البيان لأخطاء بعض الكتاب
(مجموعة ردود ومناقشات في مواضيع مختلفة )
بقلم
صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان
عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
وبعد :
فهذه مجموعة من الردود والمناقشات سبق لي نشرها في الجرائد والمجلات المحلية وغير المحلية، رأيت أن أجمعها في هذا الكتاب؛ طمعا في بقاء فائدتها .
وأسأل الله عز وجل أن يثيبني على ما فيها من صواب، ويغفر لي ما كان فيها من خطأ؛ إنه سميع مجيب .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
المؤلف(1/1)
( 1 )
حول التعليم والمناهج
فضل تعلم العلم وتعليمه والرد على بعض الأفكار المنحرفة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين .
وبعد :
فإن أحق ما تصرف فيه الأوقات، ويتنافس في نيله ذوو العقول : تعلم العلم النافع، الذي به تحيا القلوب، وتستقيم الأعمال، وتزكو به الخلال .
ولقد أثنى الله جل ذكره وتقدست أسماؤه على العلماء العاملين، ورفع من شأنهم في آيات كثيرة من كتابه الكريم، من ذلك قوله سبحانه : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } .
فنفى سبحانه التسوية بين أهل العلم وبين غيرهم، وذلك يقتضي تفضيلهم على من سواهم .
وقال تعالى : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .
فأخبر سبحانه عن رفعة درجات أهل العلم والإيمان خاصة .
وأمر سبحانه نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يسأله الزيادة من العلم بقوله : { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي علمًا } .
قال الحافظ ابن حجر :
" وهذا واضح الدلالة في فضل العلم؛ لأن الله لم يأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بطلب الازدياد من شيء إلا من العلم " ا . هـ .
ومما يدل على فضل تعلم العلم النافع حديث أبي الدرداء رضي الله عنه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سلك الله له به طريقًا إلى الجنة ) .
الحديث رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه .
وقد سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - مجالس العلم وحلقات الذكر : رياض الجنة، وأخبر أن العلماء هم ورثة الأنبياء . . .
ولو ذهبنا نتتبع ما جاء في فضل العلم من الآيات والأحاديث وأقوال الأئمة، لطال بنا المقال، فنكتفي من ذلك بما تحصل به الإشارة .
أنواع العلوم وحكم تعلمها :
العلم قسمان : علم نافع، وعلم ضار .
والنافع ينقسم إلى قسمين :
ما نفعه يتعدى ويستمر في الدنيا والآخرة، وهو العلم الديني الشرعي .
وما نفعه جزئي وقاصر على الحياة الدنيا، كتعلم الصناعات، وهو العلم الدنيوي .
والعلم الشرعي قسمان : علم التوحيد الذي هو الأصل، وعلم الفروع الذي هو الفقه وما يتعلق به .
وأما العلم الضار، فكعلم السحر، وعلم التنجيم الذي هو علم التأثير .
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية عن يحيى بن عمار أنه قال :
" العلوم خمسة : علم هو حياة الدين وهو علم التوحيد، وعلم هو غذاء الدين وهو علم التذكر بمعاني القرآن والحديث، وعلم هو دواء الدين وهو علم الفتوى إذا نزل بالعبد نازلة احتاج إلى من يشفيه منها، كما قال ابن مسعود، وعلم هو داء الدين وهو الكلام المحدث، وعلم هو هلاك الدين وهو علم السحر ونحوه " .
حكم تعلم هذه العلوم :
1 - تعلم العلم الشرعي ينقسم إلى قسمين : ما هو فرض عين، وما هو فرض كفاية .(1/2)
فالذي تعلمه فرض عين هو ما لا يسع أحدا جهله، مما لا يستقيم دين الإنسان بدونه، وذلك كعلم التوحيد الذي يتضمن معرفة حق الله على عباده، من عبادته وحده لا شريك له، وما يجب إثباته له من الأسماء والصفات، وما يجب تنزيهه عنه من النقائص والعيوب . وكذا تعلم أحكام العبادات مما لا تصح العبادة بدونه، من الصلاة، وزكاة، وصيام، وحج .
والذي تعلمه فرض كفاية هو ما زاد عن ذلك، من أحكام المعاملات، والمواريث، والأنكحة، والجنايات . . . وما إلى ذلك، فهذا القسم إذا قام به من يكفي، سقط الإثم عن الباقين، ويبقى تعلمه في حقهم من أفضل أنواع التطوع .
ويلتحق بالعلم الديني ما يستعان به عليه، كعلم النحو، واللغة، والتاريخ، والحساب .
2 - وأما تعلم العلم الدنيوي، كتعلم الصناعة، فهذا يشرع إن كان بالمسلمين حاجة إليه، وإن لم يكن هناك حاجة، فهو مباح، بشرط أن لا يزاحم العلوم الشرعية، وأن لا يكون من تعلم الصناعات المحرمة، كصناعة آلات اللهو، وآلات التصوير المحرم، وعلم الموسيقى .
3 - وأما العلم الضار، فيحرم تعلمه، بل قد يكون كفرا، كتعلم السحر، قال تعالى : { وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } الآية .
العلم والعمل :
العلم النافع والعمل الصالح قرينان لا يصلح أحدهما بدون الآخر، قال تعالى : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ } .
فالهدى : هو العلم النافع . ودين الحق : هو العمل الصالح . والناس بالنسبة لهما أقسام :
القسم الأول : الذين جمعوا بين العلم النافع والعمل الصالح، وهؤلاء قد هداهم الله صراط المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا .
القسم الثاني : الذين تعلموا العلم النافع، ولم يعملوا به، معهم علم بدون عمل، وهؤلاء على طريقة المغضوب عليهم .
القسم الثالث : الذين يعملون بلا علم، وهؤلاء أهل الضلال، وهم النصارى .(1/3)
فالحاصل أن الأقسام ثلاثة : أهل العلم والعمل، أهل علم بلا عمل، أهل عمل بلا علم .
ويشمل الأقسام الثلاثة قوله تعالى : { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ } . . . إلى قوله : { وَلاَ الضَّالِّينَ } من سورة الفاتحة .
ذقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - :
" وأما قوله : { غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } ، فالمغضوب عليهم : هم العلماء الذين لم يعملوا بعلمهم، والضالون : العاملون بلا علم . فالأول صفة اليهود، والثاني صفة النصارى .
وكثير من الناس إذا رأى في التفسير أن اليهود مغضوب عليهم، وأن النصارى ضالون، ظن الجاهل أن ذلك مخصوص بهم، وهو يقرأ أن ربه فارض عليه أن يدعو بهذا الدعاء، ويتعوذ من طريق أهل هذه الصفات .
فيا سبحان الله ! كيف يعلمه ويختار له ويفرض عليه أن يدعو ربه دائما مع أنه لا حذر عليه منه، ولا يتصور أن فعله هذا هو ظن السوء بالله " ا . هـ .
من أين يستمد العلم النافع :
يستمد العلم النافع من الكتاب والسنة، تفهما وتدبرا، مع الاستعانة على ذلك بكتب التوحيد والتفسير وشروح الحديث وكتب الفقه وكتب النحو واللغة، فإن قراءة هذه الكتب طريق لفهم الكتاب والسنة .(1/4)
ولكن ينبغي التنبه لدسيسة خبيثة راجت عند كثيرين من الشباب على أيدي بعض المغرضين الذين يتسمون بالموجهين وبالمفكرين، صرفوا بها أكثر الشباب عن الكتب النافعة، وتلك الدسيسة هي قولهم مثلا عن كتب التوحيد التي تتضمن بيان مذهب السلف الصالح وأتباعهم في أسماء الله وصفاته، والرد على المعطلة من جهمية ومعتزلة وأفراخهم، والتي تتضمن بيان توحيد العبادة، وما يناقضه أو ينقصه من الشرك، يقولون : إن هذه كتب قديمة ترد على قوم قد هلكوا، وتناقش شبها قد انقرضت، فينبغي أن نتركها ونشتغل برد المذاهب المنحرفة الجديدة، كالشيوعية، والبعثية . . . وما إليها . ويقولون عن كتب الفقه مثلا : إنها كتب معقدة، وفيها افتراضات بعيدة الوقوع، نتركها ونستنبط من الكتاب والسنة حلولا لمشاكلنا . . . إلى آخر ما يقولون .
والجواب عن ذلك من وجوه :
1 - أننا إذا تركنا هذه الكتب، ما استطعنا الرد على تلك المذاهب الجديدة، لأن هذه الكتب تعلمنا طريقة الرد، وكيفية الاستدلال، فإذا تركناها، كنا بمنزلة من يلقي سلاحه ويلقى عدوه بلا سلاح، فماذا تكون نتيجته إذن ؟ ! إنها الهزيمة والقتل أو الأسر .
2 - إن الطوائف التي ترد عليها كتب التوحيد لم تنقرض، بل لها أتباع موجودون يعتنقون ما كانت عليه، من تعطيل الأسماء والصفات، وتأويلها، والإشراك في العبادة، يتكلمون بذلك وينشرونه في مؤلفاتهم وتعليقاتهم على الكتب المطبوعة، فكيف يقال : إن هذه الطوائف انقرضت ؟ !
3 - وعلى فرض أن هذه الطوائف الضالة انقرضت، ولم يبق لها أتباع، فالشبه والتأويلات التي ضلت بسببها موجودة في الكتب الموروثة عنها، والتي يخشى من وقوعها في أيدي من لا يعرف حقيقتها، فيضل بسببها، أو تقع بأيدي مضللين يضلون بها الناس، فلا بد من دراسة ما يضادها ويبين بطلانها من كتب أهل السنة والجماعة .(1/5)
4 - أن المذاهب المنحرفة الجديدة في الغالب منحدرة من مذاهب منحرفة قديمة، قد رد عليها العلماء السابقون في كتبهم، فإذا عرفنا بطلان القديم، عرفنا بطلان ما انحدر عنه .
5 - على فرض أن هذه المذاهب الجديدة ليس لها أصل في القديم، فلا منافاة بين رد الباطل القديم ورد الباطل الجديد، لئلا يغتر بهما، فالباطل يجب رده حيث كان، قديمه وحديثه، والله تعالى ذكر في القرآن ما كان عليه الكفرة السابقون، وما كان عليه الكفرة المتأخرون، ورد على الجميع .
6 - وأما قولهم عن كتب الفقه : " إنها معقدة الأسلوب، وفيها افتراضات غريبة " ، فهذا إن صح إنما يصدق على بعض المتون لأجل الاختصار، وهي قد بسطت في شروحها ووضحت، فزال التعقيد .
وأما الافتراضات، فهي حلول لمشاكل يتصور وقوعها، فهي رصيد ثمين للأمة، مستنبط من الكتاب والسنة، لا يستهان به .
فكتب أسلافنا هي ذخيرتنا التي يجب أن نحافظ عليها، وأن نستفيد منها، ولا ننخدع بدسائس الأعداء المغرضين الذين ساءهم ما في هذه الكتب من بيان الحق ورد الباطل الذي ورثوه عن أسلافهم من جهمية ومعتزلة، فراحوا يثيرون الشبه حولها، ويزهدون فيها، { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ } .
ولكن، لا يزال - ولله الحمد - من أهل الحق بقية لا تنطلي عليهم هذه الدعايات الزائفة ضد تراثهم المجيد .
وقد قيض الله لهذه البلاد - ولله الحمد - جامعات إسلامية تقوم على دراسة التراث الإسلامي وإحياؤه ونشره - متمثلا ذلك في مناهجها الدراسية -، وتحقيق الكتب السلفية، وطبعها، وتوزيعها، كجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، والجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وجامعة أم القري، وكذا ما تقوم به الجامعات الأخرى في المملكة وغيرها من جهد مشكور في هذا السبيل .
نسأل الله أن يعين القائمين عليها ويثيبهم .(1/6)
وختاما، أوصي إخواني المعلمين والمتعلمين بتقوى الله سبحانه، فالله يقول : { وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ } ، و { كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ } ، وأن يخلصوا النية لله في تعلمهم وتعليمهم .
والله أسأل أن يوفق الجميع للعلم النافع والعمل الصالح .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
طريق الوصول إلى العلم النافع
الحمد لله الذي جعل العلماء ورثة الأنبياء يخلفونهم في تعليم العلم النافع نقيا من تحريف الجاهلين وانتحال المبطلين . وصلى الله وسلم على نبينا محمد والله وصحبه أجمعين . . وبعد . .(1/7)
فإن الله سبحانه وتعالى عظم من شأن العلماء العاملين . فقال سبحانه : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } وقال تعالى : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( وإن العالم ليستغفر له من في السماوات والأرض حتى الحيتان في الماء وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليله البدر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثه الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا وإنما ورثوا العلم فمن أخذة أخذ بحظ وافر ) والنصوص في هذا المعنى كثيرة مشهورة وفيها الحث على تعلم العلم وتعليمه لأنه لا يصلح أمر الدنيا والآخرة إلا به . ولهذا أمر الله سبحانه بتعلم العلم قبل القول والعمل قال تعالى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } فلا يحل لأحد أن يقول في مسائل الدين وأحكام الحلال والحرام بدون علم لأن ذلك قول على الله سبحانه بلا علم وقد حرم الله ذلك أشد التحريم بل جعله قرينًا للشرك . قال تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } فيلزم الجاهل أن يتعلم من العالم .
وتعلم العلم على نوعين :
النوع الأول : فرض على الأعيان لا يعذر أحد بتركه وهو تعلم ما يستقيم به دينه وتصلح به عقيدته وصلاته وزكاته وصيامه وحجه وعمرته فتعلم هذه الأمور واجب على كل شخص بعينه .
النوع الثاني : ما زاد عما ذكر كأحكام المعاملات والمواريث والأنكحه والقضاء فهذا تعلمه واجب على الكفاية إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين وإن تركه الكل أثموا .(1/8)
وتعلم العلم بنوعيه العيني والكفائي إنما يتلقى عن العلماء الثقاة الذين حملوه بأمانة، قال - صلى الله عليه وسلم - ( يحمل هذا العلم في كل خلف عُدُولُه ) وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( العلماء ورثة الأنبياء ) فكما أن العلم يتلقى عن الأنبياء حال وجودهم في الناس فكذلك يتلقى عن خلفائهم وورثتهم بعد موتهم وهم العلماء ولا تخلو الأرض – ولله الحمد - في كل وقت من قائم منهم لله بحجه .
فيجب على المسلمين أن يتلقوا العلم عنهم ويعملوا بتوجيهاتهم – لكننا في هذه السنوات الأخيرة مع الأسف الشديد – نرى كثيرًا ممن يرغبون في العلم خصوصًا الشباب قد عدلوا في هذه الطريقة فعدلوا عن تلقي العلم عن العلماء الثقات إلى تلقي العلم إما عن أناس جهال لا يعرفون مدارك الأحكام ومناط الحلال والحرام وإما عن أناس غير معروفين بالثقة والأصالة في العقيدة الصحيحة . ولا شك أن هذا الصنيع سيئول بهم إلى ما لا تحمد عقباه قال بعض السلف " إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم " وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : " لا يزال الناس بخير ما أتاهم العلم من علمائهم وكبرائهم وذوي أسنانهم فإذا أتاهم العلم عن صغارهم وسفهائهم فقد هلكوا " .
فيا شباب المسلمين ويا طلبة العلم اتصلوا بعلمائكم وارتبطوا بهم وتلقوا العلم عنهم ارتبطوا بالعلماء الثقات المعروفين بسلامة المعتقد وسلامة الاتجاه لتأخذوا عنهم العلم وتصلوا السلسلة بنبيكم - صلى الله عليه وسلم - كما كان أسلافكم على ذلك فما زال المسلمون يتلقون هذا العلم عن نبيهم بواسطة علمائهم جيلًا بعد جيل .(1/9)
هؤلاء الذين تحدثنا عنهم صنف وهناك صنف آخر من المتعلمين يتلقى العلم عن الكتب ولا يتصل بالعلماء زاعمًا أنه يستغني بتلك الكتب عن العلماء وهذا خطأ عظيم ويترتب عليه خطر كبير لأن الكتب ما عدا كتاب الله وسنة رسوله فيها الغث والسمين وفيها الخطأ والصواب بل في بعضها الدس والكذب على الإسلام وزرع الشبهات . والمتعلم المبتدئ لا يميز بين ما فيها من النافع والضار بل ربما يكون الضار أعلق بذهنه فلا بد له من معلم بصير يفحص له الكتب ويضع يده على ما فيها من نافع وضار وخطأ وصواب .
ومن ثم كان طلبة العلم قديمًا يسافرون إلى الأقطار النائية ليلتقوا بالعلماء ويتلقوا عنهم العلم النافع ولم يكتفوا بمطالعة الكتب فهذا الإمام أحمد سافر الأسفار الطويلة لرواية الحديث وهذا الإمام محمد بن عبد الوهاب سافر من نجد إلى الحجاز وإلى الأحساء وإلى البصرة للأخذ عن العلماء وهذا وهذا وأخبارهم في ذلك طويلة فلو كانت الكتب تكفي كان بإمكانهم الحصول على نسخ منها ولم يتكلفوا عناء الأسفار في وقت لم تكن سيارة ولا طائرة .
وخلاصه القول : أن الكتب إنما هي أداة فقط لا تغني عن المعلم .
وهناك صنف من متعلمي زماننا ظهر أخيرًا يقول للمبتدئين : لا ترجعوا إلى الكتب ولا تراجعوا العلماء بل اقرءوا القرآن والأحاديث واستنبطوا الأحكام من نصوصهما . يقولون هذا وأغلبهم قد لا يحسن قراءة الآية من القرآن على الوجه الصحيح فضلًا عن معرفة معناها .
هذا الصنف أخطر من الذي قبله لأنه لا يعرف قواعد الاستدلال ومعلوم أن النصوص فيها المحكم وفيها المتشابه وفيها المجمل والمبين وفيها الخاص والعام وفيها المطلق والمقيد والأحاديث فيها الصحيح والحسن والضعيف والموضوع، وعلاوة على ذلك فإن هناك أدلة غير هذين الأصلين فهناك الإجماع والقياس وهناك الأدلة المختلف فيها عند الأصوليين .(1/10)
وهذه المدارك لاستنباط الأحكام لا يعرفها إلا الراسخون في العلم لا كل العلماء فكيف بهؤلاء المبتدئين يسطون على النصوص ويهجمون على الأحكام من غير بصيرة إنه يجب الأخذ على أيديهم لئلا يهلكوا أنفسهم ويهلكوا غيرهم وليس لهم من حجه يبررون بها صنيعهم هذا إلا الفرار من التقليد ولا بد لمثلهم من التقليد لأن الذي يجب عليه الفرار من التقليد هو العالم المتمكن من الاستنباط والاجتهاد وهو من توفرت فيه معرفه الأمور التي سبق شرحها أما من لم يكن كذلك ففرضه التقليد قال تعالى { فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } فاتقوا الله يا معشر المتعلمين واتقوا الله يا علماء المسلمين فخذوا بأيدي هؤلاء إلى جادة الصواب ووجهوهم الوجهة الصالحة وامنحوهم من وقتكم ومن علمكم ما يبرئ علتهم ويروي غلتهم ليسعد بهم مجتمعهم وتصلح بهم أمتهم . وفق الله الجميع للعلم النافع والعمل الصالح وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين . . .
قضيه المناهج الدينية في جامعه الإمام محمد بن سعود الإسلامية
أ_ اثارت " مجلة اليمامة " في الآونة الأخيرة بحثًا وتساؤلات حول المناهج الدينية في المدارس .
وفي ( العدد 893 – الأربعاء 10 جمادى الثانية 1406 هـ ) تناول كاتب رمز لاسمه ب_ ( ع . ع ) المناهج الدينية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالغمز والانتقاد الشديد تحت عنوان : ( المعطلة يظهرون من جديد ) وبين أنه لا يريد بالمعطلة ما تعارف عليه العلماء من إطلاق هذا اللقب على الجهمية والمعتزلة وما شابههم من الفرق التي عطلت أسماء الله وصفاته لأن هذه الفرق – بزعمه - قد بادت ولم تظهر وليس لها امتداد فكري ولأن أمتنا قد تجاوزت ذلك النوع من التفكير وإنما يعني بالتعطيل – هنا - الحالة التي عليها . .
ثم وجه انتقاداته اللاذعة إلى تلك المناهج وتتلخص فيما يلي :(1/11)
1- اشتمالها على دراسة مذاهب الفرق الضالة كالمرجئة والجهمية مع أن هذا الفرق لا وجود لها – بزعمه – فلا فائدة من دراستها ويجب أن يدرس بديلا عنها ما استجد من قضايا الفكر المعاصر .
2- أن مادة العقيدة تدرس بالأسلوب اللغوي الذي كان السلف يدرسون به أبناء جيلهم وهو أسلوب يستغلق علينا فهمه فلا بد من تغيره بأسلوب جديد كالعمل الذي قام به الأستاذ محمد قطب في منهج التوحيد للمرحلة الثانوية حيث قرب قضايا العقيدة بأسلوب بسيط مبتعدًا عن الدخول في متاهات الفرق المنحرفة وأطروحاتهم العقلية الجافة – كذا يقول - .
3- كثرة العلوم التي تدرس حتى يتحول معها الإنسان إلى دائرة معارف متنقلة مع أننا في عصر يمكن فيه الاستغناء عن حفظ تلك العلوم ودراستها باستخدام الآلة للحصول عليها بسهولة عند الحاجة إليها . .
هذا حاصل ما عاب به الكاتب المناهج الدينية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامي .
وأظن أن الحامل له على ذلك جهله بقيمة تلك العلوم التي تدرس في هذه الجامعة – ومن جهل شيئا عاداه – أو تخلفه الفكري عن استيعابها أو كسله الذي قعد به عن متابعتها فتصور أن العيب فيها، والعيب إنما هو عيبه على حد قول الشافعي - رحمه الله - :
نعيب زماننا والعيب فينا ** وما لزماننا عيب سوانا
وبناء عليه نقول :
1- انتقاده لدراسة المذاهب المنحرفة القديمة وزعمه أنها بادت وانقرضت :
انتقاد في غير محله لأن المسلم بعد أن يعرف ما يضاده من الباطل القديم والحديث ليجتنبه ويحذر منه والله جل وعلا ذكر الفكر بالطاغوت قبل الإيمان بالله في قوله : { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ } وكيف يكفر بالطاغوت من لا يدري ما هو الطاغوت ؟
وكيف يتجنب الباطل من لا يعرف الباطل ؟(1/12)
وكان حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يقول : ( كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه ) .
والشاعر الحكيم يقول :
عرفت الشر لا للشـ ** ـر لكن لتوقيه
ومن لا يعرف الشـ ** ـر من الخير يقع فيه
2- وزعمه أن هذه الفرق لا تزال قائمة على أشدها :
فها هي الأشاعرة الآن – وهي ربيبة المعتزلة – تمثل نسبه كبيرة من العالم الإسلامي وتدرس عقائدها في غالب البلاد الإسلامية بدلا من عقيدة السلف .
ومذهب المعتزلة تعتنقه اليوم فئات كثيرة كالرافضة وغيرهم وها هي كتبهم تحقق وتنشر بكميات هائلة وتصل إلى أيدي الناس ويقرءونها وفيهم الجاهل ومن ثقافتهم ضحلة فينطلي عليه ما فيها من شبهات ما لم يكن عنده حصانة كافية وذلك لا يمكن إلا بدراسة مبادئهم ومعرفة أفكارهم المنحرفة مع الرد عليها وبيان بطلانها دراسة منهجية مركزة .
ثم لو فرضنا أن أصحاب هذه الأفكار الضالة انقرضت شخصياتهم فأفكارهم باقية والشر في الفكرة أكثر منه في الشخص .
والله تعالى ذكر أقوال الكفرة البائدين في القرآن الكريم ورد عليها تحذيرًا منها : ذكر مقالة قوم نوح ومقالة عاد وثمود وفرعون ومقالات قدماء اليهود والنصارى والدهريين والصابئين للتحذير من سلوك سبيلهم لأن لكل قوم سبيلهم لأن لكل قوم وارثا يروج تلك الأفكار مهما طال الزمان، والفكرة لا تموت بموت صاحبها .
3- رمى الكاتب لمناهجنا والقائمين عليها بالتعطيل هو جحود لجدوى تلك المناهج ووصفه القائمين عليها بالمعطلة لا يضرهم شيئًا وهو كما يقول الشاعر :
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ** فهي الشهادة لي بأني فاضل
4 - اقترح الكاتب أن يدرس ما استجد من قضايا الفكر المعاصر اقتراح وجيه، لكن على ألا يقتصر على دراسة تلك القضايا ويترك ما سبقها يفتك بأفكار الجيل، وإلا كنا كمن يتقابل مع جماعات من الأعداء، فيوجه دفاعه إلى واحدة منها، ويترك البقية تنقض عليه من خلفه .(1/13)
وأيضًا، لا يمكن مدافعة الأفكار المنحرفة المعاصرة إلا بعد دراسة الأفكار المنحرفة التي سبقتها، لأنها في الغالب منحدرة عنها أو مشابهة لها، وإذا عرفنا السلاح الذي قاوم به أسلافنا الأفكار المنحرفة في وقتهم، أمكننا أن نستخدم ذلك السلاح في وجه الأفكار المعاصرة، فلا غِنى لنا عن الارتباط بأسلافنا، والإمام مالك - رحمه الله - يقول : " لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها " .
5 – وأما قول الكاتب : " إن أسلوب اللغة في الوقت الحاضر يجب أن يختلف عن أسلوب اللغة في الوقت الماضي في تدريس العقيدة " ؛ فمعناه قطع الصلة بسلفنا وبمؤلفاتهم ورصيدهم العلمي، وإلا فلماذا ؟ ! هل كان السلف يخاطبون أبناءهم بلغة غير العربية الفصحى التي هي لغة الكتاب والسنة وهي لغتنا اليوم وإلى الأبد ما بقي القرآن ؟ !
ولماذا لا ينصح الكاتب بالعناية بدراسة تلك الكتب، وتكثيف مناهجها، ورفع الجيل إلى مستواها، لا الهبوط بها إلى مستوى الجيل، إن كان ناصحا لأمته ودينه ؟ !
6 – وأما ثناؤه على ما قام به الأستاذ محمد قطب في كتابه لمنهج التوحيد للمرحلة الثانوية وقوله : " إنه قرب قضايا العقيدة بأسلوب بسيط . . . " إلخ ما أثنى به عليه .
فنقول : مع احترامنا للأستاذ محمد قطب؛ إلا أن ما قام به عمل ناقص جدًّا، وهذا ما كنا نتخوفه من قطع صلتنا بكتب السلف واستبدالها بمؤلفات جديدة .
إن ما قام به الأستاذ محمد قطب - حفظه الله - في هذا العمل يقتصر غالبا على إثبات توحيد الربوبية، وهي تحصيل حاصل؛ لأن توحيد الربوبية قد أقر به جمهور الأمم الكافرة؛ كما ذكر الله سبحانه وتعالى عنهم ذلك في كتابه الكريم، وهو لا يكفي، وليس هو العقيدة التي جاءت به الرسل، ودعت إليها .
فالرسل كلها تعدوا إلى توحيد الألوهية، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وترك عبادة ما سواه .(1/14)
وما ورد من الآيات في ذكر توحيد الربوبية إنما هو للاحتجاج به على المشركين، والاستدلال به على توحيد الألوهية، وإلزام المشركين حيث أقروا بتوحيد الربوبية أن يقروا بتوحيد الألوهية، فتوحيد الربوبية ليس هو العقيدة المطلوبة، وإلا كان أبو جهل وأبو لهب موحدين؛ لأنهم أقروا به وأثبتوه .
وهذا يجب أن يفهم، وأن تكون العناية بتوحيد الألوهية، وبيانه للطلبة؛ لأنه هو حقيقة الإسلام، وهو معنى ( لا إله إلا الله ) ومقتضاها، الذي هو عقيدة المسلمين .
7 – وأما تذمر الكاتب من كثرة العلوم التي تدرس في جامعة محمد بن سعود الإسلامية مما يجعل الإنسان دائرة معارف متنقلة - كما يقول -؛ فهذا عيب بما هو كمال ومدح، فهو على حد قول الشاعر :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ** بهن فلول من قراع الكتائب
ونقول للكاتب : إذا كانت قد أثقلتك تلك العلوم، ولم تستطع فهمها وحملها، فعب نفسك، ولا تعبها :
فنفسك لُم ولا تلم المطايا ** ومُت كمدًا فليس لك اعتذار
وننصح لك أن تعمل بقول الشاعر الآخر :
إذا لم تستطع شيئا فدعه ** وجاوزه إلى ما تستطيع
إن جامعة الإمام محمد بن سعود حينما تقرر تدريس تلك العلوم ضمن مناهجها؛ إنما تقوم بمسؤوليتها نحو دينها وأمتها، وهي التي أسست من أجلها، فهي التي تخرج للمسلمين : القضاة والدعاة والمدرسين والمفتين، المؤهلين، الذين يعلق المسلمون عليهم آمالهم - بعد الله – في حل مشاكلهم، والدفاع عن دينهم وعقيدتهم، ونسأل الله أن يمد تلك الجامعة بعونه وتوفيقه، وأن يكفيها شر التطوير الذي هو في حقيقته تطيير، وأن يمد القائمين عليها بالعون والتسديد، وأن يرزقهم الثبات أمام تلك الدعايات المغرضة التي تنادي بمثل تلك الأفكار الهدامة .
ومن العجيب المضحك دعوة الكاتب إلى أن يكتفى عن دراسة تلك العلوم وحفظها وفهمها باستخدام الآلة لرصدها وحفظها ! !
هل استخدام الآلة يكفي عن وجود العلماء ؟ !(1/15)
وهل يستطيع استخدام الآلة للحصول عليها من لم يدرسها ويفهمها بدقة ؟ !
8 – وأخيرًا؛ يتناقض الكاتب مع نفسه، فيقول :
" لماذا لا نعمل منطقا نجابه به الذين يلحدون بالله وبأسمائه وصفاته بهوى منطقهم المتهافت ؟ لماذا لا نتعلم أساليب الجدل؛ لنكون مؤهلين حقيقة للدفاع عن هذا الدين القيم ؟ لماذا لا ندرس الإعجاز العلمي والتشريعي في القرآن الكريم ؟ " .
فالكاتب اعترف بما نفاه في أول كلامه، وذلك من وجهين :
أ – اعترف أننا أمام من يلحدون في أسماء الله وصفاته من المعتزلة والأشاعرة وتلاميذهم، وأنهم لم ينقرضوا كما قال سابقا .
ولكنه يدعوا إلى مواجهتهم والرد عليهم بمنطق الرومان وأساليب اليونان، بدلًا من منهج السنة والقرآن، وبدلا من ردود السلف ! ! فهذه بزعمه كتب كتبت بلغة لا تُفهم، والمنطق وعلم الجدل أحسن منها ! !
يا للتناقض العجيب ! ! ألم يكن أساس البلاء والوقوع في الضلال في مسائل العقيدة هو ترك منهج الكتاب والسنة، والاعتماد على المنطق والجدل في علم العقيدة ؟ !
وإذا كنت في شك من ذلك؛ فراجع كتب : " نقض المنطق " لشيخ الإسلام ابن تيمية، و " بيان تلبيس الجهمية " الذي هو " نقض التأسيس " ، و " درء تعارض العقل والنقل " ؛ فقد بَيَّن - رحمه الله - في هذه الكتب وغيرها ما جرَّه الاعتماد على منهج أهل المنطق والجدل من ضلال في العقيدة، وكذا ما كتبه غيره في هذا الموضوع .
ب – قوله : " لماذا لا ندرِّس آيات الإعجاز العلمي والتشريعي في القرآن " ، معناه : اعترافه أننا بحاجة إلى دراسة التفسير، لكن لا من مصادره الأصلية التي ألَّفها علماء التفسير المتقدمون ! ! وإنما من التفسير العصري المبني على النظريات الحديثة التي هي عرضة للتغيُّر والتناقض، والتي هي عبارة عن تفسير القرآن بالرأي، وهو ما يسمونه ( الإعجاز العلمي ) ، وهو في الحقيقة تخرُّص وقول في القرآن بغير علم ! !
لماذا يدعو الكاتب لهذا ؟ !(1/16)
لأنه لا يريد القديم، ولو كان هو الحق ! !
وبعد؛ فهذه آراء الكاتب واقتراحاته حول مناهج جامعة الإمام، وهي آراء واقتراحات مرفوضة جملة وتفصيلًا؛ لأنها تهدم ولا تبني، والجامعة - والحمد لله – مقتنعة في جدوى مناهجها، ونجاح خطتها، ولا تؤثر عليها مثل هذه الآراء الساذجة .
فعلى الكاتب أن يوفر على نفسه مثل تلك الآراء، وأن لا تنشر إلا ما هو بنَّاء ومفيد؛ أداء لمسؤولياتها الصحفية التي يفترض أن تكون رائدة لقومها نحو الأصلح .
والله ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
مكانة المرأة ووظيفتها في الإسلام
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه، وبعد : فلا يخفى على ذي بصيرة ما منحه دين الإسلام للمرأة من كرامة وما ضمنه لها من حقوق تتناسب مع تكوينها داخل البيت وخارجه، وما زالت بلادنا ولله الحمد تسير على هذا المنهج تجاه المرأة فهي تعيش في مجتمعنا معززة مكرمة مع زوجها وأسرتها ومجتمعها، تتمتع بحقوقها الشرعية بكل راحة واطمئنان بعيدة عما تورطت فيه المرأة في المجتمعات الأخرى من مشاكل نتيجة لإخراجها عن طورها وحرمانها من مزاولة العمل اللائق بها، وتكليفها بأعمال الرجال .
ونقول بمناسبة ما ظهر على بعض أعمدة بعض الصحف المحلية من تحمس مصطنع حيال ما أسموه ( بمشكلة المرأة ) ، مما أدى ببعض الصحف إلى عقد ندوات حيال هذا الموضوع تستضيف لها بعض الشخصيات لالتماس الحلول لهذه المشكلة المزعومة، التي تتلخص في أن المرأة طاقة معطلة وهي تشكل نصف المجتمع، وأن المرأة قطاع غير مستثمر بالشكل المطلوب .
والذي نقوله لهؤلاء :(1/17)
أولًا : لا وجود لهذه المشكلة التي زعمتم، فالمرأة ليست معطلة عن عملها اللائق بها، فهي تؤدي عملها كاملًا وتؤدي خدمة لمجتمعها لا يقوم به غيرها فهي الزوجة المطَالَبَة بحقوق الزوج، وهي الأم المربية للأولاد، وهي القائمة بإدارة البيت والمسؤولة عن كل ما يدور فيه، وهي قبل هذا وذاك التي يجعل الله منها بنين وبنات وحفدة، ولا يخفى ما تلاقيه حيال ذلك من حمل وولادة ورضاعة مما يأخذ الكثير من وقتها، وهي مع ذلك إذا كان لديها بقية من وقت تزاول الأعمال التي لا تخرج بها عن محيطها والتي تتعيش من ورائها، فما زالت إلى عهد قريب تغزل وتنسج وتبيع وتشتري، وتعمل في المزرعة، مع التستر والاحتشام، فمتى كانت المرأة طاقة معطلة وقطاعًا غير مستثمر، إنها الدعاوى الفارغة والأقوال المردودة .
ثانيًا : إذا قدر وجود مشكلة من هذا النوع أو من غيره فيجب أن تطرح على ذوي الاختصاص من علماء المسلمين ليلتمسوا لها حلًا على ضوء الإسلام الذي تكفل بحل جميع المشاكل، قال تعالى : { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ } ، وقال تعالى : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } ، وقال تعالى : { فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } .
إننا لا نشك في إخلاص تلك الشخصيات التي استضافتها ندوة الجريدة _لكننا نقول ليس ذلك من اختصاصهم وإنما هو من اختصاص علماء الشريعة الذين أُمرنا بسؤالهم عما أشكل _ والله ولي التوفيق والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه .
(2 )
حول العقيدة
تعقيبات على مقالات الصابوني في الصفات
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد، وآله وصحبه .
أما بعد :(1/18)
فقد اطلعت على مقالات لفضيلة الشيخ محمد على الصابوني، نشرها في " مجلة المجتمع " ( الأعداد : 627 و628 و629 و630 و631 و632 ) تحت عنوان : ( عقيدة أهل السنة في ميزان الشرع ) ، يحاول في تلك المقالات جعل الأشاعرة من أهل السنة في باب صفات الله عز وجل، وقد وقع في متناقضات عجيبة وخلط غريب، استدعاني أن أكتب هذا التعقيب الذي لا أقصد من ورائه إلا بيان الحقيقة، وإزالة اللَّبس، سائلًا الله العون والتوفيق .
وإليك بيان ما جاء في مقالاته مع الرد عليه :
1 – حينما تقرأ العنوان الذي وضعه لمقالاته – وهو : عقيدة أهل السنة في الميزان ) – تستغربه؛ لأن وضع عقيدة أهل السنة في الميزان معناه فحصها ومعرفة هل هي صواب أو خطأ ؟ وهذا تنقيص من قدرها، لاسيما والمراد بأهل السنة عند الإطلاق القرون المفضلة ومن تبعهم بإحسان .
لكنه يزول هذا الاستغراب حينما تعلم أنه يريد بذلك عقيدة التفويض التي ظنها عقيدة أهل السنة، وقد بينا بطلان ذلك فيما يأتي .
2 – حمل حملة شعواء على الذين يكفِّرون الأشاعرة، ونحن معه في هذا، فتكفير المسلم لا يجوز، إلا إذا ارتكب ناقضًا من نواقض الإسلام، لكنه لم يبين من هم الذين قالوا تلك المقالة، وأقدموا على هذا التفكير ؟ وفي أي كتاب أو مجلة وقع ذلك ؟ مع مناقشته مناقشة علمية، حتى يكون القارئ على بصيرة من أمرهم .
3 – جعل قضية الاختلاف في أمر النزول والصفات كالاختلاف في عقد اليدين في الصلاة وإرسالهما، وأمر الجهر بالبسملة والإسرار بها، وفي صلاة التراويح هل هي ثمان ركعات أو عشرون ركعة ؟
ولا يخفى ما في هذا من الخلط؛ فقضية الصفات من قضايا العقيدة التي لا يجوز الخلاف فيها، وقضية وضع اليدين في الصلاة على الصدر أو إرسالهما وما ذُكر معها من المسائل من قضايا الفروع التي يسوغ فيها الخلاف بحسب فهم الأدلَّة الواردة فيها، ثم هي من السنن وليست من الفرائض .(1/19)
4 – قال " إن الأشاعرة والماتريدية من أهل السنة والجماعة؛ لم يخرجوا عن الإسلام، ولا نطردهم من الملة " .
- والجواب : أما كون الأشاعرة لم يخرجوا عن الإسلام،؛ نعم هم من جملة المسلمين، وأما أنهم من أهل السنة والجماعة في باب الصفات؛ فلا؛ لأنهم يخالفون أهل السنة والجماعة في ذلك فأهل السنة والجماعة يثبتون الصفات على ما جاءت من غير تأويل، والأشاعرة لا يثبتون كثيرًا منها كما جاء، بل يؤِّولونه عن ظاهره كما هو معروف، فكيف يُجعَل من القوم من يخالفهم ؟ !
نعم هم من أهل السنة والجماعة في بقية أبواب الإيمان والعقيدة، التي لم يخالفوهم فيها، وليسوا معهم في باب الصفات وما خالفوا فيه؛ لاختلاف مذهب الفريقين في ذلك، وكتبهم هي الحكم في هذه القضية .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في " منهاج السنة " : " لفظ " ( أهل السنة ) يراد به مَن أثبت خلافة الخلفاء الثلاثة، فيدخل في ذلك جميع الطوائف إلا الرافضة، وقد يراد به أهل الحديث والسنة المحضة؛ فلا يدخل فيه إلا من أثبت الصفات لله، ويقول : إن القرآن غير مخلوق، وإن الله يُرى في الآخرة، ويُثبت القدر، وغير ذلك من الأمور المعروفة عن أهل الحديث والسنة " . انتهى
باختصار .
5 – قال : " علماء مصر وشيوخ الأزهر يدينون في معتقدهم بمذهب الإمام أبي الحسن الأشعري، والعراق وتونس والمغرب على المذهب الأشعري " .
- والجواب أن يقال :
أولًا : مذهب أبي الحسن الأشعري الذي استقرَّ عليه أخيرًا في باب الصفات هو مذهب أهل السنة والجماعة، ورجع عما كان عليه قبلُ من تأويل الصفات؛ كما صرح بذلك في كتابه ( الإبانة عن أصول الديانة ) وفي كتابه ( المقالات ) ، ومعلوم أن مذهب الإنسان هو ما يستقرُّ عليه أخيرًا، لا سيما وقد صرح برجوعه عن مذهبه الأول .(1/20)
ومَن ذكرت يا فضيلة الشيخ هم على مذهبه الذي رجع عنه، فانتسابهم إليه غير صحيح؛ لأن هذا المذهب الذي هم عليه أصبح غير مذهب أبي الحسن الأشعري، ونسبته إليه بعد ما رجع عنه ظلم .
ويقال ثانيًا : المذهب لا يُعرف كونه حقًا بكثرة المتبعين له؛ قال تعالى : { وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ } .
وإنما يعرف كونه حقًا بمطابقته للكتاب والسنة .
وما عليه الأشاعرة في الصفات ليس مطابقًا للكتاب والسنة .
6 – يرى أن الأسلم تفويض الصفات إلى علاَّم الغيوب، وينسب هذا إلى السلف، فيقول : " يؤمن السلف الصالح بجميع ما ورد من آيات الصفات وأحاديث الصفات ويفوضون علم ذلك إلى الله تعالى . . . " . إلى أن قال : " قد اشتهر بأنه مذهب أهل التفويض ومذهب أهل السلف الصالح " .
ثم نقل عن الإمام أحمد والإمام مالك - رحمهما الله - كلاما يظن أنه يؤيد ما يقول، حيث نقل عن الإمام أحمد قوله " أخبار الصفات تُمَرُّ كما جاءت؛ بلا تشبيه ولا تعطيل؛ فلا يقال : كيف ؟ ولم ؟ نؤمن بأن الله على العرش كيف شاء، وكما شاء، بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحدُّها حادُّ، نقرأ الآية والخبر، ونؤمن بما فيهما، وندع الكيفية في الصفات إلى علم الله " .
ثم نقل قول الإمام مالك : " الاستواء معلوم، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعه " . انتهى .
- والجواب عن ذلك : أن إطلاق أن مذهب السلف هو التفويض إطلاق خاطئ، وجهل بمذهب السلف، لأن السلف لا يفوضون معنى الصفات، لأنه معلوم لديهم، وإنما يفوضون كيفية الصفات؛ كما جاء في كلام هذين الإمامين الذي نقله فضيلة الشيخ .
فالإمام أحمد يقول : " نقرأ الآية والخبر، ونؤمن بما فيهما، وندع الكيفية في الصفات إلى علم الله " ، فالمفوض هو الكيفية فقط .
وكذلك الإمام مالك يقول : " الاستواء معلومٌ " ؛ أي : معلوم معناه . " و الكيف مجهول " ؛ فصار المفوض هو الكيفية .(1/21)
وهذا هو اعتقاد السلف في جميع الصفات، يعلمون معناها، ويعتقدونه، ويؤمنون به كما جاء، لا يؤولونه عن ظاهره، ويفوِّضون الكيفية إلى علم الله تعالى .
7 – ثم يتناقض الشيخ بعد ذلك، فبينما قرَّر فيما سبق أنه مقتنع بعقيدة التفويض، وأنها عقيدة السلف – كما يزعم -؛ إذا هو بعد ذلك يخرج عن التفويض، ويقول : " ولكننا نعتقد بتنزيه الله عن الجوارح، فلا يسمع بصماخ الأذن، ولا يرى بحدقة العين، ولا يتكلم بلسان من قطعة لحم وحنجرة يخرج منها الصوت؛ كما هو حال الخلق والعباد، بل هذه الأمور مستبعدة عن الله جل وعلا " .
- ونقول له : ما دمتَ قد فوضت في الصفات؛ فلماذا تدخل في هذه التفصيلات، مع أن التفويض معناه السكوت عن تفسيرها ؟ !
- وإذا كان قصدك تنزيه الله عن مشابهة الخلق؛ فاكتف بقوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } ، { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } ، { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } ، فتجمِل النفي كما أجمله الله في كتابه، دون أن تقول : ليس كذا، وليس كذا . . . إلخ .
- 8 – يتهجَّم على الذين يُثبِتون الصفات، ويقول : " إنهم يصوِّرون الله بصورة غريبة عجيبة، ويجعلون الله تعالى كأنه جسم مركَّب من أعضاء وحواس، له وجه ويدان وعينان، وله ساق وأصابع، وهو يمشي وينزل ويهرول، ويقولون في تقرير هذه الصفات : إن الله يجلس كما يجلس الواحد على السرير، وينزل كما ينزل أحدنا على الدرج؛ يريد أحدهم –بزعمه _ أن يقرر مذهب السلف الصالح للتلاميذ، ويثبت لهم حقيقة معنى الاستواء والنزول، وأنه جلوس حِسِّيّ، لا كما يتأوله المتأولون " انتهى كلامه .(1/22)
- والجواب : إن لفظ الجسم والتركيب والأعضاء والحواس لم يرد في كتاب الله وسنة رسوله نفيه ولا إثباته، ونحن نثبت ما أثبته الله لنفسه، وننفي ما نفى عن نفسه، ونمسك عما عدا ذلك . أما الوجه واليدان والعينان والساق والأصابع والنزول؛ فهذه قد أثبتها الله لنفسه، وأثبتها له رسوله - صلى الله عليه وسلم - فنحن نثبتها كما جاءت .
وأما قولك : " ويقولون في تقرير هذه الصفات : إن الله يجلس كما يجلس الواحد على السرير، وينزل كما ينزل أحدنا الدرج " ؛ فهذا من باب التشويه والإرجاف والتنفير، وإلا كان الواجب عليك – إذا كان هذا واقعًا – أن تبين : من هو قائله ؟ وفي أي مدرسة أو جامعة ؟ أو في أي كتاب قاله ؟ حتى يمكن مناقشته وإيقافه عند حده . وما ذكرته من أنهم يقولون عن الاستواء والنزول : إنه جلوس حسيّ ونزول حسيّ؛ فالصواب أن يقال : استواء حقيقي ونزول حقيقي . هذا تعبير أهل السنة والجماعة، وهو على ما يليق بالله عز وجل، وليس من معاني الاستواء الجلوس عندهم؛ فإن معاني الاستواء عندهم هي : العلو، والاستقرار، والارتفاع، والصعود .
قال العلامة ابن القيم في النونية مبينًا معاني الاستواء عند السلف :
ولهم عبارات عليها أَربَع ** قد حَصَلت للفارس الطَّعَّان
وهي استقر وقد علا وكذلك ** ارتفع الذي ما فيه من نُكران
وكذاك قد صعد الذي هو رابع ** وأبو عبيدةَ صاحب الشيباني
يختار هذا القول في تفسيره ** أَدرَى مِنَ الجهميّ بالقرآن
ثم قال فضيلة الشيخ الصابوني :
" بل لم يكن يتلفظ الواحد منهم – يعني : السلف – بمعنى الاستواء، حتى لا يتوهم السامع التشبيه؛ كما فعل الإمام مالك - رحمه الله - حين قال للسائل : الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة . . . وقد كان بإمكانه أن يقول له : الاستواء : هو الجلوس، ألا تعرف الجلوس ؟ " انتهى .(1/23)
- والجواب أن نقول : إن السلف لم يكونوا يتحاشون من ذكر معاني الصفات، لأنهم يعلمونها، ويعتقدون معناها، ألا تراهم فسروا الاستواء بأربعة معان؛ كما ذكرنا عنهم ؟ إنما كانوا يتحاشون الخوض في الكيفية؛ لأنهم لا يعلمونها، والذي سأل الإمامَ مالك لم يسأله عن المعنى، إنما سأله عن الكيفية؛ فإنه قال : { اسْتَوَى } ، ولهذا قال له مالك : " والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة " يعني : الكيف .
9 – قال : " وأهل السنة قد اشتهروا بمذهبين اثنين؛ هما : الأول : مذهب السلف، والثاني : مذهب الخلف، وكل منهما لا يخرج عن مذهب أهل السنة والجماعة " .
- والجواب عن ذلك أن نقول : إذا كان مذهب الفريقين واحدًا؛ فلماذا قسمتهم إلى سلف وخلف، وإن كان مذهب الفريقين مختلفًا – كما هو الواقع - فإنه لا يصح لغة ولا شرعًا ولا عقلًا أن تجعلهم جماعة واحدة في هذا الباب، وتطلق عليهم جميعًا أهل السنة والجماعة، مع أن المراد بأهل السنة والجماعة ما وضحه النبي - صلى الله عليه وسلم – بقوله : ( هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي ) .
فهل كان تأويل الصفات أو تفويضها الذي يفعله الخلف –كما ذكرتَ عنهم - هل هو مما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم ؟ !
إذن؛ ليس من يؤول الصفات أو يفوِّضها من أهل السنة والجماعة في هذا الباب، وإن كان منهم في أبواب أخرى لا يخالفهم فيها .
10 – ثم يضيف الشيخ إلى مذهب السلف ما ليس منه، فيقول :
" وخلاصة مذهب السلف أنه يجب علينا أن نصف الله تعالى بجميع ما وصف به نفسه من صفات على ما يليق به سبحانه، فتنزهه جل وعلا عن الجسمية والشكل والصورة " .
- فقوله : " ننزهه عن الجسمية والشكل والصورة " : هذا ليس من مذهب السلف، فهم ينفون ما نفاه الله عن نفسه، ولم يرد نفي الجسم والشكل، فهم يمسكون عن ذلك، ويكتفون بقوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } وأمثاله من النفي المجمل .(1/24)
وأما الصورة فقد ورد الأحاديث إثباتها في حق الله تعالى؛ فهم لا ينفونها .
11 - يسوِّغ تأويل بعض الصفات، حيث يقول :
" لذلك مالوا ( يعني السلف ) إلى التأويل في بعض الصفات التي توهم التشبيه، كالاستواء، والنزول، والإتيان، والمجيء، لأن عصرهم الذي عاشوا فيه لم يكن كالعصر السابق : عصر التسليم والتفويض، وإنما عصر الجدل والمناظرة، فهم لم يؤوِّلوا عن هوى ومكابرة، وإنما أوَّلوا عن حاجة واضطرار؛ لدفع شغب المجادلين في صفات الله بالباطل، ومن ذلك الحين اشتهر لعلماء أهل السنة مذهبان اثنان هما : مذهب أهل التفويض، ومذهب أهل التأويل، أما المذهب الأول؛ فهو المشهور بمذهب السلف، والمذهب الثاني هو المشهور بمذهب الخلف، وكل من المذهبين منسوب إلى أهل السنة " انتهى .
- والجواب أن نقول :
أ – لم يكن التفويض المطلق ولا التأويل للصفات عن ظاهرها في يوم من الأيام مذهبًا لأهل السنة والسلف الصالح، لأن مذهب السلف وأهل السنة هو الإيمان بما دلت عليه صفات الله تعالى من معنى الكمال، مع تفويض كيفيتها لله تعالى؛ كما نَقلْتَه عن الإمام مالك وغيرهما في مطلع كلامك .
وإنما التفويض والتأويل مذهبان للخلف، وهم ليسوا في هذا الباب من أهل السنة والجماعة؛ لمخالفتهم لمذهبهم فيه، والمخالف لا يُنسَب إلى من خالفه، وإن كانوا من أهل السنة في بقية الأبواب التي وافقوا فيها أهل السنة .
ب – تأويل الصفات عن معناها الحقيقي لا يجوز في أي عصر من العصور، ولا يجوز أن نرد على أهل الباطل بباطل، بل يجب أن نَثبُت على الحق، ولا نلتفت إلى شغب المخالفين، ولا نتنازل عما معنا من الحق لأجل الرد عليه .
والتأويل باطلٌ؛ مهما صلحت نية فاعله، حسن مقصده وقد يعمل الشخص بعمل أهل النار وهو يظن أنه يحسن صنعًا؛ كما قال تعالى :(1/25)
{ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } .
وقال تعالى : { وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } .
والباطل إنما يُدفَع بالحق، { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ } .
12 – يكرر أن مذهب السلف هو التفويض، ومذهب الخلف هو التأويل، ويقول :
" إنما كان المحقِّقون منهم ( يعني : أصحاب المذهبين ) يفضلون مذهب السلف، فيقولون : هو أسلم، والبعض منهم كان يرجِّح مذهب الخلف؛ دفاعًا لشبهات الزائغين، ويقول : هو أحكم، مع اعتقادهم جميعًا بصفات الله تعالى؛ دون تعطيل أو تجسيم؛ خلافًا للمعتزلة والجهمية، فكان الخلاف بين الفاضل والأفضل " .
والجواب أن نقول :
أ – قد بينَّا فيما سبق مرارًا أن مذهب السلف في الصفات هو اعتقاد ما دلت عليه النصوص؛ من غير تشبيه ولا تعطيل، وليس هو التفويض، فنسبته إليهم زور وبهتان، وهم منه براء، فكل من التفويض والتأويل من مذاهب الخلف المحدَثة، وليس فيهما مفضولًا ولا فاضل، بل كلاهما زور وباطل .
ب – قوله " مع اعتقادهم جميعًا بصفات الله تعالى؛ دون تعطيل أو تجسيم " قول فيه مغالطة، إذ كيف يقال : إن من يؤِّول صفات الله عن مدلولها، فيؤِّول اليد بالقدرة، والاستواء بالاستيلاء والرحمة بالنعمة، كيف يقال مع هذا : إنه يعتقد هذه الصفات دون تعطيل، أليس فعله هذا هو التعطيل بعينه ؟ !(1/26)
13 - قال " وإذا كان من أوَّل الصفات ضالًا، فنضلل السلف الصالح جميعًا؛ لأنهم أولوا قوله تعالى : { مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ } ؛ قالوا : معهم بعلمه لا بذاته، وأولوا قوله تعالى : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } ؛ قالوا : مَعيَّه علم؛ لئلا تتعدد الذات، وسنحكم بضلال الحافظ ابن كثير؛ لأنه قال في قوله تعالى : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } ؛ قال : المراد : ملائكتنا أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه . انتهى كلامه .
- والجواب عن ذلك؛ نقول :
أ – نعم؛ من أوَّل الصفات عن مدلوها إلى غير معانيها، فهو ضال؛ كما قال تعالى : { ولله الأسماءُ الحسنى وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .
ومن الإلحاد فيها صرفها عما دلت عليه، وهذا ضلال .
ب – وأما ما ذكرته من تفسير أهل السنة والجماعة لآيات المعيَّة بأنها معيَّة علم وإحاطة؛ فليس هو من التأويل الذي زعمته .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في ( الفتوى الحموية ) :(1/27)
" ولا يحسب حاسب أن شيئا من ذلك يناقض بعضه بعضًا ألبتة؛ مثل أن يقول القائل : ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه في الظاهر قوله : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } ، وقوله - صلى الله عليه وسلم- : ( إذا قام أحدكم إلى الصلاة؛ فإن الله قِبَل وجهه ) ، ونحو ذلك؛ فإن هذا غلط، وذلك أن الله معنا حقيقة، وهو فوق العرش حقيقة، كما جمع الله بينهما في قوله تعالى { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فأخبر أنه فوق العرش، يعلم كل شيء، وهو معنا أينما كنا، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الأعمال : ( والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه ) .
ذلك أن كلمة ( مع ) في اللغة إذا أطلقت؛ فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة؛ من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال، فإذا قُيِّدَت بمعنى من المعاني؛ دلت على المقارنة في ذلك المعنى، فإنه يقال : ما زلنا نسير والقمر معنا، أو النجم معنا، ويقال : هذا المتاع معي؛ لمجامعته لك، وإن كان فوق رأسك . فالله مع خلقه حقيقة، وهو فوق العرش حقيقة .
ثم أن هذه المعيِّة تختلف أحكامها بحسب الموارد، فلما قال : { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } . . . إلى قوله { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } ؛ دل ظاهر الخطاب على أن حكم هذه المعيِّة ومقتضاها أنه مطلع عليكم، شهيدٌ عليكم، مهيمن عليكم، عالم بكم، وهذا معنى قول السلف : إنه معهم بعلمه، وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته " انتهى .(1/28)
فعُلِمَ من ذلك أنه لم يجرِ في الآية – ولله الحمد - التأويل الذي زعمه فضيلة الشيخ الصابوني؛ لأن المعية يختلف معناها باختلاف مواردها .
ج – وأما قوله : إن ابن كثير قال في التفسير قوله تعالى : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } . . وزعم أن هذا تأويل من ابن كثير؛ فنقول له : ليس هذا من قبيل التأويل الذي تدَّعيه؛ لأن الآية جاءت بلفظ الجمع : { وَنَحْنُ } .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في ( مجموع الفتاوى ) : ( 5/507 ) :
" فإن مثل هذا اللفظ إذا ذكره الله تعالى في كتابه؛ دل ذلك على أن المراد به أنه سبحانه يفعل ذلك بجنوده من الملائكة؛ فإن صيغة " نحنُ " يقولها المتبوع المطاع المعظَّم الذي له جنود يتبعون أمره، وليس لأحدٍ جند يطيعونه كطاعة الملائكة لربهم، وهو خالقهم وربُّهم، وهو سبحانه العالم بما توسوس به نفسه وملائكته تعلم، فكان لفظ : " نحنُ " هنا هو المناسب " .
وقال سياق الآيتين يدل على أن المراد الملائكة؛ فإنه قال : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } ، فقيَّد القرب بهذا الزمان، وهو زمان تلقِي المتلقيين؛ قعيد عن اليمين، وقعيد عن الشمال، وهما الملكان الحافظان اللذان يكتبان، كما قال : { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } ، ومعلوم أنه لو كان المراد قرب ذات الرب؛ لم يختص ذلك بهذه الحال، ولم يكن لذكر القعيدين والرقيب والعتيد من معنى مناسب " انتهى .
ومنه تعلم أن ابن كثير - رحمه الله - لم يؤول الآية الكريمة كما زعم الشيخ الصابوني .(1/29)
14 - قال : " يجب التأويل في بعض الأحيان، بل نقول : إنه يتعين التأويل؛ كما في الحديث الصحيح : ( الحجر الأسود يمين الله في أرضه ) ، وكما قال تعالى عن سفينة نوح : { وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ } ، فهل السفينة تجري في عين الله ؟ أم المراد : تسير بحفظنا ورعايتنا، فإذا لم نؤِّولها؛ فسد المعنى تمامًا .
وكيف نقول في الحديث القدسي، ( ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته؛ كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه ) ، فما رأي السادة الأعلام ؟ ! أليس فيه حجة ومتمسك لمن يقولون بوحدة الوجود، والذين يزعمون الحلول والاتحاد ؟ أم نقول : يتعين هذا التأويل .
وما هو المعنى المراد من الحديث الشريف ( إن تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا، وإن جاءنى يمشي، أتيته هرولة ) ألا يجب التأويل ؟ فلماذا نحكم بضلال الأشاعرة بسبب التأويل ونبيح لأنفسنا التأويل ؟ .
- الجواب : أن نقول نعم؛ نحكم بضلال من أوَّل صفات الله تعالى عما دلت عليه من المعنى الحق، وحاول صرفها إلى غير معانيها الحقيقية من الأشاعرة وغيرهم، وإن لم يكن هذا ضلالًا؛ فما هو الضلال ؟ !
قال تعالى : { فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ } .
وأما ما استدللت به على وجوب التأويل في بعض الأحيان؛ فلا دلالة فيه لما تريد، وبيان ذلك كما يلي :
أ – قوله - صلى الله عليه وسلم – ( الحجر الأسود يمين الله في الأرض ) ؛ قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في ( مجموع الفتاوى ) : ( 6/397 ) :(1/30)
إنه " قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد لا يثبت، والمشهور إنما هو عن ابن عباس، ومن تدبر اللفظ المنقول؛ تبين له أنه لا إشكال فيه إلا على من لم يتدبره؛ فإنه قال : ( يمين الله في الأرض ) ، فقيَّده بقوله ( في الأرض ) ، ولم يطلق فيقول : يمين الله . وحكم اللفظ المقيد يخالف حكم اللفظ المطلق . ثم قال : " فمن صافحه وقبَّله؛ فكأنما صافح الله وقبل يمينه " معلوم أن المشبه غير المشبه به، وهذا صريح في أن المصافِح لم يصافح يمين الله أصلًا، ولكن شُبِّه بمن يصافح الله، فأول الحديث وآخره يبين أن الحجر ليس من صفات الله؛ كما هو معلوم عند كل عاقل " انتهى .
وقد تبين بهذا أولا : أن الحديث ليس بصحيح كما توهمه الصابوني .
وثانيًا : ليس فيه دلالة على تأويل الصفات .
ب – وقوله تعالى : { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } ؛ معناه : بمرأى منا، ولا يفهم من ظاهر الآية ما قاله فضيلة الشيخ أن السفينة تجري في عين الله، وليس هو ظاهر اللفظ حتى يحتاج إلى تأويل؛ لأنه قال : { بِأَعْيُنِنَا } ، ولم يقل : في أعيننا، ومعلوم الفرق بين اللفظتين، فهي كقوله : { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } .
قال الشوكاني في " فتح القدير " : " { فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } ؛ أي : بمرأى منا، بنظر منا، وفي حفظنا وحمايتنا؛ فلا تبال بهم " .
ج – وأما حديث : ( كنت سمعه الذي يسمع به . . . إلخ ) ؛ فأول الحديث وآخره يبين المراد منه، وهو أن العبد إذا اجتهد في التقرب إلى الله بالفرائض، ثم بالنوافل؛ أحبه الله، وسدده في جميع تصرفاته .
قال الحافظ ابن رجب في " شرح الأربعين " : " فمتى امتلأ القلب بعظمة الله تعالى؛ محا ذلك من القلب كل ما سواه، ولم يبقِ للعبد من نفسه وهواه، ولا إرادة إلا ما يريده منه مولاه، فحينئذ لا ينطق العبد إلا بذكره، ولا يتحرك إلا بأمره، فإن نطق نطق بالله وإن سمع سمع به، وإن نظر نظر به، وإن بطش بطش به " انتهى .(1/31)
ويوضح ذلك قوله في آخر الحديث : ( ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذَنَّه ) ، فالله يسدده في تصرفاته، ويعطيه ما سأله، ويؤمنه مما يخاف . . .
هذا ما يدل عليه الحديث، ولا يحتمل غير هذا المعنى حتى يحتاج إلى تأويل؛ لأنه معلوم قطعًا بالأدلة والفطرة والمعقول أن الله سبحانه لا يحلُّ في شيء من خلقه، فلا حاجة إلى التأويل؛ كما زعم الصابوني سامحه الله .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في ( مجموع الفتاوى ) ( 2/271 - 272 ) :
" فالملاحدة والاتحادية يحتجون به ( يعني : هذا الحديث ) على قولهم؛ بقوله : كنت سمعه وبصره ويده ورجله، والحديث حجة عليهم من وجوه كثيرة منها :
قوله : ( من عادى لي وليا؛ فقد بارزني بالمحاربة ) ، فأثبت معاديًا ومحاربا ووليا غير المعادي، وأثبت لنفسه سبحانه هذا وهذا .
ومنها قوله : ( وما تقرب إلي عبدي بمثل ما افترضته عليه ) ، فأثبت عبدًا متقربًا إلى ربه بما افترض عليه من فرائض .
ومنها قوله : ( ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ) ، فأثبت متقربًا ومتقربًا إليه، ومحبًا ومحبوبا غيره، وهذا كله ينقض قولهم .
ومنها قوله : ( فإذا أحببته؛ كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به . . . إلخ ) ؛ فإنه جعل لعبده بعد محبته هذه الأمور، وهو عندهم قبل المحبة وبعدها واحد .
د - وأما قوله : " وما هو المعنى المراد من الحديث الشريف : ( إن تقرب مني شبرًا ) . . . " إلخ ؟ فنقول : المراد منه قرب الله من عبده إذا تقرب إليه بالعبادة، وقرب الله من عباده المؤمنين ثابت بالكتاب والسنة وإجماع أهل السنة . قال تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } .(1/32)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في ( مجموع الفتاوى ) ( 5/464 ) في معنى الحديث : " وهو سبحانه قد وصف نفسه في كتابه وفي سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - بقربه من الداعي، وقربه من المتقرب إليه " .
وذكر الآية والحديث، وقال : ( 5/510 ) : " فكلما تقرب العبد باختياره قدر شبر زاده الرب قربًا إليه، حتى يكون كالمتقرب بذراع " .
وقال العلامة ابن القيم في " الصواعق " ( 2/412 – 413 – المختصر ) : " وقد بينا بأنه سبحانه قريب من أهل الإحسان، ومن أهل سؤاله وإجابته " . ويوضح ذلك بأن الإحسان يقتضي قرب العبد من ربه، فيقرب ربه منه . . . إلى أن قال : " فإنه من تقرب منه شبرًا يتقرب منه ذراعًا، ومن تقرب منه ذراعًا؛ تقرب منه باعًا . . . " .
إلى أن قال : " وهو مع ذلك فوق سماواته، على عرشه؛ كما أنه سبحانه يقرب من عباده في آخر الليل وهو فوق عرشه، ويدنو من أهل عرفة عشية عرفة وهو على عرشه، فإن علوه سبحانه على سماواته من لوازم ذاته، فلا يكون قط إلا عاليًا، ولا يكون فوقه شيء ألبتة؛ كما قال أعلم الخلق : " فأنت الظاهر؛ فليس فوقك شيء " ، وهو سبحانه قريب في علوه، عال في قربه . . . " .
إلى أن قال : " والذي يسهل عليك فهم هذا معرفة عظمة الرب، وأحاطته بخلقه، وأن السماوات السبع في يده كخردلة في يد العبد، وأنه سبحانه يقبض السماوات بيده والأرض بيده الأخرى ثم يهزهن . فكيف يستحيل في حق من هذا بعض عظمته أن يكون فوق عرشه ويقرب من خلقه كيف يشاء وهو على العرش ؟ ! . انتهى .
15 - يدافع الشيخ الصابوني عن الذين يؤولون الصفات، فيقول : " إنهم ما أنكروا الصفات كما فعل الجهمية والمعتزلة، وإنما أولوها بما يحتمله اللفظ؛ دفعًا للتشبيه والتجسيم . . . " إلخ .(1/33)
- ونقول له : هذه مغالطة منك؛ لأن من أول الصفات عن مدلولها الصحيح ومعناها الصريح؛ كمن أول اليد بالنعمة، والاستواء على العرش بالاستيلاء عليه، والوجه بالذات؛ أليس هو بذلك قد نفى اليد الحقيقية والاستواء الحقيقي والوجه الحقيقي وصرفها إلى معان غير مقصودة باللفظ أصلًا ؟ ! فكيف لا يكون مع ذلك قد نفى الصفات ؟ ! .
16 - ثم يواصل الدفاع عنهم، فيقول :
- " ثم هم يقولون في المجيئ والإتيان : إن المطلق يحمل على المقيد، فقوله تعالى : { وَجَاء رَبُّكَ } ، وقوله { أو يَأْتِيَ رَبُّكَ } ؛ يحمل على المقيد في قوله تعالى : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أو يَأْتِيَ رَبُّكَ } ، فكيف نكفرهم وهم يحتجون بالقرآن على بعض التأويلات ؟ ! "
ونقول له : نحن لا نكفرهم بذلك كما سبق، لكننا نخطئهم ونضللهم في مثل هذا التأويل، وحمل المطلق على المقيد ليس هذا من موارده؛ لاختلاف المقصود من النصين، فكل منهما يقصد به غير ما يقصد بالآخر، فمواردها مختلفة فيبقى كل نص على مدلوله، ولا يحمل أحدهما على الآخر .
قال العلامة ابن القيم في ( الصواعق ) ( 2/385 - 386 - المختصر ) :
" الإتيان والمجيء من الله تعالى نوعان : مطلق ومقيد، فإذا كان مجيء رحمته أو عذابه؛ كان مقيدًا؛ كما في الحديث : " حتى جاء الله بالرحمة والخير " ، ومنه قوله تعالى : { وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ } ، وقوله : { بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ } ، وفي الأثر : " لا يأتي بالحسنات إلا الله " .(1/34)
النوع الثاني : المجيء والإتيان المطلق؛ كقوله : { وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ } ، وقوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ } ، وهذا لا يكون إلا مجيئه سبحانه، هذا إذا كان مطلقًا، فكيف إذا قيد بما يجعله صريحًا في مجيئه نفسه؛ كقوله { إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أو يَأْتِيَ رَبُّكَ أو يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } ، فعطف مجيئه على مجيء الملائكة، ثم عطف مجيء آياته على مجيئه .
ومن المجيء المقيد قوله : { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ } فلما قيده بالمفعول، وهو ( البنيان ) ، وبالمجرور، وهو ( القواعد ) دل ذلك على مجيء ما بيَّنه، إذا من المعلوم أن لله سبحانه إذا جاء بنفسه؛ لا يجيء من أساس الحيطان وأسفلها " انتهى .
17 – ثم يواصل فضيلة الشيخ دفاعه المستميت عن الذين يؤولون الصفات، فيقول :
" ويقولون في حديث النزول : ( ينزل الله في الثلث الأخير من الليل إلى السماء الدنيا ) : إن المراد به تنزيل رحمته؛ إذا كيف ينزل ربنا في الثلث الأخير من الليل إلى السماء الدنيا، وفي كل ساعة من ساعات الليل والنهار ثلث أخير في بعض البلاد، فالوقت الذي يكون عندنا بمكة مثلًا صلاة المغرب يكون في أندونسيا الثلث الأخير من الليل، وفي الوقت الذي يكون بمكة آخر الليل يكون عند غيرنا وقت الضحى أو الظهر " . . . إلخ ما قال .
- والجواب : عن ذلك أن نقول :
أولًا : ألفاظ الحديث تنفي نسبة النزول إلى غير الله؛ بأن يقال : تنزل رحمته، حيث جاء في حديث النزول أنه يقول سبحانه : " أنا الملك، من يستغفرني فأغفر له، هل من سائل فأعطيه " :
هل رحمته تقول : أنا الملك ؟ !
هل رحمته تقول : من يستغفرني فأغفر له، هل سائل فأعطيه ؟ !
هل رحمته تقول : " أنا الملك، من يستغفرني . . . إلخ ؟ !(1/35)
ثانيًا ً : وأما الاعتراض بأن ثلث الليل يختلف باختلاف البلاد؛ فيجاب عنه بأن هذا الاعتراض صادر عن عدم تصوره لعظمة الله سبحانه، وعن قياس نزوله على نزول المخلوق، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا .
وهذا الاعتراض أيضا ناشيء عن البحث في كيفية نزوله سبحانه، والنزول كسائر صفات الله عز وجل، نؤمن به على حقيقته ومعناه، ونكل كيفيته إلى الله عز وجل .
ونحن نقول لهؤلاء : إذا كان الله سبحانه يحاسب جميع الخلائق يوم القيامة في ساعة واحدة، ويرزق الخلائق في ساعة واحدة، ويسمع دعاء الداعين في ساعة واحدة - على اختلاف لغاتهم وتفنن حاجاتهم -، ولا تغلطه كثرة المسائل، فإذا كان قادرًا على ذلك كله؛ فهو قادر على النزول الذي أخبر عنه نبيه - صلى الله عليه وسلم - كيف يشاء، مع اختلاف ثلث الليل في سائر البلدان، والله تعالى أعلم .
18 – يدعو الشيخ الصابوني إلى ترك مناقشة المذاهب – بما فيها الصوفية أصحاب الطرق المعروفة، والذين تكثر عندهم الأخطاء – وأن نوفر طاقاتنا لحرب أعدائنا الملاحدة والشيوعيين والمنافقين .
والجواب أن نقول :
لا يمكن أن نقف صفًّا واحدًا في وجه أعداء الإسلام إلا إذا صلحت العقيدة من الشركيات والبدع والخرافات والإلحاد في أسماء الله وصفاته؛ قال تعالى : { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ } .
والاعتصام بحبل الله يعني الرجوع إلى الحق وترك الباطل، وإذا كانت المعاصي العملية تخل بصف المسلمين أمام أعدائهم؛ فكيف بالمعاصي الاعتقادية ؟ !
إنه لا يبقى في وجه الأعداء إلا أهل السنة والجماعة في كل زمان ومكان؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تزال طائفة من أمتى على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ) .(1/36)
19 - يختم بما بدأ به من مدح الأشاعرة، وأنهم من أهل السنة، وينقل طرفًا من مقالة أبي الحسن الأشعري في كتابه " الإبانة " الذي صرح فيه برجوعه عن مذهبه الأول إلى مذهب أهل السنة، ويجعل ذلك من مزايا مذهب الأشاعرة تلبيسًا على الناس الذين لا يعرفون الفرق بين ما عليه الأشاعرة من تأويل الصفات وما استقر عليه من رأي أبي الحسن الأشعري أخيرًا، وهو الرجوع إلى مذهب أهل السنة وإثبات الصفات، وبذلك يصبح ليس له مذهب مستقل، ويكون الأشاعرة ليسوا من أتباع أبي الحسن على الحقيقة، وتكون تسميتهم بهذا الاسم تزييفًا وظلمًا لأبي الحسن ما داموا لا يقولون بما قاله في كتاب " الإبانة " .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في ( مجموع الفتاوى ) ( 16/ 359 ) :
" وأما من قال منهم ( يعني : الأشاعرة ) بكتاب " الإبانة " الذي صنفه الأشعري في آخر عمره، ولم يظهر مقالة تناقض ذلك؛ فهذا يعد من أهل السنة، لكن مجرد الانتساب إلى الأشعري بدعة، لا سيما وأنه بذلك يوهم حسنًا بكل من انتسب هذه النسبة، وبفتح بذلك أبواب شر " انتهى .
وكان الشيخ يريد بذلك أن من قال بما في كتاب " الإبانة " لا ينبغي له أن ينتسب إلى الأشعري؛ لأن هذا ليس قول الأشعري وحده، وإنما هو قول أهل السنة، ولأنه بهذا الانتساب يوهم أن المراد الانتساب إلى مذهب الأشعري الذي رجع عنه - وهو تأويل الصفات -، وهو مذهب باطل ومبتدع .
هذا ما أردنا تعليقه على مقالات الشيخ الصابوني الذي حاول بها تعتيم الرؤية حول مذهب الأشاعرة في الصفات، وإيهام الأغرار أنه مذهب أهل السنة .
ونسأل الله لنا وله التوفيق لمعرفة الحق والعمل به .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه .(1/37)
تعقيبات وملاحظات على كتاب صفوة التفاسير
* مقدمة الطبعة الثانية :
الحمد لله معز من أطاعه واتقاه، ومذل من خالف أمره وعصاه، والصلاة والسلام على نبينا وعلى آله وصحبه ومن والاه . وبعد :
فقد اطلعت على مجموعة أوراق سودها محمد بن على الصابوني يزعم أنه يدافع عن كتابه الموسوم : " صفوة التفاسير " وما فيه من أخطاء علمية استدركت عليه (1)، وكان الأجدر به أن ينظر فيها فيقبل ما فيها من حق، فإن الحق ضالة المؤمن أنى وجده أخذه، وما فيها من خطإ - إن كان - فإنه يبين وجهة نظره فيه بإنصاف ورفق - لكنه على النقيض من ذلك - سمى هذه الملاحظات والإرشادات افتراءات حيث عنون الأوراق المذكورة بقوله : " كشف الافتراءات " ، وما تصور هداه الله ما لهذه الكلمة ( الافتراءات ) من معنى وخيم رمى به جماعة من طلبة العلم ليس لهم قصد فيما لاحظوه عليه إلا المناصحة له والنصيحة لكتاب الله، إن الافتراء كبيرة من كبائر الذنوب، يدل على عدم إيمان من اتصف به، قال تعالى : { إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ } ، إن العلماء ما زالوا يبينون للمخطئ خطأه وما كانوا بذلك مفترين، بل كانوا مشكورين . ولم ينقص ذلك من قدر المخطئ إذا قبل النصح وصحح خطأه أو بين وجهة نظره بأدب وحسن ظن بمن لاحظوا عليه " وكلكم خطاء وخير الخطائين التوابون " وقد قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس : كلنا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر ( يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) .
ثم إن الأستاذ الصابوني يطالب باحترام العلماء - وكأنه بهذا يتصور أن بيان خطإ المخطئ فيه تنقيص للعلماء وهذا تصور خاص به - وأيضا هو لم يلتزم بالأدب في رده على مخالفيه حيث وصفهم بالتطاول على الناس وحب الظهور بمظهر العلماء والحسد وحب الشهرة، وأشد من ذلك قوله : إنهم هم الذين عناهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله : ( يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه ) ، إلى غير ذلك من جزاف التهم وهجر القول، وما أظن هذا يصدر إلا ممن هذه أوصافه ويظن الناس مثله، لأن المنظار الأسود يصور كل الذي أمامه أسود .(1/38)
وقل للعيون الرمد للشمس أعين ** سواك تراها في مغيب ومطلع
إن الأستاذ الصابوني إن خدع نفسه بمثل هذا الأسلوب فلا يمكن أن يخدع القراء الذين يطلبون منه أن يقرع الحجة بالحجة، ولا يقرعها بالسباب والشتم لمن خالفه وبين خطأه، لكنه لما لم يملك حجة يقارع بها لجأ لمثل هذا الأسلوب الذي لا يعجز عنه أحد .
إنه مع هذه المكابرة اعترف بالخطأ حين قال : ضاقت صدور بعض الحاسدين فأخذ يتبع بعض الأخطاء التي لا يسلم منها إنسان، ولو كان مخلصًا لله في عمله وقصده لكتب إليَّ سرًّا لأتدارك تلك الأخطاء .
ونحن نقول له : أنت قد طبعت كتابك طبعات متتابعة ووزعته على نطاق واسع بأخطائه وهفواته، ولم تتوقف عن طباعته وتوزيعه وهو على حاله، رغم أن هذه الملاحظات قد وصلت إليك عن طريق رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، فلم تعبأ بها، بل كتبت إلي كتابًا لا أزال محتفظًا به عندي تنكر فيه على ما عملته من ملاحظات وبأسلوب بذيء ولاذع، أفترى أن نقف بعد هذا التصرف منك مكتوفي الأيدى ليمر كتابك بسلام، ويغتر به من ليس على مستوى علمي جيد فيظنه سليمًا . إن هذا من الخداع والخيانة للعلم وعدم النصيحة للأمة .
الرد على إجاباته عن بعض الملاحظات :
لقد حاول أن يجيب عما لوحظ عليه، والغالب على تلك الإجابة أنها مجرد مهاترات ليس فيها إجابة واحدة صحيحة، ولكن الرجل يكثر الكلام والمراوغة كمن يفسر الماء بعد الجهد بالماء – وأنا لا أرد عليه بالمثل في تهجماته ومهاتراته، ولكن سأبين – إن شاء الله – أنه لم يخرج بإجابة واحدة صحيحة . وحبذا لو أنه اعترف بالخطأ وصححه . أو أجاب إجابة مقنعة، وإليك التعقيب على بعض إجاباته باختصار :
1 – قال : إنه لم يأخذ من الكتب الاعتزالية إلا النواحى البلاغية .
وهذه مغالطة مكشوفة، وهل أوقعه في الأخطاء الكثيرة في الصفات وغيرها إلا ما نقله عن تلك الكتب بدون تمحيص .(1/39)
2 – قال : إن إنكاري عليه إثباته المجاز في القرآن يعني تعرية القرآن عن أخص خصائصه البلاغية والبيانية .
وأقول : يا سبحان الله ! كيف يجيز لنفسه أن يقول : إن كلام الله غير حقيقة وإما هو مجاز { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا } ، وإذا كان كلام الله ليس حقيقة فماذا يكون .
ونقول أيضا : ليس كل ما جاء في لغة العرب يجوز في كلام الله عز وجل، فاللغة يجري فيها الكذب والشتم وقول الزور والمدح الكاذب والهجاء المقذع، وهذا مما ينزه عنه كلام الله .
ثم قال أيضا : أوصيك أن تقترح على وزارة المعارف إلغاء مادة البلاغة لأنها من البدع المستحدثة في الدين .
وأقول : ما علاقة تقرير وزارة المعارف لمادة البلاغة بإثبات وجود المجاز في القرآن الكريم، وهل هذا حجة ؟ لكنه لا يملك حجة غير المغالطات . ثم هل دراسة الشيء تعني الاعتراف به أو أنها للاطلاع فقط ومعرفة الحق من الباطل .
3 – أجاب عن قولي عن ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر أنها أسماء رجال صالحين . بقوله : إنهم ما عبدوا الرجال وإنما عبدوا الأصنام – ثم تناقض مع نفسه فقال : فأصل هذه أنها أسماء رجال صالحين – لأنه اضطر إلى ذلك بسبب أنه وجد ما يدل على ذلك في صحيح البخاري .
4 – أجاب عن اعتراضي عليه في نفيه التعجب عن الله، بأن الذي في الآية الكريمة هو قوله تعالى : { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ } وهذه ليست صيغة تعجب عنده .
وأقول : إذا لم تكن هذه صيغة تعجب فما هي صيغة التعجب في لغة الصابوني ؟ ومن هو الذي قال : { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ } ؟ أليس هو الله سبحانه، وهل من تكلم بصيغة التعجب لا يكون متعجبًا .
5 – لم يرقه التعبير بما عبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه بقوله : ( أنا سيد ولد آدم ) ، بل أصر على قوله : هو سيد الكائنات .
وأقول : هو له أن يقول ما شاء، أما نحن فنكتفي ونرضى بما رضيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لنفسه .(1/40)
6 – لم يكفه ما جاء في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من تفسير اسمي الله سبحانه ( الظاهر والباطن ) بأنه الظاهر الذي ليس قبله شيء والباطن الذي ليس دونه شيء، فراح يحشد التفاسير الأخرى .
وأقول : لا قول لأحد بعد قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولو جئت بمائة تفسير أو أكثر، فنحن يكفينا تفسير الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
وقوله : إن ابن كثير قال : وقد اختلفت عبارات المفسرين في هذه الآية وأقوالهم على نحو من بضعة عشر قولًا .
أقول : ابن كثير لم يقف عندما ذكرت بل ذكر بعد ذلك الأحاديث التي تتضمن تفسير النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذين الاسمين، ليبين أن الحجة في ذلك هي قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - . ثم إنك لم تنقل كلام البخاري بنصه، بل حذفت منه كلمة ( يحيى ) (2) ، قال البخاري - رحمه الله - : قال يحيى : الظاهر على كل شيء علمًا – إلخ -، وأنت قلت : قال البخاري : الظاهر على كل شيء علمًا إلخ، فنسبت القول للبخاري وهو ليس كذلك سامحك الله .
ثم ختم الشيخ تعقيباته بقول : فهذه أهم ما جاء في ملاحظات الدكتور الفوزان، وهناك ملاحظات طفيفة يسيرة – إلخ – وأقول :
1 – أنا ليس اسمي الفوزان، إنما اسمي صالح بن فوزان، فلماذا لا تسميني باسمي الذي سميت به، أو إنك لا تتقيد بالأسماء وإنما تستعمل المجاز .
2 – قوله : وهناك ملاحظات طفيفة يسيرة، أقول : بل بقي ملاحظات مهمة كثيرة لم تستطع الإجابة عنها، فلو أنك اعترفت بالحق لكان خيرا لك، فإن الناس يدركون أن ما بقي من الملاحظات ليس طفيفا يسيرا وإنه بحاجة إلى إجابة مقنعة أو تسليم ورجوع إلى الحق، هدانا الله وإياك وسائر المسلمين للحق والصواب .
* مقدمة الطبعة الأولى :
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه، وبعد :(1/41)
فإن المسلمين بحاجة شديدة إلى معرفة معاني كتاب ربهم عز وجل؛ لأن ذلك وسيلة للعمل به والانتفاع بهديه، وقد قام أئمة الإسلام بهذه المهمة خير قيام، ففسروا كتاب الله معتمدين في ذلك على تفسير القرآن بالقرآن، ثم بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم على أقوال الصحابة والتابعين وأتباعهم من القرون المفضلة، وما تقتضيه اللغة التي أنزل بها، فجاءت تفاسيرهم نقية صافية من التأويلات الباطلة والأهواء المضلة التي غالبا ما تشتمل عليها تفاسير من جاء بعدهم ممن لم يحذ حذوهم .
وقد ظهر أخيرا تفسير للشيخ محمد على الصابوني تحت عنوان : " صفوة التفاسير " ، وهو عنوان يلفت النظر، لأنه يتضمن أن المؤلف أحاط بالتفاسير وانتقى منها صفوتها الصافية المطابقة للتفسير الصحيح لكتاب الله، وأكد ذلك بما كتبه تحت العنوان من قوله : " تفسير للقرآن الكريم جامع بين المأثور والمعقول، مستمد من أوثق كتب التفسير " ، وكنت ممن استهواهم هذا العنوان، فأقبلت على قراءة هذا التفسير، وسرعان ما تبين لي أنه يشتمل على أخطاء في العقيدة مستمدة من كتب ليست هي أوثق التفاسير، وحيث إن الكتاب قد انتشر ووقع بين يدي كثير ممن قد لا يميزون بين الخطإ والصواب، لذا رأيت أن أدون ما رأيته على الكتاب من
ملاحظات، وأن أنشرها للقراء إبراء للذمة، ونصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم .
وهذه الملاحظات تنقسم إلى قسمين :
1 – ملاحظات عامة مجملة على الكتاب تعطى فكرة عامة عنه .
2 – ملاحظات تفصيلية أبين فيها موضع الخطإ بالجزء والصفحة والسطر، ثم أشخص الخطأ وأرد عليه برد مختصر .
هذا وأسال الله لي ولفضيلة الشيخ محمد على الصابوني التوفيق لمعرفة الحق والعمل به، وأسال الله ذلك لجميع المسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
ملاحظات عامة على كتاب " صفوة التفاسير " للصابوني :(1/42)
1 – اعتماده على مصادر غير مرغوب فيها ووصفه لها بأنها أوثق كتب التفسير، مثل : " تلخيص البيان " للرضي الشيعي الرافضي المعتزلي، و " تفسير الزمخشري " المعتزلي، وعلى تفاسير الأشاعرة كالرازي وأبي السعود والصاوي والبيضاوي، وبعض التفاسير العصرية مثل تفسير سيد قطب والقاسمي، ولا يخفى ما في هذا من التغرير بالقراء الذين لا يعرفون حقيقة هذه الكتب .
2 – إثبات المجاز والاستعارات في القرآن الكريم مما لا يتناسب مع مكانته الجليلة، وكلام الله يجب حمله على الحقيقة لا على المجاز .
3 – حشو الكتاب بما لا يفهمه كثير من القراء من اصطلاحات البلاغيين، مثل : الطباق، والجناس، والاشتقاق، والإطناب، والحذف، ويذكر هذه الأشياء بمجرد أسمائها من غير إيضاح لها .
4 – يورد في الكتاب كثيرا من الأحاديث في أسباب النزول، ولا يبين درجتها من الصحة وعدمها .
5 – ينقل من كتب المعتزلة والأشاعرة من غير تعليق على ما تشتمل عليه عباراتهم من أغلاط في العقيدة، وهذا فيه تمرير لعقائدهم الباطلة وتغرير بالقارئ المبتدئ .
6 – يتهرب من تفسير آيات الصفات بالأحاديث التي جاءت توضحها، كما في آية { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } ، وآية : { هُوَ الأول وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } ، وآية : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } ، ويفسرها بما فسرها به نفاة الصفات .
7 - يتمشى على منهج المتكلمين في الاستدلال بالآيات على إثبات توحيد الربوبية ووجود الرب ولا يستدل بها على توحيد الإلهية الذي سيقت من أجله وجاءت لمحاجة المخالفين فيه .
8 - يتمشى على منهج المرجئة في تفسير الإيمان بالتصديق فقط .
9 - تمر في تفسيره تعبيرات صوفية وقد نبهنا عليها في مواضعها .
وإليك بيان ذلك بالتفصيل :
تفصيل الملاحظات على " صفوة التفسير " :
الملاحظات على الجزء الأول :(1/43)
في صفحة ( 24 ) السطر الأخير : تسمية الله بالموجود وهذا خطأ لأن أسماء الله توقيفية وليس هذا منها ولأن هذا تعبير أهل وحدة الموجود .
وفي الصفحة ( 25 ) سطر ( 1 ) قوله : المنفرد بالوجود الحقيقي وهذا باطل لأنه تعبير أهل وحدة الوجود كالذي قبله .
في صفحة ( 30 ) السطر ( 3 ) قوله : والتحذير من معاشر النساء في حالة الحيض وهذا التعبير خطأ لأن المعاشرة بغير الجماع ليست ممنوعة .
في صفحة ( 42 ) قوله : لنفي التأبيد والصواب : النفي المؤبد لأن التأبيد معناه عدم التأبيد .
في صفحة ( 44 ) سطر ( 11 ) : حصل منه تأويل الحياة في حق الله تعالى بغير معناه الحقيقي وهذا باطل حيث قال : الحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان والمراد به هنا لازمه وهو الترك .
في صفحة ( 46 ) سطر ( 5، 6 ) : حصل منه تأويل الحياء في حق الله تعالى بغير معناه الحقيقي وهذا باطل .
في صفحة ( 52 ) سطر ( 7 - 9 ) قال كلامًا معناه : إن المعصية لا تؤثر في الولاية أخذًا من قصة آدم وهو خطأ لأن آدم تاب من معصيته والتائب من الذنب كمن لا ذنب له والصوفية يرون أن الولي تسقط عنه التكاليف . وهذا نص كلامه حيث يقول : سابق العناية لا يؤثر في حدوث الجناية ولا يحط من رتبة الولاية، إلخ .
في صفحة ( 90 ) سطر ( 6 - 7 ) : تأويل الوجه بالذات وهو تأويل باطل لأنه نفي لصفة ثابتة لله تعالى .
في صفحة ( 102 ) فقرة ( 3 ) : تأويل الوجه بالذات أيضا .
في صفحة ( 103 ) سطر ( 5، 4 ) : أخطأ في توجيه تسمية الصلاة إيمانًا حيث زعم أنها متممة للإيمان فقط والصواب أنها جزء عظيم من الإيمان ينفى الإيمان بانتفائها .
في صفحة ( 141 ) السطر الأخير يقول : اجتنبوا معاشرة النساء في المحيض وفي صفحة ( 142 ) سطر ( 5 - 6 ) كرر هذا القول وهذا خطأ لأن المحرم هو الجماع فقط كما قدمنا .(1/44)
في صفحة ( 155 ) سطر ( 15 - 16 ) : قوله عن الله أو سعى لإصلاحها تعبير غير مناسب في حق الله لأنه لم يرد وصف الله بالسعي .
في صفحة ( 174 ) سطر ( 11 ) تعريف للربا فيه نقص لأنه غير جامع لأنه خصه بالزيادة في الدَّين وهو ربا النسيئة وهناك ربا آخر هو ربا الفضل .
في صفحة ( 183 ) سطر ( 13 ) قوله : التأويل التفسير فيه نقص لأن التأويل قد يراد به التفسير وقد يراد به الحقيقة التي يئول إليها الشيء والمراد هنا المعنى الثاني .
في صفحة ( 184/185 ) قال : إن المتشابه يرد إلى المحكم وفي صفحة ( 185 ) قال : إنه لا يعلم تفسير المتشابه ومعناه الحقيقي إلا الله وهذا تناقض . فإن كان لا يعلم تأويله إلا الله فكيف يرد إلى المحكم .
في صفحة ( 195 ) : نقل في الحاشية عن سيد قطب كلامًا يقرر فيه ثبوت الشمس ودوران الأرض عليها وهذه النظرية تعارض ما في القرآن من ثبوت الأرض وجريان الشمس حولها .
وقال : فإن القلب يكاد يبصر يد الله وهي تحرك الأفلاك وهو قول على الله بلا علم لأن الأفلاك تتحرك بأمر الله وتقديره .
في صفحة ( 207 ) سطر ( 3 ) قوله : أي لا يوجد إله غير الله تضاف إليها كلمة ( حق ) لأن هناك آلهة باطلة .
في صفحة ( 207 ) سطر ( 13 - 14 ) : أورد إشكالا حول إسناد المكر إلى الله ولم يجب عنه بجواب واضح .
في صفحة ( 205 ) آخر الصفحة : ذكر كلامًا في معنى توفي المسيح فيه نظر حيث زعم أن التوفي بعد الرفع .
في صفحة ( 213 ) سطر ( 7 - 8 ) تأويله نفي تكليم الله للمجرمين ونظره إليهم بأنه مجاز عن شدة غضبه
في صفحة ( 250 ) السطر ( 17 ) قوله : ( ولما كان الله لا يكتب ) ما الدليل على هذا النفي وفي الحديث : ( وكتب التوراة بيده ) .
في صفحة ( 262 ) سطر ( 9 ) قال : وهو زواج حقيقي لكنه غير مسمى بعقد، كيف يكون زواجًا بدون عقد، ثم وصفه في السطر ( 10 ) بأنه عقد حرام، وهذا تناقض .(1/45)
في صفحة ( 266 ) في الهامش رقم ( 3 ) : نقل تعليلًا عن سيد قطب لعدم قبول توبة المحتضر، بأنه لم يبق لديه متسع لفعل المعاصي، وهذا فيه نظر، والصواب - والله أعلم - لأن المحتضر يتوب عندما يعاين من كان غائبًا عنه في الحياة من الملائكة والعقوبة وغير ذلك .
في صفحة ( 269 ) السطر الأخير : استدل على جواز نكاح المسلم المسبية المزوجة من كافر بقوله تعالى { وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } ، وهذا استدلال غير صحيح لأن الآية تمنع تزوج المسلم من كافرة .
في صفحة ( 271 ) سطر ( 17 ) : فسر الإيمان بأنه التصديق، وهذا مخالف لتعريفه عند جمهور أهل السنة، وموافق لقول المرجئة .
في صفحة ( 293 ) سطر ( 14 ) : قوله : لا معبود سواه الصواب : لا معبود بحق سواه، لأن هناك معبودات بغير حق .
في صفحة ( 296 ) السطر الأخير : ذكر كلامًا فيه خلط بين مذهب الجمهور ومذهب ابن عباس في عقوبة قتل العمد .
في صفحة ( 316 ) سطر ( 8 ) : ( فسوف نؤتي ) ( الصواب : يؤتيه ) .
في صفحة ( 318 ) الفقرة رقم ( 49 ) آخر الصفحة قوله : إن الرسوخ في العلم وقول اليهود { قُلُوبُنَا غُلْفٌ } من باب الاستعارة، قول باطل، لأنه رسوخ حقيقي وتغليف حقيقي ليس هو استعارة ومجاز .
في صفحة ( 3199 سطر ( 1 ) قوله : إن قوله تعالى عن اليهود { وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء } ، { وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللَّهِ } من المجاز المرسل خطأ أيضا، بل هو حقيقة، فهم لما رضوا بفعل أسلافهم شاركوهم في الجريمة ولما كفروا بكتاب واحد كفروا بالكل حقيقه لا مجازًا .
في صفحة ( 322 ) سطر ( 11 ) قوله : لأن الإله منزه عن التركيب وعن نسبة المركب إليه، ليس هذا من تعبيرات السلف والتركيب لم يرد نفيه ولا إثباته في حق الله تعالى فيجب السكوت عنه، والحق أن يقال ما قاله الله عن نفسه : { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } ، ثم إن التركيب فيه إجمال لا بد من تفصيله .(1/46)
في صفحة ( 328 ) سطر ( 18 ) في موضوع الصيد : قال : هذه أربع شروط، مع أنه لا يذكر إلا اثنين : التعليم وذكر اسم الله، والصواب أيضا أن يقال أربعة شروط، لا أربع .
يقال أربعة شروط، لا أربع .
في صفحة ( 345 ) سطر ( 5 ) قوله : هذا تعجيب من الله تعالى لنبيه، هذا التعبير خطأ، لأنه يتضمن نفي التعجب عن الله، وقد ثبت في الأدلة أنه سبحانه يعجب، ومثل هذا يتكرر كثيرًا، والصواب أن يقول : هذا تعجب من الله .
في صفحة ( 195، 395 ) : يكرر كلمة ( شهيد الإسلام ) – يعني سيد قطب - رحمه الله - – عندما ينقل عنه كلامًا يستشهد به على تفسير بعض الآيات . مع أن الجزم بالشهادة لمعين لا يجوز إلا بنص، لكننا نرجو للمحسنين ونخاف على المسيئين من المسلمين .
في صفحة ( 356 ) سطر ( 11 ) قوله : الصابئون طائفة من النصارى عبدوا الكواكب، فيه نظر لأن الصابئة على قسمين : صابئة حنفاء وصابئة وثنيون، انظر ما ذكره ابن القيم في " إغاثة اللهفان " عنهم . وفي السطر الثالث قبل الأخير خلل ونقص فليراجع .
في صفحة ( 358 ) سطر ( 11 ) قوله : " وإنما موسى وعيسى مظاهر شئونه وأفعاله " .
هذا التعبير غير مناسب؛ لأنه يشبه تعبير الصوفية .
في صفحة ( 366 ) سطر ( 20 ) قال : إن الحرم سبب لأمن الناس من الآفات والمخافات .
وهذا لا دليل عليه وفيه مبالغة واعتقاد فاسد بغير الله .
في صفحة ( 371 ) سطر ( 14 ) قوله : السؤال عن المتشابهات ومن ذلك سؤال مالك عن الاستواء .
الصواب : أن يقال : عن كيفية الاستواء لأن السائل قال : كيف استوى فقال مالك : الاستواء معلوم والكيف مجهول ولم يسأله عن معنى الاستواء .
في صفحة ( 401 ) سطر ( 20 ) قوله : لأن الرب لا يجوز عليه التغير والانتقال لأن ذلك من صفات الأجرام .
أقول : نفي الانتقال ونفي الجرم عن الله لم يرد به دليل من الكتاب والسنة، وما كان كذلك وجب التوقف فيه ولما فيه من الإجمال .(1/47)
في صفحة ( 409 ) سطر ( 14 ) : تفسيره الإيمان بالتصديق بوجود الله تفسير قاصر ومخالف لما عليه أهل السنة من أن الإيمان تصديق بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح .
في صفحة ( 410 ) سطر ( 8 ) قال على قوله تعالى : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } أي لا تصل إليه وهو تفسير خاطئ حيث ثبت أن المؤمنين يرونه يوم القيامة، وإنما الصواب أن يقال : ( لا تدركه ) : لا تحيط به حين تراه .
في صفحة ( 450 ) سطر ( 17 ) قوله : " أن معبودكم وخالقكم الذي تعبدونه " في العبارة ركاكة وخلط، والصواب أن يقال : إن خالقكم ومالككم والمستحق للعبادة، لأن كثيرا من المخاطبين يعبدون غيره معه فلا يكفي التعبير ب- " تعبدونه " .
في صفحة ( 476 ) سطر ( 17 ) قوله : ولا معبود سواه، الصواب : ولا معبود بحق سواه، لأن هناك معبودات كثيرة لكن بغير حق .
في صفحة ( 481 ) سطر ( 2 ) من الحاشية حول إشهاد بني آدم على أنفسهم قال : هذا من باب التمثيل والتخييل، يجب حذف هاتين الكلمتين لعدم لياقتهما وسوء التعبير بهما، لأن الإشهاد حقيقي وليس تخييلا وتمثيلا كما قال .
في صفحة ( 512 ) سطر ( 11 ) قوله : لأن الحرب ضرورة اقتضتها ظروف الحياة . . إلخ . يعني الجهاد في سبيل الله، وهذا الكلام غير مناسب، لأن الجهاد في الإسلام شرع لنشر عقيدة التوحيد في الأرض وظهور دين الإسلام على سائر الأديان، قال تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ } ، وغيرها من الآيات التي تبين الحكمة التي من أجلها شرع الجهاد في سبيل الله لا من أجل ظروف الحياة كما زعم .
في صفحة ( 531 ) سطر ( 16 ) : نقل عن الرازي نفي التعجب عن الله وأقره على ذلك، وهذا خطأ فاحش، لأن التعجب ثابت لله صفة من صفاته الفعلية على ما يليق به .(1/48)
في صفحة ( 531 ) سطر ( 19 ) قوله عن أهل الكتاب مع أحبارهم ورهبانهم : ( وإن كانوا لم يعبدوهم ) ، هذا النص خطأ لأن الله اعتبر طاعتهم لهم في تحليل ما حرم وتحريم ما أحل عبادة، فكيف يقول لم يعبدوهم وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - لعدي معنى عبادتهم لهم بهذا الذي ذكرنا .
في صفحة ( 554 ) سطر ( 6 ) قوله : أي لا تقف على قبره للدفن أو للزيارة والدعاء، يزاد كلمة : ( له ) فيقال والدعاء له بالمغفرة ليزول اللبس .
في صفحة ( 564 ) سطر ( 19 ) قوله على آية { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى } هو تمثيل إلخ، خطأ لأنه لا مانع من حمله على الحقيقة .
في صفحة ( 570 ) سطر ( 2 ) قوله : أى لا معبود سواه، يزاد عليه كلمة : ( بحق ) ليصح التعبير .
في صفحة ( 570 ) سطر ( 5 ) : تفسيره { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى } بأنه استعارة تبعية، خطأ لأن الأصل في الكلام لاسيما كلام الله الحقيقة لا المجاز والشراء في اللغة استبدال شيء بشيء .
في صفحة ( 574 ) سطر ( 10 ) قوله عن القمر : أي قدر سيره في منازل هي البروج، هذا خطأ لأن المنازل للقمر والبروج للشمس، ومنازل القمر ثمان وعشرون والبروج اثنا عشر فقط .
في صفحة ( 581 ) السطر قبل الأخير قوله : أي تبرأ منهم الشركاء ( وهم الأصنام الذين عبدوهم ) ، نقول : ليس هذا خاصا بالأصنام، بل كل ما عبد من دون الله من الملائكة والأولياء وغيرهم، فقصره على الأصنام خطأ وقصور ظاهر، لأن الله تعالى قال : { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ } الآية، وقال تعالى : { ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ } وما بعدها .
الملاحظات التفصيلية على الجزء الثاني :
في صفحة ( 9 ) سطر ( 16 ) قوله : ولا معبود إلا الله، الصواب أن يقال ولا معبود بحق إلا الله، لأن هناك معبودات كثيرة بغير حق .(1/49)
في صفحة ( 22 ) سطر ( 21 ) قوله : ليس لكم رب معبود سواه، والصواب ليس لكم رب معبود بحق سواه .
في صفحة ( 18، 25، 32 ) سطر ( 19، 7، 2 ) يقول : إن الأمر في قوله تعالى : { وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا } كناية عن العذاب، وهذا خطأ لأن المراد الأمر الكوني القدري فليس هو كناية كما يقول بل هو أمر حقيقة .
في صفحة ( 60 ) سطر ( 5 ) قبل الاخير : ذكر حديثا من غير توثيق مصدره وبيان درجته .
في صفحة ( 67 ) سطر ( 6 ) قبل الأخير : علل رجوع بصر يعقوب عليه السلام إليه أنه بسبب السرور والانتعاش، وفي هذا التعليل نظر : لأن ذلك معجزة من معجزات الأنبياء التي لا ندرك حقيقتها .
في صفحة ( 69 ) سطر ( 7 ) قبل الأخير قوله : الدالة على وجود الله، لو قال على قدرة الله لكان أنسب، لأن مجرد الوجود لا مدح فيه .
في صفحة ( 73 ) سطر ( 3 ) قبل الأخير قوله : ( من غير تجسيم ) ، التجسيم لم يرد نفيه ولا إثباته في الكتاب والسنة وهو من الألفاظ التي تحتمل حقا وباطلا .
في صفحة ( 76 ) سطر ( 7 ) قوله : ( المستعلي على كل شيء بقدرته ) ، هذا تفسير ناقص يقوله نفاة العلو، والحق : إنه تعالى مستعل على كل شيء بذاته وقدره وقهره .
في صفحة ( 76 ) سطر ( 12 ) قوله عن المعقبات : أنها ( كالحرس في الدوائر الحكومية ) فيه تشبيه الملائكة بالبشر , وهذا فيه تنقيص لقدرهم , وفيه تشبيه لحراسة الملائكة بحراسة البشر , والمشبه أقل من المشبه به , فعلى هذا تكون حراسة الملائكة أقل من حراسة البشر .(1/50)
في صفحة ( 77 ) سطر ( 7 ) قوله : ( ويجادلون في وجود الله ) ، هذا لا يصح لأن كفار قريش يؤمنون بوجود الله وبتوحيد الربوبية , وإنما يجادلون في تخصيصه بالعبادة , وكذلك ما جاء في صفحة ( 98 ) من أن الآيات سيقت لإثبات وجود الله , وهذا خطأ واضح , لأن الكفار يقرون بوجود الله وبتوحيد الربوبية , وإنما ينكرون توحيد الإلهية حيث يعبدون مع الله غيره , فالآيات سيقت هي وأمثالها لإثبات توحيد الإلهية والاستدلال عليه بتوحيد الربوبية الذي يعترفون به .
في صفحة ( 118 ) بين يدي السورة , أي : سورة النحل , يذكر في تلك المقدمة : أن سورة تركز على الوحدانية والقدرة , وهذا إجمال , فالسورة تركز على توحيد العبادة , والاستدلال عليه بتوحيد الربوبية ويحمل الآيات عليه , مع أن المشركين يقرون به , فلو كان كما فهم المؤلف لكان تحصيل حاصل , بينما القرآن دائما يركز على توحيد العبادة ويستدل عليه بتوحيد الربوبية الذي يقر به المشركون؛ لأن ذلك حجة عليهم فيما أنكروه من توحيد الإلهية .
في صفحة ( 119 ) سطر ( 19 ) قوله : إنه لا معبود إلا الله , لن هناك معبودات بالباطل , فلا بد من التقييد , وقد درج على هذا التعبير في تفسيره .
في صفحة ( 126 ) سطر ( 3 ) من الحاشية , يقول نقلًا عن سيد قطب : ( فالله سبحانه لا يريد لعباده الشرك ) ، وهذا النفي فيه إجمال , لأن إرادة الله على نوعين : إرادة كونية وإرادة شرعية , فالله أراد الشرك كونًا ولم يرده شرعًا ولا يرضاه دينًا , والمشركون يبررون شركهم بأن الله أراده , وإذا أراده فقد رضيه بزعمهم , وفي هذا خلط بين الإرادتين , فرد الله عليهم بأنه لو رضيه لما أرسل رسله بإنكاره , فدل على أنه لم يرد الشرك شرعًا ودينًا وإن كان أراده كونًا وقدرًا , والفرق بين الإرادتين ظاهر , فلا يصح أن تنفي إرادة الله للشرك بإطلاق كما قال سيد قطب , ونقله عنه المؤلف مقررًا له .(1/51)
في صفحة ( 127 ) سطر ( 7 , 6 ) قبل الأخير قال : والحقيقة أنه تعالى لو أراد شيئًا لكان يغير احتجاج إلى لفظ ( كن ) ، هذا القول يحتاج على دليل فإنه لا يقال في حق الله شيء إلا بدليل , أن يكون الرأي متسربًا منه الذين ينفون الكلام عن الله . وذكر الاحتجاج لا يناسب .
في صفحة ( 129 ) سطر ( 3 ) قال : في تفسير قوله تعالى : { يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ } أي يخافون جلاله وعظمته , هذا تفسير مجمل لم يبين فيه معنى الفوقية الحقيقي الذي هو علو الذات الكريمة فوق عباده بل اقتصر على تفسيره بالجلالة والعظمة .
في صفحة ( 147 ) سطر ( 11 ) قوله : في تفسير { وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } أي : ما ذبح على اسم غير الله تعالى , في العبارة قصور , فلو زاد : أو تقرب به إلى الأصنام ولو ذكر اسم الله عليه .
في صفحة ( 151 ) سطر ( 10 ) : نقله لبيت الشعر الذي فيه مخاطبة الرسول :
سريت من حرم ليلًا إلى حرم **
فيه نظر , لأن وصف المسجد الأقصى المبارك بأنه حرم لا يصح , لأنه ليس هناك حرم إلا في مكة المشرفة حول البيت العتيق وحرم المدينة , والله لم يصف المسجد الأقصى بأنه حرم حيث يقول سبحانه : { أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } فلم يقل إلى المسجد الأقصى الحرام كما قال ذلك في مسجد مكة .
في صفحة ( 152 ) قوله في الجاثية : قضاء الله على بني إسرائيل بالإفساد مرتين ليس قضاء قهر وإلزام إلخ : عليه ملاحظتان :
الأولى : أن هذا التعبير خلاف تعبير الآية الكريمة , فالله تعالى يقول : { وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ } أي أعلمناهم وأخبرناهم في التوراة , ولم يقل : قضينا عليهم , إذ لو قال ذلك لاختلف المعنى , فالقضاء هنا معناه الإخبار فلا يحتاج إلى هذا الاحتراز .(1/52)
الثانية : أن ما حصل من بني إسرائيل لا يخرج عن قضاء الله الكوني وقدره , فليس هناك شيء يخرج عن قضاء الله الكوني وقدره، ولا يمنع هذا أن يكون لهم اختيار وقدرة ومشيئة لأفعالهم يستحقون بموجبها الثواب والعقاب كما قال تعالى { وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ } ولا يكفي أن يقال : إن الله علم ذلك أزلًا وأخبر عنه كما يقول المعلق في الحاشية، بل يقال إن الله علمه وقضاه وقدره وكتبه في اللوح المحفوظ .
في صفحة ( 154 ) في آخر الصفحة، ذكر أحد المفسرين لقوله تعالى : { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } ، وهو المراد بالأمر الأمر بالطاعة وهو الأمر الشرعي وهو قول في معنى الآية . ولم يذكر القول الثاني وهو أن المراد بالأمر في هذه الآية الأمر الكوني القدري، وهذا قصور أو منقول عن المعتزلة الذين ينكرون القدر .
في صفحة ( 155 ) سطر ( 5-6 ) نقل عن ابن كثير قول ابن عباس في تفسير قوله تعالى { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } أنه بمعنى سلطانهم دون أن يشير إلى أن هذا التفسير على قراءة التشديد- الميم في أمرنا كما هو في ابن كثير .
في صفحة ( 172 ) سطر ( 19 ) قال على قوله { وَزَهَقَ الْبَاطِلُ } فلا شرك ولا وثنية بعد ِإشراق نور الإيمان في هذا نظرًا لأن الشرك والوثنية لا يزال كل منهما موجودًا، فيكون المراد أن حجة الحق ظهرت وبطلت حجة الباطل وليس المراد عدم وجود الباطل .
في صفحة ( 173 ) سطر ( 12-13 ) قوله ( فإن كانت نفس الإنسان مشرقة صافية صدرت عنه أفعال كريمة ) .
هذا تعبير صوفي اعتزالي معناه نفي القدر، والحق أن يقال : فمن كتب من أهل السعادة فيستعمل بعمل أهل السعادة ومن كتب من أهل الشقاوة , كما في الحديث الذي بين سبب السعادة والشقاوة , وكما دل عليه القرآن، وإشراق النفس سببه أنها قد كتبت من أهل السعادة .(1/53)
في صفحة ( 174 ) آخر اللطيفة التي ذكرها (3) في الرد على منكر المجاز لا يصح الاحتجاج بها؛ لأن العمى أنواع : منه عمى البصر ومنه عمى القلب وهو المراد في الآية، فليس هو مقصورا على عمى البصر حتى يصبح الاحتجاج بتلك الحكاية , قال تعالى : { فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } .
في صفحة ( 185 ) سطر ( 4 ) من الحاشية : قول سيد قطب فيما نقله عنه المؤلف في موضوع أصحاب الكهف : وهم لا يطيقون كذلك أن يداروا القوم ويعبدوا ما يعبدون من الآلهة على سبيل التقية ويخفوا عبادتهم الله ) ، وفي هذا القول مؤاخذة؛ لأن الشرك لا يجوز فعله من باب التقية، وإنما هذا خاص بالنطق بكلمة الكفر لأجل التقية مع اطمئنان القلب بالإيمان وهذا ما نادى به أصحاب الكهف حيث قالوا { لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا } .
في صفحة ( 208 ) سطر ( 15 ) قال على قوله تعالى : { قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي } فكلام الله تعالى غير عمله وكل منهما صفة مستقلة عن الأخرى والمراد كلماته الحقيقية التي بها يخلق ويرزق ويشرع ويأمر وينهى .
في صفحة ( 210 ) سطر ( 3 ) قوله : ومحور هذه السورة يدور حول التوحيد والإيمان بوجود الله كثيرًا ما يكرر المؤلف مثل هذه العبارة ( وجود الله ) , مع أن وجود الله تعترف به جميع طوائف البشر وإنما الخلاف في توحيد العبادة وهو الذي دعت إليه جميع الرسل ونزلت لتقريره جميع الكتب، وإنما توحيد الربوبية الذي منه الإقرار بوجود الله ( كما يسميه ) فليس محل نزاع، وإنما يذكر في القرآن للاستدلال به على توحيد العبادة لا لأجل إثباته لأنهم يقرون به، والشواهد على هذا كثيرة حتى إبليس مقر بوجود الله والمؤلف ينقل عبارات الرازي وغيره من علماء الكلام على علاتها .(1/54)
في صفحة ( 229 ) السطر الأخير : ذكر أن طه من أسماء الرسول مع أنه لم يذكر دليلًا على ذلك، ثم قال في صفحة ( 230/س12 ) : الحروف المقطعة للتنبيه على إعجاز القرآن، فكيف ( طه ) اسمًا للرسول ويكون حروفًا مقطعة .
في صفحة ( 230 ) سطر ( 21 ) قوله : ( من غير تجسيم ) , الجسم لم ير نفيه ولا إثباته في حق الله تعالى فيجب التوقف فيه .
في صفحة ( 231 ) سطر ( 3 ) من الهامش : قول سيد قطب كما نقله عنه المؤلف : ( ثم إذا الوجود كله من حوله يتجاوب بذلك النداء العلوي : { إِنِّي أَنَا رَبُّكَ } هذا الكلام أسلوب صوفي، ثم هل كلمة الوجود أو الله سبحانه ؟ إن الذي كلمه هو الله كما قال تعالى : { إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى } { وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } .
في صفحة ( 248 ) سطر ( 14، 15 ) من قوله : ( لا تنفع الشفاعة أحدًا إلا لمن أذن له الرحمن أن يشفع له ورضي لأجله شفاعة الشافع ) ، الجملتان في معنى واحد، والصواب أن يقال في الثانية : ورضي قول المشفوع فيه وعمله بأن يكون من أهل لا إله إلا الله .
في صفحة ( 261 ) سطر ( 16 ) قوله : والكفار عن الآيات الدالة على وجود الصانع وقدرته . . . . معرضون، هذا التعبير سليم، لأن الكفار يقرون بوجود الله وإنما يشركون معه غيره في العبادة، فالآيات حجة عليهم في بطلان الشرك في العبادة، وهم معرضون عما تدل عليه من وجوب إفراد الله بالعبادة .
في صفحة ( 276 ) سطر ( 21 ) قوله : قادرين على ما نشاء، تعبير غير صحيح، والصواب إن يقال قادرين على كل شيء كما قال الله : { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
في صفحة ( 304 ) سطر ( 3 ) قبل الآخر قوله : وكلها أدلة ساطعة على وجود الله، والصواب : أن يقول على وجوب إفراد الله بالعبادة، لأنها سيقت لأجل هذا، أما وجود الله فالمخاطبون مقرون به كما في آخر السورة .(1/55)
في صفحة ( 310 ) سطر ( 11 ) تفسير قوله تعالى : { لاَ يُؤْمِنُونَ } ، لا يصدقون الله ورسوله،تفسير غير سليم؛ لأن الإيمان ليس مجرد التصديق وإنما هو قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح كما هو قول جمهور أهل السنة .
( 318 ) سطر ( 17 ) قوله : الشموس والأقمار فيه نظر لأنه لم يرد في القرآن ذكر الشمس والقمر إلا مفردين والباقي سماه نجومًا وكواكب، قال تعالى : { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ } .
في صفحة ( 344 ) سطر ( 6 ) قوله : إن فيما تقدم ذكره لدلالة واضحة وعظة بليغة على وجود الصانع المبدع، نقول ليس المراد من سياق الآيات مجرد الاستدلال على وجوده سبحانه لأن المخاطبين مقرون بذلك، وإنما المراد الاستدلال على وجوب إفراده بالعبادة وهو الذي يخالف فيه المخاطبون .
في صفحة ( 348 ) سطر ( 6 , 5 ) في الأخير قوله :
" يا أيها المؤمنون الذين صدقوا الله ورسوله وأيقنوا الشريعة الإسلامية نظامًا ومنهاجًا " .
نقول : الإيمان ليس هو مجرد التصديق والرضا بالشريعة نظامًا منهاجًا , وإنما هو قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، وهكذا عرفه أهل السنة والجماعة، ويدخل في ذلك ما ذكره المؤلف .
في صفحة ( 374 ) السطر الأخير والتعليقة رقم ( 4 ) :
قال في تفسير الذكر المحدث : " بأنه محدث في النزول لأن كلام الله قديم " .
وهذا خطأ لأن وصف كلام الله بأنه قديم مطلقًا يتمشى مع مذهب الأشاعرة، وأما أهل السنة والجماعة فيقولون : إن كلام الله قديم النوع حادث الآحاد، لأن الله يتكلم متى شاء، وانظر أيضا ( ص255/س16 ) .
في صفحة ( 402 ) سطر ( 8 ) قوله :
عن تزيين أعمال الكافر : ولا يخلق في قلبه العلم بما فيها من المضار، هذا لا يصح، ولو كان كذلك لم يؤاخذوا وعذروا بالجهل .(1/56)
في صفحة ( 414 ) سطر ( 3 ) قبل الأخير قوله : أي هل معه معبود سواه، التعبير غير سليم والأنسب أن يقول : هل معه من يستحق العبادة سواه، وكذلك يقال فيما بعدها من الآيات التي تشبهها لأن المعبود معه موجود، وإنما السؤال عن الاستحقاق وعدمه لا وجود المعبود معه .
في صفحة ( 431 ) : ذكر أن الذي زوج بنته لموسى هو شعيب، دون مستند يثبت ذلك .
في صفحة ( 462 ) سطر ( 7-8 ) قوله :
( لآيات للمؤمنين ) , أي : المصدقين بوجود الله ووحدانيته، نقول ليس الإيمان هو مجرد التصديق كما سبق التنبيه عليه .
في صفحة ( 473 ) سطر ( 8 ) قوله :
يلجئون- يعني قريشًا- إلى دار لا نفع فيها - يعني مكة-، هذا الوصف لا يليق بمكة المشرفة .
في صفحة ( 473 ) السطر الأخير على قوله : { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ } الآية , أي سبحوا الله ونزهوه عما لا يليق به , المشهور أن المراد بالنسيج هنا الصلوات الخمس في هذه الأوقات .
في صفحة ( 486 ) سطر ( 3 )
قوله : أصول العقيدة الثلاثة , أصول العقيدة ليست ثلاث فقط بل هي ستة : الإيمان وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره , كما في حديث جبريل وغيره .
في صفحة ( 488 ) سطر ( 18 )
قوله : جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح , العمل الصالح من الإيمان , فهو داخل في حقيقته وعطفه على الإيمان من عطف الخاص على العام اهتمامًا به , مثل قوله تعالى . { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى } .
في صفحة ( 495 ) سطر ( 17 )
قوله : { وَهُوَ مُحْسِنٌ } أي : وهو مؤمن بوجود الله , الصواب أن المراد بالإحسان هنا متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لئلا يتكرر مع قوله تعالى : { وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إلى اللَّهِ } , لأن معناها التوحيد والمتابعة , ولهذه الآية نظائر فسرت بهذا التفسير الذي ذكرناه , ثم الإيمان بوجود الله ليس إحسانًا .
في صفحة ( 496 ) سطر ( 21 ) :(1/57)
تفسير كلمات الله بعجائب صنع الله كما نقله عن القرطبي , تفسير باطل , لأن كلمات الله المراد بها كلامه الذي به يأمر وينهى ويشرع , وهو صفة من صفاته العلية التي لا تتناهى كسائر صفاته سبحانه .
في صفحة ( 505 ) سطر ( 6-8 ) :
ذكر حكاية فيها سب للوليد بن عقبة وهو صحابي , وسب الصحابة لا يجوز .
في صفحة ( 530 ) سطر ( 4 ) قبل الأخير
قوله : أي يا أيها المؤمنون الذين صدقوا بالله ورسوله، ليس الإيمان مجرد التصديق من غير نطق وعمل , وقد سار على هذا التفسير للإيمان في عدة مواضع , كما بيناه مرارًا .
في صفحة ( 536 ) سطر ( 14 , 15 , 18 )
قوله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الأسطر : إنه مهبط الرحمات , منبع الرحمات ومنبع التجليات والواسطة العظمى في كل نعمة وصلت لهم , هذه الألفاظ فيها غلو في حقه - صلى الله عليه وسلم - وإطراء قد نهى عنه عليه الصلاة والسلام بقوله : " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله " مع ما فيها من عبارات الصوفية .
في صفحة ( 539 ) السطر الأخير
قال عن عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال : إنه تصوير لعظمها , يعني أن العرض المذكور غير حقيقي , وهذا خطأ , لأنه خلاف ظاهر الآية الكريمة من غير دليل , والأصل الحقيقة في كلام الله ورسوله , ثم إنه ذكر في صفحة ( 540 ) عن ابن الجوزي ما يدل على أن العرض حقيقي , فهذا تناقض .
في صفحة ( 552 ) سطر ( 17، 18 ) :
في العبارة التي نقلها عن الصاوي , أن الشيطان سبب الإغواء لا خالق إغواء , إلى أن قال : والكل فعل الله تعالى , ونقول : إن تجريد الشيطان من الفعل ونسبته إلى الله يتمشى مع مذهب الجبرية . والحق أن الشيطان وغيره من المخلوقين لهم أفعال حقيقية وهي لا تخرج عن خلق الله وتقديره : { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } , فأثبتت لنا عملًا مع أنه الخالق لكل شيء .(1/58)
في صفحة ( 553 ) سطر ( 10 ) وما بعده : سر قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } بغير ما ورد في حديث أبي هريرة وحديث النواس بن سمعان , والتفسير إذا جاء عن الرسول لم يجز العدول عنه إلى غيره , وهو قد فسرها بما يحصل يوم القيامة عن طلب الشفاعة , وحديث أبي هريرة وحديث النواس يدلان على أن هذا الفزع يحصل عندما يتكلم الله بالوحي فتأخذ السموات منه رجفة وتصعق الملائكة عند ذلك .
الملاحظات التفصيلية على الجزء الثالث :
في صفحة ( 15 ) سطر ( 3 ) : نقل عن سيد قطب أن الشمس تجري حول نفسها وأن مقدار سيرها اثنا عشر ميلًا في الثانية وأن حجمها نحو مليون ضعف حجم الأرض , وهذه الأشياء التي ذكرها تخرّص لا دليل عليه , ومن العجيب أنهم يستنكرون الإسرائيليات مع أنها قد تكون حقًّا، ولا يستنكرون هذه التخرصات السخيفة .
في صفحة ( 16 ) سطر ( 15، 16 ) قوله : نفخة الصعق : التي يموت بها الأحياء كلهم ما عدا الحي القيام، هذا يخالف قوله تعالى : { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ } فهناك أشياء استثناها الله سبحانه .
في صفحة ( 65 ) سطر ( 5 ) قبل الأخير : فسر قوله تعالى : { خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } بقوله : خلقته بذاتي، وهذا تعطيل للصفات نعوذ بالله من الضلال وجحد ليدي الله الكريمتين .
في صفحة ( 67 ) سطر ( 10 ) وصف حالته عند سماع القرآن فقال وأحيانًا أجدني أتمايل طربًا بدون شعور . . إلخ، يعني عند تلاوة القرآن، وهذا الكلام من تعبيرات الصوفية، والمطلوب عند تلاوة القرآن الخشوع لا الطرب، ويجب أن ينزه القرآن عن مثل هذا الكلام السخيف .(1/59)
في صفحة ( 71 ) التعليقة ( 4 ) : نقل عن سيد قطب كلامًا حول خلق الجنين في بطن أمه جاء فيه ( ويد الله تخلق هذه الخلقة الصغيرة ) إلخ، وإسناد خلق الجنين إلى يد الله فيه نظر، لأن هذا من خصائص آدم عليه السلام حيث خلقه الله بيده فليتأمل .
في صفحة ( 71 ) سطر ( 4 ) قبل الأخير : فسر معنى رضا الله بالمدح والإثابة، وهذا تأويل للصفة عن معناها الصحيح، الذي هو الرضا الحقيقي اللائق به سبحانه .
في صفحة ( 73 ) سطر ( 5 ) قوله فيما نقله عن الرازي : فالعمل هو البداية، والعلم والمكاشفة هو النهاية، هذا خلاف ما يدل عليه قوله تعالى { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ } فبدأ بالعلم قبل القوله تعالى .
في صفحة ( 87 ) الثلاثة الأسطر الأخيرة : فسر قوله تعالى : { وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } بأنها مضمونات ومجموعات بقدرته، وهذا إنكار ليمين الرحمن جل وعلا، وهو تأويل باطل ماحل، وانظر : ( ص91/س 8، 9 ) .
في صفحة ( 90 ) سطر ( 4 ) : على قوله تعالى عن الملائكة { يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } أي يسبحونه ويمجدونه تلذذًا لا تعبدًا، وهذا فيه نظر لأنه لا دليل عليه والله وصف الملائكة بأنهم عباد فلو قال : تلذذًا وتعبدًا لكان أحسن .
في صفحة ( 92 ) سطر ( 3-4 ) قال ولهذا جاء جو السورة مشحونًا بطابع العنف والشدة، هذا التعبير لا يليق بكلام الله عز وجل .
في صفحة ( 108 ) سطر ( 12 ) قوله : أي لا معبود في الوجود سواه، الصواب أن يقال : لا معبود بحق , لأن هناك معبودات كثيرة لكنها تعبد بالباطل، قال تعالى { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ } .(1/60)
في صفحة ( 110 ) سطر ( 13 ) على قوله تعالى : { فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } ، نقل قول أبي السعود قوله : وهذا تمثيل لكمال قدرته وتصوير لسرعة وجودها من غير أن يكون هناك آمر ومأمور . وهذا كلام فاسد لأنه خلاف مدلول الآية من أن الله تعالى يقول للشيء , قولًا حقيقيًا ( كن ( , والمراد من هذا نفي كلام الله على مذهب المبتدعة .
في صفحة ( 117 ) سطر ( 59 ) قبل الأخير : نقل عن الزمخشري أن قول الله تعالى للسماء والأرض { اِئْتِيَا طَوْعًا أو كَرْهًا } أنه على التمثيل والتصوير لا أنه قول خطاب وجواب إلخ , وهذا تأويل باطل , يراد من ورائه نفي وصف الله بأنه يتكلم , وهو قد نقله مقررًا له .
في صفحة ( 125 , 124 ) ( 10 , 6 ) : يعبر عن الآيات الكونية بأنها أدلة على وجود الله , وكثيرًا ما يكرر مثل هذا التعبير , وهو خطأ ظاهر , لأنه ليس القصد من ذكر الآيات الكونية الاستدلال على وجود الله وانفراده بالخلق الذي هو عبارة عن توحيد الربوبية , لأن هذا يقر به جمهور العالم أو كل العالم ومنهم المخاطبون بالقرآن بالذات , ومن أقر بهذا فقط لم يكن مسلمًا , وإنما المقصود بسياق الآيات الكونية دائمًا الاستدلال بذلك على توحيد العبادة الذي ينكره المشركون .
في صفحة ( 134 ) سطر ( 3 ) قبل الأخير يقول : إن الله منزه عن الأغراض والأعراض , مثل هذا النفي مبتدع , لأنه مما سكت الله عنه وسكت عنه رسوله , ولأنه يراد بنفي الأغراض نفي الحكمة وبنفي الأعراض نفي أفعاله المتجددة مثل الكلام والخلق والرزق .(1/61)
في صفحة ( 141 ) التنبيه في آخرها , قال : لا يستبعد أن يكون في الكواكب السيارة والعوالم مخلوقات غير الملائكة تشبه مخلوقات الأرض , إلى أن قال : واستدلوا بهذه الآية : { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ } , يعني استدلوا على ما ذكره من احتمال وجود هذه المخلوقات , هكذا قال , مع أنه لا تطابق بين ما ذكر ومدلول الآية الكريمة , لأنها خصت السموات والأرض دون الكواكب ببث الدواب فيها .
في صفحة ( 142 ) سطر ( 4 ) قوله : آية تدل على وجود الإله القادر الحكيم , دائمًا يكرر مثل هذا التعبير , وهو خطأ , لأن وجود الله يعرفه كل أحد , وإنما المقصود والاستدلال على وجوب إفراده بالعبادة .
في صفحة ( 174 ) سطر ( 17 ) : يقول في تفسير قوله تعالى : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالأَرْضُ } وذلك على سبيل التمثيل والتخييل مبالغة , وهذا التعبير لا يتناسب مع كلام الله عز وجل , وهو خلاف ما يدل عليه من بكائها حقيقة , والأصل حمل كلام الله على الحقيقة , فلها بكاء حقيقي يناسبها .
في صفحة ( 181 ) سطر ( 18 , 17 ) قوله : في تفسير قوله تعالى : { إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ } ، لعلامة باهرة على كمال قدرة الله وحكمته لقوم يصدقون بوجود الله ووحدانيته , وفي هذه العبارة خطأ من ناحيتين : الأولى : أن الإيمان ليس مجرد التصديق . . وثانيًا : ليس المقصود من الآيات الاستدلال على وجود الله لأن الناس لا ينكرون هذا . خصوصًا المخاطبين بالقرآن .(1/62)
في صفحة ( 206 ) : قوله في تفسير قوله تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } أي جمعوا بين الإيمان الصادق والعمل الصالح , تعبيره هذا يعطي التفريق بين الإيمان والعمل , وأنه يمكن أن يكون إيمان صادق بدون عمل , وهذه طريقة المرجئة , والصواب : أن العمل جزء من الإيمان فلا يكون إيمان بدون عمل، وعطفه عليه من عطفه الخاص على العام اهتمامًا به وله نظائر .
في صفحة ( 206 ) سطر ( 8 ) : قوله : إشارة إلى أن الإيمان لا يتم بدونه , أي التصديق بما أنزل على محمد والصواب أن يقال : لا يصح بدونه لأن التمام غير الصحة .
في صفحة ( 221 ) سطر ( 6 ) قبل الأخير : فسر قوله تعالى : { يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ } أن يغيروا وعد الله , وهذا تأويل لصفة من صفات الله وهي الكلام , فلو قال : أي يريدون أن يبدلوا كلام الله الذي وعد به المؤمنين . . إلخ , لكان هو الصواب .
في صفحة ( 262 ) سطر ( 1 ) قوله عن الطور : ونال ذلك الجبل من الأنوار والتجليات والفيوضات الإلهية ما جعله مكانًا وبقعة مشرفة على سائر الجبال في بقاع الأرض , وهذا الكلام فيه غلو في حق ذلك الجبل , وذكر أوصاف لا دليل عليها , وفيه تعبيرات صوفية .
في صفحة ( 267 ) سطر ( 6 ) قبل الأخير : قال : أي { أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ } لأنفسهم حتى تجرءوا فأنكروا وجود الله جل وعلا , وهذا غير صحيح , لأن المشركين لم ينكروا وجود الله الخالق وإنما ينكرون إفراده بالعبادة , والمراد بالآيات إثبات ما أنكروه لا إثبات ما يقرون به لأنه تحصيل حاصل ولأنه لا يكفي .
في صفحة ( 274 ) سطر ( 8-9 ) قال عن سدرة المنتهى : وقد غشيتها الملائكة أمثال الطيور يعبدون الله عندها يجتمعون حولها مسبحين زائرين كما يزور الناس الكعبة , قال هذا ولم يذكر عليه دليلًا , ومعلوم أن مثل هذا لا يقبل إلا بدليل .(1/63)
في صفحة ( 287 ) سطر ( 10-11 ) : " قال في معرض تفسير قوله تعالى : { أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ } ولم يعلموا أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ويفيض نور الهدى على من رضيه , وهذا التعبير بالفيض يتمشى مع قول الفلاسفة أن النبوة فيض وليست وحيًا .
في صفحة ( 294 ) سطر ( 7-8 ) { وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } , قال : ينقادان للرحمن فيما يريده منهما هذا بالتنقل بالبروج وذاك بإخراج الثمار , وهذا تأويل للسجود عن حقيقته من غير دليل .
وكل شيء يسجد سجودًا حقيقيًا بكيفية يعلمها الله , كالتسبيح , وقد قال تعالى : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } .
في صفحة ( 296 ) سطر قبل الأخير : فسر الوجه في قوله تعالى : { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } بالذات , وهذا تأويل باطل , يقصد به نفي ما وصف الله به نفسه من أن له وجهًا , إذ من المعلوم في لغات جميع الأمم أن الوجه غير الذات , وفي الآية قرائن تبطل هذا التأويل , ذكرها ابن القيم في ( الصواعق ) .(1/64)
في صفحة ( 318-320 ) سطر ( 11-12-17 ) : فسر اسم الله الظاهر والباطن تفسيرًا يخالف ما فسرهما به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , حيث قال : والظاهر بآثار مخلوقاته , والباطن الذي لا يعرف كنه حقيقته أحد , وقال : أي الظاهر للعقول بالأدلة والبراهين الدالة على وجوده، والباطن الذي لا تدركه الأبصار ولا تصل العقول إلى معرفة كنه ذاته , ثم علق على ذلك بقوله : هذا أرجح الأقوال في تفسير الظاهر والباطن , وقد اختاره أبو السعود والألوسي , ومن العجب أنه ساق بعده تفسير الرسول لهذين الاسمين الكريمين بما يبطل تفسيره هذا , وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - : " وأنت الظاهر فليس فوقك شيء , وأنت الباطن فليس دونك شيء " , حيث فسر - صلى الله عليه وسلم - الظهور بظهور ذاته وعلوها فوق مخلوقاته , وفسر البطون بقربه من عباده , ولكن نعوذ بالله من عمى البصيرة , وذكر هذا التفسير الباطل أيضا في صفحة ( 219/س10 ) .
في صفحة ( 319 ) سطر ( 2 ) قبل الأخير : نقل ترجيح الخازن أن تسبيح الكائنات غير العاقلة يكون بغير القول , وهذا الترجيح خلاف الظاهر ولا دليل عليه والله تعالى يقول : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } والله قادر على أن يجعل للكائنات نطقًا يناسبها لا نفهمه نحن فما هذا التكلف ؟
في صفحة ( 320 ) سطر ( 2 ) من الآخر : قال على قوله تعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } استواء يليق بجلاله من غير تمثيل ولا تكييف , وقد كرر هذه العبارة على جميع آيات الاستواء السبع , ومعناها التفويض حيث لم يفسر معنى الاستواء بما فسره السلف من أنه العلو والارتفاع مع تفويض الكيفية , وهذه طريقة الشعار المفوضة منهم .(1/65)
في صفحة ( 321 ) في التعليقة رقم ( 1 ) : زعم أن تفسير السلف لقوله تعالى : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } بالعلم , من باب التأويل , ثم أطلق لسانه وقلمه على الذين يمنعون التأويل , وهو نفس المقالات التي نشرها في مجلة المجتمع , ورددنا عليها بما يبطلها , ورد عليها سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز –حفظه الله- بما يدحضها , والحمد لله رب العالمين .
في صفحة ( 321 ) سطر ( 17 ) فسر قوله تعالى : { آمَنُواْ بِاللَّهِ } أي صدقوا بأن الله واحد , وتفسير الإيمان بأنه مجرد التصديق تفسير باطل يتمشى مع مذهب المرجئة , والإيمان عند أهل السنة , التصديق بالقلب , والنطق باللسان والعمل بالجوارح , لا يكفي واحد من هذه الثلاثة دون البقية , وقد تكرر من المؤلف تفسير الإيمان بأنه مجرد التصديق .
في صفحة ( 322 ) سطر ( 10 ) قوله : بما ركز في العقول من الأدلة على وجود الله , وفي هذا التعبير نظر , فلو قال بما ركز في العقول من معرفة الله بالأدلة , وكذا ليس المقصود من الأدلة مجرد معرفة وجود الله فقط , لأن لفظ الوجود ليس فيه مدح لأنه يشترك فيه كل موجود , وإنما المقصود من الأدلة معرفة استحقاقه للعبادة وحده .(1/66)
في صفحة ( 335 ) سطر ( 8-9 ) : في تفسيره قوله تعالى : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ } نقل قول الزمخشري حيث قال : ومعنى سماعه تعالى لقولها إجابة دعائها لا مجرد علمه تعالى بذلك , وهو كقول المصلي " سمع الله لمن حمده " اهـ , وقد نقله مقررًا له مع أنه تفسير باطل , لأن معناها نفي صفة السمع عن الله وتأويله بإجابة الدعاء , وتشبيهه بقول المصلي : " سمع الله لمن حمده " تشبيه مع الفارق بينهما لأن " سمع الله " هنا معدى بنفسه , ومعناه السماع الحقيقي , و ( سمع الله لمن حمد ) معدّى باللام ومعناه الإجابة , كما نقل بعد ذلك بثلاثة أسطر تفسير أبي السعود لقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } بأن معناها مبالغ في العلم بالمسموعات والمبصرات وهذا معناه نفي صفتي السمع والبصر عن الله تعالى وتأويلهما بالعلم , وهو تأويل باطل .
في صفحة ( 365 ) سطر ( 3 ) قبل الأخير : قال على قوله تعالى : { الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } , أن الذي آمنتم وصدقتم بوجوده , وهذا كما سبق منه مرارًا حيث يفسر الإيمان بالتصديق وهو تفسير لغوي لا شرعي , وقد بيّنا خطأه في ذلك مرارًا , ثم قوله بوجوده , تعبير أسوأ , إذ معناه أن معناها أن مجرد التصديق بوجود الله يكون إيمانًا كافيًا .(1/67)
في صفحة ( 430 ) سطر ( 6 ) وما بعده : قال على قوله تعالى : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } , يكشف فيه عن أمر فظيع شديد في غاية الهول والشدة . . إلخ , وهذا يخالف ما فسر به النبي - صلى الله عليه وسلم - الآية فيما رواه البخاري - رحمه الله - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه , قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يقول : ( يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة , ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقًا واحدًا ) ، قال ابن كثير - رحمه الله - , وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وفي غيرهما من طرق , وله ألفاظ , وهو حديث طويل مشهور اهـ , وتفسير الرسول هو المتعين وإن كان يخالف أهواء نفاة الصفات .
ومن العجب أن الصابوني ساق آخر هذا الحديث : ( يسجد كل مؤمن ومؤمنة ) وحذف أوله الذي هو تفسير الآية الكريمة وبيان المراد بالساق , وهذا والعياذ بالله من التلبيس والخيانة في النقل .
في صفحة ( 454 ) سطر ( 10 ) : على قوله تعالى : { وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا } الآية , نقل عبارة الصاوي هذه أسماء أصنام كانوا يعبدونها، وهذه العبارة تخالف ما ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما , أن هذه أسماء رجال صالحين في قوم نوح ماتوا فحزنوا عليهم , فأشار عليهم الشيطان بتصويرهم ونصب صورهم على مجالسهم لتذكر حالهم في العبادة . . إلخ الأثر , وفيه أن هذه الصور عبدت .
في صفحة ( 508 ) سطر ( 5 ) قبل الأخير قال : ذكر تعالى هذه الأدلة التسع على قدرته تعالى كبرهان واضح على إمكان البعث والنشور , فقوله كبرهان واضح على مكان البعث والنشور , تعبير غير سليم , لأنه يعطي معنى التشبيه بمعنى أنها تشبيه البرهان وليست برهانًا , وهذا تعبير صحفي دارج لا يليق بأسلوب التفسير , وجاء هذا التعبير في صفحة ( 517/س13 ) .(1/68)
في صفحة ( 542 ) سطر ( 18 ) قوله : أي الذين جمعوا بين الإيمان الصادق والعمل الصالح , هذا التعبير يعطي أن الإيمان غير العمل , وهذا خلاف مذهب أهل السنة والجماعة من أن العمل داخل في مسمى الإيمان بحيث لا يتحقق الإيمان بدونه , وعطفه العمل على الإيمان عندهم من عطف الخاص على العام اهتمامًا به .
في صفحة ( 566 ) سطر ( 4 ) قوله : فدل بناؤها وإحكامها على وجوده وكمال قدرته , وهو تعبير ناقص , لأنه ليس المراد من ذكر الآيات الكونية مجرد الاستدلال على وجود الله؛ لأن المخاطبين يقرون بذلك وإنما المراد الاستدلال على إفراده بالعبادة وهو الذي يجحده المخاطبون , وكم يكرر مثل هذا التعبير الناقص .
في صفحة ( 604 ) سطر 6 ) : وصفه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه سيد الكائنات , وصف فيه غلو وإطراء , وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مثل ذلك , فلو قال سيد البشر لكان ذلك صحيحًا مطابقًا له لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( أنا سيد ولد آدم ولا فخر ) ، أما سيادته على الكائنات فهذا لا دليل عليه .
التعقيب على ما ذكره الأستاذ عبد الكريم الخطيب في كتاب " الدعوة الوهابية ومحمد بن عبد الوهاب "
الحمد لله , والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .
وبعد :
فقد اطلعت على كتاب عنوانه : " الدعوة الوهابية , محمد بن عبد الوهاب : العقل الحر والقلب السليم " للأستاذ عبد الكريم الخطيب .
والكتاب في جملته يتضمن دراسة تحليلية لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب من حيث الأسس التي قامت عليها وطريقتها , وثمرتها , والحاجة إليها , وما قوبلت به من خصومها .
وهو كتاب جيد في بعض مواضيعه وسيئ في مواضيع أخرى منه، فقد أدركت عليه ملاحظات مهمة لا يسعني المرور بها دون تعليق عليها بيانًا للحق , ونصحًا للخلق وإنصافا لهذه الدعوة المباركة برد يلصقه بها أعداؤها من تهم وما يقذفونها به من شبهات، شأنها في ذلك شأن كل دعوة إصلاح .(1/69)
ناهيك بما حصل لدعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على يد خصومها في ذلك .
ولعل الأستاذ الخطيب قد وقع في تلك الأخطاء تأثرًا بما يسمع أو يقرأ مما يمليه أو يلقيه خصوم هذه الدعوة، دون تنبه لأهدافهم وأغراضهم، وإن كان الأستاذ قد أزاح عن هذه الدعوة المباركة كثيرًا مما لفقه أعداؤها من شبهات، لكنه أبقى على بعضها مما لولاه لكان كتابه جيدا مئة في المئة .
وكان الشيخ عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم وفقه الله قد لاحظ على الأستاذ كثيرًا من تلك الأخطاء بملاحظات مختصرة طبعت مع كتابه في طبعته الأخيرة، دون أن يغير من واقع تلك الأخطاء شيئًا، مما يدل على إصراره عليها .
وهذا مما يؤكد على ملاحظاتي هذه بدافع النصح وتجليه الحقيقة، لعل الأستاذ يعيد النظر في كتابه فينحي عنه تلك الهفوات، ليسلم من تبعتها ويجنب القراء – خصوصًا الذين لا يعرفون هذه الدعوة معرفة جيدة عن الوقعية فيها، - فالرجع إلى الحق خير من التمادي في الباطل - .
وهذه الملاحظات بعضها جاء عرضًا في غير صميم الموضوع وإليك بيانها بالتفصيل :
1- تسميته لدعوة الشيخ بالدعوة الوهابية , وتسميته لأتباعها أيضا بالوهابية .
- ولعل الأستاذ فعل ذلك مجاراة لخصوم الدعوة الذين ينبزوها بهذا اللقب لمقصد خبيث لم يتنبه له فهذه التسمية خطأ من ناحية اللفظ ومن ناحية المعنى :
أما الخطأ من ناحية اللفظ، فلأن الدعوة لم تنسب في هذا اللقب إلى من قام بها- وهو الشيخ محمد -، وإنما نسبت إلى عبد الوهاب - الذي ليس له أي مجهود فيها - فهي نسبة على غير القياس العربي، إذ النسبة الصحيحة أن يقال : ( الدعوة المحمدية ) .
لكن الخصوم أدركوا أن هذه النسبة نسبة حسنة لا تنفر عنها فاستبدلوها بتلك النسبة المزيفة .(1/70)
وأما الخطأ من ناحية المعنى، فلأن هذه الدعوة لم تخرج عن منهج مذهب السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأتباعهم، فكان الواجب أن يقال : الدعوة السلفية لأن القائم بها لم يبتدع فيها ما نسب إليه كما ابتدع دعاة النحل الضالة من الإسماعيلية والقرمطية، إذ هذه النحل الضالة لو سميت سلفية، لأبى الناس والتاريخ في هذه التسمية؛ لأنها خارجة عن مذهب السلف، ابتدعتها من قام بها .
فالنسبة الصحيحة لفظًا ومعنى لدعوة الشيخ محمد عبد الوهاب أن يقال الدعوة المحمدية، أو الدعوة السلفي .
لكن لما كانت هذه النسبة تغيظ الأعداء حرفوها ولذلك لم تكن الوهابية معروفة عند أتباع الشيخ وإنما ينبزهم بها خصومهم بل ينزهون بها كل من دان بمذهب السلف، حتى ولو كان في الهند أو مصر وإفريقية وغيرها والخصوم يريدون بهذا اللقب عزل الدعوة عن المنهج السليم , فقد أخرجوها من المذهب الأربعة , وعدُّوها مذهبًا خامسًا { حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ } .
2- قال الأستاذ في ( ص 12 ) :
" فالحرب التي دارت بين علي ومعاوية قد اختلط فيها الرأي بالهوى , والدين بالسياسة " .
- هكذا قال سامحه الله , مع أن من أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعدم الخوض فيما شجر بينهم؛ لأنهم في ذلك معذورون , إما مجتهدون مصيبون , وإما مجتهدون مخطئون , إن أصابوا فلهم أجران , وإن أخطؤوا فلهم أجرٌ واحد , والخطأ مغفور .
قال الشيخ الإسلام ابن تيمية : -
" ثم القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسبتهم , من الإيمان بالله ورسوله , والجهاد في سبيله , والهجرة , والنصرة , والعلم، النافع , والعمل الصالح , ومن نظر في سيرة القوم , بعلم وبصيرة - وما منَّ الله عليهم به من الفضائل , علم يقينًا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء " .
3- في ( ص 53 ) يقول الأستاذ :(1/71)
" ولقد كان الخلاف بين الحسن البصري وتلميذه أبي الحسن الأشعري خلافًا في الرأي . . . " إلخ .
- كذا يقول ! ! مع أن بين الحسن البصري والأشعري زمنا طويلا , فالحسن البصري توفي - رحمه الله - سنة ( 110هـ ) . وهو تابعي، وأبو الحسن الأشعري ولد سنة ( 260هـ ) . فبين وفاة الحسن وولادة الأشعري مئة وخمسون سنة كما ترى , كيف يتحقق هذا التتلمذ الذي قاله الأستاذ ؟ !
4- في ( ص20 ) لما تحدث عن الكائنات، قال :
" لا بد من قوةٍ وراءَ هذه الظواهر جميعها , لا بد من موجد لها , قائم عليها , منظم لوجودها , ممسك ببقائها , سم هذه القوة ما شئت من أسماء , وبأية لغة , وعلى أي لسان , إنها ( الله ) ، خالق الكون , ومدبر الوجود , وهذا ما يسمى بالتوحيد , أي : الإيمان بالقوة الواحدة الموجدة لكل شيء , والمتصرفة في كل شيء " اهـ .
- ولنا على هذه الجملة ملاحظتان :
الأولى : أنه جوز أن يسمى الله قوة , وهذا خطأ , لأن أسماء الله توقيفية , فلا يسمى إلا بما يسمي به نفسه , أو سماه به رسوله , وقد سمى نفسه بالقوي , كما قال تعالى : { يَرْزُقُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ } .
وقال تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ } .
والقوة صفته , كما قال سبحانه : { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } .
فالقوي : اسمه , والقوة صفته سبحانه , وهناك فرق بين الاسم والصفة .
ثم إنه لا يجوز لنا أن نسمي الله بما شئنا من أسماء؛ لأن أسماءه توقيفية , فلا نسميه إلا بما سمى به نفسه .
الملاحظة الثانية : أنه فسر التوحيد بأنه الإقرار بأن الله هو مدبر الوجود وموجده , فإن أراد أن هذا هو توحيد الربوبية , فهذا صحيح , لكن هذا التوحيد لا يكفي ولا ينجي من عذاب الله , ولا يدخل صاحبه في الإسلام , ولا يعصم دمه وماله , لأن الكفار يقرون بهذا وهم كفار .(1/72)
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } , { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ } .
وإن أراد أن هذا هو التوحيد المطلق المطلوب من الخلق , فهذا خطأ واضح : لما ذكرنا من أن الكفار أقروا به ولم ينفعهم في الدنيا , ولا ينفعهم في الآخرة , وسماهم الله كفارًا لما لم يقروا بتوحيد الإلهية الذي هو عبادته وحده لا شريك له .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
" فإقرار المرء بأن الله رب كله شيء ومليكه وخالقه لا ينجيه من عذاب الله إن لم يقترن به إقرارًا بأنه لا إله إلا الله , فلا يستحق العبادة أحد إلا هو , وأن محمدًا رسول الله , فيجب تصديقه فيما آخر به وطاعته فيما أمر " .
وقال أيضًا :
" وقد أخبر الله سبحانه عن المشركين من إقرارهم بأن الله خالق المخلوقات ما بينه في كتابه , فقال :
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أو أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } .
وذكر آيات كثيرة في هذا المعنى , ثم قال :(1/73)
وبهذا وغيره يعرف ما وقع من الغلط في مسمى التوحيد , فإن عامة المتكلّمين الذي يقررون التوحيد في كتب الكلام والنظر غايتهم أن يجعلوا التوحيد ثلاثة أنواع، فيقولون : هو واحد في ذاته لا قسيم له , وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له، وأشهر الأنواع الثلاثة عندهم هو الثالث، وهو توحيد الأفعال، وهو أن خالق العالم واحد . . ويظنون أن هذا هو التوحيد المطلوب , وأن هذا هو معنى قولنا " لا إله إلا الله " ، حتى يجعلوا معنى الإلهية القدرة على الاختراع . ومعلوم أن المشركين من العرب الذين بعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولا لم يكونوا يخالفونه من هذا , بل كانوا يقرون بأن الله خالق كل شيء، حتى إنهم كانوا يقرون بالقدر أيضًا , وهم مع هذا مشركون " اهـ .
5- في ( ص47 ) ذكر الأستاذ أن الشيخ محمد عبد الوهاب التقى في المدينة بالشيخ أبي المواهب البلعي الدمشقي وأخذ عنه الفقه .
- ولا ندري علي أي شيء اعتمد في ذلك مع أن الذين ترجموا للشيخ وكتبوا في سيرته من أحفاده وتلاميذهم غيرهم لم يذكروا أبا المواهب من جملة شيوخه، والظاهر أن بينهما مدة زمنية تمنع من إدراك الشيخ لأبي المواهب .
ثم قال الأستاذ ( ص63 ) :
" ثم اتصل ( يعني : الشيخ محمدًا ) بالشيخ محمد السندي المدني، وأخذ ما اطمأن إليه وعارضه فيما لم يقبله عقله ويطمئن إليه قلبه " .
- ولا ندري ما مستند الأستاذ في هذا القول الذي لم يسبقه إليه أحد ممن ترجم للشيخ من تلاميذه وأحفاده، والخبراء بسيرته، كالشيخ ابن غانم، والشيخ عبد الرحمن بن حسن، والشيخ ابن بشر وغيرهم .
- ثم هل المرجع فيما يقبل ويرد في الأخذ عن العلماء هو العقل أو ميزان الشرع وقواعده الثابتة ؟ !(1/74)
- إن الأستاذ جعل الشيخ يرجع في ذلك إلى عقله، وهذا ما لا نوافقه عليه ولا يوافقه عليه غيرنا، لاسيما في حق مثل الشيخ الذي كان يحرص كل الحرص على اتباع الدليل والانقياد له ولأن صحيح النقل لا يخالف صريح العقل أبدًا كما هو معلوم .
- وفي هذا تجريح للشيخ محمد حياة السندي في علمه بأن عنده ما لا يقره العقل ولا يطمئن إليه القلب .
6- في ( ص74-75 ) يقول الأستاذ :
" بدأت الدعوة ( يعني : دعوة الشيخ ) حادة عنيفة مطبوعة بطابع التطرف والمغالاة، فكان طبيعيًا أن يلقاها الناس بعناد وتطرف، ومثل هذا لا يجعل للمسلم مجالًا بين الطرفين المتقابلين . . . . "
إلى أن قال :
" بدأت ( يعني : الدعوة ) بإنكار المجتمع الإسلامي كله , فالمسلمون جميعًا في نظر الوهابيين قد انسلخوا عن الإسلام بما أدخلوا على دينهم من بدع ومحدثات كالتوسل بغير الله ورفع القباب على قبور الموتى ممن يعتقد فيهم الصلاح، وهذا لون من الشرك بالله وفي هذا بعض الحق ولكن فيه كثيرًا المبالغة والغلو . . . . . . . . . . . . . " .
إلى أن قال :
" كان لا بد أن يحدث هذا ( يعني : شدة الخلاف بينهم وبين غيرهم ) بعد أن وضع الوهابيون دعوتهم في هذا الإطار الذي يحصر الإسلام في دعوتهم، ويجعل كل من انحرف عنها منحرفًا عن الإسلام، داخلًا في مداخل الكفر والإلحاد ونجد هذا واضحًا في الكتب التي ألفها علماء الوهابيين " اهـ .
- والجواب أن نقول : هكذا يصف الأستاذ دعوة الشيخ بهذه الأوصاف :
أ- الغلو والتطرف والعنف .
ب_ تكفر جميع المسلمين، وحصر الإسلام في تلك الدعوة، وتكفير من انحرف عنها .
ج-- أن كتب علماء الوهابية تشتمل على تكفير المسلمين .
جوابنا على ذلك أن نقول :(1/75)
أولًا : قد تناقض الأستاذ في كتابه هذا تناقضًا واضحًا في موضوع دعوة الشيخ فبينما هو يصفها بهذه الصفات المنفرة التي ربما يكون قد قرأها من كتب خصومها، أو سمعها من أفواههم , { وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } بينما هو يسطر هذه الصفات هنا، إذا هو في آخر كتابه يقول في ( ص111-112 ) :
" ودعوة محمد بن عبد الوهاب من الكلم الطيب , لأنها تستند إلى الحق , وتدعو له , وتعمل في سبيله , ولهذا كانت دعوة مباركة , وفيرة الثمر , كثيرة الخير , لقد قام صاحبها يدعو إلى الله لا يبغي بهذا جاهًا , ولا يطلب سلطانًا , وإنما يضيء للناس معالم الطريق , ويكشف لهم المعاثر والمزالق التي أقامها الشيطان على جوانبه .
ولقد اصطدمت هذه الدعوة وهي وليدة في مهدها بقوة عاتية , ولو لم تكن تستند إلى أصول ثابتة من الحق , وتقوم على دعائم قوية من الإيمان , لقضي عليها من أول صدمة , ولما واصلت سيرها في الحياة , ولما بقي منها في قلوب الناس أثر ينتفع به . . " .
إلى أن يقال :
" لقد وقف أتباع هذه الدعوة وقفة لا يمكن أن توصف بأقل من مواقف الشهداء من أتباع الأنبياء وحوارييهم . . " .
إلى أن قال بعدما ذكر موقفهم من حملة إبراهيم باشا :
" وهكذا الدعوات الخاصة والمبادئ السليمة أشبه بالمعادن الكريمة , تزيدها النار وهجًا وبريقًا , وكالنبت الطيب يزيده الحريق أريجًا وطيبًا , فقد كانت هذه الدماء الزكية التي أريقت في سبيل الدعوة أكرم على الله من أن تذهب هدرًا , أو تضيع هباء , ولقد كانت غذاء طيبًا لتلك الشجرة المباركة , فزكت وأينعت وأطلعت أطيب الثمرات . . " .
هذا ما قاله الأستاذ في ثنائه على الشيخ وتزكيتها .
فهل تراه نسي ما كتبه قبل ذلك من وصفها بتلك الصفات المنفرة : الغلو , والتطرف , وتكفير جميع المسلمين ؟
كيف نجمع بين طرفي كلامه وهما نقيضان , والجمع بين النقيضين مستحيل , فكيف يجتمع في دعوة الشيخ هذا وذاك ؟ (1/76)
ثانيًا : إذا كانت دعوة الشيخ هي الحق , كما شهد به الأستاذ وغيره , وكما هو الواقع الذي لا شك فيه , فما خالفها , فهو الباطل قطعًا , { فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ } .
وليست هذه المخالفة في مسألة اجتهادية فروعية , بل في صميم العقيدة .
فهل يرى الأستاذ أن جهاد المخالف الذي أصر على مخالفته وعائد , هل يرى جهاده في سبيل العقيدة غلوًا وعنفًا وتطرفًا ؟
إذا : فأين موضوع الجهاد في سبيل الله ؟
وهل الشيخ وأتباعه جاهدوا إلا لأجل تصحيح العقيدة والقضاء على الشرك ؟
وهل جاهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من قبل إلا لأجل هذا الغرض , فلهم فيهم القدوة ؟
ثالثًا : وأما دعواه أن من سمات الدعوة تكفير المسلمين , فلنترك الجواب عنها للشيخ محمد بن عبد الوهاب نفسه .
قال - رحمه الله - في رسالته إلى السويدي- عالم من أهل العراق كان قد أرسل إليه كتابًا , وسأله عما يقول الناس فيه- فأجابه بهذه الرسالة ومنها :
" وأخبرك أني ولله الحمد متبع , ولست بمبتدع , عقيدتي وديني الذي أدين الله به مذهب أهل السنة والجماعة الذي عليه أئمة المسلمين , مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم إلى يوم القيامة , لكني بينت للناس إخلاص الدين لله , ونهيتهم عن دعوة الأحياء والأموات من الصالحين وغيرهم , وعن إشراكهم فيما يعبد الله به من الذبح والنذر والتوكل والسجود وغير ذلك مما هو حق الله الذي لا يشركه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل , وهو الذي دعت إلى الرسل من - أولهم إلى آخرهم وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة . . " .
إلى أن قال - رحمه الله - :
" ومنها ما ذكرتم أني أكفر جميع الناس إلا من اتبعني , وأزعم أن أنكحتهم غير صحيحة , ويا عجبًا كيف يدخل هذا في عقل عاقل ؟ هل يقول هذا مسلم ؟ إني أبرأ إلى الله من هذا القول الذي ما يصدر إلا عن مختل العقل " .
ثم قال :(1/77)
" وأما التكفير , فأنا أكفر من عرف دين الرسول ثم بعدما عرفه سبه , ونهى عنه , وعادى من فعله , فهذا هو الذي أكفره , وأكثر الأمة ولله الحمد ليسوا كذلك " اهـ .
وقال - رحمه الله - في رسالة له :
" وأما ما ذكر لكم عني , فإني لم آته بجهالة , بل أقول- ولله الحمد والمنة , وبه القوة : { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } .
ولست ولله الحمد أدعو إلى مذهب صوفي أو فقيه أو متكلم أو إمام من الأئمة الذين أعظمهم , مثل ابن القيم والذهبي وابن كثير وغيرهم , بل أدعو إلى الله وحده لا شريك له , وأدعو إلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي أوصى بها أول أمته وآخرهم , وأرجو أني لا أرد الحق إذا أتاني , بل أشهد الله وملائكته وجميع خلقه إن أتانا منكم من الحق , لأقبلنه على الرأس والعين , ولأضربن الجدار بكل ما خالفه من أقوال أئمتي حاشا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه لا يقول إلا الحق " اهـ , .
فهذا منهج الدعوة , يصفه لنا إمام الدعوة نفسه - رحمه الله - , فهل في هذا غلو وتطرف وتكفير لجميع المسلمين كما زعم ذلك خصومه ؟
إنه يجب عليك أيها الأستاذ أن تحاسب نفسك على ما تقول وتكتب , ولا ترسل القول جزافًا , وأن تتثبت قبل أن تصدر الحكم، عملًا بقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } .
رابعًا : وأما دعواه أن كتب علماء الوهابية تشمل على تكفير المسلمين إلا من كان يدية بدعوتهم , فنحن نطالبه أن يبرز لنا كتابًا واحدًا من كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب أو من كتب أبنائه وأحفاده وكتب تلاميذهم . . إلى يومنا هذا يصدق ما نسبه إليهم من تكفيرهم للمسلمين .(1/78)
وبالجملة , فالأستاذ وصف دعوة الشيخ بصفات مذهب الخوارج : الغلو , والتطرف , والعنف , وتكفير المسلمين , وحصر الإسلام فيهم .
من أين استقى هذه المعلومات الخاطئة عن الدعوة ؟
لا بد أنه استقاها من كتب خصومها , وما هذا شأن الباحث المنصف , فضلًا عن العالم المسلم الذي يعلم أنه سيحاسب بين يدي الله عن كل كلمة يقولها أو يكتبها، { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } .
7- ويقول الأستاذ في ( ص82 ) :
" وإذن، فنستطيع أن نقول : إن هذه الدعوة مهما كان اتصالها بالسياسة , فقد بقي اللون الغالب عليها- وهو الدين-، وظل صاحب الدعوة هو صاحب الكلمة في المجتمع الذي استجاب له بما فيه من حكام ومحكومين . . إلخ " .
ونقول له : هل الدين منفصل عن السياسة ؟
إن الدين هو السياسة الصحيحة , والشريعة الإسلامية دين ودولة , فالسياسة الصحيحة لا تقوم إلا على الدين .
8- في ( ص93 ) يتكلم الأستاذ في موضوع هدم القباب المقامة على القبور , فيقول :
" وقد بدأ هذا العمل صاحب الدعوة محمد بن عبد الوهاب , فهدم القبة المقامة على قبر زيد بن الخطاب , ثم تلا ذلك هدم كثير من قباب الصحابة والتابعين , ثم تجاوز هذا إلى قبر الرسول الكريم وإلى الكعبة الشريفة , فحالوا بين الناس وبين التمسح بهما والتماس البركة منهما , وكان ذلك هو الذي أثار ثائرة المسلمين في كل مكان , وعدوا من أجله الوهابيين حربًا على الإسلام , لأنهم لا يقدسون مقدساته , ولا يوقرون حرماته " .
والجواب على ذلك أن نقول : إن هدم القباب المقامة على القبور هو واجب . جميع المسلمين , تنفيذًا لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث قال : ( ولا تدع قبرًا مشرقًا إلا سويته ) . كما رواه مسلم وغيره .
وأما التمسح بالكعبة , فالوارد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو استلام الحجر الأسود , وتقبيله , واستلام الركن اليماني دون بقية الأركان .(1/79)
ولهذا أنكر ابن عباس رضي الله عنهما على معاوية رضي الله عنه لما كان يستلم أركان الكعبة كلها , ويقول : ليس من البيت شيء مهجور . وذكر له ابن عباس فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وتلا عليه هذه الآية الكريمة : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } .
فتراجع معاوية رضي الله عنه عن رأيه , اتباعا للرسول، قال : صدقت .
وهذا شأن المسلم , { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُّبِينًا } .
فادعاء الأستاذ أن علماء الدعوة يمنعون التمسح بالكعبة مطلقًا ادعاء خاطئ , وأما التمسح بقبر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فهو حرام , ووسيلة من وسائل من وسائل الشرك , وكذا التمسح بقبر غيره من باب أولى , والمنع من ذلك واجب , وهو من محاسن الدعوة لا من مثالبها .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " ( 26/97 ) :
" وأما سائر جوانب البيت والركنان الشاميان ومقام إبراهيم , فلا يقبل , ولا يتمسح به , باتفاق المسلمين المتبعين للسنة المتواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - , فإذا لم يكن التمسح بذلك وتقبيله مستحبًا , فأولى ألا يقبل ولا يتمسح بما هو دون ذلك .
واتفق العلماء على أنه لا يستحب لمن سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند قبره أن يقبل الحجرة , ولا يتمسح بها , لئلا يضاهي بيت المخلوق بيت الخالق , ولأنه قال - صلى الله عليه وسلم - :
( اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد ) . وقال : ( ولا تتخذوا قبري عيدًا ) .
وقال : ( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد , ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك ) .
وقال أيضا ( 26/121 ) :(1/80)
" ولا يستلم من الأركان إلا الركنين اليمانيين دون الشاميين , فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما استلمهما خاصة , لأنهما على قواعد إبراهيم , والآخران هما في داخل البيت , فالركن الأسود يستلم ويقبل , واليماني يستلم ولا يقبل , والآخران لا يستلمان ولا يقبلان , والاستلام هو مسح باليد , وأما سائر جوانب البيت ومقام إبراهيم وسائر ما في الأرض من المساجد وحيطانها ومقابر الأنبياء والصالحين وصخرة بين المقدس , فلا تستلم , ولا تقبل , باتفاق الأئمة " اهـ .
فالتبرك بالبقاع والقبور والآثار إذا كان القصد منه التعلق على الله في حصول البركة وطلبها من غيره , فهذا شرك , فماذا على علماء الدعوة إذا حالوا بين الناس وبين الشرك ووسائله , نصحًا للخلق وغيرة للحق ؟
ثم يعد الأستاذ منع التمسح بقبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - تعريضًا لمقامه وقبره للأذى . انظر ( ص94 ) من كتابه .
ويا سبحان الله إن الذي يؤذي الرسول حقيقة هو الذي يجعل قبره وثنًا يعبد , ويرتكب ما نهى عنه , أو يدافع بلسانه وقلمه عمن يفعل ذلك .
وقوله : " وكان ذلك هو الذي أثار ثائرة المسلمين في كل مكان . . " إلخ قول فيه مجازفة وتقول على المسلمين , فالمسلمون بالمعنى الصحيح يؤيدون علماء الدعوة في ذلك ولا ينكره إلا الجهال الذين لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه أما المعاندون من عباد القبور وهؤلاء وأولئك لا اعتبار لإنكارهم في ميزان الحق ومجال النقد .
ثم الداعية إلى الحق لا بد أن يعادى وتحاك ضده التهم، ولنا بما جرى لسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وبما جرى لإخوانه النبيين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وما جرى على أتباعهم، لنا في ذلك أكبر أسوة وأعظم عبرة .
ثم إن الأستاذ أراد أن يلطف الموضوع ويغطي ما مر في كلامه من شطحات فقال :
" إن هذه الأمور " يعني : الأمور التي أنكرها الشيخ " بمنزلة ورم خبيث يحتاج إلى يد نطاسي بارع للقضاء عليه " ! !
9- ثم قال :(1/81)
" ولو أن الوهابية قد أخذت الأمر مأخذًا هينًا ودعت أول ما دعت إلى ترك البدع الصارخة، كالزار وغير ذلك مما كان يعيش عليه كثير من المسلمين في ذلك الحين , لو أن الوهابيين فعلوا هذا، لكان تمهيدًا طيبًا ومقدمة ناجحة لما تنطوي عليه دعوتهم من تحرير العقل الإسلامي وتحرير العقيدة الإسلامية مما غشيها من جهل وضلال " .
- هكذا يرى الأستاذ طريقة الدعوة الناجحة أن يترقى بها من الأدنى إلى الأعلى، بحيث يبدأ بإنكار البدع أولا ثم بإنكار الشرك .
ولنا على ذلك ملاحظتان :
الأولى : عده التمائم من البدع، مع أنها قد تكون شركًا إذا اعتقد معلقها أنها تدفع الشر بذاتها، وكذلك إذا كان فيها ألفاظ شركية، قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الرقى والتمائم والتولة شرك ) رواه أحمد وأبو داود .
الثانية : أن هذه الطريقة التي وصفها للدعوة مخالفة لطريقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فالرسول أول ما بدأ بإنكار الشرك، فلبث في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو إلى التوحيد وإنكار الشرك قبل أن يأمر بالصلاة والزكاة والصيام والحج، والنهي عن البدع إنما يكون بعد صلاح العقيدة، بحيث يبدأ بالأهم فالمهم، بل هذه طريقة جميع الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، كل نبي أول ما يبدأ قومه بقوله :
{ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ }(1/82)
10- يتكلم الأستاذ عن الاستعانة بالمخلوق فيقول في ( ص101-102 ) : " إن الإنسان الذي يؤمن بالله ويضم قلبه على توحيد لا يخلو أبدًا في حالات مختلفة من أن ينظر من غير قصد إلى غير الله فيما يطرقه من أحداث ذلك في الوقت الذي لا يخلو فيه قلبه من ذكر الله والإيمان بتفرده بالألوهية، ونحن نرى أن مثل هذه الالتفاتات العارضة لا يمكن أن تقطع الطريق على المسلم وأن تعزله عن ربه، وتسلكه في عداد الكافرين الملحدين، كما تقول بذلك الدعوة الوهابية، فأي إنسان لا تخف نفسه من غير قصد إلى التماس العون من ذوي الجاه وأصحاب السلطان ؟ . "
إلى أن قال :
" فهل لو ألقي مسلم اليوم في النار ثم جاءه أحد يمد إليه يد الخلاص، أيكون هذا المسلم كافرًا أو ملحدًا إذا قبل العون ؟ !
إن التوحيد الخالص على الوجه الذي تصوره الدعوة الوهابية يحتم على مثل هذا الإنسان ألا يستعين بغير الله .
فكيف الأمر إذن وصاحب الدعوة نفسه قد مد يده إلى أمير العيينة أولًا، ثم إلى الأمير محمد بن مسعود ثانيًا ؟ !
فهل في هذا ما ينقص التوحيد أو يفسد العقيدة ؟ ! فإن الأخذ بالأسباب أمر يدعو إليه العقل، ويزكيه الدين، وغاية ما في الأمر أن يضل بعض الناس عن جهل عن الاتجاه إلى الأسباب السليمة المتصلة بالمسببات،وذلك ما يمكن أن نفسر به تعلق بعض الجهلة بالأضرحة ونحوها، إنهم ضلوا الطريق فلم يتعرفوا على الأسباب الصحيحة ومثل هذا يوصف بالكفر والخروج عن الدين " ا هـ .
- وقد كرر الأستاذ كلمة " من غير قصد فهل مراده أن هذه الأشياء التي ذكرها تصدر من نائم أو ناس أو مجنون أو غير مميز أو مكره ؟ ! فكل من هؤلاء مرفوع عنه القلم بنصوص الأحاديث، فلا داعي إلى هذا التطويل .
وماذا قصده بالالتفاتة العارضة إلى غير الله التي تنسب إلى الدعوة الوهابية تكفير من فعلها ؟ !(1/83)
إن كان قصده الالتفات بطلب الحاجات وتفريج الكربات إلى الأموات والغائبين، فهذا كفر بإجماع المسلمين، ليس في الدعوة الوهابية فحسب، لأنه دعاء لغير الله { وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } والآيات في هذا كثيرة .
وإن قصد بهذا الالتفات الاستعانة بالمخلوق الحي الحاضر فيما يقدر عليه، كما يظهر قوله : " فأي إنسان لم تخف نفسه من غير قصد إلى التماس العون من ذوي الجاه والسلطان " , فهذا مباح،وقد تجنى الأستاذ على دعوة الشيخ في قوله : " إنما تكفر من فعل ذلك وتعده ملحدًا " .
وهو يرد على نفسه ويتناقض في قوله حين يقول " وصاحب الدعوة قد مد يده إلى أمير العينية أولا ثم إلى الأمير محمد بن سعود ثانيًا "
فقد رد على نفسه فيما نسب إلى هذه الدعوة ونحن نرد في هذه المسألة من كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب، حيث يقول - رحمه الله - في كشف الشبهات ما نصه :
فإن الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه لا ننكرها , كما قال الله تعالى في قصة موسى : { فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ } وكما يستغيث الإنسان بأصحابه في الحرب أو غيره في أشياء يقدر عليها المخلوق , ونحن أنكرنا استغاثة العبادة التي يفعلونها عند قبور الأولياء، أو في غيبتهم، في الأشياء التي لا يقدر عليها إلا الله " ا هـ .
وأما قوله عن تعلق بعض الجهلة بالأضرحة " إنهم ضلوا الطريق، فلم يتعرفوا على الأسباب الصحيحة، ومثل هذا يوصف بالجهل، ولا يهتم صاحبه بالكفر والخروج عن الدين "(1/84)
فنقول له : من تعلق على الأضرحة عن جهل، بين له الحق ودعي إلى التوحيد فإن أصر على التعلق بالأضرحة بعد ذلك يستغيث بها، ويطلب الحاجات منها فهو كافر خارج عن الدين، كشأن المشركين الأولين الذين دعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى التوحيد فأبوا وقالوا : { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا } ، لأن الجهل يوزل بالبيان ولا يبقى على الضلال بعد البيان إلا معاند للحق .
11- وفي الصفحات ( 103و104و105 ) يكتب الأستاذ كلامًا معناه أن الوهابية تسارع إلى تكفير الناس بتعليقهم التمائم، وتمسحهم بالأضرحة، مع كثرة من يفعل ذلك، وخطورة التكفير وقسوته وكون من يفعل هذه المخالفات فعلها عن جهل ومن أنه يمكن العلاج عن طريق النصح والإرشاد . . . . إلخ .
- ونحن نجيب الأستاذ عن ذلك بما سبق أن شرحناه بأن علماء الدعوة لا يكفرون الناس بمجرد تعليق التمائم، والتمسح بالأضرحة مطلقًا، بل في ذلك تفصيل :
فمن علق التميمة أو تمسح بالضريح يعتقد في ذلك جلب النفع ودفع الضر من دون الله فهذا شرك .
ومن فعله يعتقده سببًا من الأسباب فقط مع اعتقاده أن جلب النفع والضر من الله فهو محرم ووسيلة من وسائل الشرك .
ومن فعل ذلك جاهلًا بين له، وأرشد، فإن استمر بعد ذلك منع عنه بالقوة .
وكثرة من يفعله ليست حجة { وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } .
وأما كون التكفير فيه قسوة وخطورة فذلك لا يمنع من إطلاقه على من اتصف به، وعلماء الدعوة –والحمد لله- لا يكفرون إلا من كفره الله ورسوله .(1/85)
وأما قول الأستاذ " إنه بعد أن انتشر العلم في المجتمع الإسلامي وخلصت العقول من تصورات الجهل، ذهبت أو كادت تذهب كل هذه السور التي كانت تعيش في المجتمع الإسلامي من تعظيم القبور والتمسح بالأضرحة " فهذا كلام ينقضه الواقع، وما قبر أحمد البدوي، ومشهد الحسين، وغيرهما . . . وما يفعل عند هذه الأضرحة الآن من الشرك الأكبر بخافٍ على الأستاذ ولا بعيد عن بلده .
12- قد أكثر الأستاذ من وصف الدعوة بالحدة والعنف والمبالغة والغلو والتعصب والخطأ في أسلوبها وهذه صفات ذميمة قد برأ الله الدعوة منها، فهي ولله الحمد دعوة حكيمة صافية مبنية على العلم النافع والجهاد الصادق والصبر، أسوة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وترسمًا لخطاه .
وسأنقل فقرات مما كتبه الأستاذ في صفحات متعددة ما كان ينبغي له أن يكتبها :
ففي ( ص 74 ) يقول :
" بدأت الدعوة حادة عنيفة مطبوعة بطابع التطرف والمغالاة . . . فلقد بدأت بإنكار المجتمع كله " .
ويقول في ( ص76 ) :
" كان ينبغي أن تسلك الدعوة مسلكًا أسلم عاقبة من هذا لو أنها بدأت أقل عنفًا مما كانت عليه " .
ويقول في ( ص81 ) :
ولكن تعصب الوهابيين ( كذا ! والصواب : الوهابيون ) لرأيهم فبالغوا فيه وتعصب عليهم المجتمع الإسلامي في جملته، فأنكر دعوتهم .
وفي ( ص93 ) يقول :
" وفي الحق إن الدعوة الوهابية في بدئها قد أخطأت خطأ بينًا في أخذ الناس بهذا الأسلوب الحاد العنيف، دون أن تدخل في حسابها الأثر النفسي الذي يطغى على شعور المسلمين " .
وفي ( ص95 ) يقول :
" فموضوع الدعوة سليم غاية السلام، ولكن في أسلوبها بعدًا كثيرًا عن أساليب التربية " . وفي ( ص103 ) يقول :
" ونقول : إن هذه المبالغة وهذا الغلو في تنقية العقيدة الإسلامية من رواسب الشرك قد وسعت هوة الخلاف بين جمهور المسلمين والوهابيين " ا هـ .(1/86)
-والجواب أن نقول للأستاذ : من أي مرجع استقيت هذه المعلومات وعرفت هذه الصفات عن الدعوة التي قام بها الشيخ محمد عبد الوهاب وأتباعه ؟
هل وجدت في كتب أصحابها ما يسوغ قولك ؟ فها هي –ولله الحمد- موجود وميسورة، دلنا على واحد منها يصدق ما تقول .
أم تلقيت ذلك من كتب خصومها ؟ فما كان يجوز لك أن تحكم على الخصم اعتمادا على كلام خصمه .
ثم قوله " إن المجتمع الإسلامي بأسره أو معظمه قام في وجه هذه الدعوة ورفضها " قول مردود فهذه كتب علماء مسلمين بالعشرات والمئات تثني على هذه الدعوة وتناصرها وتدافع عنها، من علماء الهند، واليمن , والعراق، والشام , ومصر، وغيرهما مما لا أحصيه الآن مما تضمنه المكتبة الإسلامية من الكتب التي تنافح عن هذه الدعوة , إنما قام في وجهها فئات من علماء الضلال الذين قال فيهم وفي أمثالهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ( وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين ) . وهؤلاء لا عبرة بهم .
إن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء تترسم خطى دعوة الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - : فقد بدأ دعوته بتبصير الناس طريق الحق , وتصحيح العقيدة بالبيان والتعليم , فلما اجتمع حوله تلاميذ وأنصار اقتنعوا بدعوته , طلب من الأمراء من يحميه ويناصره حتى يبلغ هذه الدعوة إلى ما حوله من البلاد , كما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعرض نفسه على القبائل , يطلب من يؤيده حتى يبلغ دعوة ربه , فلما وجد الشيخ من الأمراء من يساعده , جهر بالدعوة , وكتب إلى العلماء والولاة في البلدان المجاورة يدعو إلى الله سبحانه , ويطلب منهم المناصرة , فاستجاب له من استجاب , وعاند من عاند , فكان لا بد من الجهاد في سبيل الله , لإعلاء كلمة الله , وتطهير البلاد من الشرك , أسوة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - هاجر إلى المدينة ووجد له أنصارًا فيها .(1/87)
وليس في هذا عنف أو غلو أو تعصب , كما زعمت أيها الأستاذ , بل هو سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في جهاد من عاند الحق , وأصر على الطغيان بعد البيان والإنذار .
وختامًا . نقول : يجب على الأستاذ أن يعيد النظر في كتابه , فيصفيه من هذه التناقضات التي شوهت جماله , وطمست معالمه , ويستقي معلوماته من المراجع الصحيحة عن الدعوة المباركة , وعلى الأخص كتب الشيخ ورسائله , ككتاب التوحيد , وكتب أحفاده وتلاميذهم وغيرهم من العلماء , مثل " تيسير العزيز الحميد " . و " فتح المجيد و " الدر السنية في الأجوبة النجدية " . و " غاية الأماني في الرد على النبهاني " . لعلامة العراق محمود شكري الألوسي , و " صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان " . لعلامة الهند محمد بشير السهواني , . . وغيرهما مما يوضح أهداف هذه الدعوة المباركة، ويرد شبهات خصومها .
هذا ما نرجوه من الأستاذ الكريم .
ونسأل الله لنا وله التوفيق فيما نقول ونعمل , وهو حسبنا ونعم الوكيل وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
رد ما توهمه الدكتور عبد الفتاح محمد الحلو من صحة نسبة ما في كتاب " نهج البلاغة " إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه .
وبعد :
لقد اطلعت على ما نشره الدكتور عبد الفتاح محمد الحلو في " مجلة كلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية " بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في ( العدد الخامس- عام 1395 هـ ) من بحث بعنوان : ( نهج البلاغة بين الإمام علي والشريف الرضي ) .(1/88)
وعندما لمحت العنوان , ظننت أن الدكتور الحلو سيبين حقيقة هذا الكتاب الذي اشتمل على كثير من دس الشيعة وأباطيلهم مما ينزه عنه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كسبّ الصحابه الكرام , وأن الأمة ظلمت فاطمة بنت الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته , وأن الخلافة حق لعلي وأهل بيته , وكنفي صفات الله عز وجل .
وبالجملة , فقد ملئ هذا الكتاب بالرفض والاعتزال , وإن كان فيه شيء يسير من كلام علي رضي الله عنه , لقصد التمويه على الناس .
كنت أظن أن الدكتور الحلو سيكشف هذا كله وبينه للناس , ولكن لم أظفر بما ظننته عندما قرأت البحث , فقد وجدته ينتصر لهذا الكتاب , ويصحح نسبته لعلي رضي الله عنه في مواضع من هذا البحث , وإن كان يتردد في الجزم بنسبته إليه في مواضع أخرى .
عند ذلك , تعين عليَّ أن أعقب على هذا البحث بما يبين الحقيقة , ونزيل اللبس- إن شاء الله- وذلك بذكر آراء العلماء في هذا الكتاب ومؤلفه , وذكر نماذج مما اشتمل عله من الباطل ومناقشة الدكتور الحلو في بحثه حول هذا الكتاب .
فأقول مستعينًا بالله :
أقوال العلماء المحققين في الكتاب ومؤلفه :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في " منهج السنة " :
" وأهل العلم يعلمون أن أكثر خطب هذا الكتاب مفتراة على علي , ولهذا لا يوجد غالبها في كتاب قديم , ولا لها إسناد معروف , فهي بمنزلة من يدعي أنه علوي أو عباسي ولا نعلم أحدًا من سلفه ادَّعى ذلك قط , فيعلم كذبه , فإن النسب يكون معروفًا من أصله حتى يتصل بفرعه .
وفي هذه الخطب أشياء قد علم يقينًا من عليّ ما يناقضها , ولم يوجب الله على الخلق أن يصدقوا بما لم يقم دليل على صدقه , وإن ذلك من تكليف ما لا يطاق " . (1)
وقال أيضا :(1/89)
ولكن صاحب " نهج البلاغة " وأمثاله أخذوا كثيرا من كلام الناس , فجعلوه من كلام عليّ ومنه ما يحكى عن على أنه تكلم به , ومنه ما هو كلام حق يليق به أن يتكلم به , ولكن هو في نفس الأمر من كلام غيره , وفي كتاب " البيان والتبيين " (2)
للجاحظ كلام كثير منقول عن غير علي , وصاحب " نهج البلاغة " يأخذه ويلصقه بعلي .
وهذه الخطب المنقولة في كتاب " نهج البلاغة " لو كانت كلها عن علي من كلامه , لكانت موجودة قبل هذا المصنف , منقولة عن علي بالإسناد وبغيرها , فإذا عرف من له خبرة بالمنقولات أن كثيرًا منها- بل أكثرها- لا يعرف قبل هذا علم أنه كذب وإلا فليبين الناقل لها في أي كتاب ذكر ذلك , ومن الذي نقله عن علي , وما إسناده , ؟ إلا فالدعوى المجردة لا يعجز عنها أحد , ومن كانت له خبرة بمعرفة طريق أهل الحديث ومعرفة الآثار والمنقول بالإسناد وتبين صدقها من كذبها . علم أن هؤلاء الذين ينقلون مثل هذا عن علي من أبعد الناس عن المنقولات والتمييز بين صدقها وكذبها " انتهى من منهاج السنة ( 4/195 ) .
وقال ابن خَلِّكان في " وفيات الأعيان " في ترجمة المرتضى :
" وقد اختلف الناس في كتاب " نهج البلاغة " المجموع من كلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه : هل هو جمعه ( أي : المرتضى ) أم جمع أخيه الرضيّ ؟ وقد قيل : إنه ليس من كلام علي رضي الله عنه , وإنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه . والله أعلم " .
ولما ترجم الذهبي في " الميزان " للمرتضى قال : " وهو المتهم بوضع كتاب " نهج البلاغة " وله مشاركة قوية في العلوم , ومن طالع كتابه " نهج البلاغة " جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنون علي رضي الله عنه . ففيه السب الصراح والحط على السيدين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما , وفيه من التناقض والأشياء الركيكة والعبارات التي من له معرفة بنفس القرشيين الصحابة وبنفس غيرهم ممن بعدهم من المت أخرىن , جزم بأن الكتاب أكثره باطل " .(1/90)
ثم نقل ابن حجر في " لسان الميزان " كلام الذهبي هذا مقررًا له .
فهؤلاء الأئمة : شيخ الإسلام : والإمام الذهبي , والحافظ ابن حجر , كلهم يجزمون بكذب نسبة ما في الكتاب أو أكثره إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وإنه من وضع مؤلفه .
وابن خلكان يحكي هذا أيضًا , ويحكي الخلاف في جامع هذا الكتاب : هل هو المرتضى أو الرضي ؟ والذهبي يتهم به المرتضى .
والذي يظهر لي أنه من وضع الاثنين .
وقد قال محب الدين الخطيب في حاشية المنتقى من " منهاج السنة " (3) : " وهذان الأخوان تطوعا للزيادة على خطب أمير المؤمنين سيدنا علي كرم الله وجهه بكل ما هو طارئ عليها وغريب عنها . من التعريض بإخوانه الصحابة , وهو بريء عند الله عز وجل من كل ذلك , وسيبرأ إليه من مقترفي هذا الإثم " .
وقال أيضا لما ذكر أن مؤلف " نهج البلاغة " هو الرضي :
" ومن المقطوع به أن أخاه علي بن الحسين المرتضى المتوفى سنة ( 426 هـ ) شاركه في الزيادات التي دست في النهج , ولاسيما الجمل التي لها مساس بأحباب علي وأولياء النبي - صلى الله عليه وسلم - كقول الأخوين أو أحدهما : لقد تقمصها فلان , وما خرج من هذه الحمأة . " ا هـ . ص 508 .
وكل من الأخوين رافضي على ما ذكره الذهبي في " الميزان " وابن حجر في " لسان الميزان " وذكر الذهبي في ترجمة المرتضى أيضا عن ابن حزم أنه كان من كبار المعتزلة الدعاة , وكان إماميا , وذكر الذهبي أنه أخذ العلوم عن الشيخ المفيد الذي صنف كتابًا سماه " مناسك حج المشاهد " وحشاه بالكذب والشرك , وجعل قبور المخلوقين تحج كما يحج البيت .
ومما يدل على أن كتاب " نهج البلاغة " إما من وضع المرتضى أو له فيه مشاركة قوية ما فيه من الاعتزاليات في الصفات، والمرتضى كما ذُكر في ترجمته من كبار المعتزلة .
ولكن مع هذا كله , فالدكتور مصرّ في غير موضع من بحثه على صحة نسبة ما في الكتاب إلى علي ابن أبي طالب , حيث يقول في بحثه :(1/91)
" وجملة القول في " نهج البلاغة " أن الرضي حين جمعه كان يجمع شيئًا معروفًا في عصره بصحة نسبته للإمام علي رضي الله عنه , وإلا لاتجه كثير من معاصريه إلى نقده في عصر كثرت فيه الفتن بين الشيعة والسنة , وكانت الكلمة الواحدة أو اللمزة كافية بإحراق أحياء من بغداد أو هدمها (4) ولم يقيد الرضي كل ما وجده من كلام الإمام وإنما اختار منه ما يثق في صحة نسبته " .
ثم يعود الدكتور فيتردد في هذا الحكم , فيقول :
ولكن هذا الكتاب لن يسلم من الطعن على بعض ما فيه حتى تقوم دراسة جادة تبحث عن أصوله , وتوثق نقوله , وتقول الكلمة الأخيرة فيه " .
ويقول أيضا :
" وأغلب الظن أن ما في " نهج البلاغة " من الخطب المطولة تطرق إليه عامل التنسيق والتنظيم وضم النظير إلى النظير , وربط ذلك كله في سياق واحد , وهو عمل يقتضي من صاحبه بعض التدخل لاستكمال معنى , وللربط بين الأفكار وضمان تسلسلها " .
ويقول أيضًا :
" وربما توسع في ذلك بعده على نهجه , إيثارا لولوج النصيحة إلى قلوب الناس وتمكنها من أفئدتهم وقد وضع من الأحاديث على الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن القصص في الترغيب والترهيب ما أقام مدارس للحديث بعد ذلك نقبًا للوضع عن السنة واستخلاصًا لصحيحها .
وقال أيضا عما في الخطب من التنميق اللفظي :
" وهو أمر ربما عمل فيه من نقل كلام أمير المؤمنين فلم يكن تشريعًا كما كان كلام صاحب الرسالة - صلى الله عليه وسلم - فيتحرى نقله بلفظه , وإن كان مهيعًا للبلاغة , ومنهجا للفصاحة , تؤثر فيه الرواية الفصيحة , ويؤخذ بالمتن البليغ " .(1/92)
فأنت ترى التناقض في كلام الدكتور، فهو حينما يكاد يجزم بصحة نسبة ما في " نهج البلاغة " إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بناء منه على ثقة الرضي في تحريه ما صحت نسبته إلى علي , ولعدم الاعتراض عليه في ذلك من معاصريه - وكيف يقول الدكتور هذا مع ما نقل هو ونقلنا نحن منه معارضة كبار الأئمة في ذلك- ثم يتشكك في كلماته- الأخيرة ويقر باحتمال الدخيل في الكتاب وما دام تطرق الاحتمال إلى ما في الكتاب , فإنه لم يعد موثقًا به .
على أننا مع هذا كله نحيط الدكتور علمًا أنه لو خلا الكتاب من جميع الطعون : فلن تصح نسبته لعلي رضي الله عنه إلا بالسند الصحيح المتصل إليه .
ذكر الإمام مسلم في مقدمة " صحيحه " عن عبد الله بن المبارك أنه قال : " الإسناد من الدين , ولولا الإسناد لقال من شاء " انتهى .
أهم المطاعن الموجهة إلى نهج البلاغة وجواب الدكتور عنها , ومناقشتنا له :
ذكر الدكتور ملخصًا للمطاعن الموجهة إلى ذلك الكتاب , نقلًا عن عبد الزهراء الحسيني , ومن أهمها :
1- أن في الكتاب من التعريض بصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لا يُسَلَّم أن يصح صدوره عن مثل الإمام علي .
2- ما فيه من ذكر الوصي والوصاية .
3- أن في الكتاب ما يشم منه ريح ادعاء علم الغيب وهذا أمر يجل عن مثله مقام علي .
ويجيب الدكتور عن المطعن الأول بقوله :
" فإني لا أجد مساغًا للطعن فيها – يعني : إحدى خطب الكتاب – لما تضمنته من الكلام على صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فإن المتتبع لمشكلة الخلافة من لدن قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أوثق كتب السنة ومراجع التاريخ (5) يدرك مدى المرارة التي كان يحسها علي رضي الله عنه لحرمانه من الخلافة، فقد كان يرى نفسه أحق بها وأهلها , فما الذي يمنعه من إخراج هذه الشقشقة " . . إلخ كلامه .
فالدكتور بهذا الدفاع يلصق بعلي رضي الله عنه أمرين هو منهما بريء وهما :(1/93)
أولا : سب إخوانه من الصحابة , وارتكابه ما نهى عنه الله بقوله : { وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا } وما نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله ( لا تسبوا أصحابي , فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا , ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ) . وكرم الله عليا عن هذه المنقصة (6) .
وثانيًا : عدم اقتناعه بخلافة أبي بكر وعمر وعثمان لأنه على رأي الدكتور يرى نفسه أحق بها منهم، وهو أهلها وهو ليسوا لها بأهل .
وهذا افتراء ظاهر على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه .
ويتضمن الطعن في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان , وقد أجمع أهل السنة على أن الخليفة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان , ثم علي :
قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية :
" ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء , فهو أضل من حمار أهله " (7) .
وقال : " وقد ثبت عن علي من وجوه متواترة أنه كان يقول : خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر , ثم عمر " .
وقال الشيخ أيضًا :
" اتفقت السنة والشيعة على أن عليًّا لم يدع إلى مبايعته إلا بعد مقتل عثمان , ولا بايعه أحد إلا ذلك الوقت " .
وقال الشيخ أيضا في " منهاج السنة " :(1/94)
" من المتواتر أن أبا بكر لم يطلب الخلافة برغبة ولا برهبة , فلا بذل فيها مالًا , ولا شهر عليها سيفًا , ولا كانت له عشيرة ضخمة , ولا عدد من الموالي تقوم بنصرة , كما جرت عادة طلاب الملك , بل ولا قال بايعوني وإنما أشار ببيعة عمر أو بيعة أبي عبيدة ثم من تخلف عن مبايعته لم يؤذه , ولا أكرهه عليها , ثم الذين بايعوه طائعين هم الذين بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت الشجرة , الذين رضي الله عنهم , فقاتل بهم المرتدين وفارس والروم , وثبَّت الإسلام وأهله , ولا أكل منها ولا لبس إلا كعادته وعيشه , فلما جاءه اليقين , خرج منها أزهد مما دخل فيها , لم يستأثر منها بشيء عنهم ولا آثر بها قرابته , بل نظر إلى أفضلهم في نفسه , - يعني : عمر - فولاه عليهم فأطاعوه كلهم , ففتح الأمصار , وقهر الكفار , وأذل أهل النفاق وبسط العدل ووضع الديوان والعطاء لازمًا لعيش من قبله في مأكله ومشربه وملبسه , حتى خرج شهيدا لم يتلوث لهم المال ولا ولى أحدًا من أقاربه ولاية , هذا أمر يعرفه من يعرف وينصف ثم بايعوا عثمان كلهم طوعًا منهم , فسار وبنى على أمر قد استقر قبله بسكينة وحلم وهدى ورحمة وكرم ولين(8) " ا هـ . المقصود من كلامه - رحمه الله - .
وعلى ما في " نهج البلاغة " وما قرره الدكتور يعد عمل الصحابة هذا كله خطأ، حيث عدلوا بالخلافة عمن يستحقها وأهلها إلى من لا يستحقها وليس لها بأهل، فيلزم عليه أن الأمة اجتمعت على ضلالة , عياذًا بالله من الكلام الذي لا تقدر عواقبه ونتائجه ومستلزماته .
ولست أدري ما هي أوثق كتب السنة التي يزعم الدكتور أن من تتبعها أدرك المرارة التي كان يحسها علي رضي الله عنه , لحرمانه من الخلافة، فقد كان يرى نفسه أحق بها وأهلها ؟(1/95)
ولعل هذه الكتب التي يشير إليها الدكتور هي " نهج البلاغة " وشروحه ومصادره للشيعة و " البيان والتبيين " للجاحظ المعتزلي , و " روضات الجنات " للخونساري , و " الغدير " . . وغيرها من كتب الشيعة التي ذكرها الدكتور في قائمة مراجعه لهذا البحث .
ثم يجيب الدكتور عن المطعن الثاني , وهو ما في " نهج البلاغة " من ذكر الوصي والوصاية , فيقول :
" ليس ذلك بمطعن عليه , ولم أجد في نهج البلاغة " شيئًا يخرج عما ورد في كتب السنة والتاريخ " . .
إلى أن قال : " وليس في " نهج البلاغة " ما يدعم القضية , أو يدعو إليها , اللهم إلا ما جاء في كلام علي رضي الله عنه من علم علمه إياه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " .
فالدكتور بهذا الدفاع يقرر أمورًا بعضها متناقض :
فهو لا يرى أن ما في " نهج البلاغة " من ذكر الوصي والوصاية يوجب الطعن فيه , ثم يدعي أنه ليس في " نهج البلاغة " ما يخالف كتب السنة , ولست أدري هل هو يعني كل ما فيه أو مسألة الوصي والوصاية فقط ؟
ثم ينفي وجود ذكر للوصي والوصاية في هذا الكتاب , إلا تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي فهو بهذا يثبت ثم ينفي !
ونحن بتتبعنا للكتاب وجدنا فيه عشرات المواضع تتضمن ذكر الوصاية فإثباتًا لما نفاه الدكتور نسوق هذه النماذج من الكتاب :
قال في الجزء الأول ( ص 24 ) يصف أهل البيت بأنهم : " موضع سره يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - -، ولجأ أمره وعيبة علمه وموئل حكمه، وكهوف كتبه، وجبال دينه، بهم أقام انحناء ظهره وارتعاد فرائصه " .
وقال في مطلع الخطبة الشقشقية التي ضمنها مسبة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وادّعى فيها اختصاص علي بالخلافة دونهم؛ قال :
" أما والله لقد تقمصها - يعني الخلافة - فلان – يعني : أبا بكر - وإنه لا يعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى " .(1/96)
إلى أن قال : " فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجى، أرى تراثي نهبًا، حتى مضى الأول لسبيله، فأدلى بها إلى فلان بعده - يعني عمر - فيا عجبًا بينا هو يستثقلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته " .
إلى أن قال : " فصبرت على طول المدة، وشدة المحنة حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أني منهم فيا لله وللشورى، متى اعترض الريب فيّ مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر، لكني أسففت إذا أسفوا، وطرت إذا طاروا، فصغى رجل منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره مع هَنٍ وهَنٍ، إلى أن قام ثالث القوم نافجًا حضنيه – يعني : عثمان – " . . . إلخ ما فيها من الكلام الباطل الذي ينزه عنه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقبح الله من افتراه ونسبه إليه (9).
وفي الجزء الثاني ( ص37 ) قوله :
إن الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من بني هاشم، لا تصلح على سواهم، ولا تصلح الولاة من غيرهم " .
وقال في الجزء الثاني ( ص58 ) :
" نحن الشعار والأصحاب والخزنة والأبواب ولا تؤتى البيوت إلا من أبوابها فمن أتاها من غير أبوابها سمي سارقًا " .
وفي الجزء الثاني ( ص167 ) يقول : " ولقد قُبض رسول الله وإن رأسه لعلى صدري ولقد سالت نفسه في كفي فأمررتها على وجهي " .
إلى أن قال : " فمن أحق به مني حيًا أو ميتًا ؟ " .
انتهى ما قصدنا نقله من هذه النماذج .
وقوله في النموذج الأخير لقد قُبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن رأسه لعلى صدري إلخ يعارضه ويرده ما ثبت في الصحيح أنه توفي - صلى الله عليه وسلم - في بيت عائشة رضي الله عنها وفي حجرها وبين سحرها ونحرها .(1/97)
وهذه النماذج تثبت ما نفاه الدكتور من ذكر الوصاية في الكتاب إذ أنها جميعًا تفيد حصر الولاية في أهل البيت وهذا هو معنى الوصاية كأنهم صاروا أوصياء على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فالرافضة لما لم يجدوا نصوصًا صحيحة تثبت ما يدعونه من هذه الوصاية صاروا يحوكون مثل هذه الخطب ويضمنونها هذه الكلمات التي يخترعونها .
وقول الدكتور لم أجد في نهج البلاغة شيئًا يخرج عما ورد في كتب السنة والتاريخ نقول هل قارنت كتاب نهج البلاغة وقابلته على كتب السنة فوجدتها مشتملة على ما ذكر فيه من سب الصحابة والطعن في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وحصر الخلافة في علي ووجدتها كذلك مشتملة على نفي صفات الله عز وجل كما هو مذهب الجهمية والمعتزلة ؟ نرجو أن تعين لنا ولو كتابًا واحدًا يبرز ما قلت . ونعني بكتب السنة دواوين الإسلام المعتبرة والمشهود لها بالصحة من علماء الأمة لا كل سواد في ورق .
ثم يجيب الدكتور عن المطعن الثالث وهو ما في نهج البلاغة من أخبار عن أمور مستقبلة تدخل في عالم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، كقوله يا أحنف كأني به وقد سار بالجيش الذي لا يكون له غبار إلخ، وقوله كأني أراهم قوما كأن وجوههم المجان المطرقة يلبسون السرق والديباج . . . إلخ " .
ويقول الدكتور إن هذا الطعن إنما جره تعليق الشراح حيث حملوا الخبرين على فتنة الزنج وحرب التتار وإلا فالإمام علي لم ينص على فتنة الزنج والتتار فيا عجبًا كيف يحمل الدكتور المسؤولية على الشراح مع أن الكلام المشروح خبر عن المستقبل المغيب سواء فسر بهاتين الواقعتين أو غيرهما فهل إذا أصاب الشراح في حمل الخبر على محمله لا يكون من الإخبار بالغيب ؟ !(1/98)
ثم يوالي الدكتور مدافعته عن الكتاب فيقول وليس هذا الذي يقوله الإمام علي رضي الله عنه ادعاء علم الغيب ويستشهد بما ذكر في نهج البلاغة منسوبًا إلى علي أنه قال ليس هو بعلم غيب، وإنما هو تعلم من ذي علم، وإنما علم الغيب علم الساعة وما عدده الله بقوله { إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } الآية، فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلا الله وما سوى ذلك فعلم علمه الله نبيه فعلمنيه ودعا لي بأن يعيه صدري وتضطم عليه جوانحي " .
فهذا السياق الذي ساقه الدكتور يقتضي أن ما سوى الخمس المذكورة في الآية من المغيبات كله قد علمه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعلي والقضية الأولى يردها قوله تعالى { قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ } وقوله { وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ } وهذا لا ينافي أن يطلعه الله على بعض الأشياء كما يشاء سبحانه (10) . وإنما الكلام في العموم فيما عدا الخمس هل صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يعلمه .
وأما القضية الثانية وهي اختصاص علي بهذا العلم الذي يدرك به ما سوى الخمس المذكورة في الآية فيردها ما رواه البخاري وأحمد والنسائي وأبو داود والترمذي عن أبي جحيفة قال : " قلت لعلي : هل عندكم شيء من الوحي ما ليس في القرآن ؟ فقال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يعطيه الله رجلًا في القرآن وما في هذه الصحيفة، قلت : وما هذه الصحيفة ؟ قال : العقل وفكاك الأسير وألا يقتل مسلم بكافر " .
قال الشوكاني قال الحافظ وإنما سأله أبو جحيفة عن ذلك لأن جماعة من الشيعة كانوا يزعمون أن لأهل البيت لاسيما عليّ اختصاصًا بشيء من الوحي لم يطلع عليه غيرهم .(1/99)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (11) : وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال : " والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما عهد إليَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا لم يعهده إلى الناس إلا ما في هذه الصحيفة إلا فهمًا يؤتيه الله عبدا في كتابه " .
وقال الشيخ أيضا (12):
" ومما يبين أن عليا ما كان يعلم المستقبلات أنه كان في خلافته وحروبه يظن أشياء فيتبين له الأمر بخلاف ظنه فلو عرف أنه يجري ما جرى من قتل الناس . ولم يحصل المقصود لما قاتل فإنه كان لم يقاتل في عز ونصر ولو علم أنه إذا حكم الحكمين يحكمان بما حكم به لم يحكمهما فأين علمه بالكوائن بعده . انتهى بمعناه . وليس ذكر هذه الدعوى في كتاب نهج البلاغة بعجيب لأن الشيعة يجعلون من ميزات علي أنه يعرف الغيب .
انظر ما ذكره ابن المطهر ورد الشيخ تقي الدين ابن تيمية عليه في منهاج السنة ( 4/177 ) حتى تعرف أن نهج البلاغة يمشي على مخطط الشيعة .
ومن المطاعن على كتاب نهج البلاغة مما لم يذكره الدكتور ما فيه من الاعتزال في الصفات لأن الرافضة اعتمدوا على كتب المعتزلة في العقليات (13) فوافقوهم في القدر وسلب الصفات وكان المرتضى واضع كتاب نهج البلاغة أو المشارك في وضعه كما أسلفنا معتزليا، بل قال عنه ابن حزم إنه من كبار المعتزلة الدعاة كما نقله عنه الذهبي في " الميزان " .
ومن هذا المشرب الكدر حشي " نهج البلاغة " وإليك نماذج من ذلك ففي الجزء الأول ( ص 8 ) يقول :
" وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه؛ لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنَّاه، ومن ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حده، ومن حده فقد عده، ومن قال فيم ؟ فقد ضمنه، ومن قال علام ؟ فقد أخلى منه " .
وفي الجزء الثاني ( ص145- 147 ) يقول :(1/100)
" ولا يوصف بشيء من الأجزاء ولا بالجوارح والأعضاء إلى أن قال : وليس في الأشياء بوالج، ولا عنها بخارج، يخبر لا بلسان ولهوات، ويسمع لا بخروق وأدوات، يقول ولا يتلفظ، يقول لمن أراد كونه : كن، فيكون، لا بصوت يقرع، ولا بنداء يسمع، وإنما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ومثله , ولم يكن من قبل ذلك ولو كان قديمًا كان إلهًا ثانيًا . إلى أن قال : هو الظاهر عليها بسلطانه وعظمته، وهو الباطن لها بعلمه ومعرفته، والعالي على كل شيء منها بجلاله وعزته " .
انتهى ما أردنا نقله من هذا الهذيان الذي ينزه الله سبحانه وتعالى عنه مما يطابق اعتقاد الجهمية والمعتزلة .
فيا عباد الله يا أصحاب العقول يا أهل الإيمان؛ هل ترون بربكم أن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه تكلم بهذا الكلام في حق الله ؟ اللهم لا وألف لا (14)
لكن مع هذا كله فالدكتور في غير موضع من كلامه يصحح نسبة ما في هذا الكتاب إلى علي بن أبي طالب حيث يقول :
" وجملة القول في نهج البلاغة أن الرضي حين جمعه كان يجمع شيئًا معروفًا في عصره بصحة نسبته إلى الإمام علي رضي الله عنه "
ويبرهن الدكتور على ذلك بقوله : " وإلا لاتجه كثير من معاصريه إلى نقده " .
ثم يقول : " ولم يقيد الرضيّ كل ما وجده من كلام الإمام، وإنما اختار منه ما يثق في صحة نسبه فكأن الدكتور يقرر بهذا الكلام أنه لا فائدة من الأسانيد ودراستها لأنه يكتفي عنها بثقة المؤلفين في نظره ولا عجب فقد بلغ من إعجاب الدكتور بهذا الكتاب أن ينقل عن شارحه ابن أبي الحديد تشبيهه بالقرآن الكريم فيمضيه ولا يعترض عليه (15) وذلك في قول ابن أبي الحديد :
" وأنت إذا تأملت نهج البلاغة وجدته كله ماء واحدًا نفسًا واحدًا كالجسم البسيط "
إلى أن قال :
" وكالقرآن العزيز أوله كأوسطه، وأوسطه كآخره، وكل سورة منه وكل آية مماثلة في المأخذ والمذهب، والطريق والنظم لباقي السور " .(1/101)
وليس عجيبًا من ابن أبي الحديد منح نهج البلاغة هذا الوصف، وسخاؤه به؛ لأنه شيعي والشيعة يقولون إن كلام علي فوق كلام المخلوق، ودون كلام الخالق فجعلوا كلامه فوق كلام الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
وأخيرًا؛ نتمنى من الدكتور الحلو وهو المعروف بخبرته الواسعة في التراث وتحقيقه أن يصرف مثل هذا المجهود في تحقيق مراجع الإسلام وتراثه القيم ليكون عمله مثمرًا ونافعًا ويستحق منا التقدير والدعاء ورجاء الأجر والمثوبة (16).
وأنا لا أدعي أنني أتيت على ما في بحثه من ملاحظات ولكني اقتصرت على ما هو الأهم في نظري مما له مساس بعقيدتنا وديننا .
ونسأل الله لنا جميعًا التوفيق والهداية .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبة أجمعين .(1/102)
نظرات وتعقيبات على ما في كتاب " السلفية " لمحمد سعيد رمضان من الهفوات
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وبعد . . .
فقد اطلعت على كتاب من تأليف الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي بعنوان " السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي " فاستغربت هذا العنوان لما يوحي به من إنكار أن يكون للسلف مذهب ومنهج تجب علينا معرفته والتمسك به وترك المذاهب المخالفة له ولما قرأت الكتاب وجدت مضمونه أغرب من عنوانه حيث وجدته يقول فيه إن التمذهب بالسلفية بدعة ويشن حملة على السلفيين، ونحن نتساءل هل الذي حمله على أن يشن هذه الحملة التي تناولت حتى القدامى منهم كشيخ الإسلام ابن تيمية وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب هل الذي حمله على ذلك كراهيته للبدع فظن أن التمذهب بالسلفية بدعة فكرهه لذلك ؟ كلا ليس الحامل له كراهية البدع لأننا رأيناه يؤيد في هذا الكتاب كثيرا من البدع يؤيد الأذكار الصوفية المبتدعة ويؤيد الدعاء الجماعي بعد صلاة الفريضة وهو بدعة، ويؤيد السفر لزيارة قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو بدعة فاتضح لنا . والله أعلم أن الحامل له شن هذه الحملة هو التضايق من الآراء السلفية التي تناهض البدع والأفكار التي يعيشها كثير من العالم الإسلامى اليوم وهي لا تتلائم مع منهج السلف وقد ناقشت في هذه العجالة الآراء التي أبداها في كتابه المذكور حول السلفية والسلفيين وذلك من خلال التعقيبات التالية وهي تعقيبات
مختصرة تضع تصورا لما يحتويه كتابه من آراء هي محل نظر وإذا كان الدكتور يعني بحملته هذه جماعة معينة فلماذا لا يخصها ببيان أخطائها دون أن يعمم الحكم على جميع السلفيين المعاصرين وحتى بعض السابقين .
والآن إلى التعقيبات :
التعقيب الأول :
قوله في العنوان " السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي "(1/103)
هذا العنوان معناه أن السلف ليس لهم مذهب يعرفون به وكأنهم في نظره عوام عاشوا في فترة من الزمن بلا مذهب ومعناه أيضا أن تفريق العلماء بين مذهب السلف ومذهب الخلف تفريق خاطئ لأن السلف ليس لهم مذهب، وعلى هذا لا معنى لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين . . . ) وقوله لما سئل عن الفرقة الناجية من هي ؟ قال ( هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي ) لا معنى لهذا كله لأن السلف ليس لهم مذهب ولعل قصد الدكتور من ذلك هو الرد على الذين يتمسكون بمذهب السلف في هذا الزمان ويخالفون المبتدعة والخرافيين .
التعقيب الثاني :
قوله في ( ص5 ) :
" هذا الكتاب لا يتضمن أي مناقشة لآراء السلفية وآفكارهم التي يعرفون بها كما لا يتضمن تصويبا ولا تخطئة لها " .
ومعنى هذا أن الآراء السلفية قابلة للمناقشة والتخطئة، وهذا فيه إجمال لأن السلفية بمعناها الصحيح المعروف لا تخالف الكتاب والسنة فلا تقبل المناقشة والتخطئة . وأما السلفية المدعاة فهي محل النظر وهو لم يحدد المراد بالسلفية فكأن كلامه موهما عاما يتناول السلفية الصحيحة والسلفية المدعاة .
التعقيب الثالث :
في ( ص12 ) المقطع الأول يعلل فيه أن وجوب اتباع السلف بكونهم أفهم للنصوص لسلامة لغتهم ولمخالتطهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - .(1/104)
وهذا فيه نقص كبير لأنه أهمل قضية تلقيهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعلمهم منه وسؤالهم إياه ومشاهدتهم التنزيل على رسول الله وتلقيهم التأويل عنه - صلى الله عليه وسلم -?، وهذه مرتبة من العلم لم يبلغها غيرهم، وقد أهمل ذكرها وتناساها تماما كما أنه في آخر هذه الصفحة يقرر أن اتباع السلف لا يعني أخذ أقوالهم والاستدلال بمواقفهم من الوقائع وإنما يعني الرجوع إلى القواعد التي كانوا يحتكمون إليها . ومعنى هذا الكلام أن أقوال السلف وأفعالهم ليست حجة وإنما الحجة هي القواعد التي كانوا يسيرون عليها . وهذا كلام فيه تناقض لأن معناه أننا نلغي أقوالهم ونأخذ قواعدها فقط ونستنبط بها من النصوص غير استنباطهم، وهذا إهدار لكلام السلف ودعوة لكلام جديد وفهم جديد يدعي فيه أنه على قواعد السلف .
التعقيب الرابع :
في ( ص13و14 ) ينكر أن تتميز طائفة من المسلمين من بين الفرق المختلفة والمفترقة وتسمى بالسلفية ويقول : لا اختلاف بين السلف والخلف ولا حواجز بينهم ولا انقسام . وهذا فيه إنكار لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم ) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ) قيل من هي يا رسول الله قال : ( هم من كان على مثل ما أنا عليه أنا وأصحابي ) فهذا الحديثان يدلان على وجود الافتراق والانقسام والتميز بين السلف وأتباعهم وبين غيرهم .(1/105)
والسلف ومن سار على نهجهم ما زالوا يميزون أتباع السنة عن غيرهم من المبتدعة والفرق الضالة ويسمونهم أهل السنة والجماعة وأتباع السلف الصالح ومؤلفاتهم مملوءة بذلك، حيث يردون على الفرق المخالفة لفرقة أهل السنة وأتباع السلف . والدكتور يجحد هذا ويقول : لا اختلاف بين السلف والخلف ولا حواجز بينهم ولا انقسام . وهذا إنكار للواقع مخالف لما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجود الانقسام والافتراق في هذه الأمة وأنه لا يبقى على الحق منها إلا فرقة واحدة .
التعقيب الخامس :
من ( ص14 - 17 ) يحاول أن يسوغ قوله بعدم وجوب الأخذ بأقوال السلف وأعمالهم وتصرفاتهم بأن السلف أنفسهم لم يدعوا الناس إلى ذلك، وبأن العادات تختلف وتتطور في اللباب والمباني والأواني . . . . إلخ ما ذكره وهذا الكلام فيه جهل وخلط وتلبيس من وجهين :
الوجه الأول : قوله إن السلف لم يدعوا إلى الأخذ بأقوال السابقين . وهذا كذب عليهم فإن السلف من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين يحثون على امتثال ما أمر الله به ورسوله من الاقتداء بالسلف الصالح والأخذ بأقوالهم والله قد أثنى على الذين يتبعونهم فقال تعالى { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ } . . . . . . . . الآية وقال - صلى الله عليه وسلم - عن الفرقة الناجية : ( هم من كان على مثل ما أنا عليه أنا وأصحابي ) وقال - صلى الله عليه وسلم - ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ) وقال عبد الله بن مسعود : من كان مستنًّا فليستن بمن مات فإن الحيّ لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبر الناس قلوبا وأغزرهم علمًا وأقلهم تكلفا .
وقال الإمام مالك بن أنس : لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها .(1/106)
. . . . إلى غير ذلك مما تضمنته الكتب المؤلفة في عقائد السلف والمسماة بكتب السنة ككتاب السنة لعبد الله ابن الإمام أحمد وكؤتاب السنة للآجري وكتاب السنة لابن أبي عاصم وغيرها تذكر أقوال السلف وتحث على الأخذ بها .
الوجه الثاني : أنه جعل مسائل العادات كالمباني والأواني والملابس كمسائل العلم والعقائد والعبادات تختلف باختلاف الأزمنة والأعراف، وهذا منه جهل أو تلبيس فإن الفرق في ذلك معروف لأقل الناس ثقافة وعلما، كل يعرف أن العادات تختلف وأما العبادات وأحكام الشريعة فهي ثابتة .
التعقيب السادس :
في ( ص19 ) المقطع الأخير، يقول :
" إن السلف لم يجمدوا عند أقوال صدرت عنهم " .
ومراده أن السلف لا يبقون على أقوالهم بل يتحولون عنها، ومن ثم لا يجب علينا الأخذ بأقوالهم، وهذا فيه إجمال، فإن كان مراده أقوالهم في العقيدة فهو كذب عليهم؛ لأنهم ثبتوا على أقوالهم ولم يتحولوا عنه . وإن كان مراده أقوالهم في المسائل الاجتهادية فهم لا يجمدون على القول الذي ظهر لهم أنه خطأ بل يتركونه إلى الصواب .
التعقيب السابع :
قوله : " فكل من التزم بالمتفق عليه من تلك القواعد (1) والأصول وبنى اجتهاده وتفسيره وتأويلاته للنصوص على أساسها فهو مسلم ملتزم بكتاب الله وسنة رسوله " .
نقول : ضابط الإسلام قد بينه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حديث جبريل وهو ( أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ) (2)
فالمسلم هو الملتزم بالإسلام المقيم لأركانه، فلا حاجة إلى هذا التعريف الذي ذكره مع تعريف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم إن تعريفه فيه إجمال وعدم وضوح، فهو يتيح لكل أحد أن يفسر الإسلام بما يريد .
يدل على ذلك قوله فيما بعد :
" نعم إن من قواعد هذا المنهج ما قد يخضع فهمه للاجتهاد من ثم فقد وقع الخلاف . . . إلخ "(1/107)
فهل الإسلام قابل للاختلاف ؟ كلا بل إن أصول الإسلام والعقيدة ليست مجالا للاجتهاد، وإنما هذا في المسائل الفرعية فمن خالف في أصول الدين وعقيدته فإنه يكفر أو يضلل بحسب مخالفته؛ لأن مدارها على النص والتوقيف ولا مسرح للاجتهاد فيه .
التعقيب الثامن :
قوله : " إن السلفية لا تعني إلا مرحلة زمنية، قصارى ما في الأمر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصفها بالخيرية كما وصف كل عصر آت من بعد بأنه خير من الذي يليه، فإن قصدت بها جماعة إسلامية ذات منهج معين خاص بها فتلك إذن أحد البدع " اهـ .
ونقول هذا التفسير منه للسلفية بأنها مرحلة زمنية وليست جماعة - تفسير غريب وباطل، فهل يقال : للمرحلة الزمنية بأنها سلفية ؟ ! هذا لم يقل به أحد من البشر، وإنما تطلق السلفية على الجماعة المؤمنة الذين عاشوا في العصر الأول من عصور الإسلام، والتزموا بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ووصفهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله : ( خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) الحديث . فهذا وصف لجماعة وليس لمرحلة زمنية، ولما ذكر - صلى الله عليه وسلم - افتراق الأمة فيما بعد قال عن الفرق كلها أنها في النار إلا واحدة، ووصف هذه الواحدة بأنها هي التي تتبع منهج السلف وتسير عليه فقال : ( هم من كان على مثل ما أنا عليه أنا وأصحابي ) فدل على أن هناك جماعة سلفية سابقة وجماعة متأخرة تتبعها في نهجها، وهناك جماعات مخالفة لها متوعدة بالنار، وما ذلك إلا لضلال هذه الفرق المخالفة للفرق الناجية، لا كما يقول فيما سبق في ( ص 20/21 ) :
" ومن حق صاحب أحد الرأيين أو الآراء في تلك المسائل الاجتهادية أن يطمئن إلى أن ما ذهب إليه هو الصواب، ولكن ليس من حقه أن يجزم بأن الذين خالفوه إلى الآراء الأخرى ضالون خارجون عن حظيرة الهدى " اهـ .(1/108)
ونقول له : ليس هذا على إطلاقه إنما هو في المسائل الفروعية التي هي مسرح للاجتهاد . أما مسائل العقيدة فلا مجال للاجتهاد فيها وإنما مدارها على التوقيف ومن خالف فيها ضُلِّل أو كُفِّر بحسب مخالفته وقد ضُلل السلف القدرية والخوارج والجهمية وحكموا على بعضهم بالكفر لمخالفتهم منهج السلف .
التعقيب التاسع :
زعم في ( ص27 – 31 ) أن الصحابة لم يكن بهم حاجة إلى تحكيم ميزان علمي في الاستنباط . وهذا فيه إجمال، فإن أراد بالميزان العلمي فهم النصوص ومعرفة معانيها وما يراد بها فهم أغزر الناس علمًا في ذلك وأقلهم تكلفا، وإن أراد بالميزان العلمي منهج الجدل وعلم الكلام فهذا ميزان جهلي لا ميزان علمي وهم أغنى الناس عنه، وقد تركوه وحذروا منه وضللوا أصحابه؛ لأنه لا يوصل إلى حقيقة ولا يهدي إلى صواب وإنما آل بأصحابه إلى الشك وإن زعم من ابتلي به أنه ميزان علمي، ووصفوا أنفسهم بأن طريقتهم أعلم وأحكم وأن طريق السلف أسلم، ويصفون السلف بأنهم ظاهريون كما وصفهم الدكتور بذلك في هذا الكتاب في ( ص 31 ) فقال : فإن الشأن فيما ذكرناه عنهم من ابتعادهم عن ساحة الرأي وعدم الخوض فيما تلقوه من أنباء الغيب وغوامض المعاني ووقوفهم في ذلك مع ظاهر النص دون تعطيل ولا تشبيه، فهذا معناه أن طريقة السلف طريقة بدائية تقف عند ظاهر النصوص، وليست طريقة علمية تنفذ إلى غور النصوص ومقاصدها .
التعقيب العاشر :
من ( ص 42 – 47 ) يحاول أن يسوغ مخالفة بعض الخلف لمنهج السلف باتساع بلاد الإسلام ودخول أجناس من البشر في دين الإسلام، وهم يحملون ثقافات أجنبية وبتوسع في مجالات الحياة المعيشية باختلاف الملابس والمباني والأواني والصناعات والأطعمة . . . إلى غير ذلك مما ذكره من الكلام الطويل، إلى أن قال في النهاية :(1/109)
فلو كانت اتجاهات السلف واجتهاداتهم هذه حجة لذاتها لا تحتاج هي بدورها إلى برهان أو مستند يدعمها؛ لأنها برهان نفسها، إذ لوجب أن تكون تلك النظرات " يعني نظرات السلف " المتباعدة المتناقضة كلها حقا وصوابا، ولوجب المصير _ ودون أي تردد إلى رأي _ المصوبة (3) ، ولما احتاج أولئك السلف رضوان الله عليهم أن يلجؤوا أخيرا من مشكلة هذا التناقض والاضطراب إلى منهج علمي يضبط حدود المصالح . . . إلخ ما قال .
ونحن نجيبه عن ذلك بجوابين :
الجواب الأول : أن السلف لم يختلفوا في مسائل العقائد والإيمان وإنما اختلفوا في مسائل الاجتهاد الفرعية، وليس ذلك اضطرابا وتناقضا كما يقول، وإنما هو اجتهاد .
الجواب الثاني : أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمرنا باتباعهم بقوله : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ) وقال عن الفرقة الناجية : ( هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم أنا وأصحابي ) وأثنى الله على من اتبعهم ورضي عنه معهم فقال سبحانه { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ } والإمام مالك بن أنس - رحمه الله - يقول : لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها . فيجب اتباعهم والأخذ بأقوالهم لا سيما في العقيدة؛ لأن قولهم حجة كما هو مقرر في الأصول .
التعقيب الحادي عشر :(1/110)
في ( ص 53 – 54 ) وصف الكوثري بأنه محقّق، ونقل كلاما له ذكر فيه أن عدة من أحبار اليهود ورهبان النصارى وموابذة المجوس بثوا بين أعراب الرواة من المسلمين أساطير وأخبارا في جانب الله فيها تجسيم وتشبيه وأن المهدي أمر علماء الجدل من المتكلمين بتصنيف الكتب في الرد على الملحدين والزنادقة(4) وأقاموا البراهين وأزالوا الشبه وخدموا الدين . هكذا وصف الكوثري رواة الإسلام بأنهم أعراب راجت عليهم أساطير اليهود والنصارى والمجوس، وهذه الأساطير بزعمه هي الأخبار المتضمنة لأسماء الله وصفاته لأنها تفيد التشبيه والتجسيم عنده وأثنى على علماء الكلام الذين ردوا هذه الروايات ووصفهم بالدفاع عن الإسلام والرد على الملحدين والزنادقة .
وأما علماء الكتاب والسنة فليس لهم دور عند الكوثري في الذب عن الإسلام والرد على الملاحدة والزنادقة . وقد نقل الدكتور كلامه هذا مرتضيا له ووصفه بالمحقق والله المستعان .
التعقيب الثاني عشر :
في ( ص 63 ) يرى في فقرة ( 1 ) أنه يجب التأكد من صحة النصوص الواردة والمنقولة عن فم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرآنا كانت هذه النصوص أو سنة .
ونقول له : أولا : هل القرآن يحتاج إلى تأكد من صحته ؟ أليس هو متواترا تواترا قطعيا ؟ وإذا كان يريد بعض القراءات فلماذا لم يبين ويقيد كلامه بذلك ؟
ثانيًا : هل القرآن من فم الرسول - صلى الله عليه وسلم - كالسنة أو هو وحي كله، لفظه ومعناه من الله تعالى والرسول مبلغ فقط أن كلامه هذا يوهم أن القرآن من كلام الرسول كالسنة، وليس هو كلام الله تعالى .
التعقيب الثالث عشر :
قال في ( صفحة 63 – فقرة ج ) أنه يجب على الباحث عرض حصيلة تلك المعاني " أي معنى النصوص الصحيحة " التي وقف عليها وتأكد منها على موازين المنطق والعقل لتمحيصها، ومعرفة موقف العقل منها . ا هـ .(1/111)
ونقول : هل للعقل موقف وسلطة مع النصوص الصحيحة ؟ فهذا لم يقل به إلا المعتزلة ومن وافقهم، أما أهل السنة فيسلمون لما صح عن الله ورسوله، سواء أدركته عقولهم أم لا، ولا سيما في نصوص الأسماء والصفات وقضايا العقيدة، فإن العقول لا مجال لها في ذلك؛ لأنه من أمور الغيب، مع العلم أن الشرع لا يأتي بما تحيله العقول، لكنه قد يأتي بما تحار فيه العقول ولا تدرك كنهه .
التعقيب الرابع عشر :
في ( ص 64 ) المقطع الثالث يستنكر تقسيم المسلمين إلى سلفيين وبدعيين، وهذا رد للنصوص التي أخبرت عن افتراق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، والتي أخبرت عن حدوث الاختلاف الكثير وحثت على التمسك بسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسنة الخلفاء الراشدين عند ذلك، وكتابه يدور حول هذه النقطة، وهو إنكار لما هو واقع من الانقسام والافتراق في هذه الأمة، فهو إنكار للواقع المحسوس وكان الأجدر به أن يحث المتخلفين والمفترقين إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة بدلا من أن يطمئنهم على ما هم عليه من فرقة ومخالفة وبأنهم على الحق .
التعقيب الخامس عشر :
في ( ص 65 – 67 ) يشكك في صحة الاستدلال بالخبر الصحيح الذي لم يبلغ حد التواتر في الاعتقاد فيقول :
" هذا القسم لا تتكون منه حجة ملزمة في نطاق الاعتقاد بحيث يقع الإنسان في طائلة الكفر إن هو لم يجزم بمضمون خبر صحيح لم يرق إلى درجة المتواتر " .
ونقول : هذا كلام غير سليم ولا سديد، فإن خبر الآحاد إذا صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجب تصديقه والتسليم له والجزم بمضمونه في العقائد وغيرها .(1/112)
وهذا القول الذي ذكره قول مبتدع في الإسلام فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يرسل رسله آحادا ويقبل المرسل إليه خبره من غير توقف ولا تشكك في صحة ما جاءوا به، وكذلك الصحابة وأتباعهم كانوا يتقبلون الأحاديث الصحيحة ويحتجون بها، ولا يشكون في مضامينها في العقائد وغيرها، ولا يوجد هذا التفريق في كلام السلف، وإنما وجد في كلام بعض الخلف فهو تفريق مبتدع .
التعقيب السادس عشر :
في ( ص 99 ) ذكر الدكتور البوطي الأصول والأحكام التي لا مجال للاختلاف فيها، وذكر منها اليقين بأن الله عز وجل واحد في ذاته وصفاته وأفعاله، وهذا الذي ذكره لا يزيد على توحيد الربوبية الذي أقر به المشركون وجمهور الأمم، فالإقرار واليقين به وحده لا يكفي حتى ينضاف إليه توحيد الألوهية، وهو إفراد الله بالعبادة وترك عبادة ما سواه، وهذا أيضا أصل لا مجال للاختلاف فيه .
وقوله في هذه الصفحة في الفقرة ( 4 ) عن صفات الله أنها قديمة قدم ذاته، هذا ليس على إطلاقه، إنما يقال في صفات الذات، أما صفات الأفعال كالاستواء والنزول والخلق والرزق فهي قديمة النوع حادثة الآحاد، وكذا قوله عن كلام الله فهو قديم ليس على إطلاقه؛ لأنه من صفات الأفعال، فهو قديم النوع حادث الآحاد كغيره من صفات الأفعال، وهذا التفصيل معروف عند أهل السنة والجماعة .
التعقيب السابع عشر :
قوله في ( ص 99 )
" وكل ما قد وصف الله به ذاته أو أخبر به عنها مما يستلزم ظاهرة التجسيد والتشبيه نثبته له كما قد أثبت ذلك لنفسه وننزهه عن الشبيه والنظير والتحيز والتجسد . . . " .
نقول : ليس في صفات الله ما يستلزم ظاهره التجسيد والتشبيه، وإنما ذلك فهم فهمه بعض الجهال أو الضلال ولا ينسب ذلك إلى النصوص؛ لأن لله صفات تخصه وتليق به لا تشبهها صفات خلقه، ولا يدور هذا في ذهن المؤمن الصادق الإيمان، وكلام الله وكلام رسوله ينزه عن أن يكون لازمه باطلا .
التعقيب الثامن عشر :(1/113)
قوله في ( ص101 ) في الفقرة ( 8 ) إن رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة لا تستلزم تحيزا في جهة معينة . اهـ .
وأقول : نفي الجهة عنه الله مطلقا غير صحيح فإنه سبحانه في جهة العلو كما تواترت الأدلة على علوه في خلقه، وإنما ينزه عن جهة غير العلو .
هذا مذهب أهل السنة والجماعة، بخلاف الجهمية ومن سار على منهجهم في ذلك وغيره .
التعقيب التاسع عشر :
قوله في ( ص101و102 ) : إن الشفاعة في حق كثير من العصاة والمذنبين ميزة ميز الله بها نبيه عن سائر الرسل .
هذا كلام غير صحيح، فإن الشفاعة في عصاة الموحدين ليست خاصة بنبينا - صلى الله عليه وسلم - بل ليست خاصة بالأنبياء، وإنما الخاص به - صلى الله عليه وسلم - الشفاعة العظمى التي هي المقام المحمود، وما ورد الدليل باختصاصه به .
التعقيب العشرون :
قوله في ( 104 ) في المقطع الأخير : والإسلام يستتبع آثاره مستقلا ومنفصلا عن الإيمان في الدنيا .
هذا الكلام فيه نظر؛ فإن الإسلام الصحيح لا ينفصل عن الإيمان لا في الدنيا ولا في الآخرة، فإن انفصل عنه فليس إسلاما صحيحا وإنما هو نفاق والمنافق لا يسمى مسلما وإنما يسمى منافقا، كما سماه الله ورسوله، ولا يلزم من معاملته معاملة المسلم في الدنيا أنه مسلم حقيقة لا في الدنيا ولا في الآخرة .
التعقيب الحادي والعشرون :
قوله في ( ص107 ) : والقول بأن الإنسان يخلق أفعال نفسه _ وهو مذهب المعتزلة _ ليس مكفِّرا .
أقول : في نفي تكفيره نظر؛ لأن من قال ذلك إن كان مع هذا ينكر علم الله _ كما هو قول غلاة القدرية _ فهو كافر، وإن كان لا ينكره وهو مقلد لغيره فقد أنكر أحد أركان الإيمان _ وهو القدر _ على علم، فكيف لا يكفر من كان هذه حاله ؟
وأيضا هو قد أثبت لله شريكا في خلقه، وقد قال السلف عن هذا الصنف : إنهم مجوس هذه الأمة، بل ورد تسميتهم بذلك في أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
التعقيب الثاني والعشرون :(1/114)
ما ذكره في ( ص111 - 112 ) من أنه من أضفى صفات النبوة على عليّ بن أبي طالب وما يعتقده بعض المريدين في أشياخهم من العصمة، وما قاله الإمام الخميني من أن لأئمتهم ما لا يبلغه ملَك مقرَّب ولا نبيّ مرسَل .
إن هذه الأمور تعتبر شذوذات لا تستوجب لكفر أصحابها وخروجهم من الملة .
وكرر ذلك أيضا في ( ص110 ) وقال في هامش ( ص112 ) تعليق ( رقم 1 ) : سألت بعض الإخوة علماء الشيعة الإيرانيين . . . . إلخ .
إن عدم تكفير من يقول هذه المقالات واعتباره أخا خطأ واضح؛ لأنها من أسباب الردة الواضحة، فكيف لا يكفرون بذلك ؟ !
التعقيب الثالث والعشرون :
قوله في ( ص114 ) : ويقابل التعطيل التجسيم أو التشبيه، وهو أن تترك هذه الآيات ( أي آيات الصفات ) على ظاهرها، ويفهم منها المألوف في حياة المخلوقين والمحدثين، فيفهم من اليد الجارحة التي خلقها الله فينا، ويفهم من الاستواء معناه المتمثل في جلوس أحدنا على كرسيه أو سريره، ويفهم من المجيء الحركة التي تتخطى حيزا إلى غيره، وهكذا . اهـ .
والجواب عن ذلك أن نقول :
أولا : لا بد من ترك الآيات على ظاهرها فإنه حق مراد لله سبحانه، وكون بعض الناس يفهم منها فهما سيئا آفته من فهمه الخاطئ وليس ما فهمه هو ظاهر الآيات .
وَكَمْ مِنْ عائبٍ قولا صحيحا ** وآفُتُه من الفهمِ السقيمِ
ثانيًا : الآيات تدل على صفات حقيقية لله، فله يد حقيقية تليق به ولا تشبه يد المخلوق، والاستواء له معنى حقيقي فسره به السلف وأئمة السنة واللغة وهو العلو والارتفاع والاستقرار والصعود، وكل هذه المعاني على ما يليق بالله لا كعلو المخلوق وارتفاعه واستقراره وصعوده، تعالى الله عن ذلك .
وكذلك المجيء هو مجيء حقيقي على معناه في اللغة العربية، وكذا الإتيان كما جاء في الآيات الأخرى، ولا يلزم منه مشابهة مجيء المخلوق وإتيانه، والجارحة والحيز ألفاظ مجملة لم يرد نفيها ولا إثباتها في حق الله تعالى .
التعقيب الرابع والعشرون :(1/115)
في صفحة 118 - 119 أثنى على بعض المتصوفة وبعض مؤلفاتهم كالقشيري، وهذا الثناء في غير محله؛ لأن التصوف أصل مبتدع في الإسلام ودخيل عليه، وقد تطور إلى أفكار إلحادية، وما زال العلماء المحقِّقون يحذرون منه ومن أصحابه، وبالخصوص القشيري، فإن لشيخ الإسلام ابن تيمية ردا مفصلا على رسالته وما فيها من مخالفات وشطحات، وفي الثناء عليه وعلى أمثاله تغرير بمن لا يعرف حقيقتهم .
التعقيب الخامس والعشرون :
تكلم عن صفات الله عز وجل من ص 132 - 144 وقد حصل في كلامه أخطاء كثيرة من أهمها :
1 - عد آيات الصفات من المتشابه وهذا خطأ؛ لأن آيات الصفات عند سلف الأمة وأئمتها من المحكم، ولم يقل إنها من المتشابه إلا بعض المت أخرىن الذين لا يحتج بقولهم ولا يعتبر خلافهم .
2 - ذكر أن آيات الصفات لها محملان :
المحمل الأول : أن تجري على ظاهرها مع تنزيه الله عز وجل عن الشبيه والشريك، وقال :
إن هذا تأويل إجمالي؛ لأن ظاهرها ما هو من صفات المخلوقين .
والجواب : نقول له : ليس الأمر كما ذكرت، فليس ظاهرها يدل على مشابهة صفات المخلوقين، وإنما هذا وهم توهمته أنت وغيرك من بعض الخلف، وليس هو ظاهرها؛ لأن ظاهرها هو ما يليق بجلال الله وصفات الخالق تختص به وصفات المخلوق تختص به، ثم قال : والمحمل الثاني حملها على المعنى المجازي بأن يفسر الاستواء بالاستيلاء والتسلط والقوة . انتهى كلامه .(1/116)
والجواب أن نقول له : لا يجوز حمل صفات الله عز وجل على المعنى المجازي؛ لأن هذا تعطيل لها عن مدلولها، بل يجب حملها على المعنى الحقيقي اللائق بالله؛ لأن الأصل في الكلام الحقيقة ولا سيما كلام الله عز وجل ولا سيما ما يتعلق به وبأسمائه وصفاته، ولا يجوز حمل الكلام على المجاز إلا عند تعذر حمله على الحقيقة، وهذا ما لم يحصل حمله في نصوص الصفات فليس هناك ما يوجب حملها على المجاز وكتسويغ منه لهذا الباطل الذي ذكره نسب إلى بعض السلف تأويل بعض الصفات، فنسب إلى الإمام أحمد تأويل : { وَجَاء رَبُّكَ } بمعنى جاء أمر ربك، ونسب إلى البخاري تأويل الضحك بالرحمة، ونسب إلى الإمام حماد بن زيد تأويل نزول الله إلى السماء الدنيا بإقباله جل جلاله إلى عباده .
والجواب أن نقول :
أولا ما نسبه إلى الإمام أحمد لم يثبت عنه ولم يوثقه من كتبه أو كتب أصحابه، وذكر البيهقي لذلك لا يعتمد؛ لأن البيهقي - رحمه الله - عنده شيء من تأويل الصفات، فلا يوثق بنقله في هذا الباب؛ لأنه ربما يتساهل في النقل، والثابت المستيقن عن الإمام أحمد إثبات الصفات على حقيقتها وعدم تأويلها، فلا يترك المعروف المتيقن عنه لشيء مظنون ونقل لم يثبت عنه، وله - رحمه الله - رد على الجهمية والزنادقة في هذا الباب مشهور ومطبوع ومتداول .
ثانيًا : وما نسبه إلى البخاري غير صحيح، فقد راجعت صحيح البخاري فوجدته قد ذكر الحديث الذي أشار إليه الدكتور (5) تحت ترجمة { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ } ولم يذكر تأويل الضحك بالرحمة، وإنما الذي أوله بالرضا هو الحافظ ابن حجر في الفتح، والحافظ - رحمه الله - متأثر بالأشاعرة، فلا عبرة بقوله في هذا .
ثالثا : ما نسبه إلى حماد بن زيد من تأويل النزول بالإقبال يجاب عنه من وجهين :(1/117)
الوجه الأول : أن هذا لم يثبت عنه؛ لأنه من رواية البيهقي، والبيهقي - رحمه الله - يتأول بعض الصفات، فربما تساهل في النقل، ولو ثبت عن حماد هذا التأويل فهو مردود بما أجمع عليه السلف من إثبات النزول على حقيقته .
الوجه الثاني : أنه لا تنافي بين إثبات النزول على حقيقته وإقبال الله تعالى على عباده، فيقال : ينزل ويقبل على عباده ليس في هذا حمل على المجاز كما يظن الدكتور .
3 - نسب شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره أنهم قد يفسرون الوجه بالجهة أو القبلة أو الذات وظن أن هذا تأويل للوجه الذي هو صفة من صفات الله عز وجل الذاتية، وهذا الظن منه خطأ واضح؛ فهولاء الأئمة لم يقصدوا ما توهمه؛ لأن الوجه لفظ مشترك تارة يراد به الوجه الذي هو الصفة الذاتية وتارة يراد به الدين والقصد وتارة يراد به الجهة والوجهة، وسياق الكلام هو الذي يحدد المقصود في كل مكان بحسبه، فإذا فسر الوجه في موضع بأحد هذه المعاني لدليل اقتضى ذلك من دلالة السياق أو غيره صح ذلك ولم يكن تأويلا بل هو تفسير لذلك النص وبيان للمراد به .
وبما ذكرنا يتبين من جواز حمل آيات الصفات وأحاديثها على المعنى المجازي وصرفها عن ظاهرها أنه قول غير صحيح، وأنه لا مستند له فيما ذكره عن بعض السلف إما لأنه لم يصح عنهم أو لأنهم لم يقصدوا ما توهمه .
4 - اعتمد على تأويلات الخطابي لبعض الصفات وأشاد به ومدحه من أجل ذلك .
والجواب عن ذلك : أن الخطابي - رحمه الله - ممن يتناولون الصفات فلا اعتبار بقوله ولا حجة برأيه في هذا، وله تأويلات كثيرة، والله يعفو عنا وعنه .
ثم العجيب في الأمر أن الدكتور تناقض مع نفسه حيث ذكر فيما سبق أنه يجب إثبات صفات الله كما جاءت مع تنزيه الله عن التشبيه والتمثيل كما في صفحة 99 و101 و113 و 115 بينما نراه هنا يجوز تأويلها وحملها على المجاز، هل هذا تراجع عما سبق أو هو التناقض ؟ !
التعقيب السادس والعشرين :(1/118)
أنه في ص138 يجيز مخالفة السلف في إثبات الصفات على حقيقتها فيقول :
" بل نفرض أن أحدا من رجال السلف رضوان الله عليهم لم يجز لنفسه أكثر من أن يثبت ما أثبته الله لذاته مع تفويض ما وراء ذلك من العلم، والتفاصيل إلى الله عز وجل، فإن ذلك لا يقوم حجة على حرمة مخالفتهم في موقفهم، هذه حرمة مطلقة " انتهى كلامه .
ونقول : يا سبحان الله ألا يسعنا ما وسع السلف ؟ أليست مخالفتهم وفيهم المهاجرون والأنصار والخلفاء الراشدون وبقية الصحابة رضي الله عنهم والقرون المفضلة أليست مخالفتهم لاسيما في العقيدة بدعة، وكل بدعة ضلالة، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ) والله تعالى يقول { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } فشرط سبحانه في رضاه عمن جاء بعدهم اتباعهم للمهاجرين والأنصار بإحسان، والدكتور يقول لا تحرم مخالفتهم في صفات الله عز وجل . ألم يخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم خير القرون . ومعنى هذا الحث على الاقتداء بهم والنهي عن مخالفتهم لا سيما في أصول الدين، فهل تجوز المخالفة في أمور العقيدة، أليست العقيدة توقيفية لا مجال للاجتهاد فيها والاختلاف فيها ؟ ! .
التعقيب السابع والعشرون :
في ص146 المقطع الأخير، ذكر أن من البدع القول بفناء النار وأن ذلك داخل بإجماع المسلمين في معنى البدعة .
وتعقيبنا عليه من وجهين :
الوجه الأول : أنه لم يحصل إجماع على تخطئة القول بفناء النار وعده من البدع كما زعم، فالمسألة خلافية وإن كان الجمهور لا يرون القول بذلك، لكنه لم يتم إجماع على إنكاره وإنما هو من المسائل الخلافية التي لا يبدع فيها .(1/119)
الوجه الثاني : أن الذين قالوا بفنائها استدلوا بأدلة من القرآن والسنة، وبقطع النظر عن صحة استدلالهم بها أو عدم صحته، فإن هذا القول لا يعد من البدع ما دام أن أصحابه يستدلون له؛ لأن البدع ما ليس لها دليل أصلا، وغاية ما يقال أنه قول خطأ أو رأي غير صواب، ولا يقال بدعة .
وليس قصدي الدفاع عن هذا القول ولكن قصدي بيان أنه ليس بدعة ولا ينطبق عليه ضابط البدعة وهو من المسائل الخلافية .
التعقيب الثامن والعشرون :
في ص149 قال : وتفريق الباحث في مسألة القرآن بين ما فيه من المعاني النفسية والألفاظ المنطوق بها، مع ما يلحق بها من حبر وورق وغلاف ليقول إن الأول ( يعني المعاني النفسية ) قديم غير مخلوق، والثاني حادث مخلوق، أيعد بدعة محظورة لأن هذا التفريق لم يُعلم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -?، ومن ثم يجب إطلاق القول بأن القرآن قديم غير مخلوق . والثاني حادث مخلوق أيعد بدعة محظورة لأن هذا التفريق لم يُعلم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -?ومن ثم يجب إطلاق القول بأن القرآن قديم غير مخلوق دون تفصيل ولا تفريق، أم لا يعد بدعة وإنما هو شرح وبيان لما علمه الصحابة من قبل على وجه الإجمال، ومن ثم فلا مانع _ لاسيما في مجال التعليم _ من هذا التفريق والتفصيل اهـ .
وتعقيبا عليه أقول : كلامه هذا يتمشى مع مذهب الأشاعرة الذين يفرقون في كلام الله بين المعنى واللفظ فيقولون : المعنى قائم بالنفس وهو قديم غير مخلوق، وهذا كلام الله عندهم، وأما اللفظ فهو عندهم تعبير عن هذا المعنى من قبل جبريل أو النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مخلوق .
وهذا تفريق باطل(6)، ومذهب أهل السنة سلفا وخلفا أن كلام الله تعالى هو اللفظ والمعنى، وكلاهما غير مخلوق؛ لأنه كلام الله تعالى وصفة من صفاته، وصفاته غير مخلوقة .(1/120)
وقوله إن الصحابة علموا هذا التفريق بين اللفظ والمعنى في كلام الله هو تقول على الصحابة، ونسبة إليهم ما هم منه براء .
التعقيب التاسع والعشرون :
في ص149 تساءل عن التوسل بجاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته، أو بجاه من عرفوا بالصلاح والاستقامة بعد وفاتهم هل هو بدعة أو يقاس على التوسل به - صلى الله عليه وسلم - حال حياته وهو شيء ثابت دلت عليه الأحاديث الصحيحة، ومن ثم فهو ليس من البدعة في شيء . ولم يجب عن ذلك التساؤل بل ترك القارئ في حيرة والتباس .
وأقول، أولا : التوسل بالجاه ليس أصلا لا في حياته ولا بعد موته فهو بدعة بلا شك .
ثانيًا : أما التوسل بدعائه - صلى الله عليه وسلم - فهو جائز في حياته؛ لأنه يتمكن من الدعاء فيها أما بعد وفاته فطلب الدعاء منه بدعة ولا يجوز؛ لأنه لا يقدر على الدعاء ولأن الصحابة لم يفعلوا هذا معه بعد وفاته وإنما كانوا يفعلونه حال حياته، ولا تقاس حالة الحياة على حالة الموت لوجود الفوارق العظيمة بينهما عند جميع العقلاء، وإنما يقيس هذا القياس المخرفون، وإن كان هو يزعم في ص 155 أن هذا التفريق لم يعرف إلا عند ابن تيمية وأن السلف لم يفرقوا، ولم تفرق الأدلة بينهما، وكأنه لم يقرأ ما ذكره العلماء في الموضوع وما ذكره ابن تيمية في كتاب التوسل والوسيلة عن السلف والأمة في ذلك أو أن تحامله عليه أنساه ذلك .
ثم إنه نسب إلى السلف ما لم يقولوه، وحمل الأدلة ما لم تحتمله ولم يأت بدليل واحد على ما قال وأنى له ذلك ؟ !
والواجب أن الباحث أمثال الدكتور البوطي لا يخطئ شخصا ويتحامل عليه حتى يقرأ كلامه وينظر في مستنداته حتى يعرف هل هو مخطئ أو مصيب ؟ هذا هو الإنصاف والعدل، ولا ننسى أن الدكتور البوطي له هنات في غير هذا الكتاب حول هذه المسألة قد قام بالرد عليها الشيخ محمد ناصر الألباني حفظه الله .(1/121)
ثم إنه في ص146 يهون من شأن المسألة ويقول هي أقل من أن تصدع المسلمين أو تجعل منهم مذهبين .
وأقول كلا والله إنها لمسألة خطيرة تمس صميم العقيدة وتجر إلى الشرك فكيف تكون هينة ؟ !
التعقيب الثلاثون :
في ص150و157 أدخل تحت بدعة التزيد في العبادة الأذان الأول ليوم الجمعة الذي دعا به عثمان رضي الله عنه عندما دعت الحاجة إليه، وهذا منه خطأ واضح، فإن عثمان رضي الله عنه من الخلفاء الراشدين، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ) ففعله هذا يعد سنة لا بدعة وتزيدا حاشاه من ذلك رضي الله عنه وأرضاه . وهذا ينسينا ما قاله في حق شيخ الإسلام ابن تيمية أنه ابتدع التفريق بين حالة الحياة والموت إذ أن الخليفة الراشد عنده قد ابتدع في الدين .
التعقيب الواحد والثلاثون :
في ( ص160 ) خلط بين علم الكلام والفلسفة وانتقد شيخ الإسلام ابن تيمية حيث أجاز مناظرة المتكلمين بمثل مصطلحاتهم مع أنه ينكر على الغزالي انشغاله بالفلسفة وكأنه لا يدري أن علم الكلام غير الفلسفة وأن بينهما فرقا واضحا(7).
وقد انتقد شيخ الإسلام أيضا في ص162و163 من ناحية أنه يحذر من الإقبال على علم الكلام والمنطق وهو قد تضلّع فيهما وناظر بهما .
والجواب عن ذلك أنه - رحمه الله - يحذر من الاشتغال بذلك من هم على غير مستوى علمي جيد يمكنهم من التخلص من أضرار علم الكلام، ولأن ذلك يشغل عن تعلم الكتاب والسنة، فأي انتقاد يوجه إليه في ذلك إلا من صاحب هوى وحقد، ثم إن الشيخ - رحمه الله - لا ينكر على من تعلم علم الكلام والمنطق من أجل الرد على المضللين وقتلهم بسلاحهم، وإنما ينكر على من تعلمها بغير هذا القصد .
التعقيب الثاني والثلاثون :
من ص 164 - 188 شن هجوما مسلحا على شيخ الإسلام ابن تيمية واتهمه أنه قال بقول الفلاسفة حينما قال إن الحوادث قديمة النوع حادثة الآحاد .(1/122)
وهذه المسألة قد شنع بها خصوم شيخ الإسلام ابن تيمية عليه قديما وحديثا وقالوا إنه يقول بحوادث لا أول لها والدكتور في هذا الكتاب اتخذ من هذه المسألة متنفسا له ينفث من خلاله ما في صدره من حقد على شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأنه شيخ السلفيين الذين يضايقونه في هذا الزمان .
ولكن والحمد لله ليس له في هذه المسألة ولا للذين سبقوه أي مدخل على الشيخ وسيرده الله بغيظه لم ينل خيرا كما رد الذين من قبله، فإن مراد الشيخ - رحمه الله - أن أفعال الله سبحانه ليس لها بداية؛ لأنه الأول الذي ليس قبله شيء .
قال - رحمه الله - : والتسلسل الواجب ما دل عليه الشرع من دوام أفعال الرب تعالى في الأبد، فكل فعل مسبوق بفعل آخر، فهذا واجب في كلامه، فإنه لم يزل متكلما إذا شاء ولم تحدث له صفة الكلام في وقت، وهكذا أفعاله هي من لوازم حياته، فإن كل حي فعال .
والفرق بين الحي والميت الفعل، ولم يكن ربنا تعالى قط في وقت من الأوقات معطلا عن كماله من الكلام والإرادة والفعل إلى أن قال : ولا يلزم من هذا أنه لم يزل الخلق معه فإنه سبحانه متقدم على كل فرد من مخلوقاته تقدما لا أول له، فلكل مخلوق أول والخالق سبحانه لا أول له فهو وحده الخالق سبحانه لا أول له فهو وحده الخالق، وكل ما سواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن إلى أن قال : والمقصود أن الذي دل عليه الشرع والعقل أن كل ما سوى الله تعالى محدث كائن بعد أن لم يكن . أما كون رب العالمين لم يزل معطلا عن الفعل ثم فعل فليس في الشرع ولا في العقل ما يثبته، بل كلاهما يدل على نقيضه .
هذه خلاصة ما يراه الشيخ في هذه المسألة، وهل في ذلك ما يشنع به عليه كما يظنه الدكتور وأضرابه إلا أنه الهوى والحقد أو الجهل والغفلة، فإن بين ما قاله الشيخ في هذه المسألة وبين قول الفلاسفة القائلين بقدم العالم فروقا واضحة هي الفروق بين الحق والباطل والكفر والإيمان .
التعقيب الثالث والثلاثون :(1/123)
في ص191 - 192 يؤيد عقد حلقات الصوفية التي يسمونها حلق الذكر، ويزعم أنه ليس هناك ما يمنع من إقامتها ويقول : إن الذكر مشروع .
ونحن نجيبه عن ذلك ونقول له : الذكر لا شك أنه مشروع، لكن على الصفة الواردة في الكتاب والسنة . أما إحداث هيئة للذكر لا دليل عليها كالذكر الجماعي أو الأوراد الصوفية التي ليس عليها دليل أو ربما يشوبها شيء من الألفاظ الشركية فهذه لا شك أنها بدعة وأن الذين يقيمونها مبتدعة داخلون في قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ) والشيء قد يكون مشروعا في أصله، لكن الصفة التي يؤدى بها إذا لم يكن عليها دليل فهى بدعة . وقد أنكر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه على الذين يجتمعون في مسجد الكوفة وفيهم رجل يقول سبحوا مائة كبروا مائة هللوا مائة؛ لأن هذه الصفة ليست من سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
التعقيب الرابع والثلاثون :
في ص193 - 195 شنع على الذين ينكرون ذكر الله بالاسم المفرد ( الله ) ومنهم الشيخ ابن تيمية فإنه وجه إليه قذائف غضبه، وهو في هذا لم يصغ إلى حجج المذكورين، ومنها أن ذكر الله بالاسم المفرد لم يرد في الكتاب ولا في السنة ولا في هدي السلف الصالح، علاوة على أنه لا يفيد شيئا؛ لأن الاسم المفرد لا يأتي بفائدة حتى يتركب مع جملة مفيدة، وما يزعمه الدكتور أن ذكر الله بالاسم المفرد يدخل في قوله تعالى { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } فنحن نسأله ونريد منه الصدق في الجواب دون مراوغة : هل ورد في السنة من أمره الله بهذا الأمر وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر الله بالاسم المفرد، إذ لا شك أن سنته تفسير للقرآن هذا من محدثات الصوفية وفهمهم السقيم، وكثيرا ما يكرر الدكتور أن المخالف في هذه المسألة وغيرها لا يضلل .(1/124)
ونحن نقول له إن المخالف لا يضلل إذا كان لمخالفته مأخذ من النصوص الشرعية أما إذا كانت مخالفته ليس لها مأخذ من الكتاب والسنة فإنه يضلل؛ لأن الله تعالى يقول { فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ } وما دل عليه كتاب الله حق وما خالفه فهو ضلال يضلل من قال به .
التعقيب الخامس والثلاثون :
في ص196 - 197 يسوغ اصطلاحات الصوفية التي منها تفريقهم بين الشريعة والحقيقة ولم يجد دليلا والحمد لله لهذا التسويغ إلا أن ذلك قول كبار الصوفية كسهل التستري والحارث المحاسبي والجنيد _ وهذا لا أظنه معهم وإن حشره معهم _ ومعروف الكرخي، فهو بهذا الاستدلال كمن فسر الماء بعد الجهد بالماء . (8)
ثم هل هناك حقيقة تخالف الشريعة حتى يقال : الحقيقة والشريعة إلا في اصطلاح الصوفية أن الشريعة للعوام والحقيقة للخواص، وهذا إلحاد واضح وليت الدكتور لم يدخل هذه المجاهل المخيفة .
التعقيب السادس والثلاثون :
في ص201 - 212 تحدث عن الصوفية وأحوالهم وأقوالهم، وحاول الدفاع عنهم بكل ما أوتي من قوة والاعتذار لهم بكل ما أوتي من عبارة حتى عمن قال منهم : ما في الجبة إلا الله، وعمن قال منهم ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك . ورغم ما تحمله العبارتان من كفر وضلال حاول تأويلهما بما لا داعي للإطالة بذكره؛ لأن هاتين العبارتين تنبئان عن نفسهما ولا تقبلان التأويل .(1/125)
فإن قول القائل : ما في الجبة إلا الله صريح في الاتحاد . وقوله : ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك مخالف لهدي الأنبياء جميعا، حيث وصفهم الله بأنهم يدعونه رغبا ورهبا، ومخالف لصفة المؤمنين الذين يدعون ربهم خوفا وطمعا، ولا يعني هذا أنهم لا يعبدونه إلا من أجل الخوف والطمع بل هم مع ذلك يحبونه حبا شديدا ويذلون له كما قال تعالى { وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ } وقال تعالى { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } . ولا تصح العبادة إلا باستكمال هذه الأركان : المحبة والذل والخوف والرجاء .
ثم حاول الدفاع عن ابن عربي وما في كتبه : من القول بوحدة الوجود :
ففي هامش ص104 - 105 قال : إنه لا يجوز تكفيره بموجب كلامه الذي فيه الإلحاد الصريح حتى يعلم ما في قلبه : هل يعتقد ما يقول أم لا ؟
ولو صح كلام الدكتور هذا ما كفر أحد بأي قول أو فعل مهما بلغ من القبح والشناعة والكفر والإلحاد حتى يشق عن قلبه ويعلم ما فيه من اعتقاد .
وعلى هذا فعمل المسلمين على قتال الكفرة وقتل المرتدين خطأ على لازم قول الدكتور؛ لأنهم لم يعلموا ما في قلوبهم، وهل هم يعتقدون ما يقولون وما يفعلون من الكفر أو لا ؟
واسمع عبارته في ذلك حيث يقول : وخلاصة المشكلة أنه يعني شيخ الإسلام ابن تيمية ومن يقلده في نهجه يظلون يأخذون ابن عربي وأمثاله بلازم أقوالهم دون أن يحملوا أنفسهم على التأكد من أنهم يعتقدون(9) فعلا ذلك اللازم الذي تصوروه .
ثم قال إما أن يكون في كتب ابن عربي كلام كثير يخالف العقيدة الصحيحة ويوجب الكفر، فهذا ما لا ريبة فيه ولا نقاش فيه . وإما أنه يدل ذلك دلالة قاطعة على أن ابن عربي كافر وأنه ينطلق من فهم الشهود الذاتي من أصل كفري هو نظرية الفيض، فهذا ما لا يملك ابن تيمية ولا غيره أي دليل قاطع عليه . انتهى .(1/126)
وإنما سقت هذا المقطع من كلامه لإطلاع القارئ على ما فيه من تخبط وتناقض ومناقضة لأدلة الكتاب والسنة وعمل المسلمين على كفر من قال كلمة الكفر غير مكره قال تعالى { وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ } { لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } ويلزم من هذا أيضا أنه لا يحكم بإسلام كافر إذا نطق بالشهادتين حتى يعلم ما في قلبه : هل يعتقدهما أو لا . ولوازم هذا كثيرة ويلزم عليه أن من دعا غير الله لا يكفر حتى يعلم ما في قلبه .
ثم اعتذر عن ابن عربي بأن في كتبه كلاما آخر يناقض كلامه الكفري .
ونحن نقول له : الإجابة عن ذلك هل ثبت لديك أنه رجع عن كلامه الكفري وأنه كتب هذا الكلام الذي يناقضه بعدما تاب أو أنه كتبه من باب التغطية والتلبيس، ثم أنت لم تأت بشاهد على ما قلت من كلامه .
ثم قال : " وإذا أبى ابن تيمية إلا أن يحملنا على تكفير ابن عربي استدلالا بالكفريات الموجودة في كلامه والإعراض عن الصفحات الطوال التي تناقضها وترد عليها في مختلف كتبه وأقواله فإنه لدعوة منه بلا ريب إلى أن نكفره هو الآخر استدلالا بالضلالات الفلسفية التي انزلق فيها " .(1/127)
ويعني بذلك المسألة التي سبق ذكرها وهي قول الشيخ أن أفعال الله سبحانه ليس لها بداية ونقول : يا سبحان الله هل وصف الرب بما يستحقه من الكمال بدوام أفعاله وكماله أزلا وأبدا وتنزيهه عن التعطيل الذي وصفه به أهل الضلال من قولهم : إنه تعالى الله عما يقولون مضى عليه وقت لم يفعل شيئا ثم حدث له الفعل بعد ذلك هل هذا هو قول الفلاسفة الذين يقولون بقدم العالم وإنكار الخالق أن الضلال هو قول من يعطل الله من أفعاله ويضرب له مدة لا يفعل فيها شيئا كما هو قول علماء الكلام، وإن قول ابن تيمية هو الحق وقول أهل الحق وأين خطؤه _ لو كان خطأ على فرض _ من كفريات ابن عربي، وقوله بوحدة الوجود، وأن من عبد الأصنام ما عبد إلا الله ؟
ثم إن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - لم ينفرد بتكفير ابن عربي، بل قد كفره كثير من العلماء حتى من الصوفية واقرأ مؤلفاتهم في ذلك، ومنها كتاب " تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي " للبقاعي وغيره من الكتب وللشيخ تقى الدين الفاسي رسالة مستقلة في تكفير ابن عربي، وذكر من قال بذلك من العلماء وهي مطبوعة ومتداولة فإذا كان بإمكان البوطي أن يكفره فليفعل .
التعقيب السابع والثلاثون :(1/128)
في ص236 كتب عنوانا بلفظ التمذهب بالسلفية بدعة، وهذا الكلام يثير الدهشة والاستغراب، كيف يكون التمذهب بالسلفية بدعة، والبدعة ضلالة وكيف يكون بدعة وهو اتباع لمذهب السلف واتباع مذهبهم واجب بالكتاب والسنة وحق وهدى؛ قال تعالى { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ } الآية وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين . . . ) الحديث فالتمذهب بمذهب السلف سنة وليس بدعة، وإنما البدعة التمذهب بغير مذهبهم، وإذا كان قصده أن التسمي بهذا الاسم حادث كما يظهر من كلامه، ولم يكن معروفا من قبل فهو بدعة بهذا الاعتبار، فمسألة الأسماء أمرها سهل، والخطأ فيها لا يصل إلى حد البدعة، وإن كان قصده أن في الذين تسموا بهذا الاسم من صدرت عنهم أخطاء تخالف مذهب السلف فعليه أن يبين هذا دون أن يتناول السلفية نفسها فالتسمي بالسلفية إذا كان يعني التمسك بمذهب السلف ونبذ البدع والخرافات فهذا شيء محمود وطيب، كما قرر هذا هو في ص233 حيث قال عن حركة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وتسميتها السلفية : " فقد كان الشعار الذي رفعه أقطاب هذه الحركة الإصلاحية هو السلفية، وكان يعني الدعوة إلى نبذ كل هذه الرواسب التي عكرت على الإسلام طهره وصفاءه " .
هذا ما قاله عن هذه الحركة وتسميتها بالسلفية ولم يعب عليها هذا التسمي؛ نظرا لسلامة أهدافها عنده .
فنقول له : وهل السلفية اليوم تعني غير ذلك ؟ !
التعقيب الثامن والثلاثون :
وفي ص236 - 237 عبر عن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - بالمذهب الوهابي، وقال : " الوهابية تبرموا من هذه الكلمة لأنها توحي بأن ينبوع هذا المذهب بكل ما تضمنه من مزايا وخصائص يقف عند الشيخ محمد بن عبد الوهاب فدعاهم إلى أن يستبدلوا بكلمة الوهابية هذه كلمة السلفية . . . إلخ ما قال .(1/129)
والجواب أن نقول : إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ليس له مذهب خاص يدعى بالوهابية؛ لأنه في العقيدة على منهج السلف، وفي الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل الذي كان عليه علماء نجد من قبله وفي عصره ومن بعده .
التعقيب التاسع والثلاثون :
في ص129 - 240 تكلم عن زيارة القبر النبوي _ على صاحبه أفضل الصلاة والسلام _ فقال : " ولكم اتهمنا واتهم كثير من المسلمين من أهل السنة والجماعة بالابتداع والمروق؛ لأننا ذهبنا إلى ما ذهب إليه الجمهور من علماء السلف وغيرهم من أنه لا ضير في أن يعزم الرجل على زيارة كل من قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومسجده " . كذا قال .(1/130)
والجواب أن نقول : إن زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير سفر سنة وليست بدعة ولم يقل أحد إنها إذا كانت على هذه الصفة بدعة ومروق أما السفر لزيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - فهو بدعة لأنه لا يجوز السفر لأجل زيارة القبور لا قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -?ولا قبر غيره من الأولياء والصالحين لقوله : - صلى الله عليه وسلم - لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى وعملًا بهذا الحديث لم يكن السلف والأئمة الأربعة وغيرهم من الأئمة المقتدى بهم يسافرون من أجل زيارة القبور وقد أوغل الدكتور في الخطأ حين ادعى أن مذهب الجمهور من علماء السلف وغيرهم أنه لا ضير في أن يعزم الرجل على هذا فإن كان قصده العزم على السفر لزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلماء السلف ينهون عما نهى عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من السفر لزيارة القبور عمومًا قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -?وغيره ثم إن الدكتور خطأ شيخ الإسلام ابن تيمية في استدلاله بالحديث المذكور على منع السفر لزيارة القبور وسماه غلطًا عجيبًا انزلق فيه الشيخ حيث قال ويترتب على هذا الغلط العجيب الذي انزلق فيه ابن تيمية - رحمه الله - إن الإنسان لا يجوز له أن يشد الرحال إلى زيارة رحم أو إلى طلب علم أو إلى انتجاع رزق لأن هذه الأشياء كلها خارج المساجد الثلاثة ونحن نقول له بل الغلط العجيب ما انزلق اليه فهم الدكتور لأن الحديث الشريف يعني منع السفر إلى بقاع مخصوصة لأجل التعبد فيها أو عندها غير المساجد الثلاثة سواء كانت هذه البقاع مساجدَ أو قبورًا أو غيرها أما السفر لزيارة الرحم أو طلب العلم أو طلب الرزق فلم يدخل في مدلول الحديث أصلًا .
التعقيب الأربعون :(1/131)
في ص241 قال عن سبب صبر الإمام أحمد على تحمل محنة القول بخلق القرآن وإنما كان سبب المحنة التي تعرض لها الإمام دون غيره هو ورعه الشديد الذي منعه أن يفصل ويفرق بين اللفظ والمعنى .
والجواب أن نقول له :
أولا : لم يكن الإمام أحمد وحده الذي تعرض لهذه المحنة بل شاركه في ذلك خلق كثير من العلماء منهم من قتل في ذلك ومنهم من عذب وأوذي لكن يظهر أن الدكتور لم يقرأ التاريخ .
ثانيًا : ليس هناك تفريق بين معنى القرآن ولفظه كلاهما كلام الله منزل غير مخلوق والتفريق بينهما بأن يقال المعنى غير مخلوق واللفظ مخلوق هذا قول المبتدعة لا قول أهل السنة فالإمام أحمد لم يفرق بينهما لأنه كغيره من الأئمة لا يرى فرقا بينهما ولا يعتقد عقيدة الأشاعرة .
التعقيب الواحد والأربعون وهو الأخير :
في ص256 - 257 استنكر الرد على كتاب الذخائر المحمدية لمحمد علوي مالكي وبيان ما فيه من الضلالات وقال : إن محمد علوي من أهل السنة والجماعة ولم يقرأ الناس في تأليفه وكتاباته ولم يروا في واقع حاله إلا ما يزيدهم ثقة باستقامة دينه وصلاح حاله وسلامة عقيدته .
والجواب : أن نقول له الواجب عليك أن تنظر محتويات كتب هذا الرجل وتعرضها على الكتاب والسنة وعلى عقيدة السلف لتعرف مدى مطابقتها أو مخالفتها لهذه الأصول ولا تعتمد على قراءة الناس وإنما تنظر أنت هل المعترض عليه مصيب أو مخطئ هذا ما يتطلبه الباحث المصنف الذي يحترم ما يقول ويكتب دون التهجم على من اعترض علوي قبل معرفة وجهة اعتراضه ثم هل كون الرجل من أهل السنة والجماعة ومن أهل الاستقامة هل ذلك يمنع من الاعتراض عليه إذا أخطأ ؟
والله أعلم .
وصلى الله وسلم على نبيينا محمد وعلى آله وصحبه .
رد أوهام أبي زهرة في حق شيخ الإسلام ابن تيمية وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمهما الله -
الحمد له الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله , وكفى بالله شهيدًا .(1/132)
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شرك له؛ إقرارًا به وتوحيدًا , وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا مزيدًا .
أما بعد :
فإنه كان من الواجب علينا احترام علمائنا في حدود المشروع؛ كما قال تعالى : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } [ المجادلة : 11 ] .
وقال تعالى : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } [ الزمر : 9 ]
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( وإن العلماء ورثة الأنبياء , وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ) .
ولا سيما العلماء المجددون لدين الله , والدعاة المخلصون إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن .
فكان حقهم علينا الاقتداء بهم , واحترامهم , والترحم عليهم , والدعاء لهم؛ لقاء ما قاموا به من الواجب , وما بينوه من الحق , وردوا من الباطل .
إلا أننا نجد بدلا من ذلك من بعض حملة الأقلام والمتطفلين على العلم والتأليف من يكيل التهم في حقهم , ويرميهم بما هم بريئون منه , ويحاولون صرف الناس عن دعوتهم؛ بدافع الحقد أو سوء الاعتقاد , أو الاعتماد على ما يقوله أعداؤهم وخصومهم .
ومن ذلك أني قد اطلعت على كتاب بعنوان : ( تاريخ المذاهب الإسلامية في السياسة الفقهية ) , و ( تاريخ المذاهب الفقهية ) للشيخ محمد أبي زهرة , تعرض فيه لإمامين عظيمين وداعيين إلى الله مخلصين هما : شيخ الإسلام ابن تيمية، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمهما الله - ووجه ضدهما في نفس التهم التي يروجها ويرددها أعداؤهما المضلون في كل زمان، حيث تروعهما دعوة الإصلاح وإخراج الناس من الظلمات إلى النور , ويريدون أن يبقى الناس في ظلام، ويعيشوا في ضلال , حتى يتسنى لخرافاتهم أن تروج .(1/133)
وما كان يليق بباحث يتحرى الحقيقة مثل الشيخ أبي زهرة أن يعتمد في حق هذين الإمامين الجليلين على كلام خصومهما، بل كان الواجب عليه وعلى كل باحث منصف أن يرجع إلى كلام من يريد أن يقدم للناس معلومات عنه من كتابه , ويوثق ذلك بذكر اسم الكتاب المنقول عنه؛ لأننا والحمد لله في عصر قد وضعت فيه ضوابط البحث العلمي، وأصبح لا يقبل فيه إطلاق القول على عواهنه؛ من غير تقيد بتلك الضوابط، وفوق هذه الضوابط هناك وقوف بين يدي الله - سبحانه وتعالى - وسؤال عما يقوله الإنسان ويكتبه في حق غيره من اتهام وكذب .
قال تعالى : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُول-ئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [ الإسراء : 36 ] .
وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } [ الحجرات : 6 ] . إلا أن الشيخ أبا زهرة تجاهل ذلك كله، ونسب إلى الشيخين الإمامين الجليلين : الشيخ تقي الدين ابن تيمية، والشيخ محمد بن عبد الوهاب ما لا يليق بمقامهما، وما يتنزهان عنه من التهم الباطلة، والتهجم السخيف؛ اعتمادًا على ما يقوله عنهما خصومهما، وما يروجه المخرفون ضدهما؛ غير متقيد بضوابط البحث العلمي، ولا خائف من الوعيد الذي توعد الله به من أقدم على مثل هذا العمل ! !
وإليك بيان هذه التهم مع الرد عليها، سائلين الله تعالى أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه .
أولاً : ما نسبه إلى شيخ الإسلام ابن تيمية
1 – في ( ص187 ) قال :
إنه ( أضاف إلى مذهب السلف أمورًا أخرى قد بعثت إلى التفكير فيها ) .(1/134)
أقول : هذا من الافتراء على شيخ الإسلام ابن تيمية أنه قد أحدث أمورًا من عند نفسه، وهو اتهام خطير، قد برأ الله من شيخ الإسلام وبينه، ودافع عنه بأمانة وإخلاص .
يشهد لذلك أن ما في كتبه ورسائله يتطابق تمام التطابق مع ما ذكره الأئمة من قبله في كتبهم , وهو إنما ينقل كلامهم، ويعززه إلى مصادره المعروفة؛ من غير زيادة ولا نقصان .
وأبو زهرة لم يذكر مثالًا واحدًا يدل على صدق ما يقول .
2 – في ( ص193 ) قال : وعلى ذلك يقرر ابن تيمية أن مذهب السلف هو إثبات كل ما جاء في القرآن الكريم من فوقية وتحتية واستواء على العرش ووجه ويد ومحبة وبغض، وما جاء في السنة من ذلك أيضا من غير تأويل، وبالظاهر الحرفي، فهل هذا هو مذهب السلف حقا ؟
ونقول في الإجابة عن ذلك :
لقد سبقه بهذا الحنابلة في القرن الرابع الهجري كما بينا وادعوا أن ذلك مذهب السلف، وناقشهم العلماء في ذلك الوقت، وأثبتوا أنه يؤدي إلى التشبيه والجسمية لا محالة، وكيف لا يؤدي إليها والإشارة الحسية إليه جائزة ؟ ! لهذا تصدى لهم الإمام الفقيه الحنبلي الخطيب ابن الجوزي، ونفى أن يكون ذلك مذهب السلف، ونفى أيضا أن يكون ذلك رأي الإمام أحمد .
انتهى كلامه، وفيه من الخلط والكذب ما لا يخفى، وبيان ذلك كما يلي :
أ – اتهم شيخ الإسلام ابن تيمية واتهم معهم الحنابلة بأنهم نسبوا إلى السلف ما لم يقولوه ولم يعتقدوه في صفات الله تعالى، وهذا اتهام ظاهر البطلان؛ فإن ما قاله الحنابلة وما قاله شيخ الإسلام موجود في كلام الأئمة الأربعة وغيرهم في كتبهم، وقد نقل ذلك عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وعزاه إلى مصادره من كتبهم التي يوجد غالبها في أيدي الناس اليوم .
وانظر – على سبيل المثال – ما ذكره عنهم في الرسالة الحموية .
ب – اتهم الشيخ بأنه ينسب إلى السلف وصف الله بالتحتية، حيث قال " يقرر ابن تيمية أن مذهب السلفية هو إثبات كل ما جاء في القرآن الكريم من فوقية وتحتية " .(1/135)
وهذا كذب على القرآن الكريم وعلى الشيخ؛ فإنه لم يرد في القرآن ذكر التحتية في حق الله، تعالى الله عن ذلك؛ لأنها لا تليق به، ولم يقل الشيخ ذلك، ولم ينسبه إلى السلف، لكنه التخبط الأعمى والتخليط العجيب من أبي زهرة .
ج - اتهم القرآن بأنه جاء بالتشبيه والتجسيم وما لا يليق بالله تعالى، واتهم السلف الصالح بأنهم لا يعتقدون ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية من وصف الله بالفوقية والاستواء على العرش، وأنه له يد ووجه , وأنه يحب ويبغض؛ لأن ذلك - بزعمه – يؤدي إلى التشبيه والجسمية .
وهذا معناه أن القرآن الكريم جاء بالباطل، وأن السلف يخالفون الكتاب والسنة في أهم الأمور وهو العقيدة .
فماذا بقي بعد ذلك ؟ وما الذي يوافقون فيه الكتاب والسنة ؟
ولم يذكر دليلا على ذلك إلا ما نقله من كلام ابن الجوزي .
وكلام ابن الجوزي لا يحتج به على خصمه .
والثانية : أن كلام أئمة السلف – ومنهم الإمام أحمد – يبطل ما قاله ابن الجوزي , وكلامهم موجود – بحمد الله – في كتبهم المتداولة المعروفة التي نقل منها شيخ الإسلام ابن تيمية .
د – قال أبو زهرة :
" وكيف لا يؤدي إليهما والإشارة الحسية إليه جائزة " .
يعني : كييف لا يؤدي إثبات ما دل عليه الكتاب والسنة من صفات الله إلى التشبيه والتجسيم وقد جاء في الحديث أن الله يُشار إليه بالأصبع في جهة العلو؛ كما أشار إليه أعلم الخلق به - صلى الله عليه وسلم - في خطبته في حجة الوداع .
وهذا - بزعم أبي زهرة – يؤدي إلى التشبيه والتجسيم، فهو باطل .
وهذا مصادمة للحديث الصحيح بسبب توهم باطل؛ فإن الإشارة إلى الله سبحانه وتعالى في جهة العلو، ووصفه بما ثبت في الكتاب والسنة من صفات الكمال،لا يؤديان إلى التشبيه؛ لأن الله ليس كمثله شيء، فلله صفات لا يشاركه فيها أحد .
وأما لفظ التجسيم؛ فهو لفظ محدث، لم يرد نفيه ولا إثباته في حق الله تعالى .(1/136)
ولم يتكلم فيه السلف، وإنما ورد في الكتاب والسنة تنزيه الله عن التشبيه والتمثيل، وهو الذي ينفيه السلف عن الله تعالى .
3 – ينسب التفويض إلى شيخ الإسلام ابن تيمية، فيقول في ( ص195 ) : ( إن هذا يؤدي عند ابن تيمية إلى أن الإسلام هو التفويض، الذي يدعيه وينسبه السلف الصالح . فيأخذ الألفاظ بظواهرها الحرفية، ويطلقها على معانيها الظاهرة في أصل الدلالة، ولكنه يقرر أنها ليست كالحوادث، ويفوض فيما بعد ذلك، ولا يفسر، ويقول : إن محاولة التفسير زيغ . فابن تيمية يعتقد أنه بهذا يجمع بين التفسير والتفويض، فهو يفسر بالمعنى الظاهر، وينزه عن الحوادث، ويفوض في الكيف والوصف ) .
- انتهى المقصود من كلامه، وهو كما ترى فيه من الخلط والركاكة والكذب على الشيخ الشيء الكثير، وهو بين أمرين :
إما أنه لم يفهم كلام الشيخ . . . . . . .
وإما أنه يفهمه، لكنه يحاول الالتواء والتلبيس ! !
فإن الشيخ - رحمه الله - يقرر في سائر كتبه أن مذهب السلف وهو المذهب الذي يعتقده ويدين الله به، وكل مريد للحق يعتقده ويدين به : إن نصوص الصفات تجري على حسب ظواهرها، وتفسر بمعناها الذي تدل عليه ألفاظها؛ من غير تأويل ولا تحريف، وأما كيفيتها فيجب تفويضها إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يعلمها إلا هو .
وهذا هو الذي يقرره علماء السلف في كتبهم، وفيما يروى عنهم بالأسانيد الصحيحة : أن المعنى معلوم والكيف مجهول في كل الصفات .
فالتفويض إنما هو للكيفية، وأما المعاني؛ فهي معلومة مفسرة لا تفويض فيها ولا غموض .
ولا يلزم من إثبات صفات الله بالمعنى التي دلت عليها النصوص تشبيه الله بخلقه؛ لأن لله صفات تخصه وتليق به، وللمخلوقين صفات تخصهم وتليق بهم، ولا يلزم من الاشتراك في المعنى الكلي الموجود في الأذهان بين صفات الله وصفات خلقه الاشتراك في الحقيقة والكيفية الخارجية .(1/137)
وقد أثبت الله لنفسه تلك الصفات ونفى عن نفسه المماثلة والمشابهة للمخلوقات، فقال تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } .
فأثبت له السمع والبصر، ونفى عنه آن يماثله شيء . . . وهكذا سائر الصفات .
فدل على أن إثبات الصفات لا يلزم منه التشبيه، كما يقوله أبو زهرة وأضرابه . ومن العجب أن يحتج على بطلان ما ذكره شيخ الإسلام من إثبات صفات الله على ما يليق به سبحانه، بمخالفة الغزالي والماتريدي وابن الجوزي له . ويرجح مذهبهم فيقول :
" ولذلك نحن نرجح منهاج الماتريدي، ومنهاج ابن الجوزي، ومنهاج الغزالي " ! !
هكذا يرغب أبو زهرة عن مذهب السلف إلى مذهب هؤلاء ! ! وللناس فيما يعشقون مذاهب ! ! لكنه استبدل الباطل بالحق، واستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، { بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً } .
4 – ينسب القول بالمجاز إلى الصحابة فيقول : " إن الصحابة كانوا يفسرون بالمجاز إن تعذر إطلاق الحقيقة كما يفسرون بالحقيقة في ذاتها " .
- هكذا قال في حق الصحابة ينسب إليهم القول بالمجاز في تفسير كلام الله وأنهم يتركون الحقيقة وكأنه بهذا يريد أن ينسب إلى الصحابة نفي الصفات، وحمل نصوصها على خلاف الحقيقة !
وكفى بهذا تقولا على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بدون دليل ولا برهان، لكنه الهوى والانتصار للباطل .
وهذا تجاوز من اتهام ابن تيمية إلى اتهام الصحابة بما هم بريئون منه؛ فإذا لم يعرف المجاز إلا متأخرا، أحدثه الأعاجم الذين ليسوا حجة في اللغة والتفسير .
5- في ( ص199 ) نسب إلى الشيخ القول بأن الله لا ييسر الإنسان لفعل الشر، حيث قال :
( ( وبهذا يقرر ابن تيمية ثلاثة أمور . . . .
ثالثها : أن الله تعالى ييسر فعل الخير ويرضاه ويحبه، ولا ييسر فعل الشر ولا يحبه، وهو في هذا يفترق عن المعتزلة ) ) .(1/138)
وهذا كذب على الشيخ؛ لأنه كغيره من أئمة الهدى يرون أن الله قدر الخير والشر، وأنه لا يجري في ملكه ما لا يريد، فالشر يجري على العبد بسبب تصرفاته السيئة، وهو من قبل الله تعالى قدرا، وبإرادته الكونية؛ قال تعالى : { وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( اعملوا؛ فكل ميسر لما خلق له ) .
6- في ( ص 199 – 200 ) يقول :
( ( أما ابن تيمية؛ فيرى أنه لا تلازم بين الأمر والإرادة، فالله سبحانه وتعالى يريد الطاعات ويأمر بها، ولا يريد المعاصي التي تقع من بني آدم، وينهي عنها، وإرادته للمعاصي من ناحية إرادة أسبابها ) ) انتهى .
- وأقول : في هذا الذي نسبه إلى الشيخ إجمال ينبغي تفصيله :
فقوله : ( ( لا تلازم بين الأمر والإرادة ) ) : الصواب أن يقال : لا تلازم بين الأمر الشرعي والإرادة الكونية، فقد يأمر شرعا بما لا يريده كونا؛ مثل الإيمان من الكافر، وقد يريد كونا ما لا يأمر به شرعا؛ مثل الكفر والمعاصي .
وذلك لأن الإرادة تنقسم إلى قسمين : إرادة كونية، وإرادة شرعية، والأمر ينقسم إلى قسمين : أمر كوني، وأمر شرعي .
فالإرادة الكونية والأمر الكوني ليس من لازمهما المحبة والرضا .
وأما الإرادة الشرعية والأمر الشرعي فمن لازمهما المحبة والرضا .
وهذا التقسيم هو الذي يتمشى مع منهج الشيخ، الذي هو منهج السلف، المبني على أدلة الكتاب والسنة، فالله لا يأمر بالمعاصي، ولا يرضاها شرعا، لكنه أرادها، وأمر بها كونا وقدرا؛ لأنه لا يقع في ملكه ما لا يريد .
قال تعالى : { وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا } .
أي : أمرناهم بذلك كونا وقدرا .(1/139)
وقال تعالى { وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا } ، { إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } .
7- في ( ص 201 ) يختم أبو زهرة مباحثه حول القدر بقوله :
( ( هذه نظرات ابن تيمية في مسائل الجبر والاختيار وتعليل أفعال الله سبحانه وتعالى، وهو يسند دائما ما لا يراه إلى السلف الصالح من الصحابة والتابعين ) ) انتهى .
- وكأنه بهذا التعبير يتهم الشيخ في أنه ينسب إلى السلف بمجرد رأيه ما ليس من مذاهبهم ! !
وهذه التهمة يبطلها الواقع؛ فإن الشيخ - رحمه الله - لم ينسب إلى السلف إلا ما هو موجود في كتبهم، وما ثبتت روايته عنهم، والشيخ أتقى لله من أن يتقول على السلف ما لا يقولوه، لكن أبا زهرة لم يراجع كتب الشيخ، أو أنه يتعمد التلبيس .
8 - في الصفحات ( 202 - 206 ) لما ذكر كلام الشيخ في منع التوسل بالأموات والاستغاثة بهم ومنع زيارة القبور لقصد التبرك بها وطلب الحاجات من الموتى ومنع السفر لزيارتها؛
قال بعد ذلك :
" ولقد خالف ابن تيمية بقوله هذا جمهور المسلمين، بل تحداهم في عنف بالنسبة لزيارة قبر المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ونحن نوافق إلى حد ما على قوله في زيارة قبور الصالحين والنذر لها، ولكن نخالفه مخالفة تامة في زيارة الروضة الشريفة، وذلك لأن الأساس الذي بني عليه منع زيارة الروضة الشريفة بقصد التبرك والتيمن هو خشية الوثنية، وإن ذلك خوف من غير مخاف؛ فإنه إذا كان في ذلك تقديس لمحمد؛ فهو تقديس لنبي الوحدانية، إحياء لها، إذ هو تقديس للمعاني التي بعث بها . . . "
إلى أن قال :(1/140)
" إن الحديث الذي رواه ابن تيمية وغيره وهو : ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى ) يدل على شرف المسجد الذي دفن بجواره، وقد دفن ببيت عائشة الذي كان أقرب بيوت أزواجه إليه، وقد كان متصلا بالمسجد، وإنه لو أريد منع زيارة قبره؛ لدفن في مكان بعيد، كالبقيع " .
ثم قال :
" وبعد؛ فإننا نقرر أن التبرك بزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - مستحسن، وليس التقرب الذي نقصده عبادة أو قريبا منها، إنما التبرك هو التذكر والاعتبار والاستبصار " .
- انتهى المقصود من كلامه، وهو يدل على ما عنده من جهل وتخليط وتخبط .
وأقول في بيان ذلك ما يلي :
أ - قوله : " ولقد خالف ابن تيمية بقوله هذا – يعني : منع التوسل بالموتى والتبرك بالقبور والاستغاثة بالموتى – خالف جمهور المسلمين " .
والجواب : أن الشيخ - رحمه الله - قد وافق في قوله هذا إجماع المسلمين، فلم يخالفه واحد منهم، ونعني بالمسلمين : أهل السنة والجماعة؛ ومن الصحابة والتابعين، والقرون المفضلة، ومن تبعهم بإحسان، وإنما خالفه بعض من جاء بعدهم من المخرفين والقبوريين، وهؤلاء لا يعتد بخلافهم وليسوا جمهور المسلمين، وإن سماهم هو بذلك، فالعبرة بالحقائق لا بالتسميات، وإنما هم من الشواذ المنتسبين إلى الإسلام .
ب - قوله : " ونحن نوافق إلى حد ما على قوله في زيارة قبور الصالحين والنذر لها؛ معناه أنه لا يوافق موافقة تامة على منع زيارة قبور الصالحين للتبرك بها والاستغاثة بأصحابها والنذر لها، وهذا يدل على أنه يسمح بشيء من ذلك، مع أنه عبادة لغير الله، وشرك أكبر ! !
ولا يخفى ما في هذا من التساهل في شأن الشرك، وعدم اهتمامه بالعقيدة .(1/141)
ج - وقوله : " ولكن نخالفه مخالفة تامة في زيارة الروضة الشريفة، وذلك لأن الأساس الذي بني عليه منع زيارة الروضة الشريفة بقصد التبرك والتيمن هو خشية الوثنية، وأن ذلك خوف من غير مخاف، فإنه إذا كان في ذلك تقديس لمحمد؛ فهو تقديس لنبي الوحدانية، وتقديس نبي الوحدانية إحياء لها " .
والجواب عن ذلك أن نقول :
أولا : الشيخ - رحمه الله - لا يمنع زيارة الروضة الشريفة بقصد الصلاة فيها، فنسبة المنع إليه غير صحيحة، بل هو يرى استحباب ذلك كغيره من علماء المسلمين عملا بالسنة الصحيحة، وأبو زهرة لا يفرق بين القبر والروضة .
ثانيًا : زيارة الروضة الشريفة إنما القصد منها شرعا هو الصلاة فيها لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ) ، وليس القصد من زيارتها التبرك والتيمن بها وتقديس محمد - صلى الله عليه وسلم - كما يزعم أبو زهرة؛ لأن هذا مقصد شركي أو بدعي
ثالثا : التقديس قد يكون غلوا ممنوعا، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - حقه علينا المحبة والمتابعة والعمل بشرعه، وترك ما نهى عنه، وقد نهى - صلى الله عليه وسلم - عن إطرائه، وهو المبالغة في مدحه، ولما قال له رجل : ما شاء الله وشئت . قال : ( أجعلتني لله ندًّا، قل : ما شاء الله وحده ) .
وليس تقديس المخلوق تقديسًا لله كما يقول، بل قد يكون شركا بالله عز وجل إذا تجاوز الحد .
د - وقوله : " إن حديث ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ) يدل على شرف المسجد الذي دفن بجواره . . . "(1/142)
الجواب عنه : أن شرف المسجد النبوي ليس من أجل كون قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بجواره؛ فإن فضله ثابت قبل دفن النبي - صلى الله عليه وسلم - بجواره؛ لأنه أول مسجد أسس على التقوى، ولأنه مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة ) ، ولم يقل : بعد موتي، والمساجد الثلاثة فضلت على غيرها لكونها مساجد الأنبياء، لا من أجل القبور أو مجاورة القبور، بل لأنها أسست على التوحيد والطاعة، لا على الشرك والخرافة .
هـ - قوله : " وقد دفن – يعني : النبي - صلى الله عليه وسلم - – ببيت عائشة الذي كان أقرب بيوت أزواجه إليه – يعني : المسجد -، وقد كان متصلا بالمسجد، وأنه لو أريد منع زيارة قبره؛ لدفن في مكان بعيد عن المسجد؛ كالبقيع " .
الجواب عنه :
أولا : إن هذا الكلام من لا يعرف ما جاء في السنة من الأحاديث الموضحة لملابسات دفنه - صلى الله عليه وسلم - في بيت عائشة رضي الله عنها، وما هو القصد من ذلك؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - لما مرض؛ استأذن أزواجه أن يمرض في بيت عائشة رضي الله عنها؛ لمحبته لها، ومحبة قربها منه، وتمرضها له، فأذن له في ذلك، ولما توفي - صلى الله عليه وسلم -؛ دفن في المكان الذي توفي فيه؛ لأن الأنبياء يدفنون حيث يموتون؛ كما جاء في الحديث، والقصد من ذلك خشية أن يفتتن بقبره - صلى الله عليه وسلم - لو دفن في مكان بارز، فيتخذ مسجدا وعيدًا مكانيا، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يحذر من ذلك القول : ( لا تتخذوا قبري عيدًا ) . ويقول : ( اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد ) .
وقد روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت :(1/143)
" لما نزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها؛ كشفها، فقال وهو كذلك : ( لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) ؛ يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا " .
هذا هو القصد من دفنه - صلى الله عليه وسلم - في حجرة عائشة، وهو حماية التوحيد وحماية قبره أن يتخذ مسجدًا، وليس القصد ما توهمه الخرافيون، أنه دفن في بيت عائشة؛ لأجل القرب من المساجد والتبرك بقبره - صلى الله عليه وسلم - فقد كان يحذر من اتخاذ القبور مساجد، ومن التبرك بها، ومن بناء المساجد على القبور لأن هذا من وسائل الشرك، فدفنه - صلى الله عليه وسلم - في بيته لمنع هذه الأشياء أن تمارس عند قبره .
ثانيًا : زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - الزيارة الشرعية ليست ممنوعة، بل هي مستحبة كزيارة قبر غيره إذا كان ذلك بدون سفر، وكان القصد السلام عليه والدعاء له - صلى الله عليه وسلم - .
ثالثا : قوله " وأنه لو أريد منع زيارة قبره؛ لدفن في مكان بعيد عن المسجد كالبقيع . . . " .
أقول : معنى هذا الكلام أنه - صلى الله عليه وسلم - دفن في حجرة عائشة؛ لأجل أن يزار ويتبرك بقبره على حد قوله .
وهذا فهم يخالف ما جاء في الحديث الصحيح الذي تقدم ذكره، وهو أنه دفن في بيته؛ لمنع أن يتخذ قبره مسجدًا .
ثم إن دفنه في البقيع أمكن لزيارة قبره والتبرك به من دفنه في بيته؛ عكس ما يقول أبو زهرة، فلو كان ما يقوله مشروعا؛ لدفن في البقيع؛ لتمكين الناس من هذه المقاصد التي قالها .
و– قوله : " وإنا لنعجب من استنكاره لزيارة الروضة للتيمن والاستئناس مع ما رواه الأئمة الأعلام من تسليمهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - كلما مروا بقبره الشريف، وكانوا يذهبون إليه كلما هموا بسفر أو أقبلوا من سفر " .
والجواب عنه أن نقول :(1/144)
أولا : لا عجب فيما ذكرت؛ لأن استنكار ذلك هو الحق؛ فإن زيارة الروضة للتبرك والتيمن مقصد شرعي بدعي، لم يشرعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما شرع زيارتها للصلاة فيها وعبادة الله فيها .
ثانيًا وأما قوله : " إن الأئمة الأعلام يسلمون على النبي - صلى الله عليه وسلم - كلما مروا بقبره أو همُّوا بسفر " ؛ فهو قول لا أصل له، ولا دليل عليه، ولم يروه الشيخ عنهم، وإنما روي خلافه، وهو أنهم لم يكونوا يترددون على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - كلما دخلوا المسجد؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذلك، فقال : ( لا تتخذوا قبري عيدًا ) ؛ أي : لا تترددوا عليه وتجتمعوا حوله، وإنما كانوا يسلمون عليه إذا قدموا من سفر؛ كما كان ابن عمر يفعل ذلك إذا قدم من سفر، ولا يزيد على قوله : " السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبي " ، ثم ينصرف .
ثم ما علاقة التسليم على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالروضة؛ لأن الروضة في المسجد، وقبر الرسول كان خارج مسجده في عهد الصحابة رضي الله عنهم ؟ !
ز - قوله : " وبعد؛ فإننا نقرر أن التبرك بزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - مستحسن، وليس التبرك الذي نقصده عبادة أو قريبا منها، إنما التبرك هو التذكر والاعتبار والاستبصار " .
والجواب عن ذلك أن نقول :
أولًا : التبرك بقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره من البقاع والأشجار والأحجار أمر مستقبح وليس مستحسنا إلا عند الجهال والقبوريين، وهو شرك بالله؛ لكونه تعلق على غير الله، وطلب للبركة من غيره .
ولما رأى بعض الصحابة - وكانوا حدثاء عهد بالإسلام – أن المشركين يتبركون بشجرة، وطلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل لهم شجرة مثلها يتبركون بها؛ استنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك استنكارا شديدا، وقال :(1/145)
( قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } ) .
فدل هذا الحديث على أن من تبرك بشجرة، أو حجر، أو قبر، أو بقعة؛ فقد أشرك بالله، واتخذ المتبرك به إلها .
ثانيًا : وأما قوله : " وليس التبرك الذي نقصده عبادة أو قريبا منها، إنما التبرك هو التذكر والاعتبار والاستبصار " .
فالجواب عنه : أن هذا من جهله بمعنى العبادة، وعدم تفريقه بين التبرك وبين التذكر والاعتبار، أو هو يتجاهل ذلك من أجل التلبيس على الناس .
فالعبادة اسم جامع لكل من يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال، ومنها الرغبة والرهبة والرجاء، ومنها التبرك وهو طلب البركة، ويكون بأسمائه سبحانه .
فالتبرك بغير الله شرك، إلا التبرك بشعر النبي - صلى الله عليه وسلم - ووضوئه (1)
فهذا خاص به - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الله جعله مباركا، ولا يمكن ذلك إلا في حالة حياته ووجوده، ولم يكن الصحابة يتبركون بمنبره أو بقبره ولا حجرته، وهم خير القرون وأعلم الأمة بما يحل وما يحرم، فلو كان جائزا؛ لفعلوه .
ثانيًا : ما نسبه إلى شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب
وبعد أن انتهينا من رد ما نسبه إلى شيخ الإسلام ابن تيمية ننتقل إلى رد ما نسبه إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فنقول :
1- عد دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب نحلة ومذهبا محدثا مستقلا أطلق عليه لفظ الوهَّابية وعده من جملة المذاهب الضالة التي أدركتها تحت عنوان : " مذاهب حديثة " : وهي الوهابية، البهائية، والقاديانية .
- ومن المعلوم وواقع دعوة الشيخ أنه ليس صاحب مذهب جديد، وإنما هو في العقيدة على مذهب السلف أهل السنة والجماعة، وفي الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - ولم يستقل ولا بمسألة واحدة عن هؤلاء .
فكيف يعده أبو زهرة صاحب مذهب جديد، ويدرجه ضمن المذاهب الضالة والنحل الفاسدة ؟ (1/146)
قاتل الله الجهل والهوى والتقليد الأعمى .
واذا كان هو يعيب على الوهابية ما توهمه من تكفيرهم للناس، فكيف يبيح لنفسه هذا الذي عابه على غيره ؟ !
2 - ثم قال :
" ومنشأ الوهابية هو محمد بن عبد الوهاب، وقد درس مؤلفات ابن تيمية، فراقت في نظره، وتعمق فيها، وأخرجها من حيز النظر إلى حيز العمل " .
- هكذا قال عن مرتبة الشيخ محمد بن عبد الوهاب العلمية : أنه لم يدرس إلا مؤلفات ابن تيمية ! ! وكأنه لم يقرأ ترجمة الشيخ وسيرته، ولم يعرف شيئا عن تحصيله العلمي، أو أنه عرف ذلك وكتمه بقصد التقليل من شأنه، والتغرير بمن لم يعرف شيئا عن الشيخ .
ولكن هذا لا يستر الحقيقة، ولا يحجب الشمس في رابعة النهار، فقد كتب المنصفون عن الشيخ - رحمه الله - مؤلفات كثيرة انتشرت في الأقطار، وعرفها الخاص والعام، وأنه - رحمه الله - تعمق في دراسة الفقه والحديث والأصول وكتب العقيدة التي من جملتها مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وقد تخرج على أيدي علماء أفذاذ وأئمة كبار في مختلف الفنون في بلاد نجد والحجاز والإحساء والبصرة، وقد أجازوه في مروياتهم وعلومهم، وقد ناظر ودرس وأفتى وألف في الفقه والحديث والعقيدة حتى نال إعجاب من اجتمع به أو استمع إلى دروسه ومناظراته، أو قرأ شيئا من مؤلفاته، ومؤلفاته تدل على سعة أفقه وإدراكه في علوم الشريعة، وسعة اطلاعه وفهمه، ولم يقتصر فيما ذكر في تلك المؤلفات على كتب ابن تيمية – كما يظن الجاهل أو المتجاهل – بل كان ينقل آراء الأئمة الكبار في الفقه والتفسير والحديث؛ مما يدل على تبحره في العلوم، وعمق فهمه، ونافذ بصيرته، وها هي كتبه المطبوعه المتداولة شاهد بذلك والحمد لله، ولم يكن رحمه الله يأخذ من آراء شيخ الإسلام ابن تيمية ولا من آراء غيره إلا ما ترجح لديه بالدليل، بل لقد خالف شيخ الإسلام في بعض الآراء الفقهية .
3- ثم قال عمن أسماهم بالوهابية :(1/147)
" وإنهم في الحقيقة لم يزيدوا بالنسبة للعقائد شيئا عما جاء به ابن تيمية، ولكنهم شددوا فيه أكثر ما تشدد، ورتبوا أمورا علمية لم يكن قد تعرض لها ابن تيمية، لأنها لم تشتهر في عهده، ويتلخص ذلك فيما يأتي :
أ- لم يكتفوا بجعل العبادة كما قررها الإسلام في القرآن والسنة، وكما ذكر ابن تيمية، بل أرادوا أن تكون العادات أيضا غير خارجة على نطاق الإسلام، فليلتزم المسلمين ما التزم (2) ، ولذا حرموا الدخان، وشددوا في التحريم، حتى إن العامة منهم يعتبرون المدخن كالمشرك، فكانوا يشبهون الخوارج الذين كانوا يكفرون مرتكب الذنب .
ب- وكانوا في أول أمرهم يحرمون على أنفسهم القهوة وما يماثلها، ولكن يظهر أنهم تساهلوا فيها فيما بعد .
ج - أن الوهابية لم تقتصر على الدعوة المجردة، بل عمدت إلى حمل السيف لمحاربة المخالفين لهم، باعتبار أنهم يحاربون البدع، وهي منكر تجب محاربتها، ويجب الأخذ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
د - أنها كانت كلما مُكِّن لها من قرية أو مدينة أتت على الأضرحة هدما وتخريبا .
هـ - أنهم تعلقوا بأمور صغيرة ليس فيها وثنية ولا ما يؤدى إلى وثنية، وأعلنوا استنكارها؛ مثل التصوير الفوتوغرافي، ولذلك وجدنا ذلك في فتاويهم ورسائلهم التي كتبها علماؤهم .
ز - أنهم توسعوا في معنى البدعه توسعا غريبا، حيث إنهم يزعمون أن وضع الستائر على الروضة الشريفة أمر بدعي ولذلك منعوا تجديد الستائر عليها . . . " .
إلى أن قال : " وإننا لنجد فوق ذلك منهم من يعد قول المسلم : ( سيدنا محمد ) بدعة لا تجوز، ويغلون في ذلك غلوا شديدا " .
إلى أن قال :
" وإنه يلاحظ أن علماء الوهابيين يفرضون في آرائهم الصواب الذي لا يقبل الخطأ، وفي آراء غيرهم الخطأ الذي لا يقبل التصويب، بل إنهم يعتبرون ما عليه غيرهم من إقامة الأضرحة والطواف حولها قريبا من الوثنية " .(1/148)
- انتهى ما قاله في حق من سماهم الوهابية، ويظهر أنه قد امتلأ صدره غلا وحقدا وغيظا عليهم، فتنفس الصعداء بإفراغ بعض ما عنده والله سبحانه عند لسان كل قائل وقلبه؛ { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } .
وجوابنا عن ذلك من وجوه :
الوجه الأول : قوله : " إنهم في الحقيقة لم يزيدوا بالنسبة للعقائد شيئا عما جاء به ابن تيمية " ؛ معناه أن ابن تيمية في نظره جاء بعقائد ابتدعها من عنده، وأن الوهابية عدوه مشرعا .
وقد سبق الجواب عن هذه الفرية، وبينا أن شيخ الإسلام ابن تيمية لم يبتدع شيئا من عنده، بل كان على عقيدة السلف الصالح من الصحابة والتابعين والقرون المفضلة، لم يستحدث شيئا من عنده .
وإننا نتحدى كل من يقول مثل هذه المقالة الظالمة أن يبرز لنا مسألة واحدة خالف فيها شيخ الإسلام ابن تيمية من سبقه من سلف الأمة .
غاية ما في الأمر أنه جدد عقيدة السلف، ونشرها، أحياها بعدما اندرست ونسيها الكثيرون .
ونقول أيضا : إن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وغيره من أئمة الدعوة لم يقتصروا على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، بل استفادوا منها ومن غيرها من الكتب السليمة المفيدة المتمشية على منهج السلف؛ يعرف هذا من طالع كتبهم .
الوجه الثانية : أن قوله : " لم يكتفوا بجعل العبادة كما قررها الإسلام في القرآن والسنة " فرية عظيمة واتهام خطير لعلماء دعوة التوحيد في نجد بأنهم ابتدعوا عبادات لم يشرعها الله ورسوله .
ولكن الله فضحه وبين كذبه، حيث لم يجد مثالا لما قال إلا تحريم الدخان، وهذا مما يدل على جهله؛ فإن تحريم الدخان ليس من قسم العبادات والعقائد، وإنما هو من قسم الأطعمة والحلال والحرام والفروع .
وأيضا؛ فإن تحريم الدخان لم يختص به علماء الدعوة في نجد , بل حرمها غيرهم من علماء الأمة؛ لخبثه وضرره، وها هي الآن تقام أنشطة مكثفة للتحذير من شرب الدخان وتوعية الناس بأضراره من قبل المنظمات الصحية العالمية .(1/149)
وقوله : " حتى إن العامة منهم يعتبرون المدخن كالمشرك " .
هذه فرية أخرى، ولو صح أن أحدا من العامة حصل منه ذلك؛ فالعامي ليس بحجة يعاب به أهل العلم، ولكن عوام أهل نجد – والحمد لله – يعرفون من الحق أكثر مما يعرفه علماء الضلال، يعرفون ما هو الشرك وما هو المحرم الذي لا يعد شركا بما يقرءون وما يسمعون من دروس التوحيد وكتب العقائد الصحيحة .
الوجه الثالث : قوله : " كانوا في أول أمرهم يحرمون القهوة وما يماثلها " .
نقول : هذا كذب ظاهر، ولم يأت بما يثبت ما يقول، وما زال علماء نجد وعامتهم يشربون القهوة في مختلف العصور، وهذه كتبهم وفتاواهم ليس فيها شيء يؤيد ما يقوله، بل فيها ما يكذبه؛ فإن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمه الله أنكر على من قال بتحريم القهوة من الجهال، ورد عليه، وله في ذلك رسالة مطبوعة مشهورة .
الوجه الرابع : قوله : " إن الوهابية لم تقتصر على الدعوة المجردة، بل عمدت إلى حمل السيف لمحاربة المخالفين لهم باعتبار أنهم يحابون البدع " .
أقول : أولا : قوله : إن الوهابية لم تقتصر على الدعوة المجردة " يدل على جهله، فإن الدعوة المجردة لا تكفي مع القدرة على مجاهدة أعداء الإسلام؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالدعوة والجهاد في سبيل الله .
ثانياً : قوله : " إنهم حملوا السيف لمحاربة من خالفهم " .
هذا كذب عليهم؛ فإنهم لم يحاربوا خصومهم لمجرد مخالفتهم، بل حاربوهم لأحد أمرين : إما للدفاع عن أنفسهم إذا اعتدى عليهم أحد، وإما لإزالة الشرك إذا احتاجت إزالته إلى قتال، وتاريخ غزواتهم شاهد بذلك، وهو مطبوع متداول في أكثر من كتاب .
الوجه الخامس : قوله : " إنها كانت كلما مكن لها من قرية أو مدينة : أتت على الأضرحة هدماً وتخريباً " .(1/150)
أقول : هذا من فضائلهم، وإن عده هو وأضرابه من معايبهم : لأنهم ينفذون بذلك وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله لعلي رضي الله عنه : ( لا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته ) .
فأي عيب في ذلك إذا أزالوا مظاهر الوثنية : وعملوا بالسنة النبوية ؟ !
ولكن أهل الجهل والضلال لا يعلمون، فيعتقدون الحسن قبيحاً، والقبيح حسناً، والمنكر معروفاً، والمعروف منكراً، وقد تكاثرت الأدلة على تحريم البناء على القبور؛ لأن ذلك من وسائل الشرك، فلا بد من هدم الأضرحة وإزالة مظاهر الوثنية وإن غضب أبو زهرة وأضرابه ممن يرون بقاء الأضرحة التي هي منابت الوثنية وأوكارها .
الوجه السادس : قوله : " إنهم تعلقوا بأمور صغيرة " ، ثم مثل لذلك بتحريم التصوير الفوتوغرافي .
والجواب عن ذلك :
أولاً : إن التصوير ليس من الأمور الصغيرة، بل هو من كبائر الذنوب، للأحاديث الصحيحة في النهي عنه، والتحذير منه، ولعن المصورين، والإخبار بأنهم أشد الناس عذاباً يوم القيامة؛ من غير تفريق بين التصوير الفوتوغرافي وغيره، ومن فرق؛ فعليه الدليل، والمحذور في التصوير والتعليل الذي حرم من أجله متحققان في جميع أنواع الصور الفوتوغرافية وغيرها .
وثانياً : قوله : إن التصوير لا يؤدي إلى وثنية " قول مردود؛ لأن التصوير من أعظم الوسائل التي تؤدي إلى الوثنية؛ كما حصل لقوم نوح لما صوروا الصالحين وعلقوا صورهم على مجالسهم، وآل بهم الأمر إلى أن عبدوا تلك الصور؛ كما ورد ذلك في " صحيح البخاري " وغيره عند تفسير قوله تعالى : { وقالوا لا تذرون آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا } .
والوجه السابع : قوله : إنهم توسعوا في معنى البدعة توسعاً غريباً، حتى إنهم ليزعمون أن وضع ستائر على الروضة الشريفة أمر بدعي، ولذلك منعوا تجديد الستائر عليها )
والجواب عن ذلك أن نقول :
أولاً : هو لا يدري ما هي الروضة الشريفة، فيظن أنها الحجرة النبوية، وليس الأمر كذلك :(1/151)
فالروضة في المسجد، وهي ما بين منبر النبي صلى الله عليه وسلم وبيته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم :
( ما بين بيتي ومنبرى روضة من رياض الجنة ) .
والحجرة النبوية خارج الروضة، وكان خارج المسجد قبل التوسعة التي أجراها الوليد بن عبد الملك .
ثانيا : الروضة لا يمكن وضع ستائر عليها، ولا يتصور، وإنما يقصد الحجرة النبوية؛ يريد أن تجعل مثل الأضرحة القبورية، فتجعل عليها الستور كما على الأضرحة، وهذا لا يجوز لأمرين :
1- لأنه لم يكن من عمل السلف الصالح من الصحابه والتابعين والقرون المفضلة، فلم يكن عليها ستائر في وقتها .
2- لأنه وسيلة إلى الشرك , بل ستر سائر الحيطان عموما إسراف لا ينبغي فعله .
قال في " المغنى " ( 7/9 ) :
" فأما ستر الحيطان بستور غير مصورة؛ فإن كان لحاجة من وقاية حر أو برد؛ فلا بأس؛ لأنه يستعمله في حاجته، فأشبه الستر على الباب وما يلبسه على بدنه، وإن كان لغير حاجة؛ فهو مكروه وعذر في الرجوع عن الدعوة ( يعني : إلى الوليمة ) وترك الإجابة؛ بدليل ما روى سالم بن عبد الله بن عمر؛ قال :
أعرست في عهد أبي أيوب، فآذن أبي الناس، فكان أبو أيوب فيمن آذن، وقد ستروا بيتي بخباء أخضر، فأقبل أبو أيوب، فاطلع، فرأى البيت مستترا بخباء أخضر، فقال : يا عبد الله ! أتسترون الجدر ؟ قال أبي – واستحيى - : غلبتنا النساء يا أبا أيوب ! قال : من خشيت أن يغلبنه فلم أخش أن يغلبنك . ثم قال : لا أطعم لكم طعاما، ولا أدخل لكم بيتا، ثم خرج . رواه الأثرم .(1/152)
وروي عن عبد الله بن يزيد الخطمي : أنه دعي إلى طعام , فرأى البيت منجدا , فقعد خارجا وبكى؛ قيل له : ما يبكيك ؟ قال : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قد رقع بردة بقطعة أدم، فقال : تطالعت عليكم الدنيا – ثلاثا -، ثم قال : أنتم اليوم خير أم إذا غدت عليكم قصعة وراحت أخرى، ويغدوا أحدكم في حلة ويروح في أخرى وتسترون بيوتكم كما تستر الكعبة ؟ قال عبد الله : أفلا أبكي وقد بقيت حتى رأيتكم تسترون بيوتكم كما تستر الكعبة ؟
وقد روى الخلال بإسناده عن ابن عباس وعلي بن الحسين عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه نهى أن تستر الجدر .
وروت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرنا فيما رزقنا أن نستر الجدر " انتهى .
الوجه الثامن : قوله : " وإنا لنجد فوق ذلك منهم من يعد قول سيدنا محمد بدعة لا تجوز، ويغلون في ذلك غلوا شديدا " .
والجواب عن ذلك أن نقول : هذا كذب من القول، علماء الدعوة يثبتون ما ثبت للنبي صلى الله عليه وسلم من الصفات الكريمة، ومنهم من يعتقدون أنه سيد ولد آدم وأفضل الخلق على الإطلاق، لكنهم يمنعون الغلو في حقه صلى الله عليه وسلم؛ عملا بقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ) ، ويمنعون الابتداع، ومن ذلك أن يقال : " سيدنا " في المواطن التي لم يرد قول ذلك فيها؛ كالأذان، والإقامة، والتشهد في الصلاة، وكذا رفع الأصوات قبل الأذان؛ يقول : اللهم صل وسلم على سيدنا رسول الله، أو بعد أداء الصلوات؛ كما يفعله المبتدعة بأصوات جماعية .
وهذا هو الذي أظنه يقصده في كلامه، حيث يراه يُفعل عندهم، فظنه مشروعا، وهذا هو الذي ينكره علماء الدعوة في المملكة العربية السعودية، وينكره غيره من أهل التحقيق والعمل بالسنة وترك البدعة في كل مكان؛ لأنه بدعة، وكل بدعة ضلالة، وغلو في حقه صلى الله عليه وسلم، والغلو ممنوع .(1/153)
أما قول سيدنا رسول الله في غير مواطن البدعة؛ فعلماؤنا لا ينكرونه، بل يعتقدونه، ويقولون : هو سيدنا وإمامنا صلى الله عليه وسلم .
الوجه التاسع : قوله : " وفي سبيل دعوتهم يغلظون في القول، حتى إن أكثر الناس؛ لينفرون منهم أشد النفور " .
والجواب عن ذلك أن نقول :
أولا : هذا الكلام من جملة الاتهامات التي لا حقيقة لها، وهذه كتب علمائنا ورسائلهم والحمد لله ليس فيها تغليظ؛ إلا فيما يشرع فيه التغليظ، وليس فيها تنفير، وإنما فيها الدعوة إلى الله بالبصيرة والحكمة والموعظة الحسنة، وكتبهم في ذلك مطبوعة ومتداولة ومنتشرة، وكل من اتصل بهم؛ فإنه يثني عليهم، وقد كتب المنصفون عنهم الشيء الكثير في تاريخهم الماضي والحاضر؛ من حسن السياسة، وصدق المعاملة، والوفاء بالعهود، والرفق بالمسلمين، وأكبر شاهد على ذلك من يفد إلى مكة المشرفة للحج والعمرة كل عام، وما يشاهدونه من العناية بخدمة الحجيج، وبذل المجهود في توفير راحتهم، مما أطلق الألسنة والأقلام في الثناء عليهم وعلى حكوماتهم، وكذلك من يفدون إلى المملكة للعمل فيها يشهد أكثرهم بذلك .
ثانيا : أما قول : " حتى إن أكثر الناس لينفرون منهم أشد النفور " ؛ فهو من أعظم الكذب وخلاف الواقع؛ فإن الدعوة التي قاموا بها من عهد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله إلى هذا العهد – وهي الدعوة إلى الإسلام، وإخلاص التوحيد، والنهي عن الشرك والبدع والخرافات – قد لاقت قبولا في أرجاء العالم، وانتشرت انتشارا واسعا في كثير من الأقطار، وما هو على صعيد الواقع الآن أكبر شاهد وأعظم دليل على ما ذكرنا .
ويتمثل ذلك في ما تبذله الحكومه السعودية التي هي حكومة الدعوة – أدام الله بقائها وسدد خطاها – بتوجيه من علمائها ورغبة من حكامها بفتح الجامعات الإسلامية التي تخرج الأفواج الكثيرة من أبناء العالم الإسلامي على حسابها .(1/154)
ويتمثل ذلك أيضا في إرسال الدعاة إلى الله في مختلف أرجاء العالم، وفي توزيع الكتب المفيدة، وبذل المعونات السخية للمؤسسات الإسلامية، ومد يد العون للمعوزين في العالم الإسلامي، وإقامة المؤتمرات والندوات، وبناء المساجد والمراكز الإسلامية؛ لتبصير المسلمين بدينهم، مما كان له أعظم الأثر والقبول الحسن – والحمد لله - .
وهذا واقع مشاهد، وهو يبطل قول ذلك الحاقد : " إن أكثر الناس لينفرون منهم أشد النفور " ، لكن كما قال الشاعر :
لي حيلة فيمن ين----- ** ---م وما لي في الكذاب حيله
من كان يخلق ما يقو ** ل فحيلتي فيه قليله
الوجه العاشر : قوله : " وإنه يلاحظ أن علماء الوهابيين يفرضون في آرائهم الصواب الذي لا يقبل الخطأ، و في رأى غيرهم الخطأ الذي لا يقبل التصويب " .
والجواب عنه أن نقول : هذا من جنس ما قبله من التهجم الكاذب الذي لا حقيقة له، فهذه كتب علمائنا ومناقشاتهم لخصومهم ليس فيها شيء مما ذكره، بل فيها ما يكذبه من بيان الحق وتشجيع أهله، ورد الباطل بالحجة والبرهان، ودعوة أهله إلى الرجوع إلى الحق بالحكمة والموعظة الحسنة، ولم يدعوا لأنفسهم العصمة من الخطأ، ويرفضوا ما عند غيرهم من الصواب؛ كما وصمهم بذلك .
وهذا إمامهم وكبيرهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يقول في إحدى رسائله التي وجهها لخصومه :
" وأرجو أني لا أرد الحق إذا أتاني، بل أشُهِد الله وملائكته وجميع خلقه إن أتانا منكم كلمة من الحق؛ لأقبلنها على الرأس والعين، ولأضربن الجدار بكل ما خالفها من أقوال أئمتي، حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لا يقول إلا الحق " انتهى .
وكلهم والحمد لله على هذا المنهج الذي قاله الشيخ .
والوجه الحادي عشر : قوله : " بل إنهم يعتبرون ما عليه غيرهم من إقامة الأضرحة والطواف حولها قريب من الوثنية " .(1/155)
والجواب عنه أن نقول : كلامه هذا يدل على جهله بمعنى الوثنية، فلم يدر أنها تتمثل في تعظيم القبور بالبناء عليها والطواف حولها وطلب الحوائج من أصحابها والاستغاثة بهم، فلذلك استغرب استنكار ذلك واعتباره من الوثنية ! !
وكأنه لم يقرأ ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية من استنكار الاستشفاع بالموتى، واتخاذهم أولياء؛ ليقربوا إلى الله زلفى، ولم يقرأ نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن البناء على القبور، واتخاذها مساجد، ولعن من فعل ذلك ! !
وإذا لم تكن إقامة الأضرحة والطواف حولها وثنية؛ فما هي الوثنية ؟ !
لكن كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية " .
ألم يكن شرك قوم نوح متمثلا في دعاء الأموات ؟ !
ألم تكن اللات ضريحا لرجل صالح كان يلت السويق للحاج، فلم مات؛ عكفوا على قبره، وطافوا حوله ؟ !
ولو كان هذا الكلام صادرا عن عامي لا يعرف الحكم؛ لهان الأمر؛ لأن العامي جاهل، وتأثيره على الناس محدود، لكن الذي يؤسفنا أن يكون صادرا عمن يدعي العلم، وقد صدرت عنه مؤلفات كثيرة؛ فهذا قد يكون تأثيره على الناس – خصوصا محدودي الثقافة – شديدا؛ نظرا لكثرة مؤلفاته، وسمعته الواسعة، وإحسان الظن به .
ولكن الحق سينتصر بإذن الله : { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ } ، والعلم لا يقاس بكثرة الإصدارات، وإنما يقاس بمدى معرفة الحق من الباطل، والهدى من الضلال، والعمل بذلك .
وإلا؛ فكيف يتصور من مسلم – فضلا من ينتسب إلى العلم – أن يتفوه بأن الطواف بالأضرحة ليس من الوثنية ؟ ! أليس الطواف عبادة، وصرف العبادة لغير الله وثنية وشرك ؟ !(1/156)
فالطائف بالأضرحة إن كان قصده التقرب إليها بذلك؛ فلا شك أن هذا شرك أكبر؛ لأنه تقرب بالعبادة إلى غير الله، وإن كان قصده بالطواف حول الضريح التقرب إلى الله وحده، فهذه بدعة ووسيلة إلى الشرك؛ لأن الله لم يشرع الطواف إلا حول الكعبة المشرفة، ولا يطاف بغيرها على وجه الأرض .
هذا؛ وإننا ندعو كل من بلغه شيء من تشويه دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب أو قرأ شيء من الكتب التي تروج هذا التشويه، أمثال كتب الشيخ محمد أبي زهرة؛ فعليه أن يتثبت وأن يراجع كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب وكتب العلماء الذين جاءوا من بعده وحملوا دعوته؛ ليرى فيها تكذيب تلك الشائعات، وقد قال الله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } .
وكتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب وكتب علماء الدعوة من بعده ميسورة والحمد لله، وهي توزع على أوسع نطاق، عن طريق الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ومكاتبها في الداخل والخارج، وفي موسم الحج كل سنة، وهي لا تدعو إلى مذهب معين أو نحلة محدثة، وإنما تدعو إلى العمل بكتاب الله وسنة رسوله ومذهب أهل السنة والجماعة، ونبذ البدع والخرافات، والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلف الأمة، والقرون المفضلة .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه آجمعين .(1/157)
تعقيب على ملاحظات الشيخ محمد المجذوب بن مصطفى
من صالح بن فوازن بن عبد الله الفوزان إلى صاحب الفضيلة العلامة الجليل الشيخ محمد المجذوب بن مصطفى حفظه الله وزاده علمًا نافعا وعملا صالحا آمين .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
وبعد؛ فقد اطلعت على تعقيبكم على ردنا على الشيخ محمد أبي زهرة فيما تجناه على الشيخين : شيخ الإسلام ابن تيمية، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله، وقد وصفتموني بصفات لم أبلغها، ووصفتم بحثي بصفات يقصر عنها، وهذا من كرمكم وحسن ظنكم، فجزاكم الله خيرا .
أما التعقيبات التي سميتموها هفوات، وأشرتم منها إلى اثنين طلبتم عرضهما علي لأبدي رأيي حولهما؛ فهذا شيء تشكرون عليه، وليتكم ذكرتم جميع ما لديكم من ملاحظات لأستفيد مما يصح منها، وأبدي رأيي فيما لي فيه وجهة نظر تختلف عن وجهة نظركم؛ لتكون الفائدة مشتركة .
والآن؛ إلى مناقشة الملاحظتين :
1- ملاحظتكم الأولى على ما ذكرته من تقسيم الأمر إلى أمر كوني قدري وأمر شرعي ديني، ومثلت للأول بقوله تعالى : { وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا } ؛ بناء على أن أمر المترفين بفسق أمر كوني قدري؛ كما هو القول الأول من أقوال المفسرين على ما ذكره الإمام ابن كثير في " تفسيره " حيث قال :
" واختلف المفسرون في معناها، فقيل : معناه : أمرنا مترفيها ففسقوا فيها أمرا قدريا؛ كقوله تعالى : { أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أو نَهَارًا } " .
وبناء على ما قاله الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي في " تفسيره " ، حيث قال :
" يخبر تعالى أنه إذا أراد أن يهلك قرية من القرى الظالمة ويستأصلها بالعذاب؛ أمر مترفيها أمرا قدريا، ففسقوا فيها، واشتد طغيانهم " .(1/158)
وبناء على ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاب " الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان " " مجموع الفتاوى " ( 11/ 265 ) ، حيث قال : " وقد ذكر الله في كتابه الفرق بين الإرادة، والأمر، والقضاء، والإذن، والتحريم، والبعث، والإرسال، والكلام، والجعل؛ بين الكوني الذي خلقه وقدره وقضاه وإن كان لم يأمر (3) به ولم يحبه ولا يثيب أصحابه ولا يجعلهم من أوليائه المتقين، وبين الديني الذي أمر به وشرعه وأثاب عليه " .
ثم ذكر رحمه الله الأمثلة لكل قسم من القسمين .
وبناء على ما رجحه الإمام العلامة ابن القيم في كتابه " شفاء العليل " في ( ص 466 ) ، حيث مثَّل للأمر الكوني بهذه الآية الكريمة : { وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا } ، فقال رحمه الله :
" فهذا أمر تقديري كوني، لا أمر ديني شرعي؛ فإن الله لا يأمر بالفحشاء، والمعنى : قضينا ذلك وقدرناه . وقالت طائفة : بل هو أمر ديني، والمعنى : أمرناهم بالطاعة، فخالفوها، ففسقوا .
والقول الأول أرجح؛ لوجوه :
أحدها : أن الإضمار على خلاف الأصل، فلا يصار إليه إلا إذا لم يمكن تصحيح الكلام بدونه .
الثاني : أن ذلك يستلزم إضمارين :
أحدهما : أمرناهم بطاعتنا .
والثاني : فخالفونا أو عصونا . . . ونحو ذلك .
الثالث : أن ما بعد الفاء في مثل هذا التركيب هو المأمور به نفسه؛ كقولك : أمرته ففعل، وأمرته فقام، وأمرته فركب؛ لا يفهم المخاطب غير هذا .
الرابع : أنه سبحانه جعل سبب هلاك القرية أمره المذكور، ومن المعلوم أن أمره بالطاعة والتوحيد لا يصلح أن يكون سبب الهلاك، بل هو سببا للنجاة والفوز، فإن قيل : أمره بالطاعة مع الفسق هو سبب الهلاك . قيل : هذا يبطل ب- :(1/159)
الوجه الخامس : وهو أن هذا الأمر لا يختص بالمترفين، بل هو سبحانه يأمر بطاعته واتباع رسله المترفين وغيرهم، فلا يصح تخصيص الأمر بالطاعة بالمترفين " انتهى المقصود منه .
وأقول : مما يؤيد هذا أن الأمر بالطاعة ليس المقصود منه أن يفسق المأمور؛ ليحق عليه الهلاك، وإنما المقصود منه سعادة المأمور ونجاته من الهلاك .
وأما نفيكم يا فضيلة الشيخ لوجود الأمر الكوني بالسوء، وقولكم : " إنما هو سبيل الاحتمال والظن، وسائر الأوامر بمعنى التكليف الشرعي " ؛ فهذا رد للأدلة، وإبطال لقول الأئمة الذين ذكرنا بعض أقوالهم .
وأما ما ذكرتم من أقوال المفسرين الأخرى في تفسير الآية؛ فهي لا تلغي القول الذي ذكرناه، بل لا ترتقي إلى درجته، وحسبك تقديم الإمام ابن كثير له على غيره واقتصار ابن سعدي عليه، وترجيح ابن القيم له .
وعلى كل؛ فالأمر الكوني القدري ثابت، وأدلته في القرآن كثيرة في غير هذه الآية؛ مثل قوله تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } ، وقوله : { وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } ، وقوله : { أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أو نَهَارًا } .
وما ذكرتم من تفسير سيد قطب من تأويل الإرادة بأنه ترتب النتيجة على السبب، وتأويل الأمر بأنه إنشاء النتيجة الطبيعية المترتبة على وجود المترفين؛ فهذه سفسطة مردودة، وتأويل للصفات على طريقة المعتزلة وأتباعهم، فهو قول باطل .
وأما قول فضيلتكم : " أما أن يصدر أمره عز وجل بما يكره من الأعمال، ثم يعاقب مرتكبه؛ عن مفهوم الإرادة – أي : المشيئة – التي منها الشرعي الذي عليه مدار الثواب والعقاب، ومنها الكوني الذي لا يدان للإنسان فيه ولا مسؤولية عليه " انتهي .
" وأقول : كلام فضيلتكم هذا عليه عدة مؤاخذات :
الأولى : أنكم خلطتم بين المشيئة والإرادة، وجعلتموها شيئا واحدًا، والواقع أن بينهما فرقا كبيرا :(1/160)
فالإرادة قسمان : إرادة كونية قدرية؛ مثل قوله تعالى : { إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } ، وإرادة دينية شرعية مثل : { وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } ، { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } .
وأما المشيئة؛ فهي كونية فقط، ترادف الإرادة الكونية .
فيجب الفرق بينهما .
الثانية : قولكم : " أما أن يصدر أمره عز شأنه بما يكره، ثم يعاقب مرتكبه؛ فبعيد عن مفهوم الإرادة؛ أي : المشيئة " .
ففي هذا القول التصريح منكم بأن الله لا يأمر بشيء يكره ثم يعاقب عليه، وهذا هو قول القدرية الذين ينفون تقدير الله للمعاصي ومعاقبته عليها، وقد غلطهم الأئمة في ذلك وضللوهم، وبينوا أن مصدر هذا هو عدم تفريقهم بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، حيث ظنوا أن كل ما أراده الله؛ فقد رضيه وأحبه، وبناء على ذلك نفوا الإرادة الكونية القدرية تنزيها لله عن الظلم – بزعمهم -، وأنتم نفيتم الأمر الكوني، والمؤدى واحد .
وليس تعذيب العصاة على معاصيهم ظلما لهم، وإن كانت مقدَّرة عليهم، وهم مأمورون بها أمرا كونيا؛ لأنهم يعذبون على أعمالهم التي عملوها باختيارهم وإرادتهم بعد قيام الحجة عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب وتحذيرهم منها، وتقديرها عليهم لا يسوّغ فعلهم، ولا يعفيهم من مسؤوليتها كما تقولون .
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
أن " ما يبلون به من الذنوب وإن كان خلقا لله؛ فهو عقوبة لهم على عدم فعل ما خلقهم الله له، وفطرهم عليه؛ فإنه خلقهم لعبادته وحده، ودلَّ عليه الفطرة، فلما لم يفعلوا ما خُلقوا له وما فُطروا عليه؛ عوقبوا على ذلك . . . " .
إلى أن قال :
" ومن تدبر القرآن؛ تبين له أن عامة ما يذكر الله في خلق الكفر والمعاصي يجعله جزاء لذلك العمل " انتهى . (4).
الثالثة : قولكم في مطلع كلامكم :(1/161)
" مع أن الفرق شاسع بين مجرد صدور الإرادة الإلهية بشيء ما وأمره سبحانه بذلك الشيء " .
أنا لم أقل إنه لا فرق بينهما، بل أقول إن الإرادة غير الأمر، وكل منهما صفة مستقلة .
الرابعة : استدلالكم على نفي الأمر الكوني القدري بقوله تعالى : { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا } ؛ حيث قلتم :
" وسرعان ما يأتي الرد الحاسم القاصم بقوله : { قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء } .
وفي هذا الرد إخبار عام ينفي كل مضاد له، فهو سبحانه إنما يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وكل عمل مرضيٍّ يؤدي إلى صلاح الحياة والأحياء " انتهى .
ونقول : هذا استدلال منكم على نفي الأمر الكوني، وهو استدلال في غير محله، فالآية لا تعني نفي الأمر الكوني، وإنما تعني نفي الأمر الشرعي؛ لأن المشركين يزعمون أن الله قد شرع لهم الطواف بالبيت وهم عراة، فردَّ الله عليهم بأنه سبحانه لم يشرع هذا العمل القبيح، وإنما شرع القسط، وأمر به، وأمر بالإخلاص له في العبادة والدعاء . وبمراجعة تفسير الآية يتبين هذا .
2- الملاحظة الثانية : ما ذكر فضيلتكم من استغراب تقييدنا ما يُتَبَرَّك به من آثار النبي صلى الله عليه وسلم بما انفصل منه في حال حياته من عرقه وريقه وماء وضوئه .
- وأقول : لا غرابة في ذلك؛ لأننا نقصد بذلك الرد على الذين يتبركون بالأماكن التي نزل فيها النبي صلى الله عليه وسلم أو جلس فيها؛ كغار حراء، وغار ثور، وما أشبه ذلك .
وأما ما انفصل من جسده صلى الله عليه وسلم أو لامسه؛ فهذا يُتَبَرَّك إذا وجد وتحقق في حال حياته وبعد موته إذا بقي، لكن الأغلب أن لا يبقى بعد موته، وما يدعيه الآن بعض الخرافيين من وجود شيء من شعره أو غير ذلك؛ فهي دعوى باطلة لا دليل عليها .(1/162)
يقول الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في كتابه " التوسل أنواعه وأحكامه " في ( ص 143 ) : " ونحن نعلم أن آثاره صلى الله عليه وسلم من ثياب أو شعر أو فضلات قد فقدت، وليس بإمكان أحد إثبات وجود شيء منها على وجه القطع واليقين، وإذا كان الأمر كذلك؛ فإن التبرك بهذه الآثار يصبح أمرا غير ذي موضوع في زماننا هذا، ويكون أمرا نظريا محضا، فلا ينبغي إطالة القول فيه " انتهى .
فقول فضيلتكم : " نلتقي على قاعدة الاستمرار لذلك التبرك " لا معنى له، إذ لا وجود لهذه الآثار الآن؛ لتطاول الزمن الذي تبلى معه هذه الآثار وتزول، ولعدم الدليل على ما يُدَّعى بقاؤه منها بالفعل، فلا داعي لهذا التعب الذي تجشمته حفظك الله في سبيل شيء لا وجود له الآن (5).
3 - وما ختمتم به كلمتكم من ذكر ما أشاد به أبو زهرة في حق شيخ الإسلام ابن تيمية، وقلتم : " لعله تدارك لما كتبه في حقه من الهمز والتنقص " .
- فنقول : أولًا : يا فضيلة الشيخ ! هو لم يصرح برجوعه عن الطعن في الشيخ حتى يُغتفر له ما سبق إن قدر سبقه .
وثانيا : هذا لا يمنع من رد ما ذكره في حق الشيخ من السب البذيء في هذا الكتاب؛ لئلا يغتر به من يقرؤه، فما كل الناس يجتمع عنده الكتابان .
وثالثا : لو فرضنا رجوعه عما قال في حق شيخ الإسلام ابن تيمية؛ فهو لم يرجع عما قاله في حق شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ودعوته المباركة، بل إنه حسب علمي جعل في آخر الكتاب الذي أشرتم إليه حيزا كبيرا تحامل فيه على الشيخ محمد ودعوته المباركة .
ونحن لا هدف لنا في شخص أبي زهرة، وإنما هدفنا الدفاع عن الحق وأهله، ونرجو أن الشيخ أبا زهرة تاب مما قال، ورجع عما كتب، ومات على خاتمة حسنة .
وأخيرًا؛ نشكر لفضيلتكم هذا الاهتمام وهذا التنبيه الذي أتاح لنا الفرصة لمذاكرة هذه المواضيع .
ونسأل الله أن يجمع القلوب على التقوى والإيمان، ومعرفة الحق وقبوله؛ إنه سميع مجيب .
وصلى الله على نبينا محمد .(1/163)
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
إبطال نسبة كتاب " أحكام تمني الموت " إلى الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله
اعتراف محققي الكتاب بعدم صحة نسبته إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب :
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده . . وبعد :
فقد نسبنا كتاب " أحكام تمني الموت " إلى شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – بناء على ما توهمناه من أن إحالته إلينا من قبل القائمين على استيعاب مؤلفات الشيخ وإعدادها للنشر، تعني غلبة الظن بنسبته إليه .
وحيث قام فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان – مشكورا – ببيان عدم صحة نسبته إلى الشيخ، وأوضح ذلك إيضاحا تاما، فإننا نؤيد ما توصل إليه، ونعتبر ما وقع من قبيل الخطأ، وأنه لا صحة لنسبة هذا الكتاب إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب .
ونسأل الله أن يغفر لنا خطايانا، إنه هو الغفور الرحيم .
عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين
عبد الرحمن بن محمد السدحان
تقديم معالي مدير الجامعة الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي :
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحابته والتابعين له بإحسان إلى يوم الدين . . وبعد :
عندما عقدت الجامعة العزم على إقامة ندوة علمية موسعه عن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، كان الهدف منها إيضاح حقيقة هذه الدعوة على مستوى العالم الإسلامي، وكشف الشبهات التي أثيرت حولها في بعض البلدان الإسلامية وفي ظل ظروف تاريخية معينة .
وفي سبيل تحقيق هذا الهدف سعت الأمانة العامة للندوة إلي :
( 1 ) التقصي العلمي لكل ما كتبه الشيخ .
( 2 ) مراجعة إنتاجه على يد جماعة من العلماء الثقات .
( 3 ) تصنيف هذا الإنتاج وطبعه وتوزيعه .(1/164)
وقد قامت الأمانة بالبحث عن مؤلفات الشيخ ورسائله المطبوعة والمخطوطة، مستخدمة الوسائل الممكنة في كبريات المكتبات في الداخل والخارج وعند أفراد أسرة الشيخ، وبعض الأشخاص الذين لهم اهتمام خاص به وبدعوته ومؤلفاته فجمعت ما تيسر لها من ذلك .
وكونت من بين أعضائها لجنة لتصنيف هذه المؤلفات والرسائل، قامت بجهود طيبة في إعدادها لطبعها وتوزيعها على المشاركين في الندوة قبل انعقادها بوقت كاف، خاصة من لا تتوافر لديهم مؤلفات الشيخ وآثاره العلمية، ذلك أن وضع ما كتبه الشيخ رحمه الله تحت أيدي الأخوة الباحثين الذين سيشتركون في الندوة أمر ضروري حتى تكون أبحاثهم مبنية على دراسة لآراء الشيخ وآثاره العلمية .
وكان هذا أحد الأسباب التي عجلت بطباعة آثاره العلمية في أحد عشر مجلدا، وبتزويد المشاركين في الندوة بهذه الحصيلة الوافرة أمكنهم التعرف على حياة الشيخ العلمية وحقيقة دعوته . فكانت بحوثهم ذات صبغة علمية موضوعية ومتزنة .
وقد تلقت الجامعة مجموعة من الملحوظات المتصلة بمؤلفاته رحمه الله، ومن بينها أن رسالة : " أحكام تمني الموت " المنشورة في المجلد الثاني من قسم الفقه ليست من تأليف الشيخ لتعارضها مع مؤلفاته الأخرى ورسائله وأجوبته، وأن نسبتها إليه حدثت بطريق الخطأ .
وقد أولت الجامعة هذه الملحوظات جل عنايتها، بل لقد أعطت لمؤلفات الشيخ رحمه الله اهتماما خاصا تمثل في دراستها في اللقاء العلمي المشار إليه، وما صاحب ذلك من جمع ما توافر من مؤلفاته ورسائله، ثم طبع مختارات من بحوث ذلك اللقاء وتوزيعها على مختلف الجهات العلمية .
وكان من نتائج توصيات الندوة، وخلاصة الآراء والمقترحات التي قدمت عن مؤلفات الشيخ رحمه الله، أن اتجهت الجامعة إلي إعادة تحقيق مؤلفات الشيخ وتمحيصها، وحددت الخطوات الآتية :(1/165)
1- تكوين لجنة خاصة في عمادة البحث العلمي لدراسة مؤلفات الشيخ ورسائله، وذلك لإعادة تحقيقها من قبل محققين أكفاء يستطيعون الإفادة من كل الإيجابيات التي حصلت، وتلافي بعض الملحوظات والسلبيات الطفيفة التي صاحبت الطبعة الأولى التي قل أن يخلو منها أي عمل علمي خاصة إذا كان بهذا الحجم الكبير، وتم إعداده وطبعه في مدة وجيزة .
2- كانت نية الجامعة أن تعالج موضوع كتاب " أحكام تمني الموت " ضمن خطتها الخاصة بإعادة تحقيق تراث الشيخ بوجه عام، ولكن ما لحظته الجامعة من طباعة متكررة لهذا الكتاب من بعض المكتبات التجارية منسوبة إلى الشيخ ومستلة من مؤلفاته التي أصدرتها دون إذن منها جعلها تعجل بمعالجة هذا الموضوع قبل سواه، وتدرس الأسباب التي أدت إلى الاهتمام بهذه الرسالة دون غيرها .
3- كلفت الجامعة فضيلة الدكتور صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان، الأستاذ بالمعهد العالي للقضاء وعضو هيئة كبار العلماء في المملكة، بدراسة موضوع نسبة الرسالة إلى الشيخ، فتقصى فضيلته هذا الموضوع وكتب دراسة قيمة أثبت فيها عدم صحة نسبة هذا الكتاب إلى الشيخ، وأن ما حدث كان مرده الخطأ، وسببه ما ورد على ظهر المخطوطة بأنها كتبت بخط محمد بن عبد الوهاب، فالتبس الأمر على القائمين على هذا العمل، وجل من لا يخطئ، والله يعفو عن الخطأ والنسيان .
وقد بادرت الجامعة بإصدار هذه الدراسة التي تثبت عدم صحة نسبة كتاب : " أحكام تمني الموت " لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، ليكون فيها البيان الواضح والجواب الكافي لإزالة أي شك، وليعرف الجميع أن هذا الكتاب ليس من مؤلفات الشيخ، وأن الجامعة لا تسمح لأحد بطباعته أو توزيعه .(1/166)
4- ستتابع الجامعة موضوع إعادة تحقيق مؤلفات الشيخ ورسائله، وهي تدعو كل من لديه أي معلومات مفيدة سواء أكان لما سبق طبعه أم لما لم يصل إلى الجامعة أن يبادر بالاتصال بها ويسلمها ما لديه من معلومات جزاه الله خيرًا، ليخرج العمل متكاملا يفيد منه طلاب العلم والدعاة إلى الله في عالمنا الإسلامي الواسع .
وفي هذا المقام نذكر بالثناء والتقدير والشكر جهود خادم الحرمين الشريفين وولي العهد الأمين وأركان حكومته الرشيدة في مجال الدعوة الإسلامية، ونشر الآثار العلمية وتشجيع العلم والعلماء وطلاب العلم، لما له من الآثار الطيبة بين المسلمين .
وفق الله الجميع لصالح الأعمال ونفع الله بهذا الجهد وأجزل الأجر والثواب لكل من أسهم فيه، إنه قريب مجيب .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحابته والتابعين له بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين .
إبطال نسبة الكتاب إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين . . . وبعد :
فإن جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية قد قامت مشكورة بتحقيق مؤلفات شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وطباعتها، واستقطبت لهذا العمل الجليل مجموعة من الأساتذة والباحثين للقيام بجمع مؤلفات الشيخ المطبوعة والمخطوطة، وتصنيفها حسب الفنون، ومقابلة نسخها، وتخريج نصوصها، وتصحيح تجارب طباعتها، ثم إخراجها بالمظهر المناسب؛ من حسن التجليد وجودة الورق وصحة النص ووضوحه، وهو عمل جليل يليق بمؤلفات الشيخ وآثاره . . .
ولكن لما كان عمل الإنسان مهما بذل فيه من العناية عرضة للنقص والخطأ، فقد وقع في هذا العمل شيء من الخطأ وهو نسبة كتاب " أحكام تمني الموت " إلى الشيخ وهو ليس له . . .
ولعل السبب الذي أوقع في هذا الخطأ عدة أمور :
الأمر الأول : الحرص التام على استيفاء مؤلفات الشيخ .(1/167)
الأمر الثاني : قد يكون في المجموعة الذين وكل إليهم تولي هذا العمل من ليس له إلمام بمؤلفات الشيخ ومنهجه العلمي ممن لم يدرس عقيدة الشيخ ومؤلفاته .
الأمر الثالث : ما كتب على ظهر مصورة مخطوطة هذا الكتاب أنه بخط محمد بن عبد الوهاب، فأوهم ذلك أن المراد بهذا الاسم هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب نتيجة لاتفاق الاسم .
وقد استغل هذا الخطأ غير المقصود بعض أهل الأهواء والمقاصد السيئة، فاستلوا هذا الكتاب من مطبوعات الجامعة دون استئذانها، مخالفين بذلك أنظمة الطباعة، وطبعوه بكميات هائلة، وقاموا بتوزيعه بقصد التشويش، وفي طليعة هؤلاء المكتبة الإمدادية بمكة المكرمة .
ومما يدل على سوء قصدهم، أنهم اختصوا هذا الكتاب المشبوه والمدسوس واهتموا بنشره، لأنه يوافق أهواءهم، وتركوا كتب الشيخ الصحيحة والثابتة نسبتها إليه، لأن مضامينها لا تتناسب مع مقاصدهم السيئة، بل ترد عليها، ولكن كذب ظنهم، وضل سعيهم، وخاب أملهم، فهذا الكتاب نقطع أنه ليس للشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، ونجزم بذلك لعدة أدلة :
الدليل الأول :
أن الذين نسبوه إلى الشيخ لم يعتمدوا على أصل مصحح موثق، وإنما اعتمدوا على مصورة غير واضحة، وفيها طموس وكلمات غير واضحة، ولا شك أن قواعد التحقيق تقتضي إحضار الأصل والتثبت منه، ولا يكتفى بالمصورة، لا سيما وهي غير واضحة .
الدليل الثاني :
أن الكتابة الموجودة على غلاف المصورة لها عبارتان :
العبارة الأولى : تقول : هذا الكتاب في أحكام تمني الموت وما يجوز وما يمنع، بخط محمد بن عبد الوهاب .
العبارة الثانية : تقول : ما في هذا خط الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وفوق هذه العبارة كلمة منطمسة لا تمكن قراءتها، ولا شك أن هذا الطمس لا يمكن معه قراءة هذه العبارة قراءة صحيحة، كما يلاحظ على هاتين العبارتين ما يلي :
أولاً : جهالة الكاتب لهما، وجهالة الكاتب تبطل اعتماد ما كتب .(1/168)
ثانيا : أنه لا يتعين أن يكون المقصود بمحمد بن عبد الوهاب المذكور في العبارتين هو الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب إمام الدعوة السلفية، بل يكون غيره، ويترجح أنه غيره بما يأتي من الأدلة .
ثالثا : تقول إحدى العبارتين : أحكام تمني الموت وما يجوز وما يمنع . . . فلو فرض أن هذا الكتاب للشيخ محمد بن عبد الوهاب فهذه العبارة تدل على أنه لا يرى جواز كل ما جاء فيه، مما يخالف الأدلة الصحيحة والاعتقاد السليم .
رابعاً : لو فرض أن المراد بالمسمى في هاتين العبارتين هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب الإمام المشهور وأن هذا الكتاب بخطه فعلا، فمجرد كونه بخطه لا يدل على أنه من تأليفه، بل يكون من تأليف غيره وقد نسخه ليرد عليه، أو يحذر مما فيه، أو لغير ذلك من الأغراض، فما كل ما وجد بخط العالم يكون من تأليفه أو يكون قد ارتضى ما فيه .
ومما يرجح هذا أمران :
الأمر الأول : أنه ليس فيه للشيخ كلام، وإنما هو مجرد سرد نصوص من أوله إلى آخره .
الأمر الثاني : أن بعض مضامينه، وكثيرا من الأحاديث الواردة فيه، توافق ما في كتاب السيوطي " شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور " ، مما يدل على أن غالبه مستل من هذا الكتاب .
الدليل الثالث :
أن هذا الكتاب يشتمل على أشياء تتعارض مع دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وذلك مثل الكلام في الروح، وتلقين الميت بعد الدفن، والقراءة على القبور، حيث إن الشيخ وتلاميذه وأتباعه يعتبرون هذه الأشياء من البدع المحرمة . . . انظر : " الدرر السنية في الأجوية النجدية " ( 3/249 , 279 ) .
وسننقل فيما يأتي بعض عباراتهم في ذلك .
الدليل الرابع :
أن الكتاب يشتمل على أحاديث غير ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يليق بالشيخ أن يرتضيها أو يستدل بها، وهو المعروف بالتثبت واليقظة والمدافعة عن السنة والتحذير من مثل هذه الأحاديث، والأمر بالاقتصار على ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .(1/169)
ومن هذه الأحاديث حديث التلقين بعد الدفن، وقد ورد ذكره في هذا الكتاب ( ص19 ) ، ونصه :
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا مات أحد من إخوانكم فسويتم التراب عليه فليقم أحدكم على رأس قبره، ثم يقول : يا فلان بن فلانة فإنه يسمعه ولا يجيب، ثم ليقل يا فلان بن فلانة فإنه يستوي قاعدا، ثم يقول : يا فلان بن فلانة فإنه يقول أرشدنا رحمك الله، ولكن لا تشعرون، فليقل اذكر ما خرجت عليه من الدنيا، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأنك رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا وبالقرآن إماما، فإن منكرا ونكيرا يأخذ كل واحد منهما بيد صاحبه ويقول انطلق، ما نقعد عند من لقنا حجته، فيكون الله حجيجه دونهما ) .
قال رجل : فإن لم يعرف أمه ؟ قال : ينسبه إلى حواء، يا فلان بن حواء . . . انتهى .
وهذا الحديث مما ينكره الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتلاميذه . . .
جاء في " الدرر السنية في الأجوبة النجدية " ( 3/250 ) ما نصه :
" هذا حديث لا يصح رفعه، فهذا التلقين لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أنكر المسلمون ذلك في زمننا والله أعلم . . . " .
ومما جاء في الكتاب في ( ص 75 ) : " من دخل المقابر ثم قرأ فاتحة الكتاب، وقل هو الله أحد، وألهاكم التكاثر، ثم قال : إني جعلت ثواب ما قرأت من كلامك لأهل المقابر من المؤمنين والمؤمنات كانوا شفعاء له إلى الله تعالى " . . .
وعن أنس مرفوعا : ( من دخل المقابر فقرأ سورة يس، خفف الله عنهم وكان له بعدد من فيها حسنات ) انتهى .(1/170)
وهذا أيضا مما ينكره الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتلاميذه، جاء في " الدرر السنية " ( 3/279 - 280 ) : " إن القراءة عند القبور، وحمل المصاحف إلى المقبور كما يفعله بعض الناس يجلسون سبعة أيام ويسمونها الشدة، وكذلك اجتماع الناس عند أهل الميت سبعة أيام ويقرءون فاتحة الكتاب، ويرفعون أيديهم بالدعاء للميت فكل هذا من البدع والمنكرات المحدثة التي يجب إزالتها، والحديث المروي في قراءة سورة يس في المقبرة لم يعز إلى شيء من كتب الحديث المعروفة، والظاهر عدم صحته، انتهى .
وجاء أيضا في الكتاب حكايات كثيرة في أحوال الموتى والأرواح وأنواع العذاب في القبور، لا تجوز كتابتها ولا قراءتها، لأن أحوال البرزخ من علم الغيب الذي لا يجوز الكلام فيه إلا بدليل صحيح من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا من أصول العقيدة عند الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وعند غيره من أهل السنة .
قال الشيخ محمد رحمه الله في بيان عقيدته لما سئل عنها :
" واعتقد الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، فأؤمن بفتنة القبر ونعيمه " انتهى من " الدرر السنية " ( 1/29 ) .
ومن هذه الحكايات ما جاء في صفحة ( 47 - 51 ) في تكلم الأموات بعد موتهم، وذلك ما ينزه الشيخ محمد عن كتابته، فضلا عن الاستدلال به، لأن الشيخ إمام جليل لا يجمع ما هب ودب دون تمحيص ودراية، ومن قرأ كتبه ورسائله عرف أن هذا الكتاب يتعارض مع منهجه وأنه لا يليق به، لأنه شديد التمسك بالكتاب والسنة وما عليه الأئمة بعيد كل البعد عن اقتناص الروايات الضعيفة والحكايات الهزيلة من أمثال ما يشتمل عليه هذا الكتاب . . .
يقول رحمه الله في بيان منهجه في معرض إجابته لبعض من سأله عما هو عليه وما يدعو الناس إليه :(1/171)
" أما ما نحن عليه من الدين فعلى دين الإسلام الذي قال الله فيه : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } . . . وأما ما دعونا الناس إليه فندعوهم إلى التوحيد الذي قال الله فيه خطابا لنبيه صلى الله عليه وسلم : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } ، وقال تعالى : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } . . .
وأما ما نهينا الناس عنه فنهيناهم عن الشرك الذي قال الله فيه : { إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ } . . . إلى أن قال : وأما ما ذكرتم من حقيقة الاجتهاد فنحن مقلدون الكتاب والسنة وصالح سلف الأمة وما عليه الاعتماد من أقوال الأئمة الأربعة : أبي حنيفة النعمان بن ثابت ومالك بن أنس، ومحمد بن إدريس، وأحمد بن حنبل، رحمهم الله تعالى . . . إلى أن قال رحمه الله : وما جئنا بشيء يخالف النقل ولا ينكره العقل، انظر : " الدرر السنية " ( 1/62 – 64 ) . . .
وقال أيضا : وأخبرك أني ولله الحمد متبع لست بمبتدع، عقيدتي وديني الذي أدين الله به هو مذهب أهل السنة والجماعة الذي عليه أئمة المسلمين مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم إلى يوم القيامة، " الدرر السنية " ( 1/54 ) .(1/172)
هذا منهجه رحمه الله، فإذا عرضت هذا الكتاب عليه وجدته لا يتناسب معه، لما يشتمل عليه من روايات واهية وحكايات غريبة وبدع مخالفة للسنة، من أمثال تلقين الميت بعد دفنه والقراءة على المقابر وغير ذلك، ومن قرأ هذا الكتاب جزم أنه ليس من مؤلفات شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، ولكن المغرضين أرادوا أن يتخذوه حجة لهم في الطعن على الشيخ , أو التبرير لما هم عليه من البدع أو غير ذلك من الأغراض، ولكنها والحمد لله حجة داحضة وكرة خاسرة .
الدليل الخامس :
على بطلان نسبة هذا الكتاب إلى الشيخ ما فيه من الخلل والقصور في فن التأليف , فموضوعه يخالف عنوانه، فلا يتطابق مما جاء فيه مع العنوان إلا أحاديث يسيرة في أول الصفحة الأولى، وبقية الكتاب خارجة عن الموضوع .
ثم هو مجرد سرد أحاديث من غير بيان لدرجتها ومن غير تبويب لموضوعاتها، وفيه من الركاكة وضعف التأليف دلالة واضحة على بطلان نسبته إلى الشيخ إذا قورن بمؤلفاته المعروفة - والله أعلم - .
الدليل السادس :(1/173)
أن هذا الكتاب يختلف محتواه عن طريقة الشيخ في تعليم الناس، لأنه رحمه الله كان يرى وجوب الاهتمام بشأن العقيدة وتصحيحها، ومعرفة ما يضادها أو يخل بها، وكان ما يكتبه أو يختاره من الكتب يدور حول هذا الموضوع، ويركز على ما فيه نفع للناس، ويكره الاشتغال بالكتب التي تشوش على الناس في أمر دينهم أو يقل نفعها لهم، قال حفيده الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله، في كتابه " فتح المجيد " صفحة ( 420 ) ، في شرح قول علي رضي الله عنه : حدثوا الناس بما يعرفون، قال : وقد كان شيخنا المصنف رحمه الله لا يحب أن يقرأ على الناس إلا ما ينفعهم في أصل دينهم وعباداتهم ومعاملاتهم الذي لا غنى لهم عن معرفته , وينهاهم عن القراءة في مثل كتب ابن الجوزي ك- " المنعش " و " المرعش " و " التبصرة " , لما في ذلك من الإعراض عما هو أوجب وأنفع , وفيها ما الله به أعلم مما لا ينبغي اعتقاده , والمعصوم من عصمه الله . . .
وكان أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان ينهى القصاص عن القصص , لما في قصصهم من الغرائب والتساهل في النقل وغير ذلك , ويقول : " لا يقص إلا أمير أو مأمور " , وكل هذا محافظة على لزوم الثبات على الصراط المستقيم علما وعملا ونية وقصدا , وترك كل ما كان وسيلة إلى الخروج عنه من البدع ووسائلها والله الموفق للصواب ولا قوة إلا بالله . . . انتهى .
فإذا كانت هذه طريقة الشيخ فيما ينبغي أن يقرأ من الكتب , وما ينبغي أن يترك مما يؤثر على عقائد الناس , فكيف يؤلف كتابا من هذا القبيل مشحونا بالروايات الواهية والحكايات الغريبة , ولا سيما في موضوع حال البرزخ التي هي من علم الغيب الذي لا يجوز الكلام فيه إلا بما ثبت عن الله ورسوله , ولا يجوز الاعتماد فيه على الأحاديث الضعيفة والمعلومة والحكايات والمنامات , مما يشمل عليه هذا الكتاب المشبوه .(1/174)
إن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب أبعد ما يكون عن موضوع هذا الكتاب , وكل من قرأ كتبه وعرف منهجه العلمي والعملي يجزم بنفي هذا الكتاب عنه وبراءته منه , وكل يعلم أنه لا يكفى في نسبة الكتاب إلى شخص ما وجوده بخطه لو فرضنا أن هذا الكتاب بخط الشيخ , فقد ينسخ العالم مؤلفا لغيره وهو لا يرتضيه , إما للرد عليه والتحذير منه أو لغير ذلك من الأغراض , وكان أهل العلم ينسبون الكتب إلى مؤلفيها عن طريق الرواية بالسند المتصل إليهم أو عن طريق الاستفاضة التي تغني عن السند مع مطابقة تلك الكتب لمنهجهم العلمي , أما أن ينسب كتاب إلى شخص لمجرد توهم أنه بخطه فليس هذا من التحقيق العلمي في شيء , ولا هو من منهج العلماء . . .
الدليل السابع :
أن هذا الكتاب لم يرد ذكره في مؤلفات الشيخ , فكل الذين كتبوا عن الشيخ قديما وحديثا وذكروا مؤلفاته لم يذكروا هذا الكتاب منها ومن أوثق هؤلاء وأقدمهم الشيخ حسين بن غنام , وهو من تلاميذ الشيخ الذين أخذوا العلم عنه , وأرخ لدعوته وسيرته في كتابه المشهور " روضة الأفكار والأفهام " , وذكر مؤلفات الشيخ ورسائله ولم يذكر هذا الكتاب منها , وقد عاش بعد الشيخ وأرخ لوفاته ورثاه لما مات , حتى لا يقال لعل كتابة ابن غنام متقدمة، وهذا الكتاب جاء بعده . . .
وكذلك الشيخ عبد الرحمن بن قاسم لم يذكر هذا الكتاب في مؤلفات الشيخ لما ترجم له في كتاب " الدرر السنية " وذكر مؤلفاته، وقد قرأ هذا الكتاب وهذه الترجمة على أكابر نجد من ذرية الشيخ وغيرهم، وهم الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ سعد بن حمد بن عتيق، والشيخ عبد العزيز العنقري، وكتبوا عليه تقريظات، ولو كان هذا الكتاب : " أحكام تمني الموت " من مؤلفات الشيخ لاستدركوه عليه وأمروه بذكره، فهذا دليل قاطع على أنه ليس منها .
الدليل الثامن :(1/175)
أن مجرد وضع اسم شخص على كتاب لا يدل على أنه من تأليفه، بل قد يوضع خطأ أو دسا عليه، في حين أن الذي وضع اسم محمد بن عبد الوهاب على هذا الكتاب لم يقل إنه من تأليفه، وإنما قال هذا الكتاب بخطه .
والعنوان الذي جاء على ظهر المطبوعة وهو : " أحكام تمني الموت " تأليف شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، إنما هو من تصرف المصححين أو المشرفين على الطباعة من غير تثبت ولا برهان، وقد أخطئوا في هذا خطأ واضحا وخالفوا قواعد التحقيق العلمي وجاءوا بتعبير من عند أنفسهم ليس موجودا على ظهر المصورة التي اعتمدوا عليها .
ولا أظن أنه بعد هذا البيان يبقى أدنى شك عند من يريدون الحقيقة أن هذا الكتاب ليس من تأليف شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب .
أما الذين يريدون المغالطة ويتصيدون الشبهات فلا سبيل إلى إقناعهم، لأنهم لا يريدون الحق ومن لا يريد الحق فلن تستطيع هدايته إليه .
{ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا } ، ولا حول ولا قوة إلا بالله وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين . . .
الرد على السيابي في تعقيبه على فتوى شيخنا الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز في حكم من نفى الرؤية وقال بتخليد العصاة في النار وأن القرآن مخلوق
الحمد لله معز من أطاعه واتقاه، وخاذل من خالف أمره وعصاه .
والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه واقتفاه .
وبعد :
فقد اطلعت على نبذة كتبها أحمد بن سعود السابي تحت عنوان : " الرد على فتوى الشيخ عبد العزيز بن باز في حكم الصلاة خلف من ينفي رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة في الجنة، ويخالف ما جاء في الكتاب والسنة من إثبات ذلك ووجوب الإيمان به " .(1/176)
وقد وجدت السيابي تحامل على شيخنا الشيخ ابن باز، وأقذع في رده بالسباب والكلمات النابية مما ليس هو من أسلوب العلماء، وإنما هو أسلوب المفلسين الذين لا يملكون دليلا ولا حجة صحيحة يؤيدون بها قولهم؛ فإنهم يلجئون إلى مثل هذا الأسلوب، لعله يعوض ما عندهم من عجز وإفلاس .
مضمون فتاوى الشيخ عبد العزيز وموقف السيابي منها والرد عليه :
إن الشيخ ابن باز قد ذكر في هذه الفتوى ما دل عليه الكتاب والسنة وما قاله الأئمة؛ كالإمام مالك، والأوزاعي، وسفيان بن عيينة، والبخاري، وعبد الله بن المبارك، وإسحاق بن راهويه، والإمام أحمد، وما نقله شيخ الإسلام ابن تيمية عن جمهور السلف من تكفير من أنكر رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة ووجوب قتله .
وقد بنى الشيخ عبد العزيز بن باز على ذلك أنه لا يُصلَّى خلفه، وهو بناء وجيه، وقال : إنه بحث في هذه المسألة مع مفتي الإباضية الشيخ أحمد الخليلي، فاعترف أنه لا يؤمن برؤية الله في الآخرة، وأنه يعتقد أن القرآن مخلوق، وذكر أنه نصحه، فأصر على هذا الاعتقاد الذي قال فيه الأئمة ما سبق بيانه .
وقد غضب كاتب هذه النبذة أحمد السيابي من هذه الفتوى ووصفها بأنها صادرة عن حقد مذهبي، وعصبية مظلمة، وضمائر متعفنة ! !
وهذه الألفاظ كما قلنا هي نموذج من بضاعة المفلسين من الحجج الصحيحة والأدلة المقنعة، وهي في الحقيقة تنطبق على من صدرت منه، حيث تعصب لمذهبه الباطل، وأبى أن يتبع الكتاب والسنة، ويسير في موكب أهل العلم والإيمان من أئمة الدين، وأظهر ما يكن في صدره من الحقد الأسود والضغائن المرة .
دعوته إلى كتمان الحق عمن سأل عنه :
قال السيابي :(1/177)
" ولعل القارئ ستأخذه الدهشة ويذهب به الاستغراب كل مذهب عندما يجد أن هذه الفتوى موجهه إلى أحد الأشخاص الموجودين في الديار الأمريكية، ذلك البلد الذي يعتبر فيه أبناء الإسلام كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، فهم بحاجة كبيرة إلى من يرشدهم إلى الألفة والمحبة والتآخي؛ لتكوين وحدة إسلامية قادرة على الوقوف والصمود في وجه قذائف الباطل الموجهة من جنبات منظمات اللوبي الصهيوني " انتهى كلامه .
- هكذا قال ! ! حيث لم يجد جوابا عن فتوى الشيخ سوى أنه لا يناسب توجيهها إلى من هو في أمريكا بين الكفار؛ لأن المسلمين بحاجة إلى الاتحاد للوقوف في وجه العدو؛ كما يقول .
والجواب عن هذا من وجوه :
الوجه الأول : أن الحق يجب أن يقال ويبين للناس، والباطل يجب أن يرد في كل مكان، كما أمر الله بذلك؛ { لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } .
وشيخنا – حفظه الله – لم يوجه هذه الفتوى ابتداء حتى أتاه السؤال الملح، فهل يليق به أن يسكت ويكتم العلم ويترك السائل في جهله، لا سيما في هذه المسألة الخطيرة التي تتعلق بأعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي الصلاة ؟ !
إننا لو أخذنا بقول هذا المعترض، وسكت العلماء عن بيان الحق للناس؛ لضاع الحق، واستطال الباطل، وقُضِيَ على الدين، وهذا ما يفرح به الكفار في أمريكا وغيرها . . .
الوجه الثاني : أن نقول : إن اجتماع المسلمين واتحادهم ووقوفهم في وجه عدوهم أمر مطلوب وهدف نبيل؛ ولكن هذا لا يتحقق؛ إلا إذا اعتصموا بكتاب ربهم وسنة نبيهم، وتركوا المذاهب الباطلة والأقوال الخاطئة، ولا سيما في العقيدة التي هي أساس الدين ومدلول الشهادتين .
وقال تعالى : { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ } .
وحبل الله هو القرآن العزيز .
وقال تعالى : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } .(1/178)
فأوجب سبحانه الرجوع إلى الكتاب والسنة؛ لحسم النزاع، وقطع دابر الخلاف، ولم يقل : ليبقى كل واحد على رأيه المخالف للكتاب لأجل الوحدة؛ الوحدة لا تمكن إلا باتخاذ الأسباب المؤدية إليها، ومن أعظم تلك الأسباب :
ترك المذاهب الباطلة، والانحرافات المضلة، وما لم تترك؛ فالوحدة متعذرة .
قال تعالى : { فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } .
وهذا ذم لهم على بقائهم على تفرقهم في الدين، ومقالاتهم الخاطئة .
الوجه الثالث : أن التفرق في العقيدة لا يمكن معه الاجتماع، وفضيلة السيابي يدعونا للبقاء على تفرقنا في العقيدة، ثم يطالبنا بالاتحاد أمام عدونا، وهذا تناقض ظاهر، تأخذ القارئ منه الدهشة، ويذهب به الاستغراب كل مذهب .
وأما فتوى الشيخ عبد العزيز، فإنها تدعو إلي القضاء على الأسباب التي تمنع تحقق الوحدة بين المسلمين، ومن أهما : المذاهب المنحرفة، والنحل الضالة .
فما وجه الغرابة والدهشة التي ادعاها السيابي فيها ؟ !
إنه قبل ظهور هذه المذاهب والنحل، ويوم أن كان المسلمون على عقيدة واحدة، واعتماد على الكتاب والسنة، وهم أمة واحدة، وقد وقفوا صفا واحدا أمام عدوهم، وفتحوا البلاد، وسادوا العباد بالعلم والدين؛ مصداقًا لقوله صلي الله عليه وسلم : ( إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله وسنتي ) .
وقوله صلي الله عليه وسلم : ( فإنه من يعش منكم؛ فسيرى اختلافا كثيرا؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي؛ تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ) .
وقد نقل السيابي في رده أبياتا هي حجه عليه، لأن الشاعر فيها يدعو إلى ترك المذاهب الضالة، والرجوع إلى ما دل عليه الكتاب والسنة، حيث يقول فيها :
وما الدين إلا واحد والذي نرى ** ضلالات أتباع الهوى تتقارع(1/179)
وما ترك المختار ألف ديانة ** ولا جاء في القرآن هذا التنازع
فيا ليت أهل الدين لم يتفرقوا ** وليت نظام الدين للكل جامع
فمضمون هذه الأبيات إنكار المذاهب الباطلة، والدعوة إلى تركها، ومن أعظمها : إنكار رؤية الله في الآخرة، وإنكار صفات الله عز وجل التي من أعظمها كلامه، وأن هذا ليس مما جاء به المختار صلى الله عليه وسلم .
وما قال هذا الشاعر هو ما يدعو إليه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
وهذا ما يدعو إليه كل عالم محقق وداع إلى الله على بصيرة .
أما الذي يدعو إلى عدم إنكار المذاهب الباطلة، والعقائد الفاسدة؛ فهذا يدعو إلى التفرق والتفكك .
زعمه أن الشيخ لم يورد أدلة على فتواه، والرد عليه :
قال السيابي :
" من الغرائب الواردة في سياق الفتوى – والفتوى كلها غرائب – أن صاحبها سرد فيها أقوال علماء دون الاستناد إلى نص من الكتاب أو السنة الصحيحة، مع أن قول العالم – حسب ما قرر في أصول المذاهب الأربعة – يحتج له، ومن قولهم : إن قول النبي صلى الله عليه وسلم يحتج به، وقول العالم يحتج له، ولكن فضيلته رأى أن النصوص لا تساعده على مراده، ولا تسعفه بمطلوبه؛ فلجأ إلى أقوال العلماء مستعرضا لهم من مالك بن أنس إلى ابن تيمية . . . " .
- والجواب عن ذلك من وجوه :
الوجه الأول : أن الكاتب عميت عيناه أو زاغ بصره عن الآية الكريمة التي استدل بها العلماء الذين ساق الشيخ ابن باز أقوالهم في حكم منكر الرؤية، وهي قوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } وقد كتب بالخط العريض في الفتوى مرتين ! !
كما عميت عيناه – إن كان له عينان – أو زاغ بصره عن الآيات الثلاث التي كتبت في الفتوى، وهى قوله تعالى :
{ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ } .(1/180)
قال ابن المبارك : " ما حجب الله عنه أحداً، إلا عذبه " ، ثم قرأ هذه الآيات .
وقال الإمام الشافعي رحمه الله : " في هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرونه " .
قال ابن كثير : " وهذا الذي قاله الإمام الشافعي رحمه الله في غاية الحسن، وهو استدلال بمفهوم الآية " .
كما أن السيابي لم ينظر إلى ما ذكر في الفتوى من تفسير قوله تعالى : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } , وأن الزيادة فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بالنظر إلى وجه الله؛ كما رواه مسلم وجماعة من الأئمة؛ ذكر ذلك الحافظ ابن كثير، وقال :
" وقد روي تفسير الزيادة بالنظر إلى وجهه الكريم عن : أبي بكر الصديق , وحذيفة بن اليمان , وعبد الله بن عباس , وسعيد بن المسيب , وعبد الرحمن بن أبي ليلي , وعبد الرحمن بن سابط , ومجاهد , وعكرمة , وعامر بن سعد , وعطاء , والضحاك , والحسن , وقتادة , والسدي , ومحمد بن إسحاق . . . . وغيرهم من السلف والخلف , وقد وردت فيه أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " .
ثم ساق بعضًا منها .
وقد حكم الأئمة الذين ذكرهم الشيخ عبد العزيز في فتواه بكفر من أنكر الرؤية ووجوب قتله .
فإذا كان السيابي لا يقنع بتلك الأدلة ولا بأقوال هؤلاء الأئمة، وإنما يقتنع بقول جهم وجماعته؛ فليختر لنفسه ما شاء، لكن لا يغضب إذا خالفه طالب الحق .
الوجه الثاني : أن الشيخ عبد العزيز لم يُسأل عن ثبوت الرؤية حتى يورد الأدلة على ثبوتها؛ لأن السائل والحمد لله يؤمن بها، وإنما سُئل عن حكم الصلاة خلف من أنكرها، فذكر أقوال الأئمة في تكفير من أنكر الرؤية، وبنى عليها الحكم بعدم صحة الصلاة خلفه .
وهذا هو الجواب المطابق للسؤال وهذا هو الإنصاف والتحقيق، حيث لم يتسرع الشيخ وفقه الله بإصدار الفتوى حتى راجع كلام أهل العلم والتحقيق المبني على صريح الكتاب والسنة، حتى لا يقال : هذا رأيك الخاص، أو هذا تحامل منك، أو ما أشبه ذلك . . .(1/181)
الوجه الثالث : في الجواب عن قول السيابي : " إن قول العالم يحتج له ولا يحتج به، ولكن فضيلته ( يعني : الشيخ عبد العزيز بن باز ) رأى أن النصوص لا تساعده على مراده، ولا تسعفه بمطلوبه، فلجأ إلى أقوال العلماء . . . " الخ .
نقول : أولا : ما قلته من أن أقوال العلماء يحتج لها ولا يحتج بها قول صحيح وقاعدة ثابتة ولكنك لم تطبق ذلك على نفسك، ولم تلتزم به؛ فإنك قبلت قول علماء أخطئوا في نفي الرؤية، ورفضت الأدلة الدالة على ثبوتها في الكتاب والسنة .
ثانيا : قولك : " إن النصوص لا تساعد الشيخ عبد العزيز على مراده ولا تسعفه بمطلوبه -الذي هو إثبات رؤية المؤمنين لربهم عز وجل يوم القيامة- " هو قول باطل، ومكابرة للحقائق؛ لأن النصوص المتواترة من الكتاب والسنة دلت على ثبوت رؤية المؤمنين لربهم عز وجل يوم القيامة :
فمن أدلة القرآن الآيات التي سبق ذكرها .
ومن السنة الصحيحة قوله صلى الله عليه وسلم : ( إنكم سترون ربكم عز وجل كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته " . الحديث متفق عليه بين البخاري ومسلم .
وقد تواترت الأحاديث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أحاديث في الصحاح والسنن والمسانيد، وتلقتها الأمة بالقبول والتسليم،ولم ينكرها إلا المبتدعة الضالون .
ما تثبت به العقيدة في نظر السيابي والرد عليه :
قال : " ولا يخفى على أولي العلم والنظر أن العقيدة هو -كذا قال، والصواب : هي- الاعتقاد الجازم الذي هو ثمرة اليقين لا يثبت إلا بالدليل القطعي، ولا يفيد القطع إلا القرآن العظيم والسنة المتواترة .
- والجواب عن ذلك أن نقول : إن رؤية المؤمنين لربهم عز وجل قد ثبتت بالقرآن في عدة آيات سبق ذكر بعضها، وثبتت بالسنة المتواترة، ولكنك خالفت هذه القاعدة، وأنكرت الرؤية، فتناقضت مع نفسك، وهدمت ما بنيت؛ اتباعا للهوى، وتقليدا للرجال من غير دليل .
من عوامل صحة الحديث في نظره، والرد عليه :(1/182)
قال : " ومن أهم عوامل صحة الحديث موافقته لكتاب الله؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( ما جاءكم عني؛ فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه؛ فعني، وما خالفه؛ فليس عني ) . رواه الإمام الربيع من طريق ابن عباس رضي الله عنهما، وهو يرشد إليه قوله عز من قائل : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } " .
- والجواب عن ذلك من وجوه :
الوجه الأول : أن نقول له : إن رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة لم تثبت بالسنة وحدها، بل ثبتت في القرآن أيضا في آيات كثيرة، ذكرنا بعضها فيما سبق، وثبتت بالسنة المتواترة فيكون ما ثبت بالسنة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من رؤية المؤمنين لربهم موافقا لما ثبت في القرآن، فتكون الرؤية قد تضافرت بثبوتها أدلة الكتاب والسنة المتواترة، فينطبق عليها ما ذكرت من الحديث على فرض صحته، ومع هذا؛ خالفته فتناقضت مع نفسك . . .
الوجه الثاني : قوله : " إن العقيدة لا تثبت إلا بالسنة المتواترة " قول غير سليم، بل تثبت العقيدة بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ سواء كان متواترا أو آحادا، لا فرق؛ لأن هذا التفريق مبتدع، فما زال العلماء يعملون بأخبار الآحاد الصحيحة في العقائد وغيرها .
قال العلامة ابن القيم :
" ولم يكن أحد من الصحابة ولا أهل الإسلام بعدهم يشكون فيما يخبر به أبو بكر الصديق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وأبو ذر وعبادة بن الصامت وعبد الله بن عمر . . . وأمثالهم من الصحابة، بل كانوا لا يشكون في خبر أبي هريرة –مع تفرده بكثير من الحديث-، ولم يقل له أحد منهم يوما واحدا من الدهر : خبرك خبر واحد لا يفيد العلم " .
الوجه الثالث : أنه لا يُتَصَوَّر أن يرد عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم حديث صحيح يكون مخالفا للقرآن، أو ينفي ما أثبته .(1/183)
قال الإمام ابن القيم في كتاب " الطرق الحكيمة " ( ص73 ) :
" والذي يجب على كل مسلم اعتقاده أنه ليس في سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة سنة واحدة تخالف كتاب الله، بل السنن مع كتاب الله على ثلاث منازل :
المنزلة الأولى : سنة موافقة شاهدة بنفس ما شهدت به الكتب المنزلة .
المنزلة الثانية : سنة تفسر الكتاب، وتبين مراد الله منه، وتقيد مطلقه .
المنزلة الثالثة : سنة متضمنة لحكم سكت عنه الكتاب، فتبينه بيانا مبتدأ .
ولا يجوز رد واحدة من هذه الأقسام الثلاثة، وليس للسنة مع كتاب الله منزلة رابعة . . . " انتهى .
وقال في " إعلام الموقعين " ( 2/288 – 289 ) بعد أن ذكر هذه المنازل، وسماها أوجهًا :
" الثالث أن تكون موجبة لحكم سكت القرآن عن إيجابه، أو محرمة لما سكت عن تحريمه .
ولا تخرج عن هذه الأقسام، فلا تعارض بوجه ما، فما كان منها زائدة على القرآن؛ فهو تشريع مبتدأ من النبي صلي الله عليه وسلم، تجب طاعته فيه، ولا تحل معصيته، وليس هذا تقديما لها على كتاب الله، بل امتثال لما أمر الله به من طاعة رسوله، ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطاع في هذا القسم؛ لم يكن لطاعته معنى، وسقطت طاعته المختصة به، وأنه إذا لم تجب طاعته إلا فيما وافق القرآن لا فيما زاد عليه؛ لم يكن له طاعة خاصة تختص به، وقد قال الله تعالى : { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } " انتهى .
الوجه الرابع : أن الحديث الذي ذكره لا يصلح للاحتجاج .
قال السيوطي في كتاب " مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة " :
" قال الشافعي : احتج عليَّ بعض من رد الأخبار بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله " . . . الحديث . فقلت له : ما روى هذا أحد ثبت حديثه في شيء صغير ولا كبير، وإنما هي رواية منقطعة عن رجل مجهول، ونحن لا نقبل مثل هذه الرواية في شيء " انتهى .
وقال في مقدمة هذا الكتاب :(1/184)
" وإنما مما فاح ريحه في هذا الزمان –وكان دارسا بحمد الله منذ أزمان– هو أن قائلا رافضيا زنديقا في كلامه أن السنة النبوية والأحاديث المروية –زادها الله علوا وشرفا– لا يحتج بها، وأن الحجة في القرآن خاصة، وأورد على ذلك حديث : " ما جاءكم عني فاعرضوه على القرآن، فإن وجدتم له أصلا فخذوا به، وإلا فردوه " . هكذا سمعت هذا بجملته منه، وسمعه منه خلائق غيري، فمنهم من لا يلقي لذلك بالا، ومنهم من لا يعرف أصل هذا الكلام، ولا من أين جاء، فأردت أن أوضح للناس أصل ذلك، وأبين بطلانه وأنه من أعظم المهالك " .
تعجب السيابي من كون أهل السنة لا يعملون بقول الخوارج في الخروج على الولاة :
قال السيابي :
" والبعض من أولئك العلماء – الذين حكى عنهم فضيلته الأقوال الحماسية الملتهبة بقتل منكر الرؤية – لم يثبت عنهم أنهم قاموا بذلك، وأمروا به في مواجهة الجَوَرَة الظلمة الذين استعبدوا عباد الله، واتخذوهم خولا ومال الله دولاً . . . " الخ ما قال .
- نقول : هذا القول يتمشى مع منطق الخوارج الذين يرون الخروج على الأئمة الظلمة، وأهل السنة لا يرون ذلك؛ امتثالا لأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة لولاة الأمور، وإن جاروا، وإن ظلموا؛ ما لم يصدر منهم كفر بواح .
وأيضا هو سوى بين جور الولاة وبين القول بنفي الرؤية، وهذا يدل على جهله أو على تلبيسه؛ فإن جور الولاة لا يقتضي الكفر، ونفي الرؤية يقتضي الكفر؛ لأنه تكذيب لله ولرسوله ولما عليه أئمة المسلمين .
إنكار السيابي لعلاقة الإباضية بالجهمية والرد عليه :
قال السيابي :
" يركز صاحب الفتوى -يعني : الشيخ عبد العزيز- على أن كل من ينكر رؤية الله تعالى؛ فهو جهمي، فما علاقة الإباضية بالجهمية ؟ ! إن جهم بن صفوان وأصحابه لم تظهر آراؤهم إلا في الربع الأول من القرن الثاني الهجري، وأئمة الإباضية وعلماؤهم كانوا في القرن الأول الهجري " .(1/185)
إلى أن قال : " وهل موافقة الجهمية للإباضية في إنكار الرؤية – ولعلها المسألة الوحيدة التي وفق الله الجهمية إلى قول الحق فيها – تجعل الجهمية من الإباضية أو الإباضية من الجهمية ؟ " .
- والجواب عن ذلك :
أولا : إن الذي قال : " من لم يؤمن بالرؤية؛ فهو جهمي " ليس هو صاحب الفتوى، وإنما هو سفيان بن عيينة والإمام أحمد، والشيخ عبد العزيز نقل ذلك عنهم .
ثانيا : إن الجهمية هم الذين شهروا ونشروا القول بنفي الأسماء والصفات من الرؤية وغيرها، فنسب القول إليهم بهذا الاعتبار، وإن كان الإباضية – كما قال المعترض – لهم السبق في نفي الرؤية قبل وجود الجهمية، وأن الله وفق ( ! ) الجهمية لاتباعهم في هذا الضلال؛ فهو شر لا يحسدون عليه كلهم، وبئس التابع وبئس المتبوع في مخالفة كتاب الله وسنة رسوله، وما عليه أئمة المسلمين، { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ } .
وقد ذكر الله عن الأحزاب الضالة أنها تفرح بما عندها من الضلال، فقال : { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } .
نظرة السيابي إلى أدلة أهل السنة على إثبات الرؤية والرد عليها :
قال السيابي : " إن الحجة التي يستند إليها الكثير من أولئك العلماء الذين ذكرهم الشيخ ابن باز نقلا عن ابن القيم هي قوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } .
والشيخ ابن باز يستأنس بهذا الاحتجاج أيما استئناس، والسؤال هو : أي دليل له في هذه الآية بثبوت رؤية الله عز وجل، ومذهبه قائم على إنكار المجاز في القرآن، والمتأمل يرى أن الآية الكريمة قد أسندت النظر إلى الوجوه ؟ فهل تكون الرؤية بالوجه ؟ إن هذا لم يثبت في كلام العرب على الإطلاق وإنما تكون الرؤية بالعين . . . " الخ ما قال .
- والجواب عن ذلك أن نقول :(1/186)
أولا : ليست الحجة التي يستند إليها العلماء في إثبات الرؤية مقصورة على الآية المذكورة، وإن كانت كافية، بل هناك آيات وآيات وأحاديث متواترة في إثبات الرؤية .
ثانيا : قوله : " إن الآية الكريمة قد أسندت النظر إلى الوجوه، فهل تكون الرؤية بالوجه ؟ " ؛ هذا من المغالطة المضحكة؛ لأن أحدا مهما بلغ من الغباوة لا يفهم هذا الفهم الذي ذكره، وإنما يفهم كل أحد أن الوجوه تنظر بأعينها؛ كما إذا قلت : رأيت زيدا ونظرت إليه، فهل يفهم أحد أنك رأيته بجسمك ؟ ! أو لا يفهم إلا أنك رأيته بعينيك ؟ !
لكنها المغالطة الفارغة .
اعتراض بارد ورده :
قال السيابي متسائلا :
" ما هي المناسبة التي بين هذه الآية : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } ، وبين الآية التي بعدها : { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } إذا فسر قوله تعالى : { إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } بالرؤية، وإن خير ما يفسر القرآن هو القرآن، فالله تعالى يقول في أخر سورة عبس : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ } ؛ مفسرا لقوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } " .
- والجواب على ذلك من وجهين :
الوجه الأول : أن المناسبة بين قوله تعالي : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } وبين الآية التي بعدها : { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ } : أنه سبحانه لما ذكر ما يكرم به أولياءه من نضرة الوجوه وحسنها وما تنعم به زيادة على ذلك من النظر إلى وجهه الكريم؛ ذكر حالة أعدائه، وما يلقونه من العذاب الأليم الذي يظهر أثره على وجوههم، وأعظم ذلك حرمانهم من رؤية ربهم عز وجل؛ كما قال تعالى : { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } .(1/187)
وكثيرا ما يقارن الله سبحانه في كتابه بين حال أهل السعادة وحال أهل الشقاوة في الآخرة؛ ليذكر عباده، حتى يأخذوا بأسباب السعادة، ويتركوا أسباب الشقاوة .
الوجه الثاني : أن آية عبس : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ } ليست مفسرة لقوله تعالى : { إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } ؛ كما يقول؛ لأن النظر غير الإسفار، فالنظر يكون بالعين، والإسفار لون يظهر على الوجه، وربما يكون نتيجة للنظر إلى الشيء السار المفرح، فالمؤمنون يجمع الله لهم بين نضرة الوجوه وإسفارها، ونظر العيون إلى وجهه الكريم .
ثم إن هذا التفسير الذي ذكره لم يقل به أحد يعتمد على قوله من المفسرين .
تعلقه بنفي عائشة رضي الله عنها رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج؛ ليحتج على نفي الرؤية في الآخرة :
ثم يمضي السيابي في مغالطاته فيقول :
" كما أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها استدلت بقوله تعالى : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } على نفي رؤية النبي صلي الله عليه وسلم ربه في جوابها لمسروق في الحديث الذي رواه الربيع والبخاري ومسلم " .
ثم إنه أراد دفع الإجابة الصحيحة عن هذه المغالطة، فقال :
" فإن قيل : إن ذلك الاستدلال كان على نفيها في الدنيا لا في الآخرة .
فالجواب عن ذلك من وجهين :
الوجه الأول : أن صفات الله تعالى لا تتغير ولا تتبدل، فهي في الأزل، وفيما لا يزال، إذ إن التغير من سمات الحدوث، وهو شأن المخلوقين .
الثاني : أن منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم في قاب قوسين أو أدنى يمكن أن تقاس على منزلته في الآخرة؛ لأن رحلة الإسراء والمعراج كانت نقلة من جو إلى جو آخر، ومن مقام إلى مقام آخر، فلو كانت رؤيته تعالى ممكنة وجائزة؛ لرأى الرسول صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء والمعراج " .
- والجواب عن ذلك من وجوه :(1/188)
الوجه الأول : أن عائشة رضي الله عنها قطعا تريد من هذا النفي نفي رؤيته في الدنيا ولا تريد نفي ما ثبت بالأدلة القاطعة من رؤيته في الآخرة، وصانها الله عما نَسَبْتَه إليها من مخالفة كتاب الله وسنة نبيه، وقد ظننت بها سوءا، وحمَّلْتَها ما لم تقل، ولو كانت أرادت ما ذكرت – وحاشاها من ذلك -؛ لرد عليها الصحابة بالآيات والأحاديث المثبتة للرؤية في الآخرة، فهم أجلّ من أن يسكتوا على ما يخالف الكتاب والسنة، وأن يجاملوا أحدا في ذلك .
قال الإمام ابن كثير رحمه الله :
" ولهذا كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تثبت الرؤية في الدار الآخرة وتنفيها في الدنيا، وتحتج بهذه الآية " .
الوجه الثاني : أن نفي رؤية الله في الدنيا وإثباتها في الآخرة ليس تغيرا أو تبدلا في صفات الله؛ كما توهمت، وإنما هو تغير لصفات المخلوق؛ من كونه لا يقوى على رؤية الله في الدنيا؛ لضعف قواه وحواسه، ثم يقوى على ذلك في الآخرة؛ لما يمنحه الله من الاستعداد لذلك، وأحوال الآخرة غير أحوال الدنيا، فقياسك لحالة الدنيا على حالة الآخرة قياس مع الفارق، والقياس إذا كان مع الفارق؛ فهو قياس باطل بالإجماع .
الوجه الثالث : أن قوله تعالى : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } ليس نفيا للرؤية، وإنما هي نفي للإدراك، وهو الإحاطة، فالأبصار تراه في الآخرة، ولا تحيط به سبحانه .
ولهذا استدل أهل السنة بهذه الآية على إثبات الرؤية؛ لأن نفي الإدراك يلزم منه وجود الرؤية، والإدراك أخص من الرؤية، ولا يلزم من نفي الأخص انتفاء الأعم .
قال الإمام ابن كثير :(1/189)
" ونفي الإدراك الخاص لا ينفي الرؤية يوم القيامة . يتجلى لعباده المؤمنين كما يشاء، فأما جلاله وعظمته على ما هو عليه تعالى وتقدس وتنزه؛ فلا تدركه الأبصار، ولهذا كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تثبت الرؤية في الدار الآخرة وتنفيها في الدنيا، وتحتج بهذه الآية : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ } ، فالذي نفته الإدراك الذي هو بمعنى رؤية العظمة والجلال على ما هو عليه؛ فإن ذلك غير ممكن للبشر ولا للملائكة ولا لشيء . . . " انتهى .
والمؤمنون وإن رأوا ربهم في الآخرة؛ فإنهم لا يدركون جلاله وعظمته إدراك إحاطة؛ كما إن من رأى القمر لا يدرك حقيقته وكنهه وماهيته، فالعظيم أولى بذلك، وله المثل الأعلى .
قيل لعكرمه : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } . قال : ألست ترى السماء ؟ قال : بلى .
قال : فكلها ترى ؟
الوجه الرابع : وأما قوله : " فلو كانت رؤيته تعالى ممكنه وجائزة؛ لرأى الرسول صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء والمعراج " .
نقول : لا تلازم بين هذا وهذا، فلا يلزم من عدم رؤيته ليلة المعراج عدم رؤيته في الآخرة؛ لأن المعراج وقع في الدنيا قبل الموت، ورؤية المؤمنين له تقع في الآخرة بعد الموت، وحالة الدنيا غير حالة الآخرة كما سبق .
رد ادعائه أن الأدلة دلت على نفي الرؤية في الدنيا والآخرة :
قال السيابي :
" وهناك الكثير من الأدلة النقلية والعقلية على نفي رؤية الله تعالى دنيا وآخرة " .
- أقول : أما نفي رؤيته في الدنيا؛ فهو صحيح، فقد دلت عليه الأدلة .
وأما نفي رؤيته في الآخرة؛ فالأدلة تدل عليه في حق الكفار، أما المؤمنون؛ فالأدلة تدل على ثبوتها لهم، والواجب نفي ما نفاه الله وإثبات ما أثبته . . هذا هو سبيل المؤمنين .
زعمه أن سؤال رؤية الله فكرة يهودية، والرد عليه :
ثم استمر السيابي في مغالطته وتضليله، فقال ما ملخصه :(1/190)
" إن سؤال الرؤية قد صدر عن اليهود، حيث قالوا لموسى عليه السلام : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } ، وعن المشركين حيث قال تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا } ، وقد حذر الله عباده المؤمنين ونهاهم عن سؤال الرؤية، فقال : { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } " .
قال : " فعلق سبحانه تعالى على سؤال الرؤية والطمع فيها استبدال الكفر بالإيمان الذي يتحتم عليه الضلال عن الطريق السوي، ألا وهو دين الله، وكفى بذلك تنفيرا للمؤمنين .
فإن قيل : امتناع وقوعها إنما هو في الدنيا؛ فالجواب قد تقدم بأن صفات الله لا تتغير؛ فهي هي في الأزل وفيما لا يزال .
فإن قيل : إن امتناعها عن اليهود والمشركين إنما هو لكفرهم؛ فالجواب أيضا أن الله لم يعدهم بها لو اهتدوا واستقاموا، وإنما وجه إليهم الزجر والتوبيخ، وأرسل على اليهود الصاعقة " .
- والجواب عن ذلك نقول :
ما أعظم تلبيس هذا الرجل، حيث جعل سؤال المؤمنين ربهم أن يمن عليهم برؤية وجهه الكريم يوم القيامة محبه له وشوقا إليه مثل سؤال اليهود والمشركين لأنبيائهم أن يروهم الله جهرة في الدنيا من باب التكبر والعناد .
هل هذا إلا عين المكابرة ؟ !
{ سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } .
إن كلامه هذا باطل من عدة وجوه :
الوجه الأول : أن المراد بالآية – كما قال المفسرون – النهي عن أسئلة التعنت التي كان يوجه مثلها اليهود إلى موسى، ومنها السؤال عن الأشياء قبل وقوعها .
ولم يكن المؤمنون يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن يريهم الله في الدنيا حتى يصح له حمل الآية عليه .(1/191)
الوجه الثاني : أن طلب اليهود والمشركين رؤية الله في الدنيا هو من باب التحدي للرسل، وعدم الإيمان برسالتهم : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } ، { وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا } ، والمطلوب منهم الإيمان بالغيب، وتصديق الرسل؛ لأنهم إذا رأوا الله تعالى في الدنيا لم يكن إيمانهم به إيمانا بالغيب، ولا تصديقا للرسل .
الوجه الثالث : أن سؤال رؤية الله تعالى في الآخرة والنظر إلى وجهه الكريم ليس من جنس سؤال اليهود والمشركين رؤيته في الدنيا، فالأول مشروع، وهذا ممنوع .
وقد سأل النبي صلي الله عليه وسلم في دعائه ربه النظر إلى وجهه الكريم؛ كما روى الإمام أحمد وابن حبان والحاكم في " صحيحيهما " أنه قال :
( اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق؛ أحيني ما علمت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيرا لي، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، ولذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك؛ من غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين ) .
فيكون الرسول على مقتضى قول السيابي قد طلب من الله ما لا يجوز له طلبه، واعتدى في دعائه كاعتداء اليهود والمشركين لما طلبوا أن يروا الله جهرة ! !
ما أعظم هذه الفرية !
نسأل الله العافية .
الوجه الرابع : أما قوله : " فإن قيل : إن امتناعها عن اليهود والمشركين إنما هو لكفرهم . . . فالجواب أيضا أن الله لم يعدهم بها لو اهتدوا واستقاموا " .
فعنه جوابان :
الأول : أن امتناعها عنهم ليس لكفرهم فقط، بل ولأنها غير ممكنة لا لهم ولا لغيرهم .(1/192)
الثاني : قوله : " أن الله لم يعدهم لو اهتدوا واستقاموا " قول باطل، وكذب على الله، فقد وعد الله من آمن به واهتدى أن يكرمه بالنظر إلى وجهه الكريم، ورؤيته يوم القيامة؛ كما دل على ذلك القرآن، والسنة المتواترة، وإجماع أهل الحق، ونفيها تكذيب لهذه النصوص، وإهدار لتلك الأدلة، وتعطيل لها .
زعمه أن القول بعدم تخليد العصاة في النار فكرة يهودية، والرد عليه :
ثم انتقل السيابي إلى مسألة تخليد أهل الكبائر من المؤمنين في النار، فقال :
" إن الإباضية يقولون بخلود مرتكب الكبيرة في نار جهنم إذا مات ولم يتب، ولنظرهم الفاحص ولرؤيتهم العميقة بأن عقيدة خروج العصاة من النار أو وعدهم بمغفرة ذنوبهم من غير توبة وإقلاع عن ارتكاب المعاصي تترتب عليها مفاسد اجتماعية خطيرة، وعدم الالتزام بمنهج الإسلام وتعاليمه، وأي فائدة من إسلام مسلم وهو لا يمتثل أوامر الإسلام ولا ينتهي عن نواهيه ؟ !(1/193)
والإباضية يقولون بأن عذاب النار دركات؛ كما أن نعيم الجنة درجات، والمنشأ التاريخي لهذه الفتنة تبينه لنا الآيات الكريمة التالية : { وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ، { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } " .
قال : " لقد بينت الآية الكريمة السالفة الذكر أن أماني اليهود – أخزاهم الله تعالى – هي كانت المنشأ والمبدأ لفكرة التعلق بوعد الله للحصول على ثوابه وهم يرتكبون المعاصي : { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } ، { أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ } .
وجاء قول الرسول صلى الله عليه وسلم مؤكدا لهذا المعنى : ( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق -كذا يقول، والصواب : العاجز- من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ) " .(1/194)
قال : " فهل يليق بالمسلم أن يعتقد عقيدة اليهود الباطلة التي أنكرها الله عليهم إنكارا شديدا، وشنع عليهم فيها، حيث اعتبرها ناشئة عن افترائهم وغرورهم ؟ ! " .
- انتهى كلامه، وقد نقلته بطوله؛ ليعلم الناظر فيه ما عند الرجل من الجهل والتخليط والتغليط ولبس الحق بالباطل، فيكون في ذلك عبرة لأولي الأبصار .
والجواب عنه من وجوه :
الوجه الأول : أنه جعل منشأ القول بعدم تخليد العصاة المؤمنين بالنار ناشئا عن مقالة اليهود، وهذا جحد لما في كتاب الله وسنة رسوله من الأدلة على هذه المسألة كما نبينه .
الوجه الثاني : أنه سوغ القول بتخليد مرتكب الكبيرة من المؤمنين في النار بأن هذا فيه دفع مفاسد اجتماعية، وحث على التزام منهج الإسلام وتعاليمه، وهذه التسويغ باطل؛ لأنه في مقابله النصوص الصحيحة الصريحة الدالة على خروج مرتكب الكبيرة من النار إذا كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، وقد يعفو الله عنه، فلا يدخلها أصلا؛ قال تعالى :
{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } الآية .
فأخبر أن كل هذه الأصناف الثلاثة تدخل الجنة، ومنهم الظالم لنفسه، وهو العاصي معصية دون الشرك .
وان كان دخول هذه الأصناف في الجنة يتفاوت .
وقال تعالى :
{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ } .
فوعد بمغفرة ما دون الشرك من المعاصي لمن يشاء، وهذا يدخل فيه أصحاب الكبائر .(1/195)
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته أنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان . قال أبو ذر : وإن زنى وإن سرق ؟ ! وكررها . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وإن زنى وإن سرق رغم أنف أبي ذر ) .
وأما التنفير من المعاصي والتحذير منها؛ فهو مطلوب، لكنه لا يكون بجحود ما أنزل الله وبينه رسوله من سعة مغفرة الله وعفوه عن العصاة، وإخراج أصحاب الكبائر من النار، وإنما يكون بالوعظ، والتذكير، وتنفيذ الحدود الشرعية؛ برجم الزاني، أو جلده، وجلد الشارب والقاذف، وقطع يد السارق، وقتل القاتل قصاصا، وتفسيق أصحاب الكبائر، وإسقاط عدالتهم حتى يتوبوا، وتعزير أصحاب المعاصي التي لا حد فيها، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتعليم الجاهل . . . وغير ذلك .
ودخول النار -والعياذ بالله- ليس بالهين، ولو أخرج منها بعد ذلك؛ فإنه شديد وخطير، يحمل المسلم على الابتعاد عن المعاصي .
الوجه الثالث : مساواته بين قول أهل السنة بخروج عصاة الموحدين من النار وعدم الخلود فيها – كما تقتضيه نصوص الكتاب والسنة – وبين قول اليهود : { لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } ، و { أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ } ! ! وهذا باطل من وجهين :
الأول : أن اليهود كفار، والكافر مخلد في النار، وأما عصاة الموحدين؛ فهم مؤمنون ناقصو الإيمان وموحدون، ولا مساواة بين مشرك وموحد ومؤمن وكافر؛ قال تعالى :
{ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } .
والثاني : أن اليهود -لعنهم الله- ليس لهم حجة فيما قالوه، ولهذا قال سبحانه : { قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .
وأما عصاة الموحدين؛ فقد وردت الأدلة من الكتاب والسنة، وقامت الحجة لهم على عدم تخليدهم في النار، فأين هذا من ذاك ؟ !(1/196)
والذي يسوي بين مؤمن وكافر قد سوى بين ما فرق الله، وحاد الله في أمره .
الوجه الرابع : أنه لا حجة له في قوله تعالى : { بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ؛ لأن المراد بالخطيئة المحيطة خطيئة الكفر، لا مطلق الخطيئة؛ لأن الله قيدها بقوله : { وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } ، فدل على أن الخطيئة غير المحيطة - وهي ما دون الكفر - لا يخلد صاحبها في النار .
ففي الآية رد عليه .
وهكذا؛ لا يستدل مبطل بدليل من الشرع؛ إلا وفيه رد عليه، فسبحان العليم الحكيم الذي جعل كلامه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
الوجه الخامس : أنه لا حجة له في قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ) ؛ لأن معناه الحث على العمل الصالح، والتحذير من الكسل، وليس فيه أن العاصي يخلد في النار .
تحذيره من عقيدة أهل السنة ووصفها بالتجسيم والإرجاء :
ثم وقف السيابي موقف الناصح والمحذر للمسلمين من عقيدة أهل السنة، فقال :
" إن المسلمين في حرب دائمة ومستمرة مع أعداء الله اليهود، وعليهم أن يتخلصوا أولًا من عقائدهم الفاسدة؛ فإن تصحيح العقيدة عامل مهم من عوامل النصر " .
ثم بين العقيدة التي يحذر منها، حيث قال :
" ويحذروا عقيدة التجسيم والإرجاء " .(1/197)
- وهو يقصد بذلك عقيدة أهل السنة الذين يثبتون رؤية الله - عز وجل - ويسمى هذا تجسيمًا، ويقولون بعدم تخليد المؤمن العاصي في النار، يسمى هذا إرجاء . وهذا من جهله بمعنى الرجاء، وبمن قال به؛ فإن الإرجاء معناه تأخير الأعمال عن مسمى الإيمان، وليس هو عقيدة أهل السنة، وإنما هو عقيدة الجهمية، وهو القول بأن الإيمان مجرد المعرفة بالقلب، ولو لم يحصل عمل، أو أن الإيمان هو التصديق بالقلب فقط؛ كما يقوله الأشاعرة، أو هو التصديق بالقلب من النطق باللسان، وهذا الأخير قد يقول به بعض أهل السنة، وجمهورهم على خلافه، يقولون : إن الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية .
وأما قول أهل السنة : إن مرتكب الكبيرة من المؤمنين لا يخلد في النار؛ فليس إرجاء – وإن سماه إرجاء - وكذلك رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة كما أثبتها الله في كتابه، وأثبتها رسوله - صلى الله عليه وسلم في سنته – وإن سماها تجسيمًا - فهو لا يغير من الحق شيئًا .
فأهل السنة لا يهمهم مثل هذه التشنيعات ما داموا على الحق، متمسكين بالكتاب والسنة، فما زال أهل الحق في كل زمان يلقبون بأشنع الألقاب، وهذا مما يرفع درجاتهم عند الله، { وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا } [ فاطر : 43 ] .
زعمه أن الحنابلة هم الذين اهتموا بإنكار القول بخلق القرآن تعصبًا لإمامهم :
ثم قال السيابي تحت عنوان خلق القرآن :
" إن الحنابلة يهتمون بهذه المسألة اهتمامًا بالغًا " .
وأرجع هذا الاهتمام عندهم إلى أنه مسألة عاطفة؛ لكون الإمام أحمد عذب عليها؛ قال :(1/198)
" ومن الخطأ أن تكون العاطفة مقياس الخطأ والصواب، وربما عاب الحنابلة على بعض المذاهب عاطفتهم وتقديسهم للأشخاص، ولكنهم وقعوا في أنفسهم فيما عابوا به الآخرين " .
- وجوابنا على ذلك أن نقول : إن الذين أنكروا القول بخلق القرآن ليسوا هم الحنابلة فقط، بل جميع أهل السنة؛ من المحدثين، وفقهاء المذاهب الأربعة، وغيرهم، غيرة لكتاب ربهم - عز وجل - ومؤلفاتهم في ذلك كثيرة مشهورة .
قال الإمام الطحاوي الحنفي - رحمه الله - في " عقيدته " ما نصه :
" وإن القرآن كلام الله؛ منه بدأ بلا كيفية قولًا، وأنزله على رسوله وحيًا، وصدقه المؤمنون على ذلك حقًا، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة؛ ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه زعم أنه كلام البشر؛ فقد كفر، وقد ذمه الله وعابه وأوعده بسقر، حيث قال تعالى : { إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ } [ المدثر : 25 ] ؛ علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر، ولا يشبه قول البشر " انتهى .
وهذه العقيدة متلقاة بالقبول عند جميع أهل السنة .
قال السبكي الشافعي :
" جمهور المذاهب الأربعة على الحق يقرون عقيدة الطحاوي التي تلقاها العلماء بالقبول " .
وقال شارحها ابن أبي العز الحنفي على هذه الجملة التي نقلناها :
" هذه قاعدة شريفة، وأصل كبير من أصول الدين، ضل فيه طوائف كثيرة من الناس، وهذا الذي حكاه الطحاوى - رحمه الله - هو الحق الذي دلت عليه الأدلة من الكتاب والسنة لمن تدبرها، وشهدت به الفطرة السليمة التي لم تتغير بالشبهات والشكوك والآراء الباطلة " .
وقال الإمام محمد بن جرير الطبري إمام المفسرين - رحمه الله - في عقيدته المشهورة :(1/199)
" وإن ما نبدأ القول به من ذلك عندنا أن القرآن كلام الله وتنزيله، إذا كان من معاني توحيده، فالصواب من القول في ذلك عندنا أنه كلام الله؛ غير مخلوق، كيف كتب، وحيث تلى، وفي أي موضع قرئ، في السماء وجد وفي الأرض حفظ، في اللوح المحفوظ أو في القلب حفظ، وباللسان لفظ، فمن قال غير ذلك أو ادعى أن قرآنًا في الأرض أو في السماء سوى القرآن الذي نتلوه بألسنتنا ونكتبه في مصاحفنا، أو اعتقد ذلك بقلبه، أو أضمره في نفسه، أو قاله بلسانه داينًا؛ فهو بالله كافر، حلال الدم والمال، بريء من الله، والله منه بريء " انتهى .
وقال إمام الأئمة أبو بكر محمد بن خزيمة - رحمه الله - في كتاب " التوحيد " :
" باب : ذكر البيان من كتاب ربنا المنزل على نبيه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ومن سنة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - على الفرق بين كلام الله - عز وجل - الذي به يكون خلقه، وبين خلقه الذي يكون بكلامه وقوله، والدليل على نبذ قول الجهمية الذين يزعمون أن كلام الله مخلوق جل ربنا وعز عن ذلك " . . .
ثم ساق الأدلة، وقال أيضًا :
" باب : من الأدلة التي تدل على القرآن كلام الله الخالق، وقوله غير مخلوق، لا كما زعمت الكفرة من الجهمية المعطلة " انتهى .
وقال أبو الحسن الأشعري في كتاب " الإبانة " :
" ومن قال : ( إن القرآن غير مخلوق، وإن من قال بخلقه كافر ) من العلماء وحملة الآثار ونقلة الأخبار لا يحصون كثرة؛ منهم : الحمادان، والثوري، وعبد العزيز بن أبي سلمة، ومالك بن أنس، والشافعي وأصحابه، والليث بن سعد، وسفيان بن عيينة، وهشام، وعيسى بن يونس، وحفص بن غياث، وسعد بن عامر، وعبد الرحمن بن مهدي، وأبو بكر بن عياش، ووكيع، وأبو عاصم النبيل، ويعلى بن عبيد، ومحمد بن يوسف، وبشر بن المفضل، وعبد الله بن داود، وأبو عبيد القاسم بن سلام، ويزيد بن هارون . . . وغيرهم .(1/200)
ولو تتبعنا ذكر من يقول بذلك؛ لطال الكلام بذكرهم، وفيما ذكرنا من ذلك مقنع، والحمد لله رب العالمين .
ولو احتججنا لصحة قولنا : " إن القرآن غير مخلوق " من كتاب الله - عز وجل - وما تضمنه من القرآن، وأوضحه من البيان .
ولم نجد أحدًا ممن تحمل عنه الآثار، وتنقل عنه الأخبار، ويأتم به المؤتمون من أهل العلم يقول بخلق القرآن، وإنما قال ذلك رعاع الناس، وجهال من جهالهم، لا موقع لقولهم " انتهى .
فهل هؤلاء حنابلة حملتهم العاطفة كما يقول السيابي لإمامهم، أو أنهم قالوا ذلك غيرة على كتاب ربهم من أقوال الزنادقة والمبتدعة ؟ !
وقوله : " فالقضية هي قضية عاطفية نفسية، ليست إلا " .
نقول : هذا اتهام لعلماء المسلمين بأنهم يغارون للأشخاص، ولا يغارون لكتاب الله .
ذكر مقابلتهم للشيخ ابن باز وما جرى فيها، والرد عليه :
ثم ختم السيابي حديثه الممل بذكر مقابلة شيخه الخليلي مفتي عمان بالشيخ عبد العزيز بن باز، وما جرى بينهما من المناقشة حول هذه المسائل، وقال : " إن الشيخ ابن باز جعل يسب، فضلل وكفر، وعبس وبسر، ولما دعاه الخليلي إلى المباهلة؛ احرنجم وتلوى " .
- والجواب عن ذلك أن نقول : مهما وصفت الشيخ عبد العزيز بن باز بصفات السوء؛ فإن الناس يعرفونه، ويعرفون أخلاقه الكريمة، وعلمه الغزير، وأنه لا يعجز - بحول الله - أن يفحم شيخك وغيره بكلمة الحق، ولا سيما في هذه المسائل التي يعرف الحكم فيها طلاب المدارس عندنا .
وقد بين الشيخ عبد العزيز السبب منعه من المناظرة، وهو أنه كره المناظرة المعلنة التي تضر بعض الناس، وتدخل عليهم بعض الشكوك؛ لأنه والحمد لله في مجتمع سالم من هذه الأفكار المنحرفة، فلا يريد أن يفتح على الناس باب شر هم في سلامة وعافية منه . وهذا غاية الحكمة .(1/201)
وإذا كان باستطاعة السيابي وشيخه الخليلي أن يجيبا عما كتبه علماء أهل السنة في هذه المسألة : مسألة ثبوت الرؤية، ومسألة عدم تخليد عصاة المؤمنين في النار، ومسألة بطلان القول بخلق القرآن . . . وغيرها من المسائل التي خالف فيها الإباضية أهل السنة والجماعة؛ إذا كان باستطاعة المذكورين أن يجيبا عما كتب في ذلك من مؤلفات مستقلة – وهي بالمئات والحمد لله - وعما في كتب عقائد أهل السنة التي تدرس في المساجد والجامعات وغيرها؛ فالمجال أمامهما مفتوح .
ولكن أنى لهما ذلك ودونه خرط القتاد، والعلماء لهم بالمرصاد ؟ !
وخير لهما الرجوع إلى الصواب، يدل اللجاج والمنازعة اللتين لا طائل تحتهما . . . والله الموفق والهادي إلى سبيل الرشاد .
نزهوا الصحافة عن نشر مثل هذه الترهات الباطلة
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه .
وبعد :
لقد قرأت في " جريدة الندوة " (1) عنوانًا بالحرف الكبير هو : (2) ! ! فلفت نظري هذا العنوان العجيب الغريب، الذي يتضمن ادعاء علم الغيب الذي اختص الله به، ولم يطلع عليه ملكًا مقربًا ولا نبيًا مرسلًا، وهو وقت قيام الساعة؛ هل اطلعت عليه " جريدة الندوة " حين كتبت هذا العنوان .
ثم قرأت ما تحت العنوان، فإذا هو أرشد وأدهى، وهو بالحرف الواحد :
" ليما – صرخ يوم الثلاثاء حوستافو استريماد ويرو، رئيس مؤسسة علماء الفلك في بيرو، بأن نيزك ( كذا ) بقطر ألف كم سيصطدم بالأرض عام ( 2115م ) .
وقال عالم الفلك : إن اصطدام هذا الجسم الفضائي الهائل المكون من معادن منصهرة قد يؤدي إلى فناء الحياة على الأرض، وإلى حدوث كوارث مماثلة لتلك التي نجم عنها انقراض الحيوانات الزاحفة الضخمة فيما قبل التاريخ، واختفاء قارة أتلانتيس .
وقد أطلق على النيزك المذكور اسم ( 1983 تي في ) ، وهو أكبر من النيزك ( سيريس ) أكبر نيزك معروف حتى الآن .(1/202)
وقال استريماد ويرو : إن هناك عالم فلك سوفيتيًا، هو السكندر فويتشسلجوفسكي يتابع كل ليلة مسار النيزك؛ إلا أنه يتوقع أن الارتطام بعد ( 128 ) سنة .
وقال عالم الفلك : إن الفرصة ما زالت سانحة لتوحيد الجهود من أجل القضاء على النيزك، ربما باستخدام مجسمات خاصة مجهزة بقنابل نووية " .
انتهى ما ذكرته الجريدة، وقد نشرته " جريدة المدينة " في عددها ( 7418 – الصادر يوم الخميس تاريخ 26/12/ 1407هـ ) تحت عنوان : ( كذب المنجمون ) .
ولم يرد في الجريدتين بعد سياق الخبر أي تعليق عليه بما يبطله، بل اكتفت " جريدة المدينة " بتكذيبه في العنوان فقط !
وأما " جريدة الندوة " فساقته مساق المسلم به ! !
ولا يخفى ما في هذا من خطر على العقيدة، وتغرير بالقراء وترويج بالباطل، نرجوا أن تنزه صحافتنا عن مثله .
ثم إن ما جاء في العنوان : " نهاية العالم . . . " إلخ يتضمن الإنكار لعالم الآخرة .
وما جاء في مضمون الخبر من ذكر تصادم هذه الأجرام وفناء العالم ويقتضي عدم الإيمان بأن الله { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرض أَن تَزُولا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ } [ فاطر : 41 ] .
وتحديد نهاية العالم بعام ( 2115م ) معناه ادعاء العلم بوقت قيام الساعة، والله تعالى يقول : { إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } [ لقمان : 34 ] ، { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ } [ الأعراف : 187 ] ، { إليهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ } [ فصلت : 47 ] . . . إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على انفراد الله بعلم ذلك .
ونرجو أن لا يتكرر نشر مثل هذه الأباطيل في صحفنا وفي مجتمعنا . والله الموفق .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .(1/203)
تعقيب على ما كتبه المستشار سالم البهنساوي في موضوع العقيدة السلفية ودعوة الشيخ حسن البنا
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه .
وبعد :
فقد اطلعت في " مجلة المجتمع " ( في عددها 609 – بتاريخ 9/5/1403هـ ) على مقال بعنوان : ( سلفية حسن البنا في ذكرى استشهاده ) بقلم المستشار سالم البهنساوي .
وحاصل هذا المقال هو الدفاع عن حسن البنا، ومحاولة إثبات أنه سلفي العقيدة في موضوع صفات الله عز وجل، والرد على الذين أدانوه بموجب ما نقلوه من كلامه .
ونحن لا نحب أن نتعرض للشيخ حسن البنا، لأنه أفضى إلى ربه، ونرجو له المغفرة والرحمة، ولكننا نريد أن نناقش صاحب المقال فيما خلط وغلط فيه من النقولات، وفيما نسبه إلى بعض الأئمة نسبة خاطئة، قاصدين بذلك بيان الحق وإزالة اللبس .
ونسأل الله لنا وله الهداية والتوفيق .
وإليك بيان ما جاء في مقاله مع مناقشته :
أولا :
يحاول أن يسوغ ما قاله حسن البنا من أن آيات الصفات من المتشابه، ويقول :
" إن جمهورا من الفقهاء قد قالوا : إن آيات الصفات من المتشابه، ولم يقل أحد من أهل السن’ بفساد عقيدتهم " .
قال : " وقد نُقِل هذا عن أحمد بن حنبل، والسيوطي، وابن كثير، والشاطبي، والجصاص . . . " الخ .
والجواب : أن نقول :
1- أما كون بعض الفقهاء وليس جمهورهم ( كما يقول ) ظنوا أن آيات الصفات من المتشابه؛ فهو شيء حاصل، لكن هو ظن فاسد، مخالف لما دل عليه الكتاب والسنة، واعتقاد أهل السنة والجماعة من أن آيات الصفات من المحكم لا من المتشابه، وقد ضلوا بهذا الظن الباطل .
2- وأما قوله : " إن أهل السنة لم يقولوا بفساد عقيدتهم " ؛ فهو خلاف الواقع؛ فإن أهل السنة بينوا بطلان قول هؤلاء، وردوا عليهم إما تصريحا وإما ضمنا .(1/204)
من ذلك -على سبيل المثال- ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيميه في رسائله، وما كتبه ابن القيم في " اجتماع الجيوش الإسلامية " و " الصواعق المرسلة " و " القصيدة النونية " ، وصاحب " العقيدة الطحاوية " ، وشارحها . . . وغير ذلك من كتب أهل السنة والجماعة .
3- وأما نسبته هذا القول إلى الإمام أحمد وابن كثير وأنهما من جملة من يقول بأن آيات الصفات من المتشابه؛ فهي نسبة كاذبة وفرية خاطئة؛ لأن هذين الإمامين في طليعة من يثبت الصفات على حقيقتها، ويؤمن بما دلت عليه الآيات الواردة فيها، وأنها من المحكم الذي يعلم معناه ويفسر، لا من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله .
وإليك ما قاله الأئمة في ذلك :
أ- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاب " العقل والنقل " ( 1/204 ) :
" وأما على قول أكابرهم : إن معاني هذه النصوص المشكلة المتشابهة لا يعلمها إلا الله، وأن معناها الذي أراده الله بها فهو ما يوجب صرفها عن ظواهرها؛ فعلى قول هؤلاء يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص، ولا الملائكة، ولا السابقون الأولون، وحينئذ؛ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن، أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه، بل يقولون كلاما لا يعقلون معناه . . . " .
إلى أن قال : " ومعلوم أن هذا قدح في القرآن والأنبياء، إذا كان الله أنزل القرآن، وأخبر أنه جعله هدى وبيانا للناس، وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين، وأن يبين للناس ما نزل إليهم، وأمر بتدبر القرآن وعقله، ومع هذا؛ فأشرف ما فيه –وهو ما أخبر به الرب عن صفاته، أو عن كونه خالقا لكل شيء، وهو بكل شيء عليم، أو عن كونه أمرا ونهيا ووعدا وتوعدا، أو عما أخبر به عن اليوم الآخر– لا يعلم أحد معناه، فلا يعقل ولا يتدبر، ولا يكون الرسول بين للناس ما نزل إليهم، ولا بلغ البلاغ المبين " انتهى .(1/205)
وقال رحمه الله في الرسالة المسماه ب- " الإكليل في المتشابه والتأويل " :
" وأما إدخال أسماء الله وصفاته أو بعض ذلك في المتشابه الذي استأثر الله بعلم تأويله؛ فنقول : ما الدليل على ذلك؛ فإني ما أعلم عن أحد من سلف الأئمة ولا من الأئمة لا أحمد بن حنبل ولا غيره أنه جعل ذلك من المتشابه الداخل في هذه الآية، ونفى أن يعلم أحد معناه، وجعل أسماء الله وصفاته بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم، وإنما قالوا كلمات لها معان صحيحة، قالوا في أحاديث الصفات : تمر كما جاءت ونهوا عن تأويلات الجهمية، وردوها، وأبطلوها، التي مضمونها تعطيل النصوص عما دلت عليه، ونصوص أحمد والأئمة قبله بيِّنة في أنهم كانوا يبطلون تأويلات الجهمية، ويقرون النصوص على ما دلت عليه من معناها . . . " .
إلى أن قال رحمه الله : " فهذا اتفاق من الأئمة على أنهم يعلمون معنى هذا المتشابه، وأن لا يسكت عن بيانه وتفسيره، بل يبين ويفسر باتفاق الأئمة؛ من غير تحريف له عن مواضعه، أو إلحاد في أسماء الله وآياته " انتهى باختصار .
هذا ما حكاه شيخ الإسلام عن الأئمة أنهم لا يجعلون نصوص الصفات من المتشابه الذي لا يفهم معناه ويجب تفويضه، بل كانوا يعلمون معاني الصفات، ويفسرونها، وإنما يفوضون كيفيتها إلى الله تعالى . وهذا الإمام مالك وغيره من الأئمة يقولون : " الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة " . والنقولات عن الإمام أحمد في مثل هذا كثيرة معلومة في كتب أهل السنة .
ب- وإليك ما قاله ابن كثير الذي عده البهنساوي من جملة القائلين بأن آيات الصفات من المتشابه؛ قال في " تفسيره " ( 1/220 ) ما نصه :(1/206)
" وأما قوله تعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } ؛ فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جدا، ليس هذا موضع بسطها، وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح : مالك، والأوزاعي، والثوري، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا، وهو إمرارها كما جاءت؛ من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل، والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله؛ فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه وليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، بل الأمر كما قال الأئمة؛ منهم نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري؛ قال : من شبه الله بخلقه كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة على الوجه الذي يليق بجلاله، ونفى عن الله تعالى النقائص؛ فقد سلك سبيل الهدى " . انتهى كلامه رحمه الله .
وقوله : " إمرارها كما جاءت من غير تكييف، ولا تشبيه، ولا تعطيل " ؛ يريد به الرد على المعطلة والمشبهة . فقوله : " إمرارها كما جاءت " : ردا على المعطلة الذين يحرفونها عما دلت عليه من المعاني الحقيقية إلى معان باطلة . وقوله : " من غير تكييف " : ردا على الممثلة الذين يشبهون الله بخلقه والله أعلم .
ثانيًا :
خلط البهنساوي في معنى التفويض، حيث قال :
" إن معناه في اللغة العربية عدم التأويل والتعطيل، وترك الأمر إلى الله تعالى " .(1/207)
- فتفسيره التفويض بأنه ترك التأويل والتعطيل تفسير ناقص؛ لأن معناه الحقيقي هو عدم التعرض لتفسير النصوص وبيان معناه الحقيقي، لا أنه ترك التأويل والتعطيل فقط . فالسلف ومن سار على نهجهم يفسرون آيات الصفات، ويبينون معناها، ويردون التأويل والتعطيل، ولا يكونون بهذا مفوضين؛ لأن المفوض هو الذي يجحد معناها الذي تدل عليه، ويظن أن لها معنى لا يعلمه إلا الله، وهذا مذهب باطل لا تجوز نسبته إلى السلف كما توهمه الكاتب حين قال :
" والشيخ حسن البنا عندما أشار إلى التفويض؛ قال : إنه عقيدة السلف " .
فقد أخطأ حسن البنا وأخطأ الكاتب في نسبته هذا المذهب الباطل إلى السلف .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رد هذه النسبة الباطلة في " مجموع الفتاوى " ( 5/9 ) ما نصه :
" فإن هؤلاء المبتدعين الذين يفضلون طريقة الخلف من المتفلسفة ومن حذا حذوهم على طريقة السلف إنما أوتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث؛ من غير فقه لذلك، بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ } ، وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات " انتهى .
ثم من عدم تأمل البهنساوي وتناقضه العجيب أن يحاول التفريق بين التفويض وأهل التفويض، فيقول :
" إن التفويض في اللغة عدم التأويل والتعطيل، وترك الأمر إلى الله " . وأما أهل التفويض عنده :
" فهم فئة معلومة تعارفوا على تأويل آيات الصفات، وهؤلاء يخالفون السلف " .
وقد تناقض في هذا مع نفسه، حيث قال في الأول : " إن التفويض معناه ترك التأويل " ، وقال في الآخر : " إن أهل التفويض فئة تعارفوا على تأويل الصفات " .
فكيف يكون هؤلاء أهل تفويض وهم متعارفون على تأويل الصفات، وأنت تقول : إن التفويض هو ترك التأويل ؟ ! كيف يكون التأويل تفويضًا وتركه تفويضا ؟ !(1/208)
ثالثاً :
نقل البهنساوي عبارة الشيخ حسن البنا في موضوع التوسل حيث قال :
" والدعاء إذا قرن بالتوسل إلى الله بأحد من خلقه خلاف فرعي في كيفية الدعاء وليس من مسائل العقيدة " .
ثم نقل قول المعترضين على هذه العبارة، حيث قالوا بأنها توقع في الشرك الصريح، ثم قال : " ليس صحيح أن كلام الشيخ حسن البنا عن التوسل يؤدي إلى الشرك الصريح، وأن من أثبت وسائط بين الله وخلقه فهو مشرك يقتل ردة كما يقولون " .
- والجواب عن ذلك :
1- قول الشيخ حسن البنا بأن التوسل إلى الله بأحد خلقه خلاف فرعي وليس من مسائل العقيدة قول ظاهر البطلان؛ لأن الدعاء من صميم العقيدة، بل هو أعظم أنواع العبادة؛ كما قال صلى الله عليه وسلم : ( الدعاء هو العبادة ) , قد سماه الله دينًا، وأمر بإخلاصه له؛ كما قال تعالى : { فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } . وسماه عبادة في قوله تعالى : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } .
وكيفية الدعاء لا خلاف فيها بين أهل العلم، وهى أن ندعو الله سبحانه مباشرة؛ من غير واسطة أحد، فالله قال : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } ولم يقل : ادعوني بواسطة أحد من خلقي .
فالتوسل بذات المخلوق أو بحقه أو بجاهه هو إقسام على الله عز وجل بأحد خلقه، وهو مبتدع محدث، وهو بالتالي وسيلة إلى الشرك بتلك الواسطة كما فعل المشركون الأولون الذين قال الله فيهم : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } . وقال تعالى : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ } .(1/209)
ففي البداية يسألون الله بحقهم وبجاههم، ثم ينتهي بهم الأمر إلى أن يتقربوا إليهم بأنواع العبادة، ويطلبوا منهم المدد والشفاعة؛ كحال عباد القبور اليوم .
2- قول البهنساوي : " ليس صحيحًا أن كلام الشيخ حسن البنا عن التوسل يؤدى إلى الشرك الصريح، وأن من أثبت وسائط بين الله وخلقه؛ فهو مشرك يقتل ردة " .
نقول : هذا مغالطة وجحود للواقع، والتوسل بالمخلوق أدى إلى الشرك بالمتوسل به، وما يفعل عند قبور الأولياء اليوم -أو من يُظَنُّ أنهم أولياء- أكبر شاهد على ذلك، ومن أثبت الوسائط بين الله وبين خلقه في قضاء الحاجات وتفريج الكربات وإجابة الدعوات؛ فهو مشرك يقتل ردة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في " مجموع الفتاوى " ( 1/124 ) :
" فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار؛ مثل أن يسألهم : غفران الذنب، هداية القلوب، وتفريج الكروب، وسد الفاقات؛ فهو كافر بإجماع المسلمين . . . " .
إلى أن قال ( 1/146 ) : " وإن أثبتهم وسائط بين الله وبين خلقه؛ كالحجاب الذي بين الملك ورعيته، بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه، فالله إنما يهدي خلقه ويرزقهم بتوسطهم، فالخلق يسألونهم وهم يسألون الله كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك الحوائج للناس لقربهم منهم والناس يسألونهم أدبا منهم أن يباشروا سؤال الملك، أو لأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك؛ لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب للحوائج، فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه؛ فهو كافر مشرك يجب أن يستتاب، فإن تاب؛ وإلا قتل، وهؤلاء مشبهون، شبهوا المخلوق بالخلق، وجعلوا لله أندادا، وفي القرآن من الرد على هؤلاء ما لم تتسع له هذه الفتوى " انتهى .
رابعًا :
نسب البهنساوي لبعض الأئمة أنهم يجوزون التوسل بالأنبياء، حيث قال :(1/210)
" قال جمهور من الفقهاء إنه يجوز التوسل بالأنبياء والصالحين حال حياتهم وبعد مماتهم؛ قاله مالك والسبكي والكرماني والنووي والقسطلاني والسمهودي وابن الحاج وابن الجزري . فقد روي أن مالك رحمه الله سأله أبو جعفر المنصور ثاني خلفاء بني العباس، فقال : يا أبا عبد الله : أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدعو أم استقبل القبلة وأدعو ؟ فقال له مالك : ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى يوم القيامة، بل استقبل واستشفع به؛ فيشفعه الله " انتهى كلامه .
- ونقول أولا : اما التوسل بالأحياء : إن كان المراد به التوسل بدعائه؛ فهو جائز، وإن كان المراد به التوسل بذواتهم أو بحقهم أو جاههم؛ فهو غير جائز، وقد بيناه فيما سبق .
وأما التوسل بالأموات؛ فلا يجوز بحال من الأحوال، وقد عدل عمر بن الخطاب والصحابة معه عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته إلى التوسل بدعاء عمه العباس رضي الله عنه في قصة الاستسقاء، وما فعلوا ذلك إلا لعلمهم أن التوسل بالميت لا يجوز .
ونقول ثانيا : ما نسبته إلى الإمام مالك من إجازة التوسل اعتمادا على القصة التي ذكرتها له مع المنصور؛ فهو باطل من أساسه؛ لأن الحكاية المذكورة مكذوبة على مالك، ومالك وغيره من الأئمة يرون أن الرجل إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وأراد أن يدعو لنفسه؛ فإنه يستقبل القبلة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في " مجموع الفتاوى " ( 1/353 ) :
" والحكاية التي تذكر عن مالك أنه قال للمنصور لما سأله عن استقبال الحجرة، فأمره بذلك، وقال : " هو وسيلتك ووسيلة آبيك آدم " : كذب على مالك، ليس له إسناد معروف، فهو خلاف الثابت المنقول عنه بأسانيد الثقات من كتب أصحابه " انتهى .(1/211)
أما بقية الذين نسبت إليهم القول بجواز التوسل بالصالحين بعد موتهم؛ فإن صح ذلك عنهم؛ فقد أخطئوا وخالفوا الأدلة وحينئذ لا عبرة بقولهم، وإن العبرة بقول من يوافق الدليل .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " ( 1/318 ) :
" فأما المتوسل بذاته ( أي : النبي صلى الله عليه وسلم ) في حضوره أو مغيبه أو بعد موته -مثل الإقسام بذاته أو بغيره من الأنبياء أو السؤال بنفس ذواتهم لا بدعائهم-؛ فليس هذا مشهورا عند الصحابة والتابعين، بل عمر بن الخطاب ومعاوية بن أبي سفيان ومن بحضرتهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان لما أجدبوا؛ استسقوا وتوسلوا واستشفعوا بمن كان حيا؛ كالعباس، وكيزيد بن الأسود، ولم يتوسلوا ولم يستشفعوا ولم يستسقوا في هذه الحال بالنبي صلى الله عليه وسلم لا عند قبره، بل عدلوا إلى البدل؛ كالعباس، وكيزيد، بل كانوا يصلون عليه في دعائهم، وقد قال عمر :
" اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا؛ فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا؛ فاسقنا " . فجعلوا هذا بدلا عن ذلك لما تعذر أن يتوسلوا به على الوجه المشروع الذي كانوا يفعلونه، وقد كان من الممكن أن يأتوا إلى قبره فيتوسلوا به ويقولوا في دعائهم في الصحراء بالجاه ونحو ذلك من الألفاظ التي تتضمن القسم بمخلوق على الله عز وجل أو السؤال به، فيقولون : نسألك أو نقسم عليك بنبيك أو بجاه نبيك ونحو ذلك مما يفعله بعض الناس " انتهى .(1/212)
والحاصل أن التوسل المشروع هو التوسل إلى الله تعالى بأسمائه وصفاته كما قال تعالى : { وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } ، وكذا التوسل إلى الله بالأعمال الصالحة؛ كما في قوله تعالى : { رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا } الآية، وكما في حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة، فتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم، ففرج عنهم، وكذا التوسل بدعاء الصالحين الأحياء، كما توسل الصحابة بدعاء العباس ويزيد بن الأسود في الاستسقاء .
أما التوسل بالأموات والغائبين؛ فإنه ممنوع غير مشروع، ومن أجازه مردود عليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من أحدث في آمرنا ما ليس فيه فهو رد ) .
والله اعلم .
خامسًا :
نقل البهنساوي مقاطع من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من فتاويه متفرقة في موضوع التوسل، واستنتج منها أن الشيخ لا يقول بكفر المتوسل إلى الله بالأشخاص، بل نسب إليه أنه يقول بجواز التوسل، ولم ينقل هذه النقولات أيضا بأمانة، بل نقلها ناقصة مبتورة، وهذا مما يتنافى مع أمانة العلم، وإليك بيان ذلك :
1- قال : " والإمام ابن تيمية لا يقول بكفر من توسل بالدعاء، مع إنكاره لأكثره، فقد قال : ( يقول بعضهم إذا كانت لك حاجة استوص الشيخ فلانا؛ فإنك تجده، أو توجه إلى ضريحه خطوات وناده؛ يقض حاجتك، وهذا غلط لا يحل فعله ) . ويقول : ( والعجب من ذي عقل سليم يستوصي من هو ميت؛ يستغيث به ولا يستغيث بالحي الذي لا يموت، ويقوي الوهم عنده أنه لولا استغاثته بالشيخ الميت؛ لما قضيت حاجته، فهذا حرام فعله ) " .
هكذا ساق البهنساوي هذا النقل عن الشيخ ليستشهد به على أنه لا يقول بكفر المتوسل في الدعاء، ولعله أخذ هذا من قول الشيخ : " وهذا غلط لا يحل فعله " ، ومن قوله : " فهذا حرام فعله " .
وتعقيبنا على هذا من وجهين :(1/213)
الوجه الأول : أن كلام الشيخ هذا في حق المستغيث بالأموات، وليس هو في التوسل في الدعاء كما ظن البهنساوي، والاستغاثة بالأموات شرك أكبر، وكفر بالله عز وجل؛ لأن الاستغاثة نوع من العبادة، وصرفها لغير الله شرك أكبر عند الشيخ وغيره .
الوجه الثاني : أن الشيخ ذكر هذا الكلام تمثيلا لما فعله المشركون، وهو تابع لكلام سابق عليه قطعه البهنساوي وأخذ ما يراه صالحا له فقط، ونحن نسوق كلام الشيخ بكامله حتى يتضح المقصود :
قال رحمه الله :
" والأسباب التي يفعلها العباد مما أمر الله به وأباحه؛ فهذا يسلك، وأما ما ينهى عنه نهيًا خالصا، أو كان من البدع التي لم يأذن الله بها؛ فهذا لا يسلك؛ قال تعالى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } . بين سبحانه ضلال الذين يدعون المخلوق من الملائكة والأنبياء وغيرهم، المبيِّن أن المخلوقين لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ثم بين أنه لا شركة لهم، ثم بين أنه لا عون له ولا ظهير لأن أهل الشرك يشبهون الخالق بالمخلوق؛ كما يقول بعضهم : إذا كانت لك حاجة استوص الشيخ فلاناً . . . " الخ الكلام الذي نقله البهنساوى .
ثم قال الشيخ : " وإن كان من هؤلاء الداعين لغير الله من يرى صورة المدعو أحيانا؛ فذلك شيطان تمثل له، ونظير هذا قول بعض الجهال من أتباع الشيخ عدي وغيره : كل رزق لا يجيء على يد الشيخ لا أريده، والعجب من ذي عقل سليم يستوصي . . . " إلى آخر ما نقله البهنساوي . وبسياق كلام الشيخ بتمامه اتضح مقصده، وأنه في موضوع الشرك الأكبر لا في موضوع التوسل في الدعاء .(1/214)
2- قال البهنساوي : " وعن التوسل بمخلوق إلى الله تعالى قال ابن تيمية : ( ولو قال قائل لمن يستغيث به : أسألك بفلان أو بحق فلان؛ لم يقل أحد : إنه استغاث بما توسل به، بل إنما استغاث بمن دعاه وسأله ) " .
ثم علق البهنساوي بقوله : " والمعنى أنه يكون قد استغاث بالله وليس المخلوق الذي توسل به إلى الله؛ لهذا قال : لا وجه لتكفير من قال بالتوسل سالف الذكر لأنها مسألة خفية، وأدلتها ليست جلية وظاهرة . ولكن ابن تيمية يرى أن هذا النوع من التوسل جائز إن كان توسلا بالأنبياء وغير جائز لمن عداهم " انتهى .
وهذا النقل كسابقه، أورده البهنساوي في غير موضعه، ولم يورده بكامله حتى يعرف مراد الشيخ منه، وذلك أن هذا الكلام ذكره الشيخ في سياق جواب عن سؤال حاصله : هل الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم والتوسل إلى الله به شيء واحد أو بينهما فرق ؟ وأول الجواب هو بهذا النص :
" الحمد لله رب العالمين، لم يقل أحد من علماء المسلمين إنه يستغاث بشيء من المخلوقات في كل ما يستغاث فيه بالله تعالى، لا بالنبي ولا بملك، ولا بصالح، ولا غير ذلك، بل هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز إطلاقه، ولم يقل أحد : إن التوسل بنبي هو استغاثة به بل العامة الذين يتوسلون في أدعيتهم بأمور،؛ كقول أحدهم : أتوسل إليك بحق الشيخ فلان، أو بحرمته، أو أتوسل إليك باللوح والقلم أو الكعبة، أو غير ذلك مما يقولونه في أدعيتهم؛ يعلمون أنهم لا يستغيثون بهذه الأمور؛ فإن المستغيث بالنبي صلى الله عليه وسلم طالب منه وسائل له، والمتوسل به لا يدعو ولا يطلب منه شيئا ولا يسأل، وإنما يطلب به، وكل أحد يفرق بين المدعو والمدعو به . . . " .
إلى أن قال : " ولو قال قائل لمن يستغيث به : أسألك بفلان أو بحق فلان . . . " إلى آخر ما نقله البهنساوي .(1/215)
فاتضح أن مراد الشيخ بيان الفرق بين التوسل والاستغاثة؛ ردًا على من سوى بينهما، وليس مراده أن التوسل بالمخلوق جائز كما توهمه البهنساوي، ونسبه إلى الشيخ بقوله : " ولكن ابن تيمية يرى أن هذا النوع من التوسل جائز إن كان توسلًا بالأنبياء وغير جائز لمن عداهم " .
وإليك ما قاله الشيخ في هذا الموضوع من " مجموع الفتاوى " ( 1/318 ) :
قال رحمه الله :
" وأجمع أهل العلم على أن الصحابة كانوا يستشفعون به ويتوسلون به في حياته بحضرته؛ كما ثبت في " صحيح البخاري " عن أنس بن مالك أن عمر بن الخطاب كان إذا أقحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال :
" اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا " .
والتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكره عمر بن الخطاب قد جاء مفسرا في سائر أحاديث الاستسقاء وهو من جنس الاستشفاع به، وهو أن يطلب منه الدعاء والشفاعة . . . . " .
إلى أن قال :
" لكن هذا الاستسقاء والاستشفاع والتوسل به وبغيره كان يكون في حياته؛ بمعنى أنهم يطلبون منه الدعاء، فيدعو لهم، فكان توسلهم بدعائه، والاستشفاع به : طلب شفاعته، والشفاعة دعاء فأما التوسل بذاته في حضوره أو مغيبه أو بعد موته؛ مثل الإقسام بذاته أو بغيره من الأنبياء أو السؤال بنفس ذواتهم لا بدعائهم؛ فليس هذا مشهورا عند الصحابة والتابعين . . . " .
إلى أن قال :
" وأما بعد موته؛ فلم يكن الصحابة يطلبون منه الدعاء، لا عند قبره، ولا عند غير قبره؛ كما يفعله كثير من الناس عند قبور الصالحين؛ يسأل أحدهم الميت حاجته " .
سادسًا :
يسوغ البهنساوي إدخال التصوف في منهج الإخوان المسلمين؛ تبعًا لما قاله الشيخ حسن البنا، حيث قال :
" إن منهج الإخوان المسلمين دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية " .(1/216)
ويرد على الذين انتقدوا التصوف وقالوا إنه : داء عضال وسم قاتل، يجب على المسلم أن يغيره بيده، أما تمجيده وأن ندعو إلى إقامة ديننا عليه؛ فلا يقبله مسلم .
يرد البهنساوي هذا الانتقاد بأن مراد حسن البنا هو التصوف الذي يتفق مع تصوف إبراهيم بن أدهم، وليس مراده بالتصوف التصوف المذموم، ثم ينقل قطعة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان آراء الناس في الصوفية، وأن الصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله . . . . إلى آخر ما نقله .
وتعقيبنا على ذلك أن نقول : نحن مع الذين انتقدوا حسن البنا في إدخاله الفكر الصوفي في منهج الإخوان المسلمين، وخلطه له مع الدعوة السلفية والطريقة السنية؛ لأن ذلك جمع بين المتضادات، خصوصا بالنظر إلى ما آل إليه التصوف من انحراف عن الدعوة السلفية والطريقة السنية .
ومن ناحية أخرى؛ ففي الطريقة السنية غنى عن الطريقة الصوفية .
وأيضاً؛ التصوف المعروف الآن هو التصوف المنحرف، والشيخ حسن البنا حينما قال ذلك؛ فهو لا يعيش في زمن إبراهيم بن أدهم والجنيد والفضيل، وإنما يعيش في زمن الصوفية المنحرفين، والتصوف الموجود الآن في جميع العالم الإسلامي غالبه ليس هو تصوف ابن أدهم وأقرانه .
ومعلوم أننا إذا فتحنا الباب لهذا اللون، وأدخلناه في منهجنا؛ فإنه سيتمشى مع التصوف المعاصر، شئنا أم أبينا، وإذا كان أوائل الصوفية لم ينحرفوا عن منهج الكتاب والسنة كما قال البهنساوي؛ فهذا لا يسوغ الدعوة إلى الطريقة بعد معرفتنا لما آلت إليه من انحراف وشذوذ .
وكلام شيخ الإسلام ابن تيمية عن أوائل الصوفية لا يؤخذ منه مدح الطريقة الصوفية والدعوة إليها، ولا ينسحب على كل الصوفية، حتى يستغل هذا الاستغلال السيئ، والشيخ تقي الدين عقب كلامه هذا الذي نقله عنه البهنساوي بقوله :
" فهذا أصل التصوف، ثم إنه بعد ذلك تشعب وتنوع " انتهى .(1/217)
هذا ما أردنا التعقيب به على كلمة المستشار سالم البهنساوي لأجل بيان الحق، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .(1/218)
تعقيب وبيان (3)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد وآله وصحبه .
وبعد :
فقد اطلعت في " مجلة الدعوة " ( العدد 925 - الصادر في يوم الاثنين 13 ربيع الآخر 1404هـ ) على مقال لفضيلة الشيخ سالم البهنساوي يعقب به على مناقشتي له في موضوع الصفات، والتي سبق نشرها في " مجلة الدعوة " ( في العددين 916 و917 ) ، ووجدت تعقيب فضيلته يتكون من جزئين :
الجزء الأول : يتعلق بكتاب " الجماعات الإسلامية " وما ذُكِر فيه عن الشيخ حسن البنا، وهذا لا شأن لي به .
والجزء الثاني : يتعلق بمناقشتي له، وهذا ما سأعلق عليه على النحو التالي :
1- لا يزال فضيلته مصرا على أن التفويض في الصفات معناه ترك تأويلها وتعطيلها فقط .
- وقد بيَّنا أن هذا خطأ، وأن تفويض نصوص الصفات هو جحد ما تدل عليه من المعاني الحقيقية، وتفويض تفسيرها وبيان المراد منها إلى الله تعالى؛ كما نقله فضيلته عن السيوطي أنه قال : " ومن المتشابه آيات الصفات؛ نحو : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } ، { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } ، وجمهور أهل السنة منهم السلف وأهل الحديث على الإيمان بها، وتفويض معناها المراد إلى الله تعالى، ولا نفسرها، مع تنزيهنا له عن حقيقتها " .
فهذه الجملة التي نقلها هو عن السيوطي تحدد معنى التفويض، لكن السيوطي أخطأ في نسبة هذا المذهب إلى السلف وأهل السنة والحديث؛ لأن هذا مذهب بعض الخلف، أما السلف؛ فكما نقل فضيلته أيضا عن شيخ الإسلام ابن تيمية من قوله : " ما أخبر به الرب عن نفسه؛ مثل استوائه على عرشه، وسمعه، وبصره، وكلامه، وغير ذلك؛ فإن كيفيات ذلك لا يعلمها إلا الله؛ كما قال ربيعة بن عبد الرحمن، ومالك بن أنس، وسائر أهل العلم، وكذلك سائر السلف؛ كابن الماجشون، وأحمد بن حنبل، وغيرهما يبينون أن العباد لا يعلمون كيفية ما أخبر الله به عن نفسه، فالكيف هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله، وأما نفس المعنى الذي بينه الله؛ فيعلمه الناس، كل على قدر فهمه؛ فإنهم يفهمون معنى السمع، ومعنى البصر، وأن مفهوم هذا ليس مفهوم هذا، ويعرفون الفرق بينهما " .
فهذا النقل الذي نقله فضيلته عن شيخ الإسلام يحدد بدقة مذهب السلف في الصفات، وأنهم يعلمون معانيها، ويؤمنون بها، ولا يفوضونها، بل يثبتونها على حقيقتها اللائقة بجلال الله . ومن العجيب أنه جمع بين هذين النقلين المتضادين عن السيوطي وعن تقي الدين، ولم يتنبه لذلك ! ! وليس هذا شان الباحث .
2- ما نقله فضيلته عن الشيخ ناصر الدين الألباني أنه علق على قول شارح الطحاوية : " ليس المراد من إحاطته بخلقه أنه كالفلك , وأن المخلوقات داخل ذاته المقدسة " , حيث قال الألباني : " وهو من التأويل الذي ينقمه الشارح , مع أنه لا بد منه أحيانا . . . " .(1/219)
- فالجواب عنه : أن هذا ليس من التأويل كما توهمه الشيخ الألباني؛ لأن الإحاطة لها معان كثيرة، ذكرها الراغب في " مفرداته " ( ص 135 ) ؛ منها أنها تستعمل بمعنى العلم؛ نحو : { وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا } ، وقوله عز وجل : { إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } . . . قال الراغب : " والإحاطة بالشيء علما هي أن تعلم : وجوده، وجنسه، وكيفيته، وغرضه المقصود به وبإيجاده، وما يكون به ومنه، وذلك ليس إلا لله تعالى " انتهى .
3- يقول أيضا عن الشيخ الألباني : " إنه لا يعتبر التوسل بحق الأنبياء وجاههم من العقيدة " . وهو يريد بذلك أن يسوغ قول الشيخ حسن البنا : إن التوسل بالمخلوق في الدعاء أمر فرعي .
والواقع أن الشيخ الألباني لا يقصد ذلك، وإنما يقصد أن التوسل بحق الأنبياء وجاههم ليس مما يجوز عمله واعتقاده؛ لأنه بدعة؛ لأنه عدد قبله أشياء هي من مسائل العقيدة قد ذكرها شارح " الطحاوية " ؛ مثل اعتقاد أن القرآن كلام الله، وأن الله مستغن عن العرش وما دونه، محيط بكل شيء وفوقه، وإثبات الفوقية لله، وأن الإيمان تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان، وجواز الاستثناء في الإيمان، ثم ذكر التوسل بحق الأنبياء وجاههم، فقال : " المسألة السابعة . . . ذهب شارح " الطحاوية " تبعا لإمامة أبي حنيفة وصاحبه إلى كراهة التوسل بحق الأنبياء وجاههم . . . " .
إلى أن قال : " فهذه سبع مسائل هامة؛ كلها في العقيدة؛ إلا الأخيرة منها " فهو يريد أن الأخيرة ليست من العقيدة، ولا من الفروع؛ لأنها بدعه لأنه قال :
" وهذا –يعني : مسألة التوسل– مما خالف فيه الكوثري إمامه أبا حنيفة؛ اتباعا لأهواء العامة، ونكاية بأهل السنة " .(1/220)
4- نقل جملة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وهى قوله : " يقول بعضهم : إذا كانت لك حاجة استوص الشيخ فلانا؛ فإنك تجده، أو توجه إلى ضريحه خطوات وناده؛ يقض حاجتك . وهذا غلط لا يحل فعله " ، ثم قال بعد سياق هذه الجملة :
" فالإمام ابن تيمية يخطئ هذا ولا يُحِلِّه، ولكنه لا يرمي صاحبه بالكفر، ولو كان ذلك من الشرك الصريح؛ لصرح بذلك " . – وهو يريد بها أيضا تسويغ قول الشيخ البنا : " إن التوسل بالمخلوق في الدعاء أمر فرعي " .
وجوابنا عن ذلك من وجهين :
أولاً : إن هذا المذكور ليس توسلا، وإنما هو استغاثة بالأموات، حيث يقول : " توجه إلى ضريحه خطوات، وناده؛ يقض حاجتك " ، والاستغاثة بالأموات شرك أكبر .
ثانياً : إن الشيخ قد صرح بأن هذا شرك، ولو أن فضيلة الشيخ البهنساوي فتح عينه على الكلمة التي قبل الجملة التي نقلها؛ لوجد ذلك حيث قال شيخ رحمه الله : " لأن أهل الشرك يشبهون الخالق بالمخلوق؛ كما يقول بعضهم : إذا كانت لك حاجة؛ استوص الشيخ فلانا " .
فأي تصريح أكثر من ذلك ؟
5- ختم مقالته بالدعوة إلى تعاون المسلمين فيما اتفقوا عليه، وأن يعذر بعضهم بعضا فيما اختلفوا فيه .
- وهذه الدعوة يمكن أن ينادي بها أي مخالف، ولو عظمت مخالفته؛ كالرافضة ونحوهم، لكنها لا تجدي مع البقاء على المذاهب الباطلة .
وكان الأحرى بفضيلته أن ينادي بالرجوع إلى الكتاب والسنة، ونبذ التعصب للمذاهب الباطلة، وقد قال الله تعالى : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } . وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم .
لا تسبوا أصحابي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد .
وبعد :
فمما لا شك فيه أن صحابة نبينا هم كل ما لقي النبى - صلى الله عليه وسلم - مؤمنًا به ومات على ذلك .(1/221)
ومن أصول عقيدة أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم؛ كما وصفهم الله بذلك في قوله سبحانه :
{ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمان وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [ الحشر : 10 ] .
وطاعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله :
( لا تسبوا أصحابي؛ فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا؛ ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ) .
متفق عليه قال الإمام الشوكاني في تفسيره على الآية الكريمة :
" فمن لا يستغفر للصحابة، ويطلب رضوان الله عليهم؛ فقد خالف ما أمر الله به في هذه الآية .
فإن وجد في قلبه غلًا لهم؛ فقد أصابه نزغ من الشيطان، وحل به نصيب وافر من عصيان الله بعداوة أوليائه وخير أمة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وانفتح له باب من الخِذلان ما يفد به على نار جهنم إن لم يتدارك نفسه باللجوء إلى الله سبحانه والاستغاثة به بأن ينزع من قلبه ما طرقه من الغل لخير القرون وأشرف هذه الأمة .
فإن جاوز ما يجده من الغل إلى شتم أحد منهم؛ فقد انقاد للشيطان بزمام، ووقع في غضب الله وسخطه، وهذا الداء العضال يصاب به من ابتلي بمعلم من الرافضة، أو صاحب من أعداء خير الأمة الذين تلاعب بهم الشيطان، وزين لهم الأكاذيب المختلفة والأقاصيص المفتراة والخرافات الموضوعة، وصرفهم عن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " . اهـ كلام الشوكاني .(1/222)
وإنما نقلته بعد ما ذكرته في مطلع هذه الكلمة من مكانة صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عقيدة المسلمين من حبهم وإجلالهم والعمل بوصية الله ووصية رسوله باحترامهم والاستغفار لهم وتطهير القلوب الألسنة من سبهم والوقيعة فيهم وتجنيب ما دس في بعض كتب الضلالة أو الكتب غير المعتمدة من تنقصهم بالحكايات المكذوبة والأخبار الملفقة .
أقول : إنما ذكرت ذلك ونقلت بمناسبة ما نشرته جريدة " الشرق الأوسط "
( بتاريخ 29/4/1408هـ ) في صفحة : دين وتراث، في زاوية : قضية ورأي، بقلم محمد حسن الريفي، تحت عنوان :
( بين معاوية والأنصار ) ، حيث أورد الكاتب حكاية مكذوبة، تتضمن أن بعض الأنصار - رضي الله عنهم - تنقصوا معاوية .
- رضي الله عنه - في مقابلة جرت بينهم لما قدم المدينة، حيث لمزه بعضهم كما تقول الحكاية بالحرب التي جرت في طلب أبي سفيان والد معاوية وأصحابه في بدر، وأن معاوية - رضي الله عنه - سكت مفحمًا، ولمزه بعضهم بأنه لم يأمنه الله ورسوله على كتابة الوحي . ويعلق الكاتب بأن أبا سفيان كان مشركًا، ثم أسلم، وأصبح من المؤلفة قلوبهم، وأن معاوية كان رأس الفتنة الباغية، واتهمه في موقفه من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني : الأنصار الذين قابلوه ! !
ولم يذكر الكاتب المرجع الذي استقى منه تلك القصة، ولعله فعل ذلك؛ لئلا يعرف من أين صدرت، مع أن الكتب التي تضم مثل تلك الحكاية الساقطة الحاقدة معروفة، ولو تستر عليها وتحفظ من ذكرها .
وليس العجيب من وجود مثلها في مزابل بعض الكتب المشبوهة، وإنما العجيب أن يلتقطها كاتب يحترم نفسه، وينتسب للتحقيق الصحفي، وينفخ فيها، وينشرها في جريدة عالمية هي الأخرى تحترم نفسها، ويفترض فيها أن تتحرى فيما تنشره الحقيقة البناءة لا نشر الطعن في خير رجال الأمة من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين هم خير القرون، والكذب على الأنصار .(1/223)
ثم ماذا على أبي سفيان فيما جرى منه قبل أن يسلم وقد تاب إلى الله وأسلم، والله تعالى يقول : { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ } [ النساء : 22 ] ؟ !
وماذا على ابنه معاوية في ذلك، حتى لو لم يسلم أبوه ويتب إلى الله تعالى، والله تعالى يقول : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [ الأنعام : 164 ] ؟ !
ثم من جهل واضع هذه الحكاية وجهل الكاتب الذي نقلها أنهما خالفا الحقائق التاريخية؛ فإن أبا سفيان لم يحضر قتال بدر؛ لأنه قد ذهب مع العير إلى مكة، وكتب إلى قريش يشير عليهم بالرجوع لما سلمت العير من المسلمين .
وكذلك جهلا أن معاوية - رضي الله عنه - من كتاب الوحي المشهورين، وقد ائتمنه الله ورسوله على ذلك، لا كما تقول الحكاية المكذوبة .
وجهلا أن رأس الفتنة هو عبد الله بن سبإ اليهودي الذي ادعى التشيع لأهل البيت كذبًا وزورًا . ولكن يأبى الله إلا أن يفضح الكاذبين . والذي نرجوه من جريدة الشرق الأوسط ألا تنشر مثل هذه الترهات والأباطيل، ولا سيما ما يجرح شعور المسلمين في سلفهم الصالح وصحابة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهم، وأن تتحف قراءها فيما هو نافع ومفيد . سدد الله خطى الجميع في دروب الخير والسعادة . وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله ونبيه محمد وآله وصحابته أجمعين .
الإسلام لا يقر النخوة الجاهلية والتفرقة العنصرية
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
وبعد :
فقد نشر في " مجلة المستقبل " ( 5/5/1981م ) لقاء مع الكاتب السوري محمد سالم(1/224)
تحت عنوان : " الإسلام والعروبة والقومية أشكال مجازية لمضمون واحد " ، وهذا العنوان هو خلاصة ما أجاب به الكاتب على تساؤلات المجلة، وهو يفصح عن اعتقاده بأن هذه الأمور الثلاثة شيء واحد، ويفسر الإسلام بتفسير بعيد عن معناه، حيث يفسره بأنه اعتقاد روحي ومادي وحقيقة الكون والحياة على حد سواء ويقارن بينه وبين العروبة، فيقول :
" فإذا كان الاعتقاد الإسلامي تحرري المضمون وأخلاقي السلوك؛ فإن العروبة هي كذلك، وإلا لما كتب لها البقاء والاستمرار على الشكل الحضاري والإنساني "
ويخلص في نهاية بحثه إلى قوله :
" وهكذا نرى أن تلك المسميات الثلاثة : الإسلام، والعروبة، والقومية؛ ليست سوى أشكال مجازية لمضمون واحد "
- وملاحظتنا عليه من وجوه :
الوجه الأول :
تفسيره الإسلام بأنه : " اعتقاد روحي ومادى لحقيقة الكون والحياة . . . " إلخ تفسير باطل، فالإسلام ليس هو مجرد اعتقاد، بل هو اعتقاد وعمل، وليس هو اعتقاد لحقيقة الكون كما يقول، بل هو اعتقاد وإيمان بالخالق وبما له من الأسماء والصفات، وما يجب له من العبادة، وعمل بما شرع من الطاعات، وترك لما منع منه من المحرمات، فهو بهذا المعنى استسلام لله بالطاعة والخضوع والتذلل، وانقياد لشرعه، وهو الدين الذي لا يقبل من أحد سواه؛ كما قال تعالى : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإسلام } [ آل عمران : 19 ] ، وقال تعالى : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ آل عمران : 85 ] ، ولقد فسره النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح بأنه : ( شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام ) .
الوجه الثاني :(1/225)
زعموا أن الإسلام والعروبة والقومية شيء واحد ! ! وهذا من الخلط الناشئ عن الجهل بحقيقة كل من هذه الأمور الثلاثة أو التجاهل، فحقيقة الإسلام كما بيناها سابقًا في الوجهة الأولى، وحقيقة العروبة أنها انتماء إلى طائفة من البشر تنحدر من أصول معينة وتنطق لغة معينة، وحقيقة القومية كذلك انتماء ونخوة، فهما شيء واحد معناهما العنصرية والنخوة الجاهلية، ولا يجتمعان مع الإسلام في شيء، فالإسلام دين وتشريع؛ يستمد من الوحي الإلهي الذي جاءت به الرسل، يترتب عليه الثواب العاجل والآجل، والقومية والعروبة انتماء بشري من فعل البشر، يقومان على العنصرية والنخوة الذين ينشأ عنهما التفرق والاختلاط بين أجناس البشر، مما يؤدي بالتالي إلى التطاحن والتناحر والتفكك؛ كما هو الواقع في الجاهلية الأولى والجاهلية المعاصرة التي اتخذت من القوميات والعنصريات أساسًا لحكمها وتضامنها . وهذا بخلاف الإسلام الذي يجمع بين الجنسيات المختلفة، ويوحد بينهم، ويؤلف بين قلوبها، حتى تكون جماعة واحدة، لا فضل لعربيها على عجميها، ولا لأبيضها على أسودها؛ إلا بالتقوى
{ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [ الحجرات : 13 ] .
الوجه الثالث :
في قول : " إن المسميات الثلاثة الإسلام والعروبة والقومية ليست سوى أشكال مجازية لمضمون واحد " .
هذا القول فيه تمويه على الجهال والإغرار بأن الإسلام يقر الانتماء إلى العنصريات والقوميات، وإن العروبة والقومية تسد مسد الإسلام ! ! ولا يخفى ما في هذا الدس من المغالطة والخطورة على من لم يعرف حقيقة الإسلام وحقيقة الجاهلية، رضي الله عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، حيث يقول : " إنما تنقد عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية " . فالإسلام لا يقر العنصريات والنعرات القومية، بل يحاربها، ويندد بها .(1/226)
قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [ الحجرات : 13 ] . فأرجع البشر كلهم إلى أب واحد وأم واحدة، لا فضل لأحد منهم على آخر إلا بالتقوى . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( إن الله قد أذهب عنك عبية الجاهلية، وتفاخرها بالآباء، كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى ) . ولما حصل شجار بين رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار، فقال المهاجري : يا للمهاجرين !
وقال الأنصاري : يا للأنصار !
أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه النخوة الجاهلية، وقال : ( أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ؟ ! ) . وقال : ( دعوها؛ فإنها منتنة ) .
وقال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [ الحجرات : 10 ] . ولم يفرق بين جنسياتهم . ولم تنفع أبا جهل وأبا لهب عروبتهما، ولم تضر بلالًا الحبشي، وسلمان الفارسي، وعمار بن ياسر؛ لم يضر هؤلاء عدم عروبتهم، حيث أصبحوا من سادة المسلمين، فكيف يقال بعد هذا : إن الإسلام والعروبة والقومية شيء واحد وأشكال مجازية لمضمون واحد ؟ ! هل هذا إلا جمع بين ما فرق الله ؟ !(1/227)
ثم إذا كانت بمعنى واحد؛ فلأى شيء جاء الإسلام ؟ ! وما وظيفته في الحياة وهل هو على هذا الاعتبار إلا تحصيل حاصل، وتكرار لمضمون واحد ؟ ! ثم إذا كانت العروبة والقومية هما والإسلام شيء واحد؛ فلماذا لم تؤد القومية والعروبة دور الإسلام قبل وجوده ؟ ! ألم يكن العرب قبل الإسلام ضالين في عقائدهم، منقسمين على أنفسهم، لا تجمعهم رابطة، ولا تهدأ بينهم حرب، يتسلط قويهم على ضعيفهم، ولا يراعون فيما بينهم عروبة ولا قومية، وقد ذكرهم الله تعالى بهذا في قوله : { وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عليكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا } [ آل عمران : 103 ] . إن مساواة الإسلام بالعروبة والقومية مساواة بين الشيء وضده، مساواة بين الهدى والضلال، وبين الضياء والظلام، بل لو قيل : إن الإسلام أحسن من القومية والعروبة؛ لكان في هذا تنقص وهضم له؛ كما قيل :
ألم تر أن السيف ينقص قدره ** إذا قيل إن السيف أمضى من العصا(1/228)
فكيف إذا قيل : إن الإسلام والعروبة والقومية ليست سوى أشكال لمضمون واحد ؟ ! هل هذا إلا من أعظم المغالطة والخلط والتضليل ؟ ! وهل يقول هذا إلا من لا يفرق بين الإسلام والجاهلية، أو يقصد الإيهام والتضليل ؟ ! نسأل الله أن يهدينا إلى معرفة الحق، والعمل به، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا . ثم يمضي الكاتب في تسويته بين المتضادات، فيزعم أن اختلاف العقائد يمثل بحد ذاته عنصرًا تكامليًا، حيث يقول : " إن الدين في مضمونه إنساني، واختلاف التعاليم من اعتقاد إلى آخر يمثل بحد ذاته عنصرًا تكامليًا ضمن واقع الانطلاق الفكري والحركي المستمر علوًا حتى أفضل مسيرة إنسانية " . وهذا معناه التسوية بين عقيدة التوحيد وعقيدة الشرك، وعقيدة المسلمين وعقيدة النصارى الذين يقولون : { إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } [ المائدة : 73 ] ! ! وإلا؛ فأي معنى لقوله : " واختلاف التعاليم من اعتقاد إلى آخر يمثل بحد ذاته عنصرًا تكامليًا " ؟ ! أليس معناه أن كل اعتقاد يلتقي مع الاعتقاد الآخر ويكمله ؟ ! أن الاعتقاد الصحيح اعتقاد واحد لا اختلاف فيه، هو عقيدة التوحيد التي بعث الله بها جميع رسله . قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] . وقال تعالى : { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 92 ] . وأي عقيدة تخالف هذه العقيدة؛ فهي باطلة، فهي عقيدة الطاغوت الذي أمر الله باجتنابه . ولو كانت كل عقيدة تمثل عنصرًا تكامليًا كما يقول الكاتب؛ فما الفائدة من بعثة الرسل، وإنزال الكتب، وأمر الناس بعقيدة واحدة ؟ ! هل هذا إلا عين المغالطة في أوضح الواضحات ومما يعلم بالضرورة ؟ !
وليس يصح في الأذهان شيء ** إذا احتاج النهار إلى دليل(1/229)
هذا ما أردت التنبيه عليه مما جاء في مقالة الكاتب المذكور، خشية الاغترار بها، والله تعالى أعلم .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
والحمد لله رب العالمين .
( 3 )
حول البدع وإنكارها
في إنكار الوصية المكذوبة والمنسوبة إلى الشيخ أحمد خادم المسجد النبوي
الحمد لله وحده .
أما بعد :
يقول الله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إليكُمْ نُورًا مُّبِينًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إليهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا } [ النساء : 174 ] .
{ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ الأنعام : 153 ] . { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عليهم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } [ مريم : 58 ] . { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا } [ النساء : 115 ] . في هذه الآيات الكريمة يذكر الله عباده بنعمته عليهم بإنزال كتابه الذي أخرجهم به من الظلمات إلى النور ويأمرهم بالاعتصام والتمسك به، ويحذرهم من مخالفته وطلب الهداية من غيره من الآراء والأهواء المضلة؛ مما يدل على أنه سيكون هناك محاولات تبذل من شياطين الجن والإنس لصرف الناس عن كتاب ربهم وسنة نبيهم، وإخراجهم من النور إلى الظلمات، وصرفهم عن طريق الجنة إلى طريق النار .(1/230)
وما زال هذا الخبث والمكر السيئ يبذل من أعداء الله ورسوله منذ بعث الله نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا . ومن ذلك ما ظهر من سنوات في هذه البلاد من خرافة صاغها الشيطان مضل على صورة رؤيا منسوبة إلى الشيخ أحمد خادم المسجد النبوي الشريف، وقصده بهذه النسبة ترويج هذه الفرية، وقد ضمن هذه الرؤيا المزعومة أكاذيب وتهديدات وتخويفات زعم أنه تلقاها من النبي - صلى الله عليه وسلم - حين رآه في المنام، وقال له :
" أخبر أمتي بهذه الوصية؛ لأنها منقولة بقلم القدر من اللوح المحفوظ، ومن يكتبها ويرسلها من بلد إلى بلد ومن محل إلى محل؛ بنى له قصرًا في الجنة، ومن لم يكتبها ويرسلها؛ حرمت عليه شفاعتي يوم القيامة، ومن كتبها وكان فقيرًا؛ أغناه الله، أو كان مديونًا؛ قضى الله دينه، أو عليه ذنب؛ غفر الله له ولوالديه ببركة هذه الوصية، ومن لم يكتبها من عباد الله؛ اسود وجهه في الدنيا والآخرة، ومن يصدق بها؛ ينجو ( كذا، والصواب : ينجُ ) من عذاب الله، ومن كذب بها كفر " .
هذا بعض ما جاء في هذه الوصية المكذوبة التي تجرأ مخترعها على الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي قال : ( من كذب علي متعمدًا؛ فليتبوأ مقعده من النار ) . وهذه الوصية المكذوبة قديمة، وقد ظهرت في مصر منذ أكثر من ثمانين سنة، وقد دحضها أهل العلم، وزيفوها وبينوا ما فيها من الكذب والباطل؛ منهم الشيخ محمد رشيد رضا - رحمه الله - وقد قال في رده عليها : " قد أجبنا عن هذه المسألة سنة ( 1322هـ ) ، وإننا نتذكر أننا رأينا مثل هذه الوصية منذ كنا نتعلم الخط والتهجي إلى الآن مرارًا كثيرًا، وكلها معزوة إلى رجل اسمه شيخ أحمد خادم الحجرة النبوية، والوصية مكذوبة قطعًا، لا يختلف في ذلك أحد شم رائحة العلم والدين، وإنما يصدقها البلداء من العوام الأميين " . ثم رد عليها - رحمه الله - ردًا مطولًا مفيدًا دحض فيه كل ما جاء فيها من الافتراءات .(1/231)
ثم إن هذه الوصية اختصرت وجيء بها إلى هذه البلاد على يد بعض المخرفين والدجالين؛ بقصد إفساد عقائد الناس، وصرفهم عن كتاب ربهم وسنة نبيهم، حتى يسهل تضليلهم بمثل هذه الوصية الكاذبة . وقد تلقفها بعض الجهلة، وأخذوا يطبعونها ويوزعونها؛ متأثرين بما فيها من الوعود والوعيد؛ لأن هذا الفاجر الذي اخترعها قال فيها :
" فمن طبع منها كذا من النسخ ووزعها؛ حصل على مطلوبه، إن كان مذنبًا؛ غفر الله له، وإن كان موظفًا؛ رفع إلى وظيفة أحسن من وظيفته، وإن كان مدينًا؛ قضى دينه، ومن كذب بها؛ اسود وجهه، وحصل عليه كذا وكذا من العقوبات " .
فإذا قرأها بعض الجهلة؛ تأثر بها، وعمل على نشرها خوفًا وطمعًا .
وقد قام العلماء ببيان كذب هذه الوصية، وحذروا الناس من نشرها والتصديق بها، ومن هؤلاء العلماء الشيخ عبد العزيز بن باز - حفظه الله - فقد رد عليها برد جيد مفيد، وبين ما فيها من الكذب والتدجيل .
ولما رأى مروجها أن المسلمين قد تنبهوا لدسهم، وعرفوا حقيقتهم؛ أخذوا ينشرونها خفية، ويغرون بعض الجهال بنشرها وتوزيعها .
- وهذه الوصية باطلة من عدة وجوه :
أولًا : إن أحكام الدين والوعد والوعيد والأخبار عن المستقبل؛ كل هذه الأمور لا تثبت إلا بوحي من الله إلى رسله، والوحي قد انقطع بموت الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعدما أكمل الله به الدين، وقد ورث لنا الكتاب والسنة، وفيهما الكفاية والهداية .
اما الرؤيا والحكايات؛ فلا يثبت بها شيء؛ لأن غالبها من وضع الشياطين؛ لإضلال الناس عن دينهم .
ومفتري هذه الوصية يعد من صدقها ونشرها بدخول الجنة، وقضاء حوائجه، وتفريج قرباته، ويتوعد من كذب بها بدخول النار، أنه يسود وجهه .
وهذا تشريع دين جديد، وكذب على الله سبحانه وتعالى، نعوذ بالله من ذلك .(1/232)
ثانيًا : إن مفتري هذه الوصية جعلها أعظم من القرآن الكريم؛ لأن من كتب المصحف الشريف وأرسله من بلد إلى بلد؛ لا يحصل له هذا الثواب الذي قال فيه الدجال : إنه يحصل لمن ينشر هذه الوصية .
ومن لم يكتب القرآن ويرسله من بلد إلى بلد؛ لا يحرم من شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان مؤمنًا ! !
فكيف يحرم المؤمن من الشفاعة إذا لم يكتب هذه الوصية ويرسلها من بلد إلى بلد كما يقول مفتريها ؟ !
ثالثًا : إن هذه الوصية فيها ادعاء علم الغيب، حيث جاء فيها : " إنه من الجمعة إلى الجمعة مات مائة وستون ألفًا على غير دين الإسلام " . فهذا من ادعاء علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله؛ فإنه هو الذي يعلم عدد من يموت على الإسلام ومن يموت على الكفر، ومن ادعى علم الغيب؛ فهو كافر بالله .
رابعًا : إن الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة لا يثبتان إلا بنص من كتاب الله وسنة رسوله، وهذه المفتري في هذه الوصية جعل الثواب لمن صدقها والعقاب لمن كذب بها ولم ينشرها، وقد فضحه الله – الحمد لله – فكثيرًا من المسلمين كذبوها وزيفوها ولم يحصل لهم إلا الخير، والذين صدقوها ونشروها لم يحصل لهم إلا الخيبة والخسارة .
ثم إن هذا المفتري أراد أن يوهم العوام والجهال بصدق هذه الوصية، فحلف بالله أيمانًًا مكررة أنه صادق، وأنها حقيقة، وأنه إن كان كاذبًا؛ يخرج من الدنيا على غير الإسلام، وأراد أن يتظاهر بحب الإسلام، وبغضه للمعاصي والمنكرات، حتى يحسن به الظن ويصدق .
وهذا من مكره وخبثه، بل ومن غباوته وجهله؛ فإن الحلف وكثرة الإيمان لا تدل على صدق كل حالف، فكثير من الكذابين يحلفون للتغرير بالناس، فهذا إبليس حلف للأبوين عليهما السلام : { إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } [ الأعراف : 21 ] .
الله تعالى قال لنبيه : { وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ } [ القلم : 10 ] .
وأخبر أن المنافقين يحلفون على الكذب وهم يعلمون، ويقول عنهم :(1/233)
{ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ التوبة : 107 ] .
هل يظن هذا الغبي الأحمق أنه إذا افترى الكذب على الله ورسوله في هذه الوصية، وحلف في آخرها؛ أن المسلمين سيصدقون ويقبلون أقواله ؟ ! حاشا وكلا .
وأما تظاهره بالغيرة على الدين، والتألم من المنكرات؛ فهو من التغرير الذي يقصد من ورائه أن يحسن الناس به الظن، ويقبلوا قوله، ولم يدر أن فرعون اللعين تظاهر لقومه بالنصح والشفقة حينما قال لهما يحذرهم من اتباع موسى عليه السلام :
{ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأرض الْفَسَادَ } [ غافر : 26 ] .
فما كل من تظاهر بالمناصحة والغيرة يكون صادقًا .
ويكفينا ما جاء في الكتاب والسنة من التحذير من المنكرات والمعاصي، وبيان العقوبات المترتبة عليها، ففي ذلك الكفاية لأهل الإيمان . . .
هذا؛ وربما يسأل سائل : ما هو الهدف الذي يقصده صاحب هذه الوصية ؟ وما هو الدافع لقيامه بافترائها وترويجها ؟
والجواب : أن هدفه من ذلك تضليل الناس عن كتاب ربهم وسنة نبيهم، وصرفهم إلى الخرافات والحكايات المكذوبة، فإذا صدقوا في هذه وراجت بينهم، اخترع لهم أخرى وأخرى، حتى ينشغلوا بذلك عن الكتاب والسنة، فيسهل الدس عليهم، وتغيير عقائدهم؛ فإن المسلمين ما داموا متمسكين بكتاب ربهم وسنة نبيهم؛ فلن يستطيع المضللون صرفهم عن دينهم، لكنهم إذا تركوا الكتاب والسنة وصدقوا الخرافات والحكايات والرؤى الشيطانية؛ سهل قيادهم لكل مضلل وملحد .
وقد يكون من وراء ذلك منظمات سرية من الكفار، تعمل على ترويج هذه المفتريات؛ لصرف المسلمين عن دينهم .
ومما يدل على ذلك أن هذه الخرافة موجودة منذ قرن من الزمان، ويبعد أن يكون مخترعها على قيد الحياة، فلولا أن هناك من يعمل على ترويجها من بعده؛ لم تظهر .(1/234)
فإياكم أيها المسلمون والتصديق بهذه المفتريات، ولا يكن لها رواج بينكم، واسألوا أهل العلم عما أشكل عليكم، ومن رأيتموه يكتب هذه الوصية المكذوبة ويروجها؛ فبلغوا عنه أهل العلم، فبلغوا عنه أهل الحسبة والسلطة؛ لأخذ على يديه، وردعه، وكفى شره عن المسلمين .
إن أعداء الله ورسوله من الكفار والمنافقين وشياطين الجن والإنس دائمًا يحاولون صرف الناس عن دين الحق إلى دين الباطل، وعن طريق الجنة إلى طريق النار، وعن اتباع الرسل إلى اتباع الشياطين والمضلين، فكانوا يحرفون شرائع الأنبياء، ويغيرون الكتب المنزلة على الرسل؛ كما فعلوا في التوراة والإنحيل .
ولما بعث الله خاتم النبيين محمد - صلى الله عليه وسلم - وأنزل عليه القرآن العظيم والشرع القويم؛ تكفل سبحانه بحفظ القرآن العظيم من التغيير والتبديل، فقال سبحانه وتعالى :
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] .
وقال تعالى :
{ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [ فصلت : 42 ] .(1/235)
وحفظ سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - من كذب الكذابين؛ بما أقام عليها من الحراس الأمناء، وصفوة العلماء، الذين حفظوها ونقلوها بأمانة، ونفوا عنها كل ما حاول إدخال فيها الكذابون والدجالون، فوضعوا الضوابط والقواعد التي يعرف بها الحديث الصحيح من الحديث المكذوب، ودونوا الأحاديث الصحيحة وحموها، وحشروا الأحاديث المكذوبة وحذروا منها . فلما لم يجد أعداء الله ورسوله لهم منفذ لدس في كتاب الله وسنة رسوله؛ لجؤوا إلى محاولة صرف الناس عن الكتاب والسنة، وإشغالهم بالحكايات المكذوبة والمنامات المزورة، التي تشمل على الترغيب الترهيب والوعود الكاذبة التي تغري وتغر ضعاف الإيمان والجهلة، فصرفوا كثيرًا منهم إلى الشرك والإلحاد والبدع باسم الدين والعبادة والزهد جريًا وراء تلك الخرافات .
فدين هؤلاء المنحرفين لا ينبني على الكتاب والسنة، وإنما ينبني على الحكايات المكذوبة والمنامات المذعومة، فضلوا عن الهدى، وتركوا كتاب الله وسنة رسوله إلى وساوس الشياطين، وهذا جزاء من أعرض عن الكتاب والسنة .
قال تعالى : { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } [ الزخرف : 36 - 37 ] .
فيا عباد الله ! تمسكوا بكتاب ربكم وسنة نبيكم، واحذروا الدسائس المضلة التي يروجها أعداء الملة .
وفق الله الجميع للاعتصام بالكتاب والسنة .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
نظرات في كتاب " علموا أولادكم حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "
لمعالي الدكتور محمد عبده يماني
اطلعت على كتاب ألفه معالي الدكتور محمد عبده يماني تحت عنوان : " علموا أولادكم حب رسول الله " ، وطبعه عدة طبعات، وجاء على غلاف الطبعة الثالثة منه ما نصه :
" طبع بموافقة وزارة الإعلام رقم 1112/ م ج " ، وتاريخ " 30/3/1405 هـ " .(1/236)
ولم يذكر معاليه موافقة مراقبة المطبوعات في الافتاء، مع أن هذا أمر لازم، يجعل لهذه الجهة بتخطيه لها المطالبة بحقها نحو هذا الإجراء المخالف لنظام المطبوعات .
ونحن وكل مسلم نتفق مع معالي الدكتورعلى أن محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - واجبة على كل مسلم، بل هي من أعظم أصول الإيمان ومسائل العقيدة، وتأتي في الدرجة الثانية بعد محبة الله تعالى، وبغض الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو بغض شيء مما جاء به ردة عن دين الإسلام . ونتفق كذلك مع معاليه على أن بيان هذا للناس أمر واجب .
ولكن بيانه يكون بالطريقة الشرعية، والأدلة الصحيحة من الكتاب والسنة، وعلى ضوء العقائد المعتبرة عند أهل السنة والجماعئة، وهذا ما لم يتوفر في كتاب معاليه كما يأتي بيانه، وذلك على النحو التالي :
1- قوله في العنوان :
" علموا أولادكم حب رسول الله "
هل المحبة تعلم تعليمًا، أو هي عمل قلبي يقوى وينمى ؟ !
كان الأولى بالدكتور أن يقول : بينوا لأولادكم وجوب محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونموها في قلوبهم؛ ببيان صفاته وخصائصه، وما جاء على يديه من هداية الأمة، وإخراجها من الظلمات إلى النور، وإنقاذها من الخرافات والبدع والشركيات إلى التوحيد الخالص والعقيدة الصحيحة .
2- لماذا اقتصر معاليه على محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يذكر محبة الله تعالى التي هي الأصل الذي تتبعه محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ؟ !
لماذا يذكر الفرع ويترك الأصل ؟ !
ألم تكن محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - تأتي بعد محبة الله تعالى في الكتاب السنة؛ كقوله تعالى : { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ } [ التوبة : 24 ] . . . إلى قوله تعالى : { أَحَبَّ إليكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } [ التوبة : 24 ] . وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ثلاث من كن فيه؛ وجد بهن حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما . . . ) الحديث ؟ !(1/237)
وقال تعالى :
{ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ } [ البقرة : 165 ] ، { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [ آل عمران : 31 ] .
3- ما علاقة محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بابتداع الاحتفال في اليوم الذي يقال : إنه اليوم الذي ولد فيه، وهو اليوم الثاني عشر من ربيع الأول، حيث ذكر معالي الدكتور ذلك في كتابه، ودعا إليه من صفحة ( 95 ) إلى صفحة ( 103 ) ، وحاول في هذه الصفحات أن يسوغ هذا الاحتفال؛ دون أن يبرز دليلًا صحيحًا واحدًا أو استدلالًا صحيحًا على ما قال، سوى أنه عادة أحدثها بعض الناس : { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ } .
ولسنا بصدد مناقشة الشبهات التي ذكرها هنا؛ لأن هذا له موضع آخر، وقد نوقشت والحمد لله في أكثر من كتاب وتبين أن الاحتفال بالمولد بدعه محدثة .
ونحن نسأل معالي الدكتور : هل شرع الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا الاحتفال لأمته أو هو شيء محدث بعده ؟
وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ( من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد ) .
وهل فعله صحابته وخلفاؤه الراشدون الذين لا يسويهم أحد في محبته - صلى الله عليه وسلم - ؟ !
هل كانوا مقصرين في محبته حين لم يفعلوه ؟ !
لا؛ بل إنهم لم يفعلوه؛ لأنه بدعة، وقد نهى - صلى الله عليه وسلم - عن البدعة، وفعل البدع معصية له - صلى الله عليه وسلم - يتناقض مع محبته؛ لأن محبته تقضي متابعته وترك ما نهى عنه .
فيا معالي الدكتور ! كيف نعلم أولادنا محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ندعوهم لمخالفته بفعل البدع ؟ ! أليس هذا تناقضًا ؟ !(1/238)
ليتك قلت : علموهم متابعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانهوهم عن مخالفته، وألزموهم بطاعته؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع ) .
4- ما علاقة تحديد المكان الذي ولد فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بموضوع محبته . . . حيث شغل الدكتور حيزًا كبيرًا من كتابه في البحث عن تحديده من صفحة ( 179 ) إلى ( 191 ) ، واتبع فكره وقلمه في ذلك بما لا جدوى من ورائه ولم يكلف بمعرفته .
هل عين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا المكان لأمته ؟ !
هل اعتنى الصحابة والتابعون ومن بعدهم من القرون المفضلة وأئمة الإسلام المعتبرون بتعيين هذا المكان ؟ !
وماذا يرجع على الأمة من تعيين ؟ !
لو كان في ذلك ما يعود على الأمة بخير؛ ما تركه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته، بل إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يهتم بشأن بيته الذي كان يسكنه في مكه قبل الهجرة، ولما سئل - صلى الله عليه وسلم - لما قدم مكة، وقيل له : أتنزل في دارك ؟ قال - صلى الله عليه وسلم - :
( وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور ؟ ) .
ما كان - صلى الله عليه وسلم - يهتم بالأمكنة التي سكنها وعاش فيها؛ على أن يهتم بالمكان الذي ولد فيه، ولم يكن صحابته يفعلون ذلك؛ لأن ذلك يفضي إلى أن نتخذ هذه الأمكنة متعبدات ومعتقدات فاسدة .
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد البعثة لم يهتم بشأن غار حراء الذي ابتدأ نزول الوحي عليه فيه؛ لأن الله لم يأمره بذلك .
ولما رأى عمر - رضي الله عنه - الناس يذهبون إلى الشجرة التي وقعت تحتها بيعة الرضوان؛ قطعها مخافة أن يفتن الناس بها .
فلا تفتحوا للناس بابًا مغلقًا، وتذكروا قوله تعالى : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أليمٌ } [ الفرقان : 63 ] .(1/239)
ولهذا لا نجد في كتاب الله ولا في سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - إشارة إلى البقعة التي ولد فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه لا فائدة من ذلك، وليس في الاعتناء بذلك دلالة على محبته - صلى الله عليه وسلم - وإنما علامة محبته - صلى الله عليه وسلم - اتباعه، والعمل بسنته وترك ما نهى عنه؛ كما قال الشاعر الحكيم في ملازمة المحبة للطاعة :
لو كان حبك صادقًا لأطعته ** إن المحب لمن يحب مطيع
5- حشد معالي الدكتور في كتابه هذا أمورًا وأشياءَ كثيرة فيها نظر، وذكر فيها أحاديث لم يبين درجتها، ولم يوثقها من دواوين السنة المعتبرة .
والواجب عليه – كالباحث يحمل أكبر درجة علمية – أن لا يهمل ذلك؛ لأن القراء ينتظرون منه ومن أمثاله أن يقدم لهم بحثًا مستوفيًا الجوانب العلمية والمعنوية .
ومما جاء في كتابه :
أ - أبيات : " طلع البدر علينا " ؛ قال عنها :
" هذا نشيد سمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم دون شك ولا ريب " . . .
إلى أن قال : " وقد ارتفع هذا النشيد لأول مرة من حناجر المسلمين والمهاجرين والأنصار منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا " .
ونقول : ما الذي يجعلك يا معالي الدكتور تجزم بسماع الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا النشيد دون شك ولا ريب ؟ وما الذي يجعلك تجزم بنسبته إلى المهاجرين والأنصار ؟ أين سندك في هذا ؟ أيظن معاليكم أن القراء يقتنعون بمثل هذا الكلام دون تحقيق وتوثيق ؟
كلا .
ب - في ( ص111 ) قال معالي الدكتور : " وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن سنته ؟ فقال : المعرفة رأس مالي، والحب أساسي، والشوق مركبي . . . " الخ .(1/240)
ولا ندري من أين جاء الدكتور بهذا الحديث، فهو لم يذكر له سند، ولم يعزه إلى كتاب، ولا تجوز النسبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم دون التثبت؛ لأن ما ينسب قد يكون مكذوبًا على الرسول صلى الله عليه وسلم، فيدخل تحت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من كذب عليّ متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار ) .
6- في الكتاب مبالغات في حقه صلى الله عليه وسلم قد نهى عنها، حيث قال عليه الصلاة والسلام :
( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا : عبد الله ورسوله ) . رواه البخاري وغيره .
ومن هذه المبالغات :
أ - ما جاء في ( ص113 ) :
" واجب على كل مؤمن متى ذكره أو ذكر عنده أن يخضع ويخشع . . . الخ " .
ونقول تعقيبًا على ذلك : أليس الخضوع والعبادة حق لله ؟ ! وكذلك الخضوع، إذا كان القصد منه الخضوع بالجسم؛ فهو لا يكون إلا لله؛ لأنه سبحانه هو الذي يركع له ويسجد، وإذا كان المراد به الانقياد لطاعته؛ فالتعبير خطأ؛ لأنه موهم .
والمشروع عند ذكره صلى الله عليه وسلم هو الصلاة عليه، لا ما ذكره معالي الدكتور، وأن كان قد نقله عن غيره؛ فهو قد أقره .
ب - جاء في ( ص 208 ) قوله :
" ومما تجدر الإشارة إليه أنه صلى الله عليه وسلم أول الأنبياء خلقًا، وأن كان آخرهم مبعثًا " .
هكذا قال ! ولم يذكر له مستندًا ولا دليلًا ! !
وهل هناك أحد من بني آدم يخلق قبل خلق أبيه وأمه بآلاف السنين ؟ ! أليس نسل آدم كلهم من ماء مهين و { مِن مَّاء دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ } ؟ !
كيف يخلق محمد صلى الله عليه وسلم قبل الأنبياء، ثم يخلق مرة ثانية، ويولد بعد ما تزوج أبوه بأمه، وحملت به عن طريق انتقاله ماءً دافقًا من صلب أبيه إلى رحم أمه؛ كما هي سنة الله في بني آدم ؟ ! هل خلق مرتين ؟ !
ويصر الدكتور على هذه المقالة المنكرة، حيث يقول في ( ص 211 ) :(1/241)
" ولقد أنكر بعض المحدثين ( يعني : المعاصرين ) من الغيورين على الإسلام أن يكون سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم خلق قبل آدم عليه السلام . . . الخ " .
ويرد على هذا المنكر برد لا طائل تحته .
ومعنى كلامه أن أكثر المعاصرين موافقون له على هذه المقالة، أما السابقون؛ فلم يستثن منهم أحدًا .
وهذا من التلبيس والمجازفة؛ فإن هذا القول لم يقل به أحد يعتد به من الأمة لا قديمًا ولا حديثًا . وإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم خلق قبل آدم؛ فهو إذن ليس من بني آدم .
وأيضًا؛ لماذا تحتفلون بولادته وهو مخلوق قبل آدم ؟ !
هذا تناقض عجيب .
وليت الدكتور بدل أن يقدم للقراء مثل هذه المعلومات الخاطئة قدم لهم معلومات صحيحة تفيدهم وتنفعهم من الحث على الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم، واتباعه، وترك ما نهى عنه وحذر منه من البدع، فذلك خير وأبقى .
هذا؛ وسيكون لي – إن شاء الله – مع هذا الكتاب جولة أخرى لمناقشته، وليس لي قصد من وراء ذلك إلا بيان الحق والنصيحة .
والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل .
محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومستلزماتها
تعقيب على ما نشره معالي الدكتور محمد عبده يماني في " مجلة أهلًا وسهلًا "
( العدد السابع، ذوالقعدة 1407هـ ) .
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان . وبعد :
فمما لا يشك فيه أي مسلم وجوب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم من محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين، وأن بغضه صلى الله عليه وسلم أو بغض شيء مما جاء به ردة عن الإسلام، وأن محبته صلى الله عليه وسلم تستلزم طاعته، واتباعه وحسن الأدب معه، وتقديم قوله على قول كل أحد من الخلق، وتستلزم عدم الغلو في حقه، والاطراء في مدحه، والابتداع في دينه بإحداث شيء لم يشرع أو عمل شيء لم يأمر به .(1/242)
أقول هذا بمناسبة أنني قد قرأت مقالًا للدكتور محمد عبده يماني في موضوع مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، ووصفه بأوصاف خرج في بعضها إلى حد الإطراء الممنوع؛ كما سأبين ذلك .
ولكنني قبل هذا البيان أتساءل : ما الذي حمل معالي الدكتور محمد على نشر هذا المقال بين ركاب الطائرات ؟ هل هو لتعريف المسلمين بشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم وبيان خصائصه وصفاته ؟ فما أظن مسلمًا يجهل ذلك ولو بصفة إجمالية، وإنما الذي يجهله غالب المسلمين اليوم ويجب أن يبين لهم هو هديه صلى الله عليه وسلم في دعوته وعبادته والشريعة التي جاء بها في الأمور التي حذر منها، هذا هو الذي يحتاج الناس إلى بيانه وشرحه، وهو الذي ينبغى للدكتور محمد عبده وغيره من أصحاب الأقلام أن يشرحوه ويوضحوه للناس في مختلف الوسائل الإعلامية وغيرها، خصوصا ما يتعلق بأمور العقيدة .
هذا، ونأتي الأن على الأخطاء التي وقعت في مقال معالي الدكتور محمد، وفقنا الله وإياه للصواب، وهي :
1- قوله : " ما أجمل أن نرتبط بذكرى رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
أقول : هذا كلام مجمل؛ فإن كان يريد ما يفعله المبتدعون من إحياء الموالد والهتاف بالأناشيد الجماعية المتضمنة للغلو في مدحه أو الاستغاثة به ودعائه من دون الله؛ فهذا منكر وباطل، لا يجوز لمسلم أن يفعله أو يرضى به بل يجب منعه وإنكاره .
وإن كان يريد بذلك الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم والتمسك بسنته؛ فهذا حق وواجب، لكن لا يسمى ذكرى، وليس المقصود منه إحياء الذكرى، بل المقصود منه طلب الهداية والنجاة، ويسمى اتباعًا لا ذكرى؛ لأن تسميته ذكرى – ولا سيما في وقتنا هذا – توهم ارتباطه بوقت معين هو يوم مولده، فيكون هذا من الدعوة لإحياء الموالد المبتدعة، فيحسن أن يقال :
ما أجمل أن نتبع سنة نبينا .
2- قوله يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم :
" وإنه سوف يعطيك حتى ترضى، { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } . "(1/243)
لو قال : يعطيك ربك فترضى؛ كما هو لفظ في الآية التي ساقها؛ بدل : " حتى ترضى " ؛ لكان ذلك هو الصواب المطابق للآية؛ لأن التقيد بألفاظ الكتاب والسنة أضمن للصواب وأبعد عن الغلو والمخالفة، وفرق بين المعنيين .
3- قوله : " يذكرني يا رسول الله قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ إذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا } " .
قال الدكتور :
" ما هذه العظمة ؟ ! ما هذه المقامات العلى ؟ ! استغفارهم لا يجديهم شيئًا ما لم يجيئوك أولًا، ثم تستغفر لهم بعد أن يستغفروا، عندها يجدون الله توابا رحيما " .
ونقول للدكتور محمد :
أولًا : ليس في الآية الكريمة أن استغفارهم لا يجديهم شيئًا ما لم يجيئوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم كما قلت، وليس فيها أنهم لا يجدون الله توابًا رحيمًا إلا إذا فعلوا ذلك، وإنما فيها إرشادهم أن يستغفروا، ويذهبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويطلبوا منه الاستغفار لهم؛ ليكن ذلك أرجى للقبول وحصول المغفرة والرحمة، وإلا فمن استغفر الله صادقًا مخلصًا؛ غفر الله له، ولو لم يستغفر له الرسول صلى الله عليه وسلم؛ كما تدل عليه الآيات الآخرى والأحاديث النبوية .
ثانيًا : المجيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وطلب الاستغفار منه خاص في حال حياته، أما بعد موته عليه الصلاة والسلام؛ فلا يجوز الذهاب إلى قبره، وطلب الاستغفار منه؛ لأن هذا شيء لم يفعله صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كانوا إذا أجدبوا؛ طلبوا من عمه العباس – أو من غيره من الصالحين – أن يدعو الله لهم بالسقيا؛ كما فعل عمر ومعاوية رضي الله عنهما، ولم يكونوا يذهبون إلى قبره، ويطلبون منه الدعاء والاستغفار؛ كما كانوا يفعلون ذلك في حال حياته .(1/244)
وإطلاق الدكتور محمد هذا الكلام الذي قاله يفهم منه العموم، فيغتر به الجهال، ويظنون أن ذلك مستمر بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم .
4- قوله : " وناهيك من قوله تعالى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وأنت فِيهِمْ } " .
نأخذ عليه في ذلك مأخذين :
المأخذ الأول : أنه لم يكمل الآية الكريمة بذكر بقيتها، وهي قوله : { وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } .
المأخذ الثاني : أنه لم يبين المراد من الآية، وأن المقصود منها أن وجود النبي صلى الله عليه وسلم حيّا بين أظهرهم ضمانة لهم من وقوع العذاب، أما بعد خروجه من بين أظهرهم بالهجرة أو بوفاته صلى الله عليه وسلم فقد فقدت هذه الضمانة، ولم يبق إلا الضمانة الثانية، وهى الاستغفار .
قال ابن عباس رضي الله عنهما :
" كان فيهم أمانان : النبي صلى الله عليه وسلم والاستغفار، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم وبقي الاستغفار " .
وقال أيضًا :
" إن الله جعل في هذه الأمة أمانين، لا يزالون معصومين مجارين من قوارع العذاب ما داما بين أظهرهم، فأمان قبضه الله إليه، وأمان بقي فيكم ( يعني : الاستغفار ) .
ذكر ذلك ابن كثير، ثم ذكر ما رواه الترمذي بسنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أنزل الله علي أمانين لأمتي : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وأنت فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } ، فإذا مضيت؛ تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة ) .
5- قوله يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم :
" وما اختص الله تعالى أحدًا ممن شاء أو يشاء ببعض ما اختصك به " .(1/245)
هذا القول فيه غلو وتقوّل على الله تعالى بلا علم، ثم هو مخالف للواقع، فقد اختص الله تعالى بعض أنبيائه بخصائص عظيمة، فخلق آدم بيده، وأسجد له ملائكته، وجعل إبراهيم إمامًا للناس، وجعل في ذريته النبوة والكتاب، واتخذه خليلًا، وكلم موسى تكليمًا، وخلق عيسى من أم بلا والد، وأيده بروح القدس، وجعله يكلم الناس في المهد، ويحي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله .
قال تعالى :
{ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } .
ولا شك أن أكملهم وأفضلهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد اختصه الله بخصائص عظيمة، لكن القول بأنه ما اختص أحدًا ببعض ما اختصه به كلام غير سليم؛ لأن الأنبياء يشتركون في بعض الصفات، ويتفاضلون في بعضها، فالخلة مثلًا مشتركة بين إبراهيم ومحمد عليهما السلام .
6- قوله : " وكما أدبك ربك يا رسول الله فأحسن تأديبك، ولم يختص بذلك أحدًا غيرك " .
نقول : هذا النفي فيه نظر، إذ كل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد أدبهم ربهم، وهيأهم لحمل رسالته، وأهلهم لكرامته؛ قال تعالى : { وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } .
وقال في حق يوسف عليه السلام : { وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إبراهيمَ وَإِسْحَاقَ } .
وقال في حق موسى عليه السلام .
{ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } ، وقال { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } .(1/246)
ولم يقل نبينا صلى الله عليه وسلم : أن ربه اختصه بأن أدبه فأحسن تأديبه؛ حتى يصح ما قاله الدكتور محمد، وإنما أخبر أن الله أدبه فأحسن تأديبه – إن صح الحديث -، ولم ينف ذلك عن غيره من الرسل .
7- قوله : " ولم يعرف رسول من الرسل أمر الله بغض الصوت عنده إلا سيد الأولين والآخرين " .
نقول : بل كل الرسل يجب احترامهم وتوقيرهم، وتحرم إساءة الأدب معهم؛ برفع الصوت وغيره من أنواع الأذى .
قال تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال لقومه : { يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ } .
وقال الله لبني إسرائيل : { لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ } . والتعزير معناه : التوقير والمناصرة، وهذا يعني تحريم أذيتهم بالقول والفعل .
8- قوله : " فجعل أمره صلى الله عليه وسلم من أمر الله؛ كما جعل طاعته هي عين طاعته، من أطاع الرسول؛ فقد أطاع الله " .
أما قوله : " إن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم من أمر الله " ؛ فهذا صحيح؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بما أمره الله به؛ كما قال تعالى :
{ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى أن هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } .
وأما قوله : " إن طاعة الرسول هي عين طاعة الله " ؛ فهو محل نظر؛ لأن طاعة الرسول مستقلة عن طاعة الله، لكنها تابعة لها ومرتبطة بها، ولهذا عطفها الله عليها في قوله تعالى : { أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأمر مِنكُمْ } ، والعطف يقتضي المغايرة .
وطاعة الله تعني الأخذ بكتابه، وطاعة الرسول تعني الأخذ بسنته .
قال ابن كثير : " { أَطِيعُواْ اللَّهَ } ؛ أي : أتبعوا كتابه، { وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ } ؛ أي : خذوا بسنته " انتهى .
وطاعة الله تعني العبودية له سبحانه، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم تعني المتابعة له والإقرار برسالته، وبينهما فرق واضح .(1/247)
وقول الدكتور : " من أطاع الرسول؛ فقد أطاع الله " ؛ إن كان يقصد به تلاوة الآية؛ فليس هذا لفظها، وإنما لفظها : { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } .
قال الإمام ابن كثير رحمه الله :
" يخبر تعالى عن عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأن من أطاعه؛ فقد أطاع الله، ومن عصاه؛ فقد عصى الله، وما ذاك إلا لأنه { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } " .
9- قوله : " كما جعل مبايعته هي عين مبايعته؛ { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إنما يُبَايِعُونَ اللَّهَ } " .
نقول : وهذا من جنس ما قبله، فليست مبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي عين مبايعة الله؛ كما يقول الدكتور، بل هي من جنس قوله تعالى : { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } ، وهذا من باب التشريف والتكريم له صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الواسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ رسالته .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في معنى الآية :
" أي : هو معهم، يسمع أقوالهم، ويرى مكانهم، ويعلم ضمائرهم وظواهرهم، فهو تعالى هو المبايع بواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ } الآية " .
ثم ساق الحديث بسنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من سل سيفه في سبيل الله؛ فقد بايع الله ) .
وساق الحديث عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجر الأسود : ( من استلمه؛ فقد بايع الله تعالى ) .
ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إنما يُبَايِعُونَ اللَّهَ } .(1/248)
فالآية الكريمة إنما تدل على أن مبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي بمنزلة مبايعة الله عز وجل، لا أنها عين مبايعة الله؛ بدليل أنه ذكر مبايعتين : مبايعة الرسول، ومبايعة الله، فدل على التغاير؛ كقوله تعالى : { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } ، فذكر طاعتين، وهذا واضح بحمد الله لكل من تأمله .
والذي نريده من معالي الدكتور تجنب هذه الإيهامات التي قد يفهم منها خلاف المقصود، وتكون سببًا لبلبلة الأفكار .
والله الموفق، لا رب لنا سواه ولا نعبد إلا إياه .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا .
تعقيب على ما كتبه الدكتور أحمد جمال العمري في موضوع زيارة المسجد النبوي الشريف
ينشط بعض كتابنا وشعرائنا في أول ربيع الأول في كتابة المقالات وإنشاء القصائد في مدح النبي صلى الله عليه وسلم وذكر سيراته وتساعدهم بعض الصحف والمجالات بنشر تلك المقالات والقصائد على ما فيها من غلو وخطأ في المعلومات والأحكام الشرعية، ولا نرى لها سببًا ظاهرًا سوى مشاركة المبتدعه في إحياء ذكر المولد النبوي في أول هذا الشهر والتي أحدثها الفاطميون الشيعة في آخر القرن الرابع وتوارثها من لا يميز بين السنة والبدعة .
وأن المفروض في صحفنا ومجلاتنا أن تكون يقظة، لا تنشر إلا ما هو جاد ومسمر ومفيد للأمة؛ لأنها تصدر من بلاد التوحيد ومهبط الوحي فهي محل القدوة للعالم الإسلامي كله، فيجب ألا تنشر ما يحل بالعقيدة، ويشجع البدعة .
وكان من جملة ما نشر بهذا الصدد كلمة للدكتور أحمد جمال العمري في جدة، نشرتها " مجلة القافلة " التي تصدر من الظهران في ( العدد الثالث، المجلد الثالث والثلاثون – في ربيع الأول 1405هـ ) ، هذه الكلمة بعنوان : ( في رحاب المسجد النبوي الشريف ) .(1/249)
وقد اشتملت على أخطاء ومغالطات لا يسع من قرأها من أهل العلم السكوت عليها، فكان لا بد من بينها؛ نصحًا لله، ولكتابه، ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وهي كما يلي الرد عليها :
1- قال : " والذي لا شك فيه أن من أبرز فضائل المدينة المنورة أنها تحوي المسجد النبوي الشريف، الذي يضم قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر خليفتيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما " .
هكذا قال ! !
ونحب أن ننبه الدكتور وغيره إلى أن مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يضم قبرًا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه صلى الله عليه وسلم قد حذر من بناء المساجد على القبور وشدد في ذلك، ولعن من فعله وهو في سياق الموت .
ولما توفي صلى الله عليه وسلم دفنه الصحابة في بيته في حجرة عائشة خارج المسجد، ودفن فيما بعد معه الخليفتان أبوبكر وعمر رضي الله عنهما وهكذا كان المسجد الشريف على حده، والقبور في بيت النبي صلى الله عليه وسلم على حده، وقد بينت عائشة رضي الله عنها الحكمة في دفنه صلى الله عليه وسلم بقولها :
لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها؛ كشفها، فقال وهو كذالك : ( لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) ؛ يحذر ما صنعوا، فلولا ذلك؛ لأبرز قبره؛ غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا . رواه البخاري ومسلم .
وقد بقي قبره صلى الله عليه وسلم معزولًا عن المسجد، والمسجد خال من القبور؛ كما كان على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفاءه، حتى جاء عهد الوليد بن عبد الملك بعد موت الصحابة، وأراد توسعة المسجد، فشملت التوسعة الجهة الشرقية، ودخلت بسببها الحجرة النبوية في المسجد .
ولم يكن هذا بمشورة أهل العلم وموافقتهم، وإنما نفذ بقوة السلطة .
وكان الخلفاء قبل الوليد يوسعون المسجد من الجهات الآخرى، ويتركون الجهه الشرقية؛ تفاديًا لدخول الحجرة النبوية .(1/250)
فلم يكن تفضيل المسجد النبوي من أجل القبر، بل لأنه أحد مساجد الأنبياء التي تشد الرحال للصلاة فيها، وفضيلته ثابتة قبل إدخال الحجرة فيه، والذين أدخلوا الحجرة فيه إنما قصدوا التوسعة، وحصل دخولها تبعًا لا قصدًا .
2- استدل على مشروعية زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ إذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا } .
وبالحكاية المروية عن العتبي أن أعرابيًا جاء إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال : السلام عليك يا رسول الله ! سمعت الله يقول : { وَلَوْ أَنَّهُمْ إذ ظَّلَمُواْ } الآية . . . إلخ القصة .
والجواب أن نقول :
أما الآية؛ فلا يصح الاستدلال بها على مشروعية زيارة القبر؛ لأن المقصود بها المجيء إليه صلى الله عليه وسلم في حياته، وذلك لأمور :
1 ) أنه سبحانه قال : { جَآءُوكَ } ، ولم يقل : جاؤوا إلى قبرك . ومعلوم أنه لو قال شخص لآخر : ائتني لأعطيك كذا، أو لأعمل لك كذا؛ لم يفهم المخاطب أن المراد المجيء إلى قبر القائل بعد موته، وإنما يفهم أن المراد المجيء إليه في حياته خاصة .
2 ) أنه سبحانه قال : { وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ } ، واستغفار الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يكون في حياته لا بعد موته؛ لأن الميت لا يتأتى منه الاستغفار لأحد؛ لأنه عمل، والميت قد انقطع عمله؛ كما في الحديث : ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله . . . ) .(1/251)
3 ) أن الصحابة رضي الله عنهم لم يفهموا هذا الفهم، فلم يكونوا يأتون إلى قبره عليه الصلاة والسلام ويطلبون منه أن يستغفر لهم، بل إنهم لما قحطوا؛ لم يذهبوا إلى قبره ويطلبوا منه أن يدعوا الله لهم بالغيث، وإنما ذهبوا إلى عمه العباس، وطلبوا منه أن يدعوا الله لهم بالغيث، والقصة مشهورة، فعدلوا عن الفاضل إلى المفضل؛ لعلمهم أنه لا يشرع طلب الدعاء من الميت .
وأما قصة العتبي وما فعله الأعرابي؛ فلا تصلح دليلًا؛ لأن الأحكام الشرعية لا تثبت بالقصص والحكايات والمنامات، وإنما تثبت بالأدلة الصحيحة من الكتاب والسنة، وفعل هذا الأعرابي مخالف لمدلول الآية التي ذكرها كما قلنا؛ لأن الله قال :
{ جَآءُوكَ } ، ولم يقل : جاؤوا إلى قبرك، ومخالف أيضًا لهدي الصحابة والتابعين لهم باحسان، فلم يكن أحدًا منه يأتى إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، ويطلب منه الاستغفار والشفاعة؛ كما فعل هذا الأعرابي، فلوا كان الصحابة يفهمون من الآية أنها تطالبهم بهذا؛ لتبادروا إليه .
3- تناقض الدكتور في حكم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فتارة يقول : " وقد أجمع العلماء في كافة الأزمان والعصور على وجوب زيارة قبره الشريف " .
وقال : " ومهما يكن من أمر؛ استنبط الأئمة من الآية الكريمة ومن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوب زيارته " .
وتارة يقول : " وهنا يتجلى سؤال هام : هل هذه الزيارة واجبة ؟ " .
ثم ساق أقوال العلماء في ذلك . وهذا تناقض واضح أتركه بدون تعليق .
مع أننا لا نشك في مشروعية زيارة قبره صلى الله عليه وسلم الزيارة الشرعية وفضيلتها، لكن بدون غلو، وبدون سفر، بل كما كان بعض الصحابة رضي الله عنهم يفعل، فقد كان ابن عمر إذا قدم من سفر يقول :
" السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت " ، ثم ينصرف .(1/252)
ولم يكن يفعل هذا دائمًا، بل يفعله إذا قدم من سفر، ولم يكن هو ولا غيره إذا كانوا مقيمين بالمدينة يأتون قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويترددون عليه , لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذ قبره عيدًا بالتردد عليه .
4- ثم قال الدكتور :
" وقد وردت أحاديث كثيرة تنص على زيارة النبي صلى الله عليه وسلم؛ منها : ( من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي ) ، و ( ومن زار قبري وجبت له شفاعتي ) ، و ( من حج ولم يزرني؛ فقد جفاني ) ، وهذه الأحاديث وإن طعن في أسانيدها؛ إلا أنها بتعددها وكثرتها تتقوى وتعتضد كما يقول رجال الحديث " انتهى كلام .
والجواب عنه أن نقول :
أولًا : لم يبين الدكتور نوعية الطعن في أسانيد هذه الأحاديث؛ لأنه يخشى أن ينكشف أمرها للقراء؛ لأنها قد طعن فيها الحفاظ بالضعف المتناهي في بعضها، وبعضها الآخر، قالوا : أنه موضوع .
قال الإمام الحافظ ابن عبد الهادي في رده على السبكي :
" وجميع الأحاديث التي ذكرها المعترض في هذا الباب وزعم أنها بضعة عشر حديثًا ليس فيها حديث صحيح، بل كلها ضعيفة وهي، وقد بلغ الضعف ببعضها إلى أن حكم عليه الأئمة الحفاظ بالوضع " .
وقال أيضًا :
" فقد تبين أن جميع الأحاديث التي ذكرها المعترض في هذا الباب ليس فيها حديث صحيح، بل كلها ضعيفه أو موضوعه لا أصل لها " انتهى من " الصارم المنكي "
( ص30 و244 ) .
ومن جملة هذه الأحاديث ما ذكره الدكتور في هذه المقالة .
ثانيًا : قوله : " إلا أنها بتعددها وكثرتها تتقوى وتعتضد " .
نقول : كثرتها لا تفيدها شيء مادامت كلها واهية أو موضوعة .
قال الإمام الحافظ ابن عبد الهادي :
" وكم من حديث له طرق أضعاف هذه الطرق التي ذكرها المعترض، وهو موضوع عند أهل هذا الباب (1) . ، فلا يعتبر بكثرة الطرق وتعددها، وإنما الاعتماد على ثبوتها وصحتها " .
وقال أيضًا :(1/253)
" وعلى كل تقدير؛ فلم يكن عند أحد من العلماء الذين استحبوا سلام التحية في المسجد حديث في استحباب زيارة قبره يحتجون به، فعلم أن هذه الأحاديث ليست مما يعرفه أهل العلم، ولهذا لما تتبعت؛ وجدت رواتها أما كذاب وأما ضعيف سيء الحفظ " انتهى .
وقد بين رحمه الله طرق هذه الأحاديث واحدًا واحدًا، وأجرى عليها دراسة دقيقة في هذا الكتاب القيم، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وهو كتاب مطبوع ومتداول، ينبغي لطالب الحق الاطلاع عليه .
5- ثم قال الدكتور :
" وإذا دخل المسجد النبوي الشريف؛ فعل ما يفعله في سائر المساجد . . . " .
إلى أن قال :
ثم يصلي عند منبره ركعتين، ويقف بحيث يكون عمود المنبر بحذاء منكبه الايمن، وهو موقفه عليه الصلاة والسلام وهو بين القبر الشريف والمنبر، ثم يسجد لله شكرا على ما وفقه " انتهى كلامه .
ولنا عليه ملاحظات :
الأولى : تحديده مكان الصلاة عند المنبر، وأن يجعل عموده بحذاء منكبه الايمن تحديد لا دليل عليه، بل الدليل على خلافه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( ما بيين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ) .
فكل ما بين بيته صلى الله عليه وسلم ومنبره فاضل، بل قال النبي صلى الله عليه وسلم :
( صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد؛ إلا المسجد الحرام ) .
فجعل المسجد النبوي كله مكان لفضيلته .
فلما تحجرت واسعًا أيها الدكتور، وحصرت الفضيلة في مكان ضيق، من غير دليل ؟ !
ثم لماذا قلت : " بين القبر الشريف والمنبر " ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما بين بيتي ومنبري ) ، ولم يصح أنه قال : " ما بين قبري ومنبري " ؟ ! وإنما هذه رواية؛ قالوا : أنها رواية بالمعنى .(1/254)
والملاحظة الثانية على قوله : " ثم يسجد لله شكرًا " ، فما دليله على مشروعية سجود الشكر في هذا الموضوع ؟ ! فإن العبادات لا تثبت إلا بالدليل، وقد كان الصحابة وسائر المسلمين يدخلون المسجد النبوي، وما ذكر أنهم يسجدون سجود الشكر .
الملاحظة الثالثة : ما الذي يدريه أن هذا المكان بالذات هو موقف الرسول ؟ ثم لو كان؛ فما الدليل على أنه يشرع الصلاة فيه خاصة ؟
6- ثم قال الدكتور : " ويقف ( يعني : عند السلام على النبي صلى الله عليه وسلم ) كما يقف في الصلاة " .
وأقول : هذا من الغلو الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ كيف يقف عند السلام على الرسول؛ كما يقف في الصلاة إمام الرب سبحانه .
7- ثم بعد ما ذكر الدكتور صفة السلام على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر .
قال : " ثم يدعو لنفسه ووالديه ولمن أوصاه بالدعاء ولجميع المسلمين " .
وهذا الذي قاله الدكتور لا دليل عليه من الكتاب والسنة، ولا من عمل الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فلم يكونوا يتحرون الدعاء عند قبر الرسول صلى الله عليه وسلم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" الصحابة إذا أراد أحدهم أن يدعوا لنفسه؛ استقبل القبلة، ودعا في مسجده، لا يقصدون الدعاء عند الحجرة " .
وقال أيضًا :
" لم يقل أحد من العلماء : أن الدعاء مستجاب عند قبره، ولا أنه يستحب أن يتحرى الدعاء متوجهًا إلى قبره، والمشروع عند زيارة القبر السلام والدعاء للميت فقط " .
8- ثم قال الدكتور :
" ويستحب أن يزور شهداء أحد يوم الخميس، ويقرأ آية الكرسي، وسورة الإخلاص " .
ونحن نسأل الدكتور : بأي دليل خصصت يوم الخميس لزيارة الشهداء ؟ ! وما دليلك على مشروعية قراءة آية الكرسي وسورة الإخلاص عند زيارة قبورهم ؟ !
والذي قرره العلماء أن القراءة على القبور بدعة، والمشروع عند زيارتها السلام على أموات المسلمين، والدعاء لهم، والاعتبار والاتعاظ .(1/255)
هذا هو الثابت من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم
9- ثم ختم الدكتور مقالته بقوله :
" وإذا أراد الرجوع إلى بلده؛ استحب له أن يودع المسجد بركعتين، ويدعو بما أحب " .
وهذا كالذي قبله يفتقر إلى دليل؛ لأن العبادات توقيفية .
والله أعلم .
وختامًا :
نحن لا نعترض على مدح النبي صلى الله عليه وسلم من غير غلو ولا إطراء ما دام لم يخصص في وقت معين، وكذا لا نعترض على دراسة سيرته صلى الله عليه وسلم على مدار السنة كلها؛ لأجل أخذ القدوة منها، وإنما نعترض على تخصيص وقت معين هو أول ربيع الأول فقط .
ونسأل الله أن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
توضيح حول الاحتفال بالمولد النبوي
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون .
و بعد :
فقد اطلعت في " جريدة المدينة المنورة " ( العدد 5427، بتاريخ 1/4/1402هـ ) على ما كتبه الأخ الأستاذ أسعد أبو الجدايل حول تعقيبي على الاحتفال بالمولد النبوي، وقد طلب مني سعادته توضيح الأمور التالية :
1 – يقول : " إذا سمينا الاحتفال بالمولد جدلًا عبادة، باعتباره ذكرًا، والذكر من العبادات، فما الذي يمنع من أن نعتبره نوعًا من التنظيم لبعض أحوال هذه العبادة ينجر عليه ما انجر على عبادة التراويح التي نظمها الخليفة الراشد سيدنا عمر بن الخطاب . . . " .
2 – " ما المانع أن يكون الاجتماع لتذكر وتدارس سيرته العطرة صلى الله عليه وسلم بدعة حسنة، خاصة وقد استحسن ذلك الكثير من المسلمين في شتى أصقاع الدنيا منذ مئات السنين، وقد ورد في الحديث الذي رواه الإمام أحمد مرفوعًا إلى الصحابي الجليل سيدنا عبد الله بن مسعود : " ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحًا، فهو عند الله قبيح " ؟ . . . " .(1/256)
3 – " إذا كان من فضل يوم الجمعة أنه ولد فيه أبو البشر آدم عليه السلام، فشرف به الزمان – أعني : الزمن المتجدد بيوم الجمعة – فما الذي يحول دون أن يشرف يوم الاثنين الذي ولد فيه أكرم خلق الله على الله صلى الله عليه وسلم، وأن يحتفل المسلمون بذكر مولده فيه، سواء فيه أو بعده، خاصة وقد أشاد به صلى الله عليه وسلم – عندما سئل عن صومه فيه – بقوله : ( ذلك يوم ولدت فيه وفيه أوحي إلي ) " .
4 – " ثم إن البدعة يجب أن تعرض على أدلة الشرع، فإن كان فيها مصلحة، فهي واجبة، وإن اشتملت على محرم فهي محرمة . . . " الخ الأحكام الخمسة .
5 – " علاوة على أنه ليس كل بدعة محرمة وإلا لحرم جمع أبي بكر وعمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهم القرآن وكتبه في المصاحف بأوسع مما كتب في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم . . . " .
ثم راح يمثل بأمور استجدت، مثل ما استجد من أدوات القتال، والأذان على المنائر، واتخاذ الربط والمستشفيات والمدارس . . .
6 – " استحدث أمور كثيرة لم تكن على عهد السلف، منها جمع الناس على إمام واحد في آخر الليل لإقامة صلاة التهجد بعد صلاة التراويح، وقراءة دعاء ختم القرآن .
و كما يقال مما يشبه الخطبة من الإمام بالحرمين الشريفين ليلة سبع وعشرين في صلاة التهجد وكنداء المنادي بقوله : صلاة القيام أثابكم الله .
فكل هذا لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من السلف، فهل يكون فعلنا له بدعة ؟ ! " .
هذا حأصل ما وجهه إلي الأستاذ أنور من إشكالات، أو ما يعده مسوغات للاحتفال بالمولد النبوي .
- وجوابي عن ذلك :
إنني أولًا : أشكر الأخ الأستاذ أنور على حرصه على معرفة الحق للعمل به، وهذا شأن المؤمن، وأسال الله لنا وله ولجميع المسلمين التوفيق للعلم النافع والعمل الصالح الخاص لوجهه، وأقول :(1/257)
1 – إذا كان الاحتفال بالمولد عبادة، وهو عبادة لا شك، فالأصل في العبادات التوقيف، فلا يثبت منها شيء إلا بدليل ولا دليل على مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي حتى يثبت له أصل ينجر عليه التنظيم الذي ذكرت، مع أن العبادة توقيفية في أصلها وفي صفتها التي تؤدى عليها وفي توقيت آدائها .
أما ما ذكرت من أن عمر رضي الله عنه نظم عبادة التراويح، فالواقع أن عمر لم يحدث في التراويح أي زيادة عما كانت عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما احياها كما كانت على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث جمع الناس على إمام واحد فيها .
2 – وأما الاجتماع لتدارس سيرته صلى الله عليه وسلم إذا لم يقيد بوقت خاص كيوم مولده، فهو شيء طيب، وليس هو من البدعة لأن الله تعالى يقول : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } .
ودراسة سيرته العطرة وسيلة للاقتداء به، ولكن لا يخصص ذلك بوقت معين، لأنه لا دليل على التخصيص .
وأما ما ذكرتم من استحسان الكثير من أناس لهذا، فلا يصلح دليلًا على جواز الاحتفال ما دام أن ذلك حدث بعد عهد الخلفاء الراشدين والقرون المفضلة .
وأما الأثر الذي ذكرتموه عن عبد الله بن مسعود : " ما رآه المسلمون حسنًا . . . " الخ، فهو يعني ما أجمع عليه المسلمون . وهل الاحتفال بالمولد النبوي كذلك قد أجمع عليه المسلمون ؟ ! لا .
ثم قولكم عن هذا الأثر : " رواه الإمام أحمد مرفوعًا إلى الصحابي " ، لا أدري كيف غاب عنكم أن المرفوع هو ما كان ينتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أما ما كان إلى الصحابي فيسمى موقوفًا . . .
3 – قولكم عن يوم الجمعة : " إنه ولد فيه آدم " ، مع أن آدم عليه السلام لم يولد، وإنما خلق، فلعل هذا سبق قلم، ومقصودكم – حفظكم الله – أن يعظم يوم مولد الرسول صلى الله عليه وسلم كما عظم يوم الجمعة، لوقوع خلق آدم فيه .(1/258)
والجواب عن ذلك أن يوم الجمعة فضل لمزايا كثيرة تزيد عن أربعين مزية ذكرها ابن القيم في " زاد المعاد " ، وألف في خصائص يوم الجمعة مؤلفات .
ثم إن تعظيم يوم الاثنين الذي ولد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم يكون بما شرعه صلى الله عليه وسلم من صيام هذا اليوم، فلا يحدث فيه عبادة لم يشرعها، مع أن مزية يوم الاثنين لا تقتصر على حصول ولادة النبي صلى الله عليه وسلم فيه، بل له مزايا أخرى ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم .
4 – قولكم : " أن البدعة يجب أن تعرض على أدلة الشرع، فإن كان فيها مصلحة، فهي واجبة . . . " الخ .
نقول : أولًا : الوجوب حكم شرعي، ولابد له من دليل شرعي، وهذا التقسيم الذي ذكرته لا دليل عليه، بل الدليل يدل على أن كل البدع حرام .
ثانيًا : مجرد وجود المصلحة في الشيء لا يكفي حتى ينظر : هل هي راجحة على المفسدة أو بالعكس ؟
والاحتفال بالمولد، إن قدر أن فيه مصلحة فمضرته أرجح لأنه بدعة ومفاسد البدع كثيرة، وليس بالإمكان حصرها، وأكتفي لبيانها بالإحالة على كتاب " السنن والمبتدعات " لعبد السلام خضر، وكتاب " البدع والنهي عنها " لابن وضاح، ومثله للطرطوشي، وكتاب " الإبداع في مضار الابتداع " للشيخ على محفوظ، وكتاب " اقتضاء الصراط المستقيم " لشيخ الإسلام ابن تيمية، وكتاب " المدخل " لابن الحاج، ورسالة في حكم الاحتفال بالمولد النبوي لسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعودية، والتحذير من البدع لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وغيرها .
والواقع يؤيد ما ذكر في تلك الكتب من مفاسد الموالد .
5 – وأما قولكم : " علاوة على أنه ليس كل بدعة محرمة " واستشهادكم بجمع أبي بكر وعمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهم للقرآن وكتبه في المصاحف بأوسع مما كتب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وتمثيلكم بالأمور التي استجدت، أقول عنه :(1/259)
أ – قولكم : " ليس كل بدعة محرمة " قول مخالف قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ) .
وقوله صلى الله عليه وسلم : ( وشر الأمور محدثاتها ) .
والمراد ب- ( المحدثات ) المذكورة في الحديثين : المحدثات في الدين وأمور العبادة، لا المحدثات في أمور العادات .
فمقتضى الحديثين أن كل بدعة في الدين ضلالة محرمة، وأنت تقول : ليس كل بدعة محرمة ! فعليك إعادة النظر فيما تقول، وفقنا الله وإياك للصواب .
ب – استشهادكم بجمع الخلفاء الراشدين للمصحف لا دليل لكم فيه من ناحيتين :
أولًا : إن أصل كتابة القرآن كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فكان عمل الخلفاء رضي الله عنهم تكميلًا لذلك، وهو من وسائل حفظ القرآن، وقد قال الله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } .
ثانيًا : إن هذا من عمل الخلفاء الراشددين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشددين . . . ) الحديث .
والاحتفال بالمولد ليس له أصل من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا هو من عمل الخلفاء الراشدين .
ج – وأما ما ذكرتم من الأمور التي استجدت، فهي ليست بدعًا، بل هي أمور بعضها عبادة لها أصل في الشرع، وليس هو مما استجد، فأدوات القتال يقول الله فيها : { وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ } .
وكلمة { قُوَّةٍ } نكرة في سياق الأمر تعم كل ما يسمى قوة في كل زمان بحسبه . والأذان على شيء مرتفع كان موجودًا على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم، والأذان على المنائر من ذلك .
واتخاذ الربط والمستشفيات والمدارس هو من العادات المباحة أو الوسائل التي تعين على طلب العلم المشروع .(1/260)
6 – أما الأمور التي ذكرتم أنها استحدثت ولم تكن على عهد السلف، وذكرتم منها جمع الناس على إمام واحد في آخر الليل لإقامة صلاة التهجد بعد صلاة التراويح، فالجواب : أن صلاة التهجد في آخر الليل في العشر الأواخر من رمضان ليست أمر مستجدًا، بل كان الرسول صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان يجمع الناس على إمام واحد، فعله النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه في رمضان، ويستوي في ذلك ما كان أول الليل أو آخره، كل ذلك يدخل في صلاة التراويح المشروع آداؤها جماعة، غاية ما يقال : أنها قسمت على فترتين، طلبًا لزيادة الأجر، وكلا الفترتين تراويح . أما تسمية العوام للفترة الأولى بالتراويح والفترة الثانية بالقيام، فهي تسمية ليس فيها حجة .
وأما دعاء ختم القرآن الذي يدعى به عند الانتهاء من قراءة القرآن، فهو من فعل السلف :
كان أنس رضي الله عنه إذا ختم، جمع أهله وعياله ودعا . واستحبه الإمام أحمد وغيره، ونقله عن عثمان وغيره . وللطبراني عن العرباض مرفوعًا : " من ختم القرآن فله دعوة مستجابة " . وقال مجاهد : " وكانوا يجتمعون عند ختم القرآن ويقولون : عنده تنزل الرحمة " . راجع كتاب " التبيان " للنووي .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " وروي عن طائفة من السلف : عند كل ختمة دعوة مجابة . فإذا دعا الرجل عقيب الختمة لنفسه ولوالديه ولمشايخه وغيرهم من المؤمنين والمؤمنات، كان هذا من الجنس المشروع، كذلك دعاؤه لهم في قيام الليل وغير ذلك من مواطن الأجابة " انتهى من " مجموع الفتاوى " ( 24/322 ) .
أما ما ذكرته مما يفعل في الحرمين ليلة سبع وعشرين مما يشبه الخطبة من الإمام في صلاة التهجد ونداء المنادي بقوله : صلاة القيام أثابكم الله، فهذا مما لا أعرف له أصلا، ولعل رئاسة الحرمين تنظر في هذا الموضوع، مع أن عمل بعض الناس لا يصلح حجة، لأنه عرضة للخطأ .(1/261)
وأقول : أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم واجبة على المؤمن، بحيث يكون أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين، بل لا يكون مؤمنًا إلا إذا كان كذلك، كما أن ذكره صلى الله عليه وسلم يتردد في المناسبات المشروعة في اليوم والليلة بأعلى صوت في الأذان والإقامة خمس مرات، ويتردد ذكره صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول والأخير من الصلاة المفروضة، وفي التشهد من صلاة النافلة، بل عند جمع من العلماء لا تصح صلاة فريضة أو نافلة حتى يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير منها .
وقد أمرنا الله تعالى في محكم كتابه بالصلاة والسلام عليه، قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } .
فقد رفع الله له ذكره، ومن شروط الخطبتين في الجمع والأعياد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الشهادة له بالرسالة، بل يستحب الابتداء بذلك بعد حمد الله والشهادتين في مطلع كل حديث له أهمية .
وكما أشرنا في ابتداء هذه المقالة : أنه ينبغي مطالعة وقراءة سيرته العطرة، وقراءتها على المسلمين، وتقريرها في المدارس والجامعات، لاقتباس القدوة الحسنة منها .
هذا هو المشروع في حقه صلى الله عليه وسلم، مع إجلاله واحترامه وتوقيره وتعظيم كلامه وأحاديثه وامتثال أوامره واجتناب مناهيه، فكل طاعة يفعلها المسلم، فإنه يتذكر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجدد محبته له، لأنه هو الذي دله عليها، وأرشده إليها، وله صلى الله عليه وسلم من الأجر مثل أجر من عملها، من غير أن ينقص من أجره شيئًا .
إذا فعل المسلمون ذلك، لم تزل ذكرى الرسول صلى الله عليه وسلم معهم ليلًا ونهارًا، في كل يوم وفي كل شهر، لا في يوم مولده خاصة .(1/262)
بل إن المسلم حين يقرأ القرآن الكريم تتردد عليه ذكرى الرسول صلى الله عليه وسلم في الآيات التي فيها مخاطبته، والآيات التي فيها الثناء عليه، والآيات التي فيها أمر الأمة بطاعته واتباعه، وغير ذلك .
ثم ليعلم أن عمل المولد مع كونه بدعة، فهو تشبه بالنصارى الذين يحتفلون بذكرى مولد المسيح عليه الصلاة والسلام، وقد نهينا عن التشبه بهم في هذا وفي غيره مما هو من خصائصهم وصفاتهم .
قال صلى الله عليه وسلم : ( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ) .
وعمل المولد في الإسلام إنما حدث بعد القرون المفضلة في القرن السادس، ولم يكن الذي أحدثه من علماء المسلمين، ولم يكن بفتوى من علماء المسلمين، بل أحدثه ملك من الملوك قلد به من حوله من دول النصارى، وقيل : أن أول من أحدثه الفاطميون . وعلى كل حال، فالحق إتباع السنة واجتناب المخالفة أيًا كان مصدرها .
ونحن لم نر شيئًا من المحاسن والمزايا التي يزعمها المؤيدون لإقامة المولد، لم نر شيئًا من ذلك ظهر عليهم من التأسي، فالغالب عليهم الكسل عن الطاعات، والزهد في السنن .
وهذا شأن كل من يشتغل بالبدع، فإنها تصرفه عن السنن والعمل، ولا يكون العمل صالحًا مقبولًا عند الله إلا إذا توفر فيه شرطان :
الأول : أن يكون صوابًا على شرع الله .
الثاني : أن يكون خالصًا لوجه الله عز وجل .
قال الله تعالى : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } .
فقوله { أَسْلَمَ وَجْهَهُ } : فيه وجوب الإخلاص . وقوله { وَهُوَ مُحْسِنٌ } : فيه وجوب المتابعة والتحذير من البدع .(1/263)
هذا وملاحظة أخيرة، هي أن الأستاذ أنور أورد الأثر الذي رواه البخاري في قصة جمع عمر بن الخطاب للناس على إمام واحد في صلاة التراويح بعد أن كانوا يصلونها أوزاعًا متفرقين، ولم يورد الحديث الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في أصل مشروعية الجماعة خلف إمام واحد، وها أنا أورده لتتكامل الصورة أمام القارئ الكريم، ويعرف أن عمل عمر رضي الله عنه لم يكن إحداث شيء جديد في هذه العبادة :
فقد روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة، فصلى في المسجد، وصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس، فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم فصلوا معه فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد في الليلة الثالثة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى وصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة، عجز المسجد عن أهله، حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى، أقبل على الناس فتشهد، ثم قال : " أما بعد، فإنه لم يخف علي مكانكم، ولكني خشيت أن تفترض عليكم، فتعجزوا عنها " .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول : " من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه " .
فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك، ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر رضي الله عنهما .
فعلم من ذلك أن دور عمر رضي الله عنه في صلاة التراويح إنما هو إحياء ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليالي الثلاث المذكورة في الحديث، ولم يحدث شيئًا جديدًا منها، وأن معنى قول عمر رضي الله عنه : " نعمت البدعة هذه " هو البدعة اللغوية لا البدعة الشرعية، لأن التراويح ليست بدعة، واجتماع الناس فيها على إمام واحد ليس بدعة .
هذا وأسال الله لي وللاخ أنور ولجميع المسلمين التوفيق لمعرفة الحق والعمل به .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
الاحتفال بمناسبة الإسراء والمعراج بدعة يجب إنكارها(1/264)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
وبعد :
فقد اطلعت في " مجلة الدعوة " ( العدد 940 – الصادر في يوم الاثنين 29 رجب 1404هـ ) على مقال للسيد حسن قرون يحاول فيه أن يسوغ الاحتفال بمناسبة الإسراء والمعراج، ويلتمس من كلام ابن القيم ما يؤيد رأيه، حيث يقول في معرض كلامه ما نصه :
" وأعود إلى الأشهر الحرم، وأقف وقفة مناسبة من شهر رجب، وهو من الأشهر الحرم كما قررنا، فنجده خص بحدثين عني بهما المؤرخ والمتعبد :
أما الحدث الأول، فقد حرره المتأخرون من المؤرخين مثل صاحب السيرة الحلبية، فقد عين ليلة الإسراء والمعراج بأنها وقعت في ليلة السابع والعشرين من رجب، ويحتفل المسلمون في ديار الإسلام بتلك الليلة، وابن قيم الجوزية في كتابه " زاد المعاد " يدير بحثًا طويلًا في الأيام المفضلة، ويجعل منها ليلة الإسراء والمعراج، ويضع موازنة بينها وبين ليلة القدر، قائلًا في ختامها :
وقد قال بعض الناس : أن ليلة الإسراء في حق النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من ليلة القدر، وليلة القدر بالنسبة إلى الأمة أفضل من ليلة الاسراء . فهذه الليلة في حق الأمة أفضل لهم وليلة الإسراء في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل له " .
ثم يقول الكاتب :
" وأنا وإن كنت لا أحب البحث في التفضيل، إلا أن ما ذكره يدل على عنايته بليلة الإسراء " انتهى كلامه .
وأقول : أولًا : قول الكاتب : " ويحتفل المسلمون في ديار الإسلام بتلك الليلة " قول باطل، حيث ادعى أن المسلمين جميعهم يحتفلون بتلك الليلة، والحق أن المسلمين المتمسكين بالسنة لا يحتفلون بتلك الليلة، ويعدونها كسائر الليالي، حيث لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه ومن جاء بعدهم من القرون المفضلة الاحتفال بتلك الليلة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ) .(1/265)
وقال عليه الصلاة والسلام : ( من عمل عملًا ليس عليه أمرنا، فهو رد ) .
وقال عليه الصلاة والسلام : ( وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ) .
وإنما يحتفل بتلك الليلة المبتدعة من المسلمين ومن يقلدهم من الجهال، وهؤلاء لا يمثلون المسلمين في هذا العمل المبتدع .
وأقول ثانيًا : ما نقله عن ابن القيم لم ينقله بأمانة، لأنه حذف أول الكلام الذي فيه رد عليه في تعيين ليلة الإسراء والمعراج، وفي حكم الاحتفال بها وتخصيصها بعبادة دون غيرها . . .
وإليك كلام ابن القيم من أوله بنصه، حيث يقول رحمه الله :
" فقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن رجل قال : ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر، وقال آخر : بل ليلة القدر أفضل، فأيهما المصيب ؟
فأجاب : الحمد لله : أما القائل بأن ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر، فإن أراد به أن تكون الليلة التي أسري فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم ونظائرها من كل عام أفضل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم من ليلة القدر، بحيث يكون قيامها والدعاء فيها أفضل من ليلة القدر، فهذا باطل، لم يقله أحد من المسلمين، وهو معلوم الفساد بالاطراد من دين الإسلام، هذا إذا كانت ليلة الإسراء تعرف عينها، فكيف ولم يقم دليل معلوم لا على شهرها ولا على عشرها ولا على عينها، بل النقول في ذلك منقطعة مختلفة، ليس فيها ما يقطع به، ولا شرع للمسلمين تخصيص الليلة التي يظن أنها ليلة الإسراء بقيام ولا غيره، بخلاف ليلة القدر، فإنه قد ثبت في " الصحيحين " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان ) .
وفي " الصحيحين " عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه ) .
وقد أخبر سبحانه أنها خير من ألف شهر، وأنه أنزل فيها القرآن .(1/266)
وإن أراد أن الليلة المعينة التي أسري فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم، وحصل له فيها ما لم يحصل له في غيرها، من غير أن يشرع تخصيصها بقيام وعبادة، فهذا صحيح، وليس إذا أعطى الله نبيه صلى الله عليه وسلم فضيلة في مكان أو زمان يجب أن يكون ذلك الزمان والمكان أفضل من جميع الأمكنة والأزمنة، هذا إذا قدر أنه قام دليل على أن إنعام الله تعالى على نبيه ليلة الإسراء كان أعظم من إنعامه عليه بإنزال القرآن ليلة القدر، وغير ذلك من النعم التي أنعم عليه بها .
والكلام في مثل هذا يحتاج إلى علم بحقائق الأمور، ومقادير النعم التي لا تعرف إلا بوحي، ولا يجوز لأحد أن يتكلم فيها بلا علم، ولا يعرف عن أحد من المسلمين أنه جعل لليلة الإسراء فضيلة على غيرها، لاسيما على ليلة القدر، ولا كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يقصدون تخصيص ليلة الإسراء بأمر من الأمور ولا يذكرونها، ولهذا لا يعرف أي ليلة كانت، وإن كان الإسراء من أعظم فضائله صلى الله عليه وسلم، ومع هذا، فلم يشرع تخصيص ذلك الزمان ولا ذلك المكان بعبادة شرعية، بل غار حراء الذي ابتدء فيه بنزول الوحي , وكان يتحراه قبل النبوة لم يقصده هو ولا واحد من أصحابه بعد النبوة مدة مقامه بمكة ولا خص اليوم الذي أنزل فيه الوحي ولا الزمان بشيء .
ومن خص الأمكنة والأزمنة من عندة بعبادات لأجل هذا وأمثاله؛ كان من جنس أهل الكتاب , الذين جعلوا زمان أحوال المسيح مواسم وعبادات؛ كيوم الميلاد , ويوم التعميد , وغير ذلك من أحواله .
وقد رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه جماعة يتبادرون مكانًا يصلون فيه , فقال : ما هذا ؟ قالوا : مكان صلى فيه رسول الله عليه وسلم . فقال : أتريدون أن تتخذوا أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد؛ إنما هلك من كان قبلكم بهذا , فمن أدركته الصلاة فيه , فليصل , وإلا؛ فليمض . . .
وقد قال بعض الناس : أن ليلة الإسراء " إلخ(1/267)
ومن هنا يبدأ نقل كاتب المقال , وإنما نقل ما يظن أنه يؤيد رأيه مفصولًا عن سابقه , وهذا من الخيانة والتلبيس في النقل، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
وادعى أن ابن القيم بكلامة هذا يعتني بليلة الإسراء، ولا أدري من أين فهم هذا الفهم، وابن القيم يورد كلام شيخه ابن تيمية مقرًا له ومحتجًا به على أنه لا يجوز تخصيص تلك اليلة بشيء من العبادات ولا غيرها، ومن ذلك الاحتفال، وأن هذة الليلة لم يتعين وقتها من الزمان، ولو كان يشرع تخصيصها بشيء؛ لبينت لنا وحددت ؟ هذا؛ وأسأل الله عز وجل أن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه . . . . .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
بدعة الاحتفال بذكرى المولد النبوي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين وبعد :
فلا يخفى ما ورد في الكتاب والسنة من الأمر باتباع ما شرعه الله ورسوله والنهي عن الابتداع في الدين، قال تعالى : { قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } وقال تعالى : { اتَّبِعُواْ مَا أنزل إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ } ، وقال تعالى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } وقال صلى الله عليه وسلم : ( إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها ) وقال صلى الله عليه وسلم : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) (1)، وفي رواية لمسلم : ( من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد ) .
وإن من جملة ما أحدثه الناس من البدع المنكرة الاحتفال بذكرى المولد النبوي في شهر ربيع الأول وهم في هذا الاحتفال على أنواع :(1/268)
فمنهم من يجعله مجرد اجتماع تقرأ فيه قصة المولد، أو تقدم فيه خطب وقصائد في هذه المناسبة .
ومنهم من يصنع الطعام والحلوى وغير ذلك ويقدمه لمن حضر .
ومنهم من يقيمه في المساجد، ومنهم من يقيمه في البيوت .
ومنهم من لا يقتصر على ما ذكر، فيجعل هذا الاجتماع مشتملًا على محرمات ومنكرات من اختلاط الرجال بالنساء والرقص والغناء، أو أعمال شركية كالاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم وندائه والاستنصار به على الأعداء وغير ذلك، وهو بجميع أنواعه واختلاف أشكاله واختلاف مقاصد فاعليه لا شك ولا ريب أنه بدعه محرمة محدثة بعد القرون المفضلة بأزمان طويلة، فأول من أحدثه الملك المظفر أبو سعيد كوكبوري ملك إربل في آخر القرن السادس أو أول القرن السابع الهجري، كما ذكره المؤرخون كابن كثير وابن خلكان وغيرهما .
وقال أبو شامة : وكان أول من فعل ذلك بالموصل الشيخ عمر بن محمد الملا أحد الصالحين المشهورين، وبه اقتدى في ذلك صاحب إربل وغيره .
قال الحافظ ابن كثير في " البداية " ( 13 - 137 ) في ترجمة أبي سعيد كوكبوري : وكان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول ويحتفل به احتفالًا هائلًا . . إلى أن قال : قال السبط : حكى بعض من حضر سماط المظفر في بعض الموالد، كان يمد في ذل السماط خمسة آلاف رأس مشوي وعشرة آلاف دجاجة ومائة ألف زبدية وثلاثين ألف صحن حلوى . . . إلى أن قال ويعمل للصوفية سماعًا من الظهر إلى الفجر ويرقص بنفسه معهم، اهـ .
وقال ابن خلكان في " وفيات الأعيان " ( 3 - 274 ) : فإذا كان أول صفر زينوا تلك القباب بأنواع الزينة الفاخرة المتجملة، وقعد في كل قبة جوق من الأغاني، وجوق من أرباب الخيال ومن أصحاب الملاهي، ولم يتركوا طبقة من تلك الطبقات ( طبقات القباب ) حتى رتبوا فيها جوقًا .(1/269)
وتبطل معايش الناس في تلك المدة، وما يبقى لهم شغل إلا التفرج والدوران عليهم . . . إلى أن قال : فإذا كان قبل يوم المولد بيومين أخرج الإبل والبقر والغنم شيئًا كثيرًا زائدًا عن الوصف وزفها بجميع ما عنده من الطبول والأغاني والملاهي، حتى يأتي بها إلى الميدان . . إلى أن قال : فإذا كانت ليلة المولد عمل السماعات بعد أن يصلي المغرب في القلعة، اهـ .
فهذا مبدأ حدوث الاحتفال بمناسبة ذكرى المولد، حدث متأخرًا ومقترنًا باللهو والإسراف وإضاعة الأموال والأوقات وراء بدعة ما أنزل الله بها سلطان .
والذي يليق بالمسلم إنما هو إحياء السنن وإماته البدع، وأن لا يقدم على عمل حتى يعلم حكم الله فيه .
هذا وقد يتعلق من يرى إحياء هذه البدعة بشبه أوهى من بيت العنكبوت، ويمكن حصر هذه الشبه فيما يلي :
1 – دعواهم أن في ذلك تعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم .
والجواب عن ذلك أن نقول : إنما تعظيمه صلى الله عليه وسلم بطاعته وامتثال أمره واجتناب نهيه ومحبته صلى الله عليه وسلم، وليس تعظيمه بالبدع وبالخرافات والمعاصي، والاحتفال بذكرى المولد من هذا القبيل مذموم، لأنه معصية، وأشد الناس تعظيمًا للنبي صلى الله عليه وسلم هم الصحابة رضي الله عنهم، كما قال عروة ابن مسعود لقريش : " يا قوم ! والله لقد وفدت على كسرى وقيصر والملوك، فما رأيت ملكًا يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدًا صلى الله عليه وسلم، والله ما يمدون النظر إليه تعظيمًا له، ومع هذا التعظيم ما جعلوا يوم مولده عيدًا واحتفالًا، ولو كان ذلك مشروعًا ما تركوه .
2 – الاحتجاج بأن هذا عمل كثير من الناس في كثير من البلدان .(1/270)
والجواب عن ذلك أن نقول : الحجة بما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم النهي عن البدع عمومًا، وهذا منها وعمل الناس إذا خالف الدليل فليس بحجة، وأن كثروا : { وَإِن تُطِعْ أكثر مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } ، مع أنه لا يزال بحمد الله في كل عصر من ينكر هذه البدعة ويبين بطلانها، فلا حاجة بعمل من استمر على إحيائها بعد ما تبين له الحق .
فممن أنكر الاحتفال بهذه المناسبة شيخ الإسلام ابن تيمية في " اقتضاء الصراط المستقيم " ، والإمام الشاطبي في " الاعتصام " ، وابن الحاج في " المدخل " ، والشيخ تاج الدين علي بن عمر اللخمي، ألّف في إنكاره كتابًا مستقلًا والشيخ محمد بشير السهسواني الهندي في كتابه " صيانة الإنسان " والسيد محمد رشيد رضا، ألف فيه رسالة مستقلة، والشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، ألف فيه رسالة مستقلة، وسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وغير هؤلاء ممن لا يزالون يكتبون في إنكار هذه البدعة كل سنة في صفحات الجرائد والمجلات، في الوقت الذي تقام فيه هذه البدعة .
3 – يقولون : أن في إقامة المولد إحياء لذكر النبي صلى الله عليه وسلم
والجواب عن ذلك أن نقول : إحياء ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يكون بما شرعه الله من ذكره في الأذان والإقامة والخطب والصلوات وفي التشهد والصلاة فيه وقرأة سنته واتباع ما جاء به، وهذا شيء مستمر يتكرر في اليوم والليلة دائمًا، لا في السنة مرة .
4 – قد يقولون : الاحتفال بذكرى المولد النبوي أحدثه ملك عادل عالم، قصد به التقرب إلى الله .
والجواب عن ذلك أن نقول : البدعة لا تقبل من أي أحد كان، وحسن القصد لا يبرر العمل السيئ، وكونه عالمًا لا يقتضي عصمته .
5 – قولهم : إن إقامة المولد من قبيل البدعة الحسنة، لأنه ينبئ عن الشكر لله على وجود النبي الكريم .(1/271)
والجواب عن ذلك أن نقول : ليس في البدع شيء حسن، فقد قال صلى الله عليه وسلم ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) ويقال أيضًا لماذا تأخر القيام بهذا الشكر على زعمكم إلى آخر القرن السادس، فلم يقم به أفضل القرون من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، وهم أشد محبةً للنبي صلى الله عليه وسلم وأحرص على فعل الخير والقيام بالشكر فهل كان من أحدث بدعة المولد أهدى منهم وأعظم شكرًا لله عز وجل، حاشا وكلا .
6 – قد يقولون : أن الاحتفال بذكرى المولد النبوي ينبئ عن محبته فهو مظهر من مظاهرها وإظهار محبته صلى الله عليه وسلم مشروع .
والجواب أن نقول : لا شك أن محبته صلى الله عليه وسلم واجبة على كل مسلم أعظم من محبة النفس والولد والناس أجمعين، بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، ولكن ليس معنى ذلك أن نبتدع في ذلك شيئًا لم يشرعه لنا، بل محبته تقتضي طاعته واتباعه، لأن ذلك من أعظم مظاهر محبته، كما قيل :
لو كان حبك صادقًا لأطعته ** إن المحب لمن يحب مطيع
فمحبته صلى الله عليه وسلم تقتضي إحياء سنته والعض عليها بالنواجذ ومجانبة ما خالفها من الأقوال والأفعال، ولا شك أن كل ما خالف سنته فهو بدعة مذمومة ومعصية ظاهرة، ومن ذلك الاحتفال بذكرى مولده وغيره من البدع -، وحسن النية لا يبيح الابتداع في الدين، فإن الدين مبنيي على أصلين : الإخلاص والمتاعبة، قال تعالى : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } ، فإسلام الوجه هو الإخلاص لله، والإحسان هو المتابعة للرسول وإصابة السنة .(1/272)
وخلاصة القول : أن الاحتفال بذكرى المولد النبوي بأنواعه واختلاف أشكاله بدعة منكرة يجب على المسلمين منعها ومنع غيرها من البدع، والاشتغال بإحياء السنن والتمسك بها، ولا يغتر بمن يروج هذه البدعة ويدافع عنها، فإن هذا الصنف يكون اهتمامهم بإحياء البدع أكثر من اهتمامهم بإحياء السنن، بل ربما لا يهتمون بالسنن أصلًا، ومن كان هذا شأنه فلا يجوز تقليده والإقتداء به، وإن كان هذا الصنف هم أكثر الناس، إنما يقتدى بمن صار على نهج السنة من السلف الصالح وأتباعهم وإن كانوا قليلًا، فالحق لا يعرف بالرجال، وإنما يعرف الرجال بالحق .
قال صلى الله عليه وسلم : ( فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليه بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة ) فبين لنا صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الشريف بمن نقتدي عند الاختلاف، كما بين أن كل ما خالف السنة من الأقوال والأفعال فهو بدعة وكل بدعة ضلالة .
وإذا عرضنا الاحتفال بالمولد النبوي لم نجد له أصلًا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في سنة الخلفاء الراشدين، إذًا فهو من محدثات الأمور ومن البدع المضلة، وهذا الأصل الذي تضمنه هذا الحديث قد دل عليه قوله تعالى : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ أن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } .(1/273)
والرد إلى الله هو الرجوع إلى كتابه الكريم، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرجوع إلى سنته بعد وفاته، فالكتاب والسنة هما المرجع عند التنازع، فأين في الكتاب والسنة ما يدل على مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي ؟ فالواجب على من يفعل ذلك أو يستحسنه أن يتوب إلى الله تعالى منه ومن غيره من البدع، فهذا شأن المؤمن الذي ينشد الحق، وأما من عاند وكابر بعد قيام الحجة فإنما حسابه عند ربه .
هذا؛ ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا التمسك بكتابه وسنة رسوله إلى يوم نلقاه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .
( 4 )
فقهيات
ظاهرة الإعلان عن الكسوف قبل حدوثه وما يترتب على ذلك
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين :
وبعد :
فقد تكررت في بعض الصحف ظاهرة الإعلان عن الكسوف قبل حدوثه، اعتمادًا على قول بعض أهل الحساب، ونظرًا لما يترتب على هذا العمل من الآثار السيئة؛ أحببت أن أكتب هذا التنبيه، لعل هذه الصحف تمتنع عن نشر مثل هذا الإعلان؛ لأنه لا يترتب عليه مصلحة دينية ولا دنيوية، وإنما هو من باب الفضول والتنطع المنهي عنه، ويترتب عليه بلبله الأفكار والتشويش في الناس وذهاب روعة هذا الحدث وعدم الخوف والخشية عند حصوله، لأن كثيرًا من العوام إذا قرأ هذا الإعلان أو سمع به؛ عد الكسوف أمرًا عاديًا، لا تأثير فيه على نفسه، لأن بعض أئمة المساجد قد يعتمدون على هذا الخبر، ويبدؤون في صلاة الكسوف قبل حدوثه وقبل ابتداء وقت الصلاة، وخبر الحاسب قد يصيب وقد يخطئ .
ولم يكن أهل الحساب فيما سبق يخبرون الناس عن الكسوف قبل حصوله، مع أنهم يدركون هذا بالحساب، ويعرفون متى يحصل ,
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعودية رحمه الله :(1/274)
" وأما الذين يعلنون بقولهم : الشمس يكسف بها أو القمر؛ فهم مخطئون في إعلانهم وجزمهم بذلك في الوقت الذي عينوه، وإن كان ذلك يدرك بالحساب، لأن له أسباب معلومة عند علماء الهيئة؛ إلا أن الحساب يخطئ ويصيب، وفرق بين من يعلن ذلك ويجزم به وبين من يخبر عن أهل الحساب أنهم يقولون ذلك، ولا سيما إذا لم يخبر به العوام، وإنما يخبر به الخواص .
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن قول أهل الحساب : الشمس سيكسف بها في وقت كذا ؟ فأفتى أن حكم ذلك حكم أخبار بني إسرائيل التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا أخبركم أهل الكتاب؛ فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ) .
قال الشيخ محمد بن إبراهيم :
" والعلة في النهي عن تصديق أهل الكتاب وتكذيبهم هي احتمال أن يكون ما ذكروه حقًا، فيكون من كذبهم مكذبًا بحق، واحتمال أن يكون ما أخبروا به كذبًا، فيكون من صدقهم مصدقًا بالكذب .
فهكذا أخبار المخبرين عن الكسوف والخسوف، قد يكونون مصيبين في حسابهم، فيكون مكذبهم مكذبا بصدق، وقد يكونون مخطئين، فيكون مصدقهم مصدقا بالباطل والكذب .
وأما إنكار الجزم بوقت الكسوف والتحدث بذلك؛ فهذا صنيع المشايخ مع من صدر منه ذلك، ينكرون عليه جزمه بذلك وإفشاءه .
بل كان من المستفيض أن رجلًا حاسبًا في بلد الدرعية وقت أبناء الشيخ محمد قدس الله روحه وأرواحهم جميعًا - أظنه يقال له : ابن جاسر – كان ساكنًا في أعالي الدرعية، فتوضأ في نخله، وركب حماره، ونزل إلى مسجد البجيري أو غيره من المساجد الكبار في الدرعية، وكان يخبر من لقيه في الطريق أنه إنما نزل إلى المسجد لكون الشمس سيكسف بها في وقت كذا وكذا من ذلك اليوم، فلما بلغ المشايخ من أولاد الشيخ محمد رحمهم الله وغيرهم؛ أنكروا عليه جزمه بذلك، وتوضؤه وركوبه وسيره إلى المسجد لذلك " انتهى . من " مجمع فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله " ( 1/168 – 170 ) .(1/275)
وعلى هذا؛ فإن الإعلان عن الكسوف في الصحف قبل حصوله والجزم بذلك أمر لا يجوز، لأنه لم يكن من عمل السلف، ولا يترتب عليه فائدة، بل يترتب عليه مفاسد كما ذكرنا من ذهاب الخوف من قلوب بعض العوام عند حدوث هذه الآية، وعد ذلك أمرًا عاديًا .
بل أن بعضهم يقول : ما دام أن هذه الشيء معروف فلماذا نصلي ؟ !
وبعضهم الآخر يحدث عندهم تشويش وتكذيب لهذا الخبر الذي قد يكون صادقًا .
وبعض أئمة المساجد يستعجل ويبدأ صلاة الكسوف قبل حدوثه؛ اعتمادًا على ما حدد في الخبر من بداية الكسوف ونهايته، وقد لا يحصل كسوف أصلًا، فيكون قد صلى صلاة غير مشروعة .
فالمطلوب من أهل الحساب ومن الصحفيين ألا ينشروا هذا الخبر على العوام، وأن يحتفظوا به ولا يتحدثوا عنه إلا مع المختصين .
وفق الله الجميع لما فيه الخير والسداد .
كما يطلب من أئمة المساجد التثبت وعدم التسرع في هذا الأمر .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
تعقيب على اعتراض
اطلعت على " جريدة المدينة " ( الصادرة يوم الاثنين 21/ 9/1407 هـ - العدد ( 7330 ) على تعقيب لفضيلة الأستاذ الشيخ أحمد محمد جمال على ما أجبت به عن حكم تناول البخاخ عن طريق الحلق أثناء الصيام للمصاب بمرض الربو، حيث قلت : " أن مثل هذا إذا كان لا يستطيع الصيام إلا إذا تعاطى البخاخ عن طريق الفم ليصل إلى حلقه وينفذ إلى ما وراء ذلك، فإن هذا يعد مريضًا يباح له تناول هذا البخاخ، ويقضي اليوم الذي تناوله فيه؛ لأن الأصل أن الصائم ممنوع من إدخال شيء إلى حلقه سواء كان طعامًا وشرابًا أم غيرهما؛ لأن الصيام معناه الإمساك عن ذلك وعن غيره من المفطرات، والأصل أيضًا أن المريض الذي يحتاج لتناول الدواء يفطر ويقضي " .(1/276)
ولكن الأستاذ تحامل علي، ووصف هذا الجواب بالتشدد، مع أنه اعترف أن جمهور فقهاء السلف يرون أن الصائم يفطر بوصول أي شيء إلى الجوف عن طريق الفم أو الأنف أو الأذن، لنهي الصائم عن المبالغة في الاستنشاق؛ لئلا يصل الماء إلى حلقه .
ومثله البخاخ، فهو شيء أدخل إلى الجوف عن طريق الفم .
والأستاذ أحمد معترف أيضًا أن البخاخ فيه مادة يفرزها في الحلق، وتنفذ إلى الداخل حيث قال :
" إن المادة التي تفرزها البخاخة لا تتجاوز منطقة الرئتين " .
فإذا كان البخاخ يفرز مادة في الحلق تتجاوزه؛ فهو ضمن الأشياء الممنوع تعاطيها للصائم .
وأما قوله " أن هذه المادة لا تتجاوز منطقة الرئتين " فنقول عنه :
أولًا : الفقهاء لم يفرقوا فيما يدخل إلى الحلق ويتجاوزه إلى الداخل، وإنما أعطوه حكمًا واحدًا هو المنع .
ثانيًا : أن قول الأستاذ أحمد : " إن هذه المادة لا تتجاوز منطقة الرئتين " هو مجرد دعوى منه .
ثالثًا : لا نسلم له هذا الحصر، وهو عدم تجاوز مادة البخاخ منطقة الرئتين، بل نقول : وإن كان مفعول المادة مختصًا بالرئتين، وأن هذا هو المقصود من تعاطيه؛ فإن ذلك لا يمنع من تمددها وانتشارها في غير هذه المنطقة من الجوف والجسم، ومثل هذا يُخِّل بالصيام .
, أما قول الأستاذ أحمد عني : أنه فاتني أن نوبات الربو ملازمة للمريض طوال حياته، وبذلك لا يستطيع القضاء؛ فنقول عنه : بل أنت الذي فاتك أن مثل هذا المريض يعد من ذوي الأمراض المزمنة الذين لا يكلفون بالصيام، وإنما يكفيهم تقديم الفدية، وهي إطعام مسكين عن كل يوم، أخذًا من قوله تعالى : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } .(1/277)
وعلى هذا؛ فيكون المتشدد في الحقيقة هو الذي طالبهم بالصيام مع تناول البخاخ، لا الذي أفتاهم بالقضاء إذا كانوا يطيقونه، أو تقديم الفدية إذا كانوا لا يطيقون الصيام أداء ولا قضاء إلا مع تناول البخاخ، لأن هذا من التكلف الذي لم يأمر به الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، فلم يُعهد في الشرع أن مريضًا يكلف بالصيام وهو مضطر لتناول الدواء عن طريق الحلق أثناء النهار .
ومن العجيب أيضًا كون الأستاذ أحمد وفقه الله ينعي على المتشددين في الفتوى، وهو ينحو هذا المنحى كما سبق بيانه، وينعي أيضًا على المتساهلين فيها، وهو يتساهل، وذلك حين يقول : " إذ ليس من المعقول أن يكون ما يصل من قطرات الدواء عن طريق الأنف والفم أو الأذن أكلًا أو شربًا يفطر به الصائم "
ويعتمد في قوله هذا على ظاهرية ابن حزم الذي ذكر عنه قبل ذلك أنه يقصر المفطرات على الأكل والشرب والجماع .
فأي تساهل في الفتوى أعظم من هذا التساهل ؟ ! أي تناقض أعظم من هذا التناقض ؟ !(1/278)
وأخيرًا، أشكر للأستاذ أحمد إتاحة هذه الفرصة للمناقشة، وأرحب منه بكل نقد هادف، لكن لا أسمح له أن يصفني بالتشدد ما دمت لم أخرج عن مقتضى قول جمهور فقهاء السلف باعترافه، وما دمت أمشي على الأصل، وهو أن الصائم مأمور بالإمساك عن سائر المفطرات، ومنها الأكل والشرب وما في حكمها مما يصل إلى الحلق لغرض التداوي وغيره، لا سيما وهو لم يعتمد في فتواه إلا على قول ابن حزم وفتوى الشيخ صالح بن سعد اللحيدان، ومع احترامي للجميع؛ إلا أن قول مثل هؤلاء لا يقوى على مقابلة : الأصل، وقول الجمهور، والحفاظ على الصيام، مع دلالة الحديث – وهو النهي عن المبالغة في الاستنشاق خشية وصول الماء إلى الحلق _ والمصابون بالربو إذا اضطروا إلى استعمال البخاخ أثناء الصيام؛ فإنهم مرضى يفتون بما تدل عليه الأدلة الشرعية من وجوب القضاء عليهم إذا كانوا يطيقونه، أو على الإطعام إذا كانوا لا يطيقون القضاء، وهذا هو اليسر الذي قال الله عنه : { وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ آخر يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } .
وقد حاول الأستاذ أحمد دفع دلالة حديث نهي الصائم عن المبالغة في الاستنشاق على إفطار الصائم بما يصل إلى حلقه من الماء وما في حكمه – كالبخاخ – إذا كان معتمدًا، حاول دفع دلالة الحديث على ذلك بقوله : " أما حديث الرسول الذي ينهى الصائم عن المبالغة في الاستنشاق لئلا يصل الماء شيء منه إلى جوفه؛ فمفهومه طلب استكمال آداب الصوم، والحذر من وصول الماء إلى الجوف " .
يعني : ولا يفطر بذلك .
هكذا قال ! وهذا صرف للحديث عن مدلوله من غير دليل، ومقتضاه أن الصائم لا يفطر بما يصل إلى جوفه ولو كان ماء، وهذا تصرف غريب وتساهل عجيب نرجوا من الأستاذ أحمد أن يعيد النظر فيه . ونسأل الله لنا وله التوفيق لقول الحق والعمل به . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .(1/279)
تنبيه حول الأناشيد
قرأت في ( مجله الدعوة ) ( العدد 1406 - الاثنين 17 شوال 1406 هـ - ص 29 ) رسالة ممن سمت نفسها تغريد العبد العزيز، وجهتها إلى مديري المراكز الصيفية والمدارس الأخرى؛ نرجوا منهم بذل المزيد من الجهود في إخراج الأناشيد الإسلامية، وتقول أنها تلهب الحماس، وتوقد في النفس جذوة الإيمان؛ كما تزعم كذلك أنها تغني الفرد عن سماع الأشرطة التافهة، والأغاني الماجنة، وعن ترديد الكلمات الهابطة، وتقول : أن بعض الفتيات اهتدين إلى الطريق المستقيم بسبب هذه الأشرطة الطيبة .
هذا ما تضمنته رسالة الأخت المذكورة
- وأقول : يا أخت ! كان الأجدر بك أن توصي هذه الجهات بدراسة كتاب الله وسنة رسوله، والعناية بدراستها العقدية الصحيحة والأحكام الشرعية؛ كما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم : أمته بذلك في قوله : ( عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي )
- وقال صلى الله عليه وسلم :
( إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله، وسنتي ) .
- فهذا هو الذي يقوي الإيمان في النفوس وهو الذي يهدي إلى الطريق المستقيم كما قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وإذا لآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا } .
وأخبر سبحانه أن القرآن يهدي للتي هي أقوم، وأنه يهدي للحق، وإلى طريق مستقيم، أن الرسول صلى الله عليه وسلم : يهدي إلى ذلك .
وأما الأناشيد؛ فإنها لا تفقه في دين الله، ولا تبصر بالعقيدة الصحيحة، ولا تقوي الإيمان في النفوس، وإنما يطرب لسماعها ويتلذذ بنغمها وترانيمها السذج .(1/280)
هذا إذا كانت خالية من الأهداف السيئة، كإثارة الفتنة، والتحريش بين الناس، والإغراء بشهوات النفس وغير ذلك من المقاصد السيئة لمروجيها . وتسمية هذه الأناشيد بأنها إسلامية يعطيها شيئًا من المشروعية، وأنها من الدين، وهذا شيء لم يقل به إلا ضلال الصوفيه ومبتدعيهم، الذين يجعلون الأناشيد من الذكر والعبادة؛ تشبهًا بالنصارى الذين يجعلون الأهازيج والترانيم جزءًا من صلواتهم، فتسمية هذه الأناشيد بأنها إسلامية هو من باب التزييف، والترويج لها، والمجاراة لمذاهب الصوفية .
والصواب أنها تسمى أناشيد عربية، ولا تجعل لها صبغة الديانة، ولا تجعل ضمن البرامج الدينية، بل ضمن البرامج العربية التي يقصد بها تقوية لغة الأولاد، وتعليمهم الحكم العربية؛ كما كان المسلمون في مختلف العصور يحفظون أولادهم الجيد من الشعر العربي؛ ليستفيدوا منه في لغتهم، وتنمية مداركهم، وكما هو موجود في محفوظات المدارس .
وكان المسلمون ينشدون الشعر لأجل روايته وحفظه، أو لإزاله السأم والفتور عند مزاولة بعض الأعمال، أو لحداء الإبل في السفر، وقد حصل شيء من هذا بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فدل على إباحته في تلك الأحوال . وعلى هذا النمط فغاية ما يقال : أنه يباح؛ ما كان من هذا النوع، ولا يسمى نشيدًا إسلاميًا، ولا يجعل ضمن البرامج الدينية ويسجل في الأشرطة؛ كما يسجل القرآن أو العلوم الدينية؛ لأجل تداوله، والتوسع في نشره، لأن هذا يكسبه الصبغة الشرعية، وحينئذ يروج دين الصوفية والمبتدعة، فهذا يجب التنبيه له، والتنبيه عليه .
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
وقولها عن هذه الأناشيد التي طالبت بإخراجها : " أنها تغني الفرد عن سماع الأشرطة التافهة والأغاني الماجنة وعن ترديد الكلمات الهابطة " .(1/281)
نقول : أن هذه الأشياء لا يجوز سماعها والاشتغال بها، لكن ليس البديل منها أناشيد أخرى قد يكون سماعها أشد إثمًا إذا عددناها دينية، وسميناها إسلامية؛ لأن هذا يعد ابتداعًا وتشريعًا لم يأذن الله به .
والبديل الصحيح هو تسجيل القرآن الكريم والأحاديث النبوية والمحاضرات المفيدة في الفقه والعقيدة والمواعظ النافعة .
هذا هو البديل الصحيح، لا أناشيد الصوفية وأشباههم .
والله أعلم .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
تعقيب حول ما نشر في " مجلة الدعوة السعودية " حول الأناشيد
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه .
وبعد : كنت قد عقبت على ما كتبته الأخت تغريد العبد العزيز في ( مجلة الدعوة ) من الثناء على ما سمته الأناشيد الإسلامية، ومطالبتها المراكز الصيفية بالإكثار من إنتاجها، فبينت لها أن هذا الثناء في غير محله، وأن هذا الطلب غير وجيه وأن الأولى بها أن تطالب بالعناية بالكتاب والسنة، وتعليم العقيدة الصحيحة والأحكام الشرعية، فانبرى بعض الإخوان – وهو الأخ أحمد بن عبد العزيز الحلبي سامحه الله – ينتصر لهذه الأناشيد، ويدعي أنها شيء طيب، وعمل جميل، ويستدل لإثبات دعواه بأمور هي :
أولًا : إن هذه الأناشيد تلحق بالحداء الذي رخص فيه الشارع، وكذلك تلحق بالارتجاز الذي رخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم عند مزاولة الأعمال الشاقة .
ثانيًا : أن العلماء، كشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن الجوزي، وابن حجر الهيتمي؛ نصوا على جواز الحداء، والارتجاز، وسماع الشعر الذي فيه ثناء على الله ورسوله ودينه وكتابه والرد على أعداء الله وهجائهم . والنشيد الإسلامي –كما يسميه - لا يخرج عن هذه المعاني، فهو شعر ملتزم بالأدب الإسلامي، يرفع بصوت حسن .(1/282)
ثالثًا : تسمية الأناشيد الإسلامية لا تعني المشروعية والابتداع في الدين، وإنما هي وصف وتوضيح وتمييز عن غيرها من الأناشيد والأهازيج المحرمة، وهو من المصطلحات الحديثة؛ مثل : الحضارة الإسلامية، والعمارة الإسلامية .
رابعًا : فرق الكاتب بين هذه الأناشيد التي سماها إسلامية وبين الصوفية التي تعد من البدع في الدين من وجهتين :
الأول : أنهم أضفوا على أناشيدهم صفة القربة والطاعة .
ثانيًا : أن سماعهم لا يخلوا من الآله التي تقرن بتلحين الغناء .
هذا حاصل ما كتبه أخونا أحمد في تسيغه ما سماه بالأناشيد الإسلامية .
وجوابنا عنه من وجوه :
الوجه الأول : أن هناك فروقًا واضحة بين ما يسمونه الأناشيد الإسلامية وبين ما رخص فيه الشارع من الحداء في السفر، والارتجاز عند مزاولة الأعمال الشاقة، وإنشاد الأشعار التي فيها مدح الإسلام، وذم الكفر، وهجاء المشركين، ومع وجود هذه الفروق لا يصح لكم إلحاق هذه الأناشيد بتلك الأشياء .
والفروق كما يلي :
1 – أن الحداء في السفر، والارتجاز عن الضجر، وإنشاد الشعر المشتمل على مدح الإسلام وذم الكفر وهجاء الكفار لا يسمى نشيدًا إسلاميًا - كما تسمون نشيدكم بذلك -، وإنما يسمى نشيدًا عربيًا .
إذًا؛ فبينهما فرق من جهة التسمية الحقيقة .
2 – أن الحداء إنما يباح في السفر لأجل الحاجة إليه في السير في الليل؛ لطرد النعاس، واهتداء الإبل إلى الطريق بصوت الحادي، وكذا الارتجاز عند مزاولة الأعمال الشاقة كالبناء ونحوه، وأبيح للحاجة إليه بصفة مؤقتة، وبأصوات فردية لا أصوات جماعية .
وما تسمونه بالأناشيد الإسلامية يختلف عن ذلك تمامًا، فهو يفعل في غير الأحوال التي يفعل فيها النوع الأول، وبنظام خاص وأصوات جماعية منغمة، وربما تكون أصواتًا فاتنة، كأصوات المردان وحدثاء الأسنان من البنين والبنات، والأصل في الغناء التحريم؛ إلا ما وردت الرخصة فيه .(1/283)
3 – أن الحداء والارتجاز وإنشاد الشعر الذي جاء الدليل عليه بالترخيص فيه بقدر معين وحالة معينة لا يأخذ كثيرًا من وقت المسلم، ولا يشغله عن ذكر الله، ولا يزاحم ما هو أهم .
أما ما تسمونه بالأناشيد الإسلامية؛ فقد أعطى أكثر مما يستحق من الوقت والجهد والتنظيم، حتى أصبح فنًا من الفنون يحتل مكانًا من المناهج الدراسية والنشاط المدرسي، ويقوم أصحاب التسجيل بتسجيل كميات هائلة منه للبيع والتوزيع، حتى ملأ غالب البيوت، وأقبل على استماعه كثير من الشباب والشابات، حتى شغل كثيرًا من وقتهم، وأصبح استمتاعه يزاحم استماع تسجيلات القرآن الكريم والسنة النبوية والمحاضرات والدروس العلمية المفيدة .
فأين هذا من ذاك ؟
ومعلوم أن ما شغل عن الخير فهو محرم وشر .
الوجه الثاني : أن محاولة تسويغ تسمية هذه الأناشيد بالأناشيد الإسلامية محاولة فاشلة، لأن تسميتها بذلك يعطيها صبغة الشرعية وحينئذ نضيف إلى الإسلام ما ليس منه .
وقول أخينا أحمد : " إن هذه التسمية لأجل التميز بينها وبين الأناشيد والأهازيج المحرمة قول غير صحيح، لأنه يمكن التمييز بينهما بأن يقال : الأناشيد المباحة بدلًا من الأناشيد الإسلامية، كغيرها من الأشياء التي يقال فيها : هذا مباح وهذا محرم، ولا يقال هذا إسلامي، وهذا غير إسلامي، ولأن تسميتها بالأناشيد الإسلامية تسمية تلتبس على الجهال، حتى يظنوها من الدين، وأن في استماعها أجر وقربه .
وقول الأخ أحمد : " أن هذه التسمية من المصطلحات الحديثة؛ مثل الحضارة الإسلامية والعمارة الإسلامية " .(1/284)
نقول له : النسبة إلى الإسلام ليست من الأمور الاصطلاحية، وإنما هي من الأمور التوقيفية، التي تعتمد على النص من الشارع، ولم يأت نص من الشارع بتسمية شيء من هذه الأمور إسلامي، فيجب إبقاء الشعر على اسمه الأصلي، فيقال " الشعر العربي والأناشيد العربية، أما تسمية العمارة والحضارة بالإسلامية فهي تسمية الجهال، فلا عبرة بها ولا دليل فيها .
الوجه الثالث : أن تفريق الأخ أحمد بين ما يسمية بالأناشيد الإسلامية وبين أناشيد الصوفية تفريق لا وجه له؛ لأن بإمكان الصوفية أن يدعوا في أناشيدهم ما تدعونه في أناشيدكم من الفائدة والترغيب في الخير والتنشيط على العبادة والذكر فكما أنكم تدعون أن في أناشيدكم الحث على الجهاد، وأنها كلام طيب بصوت حسن، وفيها مدح الإسلام وذم الكفر . . . إلى غير ذلك؛ فيمكنهم أن يقولوا مثل ذلك في أناشيدهم .
وقولكم : " أن أناشيد الصوفية لا تخلو من الآلة التي تقرن بتلحين الغناء " .
هذا فارق مؤقت، فربما يأتي تطوير جديد لأناشيدكم يدخل فيه استعمال الآلة فيها وتسمى موسيقى إسلامية، أو دف إسلامي، ويزول الفارق عند ذلك؛ كما ورد أنه في آخر الزمان تغير أسماء بعد المحرمات، وتستباح، كاسم الخمر، واسم الربا . . . وغير ذلك (2).
فالواجب على المسلمين سد هذه الأبواب، والتنبية للمفاسد الراجحة والوسائل التي تفضي إلى الحرام، والتنبية كذلك لدسائس الأعداء في الأناشيد وغيرها .
ونحن لا نحتكر إباحة إنشاد الشعر النزيه وحفظه، ولكن الذي ننكره ما يلي :
1 – ننكر تسمية نشيدًا إسلاميًا .
2 – ننكر التوسع فيه حتى يصل إلى مزاحمة ما هو أنفع منه .
3 – ننكر أن يجعل ضمن البرامج الدينية، أو يكون بأصوات جماعية، أو أصوات فاتنة .
4 – ننكر القيام بتسجيله وعرضه للبيع؛ لأن هذا وسيله لشغل الناس به، ووسيلة لدخول بدع الصوفية على المسلمين من طريقه، أو وسيلة لترويج الشعارات القومية والوطنية والحزبية عن طريقه أيضًا .(1/285)
وأخيرًا نسأل الله عز وجل أن يوفق المسلمين لما هو أصلح وانفع لدينهم ودنياهم، ونقول ما قاله الإمام مالك بن أنس رحمه الله :
" لا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح أولها " .
وذلك باتباع الكتاب والسنة، والاعتصام بهما، لا بالأناشيد والأهازيج والترانيم .
والله ولي التوفيق .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
تعقيب ثالث وأخير حول الأناشيد
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه .
وبعد :
فقد قرأت في ( مجلة الدعوة ) ( العدد 1060 - تاريخ 3/2/1407 هـ ) تعقيب فضيلة الشيخ أحمد عبد العزيز الحليبي على ردنا عليه فيما كتبه في عدد سابق من هذه المجلة في تسويغه لما سماه بالأناشيد الإسلامية التي شغلت بال كثير من شباب المسلمين اليوم وافتتنوا بها .
ويعلم الله أن قصدنا تخليصهم من هذه الفتنة التي أوقعتهم فيها هذه التسمية الظالمة : ( الأناشيد الإسلامية ) .
والحقيقة أنني لم أجد في تعقيبه المذكور سوى ترديد لما ذكره في الأول من التماس المسوغات فهذه الأناشيد بما نقله من الترخيص بالحداء لرعاة الإبل، والارتجاز في حالة مزاولة الأعمال الشاقة، وإنشاد حسان لبعض أشعاره عند النبي صلى الله عليه وسلم .
وقد بينت أن بين هذه الأنواع التي ذكرها وبين الأناشيد التي هي محل بحثنا فروقًا تجلعها منها مناط الثريا، ولا داعي لتكرار ذلك، فليراجعه من شاء في مقالنا السابق .
وأقتصر هنا على مناقشة الشيخ أحمد في بعض النقاط الزائدة المهمة في تعقيبه فأقول :
يا فضيلة الشيخ أحمد :
1 – قولك عن النشيد الذي سميته إسلاميًا :
" إنك لم تقف على ما سماه بالنشيد العربي، ووقفت على من ألحقه بالحداء " .
ثم ذكرت كلام ابن حجر في الحداء، وأنه يلحق به غناء الحجيج المشتمل على التشويق إلى الحج بذكر الكعبة وغيرها من المشاهد .
- وأقول لك :(1/286)
: أولًا : كلام ابن حجر به نظر من ناحية جواز الغناء للحجيج، هل ورد ما يدل عليه من الكتاب والسنة ؟ !
إن الذي ورد أن الحجيج في عبادة يناسبهم الاشتغال بذكر الله والتلبية لا الغناء، ولا سيما في حالة الإحرام؛ قال تعالى :
{ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ } .
وهل كان الحجيج يغنون وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقرهم على ذلك حتى يكون دليلًا ؟ !
ثانيًا : ابن حجر لا ينطبق كلامه على الأناشيد التي نحن بصدد الكلام عنها؛ لأنه يتكلم عن إنشاد بعض الحجاج، ويلتمس دليلًا على جوازه بإلحاقه بالحداء، وعلى تسليم صحة هذا الاستدلال له؛ إن قلت : نحن نقيس على ذلك . قلنا : هذا قياس مع الفارق؛ لأن الأناشيد التي يعنيها ابن حجر ليست بأصوات جماعية، يصطف لها طوابير يؤدونها، ثم تسجل بآلاف الأشرطة للتوزيع والبيع والحفظ في المكتبات الصوتية؛ كما تعلمونه في أناشيدكم .
وكذلك الإنشاد الذي ورد ذكره في الأحاديث على صفة حداء أو ارتجاز أو إلقاء من حسان أو غيره هل كان ذلك جماعيًا كما هو الحال في أناشيدكم : !
لا بل هو كما يقول الرواة مثلًا : أنشد حسان، أو أنشد ابن رواحة، أو أنشد بلال، أو أنشد عامر بن الأكوع، كل شخص ينشد بمفرده .
ثم هل كانوا يسمون هذه المنشدات : أناشيد إسلامية، كما تسمون أناشيدكم بذلك ؟ !
وهل كانوا يملئون بها بيوتهم، ويشغلون بها شبابهم؛ كما تفعلوه ؟ !
ثالثًا : قولك عن أناشيدكم هذه : " لم أقف على ما سماها بالنشيد العربي " .
نقول لفضيلتك : إذا كان الأمر كذلك؛ فكيف يصح لك أن تستدل على جوازها بإنشاد النشيد العربي الذي وردت بجوازه الأحاديث وأقوال أهل العلم وهي لا تسمى نشيدًا عربيًا على حد قولك ؟ !
وكيف جاز لك أن تسميه نشيدًا إسلاميًا، ونحن وأنت لا نجد في دواوين الإسلام ما يسمى بهذا الاسم، اللهم إلا ما عند الصوفية مما يقارب هذه التسمية مما هو من جملة شطحاتهم ؟ !(1/287)
2 – قولكم : " فهذه الأدلة تدل على أن سماع النشيد كان كثيرًا، وبأصوات فردية وجماعية " .
- نسأل فضيلتكم أين وجهة الدلالة منها على أن ذلك كان بأصوات جماعية حتى نسلم لكم هذه الدعوى ؟ وأين وجه الدلالة على هذه الكثرة التي ادعيتها ؟
3 – قول فضيلتكم : " ولا مانع عندي من سماعه ( أي : النشيد ) في المجالس والنوادي المدرسية , للنصوص السابقة " .
- أقول : هذه هو بيت القصيد لديكم . ولكن؛ ما وجه الدلالة من النصوص السابقة على جوازه في هذه الأمكنة ؟ هل كان السلف يعلمونه أولادهم في المدارس والكتاتيب والحلقات العلمية والربط المدرسية التي هي بمثابة الجامعات الحالية ؟
هل كانوا يجعلون الأناشيد الجماعية من ضمن دروسهم وأعمالهم العلمية التي يتلقونها في هذه الدور العلمية ؟
عليك أن تثبت لنا ذلك، وأين ؟ ومتى ؟
4 - قول فضيلتكم : إنك لم تقف على ما يدل على منع سماع الأصوات الفاتنة من المردان ونحوهم .
- أقول لفضيلتكم : نحن وجدنا هذا في كتاب الله عز وجل في قوله تعالى : { فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا }
قال ابن كثير رحمه الله في ( تفسيره ) ( 5/415 – طبعة دار الاندلس ) ما نصه :
" قال السدي وغيره : يعني بذلك ترقيق الكلام إذا خاطبن الرجال . . . " إلى أن قال :
" ومعنى هذا أنها تخاطب الأجانب بكلام ليس فيه ترخيم . . . " انتهى .
فدل هذا على أن الصوت قد يكون فيه فتنة أشد من فتنة النظر إذا كان من امرأة ومثل ذلك صوت الشاب الأمرد .
قال الشاعر :
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة ** والأذن تعشق قبل العين أحيانًا
وقال العلامة ابن القيم في ( إغاثة اللهفان ) ( 1/248 ) :
" وأما سماعه ( يعني : الغناء ) من المرأة الأجنبية أوالأمرد؛ فمن أعظم المحرمات وأشدها فسادًا للدين . . . " انتهى .
فهذا ابن القيم يعد صوت الأمرد مثل صوت المرأة في الفتنة به .(1/288)
5 – قول فضيلتكم : " إن القاعدة الأصولية أن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يدل الدليل على التحريم " .
- وتريدون بهذا القول أن الأصل في الغناء الاباحة، إلا ما حرمه الدليل .
ونقول لفضيلتكم :
أولًا : هذه القاعدة مختلف فيها، فهناك من يرى العكس، وهو الأصل في الأشياء التحريم إلا ما دل الدليل على إباحته، فهي ليست قاعدة مسلمة .
ثانيًا : وعلى القول بأن الأصل في الأشياء الإباحة، فالغناء دل الدليل على تحريمه، فالأصل فيه التحريم إلا ما دل دليل على إباحته منه .
والدليل على أن الأصل في الغناء التحريم قوله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } .
ولهو الحديث المذكور في الآية هو الغناء بجميع أنواعه، فيحرم كله، إلا ما دل الدليل على إباحته منه .
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في ( إغاثة اللهفان ) ( 1/257 ) :
" قال الواحدي وغيره : المراد به { لَهْوَ الْحَدِيثِ } : الغناء . قاله ابن عباس وقاله ابن مسعود . . . " .
إلى أن قال : " أكثر ما جاء في التفسير أن { لَهْوَ الْحَدِيثِ } ها هنا هو الغناء؛ لأنه يلهي عن ذكر الله تعالى . . . " . إلى أن قال :
" وقد جاء في تفسير لهو الحديث الغناء مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم
وذكر الأحاديث الواردة في ذلك ثم قال : " إذا عرف هذا، فأهل الغناء ومستمعوه لهم نصيب من هذا الذم بحسب اشتغالهم بالغناء عن القرآن، وإن لم ينالوا جميعه . . . " انتهى .(1/289)
وإذا كان الأصل في الغناء التحريم؛ فإنه لا يحل منه إلا ما دل الدليل على جوازه، من حداء الإبل، والارتجاز عند مزاولة العمل المتعب، وما شابه ذلك مما وردت به الأدلة الصحيحة فيقتصر فيه على ما ورد قدرًا وكيفية؛ كما مر بيانه، لأن الرخصة تقتصر على ما رخص فيه، ولا يسمى ما رخص به نشيدًا إسلاميًا وإنما يسمى نشيدًا عربيًا، ولاينشر في المدارس والبيوت ويباع في محلات التسجيل، لأن هذا تجاوز للرخصة .
6 - ثم إننا نسألكم يا فضيلة الشيخ أحمد : ما هدفكم من هذه الأناشيد ؟
هل هو لأجل ترويح النفوس بها والتلذذ بإنشادها ؟ فيكون الهدف منها غير ديني، ولا يقتصد بها التقرب إلى الله، وإنما هو هدف ترويحي فقط، فهذا إنما يباح منه ما رخص به، وفي مثل الأحوال التي وردت فيه الرخصة، لا على الشكل الذي عليه الأناشيد لديكم، فقد أخذت أناشيدكم طابعًا غير الطابع المرخص فيه كما بيناه .
وإن كان هدفكم منها هدفًا دينيًا – كما توحي به تسميتكم لها بالإسلامية -؛ فهذا لا يخلو من أحد أمرين :
أما أن تكون من جنس أناشيد الصوفية التي يعدونها من دينهم ومن الأمور التي تقربهم إلى الله عز وجل، فتأخذ حكمها في الابتداع والحرمة .
وأما أن تكون من الأمور المبتدعة التي عددتموهما من وسائل الدعوة واجتذاب الشباب إلى الخير كما يصرح بعضكم، ووسائل الدعوة لا تكون بالأغاني والأهازيج، وإنما تكون بالكتاب والسنة ومنهج الرسول صلى الله عليه وسلم الذي سار عليه في دعوته للناس .(1/290)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : في ( مجموع الفتاوى ) ( 11/ 620 – 635 ) لما سئل عمن أراد أن يجتذب العصاة، فأقام لهم سماعًا ( يعني : نشيدًا ) يجتمعون فيه، ويكون ذلك النشيد بشعر مباح بغير ( شبابة ) كما يقول السائل، فلما فعل هذا : تاب جماعة، وأصبح من لا يصلي ويسرق ولا يزكي يتورع عن الشبهات، ويؤدي الفرائض ويجتنب المحرمات، قال السائل : فهل يباح فعل هذا السماع لهذا الشيخ على هذا الوجه، لما يترتب عليه من المصالح، مع أنه لا يمكنه دعوتهم إلا بهذا ؟ !
فأجب رحمه الله بقوله : " الحمد لله رب العالمين . أصل جواب هذه المسألة وما أشابهها أن يعلم أن الله بعث محمد بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا " . . .
ومضى رحمه الله في بيان أن الله أكمل الدين وأمر الخلق برد ما تنازعوا فيه إلى ما بعث الله به رسوله وأخبر أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحل الطيبات ويحرم الخبائث . . . إلى أن قال :
" إذا عرف هذا؛ فمعلوم أن ما يهدي الله به الضالين ويرشد به الغاوين، ويتوب به على العاصين؛ لابد أن يكون فيما بعث الله به رسوله من الكتاب والسنة، وإلا فإنه لو كان ما بعث الله به الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكفي ذلك؛ لكان دين الرسول ناقصًا محتاجًا تتمة .
وينبغي أن يعلم أن الأعمال الصالحة أمر الله لها أمر إيجاب واستحباب، والأعمال الفاسدة نهى الله عنها، والعمل إذا اشتمل على مصلحة ومفسدة، فإن الشارع حكيم، فإذا غلبت المصلحة على مفسدته، شرعة، وإن غلبت مفسدتة على مصلحته؛ لم يشرعه، بل نهى عنه كما قال تعالى :
{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أن تَكْرَهُواْ شيئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أن تُحِبُّواْ شيئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } .
وقال تعالى :(1/291)
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } .
ولهذا حرمهما الله بعد ذلك .
وهكذا ما يراه الناس من الأعمال مقربًا إلى الله ولم يشرعه الله ولا رسوله؛ فإنه لابد أن يكون ضرره أكبر من نفعه وإلا فلو كان نفعه أعظم غالبًا على ضرره؛ لم يهمله الشارع، فإنه صلى الله عليه وسلم حكيم لا يهمل مصالح الدين ولا يفوت المؤمنين ما يقربهم إلى رب العالمين .
إذا تبين هذا؛ فنقول للسائل : أن الشيخ المذكور قصد أن يتوب المجتمعين عن الكبائر، فلم يمكنه إلا بما ذكر من الطريق البدعي، وهذا يدل على أن الشيخ جاهل بالطرق الشرعية التي بها يتوب العصاة، أو عاجز عنها فإن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين كانوا يدعون من هم شر من هؤلاء من أهل الكفر والفسوق والعصيان بالطرق الشرعية التي أغناهم الله بها عن الطرق البدعية، فلا يجوز أن يقال : أنه ليس في الطرق الشرعية التي بعث الله بها نبيه ما يتوب به العصاة، فإنه قد علم بالضرورة والنقل المتواتر أنه قد تاب من الكفر والفسوق والعصيان من لا يحصية إلا الله تعالى من الأمم بالطرق الشرعية التي ليس فيها ما ذكر من الاجتماع، بل السابقون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان – وهم خير أولياء الله المتقين من هذه الأمة – تابوا إلى الله تعالى بالطرق الشرعية لا بهذه الطرق البدعية، وأمصار المسلمين وقرأها قديمًا وحديثًا مملوءة ممن تاب إلى الله واتقاه، وفعل ما يحبه الله ويرضاه، بالطرق الشرعية لا بهذه الطرق البدعية .(1/292)
فلا يمكن أن يقال : أن العصاة لا يمكن توبتهم إلا بهذه الطرق البدعية، بل قد يقال : إن من الشيوخ من يكون جاهلًا بالطرق الشرعية، عاجزًا عنها، ليس عنده علم بالكتاب والسنة وما يخاطب به الناس ويسمعهم إياه مما يتوب الله عليهم فيعدل هذا الشيخ عن الطرق الشرعية إلى الطرق البدعية، وأما مع حسن القصد إن كان له دين، وإما أن يكون غرضه الترؤس عليهم وأخذ أموالهم بالباطل : كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا أن كثيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } .
فلا يعدل عن الطرق الشرعية إلى البدعة؛ إلا لجهل أو عجز أو غرض فاسد، وإلا فمن المعلوم أن سماع القرآن هو سماع النبيين والعارفين والمؤمنين .
قال تعالى في النبيين : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدم وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إبراهيم وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إذا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } .
وقال تعالى في أهل المعرفة : { وإذا سَمِعُواْ مَا أنزل إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ }
وقال تعالى في حق أهل العلم : { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إذا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } .
وقال في المؤمنين :(1/293)
{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وإذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } . . . " .
إلى أن قال رحمه الله : " إذا عرف هذا؛ فحقيقة السؤال : هل للشيخ أن يجعل هذه الأمور التي هي إما محرمة أو مكروهة أو مباحة قربة وعبادة وطاعة وطريقة إلى الله، يدعو بها إلى الله ويتوب العاصين، ويرشد به الغاوين، ويهدي به الضالين ؟
ومن المعلوم أن الدين له أصلان، فلا دين إلا ما شرعه الله، ولا حرام إلا ما حرمه الله، والله تعالى عاب على المشركين أنهم حرموا ما لم يحرم الله، وشرعوا دينًا لم يأذن به الله .
ولو سئل العالم عمن يعدو بين جبلين هل يباح له ذلك ؟ قال نعم ؟ فإذا قيل : إنه على وجه العبادة كما يسعى بين الصفا والمروة؛ قال : أن فعله على هذا الوجه حرام منكر؛ يستتاب فاعله؛ فإن تاب، وإلا قتل " ؟
وذكر رحمه الله أمثله من هذا النوع . . . ثم قال :
" والبدعة أحب إلى إبليس من المعصية لأن العاصي يعلم أنه عاص فيتوب والمبتدع يحسب أن الذي يفعله طاعة فلا يتوب، ولهذا من حضر السماع للهو واللعب لا يعده من صالح عمله فلا يرجوا به الثواب، وأما من فعله على أنه طريق إلى الله تعالى؛ فإنه يتخذه دينًا، وإذا نهي عنه كان كمن نهي عن دينه ورأى أنه قد انقطع عن الله، وحرم نصيبه من الله إذا تركه، فهؤلاء ضلال باتفاق علماء المسلمين، ولا يقول أحد من أئمة المسلمين أن اتخاذها دينًا وطريقًا إلى الله تعالى أمر مباح، بل من جعل هذا دينًا وطريقًا إلى الله تعالى؛ فهو ضال مفتر مخالف لإجماع المسلمين " انتهى المقصود من كلام الشيخ رحمه الله .
وقال الشاطبي رحمه الله في كتاب ( الاعتصام ) ( 1/270 – 273 ) في رده على بعض المبتدعة ما ملخصه :(1/294)
" وأما ما ذكره من الإنشادات الشعرية؛ فجائز للإنسان أن ينشد الشعر الذي لا رفث فيه، ولا يذكر بمعصية، وأن يسمعه من غيره إذا أنشد على الحدّ الذي كان ينشد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم أو عمل به الصحابة والتابعون ومن يقتدى به من العلماء، وذلك أنه كان ينشد ويسمع لفوائد؛ منها : المنافحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الإسلام وأهله، ولذلك كان حسان بن ثابت رضي الله عنه قد نصب له منبر في المسجد ينشد عليه إذا وفدت الوفود، حتى يقولوا : خطيبه أخطب من خطيبنا، وشاعره أشعر من شاعرنا، ويقول صلى الله عليه وسلم : (اهجهم، وجبريل معك )
وهذا من باب الجهاد في سبيل الله .
ومنها أنهم كانوا يتعرضون لحاجاتهم، ويستشفعون بتقديم الأبيات بين يدي طلباتهم كما فعل ابن زهير رضي الله عنه، وأخت النضر بن الحارث، مثل ما يفعل الشعراء مع الكبراء، هذا ما لا حرج فيه ما لم يكن في الشعر ذكر ما لا يجوز . . . " .
إلى أن قال : " ومنها أنهم ربما أنشدوا الشعر في الأسفار الجهادية تنشيطًا لكلال النفوس، وتنبيها للرواحل أن تنهض في أثقالها، وهذا حسن .
لكن العرب لم يكن لها من تحسين النغمات ما يجري مجرى ما الناس عليه اليوم، بل كانوا ينشدون الشعر مطلقًا من غير أن يتعلموا هذه الترجيعات التي حدثت بعدهم، بل كانوا يرققون الصوت ويمطونه على وجه يليق بأمية العرب الذين لم يعرفوا الموسيقى، فلم يكن فيه إلذاذ ولا طرب يلهي، وإنما كان لهم شيء من النشاط، كما كان الحبشة وعبد الله بن رواحة يحدوان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومنها أن يتمثل الرجل بالبيت أو الأبيات من الحكمة من نفسه ليعظ نفسه أو ينشطها أو يحركها لمقتضى معنى الشعر " .
ثم ذكر الشاطبي عن القرافي أنه قال :(1/295)
" في الماضيين من الصدر الأول حجة على من بعدهم، ولم يكونوا يلحنون الأشطار ولا ينغمونها بأحسن ما يكون من النغم إلا من وجه إرسال الشعر واتصال القوافي فإن كان صوت أحدهم أشجن من صاحبه كان ذلك مردودًا إلى أصل الخلقة لا يتصنعون ولا يتكلفون " انتهى .
وقد تبين لنا من كلام هذين الإمامين الجليلين أن من اتخذ هذه الأناشيد وسيله من وسائل التعبد والدعوة إلى الله وقال : إنه لا يمكنه جمع الشباب واستقطابهم إلا بهذه الأناشيد، فهو ضال مبتدع، كما ذكره الشيخ تقي الدين في أمثاله ممن زعم أنه يستجلب توبة العصاة بما يقيم لهم من السماع الذي هو النشيد وقد أنكر الشيخ فعله هذا وعده من البدع المنكرة لأن طريق الدعوة هو ما شرعه الله ورسوله، لا ما نهى الله عنه ورسوله، والله ورسوله لم يشرعا الغناء والأناشيد طريقًا للدعوة .
فالواجب على من يفعل ذلك أن يتوب إلى الله، ويرجع إلى الصواب والحق، فإن الرجوع للحق فضيلة، ولا يغتر بمن يفعل ذلك، فإنهم إما جهال أو أصحاب أهداف مغرضة وشعارات مضللة .
7 – وقولكم يا شيخ أحمد : " إن تسمية الأناشيد بالإسلامية لا تعني الابتداع والمشروعية، لا غضاضة في إطلاقها على المباح، لأن المباح من الشرع . . . . " .
- نقول " أولًا : لا نسلم أن أناشيدكم من المباح .
وثانيًا : هذا فيه إجمال وخلط، لأنه إذا كان القصد اتخاذ الأناشيد أسلوبًا من أساليب الدعوة وتتويب العصاة، فهذا بدعة وضلال، كما بينه شيخ الإسلام فيما نقلنا عنه وحينئذ لا يجوز أن يقال عن هذه الأناشيد : أنها إسلامية بل يقال أناشيد بدعية .
وإن كان القصد من اتخاذ الأناشيد الترويح عن النفوس، فهذا إنما يباح منه ما وافق المرخص فيه الغناء، كما سبق، وحينئذ لا يسمى إسلاميًا أيضًا لأن المباح لا يقال له إسلامي، وإنما يقال : مباح فقط، فلا يقال الطعام والشراب الإسلامي ولا السيارة الإسلامية واللحم الإسلامي ولا غير ذلك من سائر المباحات .(1/296)
وابن قدامة المقدسي الذي نقلت عنه قوله " أن المباح من الشرع " لم يسم المباح إسلاميًا حتى يتم لك الاستشهاد بقوله ومعنى قوله " وهو من الشرع " يوضحه في أول كلامه في حد المباح بأن ما أذن الله في فعله وتركه غير مقترن بذم فاعله ولا مدحه، إذ ليس معنى كونه من الشرع أن الشرع أمر به أمر إيجاب أو استحباب وإنما معناه أن الشارع أذن فيه والمأذون به من غير أمر بفعله لا يسمى إسلاميًا وإنما يسمى بذلك المأمور به أمر إيجاب أو استحباب .
ثم إنهم يعنون بهذه العبارة قسمًا من المباح يرى المعتزلة أن إباحته ثبتت بالفعل فأرادوا الرد عليهم بذلك، ولا يعنون أن المباح مشروع شرعية إيجاب أو استحباب، أو إنه إسلامي .
وقولك : فيصح التسمية بالأناشيد المباحة أو الشرعية أو الإسلامية " .
هذا الكلام فيه تسوية بين أمور مختلفة، وهو أخطر مما قبله لأنك أجزت أن يقول : الأناشيد الشرعية، والشرعية تعني : الواجب والمستحب فعلى هذا تكون الأناشيد واجبة ومستحبة، وهذا شرع دين جديد من جنس دين الصوفية الذين يتقربون إلى الله بالأناشيد أو من جنس عمل الذي يجعل الأناشيد من طرق الدعوة إلى الله وقد رد عليه شيخ الإسلام فيما نقلنا عنه ولا يكون مشروعًا إلا ما أمر الله به رسوله فما هذه المغالطة المكشوفة يا شيخ أحمد هداك الله ؟ .
ثم إنك تناقضت مع نفسك فقد قلت فيما سبق : " إن التسمية الإسلامية بالإسلامية لا تعني الشرعية " ثم تقول " تجوز تسميتها شرعيه " .
8– قولكم : " إن النساء يباح لهن استخدام الدف مع الأناشيد "
– هل ترون يا فضيلة الشيخ أحمد أن النساء يباح لهن ذلك مطلقًا كما هو ظاهر عبارتكم إن رأيتم ذلك فقد أخطأتم خطأ كبيرًا لأن النساء لا يجوز لهن ذلك إلا في مناسبات محدودة بينها الشارع كإعلان النكاح وبشرط خلوهن من الرجال مع عدم رفع أصواتهن بحيث يسمعن الرجال نص على ذلك الفقهاء وأظنك غير بعيد عن العهد بالفقه، ولا يخفى عليك ذلك إن شاء الله .(1/297)
قال في ( الزاد ) وشرحه ( 3/124 ) بحاشيه النقري :
" ( ويُسن الدف ) أي : الضرب به إذا كان لا حلق به ولا صنوج فيه، أي في النكاح للنساء وكذا ختان قدوم غائب وولادة، وإملاك . . . "
هذا وأسال الله أن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه ويرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه، فإن هذا هو المهم .
كما أسأله أن يرزقنا جميعًا العلم النافع والعمل الصالح . . .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله صحبه .
تكملة :
قد اطلعت على مقال للأستاذ محمد العيسى في كتابه " حوار مع الأفكار " ، يدافع فيها عما يسمى بالأناشيد الإسلامية، وهذه المقالة لا تزيد عما قاله الأستاذ أحمد الحليبي؛ إلا أنها تمتاز عنه بالغموض وركاكة الأسلوب والإغراب في الاستدلال، حيث استدل على إباحة هذه الأناشيد بأنها نوع من الشعر، والنبي صلى الله عليه وسلم ردد الشعر وأعجب به، وإن من الأناشيد ما يفقه في الدين، ومثّل لذلك ب- " المنظومة الرحبية في الفرائض " ، و " نونية ابن القيم " ، و " الألفية في النحو " .
والجواب عن ذلك :
أولًا : كون الأناشيد نوعًا من الشعر لا يكفي في إباحتها؛ إلا إن كان يكفي الاستدلال لحل الخمر بكون أصلها من التمر أو الزبيب .
وثانيًا : لا أعلم أحدًا صار فقيهًا بسبب الأناشيد، بل الأقرب أنه يصير مطربًا . ولا أعلم أحدًا من الأمة سمّى الرحبية أو النونية أو الألفية أناشيد إسلامية، فلم يقولوا الأنشودة الرحبية أو الأنشودة النونية، وإنما يقولون " المنظومة الرحبية " ، و " القصيدة النونية " ، ولم يكونوا ينشدونها إنشادًا جماعيًا بقصد التطريب، بل كانوا يحفظونها ويقرؤونها في حلقات التدريس . ثمّ إن الأستاذ عليًا في ختام مقاله الطويل طول الليل الدامس قال :
" لا يطالب مؤيد وجودها - أي : الأناشيد - بأدلة شرعية " .
وكأنه قال ذلك حينما أحس بعجزه عن إقامة الدليل، وكفى بهذا اعترافًا منه بعدم جوازها . والله أعلم .
حكم حلق اللحية(1/298)
الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه . . . . .
وبعد :
فقد اطلعت على مقال نشر في " مجلة المجتمع الكويتية " ( العدد51 – تاريخ 18 محرم 1391 هـ ) في موضوع حلق اللحية , قد حاول فيه كاتبه التقليل من شأن حلق اللحية , والتماس المسوغات لذلك بشبه أوردها يظنها تدل لما ذهب إليه .
فأردت بمقالي هذا الإجابة عن هذا الشبه؛ لئلا يغتر بها بعض من يطلع عليها . والحق ضالة المؤمن , والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
فأقول :
1 – استنكر الكاتب على من قال من أهل العلم بأن حلق اللحية حرام .
- ونحن نقول للكاتب : إن القول بتحريم حلق اللحية ليس قولًا لأفراد , بل قد حكى ابن حزم الإجماع على أن قص الشارب وإعفاء اللحية فرض , واستدل بحديث ابن عمر : ( خالفوا المشركين؛ أحفوا الشوارب، وأعفوا اللحى ) .
وغيره من الأحاديث
أنظر ( ص 157 ) من " مراتب الإجماع "
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " يحرم حلق اللحية "
انظر : " الاختيارات " ( ص10 ) .
وقال القرطبي : " لايجوز حلقها ولا قصها ولا نتفها " .
وقال ابن مفلح في " الفروع " ( 1/61 ) لما ذكر بعض الأحاديث الواردة في ذلك؛ قال : " وهذه الصيغة عند أصحابنا تقتضي التحريم " .
والكاتب نفسه قد اعترف أن كثيرًا من الفقهاء قد أطلق الحرمة على حلق اللحية في أثناء مقاله .
2 – ثم إن الكاتب قد افتتح مقاله وختمه بقوله :
" إن المسلمين مهددون من عدوهم , فلا ينبغي لهم الانشغال بالفروع عن دفاع عدوهم " .
ومثل لذلك بالذي يسأل عن زجاج قد انكسر وبيته مهدد بالنسف بالبارود . . . .
إلي آخر ما قال .(1/299)
- والجواب أن نقول له : إن دفاع العدو لا يتم إلا بعد إصلاح الحصون , أما إذا تركت الحصون مهدمة؛ تمكن العدو من الهجوم على المساكن وغيرها , فيجب تطهير المجاهدين أنفسهم من المعاصي والمخالفات , والتزامهم لطاعة الله ورسوله , حتي يتم لهم النصر على عدوهم؛ قال تعالى : { وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أن اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } . أما إذا قابلوا عدوهم متلبسون بالمعاصي , ومتساهلون بمخالفة الأوامر؛ كان ذلك سلاحًا لعدوهم عليهم .
3 – ثم قال الكاتب : " فالحرام ما نهى عنه الشارع بنص قطعي الورود , قطعي الدلالة , يُفهم منه أن الشرع يراه قبيحًا لذاته . . . "
- والجواب عن ذلك أنه يلزم على هذا القول أن لا يبقى محرمًا – لا حلق اللحية ولا غيره -؛ لأنه يلزم عليه بطلان مدلول الظاهر ومدلول الأحاد ومدلول العموم؛ لأنها لا تصلح للاستدلال؛ لأنها ليست قطعية , وأيضًا الوسائل المفضية إلى محرم لا تكون محرمة؛ لأن الشرع لا يراها قبيحة لذاتها , كل هذه الأشياء في نظر الكاتب لا تفيد التحريم إذا أخذنا بلازم قوله .
4 - ثم قال الكاتب : " والذي ورد في اللحية هو الأمر بإعفائها؛ مخالفة للمجوس , وأنا أرى أن ذلك لا يفيد حرمة الحلق " .
ثم علل لذلك بثلاثة أمور :
أحدها : إن الأمر بالشيء على المختار عند الحنفية لا يستلزم حرمة ضد المأمور به .
الثاني : أن الأمر بالشيء إذا اقترن بعلة معقولة المعنى؛ أي : أن الشارع لم يطلبه لذاته , بل لأمر آخر مقترن به عند صدور الأمر إذا انفك هذا المقصد عنه؛ لم يفد الأمر الوجوب , والأمر بالإحفاء والإعفاء المقصود منه مخالفة المجوس كما قال ابن حجر في " فتح الباري " .(1/300)
الثالث : أن مخالفة المسلمين غيرهم مطلوبة فيما هو من شعائر دينهم , لا مطلقًا , والرسول صلى الله عليه وسلم كان يلبس الألبسة التي يلبسها الكفار , وترد من بلادهم , وليس من شعائر دينهم . راجع : " زاد المعاد " . وفي " سبل السلام " ( 2/ 156 ) أن التعليل بكون الوصال من فعل النصارى لا يقتضي التحريم . . . . . .
- والجواب عن ذلك من وجوه :
أ – قوله : " إن الأمر بالشيء لا يقتضي حرمة ضد المأمور به على المختار عند الحنفية " :
جوابه أن نقول :
أولًا : الأمر بالشيء يقتضي وجوب المأمور به فالأمر بإعفاء اللحى يقتضي وجوب إعفائها , وهذا هو المطلوب .
ثانيًا : كون الأمر يقتضي حرمة ضد المأمور به أو لا يقتضي , هذا ينبني على الخلاف بين الأصوليين : هل الأمر بالشيء نهي عن ضده أو لا ؟ وفي المسألة ثلاثة أقوال : أصحها أن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به؛ فهو واجب؛ لأن المأمور به لا يمكن وجوده مع التلبس بضده؛ لاستحالة اجتماع الضدين .
ب – وأما قوله : أن الأمر إذا اقترن بعلة معقولة المعنى . . . . . . إلخ " .
فالجواب عنه أن نقول :
أولًا : لا نسلم أن الأمر بالإحفاء والإعفاء المقصود منه مخالفة المجوس فقط , بل المقصود مخالفة المجوس وكون ذلك من خصال الفطرة التي فطر الله عليه رسوله وسائر الأنبياء , ففي صحيح مسلم عن عائشة :
" عشر من الفطرة : قص الشارب , وإعفاء اللحية . . . . " الحديث . قال النووي في " شرح صحيح مسلم " ( 1/147 – 148 ) :
" وأما الفطرة؛ فقد اختلف في المراد بها هنا , فقال أبو سليمان الخطابي : ذهب أكثر العلماء إلى أنها السنة , وكذلك ذكره جماعة غير الخطابي؛ قالوا : ومعناه أنها من سنن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم , وقيل : هي من الدين " ا . هـ .(1/301)
ثانيًا : لو سلمنا جدلًا أن المقصود من المراد بها مخالفة المجوس فقط؛ فهذا المقصد باقٍ , لم ينفك عن الأمر؛ لأن مخالفة المجوس مطلوبة دائمًا , فيلزمه وجوب إعفاء اللحى وإحفاء الشوارب , وهذا هو المطلوب .
ج – قوله : " والأوامر بالإحفاء والإعفاء المقصود منه مخالفة المجوس؛ كما قال ابن حجر في " فتح الباري " . . . . . " .
نقول : عبارة ابن حجر في " فتح الباري " ( 10/349 ) هذا نصها : " قوله : ( خالفوا المشركين ) ؛ في حديث أبي هريرة عند مسلم : ( خالفوا المجوس ) , وهو المراد من حديث ابن عمر؛ فإنهم كانوا يقصون لحاهم , ومنهم من كان يحلقها " ا . هـ . فتبين أن ابن حجر يقصد تفسير لفظة المشركين الواردة في حديث ابن عمر أن المراد بهم المجوس؛ كما في حديث أبي هريرة، ولم يرد بيان العلة وحصرها في المخالفة .
د – قوله : " ومخالفة المسلمين غيرهم مطلوبة فيما هو من شعائر دينهم لا مطلقًا . . . . إلخ "
جوابه : أن الأمر بمخالفة المشركين والنهي عن التشبه بهم كل منهما عام فيما هو من شعائر دينهم وغيره مما انفردوا به من عاداتهم , ومن ادعى التخصيص؛ فعليه الدليل .
راجع : " اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم " لشيخ الإسلام ابن تيمية ( ص 177 - 180 ) .
وقد راجعت " زاد المعاد " لابن القيم حيث أحال الكاتب عليه , فلم أجد فيه مستندًا له فيما ذكره . انظر ( 1/34 – 37 ) في ذكر ملابسه - صلى الله عليه وسلم - : فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى ابن عمر عن لباس الكفار .
هـ - وأما ما أشار إليه في " سبل السلام " من أن كون الوصال من فعل النصارى لا يقتضى التحريم؛ فقد ذكره صاحب " السبيل " من ضمن أجوبة الذين لا يرون تحريم الوصال؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - واصل , وهو جواب فيه نظر , وخاص في هذه المسألة؛ لتعارض الأدلة فيها , وليس هذا مما نحن فيه .(1/302)
5 – ثم إن الكاتب جعل مدلول حديث : ( اعفوا اللحى وخالفوا المجوس ) مثل مدلول حديث : ( صلوا بالنعال وخالفوا اليهود ) ؛ لأن الحديثين متماثلان في الصحة والورود والتعليل , وحديث الصلاة بالنعال لم يفهم أحد منه الوجوب , وحديث : ( اعفوا اللحى ) مثله , وأيضًا حديث : ( إن اليهود والنصارى لا يصبغون؛ فخالفوهم ) وقد فهم منه الصحابة الندب . ومقصود الكاتب من هذا كله أن يحمل مدلول حديث ( اعفوا اللحى ) على الندب كهذين الحديثين :
- ونجيب عن ذلك بجوابين :
الأول : أنا قد بينا أن المقصود بالإعفاء كونه من خصال الفطرة ومخالفة الكفار .
والجواب الثاني : أن نقول : حديث الأمر بإعفاء اللحى لم يصرفه صارف عن الوجوب إلى الندب؛ بخلاف الحديثين المذكورين معه .
وإليك ما قال الشوكاني في " نيل الأوطار " ( 2/135 ) على حديث الصلاة بالنعال بعد أن ذكر الأحاديث التي بينها وبينه شبه تعارض؛ قال " ويجمع بين أحاديث الباب بجعل حديث أبي هريرة وما بعده صارفًا للأوامر المذكورة المعللة بالمخالفة لأهل الكتاب من الوجوب إلى الندب؛ لأن التخيير والتفويض إلى المشيئة بعد تلك الأوامر لا ينافي الاستحباب " اهـ . وقال أيضًا على حديث : ( إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم) بعد ذكر ما يعرضه ( 1/132 ) في " نيل الأوطار " :
" قال الطبري : الصواب أن الأحاديث الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بتغيير الشيب وبالنهي عنه كلها صحيحة , وليس فيها تناقض , بل الأمر بالتغيير لمن شيبه كشيب أبي قحافة , والنهي لمن له شمط فقط " .
قال : " واختلاف السلف في فعل الأمرين بحسب اختلاف أحوالهم مع أن الأمر والنهي في ذلك ليس للوجوب بالإجماع , ولذا لم ينكر بعضهم على بعض " اهـ . وانظر : " فتح الباري " ( 10/355 ) .
ثم قال الكاتب " وقد يرد على هذا الاحتجاج بأنه يرد أن أحدًا من الصحابة حلق لحيته ليفهم منه الندب " .(1/303)
قال : " والجواب : أن إعفاء اللحى عادة العرب كلهم قبل الإسلام وبعده , فيحتمل أنهم أعفوها لهذا لا للوجوب , ومعلوم أن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال؛ بطل به الاستدلال " .
والجواب أن نقول : ما تخوفته لازم لك؛ فإن كون الصحابة - رضي الله عنهم - أعفوا لحاهم؛ لأنهم فهموا الوجوب من أمر نبيهم - صلى الله عليه وسلم - وهذا مما يدل على حمل الحديث على الوجوب وعدم وجود الصارف له عن ذلك .
والجواب الذي ذكرته يلزم منه أن الصحابة ما أعفوا لحاهم امتثالًا لأمر الرسول وإنما أعفوها اقتداءً بعادة العرب , وهذا اتهام ينزه عنه الصحابة - رضي الله عنهم - وأرضاهم , وهو تشكيك وليس احتمالًا , فلا يسقط به الاستدلال .
6 – ثم قال الكاتب : " وإذا ذكرت أفعال متعددة , وأعطيت حكمًا واحدًا؛ سرى هذا الحكم على جميعها , وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم : ( عشر من الفطرة : قص الشارب , وإعفاء اللحية واستنشاق الماء , وقص الأظافر . . . . ) إلى آخر الحديث . وقال ابن دقيق العيد في " العدة شرح العمدة " ( 1/357 ) : الفطرة لفظ واحد استعملت في الكل , فلو أفادت مرة الوجوب ومرة الندب؛ لاستعمل اللفظ الواحد في معنيين . وقال محشيه الأمير الصنعاني ( 1/353 ) : كلها سواء في الحكم , والقول بأن بعضها غير واجب تحكم " .
يريد الكاتب من هذا أن إعفاء اللحية ليس بواجب .
- والجواب عن ذلك من وجوه :
الأول : أنه لم يذكر كلام ابن دقيق العيد بلفظه , وإنما نقله بمعناه بعبارة من عنده وهذا فيه خيانة في النقل , وغلط في اسم الشرح , فسماه باسم الحاشية , واسم الشرح " إحام الأحكام " وأما كلام الأمير الصنعاني صاحب الحاشية؛ فقد تصرف فيه وزاد ونقص , والواقع أن الصنعاني يتكلم في تقدير أحد أدلة القائلين بأن الختان سنة , وهذا نص كلامه , قال :(1/304)
" والثاني : أن قرائنه التي ضم إليها وشاركه في الحكم غير واجبة , فيكون غير واجب , وإلا لكان الحكم بأن بعضها واجب وبعضها غير واجب تحكمًا , وهذا ينهض على من يقول : إنها غير واجبة " اهـ .
فقارن أيها القارئ بين عبارة الصنعاني والعبارة التي ذكرها الكاتب ونسبها للصنعاني؛ لترى :
أولًا : أن الكاتب جعل هذا رأيًا للصنعاني وهو رأي لغيره حكاه عنه .
وثانيًا : أن الكاتب زاد لفظه : " وكلها سواء في الحكم " من عنده , وأضافها للصنعاني !
وثالثًا : أن الكاتب بتر آخر العبارة , وهو يقول الصنعاني : " وهذا ينهض على من يقول : إنها غير واجبة " ؛ يعني : قرائن الختان؛ لأنه لا يناسبه .
وليس هذا لائقًا بأهل العلم والأمانة .
الوجه الثاني : أن نقول : إن الأشياء المذكورة مع إعفاء اللحية في الحديث لم يُتفق على أنها سنن , ففي بعضها خلاف قوي؛ كالمضمضة والختان والاستنشاق .
قال النووي في " شرح صحيح مسلم " ( 3/148 ) :
" ولا يمتنع قرن الواجب بغيره؛ كما قال تعالى : { كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ } [ الأنعام : 141 ] , والإيتاء واجب , والأكل ليس بواجب .
الوجه الثالث : أن وجوب إعفاء اللحية مستفاد من غير هذا الحديث؛ من أحاديث الأمر بالإعفاء وما بمعناه .
قال الشوكاني في " نيل الأوطار " ( 1/131 ) : " قد حصل من مجموع الأحاديث خمس روايات : اعفوا , وأوفوا , وأرخوا , وأرجوا , ووفروا؛ ومعناها كلها تركها على حالها " .
7 – ثم قال الكاتب :
" وقد ثبت أن رسول الله - صلى الله على وسلم - كان يأخذ من لحيته من طولها ومن عرضها " .
يشير إلى حديث ورد بذلك .
- والجواب : أن الحديث في ذلك لم يثبت كما زعم , وقد كفانا الشيخ حمود التويجري – وفقه الله – ببيان درجة هذا الحديث في رده على مفتي " مجلة العربي " ؛ قال في ( ص 11 ) من الرد المذكور :(1/305)
" والحديث المروي في ذلك ضعيف جدًا , وألحقه بعض العلماء بالموضوعات , وهو ما رواه الترمذي من طريق عمر بن هارون البلخي عن أسامة بن زيد الليثي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها .
قال الترمذي : هذا حديث غريب .
قلت (1) : وكذبه أيضًا صالح بن محمد الحافظ المعروف بجزرة , وقال ابن حبان : يروي عن الثقات المعضلات . ثم أورد له هذا الخبر , وقال ابن الجوزي حديث لا يثبت , والمتهم به عمر بن هارون . قال العقيلي : لا يعرف إلا به . وذكر الترمذي عن البخاري أنه قال : لا أعرف لعمر بن هارون حديثًا ليس له أصل – أو قال : يتفرد به – إلا هذا الحديث , ولا نعرفه إلا هذا الحديث , ولا نعرفه إلا من حديث عمرو بن هارون .
وأما أسامة بن زيد الليثي؛ فقد ضعفه القطان , وقال أحمد : ليس بشيء . وقال النسائي : ليس بالقوي " اهـ .
وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " ( 1/131 ) بعد ذكر كلام الحفاظ في عمر بن هارون هذا : " فعلى هذا لا تقوم بالحديث حجة " .
فانظر أيها القارئ ما قاله الحفاظ في درجة هذا الحديث الذي عده الكاتب ثابتًا , وكان في أول كتابته لا يجيز الاستدلال إلا بقطعي الورود قطعي الدلالة . . . . . إلخ لتري التناقض العجيب .
8 – ثم قال الكاتب :
" والذي أقوله : إن حلق اللحية ليس حرامًا حرمة صريحة , فضلًا عن أن يكون كبيرة من الكبائر , وليس مباحًا جائزًا , ولكنه مكروه " .
ومثل هذا ما ذكر في مطلع كتابه .
- والجواب عن ذلك أن الأحاديث الصحيحة تدل على حرمة حلق اللحية , ولم يقدم الكاتب دليلًا على رأيه , فلا يلتفت إليه وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وغيره :
" يحرم حلق اللحية " .
انظر " الاختيارات " ( ص 26 )(1/306)
9 – ثم ختم الكاتب بقوله : أنه ذهب إلى أوروبا للتداوي , ورأى أن إعفاء اللحية صار شعار الطائفة الهيبيين الفاسدين , وأنها حلية المنحرفين .
فكأنه بقوله هذا يري أن إعفاء اللحية صار مهزلة وشعار فساد وموضة انحراف , فلم يثبت على رأيه أن حلق اللحية مكروه " , فما هذا التناقض ؟ !
- وهذا مصداق ما جاء في الخبر من عود المعروف منكرًا , والمنكر معروفًا , والسنة بدعة , والبدعة سنة فلا حول ولا قوة إلا بالله .
اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه , وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه .
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا , وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان , واجعلنا من الراشدين .
وقد سبق إلى هذه الشبهة مفتي " مجلة العربي " حيث قال : " ونحن لو تمشينا مع التحريم لمجرد المشابهة؛ لوجب علينا الآن تحريم إعفاء اللحى؛ لأنه شأن الرهبان ورجال الكهنوت في سائر الأمم التي تخالفنا في الدين " .
فكان من رد الشيخ حمود التويجري عليه باختصار :
1 – أن إعفاء اللحية من خصال الفطرة التي كان عليها الأنبياء المرسلون وأتباعهم , فموافقة الرهبان ورجال الكهنوت في إعفاء اللحى لا تضر المسلمين شيئًا , وليس ذلك من المشابهة المذمومة؛ لأن المسلمين لم يقصدوا مشابهة الرهبان وتقليدهم في إعفاء اللحى , وإنما أعفوها امتثالًا لأوامر الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
2 – أن يقال : الرهبان ورجال الكهنوت هم المتشبهون بالمسلمين في إعفاء اللحى؛ إما قصدًا , وإما اتفاقًا , ومن تشبه بالمسلمين؛ فهو أحسن حالًا ممن خالفهم .
3 – مرجع الأحكام إلى الكتاب والسنة , لا إلى الرأي والنظر فما وافق الكتاب؛ والسنة فهو حق , وما خالفهما؛ فهو باطل مردود .
هذا , ونسأل الله - سبحانه وتعالى - أن ينصر دينه ويعلي كلمته , وأن يثبتنا على الإسلام . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
وجهة نظر حول التقارض بين الجماعة من الموظفين(1/307)
الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه .
فقد جرت عادة بعض الموظفين أن يدفع كل واحد منهم مبلغًا محددًا من المال , ثم مجموع المبالغ يأخذه واحد منهم بالدور على شكل قرض , وبعضهم يشترط أن من مات بعد أخذ هذه المبالغ؛ فإنها تسقط عنه , ولا يطالب ورثته بشيء منها .
وهذه المعاملة يجتمع فيها عدة محاذير , كل واحد منها يقتضي تحريمها , وهي :
1 – أن كل واحد يدفع ما يدفع بصفة قرض مشروط فيه قرض من الطرف الآخر فهو قرض جر نفعًا .
2 – أنه شرط عقد , فهو بيعتان في بيعة المنهي عنه في الحديث .
3 – أن في ذلك مخاطرة , بحيث لو مات المدين لزملائه , أو نقل من العمل في الجهة التي تعامل مع زملائه فيها تلك المعاملة إلى العمل في جهة أخرى , أو فُصل من الوظيفة , أو تقاعد؛ لضاع على زملائه حقهم الذي لديه , أو صعبت مطالبته به . وننقل بعض أقوال العلماء حكم نظير هذه المعاملة :
1 – قال في " المغني " ( 4/355 )
" وإن شرط في القرض أن يؤجره داره أو يبيعه شيئًا أو أن يقرضه المقترض مرة أخرى؛ لم يجز؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع وسلف , لأنه شرط عقد في عقد؛ فلم يجز؛ كما لو باعه داره بشرط أن يبيعه الآخر داره " انتهى .
" ومثله في الشرح الكبير " ( 2 /483 )
2 – سُئل سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله : ما حكم الإقراض على أن يرد ذلك المبلغ خلال مدة معينة؛ ومن ثم يقرضك مثل هذا المبلغ لنفس المدة الأولى ؟ وهل يدخل هذا تحت حديث : ( كل قرض جر نفعًا؛ فهو ربا ) ؟ علمًا بأني لم أرد زيادة .
فأجاب : " هذا قرض لا يجوز؛ لكونه قرضًا قد شُرط فيه نفع , وهذا القرض الآخر , وقد أفتى جماعة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بما يدل على ذلك .(1/308)
أما الحديث المذكور، وهو : ( كل قرض جر نفعًا فهو ربًا ) , فهو ضعيف , ولكن العمدة على فتوى الصحابة في ذلك , وعلى إجماع أهل العلم على منعه , والله أعلم " انتهى من جزء الفتاوى الذي نشرته مؤسس الدعوة الإسلامية الصحفية عام ( 1408 هـ ) .
3 – وقال في " الإقناع وشرحه " ( 3/260 ) : وإن شرط المقترض؛ لم يجز؛ لإفضائه إلى فوات المماثلة , أو شرط أحدهما على الآخر أن يبيع أو يؤجره أو يقرضه؛ أو قرضه؛ لم يجز ذلك؛ لأنه كبيعتين في بيعة المنهي عنه " اهـ المقصود منه .
4 – وقال ابن هبيرة في " الإفصاح " ( 1/361 – 162 )
" واختلفوا فيما إذا اقترض رجل من آخر قرضًا؛ فهل يجوز له أن ينتفع من جانبه بمنفعة لم تجر بها عادة، فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد : لا يجوز , وهو حرام . وقال الشافعي : إذا لم يشترط؛ جاز . واتفقوا على تحريم ذلك مع اشتراطه , وأنه لا يحل ولا يسوغ بوجه ما " اهـ .
5 – وقال المرداوي في " الإنصاف " ( 5/131 ) :
" أما شرط ما يجر نفعًا أو أن يقضيه خيرًا منه؛ فلا خلاف في أنه لا يجوز " اهـ .
6 – وقال في متن " الزاد " :
" ويحرم كل شرط جر نفعًا " .
7 – وقال الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - :
" فاشتراط القرض في عقد المساقات يفسدها؛ لدخوله في الحديث : ( كل قرض جر نفعًا فهو ربًا ) , وعلة المنع ظاهرة؛ لأنه لولا هذا القرض ابتداء من صفحة ( 123 ) إلى صفحة ( 160 ) من الجزء بالخامس من " مجموع الفتاوى " , ونقل كلام أهل العلم من مختلف المذاهب , وأقوال شُراح الحدث والمفسرين في هذه المسألة .
8 – قال العلامة ابن القيم في بيان الغرر المنهي عنه؛ قال .(1/309)
" لأن الغرر تردد بين الوجود والعدم , فنهى عن بيعه؛ لأنه من جنس القمار الذي هو الميسر , والله حرم ذلك؛ لما فيه من أكل المال بالباطل وذلك من الظلم الذي - حرمه الله تعالى - وهذا إنما يكون قمارًا إذا كان أحد المتعارضين يجعل له مال الآخرة قد يحصل له وقد لا يحصل , فهذا هو الذي لا يجوز " اهـ . من " زاد المعاد " ( 4/268 ) .
وهذا ينطبق على ما لو تعذر الاستيفاء في مسألتنا من أحد المتقارضين؛ لموت , أو انتقال من الوظيفة؛ كما ذكرنا .
وبناء على ما سبق؛ فإن هذه المعاملة محرمة لا يجوز فعلها .
والله الموفق .
وأما الشبهة التي احتج بها من أجاز هذه المعاملة ووهي أن المنفعة مشتركة بين الأطراف المتقارضين , والمنفعة إنما تحرم إذا كانت مختصة بالمقرض .
- فالجواب عنها من وجوه :
الوجه الأول : أن الحديث والقاعدة المجمع عليها في أن " كل قرض جر نفعًا؛ فهو ربًا " لم يخصصا التحريم بما إذا كان النفع من طرف واحد .
الوجه الثاني : أن الذين خصصوا هذا التخصيص إنما ذكروه في مسألة السفتجة , والسفتجة ليس فيها تقارض من الطرفين , وإنما فيها قرض من طرف واحد , وذلك بأن يُقرضه دراهم , على أن يرد عليه بدلها من بلد آخر؛ ليسلم من خطر الطريق , هذا ينتفع بالدراهم , وهذا ينتفع بالأمن من خطر الطريق , والقرض من طرف واحد .
وقولهم : " إن هذا من باب التسديد وليس من باب التقارض " .
- نقول : هذا إنما يُتصور لو كان هذا العمل ينتهي عندما يتكامل عدد الجماعة , لكنه يبدأ مرة ثانية من جديد , فيكون تقارضًا .
والله أعلم .
حكم الجهاد وقتل المرتد في الإسلام
الحمد لله وحده , والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وآله وصحبه .
وبعد .(1/310)
فقد نشر الدكتور معروف الدواليبي في " مجلة الشرق الأوسط " ( العدد 4051 ) يوم الأحد 3 جمادى الآخرة 1410 هـ ) مقالًا بعنوان : ( الإسلام والتيارات القومية والعلمية ) . وقد اشتمل هذا المقال على مغالطات كثيرة؛ من أعظمها : زعمه أن الجهاد إنما شُرع في الإسلام من أجل الدفاع فقط .
وقوله : إن المسلم إذا ارتد لا يقتل , وأنه ليس هناك حديث في موضوع قتل المرتد إلا حديث : ( من بدل دينه فاقتلوه ) وهو ليس نصًا في ردة المسلم عن دينه , وإنما هو عام في كل رجل بدل دينه؛ كما لو بدل يهودي دينه إلى النصرانية مثلًا .
ثم إنه نسب إلى شيخ الإسلام ابن تيمية أنه فهم من حديث : ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ) , وذكر في الثالثة أنه هو المارق من الدين المفارق للجماعة , وزعم أن ابن تيمية قال فيه : إنه أراد المحارب لا المرتد؛ قال : " وهكذا ينبغي أن نفهم حديث : ( من بدل دينه فاقتلوه ) ؛ بأنه يريد فيه المحارب لا المرتد " .
وحيال هذه المغالطات نقول :
أولًا : الجهاد شرع في الإسلام دفاعًا وطلبًا , يكون دفاعًا فقط في حال ضعف المسلمين , ويكون طلبًا في حال قوة المسلمين؛ لأجل إعلاء كلمة الله , ونشر دينه؛ كما قال تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه } [ الأنفال : 39 ] .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( اغزوا في سبيل الله , وقاتلوا في سبيل الله ) وقد مر الجهاد في الإسلام بأربع مراحل :
المرحلة الأولى : كان فيها محرمًا , وذلك لما كان المسلمون بمكة قبل الهجرة .
الثانية : كان فيها مأذونًا به إذنًا لا أمرًا , وذلك بعد الهجرة مباشرة؛ كما في قوله تعالى : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } [ الحج : 39 ] .
الثالثة : كان فيها مأمورًا به من قاتل المسلمين فقط , وذلك في قوله تعالى :(1/311)
{ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } [ البقرة : 190 ] .
الرابعة : كان مأمورًا به أمرًا مطلقًا في حق الكفار والمشركين , حتى يكون الدين لله وحده؛ كما في قوله تعالى : { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } [ التوبة : 5 ] .
ذكر معنى هذا التفصيل شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في " زاد المعاد " .
ثانيًا : لم يكن الدليل على وجوب قتل المرتد هو حديث : ( من بدل دينه فاقتلوه ) فقط مع أنه كاف في ذلك , بل هناك نصوص كثيرة تدل على وجوب قتل المرتد ذكرها العلماء في كتب الحديث والفقه , فقد ذكر الحافظ ابن حجر في كتاب " بلوغ المرام " وهو أقرب مرجع ثلاثة أحاديث في السنن والصحاح .
وقول الدكتور الدواليبي : " إن حديث : ( من بدل دينه فاقتلوه ) ليس نصًا في ردة المسلم , وإنما هو عام في كل رجل بدل دينه؛ كما لو بدل يهودي دينه إلى النصرانية " .(1/312)
نقول : كونه عامًا لا يمنع الاستدلال به على قتل المرتد المسلم , لأن عموم النص حجة مُسلمة إذا لم يأت ما يخصصها , وغالب الأدلة من الكتاب والسنة كذلك . وما زعمه الدكتور الدواليبي أن قتل المرتد لا يتناسب مع ما أعلنه القرآن الكريم من القول المحكم : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } [ البقرة : 256 ] . زعم في غيره محله , فليس المراد من قتل المرتد إكراهه على الدين , وإنما رد عدوانه على الدين بدخوله فيه مختارًا , ثم رفضه إياه , فقتله من باب حماية العقيدة من العبث , وحماية العقيدة هو أول الضروريات الخمس التي تجب حمايتها وفي قتله أيضًا ردع لغيره أن يفعل مثل فعله؛ كما قال بعض اليهود : { آمنوا بِالَّذِيَ أنزل عَلَى الَّذِينَ آمنوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ آل عمران : 72 ] .
ثالثًا : وما نسبه الدكتور إلى الشيخ ابن تيمية أنه حمل حديث : ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ) وذكر في الثالثة أنه هو التارك لدينه المفارق للجماعة , وأن الشيخ حمل ذلك أن المراد به المحارب .
نقول : ما نسبه إلى الشيخ لم نجده في كتبه التي بين أيدينا، فإن كان الدكتور وجده في كتاب له لم نطلع عليه؛ فهو لا يقتضي أن الشيخ يرى تخصيص الحكم بالمحارب , وأن غيره من المرتدين لا يقتل , وإليك ملخص كلام شيخ الإسلام في حكم المرتد وأنواع الردة من كتاب الاختيارات الفقهية ( ص527 - وما بعدها ) في باب : حكم المرتد , قال : " والمرتد من أشرك بالله تعالى , أو كان مبغضًا للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولما جاء به , أو ترك إنكار منكر بقلبه , أو توهم أن أحدًا من الصحابة أو التابعين أو تابعيهم قاتل مع الكفار , أو أجاز ذلك , أو أنكر مجمعًا عليه إجماعًا قطعيًا , أو جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم . . . " .
إلى أن قال :
" وإذا أسلم المرتد , عصم دمه بعد ردته " انتهى .(1/313)
ومعنى هذا أنه إذا لم يسلم بعد ردته , أنه يقتل .
وفي " مجموع الفتاوى " ( 34/213 ) لما تكلم عن تحريم الحشيش؛ قال : " ومن استحل ذلك؛ فهو كافر يُستتاب , فإن تاب وإلا قتل كافرًا مرتدًا . لا يغسل , ولا يصلى عليه , ولا يدفن بين المسلمين , وحكم المرتد شر من حكم اليهودي والنصراني " .
وقال أيضًا ( 20/102 ) في بيان الحكمة في قتل المرتد :
" فإنه لو لم يقتل؛ لكان الداخل في الدين يخرج منه , فقتله حفظ لأهل الدين وللدين " .
وقال أيضًا ( 34/413 - 414 ) :
" وطائفة كانت مسلمة , فارتدت عن الإسلام , وانقلبت على عقبها من العرب والفرس والروم وغيرهم , وهؤلاء أعظم جرمًا عند الله وعند رسوله والمؤمنين من الكافر الأصلي من وجوه كثيرة؛ فإن هؤلاء يجب قتلهم حتمًا ما لم يرجعوا إلى ما خرجوا عنه , لا يجوز أن يعقد لهم ذمة ولا هدنة ولا أمان , ولا يطلق أسيرهم , ولا يُفادى بمال ولا رجال , ولا تؤكل ذبائحهم , ولا تُنكح نساؤهم , ولا يُسترقون مع بقائهم على الردة بالاتفاق , ويقتل من قاتل منهم ومن لم يقاتل؛ كالشيخ الهرم والأعمى والزمن باتفاق العلماء , وكذا نساؤهم عند الجمهور " انتهى .
هذا رأي الشيخ ابن تيمية في المرتدين , لا كما نسبه إليه الدكتور الدواليبي من أنه يخص القتل بالمرتد المحارب .
ثم إن قول الدكتور : " لم يثبت قط عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه عاقب على الردة بالقتل " .
نقول عنه : هذه الدعوى فيها نظر , ولو قدر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقتل المرتد؛ فإن ذلك يُحمل على أنه كان هناك مانع من قتله؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم - لما طلب قتل بعض المنافقين لأداه؛ قال : ( لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه ) .
ونقول أيضًا : سنة النبي القولية بالأمر بقتل المرتد كافية في وجوب قتله , وفعل الصحابة بقتل المرتدين حجة قاطعة .
والحمد لله على وضوح الحق وبيان الحجة .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه .(1/314)
حكم الذبيحة التي تذبح عن الهدي الأضحية ثم يكتشف فيها مرض بعد ذبحها
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
أما بعد :
فلما كان الهدي والأضحية عبادتين عظيمتين، يجب على المسلم أن يهتم بهما وأن يؤديهما على الوجه المشروع كسائر العبادات؛ فقد استعنت بالله سبحانه، ونقلت ما تيسر من كلام أهل العلم في حكم الذبيحة التي تذبح عن الهدي أو الأضحية ونحوهما، ثم يكتشف بعد ذبحها أن بها مرضًا يوجب إتلافها؛ حذرًا من ضررها، وذلك ليكون المسلم على بينة من أمره عند تأديتة هاتين العبادتين العظيمتين .
قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي - رحمه الله - في كتابه ( إرشاد ذوي البصائر والألباب ) ( ص 89 - 90 ) :
( ولا شك أن النحر لله تعالى من أجل العبادات وأشرفها، ولذلك قرنه الله تعالى بالصلاة في قوله { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } [ الكوثر : 2 ] ، وفي قوله : { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الأنعام : 162 ] .
وهذه عبادة شرعت في كل شريعة؛ لمحبة الله لها، ولكثرة نفعها، ولكونها من شعائر دينية، ولذلك اقترن الهدي والأضاحي بعيد النحر؛ ليحصل الجمع بين الصلاة والنحر، والإخلاص للمعبود، والإحسان إلى الخلق .
وشرع الهدي أن يهدى لخير البقاع في أشرف الأزمان في أجل العبادات، وأكمل من ذلك أن تساق قبل ذلك، ويجعل لها شعار تعرف به؛ من التقليد والإشعار؛ تعظيمًا لحرمات الله وشرائعه وشعائر دينه .
وفيه من الحكمة الاقتداء بالخليل - صلى الله عليه وسلم - حيث فدى ابنه بذبح عظيم، وأمر الله هذه الأمة بالاقتداء به؛ خصوصًا في أحوال البيت الحرام، إذ قد تكفل الله بأرزاقهم برهم وفاجرهم؛ كما تكفل بأرزاق جميع خلقه؛ كما في دعوة الخليل - صلى الله عليه وسلم - .(1/315)
ومن الحكمة فيها أنها شكر لنعمة الله تعالى بالتوفيق لحج بيته الحرام، ولهذا وجبت في المتعة والقرآن، وشملت توسعته فيها للأغنياء والفقراء لمن ذبحها وغيرهم؛ قال تعالى :
{ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُواالْبَائِسَ الْفَقِير } [ الحج : 27 ] .
ثم إن هذه العبادة لم تختص بحجاج البيت الحرام، بل شملت مشروعيتها جميع المسلمين في هذه الأيام، فشرع لهم الأضاحي؛ تحصلًا لفوائد هذه العبادة الفاضلة ) . انتهى .
فالأضحية والهدى عبادتان عظيمتان في مناسبتين كريمتين مما يوجب الاهتمام بهما .
ولا يجزئ في الهدي والأضاحي إلا ما توفرت فيه الشروط الشرعية التي منها السلامة من المرض؛ كما قال * :
( أربع لا تجوز في الضحايا : العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ضلعها، والكبيرة التي لا تنقى ) .
رواة أحمد والأربعة، وصححه الترمذي وابن حبان .
والهدي مثل الأضحية في ذلك .
لكن؛ ما نوع المرض الذي يمنع الإجزاء في الهدي والأضحية ؟
سأنقل ما تيسر لي من عبارات الفقهاء، ولعله من خلالها يتضح المقصود – إن شاء الله – بالمرض البين الذي يمنع الإجزاء :
4- قال الدردير في ( الشرح الكبير ) من كتب المالكية ( 2/107 – بحاشية الدسوقي ) :
( كبين مرض ) ؛ أي : مرض بين، فلا تجزئ، وهو ما لا تتصرف معه تصرف السليمة؛ بخلاف الخفيف ) انتهى .
ومقتضاه أن المرض الذي لا يمنع البهيمة من المشي والأكل ونحوهما لا يمنع الإجزاء .
2 - قال النووي في ( المجموع شرح المهذب ) ( 8/199 و304 ) :
( لا تجزئ التضحية بما فيه عيب ينقص اللحم؛ كالمريضة، فإن كان مرضها يسيرًا؛ لم يمنع الإجزاء، وإن كان بينًا يظهر بسببه الهزال وفساد اللحم؛ لم يجزه، هذا هو المذهب، وبه قطع الجمهور ) .
وقال أيضًا :
( فعيب الأضحية المانع من إجزائها ما نقص اللحم ) انتهى .
ومعناه : أن ما لا ينقص اللحم لا يمنع الإجزاء .
4- وقال الموفق في ( المغني ) ( 8/624 ) :(1/316)
( وأما المريضة التي لا يرجى برؤها؛ فهي التي بها مرض قد يئس من زواله؛ لأن ذلك ينقص لحمها وقيمتها نقصًا كبيرًا . والذي في الحديث : ( المريضة البين مرضها ) ، وهي التي يبين أثره عليها، لأن ذلك ينقص لحمها ويفسده، وهو أصح ) انتهى .
ومعناه أن المرض العارض لا يمنع الإجزاء .
4 - وقال ابن مفلح في ( المبدع ) ( 3/279 ) .
و ( المريضة البين مرضها ) ؛ لأن ذلك يفسد اللحم وينقصه، فدل على أنه إذا لم يكن بينًا؛ أنها تجزئ لأنها قريبة من الصحة ) انتهى .
5 - قال ابن هبيرة في ( الإفصاح ) :
( واتفقوا على أنه لا يجزئ فيها ذبح معيب ينقص عيبه لحمه؛ كالعمياء، والعوراء، والعرجاء البين عرجها، والمريضة التي لا يرجى برؤها ) .
6 - وقال الشوكاني في ( نيل الأوطار ) ( 5/124 – 125 ) :
( قوله : ( أربع لا تجوز . . . إلخ ) فيه دليل على أن متبينة العور والعرج والمرض لا يجوز التضحية بها؛ إلا ما كان ذلك يسيرًا غير بين ) .
ثم نقل عن النووي أنه قال :
( وأجمعوا على أن العيوب الأربعة المذكورة في حديث البراء، وهي : المرض، والعجف، والعور، والعرج البينات؛ لا تجزئ التضحية بها ) انتهى .
7 - وقال الشيخ عبيد الله المباركفوري في ( شرح المشكاة ) ( 2/360 ) :
( و ( المريضة البين مرضها ) : هي التي لا تعتلف؛ قاله القارئ ) .
ثم نقل كلام الموفق السابق، ثم قال بعده :
( والحديث يدل على أن العيب الخفي في الضحايا معفو عنه؛ قاله ابن الملك ) .
8 - وقال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم في ( شرح أصول الأحكام ) ( 2/528 ) :
( والمريضة البين مرضها ) ؛ أي : الذي بأن أثره عليها، وهو المفسد للحمها بقروح وجرب وغيره ) . انتهى .
9 - وفي ( الموسوعة الفقهية الكويتية ) ( 5/84 ) :
( المريضة البين مرضها ) ؛ أي : التي يظهر مرضها لمن يراها ) .
انتهى . لكنه أم ينسب هذا التفسير إلى أحد .(1/317)
ومن خلال ما سبق من النقولات في تفسير المرض الذي يمنع الإجزاء في الأضحية والهدي يتبين :
1- أن الأكثر على أنه المرض الذي يؤثر في اللحم؛ فعليه : إذا ذبحها؛ فوجد فيها عيبًا يؤثر في اللحم بحيث يجب إتلافه حذرًا من ضرره ولا يمكن اكتشافه إلا بعد الذبح؛ فهذه الذبيحة لا تجزئ؛ لفقدان شرط سلامة اللحم، فإذا كان لحمها فاسدًا بسبب المرض؛ لم تجزئ لعدم نفعها .
وأما على رأي من فسر المرض بأنه المرض الظاهر الذي يمنع الحيوان من أن يتصرف تصرف السليم؛ كما قاله صاحب ( الشرح الكبير ) المالكي , أو يمنعها من أكل العلف , كما قاله شارح ( المشكاة ) ؛ فعلى هذين القولين إذا كان المرض خفيًا لا يعلم إلا بعد الذبح؛ فإنه لا يمنع الإجزاء , خصوصًا وأن صاحبه قد اجتهد وأدى العبادة حسب ما يستطيع , ولهذا نظائر؛ كمن اجتهد في تحري القبلة وصلى , ثم تبين له الخطأ . . . وغير ذلك من المسائل .
وقد وجدت كلامًا حول هذا الموضوع لأبي محمد ابن حزم - رحمه الله - أحببت أن أنقله بكامله؛ قال - رحمه الله - في ( المحلى ) ( 8/ 61 - 62 ) :
( مسألة : من وجد في الأضحية عيبًا بعد أن ضحى بها ولم يكن اشترط السلامة؛ فله الرجوع بما بين قيمتها حية صحيحة وبين قيمتها معيبة، وذلك لأنه كان له الرد أو الإمساك، فلما بطل الرد بخروجها بالتضحية إلى الله تعالى؛ لم يجز للبائع أكل مال أخيه بالخديعة والباطل؛ فعلية رد ما استزاد على حقها الذي يساويه؛ لأنه أخذه بغير حق؛ إلا أن يحل له ذلك المبتاع، فله ذلك؛ لأنه حقه تركه لله تعالى، وهذا مقتضى في كتاب البيوع إن شاء الله تعالى . قال الله تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ } [ البقرة : 188 ] ، وقال تعالى : { يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ } [ البقرة : 9 ] ، فالخديعة أكل المال بالباطل ) .
ثم قال :(1/318)
( مسألة : فإن كان اشترط السلامة؛ فهي ميتة، ويضمن مثلها للبائع، ويسترد الثمن، ولا تؤكل؛ لأن السليمة - بيقين لا شك فيه - هي غير المعيبة، فمن اشترى سالمة وأعطي معيبة؛ فإنما أعطي غير ما اشترى وإذا أعطي غير ما اشترى؛ فقد أخذ ما ليس له، ومن أخذ ما ليس له فهو حرام عليه؛ قال تعالى : { لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ } [ النساء : 29 ] ، والتراضي لا يكون إلا بالمعروف بقدر ما يتراضيان به، لا بالجهل به، فمن لم يعرف العيب؛ فلم يرض به، والرضا لا يكون إلا في عقد الصفقة لا بعده، ومن ذبح مال غيره بغير إذن مالكه؛ فقد تعدى، والتعدي معصية لله وظلم وقد أمر الله تعالى بالذكاة، فهي طاعة له تعالى، ولا شك في أن طاعة الله تعالى غير معصيته، فالذبح الذي هو طاعة وذكاة غير الذبح الذي هو معصية وعدوان لا يحل أكل شيء من الحيوان إلا بالذكاة التي أمر الله تعالى بها، لا مما نهى عنه من العدوان، فليست ذكية، فهي ميتة، ومن تعدى بإتلاف مال أخيه؛ فهو ضامن، والصفة فاسدة، فالثمن مردود ) انتهى المقصود .
وحاصله أن العيب الخفي الذي لا يظهر إلا بعد الذبح لا يمنع الإجزاء إذا كان الذبح لم يشترط السلامة؛ لأنها ملكه، وإذا اشترط السلامة؛ لم تجز؛ لأنها ليست ملكًا له . والله أعلم .
3 - ومن أصحاب هذه الأقوال المنقولة من يفصل بين المرض العارض الذي يرجى زواله، فلا يمنع من الإجزاء؛ لأنه لا ينقص اللحم، وبين المرض المزمن الذي لا يرجى زواله، فيمنع من الإجزاء؛ لأنه ينقص اللحم؛ كما قاله الموفق في ( المغني ) .
وهذا ما تيسر جمعه، والحمد لله رب العالمين .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه .(1/319)
حكم ذبح الأضحية عن الميت
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد : فقد اطلعت على الفتوى الصادرة من فضيلة الشيخ عبد الله بن زيد بن محمود، رئيس المحاكم الشرعية والشئون الدينية بدولة قطر حول الاستفتاء المقدم إليه من محمد الأحمد الرشيد، عن حكم تنفيذ ما أوصى به والده بأن يضحي عنه وعن والديه كل سنة، حيث إن المستفتي نفذ هذه الوصية من سنين طويلة كل سنة يضحي عنه وعن والديه، فأجابه فضيلة الشيخ عبد الله بأنه مأجور على ما فعله في الماضي عن حسن ظن، ولكن الحق أحق أن يتبع وأن الوصية بالأضحية عن الوالدين لا صحة لها ولا يؤجر عليها ولا يؤجر صاحبها على تنفيذها، لكونه لا أضحية لميت، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى عنه وعن جميع أمته ولا يؤجر الموصى إليه في تنفيذ هذه الوصية، لكونه لا أضحية لميت، وإنما شرعت الأضحية في حق الحي، والوصية بالأضحية عن الميت إنما توقعت خطأ من بعض علماء الحنابلة حيث قالوا : وأضحية عن ميت أفضل منها عن حي . وقد تراجع علماء نجد عن تنفيذ مثل هذه الوصية لكونه لا أضحية لميت فصرف هذه الوصية إلى الفقراء والمضطرين أفضل لكونها بدأت خطأ من أحد الفقهاء والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل قال ويأجرك الله يعني المستفتي على ما أسلفت وقدمت من الأضاحي حيث لم تعرف طريق الحلال والحرام فيها لكونها شرعت في حق الحي ولم تشرع عن الميت { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله } ثم قال وإنني أتحفك برسالة من مؤلفاتنا للنظر فيها وقد انتهى علماء نجد عن الأضحية عن الميت بعد نشر هذه الرسالة هذا حاصل ما في الفتوى المذكورة والملاحظ على هذه الفتوى من عدة وجوه الوجه الأول إنكاره لصحة الأضحية عن الميت وحصره مشروعيتها في حق الحي وهذا لا دليل عليه وإنما الأدلة تدل على خلافه وهو شرعيتها عن الميت والحي ومن هذه الأدلة ما ذكره هو في فتواه من أن النبي - صلى الله عليه(1/320)
وسلم - ضحى عنه وعن أمته فإن هذا يدخل فيه الأحياء والأموات في أمته - صلى الله عليه وسلم - ثم هو قد تناقض مع نفسه حيث قال في فتواه فصرف هذه الوصية إلى الفقهاء والمضطرين أفضل فمعنى هذا أن تنفيذها جائز ولكن الصدقة بثمنها أفضل عند شدة الحاجة ووجود الضروة .
الوجه الثاني : قوله والوصية بالأضحية عن الميت إنما وقعت خطأ من بعض علماء الحنابلة وهذا إما جهل منه بأقوال غير الحنابلة في الموضوع فكان الواجب عليه أن يبحث ويراجع ليرى أن علماء الحنابلة لم ينفردوا بالقول بمشروعية الأضحية عن الميت بل قال بها علماء كثيرون من الحنفية والشافعية والحنابلة كما هو مصرح به في كتبهم وأما أنه قال هذا مع علمه بأقوال غير الحنابلة في الموضوع فيكون هذا من التغرير والكتمان وكلا الأمرين لا يليق بأمثاله ممن يرجع إليهم في الفتوى والأمور الشرعية .
الوجه الثالث :(1/321)
قوله قد تراجع علماء نجد عن تنفيذ مثل هذه الوصية بعد نشر رسالته التي استنكر فيها الأضحية عن الميت وزعم أنها غير مشروعة وهذا القول خلاف الواقع والحقيقة فإن علماء نجد لم يتراجعوا عن القول بصحة الأضحية عن الميت وصحة الوصية بها عن الميت ووجوب تنفيذ هذه الوصية لكونها وصية شرعية وقد ردوا على الرسالة المذكورة في رسائل ومقالات نشرت في الصحف والمجلات منها رسالة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد - رحمه الله - وهي بعنوان غاية المقصود في التنبيه على أوهام ابن محمود وقد جاء في مقدمتها ما نصه وبعد فقد اطلعت على كتاب ألفه فضيلة الشيخ عبد الله بن زيد بن محمود رئيس محاكم قطر سماه الدلائل العقلية والنقلية في تفضيل الصدقة عن الميت على الضحية وهل الضحية عن الميت شرعية أو غير شرعية، حاد فيه عن الطريق وسلك فيه غير مسلك أولي التحقيق حيث زعم أن الأضحية عن الميت عمل غير مشروع وأنه يعد خطأ في التصرف تضحية الإنسان عن أبويه الميتين وأن الأضحية عن الميت بدعة وفي الكتاب المذكور من التناقض والعبارات البشعة في حق أفاضل العلماء ما لا ينبغي ذكره انتهى ومنها رسالة للشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد - رحمه الله - وقد نشرت في بعض الصحف أثبت فيها صحة الأضحية عن الميت ورد على هذه الرسالة برد وافٍ مفصل ومنها كتاب بعنوان ( كتاب الحجج القوية والأدلة القطعية والرد على من قال إن الأضحية عن الميت غير شرعية ) للشيخ علي بن حواس جاء فيه وبعد فقد اطلعت على رسالة ألفها بعض المشائخ وسماها الدلائل العقلية والنقلية في تفضيل الصدقة عن الميت على الأضحية وهل الأضحية عن الميت شرعية أو غير شرعية ولما قرأتها وتأملتها وحققتها وجدت الكثير منها محتويًا على الأخطاء والأغلاط المخالفة لنص السنة والكتاب ومنها رسالة للشيخ عبد الرحمن بن حمد الجطيلي - رحمه الله - وهي بعنوان الدلائل الواضحات على مشروعية الأضحية عن الأموات هذا ولا يزال العمل مستمرًا(1/322)
في نجد على ذبح الأضاحي عن الأموات تبرعًا من الأحياء أو تنفيذ الوصايا من الأموات بذلك من غير نكير فلا حقيقة لقول الشيخ بن محمود أن علماء نجد تراجعوا عن تنفيذ الوصية بالأضحية عن الميت وانتهوا عن ذلك بعد صدور ونشر رسالته فهذا تقول على العلماء وتغرير بالجهال وتزيد في القول يتنزه عنه المسلم فضلًا عن العالم الذي يتصدى للفتوى ويرجع إليه في معرفة الأحكام الشرعية الوجه الرابع أنه تجازف في بعض العبارت كقوله الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل وقوله : للسائل ويأجرك الله على ما أسلفت وقدمت من الأضاحي حيث لم تعرف طريق الحرام والحلال واستشهاده بالآية الكريمة { فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ } [ البقرة : 275 ] . فاعتبر الأضحية عن الميت في هذه الكلمات من الباطل ومن الحرام ومما يجب الانتهاء عنه في المستقبل ويعفي عما سلف منه ويتوعد من استمر عليه كالربا الذي نزلت فيه الآية التي استشهد بها وهذا إنما يقال فيما أجمع على تحريمه أو دلت عليه أدلة صحيحة صريحة أما مسائل الخلاف والاجتهاد فلا يقال فيها مثل هذه العبارات القاسية هذا ونسأل الله أن يرينا وإياه الحق حقًا ويرزقنا اتباعه ويرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله صحبه . تكملة : قد اطلعت على مقال للأستاذ محمد العيسى في كتابه " حوار مع الأفكار " ، يدافع فيها عما يسمى بالأناشيد الإسلامية، وهذه المقالة لا تزيد عما قاله الأستاذ أحمد الحليبي؛ إلا أنها تمتاز عنه بالغموض وركاكة الأسلوب والإغراب في الاستدلال، حيث استدل على إباحة هذه الأناشيد بأنها نوع من الشعر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ردد الشعر وأعجب به، وأن من الأناشيد ما يفقه في الدين، ومثّل لذلك ب- " المنظومة الرحبية في الفرائض " ، و " نونية ابن القيم " ، و " الألفية في النحو " . والجواب عن ذلك :(1/323)
أولًا : كون الأناشيد نوعًا من الشعر لا يكفي في إباحتها؛ إلا إن كان يكفي الاستدلال لحل الخمر بكون أصلها من التمر أو الزبيب .
وثانيًا : لا أعلم أحدًا صار فقيهًا بسبب الأناشيد، بل الأقرب أنه يصير مطربًا . ولا أعلم أحدًا من الأمة سمّى الرحبية أو النونية أو الألفية أناشيد إسلامية، فلم يقولوا الأنشودة الرحبية أوالأنشودة النونية، وإنما يقولون " المنظومة الرحبية " ، و " القصيدة النونية " ، ولم يكونوا ينشدونها إنشادًا جماعيًا بقصد التطريب، بل كانوا يحفظونها ويقرؤونها في حلقات التدريس . ثمّ إن الأستاذ عليًا في ختام مقاله الطويل طول الليل الدامس قال : " لا يطالب مؤيد وجودها - أي : الأناشيد - بأدلة شرعية " . وكأنه قال ذلك حينما أحس بعجزه عن إقامة الدليل، وكفى بهذا اعترافًا منه بعدم جوازها . والله أعلم
زكاة الفطر . . العاطفة لا تكون على حساب الدين(1/324)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد : فقد قال الله تعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } [ الحشر : 7 ] وقال - صلى الله عليه وسلم - من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد وأن بعض الناس في هذا الزمان يحاولون تغيير العبادات عن وضعها الشرعي ولذلك أمثلة كثيرة فمثلًا صدقة الفطر أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإخراجها من الطعام في البلد الذي يوجد فيه المسلم عند نهاية شهر رمضان بأن يخرجها في مساكين ذلك البلد من المسلمين وقد وجد من يفتي بإخراج القيمة بدلًا من الطعام ومن يفتي بدفع دراهم يشتري بها طعام في بلد آخر بعيد عن بلد الصائم وتوزع هناك وهذا تغيير للعبادة عن وضعها الشرعي فصدقة الفطر لها وقت تخرج فيه وهي ليلة العيد أو قبله بيومين فقط ولها مكان تخرج فيه وهو البلد الذي يوافي تمام الشهر والمسلم فيه ولها أهل تصرف فيهم وهم مساكين ذلك البلد من المسلمين ولها نوع تخرج منه والطعام فلابد من التقيد بهذه الاعتبارات الشرعية وإلا فإنها لا تكون عبادة صحيحة ولا مبرئة للذمة وقد اتفق الأئمة الأربعة على وجوب إخراج صدقة الفطر في البلد الذي فيه الصائم ما دام فيه مستحقون لها وصدر بذلك قرار من هيئة كبار العلماء في المملكة فالواجب التقيد بذلك وعدم الالتفات إلى من ينادون بخلافه لأن المسلم يحرص على براءة ذمته والاحتياط لدينه وهكذا كل العبادات لابد من أدائها على مقتضى الاعتبارات الشرعية نوعًا ووقتًا ومصرفًا فلا يغير نوع العبادة الذي شرعه الله إلى نوع آخر فمثلًا فدية الصيام بالنسبة للكبير الهرم والمريض المزمن اللذين لا يستطيعان الصيام قد أوجب الله عليهما الإطعام عن كل يوم بدلًا من الصيام قال تعالى { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } [ البقرة : 184 ] وكذلك الإطعام في الكفارات كفارة الظهار(1/325)
وكفارة الجماع في نهار رمضان وكفارة اليمين وكذلك إخراج الطعام في صدقة الفطر كل هذه العبادات لابد من إخراج الطعام فيها ولا يجزئ عنه إخراج القيمة من النقود لأنه تغيير للعبادة عن نوعها الذي وجبت منه لأن الله نص فيها على الإطعام فلابد من التقيد به ومن لم يتقيد به فقد غير العبادة عن نوعها الذي أوجبه الله وكذلك الهدي والأضاحي والعقيقة عن المولود لابد في هذه العبادات أن يذبح فيها من بهيمة الأنعام النوع الذي يجزئ منها ولا يجزئ عنها إخراج القيمة أو التصدق بثمنها لأن الذبح عبادة قال تعالى : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } [ الكوثر : 2 ] وقال تعالى : { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الأنعام : 162 ] . والأكل من هذه الذبائح والتصدق من لحومها عبادة قال تعالى : { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } [ الحج : 27 ] . فلا يجوز ولا يجزئ إخراج القيمة أو التصدق بالدراهم بدلًا من الذبح لأن هذا تغيير للعبادة عن نوعها الذي شرعه الله ولابد أيضًا أن تذبح هذه الذبائح في المكان الذي شرع الله ذبحها فيه فالهدي يذبح في الحرم قال تعالى : { ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } [ الحج : 33 ] . وقال تعالى في المحرمين الذين ساقوا معهم الهدي { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } [ البقرة : 196 ] والأضحية والعقيقة يذبحهما المسلم في بلده وفي بيته ويأكل ويتصدق منهما ولا يبعث بقيمتهما ليشتري بها ذبيحة تذبح وتوزع في بلد آخر كما ينادي به اليوم بعض الطلبة المبتدئين أو بعض العوام بحجة أن بعض البلاد فيها فقراء ومحتاجون ونحن نقول : إن مساعدة المحتاجين من المسلمين مطلوبة في أي مكان لكن العبادة التي شرع الله فعلها في مكان معين لا يجوز نقلها منه إلى مكان آخر لأن هذا تصرف وتغيير للعبادة عن الصبغة التي شرعها الله(1/326)
بها وهؤلاء شوشوا على الناس حتى كثر تساؤلهم عن هذه المسألة ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبعث بالهدي إلى مكة ليذبح فيها وهو مقيم بالمدينة ويذبح الأضحية والعقيقة في بيته بالمدينة ولا يبعث بهما إلى مكة مع أنها أفضل من المدينة وفيها فقراء قد يكونون أكثر حاجة من فقراء المدينة ومع هذا تقيد بالمكان الذي شرع الله أداء العبادة فيه فلم يذبح الهدي بالمدينة ولم يبعث بالأضحية والعقيقة إلى مكة بل ذبح كل نوع في مكانه المشروع ذبح فيه وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة الذبح لابد أن يكون في المكان المخصص له شرعًا ومن أراد نفع المحتاجين من إخواننا المسلمين في البلاد الأخرى فليساعدهم بالأموال والأطعمة وكل ما فيه نفع لهم أما العبادات فإنها لا تغير عن وقتها ومكانها بدعوى مساعدة المحتاجين في مكان آخر والعاطفة لا تكون على حساب الدين وتغيير العبادة .
مهلًا يا دعاة التجديد(1/327)
صرنا نسمع في الآونة الأخيرة دعوات للتجديد من هنا وهناك ومن أناس ليسوا أهل اختصاص بمعرفة دواعي التجديد ومقوماته ومجالاته أعني التجديد للدين لا التجديد في الدين فإن التجديد للدين مطلوب من أهل الاختصاص بأن يعيدوا للدين جدته وإشراقه يميطوا عنه الحجب التي اصطنعها الجهال والمغرضون أو الضلال الملحدون وقد بشر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها أما التجديد في الدين فمعناه الابتداع وإحداث في الدين ما ليس منه وهذا تجديد مرفوض ومردود على صاحبه بنص الحديث والأول تجديد مطلوب ولا يقوم به إلا العلماء العاملون والمجاهدون والصابرون فمن أي النوعين يا ترى ما ينادي به دعاة التجديد اليوم ممن هم ليسوا من ذوي الاختصاص الشرعي إنما كانت تخصصاتهم في علوم الكمياء والفيزياء أو علوم الطب والهندسة أما التجديد الذي ينادون به هو التجديد في الدين بإحداث فقه جديد معاصر كما يسمونه لأن الفقه القديم بزعمهم لا يناسب هذا العصر بشكله ومضمونه ويدعون إلى الاعتياض عنه بما يسمونه فقه الواقع وسمعنا بعضهم يقول في محاضرة له وينادي فيها إلى التجديد في الفقه والفكر يقول إن الدين شريعة وفقه فالشريعة هي الكتاب والسنة وهما لا يقبلا ن التجديد وأما الفقه فهو يقبل التجديد ويا سبحان الله فمن أين جاء الفقه إليه وهو مستنبط من الكتاب والسنة بل هو تفسير للكتاب والسنة وهل الفقه مخالف للكتاب والسنة ؟ نعم قد يكون في بعضه مخالفة لهما وهذا النوع يجب أن يستبعد لكن هو في جملته موافق للكتاب والسنة قد قام باستنباطه ذوو الرواية والدراية من علماء الأمة ومن هو الذي سيخلفهم ويأتي بفقه جديد أهو خريج كلية الهندسة أوالصيدلة أو التربية أو عالم الفيزياء أو الكيمياء كلا ولو أن واحدًا من علماء الشريعة تكلم في الطب أو الفيزياء أو غيرهما مما ليس من تخصصه لأقمتم الدنيا وأقعتموها بالإنكار عليه ولكم(1/328)
الحق في ذلك فكيف سمحتم لأنفسكم أن تتدخلوا فيما هو ليس من اختصاصكم إذا كان الذي حمل هؤلاء على المنادة بالتجديد هو ما يرونه من تأخر المسلمين وهذا أمر واقع فظنوا أن سببه هو البقاء على الفقه وهذا منهم وايم الله جهل بتشخيص الداء ومعرفة الدواء لأن سبب تأخر المسلمين هو عدم أخذهم بهذا الفقه وتطبيقهم له واستبدال الكثير منهم به أنظمة البشر وقوانين البشر فالسبب هو تركهم له لا أخذهم به لكن كما قيل :
نعيب زماننا والعيب فينا ** وما لزماننا عيب سوانا(1/329)
نحن لا ننكر وجود قضايا مستجدة تحتاج إلى دراسة ومعالجة لكن ليس علاجها بأن نحدث فقهًا جديدًا أو نرفض الفقه القديم وإنما علاجها بأن نعرضها على الفقه القديم بقواعده ومرونته وشموله وهو قادر بإذن الله على إعطاء الحل الناجح لهذه القضايا المشكلة إذا تولى ذلك أهل الاختصاص من علماء الشريعة ولا أقول ذلك تنقص لغيرهم لكن رحمة بهم وبالأمة أن يدخلوا أنفسهم فيما ليس من اختصاصهم نعم من حقهم أن يقولوا إن واقع بعض المسلمين يحتاج إلى علاج وأن يطلبوا من العلماء النظر فيما يجد من مشكلات لكن ليس من حقهم أن يطالبوا بإحداث فقه جديد وترك الفقه القديم لأن هذا معناه فصل حاضر الأمة عن ماضيها والتنكر لموروثاتها ورصيدها العلمي العظيم وفتح مجال للمتطفلين على العلم والمعرفة أن يغيروا ويبدلوا وأنا ما أردت بهذه الكلمة إلا النصح { إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [ هود : 88 ] . وأنا أعلم أن غالب من تبنى هذه الفكرة فكرة التجديد يريدون الخير للمسلمين وانتشالهم من واقعهم المرير ولكن ليس العلاج ما ذكروه بل العلاج إسناد الأمور إلى أهلها قال تعالى : { ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} قال العلامة الشيخ بن سعدي في تفسيره وفي هذا دليل لقاعدة أدبية وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولى من هو أهل لذلك ويجعل إلى أهله ولا يتقدم بين أيديهم فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ انتهى وأقول : إن فتح المجال لغير ذوي الاختصاص مصدر لأن يتلاعب بدين الله أنصاف المتعلمين والمتعالمون الذين ملؤوا الدنيا بالاجتهادات الخاطئة مما يسمونه الفقه الجديد وهذا مصداق ما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - من أنه إذا فقد العلماء اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ومن أنه في آخر الزمان(1/330)
يكثر القراء ويقل الفقهاء فقراء الكتب اليوم كثيرون لكن الفقهاء منهم قليلون والعبرة بالفقه لا بكثرة القراءة والاطلاع لقد بلغ الأمر ببعضهم إلى أن يفتخر بأنه لم يتخرج من جامعة إسلامية ولم يقرأ على عالم وإنما كون نفسه بنفسه وتتلمذ على كتبه وعندما يسمع هؤلاء هذه الدعوة إلى التجديد وأن المجال مفتوح لكل أحد فسيصدر عنهم العجائب وقد صدر كما قيل:
لقد هزلت حتى بدت من هزالها ** كلاها وحتى سامها كل مفلس
فليس بين أحدهم وبين أن يكون عالمًا إلا أن يكون عنده مكتبة ويقرأ كتابًا أو كتابين ثم يتصدر للفتوى والتدريس والتأليف فمهلًا يا دعاة التجديد ورفقًا بأمتكم ورحم الله امرًا عرف قدر نفسه والسلام عليكم .(1/331)