناس بالشتم أو بالنميمة والدفاع عن الباطل ومساندته لأن البيان قوة مؤثرة في تحريك النفوس وتوجيه الناس.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: (24/249).
(2) تفسير الفخر الرازي: (22/46).
(3) في ديوانه: (89).(1/101)
يقول صلى الله عليه وسلم: " إن من البيان لسحرا "(1).
ويقول ابن حبان البستي معلقاً على هذا الحديث: "وشبه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا البيان بالسحر إذ الساحر يستميل قلب الناظر إليه بسحره وشعوذته، والفصيح الذرب اللسان يستميل قلوب الناس إليه بحسن فصاحته ونظم كلامه، فالأنفس تكون إليه تائقة والأعين إليه رامقة "(2).
ولذا كان مجال اللسان واسعاً سواء في الخير أو في الشر.
يقول الفخر الرازي مبيناً ذلك: " ما من موجود أو معدوم خالق أو مخلوق معلوم أو موهوم إلاّ واللسان يتناوله ويتعرض له بإثبات أو نفي، فإن كل ما يتناوله الضمير يعبر عنه بحق أو باطل، وهذه خاصية لا توجد في سائر الأعضاء فإنّ العين لا تصل إلى غير الألوان والصور، والآذان لا تصل إلى غير الأصوات والحروف، واليد لا تصل إلى غير الأجسام وكذلك سائر الأعضاء بخلاف اللسان فإنّه رحب الميدان ليس له نهاية ولا حد له فله في الخير مجال رحب وله في الشر بحر سحب.. "(3).
وفي هذا الفصل نبين مجاله في التأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم من حيث مخاطبته صلى الله عليه وسلم والصلاة عليه وما يتبع ذلك.
لذا يتكون هذا الفصل من مبحثين:
المبحث الأول: مخاطبته صلى الله عليه وسلم.
المبحث الثاني: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
المبحث الأول: مخاطبته صلى الله عليه وسلم:
الخطاب توجيه الكلام إلى الرسول صلى الله عليه وسلم على وجه السؤال أو الجواب أو المحادثة، وقد تكون نداء مباشراً له -عليه الصلاة والسلام- أثناء حياته.
ولذلك تضمن هذا المبحث دراسة مسألتين:
الأولى: غض الصوت وقت مخاطبته صلى الله عليه وسلم.
الثانية: استخدام النداء اللائق بمقامه صلى الله عليه وسلم.
وذلك فيما يلي:
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الطب، باب من البيان سحرا (4/21).
(2) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء: (219).
(3) تفسير الفحر الرازي: (22/47).(1/102)
1- غض الصوت وقت مخاطبته صلى الله عليه وسلم: من المعلوم أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم هو المصدر الوحيد الذي يتلقى عنه المسلمون تعاليم الله -سبحانه وتعالى- سواء كان قرآناً أو سنة أو حديثاً قدسياً، لذلك يجب عليهم أن يتأدبوا معه صلى الله عليه وسلم أثناء كلامه معهم أو كلامهم معه، وذلك بخفض الصوت وترك الجهر العالي كما يكون بين الإنسان وصديقه لقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)) [الحجرات:2].
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: " هذا أدب ثان أدّب الله تعالى به المؤمنين أن لا يرفعوا أصواتهم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فوق صوته)(1).
والأدب هنا يحصل بمجانبة أمرين اثنين: أولاهما: رفع الصوت فوق صوته صلى الله عليه وسلم أخذاً من النهي الوارد في قوله: ((لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ)) [الحجرات:2].
ثانيهما: الجهر بالقول له صلى الله عليه وسلم كالجهر بعضهم بعضاً أخذاً من النهي الوارد في قوله تعالى: ((وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ)) [الحجرات:2].
وقد فرّق المفسرون بين النهيين الواردين في الآية حيث قالوا: إن الأول يتعلق برفع الصوت فوق صوته صلى الله عليه وسلم أثناء كلامه معهم. وأمّا الثاني يتعلق بالجهر له صلى الله عليه وسلم وقت صمته.
ومنهم من يقول: إنّ النهي الأول يتعلق وقت خطابه معهم أو خطابهم معه أو صمته، وأن الثاني يتعلق بندائه صلى الله عليه وسلم باسمه المجرد أو بكنيته، مثل: يا محمد، يا أبا القاسم.
__________
(1) تفسير القرآن العظيم: (4/205).(1/103)
وأكثر المفسرين ذهبوا إلى القول الأول الذي مفاده أنّ النهي الأول يتعلق وقت خطابه صلى الله عليه وسلم معهم، وأمّا الثاني فيتعلق وقت خطابهم معه، وصمته، وهو الأرجح لأنّ النهي عن النداء غير اللائق به صلى الله عليه وسلم ورد في آية أخرى بعد هذه الآية بآية واحدة وهي قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)) [الحجرات:4].
وقد أجمل النيسابوري -رحمه الله- ما ورد في التفريق بين هذين النهيين قائلاً: "والجمهور على أنّ بين النهيين فرقاً ثم اختلفوا فقيل: الأول: فيما إذا نطق ونطقتم أو أنصت ونطقوا في أثناء كلامه فنهوا أن يكون جهرهم باهر الجهر.
والثاني: فيما إذا سكت ونطقوا ونهوا عن جهر مقيد بما اعتادوه فيما بينهم وهو الخالي عن مراعاة أبهة النبوة.
وقيل: النهي الأول أعم مما إذا نطق ونطقوا أو أنصت ونطقوا والمراد بالنهي الثاني أن لا يتمادى وقت الخطاب باسمه أو كنيته كنداء بعضكم لبعض فلا يقال: يا أحمد يا محمد يا أبا القاسم، ولكن يا نبي الله يا رسول الله "(1).
نستنتج من النهيين السابقين وجوب غض الصوت عند النبي صلى الله عليه وسلم ولزوم الأدب في مخاطبته سواء كان ذلك أثناء كلامه أو صمته لأنّ رفع الصوت والجهر عنده يؤدي إلى سوء الأدب معه وقلة الاحتشام منه ومجانبة توقيره ومعاملته معاملة الأقران بعضهم لبعض ومن ثم يترتب إحباط عمل المؤمن -والعياذ بالله- وهو لا يشعر.
يقول الشهيد سيد قطب -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: والأدب الثاني هو أدبهم مع نبيهم في الحديث والخطاب وتوقيرهم له في قلوبهم توقيراً ينعكس على نبراتهم وأصواتهم، ويميز شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، ويميز مجلسه فيهم، والله يدعوهم إلى ذلك النداء الحبيب ويحذرهم من مخالفة ذلك التحذير الرهيب(2).
__________
(1) تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان للنيسابوري (26/57).
(2) في ظلال القرآن: (6/3339).(1/104)
والتحذير الرهيب هو إحباط العمل الصالح بِدون شعور صاحبه أخذاً من قوله تعالى: ((أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)) [الحجرات:2] بمعنى أنّ عمل المؤمن يحبط بالذنوب والمعاصي دون الشرك لأن الآية خطاب للمؤمنين بدليل ابتدائها بالنداء الموجه للمؤمنين.
وعلى هذا استشكل المفسرون في توجيه هذه الآية التي ظاهرها يفيد بطلان العمل الصالح بالذنوب والمعاصي مع أن القاعدة هي أن الأعمال لا تبطل إلا بالشرك بدليل قوله تعالى: ((لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ)) [الزمر:65]. ومن ثم اختلفت آراؤهم: فمنهم: من يقول إن الذنوب تحبط العمل الصالح ومن ثم يكفر صاحبها.
ومنهم من يقول: إن الإحباط يقصد به نقص المنزلة دون إحباط أصلها.
ومنهم من يقول: إن قلة الأدب معه صلى الله عليه وسلم تحبط العمل الصالح وإن كان لا يكفر صاحبها.
وممّن قال بالقول الأول شيخ الإسلام ابن تيمية قائلاً: "ومن ذلك أنّه حرم التقدم بين يديه بالكلام حتى يأذن، وحرم رفع الصوت فوق صوته، وأن يجهر له بالقول كما يجهر الرجل للرجل، وأخبر أن ذلك سبب حبوط العمل، فهذا يدل على أنه يقتضى الكفر لأنّ العمل لا يحبط إلا به "(1).
وممّن قال بالقول الثاني أبو سليمان الدمشقي: حيث ذهب إلى أن معنى الإحباط هاهنا نقص المترلة لا لإسقاط العمل من أصله كما يسقط بالكفر" (2) وممّن قال بالقول الثالث ابن جزي الكلبي: وهذا الإحباط، لأن قلة الأدب معه صلى الله عليه وسلم والتقصير في توقيره يحبط الحسنات، وإن فعله مؤمن لعظيم ما وقع فيه من ذلك"(3).
ومع الاختلاف الموجود بين هذه الآراء فإنها مجمعة على أن الذنوب تؤثر في العمل الصالح وتنقصه غير أن شيخ الإسلام ابن تيمية يرى أنّه يترتب على ذلك أمر آخر وهو الكفر أخذاً من ظاهر الآية.
__________
(1) الصارم المسلول على شاتم الرشول (ص:423).
(2) زاد المسير (8/457).
(3) التسهيل (4/104).(1/105)
وأحسن ما قيل في تأويل هذه الآية ما ذكره ابن المنير -رحمه الله- حيث يقول: " والقاعدة المختارة أنّ إيذاءه -عليه الصلاة والسلام- يبلغ مبلغ الكفر المحبط للعمل باتفاق، فورد النهي عمّا هو مظنّة لأذي النبي صلى الله عليه وسلم سواء وجد هذا المعنى أو لا حماية للذريعة وحسماً للمادة، ثم لما كان هذا المنهى عنه هو رفع الصوت منقسماً إلى ما يبلغ ذلك المبلغ أولاً، ولا دليل عليه يميز أحد القسمين عن الآخر لزم المكلف أن يكف عن ذلك مطلقاً وخوف أن يقع فيما هو محبط للعمل وهو البالغ حد الإيذاء إذ لا دليل ظاهر يميزه، وإن كان فلا يتفق تمييزه في كثير من الأحيان، وإلى التباس أحد القسمين بالآخر وقعت الإشارة بقوله سبحانه(1).
((أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)) [الحجرات:2]
ومن هذا الكلام الذي نقلناه عن ابن المنير يتبيّن لنا أن النهي في الآية يحتمل ما يؤدي إلى الكفر وهو ما يترتب عليه إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم أو الاستخفاف به ويحتمل ما دون ذلك، فإن كان الأول فلا غبار أنّ من فعل هذا يكفر ومن ثم يحبط عمله وعليه يتنزل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية السابق، وإن كان الثاني فأقل ما يقال فيه: أنّ صاحبه يأثم إثماً كبيراً قد يؤدي إلى منزلق خطير دون أن يترتب عليه كفر، إلا أن عمله ينقص أو يحبط وعليه يتنزل قولا أبي سليمان الدمشقي وابن جزي الكلبي لأن الحسنات يذهبن السيئات لقوله تعالى: ((إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)) [هود:114] وكذلك العكس أي أنّ الذنوب تحبط العمل أو تنقصه ولكن هنا بدون علم صاحبه أو حسه.
وهذا على غرار قوله تعالى في قضية الإفك: ((وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ)) [النور:15].
__________
(1) الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال الذي بهامش الكشاني (3/556).(1/106)
وقوله صلى الله عليه وسلم: " إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه إليه بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم "(1).
وقد التزم الصحابة -رضوان الله عليهم- بهذا الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهده كما ورد في الآثار.
منها قول أبي بكر -رضي الله عنه- لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي أنزل عليك الكتاب يا رسول الله لا أكلمك ألا كأخي السرار حتى ألقى الله -عز وجل- "(2).
ومنها ما أخرجه البخاري عن ابن الزبير -رضي الله عنه- قال: " فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه -الآية حتى يستفهمه "(3).
وهذان النموذجان من أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- يمثلان سائر الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين- الذين شاهدوا التنزيل وتأدبّوا بآدابه ووقفوا عند حدوده ينفذون أوامره ويتركون نواهيه دون إبطاء أو تأخير.
وفي هذا المقام يقول الشهيد سيد قطب -رحمه الله-: " فهكذا ارتعشت قلوبهم وارتجفت تحت وقع ذلك النداء الحبيب، وذلك التحذير الرهيب، وهكذا تأدبوا في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية أن تحبط أعمالهم وهم لا يشعرون ولو كانوا يشعرون لتداركوا أمرهم ولكنّ هذا المترلق الخافي عليهم كان أخوف عليهم فاخافوه واتقوه "(4).
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب حفد اللسان (4/126).
(2) الحاكم في مستدركه (2/462)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(3) صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الحجرات (3/191).
(4) في ظلال القرآن: (6/3339).(1/107)
ولأجل هذا الامتثال السريع من قبل الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- مدحهم الله سبحانه وتعالى بقوله: ((إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ)) [الحجرات:3].
هكذا كان الأمر في حياته صلى الله عليه وسلم وأمّا بعد مماته فكذلك يجب على المسلم أن يتأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث لا يرفع صوته عند سماع أحاديثه صلى الله عليه وسلم لأن حرمته ميتاً كحرمته حياً سواء بسواء وأن أحاديثه تقوم مقامه.
يقول ابن العربي -رحمه الله-: " حرمة النبي صلى الله عليه وسلم ميتاً كحرمته حياً وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثل كلامه المسموع من لفظه، فإذا قرئ كلامه وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه، ولا يعرض عنه كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به، وقد نبّه الله تعالى على دوام الحرمة المذكورة على مرور الأزمنة بقوله تعالى: ((وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا)) [الأعراف:204] وكلام النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي وله الحرمة مثل ما للقرآن إلاّ معاني مستثناة بيانها في كتب الفقه. والله أعلم "(1).
ويراعى هذا الأدب وهو عدم رفع الصوت أيضاً في مسجده صلى الله عليه وسلم لما أخرجه البخاري بسنده عنْ السائب بن يزيد قال: كنت قائماً في المسجد فحصبني رجل، فنظرت فإذا هو عمر بن الخطاب فقال: اذهب فأتني بهذين فجئته بهما، قال: من أنتما؟ أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم(2).
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي: (4/1702- 1703).
(2) صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب رفع الصوت في المسجد (1/93).(1/108)
هذا في المسجد وكذلك الحال عند قبره صلى الله عليه وسلم يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي عند تفسيره هذه الآية: " ومعلوم أنّ حرمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته كحرمته في أيام حياته وبه تعلم أنّ ما جرت به العادة من اجتماع الناس قرب قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في صخب ولغط وأصواتهم مرتفعة ارتفاعاً مزعجاً كله لا يجوز ولا يليق وإقرارهم عليه من المنكر "(1).
وممّا سبق ذكره يتبين لنا أنّ حرمة النبي صلى الله عليه وسلم ميتاً كحرمته في حياته على الوجه الذي شرحناه آنفاً وأنه يجب التأدب معه في الصوت بعد وفاته كما كان الحال وقت حياته للآية الكريمة التي نحن بصددها لأنّ حكمها يستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ولا ينقطع بموته صلى الله عليه وسلم.
كما أنّ هذا الأدب المستفاد من الآية يكون مع العلماء لأنهم ورثة الأنبياء وكذلك مع الأبوين وغيرهما لمن له فضل على الإنسان المسلم.
يقول الجصاص في هذا المقام: " وهذه الآيات وإن كانت نازلة في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وإيجاب الفرق بينه وبين الأمة فيه فإنه تأديب لنا فيمن يلزمنا تعظيمه من والد وعالم وناسك وقائم بأمر الدين وذي سن وصلاح ونحو ذلك إذ تعظيمه بهذا الضرب من التعظيم في ترك رفع الصوت عليه وترك الجهر عليه والتمييز بينه وبين غيره ممن ليس في مثل حاله "(2).
__________
(1) أضواء البيان: (7/617).
(2) أحكام القرآن للجصاص (3/398).(1/109)
قلت: لا شك أنّ هؤلاء الأشخاص يأخذون هذا الحكم وينبغي التأدب معهم وتوقيرهم بالشكل اللائق بهم مع مراعاة الفرق بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنّ مقامه أرفع من هؤلاء جميعاً وهو صلى الله عليه وسلم المعنى بالآية أصلاً وهؤلاء تبعاً وليس الفرع كالأصل وإن اشتركا في أمور، والله تعالى يقول: ((النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)) [الأحزاب:6] بل ينبغي أن يحترم العبد النبي صلى الله عليه وسلم أَكثر من سيده.
يقول الفخر الرازي في تفسير هذه الآية: "إن هذا أفاد أنّه لا ينبغي أن يتكلم المؤمن عند النبي صلى الله عليه وسلم كما يتكلم العبد عند سيده لأن العبد داخل تحت قوله: ((كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ)) [الحجرات:2]. لأنه للعموم فلا ينبغي أن يجهر المؤمن للنبي صلى الله عليه وسلم كما يجهر العبد للسيد وإلا لكان قد جهر له كما يجهر بعضهم لبعض.. ويؤيد ما ذكرناه قوله تعالى: ((النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ)) [الأحزاب:6]. والسيد ليس أولى عند عبده من نفسه حتى لو كان في مخمصة ووجد العبد ما لو لم يأكله لمات لا يجب عليه بذله لسيده ويجب البذل للنبي صلى الله عليه وسلم... وأن الحكمة تقتضي ذلك كما أن العضو الرئيسي أولى بالرعاية من غيره، لأنّ عند خلل القلب مثلاً لا يبقى لليدين والرجلين استقامة، فلو حفظ الإنسان نفسه وترك النبي صلى الله عليه وسلم لهلك هو أيضاً بخلاف العبد والسيد "(1).
2- النداء اللائق به صلى الله عليه وسلم: النداء لون من ألوان الخطاب إلا أنه يتميز عنه بتوجيهه إلى شخص المنادى مباشرة، الأمر الذي يجعل له أثراً عند من ينادي عليه.
وفي مجال التأدّب مع الرسول صلى الله عليه وسلم جاء التنبيه في القرآن الكريم على ضرورة عدم مناداته بطريقة جافة ومزعجة بل لا بد من مراعاة مقامه وقدره وبالأخص عندما يكون في بيته مع نسائه وأولاده.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: (28/113).(1/110)
يقول تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [الحجرات:4-5].
عن الأقرع بن حابس -رضي الله عنه- أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أخرج إلينا، فلم يجبه، فقال: يا محمد إن حمدي زين وإنّ ذمي شين، فقال: فأنزل الله: ((إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)) [الحجرات:4](1).
ويقول ابن كثير: "وقد ذكر أنها نزلت في الأقرع بن حابس التميمي -رضي الله عنه- فيما أورده غير واحد "(2).
وقد ذكر المفّسرون عدّة أسباب لنزول هذه الآية التي نحن بصددها ولكنّ الذي يهمنا في هذا المقام هو ما يستفاد من الآية سواء نزلت في الأقرع بن حابس -رضي الله عنه- أو في غيره لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وقد تضمنت الآية أمرين:
أولهما: عدم إزعاج الرسول صلى الله عليه وسلم في وقت خلوته في بيته مع نسائه بالنداء غير اللائق به.
وثانيهما: الإرشاد إلى ما ينبغي أن يفعل في هذه الحالة وهو الانتظار إلى أن يحين وقت خروجه.
يقول ابن كثير في تفسيره هذه الآية: " ثم إنه تبارك وتعالى ذم الذين ينادونه من وراء الحجرات وهي بيوت نسائه كما يصنع أجلاف الأعراب فقال: ((أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)) [الحجرات:4]. ثم أرشد إلى الأدب في ذلك فقال عز وجل: ((وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ)) [الحجرات:5] أي: لكان في ذلك الخيرة والمصلحة في الدنيا والآخرة "(3).
__________
(1) الدر المنثور بالتفسير بالمأثور للسيوطي، (7/552)، وقال السيوطي: رواه أحمد والطبراني وغيرهما بسند صحيح.
(2) تفسير القرآن العظيم: (4/208).
(3) تفسير القرآن العظيم: (4/208).(1/111)
وهذا لا يعني أنه لا يجوز مناداته صلى الله عليه وسلم بتاتاً، وإنما المحظور مناداته في وقت خلوته مع نسائه في بيته كما في هذه الحالة، وكذلك مناداته بصوت مرتفع خال من الاحترام والتقدير بل ينبغي أن ينادي له بصوت منخفض وبصيغة معينة تتناسب مع قدره وعظمته ووقاره مثل: يا رسول الله، يا نبي الله، لا مجرد اسمه مثل: يا محمد، ويا أحمد، ويا أبا القاسم. كما يفعل بعضهم لبعض.
وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: ((لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً)) [النور:63].
وهذه الآية تشير إلى أحد المعاني الآتية: الأول: أنه نهي عن التعرض لإسخاطه صلى الله عليه وسلم لأنه إذا دعا على شخص فدعوته مستجابة.
الثاني: أنهم أمروا أن يقولوا: يا رسول الله ونهوا أن يقولوا: يا محمد وما يساويها.
الثالث: أنه نهي لهم عن الإبطاء إذا أمرهم والتأخر إذا دعاهم(1). وقد ذكر أكثر المفسرين هذه التأويلات مع ترجيح واحد منها والسكوت عن المعنيين الآخريين إلا أن ابن عطية (2) رد معنى الأول حيث قال: " ولفظ الآية يدفع هذا المعنى "(3).
وهناك من ذكر التأويلات الثلاثة دون ترجيح إيذاناً بأن الآية تحتمل المعاني الثلاثة.
وقد أيّد كل مفسّر ما ذهب إليه بترجيحات مقبولة ونذكر بعضها هنا.
__________
(1) انظر زاد المسير (6/68).
(2) هو عبد الحق بن غالب المعروف بابن عطية المتوفى سنة (541هـ) انظر ترجمته في طبقات المفسرين للداودي (1/260-261).
(3) انظر البحر المحيط: (6/476).(1/112)
فمن الذين رجحوا التأويل الثاني الفخر الرازي بعد إيراده التأويل المذكور حيث قال: "والذي يدل على هذا عقب هذا(1): ((فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ)) [النور:63] وذهب إلى ذلك أيضاً أبو حيان الأندلسي حيث قال بعد إيراده هذا التأويل: " وهذا موافق لمساق الآية ونظمها "(2).
وأمّا من الذين رجحوا القول الثالث فمنهم الإمام ابن كثير -رحمه الله- حيث قال: " وهذا قول وهو الظاهر من السياق كقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا)) [البقرة:104] إلى آخر الآية.
وقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ)) [الحجرات:2].
إلى قوله: ((إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ)) [الحجرات:4] إلى آخر الآية، ثم قال: فهذا كله من باب الأدب في مخاطبته صلى الله عليه وسلم والكلام معه كما أمروا بتقديم الصدقة قبل مناجاته "(3).
يقول الأستاذ أبو الأعلى المودودي بعد ذكره الأقوال الثلاثة: " وهذه الوجوه الثلاثة وإن كان كل واحد منها صحيحاً حسب الألفاظ القرآنية، ولكن الوجه الأول (4) هو أقرب إلى نظم الآية عندنا وهو الذي يؤيده قوله تعالى: ((فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ)) [النور:63] بعد هذه الآية(5).
والذي ينبغي في هذا المقام عدم ترجيح أحد الأقوال على آخر ما دامت ألفاظ الآية تحتمل المعاني المذكورة كلها ولا تعارض بينها وخاصة
إذا كان هناك مرجحات مباشرة وغير مباشرة لكل من القولين اللذين أخذ بهما المفسرون.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي (24/40).
(2) البحر المحيط: (6/476).
(3) تفسير القرآن العظيم: (3/306-307).
(4) الثاني عندنا.
(5) تفسير سورة النور (ص:231).(1/113)
وأحسن ما قيل في معنى هذه الآية التي نحن بصددها قول ابن قيم الجوزية -رحمه الله- والذي يقول فيه: " إنّ المصدر هنا لم يضف إضافته إلى فاعل ولا مفعول وإنما أضيف إضافة الأسماء المحضة، ويكون المعنى لا تجعلوا الدعاء المتعلق بالرسول المضاف إليه كدعاء بعضكم بعضاً، وعلى هذا فيعم الأمرين معاً ويكون النهي عن دعائهم له باسمه كما يدعو بعضهم بعضاً وعن تأخير إجابته صلى الله عليه وسلم، وعلى كل تقدير أمر الله سبحانه بأن يتميز عن غيره في خطابه ودعائه إياهم، قياماً للأمة بما يجب عليهم من تعظيمه وإجلاله "(1).
وخلاصة القول: إن الغرض الذي من أجله أوردنا هذه الآية هو بيان ما يجب على المسلم أن يتحلى به في ندائه صلى الله عليه وسلم حيث يخفض صوته ويتخير ألفاظ التقدير والتعظيم لندائه بيا رسول الله، ويا نبي الله، يا خير خلق الله. ويدع هذه النداءات السوقية في لفظها وكيفيتها مثل: يا محمد، ويا أحمد، أو كنيته مثل: يا أبا القاسم كما كانوا يفعلونه من قبل، بل بندائه صلى الله عليه وسلم نداء يتناسب مع مقامه ومكانته مثل: يا رسول الله ويا نبي الله اقتداء بما في القرآن من نداء الله سبحانه وتعالى له صلى الله عليه وسلم بحيث أنّ الله -سبحانه وتعالى- لم يناد رسوله في القرآن بمجرد اسمه ولو مرة واحدة وإنما ناداه بصفة النبوة والرسالة وغيرهما من الصفات الثابتة له في القرآن.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عند كلامه عن حقوق الرسول الزائدة على مجرد التصديق (2) والإيمان:
__________
(1) جلاء الأفهام: (ص:235).
(2) الصارم المسلول (ص:422-423) بتصرف.(1/114)
"ومن ذلك حضّه في المخاطبة بما يليق به فقال: ((لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً)) [النور:63] فنهى أن يقولوا يا محمد أو يا أحمد أو يا أبا القاسم ولكن يقولوا، يا رسول الله، يا نبي الله، وكيف لا يخاطبونه بذلك والله سبحانه وتعالى أكرمه في مخاطبته إياه مما لم يكرم به أحداً من الأنبياء فلم يناد باسمه في القرآن قط بل يقول: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)) [الأحزاب:28].
و((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ)) [المائدة:67].
و((يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً)) [المزمل:1-2].
و((يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)) [المدثر:1].
مع أنه سبحانه قد قال: ((وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ)) [البقرة:35].
((يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ)) [هود:46].
((يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا)) [هود:76].
((يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ)) [الأعراف:144].
((يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ)) [ص:26].
((يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ)) [المائدة:110].(1/115)
وعلى هذا دلت الآية التي نحن بصددها الغرض الذي من أجله أوردناها وهو الذي يهمنا هنا لاحتمالها احتمالاً قوياً أو المتبادر إلى الفهم كما ذكر ابن القيم -رحمه الله- ولوجود مرجحات غير مجاورة ترجح هذا المعنى كما ذكر ابن كثير في تفسيره، ومرجحاً آخر متقدم ومجاور لهذه الآية يرجح هذا المعنى وهو قوله تعالى: ((وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ)) [النور:62] كما أفاد الشهيد سيد قطب في تفسيره المسمى في ظلال القرآن إذ أن مناسبة الآية لما بعدها ليست أولى من مناسبتها لما قبلها إن وجدت وهنا وجدت.
يقول الشهيد سيد قطب: " ويلتفت إلى ضرورة توقير الرسول صلى الله عليه وسلم عند الاستئذان وفي كل الأحوال فلا يدعى باسمه يا محمد أو كنيته يا أبا القاسم كما يدعو المسلمون بعضهم بعضاً إنما يدعى بتشريف الله له وتكريمه يا نبي الله، يا رسول الله "(1).
المبحث الثاني: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:
شرع الله تعالى الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم بقوله سبحانه وتعالى: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)) [الأحزاب:56].
وقد شمل موضوع الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم حيزاً واسعاً في فكر العلماء وحياة المسلمين مما جعلني أعقد هذا المبحث للوصول إلى الحق فيه.
والأمر هنا يحتاج إلى بيان عدد من النقاط المتصلة بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي:
1- مفهوم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لغة واصطلاحاً.
2- حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
3-- صيغ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
4- مواطن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
5- ثواب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) في ظلال القرآن: (4/2535).(1/116)
وسوف تأتي هذه المسائل وفق الترتيب المذكور فما يلي:
تعريف الصلاة لغة واصطلاحاً: الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم غير الصلاة المفروضة التي هي الأقوال والأفعال المفتتحة بالتكبير والمختتمة بالتسليم، ولذلك كان تعريفها ضرورياً لتتضح حقيقتها المرادة من هذا المبحث.
وكما هو منهجي فإني أبدأ بالتعريف اللغوي وبعده يكون التعريف الاصطلاحي.
تعريف الصلاة لغة: يقول الجوهري: " الصلاة: الدعاء "(1).
ويقول الفيروزآبادي: " الصلاة: الدعاء والرحمة الاستغفار "(2).
ويقول صاحب مصباح المنير(3): " الصلاة في اللغة مشتركة بين الدعاء والتعظيم والرحمة والبركة "(4).
وإذا نظرنا إلى التعريفات السابقة للصلاة في اللغة نرى أن لها عدة معان، فى الدعاء وبمعنى التعظيم وبمعنى الرحمة وبمعنى البركة.
وأمّا الصلاة في الاصطلاح الشرعي: فلا تخرج عن معاني اللغة المذكورة إذا قيدت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وبالتالي فمعناها باق على ما كان عليه في الاستعمال اللغوي.
وعلى هذا فلم يذكر العلماء تعريفاً لها عند كلامهم عن هذا الموضوع وإنّما جلّ كلامهم ينصب على التفريق بين صلاة الله وصلاة المخلوقين، ولكن نحاول هنا أن نذكر تعريفاً للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من خلال كلامهم. يقول الفيروزآبادي: " والصلاة حسن الثناء من الله عز وجل على رسوله - صلى الله عليه وسلم-.... "(5).
ويقول الجرجاني بعد تعريفه الصلاة المكتوبة: " والصلاة أيضاً طلب التعظيم بجانب الرسول صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة "(6).
__________
(1) الصحاح (6/2402).
(2) القاموس المحيط (4/335).
(3) وتأتي ترجمته في (ص:261).
(4) مصباح المنير (1/371).
(5) القاموس المحيط: (1/371).
(6) كتاب التعريفات: (139).(1/117)
والصلاة في تعريف الفيروزآبادي السابق يتضمن جانباً واحداً وهو إذا كانت الصلاة من الله -عز وجل- وأما جانب المخلوقين فلم يتعرض له ولهذا كان هذا التعريف ناقصاً.
وأما تعريف الجرجاني السابق فمعناه طلب التعظيم للرسول صلى الله عليه وسلم ولكن الطلب يمكن أن يكون طلب أمر وطلب دعاء.
وإذا كان الطلب أمراً فيستقيم في حق الله تعالى-، وأما إذا كان دعاءً فيستقيم في حق المخلوقين دون الله -عز وجل- لأن الدعاء طلب الإعانة من الغير وهذا محال على الله سبحانه وتعالى.
ويلاحظ أن قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)) [الأحزاب:56]. يدل على أن الله سبحانه وتعالى، والملائكة يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم بحيث جمع الله صلاته وصلاة الملائكة في فعل واحد وبصيغة الأخبار وأمر المؤمنين بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم.
ولهذا فرّق العلماء بين معنى صلاة الله على النبي صلى الله عليه وسلم ومعنى صلاة المخلوقين حتى يستقيم معنى الصلاة في حق الله عز وجل وحق ملائكته وحق المؤمنين.
ولإزالة هذا الإشكال ذكر العلماء أقوالاً عدة في بيان المعنى المراد من الصلاة على اختلاف فاعلها.
يقول أبو العالية: " صلاة الله عز وجل ثناؤه عليه وصلاة الملائكة عليه الدعاء "(1).
ويقول الضحاك: " صلاة الله رحمته وصلاة الملائكة الدعاء "(2).
ويقول الضحاك أيضاً: " صلاة الله مغفرته وصلاة الملائكة الدعاء "(3).
__________
(1) انظر فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص:80) للقاضي إسماعيل الجهضمي.
(2) انظر المصدر السابق: (80-81).
(3) انظر المصدر السابق: (80-81).(1/118)
وإذا نظرنا إلى الأقوال السابقة الواردة في معنى الصلاة نرى أن الصلاة من الله على النبي صلى الله عليه وسلم هي الثناء والرحمة والمغفرة، وأمّا الصلاة من الملائكة فله معنى واحد وهو الدعاء إلا أن هذه الأقوال لا تسلم عن مقال ومآخذ إذ يترتب عليها وجود معنيين على الأقل في فعل واحد وفي استعمال واحد مع أنه أسند إلى الاثنين معاً.
وقد ذكر ابن القيم -رحمه الله- القولين الأخيرين من الأقوال السابقة في معنى الصلاة من جانب الله تعالى وجانب الملائكة وضعفهما وأسهب في ذلك حيث ذكر خمسة عشر وجهاً تدل على ضعفهما. ومن أحسن ما ضعفهما به قوله: "إن الله سبحانه وتعالى فرّق بين صلاته على عباده ورحمته فقال: ((وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ)) [البقرة:155-157]. فعطف الرحمة على الصلاة فاقتضى تغايرهما. هذا أصل العطف، وإن الله سبحانه فرّق بين صلاته وصلاة ملائكته وجمعهما في فعل واحد فقال: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ...)) [الأحزاب:56]. وهذه الصلاة لا يجوز أن تكون هي الرحمة وإنّما هي ثناؤه سبحانه وثناء ملائكته عليه، ولا يقال الصلاة لفظ مشترك ويجوز أن يستعمل في معنييه معاً لأنّ في ذلك محاذير متعددة"(1).
ومن هنا نجزم بأنّ صلاة الله وصلاة الملائكة عليه صلى الله عليه وسلم في الآية التي نحن بصددها لها معنى واحد وهو الثناء عليه، وأمّا صلاتنا نحن عليه صلى الله عليه وسلم فهي طلب المزيد من الثناء من الله عز وجل طلب دعاء لا طلب أمر.
__________
(1) جلاء الأفهام: (ص:83).(1/119)
يقول الحليمي -رحمه الله-: " فيدل على أنَّ قولنا: اللهم صل على محمد صلاة منّا عليه إنّا لا نملك إيصال ما يعظم به أمره ويعلو به قدره إليه وإنّما ذلك على الله تعالى فيصح أن صلاتنا عليه الدعاء له بذلك وابتغاؤه من الله عز وجل "(1).
وقد أيد ابن القيم هذا الرأي القائل بأنّ صلاتنا هي طلب المزيد من الثناء من الله -عز وجل- حيث قال: "الصلاة المأمور بها فيها هي الطلب من الله ما أخبر به عن صلاته وصلاة ملائكته، وهي ثناء عليه وإظهار لفضله وشرفه وإرادة تكريمه وتقريبه فهي تتضمن الخبر والطلب وسمى هذا السؤال والدعاء منّا نحن صلاة عليه لوجهين:
أحدهما: أنّه يتضمن ثناء المصلي عليه والإشارة بذكر شرفه وفضله والإرادة والمحبة كذلك من الله تعالى، فقد تضمنت الخبر والطلب.
الوجه الثاني: أن ذلك سمي منّا صلاة لسؤالنا من الله أن يصلي عليه فصلاة الله عليه ثناؤه وإرادته لرفع ذكره وتقريبه، وصلاتنا نحن عليه سؤالنا الله تعالى أن يفعل ذلك به وضد هذا في لعنة أعدائه الشائنين لما جاء به فإنها تضاف إلى الله وتضاف إلى العبد كما قال تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ)) [البقرة:159]. فلعنة الله لهم تتضمن مقته وإبعاده وبغضه لهم ولعنة العبد تتضمن سؤال الله تعالى أن يفعل ذلك بمن هو أهل اللعنة"(2).
وعلى هذا فمعنى صلاة الله -عز وجل- وصلاة الملائكة على النبي صلى الله عليه وسلم الثناء، وأمّا في حق المؤمنين في طلب ذلك الثناء من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) المنهاج في شعب الإيمان: (2/134).
(2) جلاء الأفهام: (ص:86).(1/120)
حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: ذكر السخاوي عن شيخه (1) في حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عشرة أقوال: القول الأول: إنها مستحبة.
الثاني: إنها واجبة في الجملة بغير حصر لكن أقل ما يحصل به الأجزاء مرة.
الثالث: أنّها تجب في العمر في صلاة أو في غيرها وهي مثل كلمة التوحيد.
الرابع: تجب في القعود مرة آخر الصلاة بين قول التشهد وسلام التحليل.
الخامس: تجب في التشهد فقط.
السادس: تجب في الصلاة من غير تعيين المحل.
السابع: يجب الإكثار منها من غير تقييد بعدد.
الثامن: تجب كلما ذكر صلى الله عليه وسلم.
التاسع: تجب في كل مجلس مرة ولو تكرر ذكره مراراً.
العاشر: تجب في كل دعاء(2).
هذه عشرة أقوال في حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولكنّها في الحقيقة والواقع قولان: أولهما: أنّها مستحبة.
ثانيهما: أنّها واجبة ولكن الذين يقولون بوجوبها اختلفوا في عدد المرات وفي المواطن التي تجب فيها حتى بلغت أقوالهم تسعة أقوال إلا أنّ أغلب هذه الأقوال متعلقة بالمواطن التي تجب الصلاة فيها.
وأصح ما قيل في حكمها أنّها تجب في الجملة بدون تقييد بعدد أو وقت مع مراعاة المواطن التي يتأكد وجوبها أو استحبابها.
يقول صاحب بهجة المحافل(3): "وأما حكمها فهي واجبة إجماعاً للآية الكريمة (4) لكنّه غير محدد بوقت ولا عدد"(5).
__________
(1) يقصد به الحافظ ابن حجر العسقلاني كما صرح به السخاوي نفسه في آخر القول البديع (ص:264).
(2) انظر القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع (ص:14) وما بعدها.
(3) هو عماد الدين يحيى بن أبي بكر العامري.
(4) وهي قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)) [الأحزاب:56].
(5) بهجة المحافل وبغية الأماثل (2/416).(1/121)
وهذا الإجماع الذي ادعاه فيه نظر لأنّ من العلماء من يقول باستحبابها مطلقاً إلاّ إذا حملنا الاستحباب بما زاد على المرة الواحدة.
يقول السخاوي: "وقد أول بعض العلماء هذا القول بما زاد على المرة الواحدة وهو متعين والله أعلم "(1).
صيغ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم صيغ كثيرة ذكرها العلماء في كتبهم يروونها عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد بعضها صحيحة وبعضها حسنة وبعضها ضعيفة أو يلفقونها مما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من صيغ الصلاة أو يؤلفونها من عندهم.
وهنا نكتفي بذكر الصيغ الصحيحة لأنّ الغرض يتم بها وأمّا غيرها من الصيغ الضعيفة أو الملفقة فلا يتم بها بل نص بعض العلماء على عدم جوازها لعدم ثبوتها عن النبي صلى الله عليه وسلم من ناحية السند أو بالكيفية الملفقة.
وعلى هذا فلا بد للمسلم أن يلتزم بالصيغ المأثورة الصحيحة أو الحسنة.
وقد ذكر الشيخ ناصر الدين الألباني سبع صيغ صحيحة للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم(2).
ونذكر هذه الصيغ كما وردت في كتابه " صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وبنفس الترتيب.
الصيغة الأولى: عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنّه كان يقول: " اللهم صلّ على محمد وعلى أهل بيته وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل أبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل بيته وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنّك حميد مجيد "(3).
__________
(1) القول البديع (ص:14).
(2) صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم (ص:146) وما بعدها، وانظر فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بتحقيق الألباني هامش (ص:54).
(3) أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار (3/74)، وذكر السخاوي هذه الرواية في القول البديع (ص:42)، وصحيح الألباني هذه الرواية بعد عزوه إلى الإمام أحمد والطحاوي في صفة صلاة النبي (ص:147).(1/122)
الصيغة الثانية: عن كعب بن عجرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد "(1).
الصيغة الثالثة: عن طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله كيف الصلاة عليك؟ قال: قل: " اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد "(2).
الصيغة الرابعة: عن أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه- قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس عبادة فقال بشير بن سعد: أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله، فكيف نصلي عليك؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنينا أنّه لم يسأله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا: " اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنّك حميد مجيد "(3).
الصيغة الخامسة: عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قلنا يا رسول الله هذا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك؟ قال: قولوا:
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب قوله تعالى: (إن الله وملائكته يصلون على النبي.) (3/178)، وصحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد (1/305).
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/162)، والنسائي في سننه (1/190) وقد ذكر ابن القيم هذه الرواية في جلاء الأفهام (ص:9) والسخاوي في القول البديع (ص:34) بألفاظ متقاربة، وصحح الألباني هذه الرواية في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم (ص:147) بعد عزوها إلى الإمام أحمد والنسائي وغيرهما.
(3) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد (1/305).(1/123)
"اللهم صلّ على محمد عبدك ورسولك كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم"(1).
الصيغة السادسة: عن أبي حميد الساعدي -رضي الله عنه- أنّهم قالوا: يا رسول الله كيف نصلّي عليك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولوا: " اللهم صلّ على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنّك حميد مجيد "(2).
الصيغة السابعة: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: " اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد "(3).
__________
(1) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله تعالى: (إن الله وملائكته يصلون على النبي.) (3/178).
(2) صحيح البخاري، كتاب الأنبياء باب يزفون القسلان في المشي (2/239)، وصحيح مسلم، كتاب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد (1/306).
(3) أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار (3/75)، وقد ذكر ابن القيم في جلاء الأفهام (ص:13) هذه الصيغة وصححها، وكذلك السخاوي في القول البديع (ص:40) وصححها، والألباني في صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص:148)، وصححها بعد عزوها إلى الطحاوي وغيره.(1/124)
هذه هي صيغ الصلاة التي علّمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بعد ما سألوا عنها والتي وردت بأسانيد صحيحة كما بينّا، ولهذا ذهب بعض العلماء على التزامها دون تغيير أو تلفيق لأنّها أفضل الكيفيات في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم يقول السخاوي: " استدل بتعليمه صلى الله عليه وسلم لأصحابه كيفية الصلاة عليه بعد سؤالهم عنها أنّها أفضل الكيفيات؛ لأنّه لا يختار لنفسه إلا الأشرف والأفضل، ويترتب على ذلك لو حلف أن يصلي عليه أفضل الصلوات فطريق البر أن يأتي بذلك "(1).
ومع ورود هذه الصيغ الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد أجاز بعض العلماء الصلاة عليه بلفظ جميل: يقول الفاكهي(2): "ونقل ابن مندة عن جمع من الصحابة وغيرهم أنّ من رزقه الله بياناً شافياً عن المعاني الصحيحة بالألفاظ الفصيحة فأبان عن الشرف النبوي كان كمن سلك السنن السنية "(3).
وجاء في كتاب حسن التوسل: "والصلاة بلفظ صلى الله عليه وسلم أمر حسن متضمن للبلاغة والإيجاز الموفي بالمقصود على أكمل وجه (4) ولذا تواطأ المؤلفون وغيرهم من العلماء المتقدمين والمتأخرين على التزامها "(5).
وأمّا التلفيق بين صيغ الصلاة فقد استحسنه بعض العلماء وكرهه بعضهم.
__________
(1) القول البديع (ص:47).
(2) حسن التوسل: (ص:196).
(3) حسن التوسل في آداب زيارة أفضل الرسل (ص:196).
(4) ففيه نظر، لأنها لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكيفية، والأكمل ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم لا غير وخاصة في الأمور الدينية. وهذا الاعتراض يرد أيضاً على قول الفاكهي السابق المبني على نقل ابن مندة عن جمع من الصحابة وغيرهم.
(5) هو عبد الله بن أحمد الفاكهي المتوفي سنة (972هـ). انظر ترجمته في الأعلام (4/193).(1/125)
ومن الذين استحسنوه الإمام النووي -رحمه الله- حيث يقول: "وينبغي أن يجمع ما في الأحاديث الصحيحة فيقول: "اللهم صل على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى آل محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنّك حميد مجيد "(1).
ومع هذا - فقد فاته شيء، ولعلها توازي قدر ما زاده وتزيد عليه كما ذكر السخاوي عن شيخه ابن حجر العسقلاني مثل قوله: عبدك ورسولك ومثل قوله في العالمين في الأولى ومثل قوله: " اللهم صلّ وبارك لأنهما ثبتا معاً وغير ذلك "(2).
__________
(1) المجموع شرح المهذب (3/447).
(2) انظر القول البديع (ص:61-62).(1/126)
وأما الذين كرهوا التلفيق بين صيغ الصلاة فمنهم ابن تيمية رحمه الله - حيث يقول: " ولبعض المتأخرين في بعض هذه الأدعية والأذكار التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقولها ويعلمها بألفاظ متنوعة ورويت بألفاظ متنوعة طريقة محدثة بأن جمع تلك الألفاظ واستحب ورأى ذلك أفضل ما يقال فيها مثال الحديث الذي في الصحيحين (1) عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- أنّه سأل رسول الله: علِّمني دعاء أدعو به في صلاتي قال: " اللهم إنّي ظلمت نفسي ظلماً كثيراً... " قد روي كثيراً وروي كبيراً فيقول هذا القائل يستحب أن يقول كثيراً كبيراً وكذلك إذا روي: " اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد " وروي " اللهم صلّ على محمد وعلى أزواجه وذريته " وأمثال ذلك. وهذه طريقة محدثة لم يسبق إليها أحد من الأئمة المعروفين وطرد هذه الطريقة أن يذكر التشهد بجميع هذه الألفاظ المأثورة وأن يقال الاستفتاح بجميع الألفاظ المأثورة. وهذا مع أنّه مخالف لعمل المسلمين لم يستحبه أحد من أئمتهم، بل عملوا بخلافه فهو بدعة في الشريعة، فاسد في العقل، ثم قال: إذ قال هذا تارة على آل محمد وتارة على أزواجه وذريته كان حسناً... "(2).
__________
(1) الحديث في صحيح البخاري، كتاب صفة الصلاة، باب الدعاء قبل السلام (1/151)، وفي صحيح مسلم، في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب أستحباب خفض الصوت بالذكر (4/2078).
(2) مجموع الفتاوي (1/161-162).(1/127)
وتبعه في ذلك تلميذه ابن قيم الجوزية -رحمه الله- حيث يقول: " إنّ هذه الطريقة -أي طريقة التلفيق بين جمع صيغ الصلاة طريقة محدثة لم يسبق إليها أحد من الأئمة المعروفين وأنّ صاحبها إن طردها لزمه أن يستحب للمصلي أن يستفتح بجميع الاستفتاحات وأن يستشهد بجميع التشهدات وأن يقول في ركوعه وسجوده جميع الأذكار الواردة فيه. وهذا باطل فإنه خلاف عمل الناس ولم يستحبه أحد من أهل العلم وهو بدعة وإن لم يطردها تناقض وفرق بين متماثلين "(1).
والرأي الأخير هو الأصح لأن هذه الصيغ تثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الكيفية وأنه علّم أصحابه بهذه الكيفية، بعد ما سألوه عنها ولأن التلفيق يترتب عنه صيغة مصطنعة مؤتلفة لم يقل بها الرسول صلى الله عليه وسلم وعلينا الاتباع لا الابتداع.
هذا ما يتعلق بصيغ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم قولاً. وأما الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم كتابة فقد اصطلح المؤلفون على كتابة عبارة " صلى الله عليه وسلم " بعد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم.
ولذلك يكره أن يقتصر على الصلاة دون السلام أو السلام دون الصلاة كما أنه يكره أن يرمز إليهما بحرفين أو نحو ذلك مثل صعم أو "صلعم" أو "ص" أو "صلم" وما شابه ذلك.
يقول ابن كثير -رحمه الله تعالى- نقلاً عن ابن الصلاح: " وليحافظ على الثناء على الله عز وجل والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن تكرر فلا يسأم فإن فيه خيراً كثيراً. بحيث يكتب الصلاة والتسليم كاملة لا رمزاً ولا يقتصر على قوله "عليه السلام" يعني وليكتب "صلى الله عليه وسلم" واضحة كاملة(2).
__________
(1) جلاء الأفهام: (ص:190).
(2) انظر الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث للحافظ ابن كثير (ص:135-136).(1/128)
ومستند الجمع بين الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بهما معاً في قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)) [الأحزاب:56]. ومعنى السلام فقيل السلام الذي هو اسم من أسماء الله عليك وتأويله لا خلوت من الخيرات والبركات وسلمت من المكاره والآفات....
ويحتمل أن يكون بمعنى السلام أي ليكن قضاء الله عليك السلام وهو السلامة كالمقام والمقامة... أي يسلمك الله من الملام والنقائص...
ويحتمل أن يكون بمعنى المسالمة له والانقياد(1).
وأما حكم السلام عليه صلى الله عليه وسلم فتابع لحكم الصلاة عليه لأمر الوارد بهما معاً في الآية السابقة.
وأما صيغة السلام عليه فهي "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته الواردة في التشهد" كما هو الظاهر(2).
وأما مواطنها المتفق عليها فهي في التشهد وعند زيارة قبره صلى الله عليه وسلم بأبي وأمي.
وأما ثوابها فتشترك الصلاة في كثير من ذلك.
مواطن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: ذكر العلماء مواطن كثيرة للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فمنهم من ذكر أربعين موطناً كابن قيم الجوزية -رحمه الله تعالى- في جلاء الأفهام (3)، وكذلك السخاوي في القول البديع (4) نحو عدد المواطن التي ذكرها ابن القيم. ومنهم من ذكر اثنين وثلاثين موطناً كصاحب بهجة المحافل(5).
ونذكر هنا أهم ما صح من هذه المواطن وخاصة المرفوع من ذلك.
__________
(1) القول البديع: (67-68).
(2) انظر المصدر السابق: (66).
(3) انظر (ص:193) وما بعدها.
(4) انظر (ص:170) وما بعدها.
(5) انظر بهجة المحافل. (2/416-417).(1/129)
الموطن الأول: في الصلوات عامة بعد التشهد لحديث فضالة بن عبيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته لم يمجد الله ولم يصلّ على النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عجل هذا، ثم دعاه فقال له ولغيره: " إذا صلّى أحدكم فليبدأ بتمجيد اللّه والثناء عليه ثم يصلّي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو بعد بما شاء "(1).
وهذا الحديث يدل في منطوقه على أنّ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مطلوبة في الصلاة.
الموطن الثاني: صلاة الجنازة بعد التكبيرة الثانية: لحديث الزهري قال: سمعت أبا أمامة بن سهل بن حنيف يحدث سعيد بن المسيب قال: "إن السنة في صلاة الجنازة أن يقرأ بفاتحة الكتاب، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يخلص الدعاء للميت متى يفرغ ولا يقرأ إلا مرّة واحدة ثم يسلم في نفسه "(2).
الموطن الثالث: عقب إجابة المؤذن: لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أنّه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا سمع المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلّوا عليّ فإنّ من صلّى عليّ صلاة صلّى الله عليه بها عشراً ثم سلوا لي الوسيلة فإنَّها منزلة في الجنة، لا تنبغي إلاّ لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت له شفاعتي"(3).
__________
(1) رواه الإمام أحمد في مسنده (6/18)، وحسنه الألباني، في تعليقاته على كتاب فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم انظر هامش (ص:86).
(2) أخرجه الحاكم في مستدركه (1/360) وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
(3) صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسأل الله له الوسيلة (1/288).(1/130)
وهذه الصلاة ينبغي أن يقولها القائل سرّاً لا جهراً خلافاً لما يفعله الناس وخاصة المؤذنون من الجهر بالآية(1) ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول الشيخ ناصر الدين الألباني: " ومن العجيب أن ترى بعض المتهاونين بهذه السنن أشد الناس تعصباً وتمسكاً ببدعة جهر المؤذن بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عقب الأذان مع كونه بدعة اتفاقاً، فإن كانوا يفعلون ذلك حبّاً بالنبي صلى الله عليه وسلم فهلا اتبعوه في هذه السنة (2) وتركوا تلك البدعة "(3).
الموطن الرابع: طوال يوم الجمعة: لحديث أوس بن أوس -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا عليّ من الصلاة فيه، فإنّ صلاتكم معروضة عليّ "، فقالوا: يا رسول الله وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ قال: "يقول بليت؟ قال: إن الله حرّم على الأرض أجساد الأنبياء "(4).
الموطن الخامس: في كل مجلس: لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- موقوفاً عليه قال: " ما جلس قوم مجلساً ثم تفرقوا قبل أن يذكروا الله ويصلوا عليه فيه إلاّ كان عليهم حسرة يوم القيامة "(5).
__________
(1) وهي قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)) [الأحزاب:56].
(2) وهي أن يقولوا مثل ما يقول المؤذن ثم يصلّوا على النبي صلى الله عليه وسلم سراً.
(3) انظر فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم للقاضي إسماعيل بن إسحاق الجهضمي هامش (ص:50).
(4) الحاكم في مستدركه (1/278) وصححه ووافقه الذهبي.
(5) رواه الحاكم في مستدركه (1/492).(1/131)
الموطن السادس: كلما ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم: لقوله صلى الله عليه وسلم: " البخيل من ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ.. "(1). ثواب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: ذكر العلماء ثواباً كثيراً للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فمنهم من ذكر ما يقارب أربعين ثواباً كابن القيم -رحمه الله- في جلاء الأفهام (2)، والسخاوي في القول البديع(3).
وهذا الثواب المذكور منه ما يستند إلى دليل صحيح، ومنه ما يستند إلى أدلةٍ ضعيفة، كما أنّ بعضاً منه يدخل في بعض الآخر.
وأذكر هنا أهم ما ذكره العلماء:
أولها: كتابة عشر حسنات لمن صلّى عليه صلى الله عليه وسلم صلاة واحدة لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "... من صلّى عليّ صلاة صلّى الله عليه بها عشراً "(4).
ولحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من صلّى عليَّ صلاة واحدة صلّى الله عليه عشراً "(5).
__________
(1) أخرجه الحاكم في مستدركه (1/549) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
(2) انظر (ص:262) وما بعدها.
(3) انظر (ص:151) وما بعدها.
(4) صحيح مسلم، (1/288-289) وقد تقدم في (ص:209).
(5) رواه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص:26)، وصحح الألباني إسناد هذا الحديث في تعليقاته على الكتاب المذكور. انظر هامش (ص:26).(1/132)
ثانيها: محو عشر سيئات عمن صلّى على النبي صلى الله عليه وسلم لحديث عبد الرحمن بن عمرو قال: " من صلّى على النبي صلى الله عليه وسلم كتب الله له عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات... "(1).
ثالثها: رفع عشر درجات لمن صلى عليه صلى الله عليه وسلم لحديث عبد الرحمن بن عمرو قال: " من صلّى على النبي صلى الله عليه وسلم كتب الله له عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات "(2).
رابعها: مغفرة الذنب كله لمن صلّى على النبي صلى الله عليه وسلم لحديث أبي بن كعب -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في ثلثي الليل فيقول: "جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه " وقال أبيّ: يا رسول الله إنّي أصلّي من الليل أفأجعل لك ثلث صلاتي؟ (3) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشطر قال: أفأجعل لك شطر صلاتي؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الثلثان أكثر، قال: أفأجعل لك صلاتي كلها؟ قال: أذن يغفر لك ذنبك كله "(4).
__________
(1) رواه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص:38). وقال الألباني في تعليقاته على الكتاب المذكور إسناده ضعيف، لكن له شاهد مرفوع عن أنس، أخرجه النسائي وغيره بسند صحيح. انظر هامش (ص:28)، قلت: رواية أنس التي أشار إليها هي بلفظ: "من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات، وحطت عنه عشر خطيئات، ورفعت له عشر درجات". سنن النسائي في كتاب السهو، باب الفضل في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (3/50).
(2) الحديث هو نفس الحديث الذي قبله.
(3) صلاتي هنا تعني دعائي.
(4) أخرجه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (29-30) وقال الألباني: حديث جيد. انظر فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هامش (ص:30).(1/133)
خامسها: القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة لحديث ابن مسعود - رضي الله عنه- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليّ صلاة "(1).
سادسها: أن من صلّى عليه صلى الله عليه وسلم عند ذكره ينجو من أن يوصف بالبخل لحديث علي -رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " البخيل من ذكرت عنده فلم يصلّ علىّ "(2).
سابعها: أنّه من صلى عليه لا يخطئ أبواب الجنة لحديث ابن عباس -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ينسى الصلاة عليَّ خطئ طريق الجنة"(3).
وهذان الحديثان الأخيران يدلان على الثواب بدليل المخالفة.
ثامنها: أنها سبب لشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرنها بسؤال الوسيلة له.
لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلّوا عليَّ فإن من صلّى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً ثم سلوا لي الوسيلة فإنها مترلة في الجنة لا تنبغي إلاّ لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلّت له شفاعتي"(4).
الفصل الثالث
الأدب العملي
__________
(1) رواه الترمذي في سننه، أبواب التطوع، باب ما جاء في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (2/302)، وقال: هذا حديث حسن غريب.
(2) أخرجه الحاكم في مستدركه (1/549) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
(3) رواه ابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (1/294)، وقال الألباني والحديث يرتقي إلى درجة الحسن على أقل الدرجات. انظر فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هامش (45).
(4) صحيح مسلم (1/288-289) وقد تقدم في (ص:209)، وفي (ص:211) أيضاً.(1/134)
في بداية هذا الباب قسمت الأدب إلى ثلاثة أنواع وذكرت في الفصلين السابقين نوعين منها وهما الأدب القلبي والأدب القولي، وفي هذا الفصل سوف أتحدث عن النوع الثالث والأخير وهو الأدب الفعلي والعملي، ونقصد بالأدب العملي الأدب الذي يتعلق بالجوارح، ويكون عملياً محسوساً. وبذا يتكون هذا الفصل من مبحثين:
المبحث الأول: الطاعة والاتباع.
المبحث الثاني: مجالسته صلى الله عليه وسلم.
المبحث الأول: الطاعة والاتباع:
وردت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم مرّات كثيرة بصيغ مختلفة، حيث جاءت أمراً بطاعته ونهياً عن مخالفته، وإخباراً بأن طاعته صلى الله عليه وسلم يترتب عليها ثواباً عظيم في الدنيا والآخرة.
والصيغ التي تدل على أنّ طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة على الأمة هي صيغتا الأمر بطاعته والنهي عن مخالفته أو ما يجري مجراهما من تحذير عن مخالفته أو توعد بعقاب لمن يخالف.
وأمّا الصيغة الأولى وهي الأمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد وردت في القرآن الكريم مقترنة بطاعة الله مع تكرير الفعل "أطيعوا" مرة مع الله، ومرة مع الرسول صلى الله عليه وسلم.
يقول تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)) [النساء:59].
ومرة بعدم تكرير الفعل مثل قوله تعالى: ((يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ)) [الأنفال:1].(1/135)
ولكل من التعبيرين مدلول خاص كما ذكر المفسرون قائلين: إذا كان الفعل أطيعوا متكرراً يفيد على أن للرسول صلى الله عليه وسلم نوع استقلال من الطاعة مثل قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)) [النساء:59].
يقول الألوسي -رحمه الله- في تفسيره هذه الآية: "وأعاد الفعل وإن كانت طاعة الرسول مقترنة بطاعة الله تعالى اعتناء بشأنه -عليه الصلاة والسلام- وقطعاً لتوهم أنه لا يحب امتثال ما ليس في القرآن وإيذاناً بأن له صلى الله عليه وسلم استقلالاً بالطاعة لم يثبت لغيره من البشر ومن ثم لم يعد في قوله سبحانه: ((وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ)) [النساء:59] ايذاناً بأنهم لا استقلال لهم فيها استقلال الرسول صلى الله عليه وسلم(1).
وقد حذّر الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا المفهوم الخاطىء وهو الاكتفاء بما جاء في القرآن دون الرجوع إلى السنة المبينة للقرآن الكريم بقوله -صلى الله عليه وسلم-.
" لا ألفين أحداً متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه "(2).
وفي رواية المقدام زيادة: " ألا وإن ما حرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله "(3).
__________
(1) روح المعاني: (5/65).
(2) أخرجه الحاكم في مستدركه (1/108) وقال: "هو صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.
(3) أخرجه الحاكم في مستدركه (1/109) وصححه.(1/136)
وأمّا إذا كانت الفعل غير متكرر مثل قوله تعالى: ((يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ)) [الأنفال:1]. فيفيد أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي طاعة الله تعالى.
يقول الألوسي -رحمه الله- في تفسيره هذه الآية: " وذكر الرسول صلى الله عليه وسلم مع الله -تعالى- أولاً وآخراً لتعظيم شأنه وإظهار شرفه والإيذان بأن طاعته عليه الصلاة والسلام -طاعة الله تعالى، وقال غير واحد أنّ الجمع بين الله -تعالى- ورسوله صلى الله عليه وسلم أولاً لأن اختصاص الله تعالى بالأمر والرسول صلى الله عليه وسلم بالامتثال "(1).
ومما يدل على هذا المعنى قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ)) [الأنفال:20]. حيث أفرد الضمير وأعيد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم دون الله -عز وجل- بعد الأمر بطاعتهما معاً لأنّ الضمير يرجع إلى أقرب المذكور كما هو معروف في علم النحو للإشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم هو الوسيلة بين الله وبين خلقه في تبليغ مراد الله تعالى وبيانه، وأنّ طاعته صلى الله عليه وسلم طاعة لله على غرار قوله تعالى: ((مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)) [النساء:80].
يقول الألوسي -رحمه الله-: " وأعيد الضمير إليه -عليه الصلاة والسلام- لأنّ المقصود طاعته صلى الله عليه وسلم وذكر طاعة الله توطئة لطاعته وهي مستلزمة لطاعة الله -تعالى- لأنّه مبلغ عنه فكان الراجع إليه كالراجع إلى الله تعالى "(2).
__________
(1) روح المعاني: (9/164).
(2) روح المعاني: (9/188).(1/137)
ومن هذه النماذج التي ذكرناها سابقاً في موضوع طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم يتبين لنا أنّ طاعته صلى الله عليه وسلم واجبة على كل مسلم في كل أمر من الأمور سواء كان ذلك الأمر ثبت بالقرآن أو بالسنة لأنّ طاعته طاعة الله تعالى كما يدل عليه قوله تعالى: ((مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)) [النساء:80] ولأنه صلى الله عليه وسلم لا يتكلم عن الهوى وإنما عن وحي من الله -سبحانه وتعالى- ((وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى)) [النجم:3-4].
ويدخل في مفهوم طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم اتباعه لأنّ مدلول الاتباع والطاعة يكادْ يكون واحداً حيث أنها من المترادفات وشأن المترادفات أن يكون معناها واحداً مع وجود فروق طفيفة مثل كلمتي قعد وجلس حيث أن الأولى من الاضطجاع والثانية من القيام مع أنّ مدلولهما واحد.
وهكذا شأن كل المترادفات، وأما كلمتي الاتباع والطاعة، فقد ذكر أبو هلال العسكري -عند كلامه عن الفرق بين العبادة والطاعة- أنّ مدلول الاتباع والطاعة واحد فقال: "والطاعة الفعل الواقع على حسب ما أراده المريد متى كان المريد أعلى رتبة ممن يفعل ذلك وتكون للخالق والمخلوق والعبادة لا تكون إلا للخالق، والطاعة في مجاز اللّغة تكون اتباع المدعو والداعي إلى ما دعاه إليه وإن لم يقصد التبع كالإنسان يكون مطيعاً للشيطان وإن لم يقصد أن يطيعه ولكنّه اتبع دعاءه وإرادته "(1).
__________
(1) الفروق في اللغة (ص:215).(1/138)
وكلام أبي هلال العسكري يفيد أن الاتباع والطاعة يؤديان معنى واحداً تجوزاً كما أنّهما يكونان عن قصد وعن غير قصد، وحديثي هنا يدور حول الاتباع والطاعة التي يكون عن قصد وإرادة من صاحبها مع نيّة صالحة لأنّ المنافق هو الذي يظهر اتباع الرسول ويبطن مخالفته، وعلى هذا نفى الله سبحانه وتعالى عنهم سمة الإيمان في قوله تعالى: ((وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ)) [النور:47].
ومع أن الاتباع والطاعة معناهما واحد كما ذكرنا إلاّ أننا نذكر هنا النصوص التي وردت بصيغة الاتباع أو ما يجري مجراها.
وقد وردت نصوص كثيرة من القرآن والسنة التي تأمرنا تارة باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وتارة باتباع طريقة الله التي هي طريقته وتارة باتباع القرآن.
من الآيات التي تدل على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ)) [آل عمران:31].
وقوله تعالى: ((فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)) [الأعراف:158].
وأمّا ما يدل على وجوب اتباع طريقة الله التي هي طريقته فمنه قوله تعالى: ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) [الأنعام:153].(1/139)
وقد ورد في السنة ما يبين معنى هذه الآية وهي ما أخرجه الحاكم في مستدركه عن عبد الله -هو ابن مسعود-(1) قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً بيده ثم قال: هذا سبيل الله مستقيماً وخط عن يمينه وشماله خطوطاً ثم قال: " هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعوا إليه ثم قرأ: ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)) [الأنعام:153].
وأمّا ما يدل على وجوب اتباع القرآن فمنه قوله تعالى: ((وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)) [الأنعام:155] (2).
يقول ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: " فيه الدعوة إلى اتباع القرآن يرغب سبحانه عباده في كتابه ويأمرهم بتدبره والعمل به والدعوة إليه ووصفه بالبركة لمن اتبعه وعمل به في الدنيا والآخرة "(3).
ومجموع هذه النصوص من القرآن والسنة التي أوردناها في موضوع الاتباع كلما تفيد على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم سواء كانت تتعلق باتباع سبيل الله أو اتباع القرآن لأن اتباع سبيل الله اتباع سبيله صلى الله عليه وسلم لأنه هو الداعي إلى ذلك.
قال تعالى: ((قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي)) [يوسف:108].
وكذلك فاتباع القرآن هو اتباعه صلى الله عليه وسلم لأنّه هو المبلغ عن الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)) [المائدة:67].
__________
(1) كما صرح ابن كثير عند تفسير هذه الآية. انظر تفسيره (2/190).
(2) مستدرك الحاكم (2/139)، وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
(3) ابن كثير: (2/192).(1/140)
هذا ما يتعلق بموضوع وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه الواردة بصيغة الأمر، وأمّا الآن فسوف نتحدث عن وجوب الانتهاء عن مخالفته صلى الله عليه وسلم وهي طريقة أخرى لوجوب اتباعه لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده وكذلك العكس.
وقد ورد في هذا المعنى آيات كثيرة: منها قوله تعالى: ((فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) [النور:63].
ومنها قوله تعالى: ((وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً)) [الأحزاب:36].
ومنها قوله تعالى: ((وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)) [الحشر:7].
ومجموع هذه الآيات التي أوردناها تدل على حرمة مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن هذا المعنى أي مخالفة أمره التقدم بين يديه صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)) [الحجرات:1].
وقد ذكر المفسرون عدة أسباب لنزول هذه الآية التي تبين المعاني المختلفة للتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الأوجه التي يحصل بها التقدم بين يديه صلى الله عليه وسلم.
منها كما ذكر ابن العربي: أنّ قوماً كانوا يقولون: لو أنزل في كذا وكذا فأنزل الله هذه الآية.
ومنها -نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه.
ومنها - لا تفتاتوا على الله ورسوله في أمر حتى يقضي الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومنها - أنها نزلت في قوم ذبحوا قبل أن يصلي النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن يعيدوا الذبح.(1/141)
ومنها - لا تقدموا أعمال الطاعة على وقتها(1).
قال القاضي: " هذه الأقوال كلها صحيحة تدخل تحت العموم فالله أعلم بما كان السبب المثير للآية ولعلها نزلت دون سبب "(2).
وقال أيضاً: "هذه الآية أصل في ترك التعرض لأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وإيجاب اتباعه والاقتداء به "(3).
نعم، هذه الوجوه المذكورة في أسباب نزول الآية محتملة وكلها تفسر الآية من زاوية معينة، كما أنّها تحتمل وجوهاً أخرى لم يذكرها ومجمل معناها هو وجوب الانتهاء عن التقدم بين يدي الله ورسوله في كل أمر من الأمور حتى يقضي الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في حال حياته، وأمّا بعد مماته فمعناها وجوب الانتهاء عن التقدم بين يدي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في كل أمر من الأمور الدنيوية والأخروية.
يقول ابن القيم -رحمه الله-: " ومن الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يتقدم بين يديه بأمر ولا نهي، ولا إذن ولا تصرف حتى يأمره وينهي ويأذن كما قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)) [الحجرات:1].
وهذا باق إلى يوم القيامة لم ينسخ، فالتقدم بين يدي سنته بعد وفاته كالتقدم بين يديه في حياته ولا فرق بينهما عند كل ذي عقل سليم "(4).
__________
(1) أحكام القرآن (4/1700) مع التصرف.
(2) المصدر السابق (4/1701).
(3) المصدر السابق (4/1701-1702).
(4) مدارج السالكين: (2/389).(1/142)
وممّا يدخل في هذا المعنى أي التِقدم بين يدي رسوله صلى الله عليه وسلم تقديم القوانين الوضعية على الشريعة الإسلامية في هذا العصر حتى لو لم يصرّح واضعو هذه القوانين أو الذين استوردوها أنها أفضل من الشريعة الإسلامية أو لا، لأن مجرد إقصاء الشريعة الإسلامية عن الحياة البشرية ووضع القوانين الوضعية مكانها وإجبار الناس على التحاكم إليها والتوعد لمن يخالفها بالعقاب الشديد وإن خالفت الشريعة الإسلامية مخالفة صريحة كما هو مشاهد في واقعنا اليوم، وكذلك إذا وافقت الشريعة الإسلامية لاختلاف مصدر تلقيهما لأن هذه مصدرها هو الله -سبحانه وتعالى- وبواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلك مصدرها الطاغوت وهوى النفس الأمارة بالسوء وإن زعم أصحابها أنهم يؤمنون بالله ورسوله مئات المرات.
وكيف يكون لهم إيمان بعد قوله تعالى: ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)) [النساء:65].
وقوله تعالى: ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ)) [المائدة:44].
يقول الشنقيطي في تفسيره الآية التي نحن بصددها: "وهذه الآية الكريمة فيها التصريح بالنهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله ويدخل دخولاً أولياً تشريع ما لم يأذن به الله وتحريم ما لم يحرمه وتحليل ما لم يحلله لأنه لا حرام إلاّ ما حرمه الله ولا حلال إلا ما حلله الله ولا شرع إلا ما شرعه الله "(1).
ويقول الإمام ابن كثير -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: ((أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)) [المائدة:50].
__________
(1) أضواء البيان (7/614).(1/143)
" ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهداف والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يصنعونها بآَرائهم وأهوائهم وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم "جنكز خان" الذي وضع لهم "الياسق" وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه فصارت في بيئته شرعاً متبعاً يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم في سواه في قليل ولا كثير "(1).
ثواب الاتباع والطاعة: طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه يترتب عليها ثواب كثير في الدنيا والآخرة.
وقد ورد في القرآن الكريم ما يدل على ذلك نذكر طرفاً منها.
من ذلك أن الله -سبحانه وتعالى- جعل طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم طاعة له ((مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)) [النساء:80].
كما أنه -سبحانه وتعالى- جعل طاعته شرطاً للهداية: ((وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا)) [النور:54].
وجعل طاعة الرسول أيضاً شرطاً لدخول الجنة.
((وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ)) [النساء:13].
كما أنها تؤدي إلى مرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في الجنة.
يقول تعالى: ((وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً)) [النساء:69]. كما أنه يترتب عليها الفوز العظيم في الدارين.
__________
(1) تفسير القرآن العظيم: (2/67).(1/144)
يقول تعالى: ((وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)) [الأحزاب:71].
ويقول الله تعالى أيضاً: ((وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ)) [النور:52] كما أنها تكون سبباً لرحمة الله لقوله تعالى: ((وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ)) [التوبة:71].
سلوك السلف في الاتباع: تعد الجماعة الأولى التي تلقت الدين وأخذته من رسول الله مباشرة خير من قام بما شرع لها من طاعة واتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم: " خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)(1).
وإنّي هنا أحاول إبراز بعض الصور التطبيقية للطاعة والاتباع لتكون أمثلة توضح ما شرع للمسلمين في هذا الجانب الهام. وسأجعل هذه الأمثلة مرتبة على النحو التالي:
أولاً: سلوكهم في الاتباع وهم جماعة: أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: " لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة "، فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منّا ذلك، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحداً منهم "(2).
وهذا الحديث يدل دلالة واضحة على مدى إسراع الصحابة -رضوان الله عليهم- في تنفيذ أمره صلى الله عليه وسلم باذلين في ذلك أقصى الجهد.
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (4/1963).
(2) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة ومحاصرته إياهم (3/34).(1/145)
ومنها ما أخرجه البخاري في صحيحه عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتماً من ذهب فاتخذ الناس خواتيم من ذهب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني اتخذت خاتماً من ذهب فنبذه وقال: إنّي لن ألبسه أبداً، فنبذ الناس خواتيمهم "(1).
وهذا الحديث أيضاً يدل دلالة واضحة على مدى إسراع الصحابة - رضوان الله عنهم- في اتباع فعل الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ولو لم يأمرهم بفعل ذلك الفعل وبدون أن يسألوا العلة في ذلك أو أنّ ذلك خاص به صلى الله عليه وسلم أو يعم الأمة جميعاً.
ومن ذلك ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: " بينما الناس في صلاة الصبح بقباء اذ جاءهم آت فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة وقد أمر أن يستقبل الكعبة
فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة "(2).
وفي هذا الحديث يدل دلالة واضحة على مدى استجابة الصحابة لأوامر الله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أثناء الصلاة دون تردد أو إبطاء وبدون استفسار أو تأخير.
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم (4/260).
(2) البخاري في كتاب التراويح، باب فضل من قام رمضان (1/343).(1/146)
ومن ذلك ما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عن عائشة -رضي الله عنها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد وصلى رجال بصلاته فأصبح الناس فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم فصلى فصلوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى فصلوا بصلاته، فلمّا كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح فلمّا قضى الفجر أقبل على الناس ثم قال: " أمّا بعد فإنّه لم يخف عليّ مكانكم ولكنّي خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك "(1).
وهذا الحديث أيضاً يدل على أنّ الصحابة -رضوان الله عنهم- كانوا يحرصون على الاقتداء بالمصطفى صلى الله عليه وسلم في كل فعل من أفعاله إذا لم يكن هناك خصوصية حتى ولو لم يأمرهم بذلك الفعل.
وهذه النصوص التي ذكرناها نموذج لاستجابة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بفعله وتنفيذ أمره جماعة، ولكن هناك نصوص أخرى كثيرة تدل على ذلك يصعب حصرها في هذا المقام.
ثانياً: ما يفيد أيضاً سلوك السلف في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فرادى: من ذلك ما أخرجه البخاري في صحيحه عن عمر -رضي الله عنه- " أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله فقال: إنّي أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك "(2).
وهذا الحديث يدل دلالة واضحة أنّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- صرح بأنّ تقبيله للحجر الأسود هو مجرد التأسّي بالنبي صلى الله عليه وسلم مع إيمانه ويقينه أنّه لا يضر ولا ينفع لذاته.
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة (1/375).
(2) صحيح البخاري في كتاب الحج، باب ما ذكر في الحجر الأسود (1/278).(1/147)
ومن ذلك ما أخرجه البخاري أيضاً في صحيحه عن مروان بن الحكم قال: " شهدت عثمان وعلياً -رضي الله عنهما- وعثمان ينهى عن المتعة (1) وأن يجمع بينهما فلمّا رأى علي أهل بهما لبيك بعمرة وحجة قال: ما كنت لأدع سنة النبى صلى الله عليه وسلم لقول أحد "(2).
وهذا يدل على أنّ الصحابة -رضي الله عنهم- يقدمون سنة النبي صلى الله عليه وسلم على أي قول صدر من غيره مهما كانت رتبته كما فعل علي -رضى الله عنه- مع عثمان بن عفان -رضي الله عنه- في هذا الأمر الذي اختلفت وجهة نظرهما لأنّ عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وإن كان أميراً للمؤمنين آنذاك إلا أن اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق كل شيء.
ومن ذلك أيضاً ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن وبرة قال: كنت جالساً عند ابن عمر فجاءه رجل فقال: أيصلح لي أن أطوف بالبيت قبل أن آتي الموقف؟ فقال: نعم. فقال: فإن ابن عباس يقول: لا تطف بالبيت حتى تأتي الموقف فقال ابن عمر: فقد حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت
قبل أن يأتي الموقف (3)، فبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن نأخذ أم بقول ابن عباس أن كنت صادقاً(4).
__________
(1) يعني التمتع في الحج وهو نوع من أنواع الحج الثلاثة المعروفة.
(2) صحيح البخاري في كتاب الحج في باب التمتع والإقران والإفراد بالحج وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدي (1/272-273).
(3) يعني عرفة.
(4) صحيح مسلم في كتاب الحج، باب ما يلزم من أحرم بالحج ثم قدم مكة، من الطواف والسعي (2/905).(1/148)
وهذه أيضاً حادثة أخرى اختلفت فيها وجهة نظر الصحابة -رضي الله عنهم- ومضمونها يؤكد حرص صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على اتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا ثبتت وترك قول أي أحد من الناس مهما كانت رتبته إذا كان ذلك القول يخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا أنكر ابن عمر -رضي الله عنهما- على السائل حينما ذكر فتوى ابن عباس -رضي الله عنه- بعد إخباره ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام، ورحم الله الإمام مالك حينما قال: " ما من قول أحد إلا ويؤخذ قوله ويترك إلا صاحب ذلك القبر -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه القاعدة هي الفيصل في هذا الموضوع.
وأما المراجعات التي وقعت بينه صلى الله عليه وسلم وبين الصحابة -رضوان الله عليهم- في بعض الأمور أثناء حياته فلا يعتبر قدحاً في اتباعهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنّ هذه المراجعات كانت مجرد استفسار لبعض الأمور التي لم يتضح لهم الغرض منها أو التبست عليهم أو لم يستسيغوها في أول الأمر ظنّاً منهم أنّهم لا يقدرون على تحملها غيرة للرسول صلى الله عليه وسلم وللإسلام لا للاستهزاء أو الانتقاص من توقير الرسول صلى الله عليه وسلم بخلاف ما كان يفعله المنافقون لعنهم الله -تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء به وبرسالته والانتقاص من توقيره صلى الله عليه وسلم متسترين تحت ما أظهروا من الإسلام.
وقد قسّم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- هذه المراجعات للرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة أقسام حيث قال:
"وبالجملة فالكلمات في هذا الباب ثلاثة أقسام: أحداهن: ماهو كفر - مثل قوله: إنَّ هذه القسمة ما أريد بها وجه الله.(1/149)
الثاني: ما هو ذنب ومعصية يخاف على صاحبه أن يحبط عمله، مثل رفع الصوت فوق صوته، ومثل مراجعة من راجعه عام الحديبية بعد ثباته على الصلح (1)، ومجادلة من جادله يوم بدر بعد ما تبيّن له الحق (2)، وهذا كله يدخل في المخالفة عن أمره.
الثالث: ما ليس من ذلك بل يحمد عليه صاحبه أو لا يحمد كقول عمر: ما بالنا نقصر الصلاة وقد آمنا (3)؟ وكقول عائشة: ألم يقل الله: ((وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا)) [مريم:71]، وكمراجعة الحباب في منزل بدر(4).
__________
(1) مثل قصة عمر مع النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية وفيها: جاء عمر فقال: ألسنا على الحق وهم على باطل؟ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ فقال: (بلى) قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا؟ فقال: (يا ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبداً)، فرجع متغيظاً فلم يصبر حتى جاء أبا بكر فقال: يا أبا بكر ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: يا ابن الخطاب، إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولن يضيعه الله أبداً ". انظر صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب: (إذ يبايعوك تحت الشجرة) (3/190).
(2) يشير إلى قوله تعالى: (يجادلونك في الحق بعدما تبين.). سورة الأنفال: آية (6).
(3) احتجاجاً بقوله تعالى: (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم.) سورة النساء، آية 101. وأجاب صلى الله عليه وسلم عن ذلك: (صدقة تصدق الله بها عليكم) انظر صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافر ين، باب صلاة المسافرين وقصرها (1/478).
(4) حيث أشار إلى النبى صلى الله عليه وسلم أن يغير المكان الذي نزل فيه أولاً إلى مكان آخر أحسن بالنسبة للأهمية الحربية ووافقه على ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم كما في كتب السيرة. انظر السيرة النبوية لابن كثير (2/402).(1/150)
ونحو ذلك ممّا فيه سؤال عن إشكال ليتبين لهم، أو عرض لمصلحة قد يفعلها الرسول صلى الله عليه وسلم"(1).
المقالة الأولى: من هذه الأقسام لم تصدر عن الصحابة -رضوان الله عليهم- وإنّما صدرت عن بعض المنافقين الذين كانوا مع الصحابة ظاهراً لا باطناً لأنّ هذه المقالة هي عين ما حكاه الله -سبحانه وتعالى- عنهم في كتابه كقوله تعالى: ((وَمِنْهُم مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ)) [التوبة:58].
وأما المقالة الثانية: فقد صدرت من بعض الصحابة -رضوان الله عليهم- عن غفلة أو اجتهاد أو عن عجلة إلا أنهم لم يصرّوا على خطأهم وإنما تنازلوا عن رأيهم الذيي رأوه إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إيماناً منهم ويقينا أنّ ما ذهب إليه الرسول صلى الله عليه وسلم هو الصواب.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: " فهذه أمور صدرت عن شهوة وعجلة لا عن شك في الدين"(2).
وأما المقالة الأخيرة: فقد صدرت من الصحابة أيضاً -رضوان الله عليهم- ولكنّها لا تعتبر ذنباً ولا معصية أو مخالفة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنّما الاستفسار عن دين الله -عز وجل- وطلب المزيد من التفقه إيماناً منهم بأنّ مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم هي التبيين لقوله تعالى: ((وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)) [النحل:44] كما أنّها صدرت منهم لأجل الإشارة لبعض الأمور إذا كان المقام يتطلب المشورة لأن الله تعالى يقول: ((وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)) [آل عمران:159].
__________
(1) الصارم المسلول: (ص:119).
(2) الصارم المسلول: (ص:197).(1/151)
يقول ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: " وكانت المراجعة المشهورة منهم لا تعدو إمّا لتكميل نظره صلى الله عليه وسلم في ذلك إن كان من الأمور السياسية التي للاجتهاد فيها مساغ، أو ليتبين لهم وجه ذلك إذا ذكر، ويزدادوا علماً وإيماناً، وينفتح لهم طريق التفقه فيه "(1).
المبحث الثاني: في مجالسته صلى الله عليه وسلم:
ذكرنا في المبحث الأول من هذا الفصل جانباً من جوانب الأدب العملي وهو طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه. وأمّا في هذا المبحث فسوف نتناول جانباً آخر من جوانب الأدب العملي وهو الأدب المتعلق بمجالسة الرسول صلى الله عليه وسلم أو ما ينبغي للمسلم أن يفعل نحو مقام النبوة، أثناء حضوره عنده صلى الله عليه وسلم سواء كان ذلك في بيته أو في الأماكن العامة مع أنّ بعض هذه الآداب لا تتأتى إلا في حال حياته صلى الله عليه وسلم مع أصحابه -رضوان الله عليهم-.
وننظر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم من زاويتين:
الزاوية الأولى: في حال وجوده في بيته مع نسائه.
الزاوية الثانية: في حالة وجوده في الأماكن العامة.
__________
(1) الصارم المسلول: (ص:191).(1/152)
الزاوية الأولى: وهي حالة وجوده صلى الله عليه وسلم في بيته مع نسائه: في هذه الحالة ينبغي أو يجب على المسلم تجاه مقام النبوة عدم إزعاجه سواء في الحضور عنده بغير إذن أو الجلوس في بيته فترة من الزمن والانشغال بالحديث بعد انتهاء الغرض الذي من أجله أذن له لما يترتب عليه من إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم في حين أنه لا يقدر أن ينبه على من تصدر عنه هذه الأفعال حياء منه كما تشير إليه الفقرة الأولى من آية الحجاب، وهي قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ)) [الأحزاب:53].
من هذه الفقرة من الآية الكريمة يتبين لنا عدة أمور مرغوب عنها في المجتمع الإسلامي وخاصة في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي: دخول البيوت بغير إذن والتطفل أو الضيفن وانتظار نضج الطعام والمكث في البيوت بعد انتهاء الغرض الذي من أجله أذن لهم.
وهذه الأمور التي ذكرنا هي أمور ينبغي أن يطهر من المجتمع الإسلامي في ذلك الحين وإلى الأبد لأنها من الأمور المتبقية من العادات الجاهلية التي لا تتمشى مع روح الإسلام السامية.(1/153)
قال ابن عطية في تفسير هذه الآية: " وكانت سيرة القوم إذا كان لهم طعام وليمة أو نحوه أن يبكر من شاء إلى الدعوة ينتظرون طبخ الطعام ونضجه وكذلك إذا فرغوا منه جلسوا كذلك، فنهى الله المؤمنين عن ذلك في بيت النبي صلى الله عليه وسلم ودخل في النهي سائر المؤمنين والتزم الناس أدب الله لهم في ذلك فمنعهم من الدخول إلاّ بإذن عند الأكل لا قبله لانتظار الطعام"(1) وخلاصة القول: الآية تشير إلى أنّه يجب على المسلم أن لا يتطفل على النبي صلى الله عليه وسلم بحيث يحضر عند نضج الطعام فيشارك فيه لأنه ربما أعد الطعام لأناس معدودين وأنّ زيادة العدد قد تضر صاحب البيت وتحمله على تقديم شيء زائد ربما لا تكون في حوزته وأما إذا أذن للطعام فعلى المسلم أن لا يأتي قبل نضج الطعام بل في وقت مناسب لأن أهل البيت مشغولون بإعداد الطعام وقد يحمل الحضور قبل نضج الطعام على الإسراع في إعداد الطعام كما هو المألوف، وكذلك إذا حضر في الوقت المناسب فعليه أن يخرج من البيت بعد الطعام لا أن يمكث فترة للحديث والاستئناس مع غيره لأنَّ ذلك يؤدي إلى مضايقات لأهل البيت والاستماع إلى ما يجري في البيت من كلام أو إلى النظر إلى ما لا ينبغي أن ينظر قصداً أو بغير قصد ولا سيما إذا كان هناك منافقون.
وأمر واحد من هذه الأمور المذكورة ممّا يتأذى به صاحب كل بيت عادة فما بال إذا كانت مجتمعة مع أنّه لا يقدر أن يفصح بها حياء منه كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع الرهط الذين تخلفوا في البيت بعد الطعام عشية بناءه صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش -رضي الله عنها- كما يظهر من بعض الروايات الواردة في سبب نزول هذه الآية.
__________
(1) تفسير القرطبي: (14/225).(1/154)
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: أنا أعلم الناس بهذه الآية آية الحجاب لما أهديت زينب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت معه في البيت، صنع طعاماً دعا إليه القوم فقعدوا يتحدثون فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يخرج ثم يرجع وهم قعود يتحدثون، فأنزل الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ)) [الأحزاب:53]. فضرب الحجاب وقام القوم "(1).
وفي رواية أخرى: " وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء "(2).
ومن هنا نقول: إنّ الله -سبحانه وتعالى- قد أعطى اهتماماً كبيراً حال وجود النبي صلى الله عليه وسلم في بيته مع نسائه، أخذاً من هذه الآية وغيرها من الآيات الأخرى التي جاءت لمناسبات شتى.
من ذلك قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [الحجرات:4-5].
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب التفسير: باب في قوله تعالى: (لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام) (3/176-177).
(2) صحيح البخاري، كتاب التفسير: باب في قوله تعالى: (لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام) (3/176-177).(1/155)
وقد فصلنا القول في ذلك عند الكلام عن مناداته صلى الله عليه وسلم في الفصل السابق الذي عقدنا للأدب القولي وإن كانت متصلة بالآداب المتعلقة ببيت النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد بسبب نزولها إلا أننا تحدثنا هناك حسب ما يقتضي التقسيم المنهجي لأنها تتعلق بالآداب القولية وهنا الآداب العملية.
وعلى هذا فنكتفي بالإشارة إلى موضعها وإن كانت الآداب كلها مترابطة سواء كانت قلبية أو قولية أو عملية إلا أننا قسمناها إلى ذلك للتوضيح والدراسة.
وقبل أن أنتقل إلى الفقرة الأخيرة من الآية والتي تتعلق بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لا بد من الإشارة إلى فقرة تتوسط بين الفقرة الأولى المتعلقة في حياته صلى الله عليه وسلم والفقرة الأخيرة التي تتعلق بعد وفاته وهي الفقرة التي تشير إلى وجوب سؤال أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجاب أخذاً من قوله تعالى: ((وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ)) [الأحزاب:53] لأن سؤالهن قد تكون في حياته صلى الله عليه وسلم وقد تكون بعد وفاته وإنَّ سؤالهن بعد وفاته أولى وخاصة فيما يتعلق بأمور الدين لأنّ جزءاً كبيرا من الأحكام الشرعية قد وصلنا عن طريقهن.
وهذا الحكم وإن كان يعم النسوة كلهن لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب إلا أن تخصيص الآية بنسائه صلى الله عليه وسلم له مزيته بحيث يتأكد هذا الحكم في جانبهن لارتباطهن بشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم خير خلق الله الذي يتأذى بذلك الفعل كما يدل عليه قوله تعالى بعد هذه الجزئية: ((وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ)) [الأحزاب:53].(1/156)
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه المزية لنساء النبي صلى الله عليه وسلم في آية أخرى وهي قوله تعالى: ((يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً)) [الأحزاب:32].
ونأتي إلى الفقرة الأخيرة من آية الحجاب: بينما الفقرة الأولى من هذه الآية تتعلق ببيت النبي ونسائه وقت حياته صلى الله عليه وسلم هذه الفقرة الأخيرة أيضاً تتعلق ببيت النبي ونسائه ولكن بعد وفاته صلى الله عليه وسلم بحيث تنهي المؤمنين نهياً قاطعاً عن الزواج بإحدى زوجاته بعده على التأبيد كما يدل عليه قوله تعالى: ((وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً)) [الأحزاب:53].
وكيف يتزوج أحد من المسلمين إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن وصفهن الله تعالى بأمهات المؤمنين بقوله تعالى: ((النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ)) [الأحزاب:6].
يقول الدكتور حسن باجودة في تأملاته: "وبما أن حديث الآية الكريمة في الجزئية السابقة قد صرّح بأنه لا يصح للمؤمنين أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيّاً فإنّ الجزئية الكريمة التالية تصرّح بأنه لا يصح أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ميتاً عن طريق زواج إحدى زوجاته. فقد خص ربّ العزة المصطفى صلى الله عليه وسلم في حياته الزوجية بالعديد من الخصائص التي من بينها هذه الخصيصة وهي، أنّه لا يحل لأحد أن يتزوج إحدى زوجاته لأنهن أمهات المؤمنين كما صرحت بذلك هذه السورة. وكيف يتزوج المرء أمه. لأن منزلة الأمومة لهن -رضوان الله عليهن- أجمعين بالنسبة لرجال الأمة مستمرة إلى أن يلحقن كلهن بالرفيق الأعلى"(1).
__________
(1) تأملات في سورة الأحزاب (ص:460-461) مع التصرف.(1/157)
وقد عد المفسرون هذه الآية من الآيات التي تتحدث عن تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم حياً وميتاً.
يقول الزمخشري في تفسير هذه الآية: " وسمي نكاحهن بعده عظيماً عنده وهو من أعلام تعظيم الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم- وإيجاب حرمته حيّاً وميتاً، وإعلامه بذلك مما طيب نفسه وسر قلبه واستغزر شكره فإن نحو هذا مما يحدث الرجل به نفسه ولا يخلى منه فكره ومن الناس من تفرط غيرته على حرمته حتى يتمنى لها الموت لئلا تنكح من بعده "(1).
وهذه الآداب التي ذكرناها في هذه الزاوية المتعلقة ببيت النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت وردت في حقه صلى الله عليه وسلم وقت حياته -يلتزم المسلمون فيما بينهم أثناء حياته صلى الله عليه وسلم وبعد مماته لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب إلا ما خص به صلى الله عليه وسلم من عدم الاقتران بإحدى زوجاته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم مع أن هذا الحكم لا يمكن تطبيقه بعد لحوقهن بالرفيق الأعلى، وأما وقت حياتهن فكان ملتزماً به من قبل الموجودين وقتئذ.
__________
(1) تفسير الكشاف: (3/272).(1/158)
الزاوية الثانية: في حالة وجوده في الأماكن العامة: كانت الزاوية السابقة تتعلق بحالة وجوده صلى الله عليه وسلم مع نسائه في بيته وما ينبغي المسلم أن يتجنب عنه من إيذائه صلى الله عليه وسلم من دخول بيته بغير إذن أو عدم الانصراف بعد انتهاء الغرض الذي من أجله أذن له والأمور الأخرى التي فصلناها فأما في هذه الزاوية، فسوف نتحدث عن الأمور التي ينبغي للمسلم أن يرعى تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حالة وجوده في الأماكن العامة وفي ملأ من الناس. وهذه الحالة العامة تتطلب عدم الخروج من مجلسه إلا بإذن بل البقاء معه إلا لضرورة قصوى وخاصة إذا كان هناك أمر مهم يتطلب المشاورة والاستعانة بأهل الرأي مثل أوقات الحرب والشدة على عكس ما كان مطلوباً في حالة وجوده مع نسائه في بيته صلى الله عليه وسلم لأنه يقال لكل مقام مقال ولكل مقال مقام، وهنا اختلفت المقالتان لاختلاف المقامين.
وقد ذكر الله -سبحانه وتعالى- مراعاة مقام النبوة في حالة وجوده في ملأ من الناس في القرآن الكريم وشهد لمن يلتزم مراعاة ذلك الجانب الإيمان بالله ورسوله في أسلوب حصر كأنهم هم المؤمنون وحدهم كما يشير إليه قوله تعالى: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [النور:62](1/159)
ويتبين من نص الآية الكريمة الآداب التي ينبغي أن يراعى بها في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاستئذان إذا نوى أحد أن يخرج منه وإن كان ذلك خلاف الأولى لتذييل الآية بطلب الاستغفار من الرسول لمن يستأذن مع تفويض للرسول صلى الله عليه وسلم قبول الاستئذان وعدمه لمن يشاء تقديراً للموقف والملابسات المحيطة به.
يقول الشهيد سيد قطب -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: " ومع هذا يشير إلى مغالبة الضرورة وعدم الانصراف هو الأولى وأن الاستئذان والذهاب فيها تقصير أو قصور يقتضي استغفار النبي صلى الله عليه وسلم للمعتذرين: ((وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [النور:62]. وبذلك يقيد ضمير المؤمن فلا يَستأذن وله مندوحة لقهر العذر الذي يدفع به الاستئذان "(1).
ويدخل تحت هذا المفهوم أي الاستئذان من الرسول صلى الله عليه وسلم بالخروج من مجلسه وقت خطبته صلى الله عليه وسلم وإن كان هناك خلاف حول معنى الأمر الجامع في الآية الكريمة، هل هو في الحرب خاصة أم يعم جميع الاجتماعات الأخرى كالجمعة والعيدين؟ وقد ذهب الإمام ابن العربي إلى القول بأنّ الأمر الجامع مخصوص في الحرب مؤيداً ما ذهب إليه بأدلة نوردها هنا:
يقول ابن العربي -رحمه الله-: "وقد روى أشهب ويحيى بن بكير وعبد الله بن عبد الحكم عن مالك أنّ هذه الآية إنّما كانت في حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وكذلك قال محمد بن إسحاق.
والذي بيّن ذلك أنّ الآية مخصوص في الحرب أمران صحيحان:
أما أحدهما: فهو قوله تعالى في الآية الأخرى:
((قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً)) [النور:63] وذلك أن المنافقين كانوا يتلوذون ويخرجون عن الجماعة ويتركون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر الله جميعهم بألاّ يخرج أحد حتى يأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم وبذلك يتبين إيمانه.
__________
(1) في ظلال القران: (4/2534).(1/160)
وأما الثاني: فهو قوله تعالى: ((لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ)) [النور:62]. فأي إذن في الحدث والإمام يخطب. وليس للإمام خيار في منعه ولا إيقافه وقد قال: ((فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ)) [النور:62].
فيبين ذلك أنه مخصوص في الحرب التي يؤثر فيها التفرق "(1).
وهناك فريق آخر من العلماء الذين ذهبوا إلى أنّ الأمر الجامع يعم جميع الاجتماعات من حرب وصلاة جمعة وصلاة العيدين وغيرها من الأمور الأخرى التي تقتضي اجتماع المسلمين مع قائدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن هؤلاء الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى- حيث يقول في تفسير هذه الآية: "وهذا أيضاً أدب أرشد الله عباده المؤمنين إليه، فكما أمرهم بالاستئذان عند الدخول كذلك أمرهم بالاستئذان عند الانصراف لا سيما إذا كانوا في أمر جامع مع الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- من صلاة جمعة أو عيد أو جماعة أو اجتماع في مشورة ونحو ذلك أمرهم الله أن لا يتفرقوا عنه والحالة هذه إلاّ بعد استئذانه ومشاورته، وأنّ من يفعل ذلك فإنّه من المؤمنين الكاملين "(2).
ويقول الإمام القرطبي -رحمه الله- بعد إيراده قول الإمام ابن العربي: " القول بالعموم أولى وأرفع وأحسن وأعلى "(3).
وممّا يرجح القول الثاني وهو أنّ الأمر الجامع يعم كل الاجتماعات قوله تعالى: ((وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)) [الجمعة:11].
__________
(1) أحكام القرآن: (3/1398).
(2) تفسير ابن كثير: (3/306).
(3) تفسير القرطبي: (12/321).(1/161)
يظهر من سياق هذه الآية أن بعض الصحابة أو جلهم خرجوا من عند رسول الله وهو قائم يخطب لأمور دنيوية بحتة وهي التجارة بحيث آثروا التجارة القادمة إلى المدينة على استماع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا نبههم الله -سبحانه وتعالى- على أن البقاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لهم بخلاف ما صدر عنهم الذي لا يليق لمقام النبوة.
يقول الشهيد سيد قطب -رحمه الله تعالى-: " وتشير إلى حادث معين حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبهم في المسجد للجمعة حين حضرت قافلة من قوافلهم التجارية، فما أعلن نبأ قدومها حتى انفض المستمعون منصرفين إلى التجارة واللهو الذي كانت القافلة تحاط به على عادة الجاهلية، من ضرب بالدفوف وحداء وهيصة وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً فيما عدا اثني عشر من الراسخين فيهم أبو بكر وعمر بقوا يستمعون كما تذكر الروايات(1).
والرواية التي تحدد العدد هي ما أخرجه البخاري -رحمه الله عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال(2): أقبلت عير يوم الجمعة ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم فثار الناس إلاّ اثني عشر رجلاً فأنزل الله: ((وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا)) [الجمعة:11].
وخلاصة القول أنّ الآيتين اللتين ذكرناهما في هذه الزاوية ترشدان المسلمين إلى الآداب التي تجب على المسلم أن يتحلى بها في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء قلنا أنّ الأمر الجامع خاص بالحرب أو أنّه يعم كل الاجتماعات، أو أنّ الآية الأولى تتعلق بالحرب بينما الآية الثانية تتعلق بالخطبة وما يجري مجراها.
وهذه الآداب محلها في حال حياته صلى الله عليه وسلم وأمّا بعد مماته فتنتقل إلى ما بعده من الخلفاء الراشدين ومن في حكمهم.
__________
(1) في ظلال القرآن: (6/3563).
(2) صحيح البخاري، كتاب التفسير، تفسير سورة الجمعة (3/202).(1/162)
يقول القرطبي -رحمه الله-: " وظاهر الآية يقضي أن يستأذن أمير الأمرة الذي هو في مقعد النبوة، فإنّه ربما كان له رأي في حبس ذلك الرجل لأمر من أمور الدين)(1).
الباب الثالث
البدع الملحقة بالأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم
غالى بعض الناس في حبّهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعوّدوا القيام ببعض الأعمال التي لم يرد بها دليل شرعي، كما استغل بعض المنافقين حب المسلمين لرسولهم وأدخلوا عليهم ما لا يجوز ولا يصح اعتماداً على دليل واه، أو تأويل غير صحيح.
ومن هنا ظهرت بدع في مجال التأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب أن تعرف لتترك ويتخلص منها المؤمنون الصادقون.
وقد اتبعت في دراسة هذا الموضوع عرض الآراء الواردة في كل مسألة مع ذكر أدلتها ومناقشتها جلاء للحق وبياناً للصواب.
وقد قسّمتها إلى بدع ألحقت بمولده صلى الله عليه وسلم، وأخرى ألحقت بزيارة مسجده صلى الله عليه وسلم، وثالثة بزيارة قبره الشريف صلى الله عليه وسلم، وتناولت هذه البدع بالدراسة بعد تعريف مفصل للبدعة لغة واصطلاحاً.
ولذا جاء هذا الباب مشتملاً على أربعة فصول هي:
الفصل الأول: تعريف البدعة لغة واصطلاحاً.
الفصل الثاني: البدع الملحقة بمولده صلى الله عليه وسلم.
الفصل الثالث: البدع الملحقة بمسجده صلى الله عليه وسلم.
الفصل الرابع: البدع الملحقة بزيارة قبره الشريف صلى الله عليه وسلم.
وذلك فيما يلي بنفس الترتيب.
الفصل الأول
تعريف البدعة لغة واصطلاحاً
أولاً: تعريف البدعة لغة:
__________
(1) تفسير القرطبي: (13/320).(1/163)
يقول صاحب معجم مقاييس اللغة(1): "الباء والدال والعين أصلان أحدهما ابتداء الشيء وصنعه لا عن مثال، والآخر الانقطاع والكلال. فالأول قولهم: أبدعت الشيء قولاً أو فعلاً إذا ابتدائه لا عن مثال والله بديع السموات والأرض (2) والعرب تقول: ابتدع فلان الركيّ إذا استنبطه وفلان بدع في هذا الأمر. قال الله تعالى: ((قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنْ الرُّسُلِ)) [الأحقاف:9] أي ما كنت أول "(3).
ويقول صاحب مصباح المنير(4): "أبدعت الشيء وأبدعته: استخرجته وأحدثته ومنه قيل للحالة
المخالفة بدعة وهي اسم من الابتداع كالرفعة من الارتفاع ثم غلب استعمالها فيما هو نقص في الدين أو زيادة... وفلان بدع في الأمر أي هو أول من فعله. فيكون اسم فاعل بمعنى مبتدع والبديع فعيل من هذا فكأن معناه هو منفرد بذلك من بين نظائره، وفيه معنى التعجب، ومنه قوله تعالى: ((قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنْ الرُّسُلِ)) [الأحقاف:9] أي ما كنت أول من جاء بالوحي من عند الله تعالى وتشريع الشرائع بل أرسل الله تعالى الرسل قبلي مبشرين ومنذرين فأنا على هداهم..(5).
ويقول ابن منظور: " بدع الشيء يبدعه بدعاً، وابتدعه: أنشأه وبدأه ويبدع الشيء الذي يكون أولاً وفي التنزيل: ((قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنْ الرُّسُلِ)) [الأحقاف:9] أي ما كنت أول من أرسل قد أرسل قبلي رسل كثير..
__________
(1) تقدمت ترجمته في (ص:25).
(2) إشارة إلى قوله تعالى: (بديع السموات والأرض) سورة البقرة، آية (117) وسورة الأنعام، آية (101).
(3) معجم مقاييس اللغة (1/209) مادة (بديع).
(4) هو أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي المتوفي سنة (770هـ) انظر ترجمته في بغية الوعاة (1/389).
(5) مصباح المنير: 1/44 مادة (بدع).(1/164)
وأبدعت الشيء: أخترعته لا على مثال والبديع من أسماء الله تعالى لإبداعه الأشياء وإحداثه إيّاها وهو البديع الأول قبل كل شيء ومنه قوله تعالى: ((بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) [البقرة:117] أي خالقها ومبدعها فهو -سبحانه- المخترع لها لا عن مثال سابق "(1).
ونستنتج من هذه التعريفات اللغوية السابقة لكلمة البدعة ومشتقاتها أمرين اثنين:
أ) أنّ معناها يدور حول الاختراع والإحداث والابتداء والإنشاء وكلها معان متقاربة كما ترى.
ب) أنّ البدعة اللغوية تشمل المحدث المذموم والحسن لأن الأمر المخترع قد يترتب عليه مصلحة فيكون حسناً، وقد يترتب عليه مفسدة فيكون مذموماً.
ثانياً: تعريف البدعة في اصطلاح أهل الشرع:
اختلفت أنظار العلماء في تحديد معنى البدعة. فمنهم من حددها بـ "ما أحدث في الدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم من أطلقها على ما أحدث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين وفي غيره من العادات.
ويمثل الفريق الأول ابن رجب الحنبلي (2) والشاطبي (3) والحافظ ابن حجر العسقلاني وغيرهم. بينما يمثل الفريق الآخر العز بن عبد السلام (4) والنووي وغيرهما.
وسوف أفصل تعريف كل فريق لنصل إلى التعريف المختار.
تعريف البدعة عند الفريق الأول: يقول ابن رجب الحنبلي في تعريف البدعة: "والمراد بالبدعة: "ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، أمّا ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعاً وإن كان بدعة لغة"(5).
__________
(1) لسان العرب: 8/6 مادة (بدع).
(2) هو عبد الرحمن بن أحمد بن رجب السلامي البغدادي ثم الدمشقي.
(3) هو إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي أبو إسحاق الشهير بالشاطبي المتوفي سنة (790هـ) انظر ترجمته في الإعلام (4/144).
(4) هو عز الدين بن عبد السلام بن أبي القاسم شيخ الإسلام المتوفي سنة (660هـ) بمصر. انظر ترجمته في الإعلام (4/144).
(5) جامع العلوم والحكم (ص:160).(1/165)
وعرّف الشاطبي البدعة بتعريفين: الأول: هو أن البدعة عبارة عن طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه(1).
والثاني: هو أنّ البدعة طريقة في الدين تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالشرعية "(2).
ويقول الحافظ ابن حجر في تعريف البدعة: " ما أحدث وليس له أصل في الشرع يسمى في عرف الشرع بدعة. وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة "(3).
يظهر لنا مما تقدم أن تعريفات هذا الفريق تقيد البدعة بأمور ثلاثة:
أ) الإحداث في الدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ب) أن يقصد بها التقرب إلى الله.
ج) أن لا يدل عليها دليل شرعي.
وعلى هذا تكون البدعة اللغوية أعم لاشتمالها على ما أحدث في الدين وفي غيره بينما البدعة الشرعية لا تشمل إلا ما أحدث في الدين على وجه التقرب إلى الله مع عدم وجود الدليل الشرعي. ومن ثم فلا تكون البدعة في نظر هذا الفريق إلا مذمومة شرعاً بخلاف البدعة اللغوية ولا تدخل في العادات التي ليس لها شائبة التعبد.
يقول الشاطبي: " ثبت في الأصول الشرعية أنّه لا بد في كل عادي من شائبة التعبد، لأنّ ما لم يعقل معناه على التفصيل من المأمور به أو المنهي عنه فهو المراد بالتعبدي، وما عقل معناه وعرفت مصلحته أو مفسدته فهو المراد بالعادي، فالطهارات والصلوات والصيام والحج كلها تعبدي، والبيع والنكاح والشراء والطلاق والإجارات والجنايات كلها عادي، لأن أحكامها معقولة المعنى ولا بد فيها من التعبد، إذ هي مقيدة بأمور شرعية لا خيرة للمكلف فيها..
وإذا كان كذلك فقد ظهر اشتراك القسمين في معنى التعبد، فإن جاء الابتداع في الأمور العادية من ذلك الوجه صح دخوله في العاديات كالعبادات وإلاّ فلا(4).
__________
(1) الاعتصام: (1/37).
(2) الاعتصام: (1/37).
(3) فتح الباري: (3/253).
(4) الاعتصام: (2/790-800).(1/166)
ويقول ابن حجر العسقلاني: "فالبدعة في عرف الشرع مذمومة بخلاف اللغة، فإن كل شيء أحدث على غير مثال يسمى بدعة سواء كان محموداً أو مذموماً وكذا القول في المحدثة، والأمر المحدث "(1).
تعريف البدعة عند الفريق الثاني: يقول العز بن عبد السلام: "البدعة: هي فعل ما لم يعهد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وهي منقسمة إلى بدعة واجبة، وبدعة محرمة، وبدعة مندوبة، وبدعة مكروهة، وبدعة مباحة. والطريقة في معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة، فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، وإن دخلت في قواعد التحريم فهي محرمة، وإن دخلت في قواعد المندوب فهي مندوبة، وإن دخلت في قواعد المباحات فهي مباحة (2) ثم ضرب أمثلة لكل نوع منها وهي على النحو التالي:
والبدعة الواجبة مثل الاشتغال بالنحو، والبدعة المحرمة مثل الاشتغال بمذهب القدرية والجبرية، والبدعة المندوبة مثل جمع الناس في صلاة التراويح، والبدعة المكروهة مثل زخرفة المساجد، والبدعة المباحة مثل المصافحة عقب الصبح والعصر(3).
ويقول النووي -رحمه الله تعالى-: "والبدعة بكسر الباء في الشرع هي إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي منقسمة إلى حسنة وقبيحة "(4).
وهذا الفريق يقيّد تعريف البدعة بقيد واحد وهو إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا فإن البدعة عندهم ليست مذمومة كلها، بل منها ما هو واجب يلزم فعله، ومنها ما هو حرام يلزم تركه، وما هو وسط بين هذا وذاك. حيث إنها تخضع للأحكام الشرعية الخمسة من وجوب، وحرام، ومندوب، ومكروه، ومباح، ومندوب.
__________
(1) فتح الباري: (13/253).
(2) قواعد الأحكام في مصالح الأنام: (2/204).
(3) انظر المصدر السابق (2/204-205).
(4) تهذيب الأسماء واللغات (2/22).(1/167)
وعلى هذا فإنّ البدعة عندهم تساوي البدعة اللغوية لأنها تشمل الحدث المذموم والحسن بخلاف الفريق الأول الذي يرى انحصارها في الحدث المذموم ومن ثم فإن النسبة بين الفريقين عموم وخصوص مطلق.
أدلة الفريقين: يستدل كلا الفريقين بأدلة تؤيد ما ذهب إليه ونذكر هنا طرفاً من أدلة كلا الفريقين مع بيان وجهة الاستدلال لكل منهما.
أولاً: أدلة الفريق الأول: هذا الفريق يستدل بالنصوص التي يفيد منطوقها ذم البدعة على وجه العموم.
1- من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " فإنّ خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة "(1).
أنّ قوله صلى الله عليه وسلم: " كل بدعة ضلالة " عام يفيد أن البدعة مذمومة كلها بغير استثناء نوع منها ولم يرد ما يخصص ذلك العموم، ولذلك فليس هناك بدعة حسنة بل كلها مذمومة شرعاً.
2- ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " (2) أي: مردود.
ووجه الاستدلال بهذا الحديث هو: أنّ الإحداث في الدين أمر مردود مهما كان ذلك الإحداث صغيراً أو كبيراً لأنّ الإحداث في الدين بدعة، ومن ثم فلا يوجد بدعة حسنة.
3- ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة لولاة الأمر وإن عبد حبشي فإنّه من يعش منكم ير اختلافاً كثيراً، وإياكم ومحدثات الأمور فإنّها ضلالة فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ "(3).
__________
(1) صحيح مسلم كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة (2/592).
(2) صحيح مسلم كتاب الأقضية، باب رد الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور (3/1342).
(3) أخرجه الترمذي في كتاب العلم، باب الأخذ بالسنة واجتناب البدعة (4/150)، وقال هذا حديث حسن صحيح.(1/168)
ووجه الاستلالال بهذا الحديث هو أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد حذر من المحدثات ووصفها بأنّها بدعة كما وصف البدعة بأنّها ضلالة على وجه العموم، وهذا يقتضي أنّه ليس هناك بدعة حسنة وأخرى قبيحة بل كلها قبيحة.
ثانياً: أدلة الفريق الثاني: يستدل هذا الفريق بأدلة نوجزها فيما يلي:
1- قول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في صلاة التراويح بعد ما جمعهم على أبي بن كعب -رضي الله عنه-: "نعمت البدعة"(1).
ووجه الاستدلال بهذا القول هو أن عمر -رضي الله عنه- قد سمى صلاة التراويح بدعة مع إقراره بل بأمره ذلك.
وهذا يدل على أنه يقصد بها البدعة الحسنة لا القبيحة ومن ثمّ فإن البدعة تنقسم إلى حسنة وقبيحة.
2- قوله صلى الله عليه وسلم: "من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فيعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سنّ في الإسلام سنّة سيئة وعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء "(2).
ووجه الاستدلال بهذا الحديث هو أنه إذا أحدث أحد شيئاً حسناً يثاب عليه وأنّه غير مذموم وكذلك العكس وبالتالي هناك اختراع حسن وأخرى غير حسن ومن ثم البدعة تنقسم إلى حسنة وقبيحة.
__________
(1) والحديث كما أخرجه البخاري بسنده عن عبد الرحمن قال: "خرجت مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ليلة في رمضان إلى المسحد فإذا الناس أوزاع متفرقون. يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي صلاته الرجل، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قاريء واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم فقال عمر نعمت البدعة هذه ". صحيح البخاري (1/342)، كتاب التراويح، باب فضل من قام رمضان.
(2) صحيح مسلم كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة (4/2059).(1/169)
3- قول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن وما رأوا سيئاً فهو عند الله سئ"(1).
ووجه الاستدلال بهذا الأثر هو أنّه ما فعل المسلمون واستحسنوه لا يكون مذموماً بشرط أن لا يخالف الكتاب أو السنة أو الإجماع. وعلى هذا فلا يعتبر البدعة كلها قبيحة بل منها ما هو حسن.
وخلاصة القول: أنّ طريقة الفريق الأول مبنية على ثلاثة أمور:
1- البدعة حقيقة فيما لم يفعل في الصدر الأول ولم يكن له أصل من أصول الشرع ومجاز في غير ذلك.
2- أنّ جميع ما ورد في ذم البدع من نحو قوله صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة" (2) باق على عمومه.
3- القول بأنّ البدع لا تدخل إلاّ في العاديات التي لا بد فيها من التعبد.
وأمّا طريقة الفريق الثاني فهي مبنية على أمور ثلاثة أيضاً:
1- أنّ البدعة حقيقة فيما لم يفعل في الصدر الأول كان له أصل من أصول الشرع أم لا.
2- أنّ جميع ما ورد في البدع من نحو قوله صلى الله عليه وسلم: "إن كل بدعة ضلالة" (3) عام مخصوص.
3- القول بأن جميع المخترعات من العاديات ولو لم يلحقها شائبة تعبد تلحق بالبدع وتصير كالعبادات المخترعة)(4).
مناقشة الأدلة والترجيح: نبدأ بمناقشة أدلة الفريق الثاني ثم نتبعها بأدلة الفريق الأول: أولاً: استدلالهم بقول عمر -رضي الله عنه-: "نعمت البدعة "، ليس بدليل لهم لعدة أمور:
__________
(1) رواه الإمام أحمد في مسنده (1/379).
(2) صحيح مسلم -كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة- (3/592).
(3) صحيح مسلم -كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة- (3/592).
(4) انظر تهذيب الفروق (4/229).(1/170)
1- أن صلاة التراويح جماعة ليست بدعة شرعية بل صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته جماعة عدة ليالي ثم بعد ذلك تركها مخافة أن تفرض عليهم ثم لا يطيقوها. ومما يدل على ذلك ما أخرجه الإمام البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- أنّها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من جوف الليل فصلى في المسجد فصلى رجال بصلاته فأصبح الناس يتحدثون بذلك فاجتمع أكثر منهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليلة الثانية فصلوا بصلاته فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفق رجال منهم يقولون: الصلاة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خرج لصلاة الصبح فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد، ثم قال: " أما بعد فإنّه لم يخف عليّ مكانكم ولكنّي خشيت أن تفترض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها " (1) وفي رواية وذلك في رمضان.
وما دام الرسول صلى الله عليه وسلم ترك صلاة التراويح جماعة مخافة أن تفرض عليهم وقد زال ذلك الخوف بموته صلى الله عليه وسلم فلا مانع أن يرجع الأمر كله إلى ما كان عليه وهو أن يصلى بها جماعة.
2- أنّ صلاة التراويح جماعة تدخل في ضمن سنة الخلفاء الراشدين، وبالتالي فهي سنة سنّها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لقوله صلى الله عليه وسلم "... وإياكم ومحدثات الأمور، فإنها ضلالة فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين... "(2).
3- إن عمر -رضي الله عنه- أمر ذلك بمرأى ومسمع من الصحابة -رضوان الله عليهم- ولم ينقل من عارض ذلك.
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان (1/343).
(2) رواه الترمذي في سنة، في كتاب العلم، باب الأخذ بالسنة واجتناب البدعة (4/150).(1/171)
وعلى هذا فلا يكون قول عمر -رضي الله عنه- دليلاً لهذا الفريق ولكن يبقى لماذا سمى عمر هذا الفعل بدعة؟ وقد أوّل العلماء هذا القول بعدة تأويلات وأحسنها هو أن يقصد بها البدعة اللغوية لاشتمالها البدعة السيئة والبدعة الحسنة.
يقول ابن تيمية -رحمه الله- في هذا المقام: " ما سمي بدعة وثبت حسنه بأدلة الشرع فأحد الأمرين فيه لازم إمّا أن يقال ليس ببدعة في الدين وإن كان يسمى بدعة في اللغة كما قال عمر: نعمت البدعة، وإما أن يقال هذا عام خصت منه هذه الصورة لمعارض راجح كما يبقى عداها على مقتضى العموم كسائر عمومات الكتاب والسنة"(1).
ويقول أيضاً: " أكثر ما في هذا تسمية عمر تلك بدعة -أي صلاة التراويح جماعة- مع حسنها، وهذه تسمية لغوية لا تسمية شرعية، وذلك أنّ البدعة في اللغة تعم كل ما فعل ابتداء من غير مثال سابق، وأمّا البدعة الشرعية فكل ما لم يدل عليه دليل شرعي "(2).
ثانياً: استدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها.... ".
__________
(1) مجموع الفتاوي (10/371).
(2) اقتضاء الصراط المستقيم (ص:376).(1/172)
ليس بدليل لهم لأن معناه هو من أحيا سنة من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فله ثوابها وثواب من اتبعه بها كما يدل عليه سبب حديث جرير بن عبدالله حيث قال: " جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصرف (1) فرأى سوء حالهم قد أصابتهم حاجة فحث الناس على الصدقة فأبطأوا عنه حتى رؤي ذلك في وجهه قال: ثم إنّ رجلاً من الأنصار جاء بصرة من ورق ثم جاء آخر ثم تتابعوا حتى عرف السرور في وجهه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سنّ في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء "(2).
وهذا يدل على أن الغرض من ذلك إحياء ما ثبت في الإسلام، وهنا الصدقة وليس ابتداع شيء لا أصل له في الشريعة الإسلامية.
وهناك حديث آخر يفسر هذا الحديث مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحيا سنّة من سنن قد أميتت بعدي كان له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، ومن
ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسوله كان عليه آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئاً "(3).
__________
(1) صحيح مسلم - كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة (4/2059).
(2) الصرف بالكسر الخالص من كل شيء. انظر النهاية (3/24).
(3) أخرجه الترمذي في سننه كتاب العلم، باب الأخذ بالسنة واجتناب البدعة (4/50ا-151) وقال: هذا حديث حسن.(1/173)
ثالثاً: وأمّا قول ابن مسعود -رضي الله عنه-: " فما رآى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن " (1) فهو أثر موقوف على ابن مسعود وليس بحجة، وأما على فرض حجته فليس المراد جنس المسلمين الصادق بالمجتهد وغيره لاقتضائه أن كل ما رآه آحاد المسلمين حسناً فهو حسن، وكذلك العكس، كما أنه يقتضي كون العمل الواحد حسناً عند البعض الآخر لا يصح التقرب به إلى الله - تعالى- قبيحاً عند البعض الآخر لا يصح التقرب به إليه، وهو باطل(2).
وعلى هذا يحمل معنى هذا الأثر على ما اجتمعت عليه الأمة لعصمتها من الإجماع على ضلال، والإجماع حجة لاستناده إلى دليل شرعي، وعلى هذا فلا يوجد دليل واحد يدل إلى ما ذهبوا إليه وأنّ الأمثلة التي ذكروها للبدعة الحسنة والقبيحة تدخل تحت ما يناسبها من القواعد الشرعية.
وأما أدلة الفريق الأول: فهي مقبولة ومسلمة من ناحية ثبوتها ومن ناحية الاستدلال معاً، وبالتالي فلا تحتاج إلى مناقشة.
وعلى هذا نرجّح ما ذهب إليه الفريق الأول وهو أن البدعة لا تكون إلاّ مذمومة لعموم النصوص التي وردت في ذم البدعة شرعاً ولعدم وجود ما يخصص ذلك، وبالتالي ليست مقسمة إلى حسنة وقبيحة.
يقول الإمام الشاطبي -رحمه الله- مؤيداً ذلك: "إنّه قد ثبت في الأصول العلمية أنّ كل قاعدة كلية أو دليل شرعي كلي إذا تكررت في مواضع كثيرة وأتى بها شواهد على معان أصولية أو فروعية، ولم يقترن بها تقييد ولا تخصيص مع تكرارها، وإعادة تقررها فذلك دليل على بقائها على مقتضى لفظها من العموم كقوله تعالى: ((أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى)) [النجم:38-39] وما أشبه ذلك...
__________
(1) رواه الإمام أحمد في مسنده (1/379).
(2) الإبداع في مضار الابتداع للشيخ علي محفوظ (ص:128).(1/174)
فما نحن بصدده من هذا القبيل. إذ جاء في الأحاديث المتعددة والمتكررة في أوقات شتى وبحسب الأحوال المختلفة أنّ كل بدعة ضلالة وأنّ كل محدثة بدعة وما كان نحو ذلك من العبارات الدالة على أنّ البدع مذمومة ولم يأت في آية ولا حديث تقييد ولا تخصيص ولا ما يفهم خلاف ظاهر الكلية فيها، فدل ذلك دلالة واضحة على أنّها على عمومها وإجمالها "(1) وأمّا البدع المنقسمة إلى حسنة وقبيحة فهي البدعة اللغوية المتعلقة بالاختراعات وبأمور المعاش ووسائله ومقاصده (2)، فما كان ضاراً فنترك، وما كان نافعاً فنفعل ونستعمل.
وكل هذه أمور تدخل تحت ما فرضّه لنا الشارع بقوله صلى الله عليه وسلم: "أنتم أعلم بأمور دنياكم... "(3).
هذا ما يتعلق بالبدعة الحقيقة وأما البدعة الإضافية فهي -كما ذكر الشاطبي -رحمه الله- التي لها شائبتان: إحداهما لها من الأدلة متعلق فلا تكون من تلك الجهة بدعة، والأخرى ليس لها متعلق إلا مثل ما للبدعة الحقيقية. فلما كان العمل الذي له شائبتان لم يتخلص لأحد الطرفين وضعنا له هذه التسمية "البدعة الإضافية" أي أنها بالنسبة إلى إحدى الجهتين سنة لأنها مستندة إلى دليل، وبالنسبة إلى الجهة الأخرى بدعة لأنها مستندة إلى شبهة لا إلى دليل أو غير مستندة إلى دليل.
والفرق بينهما من جهة المعنى، أن الدليل عليها من جهة الأصل قائم، ومن جهة الكيفيات أو الأحوال أو التفاصيل لم يقم عليها مع أنها محتاجة إليه لأن الغالب وقوعها في التعبديات لا في العاديات المحضة(4).
__________
(1) الاعتصام (1/141-142).
(2) انظر إصلاح المساجد من البدع والعوائد، لجمال الدين القاسمي (ص:16).
(3) صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سبيل الرأي (4/1836).
(4) انظر: الاعتصام للشاطبي (1/286-287).(1/175)
ومثال ذلك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عقب الأذان جهراً مع أن الشارع طلب منا ذلك سراً بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلّوا عليّ، فإن من صلّى عليّ مرة صلى الله عليه بها عشراً..."(1).
والبدعة تدخل من جهة الكيفية لا من جهة أصل مشروعية ذلك، ومن ثم تأخذ حكم البدعة الحقيقية بحسب قربها لها أو بعدها منها.
يقول الشاطبي -رحمه الله-: "فقلما تختص -أي البدعة الحقيقية- بحكم دون الإضافية بل هما معاً يشتركان في أكثر الأحكام إلا أن الإضافية على ضربين: أحدهما: يقرب من الحقيقة حتى تكاد البدعة تعد حقيقية.
والآخر: يبعد منها حتى يكاد يعد سنة محضة(2).
الفصل الثاني
البدع الملحقة بمولده صلى الله عليه وسلم
يقصد بالمولد تلك الاحتفالات التي تقام في اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول من كل عام، وهو اليوم الذي ولد فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم على أرجح الأقوال.
ولذا كان الاحتفال المذكور، أحياء لذكراه -عليه الصلاة والسلام وإظهاراً للفرح بمولد نبي الثقلين كما يقول المحتفلون.
وفي ذلك اليوم يقرأ المحتفلون أوراداً كثيرة ويتذاكرون سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أنّهم يقومون بجانب ذلك بأعمال كثيرة مثل الذبح وإعداد الطعام للمجتمعين وللتوزيع على الفقراء حتى أصبح ذلك اليوم يوم أكل وشرب مثل يومي العيد -الفطر والأضحى- أو أكثر.
وقد يتوسع بعضهم في ذلك الاحتفال حتى أنه يقام من بداية شهر ربيع الأول ويستمر إلى اليوم الثاني عشر أو إلى نهاية الشهر أو يقام في كل يوم الاثنين أو يوم الجمعة من كل أسبوع.
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسأل الله له الوسيلة (1/288).
(2) انظر الاعتصام (1/287).(1/176)
يقول الشيخ علي محفوظ: "الموالد هي الاجتماعات التي تقام لتكريم الماضين من الأنبياء والأولياء والأصل فيها أن يتحرى الوقت الذي ولد فيه من يقصد بعمل المولد وقد يتوسع فيها حتى تتكرر في العام الواحد"(1).
ونتحدث في هذا الفصل عن ذلك اليوم وما يفعل فيه من الأعمال مع عرض كافة الآراء بأدلتها ومناقشتها بموضوعية وحياد كاملين ليظهر الحق بدليله ويزهق الباطل بمزاعمه وأوهامه وليعيش الناس مع الإسلام عن بينة ووضوح.
وسوف يتكون هذا الفصل من مبحثين:
المبحث الأول: تحديد وقت الاحتفال بالمولد ونشأته.
المبحث الثاني: حكم الاحتفال بالمولد.
المبحث الأول: تحديد وقت الاحتفال بالمولد ونشأته:
تحديد وقت الاحتفال بالمولد مرتبط بتحديد الوقت الذي ولد فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم لأنّ ذلك الاحتفال يقصد به إحياء ذكرى مولده - صلى الله عليه وسلم- كما قلنا آنفاً.
ومعنى ذلك أنّ ذلك الاحتفال يخضع للاختلاف الوارد في تحديد وقت ولادته صلى الله عليه وسلم ولكن الذي لا جدال فيه أنّه ولد في يوم الإثنين للحديث الصحيح الذي ورد في هذا الشأن وأمّا ما عدا ذلك فمختلف فيه.
أخرج الإمام مسلم بسنده عن أبي قتادة الأنصاري -رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم الإثنين فقال: "فيه ولدت وفيه أنزل عليّ"(2).
وقد ذكر ابن كثير -رحمه الله الخلاف الوارد في ذلك في كتابه السيرة النبوية قائلاً:
"أنّ ذلك كان في شهر ربيع الأول، فقيل لليلتين خلتا منه.. وقيل لثمان خلون فيه. وقيل لعشر خلون منه.. وقيل لاثنتي عشر خلت منه.."(3).
__________
(1) الإبداع في مضار الإبتداع: (ص:250-251).
(2) صحيح مسلم، كتاب الصيام، باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر وصوم يوم عرفة، وعاشوراء والاثنين والخميس (2/820).
(3) السيرة النبوية (6/199).(1/177)
ولأجل هذا الخلاف كان الملك المظفر صاحب إربل (1) يحتفل بالمولد الشريف مرة في ثامن شهر ربيع الأول ومرة في الثاني عشر منه (2) ولكن المشهور هو أنّه ولد في يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول وهو الراجح.
يقول ابن كثير بعد نقله هذا القول: "وهذا هو المشهور عند الجمهور والله أعلم"(3).
وأمّا ما ذكر من أنّه ولد في رمضان أو في يوم الجمعة وفي غيرهما فغير صحيح كما ذكر الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى-.
وأمّا نشأة الاحتفال بالمولد الشريف فمختلف فيه أيضاً بين العلماء، فمنهم من يقول إنّ الاحتفال بدأ في القاهرة أيام الدولة الفاطمية، ومنهم من يقول إنّ ذلك قد أحدثه الملك مظفر صاحب إربل بإربل في آخر القرن السادس أو أوائل القرن السابع.
الأقوال التي تؤيد القول الأول: يقول المقريزي: " كان للخلفاء الفاطميين في طول السنة أعياد ومواسم وهي: موسم رأس السنة، وموسم أول العام، ويوم عاشوراء، ومولد النبي صلى الله عليه وسلم ومولد علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ومولد الحسن ومولد الحسين -رضي الله عنه- ومولد فاطمة الزهراء -رضي الله عنها- ومولد الخليفة الحاضر"(4).
ويقول القلقشندي عند كلامه عن جلسات الخلفاء الفاطميين: "الجلوس الثالث جلوسه في مولد النبي صلى الله عليه وسلم في الثاني عشر من شهر ربيع الأول وكان عادتهم فيه أن يعمل في دار الفطرة عشرون قنطاراً من السكر الفائق حلوى من طرائف الأصناف وتعبأ ثلاثمائة صينية نحاس فإذا كان ليلة ذلك المولد تفرق في أرباب الرسوم كقاضي القضاة وداعي الدعاة وقراءة الحضرة... "(5).
__________
(1) هو الملك المظفر أبو سعيد كوكبوري ين زين الدين بن تبكتكين المتوفى سنة (630هـ). له ترجمة في البداية والنهاية (13/136).
(2) انظر وفيات الأعيان لابن خلكان (1/437).
(3) السيرة النبوية (1/199-200).
(4) المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار (1/490)، مع التصرف.
(5) صبح الأعشي في صناعة الإنشاء (13/498).(1/178)
ويفهم من كلام المقريزي وكلام القلقشندي أنّ الفاطميين كانوا يعملون الاحتفال بالمولد النبوي وغير ذلك من الموالد وإن لم يصرحا بأنّهم أول من أحدث ذلك ولكن صرح في ذلك حسن السندوبي في كتابه تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي قائلاً: "لقد دلني البحث والتنقيب والتحري والاستقصاء على أن الفاطميين هم أول من ابتدع فكرة الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف وجعلوه من الأعياد العامة في كل أمة من الأمم الإسلامية كما ابتدعوا غيره من الاحتفالات الدورية التي عدّت من مواسمها، وكذلك صرفوا الكثير من اهتمامهم إلى إحياء ما يكون معروفاً من المواسم والأعياد قبل الإسلام"(1).
وممن ذهب إلى القول الثاني السيوطي حيث يقول: "أول من أحدث فعل ذلك -الاحتفال بالمولد- صاحب إربل الملك المظفر أبو سعيد كوكبوري بن زين الدين بن علي بن بكتكين أحد ملوك الأمجاد والكبراء الأجواد وكان له آثار حسنة"(2).
وتبعه في ذلك محمد رشيد رضا صاحب المنار حيث يقول: "إن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف قد صار عادة عامة، والمشهور أنّ المحدث لها هو أبو سعيد كوكبوري بن أبي الحسن علي بن بكتكين التركماني الجنس الملقب بالملك العظيم مظفر الدين صاحب إربل أحدثها في أوائل القرن السابع أو أواخر القرن السادس فإن السلطان صلاح الدين ولاّه على إربل في ذي الحجة سنة 580 هـ "(3).
وهذان القولان هما المشهوران في الموضوع الذي نحن بصدده ولم أقف على أقوال أخر تتعلق بهذا الموضوع.
__________
(1) تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي (ص:62) وما بعدها.
(2) الحاوي للفتاوي: (1/189).
(3) ذكرى المولد النبوي (ص:أ).(1/179)
وقد ذهب بعض العلماء إلى التوفيق بين الرأيين: يقول الشيخ علي محفوظ: "أول من أحدثها بالقاهرة الخلفاء الفاطميون في القرن الرابع فابتدعوا ستة موالد: المولد النبوي، ومولد الإمام علي -رضي الله عنه- ومولد فاطمة الزهراء -رضي الله عنها- ومولد الحسن والحسين -رضي الله عنهما- ومولد الخليفة الحاضر. وبقيت الموالد على رسومها إلى أن أبطلها الأفضل أمير الجيوش ثم أعيدت في خلافة الآمر بأحكام الله في سنة أربع وعشرين وخسمائة بعدما كاد الناس ينسونها، وأول من أحدث المولد النبوي بمدينة إربل الملك المظفر أبو سعيد في القرن السابع، وقد استمر العمل بالمولد إلى يومنا هذا وتوسع الناس فيها وابتدعوا بكل ما تهواه أنفسهم وتوحيه شياطين الإنس والجن"(1).
وذهب إلى ذلك أيضاً الدكتور عزت عطية حيث يقول: "وأول من أحدثه بالقاهرة المعز لدين الله الفاطمي سنة 362هـ ودام الاحتفال به إلى أن أبطله أمير الجيوش بدر الدين الجمالي سنة 488هـ في عهد المستعلي بالله، ولمّا ولي الخلافة الآمر بأحكام الله ابن المستعلي أعاد الاحتفال في سنة 495هـ وأول من أحدث هذا الاحتفال بإربل الملك المظفر أبو سعيد في القرن السادس أو السابع(2). ويفهم من كلامهما أنّ الابتداء نسبي بحيث أن الفاطميين هم أول من أحدث ذلك الاحتفال بالنسبة لمدينة القاهرة، وأما بالنسبة لإربل فصاحب إربل الملك المظفر هو أول من أحدث فيها ولكن أرجح الأقوال هو الأول الذي يقول بأنّ الفاطميين هم الذين أحدثوا ذلك ولم يسبقهم أحد في ذلك بل انتشرت من عندهم إلى البلاد الإسلامية.
__________
(1) الإبداع في مضار الابتداع (ص:251).
(2) البدعة تحديدها وموقف الإسلام منها (ص:481).(1/180)
والذي يؤيد ذلك أنّ الدولة الفاطمية قد سقطت قبل وجود الملك المظفر صاحب إربل وبالتحديد سنة 567 هـ (1) وكذلك صاحب إربل نفسه لم يبتدع ذلك الاحتفال بالمولد بل اقتدى بالشيخ عمر الملا(2).
يقول أبو شامة: "وكان أول من فعل ذلك -أي الاحتفال بالمولد- الشيخ عمر بن محمد الملا أحد الصالحين المشهورين وبه اقتدى في ذلك صاحب إربل وغيره -رحمهم الله تعالى-(3).
وخلاصة القول أنّ الاحتفال بالمولد النبوي لم يكن معروفاً في القرون الثلاثة الأولى التي شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهلها بالخيرية بقوله: "خير الناس قرني في ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم..."(4).
وإنّما بدأ ذلك في النصف الأخير من القرن الرابع الهجري على يد أحد ملوك الفاطميين وهو المعز لدين الله.
والغرض من ابتداع الاحتفال بالمولد النبوي هو جذب قلوب العامة إلى الدولة الفاطمية الجديدة في مصر كما جزم غير واحد.
__________
(1) انظر كتاب ظهور خلافة الفاطميين وسقوطها في مصر الدكتور/عبد المنعم ماجد (ص:487).
(2) هو الشيخ عمر بن محمد الملا -له ترجمة في مرآة الزمان لسبط ابن الجوزي (8/310).
(3) الباعث على إنكار البدع والحوادث (ص:16).
(4) صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (4/1963).(1/181)
يقول السندوني: " ولمّا استقر له الحكم -أي المعز لدين الله- أخذ يفكر في الوسائل الكفيلة باستمالة القلوب، وامتلاك النفوس، واستثارة العواطف حتى تألف الأمة المصرية تصرفات هذه الحكومة الجديدة وترضى عن سياستها في إدارة البلاد، ولمّا كانت الميول العامة لطبقات الأمة المصرية متجهة إلى حب آل بيت الرسول مع الاعتدال في التشيع لهم... رأى المعز لدين الله أنّ أقرب الأسباب للوصول إلى أغراضه من هذا الميل العام الالتجاء إلى الأمور التي تمت بصلة إلى المظهر الديني، فهداه تفكيره إلى أن يقرر إقامة مواسم حافلة وأعياد شاملة في مواعيد مقررة وكان من أولها وأجلّها وأفضلها الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف"(1).
وبجانب هذه المناسبات والأعياد الدينية فقد كان الخلفاء الفاطميون يشتركون في الاحتفالات التي تقام للأعياد الأخرى مثل عيد الميلاد عند الأقباط في مصر وغيرها من الأعياد والمواسم للغرض نفسه حتى ينالوا رضاء أهل الملل المختلفة القاطنين في مصر.
يقول د. حسن إبراهيم حسن وصاحبه في كتابهما "المعز لدين الله": "وكان الفاطميون يتخذون هذه الأعياد وسيلة لجذب الرعايا إليهم، لذلك شارك المعز القبط في الاحتفال بعيد الميلاد وغيرها"(2).
ومن هنا نقول إنّ إحداث الاحتفال بالمولد النبوي من قبل الخلفاء الفاطميين كان لغرض سياسي بحت دون النظر إلى دوافع دينية أو اعتبارات أخرى بل الغرض الوحيد هو كسب احترام رعايا المسلمين في مصر كما كانوا يعملون مع رعايا غير المسلمين هناك بحيث يشتركون معهم في احتفالاتهم التي ليست لها صلة بالدين.
__________
(1) تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي (ص:63).
(2) المعز لدين الله (ص:285) وما بعدها.(1/182)
وهذه سمة عامة الخلفاء الفاطميين منذ أن نشأت دولتهم في مصر عام 357هـ إلى أن سقطت في سنة 5670هـ وإن كان فيهم من أبطل الاحتفال بالمولد النبوي وغيره من الموالد فترة مثل الأفضل أمير الجيوش في سنة 488هـ ولكن أعيد الاحتفال في عهد الآمر بأحكام الله في سنة 495 هـ وبعد ذلك استمر إلى يومنا هذا. وقد أصبح ذلك اليوم في بعض البلاد عيداً رسمياً حيث تعطل المصالح الحكومية والشركات والمؤسسات وتقفل المدارس وتقام حفلات هائلة وتعمل إنارة الطرقات وتزيينها.
والأغرب من ذلك كله أن بعض الحكومات التي تدور في فلك المعسكر الشيوعي الملحد الذي لا يعترف بوجود الله تجعل ذلك اليوم عيداً رسمياً مثل الأعياد الوطنية في عصرنا الحاضر لكسب تأييد رعايا المسلمين فقط دون النظر إلى دوافع دينية -لأنّ الدين عندهم أفيون الشعب- بناء على مبدئهم القائل: الغاية تبرر الوسيلة.
وعلى هذا فغرضهم يتفق مع غرض الدولة الفاطمية في مصر التي أحدثت ذلك الاحتفال وإن اختلفت الأزمنة وبعدت الأمكنة.
المبحث الثاني: حكم الاحتفال بالمولد النبوي:
ذكرنا في المبحث السابق أن الاحتفال بالمولد النبوي في أقدم الأقوال قد بدأ في النصف الأخير من القرن الرابع الهجري.
ومعنى ذلك أنّ الاحتفال بالمولد النبوي لم يكن معروفاً في القرون الفاضلة الثلاثة المشهود لأهلها بالخيرية.
ومع هذا فقد جوز بعض العلماء الاحتفال بالمولد النبوي، بل ذهبوا إلى استحسان الشرع له مستدلين بأدلة نوردها قريباً ولكن هناك فريقاً آخر من العلماء ذهبوا إلى عدم جوازه ورأوا أنّه بدعة محدثة يرفضها الشرع ويأباها، ولهم على ذلك أدلة أخرى.
ومحل التراع بين الفريقين هو إذا كان ذلك الاحتفال خاليًا ممّا يصحبه عادة من المنكرات كاختلاط الرجال بالنساء وغيرها من الأمور المنهية عنها شرعاً وأما إذا صحبته شيء من ذلك فهم مجمعون على عدم جوازه لتلك العلة عند الفريق الأول.(1/183)
وأمّا عند الفريق الثاني، فالعلة عندهم هي إحداثه وبدعيته حتى وإن خلا من المنهيات المصاحبة عادة. وبالتالي فمن باب أولى أن يقولوا بعدم جوازه إذا صاحبته الأمور المنهية عنها شرعاً.
ونذكر هنا آراء كل من الفريقين مع الأدلة التي يستدلون بها ووجهة استدلالهم بها.
أولاً: الفريق الأول: هذا الفريق هو الذي ذهب إلى جواز الاحتفال بالمولد النبوي بل إلى استحسانه بشرط خلوه من المنكرات مثل الطرب والرقص واختلاط الرجال والنساء.
ومن علماء هذا الفريق ابن ناصر الدين الدمشقي (1) وابن الجزري (2) وابن حجر العسقلاني والسيوطي وغيرهم.
وقد استدل كل منهم بما رأى من دليل ومن أهمها:
1- رأي ابن ناصر الدين: يقول ابن ناصر الدين الدمشقي في كتابه، مورد الصادي في مولد الهادي: "ثويبة أول من أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم بعد أمه وهي مولاة أبي لهب عمه أعتقها سروراً بميلاد خير الثقلين فلهذا صح أنّه يخفف عنه عذاب النار في مثل يوم الاثنين- ثم أنشد:
إذا كان هذا كافراً جاء ذمه ... ... وتبت يداه في الجحيم مخلدا
أتى أنه في يوم الاثنين دائماً ... ... يخفف عنه للسرور بأحمدا
فما الظن بالعبد الذي كان عمره ... ... بأحمد مسروراً ومات موحدا(3)
__________
(1) هو محمد بن أبي بكر بن عبد الله القيسي الدمشقي شمس الدين الشهير بابن ناصر الدين الدمشقي المتوفى سنة (842هـ) انظر ترجمته في لحظ الألحاظ لتقي الدين محمد بن فهد المكي (ص:317).
(2) هو محمد بن محمد بن علي أبو الخير شمس الدين الدمشقي الشهير بابن الجزري المتوفى سنة (833هـ) انظر ترجمته في مفتاح السعادة لأحمد المصطفى طامش كبري زادة (2/55).
(3) مورد الصادي في مولد الهادي، ورقة (14).(1/184)
3- رأي ابن الجزري: يقول ابن الجزري في هذا المقام: (وقد روي أنّ أبا لهب بعد موته رؤي في النوم فقيل له: ما حالك؟ فقال: في النار إلاّ أنّه يخفف عنّي كل ليلة اثنين وأمص من بين أصبعي ماء بقدر هذا، وأشار إلى ثغرة إبهامه وأنّ ذلك بإعتاقي ثويبة عندما بشرتني بولادة محمد صلى الله عليه وسلم وبإرضاعها له، ثم قال: إذا كان أبو لهب الكافر الذي نزل القرآن بذمه جوزي في النار بفرحه ليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم فما بال المسلم الموحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يسر بمولده ويبذل ما تتصل إليه قدرته في محبته صلى الله عليه وسلم لعمري إنّما جزاؤه من الله الكريم يدخله بفضله جنات النعيم)(1).
ويلاحظ أن ابن ناصر الدين وابن الجرزي استدلا بدليل واحد هو ما روي أن أبا لهب رؤي في النوم بعد موته وذكر بعد سؤال حاله أنّه يخفف عنهْ العذاب في كل يوم الإثنين لإعتاقه ثويبة بعد ما بشرته بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم سروراً بذلك ومن ثم يجعلون ذلك دليلاً على مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي لأنّ الكافر وهو أبو لهب يثاب على سروره بمولد المصطفى صلى الله عليه وسلم حيث يخفف عنه العذاب في كل يوم الإثنين، فمن باب أولى أن يثاب المسلم إذا احتفل بالمولد النبوي والثواب لا يكون إلاّ على عمل مشروع فدل ذلك أن الاحتفال بالمولد النبوي عمل مشروع في اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول. من كل عام.
__________
(1) عرف التعريف بالمولد الشريف، ورقة (143).(1/185)
3- رأي ابن حجر العسقلاني: يقول ابن حجر العسقلاني: (أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، ولكنها مع ذلك اشتملت على محاسن وضدها، فمن تحرى في عملها المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة وإلا فلا، قال: وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت وهو ثابت في الصحيحين من أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم فقالوا: هذا يوم أغرق الله فرعون ونجّى موسى فنحن نصومه شكراً لله تعالى، فيستفاد منه فعل الشكر لله على ما منّ به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير اليوم من كل سنة والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم وعلى هذا فينبغي أن يتحرى اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى في يوم عاشوراء، ومن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم من الشهر بل توسع قوم فنقلوه إلى أي يوم من السنة وفيه ما فيه، فهذا ما يتعلق بأصل عمله)(1).
ووجه استدلال الحافظ بهذا الحديث أنّ النعمة تقابل بالشكر، فكما نقابل يوم نجاة موسى عليه السلام بالصوم فلا مانع من أن نقابل يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم بلون من ألوان العبادة كالصيام والصدقة والتلاوة وهكذا.
__________
(1) الحاوي للفتاوي للسيوطي (1/196).(1/186)
رأي السيوطي: ينقل السيوطي رأي ابن حجر مع دليله ثم يقول: (وقد ظهر لي تخريجه على أصل آخر وهو ما أخرجه البيهقي عن أنس -رضي الله عنه- "أنّ النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة " (1) مع أنّه قد ورد أن جدّه عبد المطلب عق عنه في سابع ولادته والعقيقة لا تعاد مرة ثانية فيحمل ذلك على أن الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم إظهار للشكر على إيجاد الله إياه رحمة للعالمين، وتشريع لأمته كما كان يصلي على نفسه. لذلك فيستحب لنا أيضاً إظهاراً للشكر بمولده بالاجتماع وإطعام الطعام. ونحو ذلك من وجوه القربات وإظهار المسراتا)(2).
وتوجيه هذا الدليل يقوم على أن الشكر على النعمة يجوز تكراره، فكما كرر النبي صلى الله عليه وسلم العقيقة عن نفسه يجوز أن يكرر المسلمون الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم شكراً لله على مولد رسولهم الكريم.
ونضيف إلى هذا دليلاً آخر استدل به بعضهم وهو ما أخرجه الإمام مسلم عن أبي قتادة الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الإثنين فقال: "فيه ولدت وفيه أنزل عليّ" (3) ووجه الاستدلال بهذا الحديث هو ما دام أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد خصّص عبادة في هذا اليوم شكراً لله على نعمة إيجاده صلى الله عليه وسلم فكذلك يجوز لنا أن نحتفل في هذا اليوم إظهاراً للسرور بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم وشكراً لله على هذه النعمة لأنّه كما قابل الرسول صلى الله عليه وسلم هذه النعمة بالصوم فلا مانع أن نقابل هذه النعمة بألوان من العبادة كالصدقة والتلاوة وغيرها.
__________
(1) السنن الكبري: (9/300).
(2) الحاوي الفتاوي: (1/196).
(3) صحيح مسلم، كتاب الصيام، باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر وصوم يوم عرفة وعاشوراء والاثنين والخميس (2/820).(1/187)
والآراء المذكورة تمثل رأي فريق واسع، إلاّ أنّي اكتفيت بما ذكرت لأنّه يصور واقع هذا الفريق قديماً وحديثاً -وكلهم يعتمدون على هذه الأدلة أو بعضها.
ومجمل الآراء يقوم على أن الاحتفال بالمولد النبوي في اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول من كل عام عمل مشروع.
وقبل أن نتكلم عن أدلة هذا الفريق من ناحية صحتها أو ضعفها، ومقدار قربها أو بعدها عما سيقت له نذكر رأي الفريق الثاني والأدلة التي يستدل بها من جانبه.
ثانياً: الفريق الثاني: ذهب هذا الفريق إلى عدم جواز الاحتفال بالمولد النبوي سواء صاحبته المنكرات أم لا.
وجمهور العلماء على هذا الرأي ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية وابن الحاج (1) والفاكهاني (2)، ومن أهم آرائهم ما يلي:
1- رأي شيخ الإسلام ابن تيمية: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا المقام: (ما يحدثه بعض الناس من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيداً إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيماً بدعة لأنّ هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضى له، وعدم المانع منه، ولو كان هذا خيراً محضاً، أو راجحاً، لكان السلف - رضي الله عنهم -أحق به منّا فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم له منا وهم على الخير أحرص وإنما كمال متابعته وطاعته، واتباع أمره، وإحياء سنته باطناً وظاهراً، ونشر ما بعث به، والجهاد على ذلك، بالقلب واليد واللسان، فإن هذه طريق السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان)(3).
__________
(1) هو محمد بن عبد الله بن محمد المبدري المعروف بابن الحاج المتوفي سنة (641هـ) انظر ترجمته في الأعلام للزركلى (7/110).
(2) هو عمر بن أبي اليمن بن سالم اللخمي المالكي الشهير بتاج الدين الفاكهاني المتوفي سنة (734هـ). انظر ترجمته في الديباج المذهب لابن فرحون (2/80-82).
(3) اقتضاء الصراط المستقيم: ص (254-295).(1/188)
وملخص هذا الرأي أنّ الاحتفال بالمولد أمر غير مشروع ومن ثم فهو بدعة لأنّ السلف الصالح لم يحتفلوا به مع قيام المقتضى له وعدم المانع منه حيث كانت الفطرة سليمة، والحرص على التدين أصيل، ولا يسعنا إلا ما وسعهم، وعلينا أن نتبع لا أن نبتدع. ولله در القائل: لن يصلح هذه الأمة الاّ ما صلح به أولها.
2- رأي ابن الحاج: يقول ابن الحاج بعد أن تكلم عن المفاسد المصاحبة للاحتفال بالمولد كالطرب وغيرها: (وهذه المفاسد مركبة على فعل المولد إذا عمل بالسماع فإن خلا منه وعمل طعاماً فقط ونوى به المولد ودعا إليه الإخوان وسلم من كل ما تقدم ذكره فهو بدعة بنفس نيته فقط، إذ أنّ ذلك زيادة في الدين وليس من عمل السلف الماضيين، واتباع السلف أولى بل أوجب من أن يزيد من مخالفة ما كانوا عليه، لأنهم أشد الناس اتباعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيماً له ولسنته صلى الله عليه وسلم ولهم قدم السبق في المبادرة إلى ذلك ولم ينقل عن أحد منهم أنّه نوى المولد، ونحن لهم تبع فيسعنا ما وسعهم)(1).
وهذا الرأي يقوم على ما قام به رأي ابن تيمية تماماً وهو بدعية الاحتفال بالمولد لأنّ السلف لم يحتفلوا به ولا يسعنا إلاّ ما وسعهم.
__________
(1) المدخل (2/10).(1/189)
3- رأي الفاكهاني: يقول الفاكهاني -رحمه الله-: (لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب ولا سنة ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة الذين هم القدوة في الدين المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بدعة أحدثها البطالون وشهوة نفس اعتنى بها الأكّالون بدليل أنا إذا أدرنا عليه الأحكام الخمسة قلنا إمّا أن يكون واجباً أو مندوباً أو مباحاً أو مكروهاً أو محرماً، وليس بواجب إجماعاً ولا مندوباً لأن حقيقة المندوب ما طلبه الشرع من غير ذم على تركه، وهذا لم يأذن به الشرع ولا يفعله الصحابة والتابعون ولا العلماء المتدينون فيما علمت، وهذا جوابي عنه بين يدي الله تعالى إن عنه سئلت، ولا جائزاً أن يكون مباحاً، لأن الابتداع في الدين ليس مباحاً بإجماع المسلمين، فلم يبق إلاّ أن يكون مكروهاً أو محرماً)(1).
وملخص هذا الرأي يقوم على أنّ الاحتفال بالمولد قد أحدثه البطالون والأكالون ومن ثم فهو بدعة لعدم ورود ما يدل على مشروعيته من كتاب ولا سنة صحيحة. ولهذا لا يكون واجباً ولا مندوباً ولا مباحاً وإنما يكون حكمه إمّا مكروهاً أو حراماً.
هذه مجمل ما قيل في هذا الموضوع وهو الاحتفال بالمولد النبوي، وكما نرى أنّ كل فريق من الفريقين يستدل بأدلة تؤيد رأيه.
وقبل أن نصل إلى حكم الاحتفال بالمولد، لا بد من مناقشة الأدلة والنظر فيها لنرى مدى صحتها أو ضعفها ومدى قربها أو بعدها لما استدل بها له.
مناقشة الأدلة: ونبدأ بأدلة الفريق الأول:
1- استدلالهم بأن أبا لهب قد رؤي في النوم وإخباره بأنّه يخفف عنه العذاب في كل يوم الإثنين جزاء إعتاقه ثويبة عند ما بشرته بميلاد المصطفى صلى الله عليه وسلم وسروره بذلك.
قبل أن نرفض الاستدلال بمثل هذا النص الوارد عن رؤيا منامية نذكر سند الحديث ومتنه لأنّه خير ما يساعدنا في الرفض.
__________
(1) الحاوي للفتاوي: (1/190-191).(1/190)
قال البخاري -رحمه الله تعالى-: (حدثنا الحكم بن نافع أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال أخبرني عروة بن الزبير قال: "وثوبية مولاة لأبي لهب كان أبو لهب أعتقها فأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشر حيبة(1).
قال: ماذا لقيت؟ قال أبو لهب: لم ألق بعدكم غير أنّي سقيت في هذه بعتاقي ثويبة"(2).
وهذا الحديث لم يسلم عن مقال لا من ناحية السند ولا من ناحية المتن والاستشهاد به مردود لعدة أسباب: أ) إمّا من ناحية السند فهو حديث مرسل أرسله عروة كما هو واضح.
ب) وإمّا من ناحية المتن فهو مخالف لما دلّ عليه القرآن حيث يقول الله تعالى:
((وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً)) [الفرقان:23].
وقد ذكر علماء التفسير في معنى الآية أنّ الكافر إذا فعل عمل خير لا يثاب عليه لفقده الإيمان الذي هو أساس قبول الأعمال كلها ومن ثم عمله يكون كالهباء المنثور. (3)ولذلك بانت معارضة الحديث للآية.
وأخيراً فإنّ مثل هذا النص مع فرض صحته ومع تصوّر عدم معارضته للقرآن الكريم لا يفيد حكماً شرعياً لأنّه تصوير لرؤيا منامية رآها كافر وهو العباس بن عبد المطلب الذي لم يسلم بعد وقت الرؤيا، ورؤيا الناس عموماً -ما عدا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام- لا تفيد حكماً شرعياً، ومن باب أولى إذا كانت رؤية الكفار.
__________
(1) أي بشر حال، والحيبة والحوبة: الهم والحزن، والحيبة أيضاً الحاجة والمسكنة، النياية في غريب الحديث (1/466).
(2) صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب (وأمهاتهم اللاتي أرضعنكم) يحرم من الرضاعة ما حرم من النسب (3/243).
(3) انظر تفسير القرطيى: (13/21-22).(1/191)
وأمّا ما ثبت (1) في حق أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم من تخفيف العذاب عنه في النار مع كفره وبقائه في الشرك حتى فارق الحياة فمخصوص ولا يتعدى إلى غيره.
وهذا الحديث لا يصح للأمور التي ذكرناها، ومن ثم لا تقوم به الحجة.
وإذا كان كذلك فلننظر الأدلة الأخرى التي يستدلون بها:
استدلالهم بالحديث المتعلق بصيام يوم عاشوراء على جواز الاحتفال بالمولد قياساً على ذلك لعلة حصول النعمة فيهما فمردود لأن إظهار الشكر فيهما على طرفي نقيض، وذلك أن يوم عاشوراء يوم صوم، وأن الاحتفال بالمولد يوم أكل وشرب، ولو عمل في يوم المولد من جنس ما يعمل في يوم عاشوراء وهو الصيام لكان أقرب وإن كان هذا لا يخرجه عن البدعة لعدم مشروعيته في ذلك اليوم الموافق الثاني عشر من ربيع الأول، ولأنّ مثل هذه الأعمال التي يتقرب بها إلى الله لا تثبت بالقياس كما يقال: أنّ الأصل في العادات أن لا يشرع فيها إلا ما يشرعه الله وأن الأصل في العادات أن لا يحظر منها الاّ ما حظره الله.
ولهذا لا يمكن الاستدلال بهذا الحديث مع ثبوته لعدم مطابقته هذا المقام الذي نحن بصدده.
__________
(1) إشارة إلى الحديث الذي أخرجه الأمام مسلم عن العباس بن عبد المطلب أنه قال: يا رسول الله، هل نفعت أبا طالب بشيء، فإنه كات يحوطك ويغضب لك؟ قال: "نعم في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار". انظر صحيح مسلم كتاب الإيمان، باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب والتخفيف عنه بسببه (1/155).(1/192)
استدلالهم بالحديث الذي أخرجه البيهقي عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عق عن نفسه بعد النبوة فهو حديث لا يستدل به، وسند الحديث ونصّه هو الآتي: قال البيهقي -رحمه الله-: (أخبرنا أبو الحسن محمد بن الحسين بن داود العلوي -رحمه الله- أنبأنا حاجب بن أحمد بن سفيان الطوسي، ثنا محمد بن حماد الايبردي ثنا عبد الرزاق، أنبأنا عبد الله بن محرر، عن قتادة، عن أنس -رضي الله عنه-: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد عقّ عن نفسه بعد النبوة "(1). ففي إسناد هذا الحديث رجل قد جرحه غير واحد من النقاد وهو عبد الله بن محرر.
ونذكر هنا أقوال العلماء فيه: يقول البخاري: (عبد الله بن المحرر عن قتادة، متروك الحديث (2)، وهنا عن قتادة.
يقول النسائي: (عبد الله بن محرر يروي عن قتادة متروك الحديث)(3).
ويقول ابن أبي حاتم عن أبيه: (عبد الله بن محرر متروك)(4).
ويقول ابن حبان: (كان من خيار عباد الله، ممن يكذب ولا يعلم ويقلب الإسناد ولا يفهم)(5).
ويقول البيهقي عن عبد الرزاق (6) قال: (إنّما تركوا عبد الله بن محرر لأجل هذا الحديث(7).
من هذه الأقوال التي أوردتها يتبين لنا أنّ هذا الحديث لا يصح سنده لوجود راوٍ متروك في سنده ومن ثم لا يمكن الاستدلال به في هذا المقام.
هذا من ناحية السند، وأمّا من ناحية المتن فلا يمكن أن يستدل به أيضاً لما نحن بصدده وهو الاحتفال بالمولد وإنّما غاية ما يستدل به عليه مشروعية العقيقة بعد البلوغ أن فرضنا صحته، وهيهات أن يصح.
__________
(1) السنن الكبرى: (5/300).
(2) الضعفاء الصغير: (ص:67).
(3) الضعفاء والمتروكين: (ص:63).
(4) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم.
(5) المجروحين: (2/23).
(6) هو عبد الرزإق بن همام الصنعاني صاحب المصنف.
(7) السنن الكبري: (9/300).(1/193)
4- استدلالهم بصيامه صلى الله عليه وسلم في كل يوم الإثنين معللاً بأنّه اليوم الذي ولد فيه واليوم الذي أنزل عليه فمردود لأن صيامه صلى الله عليه وسلم لم يكن في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول من كل عام وإنما كان في يوم الإثنين من كل أسبوع وفي كل شهر من شهور السنة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فعلينا أن نشكر الله بمثل ما شكره به صلى الله عليه وسلم وهو الصيام مع مراعاة الوقت الذي شرع فيه لا أن نحتفل ونأكل ونشرب.
من هذه المناقشة يتبيّن لنا أنّ ما ذهب إليه هذا الفريق وهو جواز الاحتفال بالمولد النبوي واستحبابه غير صحيح، لاستدلالهم بأدلة بعضها واهٍ وبعضها غير مطابق لما استدل به عليه كما ذكرنا وإن كانت ثابتة.
وأمّا أدلة الفريق الثاني: فيدور استدلالهم على ضرورة الاتباع لما كان عليه السلف الصالح فهم خير من نقل دين الله إلينا كما أخذوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنّه لم ينقل أحد منهم جواز الاحتفال بالمولد النبوي ولا خطر في بالهم يوماً ما مع حبّهم واحترامهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بل نقل عنهم الاختلاف في وقت ولادته، وهذا يدل على أنّ السلف الصالح كانوا لا يرون تخصيص يوم ولادته بعبادة معينة أو إقامة احتفال.
وعلى هذا فإنّ الاحتفال بالمولد يدخل في ضمن البدع المنهي عنها في كثير من الأحاديث.
منها قوله صلى الله عليه وسلم: ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: " فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة"(1).
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"(2).
ومن هنا نقول إنّ رأي الفريق الثاني هو الراجح لأنّه مبني على الاتباع وترك الابتداع.
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة (2/552).
(2) صحيح مسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة. محدثات الأمور (3/1343).(1/194)
ولا يفهم من هذا أنّ ترك الاحتفال بالمولد النبوي جفوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإهمال لحبه كما يقول الجهال لأنّ الاتباع الدقيق هو الحب الحقيقي ويكون مستمراً طول الحياة في كل يوم وليلة ولا يختص بيوم من السنة دون غيره من الأيام كما يفعله المحتفلون المبتدعون. وبالإضافة إلى ذلك فإن الابتداع يعتبر زيادة في الدين خارجة عنه بعد أن أكمله الله تعالى بنزوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول الله تعالى: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً)) [المائدة:3] وبالتالي يقف المبتدع موقف المستدرك على الشارع سبحانه وتعالى وعلى صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم المبلغ عن الله -عز وجل-.
وهذا سوء الأدب بعينه مع الله ومع رسوله صلى الله عليه وسلم وإن لم يقصد بذلك وحسنت نيته لأنّ حسن النية لا يحلل حراماً ولا يحرم حلالاً كما أنها لا يكون مبرراً لزيادة في دين الله أو النقصان منه لأنّ المرجع في كل ما يتعلق بأمر الدين هو كتاب الإله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وعلى المسلم أن يراعي ذلك الجانب حتى لا يقع في منزلق لا يحمد عقباه وأن ينظر ما يتقرب به إلى الله قبل أن يقدم عليه فيعرف سنده من الكتاب والسنة عملاً بقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)) [الحجرات:1].
الفصل الثالث
البدع الملحقة بمسجده صلى الله عليه وسلم(1/195)
من المعلوم أنّ المسجد النبوي الشريف هو أول مسجد بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد وصوله إياها مهاجراً وله فضائل كثيرة يشترك فيها معه المسجد الحرام والمسجد الأقصى وأخرى خاصة به، ولكنّ الناس ابتدعوا أموراً يفعلونها في المسجد النبوي تقرباً إلى الله -تعالى- في ظنهم وتأدباً مع الرسول صلى الله عليه وسلم كما يزعمون بناء على أدلة واهية لا تثبت بمثلها الأحكام أو على استحسان منهم دون الرجوع إلى أدلة الشرع من الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
وكثير من هذه المبتدعات من وضع أعداء الإسلام الذين يقصدون تشويه الحق، وصرف المسلمين عن التدين الصادق الذي يجعل التوجه كله لله عبودية واستقامة. وبذلك يتوصلون إلى صرف الناس إلى الانغماس في اللهو والبدع بلا فائدة.
وبجانب فعلهم هذه المنكرات في المسجد النبوي الشريف فإن المبتدعين يرمون من ينهاهم عن هذه الأفعال بأنه لا يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك لقيامه بواجبه الذي كلف به من قبل الله -سبحانه وتعالى- وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح الذي هو لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأئمة المسلمين وعامتهم.
وهذا ما سوف نبينه في هذا الفصل الذي يتكون من مبحثين:
المبحث الأول: فضائل المسجد النبوي.
المبحث الثاني: ما يفعله الجهّال من البدع في مسجده صلى الله عليه وسلم.
وذلك فيما يلي:
المبحث الأول: فضائل المسجد النبوي:
للمسجد النبوي الشريف على صاحبه أفضل الصلاة والسلام فضائل كثيرة منها ما يشترك فيها مع المسجد الحرام بمكة والمسجد الأقصى، ومنها ما هو خاص به.(1/196)
أمّا الفضائل المشتركة: فمنها مشروعية شد الرحال إليه لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومسجد الأقصى"(1).
وهذه فضيلة مشتركة بين المساجد الثلاثة كما يفيد منطوق الحديث ولا تتعدى هذه الفضيلة إلى غير هذه الثلاثة المنصوصة في الحديث كما جزم بذلك العلماء.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية بعد ذكره هذا الحديث: " فالسفر إلى هذه المساجد الثلاثة للصلاة فيها والدعاء والذكر والقراءة والاعتكاف من الأعمال الصالحة، وما سوى هذه المساجد لا يشرع السفر إليه باتفاق أهل العلم حتى مسجد قباء يستحب قصده من المكان القريب كالمدينة ولا يشرع شد الرحال إليه"(2).
ومن تلك الفضائل مضاعفة ثواب الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلاّ المسجد ا لحرام"(3).
هذه الفضيلة ثابتة للمسجد النبوي الشريف بنص الحديث، لكنّ استشكل العلماء حول المراد من هذا الاستثناء، هل هو أن الصلاة في المسجد النبوي أفضل من الصلاة في المسجد الحرام بدون الألف أم أنّ الصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في المسجد النبوي الشريف.
وممن قال بالقول الأول: الإمام مالك وطائفة من العلماء: وأمّا الإمام الشافعي وجماهير العلماء، فقد ذهبوا إلى الثاني.
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة (1/206) واللفظ للبخاري. وصحيح مسلم، كتاب الحج، باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد (2/1014).
(2) اقتضاء الصراط المستقيم (430).
(3) صحيح البخاري في أبواب التطوع، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة (1/206) واللفظ للبخاري. وصحيح مسلم في كتاب الحج، باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة (2/1012).(1/197)
يقول الإمام النووي -رحمه الله تعالى- عند شرحه هذا الحديث: "اختلف العلماء في المراد بهذا الاستثناء على حسب اختلافهم في مكة والمدينة أيتهما أفضل، ومذهب الشافعي وجماهير العلماء أنّ مكة أفضل من المدينة وأنّ مسجد مكة أفضل من مسجد المدينة، وعكسه مالك وطائفة.
فعند الشافعي والجمهور معناه إلاّ المسجد الحرام فإنّ الصلاة فيه أفضل من الصلاة في مسجدي، وعند مالك وموافقيه إلا المسجد الحرام فإنّ الصلاة في مسجدي تفضله بدون الألف"(1).
وكلا التأويلين محتمل إذا لم نجد من الخارج ما يرجح أحدهما من الآخر كما أنّ هناك تأويلاً ثالثاً محتملاً وهو أنّ الصلاة فيهما سواء.
وقد ذكر ابن حزم الظاهري التأويل الثالث عند ذكره هذا الحديث حيث قال: "تأوّلوا أن الصلاة في مسجد المدينة أفضل من الصلاة في مسجد مكة بدون الألف، وقلنا نحن: بل هذا الاستثناء أنّ الصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجد المدينة، ثم قال: فكلا التأويلين محتمل نعم وتأويل ثالث وهو المسجد الحرام فإنّ الصلاة في كليهما سواء ولا يجوز المصير إلى أحد هذه التأويلات دون الآخر إلاّ بنص آخر وبطل أن يكون في هذا الخبر بيان فضل المدينة على مكة"(2).
ممّا سبق يتضح لنا أن التأويلات الثلاثة محتملة ولكن تأويل الجمهور هو الأصح لثبوت ما يرجح ذلك وهو الحديث الذي في مسند الإمام أحمد -رحمه الله- عن عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا"(3).
ومن العلماء من صحّح هذا الحديث ومنهم من حسّنه فمن الأولين ابن حزم الظاهري حيث قال: "حديث ابن الزبير صحيح فارتفع الإشكال"(4).
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي (9/163).
(2) المحلى (7/284).
(3) مسند أحمد (4/5).
(4) المحلى (7/290).(1/198)
ومن الفريق الثاني النووي حيث قال: "حديث حسن رواه أحمد بن حنبل فى مسنده"(1).
وسواء قلنا أنّ هذا الحديث الذي نحن بصدده صحيح أو حسن فلا يخرج من دائرة الاحتجاج به والغرض الذي من أجله أوردناه وهو ثبوت أفضلية مسجد مكة على مسجد المدينة وكذلك مضاعفة ثواب الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم وهو ما يهمنا في هذا المقام، وإن اشترك في ذلك المسجد الحرام وزاد عليه.
ومن تلك الفضائل كونه حرماً مثل المسجد الحرام لدخوله في حدود حرم المدينة المنورة التي حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "إنّ إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها لا يقطع عضاهها (2) ولا يصاد صيدها(3).
وبقوله صلى الله عليه وسلم: "المدينة حرم ما بين عير الى ثور... "(4).
هذان الحديثان يحددان لنا حدود حرم المدينة المنورة بحيث أنّ الحديث الأول يحدد الحرم من ناحية العرض وأنه يقع ما بين لابتي المدينة وهما الحرتان الوبرة والواقم أولاهما تقع في غرب المدينة وثانيهما تقع في شرق المدينة.
يقول الدكتور/محمد حسن هيكل: "تحد هذه الحرة وهي الواقم المدينة من الشرق وتحدها حرة الوبرة بن الغرب"(5).
وأما الحديث الثاني فيحد لنا حرم المدينة المنورة من جهة الطول بحيث يقع الحرم ما بين عير إلى ثور وهما أي عير وثور جبلان يقع أولاهما جنوب المدينة وثانيهما يقع في شمال المدينة.
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي (9/164).
(2) عضاة: كل شجر عظيم له شوك. انظر النهاية في غريب الحديث (3/255).
(3) صحيح مسلم في كتاب الحج، باب فضل المدينة (2/992).
(4) صحيح مسلم كتاب الحج، باب فضل المدينة (2/995).
(5) في منزل الوحي (ص:582).(1/199)
يقول عبد القدوس الأنصاري: "عير وثور اسما جبلين من جبال المدينة أولهما عظيم شامخ يقع بجنوبي المدينة على مسافة ساعتين عنها تقريباً بسير الأقدام غير المستعجل، وثانيهما أحمر صغير يقع شمال أحد، ويحدان حرم المدينة جنوباً وشمالا"(1).
وعلى هذا فيدخل جبل أحد في حدود حرم المدينة المنورة.
يقول صاحب (2) حسن التوسل في آداب زيارة أفضل الرسل عند تحديده حرم المدينة: "وحرمها من عير بفتح العين المهملة إلى ثور طولا، وثور جبل صغير خلف أحد وعرضا ما بين لابتيها، واللابتان الحرتان السود"(3).
وخلاصة القول أن حرم المدينة المنورة تحده من الشرق الواقم ومن الغرب الوبرة ومن الجنوب جبل يسمى عيراً ومن الشمال جبل يسمى ثور وهو غير ثور الذي بمكة على الأصح خلافاً لمن نفى ذلك عن المدينة كأبي عبيد القاسم بن سلام ومن تبعه في ذلك كالزمخشري حيث قال: "هما جبلان بالمدينة وقيل لا يعرف بالمدينة جبل يسمى ثوراً وإنما ثور بمكة ولعل الحديث ما بين عير إلى أحد"(4).
وهذا وهم منهم كما جزم غير واحد من العلماء.
يقول الفيروزآبادي: "ثور جبل بالمدينة ومنه الحديث الصحيح:
"المدينة حرم ما بين عير إلى ثور" (5)، وأمّا قول أبي عبيد القاسم بن سلام وغيره من أكابر الأعلام أنّ هذا تصحيف والصواب إلى أحد لأنّ ثوراً إنما هو بمكة فغير جيّد"(6).
__________
(1) آثار المدينة (209).
(2) تقدمت ترجمته في (ص:204).
(3) حسن التوسل في آداب زيارة أفضل الرسل (ص:223).
(4) الفائق (3/429).
(5) مسلم في كتاب الحج باب فضل المدينة (2/995).
(6) القاموس المحيط مادة ثور (1/398).(1/200)
هذا ما يتعلق بالفضائل المشتركة بين المسجد النبوي الشريف وبين المسجد الحرام أو المسجد الأقصى. وأمّا الفضيلة الهامة التي يختص بها المسجد النبوي فهي الروضة التي بين بيته ومنبره صلى الله عليه وسلم حيث وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها روضة من رياض الجنة في الحديث الذي أخرجه الشيخان عن عبد الله بن زيد المازني أنّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة"(1).
وفي رواية: "ما بين قبري ومنبري"(2).
والرواية الثانية: لا تصح وإنما هي رواية بالمعنى كما جزم ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية بعد ذكره هذا الحديث حيث قال: "هذا هو الثابت الصحيح ولكنّ بعضهم رووه بالمعنى فقال: "قبري" وهو صلى الله عليه وسلم حين قال هذا القول لم يكن قد قبر - صلى الله عليه وسلم-. ولهذا لم يحتج بهذا أحد من الصحابة حينما تنازعوا في موضع دفنه، ولو كان هذا عندهم لكان نصاً في محل النزاع ولكن دفن في حجرة عائشة في الموضع الذي مات فيه بأبي وأمي -صلوات الله وسلامه عليه"(3).
وعلى هذا لا نحتاج إلى تكلف في الجمع بين الروايتين كما فعل الطحاوي في مشكل الآثار بل وعده من علامات النبوة قائلاً: "في هذا الحديث معنى يجب أن يوقف عليه وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة"(4).
__________
(1) صحيح البخاري أبواب التطوع فضل ما بين القبر والمنبر ص (1/207).
(2) صحيح مسلم في كتاب الحج باب ما بين القبر والمنبر روضة من رياض الجنة (2/1010).
(3) القاعدة الجليلة في التوسل والوسيلة (ص:74).
(4) مشكل الآثار (4/72).(1/201)
على أكثر ما في هذه الآثار وعلى ما في سواه منها: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة" (1) فكان تصحيحها يجب به أن يكون بيته هو قبره وكون ذلك علامة من علامات النبوة جليلة المقدار لأنّ الله -عز وجل- قد أخفى على كل نفس سواه الأرض التي يموت بها لقوله عز وجل: ((وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ)) [لقمان:34] فأعلمه الموضع الذي يموت فيه والموضع الذي فيه قبره حتى علم بذلك في حياته وحتى أعلمه من أعلمه من أمته فهذه منزلة لا منزلة فوقها زادها الله شرفاً وخيراً"(2).
وخلاصة القول: أن هذه الفضيلة ثابتة لا يشترك فيها غيره من المساجد ولكنّ العلماء اختلفوا في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "روضة من رياض الجنة"(3).
هل هذه البقعة بعينها من الجنة أم أن العمل فيها يؤدي إلى دخول الجنة؟.
يقول القاضي عياض -رحمه الله تعالى-: "قوله: "روضة من رياض الجنة" (4) يحتمل معنيين:
أحدهما: أنه موجب لذلك وأنَّ الدعاء والصلاة فيه يستحق ذلك من الثواب.
الثاني: أنّ تلك البقعة قد ينقلها الله فتكون في الجنة بعينها"(5).
__________
(1) تقدم تخرمجه في الصفحة السابقة.
(2) مشكل الآثار: (4/72).
(3) جزء من الحديث المتفق عليه الذي تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
(4) جزء من الحديث المتفق عليه الذي تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
(5) الشفا (2/683).(1/202)
والمعنى الأول هو الأولى وهو المعنى الذي أيده ابن حزم وذكره الحافظ ابن حجر العسقلاني. يقول ابن حزم -رحمه الله-: "وهذا الحديث ليس على ما يظنه أهل الجهل من أنّ تلك الروضة قطعة منقطعة من الجنة، هذا كذب وباطل لأنّ الله يقول في الجنة: ((إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى)) [طه:118-119]. فهذه صفة الجنة بلا شك، وليست هذه صفة الروضة، ورسول الله لا يقول إلا الحق، فصح أن تكون تلك الروضة من الجنة إنما هو لفضلها وأن الصلاة فيها تؤدي إلى الجنة"(1).
ويقول الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "إنه كروضة من رياض الجنة في نزول الرحمة وحصول السعادة بما يحصل من ملازمة حلق الذكر، لا سيما في عهده صلى الله عليه وسلم فيكون تشبيهاً بغير أداة، أو المعنى أن العبادة فيه تؤدي إلى الجنة فيكون مجازاً"(2).
المبحث الثاني: ما يفعله الجهال من البدع في مسجده صلى الله عليه وسلم:
كثير من الناس يفعلون أموراً منكرة لا أساس لها من الدين عند زيارتهم المسجد النبوي الشريف وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ويحتجون على أعمالهم تلك بالاستحسان العقلي أو بأدلة واهية باطلة.
وفي هذا المبحث سنذكر -بمشيئة الله تعالى- أهم تلك البدع التي تقع في مسجده صلى الله عليه وسلم مبينين بدعيتها تذكيراً لهؤلاء الجهال ومن في حكمهم حتى لا يقعوا فيها بعد البيان ولإقامة الحجة عليهم أمام الله تعالى: ((لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)) [الأنفال:42].
من تلك البدع التزام الزوار الإقامة في المدينة المنورة أسبوعاً أو ثمانية أيام حتى يتمكنوا من الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم أربعين صلاة لكي يكتب لهم البراءة من النار والنجاة من العذاب والبراءة من النفاق محتجين بالحديث الآتي:
__________
(1) المحلى: (7/283-285) مع التصرف.
(2) فتح الباري: (4/100).(1/203)
قال الإمام أحمد: حدثنا الحكم بن موسى حدثنا عبد الرحمن بن أبي الرجال عن نبيط بن عمرو عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى في مسجدي أربعين صلاة لا يفوته صلاة كتبت به براءة من النار ونجاة من النار وبرئ من النفاق"(1).
واستدلالهم بهذا الحديث مأخوذ من ظاهره فهو يفيد أن من صلى أربعين صلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يبرأ من النار والنفاق ونجا منهما، وهم بهذا الحديث يتمسكون ببدعتهم هذه، وهذا استدلال صحيح لو كان الحديث مما يحتج به.
وقد تكلم العلماء عن هذا الحديث حيث قال العلماء القدماء في صحته ما يلي: قال المنذري: "رواه أحمد ورواته رواة الصحيح والطبراني في الأوسط وهو عند الترمذي بغير هذا اللفظ"(2).
وقال الهيثمي: "روى الترمذي بعضه، ورواه أحمد والطبراني في الأوسط ورجاله ثقات"(3).
هذه أقوال العلماء القدماء في هذا الحديث ولكن محمد ناصر الدين الألباني قد ضعّف هذا الحديث بسبب وجود راو مجهول في سنده وهو نبيط بن عمرو: قال الألباني: "وهذا سند -أي سند هذا الحديث الذي نحن بصدده- ضعيف، نبيط هذا لا يعرف إلا في هذا الحديث، وقد ذكره ابن حبان في الثقات على قاعدته توثيق المجهولين، وهو عمدة الهيثمي في قوله في المجمع 4/8: رواه أحمد والطبراني في الأوسط ورجاله ثقات وأمّا قول المنذري في الترغيب (2/136) رواه أحمد ورواته رواة الصحيح والطبراني في الأوسط فوهم واضح لأن نبيط هذا ليس من رواة الصحيح ولا روى له أحد من بقية الستة"(4).
__________
(1) المسند: (3/155).
(2) الترغيب والترهيب: (2/136).
(3) مجمع الزوائد: (44/8).
(4) سلسلة الأحاديث الضعيفة م (1/366).(1/204)
وقد تتبعت نبيط هذا في كتاب الجرح والتعديل وكتب التراجم الأخرى فلم أجد من ترجم له إلا ابن حبان في الثقات (1) والحافظ ابن حجر العسقلاني في تعجيل المنفعة (2) الذي اكتفى بقوله: ذكره ابن حبان في الثقات.
وعلى هذا نقول: إن سند هذا الحديث ضعيف لوجود راوٍ مجهول كما بينا وهو نبيط بن عمرو، ومن ثم لا يمكن الاحتجاج به في هذا المقام.
وإذا كان كذلك فيكون التزام الزوار الإقامة في المدينة بثمانية أيام بدعة لغرض الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم أربعين صلاة حتى يبرأوا من النفاق ومن العذاب.
والبدعة تأتي من ناحية تحديد الأيام وعدد الصلوات ومن ناحية الثواب المترتب على ذلك لا من ناحية مجرد الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم بل ثبت أن ثواب الصلاة فيه يضاعف كما بينا في المبحث السابق عند حديثنا عن الفضائل الثابتة لمسجده صلى الله عليه وسلم.
ومن تلك البدع الخروج من المسجد النبوي الشريف القهقرى تأدباً معه وتوقيراً له وإيماناً منهم أنّ الخروج العادي يترتب عليه الإدبار عن المسجد وهو سوء أدب عندهم حسب عقولهم بينما هذا سوء أدب لأن هذا الفعل غير مشروع ولأنه يترتب عليه أن يفعلوا هذا الفعل مع شيوخهم وكبرائهم سواء كانوا أحياء أو أمواتاً، ولأن الشرع لا يثبت بالرأي ولا باستحسان المستحسنين.
ولله در الإمام علي -رضي الله عنه- حيث قال: "لو كان الدين بالرأي لمسح أسفل القدم أولى من ظهرها"(3).
__________
(1) انظر الثقات: (5/483).
(2) تعجيل المنفعة: (421).
(3) رواه الدارمي في سننه (1/181) بلفظ: لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كما رأيتموني فعلت لرأيت أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما.(1/205)
يقول ابن الحاج في هذا المقام: "وليحذر ما يفعله بعضهم من هذه البدعة وهو أنّهم إذا خرجوا من مكة يخرجون من المسجد القهقرى وكذلك يفعلون في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم حين وداعهم له -عليه الصلاة والسلام- ويزعمون أن ذلك من باب الأدب. وذلك من البدع المكروهة التي لا أصل لها في الشرع الشريف ولم يفعلها أحد من السلف -رضي الله عنهم- وهم أشد الناس حرصاً على اتباع سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ثم أدت هذه البدعة التي أحدثوها وعللوها إلى أن صاروا يفعلونها مع مشائخهم ومع كبرائهم وعند المقابر التي يحترمونها ويعظمون أهلها ويزعمون أن ذلك من باب الأدب"(1).
ومن تلك البدع رفع الصوت بالصلاة والسلام في المسجد النبوي الشريف لأن ذلك يؤدي إلى سوء الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع المسجد وإن كان هذا الحكم يتعدى إلى غيره من المساجد إلا أنه يتأكد في هذا المسجد لمكانته عند الله وعند المسلمين.
وقد كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يمنع أن يرفع الأصوات في المسجد النبوي الشريف بل كان يتوعد على من يفعل ذلك بالعقاب الشديد.
والدليل على ذلك ما أخرجه البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه عن السائب بن يزيد قال: "كنت قائماً في المسجد فحصبني رجل فنظرت فإذا هو عمر بن الخطاب فقال: اذهب فأتني بهذين فجئته بهما قال: من أنتما أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم"(2).
__________
(1) المدخل: (4/238).
(2) صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب رفع الصوت في المساجد (1/93).(1/206)
هذا الحديث يدل على أن رفع الصوت ممنوع في مسجده صلى الله عليه وسلم لأنّ ذلك ينافي الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم ويدخل في عموم النهي عن رفع الصوت فوق صوته والجهر له في قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)) [الحجرات:2].
ومنها أكل التمر الصيحاني في الروضة الشريفة (1) تبركاً بها لزعمهم أنّه صاح بالنبي صلى الله عليه وسلم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما التمر الصيحاني فلا فضيلة فيه بل غيره من التمر البرني والعجوة خير منه والأحاديث إنما جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك كما جاء في الصحيح: "من تصبح كل يوم بسبع تمرات عجوة لم يضره في ذلك اليوم سم ولا سحر"(2).
ولم يجئ عنه في الصيحاني شيء، وقول بعض الناس أنّه صاح بالنبي صلى الله عليه وسلم جهل منه، بل إنما سمي بذلك ليبسه فإنه يقال تصوح التمر إذا يبس"(3).
ومن ذلك وقوف بعضهم أمام القبر بغاية الخشوع واضعاً يمينه على يساره كما يفعل في الصلاة.
ومنها استقبال القبر للدعاء عنده رجاء الإجابة(4).
ومنها قصد الصلاة تجاه القبر(5).
ومنها زيارة قبره صلى الله عليه وسلم قبل الصلاة في مسجده.
ومنها تخصيص ليلة سبع وعشرين من رمضان بموعظة التي يلقيها إمام المسجد النبوي للاعتقاد أنها ليلة القدر.
ومنها قراة دعاء ختم القرآن في آخر ليلة من رمضان جماعة.
__________
(1) الباعث على إنكار البدع (ص:70).
(2) صحيح البخاري، كتاب الأطعمة، باب العجوة (3/301). وصحيح مسلم، كتاب الأشربة، باب فضل تمر المدينة (3/1618)، واللفظ للبخاري.
(3) مجموعة الرسائل الكبرى: (2/413).
(4) المصدر السابق: (2/390).
(5) حجة النبي صلى الله عليه وسلم للألباني (ص:140).(1/207)
ومنها الأذان الأول في يوم الجمعة في المسجد النبوي قبل صعود الإمام على المنبر بزمن يسير جداً لأن عثمان بن عفان رضي الله عنه فعل ذلك قبل الأذان الثاني بزمن كاف لاستعداد أهل البلد لحضور الخطبة.
وهذه مجمل البدع التي تفعل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جهل أو استحسان من بعض الناس حسب ما تسول لهم أنفسهم دون الرجوع إلى الكتاب والسنة.
وما ذكرنا من البدع في هذا المبحث يعتبر نموذجاً لما يفعل في المسجد النبوي وليس للحصر لأن المقام لا يتسع لأكثر من ذلك.
الفصل الرابع
البدع الملحقة بزيارة قبره صلى الله عليه وسلم
قبر النبي صلى الله عليه وسلم ملحق بمسجده الشريف وزيارة القبر سنة مشروعة لمن كان في المدينة وضواحيها كزيارة سائر القبور للاتعاظ والعبرة والدعاء للميت وتذكر ما كان وما سيكون بإذن الله تعالى.
وقد ألحق أهل البدع مخترعات لا أصل لها وهم يزورون قبر النبي - صلى الله عليه وسلم- ظانين أن ذلك حب له -عليه الصلاة والسلام- وتعظيم وتوقير مثل التبرك والتمسح بقبره والدعاء عنده معتقدين أن ذلك أولى من الدعاء في المساجد.
ونتحدث في هذا الفصل عن البدع الملحقة بزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وسوف يأتي هذا الفصل مكوناً من المباحث التالية:
المبحث الأول: بيان معنى الزيارة وأنواعها وحدود مشروعيتها.
المبحث الثاني: حكم السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
المبحث الأول: الزيارة أنواعها وأغراضها:
الزيارة في اللغة القصد وهي مصدر زار.
يقول صاحب مصباح المنير: زار يزور زيارة وزورا قصده.. والمزار يكون مصدراً وموضع الزيارة، هذا في اللغة، وأمّا الزيارة في العرف: فهي قصد المزور إكراماً له واستئناساً به(1).
__________
(1) مصباح المنير (1/279).(1/208)
يقول الخفاجي: والزيارة تختص بمجيء بعض الأحياء لبعض مودة ومحبة، هذا أصل معناها لغة واستعمالها في القبر للأموات لإعطائهم حكم الأحياء وصار حقيقة عرفية لشيوعها فيها(1).
وقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: ((أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ)) [التكاثر:1-2].
ومعناها أدرككم الموت وأنتم على تلك الحال من التفاخر وعبر عن موتهم بزيارة المقابر لأن الميت قد صار إلى قبره كما يصير الزائر إلى الموضع الذي يزوره (2) ويقول ابن كثير في تفسيره: "والصحيح أنّ المراد بقوله: (زُزتُم المَقَابِرَ) أي صرتم إليها ودفنتم" (3) ثم استشهد عما جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أعرابي يعوده قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل على مريض يعوده قال له: "لا بأس طهور إن شاء الله" قال: قلت: طهور كلا بل هي حمى تفور وتثور على شيخ كبير تزيره القبور، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فنعم إذاً"(4).
وعلى ذلك فمعنى الزيارة اصطلاحاً هو الانتقال من مكان إلى مكان آخر لغرض ما وغالباً تضاف إلى القبور فيكون معناها إتيان القبور لغرض السلام على الأموات والدعاء لهم والاتعاظ بهم.
أنواع الزيارة: تتنوع الزيارة إلى نوعين وهما:
النوع الأول: هو زيارة الأحياء للأموات.
النوع الثاني: زيارة الأحياء بعضهم لبعض مودة ومحبة وعبادة.
أما النوع الأول وهو زيارة الأحياء للأموات فتنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1- زيارة شرعية
2- زيارة بدعية
3- زيارة شركية.
وبيانها كالآتي:
__________
(1) نسيم الرياض في شرح الشفا (3/510-511).
(2) انظر تفسير فتح القدير للشوكاني (5/448).
(3) تفسير القرآن العظيم (4/545).
(4) انظر صحيح البخاري، كتاب المرضى، باب عيادة الأعراب (4/4).(1/209)
1- الزيارة الشرعية: وهي التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة بها بعد أن نهى عنها كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها"(1).
وقد شرعت هذه الزيارة للرجال اتفاقاً لأجل حكم سامية وأغراض نافعة تعود المزور وللزائر معاً كما دلت عليه السنة النبوية إذ أنها بالنسبة للميت تكون بمنزلة الصلاة عليه حيث يقال فيها من جنس ما يقال في الصلاة عليه من الدعاء والترحم والاستغفار وبالنسبة للزائر تكون عظة وعبرة وتذكرة للآخرة.
وسوف أجمل الأغراض التي من أجلها شرعت الزيارة فيما يلي:-
أولاً- الاتعاظ والاعتبار بمعنى أن يتذكر الزائر أن مصيره الموت مثل المزور فيتدارك أمره كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "...فزوروا القبور فإنها تذكر الموت..."(2).
وهذا لا فرق بين قبر فيه كافر وبين قبر فيه مسلم؛ لأن الاعتبار والاتعاظ يحصل بالميت المقبور سواء كان كافراً أم مسلماً بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم-: ".... واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي". أي قبر أمه - صلى الله عليه وسلم- بينما لم يؤذن له أن يستغفر لها لأنها ماتت على الشرك في أيام الجاهلية.
والاستغفار لأهل الشرك ممنوع بقوله تعالى: ((مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ)) [التوبة:113].
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه -عز وجل- في زيارة قبر أمه (3/673).
(2) صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه (2/671) كالذي قبله.(1/210)
ثانياً -الدعاء للأموات والسلام عليهم عسى الله أن يقبل لهم ذلك فينتفعوا به، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم عند زيارته مقابر البقيع حيث كان يقول: " السلام عليكم دار قوم مؤمنين... اللهم اغفر لأهل البقيع الغرقد(1))(2).
وهذا الغرض خاص بمقابر المسلمين عابدهم وعاصيهم لأن كلاً منهم ينتفع بذلك الدعاء والسلام.
2- الزيارة البدعية: وهي التي لا يقتصر فاعلها على أداء ما هو مشروع بل يضيف إليها أموراً منكرة في الشريعة الإسلامية دون أن يترتب عليها أمور شركية.
ونذكر هنا أهمها أو أكثرها شيوعاً في هذا العصر.
من تلك الزيارة البدعية التبرك والتمسح بالقبر سواء كان المقبور نبياً أو ولياً أو غير ذلك لعدم ورود ما يدل على ذلك من الشارع.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في هذا المقام: (وقد اتفق العلماء على ما مضت به السنة من أنه لا يشرع الاستلام والتقبيل بمقام إبراهيم الذي ذكره الله تعالى في القرآن وقال: ((وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)) [البقرة:125]. فإذا كان هذا بالسنة المتواترة وباتفاق الأئمة لا يشرع تقبيله بالفم ولا مسحه باليد فغيره من مقامات الأنبياء وغيرهم أولى أن لا يشرع تقبيلها بالفم ولا مسحها باليد(3).
ومن الزيارة البدعية: السفر إلى القبور لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى"(4).
__________
(1) الغرقد: هو ضرب من شجر العضاه وشجر الشوك. والغرقدة واحدة ومنه قيل لمقبرة أهل المدينة بقيع الغرقدة لأنه كان فيه غرقد وقطع. النهاية (3/362).
(2) صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب ما يقول عند دخول القبور والدعاء لأهلها (2/669).
(3) اقتضاء الصراط المستقيم: (427).
(4) أخرجة البخاري في صحيحه، في أبواب التطوع، باب فضل الصلاة في مسجدي مكة والمدينة (1/206).(1/211)
وزيارة القبور ليست من الأماكن التي شرع السفر إليها قربة لخروجها من منطوق الحديث الذي نحن بصدده.
ومنها الدعاء عند القبر أو القبور رجاء الإجابة لعدم ورود ما يدل على ذلك كما ذكر الشيخ محمد بشير السهسواني: "إن ظن أحد أن الدعاء عند القبر مستجاب وأنه أفضل من الدعاء في المسجد فيقصد زيارته والصلاة عنده لأجل طلب حوائجه. فهو من المنكرات المبتدعة باتفاق المسلمين وهي محرمة وما علمت في ذلك نزاعاً بين أئمة الدين وإن كان كثيراً من المتأخرين يفعل ذلك ويقول بعضهم قبر فلان ترياق مجرب"(1).
ومنها القراءة عند القبور سواء كان المقروء قرآناً أو غيره لعدم ورود ما يدل على ذلك. ويؤيد هذا ما أورده نعمان بن المفسر الألوسي في كتابه الآيات البينات في عدم سماع الأموات حيث ذكر أن القراءة على القبر ذات خلاف، وقال الإمام يعني أبا حنيفة: تكره لأن أهلها جيفة ولم يصح فيها شيء عنده(2).
ويقول الألباني في تعليقه على هذا القول: "وهذا التعليل الثاني هو المعتمد"(3).
وأما ما ورد في هذا المقام من الأحاديث مثل حديث: "من دخل المقابر فقرأ سورة "يس" خفف الله عنهم يومئذ وكان له بعدد ما فيها حسنات" فموضوع وكذلك حديث: "من مر بالمقابر فقرأ: (قل هو الله أحد) أحد عشر مرة"(4).
__________
(1) صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان: (204).
(2) انظر الآيات البينات في عدم سماع الأموات: (94).
(3) انظر الآيات البينات في عدم سماع الأموات: (94)، تعليقة رقم (3).
(4) المصدر السابق، (ص:93) تعليقة رقم (3).(1/212)
وهذه الأمور التي ذكرناها هنا تعتبر ذريعة إلى الشرك أو تفضي إليه في المآل كما هو مشاهد في وقتنا الحاضر. ويؤيد هذا بما أورده محمد بشير السهسواني في كتابه صيانة الإنسان حيث أن الشيطان له تلطف في الدعوة فيدعوه أولاً إلى الدعاء عنده فيدعو العبد عنده بحرقة وانكسار وذلة فيجيب الله دعوته لما قام بقلبه لا لأجل القبر فيظن الجاهل أن للقبر تأثيراً، فإذا وقع ما يريده الشيطان من الإنسان من استحسان الدعاء عند القبور وأنه أرجح من دعائه في بيته ومسجده نقله درجة أخرى من الدعاء عنده إلى الدعاء به والإقسام على الله به وهذا أعظم من الذي قبله(1).
3- الزيارة الشركية: وهي التي يترتب عنها الإشراك بالله وهي كثيرة ولها صور مختلفة ومن أهمها:-
الذبح للمقبور لدخول ذلك في معنى ما أهل لغير الله تعالى.
يقول الشوكاني -رحمه الله في تفسير قوله تعالى: ((وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ)) [البقرة:173] ما ذكر عليه اسم غير الله كاللات والعزى إذا كان الذابح وثنياً والنار إذا كان الذابح مجوسياً... لا خلاف في تحريم هذا وأمثاله، ومثله ما يقع من المعتقدين للأموات من الذبح على قبورهم، فإنه مما أهل لغير الله ولا فرق بينه وبين الذبح للوثن"(2).
ومن السنة ما يؤيد هذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله من لعن والديه ولعن الله من ذبح لغير الله......"(3).
__________
(1) انظر صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان (ص:205).
(2) تفسير فتح القدير (1/170).
(3) صحيح مسلم، كتاب الأضاحي والذبائح، باب تحريم الذبح لغير الله ولعن فاعله (3/1562).(1/213)
يقول النووي -رحمه الله تعالى- عند شرحه هذا الحديث: "وأما الذبح لغير الله فالمراد به أن يذبح باسم غير الله تعالى كمن ذبح للصنم أو الصليب أو لموسى أو لعيسى -صلى الله عليهما- أو للكعبة ونحو ذلك فكل هذا حرام ولا تحل هذه الذبيحة سواء كان الذابح مسلماً أو نصرانياً أو يهودياً كما نص عليه الشافعي واتفق عليه أصحابنا فإن قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له غير الله تعالى والعبادة له كان ذلك كفراً. فإن كان الذابح مسلماً قبل ذلك صار بالذبح مرتداً"(1).
ومن الزيارة الشركية دعاء الأموات وسؤال المقبور تفريج الكربات مما لا يقدر عليه الأحياء من البشر فضلاً عن الأموات لأن سؤال المحلوف لا بد أن تجتمع فيه ثلاثة شروط:
1- القدرة على التصرف بمعنى أن يكون المدعو قادراً على التصرف فيعطي ويمنع. فالعاجز عن التصرف لا ينفع نفسه فضلاً عن أن ينفع غيره.
2- السمع أي بأن يكون المدعو سامعاً للنداء ومدركاً للخطاب.
3- الملك أي بأن يكون المدعو مالكاً لما يطلبه السائل إذ أن فاقد الشيء لا يعطيه. وشرط واحد من تلك الشروط لا ينطبق على الأموات كما ترى.
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم (13/141).(1/214)
يقول الألوسي -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: ((دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)) [يونس:22]. فالآية دالة على أن المشركين لا يدعون غيره في تلك الحال، وأنت خبير بأن الناس اليوم إذا اعتراهم أمر خطير وخطب جسيم في بر أو بحر، دعوا من لا يضر ولا ينفع ولا يرى ولا يسمع، فمنهم من يدعو الخضر وإلياس ومنهم من يتضرع إلى شيخ من مشائخ الأمة ولا ترى أحداً منهم يخص مولاه بتضرعه ودعاه، ولا يكاد يمر له ببال، أنه لو دعا الله تعالى وحده ينجو من هاتيك الأهوال فبالله عليك قل لي أي الفريقين من هذه الحيثية أهدى سبيلاً، وأي الداعيين أقوم فيه وإلى الله المشتكى من زمن عصفت فيه ريح الجهالة وتلاطمت أمواج الضلالة وخرقت سفينة الشريعة واتخذت الاستعانة بغير الله للنجاة ذريعة وتعذر على العارفين الأمر بالمعروف وحالت دون النهي عن المنكر صنوف الحتوف"(1).
ولذلك أقول: إن مشركي هذا الزمان يفوقون مشركي العرب زمن البعثة بأمرين:
1- أن مشركي العرب في زمن البعثة كانوا يخلصون الدعاء لله سبحانه وتعالى في وقت الشدة وإنما يشركون في زمن الرخاء كما دلت عليه الآية السابقة بينما مشركو هذا الزمان يدعون غير الله في وقت الشدة وفي وقت الرخاء كما هو معلوم.
3- إن مشركي العرب في زمن البعثة كانوا يدعون الملائكة والصالحين والحجر الذي لا ذنب له وأما مشركي هذا الزمان فهم يدعون أناساً ماتوا ولم يكونوا صالحين بل فيهم من يجهر بالفسق ومن لا يصلي أبداً.
ومما يدخل في هذا المعنى أي دعاء الأموات الاستغاثة والاستعانة بهم كما يدل عليه قول الألوسي السابق لأن الاستغاثة فيها طلب وسؤال المقبور وكذلك الاستعانة.
وعلى هذا فعلى المسلم أن يقتصر في مجال الزيارة على ما هو مشروع فقط دون الإضافات البدعية والشركية التي لم يأذن بها الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) روح المعالي (11/98).(1/215)
وأما النوع الثاني: وهو زيارة الأحياء بعضهم البعض مودة ومحبة وعيادة فمشروعة أيضاً إذا لم تصحبها أغراض فاسدة لورود أحاديث ثابتة تدل على ذلك: من ذلك ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أنس قال: "قال أبو بكر -رضي الله عنه- بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فلما انتهينا إليها بكت فقالا لها: ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ما أبكي أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها"(1).
ومنها ما أخرجه الإمام مسلم أيضاً في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى فأرصده الله له على مدرجته ملكاً فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخاً لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربها؟ (2) قال: لا غير أني أحببته في الله عز وجل، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك لما أحببته فيه"(3).
ومن ذلك ما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عن أنس -رضي الله عنه- أنّ غلاماً ليهود كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم- يعيده، فقال: أسلم تسلم"(4).
يتبين لنا من هذه الأحاديث أن زيارة الأحياء بعضهم لبعض مشروعة أيضاً وأن الغرض منها أمران: الأول: محبة الزائر للمزور ومودته كما يدل عليه حديث أبي هريرة الآنف الذكر.
__________
(1) صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة، فضائل أم أيمن: (4/1907).
(2) تربها: أي تقوم بإصلاحها وتنهض إليه بسبب ذلك.
(3) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة، باب فضل الحب في الله (4/1988).
(4) صحيح البخاري، كتاب المرض، باب عيادة المشرك (4/4).(1/216)
وهذا الغرض يخص المسلمين لأنهم وحدهم هم الذين يحبون في الله عز وجل، وأما غيرهم فيحبون لأغراض دنيوية بحتة، وأما في الآخرة فبينهم عداوة كما يدل عليه قوله تعالى: ((الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ)) [الزخرف:67].
الثاني: عيادة المريض سواء كان مسلماً أو كافراً كما يدل عليه حديث أنس السابق.
وهذا الغرض يعم المسلم والكافر كما يدل عليه منطوق ذلك الحديث.
هذه هي الأغراض المشروعة لزيارة الأحياء بعضهم لبعض التي لا يجوز غيرها مثل الطلب منهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات والاستعانة بهم وغيرها من الأمور الأخرى التي ذكرناها سابقاً عند كلامنا عن زيارة القبور وأغراضها إلا ما كان في مقدور البشر عقلاً وشرعاً لأن الأحياء لهم نوع من السمع ونوع من الملك ونوع من القدرة.
وبهذا تنطبق عليهم الشروط الثلاثة التي تبيح سؤال المخلوق بشرط أن يكون ذلك في حدود الشرع وفي مقدور البشر لا أن يسند إليهم أو يسألهم ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى مثل جلب المنفعة وسد المضرة بدون أخذ الأسباب فيترتب عليه الشرك والعياذ بالله.
المبحث الثاني: حكم السفر إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم:
ذكرنا في المبحث السابق أن زيارة القبور مشروعة عموماً إذا لم تصحبها أمور مشروعة سواء كانت الزيارة إلى قبر نبي أو أتباعه وغيرهم كالكفار، وأمّا في هذا المبحث فسوف نتكلم فيه عن حكم السفر إلى المزارات وخاصة السفر لزيارة قبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى بمعنى إذا منعنا من السفر لزيارة قبره صلى الله عليه وسلم فمن باب أولى نمنع من السفر إلى زيارة قبر من دونه مهما كانت رتبته.(1/217)
وقد اختلف العلماء في حكم السفر إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فمنهم من يقول بجواز ذلك بل يجعلونه من الأمور المستحبة، ومنهم من يقول بعدم جوازه ويعدونه من الأمور المحرمة. ولكل من الفريقين أدلتهم: أولاً: القائلون بالجواز: هذا الفريق استدل بأدلة من الكتاب والسنة: أما أدلة الكتاب فقوله تعالى: ((وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً)) [النساء:64].
ووجه الاستدلال بهذه الآية كما يقول السبكي: "دلت الآية على الحث على المجيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والاستغفار عنده واستغفاره لهم وذلك وإن ورد في حال الحياة فهي رتبة له صلى الله عليه وسلم لا تنقطع بموته تعظيماً له"(1).
ويقول أيضاً: "والمجيء صادق على المجيء من قرب ومن بعد بسفر وغير سفر ولا يقال (إن جاءوك) مطلق والمطلق لا دلالة له على كل فرد وإن كان صالحاً لها لأنّا نقول هو في سياق الشرط فيعم، فمن حصل منه الوصف المذكور وجد الله تواباً رحيماً"(2).
وأما من السنة -فقد ذكروا أدلة كثيرة نذكر منها ما هو نص في هذا الموضوع: أولاً: ما أخرجه الدارقطني بسنده قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز أنبأنا أبو الربيع بن أبي داود عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي"(3).
ثانياً: ما أخرجه ابن عدي في الكامل قال: حدثنا علي بن إسحاق حدثنا محمد بن النعمان بن شبل حدثني مالك عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني"(4).
__________
(1) شفاء السقام (ص:80-81).
(2) المرجع السابق (ص:100).
(3) سنن الدارقطني (2/278).
(4) الكامل لابن عدي (7/248).(1/218)
هذان الحديثان اللذان أوردناهما في هذا المقام هما نصان في الموضوع الذي نحن بصدده ولم أجد غيرهما من الأحاديث ما يكون نصاً في الموضوع وإنما هناك أحاديث أخرى تدل على مطلق زيارة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا نتكلم في هذا المكان إلا على ما يكون نصاً في الموضوع.
وهذان الحديثان يحتاجان إلى النظر فيهما من ناحية السند صحة وضعفاً لكي تتبين حجيتهما فيما استدل له بهما ولكن قبل أن نتطرق إلى ذلك نذكر أدلة القائلين بالمنع ثم نناقش أدلة الفريقين معاً.
ثانياً: أدلة القائلين بالمنع: هذا الفريق استدل بالأدلة التالية:
(أ) ما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشد الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد. المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومسجد الأقصى"(1).
(ب) ما أخرجه الإمام مالك بسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّه قال: لقيت بصرة (2) بن أبي بصرة الغفاري فقال: من أين أقبلت؟ فقلت: من الطور. فقال: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت.
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تعمل المطي إلاّ إلى ثلاثة مساجد: إلى المسجد الحرام وإلى مسجدي هذا وإلى مسجد إيليا أو بيت المقدس يشك"(3).
__________
(1) صحيح البخاري، أبواب التطوع، باب فضل الصلاة في مسجدي مكة والمدينة (1/206). وصحيح مسلم، كتاب الحج، باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد (2/1014) واللفظ للبخاري.
(2) الصحيح لقيت أبا بصرة الغفاري.
(3) الموطأ: (1/109).(1/219)
ووجه الاستدلال بهذين الحديثين من وجهة نظر هذا الفريق هو أن الشارع قد نهى عن السفر إلى أي مكان للعبادة غير المساجد الثلاثة المستثناة في أسلوب حصر بمعنى أن السفر إلى أي مكان للعبادة محصور في المساجد الثلاثة. وعلى هذا فالسفر إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدخل في النهي العام لعدم ورود ما يخرجه عن ذلك ولأنّ الصحابة قد فهموا ذلك كما يدل عليه قول أبي بصرة الغفاري في الحديث الثاني ومن ثم يعدون ذلك أنّه من البدع المحرمة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا المقام: "إذا كانت المساجد التي هي من بيوت الله التي أمر فيها بالصلوات الخمس قد نهى عن السفر إليها حتى مسجد قباء الذي يستحب لمن كان بالمدينة أن يذهب إليه لما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنّه كان يأتي قباء كل سبت راكباً وماشياً" (1) إلى أن قال مؤكداً ذلك: وروى الترمذي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال من تطهر في بيته فأحسن الطهور ثم أتى مسجد قباء لا يريد إلاّ الصلاة فيه كان له كعمرة" (2)، وكذلك ينهى عن السفر إلى الطور المذكور في القرآن فمن باب أولى أن ينهى عن السفر إلى غيرها من الأمكنة"(3).
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب فضل الصلاة، باب من أتى مسجد قباء كل سبت (1/206)، وصحيح مسلم، كتاب الحج، باب فضل مسجد قباء وفضل الصلاة فيه وزيارته (2/1016).
(2) الحديث في سنن الترمذي، أبواب الصلاة، باب ما جاء في الصلاة. في سيد قباء (1/204) بلفظ: "الصلاة في مسجد قباء كعمرة".
(3) مجموع الرسائل الكبرى (2/59) بتصرف.(1/220)
ويقول شيخ الإسلام -أيضاً- في مكان آخر: "قال بعض العلماء: قوله: "من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء.." تنبيه على أنه لا يشرع قصده بشد الرحال بل إنما يأتيه الرجل في بيته الذي يصلح أن يتطهر فيه ثم يأتيه فيقصده كما يقصد الرجل مسجد مصره دون المساجد التي يسافر إليها، وأمّا المساجد الثلاثة فقد اتفق العلماء على استحباب إتيانها للصلاة ونحوها"(1).
ويقول محيي الدين البركوي: "السفر إلى زيارة قبور الأنبياء بدعة لم يفعلها أحد من الصحابة والتابعين، ولا أمر بها رسول ربّ العالمين، ولا استحبها أحد من أئمة المسلمين، فمن اعتقد ذلك قربة. وطاعة فقد خالف السنة والإجماع ولو سافر إليها بذلك الاعتقاد يحرم بإجماع المسلمين فصار التحريم من جهة اتخاذه قربة، ومعلوم أن أحداً لا يسافر إليها إلاّ لذلك"(2).
ويقول ناصر الدين الألباني في هذا المقام: "المستثنى منه في هذا الحديث ليس هو المساجد فقط -كما يظن كثيرون- بل هو كل مكان يقصد للتقرب إلى الله فيه سواء كان مسجداً أو قبراً أو غير ذلك بدليل ما رواه أبو هريرة قال في حديث له: فلقيت بصرة (3) بن أبي بصرة الغفاري فقال: من أين أقبلت؟ فقلت: من الطور فقال: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد.. الحديث"(4). فهدا دليل على أنّ الصحابة فهموا الحديث على عمومه ويؤيده أنه لم ينقل عن أحد منهم أنّه شد الرحل لزيارة قبر ما"(5).
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم (ص:432).
(2) زيارة القبور الشركية والشرعية (ص:22).
(3) والصحيح فلقيت أبا بصرة الغفاري.
(4) الموطأ: (1/109).
(5) سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة: (1/59).(1/221)
هذه مجمل ما ورد في هذا الشأن من قبل الفريقين المجوزين السفر إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم والمانعين لها، ولكن هذه الأدلة تحتاج إلى مناقشة حتى يتبين الصواب من الخطأ ومن ثم يمكن لنا أن نرجح ما نراه صواباً أو أقرب إلى روح الشريعة الإسلامية السمحاء التي ختم الله - سبحانه وتعالى- بها كل الرسالات بواسطة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم دون تعصب إلى فئة من الفريقين.
مناقشة الأدلة: إذا نظرنا إلى الأدلة السابقة التي استدل بها كل فريق من الفريقين نجد أنّ كل فريق يستدل بأدلة تتناقض مع أدلة الفريق الآخر مع أنّ الحق في هذا الموضوع الذي نحن بصدده لا بد أن يكون بجانب فريق واحد لأنّ الحق لا يتعدد ولا يكون لصالح الفريقين المتناقضين في آن واحد لأنّ ذلك من المستحيلات.
نناقش أولاً أدلة القائلين بجواز السفر إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ونبدأ بالآية الكريمة التي استدلوا بها وهي قوله تعالى: ((وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً)) [النساء:64].
قبل أن نصل إلى القول بأن الآية تصلح للاستدلال لما نحن بصدده أو عدم صلاحيتها نذكر أقوال المفسرين سلفاً وخلفاً ومعاصرين في تفسيرها ومن ثم يتبين صلاحيتها لما استدل بها له.
يقول أبو جعفر الطبري -رحمه الله-: يعني بذلك جل ثناؤه، ولو أنّ هؤلاء المنافقين الذين وصف صفتهم في هاتين الآيتين (1) الذي إذا دعوا إلى حكم الله وحكم رسوله صدوا صدوداً.
__________
(1) يقصد الآيتين (60-61) من سورة النساء.(1/222)
إذ ظلموا أنفسهم باكتسابهم إياها العظيم من الإثم في احتكامهم إلى الطاغوت وصدودهم عن كتاب الله وسنة رسوله إذا دعوا إليها... جاءوك تائبين منيبين، فسألوا الله أن يصفح لهم عن عقوبة ذنبهم بتغطيته عليهم وسأل الله رسوله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، وذلك هو معنى قوله: ((فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ)) [النساء:64] وأمّا قوله: ((لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً)) [النساء:64] يقول رجعاً لهم مما يكرهون إلى ما يحبون: (رحيماً) بهم في تركه عقوبتهم على ذنبهم الذي تابوا منه"(1).
ويقول ابن كثير -رحمه الله-: "يرشد تعالى العصاة المنيبين إذا وقع منهم الخطأ والعصيان أن يأتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيستغفروا الله عنده ويسألوه أن يستغفر لهم فإنهم إذا فعلوا ذلك تاب الله عليهم ورحمهم وغفر لهم ولهذا قال: ((لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً)) [النساء:64].
ويقول ابن الجوزي -رحمه الله-: وقوله تعالى: ((وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ)) [النساء:64] يرجع إلى المتحاكمين اللذين سبق ذكرهما. قال ابن عباس: ظلموا أنفسهم بسخطهم قضاء الرسول: ((جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ)) [النساء:64] من صنيعهم"(2).
ويقول الشوكاني -رحمه الله-: " ((ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ)) [النساء:64] بترك طاعتك والتحاكم إلى غيرك ((جَاءُوكَ)) [النساء:64] متوسلين إليك منتصلين عن جناياتهم ومخالفتهم (فاستغفروا الله) لذنوبهم وتضرعوا إليك حتى قمت شفيعاً فاستغفرت لهم "(3).
__________
(1) جامع البيان عن تأويل القرآن المعروف بتفسير الطبري (8/517).
(2) زاد المسير (2/223).
(3) فتح القدير (1/483).(1/223)
ويقول الشهيد سيد قطب -رحمه الله-: "... والذين يتناولهم هذا النص ابتداء كان لديهم فرصة استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد انقضت فرصتها، وبقي باب الله مفتوحاً لا يغلق، ووعده قائم لا ينقضي، فمن أراد فليقدم، ومن عزم فليتقدم"(1).
من هذه الأقوال التي ذكرناها في هذا المقام يتبين لنا أن المفسرين سلفاً وخلفاً، ومعاصرين فهموا أنّ الآية وردت في قوم معينين في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تتعدى إلى ما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لأنّ حياته البرزخية مخالفة تماماً لحياته في الدنيا ولا يأخذان حكماً واحداً(2).
يقول ناصر الدين الألباني: "... فحياة الأنبياء بعد الموت حياة برزخية، ولنبينا صلى الله عليه وسلم فيها من الخصائص ما ليس لغيره... ولكن لا يجوز التوسع في ذلك بالأقيسة والأهواء"(3).
وعلى هذا لا يمكن الاستدلال بها لما نحن بصدده، وكذلك لا يقال أنّ المجيء إلى قبر الرجل مثل المجيء إلى الرجل لا لغة ولا شرعاً ولا عرفاً.
يقول محمد بن بشير السهسواني في كتابه صيانة الإنسان: "والمجيء إلى قبر الرجل ليس من أفراد المجيء إلى الرجل لا لغة ولا شرعاً ولا عرفاً، فإن المجيء إلى الرجل ليس معناه إلا المجيء إلى عين الرجل، ولا يفهم منه أصلاً أمر زائد على هذا "(4).
__________
(1) في ظلال القرآن (2/696).
(2) وأما حكاية العتبي التي يوردها بعض المفسرين في تفسير هذه الآية فهي قصة لا يثبت بها حكم شرعي لأنها مترددة بين أن يكون مصدرها رؤيا منامية والرؤيا المنامية لا تصلح أن تكون دليلاً شرعياً لاستثناء رؤيا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبين أن يكون مصدرها نداء مجهول سمع من قبر النبي صلى الله عليه وسلم وروى بسند مرسل لا تقوم به الحجة أيضاً. انظر نص القصة في تفسير ابن كثير (1/52) وتفسير القرطبي (5/267).
(3) الآيات البينات في عدم سماع الأموات (ص:79) هامش رقم (2).
(4) صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان (24).(1/224)
وأما توبة الله ورحمته المذكورتان في الآية التي نحن بصددها فلا يمكن أن ينالهما أحد بعد موته صلى الله عليه وسلم، لأنّ محلهما وقت حياته صلى الله عليه وسلم كما يظهر من أقوال المفسرين السابقة الذكر.
يقول صاحب كتاب صيانة الإنسان: "فإن الأمور الموجبة لتوبة الله ورحمته هي المذكورة في الآية وإنما هي المجيء إليه صلى الله عليه وسلم في الحياة بعد الظلم واستغفارهم عنده في الحياة بعد الظلم، واستغفار الرسول صلى الله عليه وسلم لهم في الحياة بعد الظلم، وفي زيارة القبر لا يوجد واحد من هذا"(1).
وخلاصة القول أن هذه الآية لا يمكن أن يستدل بها للموضوع الذي نحن بصدده للأمور التي بيناها سابقاً لأنّ حكمها منحصر في حال حياته - صلى الله عليه وسلم- ولا يتعدى إلى ما بعد وفاته.
وإذا بطل استدلالهم بالآية الكريمة فلننظر إلى ما يستدلون به من السنة لنرى مدى صلاحيتها للاستدلال الذي ذهبوا إليه.
الحديث الأول: قال الدارقطني: حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز ثنا أبو الربيع ابن أبي داود عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي"(2).
ففي إسناد هذا الحديث راويان ضعيفان وهما حفص بن أبي داود ويقال حفص بن سليمان أبو عمر الأسدي الكوفي البزار القاري فقد جرحه غير واحد من أئمة الجرح والتعديل، ونذكر هنا طرفاً من أقوالهم تجاه هذا الشخص الذي نحن بصدده. قال البخاري -رحمه الله-: "تركوه"(3).
وقال أيضاً: "سكتوا عنه"(4).
وقال ابن حبان: "كان يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل، وكان يأخذ كتب الناس فينسخها ويرويها من غير سماع"(5).
__________
(1) المصدر السابق (ص:31).
(2) سنن الدارقطني (2/278).
(3) التاريخ الكبير (2/363).
(4) التاريخ الكبير (2/363).
(5) التاريخ الصغير (2/256).(1/225)
وقال أبو حاتم الرازي: "لا يكتب حديثه وهو ضعيف الحديث"(1).
وقال الذهبي: "ثبت في القراءة والحروف، واه في الحديث"(2).
وأما الشخص الثاني وهو ليث بن أبي سليم فقد ضعفه غير واحد من أئمة هذا الشأن.
ونذكر هنا طرفاً من أقوالهم تجاهه: قال الإمام أحمد بن حنبل: " ليث بن أبي سليم مضطرب الحديث"(3).
وقال النسائي: " ليث بن أبي سليم ضعيف "(4).
وقال ابن حبان: "اختلط في آخر عمره حتى كان لا يدري ما يحدث به فكان يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل ويأتي عن الثقات بما ليس في أحاديثهم، كل ذلك كان منه في اختلاطه"(5).
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: "صدوق اختلط أخيراً ولم يتميز حديثه فترك"(6).
من هذه الأقوال يتبين لنا أن هذا الحديث ضعيف وآفته وجود شخصين ضعيفين في إسناده ومن ثم لا يمكن أن يحتج به في هذا المقام لخروجه من دائرة الاحتجاج.
الحديث الثاني: قال ابن عدي: حدثنا علي بن إسحاق ثنا محمد بن النعمان بن شبل حدثني جدي عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني"(7).
ففي إسناد هذا الحديث شخصان ضعيفان وهما النعمان بن شبل وحفيده محمد بن محمد بن النعمان بن شبل.
وأما الأول وهو النعمان بن شبل فقد جرحه غير واحد من أئمة هذا الشأن.
ونذكر هنا طرفاً من أقوالهم تجاه هذا الشخص: قال ابن حبان: " يأتي عن الثقات بالطامات وعن الأثبات بالمقلوب "(8).
وقال ابن عدي: "لم أر في حديثه حديثاً قد جاوز الحد "(9).
__________
(1) المجروحين (1/255).
(2) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (3/174).
(3) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (7/179).
(4) الضعفاء والمتروكين (ص:9).
(5) المجروحون (2/231).
(6) تقريب التهذيب (2/138).
(7) الكامل لابن عدي (7/2480).
(8) المجروحين (3/73).
(9) الكامل لابن عدي (7/2480).(1/226)
وقال أيضاً: " ثنا صالح بن أحمد بن أبي مقاتل ثنا عمران بن موسى ثنا النعمان بن شبل وكان ثقة "(1).
وقال أيضاً: " سمعت إبراهيم بن محمد بن عيسى يقول: سمعت موسى بن هارون الحمال يقول: النعمان بن شبل البصري كان متهماً "(2).
وقال الذهبي في ترجمة محمد بن محمد بن النعمان بن شبل: "وأنا رأيت له عن جده النعمان بن شبل عن مالك، فما أعتقده لقي مالكاً "(3).
وأما الشخص الثاني وهو محمد بن محمد بن النعمان بن شبل فقد جرحه غير واحد من النقاد.
ونذكر هنا طرفاً من أقوالهم تجاهه: قال الذهبي: "روى عنه أبو روق الهزاني، قد طعن فيه الدارقطني واتهمه"(4).
وقال أيضاً: "شيخ أبي روق، طعن فيه الدارقطني واتهمه، وأنا فقد رأيت له عن جده عن مالك، فما أعتقد لقي مالكاً"(5).
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: "روى عنه أبو روق الهزاني وقد طعن فيه الدارقطني"(6).
وقال أيضاً: "متروك" (7) من هذه الأقوال التي أوردناها في هذا المقام يتبين لنا أن هذا الحديث ضعيف لوجود شخصين ضعيفين ومن ثم لا يمكن أن يستدل به لما نحن بصدده لخروجه من دائرة الاحتجاج. إضافة إلى ذلك أن ابن الجوزي قد أورد هذا الحديث في الموضوعات(8).
__________
(1) الكامل لابن عدي (7/2480).
(2) الكامل لابن عدي (7/2480).
(3) المغني في الضعفاء (2/629).
(4) ميزان الاعتدال (4/26).
(5) المغني في الضعفاء (2/629).
(6) لسان الميزان (5/358).
(7) تقريب التهذيب (2/205).
(8) كتاب الموضوعات (2/217).(1/227)
وخلاصة القول أنّ هذا الفريق ليس لهم أدلة صحيحة تدل على ما ذهبوا إليه من تجويز السفر إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم لا من الكتاب ولا من السنة كما يظهر من مناقشة أدلتهم بل لم يرد حديث صحيح في زيارة قبره لا من قريب ولا من بعيد كما نص عليه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- حيث قال: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث واحد في زيارة قبر مخصوص ولا روى أحد في ذلك شيئاً لا أهل الصحيح ولا السنن ولا الأئمة المصنفون في المسند كالإمام أحمد وغيره، وإنما روى ذلك من جمع الموضوع وغيره. وأجلّ حديث روي في ذلك ما رواه الدارقطني وهو ضعيف باتفاق أهل العلم بل الأحاديث المروية في زيارة قبره صلى الله عليه وسلم مكذوبة وموضوعة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في زيارة القبور مطلقاَ بعد أن كان قد نهى عنها"(1).
ولهذا نرجّح ما ذهب إليه الفريق الآخر من منع شد الرحال إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم لعدم مشروعيتها لا في الكتاب ولا في السنة بل أنها داخلة في عموم النهي عن شد الرحال إلى أي مكان للعبادة إلاّ المساجد الثلاثة مع أنّه لم يثبت ما يخصص ذلك العموم.
ولا يفهم من هذا أنّ زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم غير مشروعة كما يقول المرجفون وإنّما هي مشروعة لمن كان في المدينة وضواحيها وإن لم يرد بها نص صحيح بها خاصة لدخولها دخولاً أولياً في ترخيصه صلى الله عليه وسلم زيارة القبور مطلقاً بشرط أن لا يترتب عنها شد الرحال، وأما إن ترتب عنها شد الرحال فالأدلة الثابتة ناطقة بالمنع لأن الفاصل بين الزيارة الشرعية والزيارة البديلة هو شدّ الرحال إذا اقتصر على الفعل المشروع من دعاء للأموات والسلام عليهم والاستغفار لهم.
الخاتمة:
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم (400 -401).(1/228)
لقد تم بعون الله تعالى وتوفيقه هذا البحث المتواضع مع أنّي أعترف أنّه لا يخلو من نقص بشري الذي هو سمة البشر لأنّ الكمال لله وحده وأنّ العصمة لمن عصمه الله من نبي من أنبيائه -عليهم الصلاة والسلام-. وعلى هذا ينطبق على بحثنا هذا ما قيل قديماً أنّه لا يكتب إنسان كتاباً إلاّ قال في غده لو غير هذا لكان أحسن، ولو زيد هنا لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل وهذا من أعظم العبر وهو دليل على استيلاء النقص على البشر.
ومع أنّ البحث كله يعتبر نتائج فإنّي أسجل أهمّ النتائج التي توصلت إليها أثناء البحث:
1- أن الله -سبحانه وتعالى- اختار نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم لحمل الرسالة الخاتمة ليبلغه للناس كافة بعد إعداده إعداداً يؤهله لحملها.
2- أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد مارس الدعوة سراً وجهراً وأدّى الأمانة على أكمل وجه طوال فترة البعثة.
3- أنّ الابتلاء سنّة من سنن الله في طريق الدعاة لا ينفك منها أحد من الرسل ومن سلك طريقهم، وأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد مر بذلك الابتلاء ونجح فيه بفضل الله ومنَّه.
4- أنّ الله -سبحانه وتعالى- قد أكمل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم الرسالة قبل أن يلتحق بالرفيق الأعلى وأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد طبقها في واقع الحياة طوال فترة البعثة ومن ثمّ فإنّ الدين الإسلامي غني عن الإضافات والزيادات والتغييرات مهما كان شكلها.
5- أنّ الزيادة في الدين يعتبر استدراكاً على الشارع وسوء أدب مع رسوله صلى الله عليه وسلم.
6- أنّ مكانة النبي صلى الله عليه وسلم عند الله عظيمة ومن ثم فقد أوجب الله على المسلمين أن يتأدّبوا معه صلى الله عليه وسلم حيّاً وميّتاً بأنواع من الآداب التي تليق بمكانته من توقير وتعظيم.
7- أنّ تأدّب المسلم مع الرسول صلى الله عليه وسلم يؤدي إلى الالتزام بضوابط الشريعة في كل ناحية من نواحي الحياة وبالتالي يفوز في الدارين.(1/229)
8- أنّ تأدّب المسلم مع الرسول صلى الله عليه وسلم يؤدي إلى استحضار سيرته والمنهج الذي رسمه طوال ثلاث وعشرين سنة وبالتالي يؤدي إلى القيام بالإسلام قولاً وعملاً، وتطبيقه تطبيقاً شاملاً لكليات الإسلام وجزئياته.
9- أنّ التأدّب مع الرسول صلى الله عليه وسلم يدخل تحته الدين كله، لأنّ التأدّب معه يؤدي بالضرورة إلى التأدّب مع شرعه والالتزام بما جاء به صلى الله عليه وسلم من وحي سواء كان قرآناً أو سنة.
10- أن التأدب معه صلى الله عليه وسلم وسط بين الغلو والتقصير وأنّ العاطفة والمحبة لا يصلحان أن يكونا مصدراً للتأدب معه دون الرجوع إلى الكتاب والسنة والالتزام بهما في هذا المجال.
11- أن كثيراً من الأمور التي تفعل حبّاً له صلى الله عليه وسلم مصدرها أدلّة واهية أو منامات أو استحسان بعض العلماء أو قياس مع الفارق أو تأويلات باطلة أو أغراض دنيوية بحتة.
12- أن ما عليه الأكثرية لا يؤدي بالضرورة إلى أنّه حق، بل إنّ الحق ما ثبت في القرآن أو في السنة أو فيهما معاً وليس للأكثرية وزن ما دامت لا تستند إلى أدلّة صحيحة.
13- أن كثيراً من البدع قد انتشرت وخاصة في مجال التأدّب مع الرسول صلى الله عليه وسلم بسبب سكوت أهل العلم عن إنكارها وبيان حقيقتها حتى انقلب الأمر رأساً على عقب وأصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين...
قائمة المصادر والمراجع
ثبت المصادر والمراجع غير القرآن الكريم على حروف المعجم.
(أ)
1- آثار المدينة - لعبد القدوس الأنصاري - الطبعة الثالثة (1393هـ-1973م)، المكتبة السلفية بالمدينة المنورة.
2- آداب المجتمع في الإسلام -لمحمد جمال الدين رفعت - الناشر: إدارة إحياء التراث الإسلامي بدولة قطر.
3- الإبداع في مضار الابتداع - للشيخ علي محفوظ - دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان.(1/230)
4- أحكام القرآن - للإمام أبي بكر محمد بن عبيد الله المعروف بابن العربي - بتحقيق علي محمد البجاوي - الطبعة الأولى 1376هـ - 1957 م. دار إحياء الكتب العربية.
5- أحكام القرآن - للإمام أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص - الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.
6- إصلاح المساجد من البدع والعوائد - لمحمد جمال الدين القاسمي - خرج أحاديثه وعلق عليه محمد ناصر الدين الألباني - الطبعة الخامسة 1403هـ - 1983 م، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان.
7 - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - لمحمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي - الطبعة الثانية (1400هـ-1979م).
8- الاعتصام - للإمام أبي إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد الشاطبي - دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع 1403هـ - 1982م. بيروت، لبنان.
9- الأعلام - لخير الدين بن محمود الزركلي - الطبعة الثالثة.
10- اقتضاء الصراط المستقيم - مخالفة أصحاب الجحيم- لشيخ الإسلام ابن تيمية. بتحقيق محمد حامد الفقي - الطبعة الثانية 1369هـ - 1950م مطبعة السنة المحمدية.
11- الآيات البينات في عدم سماع الأموات عند الحنفية السادات - للعلامة نعمان بن محمود الألوسي - بتحقيق وتعليق: محمد ناصر الدين الألباني - الطبعة الثالثة 1402 هـ المكتب الإسلامي.
12- الإيمان - لشيخ الإسلام ابن تيمية - بتصحيح وتعليق د. محمد خليل هراس - دار الطباعة المحمدية - مصر.
13- الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث - للحافظ ابن كثير مع شرح وتعليق أحمد محمد شاكر - الطبعة الثالثة - مكتبة ومطبعة علي صبيح وأولاده بالقاهرة.
(ب)
14- الباعث على إنكار البدع والحوادث - لأبي محمد عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المعروف بأبي شامة - دار الأصفهاني وشركاه بجدة.
15- البحر الرائق شرح كنز الدقائق - للعلامة زين الدين بن نجيم الحنفي - الطبعة الثانية، دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع.(1/231)
16- البداية والنهاية - لأبي الفداء إسماعيل بن كثير - الطبعة الثانية 1977 م، مكتبة المعارف، بيروت، لبنان.
17- البدعة تحديدها وموقف الإسلام منها - للدكتور عزت علي عيد عطية - دار الكتب الحديثة 1391هـ - 1971 م القاهرة.
18- بشائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز - لمحمد بن محمد بن يعقوب الفيروزأبادي - الناشر: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية لجنة إحياء التراث الإسلامي 1383 هـ القاهرة.
19- بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة - لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي - بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم - الطبعة الأولى 1384هـ - 1964 م مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه.
20- بهجة المحافل وبغية الأماثل: للإمام عماد الدين يحيى بن أبي بكر العامري - المكتبة العلمية بالمدينة المنورة.
(ت)
21- تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي - لحسن السندوني - مطبعة الاستقامة 1948 م.
22- التاريخ الصغير - لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري. بتحقيق محمود إبراهيم زايد - الطبعة الأولى 1397هـ - 1977م دار الوعي بحلب.
33- التاريخ الكبير - لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري - دار الكتب العلمية - بيروت لبنان.
34- تأملات في سورة الأحزاب - للدكتور حسن محمد باجودة - مطابع الصفا 1403 هـ مكة المكرمة.
25- تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي - للحافظ أبي العلى محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري، بمراجعة وتصحيح عبد الرحمن محمد عثمان - الطبعة الثالثة 1399هـ - 1979م دار الفكر للنشر والتوزيع.
36- الترغيب والترهيب - لزكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي المنذري. مكتبة الإرشاد.
27- التسهيل في علوم التنزيل - للإمام أبي القاسم محمد بن أحمد بن جزي الكلبي - بتحقيق محمد عبد المنعم اليونسي، وإبراهيم عطوة عوض - دار الكتب الحديثة.(1/232)
38- تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة - للحافظ أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني - الناشر: دار الكتب العربية - بيروت، لبنان.
29- التعريفات - للعلامة علي بن محمد الشريف الجرجاني - مكتبة لبنان 1969م لبنان.
30- تفسير البحر المحيط - لمحمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي. الطبعة الثانية 1403هـ - 1983 م دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
31- تفسير البغوي المسمى بمعالم التنزيل المطبوع بهامش تفسير الخازن. لأبي محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي - الطبعة الثانية 1375هـ - 1955م طبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
32- تفسير سورة النور - لأبي الأعلى المودودي - تعريب محمد عاصم الحداد، دار الفكر.
33- التفسير السياسي للسيرة - للدكتور محمد قلعت جي - دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع 1399هـ - 1979م، بيروت/حلب.
34- تفسير القرآن العظيم المعروف بتفسير ابن كثير - لأبي الفداء إسماعيل بن كثير - دار المعرفة، بيروت 1403هـ - 1983م.
35- تفسير الكبير - للإمام الفخر الرازي - الطبعة الثانية الناشر: دار الكتب العلمية، طهران.
36- تقريب التهذيب - للحافظ أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني - بتحقيق وتعليق عبد الوهاب عبد اللطيف - الطبعة الثانية 1395هـ - 1975م دار المعرفة للطباعة والنشر - بيروت - لبنان.
37- تهذيب الأسماء واللغات - للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي. المطبعة المنيرة.
38- تهذيب الفروق المطبوع بهامش الفروق - للشيخ محمد علي بن الشيخ الحسين - دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع.
39- تهذيب اللغة - لأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري - بتحقيق عبد السلام محمد هارون - ومراجعة محمد علي النجار - دار القومية العربية للطباعة 1383هـ - 1964م.
(ث)
40- الثقات - للإمام الحافظ محمد بن حبان البستي - الطبعة الأولى 1393هـ - 1973م - طبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد الدكن- الهند.
(ج)(1/233)
41- جامع بيان العلم وفضله- للإمام أبي عمر يوسف بن عبد البر النمري - دار الفكر - بيروت - لبنان.
42- جامع البيان في أحكام القرآن - المعروف بتفسير الطبري. تحقيق محمود محمد شاكر ومراجعة أحمد محمد شاكر - مطبعة المعارف بمصر.
43- جامع العلوم والحكم- لزين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن رجب الحنبلي - دار الفكر - بيروت - لبنان.
44- الجامع لأحكام القرآن المعروف بتفسير القرطبي - لأبي عبد الله محمد ابن أحمد الأنصاري القرطبي - الطبعة الثانية.
45- جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام - للإمام ابن قيم الجوزية - بتحقيق الشيخ طه يوسف شاهين.
(ح)
46- الهاوي للفتاوي - لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي. دار الكتب العلمية - بيروت 1402هـ - 1982م.
47- حجة النبي صلى الله عليه وسلم لمحمد ناصر الدين الألباني - الطبعة السابعة 1405 هـ - 1985م المكتب الإسلامي.
48- حسن التوسل في زيارة أفضل الرسل - لعبد الله بن أحمد الفاكهي. وهو بهامش كتاب إتحاف الأشراف للشبراوي - المطبعة الأدبية 1319هـ القاهرة.
(خ)
49- خصائص التصور الإسلامي- للشهيد سيد قطب - دار القرآن الكريم 1398هـ - 1978م.
بيروت - دمشق.
(د)
50- دراسة في السيرة - للدكتور عماد الدين خليل - الطبعة السادسة 1402هـ - 1982م - طبعة مؤسسة الرسالة - دار النفائس - بيروت - لبنان.
51- الدر المنثور في التفسير بالمأثور- لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي - الطبعة الأولى 1403هـ - 1983م دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان.
52- الدعوة الإسلامية أصولها ووسائلها - للدكتور أحمد أحمد غلوش. طبعة دار الكتاب المصري ودار الكتاب اللبناني.
53- دلائل النبوة: للحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني. طبعة عالم الكتب.
54- الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب - بتحقيق د. محمد الأحمدي أبو النور - دار التراث للطباعة والنشر - القاهرة.(1/234)
55- ديوان زهير بن أبي سلمى- بتحقيق وشرح كرم البستاني - دار صادر للطباعة والنشر، ودار بيروت للطباعة والنشر بيروت 1379هـ - 1960م.
56- الذريعة إلى مكارم الشريعة - للشيخ أبي القاسم الحسن بن محمد الراغب الأصفهاني - الطبعة الأولى 1393هـ - 1973م مكتبة الكليات الأزهرية - القاهرة.
57- ذكرى المولد النبوي- خلاصة السيرة النبوية وحقيقة الدعوة الإسلامية - لمحمد رشيد رضا - الطبعة الأولى 1335 هـ مطبعة المنار بمصر.
(ر)
58- رسالة المسترشدين- لأبي عبد الله الحارث بن راشد المحاسبي. تحقيق عبد الفتاح أبو غدة - الطبعة الثانية 1391هـ - 1971 م مكتب المطبوعات الإسلامية - بيروت - لبنان.
59- روح المعاني في تفسير القرآن العظيم- للعلامة أبي الفضل محمود الألوسي - دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان.
60- روضة العقلاء ونزهة الفضلاء - للحافظ محمد بن حبان البستي. بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، ومحمد عبد الرزاق حمزة، ومحمد حامد الفقي - دار الكتب العلمية 1397هـ - 1977م بيروت.
61- روضة المحبين ونزهة المشتاقين - لشمس الدين ابن قيم الجوزية. مكتبة الجامعة - القاهرة.
(ز)
62- زاد المسير في علم التفسير - للإمام أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي - الطبعة الأولى 1383هـ - 1964م المكتب الإسلامي للطباعة والنشر. بيروت - لبنان.
63- زاد المعاد في هدي خير العباد - للإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية - بتحقيق شعيب الأرناؤوط وأخيه عبد القادر - الطبعة الثانية 1401هـ - 1981م مؤسسة الرسالة، بيروت.
64- زيارة القبور الشركية والشرعية- للإمام الحجة محيي الدين محمد البركوي - مؤسسة النور للطباعة والتجليد - الرياض.
(س)
65- سلسلة الأحاديث الضعيفة- لمحمد ناصر الدين الألباني - الطبعة الرابعة 1398هـ المكتب الإسلامي بيروت - دمشق.(1/235)
66- سنن ابن ماجة- للحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني. بتحقيق وتعليق محمد فؤاد عبد الباقي - دار إحياء الكتب العربية 1377هـ - 1953م.
67- سنن أبي داود - للإمام الحافظ أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني - بمراجعة وتعليق محمد محيي الدين عبد الحميد - الناشر: دار إحياء السنة النبوية.
68- سنن الترمذي -للإمام أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي. تحقيق وتصحيح عبد الوهاب عبد اللطيف - الطبعة الثانية 1403هـ - 1983م دار الفكر - بيروت.
69- سنن الدارقطني - للحافظ علي بن عمر الدارقطني. وبذيله التعليق المغني على الدارقطني لأبي الطيب محمد شمس الحق أبادي - شركة الطباعة الفنية المتحدة.
70- سنن الدارمي - للإمام أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي. دار الفكر 1398هـ - 1978م القاهرة.
71- السنن الكبرى- للحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي. وبذيله الجوهر النقي لعلاء الدين المعروف بابن التركماني.
72- سنن النسائي- للإمام الحافظ أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي - مع شرح السيوطي وحاشية السندي - الطبعة الأولى 1348هـ - 1930م المطبعة المصرية بالأزهر.
73- سيرة ابن هشام- لأبي محمد عبد الملك بن هشام المعافري. بتحقيق طه عبد الرؤوف سعد - مطبعة شركة الطباعة الفنية المتحدة - القاهرة.
74- سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم للدكتور محمد عزت دروزة - الطبعة الثانية 1384هـ - 1965م - مطبعة عيسى الحلبي.
75- السيرة النبوية- للإمام أبي الفداء إسماعيل بن كثير - بتحقيق مصطفى عبد الواحد - الطبعة الثانية 1398هـ - 1978م دار الفكر - بيروت - لبنان.
(ش)
76- شرح أدب الكاتب- لأبي منصور موهوب بن أحمد الجواليقي. مكتبة القدس 1350هـ القاهرة.
77- الشفا بتعريف حقوق المصطفى- للقاضي عياض بن موسى بن عياض اليحصبي - بتحقيق علي محمد البجاوي - دار الكتب العربي بيروت 1404هـ - 1984م.(1/236)
78- شفاء السقام- للشيخ علي بن عبد الكافي تقي الدين السبكي. مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد الدكن الهند 1371هـ - 1952م.
(ص)
79- الصارم المسلول على شاتم الرسول - لشيخ الإسلام ابن تيمية. بتحقيق وتعليق محمد محيي الدين عبد الحميد دار الفكر.
80- صبح الأعشى في صناعة الإنشا - لأبي العباس أحمد بن علي القلقشندي - مطابع كوستاسوماس وشركاه.
81- الصحاح- تاج اللغة وصحاح العربية- لإسماعيل بن حماد الجوهري - بتحقيق أحمد عبد الغفور عطار - الطبعة الثانية 1399هـ - 1979م دار العلم للملايين- بيروت.
82- صحيح البخاري- للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري. ومعه حاشية السندي - دار المعرفة للنشر والتوزيع- بيروت- لبنان.
83- صحيح مسلم- للإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري - بتصحيح وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي - دار إحياء التراث العربي بيروت - لبنان.
84- صحيح مسلم بشرح النووي- للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي - دار الفكر للنشر والتوزيع 1401هـ - 1981م.
85- صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لمحمد ناصر الدين الألباني - الطبعة الحادية عشر 1403هـ - 1981م - المكتب الإسلامي -بيروت- لبنان.
86- صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان- للعلامة محمد بشير السهسواني - الطبعة الثانية 1378هـ المطبعة السلفية ومكتبتها- مصر.
(ض)
87- الضعفاء الصغير- للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري. بتحقيق محمود بن إبراهيم زايد - الطبعة الأولى 1396 هـ دار الوعي بحلب.
88- الضعفاء والمتروكون- للحافظ أبي الحسن علي بن عمر الدارقطني. بتحقيق ودراسة موفق بن عبد الله بن عبد القادر - الطبعة الأولى 1404هـ - 1984م مكتبة المعارف- الرياض.
89- الضعفاء والمتروكون- للإمام الحافظ أبي عبد الرحمن بن أحمد بن شعيب النسائي - بتحقيق محمود إبراهيم زايد - دار الوعي - حلب.
(ط)(1/237)
90- طبقات المفسرين- للحافظ شمس الدين محمد بن علي أحمد الداودي - بتحقيق علي محمد عمر - الطبعة الأولى 1392هـ - 1972م مطبعة الاستقلال الكبرى.
91- ظهور دولة الفاطميين وسقوطهما في مصر- للدكتور عبد المنعم ماجد - الطبعة الثانية 1976م دار المعارف بمصر.
(ع)
92- عرف التعريف بالمولد الشريف- لشمس الدين محمد بن محمد المعروف بابن الجزري - مخطوط بمكتبة الحرم الشريف ضمن مجاميع 6/473 سيرة نبوية وصورة منه في مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى.
93- العقائد الإسلامية- دار الكتب الحديثة 1387هـ - 1987م القاهرة.
94- العقيدة والأخلاق وأثرها في حياة الفرد والمجتمع - للدكتور محمد بيصار - الطبعة الرابعة 1973م - دار الكتاب اللبناني بيروت.
95- عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير- اختيار وتحقيق أحمد محمد شاكر - دار المعارف بمصر 1377هـ - 1957م.
96- عين الأدب والسياسة وزين الحسب والرياسة- لأبي الحسن علي بن محمد بن عبد الرحمن بن هذيل - الطبعة الثانية 1353هـ - 1938م مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
(غ)
97- غرائب القرآن ورغائب الفرقان- لنظام الدين الحسن بن محمد بن الحسين النيسابوري - بتحقيق إبراهيم عطوة عوض - الطبعة الأولى 1381هـ - 1962م شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر.
98- غريب الحديث- لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي - بتعليق الدكتور عبد المعطي أمين قلعجي - دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان.
(ف)
99- الفائق في غريب الحديث- لجار الله محمود بن عمر الزمخشري. بتحقيق علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم - الطبعة الثانية طبعة عيسى البابي الحلبي.
100- فتح الباري شرح صحيح البخاري- للحافظ أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني - بتحقيق وتصحيح الشيخ عبد العزيز بن باز - دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.(1/238)
101- الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد - لأحمد عبد الرحمن البنا الشهير بالساعاتي - الطبعة الأولى - طبعة الإخوان المسلمون - القاهرة.
102- فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير- لمحمد بن علي بن محمد الشوكاني - الطبعة الثانية- 1383هـ - 1964م شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي.
103- الفروق في اللغة- لأبي هلال العسكري - الطبعة الأولى 1393هـ - 1973م منشورات دار الآفاق الجديدة بيروت- لبنان.
104- فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم للإمام إسماعيل بن إسحاق القاضي - بتحقيق محمد ناصر الدين الألباني - الطبعة الثالثة 1397هـ - 1977م المكتب الإسلامي- بيروت.
105- فقه السيرة- للشيخ محمد الغزالي - خرج أحاديثه محمد ناصر الدين الألباني. طبع على نفقة أمير قطر.
106- الفوائد- لشمس الدين ابن قيم الجوزية - الطبعة الثانية 1393هـ - 1973م، دار الكتب العلمية بيروت - لبنان.
107- في ظلال القرآن- للشهيد سيد قطب - الطبعة الشرعية التاسعة 1400هـ- 1980م - دار الشروق - بيروت.
108- في منزل الوحي - لمحمد حسن هيكل - الطبعة الخامسة- دار المعارف بمصر.
(ق)
109- قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة- لشيخ الإسلام ابن تيمية. المطبعة السلفية ومكتبتها 1374هـ - القاهرة.
110- القاعدة المراكشية- لشيخ الإسلام ابن تيمية - بتحقيق د. ناصر بن سعيد الرشيد والأستاذ رضا نعسان معطي - الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع- الرياض.
111- القاموس المحيط - لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزأبادي. المؤسسة العربية للطباعة والنشر - بيروت - لبنان.
112- قواعد الأحكام في مصالح الأنام - للإمام أبي محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمي - مكتبة الكليات الأزهرية 1388هـ - 1968م القاهرة.
113- القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع - للحافظ محمد بن عبد الرحمن السخاوي - الطبعة الثانية 1383هـ - 1963م مطبعة الأنصار بيروت.
(ك)(1/239)
114- الكامل في ضعفاء الرجال- للحافظ أبي أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني - الطبعة الأولى 1404 هـ - 1984م - دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان.
115- الكشاف في حقائق التنزيل وعيون الأقاويل- لجار الله محمود بن عمر الزمخشري. مع كتاب الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال. للإمام ناصر الدين أحمد بن محمد بن المنير الإسكندري - دار الفكر - بيروت - لبنان.
(ل)
116- لحظ الألحاظ بذيل طبقات الحفاظ- الحافظ تقي الدين محمد بن فهد المكي - مطبعة التوفيق 1347هـ. دمشق.
117- لسان العرب- لابن منظور محمد بن مكرم الأنصاري - دار صادر ودار بيروت 1375هـ - 1956م.
118- لسان الميزان- الحافظ أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني - الطبعة الثانية 1390هـ - 1971م - منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات.
(م)
119- ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين- لأبي الحسن علي الندوي. الطبعة السادسة 1965م - 1385هـ - دار الكتاب العربي - بيروت.
120- المجروحون عن المحدثين والضعفاء والمتروكين- للأمام محمد بن حبان البستي. بتحقيق محمود إبراهيم زايد - الطبعة الأولى 1396هـ - دار الوعى بحلب.
121- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد- الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي - الطبعة الثانية 1967م دار الكتب العربية- بيروت.
122- المجموع شرح المهذب- للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي. مطبعة الإمام بالقلعة- مصر.
123- مجموع فتاوي- شيخ الإسلام ابن تيمية - مكتبة المعارف - الرباط - المغرب.
124- مجموعة الرسائل الكبرى- لشيخ الإسلام ابن تيمية. مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح وأولاده - مصر.
125- المحلى- لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري. بتحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر - منشورات المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان.(1/240)
126- مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين- للإمام شمس الدين ابن قيم الجوزية - بتحقيق محمد حامد الفقي - دار الكتاب العربي 1392هـ - 1972م بيروت - لبنان.
127- المدخل إلى تنمية الأعمال بتحسين النيات- لأبي عبد الله محمد ابن محمد العبدري المعروف بابن الحاج - مكتبة مصطفى الحلبي 1380هـ مصر.
128- مرآة الزمان في تاريخ الأعيان- ليوسف بن عزاوغلي المعروف بسبط ابن الجوزي - مطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد الدكن- الهند.
129- المستدرك على الصحيحين- الحافظ أبي عبد الله محمد بن عبد الله المعروف بالحاكم النيسابوري. مع ذيله تلخيص المستدرك للذهبي - دار الفكر- بيروت 1398هـ - 1978م.
130- المسند- للإمام أحمد بن حنبل- وبهامشه منتخب من كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال للمتقي الهندي.
131- مسند الإمام أحمد مع شرح الشيخ أحمد محمد شاكر - دار المعارف بمصر 1369هـ - 1950م.
132- مشكاة المصابيح- الشيخ ولي الله محمد بن الخطيب العمري التبريزي- بتحقيق محمد ناصر الدين الألباني - الطبعة الأولى 1380هـ - 1961م منشورات المكتب الإسلامي للطباعة والنشر.
133- مشكل الآثار- للإمام أبي جعفر أحمد بن محمد الطحاوي - دار صادر - بيروت - لبنان.
134- المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي- لأحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي. بتصحيح مصطفى السقا - مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
135- معجم متن اللغة- الشيخ أحمد رضا - دار مكتبة الحياة 1377هـ - 1958م بيروت - لبنان.
137- المعز لدين الله- الدكتورين/حسن إبراهيم حسن، وطه أحمد شرف - الطبعة الثانية 1963م مكتبة النهضة المصرية - القاهرة.
138- المغني في الضعفاء- الحافظ شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي - بتحقيق وتعليق د. نور الدين عتر - الطبعة الأولى 1391هـ - 1971م الناشر: دار المعارف بحلب.(1/241)
139- مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم - لأحمد بن مصطفى طاش كبرى زادة - الطبعة الثانية 1400هـ - 1980م مطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدرأباد الدكن- الهند.
140- مفردات في غريب القرآن- الشيخ أبي القاسم الحسين بن محمد الراغب الأصفهاني - بتحقيق محمد سعيد الكيلاني - الطبعة الأخيرة 1381هـ - 1961م شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
141- المنهاج في شعب الإيمان- لأبي عبد الله الحسين بن الحسن الحليمي - بتحقيق حلمي محمد فودة - الطبعة الأولى 1399هـ - 1979م دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت.
142- المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار- لتقي الدين أحمد بن علي المقريزي - مؤسسة الحلبي وشركاه للتوزيع والنشر - القاهرة.
143- مورد الصادي في مولد الهادي - لشمس الدين محمد بن أبي بكر الشهير بابن ناصر الدين الدمشقي - مخطوط بمكتبة الحرم الشريف ضمن مجاميع 1/273 - وصورة منه في مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى.
144- الموسوعة في سماحة الإسلام- لمحمد صادق عرجون - الناشر: مؤسسة سجل العرب. القاهرة 1392هـ - 1972م.
145- الموضوعات- للإمام أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي. بتحقيق وتقديم عبد الرحمن محمد عثمان - الطبعة الأولى 1386هـ - 1966م المكتبة السلفية بالمدينة المنورة.
146- الموطأ- للإمام مالك بن أنس - بتصحيح وتعليق محمد فؤاد عبد الباقي - دار إحياء الكتب العربية 9370هـ - 1951م.
147- ميزن الاعتدال- للإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي - بتحقيق علي محمد البجاوي - الطبعة الأولى 1382هـ - 1963م دار إحياء الكتب العربية.
(ن)
148- نسيم الرياض في شرح الشفا للقاضي عياض- العلامة أحمد شهاب الدين الخفاجي- وبهامشه شرح الشفا لعلي القاري - دار الفكر.(1/242)
149- النهاية في غريب الحديث والأثر- للإمام مجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد بن الجزري المعروف بابن الأثير - بتحقيق طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمد الطناحي - دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
(و)
150- وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان- لأبي العباس أحمد بن محمد ابن أبي بكر بن خلكان - بتحقيق د. إحسان عباس - دار صادر - بيروت - لبنان.
الفهرس العام
- شكر وتقدير: ... 1
- المقدّمة: ... 2
- التمهيد: ... 10
1- بيان المراد بالتأدّب مع الرسول صلى الله عليه وسلم: ... 10
أ- الأدب في اللغة: ... 10
ب- الأدب في اصطلاح الشرع: ... 12
2- ضرورة الالتزام في التأدب بما جاء في القرآن والسنة: ... 13
الباب الأول: أسباب قيام الأمة بالأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم: ... 17
الفصل الأول: نسبه صلى الله عليه وسلم ونشأته وصفاته ... 18
المبحث الأول: عراقة أصله: ... 20
المبحث الثاني: نشأته وتربيته: ... 24
المبحث الثالث: سمو صفاته صلى الله عليه وسلم وأخلاقه: ... 28
الفصل الثاني: عمله صلى الله عليه وسلم في نشر الدعوة وحرصه على هداية الناس ... 34
المبحث الأول: تحمل مشاق نشر الدعوة: ... 36
المبحث الثاني: الصبر على الأذى في سبيل الدعوة: ... 45
المبحث الثالث: تكميل الدين وإتمام النعمة: ... 51
الباب الثاني: أنواع الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم: ... 57
الفصل الأول: الأدب القلبي ... 57
المبحث الأول: الإيمان بنبوته صلى الله عليه وسلم: ... 59
المبحث الثاني: محبته صلى الله عليه وسلم ... 68
الفصل الثاني: الأدب القولي ... 75
المبحث الأول: مخاطبته صلى الله عليه وسلم: ... 78
المبحث الثاني: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: ... 88
الفصل الثالث: الأدب العملي ... 102
المبحث الأول: الطاعة والاتباع: ... 102
المبحث الثاني: في مجالسته صلى الله عليه وسلم: ... 114(1/243)
الباب الثالث: البدع الملحقة بالأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم: ... 122
الفصل الأول: تعريف البدعة لغة واصطلاحاً ... 123
الفصل الثاني: البدع الملحقة بمولده صلى الله عليه وسلم ... 133
المبحث الأول: تحديد وقت الاحتفال بالمولد ونشأته: ... 134
المبحث الثاني: حكم الاحتفال بالمولد النبوي: ... 138
الفصل الثالث: البدع الملحقة بمسجده صلى الله عليه وسلم ... 147
المبحث الأول: فضائل المسجد النبوي: ... 148
المبحث الثاني: ما يفعله الجهال من البدع في مسجده صلى الله عليه وسلم: ... 153
الفصل الرابع: البدع الملحقة بزيارة قبره صلى الله عليه وسلم ... 157
المبحث الأول: الزيارة أنواعها وأغراضها: ... 158
المبحث الثاني: حكم السفر إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم: ... 164
الخاتمة: ... 173
قائمة المصادر والمراجع: ... 176
الفهرس العام ... 190(1/244)