تقديم وتقريظ
فضيلة الشيخ عبد الله الإسماعيل
(
قال الله تعالى(( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون))
أوجب الله تعالى على الأمة أن تكون منها طائفة تأمر الناس بالمعروف وتنهاهم عن المنكر، ففي إقامة ذلك الركن وحدتها وقوتها، وفي إضاعته انحطاطها وشقاءها المستمر، فهو الذي يحفظ الأمة من تدهورها ويقيها غائلة التفرق وشؤم الانحلال.
ولما كان أولى الناس بإقامة ذلك الركن العلماء الذين هم ورثة الأنبياء فإنهم خلقوا ليكونوا مفتاحاً لسعادة أممهم, وطريقاً لحياة شعوبهم ليقوموا من الأمة ما أعوج ويصلحوا منها ما فسد, ليكونوا من الأمة مكان الرأس من الجسد, ولما كان العلماء من أولى الناس بذلك فقد جاء هذا الكتاب الذي نظم درره وسبكٍ جوهره الأخ الأستاذ عبد الرحمن الأحمد فقد كان بحق جوهراً ثميناً لكل خطيب ومرشداً لكل حيران في فنون الخطابة وأساليبها الرائعة, فيجد فيه كل من تصدى لهذه المهمة بغيته وخصوصاً طلاب العلم المبتدئين الذي يسعون إلى ملك زمام القلوب والألباب عن طريق المنابر ليحوزوا على المكانة الأسمى في توجيه الناس بأسلوب رقيق أخاذ وعبرات جذابة حية يكون لها وقع في القلوب كوابل السماء على الأرض العطشى, فينقلون الأمة من موت المشاعر إلى نبضات الحياة ومن غفلة الحس إلى يقظة الضمائر فيتفاعلون مع ما يلقى إلى أسماعهم من قطرات الندى التي تلامس شغاف القلوب ولقد أحسن المؤلف جزاه الله خيراً وأجاد في إخراج كتابه هذا في أحسن حلة هدية ثمينة لكل واعظ, وحدد معالم الطريق بأوجز عبارة وأرق أسلوب ووشاه بالأمثلة من روائع القرآن والسنة المطهرة وروائع كلام السلف في هذا المجال ولقد أطلعت على هذا الكتاب فوجدت فيه نقلة نوعية بأسلوب الخطابة من الجمود وضيق الأفق إلى الشفافية وعذوبة البيان مما يؤدي إلى تمرين الخطيب الناشئ والواعظ المبتدئ وتعوده على الارتجال.(1/1)
وأدعو الله تعالى أن ينفع بكتابه هذا الوعاظ والخطباء وبنشر ظلاله الوارفة على الأمة الإسلامية جمعاء.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه وبعد: إن المتابع لأحوال المسلمين في العالم عموماً، وفي ديار الإسلام خصوصا،ً وما يعيشونه من جهل وبعد عن دين ربهم، وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم؛ يدرك أهمية العمل الجاد لإيقاظ المسلمين من رقدتهم، وتبصيرهم بأمور دينهم، لاسيما ما يتعلق بالعقائد والأحكام، ولا شك أن المسجد من أهم القنوات، وأعظم الوسائل لتحقيق هذا المطلب الهام، فمن المسجد انطلقت الجيوش وأوفدت الوفود، وقسمت الصدقات وأقيمت الشعائر والصلوات، "في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه".
ولما غاب دور المسجد غابت معه الأمة، ولما خفتت أصوات المنابر علت أصوات الشر والباطل، ولا سبيل لإعادة دور المساجد وصولات المنابر، إلا بإسنادها إلى أئمة مؤهلين ورجال أكفاء عقائدهم ومناهجهم واضحة، نهلوا من العلم فأخذوا منه بحظ وافر " قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني " ومن ينظر نظرة تفحص إلى أحوال المساجد في أنحاء العالم يلحظ أن الأئمة والخطباء فيها ينقسمون إلى فريقين:
الفريق الأول: أئمة غير مؤهلين علمياً ومنهجياً للإمامة وتعليم الناس أمور دينهم.
الفريق الثاني: أئمة مؤهلون: وينقسمون إلى فئتين:
أ-: أئمة متفرغون وعددهم قليل وهم يقومون بدور طيب وجهد مشكور نسأل الله أن يبارك فيهم وبهم.(1/2)
ب-: أئمة غير متفرغين وذلك لارتباطاتهم العلمية والعملية أو انشغالهم بتحصيل الرزق والسعي على العيال، مما انعكس سِلباً على دورهم ورسالتهم في المسجد واعتنائهم بخطبة الجمعة إعداداً ومعايشة وتفاعلاً، مما يضعف أثر الخطبة؛ تلك الشعيرة العظيمة التي من أجلها قصرت رباعية الظهر، وأمر الله عز وجل بشهودها وحضورها ( يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله) ومن خلال تدريسي في معهد الإمام النووي الشرعي الذي أشاد بنيانه، وشيّد أركانه على تقوى من الله ورضوان فضيلة الشيخ العلامة المرحوم (أحمد الحصري) طيّب الله ثراه في مدينة معرة النعمان، تبلورت في ذهني فكرة كتابة هذا البحث المتواضع ليكون خدمة لخطبة الجمعة وخطبائها، ولأقدم من خلاله الأساليب المتنوعة والأفكار العلمية المنهجية التي تساهم في إحياء وتحديد دور المنبر؛ والارتقاء بدور المسجد، وذلك مما منّ الله تعالى به عليّ من جهد، وحسبي أنني بذلت جهدي واجتهدت على قدر إمكاناتي وقدراتي المتاحة، فما كان من صواب وإحكام فمن فضل الله وتوفيقه، وما كان من تقصير وخلل فمن عندي، ولقد أوردت في آخر هذا الكتاب تتميماً للفائدة مقدمات متنوعة يمكن للخطيب أن يتناول في كل جمعة منها مقدمة تتناسب مع الموضوع الذي يود إلقاءه، كما أودعت آخره أبياتاً من الشعر بعضها في الإلهيات،و البعض الآخر في النبوات يمكن لكل خطيب أن يسبكها مع مواضيع خطبه؛ سواء في المقدمة أو قلب الموضوع.
والله أسأل أن يرزقنا الإخلاص في السر والعلن والقول والعمل، وأن يتقبل منا صالح أعمالنا إنه نعم المولى ونعم النصير، والحمد لله رب العالمين.
(
استهلال وشفافية:
((وعِظْهُم وَقلْ لهمْ في أنفسِهِمْ قولاً بليغاً))
ولسان صيرَفي صارم
سحر هاروت وماروت ولو
ج
كذباب السيف ما مس قطع
كلم الصخر بحق لانصدع(1/3)
نحن في زمن عجيب وفي عصر غريب كم بلينا بخطيب غير أديب ولا مصيب إذا تكلم تلعثم وهمهم وغمغم وتمتم.
إذا بدا في الكلام اعتذر لا يدري ما يأتي وما يذر لأن كلامه هذر مدر ابتلي الرجل بالسعال وكثرة الانفعال وسوء التعبير في المقال.
لا يزور الكلام في صدره تزويراً ولا يحبر الخطب تحبيراً فلا يساوي كلامه في ميزان الشعر نقيراً يا ليت بعض الخطباء اشتغل بالتجارة أو مارس البناء والنجارة وترك المنبر لأهل الإبداع والجدارة الخطيب القدير والمتكلم النحرير له صولة وزئير ومنطق كالحرير ولسان كالسيف الطرير إذا وثب على المنبر فاح منه المسك والعنبر فكان منطقه الماء الزلال، والنبع السلسال، يأتي الحكمة في ارتجال، ويغلب بحجته الرجال، فإنه الأسد إذا وصال وجال.
إياك والكلام الساقط المرذول، والعامي المبذول، وعليك بفصيح المنقول؛ الذي يحبذه أصحاب العقول، ما أحوجنا إلى خطيب قوال، وبما يقول فعال، ليس صاحب إملال ولا إقلال ولا إخلال، وإنما يدبج السحر الحلال:
وكلامه السحر الحلال لو
إن طال لم يملل وإن أوجزته
ج
أنه لم يجن قتل المسلم المتحرز
ود المحدث أنه لم يوجز(1/4)
لا يشرح الصدر مثل الكلام الصادق والبيان الناطق واللفظ الدافق والأسلوب السامق، أما كلام الحاكة، وألفاظ أهل الركاكة فهو حمى الأرواح في الصدور رماح وفي القلوب جراح، ترى بعضهم إذا تكلم لا يكاد يبين، كأنه من الأعجمين ينطق بالحرف مقلوباً، ويجعل المرفوع منصوباً، ملأ خطبته عيوباً وندوباً وثقوباً، غضب منه في النحو سيبويه، وفي اللفظ نفطويه، وفي الحديث راهويه، وفي الشعر متنبيويه, الخطيب البارع يأسر القلوب أسراً، ويسري بالأرواح فسبحان من أسرى، ويسترق الضمائر؛ فإما منّاً، وإما فداء، وله على مستعمرات النفوس احتلال واستيلاء، الخطيب الملهم يكتب على صفحات القلوب رسائل من التأثير، وفي العقول صوراً من براعة التعبير، ويبني في الأفئدة خياماً من جلال التصوير، هل تمل من الروضة الغناء إذا غنى فيها العندليب، وحل بها الحبيب وأطفأ نسيمها اللهيب، وكذلك الخطيب النجيب في خطبه روضات من الجمال، وبساتين من الجلال، ودواوين من الكمال.
تقرأ القصة لا تساوي شطرة، ولا تهز شعرة، فيلقيها الخطيب الأشدق، والفصيح المتدفق، فكأنه السحر دب في كيانك، وكأنها الخمر هزت أركانك، تسمع بيت الشعر فلا ترى فيه روعة ولا جمالاً، فيلقيه الخطيب المصقع، والمتكلم المبدع، فتبقى من حسنه مبهوتاً، كأنك لقطت ياقوتاً؛ الخطيب الهدار كالسيل الموار يقتلع الأشجار، ويحمل الأحجار ويقتحم الأسوار، لا يرده جدار ولا يقف في طريقه دار، لأن الخطيب يقبل معه الآية الآمرة والموعظة الزاجرة، والقصة النادرة والحجة الباهرة، والقافية الساخرة، تعيش معه في دنيا من الصور والألوان، وفي عالم من المشاهد والألحان؛ كأنك في إيوان أو بستان أو ديوان.(1/5)
دعني من الخطباء الثقلاء كأن كلامهم لهيب الرمضاء أو وهج الصحراء، أو وجه الشتاء لا طلاوة ولا حلاوة، لا إبداع ولا إمتاع ولا إشباع، قوم لم تركض ألسنتهم في ميدان البيان ولم تذق قلوبهم حلاوة القرآن، ولا تمتعوا بسحر الكلمات ولا رشاقة الجمل البالغات، ولا عرفوا حسن السبك ولا براعة الحبك، مع أحدهم صحف يتلوها على الناس بكرة وأصيلا، لا تترك في الناس من التأثير فتيلا، يلوك أحدهم الكلام كأنه يغرز في الأجسام شوكاً، أفصح الناس رسول الهدى وإمام الندى، أبلغ من حضر وبدا، وأوعظ من راح وغدا:
منطق يملأ القلوب جلالاً
في حبور وبهجة وصفاء
إن من أعظم المتع التي عاشها الصحابة تلك الفصاحة والبراعة والنجابة التي كانوا يسمعونها من سيد الفصحاء، وإمام البرعاء، وأبين العرب العرباء، كان إذا تكلم ملك المشاعر واستولى على الضمائر واستمال السرائر، فلا يريدون بعده خطيباً ولا شاعراً إذا خطب عليه الصلاة والسلام، وتدفق فكأنه الفجر أشرق والماء ترقرق والنور في الأرواح ترفق، إن من النعيم عند ذاك الجيل العظيم سماع ذلك النبي الكريم في منطق سليم وصوت رخيم، وقول قويم ونهج مستقيم.
ثم درج خطباء الأمة على منواله، وسبكوا أقوالهم على أقواله،
فمن مقل ومكثر، ومن مؤثر ومتأثر.(1/6)
فأحسن الخطباء من جعل القرآن معينه، وملأ بنور الحديث عينه وجعل البيان خدينه، ثم أكثر من التدريب وأدمن من التجريب، وأخذ من كل فن بنصيب، فترى له من البراعة ومن الجرأة والشجاعة ما يخلب ألباب الجماعة جمالاً في بيان وحسناً في إتقان، مع عذوبة اللسان وثبات جنان، غير أن البلاء يأتي من الأغرار المعدودين في الخطباء، فهم كالغيم في الصحو وكاللحن في النحو عبارات من حجاب البيان سافرة وجمل متنافرة، وتركيب غريب ليس له من سلطان الإبداع رقيب، همّ أحدهم أن يقول ولو أخطأ في النقول وعاث في العقول، فمنع هؤلاء من الخطابة إصابة حتى يراجع كل منهم حسابه، فليست المنابر أسواق باعة ولا ورش صناعة، إن المنابر مواضع طاعة، تهذب بها الأجيال، وتصقل بها عقول الرجال
ومنطق كضياء الشمس تحسبه
يدب في الجسم مثل البرء لو نظمت
من حسنه سحر هاروت وماروت
ألفاظه قلت هذا عقد ياقوت(1/7)
فهذب لسانك وجود بيانك ودرب جنانك، وأطلق في الفصاحة عنانك، لتكون الخطيب المسدد والمتكلم المؤيد، وحذار من ترداد الكلام، فإنه يتحول إلى ركام، ويصبح الخطيب أقبح في العين من الظلام، وإياك والتقعر والغرابة فإنها من عيوب الخطابة، ولا تكرر العبارة ولا تكثر الإشارة، ولا تقحم نفسك في فنون أهل الاختصاص، ولا تجرح وامزج الترغيب بالترهيب، والواعظ بالتأديب، وتحبب إلى السامعين بالطيب من الكلام، ولا تتعرض للشتم في القلوب وذكرهم برحمة علام الغيوب، وتخولهم بالموعظة لتكون لقلوبهم موقظة، وتحدث فيما يحتاجون إليه من مسائل وما يهمهم من فضائل، وكن لطيفاً مع الناس كالطبيب الآس، واجعل إمامك في الخطابة رسول البيان صاحب القرآن سيد ولد عدنان، فقد كان الجزع يحن لكلامه ويئن من كثر شوقه وهيامه، وكانت الدموع من وعظه تتحدر، والقلوب تتفطر والنفوس تتحسر، هذا إذا انذر وحذر، أما إذا ذكرهم بمغفرة الغفور، فهناك تسبح النفوس في صرح ممرد من السرور، وفي جدول من الحبور، فيمد كلامه نور الفطرة، فالكل نور على نور:
هذا الكلام الذي ما قاله أحد
عليه من حلل الأنوار أردية
يصدع الصخر في زجر وموعظة
ولا تلا مثله في الجمع سحبان
فكل قلب من الأشواق نشوان
وفي البشارة روض فيه ريحان
ج
أيها الخطباء كونوا أبطالاً، ورصعوا من الحكمة أقوالاً، ودبجوا من الفصاحة أمثالاً، وانفروا خفافاً وثقالاً، وفقنا ووفقكم الله تعالى.
منبر سيد الخطباء(1/8)
تواتر الخبر أن النبي ( كان يخطب على منبر صُنع له بعد أن كان يخطب مستنداً إلى جذع شجرة. روى البخاري في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله قال ( كان جذع يقوم إليه النبي ( فلما وضع له المنبر سمعنا للجذع مثل أصوات العشار حتى نزل النبي ( ووضع يده عليه). قال الخطابي رحمه الله تعالى: العشار هي الحوامل من الإبل التي قاربت الولادة، وكان الحسن رحمه الله تعالى إذا حدث بهذا الحديث بكى ثم قال: يا عباد الله الخشبة تحن إلى رسول الله ( شوقاً إليه لمكانه من الله فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه.
وقد جاء في حديث حازم بن دينار أن رجالاً أتوا سهل بن سعد الساعدي وقد امتروا في المنبر ممّ عوده، فسألوه عن ذلك فقال: والله إني لأعرف ما هو، ولقد رأيته أول يوم وُضع، وأول يوم جلس عليه رسول الله ( أرسل رسول الله ( إلى فلانة -امرأة قد سماها سهل-: مري غلامك النجار أن يعمل لي أعواداً أجلس عليهن إذا كلمت الناس، فأمرته فعملها من طرفاء الغابة، ثم جاءها فأرسلت إلى رسول الله ( فأمر بها فوضعت ها هنا.
قال ابن النجار: وطول منبر النبي ذراعان وشبر وثلاث أصابع، وعرضه ذراع راجح، وكان منبر النبي ( ثلاث درجات يقف على درجتين منها فيخطب الناس.
معنى المنبر في اللغة:
المنبر في اللغة: من قولهم نبر الشيء، أي رفعه، ومنه سمي
المنبر لارتفاعه.
خطبة الجمعة وأثرها في إصلاح المجتمع:
شعيرة من شعائر الإسلام الظاهرة؛ اوجب الله على المسلم المكلف شهودها بشروطها التي بينها أهل العلم رحمهم الله، وهي شعيرة عظيمة الشأن جليلة المقاصد، عميقة التأثير في كل أسبوع مرة، وفي العام ثمانية وأربعين مرة، ولهذا التكرار غرضه في مواصلة حوار النفس ومواجهتها ومحاسبتها في أوامر الدين، وأحكامها ومقاصدها.(1/9)
ومن مظاهر أحكام هذه الشعيرة لزوم حضورها جماعة، والنهي عن البيع، عند النداء لها يتأهب لها المسلم بالتطهر والتبكير مع اخذ الزينة والطيب، وحسن الصمت ووجوب الإنصات، ونبذ اللغو مما يهيئ للاستفادة؛ والرغبة في الاستماع، والالتزام بما يسمع من الحق على حد قوله سبحانه وتعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) خطبة الجمعة من وسائل الإصلاح الفردية والاجتماعية، فهي تحتل موقعاً مهماً متميزاً في تبليغ الدين، ونشر الدعوة وبث الإصلاح.
كان ذلك من بدء الرسالة المحمدية، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، ولا تزال هي أكثر الوسائل فعالية في نشر الحق، وبث الفكر الصحيح، ومخاطبة مختلف الفئات والطبقات والمستويات، نظراً لأن الخطيب المؤهل الموفق هو الأسرع إلى فهم العامة، والأبلغ في التأثير على المجموعة، فللخطبة فعلها المباشر وسرعتها في توجيه الرأي العام.
خطيب الجمعة هو الواعظ، له دور كبير وأثر بالغ في بيئته ومجتمعه وسامعيه وقومه، فهو قرين المربي والمعلم، ورجل الحسبة والموجه، وبقدر إحسانه وإخلاصه يتبوأ في قلوب الناس مكاناً، ويضع الله له قبولاً قلّ أن يزاحمه فيه أصحاب وجاهات، ولا يدانيه فيه ذوو مقامات، ومرد ذلك إلى الإخلاص أولاً، وتوفيق الله سبحانه وتعالى أيضاً، ثم إلى حسن الإجادة، ووجود الإفادة، والقدرة على التأثير المكسو بلباس التقوى، والمدثر بدثار الإخلاص والورع.
ولا شك أن مهمة الخطيب في هذا مهمة شاقة مشقة، تحتم عليه أن يستعد الاستعداد الكافي في صواب فكر، وحسن التعبير، وطلاقة اللسان، وجودة الإلقاء مطلوب منه أن يحدث الناس بما يمس حياتهم، ولا ينقطع عن ماضيهم ويردهم إلى قواعد الدين ومبادئه، ويبصرهم بحكمه وأحكامه برفق، ويعرفهم آثار التقوى والصلاح في الآخرة والأولى، مهمته البعد عن المعاني المكررة وجلبات الملل.(1/10)
إن خطيب المسجد وواعظ الجماعة أشد فاعلية في نفوس الجماهير من أي جهاز من أجهزة التوجيه والحكم في المجتمع، إن الجمهور قد يهابون بعض ذوي المسؤوليات لكنهم قد لا يحبونهم، أما الخطيب بلسانه ورقة جنانه وتجرده؛ فإنه يقتلع جذور الشر من نفس المجرم، ويبعث في نفسه خشية الله وحب الحق وقبول العدل ومعاونة الناس، إن عمله إصلاح الضمائر وإيقاظ العواطف النبيلة في نفوس الأمة، وتربية النفوس العالية في عمل خالص، وجهد متجرد يرجو ثواب الله، ويروم نفع الناس.
ومن هان فإنكم ترون أن أداء الخطيب عمله على وجهه يكسوه بهاء وشرفاً، ويرفعه إلى مكان عليّ عند الناس، وليس هذا إطراء ولا مديحاً للخطيب، ولكنه تنبيه إلى شرف العمل ومشقته وعظم مسؤوليته، وثقل رسالته، وما تتطلبه من حسن استعداد، وشعور صادق للمسؤولية، وكيف لا يكون ذلك؛ وهذه رسالة الأنبياء والصديقين والصالحين وحسُن أولئك رفيقاً، ولا غرابة أن يواجه أذىً وعداءً ولوماً ونقداً، وحسبه أن يكون مقبولاً عند الله والصفوة من عباد الله.
إذاً خطيب الجمعة يولي هموم مجتمعه وقضايا أمته اهتماماً كبيراً، وتحتل هذه الهموم والقضايا موقعاً في نفسه فيشعر بأهمية الإسهام في حركة المجتمع والتجاوب معه بالدعوة إلى الحق وتدعيم كل خير، والتحذير من كل شر والتنفير منه، وكثير من الخطباء يوفقون في كسب قلوب السامعين والتأثير في مشاعرهم، فيكون ذلك سبباً في صلاحهم وتوبتهم، ورجوعهم إلى ربهم، ولعلي بعد هذا التقديم المجمل أذكر بعض عناصر هذا الموضوع فسوف يأتي الكلام عن مفهوم الإصلاح، وعن المنهج الإصلاحي وجوانب الإصلاح الاجتماعية في خطبة الجمعة؛ مما ينظم أمرين:
- أحدهما الوقوف أمام المؤثرات الخارجية على المجتمع.
- ثانيهما: الإصلاح الداخلي للمجتمع.
ومن شأن خطيب الجمعة العارف بمقاصد الشريعة والمطلع على(1/11)
أسرارها أن يستمد من هذا المفهوم العام الشامل للإصلاح الاجتماعي في الإسلام، ويعمل على نشر وتقوية معناه في النفوس، ويجعل ذلك دعوته التي يعلنها من منبره إلى الناس كل أسبوع على حد قوله سبحانه وتعالى :( ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين).
جوانب الإصلاح الاجتماعي في خطبة الجمعة.
يمكن أن يكون ذلك من خلال عنصرين اثنين:
العنصر الأول-الغزو الخارجي:
ويتعلق بالعوامل الخارجية أو المؤثرات الخارجية، وهي -خاصة في عصرنا الحاضر- عوامل التأثر بالغرب،و النزعة العلمانية التي تطبع أجهزة الغرب وفكره، والتي تُصدّر إلى المسلمين في شكل مذاهب وتيارات سرعان ما تتلقفها جماعات وفئات ترى فيها حقاً أو الحق، وترى إن كل ما سواها باطل رجعي فتتعصب لها، وتحاول فرضها بجميع الوسائل.
العنصر الثاني- الوضعية الداخلية للمسلمين:
وهذه الوضعية ينبغي إصلاحها في تشعباتها الكثيرة أخذاً بكتاب الله وسنة نبيه المصطفى ( والمصالح الشرعية المعتبرة, ومن الإصلاح أن نفهم القضايا الداخلية فهماً صحيحاً حتى لا ينحرف بنا التفكير إلى أن نظنَّ ما هو صالح فاسداً فليس من الإصلاح هدم كل شيء لإقامة بناء جديد ربما يظهر في النهاية بعد التجارب أنه فاسد بدوره ولكن هذا الإصلاح الاجتماعي في خطبة الجمعة لا ينبغي أن يخرج الخطبة أن تكون خطبة لباسها الدين ولباسها نصوص كتاب الله وسنة نبيه (.(1/12)
وينبغي أن يفرق المستمع أو الخطيب بين خطبة تلقى في مسجد وكلام يلقيه مفكر إما في جانب سياسي أو في جانب إصلاحي اجتماعي والخطبة لها أيضاً مظهرها الديني ويجب أن ينتبه الخطباء وطلبة العلم على أن يبقى للخطبة هيئتها الدينية وارتباطها الوثيق بكتاب الله وسنة نبيه محمد ( ونهج السلف الصالح والارتباط بأهل العلم ولا تخرج إلى أن تكون خطبة سياسية محضرة أو خطبة لا يفرق المستمع بين أن يسمع كلاماً في مسجد أو يسمعه في محاضرة عامة أو يسمعه في منتدى فكري أو منتدى ثقافي أو دوارات ينبغي أن يعرف للخطبة ضوابطها وذلك أولاً لأن المسجد له وظيفته وله رسالته وأيضاً الخطبة حينما شرعت في الإسلام لها تأثيرها حينما تؤدي على النحو المأثور عن النبي (, وحينما نقول إنها تعايش العصر ينبغي أن تكون مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بنصوص الكتاب, والسنة وما أجمعت عليه الأمة.
مؤهلات الخطيب
ويشتمل على ثلاثة مباحث
هناك تقسيم ظريف ذكره بعض الكاتبين، وهو تقسيم يفتح الآفاق في النظر والتأمل؛ حيث يقسمون خطباء الجمعة إلى نوعين:
خطيب داعية وخطيب واعظ.(1/13)
-فالخطيب الداعية عنده هو الخطيب ذو الثقافة الواسعة الذي يحمل هموم عصره، ويعرف أوضاع مجتمعه ويجعل هدفه إصلاح المجتمع، ويستمد تعاليمه من كتاب الله وسنة نبيه محمد (، ومن شأن هذا الخطيبب بمعنى المؤهلات لهذا الخطيب حتى يكون داعية أن يكون عالماً يعرف الإسلام معرفة جيدة، قرأ القرآن وحفظه واطلع على السنة وميّز صحيحها وحسنها وضعيفها، ونال حظه من المعرفة بأحكام الإسلام، وميز بين الحلال والحرام، والمكروه والمباح، وعرف معرفة حسنة من تاريخ الإسلام وتاريخ بلاده وأهله وتاريخ العالم ليتمكن من استخلاص العظات والعبر من مصارع الأمم وأوضاعها، كذلك يعرف من تاريخ قضايا الديانات وتقلبها عبر العصور، لما في هذه المعرفة من فوائد وعظات، ولا سيما أن القرآن الكريم نبّه إلى هذا من حيث النظر في تاريخ الأمم وأحوالها، كما في قوله سبحانه وتعالى:( أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها، وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون). الروم 9(1/14)
والخطيب الداعية على هذا التقسيم يستطيع بمعرفة التاريخ والأمم أن يدحض أقوال المتطاولين التي تطعن في الإسلام وحضارته، أو تدعي أن الإسلام لم يحكم الحياة، ولم يكن له تأثير في تاريخ الشعوب، وبذلك ينساق مع الدعاوى القائلة بأنه ليس في الإسلام مشروع إصلاحي، أو لم يكن للمسلمين كذلك مشروع، ومعرفة الخطيب الداعية بالتاريخ تمكنه من معرفة الفرق بين الجاهلية والإسلام، وكيف غيّر الإسلام أوضاع الجاهلية وجاء بإصلاح عظيم في مجالات التشريع والأخلاق والعبادة والعقيدة، ومن هنا فالخطيب يجب أن يكون له إلمام جيد بعلوم عصره، لا سيما في عصرنا الحاضر أيضاً مما يوفر له قاعدة مهمة في إقناع مستمعيه بحديثه؛ مما يحض مستمعي خطبه على حسن الاستجابة لما يقول، ويكتشف أيضاً أخطاء دعاة التوجهات المادية ممن ينقدون الأديان، أو يقللون من شأن ديننا خاصة لأنه دين ودنيا، وهو دين ودولة.
-أما الخطيب الواعظ حسب التقسيم:
فهو يكون أقل تأهيلاً ممن سبقه، فهو رجل له حظه من الفقه والمعرفة بالكتاب والسنة، وله حظ من العربية، وهو يؤدي مهمته في نطاق علمه ومعرفته، وينتفع به، ولكن مجال انتشار خطبه أقل من صاحبه، وربما تصدر منه أخطاء بسبب عدم إدراكه لواقعه إدراكاً جيداً، وعدم معرفته بمكامن الأدواء الاجتماعية، وقد يصدر خليط غير متعمد في بعض الاستشهادات.
وعلى كل حال فإن الخطباء ليسوا على درجة واحدة، وهذا شأن الله وسنته في خلقه، بل حتى الخطباء المتميزون ليسوا على درجة واحدة في اهتماماتهم بأنواع العلوم والمعارف والمواضيع، وحسن طرقها وحسن تقديمها للناس.
دراسة الخطابة وحقيقة الخطيب
قال محمد كاتب المهدي وكان شاعراً رواية وطالباً للنحو علامة قال: سمعت أبا داود يقول وجرى شيء من ذكر الخطب وتحبيرها فقال ((رأس الخطابة الطبع وعمودها الدربة وجناحاها رواية الكلام وحليها الإعراب وبهاؤها تخير الألفاظ والمحبة مقرونة بالشكر)).(1/15)
وقال ((تلخيص المعاني رفق والاستعانة بالغريب عجز والتشادق في غير أهل البادية نقص والنظر في عيون الناس عيّ ومسح اللحية هلك والخروج عما بني له الكلام إسهاب )) فإذا كانت الخطابة لها كل هذا الاهتمام ودراستها لها الأهمية القوية فإني أقول شاكياً ومتحسراً ومتسائلاً ومتعجبا:
كان لرسول الله ( منبر واحد مصنوع من الخشب ليس فيه براعة النقش ولا روعة الفن وقد دعا الأمة منه فلبت الدنيا واستجاب العالم وتغير وجه الأرض وأشرقت بعد ظلماتها وعماهاً واليوم تملك الأمة أكثر من مئة ألف منبر في أنحاء المعمورة أكثرها مزخرف منقوش تفنن في تشييده أهل العمارة وعباقرة الفن تحوي المكبرات والإذاعات التي تحمل الصوت إلى أفاق البلاد فيسمع خطباؤها الملايين ورغم ذلك كله فلا تلمس لها أثراً في إصلاح ولا توجيها للأمة ولا علاجاً للانحرافات والأمراض إلا ما رحم الله.
والجواب فتّش عن المنبر وأهله.. نعم إن المنبر إذا أُحسِنَ
استغلاله والاستفادة منه وتوجيهه كان له أعظم الأثر في الأمة لما
يمثله من مهابة ومكانة في حس كثير من المسلمين.
وإصلاح المنبر لا يكون بزخرفته وتشييده وإنما بالنهوض به وإصلاح من يرتقيه وهو الخطيب, يكون بتبصير الخطيب برسالته ودوره وأثره يكون بإشعاره بمكانة الثغر الذي يقف عليه وتحذيره من أن تؤتى الأمة من قبله.(1/16)
يكون بتكاتف الأمة ولاة وعلماء ودعاة ومصلحين وخطباء وعامة بتكاتف هؤلاء جميعاً وجهودهم للنهوض بالخطبة والخطيب من خلال الدراسات الشرعية التي تعنى بذلك من خلال إنشاء المعاهد والجامعات التي تخرج الخطباء النجباء من خلال تنظيم الدورات التدريبية والمؤتمرات الدورية والتناصح بين الأئمة والعلماء والخطباء وتبادل التجارب والخبرات يكون بالعمل على تحقيق كفاية الخطباء وتوفير سبل الحياة الكريمة لهم وتوفير حرية الصدع بالكلمة دون خوف أو ضرر وهذه الدراسة تمثل خطوة من خطوات النهوض بالخطيب ورسالته, لكن لا يخفي أن هذه الدراسة وغيرها لا تنشئ مستقلة خطيباً مفوّهاً ومتحدّثاً مصقعاً فهي لا تجعل من العيي فصيحاً, ولكنها نبراس ومنار يستضيء فلا يخفاك أن السراج المنير لا يستفيد منه غير البصير بل أرسطو واضع كتاب الخطابة, لم يكن خطيباً بل قال فيه الجاحظ أنه كان بكئ اللسان أي قل كلامه خلقة, والله نسأل أن يوفقنا في هذه الدراسة وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم.
صفات الخطيب:
إن الخطبة كاللباس المفصل على الجسد، لا يظهر جماله ولا يحسن منظره إلا بقدر انسجامه مع بدن لابسه، ولا يكفي لتحقيق الخطبة مقصودها، ولتؤتي أكلها استيفاؤها عناصرها، بل لابد من الانسجام بين الخطيب وخطبته، وكم من خطبة مؤثرة إذا ألقاها غير صاحبها أصابت سامعها بالملل والسآمة، وما ذاك إلا لافتقار الانسجام والموافقة بين الخطيب وخطبته، وسأعرض فيما يلي جملة من هذه الصفات التي ينبغي للخطيب أن يتحلى بها.
أولاً- يمكن تقسيم الصفات المطلوب توفرها في الخطيب إلى نوعين، النوع الأول: صفات وهبية، والثاني: صفات كسبية: ويقصد بها الصفات التي جبل عليها ولم يبذل في تحصيلها دراسة أو مران أو دربة، وهذه الصفات قسمان:
- القسم الأول: صفات ضرورية ولا غنى عنها للخطيب الكامل، وهي:(1/17)
1- طلاقة اللسان: فاللسان أداة الخطيب الأولى وطلاقته، ألزم صفاته وأشد أثراً في نجاحه، وقد يبالغ بعض الناس حتى عدوها ركن الخطابة الوحيد.
2- رباطة الجأش: يجب أن يكون مطمئن النفس واثقاً من نفسه، ثابتاً غير مضطرب، فالمستمعون إن أحسوا بضعفه واضطرابه صغُر في نظرهم، وهان كلامه في أعينهم، كما أن الاضطراب يورث الحيرة والدهشة؛ وهما يورثان الحبسة والحصر، وهذه الصفة وإن كانت وهبية في أصلها إلا أنها يمكن تنميتها واكتسابها بالدربة.
3- جهارة الصوت وحسنه: وهذه من الصفات الضرورية التي تمكن الخطيب من الاستيلاء على نفوس السامعين وجلب إصغائهم إليه، وهذه الصفات وإن كانت فطرية إلا أنه يمكن اكتساب بعضها، كجهارة الصوت المرتفع، ولا نعني بجهارة الصوت الصراخ الذي يسبب نفور المستمعين.
وخير الهدي هدي محمد ( وقد كان عليه الصلاة والسلام إذا خطب احمرّت عيناه وعلا صوته، واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم.
4-سرعة البديهة: حتى إذا وجد من القوم إعراضاً، أو تعرّض لموقف محرج أسعفته بديهته بالخروج من محنته وأزمته، وإلا ضاعت الخطبة وآثارها، وهذه الصفة ترجع إلى حدة ذكاء الخطيب، وشدة انتباهه، وطول تجربته، إضافة إلى ثقته بنفسه، وقدرته على السيطرة على الموقف دونما ضعف أو خوف.
5- رجاحة العقل: وهذه الصفة لازمة للخطيب ولغيره من المربين والموجهين، وبه يتمكن من البحث المركز والملاحظة الدقيقة، والاستنباط الصحيح، وحسن المقارنة والموازنة بين الأشياء، والمعرفة بطبائع الأشياء والأشخاص والأحداث.
-القسم الثاني: صفات تكميلية: وهذه الصفات دون الأولى في
لزومها، ولكن على قدر توافرها في الخطيب تكون مترتبة ، وبها
تتفاوت مراتب الخطباء ومنازلهم، ومن هذه الصفات:
1- قوة العاطفة: فليست النائحة الثكلى كالمستعارة.
لا يعرف الشوق من لا يكابده…ولا الصبابة إلا من يعانيها(1/18)
وإذا لم يكن الخطيب جياش العاطفة، حي المشاعر، رقيق القلب، مرهف الإحساس، خرجت كلماته ميتة لا حياة فيها ولا روح، وكان أشبه بالنائحة المستعارة، ولم تتجاوز كلماته الآذان، فالعاطفة للخطبة كالروح بالنسبة للجسد لكن ينبغي أن تكون هذه العاطفة موزونة بالعقل الرشيد والرأي السديد، وان تكون خاضعة وموافقة لأحكام الشرع المجيد.
2- النفوذ وقوة الشخصية:
وهذه هبة من الوهاب العليم يهبها بعض الناس فتشعر منه بقوة الروح وعظم النفس، وهذه الصفة في الخطيب تكسب كلماته ونظراته وصوته قوة ونفاذاً وتأثيراً عظيماً في الجماهير، وهكذا كان ( من رآه بديهة هابه،ومن عاشره خلطة أحبه وإذا كانت هذه منحة ربانية وهبة لا دخل للعبد فيها إلا أن هناك أسباباً وعوامل تضعفها أو تقويها فمما يضعفها تبذل الخطيب بثيابه ووقوعه في رذائل الأعمال والأخلاق ومزاحه الكثير أو القليل كما سيأتي في آداب الخطيب إن شاء الله.
النوع الثاني من صفات الخطيب- صفات كسبية:
وهذه الصفات ينالها الخطيب بالدراسة والمران والدربة, وهذه الصفات هي:
1- العلم والإطلاع:
وهي أولى الصفات وأهمها على الإطلاق فقد بدأ الله بالعلم قبل العمل فقال لنبيه(:(فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك) وهو البصيرة التي جعلها شرطاً لاتباع سبل نبيه:
( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني)
والخطيب مربٍّ ومعلم وموجه، وإذا لم يكن عالماً مطلعاً كان ضرره أكبر من نفعه، بل لم يكن فيه نفع البتة، والعلم درجات ومنازل منها الضروري ومناه التكميلي، أما العلوم الضرورية اللازمة للخطيب فهي:
1- علوم القرآن والسنة:
وهذه هي لب بضاعة الخطيب ورأس ماله، فالخطيب داعية إلى الله ولا يمكن أن يهدي الناس ويعلمهم ويرشدهم بعيداً عن الكتاب والسنة، وقد قال ( محذّراً من صنيع أولئك الذين يدعون بعيداً عن الكتاب والسنة وإن ذلك من الدخن، فقال في وصفهم: "قوم يهدون بغير هديي ويستنّون بغير سنّتي".(1/19)
أ- الخطيب والقرآن:
لا شك إن حافظ القرآن عن ظهر قلب أقدر على استحضار الآيات والاستشهاد بها وإن هذه الصفة من صفات الكمال للخطيب ولكن لا شك أن هناك قدراً ضرورياً لا غنى للخطيب عنه هذا القدر يتعلق أولاً بالقدرة على التلاوة الصحيحة السليمة لكتاب الله عزَّ وجلَّ بغير لحن، ثم القدرة على استحضار الآيات المتعلقة بموضوع خطبته ومعرفة أقوال أهل العلم في تفسيرها والتمييز بين الصحيح والسقيم والإسرائيليات والموضوعات وغيرها، وليحذر الخطيب أن يقحم الآيات في غير محلها أو يصرفها عن غير وجهها أو يخضعها للنظريات العلمية والاكتشافات العصرية، أو يخضعها لواقعه الزمني أو المكاني إذا كان مخالفاً لدين الله.
ب- الخطيب والسنة النبوية:
وكما قلنا في القرآن فالقول في السنة النبوية وهي تشمل أقوال النبي ( وأفعاله وتقريراته وأوصافه وسيرته عليه السلام، ولكن التأكيد أشد في الحذر من الأحاديث الضعيفة والموضوعة، فهذا مما عمت به البلوى وقلّ من يسلم به.
2- علم العقيدة:
المقصود من هذا العلم أن يكون الخطيب على دراية تامة بالعقيدة الصحيحة (عقيدة أهل السنة والجماعة)، وكذلك معرفة الفرق المخالفة لها والموقف الصحيح منها ولا نعني بذلك الدراسة النظرية المجردة المتعلقة بحفظ المتون والشروح بعيداً عن التحرك بهذه العقيدة وفهمها والتحرك في إطارها ومن خلالها وإذا لم يكن الخطيب على دراية بهذه المسألة فربما نصر الباطل وأعلى شأنه متأثراً بحماسة هوجاء أو عاطفة معماة وهو يحسب أنه يحسن صنعاً.
3- العلم بالأحكام الشرعية المتعلقة بالإمامة والصلاة:(1/20)
وهذه الصفة فرع من الصفة الأولى ولكن أفردناها لأهميتها والتنويه عنها فينبغي أن يكون عالماً بأحكام الإمامة والصلاة وشرائطهما ومصححاتهما ومبطلاتهما وجوابرهما وكيفياتهما وتكميلاتهما ولا يشترط أن يكون عالماً مجتهداً مطلقاً ولا مقيداً ولا أن يكون مفتياً في جميع الأحيان ولا حبراً لجميع الأنام، فإن ذلك من صفات الكمال لا من صفات الصحة والبطلان.
وأما العلوم التكميلية فمنها:
1- علم الرقاق والأخلاق: ونقصد به العلم المستقى من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة الكرام مع اعتقادنا أن خير الهدي وأكمله هدي محمّد ( ، وأن أفضل الطرق والسبل إلى الله ما كان عليه هو وأصحابه رضي الله عنهم، من توجيه الناس للعمل وعلاج أمراضهم واستخلاص آفاتهم وإخراجهم من الطور النظري إلى الطور العملي الذي هو مقصود التوجيه والوعظ وليتحرى الكتب التي تحقق له مقصوده من خلال النظر في الكتب المعتمدة أو الصحيحة التي اجمع العلماء على صحتها وثقة أصحابها.
2- علم التاريخ: فالتاريخ ودراسته يوسع آفاق الخطيب ويطلعه على أحوال الأمم وسير الرجال وتقلب الأيام بها وبهم، وفيه يرى سنن الله الكونية وعاقبة الأمم والمجتمعات والحضارات، وانتصار أو انهزام الدعوات، فالتاريخ مرآة مصقولة تتجلى فيها عاقبة الإيمان والتقوى ونهاية الكفر والفجور، فهو أصدق شاهد على دعوة الرسل وأتباعهم، وقد لفت الله عزَّ وجلَّ في كتابه إلى أهمية القصص والاتعاظ بأحوال السابقين، فقال عزَّ وجلَّ: "قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين" ، وقال: "وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشاً فنقبوا في البلاد"، وقال: "لقد كان في
قصصهم عبرة".
والخطيب والداعية إذا أحسن دراسة التاريخ والإفادة منه كان أعون له في تثبيت المعاني والقيم التي يدعو إليها لاسيما إذا تماثلت الظروف وتشابهت الدوافع.(1/21)
إذا أضفنا إلى ذلك أن كثيراً من القضايا المعاصرة لها جذورها التاريخية وأصولها السحيقة ولا يستطيع فهم الأحداث وتفسيرها من غفل عن هذه الأصول والجذور فلا يدرك حقيقة الصراع وطبيعته اليوم في فلسطين ودور القوى الكافرة فيه، من ينظر إليه بمعزل عن الصراع بين اليهود والنصارى من جهة والمسلمين من جهة أخرى، وهكذا في الصراعات الدائرة في البوسنة وكوسوفا والشيشان وأفغانستان والعراق وغيرها ولا يفوتنا هنا التنبيه إلى المنهج الصحيح في دراسة التاريخ والاستفتاء منه والحذر من الروايات غير الموثقة، فليس كل ما تحويه كتب التاريخ صحيحاً مئة في المئة فكم حوت مراجع التاريخ من مبالغات وتشويهات وتحريفات ربما كان وراءها أهواء وعصبيات سياسية أو دينية أو مذهبية وكذلك يجب الحذر من الاعتماد على كتّاب غير مسلمين من مستشرقين وغيرهم وكتابات غير أهل السنة والجماعة ممن عرف عنهم فكر منحرف أو عداء للسنة وأهلها.(1/22)
3- العلم باللغة والأدب: ويكفي لمعرفة أهمية هذا العلم أن يستمع من له بعض الدراية باللغة ومفرداتها لكثير من الخطباء بل أكثر الخطباء تجد المنصوب عنده مرفوعاً والمرفوع منصوباً أو مجروراً والمجرور مرفوعاً أو منصوباً، وربما سار بعضهم على وتيرة واحدة فينصب كل ما ينطق به لسانه وربما رفعه كله أو جرّه وهكذا يخرج المرء من الخطبة وقد تأذّى سمعه واقشعرَّ جلده واضطرب قلبه، بل ربما تمنى صاحبنا أن لو كان لا يعلم عن اللغة شيئاً حتى تتثنى له الاستفادة من الخطبة والاتعاظ بها وأما الأدب بشعره ونثره وأمثاله وحكمه فهو نافذة الخطيب على الروافع والشوامخ به يتثقف لسانه ويجود أسلوبه ويرهف حسه ومنه تحصل العبارات الرائقة والأساليب الفائقة والصور المعبّرة والأمثال السائرة والحكم البالغة مما يعينه على إيصال المعنى لطبقات السامعين على اختلاف مشاربهم ومآكلهم ومواردهم، وهذه تتأتى بالنظر في أقوال البلغاء والتأمل في مناحي التأثر وأسرار البلاغة، مع الانتباه إلى الحذر من الإغراب في الألفاظ والعبارات والانسياق وراء السجع ومبالغات الأدباء.
4- العلوم الإنسانية:
ومنها علوم النفس والاجتماع ونحوها مما له علاقة وثيقة بموضوع الدعوة والخطابة وهو الإنسان على اختلاف طباعه وثقافاته والإلمام بهذه العلوم يعين على فهم الناس وطبائعهم وأمزجتهم ومناحي التأثير والتوجيه فيهم ولكن ينبغي التنبيه والحذر من الإغراق في هذه العلوم وتلقيها من غير أصحاب العقيدة الصحيحة إلا إذا كان غالب هذه العلوم للأسف الشديد شابتها نزعات الفلاسفة والمناطقة من غير أهل الإسلام أو من أهل الإسلام الذين تبنوا المذاهب الكلامية الفلسفية.
ومن هذه العلوم:
أ- علم النفس:(1/23)
ونقصد به العلم التجريبي الذي انتهت إليه الدراسات النفسية الحديثة القائم على الدراسة العلمية المنهجية للظواهر النفسية على أساس الملاحظة والتجربة والقياس والاختبار ولا نقصد به ذاك الذي كان جزءاً من نظريات باطلة لا دليل عليها وهذا العلم تكمن أهميته في إعانة الخطيب والداعية على فهم نفسية من يتوجه إليهم بالخطاب وما يؤثر فيهم ويشغل بالهم وهل قول ابن مسعود لما قيل له يا أبا عبد الرحمن لوددنا أنك لو ذكرتنا كل يوم، قال: (أما أنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم وإني أتخولكم بالموعظة كما كان رسول الله ( يتخولنا بها مخافة السآمة علينا). هل هذا القول إلا من هذه المشكاة بل هو أصل في هذه المشكاة.
ب- علم الاجتماع:
وهو العلم الذي يعنى بدراسة المجتمع البشري في مختلف جوانبه ويعمل على تحليل ظواهره والكشف عن القوانين التي تحكم مسيرته, وهذا العلم له مدارس عديدة واتجاهات متباينة لكل منها منهاجه في البحث والتحليل ويحسن بالداعية والخطيب أن يطلع على نبذة من أصول هذا العلم وأهم مقرراته وأحدث ما انتهى إليه رجالاته, كما يجب الانتباه إلى ضرورة تناول أسس هذا العلم من منظور إسلامي ووفق العقيدة الصحيحة.
5- الإلمام بأصول الثقافة المعاصرة: فالمسلم اليوم يعيش في(1/24)
عالم مفتوح ما يجري في مشرقه يتم الإطلاع عليه وسماعه وقراءته في يومه بل ربما في ساعته, وكثير من الناس لا يعرفون إلا ما تخاطبهم به وسائل الإعلام العامة ويتلقونها ويرونها حقائق مسلمة لا تقبل الجدل والنقاش ولا يمكن أن يكشف اللئام عن حقيقتها ووجهتها إلا من خلال إعلام إسلامي فعال مواكب جاد، ويبقى منبر الخطباء هو رائد هذا الإعلام وفارسه وصاحب الكلمة العليا فيه ولكن للأسف الشديد فإن بعض الخطباء لا يدركون هذه الحقيقة ولا يروون ظمأ الجماهير التي تأتي المسجد تريد معرفة الحق والنظرة الصحيحة المستقاة من الشريعة الغرّاء لما يجد من ملمات وأحداث ولكنها تصدم بخطيبها الذي لا يدرك عن الأمر شيئاً وربما إذا تحدث عن غير علم ودراية فيزيد الطين بلة، فينبغي للخطيب أن يكون عارفاً بمواقع الثقافة الجديدة وأهوائها الفكرية وخلفياتها وأبعادها القريبة والبعيدة وأن تكون رغبة الجماهير هي المسيطرة والموجهة لدفة المنبر وما يطرحه من موضوعات والمقصود أن كثيراً من القضايا والمستجدات التي تحل بالأمة ويتناولها جميع أهل الأرض إلا أصحاب الشأن وهم المسلمون ولسان حالهم ومقالهم وهم الخطباء، وأهم أصول هذه الثقافة هي:
أ- واقع العالم الإسلامي: فما أقبح بالخطيب أن يجهل أحوال أمته وواقع عالمه وإلا فأين الجسد الواحد ومن أين تستقي الجماهير أخبار إخوانهم وكيف يمكنهم مد يد العون لهم أو على الأقل المشاركة بالدعاء والدعم المعنوي لقضاياهم وأزماتهم.
ب- واقع القوى العالمية المعادية للإسلام :إن تكالب أعداء
الإسلام، وتنوع أساليب الأعداء وتبادلهم الأدوار، فهذا اليوم يقدم بدور الحمائم، وغداً يكون الصقر الذي ينقض على فريسته، ودعاته أمر لا ينكره إلا مكابر، ومع غفلة الأمة عن إدراك حقيقة الصراع وطبيعته يصبح دور الدعاة وخطباء المنابر أمراً لازماً لتبصير الأمة، بهؤلاء الأعداء وأساليبهم ومؤامراتهم.(1/25)
فإدراك الخطيب بهذا الواقع وأساليب الأعداء، وتحذيره الأمة وتبصيرها بذلك من شأنه أن يقيها ضربات مؤلمة، ولكن يجب الانتباه إلى أمرين:
الأول: عدم التهويل والمبالغة في شأنها، الأمر الذي ربما سبب اليأس والقعود، كما أن التهويل يسبب الاستهانة وعدم الأخذ بالأسباب.
الثاني: إدراك طبيعة العلاقة بين هذه القوى المعادية، وأنهم تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى.
ج- واقع الأديان المعاصرة: فمعرفة واقع الأديان المعاصرة وما اعتراها من تحريف وانحراف أمر ذي بال، فمعرفة اليهودية بتوراتها المحرفة وتلمودها ونظرته إلى الأمميين، وانعكاس ذلك على الحركة الصهيونية، وطبيعة الصراع الإسرائيلي، ومعرفة النصرانية بطوائفها وكنائسها، وكذا معرفة أديان الشرق الأقصى الكبرى من هندوسية او بوذية، وطبيعة العلاقة بينها وبين المسلمين، كل ذلك رصيد يحتاجه الخطيب ولا غنى له عنه.
هـ -واقع الحركات الإسلامية المعاصرة وغير الإسلامية
أولاً: معرفة أصولها الفكرية والحركية ومبادئها، وحجم دعوتها
وتأثيرها، والحذر من الحركات المخالفة لسماحة هذا الدين، مع النظرة الصحيحة القائمة على العدل؛ والمستقاة من النظرة الصحيحة في التعامل معها.
ثانياً-من أقسام العلوم الكسبية: الدربة والمران والممارسة: إن الفطرة والاطلاع وثروة الألفاظ والقراءة الكثيرة، والعلم بالأصول الخطابية لا تكفي في تكوين الخطيب؛ لأن الخطابة ملكة وعادة نفسية لا تتكون دفعة واحدة؛ بل لابد لمريدها من المعاناة والممارسة والمران لتنمية مواهبه وعلاج عيوبه، ولم يبدأ خطيب حياته كاملاً إلا المعصوم (.(1/26)
وكثير من الخطباء الناصعين كانت فيهم عيوب كلامية وغيرها فلا زالوا يعالجونها ويتمرسون على الخطابة وأسبابها حتى وصلوا إلى ما هم فيه ورياضة النفس على الخطابة تكون بأمور كثيرة بعضها يتعلق بالإلقاء وبعضها يتعلق بالأسلوب والفكرة ومن الرياضة التي تتعلق بالفكرة أن يعوِّدَ نفسه ضبط أفكاره ووزن آرائه وعقد صلة بينها وبين واقع الناس وأمورهم الحياتية ومنها كثرة التأمل في شؤون الحياة وتعميق الفكرة فيها والدراسة لأحوالها وأن يعوّد نفسه الاتصال بالناس ومعايشتهم لينبض نبضهم ويعيش أحلامهم وأحاسيسهم.
وأما الأسلوب: فيعوّد نفسه إخراج الحروف من مخارجها وقراءة ما يستحسنه بصوت مرتفع مصوراً بصوته معاني ما يقرأ بتغيير النبرات ورفع الصوت وخفضه وغشيان ميادين القول والخطابة.
واغتنام فرصتها غير هيّاب ولا وجل ولا مستحٍ، فإن الاستحياء
في هذا نوع ضعف وهو يجر إلى الحبسة وموت المواهب ويعوّد نفسه الارتجال ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وعليه ألا ييأس إن أصابته حبسة أو ارتباك وعلى الخطيب أن يعلم أن أول طريقة فعالة لتوكيد الثقة بالنفس في فن الخطابة هي أن يقف ويخطب، كما عليه أن يدرك أن الطريقة الوحيدة لتعلم السباحة هي النزول إلى الماء، وثمة أمر هام ينبغي التفطن إليه وهو أن الممارسة ليست فقط لطالب الخطابة بل لزومها ربما يكون أكد لمن شدا فيها وعظم أمره، وهذا عمر رضي الله عنه يوم السقيفة يقول: فزورت في نفسي كلاماً، أي أنه أعدَّ في نفسه كلاماً وهيأها له وهو من هو في البلاغة والفصاحة وهذا (شيشرون) أخطب خطباء الرومان يتمرن على إلقاء الخطبة قبل أن يقدم على إلقائها، وكانت تلك حاله حتى قتل.(1/27)
ومما يتعلق بالفكرة هنا القدرة على استحضارها أو تنمية الذاكرة وهذه مسألة هامة جداً للخطيب المرتجل على وجه الخصوص والذاكرة القوية مع كونها فطرية في أصلها إلا أن أسباب اكتسابها ربما كانت أظهر للخطيب كما أن هناك أموراً هامة يحسن التنبيه إليها وهي:
1- تجنب الخوض فيما لا يعلم: فإن هذا موقع الارتباك والحديث غير المفهوم وهو أحد أسباب ضياع الهيبة والوقار وفقدان الثقة في الخطيب والزهد فيه والنفور منه.
2- مخاطبة الناس بما يعرفون: فمن الخطأ البين وقلة الفقه من الخطيب الخوض في دقائق العلوم والمعارف والخوض في الخلافات والعلوم التجريبية البحتة من طب وتشريح وفلك.. مما لا تدركه عقول
عموم مستمعيه، الأمر الذي يكون له أكبر الأثر في الانصراف عن
الخطيب وربما الاستهانة به وبموضوعه والتندر به.
3- مراعاة مقتضى الحال وأحوال السامعين، ومراعاة عادات الناس وأعرافهم، فلكل مقام مقال ولكل جماعة لسان والحديث إلى العلماء غيره إلى الأغنياء وحديث العامة ليس كحديث العلية وخطاب المثقفين غير خطاب الأميين، وما يقال في الخوف والشدة ليس كما يقال في الأمن والرجاء، ومخاطبة المتحمسين غير مخاطبة النائمين والمتكلم الجيد يعرف أقدار المعاني ويوازن بينها وبين أقدار السامعين وأقدار الأهوال كما أن خطاب أهل القرية المنعزلة المحدودة ليس كخطاب أهل المدينة المكتظة بأهلها وأحداثها، وكذلك لكل جماعة من الناس عاداتها التي تسودها وتسيطر عليها ولها سلطانها على القلوب والأسماع وغفلة الخطيب عن مراعاة ذلك من أعظم أسباب فشله وقد كان الأحنف بن قيس وهو من أبلغ البلغاء والخطباء المعدودين فقيل له لمَ سدت؟ قال: لو أن الناس كرهوا الماء ما شربته ومعنى هذا اعتباره للعرف والعادة ومراعاة أهله.
2- آداب الخطيب:(1/28)
إن الخطيب إنسان يتحدث عن الإسلام، يقرب الناس إليه ويحببهم فيه ويوجههم للعمل بما يدعو إليه، وكل هذه مهام تتطلب صفات وآداباً وخصالاً تحمل الناس على الانقياد له والتسليم له وهذا لا يتأتى من روعة الخطبة وحدها ولا براعة الخطيب ومهارته وإنما هناك أمور وآداب ينبغي لكل خطيب أن يتحلى بها ويتأدب بها إن أراد أولاً
تحصيل مكانة وثواب الداعي إلى الله عز وجل ثم التأثير في الناس
وتوجيههم لما يدعو إليه، ويمكن تقسيم هذه الآداب إلى:
أ-آداب باطنة، ب-آداب ظاهرة.
أ- آداب باطنة: وهي تتعلق بجملة من الأخلاق والآداب التي مردها إلى القلب والنفس وإن كان يظهر أثرها على السمت والظاهر وهذه الآداب هي:
1- الإخلاص: فيقصد بدعوته وخطبته وجه الله وحده لا سواه، ولا يقصد جاهاً ولا شهرةً ولا سمعةً، فالخطابة والدعوة عبادة بل هي من أعظم الأعمال التي يتقرب بها إلى الله عز وجل، ومن ثم فلابد من توافر ركني القبول فيها وهما الإخلاص والمتابعة، وناهيك عن كون الكلمات الجوفاء غير المخلصة التي لا تؤثر في أحد ولا تحرك ساكناً وتخرج ميتة فإن المصيبة العظيمة والطامة الخطيرة في افتقار الإخلاص وعقوبة ذلك في الحياة الأخروية، وفي الحديث الصحيح ((أول ثلاثة تسعر بهم النار يوم القيامة رجل تعلم العلم وعلمه ليقال عالم)).
وعندما يغيب الإخلاص ويلتمس رضا الناس وثنائهم، فإن الذي يحرك الخطيب هو رغبات الناس واختياره لموضوع خطبته وطرحه بقدر ما يحقق له ذلك فليحذر الخطيب من هذا الداء العضال وليعلم أنه لا يجتمع إخلاص ومحبة ثناء وطمع في الناس في قلب أبداً إلا كما يجتمع الماء والنار فمن أراد الإخلاص فليقبل على الطمع أولاً فيذبحه بسكين اليأس وليقبل على حب المدح ويجهز عليه بسيف الزهد والطمع في الآخرة فحينئذ يكون الإخلاص.(1/29)
2- القدوة الباطنة: ونعني بها موافقة العمل للقول وتصديقه له وذلك أن الداعي من المدعو يجري مجرى الطابع من المطبوع، فكما أنه محال أن ينطبع الطين على الطابع بما ليس منتقشاً به، فكذلك محال أن يحصل في نفس المدعو ما ليس بموجود من الداعي فمن كان ذا قول مجرد من العمل لم يكن نصيب المدعو منه إلا القول فكيف يستقيم الظل والعود أعوج وفاقد النور كيف يستنير به غيره. قال مالك بن دينار: إن العالم إذا لم يعلم بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما يزل القطر عن الصفا، ولأن نطق الأفعال أقوى وأبلغ في الإقناع من نطق اللسان، وفي هذا قال الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتي بمثله
ابدأ بنفسك فانهها عن غيّها
فهناك يسمع ما تقول ويشتفى
ججججججج
عارٌ عليك إذا فعلت عظيمُ
فإذا انتهت عنه فأنت حكيمُ
بالقول منك وينفع التعليمُ
وقد ذم الله عز وجل هذا المسلك أشد الذم فقال: (كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) والمقت أشد الكره وأعظمه.
فينبغي للخطيب أن يكون ذا سيرة سديدة وطريقة حميدة غير متهافت على الدنيا ومراتبها صابراً على آفاتها ونوائبها مراقباً لله سبحانه وتعالى في سره وجهره راضياً عنه في عسره ويسره مغتنماً نشاطه مهتماً بتقصيره وجبره محافظاً على العمل بما أمر به في نفسه وخاصته محباً لأهل الله تعالى مبغضاً لأهل مخالفته حذراً من زخارف الدنيا وزينتها غير ملته بعبيدها وشهواتها، كارهاً لرفعتها وشهرتها قائماً بفرائض الله وحدوده، قاعداً عن محاذره ومحدوده مقبلاً على الله معرضاً عما سواه، لا تأخذه في الله لومة لائم ولا قعدة قاعد ولا قومة قائم.(1/30)
3- الحلم وسعة الصدر: فكمال العلم في الحلم، ولين الكلام مفتاح القلوب فيستطيع الخطيب أن يعالج أمراض النفوس ويداوي عللها بهدوء نفسه واطمئنان قلبه وسعة صدره، أما إذا استفزه الغضب واستثاره الحمق، نفرت منه القلوب وأعرضت النفوس، والله عز وجل يقول لخيرة خلقه وخاتم رسله عليه الصلاة والسلام (ولو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) فالناس في حاجة إلى كنف رحيم وإلى رعاية فائقة، وإلى بشاشة سمحة، وإلى ود يسعهم وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم.
4- التواضع: والداعية إلى الله والخطيب الذي يوجههم أحوج من غيره إلى هذا الخلق، فالناس لا يقبلون قول من يستطيل عليهم ويحتقرهم ويستصغرهم ويتكبر عليهم، وإن كان ما يقوله حقاً وصدقاً، كذلك فإن من طبائع الناس أنهم لا يحبون من يكثر الحديث عن نفسه وكثرة الثناء عليها ويكثر من قول أنا.. أنا، كما أن الناس لا يقبلون على أصحاب الأبراج العاجية الذين ينظرون إليهم وإلى اهتماماتهم من علُ، يأنفون أن يخالطوهم عن كثب ويعيشون في معزل عنهم فلا تزاور ولا التقاء؛ بعيداً عن جدران المسجد يلمس الناس في صدق الداعية والخطيب وشفقته وتواضعه.
والتواضع في الأصل يقال للكبار الذين هم في حقيقة الأمر كبار، أما نحن فيقال لكل واحد اعرف قدر نفسك، والإنسان إنما يستطيل ويتكبر ويعجب بنفسه إذا جهل بحقيقة نفسه ولم يعرف قدر ربه وقد يتطرق الكبر والعجب للدعاة والخطباء؛ لما يرون عليه أنفسهم من التفات الناس إليهم واستماعهم لهم والتفافهم حولهم، وهؤلاء على خطر عظيم في الدنيا قبل الآخرة وقد قال بعض السلف: من تكبر بعلمه وترفع وضعه الله به ومن تواضع بعلمه رفعه الله به.
وفي الحديث (من تواضع لله رفعه) ومفهومه أنه من تكبر وضعه وقال عليه الصلاة والسلام (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) ويلزم معرفة الفرق بين التواضع المحمود والمذلة المهينة وما أجمل قول ابن المبارك في ذلك حيث يقول:(1/31)
أساس التواضع أن تضع نفسك عند من دونك في نعمة الدنيا حتى تعلمه أنه ليس لك عليه بدنياك فضل، وأن ترفع نفسك عمن هو فوقك في الدنيا حتى تعلمه أن ليس له بدنياه عليك فضل.
5- ضبط النفس واحتمال المكاره: فالخطابة منصب خطير إذ
تعترض الخطيب مصاعب ومكاره، وقد يقابل بصد أو إعراض وربما
سخرية واستهزاء وعلاجه في ذلك كله الصبر والاحتمال.
6- القناعة والعفة واليأس من الناس: فعلى قدر قناعة العلماء والدعاة والخطباء في الدنيا وتقللهم منها تكون مكانتهم في نفوس الناس، والتفافهم حولهم والانقياد لهم، وعلى قدر تعلقهم في الدنيا تكون زهادة الناس فيهم وعزوفهم عنهم ونفرتهم منهم.
قال سفيان الثوري: العالم طبيب هذه الأمة، والمال داؤها، فإذا كان يجر الداء إلى نفسه فكيف يعالج غيره؟
والقناعة والعفة والاستغناء عن الناس شرف الداعية والخطيب، يقول الحسن البصري: لا يزال الرجل كريماً على الناس حتى يطمع في دينارهم، فإذا فعل ذلك استخفوا به، وكرهوا حديثه وأبغضوه. وقيل لأهل البصرة: مَن سيدكم؟ قالوا: الحسن، قيل: وبِمَ سادكم؟ قالوا: احتاج الناس إلى علمه واستغنى هو عن دينارهم، وفي الحديث: (ازهد فيما عند الناس يحبك الناس).
7- الورع واتقاء الشبهات: والبعد عن مواضع الريبة ومسالك التهمة، فذلك أبرأ لذمة الداعية والخطيب، واسلم لغرضه واهون على الإقبال عليه، وادعى إلى الانقياد له لأن حال الداعي يؤثر في القلوب أكثر من مقاله، وهكذا كان ( وصحابته وأئمة الهدى، وقد حكت لنا كتب التراجم والسير نماذج رائعة لورع السلف، وصوراً أقرب ما تكون للخيال لولا صدق الراوية.(1/32)
وهذا عمر بن عبد العزيز رحمه الله كان يوزن بين يديه مسك للمسلمين، فأخذ بأنفه حتى لا تصيبه الرائحة وقال: هل ينتفع منه إلا بريحه، قال ذلك لما استبعد ذلك منه، وهذا من ورعه رحمه الله، وهذا الفضيل بن عياض رحمه الله كانت له شاة فأكلت شيئاً يسيراً من علف بعض الأمراء، فلم يشرب لبنها بعد ذلك.
وقال ابن المبارك رحمه الله: لأن أردّ درهماً من شبهة؛ خير من أن أتصدق بمئة ألف ومئة ألف ومئة ألف.
وهذا رسولنا ( سيد المتقين وإمام الورعين مرّ بتمرة فقال: لولا أن تكون صدقة لأكلتها. وخبر أبي بكر واستقياؤه معلوم مشهور، أما البعد عن مواضع الريبة ومسالك التهم فواجب، ولهذا فإن من فعل ذلك لا يأمن من إساءة الظن به وسقوطه من أعين الناس فلا ينفع نصحه ووعظه، وهذا رسولنا ( المعصوم الذي لا يظن به مسلم أبداً سوءاً يقول وقد رآه اثنان من أصحابه مع زوجه (إنها صفية) فيكبر على الصحابيين ذلك فيجيبهما: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في الجسد وإني خشيت أن يدخل عليكما). فينبغي للداعية والخطيب أن يتحرز عن كل ما يوهم نسبته إلا مالاً يليق لئلا يوجب سوء الظن به وإن كان له مخلص فذلك سبب لعدم الانتفاع به وبإرشاده.
وعن علي ( قال: إياك وما يسبق إلى القلوب إنكاره وإن كان عندك اعتذاره فرب سامع نكراً لا تستطيع أن تبلغه عذراً.
8- علو الهمة: فينبغي للخطيب أن يكون كبير الهمة عالي النفس مترفعاً عن الدنايا والسفاسف يستصغر ما دون النهاية من معالي الأمور ومثل هذا الخطيب يرتفع بهمم جمهوره واهتمامهم فيصبغون بصبغته ويتخلقون بأخلاقه، وإنما كانت همة الصحابة رضي الله عنهم على هذا النحو العظيم لتأثرهم بهمته عليه السلام وعلو نفسه الشريفة حتى كان الشجاع منهم من يكون قريباً منه في ساحات الوغى.(1/33)
ب- آداب ظاهرة: وهي تتعلق بجملة من الآداب والأخلاق المتعلقة بالسمت والسلوك، وهذه الآداب لها دور بارز مؤثر في تأثير الخطيب في الناس واقتناعهم به وإقبالهم عليه، ومن هذه الآداب:
1- حسن الهيئة: فالخطيب مطمع الأنظار يفعل في القلب فعل الكلام في السمع، فينبغي له أن يتهيأ قبل الخطبة بالطهارة والادهان والطيب والاغتسال والتزين على مقتضى الشريعة في جميع ذلك؛ يقول الماوردي: (ويستحب للإمام من حسن الهيئة وجمال الزي أكثر مما يستحب للمأموم لأن يتبع).
وقال الإمام النووي (ويستحب للإمام أكثر مما يستحب لغيره من الزينة وغيرها) لكن لا ينبغي للخطيب أن يبالغ في ارتداء نفس الثياب بدعوى الوجاهة والوقار لما يترتب على ذلك من حصول فجوة في الغالب بينه وبين الجماهير خاصة إذا كانوا من وسط الناس وخير الأمور الوسط، وأفضل الهدي هدي محمّد (.
2- الوقار والرزانة: وذلك بالإمساك عن فضول الكلام وكثرة الإشارة والحركة فيما يستغني عن الحركة فيه والتحفظ من التبذل بالهزل والقبيح وضبط اللسان من الفحش وذكر الخنا والقبيح والمزاح السخيف فلا كرامة لمبتذل ولا عظمة لمن يسرف في المزاح ويفحش فيه وينبغي له الترفع عن الجلوس في الأسواق وقوارع الطرق من غير ضرورة فإن الإكثار من ذلك مخل بكرامته وفي الجملة ينبغي له التحلي بالسكينة والوقار في جميع أحواله وفي مشيته وكلامه فهو من أسباب اكتساب الهيبة والإجلال عند الناس وأدعى للانتفاع به، لكن يجب الحذر من الخلط بين الوقار والرزانة وبين الكبر والعجب بالنفس والترفع عن الخلق فليس مقصود كلامنا أن يصبح الخطيب شخصاً منبوذاً في مملكة موهومة لا يألف ولا يؤلف ولا يجرؤ أحد على مخاطبته والحديث إليه وهذا رسولنا ( أعظم الناس وقاراً ورزانة ووجاهة وأعظمهم هيبة في نفوس أصحابه، وكانت الأمة تأتيه فتأخذ
بيده فيصحبها حتى تقضي حاجتها.(1/34)
3- المحافظة على السنة: وذلك بالإقتداء به ( ظاهراً وباطناً وهذا أدعى لقبول الناس منه ما يدعوهم إليه من إتباع أمره وسنته وشرعته (.
وبعد هذا البيان لصفات الخطيب وآدابه التي ينبغي له أن تتوفر فيه سأشرع في بيان بعض العيوب التي ينبغي أن يجتنبها الخطيب فإنه لا يطيب الثوب حتى يغسل.
****
عيوب في الخطيب:
يمكن تقسيم العيوب الحاصلة في هذا النوع إلى ثلاثة أقسام:
1- عيوب في الخطيب. 2- عيوب في الخطبة. 3- عيوب نسبية.
أولاً- عيوب في الخطيب ومنها:
1- اللحن: وأفحشه ما كان في آية أو حديث ثم ما كان في كلام الغير، قال عبد الملك بن مروان الإعراب جمال للوضيع واللحن هجنة على الشريف والعجب آفة الرأي، وكان يقال: (اللحن في المنطق أقبح من أثار الجدري في الوجه)، وإن أعظم أسباب اللحن الجهل بعلمي النحو والصرف، قال الأصمعي: (إن أخوف ما أخاف على طالب العلم إذ لم يعرف النحو أن يدخل في جملة قوله ( ((من كذب عليَّ متعمّداً فليتبوأ مقعده من النار)) لأنه ( لم يكن يلحن فمهما رويت عنه ولحنت فيه كذبت عليه ولذا ينبغي للخطيب أن يتعلم من النحو واللغة ما يقوم به لسانه ويسلم به من هذه الآفة.
2- التصحيف: وأكثر ما يقع لمن يقرأ من كتاب فيصحف نظره بسبب رداءة الخط أو ضعف البصر أو عدم استيعاب ما يقرأ أو عدم التركيز فيه أو غير ذلك من الأسباب وقد حصل لبعض الفضلاء أن قال في خطبته وهو يقرأ من ورقة: ومن ترك واجبات الحج متعمداً يأثم ويكفر. بتخفيف الفاء فنبهه بعض الناس بعد قضاء صلاته فبادر إلى تصحيح خطئه وقال: الصواب يأثم ويكفّرَ أي من الكفّارة.(1/35)
- الخطبة المكتوبة: ومن العيوب التي ينبغي التنبيه إليها في هذا المقام- وإن كانت هي ليست من التصحيف- انتقال البصر من سطر إلى سطر آخر أو من فقرة إلى فقرة أخرى، أو أن تنقصه ورقة أو يختل ترتيب أوراقه ولا ينتبه لشيء من ذلك وهذا بعض مساوئ الخطبة المكتوبة وهي عيوب حادثة لم يذكرها المتقدمون لأن الخطبة عندهم لا تكون بالقراءة من كتاب فهذه قراءة وتلك خطبة فهما فنّان مستقلان متباينان.
3- اللفف والعجلة: والمراد باللفف التباطؤ في الكلام حتى كأن لسانه قد التف والمراد بالعجلة السرعة في الإلقاء فكما أن الإسراع مذموم لما فيه من تفويت الفهم على السمع فكذلك التباطؤ مذموم لما فيه من بعث الملل والضجر في قلوب السامعين والسنة الاقتصاد في ذلك، فعن عائشة رضي الله عنها قال:
ما كان رسول الله يسرد كسردكم هذا ولكنه كان يتكلم بكلام بينه فصل يحفظه من جلس إليه، وقد تكون سرعة الإلقاء طبعاً في الخطيب وقد تكون سببها طول موضوع الخطبة أو القراءة من كتاب.
4- كثرة الحركة: وذلك كالعبث باللحية أو الساعة أو النظارة أو الثوب أو العمامة فإنها منقصة من هيبة الخطيب ومدعاة للازدراء والاحتقار وأنشد بعضهم في ذم ذلك فقال:
مليء ببهر والتفات وسعلة
ومسحة عثنون وفتل الأصابع
وسبب هذا العيب هو ترك سنة الاستناد أثناء الخطبة.
فينبغي للخطيب أن يعالج هذا العيب بوضع يديه على المنبر أو العصا وأن يستشعر حرمة المقام ويراعي لحظ المخاطبين وتجدر الإشارة هنا إلى أن الحركة اليسيرة الموزونة لا بأس بها بل قد تكون أحياناً مطلوبة لزيادة الإفهام وهي التي كان النبي يستعملها في بعض خطاباته كما في قوله: (بعثت أنا والساعة كهاتين) وقوله: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين) أو كإشارة بالسبابة إلى السماء وغير ذلك.
قال بعض الأدباء الإشارة واللفظ شريكان ونعم العون هي له ونعم الترجمان هي عنه وما أكثر ما تنوب عن اللفظ وما تغني عن الخط.(1/36)
5- البهر والارتعاش والرعدة والعرق: وهذا العيب من أشد العيوب وطأة على الخطباء لأنه يعتري الخطيب قسراً ويغلبه قهراً، فإذا اعتراه أفقده توازنه وأوقعه في الاضطراب الشديد وقد يصل به الأمر إلى أن يضطر إلى قطع خطبته فلا يستطيع إكمالها مهما حاول حتى إن بعضهم لا يقوى على القيام، وهذا العيب غالباً ما يعتري المبتدئين الذين لم يستعدوا نفسياً ولم يتدربوا لهذا المقام، وقد يعتري غير المبتدئين وذلك إذا علم أن من بين الحضور أناساً يوقرهم ويعظمهم ويكبرهم.
6- ضعف الصوت: صوت الخطيب هو الآلة التي يبلغ بها خطبته فإذا كان صوته ضعيفاً كان التبليغ ضعيفاً فلا يحصل مقصود الخطبة، ولذا كان النبي ( إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته كأنه منذر جيش يقول: ((صبحكم ومساكم)).
وقد كانوا يمدحون الجهير الصوت ويذمون الضئيل الصوت ولكن يمكن للخطيب الذي أصيب بضآلة الصوت أن يذهب ذلك بالمراس والمران.
7- عدم التفاعل مع الخطبة: لا يخفى أن الخطبة قد تشتمل على فنون شتى متغايرة، فقد تشتمل على الترغيب والترهيب وعلى التحذير والتبشير وقد تشتمل على ما يقتضي الحزن أو الفرح أو الغضب أو الخوف، والخطيب الموفق يعطي كل مقام حقه من الانفعال والتغيير، وسبب هذا العيب في الغالب هو خروج الكلام من اللسان دون القلب، ومتى حصل ذلك لم تؤت الخطبة ثمارها وقال عامر بن عبد القيس:
الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تجاوز الآذان.
والتفاعل الذي ننشده هو التفاعل الحقيقي الصادق وليس التفاعل الصوري المتكلف فهذا يضر صاحبه ويجعله هزأة عند المستمعين، وأشد عيباً من عدم التفاعل، التفاعل بما لا يناسب الكلام فإنه يبعث في السامع التعجب والحيرة فيشغله محاولة تفهم هذا التصرف من الخطيب عن الإنصات لخطبته.(1/37)
8- استغلال المنبر لأغراض شخصية: وهذا العيب من أخس العيوب ويقع فيه بعض الخطباء لقلة دينه وضعف إيمانه أو لضعف شخصيته، ومن صوره أن ينتقم الخطيب لنفسه أو يدافع عن نفسه أو يدعو إلى نفسه وهذا من أكبر العدوان على المخاطبين، قال بعض الفضلاء: إن شر السراق الخطباء الذين يستغلون المنابر لأغراض شخصية لأنهم يسرقون أعمار الناس فهم شر ممن يسرق أموالهم، ومن مضار هذا العيب:
* الإضرار بالدعوة.
* عدم أداء الواجب الشرعي.
* المساس بقيمة الخطيب ومكانته.
* انتهاك حرمة المنبر وتعطيل مهمته.
فالخطيب في حقيقة الأمر لا يمثل شخصه وإنما يمثل منصباً شرعياً فإذا لم يؤدِ الذي ينبغي كما ينبغي، كانت فتنة على الشرع، ومن أمثلة ذلك خطيب بحضرة بعض الأغنياء تناول موضوع فضل الصدقة وحثهم على التصدق على أهل العلم والدعاة إلى الله وغرضه من ذلك أن يتصدقوا عليه؛ ومنه أمثلته أيضاً خطيب يرد على شخص بعينه تصفية للحسابات، ومن أضرار ذلك أن لا يفهم الخطبة إلا قائلها والمردود عليه ومن عنده علم بقضيتها، وقد وصل الحد ببعض الخطباء في بعض المجتمعات أن يمكث نصف عام من الزمن وهو في صراع ونزاع شخصي مع خصمه في كل جمعة صولة وجولة.
9- استغلال المنبر لأغراض حزبية أو طائفية أو عصبية: وذلك بنشر أهداف ومبادئ حزب ما أو فرقة ما من خلال المنبر وهذا كله على حساب الدين والدعوة فهو مناف للغرض الذي أسس من أجله المنبر بل هو مناف كذلك لرسالة الإمام الشرعي.
10- محاكاة غيره من الخطباء: وذلك في طريقة الإلقاء وفي النبرات والسكتات وفي الحركات والسكنات، ومن أسباب هذا العيب ضعف شخصية الخطيب أو ولوعه بمن يحاكي ويقلد ومن أضراره خروج الخطبة من كونها حقيقة إلى الصورية فيصير الخطيب كأنه ممثل.(1/38)
11-التشدق وتتبع الغريب والوحشي: لقد عاب النبي على أولئك الذين يتشدقون في الكلام وذلك بقوله: (إن أبغضكم إليَّ وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون) قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارين والمتشدقين فما المتفيهقون، قال (المتكبرون). كما تجدر الإشارة إلى أن من العيوب التي يقع فيها بعض الخطباء تتبع الغريب والوحشي من الألفاظ فإن هذا مناف للمقصود من الخطبة فإن مدار أمر الخطابة على البيان والتبيين وعلى الإفهام والتفهيم واختيار الألفاظ النبيلة للمعاني الجليلة وليس العكس.
12- الجفاء والغلظة والقسوة على المخاطبين: وذلك بتوجيه الألفاظ النابية وأصناف الشتائم وألوان السباب إليهم وتنْزيل نصوص الوعيد عليهم واحتقارهم والتكبر والتعالي عليهم وجرح مشاعرهم ومن مساوئ هذه الآفة أن يمقت الناس بالإضافة إلى ما يلزم من ذلك من تزكية الخطيب لنفسه وإعجابه بها واغتراره وكبره، ولتجنب ذلك ينبغي للخطيب أن يكون حكيماً وأن يستعمل التواضع والتودد والرفق واللين وأن يشعر المخاطبين بأنه يريد نفعهم وأنه حريص على نجاتهم في الدنيا والآخرة.
13- عدم الاعتناء بالهيئة: وهذا خلاف السنة فإذا كان من السنة لعموم الناس يوم الجمعة أن يغتسلوا وأن يستنوا وأن يتطيبوا وأن يلبسوا من جميل الثياب، فكيف بالخطيب الذي ترمقه الأبصار وتتجه إليه الأنظار، وإن الخطيب إذا ابتذل في مظهره احتقره الناس وربما أهانوه وصرفوا عن الاشتغال بالإنصات إليه، إلى الاشتغال بالنظر إلى هيئته، وكما أن الابتذال في الهيئة عيب ومذموم فكذلك الاعتناء الزائد على المشروع والخارج عن العرف والذي ينبغي للخطيب الاعتدال في ذلك وأن لا يخرج عن المعروف والمألوف.(1/39)
14- الصوت النمطي المطرد على وتيرة واحدة: وذلك كان يستوي عنده الاستفهام والتعجب والإنكار والإخبار والأمر وغير ذلك، ويستوي عنده أيضاً مقام الغضب ومقام الرضا ومقام الفرح ومقام الحزن، ومن أسباب هذا العيب عدم تفاعله مع الموضوع، أو عدم استيعابه له، ومن أضراره أنه يصعب بسببه فهم كلامه، ويبعث الملل في نفوس المستمعين، ويقذف فيهم النعاس، وتشرد أذهانهم لأنه ليس في طريقة الإلقاء ما يشدهم ويلفت انتباههم.
15- مناقضة لسانه لحاله: وهذا من أعظم العيوب وأخطرها وأشدها ضرراً على الخطيب وعلى الدعوة، وما أكثر الآيات والأحاديث التي تذم الذي يقول ما لا يفعل، وتبين ما له من الوعيد يوم القيامة، ثم إن ضررها على الدعوة محقق؛ لأن الناس ينظرون إلى الأفعال أكثر من نظرهم إلى الأقوال، فإذا وجدوا تنافراً بينهما كان ذلك فتنة لهم.
16- النحنحة والسعلة: وهذه الآفة تكون عيباً إذا تكرر صدورها من الخطيب بحيث تقطع كلامه، وتقلل الفائدة من خطبته، وقد ذموا ذلك فأنشد سحيم بن حفص وقال:
نعوذ بالله من الإهمال
ومن كلام الغرب في المقال
ومن خطيب دائم السّعال
ثانياً-عيوب في الخطبة: وهي عيوب تكون في معنى الخطبة أو مبناها، ومنها:
1-خلوها من التشهد والثناء على الله، والصلاة على النبي المصطفى ( قال صلى الله عليه وسلم: ( كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء) أي كاليد المقطوعة أو المصابة بالجذام، قال المناوي نقلاً عن ابن العربي: (أراد بالتشهد هنا الشهادتين من إطلاق الجزء على الكل كما في التحيات)، ثم نقل عن القاضي قوله:( أصل التشهد الإتيان بكلمة الشهادة، وسمي التشهد تشهداً لتضمنه إياهما ثم اتسع فيه فاستعمل في الثناء على الله تعالى والحمد لله).
وقد كانت العرب تذم الخطبة إذا لم يكن في أولها حمد لله وصلاة(1/40)
على النبي ( فقد خطب الفضل بن عيسى الرقاشي إلى قوم من بني تميم، فخطب لنفسه، فلما فرغ قام أعرابي منهم فقال: توسلت برحمة الله وأدليت بحق، واستندت إلى خير، ودعوت إلى سنة، ففرضك مقبول، وما سألت مبذول، وحاجتك مقضية إن شاء الله تعالى. قال الفضل: لو كان الأعرابي حمد الله في أول كلامه، وصلى على النبي عليه السلام لفضحني يومئذ، أي لبلاغته وفصاحته، وكان خطباء السلف الصالح وأهل البيان من التابعين بإحسان يسمون الخطبة التي لم تبتدئ بالتحميد، وتستفتح بالتمجيد( البتراء)، ويسمون التي لم تُوشّح بالقرآن، وتُزيّن بالصلاة على النبي (بالشوهاء).
2- الطول الممل والقصر المخلّ: إن المقصود من الخطبة هو إفهام المخاطبين وإقناعهم بمضمون الكلام الموجه إليهم فكل ما يحول دون ذلك عيب يجب اجتنابه، وأعظم ذلك الإطالة التي هي أدعى لسقطات اللسان وتبعث الملل والسآمة في الإنسان، ولهذا قال النبي ( (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة وإن من البيان سحراً)، وقوله (مئنة من فقهه) أي علامة على فقهه ودليل عليه.
قال بعض الأدباء: للكلام غاية ولنشاط السامعين نهاية وما فضل عن قد الاحتمال ودعا إلى الاستتقال والملال فذلك الفاضل هو الهذر وهو الخطل وهو الإسهاب التي سمعت الحكماء يعيبونه، لكن ينبغي للخطيب وهو يراعي مجانبة هذا العيب أن يجانب أيضاً الوقوع في ضده وهو القصر المخل وخير الأمور الوسط، فعن جابر بن سمرة ( قال: كنت أصلي مع رسول الله ( فكانت صلاته قصداً وخطبته قصداً. ويند عن الذم ما يقتضيه الحال والمقام من طول أو قصر ومما مدحوا به الطول والإيجاز إذا وقعا موقعهما قول داود بن حريز الإيادي:
يرمون بالخطب الطوال وتارة
وحي الملاحظ خيفة الرقباء
3- خلوها من نصوص الكتاب والسنة:(1/41)
وقد عد بعض الفقهاء من أركان الخطبة ذكر آية من كتاب الله تعالى فلا يحسن بالخطيب أن يخلي خطبته من القرآن الكريم وكذا من سنة المصطفى ( فإن ذلك مما يورث الكلام البهاء والوقار والرقة وسلس الموقع وقد كانت العرب تعيب ذلك فقال بعضهم في خطيب مصقع (هذا الفتى أخطب العرب لو كان في خطبته شيء من القرآن)، وكان ( يعظ في خطبه بالقرآن الكريم، فعن صفوان بن يعلي عن أبيه أنه سمع النبي ( يقرأ على المنبر (ونادوا يا مالك) بل ربما بأكملها فعن أخت لعمارة قال: أخذت (ق والقرآن المجيد) من في رسول الله ( يوم الجمعة وهو يقرأ بها على المنبر في كل جمعة.
4- كثرة الشعر فيها: وقد يصل الحد ببعض الخطباء إلى أن ينْزل الشعر منْزلة الكتاب والسنة فيستدل به كما يستدل بالكتاب والسنة بل بعضهم قد لا يستدل إلا به وهذا عيب كبير وطريق إلى تقرير الباطل إذا كان ذلك الشعر مشتمل على باطل. قال الجاحظ: وأكثر الخطباء لا يتمثلون في خطبهم الطوال بشيء من الشعر على أن الاستشهاد بالشعر الذي له وقع في النفس ويؤيد المعنى الذي نسج له الكلام لا بأس به إذا كان بقدر وناسب المقام وقد كان بعض خطباء
العرب تفعله.
5- اشتمالها على ألفاظ منكرة شرعاً أو عرفاً:
مثال الألفاظ المنكرة شرعاً، أن يقول: ما شاء الله وشاء فلان أو يقول: من أطاع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما... والمراد بالألفاظ المنكرة عرفاً ما اتفقت طباع القوم على استقباحه واستهجانه فعلى الخطيب أن يتجنبه وأن يعدل عنه إلى بديل يعرفه القوم ولا ينكرونه، وهذا يختلف باختلاف البقاع والأصقاع وعليه يلزم من أراد أن يخطب في قوم أن يعرف لسانهم وعاداتهم وأعرافهم حتى لا يقع فيما يصدهم عنه ويسقطه في أعينهم.(1/42)
6- اشتمالها على باطل: وهذا من أخطر العيوب وأشدها ضرراً، خاصة إذا كان الخطيب مفوّهاً فيتوصل بحسن كلامه؛ وتنميق عباراته إلى تقرير باطل؛ كعقيدة فاسدة أو بدعة محدثة، أو معاملة محرمة، أو معصية لله ورسوله (.
7- طغيان الأسلوب العلمي على الأسلوب الأدبي: من مظاهر هذا العيب أن يستعمل الخطيب مصطلحات علمية دقيقة لا يدركها عامة الناس، ومن مظاهره أيضاً التوسع في تخريج الأحاديث وعزوها، والكلام على طرقها وعللها مما يخرج الخطبة من حدها إلى حد المقالة والمحاضرة.
ثالثاً- عيوب نسبية: قد يكون الخطيب مصقعاً متوفراً فيه جميع شروط الخطابة ، وخالياً من العيوب، وتكون خطبته بالغة الغاية في الجودة مبنى ومعنى، ولكن خطبته لا تناسب المكان الذي هو فيه، أو الزمان الذي هو فيه، والناس الذين يخطب فيهم، وهذا ما نعني بالعيوب النسبية.
1-عدم مناسبة الخطبة للمخاطبين: وسبب هذا العيب في الغالب هو الجهل بواقع المخاطبين وأحوالهم ومستوياتهم وأعرافهم، فلا يراعي في خطبته المستوى العلمي واللغوي لدى المخاطبين؛ فيتناول موضوعاً يفوق فهمهم، ويستعمل ألفاظاً لا يدركها أكثرهم، ولتحاشي هذه الآفة على الخطيب أن ينوب في استعمال المرادفات حتى يقع على اللفظ الذي يفهمه السامع، ويصل إلى المعنى الذي يريد أن يبلغه.(1/43)
وعن بعض الأدباء( وليس يشرف المعنى بأن يكون من معاني الخاصة، وكذلك ليس بأن يكون من معاني العامة، وإنما مدار الشرف على الصواب؛ وإحراز المنفعة من الخطاب مع موافقة الحال، وما يجب لكل مقام من المقال، فمن تمكن من البلاغة في البيان على أن يفهم العامة معاني الخاصة، ويكسو الخطبة بالألفاظ المتوسطة التي لا تلطف عن الدهماء، ولا تجفو عن الأكفاء فهو البليغ التام والخطيب المصقع). وقال بشر بن المعتمر: ينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني ويوازي بينها وبين أقدار المستمعين وبين أقدار الحالات فيجعل لكل طبقة من ذلك كلاماً ولكل حالة من ذلك مقاماً حتى يقسم أقدار الكلام على أقدار المعاني ويقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات، وأقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات.
2- عدم مناسبة الخطبة للمكان: وذلك كأن يتناول في قلب الصحراء موضوع المنكرات التي تحصل في شواطئ البحار أو يتكلم عن أحكام زكاة الزروع والضروع في مكان ليس فيه زرع ولا ضرع أو غير ذلك فعلى الخطيب أن يراعي المكان الذي هو فيه وأن تكون خطبته مواتية للظرف الذي يخطب فيه.
3- عدم مناسبة الخطبة للزمان: وذلك كأن يتبين فضل الجهاد وبعض أحكامه في زمان فتنة أو يتكلم عن فضل العشر الأواخر من رمضان في أشهر الحج أو يتناول فضل الحج في شهر رمضان أو غير ذلك من نظائرها مما يقع فيه الخطباء كعدم مراعاة الأحداث والمناسبات الشرعية ذات الشأن.
* * * * *
- الطريق إلى إعداد وإلقاء الخطبة ويشتمل على مرحلتين:
الأولى: إعداد الخطبة
الثانية: إلقاء الخطبة.(1/44)
مهمة الخطيب شاقة ولا ريب مشقة تحتم عليه أن يستعد الاستعداد الكافي في صواب الفكر وحسن التعبير وطلاقة اللسان وجودة الإلقاء، إن الخطيب بلسانه ورقة جنانه وتمكنه يقتلع جذور الشر من نفس المجرم ويبعث في نفسه خشية الله وحب الحق وقبول العدل وإن عمله إصلاح الضمائر وإيقاظ العواطف النبيلة في نفوس الأمة وبناء الضمائر الحية وتربية النفوس العالية في عمل متواصل وجهد متجرد يرجو ثواب الله ويروم نفع الناس.
أثر الخطابة: لا يكاد ينجح صاحب فكرة أو ينتصر ذو حق أو يفوز داعية إصلاح إلا بالكلمة البليغة والحجة الظاهرة والخطبة الباهرة، وثمة جانب في التأثير الآخر ينبغي مراعاته وهو أن تأثير الخطيب في سامعيه ليس بالإلزام أو الإفحام، بل مرده إلى إثارة العاطفة وحملهم على الإذعان والتسليم ولا يكون ذلك بالدلائل المنطقية تساق جافة ولا بالبراهين العقلية تقدم عارية ولكنه بإثارة العاطفة ومخاطبة الوجدان.
ولنتحدث بالتفصيل عن هاتين المرحلتين:
1- المرحلة الأولى- إعداد الخطبة- وتشمل ثلاث خطوات:
1- الخطوة الأولى تحديد موضوع الخطبة:
حدد موضوعك مسبقاً حتى يتسنى لك التفكير فيه طيلة أيام التحضير، بعض الخطباء يقترف خطأً كبيراً باختيار المواضيع التي تهمه وإهمال المواضيع التي تهم المستمعين لذلك ادرس جمهورك وفكر بحاجاته ورغباته.
2- الخطوة الثانية- التفكير الصحيح:
التفكير والاستنتاج والتذكار من أهم مقومات التحضير الجيد وبالتالي فهو يحتاج إلى التركيز وإعمال الذهن، إذا حددت موضوع خطبتك رتب جميع الأفكار المتعلقة بالمادة التي تخطر ببالك ودع عقلك يبحث عن المزيد منها تلك هي الطريقة التي من خلالها يتدرب العقل على الإنتاج وبها تبقى عملياتك الذهنية نشطة وبنّاءة.(1/45)
فكر بالموضوع مراراً، ناقشه مع أصدقائك واجعله موضوع حديثك، اسأل نفسك جميع الأسئلة الممكنة التي تتعلق به، وينبغي أن يكون التفكير في جو هادئ بحيث لا يحول بينك وبين حديث النفس ومراجعة العقل أي حائل، كما ينبغي أن تكون عند التفكير والإلقاء فارغاً من الشواغل النفسية حاضر الذهن سريع البديهة.
3- الخطوة الثالثة- الجمع والانتقاء:
على الخطيب أن يجيد التعامل مع المراجع المتعلقة بموضوعه ويأخذ منها الأدلة التي تقوي حجته ويقتبس منها الشواهد التي تتعلق بخطبته، أمام الخطيب سيل جارف من المعلومات فما الذي يختاره منها ليقدمه إلى مستمعيه؟ من العيوب التي يقع فيها بعض الخطباء أنهم ينقلون المعلومات لمجرد النقل بعيداً عن النظر والانتقاء، بل ربما بعضهم نقل الخطبة بكاملها وقت إلقائها فأنى لهذا أن يكون ملمّاً بموضوعه فضلاً على أن يكون مؤثراً في خطابه، إن الجمع والانتقاء الذكي يقوم على أمرين:
1- العمق والشمولية: وهو في جميع المعلومات له عدة فوائد منها:
* التأكد من صحة المعلومات الواردة في الخطبة.
* انتقاء أفضل المعلومات وأنسبها لتحقيق الهدف من الخطبة.
*اكتساب الخطيب قوة مؤثرة في إلقاء الخطبة بسبب إلمامه الوافر وقناعته بما يعرضه على الناس.
2- حسن التمييز: وذلك باختيار أنسب المعلومات وصياغتها بأرقى العبارات ثم دمجها في وحدة فنية متجانسة كما قال أحد الباحثين (أنتجت مليون عينة نباتية لأجد واحدة أو اثنتين منها أفضل من سائر العينات وبعد ذلك أتلفت جميع العينات الرديئة).
- صياغة الخطبة:
تبنى الخطبة عادة على ثلاثة أجزاء:
أولاً: المقدمة. …ثانياً: الموضوع.……ثالثاً: الخاتمة.
عناصر متداخلة متناسقة يبلغ الترابط بينها جودته حسب مقدرة الخطيب وغزارة علمه وخبرته وقد لا يلزم مراعاة هذه الأجزاء في خطبة قصيرة، لكن الخطب الطويلة كخطبة الجمعة غالباً ما تبنى على هذه العناصر.(1/46)
أولاً: المقدمة: ينبغي أن يهتم الخطيب بمقدمته وافتتاحيته فيأتي
بعبارات الاستهلال التي توحي للسامع بمقصود الخطبة مما يشد الانتباه ويهيئ النفوس وقد يكون ذلك بآيات قرآنية زاجرة أو مرغبة أو بعض الحكم البليغة، وإن الناظر في افتتاحيات السور في القرآن الكريم يدرك ما تثيره في النفس من الإجلال والشوق والرغبة في المتابعة، ومعروف عند المتقدمين من السلف رحمهم الله أن ما لا يبدأ بالحمد فهو الأجذم الأبتر، وما لم يزين بالصلاة على رسول الله فهو المشوه.
كيف تفتتح الخطبة: من المهم أن تفتتح الخطبة بمقدمة مثيرة وبشيء يأسر الانتباه في الحال وإذا أردت أن تستخدم مقدمة يجب أن تكون قصيرة كلائحة الإعلان لأن ذلك يتطابق مع مزاج المستمع للحديث الذي لسان حاله يقول: أعطنا ما عندك بسرعة واجلس. ومن الخطأ الذي يقترفه الخطيب المبتدئ الاعتذار في مقدمته بكونه ليس بخطيب أو أنه ليس لديه ما يقوله فهذا الأمر يضعف تفاعل الجمهور معه فلا تفعل ذلك أبداً بل ابدأ بشيء مثير منذ الجملة الأولى والله الموفق.
مقترحات للافتتاحية:
1- أثر الانتباه: الخطيب الناجح هو الذي يثير انتباه المستمعين من أول جملة يتلفظ بها فإنه بذلك يحوز على اهتمامهم ومتابعتهم ورغبتهم في متابعة الاستماع إلى الخطيب.
2- قصة مثيرة: إنها بداية مثيرة جداً فالنفوس تحب الاستماع إلى القصص والروايات ومتابعة أحداثها أكثر من الكلام النظري المجرد.
3- سؤال يحرّك الأذهان: من الافتتاحيات المميزة أن يبدأ
الخطيب بطرح سؤال لاستدراج الجمهور إلى التفكير والتعاون معه وأضمن الطرق لفتح أذهان الجمهور والدخول إليها.
4- ضرب الأمثال: يصعب على المستمع العادي أن يتتبع العبارات المجردة طويلاً لكن من السهل عليه الاستماع إلى الأمثلة، لماذا إذن لا تبدأ بواحدة منها.؟(1/47)
5- الاستعراض لبعض وسائل الإيضاح: من الطرق السهلة لجذب الانتباه استعراض شيء يتطلع إليه المخاطبون والمثال على ذلك عن علي بن أبي طالب ( قال: أخذ الرسول ( حريراً بشماله وذهباً بيمينه ثم رفع بهما يديه فقال: (هذان حرام على ذكور أمتي حلّ لإناثهم.).
6- ربط الموضوع بمصالح المستمعين أو واقعهم الملموس: ابدأ ببعض الملاحظات التي تعالج مباشرة مصالح جمهورك الشخصية فهذه من أفضل الوسائل الممكنة للبدء بالخطبة ومن المؤكد أن تستحوذ على الانتباه فالإنسان يهتم دائماً بالأشياء التي تمسه وتمس واقعه الذي يعيش فيه.
7- قوة الانتباه الناتجة عن الحقائق الباهرة: إن الحقائق الباهرة التي يعرضها الخطيب بأرقام معبرة كالإحصائيات التي تجري بين الحين والآخر على ما يجري من شؤون وأحداث تحدث أثراً في النفوس لا تحدثه آلاف الكلمات.. أو أوصاف ساحرة كأن يتحدث مثلاً عن مأساة شعب مسلم يفترش الأرض ويلتحف السماء بأجساد عارية وبطون خاوية، فإن ذلك يشد انتباه المستمعين شداً أهم بكثير من
المعلومات المجردة.
8- الإجمال قبل التفصيل: من المقدمات الناجحة أن يقدم الخطيب لمستمعيه عرضاً مجملاً لعناصر الموضوع ثم يشرع في تفاصيل الخطبة فإن في ذلك فتحاً لأذهان المستمعين ومعيناً لهم على فهم الخطبة ومتابعة أجزائها.
ثانياً: الموضوع: وهو مقصود الخطبة الأعظم وقد يكون من المناسب التصريح به مبتدأ الخطبة ولاسيما إذا كان من قضايا الساعة التي يخوض فيها المجتمع ويتطلع إلى كلام شاف، وقد لا يحسن التصريح به إما لأنه شائك أو يوجب انقسام الناس وفي هذه الحالة ينبغي أن يدخل عليه الخطيب دخولاً متدرجاً ويتناوله تناولاً غير مباشر ليأخذ السامعين بتسلسل منطقي إلى مبتغاه باعتدال، وموضوع الخطبة عادة ما يبنى على ركنين أساسيين هما:
1- العرض والإيضاح.
2- الاستدلال.(1/48)
أما العرض والإيضاح: فبذكر الصفات والخواص والمزايا لذات الموضوع، وقد يكون بالاستعارات والتشبيهات؛ وضرب الأمثال بإجمال ثم بالتفصيل أو بالاستدلال، فغالباً ما يحتاج الموضوع إلى ما يدعمه بالأدلة والبراهين والحجج والشواهد، وتكون عادة من السنة والكتب، وإيراد بعض الوقائع والأحداث من باب القياس والاعتبار.
ما الهدف من الخطبة: الخطبة رسالة موجهة لها هدف محدد، فعلى الخطيب أن يحدد هدفه من الخطبة، ويبدأ فيها ويعيد عرضاً وتكراراً عبر أجزاء الخطبة، والسعي إلى تحقيقه، وأهداف الخطبة كثيرة ومتنوعة، منها: إيضاح أمر غامض، أو تصحيح مفهوم خاطئ، أو حث على فعل معروف، أو ترك منكر، أو إقناع بفكرة معينة.
وحدة الموضوع: غالباً ما يفشل الخطاب لأن الخطيب يبدو وكأنه يسعى لإنشاء سجل العالم خلال وقت محدد، فيقفز من نقطة إلى أخرى بسرعة؛ فيخرج المستمع بلا شيء عن كل شيء، ولهذا ينبغي أن يقتصر الخطيب على موضوع واحد يستوفي عناصره، ويحبر كلماته، ويستوعب معالجته لأن تشعب المواضيع وتعدد الوصايا في المقام الواحد يشتت الأذهان وينسي بعضها بعضاً.
اختيار الألفاظ: ينبغي أن تكون ألفاظ الخطبة سهلة النطق لا يتعثر اللسان في إبرازها، ولا تزاحم حروفها، فلا تتقارب مخارجها ولا تتباعد، كما ينبغي أن تكون ذات جرس خاص يهز النفس ويثير الشعور، وتكون الجمل ذات جمل قصيرة كل جملة في معناها، أما عبارات الخطبة فينبغي أن تتسم بالوضوح والبيان لتكون سهلة الإدراك من السامعين، إن من البيان لسحراً، عن عمار بن ياسر ( قال: سمعت رسول الله ( يقول:(إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة واقتصروا الخطبة، وإن من البيان لسحرا).
وإن من أهم خصائص الأسلوب الخطابي عنصر الشعور والوجدان، والإثارة والتشويق الذي يسحر القلوب، ويأخذ بالألباب، فعلى الخطيب أن يعتني بالأساليب البلاغية، ويختار لكل عبارة قالبها المناسب.(1/49)
مراعاة السامعين: ينبغي للخطيب أن يراعي حال التأدية استعداد السامعين، فينزل في العبارة مع العامة على قدر عقولهم متجنباً الألفاظ اللغوية البعيدة عن مداركهم، ويتوسط مع الأوساط، ويتأنق مع الخاصة، فيكون مع جميع الطبقات حكيماً يضع الأشياء في مواضعها، وفي كل حال يتجافى في كلامه عن كل زخرف باطل.
المقارنة بين الواقع والمأمول: في نقد الأخطاء وتقويم السلوكيات قد يسأم الناس إذا اقتصر الناقد على الأفكار النظرية فقط لكن قلما يفشل في جذب انتباههم والتأثير في نفوسهم إذا عرض بعض المشاهد من أحوالهم الملموسة وقارن بين هذه المشاهد والمشاهد من الأحوال الصحيحة المأمولة، إن أكثر الأشياء إثارة لاهتمامنا هي أحوالنا التي تقع فيها إذ كل واحد منا يشعر في هذه الحالة بأنه معني بهذا الكلام دون سواء.
بين الجدية والدعابة: ربما تكون واحداً من الذين يمتلكون روح المرح والدعابة فإن كان الأمر كذلك فنمِّ هذه الروح بكل الوسائل، تكن موضع ترحيب أينما خطبت، ويمكنك تسريب روح الدعابة هذه باللجوء إلى أمثلة محلية من واقع المخاطبين تلائم المناسبة ولكن ليكن كل ذلك متناسباً مع نوع الخطبة وحال السامعين فما يقال في حفل ترويحي ليس كما يقال في خطبة الجمعة.
مبدأ التكرار: التكرار من أهم مبادئ فن الخطابة لأن تفهم الأفكار الجديدة يحتاج إلى وقت طويل بحيث يبقى الذهن مسلطاً عليها وينقسم التكرار إلى قسمين:
-القسم الأول: تكرار الجمل الطويلة: وهذا النوع لا يحسن أن يكون بالألفاظ ذاتها إذ النفوس تنفر من ذلك بل يكون بعبارات جديدة بل وبأساليب مختلفة تارة بالتقرير وتارة بالاستفهام وتارة بالترغيب أو الترهيب وتارة بالاستنكار وغيرها من الأساليب البلاغية وفي القرآن الكريم الكثير من هذا النوع ومن ذلك تقرير التوحيد وقصص الأنبياء وأحداث القيامة.(1/50)
-القسم الثاني: تكرار الكلمات الرئيسية أو الهامة: فإذا مرّ الخطيب بهذه الكلمات فله أن يكررها حتى نثبت في قلوب السامعين, فعن أبي بكرٍ رضي الله عنه قال: قال النبي ( (هل أنبئكم بأكبر الكبائر, ثلاثاً: قالوا: بلى يا رسول الله, قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين, وجلس وكان متكئاً فقال, ألا وقول الزور) قال: فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت.
توضيح الأفكار بأحوال ووقائع محددة: إن إحدى الوسائل المضمونة والسهلة التي توضح الأفكار, هي توضيحها بأحوال ووقائع محددة, كن واقعياً ومحدداً إذ إن صفة التحديد لا تزيد من الوضوح فحسب, بل إنها تزيد من الإقناع والإثارة لدى المستمعين.
طول الخطبة: فن الإيجاز والأطناب يختلف من حال إلى حال بحسب حال السامعين في إقبالهم ومللهم ونوع الموضوع وظروف الإلقاء ويحسن من الخطيب أن يعود سامعيه على زمن معتدل ثابت يلتزمه فإنهم إذا عرفوه بانضباطه ودقة التزامه أحبوه ولازموا حضوره ومن الخير للخطيب وجمهوره أن ينفضوا وهم متعلقون به
من غير ملل أو سآمة.
إن الخطيب الذي لا يصوغ خطابه ليتناسب مع روح العصر السائدة والمتميزة بالسرعة, لن يكون موضوع ترحيب وفي بعض الأحيان سينال كراهية الآخرين, لذلك كن مختصراً.
الجدة والتغيير: ويعني ذلك أن لا يلتزم الخطيب طريقاً واحداً أو وتيرة واحدة في أسلوبه وطريقة إلقائه بل استفهامية تارة وتقريرية أخرى, ضرباً للأمثال وتلمساً للحكم والأسرار مع ما يطلب من معايشة الأحداث ومتابعة المتغيرات.
ثالثاً- الخاتمة: بعد أن يفرغ الخطيب من عرض موضوعه وسوق أدلته وضرب أمثلته وبيان دروسه وعبرِه وترهيبه, يحسن أن ينهي خطبته بخاتمة محببة تكون قوية في تعبيرها وتأثيرها لأنها آخر ما يطرق سمع السامع ويبقى في ذهنه.(1/51)
كيف تختم الخطبة: هل تود أن تعلى في أي جزء من أجزاء خطبتك تظهر تجربتك ومهاراتك وبراعتك؟ في الافتتاحية وفي الخاتمة كما قيل (تعرفهم من خلال دخولهم وخروجهم), إن الخاتمة في الحقيقة هي أكثر النقاط إستراتيجية في الخطبة فما يقوله الإنسان في النهاية أي ما يبقى يرن في آذان المستمعين هي الكلمات التي ربما تبقى عالقة في أذهانهم, ويجب أن يخطط الخطيب للخاتمة مسبقاً، ويدرك بالتحديد الأفكار التي سينهي بها خطبته، إن الخطباء المشهورين شعروا أنه من الضروري كتابة وحفظ الكلمات المناسبة لخاتمتهم، فإذا ما اتبع المبتدئ خطواتهم فإنه نادراً ما يندم على ذلك، ولأن الخطاب المرتجل قد يعدل أو يختصر خلال عملية الأداء ليناسب التطورات غير المرتقبة، ويتناغم مع انفعالات المستمعين، فإن من الحكمة أن تخطط لخاتمتين أو ثلاث، فإن لم تناسب إحداهما تناسب الأخرى.
مقترحات للخاتمة:
1- آيات كريمة أو حديث نبوي: يمكن للخطيب أن يختم بآيات لم يسقها من قبل تجمع موضوعه في الترغيب والترهيب أو التدليل والإثبات، وقد تكون حديثاً مناسباً.
2- دعاء: بين يدي الخطيب طائفة من الأدعية القرآنية أو النبوية المأثورة، ويمكن أن يختار منها ما يناسب الموضوع ويجعله خاتمة لخطبته، كما ينبغي أن ينشئ من دعائه الخاص ما يدعم الهدف المراد من الخطبة، ويقويه في نفوس المستمعين.(1/52)
3-تلخيص الأفكار: الخطيب ميال إلى تغطية أفكار كثيرة حتى في خطاب قصير تتراوح مدته بين ثلاث أو خمس دقائق، ومع ذلك قلة من الخطباء تدرك ذلك، فهي تفترض أن تلك الأفكار واضحة وجلية في أذهانها وبالتالي هي واضحة في أذهان المستمعين، لكن الأمر يختلف كلياً لأن الخطيب كان قد فكر ملياً بما سيقوله بينما أفكاره كلها هي جديدة بالنسبة للمستمع بعضها يعلق في الذهن ومعظمها يتدحرج باضطراب، فعلى الخطيب أن يتدارك هذا الأمر بأن يختم بخاتمة تجمع أفكاره وتلخص موضوعه بعبارات ميسرة وطريقة مختصرة، وقد قيل: (أخبرهم أولاً بما تنوي إخبارهم به ثم أخبرهم بما أخبرتهم).
4- مقتطفات شعرية: في الحقيقة إذا استطعت الحصول على
قطعة شعرية ملائمة لنهايتك يكون الأمر مثالياً فهي تمنحك النكهة المطلوبة وستمنحك التفرد والجمال، ودواوين الشعر كثيرة جداً والخطيب الناجح ينتقي منها أروعه وأعذبه وإذا أعياه البحث في الدواوين أو ضاق به الوقت فليستعن بالكتب التي تعتني بجمع وتصنيف المقطوعات الشعرية الجيدة على حسب المواضيع المختلفة.
5- خاتمة مرحة: فقد قبل (اتركهم دائماً يضحكون عندما تختم حديثك) إذا كنت تملك القدرة على فعل ذلك بلا تكلف وكان نوع الخطبة والموقف مناسباً فإن الأمر يكون جيداً.
2- المرحلة الثانية: إلقاء الخطبة:
الإلقاء هو الغاية التي ينتهي إليها الإعداد والبناء وهو الصورة التي يتعلق بها السامع حصيلة ما جاد به خطيبه تنمية للشجاعة والثقة بالنفس إن كسب الثقة بالنفس والقدرة على التفكير بهدوء أثناء التحدث إلى مجموعة من الناس ليس أمراً صعباً مثلما يتخيل معظم الناس وليس موهبة محضة وهبها الخالق لأفراد قليلين، بل إن جزءاً كبيراً منها مكتسب وباستطاعة كل فرد أن ينمي طاقته الكامنة إذا كانت لديه رغبة كافية لذلك لا تتصور أن حالتك صعبة فمعظم الذين أصبحوا فيما بعد خطباء أجيالهم أصيبوا في بادئ الأمر بالخوف وضعف الثقة بالنفس.(1/53)
كيف تكتسب الثقة بالنفس:
1- الاستعانة والثقة بالله: تذكر أنك إنما تخطب وتتكلم بحول الله تعالى وقوته فإن الله تعالى أطلق لسانك وإن شاء عقده ولو وكلك الله إلى نفسك لعييت وعجزت، إن حنجرتك التي هي وعاء خروج الأصوات ولسانك وشفتيك وأسنانك التي تصيغ الحروف والنغمات إنما هي خلق من خلق الله الذي أنطق كل شيء، واعلم أن الله معك، شاهد ومطلع عليك، نظره أسبق من نظر المخاطبين إليك، فاعتصم بالله وليكن لك في نبي الله موسى عليه السلام، أسوة حسنة حيث قال فيما حكاه عنه القرآن الكريم ((رب اشرح لي صدري* ويسر لي أمري* واحلل عقدة لساني* يفقهوا قولي)).
2- الإلمام بالموضوع: لا يستطيع الإنسان أن يشعر بالارتياح حين يواجه مستمعيه إلا بعد أن يفكر ملياً ويخطط حديثه ويعرف ما الذي سيقوله، قام بعض المبتدئين ليتحدث عن موضوع ليس لديه الإلمام الكافي نحوه فاضطربت عباراته واهتزت ثقته بقدراته فاتهم نفسه بالفشل وعدم القدرة على الخطابة والسبب في الحقيقة إنما يعود لسوء التحضير والتخطيط.(1/54)
3- التصرف بثقة وتفاؤل: قد يقول قائل: كيف أتصرف بثقة وأنا أشعر بالخوف، قد يبدو أن الفعل يلي الشعور فالتصرف بشجاعة لا يمكن أن يصدر إلا ممن يشعر فعلاً بالشجاعة، لكن علماء النفس اكتشفوا أن الفعل والشعور يسيران معاً ويؤثر كل منهما على الآخر ومن خلال تعديل الفعل الذي هو ضمن قدرة الإرادة نستطيع أن نعدل الشعور بشكل غير مباشر ولهذا فإذا ما فقدت الشعور بالسرور الطبيعي فإن طريقك إلى السرور هو أن تتحدث وكأنك مسروراً مسبقاً ولكي تشعر بالشجاعة أن تقف وكأنك شجاع، وقد جاء في السنة ما يشير إلى هذا المعنى في تربية النفس وذلك فيما ورد: في التباكي عند فقد البكاء الطبيعي. فقد ثبت عن عمر بن الخطاب ( في أسرى بدر أنه لما رأى النبي ( وأبا بكر يبكيان قال: (يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما).. وروي هذه المعنى مرفوعاً في حديث: (ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا).
ثم تفاءل، فالتفاؤل سبب قوي في الوصول إلى المراد، ولهذا كان الرسول ( يحب الفأل لأنه من حسن الظن بالله، فإياك والتشاؤم، ولسنا نعني بهذا الكلام أن يسبح المرء منا في أوهام التفاؤل السلبي بل المقصود التفاؤل الإيجابي الذي يبعث الأمل ويشحذ الهمم ويقوي العزيمة على المبادرة واتخاذ أنجع الأسباب لبلوغ الهدف.(1/55)
4- المران والتدريب: إن أول وآخر طريقة فعالة لتوليد الثقة بالنفس في فن الخطابة هي أن تقف وتخطب، فالأعصاب تهدأ تماماً من خلال العادة والتمرين الدائم لقوة الإرادة فإن كان لدى الإنسان خطاب فإنه سيجد الكلام أكثر حين يعده ويتدرب عليه باستمرار، فقف مستقيماً وتطلع إلى عيون الجمهور، ابدأ الكلام بثقة وكأن الجميع يدينون لك بالمعروف لا تعبث بملابسك أو تفرك يديك وإذا اضطررت للقيام بحركات عصبية نتيجة التوتر، امسك شيئاً أمامك بشدة كالمنبر أو طاولة، ومن المفيد أن تسجل خطابك بواسطة مسجل الصوت أو الفيديو ثم تقوم بالمراجعة وتلمس أوجه القصور لتتغلب عليها في المرات المقبلة.
كيف تستحضر موضوعك:
إذا كتب الخطبة لموضوع فهو مخير بين أمرين:
1- إن شاء حفظه وألقاه.…2- وإن شاء ذكر مضمونه.
وليحذر جهده من قراءته على الناس من ورقة فإن ذلك يضعف قوته ويذهب بتأثيره في النفوس كما هو مشاهد.
والأمر الثاني أحسن الأمرين حتى لا يكون مقيداً بعبارات خاصة فإذا عرض له أمر جديد أثناء الخطابة أمكنه القول فيه وكثير من الحفاظ إذا نسوا جملة تلعثموا أو ارتج عليهم فيفقدون هيبتهم في نفوس السامعين، وما أحوج الخطيب إلى الهيبة والجلال؛ فكان من الأحسن والمصلحة ألا يتقيد بعبارة يحفظها بل يتخير من العبارات ما يؤدي المعاني التي حصل عليها ببحثه وتفكيره هذا إذا كتب الموضوع وإن شاء عدم الكتابة واكتفى برسم الموضوع في مخيلته وتسطيره في ذاكرته التي قواها بالمران والممارسة كان أحسن وأكمل.
مهارات الإلقاء الجيد:
1- طريقة الوقوف: إن الوقوف الصحيح له دوره في ارتياح الخطيب أثناء إلقاء الخطبة مما يزيد ثقته بنفسه كما أنه يساعده على التنفس الصحيح الذي يساعد في فعالية الصوت.(1/56)
2- لا تبدأ بعجلة: بعدما تنهض لمخاطبة جمهورك لا تبدأ بعجلة فهذه هي السمة المميزة للمبتدأ تطلع إلى جمهورك للحظة إن كانت هناك ضجة توقف قليلاً حتى تزول ابق صدرك عالياً ولكن لمَ الانتظار لفعل ذلك أمام الجمهور لمَ لا تفعل ذلك يومياً حين تكون منفرداً بذاتك
عندئذ يمكنك أن تفعل ذلك تلقائياً أمام الناس.
3- احذر الصدمة الأولى: إن الكلمات الأولى التي يتفوه بها الخطيب في اللحظات الأولى من وقوفه أمام الجمهور تختلف عن غيرها من كلمات الخطيب ذلك لأنه يستقبل موقفاً جديداً يكتنفه الغموض والخوف، فهو يقف أمام الجمهور لأول وهلة وجهاً لوجه وربما سيطر عليه شبح الخوف من الفشل أو الخطأ أو عدم قبول الناس له فيصاب بالتوتر العصبي مما يؤدي إلى ذهوله عن الموضوع مع أنه في الحقيقة ما أن يبدأ في الكلام حتى يشعر بالطمأنينة والثقة. ولهذا الأخ الكريم نقول: إن كلمات المقدمة من أهم العوامل المؤثرة في الخطبة فبها يكتسب الخطيب الثقة بنفسه وبها يحكم الجمهور على هذا الشخص الماثل أمامهم ولهذا أخي الكريم ضاعف جهودك في إعداد المقدمة وتكرارها واستحضارها حتى تكون من الوضوح مثل اسمك تماماً.
4- الاتزان وضبط النفس: الاتزان يعني الطمأنينة والهدوء، وتجنب إحداث أي حركة في غير محلها لأن ذلك يمنح انطباعاً عن الضعف وقلة الثقة بالنفس.
5- التواصل مع المخاطب والتحدث بشكل مستمر: يجب أن يشعر المستمع بأن هناك رسالة موجهة من الخطيب على قلبه، إن الجمهور الحديث؛ سواء كان في اجتماع أو تحت خيمة يريد من الخطيب أن يتحدث بشكل مباشر، كما لو كان في جلسة سمر بالأسلوب العام الذي يستخدمه أثناء محادثة واحد منهم، إذا كنت تخطب أمام الناس فإنك ستستحوذ على استحسانهم إذا كنت تخطب بأسلوب طبيعي، لدرجة أن مستمعيك لن يحلموا أبداً بأنك تلقيت تدريباً على فن الخطابة.(1/57)
إن مهمة تعليم أو تدريب الناس على الإلقاء ليست من المهام الصعبة الإضافية، بل إنها مسألة إزالة العوائق وتحريرهم من القيود، واستدراجهم للتحدث بشكل طبيعي، والطريقة الوحيدة لاكتساب هذه الطبيعة هي التدريب.
6- جودة النطق: مخارج الحروف العربية متعددة معلومة، فعلى الخطيب أن يخرج كل حرف من مخرجه الصحيح، لكن مع مراعاة السلاسة والسهولة وعدم التكلف، فإن النفوس تنفر من النطق والتشدق، وقد قال الرسول ( ( هلك المتنطعون).
وينبغي للخطيب أن يعتني عناية تامة باللغة العربية صرفاً ونحواً، فيتكلم بلغة عربية صحيحة فصيحة، وإذا أعياه الأمر فليقرأ خطبته على من يصحح له عباراتها، ويضبط كلماتها.
7- مجانبة اللحن: الإلقاء السريع المتعجل يفقد المتابعة، كما أنه قد يشوه إخراج الحروف فيختلط بعضها ببعض، وتتداخل المعاني، وتلتبس العبارات، وقد يصل التعجل إلى إهمال الوقوف عند المقاطع ومراعاة الفواصل،
وهذا التمهل الذي ندعو إليه لا ينبغي أن يقود إلى هدوء بارد، وتثاقل مميت.
8- تميز الكلمات الهامة بالمؤثرات اللفظية: إن لغتنا العربية مليئة بالمؤثرات والمحسنات اللفظية التي تضفي على الكلمة طابعاً مميزاً جذاباً، فيمكن للخطيب أن يؤكد الكلمات الهامة ويلفت انتباه السامع بهذه المؤثرات، كالتشديد على كلمة، أو الغنة في كلمة، والمد في أخرى، وقد يجتمع أكثر من مؤثر لفظي في الكلمة الواحدة فيقوى تميزها كقوله تعالى:( فإذا جاءت الطامة الكبرى).
9- تغيير نبرة الصوت: من أسباب ضعف التأثير وتطرق الملل والسآمة إلى المستمعين أن يتحدث الخطيب بطبقة رتيبة على وتيرة واحدة عندما تجد نفسك كذلك ابحث عن أي جملة مناسبة لتغيّر من خلالها نبرة صوتك بما يتوافق مع أسلوب الجملة، ومما يساعدك على القيام بهذا التغيير أمران:
1- التوقف اليسير.……2- التدريب.(1/58)
10- تغيير سرعة الكلام: فالأفكار الرئيسة، والجمل الهامة ينبغي أن يلاحظ في إلقائها عدم التؤدة وعدم الاستعجال تمكيناً لاستيعاب السامع لها، وتعزيزاً لأثرها في النفوس.
11- التوقف قبل الأفكار المهمة وبعدها: الخطيب الناجح يعرف أين يتوقف أثناء خطبته، فإذا مرّ بفكرة هامة يرغب في ترسيخها في أذهان مستمعيه توجه إليهم، وأحدق بهم للحظة دون أن يقول شيئاً.
هذا الصمت المفاجئ له نتيجة الصحوة المفاجئة، وهو يجذب الانتباه ويجعل كل إنسان منتبهاً ومتحفزاً لما سيتلو ذلك الصمت، وكذا يقال في التوقف بعد كل جملة يراد توكيدها، فهو يضيف إلى قوتها قوة أخرى من خلال الصمت ويؤدي رسالته، لكن يجب أن يكون التوقف بشكل طبيعي دون تكلف، وقد قيل: ( من خلال صمتك تتكلم)، فالصمت ليس ذهبياً أكثر مما يستخدم عندما تتكلم، وهو أداة قوية وهامة لا ينبغي إغفال ذلك، فهي مهمة من الخطيب المبتدئ.
12- ماذا يجب أن تفعل بيديك؟: لا تفكر فيهما، فإذا انسدلتا بشكل طبيعي إلى جانبك يكون الأمر مثالياً، ولا تظن أبداً أن أحداً سينتبه لهما، أو أن لديه أدنى اهتمام بهما، هذا إضافة إلى أنهما ستكونان متحررتين للقيام بحركات تلقائية عندما يستدعي الأمر ذلك.
13- الحركات والإشارات: للحركات والإشارات أثرها الهام في الخطابة وهي نوعان:
أ- حركات لا إرادية: فالغاضب يقطب جبينه ويعبس وجهه، وذو الحماس تنتفخ أوداجه، وتحمر عيناه، ومنهم من تنقبض أصابعه، ومنهم من يعلو صوته حماساً وتفاعلاً، ومنهم من يبكي رقة وخشوعاً.
ب- حركات إرادية: تعكس الانفعال والمشاعر، وتعين على مزيد من المتابعة والتوضيح، كل ذلك يعتمد على مزاج الخطيب؛ وعلى تحضيره وحماسه وشخصيته وموضوعه، وعلى الجمهور والمناسبة، وإذا استخدمت الإيماءات والإشارات بمهارة وبلا تكلف، وكانت ملائمة لمعاني الكلمات المصاحبة لها، فإنها من الممكن أن تكون أداة عجيبة لإيصال الأفكار، وتحريك المشاعر.(1/59)
14- الاتصال البصري: لابد من توزيع النظر على الجمهور، فعيناك هما الحبل الذي يربطك بهم، يعرفون من خلاله مدى اهتمامك بهم، وتعرف أنت من خلاله مدى اهتمامهم بما تقول، وهذا يزيد ثقتك بنفسك ويخلصك من الارتباك والتوتر،كما أنه يفيدك في معرفة ردود فعل المستمعين وانطباعهم لتجري على موضوعك، أو طريقك إلقائه التعديل المناسب.
15- ما هو دور الابتسامة المشرقة؟: الابتسامة من أبرز مظاهر الشخصية، فهي تكسب الثقة في الحال، وتظهر حسن نية المرء بسرعة، تقول حكمة صينية:( من لا يستطيع الابتسام يجب أن لا يفتح متجراً، فالابتسامة المرحبة مطلوبة أمام الجمهور، كما هي مطلوبة وراء الحاسبة في المتجر). وهناك خطباء يتقدمون بأسلوب بارد متكلف، وكأن عليهم القيام بمهمة مزعجة؛ فيحمدون الله عند انتهائهم، ونحن أيضاً كمستمعين نقوم بذلك لأن هذه الأساليب تنتقل بالعدوى.
16-ما هو تأثير الملابس على الخطيب والمستمع؟: في أحد البحوث أجمع كل الأفراد على أنهم عندما يكونون بمظهر لائق وأنيق يشعرون بتأثير ذلك في منحهم الثقة بالنفس والرفع من قدرهم الذاتي، هذا هو تأثير الملابس على من يرتديها، فما هو تأثيرها على الجمهور؟ إن لها أثراً عليه، فإذا كان الخطيب لا يعتني بملبسه فإن الجمهور لا يكنّ إلا له الاحترام الضئيل، وإذا اعتاد الناس في مجتمع ما على لبس الخطيب أو الداعية لباساً معيناً، فليعتنِ الخطيب بهذا؛ لأن ذلك يسبب مراعاة لعرف المخاطبين وقبولهم، وتعزيزاً لأثر خطبته في نفوسهم.
17- اجمع جمهورك: الحقيقة أن الجمهور لا يشعر بالإثارة عندما يكون متفرقاً، وما من شيء يقضي على الحماس كالفراغات الواسعة، والكراسي الفارغة بين المستمعين.
لذا أخي الكريم اجمع جمهورك فإنك تستطيع إثارته بنصف
الجهد، كون الإنسان وسط جمهور ضخم يفقد فرديته حيث يصبح فرداً من الجمهور.(1/60)
لا تقف أمام المنبر إلا عندما يكون الجمهور ضخماً، وهناك سبب يدعو لذلك، أقم روابط حميمة واجعل خطابك كالحديث، وأبق الجو منعشاً.
18- أرنا وجهك واهتم بالإضاءة: يهتم الناس برؤية الخطيب لأن التغييرات التي تطرأ على تعابير وجهه هي جزء حقيقي من عملية التعبير عن الذات، وهي تعني في بعض الأحيان شيئاً أكثر مما تعنيه الكلمات، أما الإضاءة فالخطيب العادي ليس لديه أدنى فكرة عن أهمية الإضاءة المناسبة، لذا فإنه من الحكمة أن يختار قبل أن ينهض للخطبة البقعة التي تمنحه أفضل إنارة.
وأخيراً أخي الخطيب الحبيب استعن بالله، ولا تعجز، واعلم أن هذه الكلمات التي ضمنتها كتابي هذا ما هي إلا خطوط عريضة وقواعد منهجية يمكنك أن تجعلها أمام ناظريك لتكن خطابتك بحق وجدارة خطابة دينية حضارية، بدايتها التوكل على الله، وموضوعها الاستعانة بالله، وخاتمتها الدعاء إلى الله، والله الموفق، وهو نعم المولى ونعم النصير.
أنواع الخطابة
1-الخطابة السياسية
تعريفها:
هي التي تدور حول الشؤون العامة للدولة، فتشمل الخطب التي تُلقى في البرلمان، وفي المجتمعات الانتخابية، والأندية الحزبية، والمؤتمرات الدولية السياسية، سواء تعلقت بأمور خارجية كالمعاهدات والحرب والسلام، أو بأمور داخلية كالتعليم والاقتصاد والزراعة والتشريع ونظام الحكم.
عوامل ازدهارها:
هذا النوع من الخطابة يزدهر في الدول الدستورية لأنه وليد الحرية.
وقد بدأ عند اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد، إذ كان الحكم جمهورياً، للشعب فيه القيادة والتوجيه، فارتبطت السلطة الحاكمة برضا الشعب وتأييده، واعتمد طلاب الحكم على استرضاء الشعب وإقناعه، وكانت الخطابة وسيلتهم إلى ذلك.
ثم ارتقت عند الرومان في الجمهورية الديموقراطية، إذ كانت شؤون الدولة تناقش في حرية بمجلس الشيوخ وبالمجتمعات الشعبية.(1/61)
والحق أن الحياة السياسية عند اليونان والرومان كانت أعظم مشجع على ازدهار الخطابة السياسية، لأنها كانت الوسيلة الوحيدة للاتصال بالشعب، ولأن المهن التي تشغل الناس في أيامنا هذه وتستنفد جهودهم كالصناعات والطب؛ كانت عند اليونان والرومان من أعمال الأرقاء، أما الأحرار فقد كان هدفهم الوصول إلى الوظائف العامة، والمشاركة في الحكم.
وفي العصر الحديث عظم شأن الخطابة في الحكومات الديموقراطية النيابية كإنجلترا وفرنسا.
والعصر الحديث عصر الخطابة السياسية، لكثرة الأحزاب المختلفة في وسائلها وغاياتها، المعتمدة على الخطابة في إقناع الجماهير بصواب الحزب وابتغائه الخير للأمة، وفي استمالتها إلى نصرة الحزب وتأييده، وفي تفنيد برامج الأحزاب الأخرى وانتقاص أعمالها, ثم لقوة اتصال الأمم, فقد ألغت وسائل الاتصال المسافات, وربطت العالم ربطاً تنجم عنه مشكلات دولية ومؤتمرات لدراستها وحلها, والمؤتمرون يتسلحون بالخطابة وتأثيرها, ثم لانتشار الحكومات الديمقراطية والمجالس النيابية وفيها يتواصل الخطباء, ثم ليقظة بعض الشعوب التي كانت في سبات وتطلعها إلى حياة راقية كريمة, على أن الوعي القومي نضج عند بعض الأمم, وكاد ينضج في بعضها, وهذا من شأنه أن يوقظ الناس إلى حقوقهم فتزدهر الخطابة.
3- من خطبة لسعد زغلول في 19 سبتمبر سنة 1923م.(1/62)
((يقول خصومنا إننا حماة الأقلية فيكم, لأنكم قوم متعصبون, فلابد من أن نبقى بينكم لنحفظ العدل فيكم, هذه الحجة سقطت باتحادكم, ولكنهم الآن انتهزوا فرصة الانتخاب ليبثوا الانقسام فيكم فأحذروا هذه الدسيسة, واعلموا أنه ليس هناك أقباط ومسلمون, ليس هناك إلا مصريون فقط, ومن يسمونهم أقباطاً كانوا ولا يزالون أنصاراً لهذه النهضة, وقد ضحوا كما ضحيتم, وعملوا كما عملتم, وبينهم أفاضل كثيرون يمكن الاعتماد عليهم, فاحثوا التراب في وجوه أولئك الدساسين الذين يفرقون بين مصريين ومصريين, إنه لا امتياز لواحد على آخر إلا بالإخلاص والكفاءة... ولولا وطنية في الأقباط وإخلاص شديد لتقبلوا دعوة الأجنبي لحمايتهم, وكانوا يفوزون بالجاه والمناصب بدل النفي والسجن والاعتقال, ولكنهم فضلوا أن يكونوا مصريين معذبين محرومين من المناصب والجاه والمصالح, يسامون.
أمثلة للخطابة السياسية:
1- منها خطب الخلفاء حين توليتهم, والولاة والعمال حينما يعهد إليهم بالولاية, ليبينوا للناس سياستهم أو يبشروهم بوعود, أو يسكنوا من ثورة, ويخمدوا من فتنة.
ولعل أول خطبة من هذا النوع هي خطبة أبي بكر بعد بيعته, التي قال فيها:
((أيها الناس إني قد وليت عليكم ولست بخيركم, فإن رأيتموني على حق فأعينوني, وإن رأيتموني على باطل فسدّدوني, أطيعوني ما أطعت الله فيكم, فإذا عصيتم فلا طاعة لي عليكم.
ألا إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له, وأضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم)).
الخطابة القضائية
تعريفها: هي التي تُلقى في المحاكم سواء كان الملقي ممثل النيابة أو المحامي عن المتهم.
غايتها: الغرض منها تمييز الحق من الباطل، والفصل في المنازعات، ومساعدة العدالة على القصاص من الجاني، وتبرئة المتهم البريء، وحماية المجتمع من الجريمة، ولذلك يجب أن يتعاون القاضي والنائب والمحامي على إحقاق الحق، ونصرة المظلوم، ومحاربة الجرائم.(1/63)
ومن الباطل أن يحترف بها بعض المحامين للاستغلال وكسب المال، وذلك بتنجية المجرم الآثم بقوة البيان، وفصاحة المنطق، وذلاقة اللسان، وهم يعلمون أنه أثيم، ولكنهم يبتدعون الحيل لإفلاته بدعوى أنه لم يجرم، على أنهم في حل من أن يحاولوا تخفيف العقوبة ببيان دوافع الجريمة وظروفها وعللها.
ولخطورة الخطابة القضائية نظر إليها القدماء نظرة فيها وجَل وتردد، فمثلاً كان قدماء المصريين في بعض عصورهم يقيدون المرافعة بأن تكون مكتوبة، مخافة أن تتأثر العدالة بخلابة الخطابة.
وتبين اليونان أثر مرافعتهم، فسنوا القوانين لمنع الخطباء من استخدام الوسائل المثيرة للوجدان، وبالغوا في ذلك حتى عينوا رجلاً يقاطع المحامي أو يسكته، إذا رآه يحاول إثارة العاطفة.
أما الرومان فقد تركوا الدفاع حراً يقول ما يشاء ثقة بالقضاء واعتماداً على صراحة القانون ووضوحه، وهذا هو النظام المتبع في العالم اليوم.
3-الخطابة الحفلية
موضوعها
هي الخطب التي تُلقى في المحافل لتكريم أو تأبين، أو في تهنئة بنعمة خاصة أو عامة، أو في علاج مشكلة اجتماعية.
وهذا النوع يكاد يكون موقوفاً سماعه على الخاصة وأنصاف المثقفين، فقلما يسمعه العامة، ولهذا رأى شيشرون أنه أصعب الأنواع كلها، لأن السامعين من الطبقة الممتازة، فلا يستطيع الخطيب أن يلقي الكلام بغير تروية فيه وتجويد.
خصائصها
1- يحسن أن تكون في جملتها واضحة الأفكار، سهلة التعبير، طلية رقيقة معتمدة على الوسائل الخطابية وبعض المنطق، ولا تكفي الوسائل الخطابية وحدها لأن الخطبة ستنشر وتُقرأ، ولا تجزي الأدلة المنطقية؛ لأن هذا النوع بحاجة إلى فن الأدب والفكاهة الحلوة، والأسلوب الرشيق.(1/64)
2-وعلى الخطيب أن يَصدُق في قوله، فلا ينسب للمكرَّم أو المؤبَّن محامد ليست من حُلاه، وان يقتصد في ثنائه، فلا يكيل المدح جزافاً، وان يتخذ خطبته وسيلة لتوجيه السامعين إلى التحلي بصفات النبل التي من أجلها يُكرَّم المُحتفَل به، أو يُؤبَّن المتوفّى.
3- وأمام الخطباء ثلاثة طرق في منهج التكريم والتأبين:
- أن يذكروا تاريخ المحتفل به، وما مر به من أحداث منذ
صغره، ويشفعوا ذلك بملاحظاتهم، وتعليقهم على بعض مواقفه، أو أن يدرسوا قيمة المحتفل به وأثره في أمته ومميزاته، وقد يجمعون بين الطريقتين إذا انفسح لهم الزمن.
ولكن المنهج الحديث أن يتركوا تفاصيل تاريخ الحياة إلى الجرائد والمجلات لأن سردها مُمِلّ لا يستثير العواطف، فالخطيب الآن تدور خطبته حول بيان نواحي العظمة في المحتفل به، وصفاته التي ميزته، ومكانته في التاريخ بين أمثاله، والدروس التي تستفيدها الأمة من عظمته، وذلك يحتاج إلى مهارة في تحليل الشخصية، ولباقة في الموازنة بين المزايا والعيوب، وتقدير المحتفل به تقديراً عاماً.
والخطابة الحفلية أنواع:
(1)- خطبة التكريم والمديح
هي التي تُقال ثناء على عظيم أو ذي فضل.
ومهمة الخطيب أن يبرز سمات عظمة المكرم وفضله.
1-والفضائل أنواع شتى، منها العدالة والشجاعة والمروءة والعفة والسخاء والعظمة والتسامح وصِدق الحسِّ والحكمة.
وكبريات الفضائل ما كانت أكثر نفعاً للناس؛ لأن الفضيلة هي القوة التي تستطيع أن تمدنا بخيرات كثيرة، ولذلك تعلو العدالة والشجاعة سائر الفضائل، لأن العدالة تؤثر تأثيراً كبيراً في وقت الحرب، ويأتي بعد هاتين الفضيلتين الكرم، لأن الكرماء يعطون بلا حساب، ولا يفكرون في مورد الثروة، ولا يجادلون فيها غيرهم، بينما يريد غيرهم المزيد منها.
وقد عرف أرسطو كل فضيلة من هذه الفضائل ثم قال: وليس من الصعب أن يفهم الإنسان ما وراء هذه الفضائل، فمن الواضح أن كل ما ينشأ عن الفضيلة جميل1.(1/65)
2- ثم يتعمق الخطيب في نظرته إلى الجميل من الأعمال, فيقرر أن الأشياء التي يكافأ عليها بالكرامة وحدها خير مما يجازى عليها بالمال, وأن كل ما عُمِل بدافع من الإخلاص المجرد عن المنفعة الشخصية جميل يستحق المدح, والأشياء التي تقدم لخير الوطن في غير رعاية للمصلحة الذاتية جميلة, والأشياء المفيدة بطبيعتها وليست مفيدة لمن قام بها جميلة, إذ لو كانت مفيدة لعُدّ مدفوعاً إليها بدافع من الدوافع الذاتية.
وجميل أيضاً كل ما يمكن أن يفيد ميتاً ولا يفيد حياً, لأن ما يعمل للمنفعة الذاتية يرتفق به حي لا ميت.
وكذلك كل الأعمال التي تعمل لمنفعة الغير, لأن المنفعة الذاتية هنا في المرتبة الثانية2.
3- وقد ينبغي في أدلة المدح والذم ألا يقتصر الخطيب على ما يتفق تمام الاتفاق مع الصفات الحقيقية, بل يعالج أيضاً ما هو قريب منها من فضائل تنشأ عنها أفعال النقيصة, ومن نقائض تنشأ عنها
أفعال الفضيلة.
4- وعلى الخطيب المكرّم أن يظهر ممدوحه مختاراً لما قام به من جلائل الأعمال, مريداً لها, وأنه كثيراً ما قام بأمثالها.
5- خطبة المدح في حاجة إلى إطناب وتفصيل, كأن يذكر الخطيب أن الممدوح أول من قام بهذا العمل الجليل، أو فكر في هذا الصنيع, أو أنه الوحيد الذي قام به, أو أن قليلاً من الناس عملوا مثل ما عمل, أو أنه تفوق على من أشبهوه في عمله.
وكذلك يوضح الظروف والملابسات التي أحاطت بالعمل الجليل الذي قام به المكرّم.
والإطناب مستحب في خطب التكريم لأن التكريم يتناول الإشادة بفضائل يشترك الناس في تقديرها من الوجهة الخلقية, فليس أمام الخطيب إلا أن يفصلها ويجمّلها ويطنب في تحلية المكرّم بها.(1/66)
6- وليس من المستحب أن يتعرض الخطيب لشيء آخر غير الفضائل, كثراء المكرّم, أو مآثر آبائه, إلا تبعاً لمميزاته الخلقية والنفسية, كأن يثبت عراقة نسبه, ليؤكد أن عظمته تتمشى في أصوله, وأنه نَبَت في تربة مخصبة, أو عاش في جو ينمي العظمة ويغذيها, ثم يعرض لصفاته المكتسبة.
7- ولقد يتعرض الخطيب للبيئة التي ولد فيها المكرّم فيمر على الحالة السياسية والدينية والاجتماعية والفكرية التي عاصرت مولده ونشأته, ثم يبق تأثيره فيها من حيث تغييره هبوطها إلى رفعة, وضلالها إلى هدى, وتأخرها إلى تقدم, أو من حيث تأثره بها إن كانت
صالحة, وتقدمه بها إلى استكمال الصلح.
ولا بد للخطيب من مراعاة السامعين فيما يعرض من مدح, فيمدح المكرّم أمام من يحبه, كما قال سقراط: ((من السهل أن نمدح الأثينيين في أثينا)), ويمدحه بما يعرفه قومه عنه: وإن كانت معرفة إجمالية.
أمثلة:
1- عرف عرب الجاهلية نوعاً من الخطب, موضوعها المباهاة في الجمع الحاشد بعراقة الحسب, ونبالة الأصل, وعلو المكانة, وشرف الأخلاق, وهذه هي المفاخرة أو المنافرة.
وليس من المستطاع الاطمئنان إلى ما ورد من نصوصها الجاهلية, لأنها من النثر الذي لا يطمئن الباحث إلى صحته كما يطمئن إلى الشعر, ولأن ما بقي من هذه المنافرات موسوم بلغة متأنقة
مسجوعة ليست مما يقال عفو الخاطر.
من ذلك منافرة عامر بن الطفيل وعلقمة بن عُلاثة إذ تنازعا في الرياسة، فقال علقمة لعامر: أنا خير منك أثراً، وأحدّ منك بصراً، وأعزّ منك نفراً، وأشرف منك ذكراً، وقال عامر: إني أسمى منك سِمةً، وأطول منك قامة، وأحسن منك لِمّة، وأجمد منك جُمّة، وأسرع منك رحمة، وأبعد منك همّة.
وشتان ما بين هذه العبارات وما ورد من منافرة بني تميم للنبي (.
2-فقد وفد بنو تميم على النبي ( لينافروه، فقالوا: جئنا(1/67)
لنفاخرك، ثم قام خطيبهم فقال: الحمد لله الذي له علينا الفضل وهو أهله، الذي جعلنا ملوكاً، ووهب لنا أموالاً عظاماً، نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعزّ أهل المشرق، وأكثره عدداً، وأيسره عُدّة، فمن مثلنا في الناس؟ فمن يفاخرنا فليعدد مثل ما عدَدنا، وإنا لو نشاء لأكثرنا الكلام، ولكنا نستحيي من الإكثار فيما أعطانا، وإنا نُعْرف بذلك.
أقول هذا الآن لتأتونا بمثل قولنا، وأمرٍ أفضل من أمرنا.
فأمر النبي ثابت بن قيس بأن يرد عليه فقال:
" الحمد لله الذي السموات والأرض خلقه، قضى فيهن أمره، ووسع كرسيه علمه ولم يكن شيء قط إلا من فعله؛ ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكاً واصطفى من خير خلقه رسولاً، أكرمه نسباً، وأصدقه حديثاً وأفضله حسباً، فأنزل عليه كتابه، وائتمنه على خلقه؛ وكان خيرة من العالمين؛ ثم دعا الناس إلى الإيمان به، فآمن برسول الله المهاجرون من قومه وذوي رحمه، أكرم الناس أحساباً، وأحسنهم وجوهاً، وخير الناس فعالاً؛ ثم كان أول الخلق إجابة، واستجاب لله حين دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن فنحن أنصار الله، ووزراء رسول الله، نقاتل الناس حتى يؤمنوا، فمن آمن بالله ورسوله متع بماله ودمه، ومن كفر جاهدناه في الله أبداً، وكان قتله علينا يسيراً؛ أقول هذا وأستغفر الله لي وللمؤمنين والمؤمنات والسلام عليكم " .
ولقد أبطل الإسلام كثيراً من عادات الجاهلية، وسوّى بين الناس جميعاً وآخى بينهم، وأنكر العصبية الجاهلية، فتوارت المفاخرة حيناً، ثم عادت في العصر الأموي في قالب من الحوار.
3- ومنها خطب الوفود التي وفدت على سيف بن ذي يزن لتهنئته بطرد الحبش من اليمن، والوفود التي قدمت إلى النبي تعلن إسلامها، والتي جاءت إلى الخلفاء الراشدين، ومَن بعدهم لتعلن تأييدها، أو تجهر بشكواها.(1/68)
ومنها خطب الزواج التي كان يلقيها أهل الخاطب في أهل الفتاة، يشيدون بمكانة أنفسهم، ويعرضون على أهل الفتاة رغبتهم في الإصهار إليهم، ويحددون المهر، ويذكرون من محامد العروس ما يكافئ مكانة المخطوب إليهم.
وكثيراً ما كان أهل الفتاة يردون عليهم، مرحبين بهم، ومفتخرين بأقدارهم.
وإذا كان مجال هذا النوع ضيقاً، وكانت العواطف فيه هادئة، والأفكار التي يعرض لها الخطيب محدودة، استحسنوا أن يخطب فيه الخطيب قاعداً لا قائماً، وشعر كثير منهم بأنه شاق على النفس، ولذلك قال عمر بن الخطاب: ما يتصَعَّدني كلام كما تتصعدني خطبة النكاح3.
ومن أمثلة هذا النوع خطبة أبي طالب في زواج النبي بالسيدة خديجة، كقوله:" الحمد لله الذي جعلنا من زرع إبراهيم، ومن ذرية إسماعيل، وجعل لنا بيتاً محجوجاً وحرماً آمناً، وجعلنا الحكّام على الناس في محلّنا الذي نحن فيه؛ ثم إن ابن أخي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب لا يوزن برجل من قريش إلا رجح به، ولا يقاس به شيء إلا عَظُم عنده، وإنه وإن كان في المال قُلّ فإن المال بعدُ رزقٌ جارٍ، وله في خديجة رغبة، ولها فيه مثل تلك، وما أحببتم من الصداق فعليّ".
4- وفد جماعة من قريش على سيف بن ذي يزن بعد انتصاره على الحبش وإجلائهم من اليمن فخطب عبد المطلب قائلاً:
"إن الله تعالى أيها الملك أحلك محلاً رفيعاً، صعباً منيعاً، باذخاً شامخاً، وأنبتك منبتاً طابت أرومته، وعزت جُرثومته، ونبل أصله، وبَسق فرعه، في أكرم معدن، وأطيب موطن، فأنت رأس العرب، وربيعها الذي به تُخصب، وملكها الذي به تَنقاد، وعمودها الذي عليه العماد، ومَعْقِلها الذي إليه يلجأ العباد؛ سلفك خيرُ سلف، وأنت لنا بعدهم خير خلف؛ ولن يَهلك من أنت خلَفه.
نحن أيها الملك أهل حرم الله وذمته وسدنة بيته، أشْخَصنا إليك الذي أنهجك لكشفك، الكَرْب الذي فدحنا، فنحن وفد التهنئة لا وفود المَرْزِئة.(1/69)
فمدح الملك بالرفعة والمتعة، وبطيب المنبت وعراقة الأصل، ثم مدحه بأنه سيد العرب وموئلها ومعقلها، وبأنه خير سلف، ثم بيّن أنهم قد وفدوا للتهنئة لا لنيل العطاء.
(2)- خطبة التأبين
هي الخطبة التي تُلقى على قبر الرجل العظيم أو المتوفى العزيز، أو في حفل تأبينه، أو في ذكرى وفاته.
فيبين الخطيب عظم الفجيعة فيه، ويعدد مناقبه، ويجلي آثاره، ويواسي آله وأحبابه.
وقد عرفها اليونان منذ زمن قديم، وذكرها المؤرخ الكبير توسيديد في القرن الرابع قبل الميلاد، وكانوا يلقونها في محافل رسمية لتأبين شهداء الوطنية.
وكذلك مارسها الرومان، ووردت منها نصوص منذ القرن السادس قبل الميلاد.
1- والمتبع أن يبدأ الخطيب خطبته بتصوير الفاجعة والأسى والحسرة، كما قال عبد الخالق ثروت في تأبين سعد زغلول:
أيها السادة:
في هذا الجمع الحاشد الذي يريد كل فرد فيه أن يؤدي حق فقيدنا العظيم عليه وعلى البلاد، إما باللوعة الصامتة والذكرى الباقية، وإما بالزفرات يرسلها كلمات، وبحياة الفقيد يحملها مناقب وعظات، أردت أن يكون لي نصيب في الوداع الناطق للراحل الكريم.
ولكن سعداً ليس كغيره من الرجال، فلكل عظيم ناحية من العظمة، ولسعد منها نواحٍ متعددة، والعظيم يملأ فراغاً في جانب من الحياة، وسعد قد شغل الحياة المصرية عامة، فقد اجتمع فيه تاريخ مصر الحديث، وانتهت إليه نهضتها الكبرى، فلا غرو إذا جَلَّت مصيبتنا في فقده، وكثرت وجوه القول، وتعددت شعاب الذكرى فيه4..."
2- ثم يعرض تاريخ الفقيد، ويشيد بما كان له من جهاد أو إصلاح أو نبل، أو يحلل شخصيته، ويبرز نواحي عظمته، ويضرب
الأمثال من تاريخه وحوادثه.
ومن خطبة شاب في تأبين المرحوم الأستاذ أبو الفتح الفقي رئيس جماعة دار العلوم ووكيل كلية دار العلوم:(1/70)
" سلاماً يا أبا الفتح الذي جمَع الشّتيت، وألّف القلوب، ووحّد القِبلة، وأنشأ الجماعة5، وأعزّ الضعيف، وزاد القوى قوة، حُزننا عليك أحرق القلوب، وأدمى العيون، وأغاض البهجة حتى في أيام البهجة.
يا أبا الفتح الذي دوّى صوته في البرلمان، واعتز بنجاحه على دعائم محبة الأهل وتقدير الجيران، وعلى شرف الجهاد وطيب السمعة، عَزَّ في الرجال ضريبك.
يا أبا الفتح الرابضَ قبره هنالك بين الحقول الخضر، والزروع النضْر، في صمت الريف وجلاله، في الوطن الصغير العزيز الذي استهللت على أرضه، ثم عدت إلى أرضه، في التُّرْب الذي دَرَجْتَ عليه صبياً، واختال بك كهلاً، ثم كنزَك ميتاً، على مرأى من عيون الذين شَرُفُوا بك كما شرُفنا، واعتزوا بك كما اعتززنا. على مقربة من
القطار الرامز إلى أن الحياة سفرة قصيرة في هذه الدنيا... سلاماً.
يا أبا الفتح الذي أظَلَّنا بلوائه، ورفعنا كلَّنا إلى سمائه، وعاش لنا أكثر مما عاش لنفسه، وماتت بهجتنا منذ أودعناه في رمسه... سلاماً.
يا أبا الفتح الطُّوالَ العود من طول ما اشرأبَّ إلى السماء، السَّمهَرِيَّ القامة قد صُلبت على الأحداث والأنواء، الرفيع الهامة لم تطأطئها مذلة ولا مهانة، الصافي العينين تلمع محاجرهما وراء المنظار في صفاء الزئبق، وتسحر نظراتهما فتجذب وتُفحِم، الجهيرَ الصوت في ثقة بالنفس، وعزة بالمكانة، وشجاعة في الحق، في عصر نَدَرَتْ فيه الشجاعة، الخاطرَ في الرَّدهات والحجرات مُرسلاً يسراك في جيبك، خطرات الوالد الناعم البال بأبنائه وإخوانه، شاقنا والله أن نمتع النظر بمرآك، وشاقنا والله عطفك وحبك وهُداك.(1/71)
يا أبا الفتح لم أذق مرارة الفقد إلا يوم موتك، ولم أرهب الموت إلا يوم خطفك، ولن أنسى تشييعك في القاهرة، وحرارة توديعك في الدلجمون6 وفجيعة إيداعك في المقبرة... فقد بكاك يا أبا الفتح كل من شيعوا، وتفجع عليك من عِليَةِ القوم من ودَّعُوا، ومن حِيلَ بينهم وبين أن يودعوا، وبسرتْ لموتك وجوه كانت دائمة مشرقة، وحزنت قلوب كانت دائماً مستبشرة، ونسي في جنازتك الشيخ وقاره، فبكى بكاء مرَّاً، وعصى الصبور صبره، فذرف الدمع سخياً حاراً، واختلط جئير النائحين بلوعة النائحات.
يا أبا الفتح هناك جثمانك الطاهر، وهنا ذكرك العاطر، وطيفك
الزائر، وصدى صوتك الرنان الآسر.
وسيبقى دائماً ذكرك وطيفك وصوتك ما بقي في الدنيا وفاء، وما دام في الناس اعتزاز بالفضيلة، وتقدير للرجولة، وإيمان بالعظمة، والسلام عليك في علاك".
3- ثم يشارك الخطيب آل الفقيد في فجيعتهم ويعزيهم، ويواسيهم بأن عظمة الفقيد باقية فيهم، وأن منهم خلفاء له.
4- ثم يوجه للسامعين بلباقة إلى الاقتداء بالفقيد.
من ذلك قول ثروت في ختام تأبينه لسعد:
"إن حزننا على فقيدنا عظيم، ولكن يجب ألا يكون عقيماً
وخير ما يلد هذا الحزن هو حُسُنُ التأسي، فلنتأسَّ بسعد في جهاده للحق، وصبره على المكاره، ودعوته إلى ضم الصفوف، وإيثار المصلحة العامة.
وإني لأعلم أني لا أنبه غافلاً، ولا أوقظ نائماً، فإن سيرتكم منذ مات سعد ناطقة بأن روحه لا تزال معكم، ولا أشك أنكم لن تزالوا سالكي هذا الطريق في توفيق من الله، وتأييد من صاحب العرش، وأوقن أنه ليس شيء أحب إلى سعد في قبره من أن تثابروا على المضي في هذا الطريق الحكيم، حتى نبلغ غايتنا جميعاً".
5- وقد يختم الخطبة بكلمة يتوجه بها إلى روح الفقيد، يدعو له بالثواب، ويطمئنه على أن من خلفوه حريصون على تعاليمه، قوامون على رعاية ما كان يرعى.
من ذلك مناجاة لسان الدين بن الخطيب للمتوفى بأن ابنه سيخلفه:(1/72)
"لَيْهنكَ أن صيَّر الله تعالى ملكك من بعدك إلى نيِّرِ سعدك، وبارق
وعدك، ومنجز عهدك، أرضى ولدِك، وريحَانَةَ خلدِك، وشقَّةُ نفسك، والسرحة المباركة من غرسك، ونور شمسك، ومُوصل عملك من البرّ إلى رمسك".
ومناجاة ثروت لسعد زغلول في خطبة تأبينه بقوله.
"نم هادئاً مطمئناً، فإن البذر الذي بذرته من خلال حسنة، ودعوة
صالحة سيؤتى ثمره إن شاء الله.
وستحفظ لك مصر أكبر الذكرى، فرحمة الله ورضوانه عليك7".
(3) الخطبة الاجتماعية
هي الخطبة التي تعرض لدراسة مشكلة من مشكلات المجتمع، فتبرز العيوب وأسبابها، وتَطِبُّ لها.
وبعض هذه الخطب تنتظمه الخطابة وبعضها لا تنتظمه، فإذا اعتمد الخطيب على الدراسة وحدها، ولم يضف إليها الإلقاء الخطابي فهو محاضر لا خطيب.
وإذا أضاف إلى الدراسة إثارة المشاعر بفنه الخطابي، وتصويره الجميل، وتخييله الساحر فهو خطيب لا محاضر.
4- الخطابة الدّينية
موضوعها:
هي التي تعتمد على إثارة العاطفة لتحبب إليها الخير، وتنفرها من الشر، وتوجهها إلى تقوى الله وحبه وخشيته.
وقلوب السامعين متفتحة للتأثر بالخطب الدينية؛ لأنها تصلهم بالخالق سبحانه وتعالى، وتعلو بهم عن الأرض إلى السماء، وتبصرهم بما ينفعهم في الدنيا والآخرة، فالخطيب يتكلم من قِبَل الله، والموضوع ديني روحي، وثمرة الخطبة سعادة الفرد والمجتمع، وتمجيد الله وطاعته وابتغاء الخير.
لماذا أخفقت؟
ولكن كثيراً من الخطباء الدينيين- في الأديان الثلاثة- لم يبرعوا في خطابتهم للأسباب الآتية:
1- خطبهم ذات موضوعات عدة، من دعوة إلى فضائل شتى، وإلى تنفير من رذائل منوعة، فتبدو الخطبة كشكولاً جامعاً لموضوعات عدة مبتترة مقتضبة، لم يدرس واحد منها دراسة كاملة ترسخ في أذهان السامعين، وتمتلك مشاعرهم، والخطبة الناجحة لابد أن تكون ذات موضوع واحد.(1/73)
2- وهذه الموضوعات الكثيرة ذوات معان واحدة مكرَّرة، وأحياناً ذوات أسلوب واحد، تكرر على مسامع الناس فيملونها، وقد مضت على الخطباء فترة من الزمن- وما زالت لها بقية- كان الخطباء يحفظون فيها خطبهم، أو يلقونها من كتب مطبوعة، متمشية مع أسابيع كل شهر من كل عام، فلا تصرُّفَ ولا تجديد، ولا مراعاة لأحوال السامعين.
3- على أنها بموضوعاتها المتعددة، ومعانيها الموحدة متخلفة عن قافلة الزمن، مباينة للحياة الواقعية، ليست فيها جدَّة، وكثيراً ما يشغل الناس حدث جلل أو طارئ، ويتشوقون إلى سماع كلمة الدين فيه، فإذا بهم يسمعون نغمات قديمة لا صلة لها بما يتوقُون إلى سماعه.
4- ومن نتائج ذلك كله أنها غير ملائمة لعقلية السامعين، وغير
مشوقة، فأسلوبها رث متكلف، ومعانيها، لا تشويق فيها؛ وإلقاؤها
باعث على التثاؤب والملال.
5- ويغلب على القائمين بها ضحولة المعارف، والجمود الكريه، والبعد الشاسع عن الإلقاء المشوق، والأسلوب الجذاب.
كيف ننهض بها؟
وإذا ما أردنا أن ننهض بالخطابة الدينية فعلينا أن نصلح هذه العيوب، بأن نجعل كل خطبة موحدة الموضوع، جديدة الأفكار والمعاني، مسايرة للحياة الواقعية، معروضة في معرض شائق رائق، وأن نجملها بألوان من التشبيه والمقابلة وغيرها بحيث لا نتكلف ولا نتعسف.
ثم ليعلم الخطباء الدينيون أنهم في مسلكهم قدوة للناس ومَثل، فيدين الناس بأقوالهم ووعظهم إن كانوا صالحين، ولا يهتدون بوعظهم إن كانوا غير صالحين، فالخطيب الذي يلقي خطبته كل أسبوع مرة، ثم لا يحبس نفسه على الفضيلة، يهدّم بيده مكانته، ويقدم بنفسه دعاية ضد التأثر بما يقول:
وذمّوا لنا الدنيا وهم يرضعونها…أفاويق حتى ما يَدُرُّ لنا ثَعْلُُ8(1/74)
قال الشيخ حسين المرصفي:" إن من نصب نفسه لوظيفة الهدى، ودعاء الناس إلى الخير يجب أن يكون أبعدهم من التصنع، وأحرصهم على الكمال، فإن أدنى هفوة منه تسقط اعتباره، وتسهل التهاون به، فلا يكون لكلامه تأثير في القلوب، ويصير مجلسه مسلاة يتلهى الناس بحضوره، ولهذا قالوا: ما أحسن التاج، وهو على رأس الملك أحسن، وما أحسن الدُّرّة، وهي على نحر الفتاة أحسن، وما أحسن الموعظة، وهي من الفاضل التقي أحسن".
ثم إن الخطيب الديني إن لم يكن متأثراً متحمساً لما يدعو إليه فلا أثر لخطابته، قال الحسن البصري لواعظ لم تقع موعظته بموضع من قلبه، ولم يرقَ عندها:" يا هذا إن بقلبك لشرّاً أو بقلبي9".
ولا بد أن يكون الخطيب الديني مثقفاً ثقافة دينية واجتماعية وتاريخية وأدبية، ليمتلك قلوب السامعين بطلاوة عبارته، وحلاوة تصويره، وطرافة معانيه، وحداثة موضوعاته.
ثم لا بد من إجادة الإلقاء، ومما يبشر بالخير أن بعض الخطباء المعاصرين تخلوا من القيود التي انحدرت إلينا من عصور الضعف العقلي والأدبي، فجددوا وأنشؤوا، وتمشوا مع الحوادث، وأحسنوا الإلقاء، وإنا لننتظر في شوق ولهفة أن يكون خطباء الدين جميعاً لُسناً مَقاول، ليطهروا النفوس من الأثرة والشر، وليسهموا في إعزاز الدين وإعلاء كلمة الله في عصر يتحلل فيه كثير من الناس من الدين ويَنسَلُّون، وهم إنما ينفلتون من سعادة إلى شقاء، ومن شرف إلى ضعة، ومن حياء إلى فناء.
أمثلة:
1- خطب ( فذكّر السامعين بالموت، وعجب من تغافلهم عنه، وبيّن أن الخير لمن شغله عيبه عن عيب غيره، ولمن انفق حلالاً، وخالط العلماء والفقراء، وحسنت أخلاقه والتمسك بدينه فقال:"(1/75)
" أيها الناس كأن الموت فيها على غيرنا قد كتب، وكأن الحق فيها على غيرنا قد وجب، وكأن الذي نشيع من الأموات سفر عما قليل إلينا راجعون، نبوئهم أجداثهم، ونأكل من تراثهم كأنا مخلدون بعدهم، ونسينا كل واعظة وأمنا كل جائحة، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، طوبى لمن أنفق مالاً اكتسبه من غير معصية، وجالس أهل الفقه والحكمة، وخالط أهل الذل والمسكنة، طوبى لمن زكت وحسنت خليقته، وطابت سريرته، وعزل عن الناس شره، طوبى لمن أنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله، ووسعته السنة ولم تستهوه
البدعة10 " !.
وقال عمر بن عبد العزيز:
أيُّها الناس، إنّكم لم تُخلَقوا عبثاً ولم تُتَركوا سُدًى، وإنّ لكم مَعاداً يحكم اللَّه بينكم فيه، فخابَ وخَسِرَ من خرج من رحمة اللَّه التي وسعَتْ كلَّ شيء، وحُرِم الجنَّةَ التي عَرضُها السّموات والأرض، واعلموا أنّ الأمان غداً لمن خاف اللَّه اليوم، وباع قليلاً بكثير، وفائتاً بباق، ألا تُرَون أنّكم في أسلاب الهالكين، وسيخلِّفها مِن بَعدكم الباقون كذلك، حتى تُرَدُّوا إلى خير الوارثين، ثم أنتم في كلِّ يوم تُشَيِّعونَ غادياً ورائحاً إلى اللَّه، قد قَضَى نحبَه وبلَغ أجلَه، ثم تغيِّبونه في صَدْعٍ من الأرض، ثم تَدَعونه غير مُوَسَّد ولا مُمَهَّد، قد خَلَع الأسبابَ، وفارَق الأحباب، وباشَرَ التراب، وواجَه الحِساب، غَنيّاً عما تَرك، فقيراً إلى ما قدّم، وايمُ اللَّهِ إنِّي لأقول لكم هذه المقالةَ، وما أعلَمُ عند أحدٍ منكم من
الذُّنوب أكثَرَ مما عندي، فأستغفر اللّه لي ولكم11".(1/76)
وخطب الحسن البصري في يوم فطر وقد رأى الناسَ وأزياءهم: "إنّ اللَّه تبارك وتعالى جعل رمضانَ مِضماراً لخلْقِه يستبِقُون فيه بطاعته إلى مَرضاته، فسبَقَ أقوامٌ ففازوا، وتخلَّف آخرون فخابوا، فالعجَبُ من الضّاحك اللاعب في اليوم الذي يَفوزُ فيه المحسِنون، ويَخْسَرُ فيه المُبْطِلون، أمَا واللَّه أنْ لو كُشِف الغطاءُ لشُغِل مُحْسنٌ بإحسانه، ومسيءٌ بإساءته، عن ترجيلِ شَعْرٍ، وتجديد ثَوبٍ12".
وهذه خطبة دينية عصرية موضوعها" الجهاد لإنقاذ فلسطين":
الحمد لله ولي المؤمنين، وناصر المجاهدين الصادقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، نزّل الكتاب وهو ولي الصالحين، واشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله المجاهد الصادق الأمين، اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الذين جاهدوا في الله حق جهاده، أولئك حزب الله، ألا إن حزب الله هم المفلحون.
قال الله تعالى وهو أصدق القائلين:" أُذن للذين يُقاتَلون بأنهم ظُلموا وإن الله على نصرهم لقدير، الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهُدّمَت صوامعُ وبيَعٌ وصلوات ومساجد يُذكر فيها اسم الله كثيراً، ولينصرنّ الله من ينصره إن الله لقويٌّ عزيز".
عباد الله، شرع الله الجهاد لدفع عدوان المعتدين، ورد كيد
الظالمين، وإعلاء كلمة الحق والدين، وأعد للمجاهدين المخلصين أجراً عظيماً، قال تعالى :" فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة، ومَن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نُؤتيه أجراً عظيما، وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان" وقال تعالى:" إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله كأنهم بنيان مرصوص".(1/77)
وقد عمل المسلمون الأولون بهذا الهدي الكريم، فجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم, فعلت كلمتهم, وقويت شوكتهم, وعزت مكانتهم, فدانت لهم رقاب الجبابرة, وخضعت لسلطانهم القياصرة والأكاسرة.
كانوا أمة عزيزة الجانب, متضامنة عند الشدائد, ومتحدة وقت الكوارث والخطوب, كانوا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تألم له سائر الأعضاء.
عباد الله يحدثنا التاريخ أن أمير المؤمنين المعتصم العباسي بلغه أن امرأة مؤمنة تستغيث به في بلاد الروم مما لحق بها من هوان, وتنادى وامعتصماه, فسار بجيشه معقود اللواء, وحارب حتى فك أغلالها, وصان كرامتها, ورد لها حريتها.
واليوم ينتهك الصهيونيون حرمة فلسطين, تلكم البلاد المقدسة المباركة التي يحفظ المسلمون لها من الذكريات ما هو جدير بالإجلال والإكبار, فقد كان إليها إسراء رسولنا خير الأنبياء, ومنها كان معراجه إلى السماء: ((سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله)), والمسجد الأقصى أول القبلتين وثالث الحرمين, وإلى تلكم البلاد المقدسة سار الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه غداة فتح المسلمين لها, ليؤمن أهلها, وينشر العدل في ربوعها, وظلت فلسطين عربية إسلامية, حتى اعتدى عليها المعتدون فقيض الله لها سلطان مصر صلاح الدين الأيوبي, فخلصها من أيدي الغاضبين وها هو التاريخ يعيد نفسه, فيعتدي الظالمون على تلكم البلاد الآمنة, يذبحون الأطفال والنساء, ويقتلون الشيوخ والضعفاء, لا تأخذهم في ذلك شفقة ولا رأفة, تجردوا من الإنسانية, وغلظت أكبادهم, وقست قلوبهم, فهي كالحجارة أو أشد قسوة, فكان حقاً على جميع المسلمين أن ينفروا سراعاً لنجدة هؤلاء المظلومين, ودفع عدوان الظالمين, وها هي جيوشهم المظفرة تحشد, وشبابهم الناهض يجند.(1/78)
فاتقوا الله عباد الله, وكونوا كأسلافكم الأمجاد نصرة في الحق, ومضاء في العزائم, وتآزراً في الشدائد, وتسانداً في الملمات, واعتصاماً بالدين, والتفافاً حول راية الوحدة, واستمساكا بعروة التعاون والتضامن, يكتب الله لكم القوة والمنعة, والعزة والغلبة, ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين.
روى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي العمل أفضل؟ قال: ((إيمان بالله ورسوله)) قيل: ثم ماذا؟ قال: ((والجهاد في سبيل الله)).
وروى أبو داود والترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: ((من قتل دون ماله فهو شهيد, ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد, ومن قتل دون أهله فهو شهيد)).
وبعد فإن خطباء المساجد يحسنون صنعاً إذا جاروا الحوادث, وعالجوا بالدين مشكلات المجتمع المتعددة المتجددة, ويحسنون صنعاً إذا راعوا البيئة وما يلائمها من موضوعات ومعان وأساليب, فما من شك في أن خطب المساجد في القاهرة يجب أن تغاير أحياناً خطب المساجد في القرى والموضوعات التي تليق بالتجار لا تليق بالموظفين وهكذا.
5-الخطابة الحربية
موضوعها وخصائصها:
لطالما استمد السيف إلى مضائه قوة من الخطابة تزيده مضاء، وكثير ما لجأ القادة إلى الكلمة يشعلون بها الجنود حماسة إلى الاستبسال، وكثير ما كان الخطباء يشدون أزر الجيش المقاتل بما يلقون من خطب، ويوقدون حماسة الشعب ليجود بالدماء والأموال.
ولئن كانت الخطب السابقة مجالاً للتحضير والتنقيح والتروّي، إن الخطابة الحربية كثيراً ما تستهل لوقتها، إذ يفجأ الزمن القائد، فينتزع من بديهته المسعفة خطبة مرتجلة، على انه أحياناً يعدها لظرف يتوقعه.
ومهمته شاقة، لأن لا يستطيع أن يسمع الجيش كله، ولذلك جرت العادة الآن أن تكتب الخطبة، وتوزع على الجند.
والغرض منها بعث العزيمة في نفوس الجند، وإذكاء حماستهم
وتبشيرهم بالنصر، وبث الثقة، وتهوين الموت.(1/79)
والقائد يتخير الجمل القوية القصار، ويلجأ إلى الخيال كثيراً يستثير به عظمة الماضي والأمل في الحاضر، ويُمنّى بالفوز والمجد، ويُنفِّر من التخاذل والانكسار.
أمثلة:
وقد أُثر عن العرب والمسلمين وغيرهم فيض من هذه الخطب.
1- منها خطبة هانئ بن قبيصة الشيباني في موقعة ذي قار، يحرض قومه على الفرس:" يا معشر بكرٍ، هالك معذور، خير من ناجٍ فرور؛ إن الحذر لا ينجى من القدر، وإن الصبر من أسباب الظفر؛ المنية ولا الدنية؛ استقبال الموت خير من استدباره؛ الطعن في ثغر النحور، أكرم منه في الأعجاز والظهور، يا آل بكر، قاتلوا فما للمنايا من بد.
2- ومن أعظم الخطب الحربية الخطبة المنسوبة إلى طارق بن زياد قبل فتح الأندلس:
" أيّها الناس، أين المفر؟ البحر من ورائكم، والعدوّ أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر، واعلموا أنّكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام، في مآدب اللئام.
وقد استقبلكم عدوّكم بجيشه وأسلحته، وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات إلاّ ما تستخلصونه من أيدي عدوّكم، وإن امتدّت بكم الأيام على افتقاركم ولم تنجزوا لكم أمراً ذهبت ريحكم، وتعوضت القلوب من رعبها منكم الجراءة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية، فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة، وإنّ انتهاز الفرصة فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت.
وإنّي لم أحذّركم أمراً أنا عنه بنجوة، ولا حملتكم على خطةٍ أرخص متاعٍ فيها النفوس أربأ فيها بنفسي.
واعلموا أنّكم إن صبرتم على الأشقّ قليلاً، استمعتم بالأرفه الألذّ طويلاً، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي، فما حظكم فيه بأوفى من حظيّ.(1/80)
وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الحور الحسان، من بنات اليونان، الرافلات في الدرّ والمرجان، والحلل المنسوجة بالعقيان، المقصورات في قصور الملوك ذوي التيجان، وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عرباناً، ورضيكن لملوك هذه الجزيرة أصهاراً وأختاناً، ثقةً منه بارتياحكم للطّعان، واستملاحكم بمجالدة الأبطال والفرسان، ليكون حظّه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته، وإظهار دينه بهذه الجزيرة، وليكون مغنمها خالصة لكم من دونه ومن دون المؤمنين سواكم، والله تعالى وليّ إنجادكم على ما يكون لكم ذكراً في الدارين، واعلموا أنّي أوّل مجيبٍ إلى ما دعوتكم إليه، وأنّي عند ملتقى الجمعين حاملٌ بنفسي على طاغية القوم لذريق فقاتله إن شاء الله تعالى، فاحملوا معي، فإن هلكت بعده فقد كفيتكم أمره، ولم يعوزكم بطلٌ عاقل تسندون أموركم إليه، وإن هلكت قبل وصولي إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه، احملوا بأنفسكم عليه، واكتفوا
الهمّ من فتح هذه الجزيرة بقتله، فإنهم بعده يخذلون13".
وهذه الخطبة ثرية بخصائص الخطابة الحربية، من ناحية التعبير والتصوير والاستمالة، وفيها حَفْزٌ للعزائم بوسائل شتى، وتبشير بالنصر والغنائم، ودعوة إلى الجهاد ابتغاء الثواب.
3- ومنها خطب ابن نباتة الفارقي في تأييد سيف الدولة الحمداني في حربه للروم، كقوله:" من وصل حبل الله أوصله، ومن أخمل حقه أخمله، ومن قعد عن نصرته خذله.
فانفروا رحمكم الله كما أمركم إلى جهاد عدوه، فإنكم إن قعدتم عن جهاده نهض إليكم، وإن لم تنصروا الله نصره عليكم كدأبه فيمن رأيتموه من أهل الثغور الذين أحلّ بهم دواهي الأمور، ولقد كانوا أكثر منكم جهاداً، وأوفر عدداً واستعداداً".(1/81)
....ولهانيبال القائد القرطاجي المتوفى 183ق.م خطبة تشبه خطبة طارق في التيئيس من الفرار، والتخويف من الحواجز الطبيعية المحيطة بالجيش الغريب، والتخيير بين الهلاك وبين النصر، والترغيب في الغنائم المباحة للمنتصرين.
وتنفرد خطبة هانيبال بتذكير الجنود بماضيهم المجيد، وانتصارهم الباهر، وتحقير شأن العدو واستصغار قوته وعدده، وهذا جزء منها:" أيها الجنود، إني لا أدري إذا كان الحظ لكم أو لمن في أيديكم من الأسرى، فقد شُدَّ بكم جميعاً الوَثاق، وحُمّت الحاجات، فعن اليمين وعن الشمال بحران بكتفانكم، وليست لديكم سفينة واحدة تهرعون إليها، ومن بين أيديكم نهر يو، وهو أعرض وأسرع جرياً من الرون، ومن خلفكم جبال الألب، تلكم الجبال التي لم تستطيعوا اقتحامها إلا بشق الأنفس حتى في أيام وفرة عددكم، فهيا أيها الجيوش، فليس أمامكم إلا الفناء أو النصر على الأعداء يوم لقائكم لهم.
أيها الجنود، لا تيأسوا فإن تلك القدرة الإلهية التي ألقت بكم في هذا المأزق الحرج الذي يرغمكم على القتال، هي عينها التي أعدت لكم على مرأى منكم نعيماً عظيماً، ليكون أجراً لكم على انتصاركم، وجزاء لا يرجو أعظم منه إنسان من الله الباقي.
إننا إن لم نستطيع ببأسكم وحميتكم إلا أن نعيد إلى حوزتنا صقلية وسردينية اللتين سلبهما العدو من آبائكم سلباً، كان ذلك جزاء وفاقاً لا يستهان به، ولكن أين هاتان مما أعد لكم من ثروة رومة الطائلة وأموالها المكدسة، وغنائمها التي سلبتها الأمم الأخرى، كل هذه وأمثالها ستكون لكم وفي حوزتكم.
إني أربأ بكم أيها القوم أن تتصوروا أن الانتصار صعب المنال، أو تعتقدوا كما يعتقد الناس أن إعلان حرب على رومة أمر عظيم له وقع في النفوس، ولتعلموا أنه كثيراً ما تغلب جيش مستصغر على عدد مستعظم، وصمد له في معارك أُريقت فيها الدماء، وحُصدت فيها الرؤوس، وكم ثُلت عروش فخمة، وأفنيت أُمم عريقة في المجد على أيدي جيوش قليلة العدد.(1/82)
ولكنكم لو جردتم رومة من اسمها الفخم البراق، وصيتها الذائع،
فما الذي يبقى لديهم مما تستطيع أن تقف به أمامكم وتنافسكم به في
قوتكم وبأسكم؟
وإننا لو تغاضينا عن خدماتكم الجليلة في تلك الحروب الطاحنة المتعاقبة، التي دامت عشرين حولاً أظهرتم فيها ما أظهرتم من البسالة والإقدام، ونلتم فيها ما نلتم من الفوز والنصر المؤزر، أقول لو تغاضينا عن هذه كلها لبقيت لكم مفاخراً أعلى شأناً وأجل منزلة.
ألم تأتوا من أسوار هركوليس، ومن أقاصي المحيط، بل من أقاصي حدود الأرض، ألم تجوسوا خلال ديار لأقوام عرفوا بالمهارة الحربية أمثال الإسبان والغالة، ألم تصلوا إلى هذه البلاد منتصرين فائزين؟ ومع ذلك فمن ستقاتلون؟ فلول جند قواهم غير ناضجة، وجيشاً يعوزه النظام، قد كسرت شوكته، وحاصره الغالة صيف العام الماضي، وما بالكم بجيش لا يعرف قائده، ولا يعرفه قائده14".
الارتجال والإعداد
ما الارتجال؟، ارتجال التفكير محال، وارتجال التعبير نادر، مزايا الارتجال وعيوبه، مواضعه، مزايا الإعداد، عيوبه، مواضعه، أكثر الخطباء قديماً وحديثاً يعدون خطبهم، الجمع بين الارتجال والإعداد، طريقة الإعداد.
الارتجال:
الارتجال هو التدفق بالكلام عفو الخاطر من غير إعداد، وقد كان ميسوراً وطبيعياً عند العرب، إذ أن أكثر خطبهم كانت عن بديهة وارتجال وكأنها إلهام، أما اليوم فهو نادر في الأمم كلها، لأن الخطيب العصري لا يقدر أن يخطب في موضوع يجهله، فإن كان على علم به لكثرة ما فكر فيه أو قرأ عنه، أو سمع به فإنه كالمعد له، وإن كان خالي الذهن من الموضوع عجز عن الاسترسال فيه خطيباً، فارتجال الفكرة يكاد يكون مستحيلاً، وارتجال التعبير من فكرة مدروسة ليس كثيراً، قال الدكتور تولوز-وهو من علماء النفس والأخلاق- :" إن الارتجال آفة الخطابة، لأنه يلقي المعنى دون أن ينضج بالتفكير".(1/83)
وليست الخطابة اليوم -كما كانت في الزمن القديم- كلاماً يُلقى من وَحْي الفطرة، بل هي اليوم فن له قواعده وأصوله، فمن واجب الخطيب أن يدرس موضوعه ويعده، أو يرسم معالمه وطريقة تناوله، ثم يرتجل، ومما يساعده على الارتجال أن يكون جريء القلب، غزير الاطلاع، سريع البديهة، حاضر الذهن، ثريّاً باللغة، واثقاً من نفسه وبتوفيقه.
ولقد يضطر الخطيب إلى الارتجال اضطراراً كان يكون في
حفل ويُدعى فجاءة إلى الكلام، أو في جمع ويحدث حدث يستدعي منه المقال، أو يكون قد أعد خطبته ولكن حدث ما أنساه بعضها فيرتجل، وكأن الخطبة كلها في ذاكرته.
ومن مزاياه فوق ذلك أنه يعين الخطيب على تعبير خطبته مطابقة لما يجدُّ من أمور، لأنه إن تقيد بما أعده وحفظه أفلتت منه فرص كثيرة من الخير أن ينتهزها، وقيّد نفسه بمتابعة تفكيره هو لا تفكير السامعين.
على أن بعض الخطب لا يلائمه إلا الارتجال، فحيثما كانت إثارة واستمالة وعاطفة متدفقة كان الارتجال وسيلة الخطيب، فالخطبة الحربية في الميدان، والخطبة الدينية الواعظة، والناحية التأثيرية من الخطبة القضائية والسياسية، وخطب التهنئة والترحيب، هذه كلها يجب أن تكون مرتجلة لا معدة، لأن الإعداد يضعف تأثيرها، ويحول بين الخطيب والتدفق، ويشغله عن استغلال الظروف الطارئة، ومتابعة نفسية السامعين.
الإعداد:
وللإعداد مزايا، لأن الأساليب المرتجلة أقل بهاء ورونقاً من المعدّة، أما الأفكار المرتجلة فإنها فجّة مبتسرة إذا قيست بالأفكار المدروسة الناضجة المختمرة، ثم إن ظهور الخطيب أمام الجمع بمظهر المجازف الذي لم يُعد القول فيه اعتداد بالنفس، واستهانة بالحاضرين، وتبجح بعدم الاهتمام، ودعوى أن خاطر الخطيب أسرع من خواطر الناس، وهذه كلها صفات لا ترتضيها الجماعات.
ولقد يعسر على المرتجل تفكيراً وتعبيراً أن يعالج الموضوع،(1/84)
وأن يصل منه إلى نتيجة، فهو كساع إلى الهيجا بغير سلاح، أو كهائم لا يعرف وجهته ولا المسالك إليها ويرتجل الكلام وليس فيه سوى الهذيان من حَشو الخطيب.
وكان كثير من البلغاء القدامى يعدون خطبهم ويهذبونها، ويتمرنون على إلقائها، هكذا كان يفعل شيشرون، وكان كانتليان من أساتذة الخطابة عند اللاتين يرى أن الارتجال لا يتهيأ للمرء إلا في آخر عمره بعد أن يكون قد تدرب وتمرن، وكتاب الجمهورية لأفلاطون يوضح أن جميع خطباء أثينا كانوا ينمقون العبارات قبل أن يلقوا خطبهم، ولذا تتراءى فيها آثار التعمل والتنقيح والإعداد.
وكان محظوراً على غير المتقاضين أن يترافعوا في المحاكم، فاحترف السفسطائيون إعداد الخطب وبيعها لأصحاب القضايا ليستظهروها ويلقوها في المحاكم" كانوا يجلسون على أفواه الطرق إلى جانب المحاكم، يمدون المتقاضين بخطب الدفاع، وبخاصة بعد انتشار الكتابة في القرن الخامس قبل الميلاد، وكان السفسطائي -المحضر للخطابة أو صانعا لخطب كما كانوا يسمونه- قوياً في القانون وفي البلاغة والتحرير، فيكتب الخطبة للمتقاضين وهم يحفظونها عن ظهر قلب، ليفرغوها من أدمغتهم أمام القضاء".
ولهذا قل المرتجلون في اليونان، وقل فيهم من يجسر على الخطابة قبل التروية والتملي في موضوعه، لأنه يخشى نقد السامعين لخطبته.
ومما يدل على شيوع الإعداد فيهم أن كثيراً من خطبهم وصلت
إلينا مكتوبة في وقت لم يكن الاختزال فيه معروفاً كما هو الآن، فلا تظن أن بعض الكتاب كانوا يكتبون اختزالاً والخطيب يلقي.(1/85)
وكان الارتجال في الحياة العربية الجاهلية أكثر شيوعاً من الإعداد أو أكثر من ارتجال العصور اللاحقة، وقد مر بنا أن الجاحظ يثبت للهند بلاغة، وللفرس بلاغة، ولغيرهم من الأعاجم بلاغة" وعنده أن البلاغة هي الخطابة، أو أن الخطابة في الأقل أكبر مظهر من مظاهرها15" ويثبت الفضل للعرب في الارتجال وقلة المعاناة، وينسب إلى غيرهم التحضير والإعداد، ولكنا نخالفه في أن يشمل هذا الحكم الحياة الإسلامية، فإن الإعداد فيها كان أكثر شيوعاً من الارتجال، فمثلاً في حديث السقيفة أن أبا بكر ( قال: إنه- في طريقه من بيت الرسول ( إلى سقيفة بني ساعدة- كان يُزوّر( يعد) كلاماً ليقوله في الجمع.
وقد حدث عمر بن الخطاب الناس عن السقيفة فيما بعد، وجاء في حديثه أنه كان زوّر (أعدّ) مقالة قد أعجبته يريد أن يقولها قبل أبي بكر16.
وفي البيان والتبيين للجاحظ ما نفهم منه أن بعضهم كان يعد خطبة في أوراق، فمثلاً يقول أبو مسمار العكلي:
لله درُّ عامرٍ إذا نطَق
ليس كقوم يُعرَفون بالسَّرَق
يُلفّقون القول تلفيق الخِرَق
في حفل إملاك وفي تلك الحلق
من خُطب الناس ومما في الورق
من كلّ نضَّاح الذَّفارى بالعَرَق
إذا رمته الخُطباء بالحدق
ويورد أبياتاً لبشار في مدح واصل بن عطاء-وذلك قبل أن يدين بشار بالرجعة ويكفر جميع الأمة- ونستنتج أن واصلاً كان يرتجل:
تكلفوا القول والأقوام قد حَفَلوا
فقام مرتجلاً تغلي بداهته
وجانبَ الراء لم يشعر بها أحد
وحبَّروا خطباً ناهيك من خطب
كمرجل القَيْنِ لما حُفَّ باللهب
قبل التصفُّح والإغراق في الطلب
وقال أيضاً:
فهذا بديههٌ لها كتحبير قائل
ج
إذا ما أراد القول زوَّره شهراً17
وكان البعيث الشاعر من أخطب الناس، وهو الذي يقول: "إني والله ما أرسل الكلام قضيباً خشبياً، وما أريد أن أخطب يوم الحفل إلا بالبائت المحكَّك".(1/86)
وأرادوا عبد الله بن وهب الراسي على الكلام يوم عقدت له الخوارج الرئاسة فقال: "وما أنا والرأي الفطير والكلام القضيب؟".
وقيل لابن التوأم الرَّفاشي: تكلمْ. فقال ما أشهى الخبز إلا بائتاً18.
فالعرب يرتجلون ويُعدون، ولكنهم أكثر ارتجالاً من غيرهم، لأنهم بطبائعهم وظروفهم أميل إلى الارتجال من الإعداد.
وزعيم المرتجلين في الشرق سعد زغلول. فقد كان يخطب
الساعات في الأيام المتوالية في الوفود التي تهرع إليه من شتى أنحاء القطر، ويخطب مرات في كل يوم، ولاسيما حين حورب الوفد المصري، وأغلقت صحفه، واستمر سعد على ذلك أشهراً، وكلما طال بالارتجال عهده أبدع وأجاد، على أن ارتجاله إنما كان في التعبير لا في التفكير، لأن الموضوعات التي تعالجها خطبه مفهومة له معلومة قد درسها ومحصها وأحاط بها، لأنها سياسية وهو محور السياسة وزعيم الشعب.
والإعداد- في الشعر وفي الكتابة- سمة للإنتاج البليغ في كثير من الأحيان، والناس لا يسألون عن هذا الإنتاج في كم يوم تم، وإنما يُعجبون به ويمتدحون صاحبه، وما من أحد يسأل اليوم: كم ساعة أو يوماً كان يقتضيها المتنبي وشوقي في نظم القصيدة، أو علي بن أبي طالب والحجاج في تنسيق الخطبة، أو الجاحظ والمنفلوطي في تحبير المقالة، فرب بيت منقح خير من ألف، ورب سطر مجيد خير من
كتاب.
قال بعض الشعراء لرجل: أنا أقول في كل ساعة قصيدة، وأنت تقرضها في كل شهر، فلِم ذلك؟ قال: لأني لا أقبل من شيطاني مثل الذي تقبله من شيطانك19.
وروى أن الشاعر أبر خس جاء يوماً إلى هوميروس يفاخره بكثرة شعره وسرعة عمله، ويعيِّره قِلةَ شعره وبطأه، فقال هوميروس: بلغني أن خنزيرة بأنطاكية عيرت لبؤة بطول زمن الحمل وقلة الولد، وفاخرتها بالكثرة، فقالت لها اللبؤة: لقد صدقتِ، إني ألد الولد بعد الولد ولكنه أسد.
واشتهر كثير من أدباء العرب بالتنقيح، وافتخروا به، فقصائد زهير تسمى الحوليات، والخطيئة يقول خير الشعر الحوليُّ المحكَّك.(1/87)
"ومن شعراء العرب من كان يدع القصيدة تمكث عنده حولاً كاملاً وزمناً طويلاً، يردد فيها نظره، ويقلب فيها رأيه...20" واستحسنوا أن تنقح الخطبة التي تنشد في يوم الحفل21، لأن تجويد التصوير يستدعي تجويد التفكير كما يرى (فلوبير) الكاتب الفرنسي المفتنُّ، فقد كان لا يكرر صوتاً في كلمة، ولا يعيد كلمة في صفحة، وكان يتلو ما كتب بصوت إيقاعي ليؤلف بين الحروف والكلمات، ويوفق بين السكنات والحركات.
وإذا كان الارتجال ضرورياً في بعض الخطب كما قلنا، فإن
الإعداد ضروري في بعضها الآخر، على تفاوت في طريقته والحاجة إليه. فالخطب السياسية لا مندوحة من إعدادها، وأي خطيب سياسي لا يعد خطبته إيجاداً وتنسيقاً فالإخفاق نصيبه، على أن بعض الخطب السياسية يعوزها الإعداد إيجاداً وتنسيقاً وتعبيراً، لحاجتها إلى دقة التعبير ووزن الألفاظ، كخطب المعاهدات وبعض خطب المؤتمرات الدولية، فهذه تعد إعداد كاملاً.
الجمع بينهما:
من الخير إذاً أن يجمع الخطيب بين الإعداد والارتجال، فيعد موضوعه. ثم لا يتقيد بما أعد، بل يتصرف كما تملى عليه الظروف، وحينئذ تمده ذاكرته بما قد أعده، وتسعفه بديهته بالجديد الذي لم يعده.
قال عبد الله بن المعتز:
والقول بعد الفكر يؤمن زَيْغُهُ
ج
شَتَّانَ بين روِيَّةٍ وبديهِ
وقال ابن الرومي:
نار الرَّوية نارٌ جدُّ مُنْضجِة
وقد يُفضَّلها قومٌ لسرعتها
ج
وللبديهة نار ذاتُ تلويح
لكنها سرعة تمضي مع الريح22
طرق الإعداد:
للخطباء في إعداد خطبهم طرق شتى ملائمة لميلهم واستعدادهم وتجاربهم، فمنهم من يكتبها وينقحها كأنها مقال أو بحث ثم يستظهرها، ومنهم من ينطق بالعبارات كأنه يملى، ثم يقيد بعد ذلك، ومنهم من يستعد في تفكير صامت كأنه يسمع صوتاً من باطنه، ومنهم من يعد جالساً، ومن يعد واقفاً أو متمشياً إلخ. وخير للخطيب الذي أعد خطبته كتابة أو نطقاً أن يخط ما تجود به قريحته، ثم يتأنق في تهذيبها وهو يُبيِّضها.(1/88)
وربما لا يحتاج الخطيب إلى كتابة خطبته بعد التفكير فيها وتنسيقها، بل يكتفي بتقييد عناصرها إن كان من ذوي البديهة الحاضرة والمرانة.
وخير طريقة للإعداد أن الخطيب يعد خطبته- إن كانت مما يحتاج إلى إعداد- إعداداً كاملاً ثم يتركها ويرتجل، أو يضعها أمامه مكتوبة، ويكتفي باللمح الخاطف بحيث يستوعب الصفحة في نظرة دون أن يشعر الجمهور بأنه يلمح، لأنه الموضوع ما دام واضحاً في ذهنه ومدروساً، فإنه ينبع من عقله الباطن دون عناء، ولكنه في طريقة اللمح هذه يكون أكثر وضوحاً وأسرع نبعاً وفيضاً.
الخطابة في تصوّر الأمم
تتأثر الأمم بهبات أفرادها، وطبيعة بلادها، ونظمها الاجتماعية والسياسية والدينية والاقتصادية، وحال لغتها، وصلتها بغيرها من جيرانها إلخ، فتسلك في حياتها مسالك ربما تنفرد بها، أو تنحو مناحي تمتاز بها وتنطبع بطابعها، ولذا قد تختلف في تصور شيء واحد، كما اختلفت مثلاً في تصورها للخطابة.
-1-
اليونان
كانت بلاد اليونان جمهوريات صغيرة، يكاد بعضها ينعزل عن بعض، لوعورة الأرض، وصعوبة الاتصال، واليونان ذوو عواطف جياشة، ومشاعر حساسة، وخواطر مسعفة، وميل على الافتنان في بلاغة الكلام، وإلى النظر العام، والتفكير المرتب، ينظر اليوناني إلى الموضوع نظرته إلى كلي، فيتناوله بالبحث والتحليل العقلي المنطقي الذي يربط الأسباب بالمسببات والعلل بالمعلولات، فهو إذاً يتفلسف.
ولهذا كثر فيهم خطباء الفطرة، قبل أن يشرق العلم والفلسفة من أثينا. فلما شعت أنوار العلم والفلسفة، وازدانت أثينا وغيرها بالعلماء والفلاسفة والشعراء والفنانين، وقويت الديمقراطية في جميع المدن، وتنافس الأفراد، وتطاحنت الأحزاب، وكثر النزاع والتقاضي أمام المحاكم الشعبية، شاع الجدل السياسي والقضائي، فاشتدت الحاجة إلى تعلم الخطابة، واحتكر تعليمها وتعليم البيان جماعة من الفلاسفة هم
السفسطائيون في النصف الثاني من القرن الخامس قبل الميلاد.(1/89)
وليس أدل على تقدير اليونان للخطابة من أنهم اتخذوها سلماً إلى أرقى مناصب الدولة، ولهذا كان التنافس في إجادتها على أشده، وكان الخطباء الممتازون يؤثرون في نفوس السامعين تأثير السحر.
وأن كانت الخطابة عندهم عالية القدر، فقد أحاطوا حماها بسياج يبعد عنه غير الشرفاء، فحرموا منها الأرقاء والوضعاء والماجنين ومن في خلقهم مطعن، كمن عقّ والديه، ومن نكل عن الدفاع عن الوطن، ومن اتجر فيما يأباه الخلق الكريم.
وأجلّوا الخطابة حتى لقد أعزّوا مكان الخطيب، ورشوه بالماء الطاهر، إشارة إلى أنه لا يصح أن يحدث فيه عمل أو يتردد قول إلا إذا كان طاهراً نقياً.
ثم بلغ بهم هذا الإجلال إلى أن أقاموا في معبد دلفيس تمثالاً من الذهب الخالص لجورجياس الخطيب السفسطائي.
والأصول العامة للخطابة عندهم:
1-إعداد الأفكار المقنعة للسامعين.
2-تنسيق هذه الأفكار بحيث تترابط، فتنشئ موضوعاً متسلسلاً مرتباً متماسكاً، فإذا تناول الخطيب معنى استقصاه، ثم انتقل إلى غيره.
3- العناية بالأساليب، ولهذا نجد في خطبهم آثار الصنعة والتهذيب، لأن الإعداد أكثر شيوعاً من الارتجال كما سبق.
-2-
الرومان
هم تلاميذ اليونان في العلوم والفنون، تلقوا الخطابة في مدارس رومانية على أساتذة من اليونان يعلمون باليونانية.(1/90)
وكانوا في أول أمرهم يزدرون الأدب والموسيقى والفنون الجميلة، وكان كاتو زعيم المقاومين لانتشار الأدب الإغريقي، والداعين إلى المحافظة على القديم، فلما مات سنة 148 ق.م وتم استيلا الرومان على بلاد الإغريق سنة 146 ق.م امتلأت رومة بالمثقفين من اليونان، فوضعوا حجر الأساس لفنهم الخطابي البلاغي، وجذبت الخطابة ذوي السراوة منهم، فأقبل عليها شبابهم طموحاً إلى الصيت البعيد، واستعداداً للدفاع، وانحصرت التربية العالية في منتصف القرن الثاني قبل الميلاد في (الخطابة)، حتى قال شيشرون المتوفى 43 ق.م "لم يهتم الطلبة في القرن الأخير في حكم الجمهورية (انتهت 27 ق.م) بدراسة شيء كما اهتموا بتعلم كل ما يعدهم للفصاحة والخطابة".
فمن الطبيعي إذاً أن يتصور الرومان الخطابة كما تصورها أساتذتهم في جملتها:
1- معان معدة، وأفكار مدروسة.
2- تنسيق المعاني، ووصل بعضها ببعض.
3- صياغتها في أساليب ملائمة للسامعين.
ولكن الخطيب اليوناني كان يجنح إلى القضايا الفلسفية، ويعتمد
عليها في الأدلة وترتيبها متأثراً بدراسته للفلسفة، أما الروماني فكان يصطنع في خطابته التفصيل والاستنباط والقياس متأثراً بثقافته القانونية.
-3-
العرب
عاش العرب في الجاهلية أحراراً، أباة للضيم لُسناً فصاحاً، يتفاخرون بإجادة القول، كما يتفاخرون بالشجاعة والكرم، وأسعفتهم بديهة حاضرة، ولغة رنانة غنية، واشتعلت بينهم حروب ومنازعات فازدهرت الخطابة عندهم.
لكنهم في الغالب لم يتصوروا الموضوع وحدة ذات معان مرتبة كما تصور اليونان والرومان، وإنما كانت لهم لفتات ونظرات إلى ما يهمهم من الموضوع، فلا يستقصون ولا يرتبون الأفكار، ولعل سبب ذلك شيوع الارتجال.(1/91)
" وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة ولا إجالة فكرة ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف وَهْمَه إلى الكلام، وإلى رجز يوم الخصام، أو حين أن يمتح على رأس بئر، أو يحدو ببعير أو عند المقارعة والمناقلة، أو عند صراع أو في حرب، فما هو إلا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب، وإلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني أرسالاً، وتنثال عليه الألفاظ انثيالاً، ثم لا يقيده على نفسه، ولا يُدَرِّسه أحداً من وُلده، وكانوا أميين لا يكتبون، ومطبوعين لا يتكلفون، وكان الكلام الجيد عندهم أظهر وأكثر، وهم عليه أقدر وأقهر، وكل واحد في نفسه أنطق، ومكانه من البيان أرفع، وخطباؤهم أوجز، والكلام عليهم أسهل، وهو عليهم أيسر من أن يفتقروا إلى تحفظ أو يحتاجوا إلى تدارس23...."
ولهذا كثرت حكمهم القصار، وشاع بينهم الإيجاز، وبان في خطبهم أثر الارتجال، والانفلات من ترتيب الخطبة إلى مراحل وأجزاء، واتسمت معانيهم بالصدق والبعد عن المبالغات، ولعل هذا من تأثير الشعر في الخطابة من حيث الإيجاز والجمل القصار، أو لعل السبب ميلهم إلى النظر الجزئي والتعبير العاجل السريع الموجز.
أما أسلوبهم فمنه المرسل، ومنه المزدوج، ومنه المسجوع.(1/92)
ولست أوافق الجاحظ على دعواه أن العرب هم الخطباء في قوله:" وجملة القول أنَّا لا نعرف الخطبَ إلاّ للعرب والفُرْس، فأما الهندُ فإنما لهم معانٍ مدونة، وكتُبٌ مخلّدة، لا تضاف إلى رجلٍ معروف، ولا إلى عالم موصوف، وإنّما هي كتبٌ متوارثة، وآدابٌ على وجه الدَّهر سائرةٌ مذكورة، ولليونانيِّين فلسفةٌ وصناعةُ منطق، وكان صاحبُ المنطقِ نفسُه بكيَّ اللسان، غيرَ موصوفٍ بالبيان، مع علمه بتمييز الكلام وتفصيله ومعانيه، وبخصائصه، وهم يزعمون أنّ جالينوس كان أنطَقَ الناس، ولم يذكروه بالخطابة، ولا بهذا الجنس من البلاغة، وفي الفُرس خُطباء، إلاّ أنّ كلَّ كلامٍ للفُرس، وكلَّ معنىً للعجم، فإنّما هو عن طُولِ فكرة وعن اجتهاد رأي، وطُول خلوة، وعن مشاورة ومعاونة، وعن طُول التفكُّر ودِراسة الكتُب.
لا أوافق الجاحظ، لأن العرب من أخطب الأمم حقيقة، ومن أحسنها بياناً، وأحضرها بديهة، ولكن الجاحظ غمط الأمم الأخرى حقها، مدفوعاً بالعصبية للعرب حين كان الشعوبية يجحدون فضل العرب، ويحاولون أن يقوضوا مجدهم.
وقد مر بنا في الخطابة عند اليونان والرومان ما يشعر بقيمتها، وشرفها، وتأثيرها، والعناية بها، وبراعتهم فيها.
أما إذا نظرنا إلى الارتجال والإعداد وجدنا العرب أكثر الأمم ارتجالاً واقلها إعداداً، لأن الخطيب اليوناني ما كان ليتصدى للخطابة قبل أن يُعد وينسق، مخافة النقد، وكذلك كان الخطيب الروماني، فقد كان شيشرون ينقح خطبه، ويتدرب على إلقائها قبل أن يخطب، ومازال هذا دأبه إلى سن الستين.(1/93)
على أن الإسلام قد نقل العرب نقلاً جديداً، فنمى الخطابة وقواها، إذ كانت من وسائله في الدعوة، ثم كانت من أسلحة الأحزاب السياسية التي نشأت بعد ذلك، وهي ضرورية في كل جمعة وعيد، ثم إنهم تأثروا بالقرآن الكريم والحديث الشريف والثقافة الإسلامية والعربية والدخيلة، فتعددت مجال القول، وتنوعت الخطابة، واتسقت المعاني، وتسلسلت، وصارت الخطبة ذات طابع لا تكاد تحيد عنه، كأن تبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثم يأتي الموضوع ثم الختام.
ولكن أثر اليونان كان فيهم ضعيفاً من هذه الناحية ونواحي الأدب كله، لأنهم عكفوا على ترجمة علوم اليونان ولم يترجموا أدبهم، وإذا كان إسحاق بن حنين قد ترجم كتاب الخطابة لأرسطو فإن أثره كان ضعيفاً في الخطباء، لأنه لم يشِع بينهم، ولأن الفطرة غلبت عليهم، ولأن الخطابة لم تكن تعلم كما كانت تُعلَّم عند اليونان والرومان24وحتى المؤدبون كانوا يعلمون الشعر والكتابة، ولا يعلمون الخطابة، ثم إن نظرة أرسطو إلى الخطابة نظرة متفلسفة، والعرب لم يميلوا إلى فلسفة أدبهم.
على أن العرب لم تكن لهم خطابة قضائية لأنهم كانوا يعتمدون في تقاضيهم على البينة واليمين، فلم يكن هناك مجال يتصاول فيه الخطباء، ولم يكن عندهم محلّفون يجدُّ الخطيب في استمالتهم وإقناعهم.
وكانت خطبهم السياسية- على كثرتها- حزبية مذهبية أكثر منها عامة, لأن نظام الحكم لم يكن برلمانيا كنظام الأمم الديمقراطية المعاصرة, أو كنظام اليونان في عهد الديمقراطية.
ونلاحظ أن الخطب الحفلية- التكريم والتأبين والوفود والإملاك- قليلة عندهم وموجزة.
على أن في تاريخ العرب قبل الإسلام وبعده كثيراً من الخطباء المصاقع الذين أجادوا الإنسان, في الخطب السياسية والوعظية والحربية.(1/94)
فإذا ما نظرنا إلى الناحية النظرية وجدنا الجاحظ قد تناول كثيراً من أمور الخطابة في كتابه (البيان والتبيين) إذ تحدث عن مقوماتها, وآثارها, وصفات الخطباء ومزاياهم, وعيوبهم, وانطلاقهم, وحصرهم, وتخلصهم, وملابسهم, واعتمادهم على المخاصر والعصى والقسي الخ وتحدث عن البدء والختام, والإيجاز والإسهاب, إلى غير ذلك من المسائل الموصولة بالخطابة.
ولكن كتاب الجاحظ تناول هذه الموضوعات كلها في مواضع متفرقة لا يجمعها نسق واحد, لأن الكتاب عرض للبيان العربي شعره ونثره, وعرض للبلغاء من شعراء وكتاب وخطباء, وكانت الخطابة تجيء مفرقة هنا وهناك, لأن الجاحظ لا يعدو هذا الملك في مؤلفاته.
ولم يكد يمضي على كتاب الجاحظ نصف قرن حتى ظهر كتاب (نقد النثر)25الذي تناول الخطابة في أحد فصوله.
-4-
المحدَثون
أما الخطابة عند المحدثين فقد صرعت الشعر, وسامًتْ الكتابة على جلال خطرها, وقد سبق القول في عوامل ازدهارها وفي أنواعها.
والمحدثون يتصورونها ذات أنواع عدة, وذات مراحل وأجزاء, ولكل نوع من أنواعها أسلوبه وطريقته, ثم يعنون بالسامعين ونواحي إثارتهم, ويغلب على خطباء العصر الحديث التحضير والإعداد, ثم يلقى الخطيب من الذاكرة كأنه يرتجل أو يلمح الأوراق لمحاً خاطفاً دون أن يدري السامعون, وكثيراً ما يتصرف فيما يلقى, أو يلقى قارئاً إن خشي أن تخونه الذاكرة, وإن كان هذا معيباً كما سبق, وهذه الدراسة التي يدور حولها هذا الكتاب تصوير للخطابة في العصر الحديث.
ومن خطباء العصر الحديث البارزين في مصر من الساسة سعد زغلول ومصطفى كامل وجمال عبد الناصر, وفي سورية فارس الخوري, وفي فرنسا كليمنصو ولاشو, وفي إنجلترا لويد جورج وتشرشل, وفي ألمانيا هتلر, وفي إيطاليا موسوليني.
وفي العالم الإسلامي اليوم شبان وشيب يهزون المنابر, ويثيرون المشاعر, إلقاء وتفكيراً وتصويراً وتعبيراً, وهم كثير, نسمعهم ونقرأ لهم, ونعجب بهم.
المرأة والخطابة(1/95)
عرفت الآداب العالمية قلة من النساء برعن في الشعر والكتابة والفنون عامة, لكنها لم تعرف نسوة جلجلت على المنابر أصواتهن, كما تفوقن في الشعر وسائر الفنون.
ولو رجعنا إلى ما دوّن من خطب اليونان والرومان لم نكد نظفر باسم أنثى واحدة بين ذلك العدد العديد من الرجال.
ولو رجعنا إلى كتاب في تاريخ الأدب الفرنسي من نشأته حتى عصرنا هذا فلن نظفر باسم امرأة واحدة بين عشرات الأسماء من الرجال الخطباء من عهد بودان وسان فرانسوا دي سال, إلى عهد جول فافر ولا كوردير وغامض وديدون.
ولن نرجع من البحث بجدوى حيث نفتش في تاريخ الأدب الأنجليزي عن خطيبة واحدة, إلا ما يصادفنا من أسماء بعض المتحدثات أو المتكلمات في العصر الحديث.
وسنلقى من الرجال الخطباء على مر العصور أسماء قرعت سمع الدهر, حتى بقيت لنا أصواتها قوية مجلجلة بالأمس القريب أو البعيد
نماذج من خطب
الرسول ( والخلفاء الراشدين
بسم الله الرحمن الرحيم
إليك أخي الحبيب بعضاً من خطب النبي ( والخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين، ونماذج من خطباء بعض التابعين والسلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين، لنرى أهمية الخطابة التي تميز بها الكلام، ويتفاخر بها العرب في مشاهدهم، وتنطق بها الأئمة على منابرهم حيث استجزلت لها الألفاظ، وتُخيّرت لها المعاني.
واعلم أن جميع الخطب على ضربين -منها الطوال- ومنها القصار.
ولكل ذلك موضع يليق به، ومكان يستحسن فيه، وأول ما نبدأ به من ذلك خطبة النبي( ثم الخلفاء الراشدين، ثم الجلة من التابعين والجلة من الخلفاء الماضين والفصحاء المتكلمين.
نموذج من خطب النبي ( والخلفاء الراشدين
خطب النبي بعشر كلمات، حمد الله وأثنى عليه، ثم قال:(1/96)
[ أيها الناس! إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، إن المؤمن بين مخافتين: بين عاجل قد مضى لا يدري ما الله صانع به، وبين آجل قد بقي لا يدري ما الله قاضٍ فيه، فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكبرة، ومن الحياة قبل الموت، فوا الذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب، ولا بعد الدنيا إلا الجنة أو النار"ا.هـ.
خطبة رسول الله ( في حجة الوداع
" إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله
من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِ الله فلا مُضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، و(أشهد) أن محمداً عبده ورسوله.
أوصيكم عباد الله، بتقوى الله، وأحثّكم على طاعة الله، واستفتح بالذي هو خير.
أما بعد، أيها الناس، اسمعوا مني أبيّن لكم، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا، أيها الناس: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلّغت، اللهم اشهد.
فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى الذي ائتمنه عليها، وإن ربا الجاهلية موضوع، وإن أول ربا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب، وإن دماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب26، وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير السِّدانة والسِّقاية، والعمد قَود27، وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر، وفيه مائة بعير، فمن زاد فهو من أهل الجاهلية.
أيها الناس! إن الشيطان قد يئس أن يُعبد في أرضكم هذه، ولكنه رضي أن يُطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم.(1/97)
أيها الناس! إنما النّسيء زيادة في الكفر يُضل به الذين كفروا، يحلّونه عاماً ويحرّمونه عاماً ليُواطئوا عدّة ما حرّم الله، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض، منها أربعةٌ حرُم، ثلاثة متواليات، وواحد فرد: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب28الذي بين جمادى وشعبان، ألا هل بلّغت، اللهم اشهد.
أيها الناس! إن لنسائكم عليكم حقاً، وإن لكم عليهن حقاً: لكم عليهن ألاّ يُوطئنَ فُرشكم غيركم، ولا يُدخلَنّ أحداً تكرهونه إلاّ بإذنكم، ولا يأتين بفاحشة، فإن فعلْنَ فإن الله قد أذن لكم أن تعضلُوهنّ وتهجروهن في المضاجع، وتضربوهن ضرباً غير مبرّح، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهنّ وكسوتهن بالمعروف، وإنما النساء عندكم عَوانٍ29لا يملكن لأنفسهن شيئاً، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فاتقوا الله في النساء، واستوصوا بهن خيراً، ألا هل بلّغت، اللهم اشهد.
أيها الناس! إنما المؤمنون إخوة، ولا يحل لامرئٍ مال أخيه إلا عن طيب نفسه، ألا هل بلّغت، اللهم اشهد، فلا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم أعناق بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا( بعده) كتاب الله وأهل بيتي، ألا هل بلغت، اللهم اشهد.
أيها الناس! إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي على أعجمي فضل إلا بالتقوى، ألا هل بلغت، قالوا: نعم، قال: فليبلغ الشاهد منكم الغائب.
أيها الناس! إن الله قسم لكل وارث نصيبه من الميراث، ولا يجوز لوارث وصية في أكثر من الثُّلُث، والولد للفراش، وللعاهر الحجر، من دُعيَ إلى غير أبيه، أو تولّى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته].
خطب أبي بكر
وخطب أبو بكر يوم السقيفة(1/98)
أراد عمر الكلام، فقال له أبو بكر: على رِسلِك، ثم حمِد الله وأثنى عليه، ثم قال:
أيها الناس! نحن المهاجرون أول الناس إسلاماً، وأكرمهم أحساباً، وأوسطهم داراً30، وأحسنهم وجوهاً، وأكثر الناس ولادةً في العرب، وأمسّهم رحماً برسول الله (، أسلمنا قبلكم، وقدّمنا القرآن عليكم، فقال تبارك وتعالى:( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان(، فنحن المهاجرون وأنتم الأنصار، إخواننا في الدين، وشركاؤنا في الفيء، وأنصارنا على العدوّ، آويتم وواسيتم، فجزاكم الله خيراً، فنحن الأمراء، وأنتم الوزراء، لا تدين العرب إلا لهذا الحي من قريش، فلا تُنفسوا على إخوانكم المهاجرين ما منحهم الله من فضله.(1/99)
أما بعد أيها الناس، إني أوصيكم بتقوى اللّه العظيم في كل أَمر وعَلَى كلِ حال، ولُزوم الحق فيما أَحببتم وكَرِهتم، فإنه ليس فيما دون الصدق من الحديث خير. مَن يَكْذب يَفْجر، ومَن يَفْجر يَهْلِك. وإيّاكم والفَخْرَ، وما فَخْرُ مَن خُلق من تراب وإلى التراب يَعود، هو اليوم حيّ غداً مَيّت. فاعمَلوا وعُدُّوا أنفسَكمِ في الموتى، وما أَشكل عليكم فردّوا عِلْمه إلى اللّه، وقَدِّموا لأنفسكم خيراً تَجدوه مًحْضراً، فإنه قال عَزٌ وجلّ:(( يَوْمَ تَجد كلُّ نَفْس ما عَمِلَتْ مِن خَيْرٍ مُحضَراً ومَا عَملت مِن سُوء تَوَدُّ لو أَنَّ بينها وبينه أَمَداً بَعيداَ ويُحذِّرَكم اللّه نفسَه والله رءُوف بالعِبَاد.)) فاتّقوا اللّه عبادَ اللّه، وراقبوه واعتبروا بمَن مَضى قبلكم، واعلموا أنه لا بُدّ من لقاء ربّكم والجزاء بأعمالكم صَغيرها وكَبيرها، إلا ما غَفر اللّه أنه غَفور رحيم، فأَنْفًسَكم أَنفسكم والمُستعانُ الله، ولا حَولَ ولا قوّة إلّا باللّه. إنً اللّه وملائكته يصلّون على النبيّ، يأيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلِّموا تَسْليَماَ. اللَّهم صَلِّ على محمدٍ عَبْدِك ورسولك أفضلَ ما صلَيت على أحدٍ من خلْقك، وزَكِّنا بالصلاة عليه، وأَلحقنا به، واحشُرنا في زمْرته، وأَوْرِدْنا حوضَه. اللًهم أَعِنَّا عَلَى طاعتك، وانصُرنا عَلَى عدوّك.
وخطب أيضاً، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:(1/100)
أَوصِيكم بتقوى اللّه، وان تُثْنُوا عليه بما هو أهلُه، وأن تَخْلِطوا الرَّغبة بالرَّهبة، وتَجمعوا الإلحافَ بالمَسألة، فإنَّ اللّه أَثنىِ عَلَى زكريّا وعَلَى أهل بيته، فقال:(( إنّهم كانوا يُسَارِعُون في الخَيْرَاتِ ويَدْعُوننا رَغَباَ وكانوا لنا خاشِعين.)) ثم اعلَموا عبادَ اللّه أن اللهّ قد ارتهن بحقه أنفسَكم، وأَخذ عَلَى ذلك مواثيقَكم، وعَوَّضكم بالقليل الفاني الكثيرَ الباقي، وهذا كتابُ اللّه فيكم لا تَفْنى عجائبُه، ولا يُطْفأ نورُه. فثِقوا بقوله، وانتصحوا كتابَه، واستبصروا به ليوم الظلمة، فإنه خَلقكم لعبادته، ووَكَل بكم الكرامَ الكاتبين، يَعلمون ما تفَعلون. ثم اعلموا عبادَ اللّه أنكم تَغْدون وتَرُوحون في أجل قد غُيِّب عنكم عِلْمُه، فإن استطعتم أن تنقضي الآجالُ وأنتم في عَمل اللّه، ولن تَستطيعوا ذلك إلا باللّه، فسابقوا في مَهل بأعمالكم قبل أن تنقضي آجالكم فتردّكم إلى سُوء أعمالكم، فإنَّ أَقواماً جعلوِا أجالَهم لغيرهم، فأَنهاكم أن تكونوا أمثالَهم. فالوَحَى الوَحَى، والنجاء النجاء، فإن وراءكم طالباً حَثيثاً مَرُّه، سريعاً سَيْرُه.
خطب عمر بن الخطاب
رضي الله عنه(1/101)
وخطب عمر فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس: مَن أراد أن يَسْأل عن القرآن فليأت أبيَّ بن كعب، ومَن أراد أن يَسْأل! عن الفرائضَ فَلْيأت زيدَ بن ثابت، ومَن أراد أن يَسأل عن الفِقْه فَلْيأت مُعاذَ بن جَبَل، ومَن أراد أن يَسْأل عن المال فَلْيأتني، فإنّ اللّه جعلني له خازناً وقاسماً، إني بادئ بأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم فمُعطيهن، ثم المهاجرين الأوَلين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم، أنا وأصحابي، ثم بالأنصار الذين تَبؤَؤوا الدارَ والإيمان مِن قبلهم، ثم مَن أسرع إلى الهِجرة أسْرعَ إليه العطاء، ومَن أبطأ عن الهجرة أبطأ عنه العطاء. فلا يلومنَّ رجل إلا مُناخ راحلته، إني قد بَقيت فيكم بعد صاحبي، فابتليتُ بكم وابتُليتم بي، وإني لن يَحْضرني من أموركم شيء فأكِلَهُ إلى غير أهل الْجَزاء والأمانة، فلئنْ أحسنوا لأحسننَ إليهم، ولئنْ أساؤوا لاُ نكّلَنَ بهم.
وخطب أيضاً فقال:
الحمد لله الذي أعزَنا بالإسلام، وأكرمنا بالإيمان، ورَحمنا بنبيّه صلى الله عليه وسلم، فهدانا به من الضلالة، وجَمعنا به من الشتات، وألَّف بين قلوبنا، ونَصرنا عَلَى عدوّنا، ومكّن لنا في البلاد، وجَعلنا به إخواناً مُتحابين، فاحَمدوا الله عَلَى هذه النّعمة، واسألوه المَزيدَ فيها والشُكر عليها، فإنَّ اللّه قد صَدقكم الوعدَ بالنَصر عَلَى مَن خالفَكم، وإياكم والعملَ بالمَعاصي، وكُفْر النعمة، فقلما كفر قوم بنعمة ولم يَنزعوا إلى التوبة إلا سُلبوا عزَهم، وسُلط عليهِم عدوّهم، أيها الناس، إنَ الله قد أعزّ دَعوة هذه الأمة وجَمع كلمتها وأظهر فَلَجها ونصَرها وشرَّفها، فاحمدوه عبادَ الله عَلَى نِعمَه، واشكروه عَلَى آلائه. جعلَنا اللّه وإياكم من الشاكرين.
وخطب إذ ولي الخلافة
صَعد المِنْبَر فحَمد اللهّ وأثنى عليه، ثم قال:(1/102)
ياأيها الناس، إني داعٍ فأمِّنوا، اللهم إني غَليظ فَلَينِّي لأهل طاعتك بموافقة الحقّ، ابتغاء وجهك والدار الآخرة، و ارزقْني الغِلْظة والشدّة على أعدائك وأهل الدَّعارة والنِّفاق، من غير ظُلم منّي لهمِ ولا اعتداء عليهم. اللهم إني شحيح فسَخِّني في نوائب المَعروف، قَصْداً من غير سرف ولا تَبْذير ولا رياء ولا سُمعة، واجعلني ابتغي بذلك وَجْهَك والدارَ الآخرًة. الَّلهم ارزقني خَفْض الْجَناح وَلين الجانب للمُؤمنين. اللهم إني كثيرُ الغَفْلة والنِّسيان فألْهمني ذِكرْك على كلّ حال، وذِكرْ الموت في كلّ حين، اللهم إني ضعيف عند العمل بطاعتك فارزقني النشّاط فيها والقًوّة عليها بالنيّة الحسنة التي لا تكون إلا بعزّتك وتَوْفيقك، اللهم ثَبِّتني باليقين والبرّ والتَّقوى، وذِكْر المَقام بين يديك، والْحَياء منك، وارزقني الخُشوع فيما يُرْضيك عني، والمُحاسبة لنفسي، وصلاح النِّيات، والحَذر من الشّبهات، اللهم ارزقني التفكّر والتدبّر لما يتلوه لِساني من كتابك، والفَهْم له، والمَعرفة بمَعانيه، والنّظر في عجائبه، والعملَ بذلك ما بقيتُ، إنك على كلّ شيء قدير.
وكان آخرً كلام أبي بكر الذي إذا تكلَّم به عُرف أنه قد فرغ من خطبته: اللهم اجعل خيرَ زماني آخرًه، وخيرَ عملي خواتمَه، وخيرَ أيامي يومَ ألقاك، وكان آخرً كلام عمر الذي إذا تكلم به عُرف أنه فَرغ من خُطبته: اللهم لا تَدعني في غَمرة، ولا تأخذني على غِرِّة، ولا تَجْعلني من الغافلين.
خطبة لعثمان بن عفان
رضي اللّه عنه
ولما وَلي عثمانُ بن عفّان قام خطيباً، فحمِد اللهّ وأثنى عليه، وتَشهَّد، ثم أُرتج عليه، فقال: أيها الناس، إنَّ أوّل كلّ مَركب صَعْب، فإنْ أعِش فستأتيكم الخُطب عَلَى وَجهها، وسيجعل اللهّ بعد عُسر يُسراَ.
خطبة أمير المؤمنين علي
بن أبي طالب رضوان اللّه عليه(1/103)
خطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضوان الله عليه أوّل خُطبة خَطبها بالمدينة، فحَمِد الله وأَثنى عليه وصلى على نبيّه عليه الصلاةُ والسلام، ثم قال: أيها الناس، كتابَ اللّه وسُنّةَ نبيّكم صلى الله عليه وسلم أما بعد، فلا يَدَّعينّ مُدّعٍ إلا على نفسه، شُغِل مَن الجنّة والنار أمامَه، ساعٍ نجا، وطالبٌ يرجو، ومقمر في النار، ثلاثة، واثنان: مَلَك طار بجناحيه، ونبيّ أخذ اللّه بيديه، لا سادس، هلك مَن اقتحم، وَرَدِي مَن هوى اليمينُ والشِّمال مَضَلَّة، والوًسطى الجادّة. مَنهج عليه أم الكتاب والسنّة وآثارُ النبوّة. إنَّ اللّه داوَى هذه الأمة بدواءين: السَّوط والسيف، لا هَوادة عند الإمام فيهما، استتروا ببيوتكم، وأصْلِحوا فيما بينكم، فالموتً من ورائكم، مَن أَبدى صَفحته للحقّ هَلَك. قد كانت أمورٌ لم تكونوا فيها مَحمودين. أما إني لو أشاء أن أقول لقُلت، عفا اللّه عما سَلف، سَبق الرجلان ونام الثالث كالغُراب همته بَطنه، وَيْله! لو قُصّ جناحاه وقُطع رأْسه لكان خيراً له، انظروا فإن أنكرتم فأنكروا، وإن عَرفتم فاعرفوا. حقّ وباطل، ولكُلّ أهل، ولئن كَثر الباطل لقديماً فعل ولئن قَلَّ الحق لربَّما ولعلّ، ولقلما أدبر شيء فاقبل، ولئن رجعتْ إليكم أُموركم إنكم لسعداء، وإني لأخشى أن تكونوا في فَتر، وما علينا إلا الاجتهاد.
وخطبة له أيضاً
حَمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: أوصيكم عبادَ اللّه ونَفسي بتَقْوى(1/104)
اللّه ولُزوم طاعته، وتقديم العَمَل، وتَرْك الأمَل، فإنه من فَرّط في عمله، لمْ يَنْتفع بِشيء من أمله. أين التَّعِب بالليل والنهار، واْلمقتحم لِلُجج البحارِ، ومَفاوِز القِفار؛ يَسير من ورِاء الجبال، وعالج الرمال؛ يَصل الغُدُوّ بالرَّواح، والمَساء بالصَّباحِ، في طلب مُحقَرات الأرباحِ؛ هَجَمتْ عليه منيّته، فعظُمت بنفسه رَزِيته؛ فصار ما جَمع بُوراً، وما اكتسب غروراً، ووافَى القيامةَ مَحْسوراً، أيها اللاهي الغار نفسه، كأنِّي بك وقد أتاك رسولُ ربك، لا يَقْرع لك باباً، ولا يَهاب لك حِجاباً؟ ولا يَقْبل منك بَدِيلًا، ولا يأخذ منك كَفِيلاً؛ ولا يرْحم لك صغيراً، ولا يُوقّر فيك كبيراً؛ حتى يُؤدِّيك إلى قَعْر مُظلمة، أرجاؤُها مُوحشة، كفِعْله بالأمم الخالية، والقُرون الماضية. أين مَن سعى واجتهد، وجَمع وعدّد، وبَنَى وشَيّد، وزَخرف ونَجّد، وبالقليل لم يَقْنع، وبِالكثير لم يُمتَّع؟ أين مَن قاد الجنود، ونَشر البُنود؛ أضحَوْا رُفاتاً، تحت الثرى أمواتاً، وأنتم بكأسهم شاربون، ولسبيلهم سالكون، عبادَ اللّه، فاتّقوا اللّه ورَاقبوه، واعملوِا لِلْيوم الذي تُسيَر فيه الجبال، وتَشقّق السماء بالغَمام، وتَطايَرُ الكُتب عن الأيمان والشمائل، فأيّ رَجُل يومئذ تُراك؟ أقائل: هاؤم اقَرءوا كتابيه؟ أم: يا ليتني لم أوت كتابيَه؟ نسأل مَن وَعَدَنا بإقامة الشرائع جَنَّته أن يَقينا سُخْطه، إنّ أحسنَ الحديث وأبلغَ الموعظة كتابُ اللّه الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خَلْفه، تَنْزِيل من حَكِيم حَمِيد.
وخطبة له أيضاً:
الحمدُ للّه الذي اسْتَخْلص الحمدَ لنفسه، واستوجبه على جَميع(1/105)
خَلْقه، الذي ناصيةُ كُلّ شيء بيده، ومَصير كُلّ شيء إليه، القَوي في سُلطانه، اللَطيف في جَبَروته، لا مانعَ لما أعطى، ولا مُعْطِي لما مَنع، خالق الخلائقِ بقًدْرته، ومسخَرهم بَمشِيئته، وَفي العهد، صادق الوَعْد، شديد العِقاب، جزيل الثَواب. أحمده وأستعينه على ما أنعَم به، مما لا يَعرف كنْهَه غيرُه، وأتوكَل عليه توكّل المسْتسلم لقُدرته، المُتبري من الحَوْل والقُوةِ إلا إليه، وأشهد شهادةً لا يَشُوبها شك أنه لا إله إلا هو وحدَه لا لشريك له، إلهاً واحداً صَمَداً، لم يَتَخذ صاحبةً ولا ولَداً، ولم يكن له شريك في المُلك، ولم يكن له وليّ من الذُّل وكَبِّره تَكْبيراً، وهو على كل شيء قدير. قَطع ادعاء المُدعي بقوله عزّ وجلّ:(( وما خَلَقْتُ الجنِّ والإنْس إلاّ لِيَعبدون)) وأشهدُ أن محمداً صلى الله عليه وسلم صفوتُه من خَلْقه، وأمينُه على وَحْيَِه، أرسله بالمَعْروف أمِراً، وعن المُنكر ناهياً، وإلى الحقّ داعياً، على حين فَتْرة من الرُّسل، وضَلالة من الناس، واختلاف من الأمور، وتَنازُع من الألسن، حتى تَمّم به الوَحْي، وانْذر به أهلَ الأرض. أوصيكم عبادَ اللّه بتَقْوى اللّه، فإنها العِصْمةُ من كلّ ضَلال، والسّبِيلُ إلى كل نَجاة؟ فكأنكم بالجُثث قد زايَلَتْها أرواحُها، وتَضمَّنتها أجداثُها، فلن يَسْتقبِلَ معمَّر منكم يوماً من عُمره إلا بانتقاص آخرَ من أَجَله، وإنما دُنياكم كَفْيء الظِّل، أو زاد الراكب، وأحذِّركم دُعاء العَزيز الجبّار عبدَه، يوم تعفَّى آثارُه، وتًوحِشُ منه دِيارُه، ويُوتَم صِغارُه، ثم يصير إلى حَفِير من الأرض، مُتعفِّراً خَدُّه، غيرَ مُوسَد ولا مُمهّد. أسأل الذي وَعدنا على طاعته جَنْته أن يَقينا
سُخْطه، ويجنِّبنا نِقْمته، ويهَب لنا رَحْمته، إنَ وأبلغ الحديثِ كتابً اللّه.(1/106)
وخطبة له رضي اللّه عنه: أما بعد، فإنّ الدنيا قد أدبرت وآذنت بوَداع، وإن الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطلا، وإن المضمار اليوم والسِّباق غداً، ألا وِإنكم في أيام أمل، ومِن ورائه أجل، فمن أخْلَص في أيام أمله، قبل حُضور أجله، نفعه عملُه، ولم يَضره أملُه؛ ومن قَصر في أيام أمله، قبل حُضور أجله، فقد خَسِر عملُه، وضَجره أمله. ألا فاعملوا اللّه في الرغْبة، كما تَعملون له في الرَّهبة. ألا وإني لم أر كالجنَة نام طالبها، ولم أر كالنَار نام هاربها. ألا وإنكم قد أمِرْتم بالظَّعْن، ودُللتم على الزّاد، وإن أخوفَ ما أخاف عليكم اتباع الهوى، وطولُ الأمل.
وخطب أيضاًً فقال: أيها الناس، احفظوا عنّى خمساً، فلو شَددتم إليها المَطايا حتى تُنضوها لم تَظفروا بمثلها: إلا لا يرجونِّ أحَدُكم إلا ربّه، ولا يخَافن إلا ذَنبَه، ولا يَسْتَحي أحدُكم إذا لم يعلم أن يتعلم، وإذا سئل عمّا لا يعلم أن يقول: لا أعلم؛ أي وإن الخامسةَ الصَبر؛ فإن الصبرَ من الإيمان بمنزلة الرأس من الجَسَد. مَن لا صَبْر له لا إيمان له، ومَن لا رأسَ له لا جَسد له. ولا خير في قراءة إلاَّ بتدبّر، ولا في عبادة إلا بتفكر، ولا في حِلْم إلا بعلم. ألا أنبئكم بالعاِلم كُلِّ العالم، مَن لم يُزيِّن لعباد اللّه معاصيَ الله، ولم يؤمنهم مَكْرَه، ولم يُؤْيِسهم من رَوْحه، ولا تُنْزلوا المُطِيعين الجَنَّة، ولا المُذْنبين المُوَحدين النار، حتى يَقْضيَ اللّه فيهم بأمره. لا تأمنوا على خير هذه الأمة عذابَ اللهّ، فإنه يقول: فَلاَ يَأمن مَكْر َاللهّ إلا القومُ الخاسِرُون، ولا تُقْنِطوا شرّ هذه الأمة من رحمة اللهّ، فإنّه لا ييأس من رَوْح اللّهِ إلا القومُ الكافرون.(يوسف)
أشهر الدعاة في عصر صدر الإسلام وهديهم في الدعوة(1/107)
لقد كان المسلمون في الصدر الأول، لا سيما على عهد الخليفتين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، يهتمون بأمر الدين، فقد كانت خاصة الصحابة رضي الله عنهم الذين عاشروا النبي( وتلقوا عنه، متواصلين متكاتفين، يشعر كل منهم بما يشعر به الآخر من الحاجة إلى نشر الإسلام وحراسته ومقاومة كل ما يمس شيئاً من عقائده وأحكامه وآدابه، ومصالح أهله، فخطبهم في التحريض على القتال دعوة إلى الله تعالى، ورفع دينه، وإعلاء كلمته، ونشر دعوته، وخطبهم في الحث على الاعتصام بحبل الله وعلى الألفة والإخاء دعوة إلى الله تعالى، وخطبهم في الشورى مظهر لفهم الدين، كلٌّ يدلي برأيه، ويؤيد دعواه بالقواعد الدينية، والكل كان مرجعه في هذا كتاب الله وسنة رسوله، والمبادئ الإسلامية المعلومة من الدين، وهكذا في كل أغراضهم كان الدين فيها هو الأساس الذي تقوم عليه دعوتهم إلى الله تعالى، ذلك أن الدين الحنيف كان هو المسيطر على ضمائرهم والقانون الذي إليه يحتكمون، والشرع الذي على مقتضاه يسيرون في كل ما يأتون وما يذرون، كما يعلم هذا بالوقوف على خطبهم في قواد الجيوش، ووصاياهم في عمال الولايات، ونصائحهم في جمهور الأمة، وكانت عامتهم من ورائهم يراقبون القائمين بالأعمال العامة، حتى كان الصعلوك من رعاء الشاء يأمر مثل عمر بن الخطاب، وهو أمير المؤمنين وينهاه فيما يرى أنه الصواب، ولا بدع فالخلفاء على نزاهتهم ورفعة مقامهم ليسوا بمعصومين، وقد صرح عمر ( بخطئه ورجع عن رأيه غير مرة، وقد كان في صدر الإسلام وما يليه يتصدر للدعوة والإرشاد في المساجد العامة والمجتمعات العامة أجلاّء العلماء المشهود لهم بالفضل، وكان يختلف إلى مجالسهم الأمراء والعظماء، ويتبعهم العدد الكثير من عامة الأمة، فكان لهم أحسن الآثار وأعظم الفوائد في تصحيح العقائد، وإصلاح الأعمال، وتهذيب النفوس، والإرشاد إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال.
الحسن البصري(1/108)
وممن أحرز قصب السبق في هذا المضمار الحسن البصري، وهو أبو سعيد الحسن ابن أبي الحسن يسار البصري. كان أبوه يسار من سبي ميسان- بلدة بالعراق- سباه الأمير المغيرة بن شعبة مع سيرين أبي محمد بن سيرين، حينما افتتحها في عهد عمر بن الخطاب، ثم صار يسار هذا مولى لزيد بن ثابت الأنصاري، وكانت أم الحسن- وتسمى خيرة- مولاة لأم سلمة زوج النبي صلوات الله وسلامه عليه، وفي بيتها ولد الحسن سنة 21هـ، وربما غابت في حاجة فيبكى فتعطيه أم سلمة ثديها تعلله به إلى أن تجئ أمه، فدرّ عليه ثديها فشربه، فيرون أن تلك الحكمة والفصاحة اللتين عرف بهما كانتا من بركة ذلك. ونشأ الحسن بوادي القرى، وتلقى الفصاحة عن الأعراب، وسمع عثمان، وروى عن عمران بن حصين وأبي موسى الأشعري، وابن عباس، وجندب وزيد بن ثابت الأنصاري ولما أتم علومه ومعارفه، وظهرت مخايل النجابة عليه، عين كاتباً للربيع بن زياد الحارثي وإلى خراسان، وأحد فاتحيها لعمر بن الخطاب، ثم شاع فقه الحسن وفضله وتناقل الخلق ورعه ونبله، فتقلب في الأعمال والولايات، مع انتياب مسجد البصرة يعقد فيه مجلسه ليفقه الناس ويذيع فيهم موعظته وحكمته، ويبثهم معارفه وفلسفته، وينشر بينهم دعوته السياسية في تثبيت دعائم الدولة، إلى أن اختاره عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لقضاء البصرة سنة 99هـ، وقال عنه: لقد وليت قضاء البصرة سيد التابعين، وحقاً لقد كان سيد التابعين، وإمام أهل العلم والحكمة والرأي في عصره، وكان من الفصاحة والبلاغة في أعلى مقام مع الزهد والورع، والنسك والتقى، حتى كانوا إذا ذكروا البصرة قالوا: شيخها الحسن، وأنه سيد سمح، وإنه أخطب الناس وأفصحهم، وإن علانيته أشبه بسريرته، وسريرته بعلانيته، وآخذ الناس لنفسه بما يأمر به غيره، ناهيك عن رجل استغنى عما في أيدي الناس من دنياهم، واحتاجوا إلى ما في يديه من أمر دينهم، قيل ليونس بن عبيد: هل تعرف رجلاً يعمل بعمل الحسن البصري؟ فقال: رحم(1/109)
الله الحسن، والله ما أعلم أحداً يقول بقوله، فكيف يعمل بعمله، كان والله إذا ذكرت عنده النار كأنه لم يخلق إلا لها، وما رؤي قطّ إلاّ وكأن النار والجنة بين عينيه، خشية ورجاء، لا يغلب أحدهما صاحبه- وسمعته السيدة عائشة رضي الله عنها يتكلم فقالت: من هذا الذي يتكلم بكلام الصديقين؟ وقيل لعلي ابن الحسن رضي الله عنهما: إن الحسن البصري يقول: ليس العجب لمن هلك كيف هلك وإنما العجب لمن نجا كيف نجا، فقال علي: سبحان الله هذا كلام صديق، وروي عن الأعمش أنه كان يقول: ما زال الحسن البصري يعنى بالحكمة حتى نطق بها، وسمعه آخر وهو يعظ فقال: لله درّك إنك لفصيح إذا تلفظت، ناصح إذا وعظت، وكانت مجالس الحسن مجالس الذكر يخلو فيها مع أصحابه وأتباعه من النساك والعباد في بيته، مثل مالك بن دينار وثابت البناني، وأيوب السختياني ومحمد بن واسع وفرقد السبخي، وعبد الواحد بن زيد فيقول: هاتوا انشروا النور فيتكلم عليهم، قال أبو عمرو بن العلاء: ما رأيت أفصح من الحسن البصري، إلى غير ذلك من الصفات التي ألبسه إياها شيوخ عصره، وقد روى أبو حيان التوحيد وصفاً جامعاً له قال:(1/110)
كان الحسن بن أبي الحسن البصري من دراري النجوم علماً وتقوى وزهداً وورعاً وعفة ورقة وتألهاً وتنْزهاً، وفقهاً ومعرفة، وفصاحة ونصاحة مواعظه تصل إلى القلوب وألفاظه تلتبس بالعقول، وما أعرف له ثانياً، لا قريباً ولا مدانياً، كان منظره وفق مخبره، وعلانيته في وزن سريرته- عاش تسعين سنة لم يُعْرَف بمقالة شنعاء، ولم يُزَنَ بريبة ولا فحشاء، سليم الدين، نقي الأديم، محروس الحريم، يجمع مجلسه ضروباً من الناس، وأصناف اللباس لما يوسعهم من بيانه، ويفيض عليهم بافتنانه، هذا يأخذ عنه الحديث، وهذا يلقن منه التأويل وهذا يسمع منه الحلال والحرام، وهذا يجود له المقالة، وهذا يحكي له الفتيا وهذا يتعلم الحكم والقضاء، وهذا يسمع الموعظة، وهو في جميع هذا البحر العجاج تدفقاً، وكالسراج الوهاج تألقاً، ولا تنس مواقفه ومشاهده بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عند الأمراء وأشباه الأمراء، بالكلام الفصل واللفظ الجزل والصدر الرحب، والوجه الصلب، واللسان العضب، كالحجاج وفلان وفلان مع شارة الدين، وبهجة العلم، ورحمة التقى، لا تثنيه لائمة في الله ولا تذهله رائحة عن الله، يجلس تحت كرسيه قتادة صاحب التفسير، وعمرو وواصل صاحبا الكلام، وابن أبي إسحاق صاحب النحو، وفرقد السبخي صاحب الرقائق، وأشبه هؤلاء ونظراؤهم، فمن ذا مثله، ومن ذا يجري مجراه، وكانت وفاته بالبصرة سنة 110هـ رحمه الله، وتبع الناس كلهم جنازته واشتغلوا بشأنه حتى لم تقم صلاة العصر بالجامع في ذلك اليوم، وكانت هذه أول مرة وقع فيها هذا الحادث منذ كان الإسلام، وكان ذلك في عهد هشام بن عبد الملك، هذا قليل من كثير من مناقبه رحمة الله تعالى عليه.
الخولاني
وأبو إدريس الخولاني عائذ الله بن عبد الله أحد من جمع بين العلم والعمل، أخذ عن معاذ بن جبل وكثير من الصحابة، كان واعظ أهل دمشق وقاصهم وقاضيهم، قال الزهري: كان أبو إدريس من فقهاء الشام، توفي سنة ثمانين.
طاووس(1/111)
وطاووس بن كيسان اليماني الجندي من الأبناء سمع زيد بن ثابت وعائشة وأبا هريرة وغيرهم، وكان رأساً في العلم والعمل والوعظ، قال عمرو بن دينار، ما رأيت أحداً مثل طاووس، وقال الذهبي: كان طاووس شيخ أهل اليمن وبركتهم وفقيههم، له جلالة عظيمة، وكان جريئاً في وعظ الملوك والأمراء، وكان كثير الحج
فاتفق موته بمكة سنة ست ومائة.
عمرو بن ذر
وعمرو بن ذر بن عبد الله بن زرارة الهمداني المرحبي الكوفي، وكان يكنى أبا ذر وهو ثقة في الحديث، روى له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة، ووالده أبو ذر بن عبد الله يكنى أبا عمر ثقة أيضاً من أقران النخعي، وسعيد بن جبير روى له الجماعة، كان عمر هذا قاصاً بليغاً مؤثراً، إذا وعظ بكى وأبكى الناس، قال ابن السماك: لما دفن عمرُ ابنه ذر وقف على قبره فبكى وقال: اللهم إني أشهدك أني قد تصدقت بما تثيبني عليه من مصيبتي فيه، فأبكى من حضر، ثم قال: شغلنا الحزن لك عن الحزن عليك، ثم ولى وهو يقول: انطلقنا وتركناك ولو أقمنا ما نفعناك، ولكن أستودعك أرحم الراحمين، مات سنة ثلاث وخمسين ومائة رحمة الله عليه.
ابن السماك(1/112)
وابن السماك وهو أبو العباس محمد بن صبيح مولى بني عجل المعروف بابن السماك القاص الكوفي، كان زاهداً عابداً حسن الكلام صاحب مواعظ، جمع كلامه وحفظ، ولقي جماعة من الصدر الأول وأخذ عنهم، مثل هشام بن عروة والأعمش، روى عنه أحمد بن حنبل وأنظاره، قدم بغداد زمن هارون الرشيد، ثم رجع إلى الكوفة فمات بها سنة ثلاث وثمانين ومائة. ومن كلامه: خف الله كأنك لم تطعه، وارجُ الله كأنك لم تعصه، ومنه من جرعته الدنيا حلاوتها بميله إليها جرعته الآخرة مرارتها بتجافيه عنها، ومنه أيضاً: خير الإخوان أقلهم مصانعة في النصيحة، وخير الأعمال أحلاها عاقبة، وخير الثناء ما كان على أفواه الأخيار، وأشرف السلطان ما لا يخالطه البطر وأغنى الأغنياء من لم يكن للحرص أسيراً، وخير الإخوان من لم يخصم، وخير الأخلاق أعونها على الورع، وإنما يختبر ذل الرجال عند الفاقة والحاجة. وأخباره ومواعظه كثيرة.
سفيان الثوري
وسفيان الثوري هو أبو عبد الله سفيان بن سعد الثوري الكوفي، كان إماماً في الحديث وغيره، أجمع الناس على دينه وورعه وزهده وتقاه وثقته، وهو أحد الأئمة المجتهدين والهداة المرشدين، كان يعظ الناس ويشوّقهم إلى الله تعالى، ويرغبهم في ثوابه ويحذرهم من عقابه، كان الناس يختلفون إليه للانتفاع به في دينهم ودنياهم، وله مع الأمراء مواقف مشهورة كما سيأتي، توفي رحمه الله بالبصرة سنة إحدى وستين ومائة. وثوري نسبة إلى ثور بن عبد مناة من أجداده.
ابن سمعون
وابن سمعون وهو أبو الحسن محمد بن أحمد بن إسماعيل الواعظ البغدادي المعروف بابن سمعون، كان وحيد دهره في الكلام على الخواطر، وحسن الوعظ وحلاوة الإشارة، ولطف العبارة، وكان لأهل العراق فيه اعتقاد عظيم، وتعلق شديد، توفي رحمه الله ببغداد سنة سبع وثمانين وثلاثمائة.
شَذْيَلَة الواعظ(1/113)
وشَذْيَلة الواعظ، هو أبو المعالي عزيز بن عبد الملك بن منصور الجيلاني المعروف بشذيلة الفقيه الشافعي الواعظ، كان فقهياً فاضلاً واعظاً ماهراً، فصيح اللسان، حلو العبارة، كثير المحفوظات، صنف في الفقه وأصول الدين والوعظ، توفي رحمه الله ببغداد سنة أربع وتسعين وأربعمائة وشَذْيَلَة- بفتح فسكون ففتح الياء واللام- لقب له.
ابن الجوزي
والإمام ابن الجوزي عالم الآفاق، وواعظ العراق، وهو أبو الفرج عبد الرحمن ابن علي بن محمد الجوزي البكري البغدادي، الفقيه الحنبلي الواعظ الملقب جمال الدين الحافظ، كان علامة عصره وإمام وقته في الحديث وصناعة الوعظ، صنف في فنون عديدة، وله في الوعظ المؤلفات المفيدة، ومحاسنه يطول شرحها، وسيأتي بيان طريقته في نشر الدعوة، توفي رحمه الله ببغداد سنة سبع وتسعين وخمسمائة.
هؤلاء الذين سميناهم أجلّ الذين كانوا يروون الحديث، ويفتون الناس، ويدعونهم إلى الخير، وأمثال هؤلاء ممن برعوا في الدعوة إلى الله وإرشاد العباد إلى الحق كثير، وسنقف إن شاء الله تعالى على شيء من مواعظ هؤلاء لأجلاء ومواقفهم لدى الأمراء.
هديهم في الدعوة
والكثير منهم كان يسلك في دعوة الناس وهدايتهم طريق الكتاب والسنة، وبعضهم كان كثيراً ما يستعين في التذكير بضرب الأمثال وقصص الأولين، سيراً على نهج القرآن الحكيم استرعاء للسامعين، وقد غلب ذلك على هذا البعض حتى عرفوا باسم القصاص، وحتى استسهله طائفة من الدخلاء، واسترسل فيه إلى أن نسي معه المقصود الأسمى من الإرشاد، فكان بعض من أوتي ذلاقة في اللسان وقوة في البيان يعتمد على هذا الطريق، ويتصدى للوعظ مع قلة بضاعته العلمية وعدم تمكنه في الحقائق الدينية، فيختلس من العامة إجلالاً وتعظيماً لاحق له فيه، وكان ذلك يشير عليه من معارضة المنافسين له ما يكشف خبيئته، ويبين عود مقدرته، بل كان منهم من يفتضح أمره، ويظهر جهله.(1/114)
وكان عاقبة هذا التنافس انصراف كثير من كبار العلماء عن التصدي إلى إرشاد الناس، وعكفوا على تحقيق المسائل العلمية، قانعين بما كانوا يجدون من اللذة العقلية في الوقوف على دقائق العلوم، مكتفين بمن يعرف فضلهم ويغترف من بحار علمهم بقلوب سليمة، ورغبة صادقة من خواص الطلاب، فأصبح العلم صناعة محصورة بين طبقة خاصة، وتركوا جمهور الأمة لمن يتصدى لإرشادهم من ذوي البضاعة المزجاة، ويا ليتهم مع هذا أحسنوا العمل وأخلصوا في القيام بهذه الوظيفة الخطيرة، بل قاموا يريدون بها الارتزاق، فجرّ ذلك إلى سقوط المنزلة، وانحطاط القيمة، وانصراف الناس عنهم، وضياع روح التأثير والانتفاع، ومن هنا أفلت العامة عن أيدي العلماء، وترفع السادة العلماء من مخالطتهم، وأصبح الفريقان يتلاومون ويتناكرون، فهؤلاء يقولون: ما بال الناس قد ثقل عليها أمر الدين وانصرفت نفوسهم عن الهدى والرشد؟ وأولئك يقولون، أين العلماء العاملون يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؟ أين حماة الدين يصلحون الفاسد ويقومون المعوج - وزاد الخرق اتساعاً بميل الأمراء والحكام إلى إقصاء ذوي الغيرة من العلماء فراراً من قيودهم الضيقة "في زعمهم" ولكيلا يزاحموهم في المكانة التي استأثروا بها، فأبعدوا المخلصين الصادقين في التمسك بالدين، وقرّبوا المتزلفين المتساهلين المسهلين لهم رغائبهم؛ المسارعين إلى هواهم، فزاد هذا في انزواء العلماء العاملين منكبين على ممارسة العلوم، منهمكين في أنواع العبادة واجدين لذلك من اللذة الروحية ما أنساهم زخرف هذه الحياة، وشغلهم عن التعلق بحطام الدنيا، حتى استلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحشه المنعمون، قال قائلهم: "نحن في لذة لو علمتها الملوك لجالدونا عليها بالسيوف".(1/115)
ولقد كان الإقبال على الدعاة؛ والتعلق بالمرشدين موجوداً في كل عصر، على قلته وعدم وفائه بحاجة الأمة، وكان الناس يعزرون العلماء ويوقرونهم، ويقرون لهم بمنزلة خاصة لما يعرفون لهم من علم وعمل، ويعتقدون فيهم أنهم حفظة الدين وحراسه، ولا زال أمر الإرشاد يتراجع إلى الوراء؛ حتى لم يبق منه اليوم إلا اسمه، ولم يعرف منه الآن إلا رسمه، والأمة تتدهور في أخلاقها وتتأخر في معلوماتها، حتى ضلت سواء السبيل، وجارت من حيث لا تدري عن الطريق المستقيم الموصل إلى معالم الحق والهدى، وتاهت في تيه الهوى، وترددت في مهاوي الردى، وأصبح المعروف منكراً، وصار المنكر معروفاً، كل ذلك من سكوت رجال الدين وتساهل المصلحين وإهمال الحكام في تنفيذ أوامر الدين.
ولو أن رجال الدين وجهوا شطراً من عنايتهم إلى النظر في أمراض الأمة وساروا في العمل على مداواتها بحزم وحكمة، لكانت الأمة اليوم صحيحة في عقائدها، صالحة في أعمالها، قويمة في عاداتها، متينة في أخلاقها، بصيرة في أمر دينها، سليمة من الزلل، بعيدة عن مواقع الخطر، وإذا كانت علل تدهور الأمة في آدابها وتأخرها في أمر دينها إنما نشأت من إغفال تعليمها وتهذيبها، وإهمال إرشادها إلى الخير وتحذيرها من الشر، فسبيل إنقاذها من سقطتها وخلاصها من ورطتها بيّن واضح، وسهل قريب - وهو أن يبصر السادة العلماء هذا الخطر المحدق بالأمة ويدركوه كما هو، ثم ينشطوا في الدعوة إلى الخير، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويغرسون الفضيلة في نفوس الأمة، خصوصاً الناشئة من أبنائها وبناتها- وهذا وحده هو سبيل سعادتها وفلاحها؛ إذا أحببنا أن نكون من السعداء المفلحين، وهذا - دون سواه- طريق خلاصها من الشقاء ونكد العيش إن رغبنا أن نكون سادة آمنين.(1/116)
ولا يغني رجال الدين عذرٌ عند الله أو عند الناس أن يلقوا كل التبعة على ولاة الأمور إذا هم لم ينصروا الدين، أو على الأغنياء إذا هم قبضوا أيديهم عن المساعدة بالمال أو الجاه، أو على الفاجرين والملحدين إذا هم تعدوا حدود الأدب مع الله، وتمردوا على شرع الله، فقد علمهم الله كيف يدعون إلى الخير، وعلمهم أن العلم النافع متى اقترن بالإخلاص لابد أن يحدث في قلوب (ولو قاسية). والنفوس الغافلة (ولو طاغية) أثراً لا يستهان به، وعلمهم أن الحق لابد ظافر منصور وإن قلّ أهله، وأن الباطل لا يثبت في وجه الحق أبداً وإن كثرت أشياعه وأنصاره. قال الإمام علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه: "لا قيام للباطل إلا في غفلة الحق".
أي لا بقاء للباطل إلا في غفلة الحق عنه، كالنبات الخبيث في الأرض الطيبة ينبت بإهمالها، وينمو بإغفالها، فإذا وجه الزارع إليها عنايته غلبة الخصب وذهب به النبات النافع.
وقال بعض الحكماء: قليل الحق يدفع كثير الباطل كما أن قليل النار يُحرِق كثير الحطب. وينبغي للواعظ في وعظ العامة أن لا يستعمل من الشعر إلا ما فيه موعظة ظاهرة أو حكمة نادرة.
كقول الإمام الشافعي:
دع الأيام تفعل ما تشاء
ولا تجزع لحادثة الليالي
إذا ما كنت ذا قلب قنوع
وطب نفساً إذا نزل القضاء
فما لحوادث الدنيا بقاء
فأنت ومالك الدنيا سواء
وقول صالح بن عبد القدوس:…
واحرص على حفظ القلوب من الأذى
إن القلوب إذا تنافر ودها
واحذر مؤاخاة الدني لأنه
فرجوعها بعد التنافر يصعب
شبه الزجاجة كسرها لا يشعب
يعدي كما يعدي الصحيح الأجرب
جج
وقول بعضهم:
ولدتك أمك يا ابن آدم باكياً
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا
والناس حولك يضحكون سروراً
في يوم موتك ضاحكا مسروراً
ج
وقول بعضهم:
وفي قبض كف الطفل عند ملاده
وفي بسطها عند الممات إشارة
دليل على الحرص المركّب في الحي
ألا فاشهدوا أني خرجت بلا شي
جج
وقوله:
عجبت لمن يشرى الضلالة بالهدى
وما كان يوما طالب الشر رابحاً(1/117)
ولكن هي النفس الأثيمة دائماً
ويحسب أن الخير في جانب الشر
ولا كان يوما راغب الخير في خسر
تزين ما تلقاه أبلغ في الضر
ولبعضهم في التحذير من إطلاق النظر إلى النساء:
كل الحوادث مبداها من النظر
والمرء ما دام ذا عين يقلبها
كم نظرة فعلت في قلب صاحبها
يسر مقلته ما ضر مهجته
ومعظم النار من مستصغر الشرر
في أعين الغيد موقوف على الخطر
فعل السهام بلا قوس ولا وتر
لا مرحباً بسرور جاء بالضرر
ولبعض الأدباء في حفظ اللسان والعين:
إذا شئت أن تحيا سليماً من الأذى
لسانك لا تذكر به عورة امرئ
وعينك إن أبدت إليك معايباً
فعاشر بمعروف وسامح من اعتدى
وحظك موفور وعرضك صيّن
فكلك عورات وللناس ألسن
لقوم فقل يا عين للناس أعين
وفارق ولكن بالتي هي أحسن
ولبعضهم في الخلق الفاضل:
أحب مكارم الأخلاق جهدي
وأصفح عن سباب الناس حلماً
ومن هاب الرجال تهيبوه
وأكره أن أعيب وأن أعابا
وشر الناس من يهوى السبابا
ومن حقر الرجال فلن يهابا
جج
وقال بعضهم في الحث على الرضاء والتسليم:
يا هذه النفس أعلمي
والحادثات جليلها
والعالمون صغيرهم
لا تجزعي يا نفس
أن الأمور لها انقضاء
وحقيرها محض ابتلاء
وكبيرهم فيها سواء
إن الله يفعل ما يشاء
ج
لبعضهم:
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى
ندمت على ألا تكون كمثله
ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
وأنك لم ترصد كما كان أرصدا
وأنشد الحسن البصري في وعظ:
ليس من مات فاستراح بميت
إنما الميت ميت الأحياء
ج
وأنشد عبد الصمد بن الفضل بن عيسى بن أبان الرقاشي الخطيب البليغ القاصّ الشجاع في قصصه:
أرض تخيرها لطيب مقيلها
جرت الرياح على محل ديارهم
فأرى النعيم وكل ما يلهى به
كعب بن مامة وابن أم دُواد
فكأنهم كانوا على ميعاد
يوماً يصير إلى بلى ونفاد
وخطب عبد الله بن الحسن رضي الله عنهما على منبر البصرة في يوم العيد فأنشد:
أين الملوك التي عن حظها غفلت
تلك المدائن بالآفاق خالية
حتى سقاها بكأس الموت ساقيها(1/118)
أمست خلاء وذاق الموت بانيها
وقال موسى بن عبد الله الخزاعي: بلغني أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كان لا يجف فوه من هذا البيت:
ولا خير في عيش امرئ لم يكن له
مع الله في دار القرار نصيب
ج
وقد روى البخاري من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن من الشعر لحكمة، وبالله تعالى التوفيق.
…نماذج من أشهر مواعظ السلف
قال الفضيل: نعمت الهداية الكلمة من الحكمة؛ يحفظها الرجل حتى يلقيها على أخيه، وقال حكيم: اجعل ما في الكتب بيت مال، وما في قلبك للنفقة، وقال آخر: يكتب الرجل أحسن ما سمع ويحفظ أحسن ما كتب.
فمن المأثور أن أبا بكر الصديق ( مر على طائر واقع على شجرة، فقال: طوبى لك يا طائر! لوددت أني كنت مثلك! تقع على الشجر، وتأكل الثمر ثم تطير ولا حساب عليك ولا عقاب؛ يا ليتني كنت مثلك، والله لوددت أني كنت شجرة إلى جانب الطريق، فمر عليّ بعير، فأخذني وأدخلني فاه فلاكني، ثم ازْدَردَني فأخرجني بعراً، ولم أكن بشراً.
وقدم عليه وفد من أهل اليمن فقرأ عليهم القرآن فبكوا، فقال أبو بكر: هكذا كنا حتى قست القلوب، ثم قال: طوبى لمن مات في نأنأة الإسلام-أي في بدئه حين كان ضعيفاً قبل أن تكثر أنصاره والداخلون فيه، تقول: نأنأت عن الأمر نانأة إذا ضعفت عنه وعجزت، وقال لخالد بن الوليد حين وجهه لقتال أهل الردة: احرص على الموت توهب لك الحياة، وهي من بدائع الحكم وجوامع الكلم، عمل عليها المجاهدون في سبيل الله فظفروا بحياة سعيدة ليس وراءها حياة، وقال: إياكم والعملَ بالمعاصي وكفر النعمة، فقلما كفر قوم بنعمة ولم ينزعوا إلى التوبة إلا سلبوا عزهم وسلط عليهم عدوهم.(1/119)
وروى الحسن عن عمر بن الخطاب ( أنه قال: الناس طالِبان: فطالبٌ يطلب الدُّنيا فارفضوها في نَحْره، فإنّه ربَّما أدرك الذي طلب منها فهلَك بما أصاب منها، وربَّما فاته الذي طلب منها فهلك بما فاته منها، وطالبٌ يطلب الآخرة، فإذا رأيتم طالب الآخرة فنافِسُوه.
وعنه أيضاً أنه قال: يا أيُّها الناس، إنّه أتى عليّ حينٌ وأنا أحسبُ أنه مَن قرأ القرآن إنّما يريد به اللَّه وما عندَه، ألاَ وقد خُيِّل إليّ أن أقواماً يقرؤون القرآن يريدون به ما عندَ الناس، ألاَ فأريدُوا اللَّه بقراءتكم، وأريدوه بأعمالكم، فإنّما كُنَّا نعرفُكم إذِا الوحيُ ينزِل، وإذِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بين أظْهُرنا؛ فقد رُفِع الوحيُ وذهَبَ النبيُّ عليه السلام، فإنّما أعرفُكم بما أقول لكم، ألاَ فمن أظهر لنا خيراً ظنَنَّا به خيراً وأثبتنا عليه، ومن أظهر لنا شرّاً ظننا به شرّاً وأبغضناه عليه، اقْدَعُوا هذه النُّفوس عن شهواتها، فإنّها طُلَعَةٌ، وإنّكم إلاّ تقدَعوها تَنزِعْ بكم إلى شر غاية، إنّ هذا الحقَّ ثقيل مرئ، وإن الباطل خفيف وبئ، وتركَ الخطيئة خيرٌ من معالجة التَّوبة، ورُبَّ نظرةٍ زرعت شهوة،
وشهوةِ ساعةٍ أورثَتْ حُزْناً طويلاً.
اقدعوا: امنعوا، يقال: قدع نفسه إذا قمعها وقهرها، وطُلَعة، كهُمزَة، كثيرة التطلع إلى الأمور، ومرئ: محمود العاقبة، والوبئ: المهلك، وعالج الشيء: حاوله- وقال يوماً لرجل: لا يُلهِك الناسُ عن نفسك؛ فإنَّ الأمرَ يصير إليك دونهم ولا تَقطع النهارَ سادراً فإنه محفوظٌ عليك ما عملت، وإذا أسأت فَأَحْسِنْ؛ فإنِّي لم أر شيئاً أشدَّ طلباً ولا أسرعَ دَرَكاً من حسنةٍ حديثةٍ لذنْب قديم، سادراً: لاهياً، والسادر: المتحير، والذي لا يهتم ولا يبالي ما صنع.(1/120)
وقال ابن عمر: لما حضرت الوفاة عمر غشي عليه فأخذت رأسه فوضعتها في حجري فقال: ضع رأسي بالأرض لعل الله يرحمني، فمسح خديه بالتراب وقال: ويل لعمر إن لم يغفر له، قفلت:وهل فخذي والأرض إلا سواء يا أبتاه؟ فقال: ضع رأسي بالأرض لا أم لك كما آمرك، فإذا قضيت فأسرعوا بي في حفرتي، فإنما هو خير تقدموني إليه، أو شر تضعونه عن رقابكم، ثم بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: خير السماء لا أدري إلى جنة ينطلق بي أو إلى نار- وكتب رضي الله تعالى عنه إلى سعد بن أبي وقاص: يا سعد سعد بني وهيب، إن الله إذا أحب عبداً حببه إلى خلقه، فاعتبر منزلتك من الله بمنزلتك من الناس، واعلم أن مالك عند الله مثل الذي لله عندك.
وكان عثمان بن عفان ( يقول: إني لأكره أن يأتي علي يوم لا أنظر فيه إلى عهد الله -يعني المصحف- وكان رضي الله عنه حافظاً، وكان حجره لا يكاد يفارق المصحف، فقيل له في ذلك، فقال:
إنه مبارك جاء به مبارك.
ودخل علي بن أبي طالب ( المقابر فقال: أما المنازل فقد سُكنت، وأما الأموال فقد قُسمت، وأما الأزواج فقد نُكحت، فهذا خبر ما عندنا، فما خبر ما عندكم؟ ثم قال: والذي نفسي بيده لو أُذن لهم في الكلام لأخبروا أن خير الزاد التقوى، ومن كلامه: ولو أن الناس حين تنزل بهم النقم، وتزول عنهم النعم، فزعوا إلى ربهم بصدق من نياتهم ووله من قلوبهم، لرد عليهم كل شارد، وأصلح لهم كل فاسد، والوله: ذهاب العقل والتحير من شدة الوجد. ولما ضربه ابن ملجم دخل منزله فاعترته غشية، ثم أفاق ودعا الحسن والحسين رضي الله عنهما، وقال: أوصيكما بتقوى الله والرغبة في الآخرة، والزهد في الدنيا، ولا تأسفا على شيء فاتكما منها، اعملا الخير، وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً.(1/121)
ثم دعا محمداً وقال له: أما سمعت ما أوصيت به أخويك؟ قال: بلى، قال: فإني أوصيك به، وعليك ببر أخويك وتوقيرهما ومعرفة فضلهما، ولا تقطع ـ أمراً دونهما، ثم أقبل عليهما فقال: أوصيكما خيراً فإنه أخوكما وابن أبيكما، وأنتما تعلمان أن أباكما كان يحبه فأحباه، ثم قال: يا بني أوصيكم بتقوى الله في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، والعدل للصديق والعدو، والعدل في النشاط والكسل، والرضا عن الله في الشدة والرخاء، يا بني ما شرٌّ بعده الجنة بشر، ولا خير بعده النار بخير، وكل نعيم دون الجنة حقير، وكل بلاء دون النار عافية، يا بني من أبصر عيب نفسه شُغل عن عيب غيره، ومن رضي بما قسم الله له لم يحزن على ما فاته، ومن سلّ سيف البغي قُتل به، ومن حفر لأخيه بئراً وقع فيها، ومن هتك حجاب أخيه هتكت عورات بنيه، ومن نسي خطيئته استعظم خطيئة غيره، ومن أعجب برأيه ضل، ومن استغنى بعقله زلّ، ومن تكبر على الناس ذل، ومن خالط الأنذال احتقر، ومن دخل مداخل السوء اتهم، ومن جالس العلماء وقر، ومن مزح استخف به، ومن أكثر من شيء عرف به، ومن كثر كلامه كثر خطؤه وقل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه، ومن مات قلبه دخل النار. يا بني الأدب ميزان الرجل، وحسن الخلق خير قرين، يا بني العافية عشرة أجزاء: تسعة منها في الصمت إلا عن ذكر الله تعالى، وواحدة في ترك مجالسة السفهاء، يا بني زينة الفقر الصبر، وزينة الغنى الشكر. يا بني لا شرف أعلى من الإسلام ولا كرم أعز من التقوى ولا شفيع أنجح من التوبة، ولا لباس أجمل من العافية. يا بني الحرص مفتاح التعب ومطية النصب. التدبير قبل العمل يؤمنك الندم، بئس الزاد للمعاد العدوان على العباد، فطوبى لمن اخلص لله علمه وعمله، وحبه وبغضه، وأخذه وتركه، وكلامه وصمته، وقوله وفعله.(1/122)
وقال الحسن البصري: يابن آدم بعْ دنياك بآخرتك تربَحْهما جميعاً، ولا تبع آخرتك بدنياك فتخسَرَهما جميعاً، يا ابن آدم، إذا رأيت النّاس في الخير فنافِسْهم فيه، وإذا رأيتم في الشّرِّ فلا تغبطهم به، الثَّواءُ هاهنا قليل، والبقاء هناك طويل، أمَّتُكُم آخر الأمَم وأنتم آخِرُ أمّتكم، وقد أُسرِع بخياركم فماذا تنظرون؟ آلمعايَنةَ؟ فكأن قَدْ، هَيْهَات هيهات، ذهبت الدّنيا بحال بالها، وبقيت الأعمال قلائدَ في أعناق بني آدم، فيالها موعظةً لو وافقتْ من القلوب حياةً أمَا إنّه واللَّه لا أمّةَ بعد أمّتكم، ولا نبيَّ بعد نبيِّكم، ولا كتابَ بعد كتابكم، أنتم تسوقون النّاسَ والسّاعةُ تسوقكم، وإنّما يُنْتَظَر بأوّلكم أن يلحق آخَرَكم، مَنْ رأى محمداً صلى الله عليه وسلم فقد رآه غادياً رائحاً، لم يضع لَبِنةً على لَبنة، ولا قَصبةً على قصبة، رُفِع له عَلَمٌ فشمَّر إليه، فالوَحاءَ الوَحاء، والنَّجاءَ النجاء، علام تعرّجون، أُتِيتم وربِّ الكعبة، قد أُسرِع بخياركم وأنتم كلَّ يوم تَرذُلون، فماذا تنتظرون، إنَّ اللَّه تعالى بعثَ محمّداً عليه السلام على علمٍ منه، اختاره لنفسه، وبعثه برسالته، وأنزل عليه كتابَه، وكان صفوتَه من خلقه، ورسولَه إلى عباده، ثمَّ وضعَه من الدُّنيا موضعاً ينظر إليه أهلُ الأرض، وآتاه منها قُوتاً وبُلْغة، ثم قال: " لَقَدْ كَانَ لكُمْ فِي رَسُول اللَّه أسوةٌ حسَنةٌ " الأحزاب:21، فرغِب أقوامٌ عن عيشه، وسخِطوا ما رضِيَ له ربُّه، فأبْعدَهَم اللَّهُ وسحَقهم، يا ابنَ آدم، طأ الأرضَ بقدمِك فإنَّها عما قليل قبرُك، واعلم أنَّك لم تَزَلْ في هدم عُمرك مذ سقطتَ من بطن أمِّك، فرحِمَ اللَّهُ رجلاً نَظَرَ فتفكَّر، وتفكَّر فاعتبر، واعتبَرَ فأبصر، وأبصَرَ فصَبَر، فقد أبصر أقوامٌ فلم يصبروا فذهب الجزَعُ بقلوبهم ولم يدرِكوا ما طلبوا، ولم يرجِعوا إلى ما فارقوا، يا ابن آدم، اذكُرْ قوله: " وكُلَّ إنْسَانٍ(1/123)
ألزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِه ونُخْرِجُ له يومَ القيامة كِتاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً، اقْرَأْ كتابَكَ كَفَى بنَفْسكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً " الإسراء: 13 - 14، عَدَلَ واللَّهِ عليك مَن جَعَلك حسيبَ نفسك، خذُوا صفاء الدُّنيا وذروا كدَرَها؛ فليسَ الصَّفْو ما عاد كدَراً، ولا الكدرُ ما عاد صفواً، دَعوا ما يَريبكم إلى ما لا يُرِيبكم، ظهر الجفاء وقلَّت العلماء، وعَفَت السُّنّة وشاعت البدعة، لقد صحبتُ أقواماً ما كانت صحبتُهم إلاّ قُرّةَ العين، وجِلاءَ الصدر، ولقد رأيتُ أقواماً كانوا من حسناتهم أشفَقَ من أن تُرَدّ عليهم، منكم من سيئاتكم أن تُعذَّبوا عليها، وكانوا فيما أحلَّ اللَّهُ لهم من الدُّنيا أزهدَ منكم فيما حرّم عليكم منها، مالي أسمع حَسِيساً ولا أرى أنيساً، ذهب الناس وبقي النَّسْناس، لو تكاشفتم ما تدافَنْتم، تهاديتم الأطباقَ ولم تتهادَوا النَّصائح، قال ابن الخطَاب: رحم اللَّه امرأً أهدى إلينا مساوِيَنا، أعِدُّوا الجوابَ فإنّكم مسؤولون، المؤمن لم يأخذْ دِينه عن رأيهِ ولكن أخذه من قِبَل ربِّه، إنَّ هذا الحقَّ قد جَهَد أهلَه وحال بينهم وبين شهواتهم، وما يصبِر عليه إلاَّ مَن عَرف فضلَه، ورجَا عاقبتَه، فمَنْ حمِد الدُّنيا ذمَّ الآخِرة، وليس يكره لِقاءَ اللَّه إلا مقيم على سخطه، يا ابن آدم، ليس الإيمانُ بالتحَلِّي ولا بالتمنّي، ولكنه ما وَقَر في القُلوب، وصدَّقته الأعمال، وكان إذا قرئ: " ألهاكُمُ التَّكاثرُ " التكاثر:1 قال: عَمَّ ألهاكم؟ ألهاكم عن دار الخُلود، وجنَّة لا تَبيد، هذا واللَّه فَضَح القوم، وهَتك السِّتْر وأبْدَى العُِوار، تنفق دينارك في شهواتك سرفاً، وتمنع في حقِّ اللَّهِ درهماً، ستعلم يالُكَع، الناس ثلاثة: مؤمن، وكافر، ومنافق، فأمّا المؤمن فقد ألجمه الخوفُ، ووقَمه ذكر العَرْض، وأمّا الكافر فقد قمعه السَّيف، وشرّده الخوف، فأذعن بالجِزْية، وأسمحَ بالضَّريبة،(1/124)
وأمَّا المنافق ففي الحجرات والطرقات، يُسرُّون غيرَ ما يعلنون، ويُضمِرون غيرَ ما يظهرون، فاعتبِروا إنكارهم ربَّهم بأعمالهم الخبيثة، ويلك قتلت وليَّه ثم تتمنَّى عليه جنّته.
وكان يقول: رحِم اللَّهُ رجلاً خلا بكتابِ اللَّه فعَرَض عليه نفسَه، فإن وافقه حمِدَ ربَّه وسألَه الزِّيادةَ من فضله، وإن خالَفه أعتب وأناب، ورجَع من قريب، رحم اللَّه رجلاً وعظَ أخاه وأهله فقال: يا أهلي، صلاتَكم صلاتَكم، زكاتَكم زكاتَكم، جيرانَكم جيرانَكم، إخوانَكم إخوانَكم، مساكنَكم مساكنَكم، لعلَّ اللَّه يرحمُكم، فإنّ اللَّه تبارك وتعالى أثنى على عبدٍ من عباده فقال: " وكانَ يأمُرُ أهْلهُ بالصَّلاةِ والزَّكاة وكانَ عِنْدَ ربِّهِ مَرْضِيّاً " مريم:55، يا ابن آدم: كيف تكون مسلماً ولم يَسلَمْ منك جارُك، وكيف تكون مؤمناً ولم يأمَنْك الناس، وكان يقول: لا يستحقُّ أحدٌ حقيقةَ الإيمان حتّى لا يعيبَ النّاس بعيب هو فيه، ولا يأمر بإصلاحِ عيوبهم حتَّى يبدأَ بإصلاح ذلك من نفسه؛ فإنّه إذا فعل ذلك لم يُصلحْ عيباً إلاّ وجد في نفسه عيباً آخرَ ينبغي له أن يُصلِحَه، فإذا فَعَل ذلك شُغِل بخاصَّةِ نفسِه عن عيب غيره، وإنّك ناظرٌ إلى عملك يُوزَن خيرُه وشرُّه، فلا تحقِرَنَّ شيئاً من الخير وإن صَغُرَ؛ فإنّك إذا رأيتَه سرّك مكانُه، ولا تحقِرنَّ شيئاً من الشّرّ وإن صغُر؛ فإنّك إذا رأيتَه ساءك مكانُه، وكان يقول: رحم اللَّه امرأً كَسَب طيِّباً وأنفَق قَصْداً، وقدّمَ فضلاً، وجِّهوا هذه الفضولَ حيث وجَّهها اللَّه، وضَعوها حيثُ أمر اللَّه؛ فإنّ مَنْ كان قبلكم كانوا يأخذون من الدُّنيا بَلاغَهم ويُؤْثرون بالفَضْل، ألاَ إنّ هذا الموت قد أضرَّ بالدنيا فَفَضَحها، فلا واللّه ما وَجَد ذُو لبٍّ فيها فَرَحاً، فإيّاكم وهذه السُّبُلَ المتفرِّقة، التي جِماعها الضلالة وميعادُها النّار، أدركْتُ مِن صدر هذه الأمّة قوماً كانوا إذا أجَنَّهُم اللّيلُ(1/125)
فقيامٌ على أطرافهم، يفترشون وجُوهَهم، تجري دموعُهم على خدودهم، يناجُون مولاهم في فِكاك رقابِهم، إذا عملوا الحسنة سرَّتْهم وسألوا اللّه أن يتقبَّلها منهم، وإذا عمِلوا سيّئةً ساءتهم وسألوا اللَّه أن يغفرَها لهم، يا ابن آدم، إنْ كان لا يُغْنيك ما يكفيك فليس ها هنا شيءٌ يُغنيك، وإنْ كان يُغنيك ما يكفيك فالقليلُ من الدُّنيا يغنيك، يا ابن آدم، لا تعمَلْ شيئاً من الحقّ رياء، ولا تتركْه حياء.
وكان يقول: إنّ العلماء كانوا قد استغنَوْا بعلمهم عن أهل الدنيا، وكانوا يقضُون بعلمهم على أهل الدُّنيا ما لا يقضِي أهلُ الدُّنيا بدنياهم فيها، وكان أهلُ الدُّنيا يبذُلون دنياهم لأهل العِلم رغبةً في علمهم، فأصبح أهلُ العلم اليوم يبذلون علمَهم لأهل الدُّنيا رغبةً في دنياهم، فرَغِب أهل الدنيا بدنياهم عنهم، وزهِدوا في علمهم لِمَا رأوْا من سُوء موضعه عندهم، وكان يقول: لا أذهب إلى من يواري عنِّي غناه ويُبدي لي فقرَه، ويُغلق دوني بابَه ويمنعُني ما عندَه، وأَدَع مَن يفتح لي بابَه ويُبدي لي غناه ويدْعُوني إلى ما عنده، وكان يقول: يا ابن آدم، لا غنى بك عن نصيبِك من الدُّنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أفقر، مؤمن مُتَّهم، وعِلجٌ اغتمُ، وأعرابيٌّ لا فِقْهَِ له، ومنافقٌ مكذِّب، ودنياويُّ مُترفٌ، نعق بهم ناعقٌ فاتَّبعوه، فرَاشُ نارٍ وذِبّان طمَعٍ، والذي نفسُ الحسن بيدِه ما أصبحَ في هذه القريةِ مؤمنٌ إلاّ وقد أصبح مهموماً حزيناً، وليس لمؤمنٍ راحةٌ دونَ لقاءِ اللّهِ، والناسُ ما داموا في عافيةٍ مستورون، فإذا نزَلَ بهم بلاءٌ صاروا إلى حقائقهم، فصار المؤمن إلى إيمانه، والمنافقُ إلى نِفاقه، أيْ قَوْمُِ، إنّ نعمةَ اللَّه عليكم أفضلُ مِن أعمالكم، فسارِعوا إلى ربِّكم، فإنّ ليس لمؤمنٍ راحةٌ دونَ الجنة، ولا يزال العبدُ بخير ما كان له واعظٌ من نفسه، وكانت المحاسبةُ من هَمِّه، وقال الحَسن في يوم فِطر، وقد رأى الناسَ(1/126)
وهيئاتِهم: إنّ اللَّه تبارك وتعالى جعل رمضانَ مِضماراً لخلْقِه يستبِقُون فيه بطاعته إلى مَرضاته، فسبَقَ أقوامٌ ففازوا، وتخلَّف آخرون فخابوا، فالعجَبُ من الضّاحك اللاعب في اليوم الذي يَفوزُ فيه المحسِنون، ويَخْسَرُ فيه المُبْطِلون، أمَا واللَّه أنْ لو كُشِف الغطاءُ لشُغِل مُحْسنٌ بإحسانه، ومسيءٌ بإساءته، عن ترجيلِ شَعْرٍ، وتجديدِ ثَوب.
وقال أبو الدرداء:كان الناس ورقاً لا شوك فيه،وهم اليوم شوك لا ورق فيه،ودخل يوماً على رجل يعوده فقال:كيف تجدك؟ قال: أفرق من الموت، قال:فممن أصبت الخير كله؟ قال: من الله تعالى، قال: فلِمَ تفرق ممن لم تصب الخير كله إلاّ منه؟ وكان يقول: أبغض الناس إلى أن أظلمه من لا يستعين على أحد بأحد إلا بالله، وكان يقول: من هوان الدنيا على الله أنه لا يعصى إلاّ فيها، ولا ينال ما عنده إلاّ بتركها.
مقدمات تلقى في بداية خطب الجمعة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
أخي الكريم: أحببت أن أضع بين يديك بعض المقدمات التي يمكنك أن تلقي في كل جمعة واحدة منها ليحصل بذلك التنوع والتغيير؛ لأن ذلك مما يشد إليك انتباه المستمعين، ويدعو إلى عدم الملل من ذكر مقدمة واحدة تلقيها في كل جمعة، ولكن عليك أن تختار المقدمة المناسبة لموضوعك وخطبتك، كما أنني أحببت أن أذكر لك بعض الأبيات الشعرية التي يمكنك أن تلقيها في المقدمة أو في غيرها وحسب المناسبة، وأبدأ بالمقدمات وبالله نستعين.
1- الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ينادي على عباده يوم القيامة، ويقول:( سيعلم أهل الجمع مَن أهل الكرم، فيقال: ومَن أهل الكرم؟ فيقول: أهل مجالس ذكر الله).
أصبحت ضيف الله في دار الرضا
تعفو الملوك عن النزيل بساحهم
يا رب عبد من عبادك مشفق
فارحم تضرعه إليك وحزنه(1/127)
وعلى الكريم كرامة الضيفان
كيف النزول بساحة الرحمن
بك مستجير من لظى النيران
وامنن عليه اليوم بالغفران
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداَ رسول الله أنزل الله عليه
في شهر شعبان قوله:( إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها
الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما).
سيدي رسول الله:
صلى عليك ذو الجلال وسلّما
ما غرّدت ورق الحمائم في الحمى
ج
وهدى وزكى وارتضى وترحما
وسرى على عذب النسيم نسيم
فبحقه صلوا عليه وسلموا
2- الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يقول في حديثه القدسي الشريف:( العزّ إزاري والكبرياء ردائي، فمن نازعني فيهما أدخلته ناري ولا أبالي، ولا إله إلا الله حصني، ومن دخل حصني أمِنَ من عذابي).
يا ذا الجلال وذا الجمال وذا البقا
مالي إذا ضاقت وجوه مذاهبي
ج
يا منعماً عمّ الأنام نداه
أحد ألوذ بركنه إلا هو
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله، خلق الله في الجنة شجرة ثمرها أكبر من ثمر التفاح، وأصغر من الرمان، وأحلى من العسل، وألين من الزّبد، لا يأكل منها إلا من يكثر من الصلاة والسلام على حبيب الله محمد...سيدي:
يا فوز من صلى عليك من الورى
عليك صلاة الله ما سار راكب
ج
صلاة يعم الكون منك سناها
إلى طيبه بالذكر طاب رباها
ج
3- الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه :( أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله).
يا رب: ناجاك قلبي خاشعاً ولساني
يا واسع اللطف يا من شانه كرم
فرّج كروب المسلمين جميعهم
يا عالماً بالسر والإعلان
يا واحداً ماله في ملكه ثاني
واحفظ علينا نعمة الإيمان
ج(1/128)
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله، يكرم الله حبيبه محمداً فيقول في الحديث القدسي :( من أثنى عليّ مرة أثنيت عليه مرة، ومن أثنى على حبيبي محمد مرة أثنيت عليه عشراً، لأنه أكرم الخلق عليّ وأحبهم عندي).
سيدي: يا رب صلى على النبي المصطفى
واجعله شافعاً بفضلك في غد
ج
فلقد عرفتك منعماً متفضلاً
ج
ولقد دعوتك فاستجب لي سيدي
ج
4- الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له(إذا بعث العباد يوم القيامة ينادي الله على عباده العلماء ويقول:( يا معشر العلماء ما وضعت علمي فيكم إلا لعلمي بكم، ولم أضع علمي فيكم لأعذبكم، اذهبوا فقد غفرت لكم ولمن شفعتم له).
يارب لما علمت بأن قلبي فارغٌ
وملأت كلي منك حتى لم أدع
ممن سواكا ملأته بهداكا
مني مكاناً خالياً لسواكا
ج
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله، يقول في حديثه القدسي الشريف:( باب من العلم يتعلمه الرجل خير له من الدنيا وما فيها).
سيدي رسول الله:
أنجبت للدين والدنيا فطاحلةً
وجئت بالعلم أميين ما درسوا
بالأمس كانوا رعاة الشاة والغنم
قد أصبحوا سادة الأعراب والعجم
ج
5- الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له: ( ما من مسلم يقول لا إله إلا الله إلا فُتحت له أبواب السماء حتى تفضي إلى عرش الرحمن؛ فيقول لها: اسكني يا لا إله إلا الله، فتقول: وعزتك لا أسكن حتى تغفر لقائلي، فيقول لها: وعزتي وجلالي ما أجريتها على لسانه إلا وقد غفرت له).
سبحان من عنت الوجوه لوجهه
رب رحيم مشفق متعطّف
سل عنه ذرات الوجود فإنها
وله سجود أوجه وجباه
لا ينتهي بالحصر ما أعطاه
تدعوه معبوداً لها رباه(1/129)
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله ( خلق الله في الجنة ثمرة لم يخلق مثلها قبلها؛ ولن يخلق بعدها مثلها، وقال: هذه لمن يكثر من الصلاة على حبيبي محمد) سيدي رسول الله:
شوقي يزيد إليك يا خير الورى
يا مصطفى لك في القلوب منازل
ج
يا مصطفى يا خير من وطئ الثرى
وعلى لساني مدح غيرك ما جرى
ج
6- الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد
وعلى آله وأصحابه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، دخل الحبيب المصطفى على أصحابه فقال لهم: (أيها الناس جددوا إيمانكم. قالوا وكيف نجدد أيماننا يا رسول الله؟ قال: أكثروا من ذكر لا
إله إلا الله).
يا رب:
ملك تدين له الملوك ويلتجي
شملت لطائفه الخلائق كلها
يوم القيامة فقرهم بغناه
ما للخلائق كلها إلا هو
ج
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً رسول الله يقول في حديثه الشريف: (من سره أن يلقَ الله وهو عنه راض فليكثر من الصلاة عليَّ).
سيدي:
أنت الذي طاب الزمان بذكره
وإذا النسيم الرطب مرَّ بقبره
وتعطرت طرق الهدى من عطره
أهدى من المسك الذكيِّ نسيما
ج
صلوا عليه وسلموا تسليما
7- الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وأصحابه أجمعين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ يقول في حديثه القدسي الشريف:
(عبدي تفرغ لعبادتي أملأْ صدرك غنى وأسدٌّ فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلاً ولا أسدُّ فقرك).
ابن آدم:
النفس تجزع أن تكون فقيرة
وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت
ج
والفقر خير من غنى يطغيها
فجميع من في الأرض لا يكفيها
ج
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله، يقول للصحابي الجليل أبي ذر (يا أبا ذر جدد السفينة فإن البحر عميق وأكثر من الزاد فإن السفر طويل وأخلص العمل فإن الناقد بصير وخفف الحمل فإن
العقبة كؤود). سيدي:
أدم الصلاة على محمد الذي
فله الوسيلة واللواء وكوثر
صلى عليه الله ما سرت الصبا(1/130)
لولاه ما فتح المكبر فاه
يروي الورى وكذا يكون الجاه
وتعطرت بمديحه الأفواه
ج
8- الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وأصحابه أجمعين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. من أراد مؤنساً فالله يكفيه ومن أراد حجة فالقرآن يكفيه ومن أراد واعظاً فالموت يكفيه، ومن أراد الغنى فالقناعة تكفيه ومن لم يكفه شيء من ذلك فإن النار تكفيه. ابن آدم:
نبكي على الدنيا وما من معشر
أين الأكاسرة الجبابرة الأولى
من ذا الذي ضاق الفضاء بجيشه
خرس إذا نودوا كأن لم يعلموا
جمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا
جمعوا الكنوز فما بقين ولا بقوا
حتى ثوى فجواه قبر ضيّق
أن الكلام لهم حلال مطلق
ج
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً رسول الله علمنا اليقين في الله وعلمنا أنه لا يملك الروح والرزق إلا الله، وما قدر على فكيك أن يمضغاه فلا بد أن يمضغاه. سيدي:
يا سيد السادات يا من قدره
ماذا يقول الناس فيك وربهم
حلاك بالفضل العظيم وفضله
لا يستطيع له الورى إدراكاً
بأتمِّ تربية له ربّاكاً
الفضل العظيم علّيك ما أعلاكا
9- الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وأصحابه أجمعين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. سأل أبو هريرة رسول الله.. يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة قال: (من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه ونفسه). يا رب:
يا واحداً في ملكه ماله ثاني
أعصيك تسترني أنساك تذكرني
يا من إذا قلت يا مولاي لباني
فكيف أنساك يا من لست تنساني
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله يقول في حديثه الشريف: (ثلاثة يوم القيامة في ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله، من فرّج عن مكروب من أمتي ومن أحيا سنتي ومن أكثر من الصلاة عليَّ). سيدي:
له همم لا منتهى لكبارها
له راحة لو أن معشار جودها
وهمته الصغرى أجل من الدهر
على البر صار البر أندى من البحر
ج(1/131)
10- الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وأصحابه أجمعين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. وَصَفَ نوحاً بأنه عبداً شكوراً وجعل لإبراهيم النار برداً وسلاماً وضياء ونوراً، ومدح أيوب على صبره وجعله أواباً صبوراً ونادى على سيدنا محمد وقال: ((يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً..)). يا رب:
إلهي أنت لي يا رب حصن
وأنت لدي يا مولاي فجر
وأنت الظل كم يحنو علينا
كريم يا إلهي حين تعطي
يقيني من شرور الحادثات
يضيء لنا الليالي الحالكات
وما أحنى الظلال الوارفات
وتغدق بالعطاء وبالهبات
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله، إذا سئلت عن النعمة فقل هي محمد وإذا سئلت عن سيد الأولين والآخرين وحبيب رب العالمين فقل هو سيدنا وحبيبنا ابن عبد الله محمّد. سيدي:
إذا ما الناس يوم الدين قاموا
وجل الخطب وانقطع الرجاء
هناك يقوم أحمد في يديه
ج
إلى الرحمن واجتمع الجميع
ونادى العالمون من الشفيع
لواء الحمد مزدهر رفيع
11- الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وأصحابه أجمعين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ينادي على عبادة في جلال وكبرياء ويقول: (يا بن آدم خلقتك بيدي وربيتك بنعمتي وأنت تخالفني وتعصيني وإن رجعت إليَّ تبت إليك، فمن أين تجد لك ربا مثلي وأنا الغفور الرحيم). يا رب:
ناداك قلبي خاشعاً ولساني
يا من حفظت محمداً وحبيبه
ارحم تضرّعنا إليك وحزننا
ج
يا عالماً بالسرّ والإعلان
في الغار يا ذا المن والإحسان
وامنن علينا اليوم بالغفران
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله. يقول الإمام علي كرم الله وجهه: (( كنا إذا حمي الوطيس واشتد القتال احتمينا برسول الله فلم يكن أحد أقرب إلى العدو من رسول الله)).. سيدي:
رسول العلا والفضل والخير والهدى(1/132)
ولي في معانيك الحسان تأمل
ويهتز للذكرى حنيناً وحرقة
لكل سطور المجد اسمك مبتدا
سمعت به قلبي يقول محمدا
فيهتاجه الشوق الذي بلغ المدى
12- الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وأصحابه أجمعين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ينادي على عباده ويفتح لهم باب الرحمات ويقول: (( لو يعلم المعرضون عني كيف انتظاري لهم ورفقي بهم وشوقي لترك ذنوبهم لماتوا شوقاً إليَّ ولتقطعت أوصالهم من محبتي إذا كان هذا حالي وشأني بالمعرضين عني، فكيف حالي وشأني بالمقبلين عليَّ )). يا رب:
يا مؤنس الأبرار في خلواتها
من ذاق حبك لم يزل متلهجاً
مالي سواك وأنت غاية مقصدي
يا خير من حطت به النزال
أنت الحبيب وما سواك محال
الكل أنت وما عداك ضلال
ج
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله.. نزل عليه جبريل الأمين فقال له: ((يا محمد إن ربك يقرؤك السلام ويقول لك أما يرضيك ألا يصلي عليك أحد من أمتك مرة إلا صليت عليه بها عشرا، ولا يسلم عليك مرة إلا سلمت عليه عشرا))... سيدي:
حننت إلى قبر النبي محمّد
حطّت رحالي وامتدحت محمداً
حميد مجيد ذو جلال ورفعة
وراحت بروحي نحو طيبه ريح
ولذَّ لقلبي في الحبيب مديح
على وجهه نور الجمال يلوح
ج
13- الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول في حديثه القدسي الشريف: ((اشتد غضبي على من ظلم من لم يجد له ناصراً غيري)).. يا رب:
يا من يجيب دعا المضطر في الظلم
وقد وعدت بأن ندعو، تجيب لنا
ج
يا كاشف الضر والبلوى مع السقم
وقد دعونا فجد بالعفو والكرم(1/133)
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله.. بلغ الرسالة، وأدى الأمانة ونصح الأمة، وكشف الغمة، وجاهد في الله حق الجهاد حتى أتاه اليقين من ربه ((نبي كتب الله له بين كتفيه بيد القدرة يا محمد توجه حيث شئت فإنك منصور)).
سيدي رسول الله:
أنت الذي قاد الجيوش محطماً
ورفعت عهد المرسلين مجاهداً
وسموت بالبشر الذين تعلّموا
عهد الضلال وأدب السفهاء
وحملت دين الأنبياء مضاء
سنن الشريعة فارتقوا سعداء
14- الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، العز كل العز في طاعة الله، والذل كل الذل في معصية الله، اعمل لله بقدر حاجتك له واعمل للدنيا بقدر بقائك فيها واعمل للآخرة بقدر مقامك فيها واعمل للجنة بقدر اشتياقك إليها واعمل للنار بقدر صبرك عليها. يا رب:
يا منبت الأزهار عاطرة الشذا
إن لم تكن عيني تراك فإنني
رباه ها أنا ذا خلصت من الهوى
إني أويت لكل مأوى في الحياة
هذا الشذا الفواح نفح شذاكا
في كل شيء أستبين علاكا
واستقبل القلب الخلي هواكا
فما وجدت أعز من مأواكا
ج
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله، تشتاق النفوس
لرؤياه وتبتهج الأرواح لنور محياه، نبي أوحى الله إليه:
((وعزتي وجلالي لو أتوني من كل طريق استفتحوا عليّ كل باب ما فتحت لهم حتى يأتوا من خلفك يا محمد)).
سيدي رسول الله:
هو الهادي البشير هو المرجّى
عليه من المهيمن كل وقت
شفيع الخلق في يوم المعاد
صلاة ما حدا بالركب حادي
15- الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وأصحابه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: (ألا أخبركم بخير أعمالكم وأرضاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم؟ قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: ذكر الله).. يا رب:
رضاك خير من الدنيا وما فيها(1/134)
وليس للنفس آمال تؤملها
يا منية القلب قاصيها ودانيها
سوى رضاك فذا أقصى أمانيها
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله، يقول في حديثه الشريف ((أقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً وأكثركم صلاة علي)).. سيدي رسول الله:
شوقي يزيد إليك يا خير الورى
يا مصطفى لك في القلوب منازل
يا مصطفى يا خير من وطئ الثرى
وعلى لساني مدح غيرك ما جرى
ج
16- الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله
وعلى آله وأصحابه أجمعين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: ((إن القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد قالوا: وما جلاؤها يا رسول الله قال: ذكر الله)).
يا رب اقبل توبتي لك مخلصاً
واغفر عن العبد الذي يا سيدي
وامنن فإني قد مددت لك اليدا
قد عاش معترفاً ومات موحدا
جج
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله، يقول في حديثه الشريف: ((أنا في قبري حيّ طري من صلى عليّ صليت عليه ومن سلم علي سلمت عليه)). سيدي رسول الله:
صلى الإله ومن يحفُّ بعرشه
فما حملت من ناقة فوق رحلها
ولا طلعت شمس النهار على امرئ
ولا لاحت الجوزاء شرقاً ومغرباً
والطيبون على المبارك أحمد
أبرّ وأوفى ذمة من محمّد
تقيٍّ نقيٍّ كالنبي محمد
بأطيب من طيب النبي محمد
جج
17- الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جاء أعرابي إلى رسول الله وقال: يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فهل تأمرني بشيء أتشبث به، قال: لا يزال لسانك رطباً بذكر الله... يا رب:
يا خالق الأكوان يا نور الهدى
مولاي لا تقطع رجائي سيدي
عزَّ الجلال وجلت الفعال
من لا تخيب بجودك الآمال(1/135)
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله، هو الذي يقول: ((أبخل الناس من يبخل بالسلام على الناس وأبخل منه الذي إذا ذكرت عنده لم يصل عليّ))..
سيدي:
يا رب صلِّ على النبي محمد
فلقد عرفتك منعماً متفضلا
واجعله شافعاً بفضلك في غد
ولقد دعوتك فاستجب لي سيدي
جج
18- الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول في حديثه القدسي: ((أنا الله لا إله إلا أنا ملك الملوك ومالك الملك، العز إزاري، والعظمة ردائي، فمن نازعني فيهما قصمته ولا أبالي)).
يا رب يا موجد الأشياء من ألقى
ومن استراح بغير ذكرك أو رجا
إلى أبواب غيرك فهو غر جاهل
أحداً سواك فذاك ظل زائل
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله.
أصيب أحد العارفين بالله ببلاء في جسده، فسأل عن الدواء فقيل له أين أنت من الترياق المجرّب، قال وما الترياق المجرّب؟ قيل له (الصلاة والسلام على حبيب الله محمد). سيدي رسول الله:
جميع الأنبياء بدور هدي
وهم شمس الكمال وأنت نورٌ
وأنت الشمس أشرقهم وأسنى
وهم يسرى يديك وأنت يمنى
ج
19- الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. أنزل أشرف كتاب هو القرآن الكريم بواسطة أشرف ملك هو جبريل الأمين، في أشرف بلد هي مكة البلد الحرام، في أشرف شهر هو شهر رمضان، في أشرف ليلة هي ليلة القدر، وفي أشرف سن هو سن الأربعين، في أشرف غار هو غار حراء، لأشرف أمة هي أمة الإسلام، على أشرف نبي هو سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.
يا رب:
زدني بفرط الحب فيك تحيّرا
وإذا سألتك أن أراك حقيقة
وارحم حشا بلظى هواك تسعرا
فاسمح ولا تجعل جوابي لن ترى
ج(1/136)
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله هو الرحمة المهداة والنعمة المسداة.. قيل لأبي سليمان الداراني، يا أبا سليمان أتبيع ثواب صيامك بمئة ألف درهم قال: والله لا أبيعه إلا بالنظر إلى وجه الله جلَّ في علاه.
سيدي رسول الله:
يا فوز من صلى عليك من الورى
عليك صلاة الله ما سار راكب
صلاة يعم الكون منك سناها
إلى طيبة بالذكر طاب رباها
ج
20- الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
قال سيدنا نوح لابنه حينما امتنع عن الإيمان ((اعلم يا بني أن السموات والأرضين لو وضعت في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، لرجحت بهن لا إله إلا الله، ولو كانت السموات والأرضين حلقة واحدة لقصمتهن لا إله إلا الله.
يا رب:
ما في الوجود سواك رب يعبد
يا من له عنت الوجوه بأسرها
أنت الإله الواحد الفرد الذي
كلا ولا مولى سواك فيقصد
وله جميع الكائنات توحد
كل القلوب له تقرُّ وتشهد
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله، يقول لعائشة: ((يا عائشة الويل لمن لم يرني يوم القيامة. قالت: ومن الذي لا يراك يوم القيامة يا رسول الله؟ قال: البخيل الذي إذا ذكرت عنده لم يصل عليّ)).
سيدي رسول الله:
لهجت بذكرك مهجتي ولساني
فأنا بذكرك في البرية كلها
فلأذكرنّك ما بقيت معمّراً
وحللت من قلبي بكل مكان
علم وحبك آخذ بعناني
حتى الممات ولا يمل لساني
21- الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
يا رب شعاع من رضاك يطفئ غضب ملوك أهل الأرض، ولمحة من غضبك تزهق الروح ولو انغمست في نعيم الدنيا، قطرة من فيض جودك تملأ الأرض ريا، ونظرة بعين رضاك تجعل الكافر وليا، يا رب.. والله ما طابت الدنيا إلا بذكرك.. ولا تطيب الآخرة إلا بعفوك.. ولا تطيب الجنة إلا برؤيتك..
يا رب:(1/137)
رضاك خير من الدنيا وما فيها
ونظرة منك يا سؤلي ويا أملي
وليس للنفس آمال تؤملها
يا منية القلب قاصيها ودانيها
أشهى إلي من الدنيا وما فيها
سوى رضاك فذا أقصى أمانيها
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله، قال: يا رب أعطيت إبراهيم الخلة وموسى التكليم وعيسى إحياء الموتى فما أعطيتني.. فقال له ربه: يا محمد أعطيتك أن لا أذكِر إلا وتذكر معي ولا يقال لا إله إلا الله إلا ويقال محمد رسول الله.
سيدي:
البر دونك في عزٍّ وفي شمم
أخوك عيسى دعا ميتا فقام له
والبحر دونك في خير وفي كرم
وأنت أحييت أجيالاً من العدم
ج
22- الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، نحمده أن جعلنا من أمة لا إله إلا الله وجمعنا في هذا المكان تحت راية لا إله إلا الله ونسأله أن يجعل آخر كرمنا من الدنيا لا إله إلا الله...
يا رب:
يا من له علم الغيوب ووصفه
أخفيت ذنب العبد عن كل الورى
فلك التفضيل والتكرّم والرضا
جج
ستر العيوب وكل ذاك سماح
كرماً فليس عليه ثمَّ جناح
أنت الكريم المنعم الفتاح
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله، هو صاحب الحوض ورافع لواء الحمد الذي يقول: ((من سرّه أن يلقَ الله وهو عنه راضٍ فليكثر من الصلاة عليّ))..
سيدي رسول الله:
ملأت محاسنه الزمان فأفرعت
وتلونت ثمراتها وتنوعت
ج
شجر الهداية في الجهات وأينعت
فالكل في بركاته يتنعم
فبحقّه صلوا عليه وسلموا
23- الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. يقول لسيدنا موسى: يا موسى وعزتي وجلالي لو أن السموات السبع والأرضين السبع وضعت في كفة ولا إله إلا الله في كفة لرجحت بهن لا إله إلا الله...
يا رب:
يا من لطفت بحالي قبل تكويني
وقد أتيتك بالتوحيد يصحبه(1/138)
لا تجعل النار يوم الحشر تكويني
حب النبي وهذا القدر يكفيني
ج
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله، هو الذي يقول: (أقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً وأكثركم صلاة عليّ).. سيدي:
يا من بعثت مسدداً ومؤيداً ومحمداً
الله أكمل دينه بك وارتضى
المصطفى البر الرحيم بنبله
فزكت بك الآلاء
وأتم نعمته وعم حباء
وبفضله والأسوة المعطاء
جج
24- الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. ينادي على عباده ويقول: (يا بن آدم عندك ما يكفيك وأنت تطلب ما يطغيك لا بقليل تقنع ولا من كثير تشبع، إذا كنت معافى في بدنك آمناً في سربك، عندك قوت يومك فعلى الدنيا العفاء).. يا رب:
تكلم الله فليصغ الوجود له
عبدي ألم أعطك النعماء سابغة
عبدي ألم تأتكم في أرضكم رسلي
ولم تزل رحمتي بالخلق شاملة
الله من عرشه الأعلى ينادينا
أما ملأت لك الدنيا رياحينا
إلى السعادة في الدارين داعينا
وغيثها هاطل يروي المحبينا
ج
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله، هو صاحب الحوض ورافع لواء الحمد وأول من يدخل الجنة من الأمم أمة الإسلام، وأول من يدخلها من الأنبياء والمرسلين سيد الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد..
سيدي:
والله ما حملت من أنثى ولا وضعت
مهذب شرف الله الوجود به
كمثل أحمد من قاص ومن دان
وخصه بدلالات وبرهان
ج
25- الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. يقول في حديثه القدسي الشريف (اشتد غضبي على من ظلم من لم يجد له ناصراً غيري واشتد غضبي على من رأى مظلوماً وهو قادر على أن ينصره فلم ينصره)).
يا رب:
ما مسني قدر بكره أو رضا
أمضي القضاء على الرضا مني به
إلا اهتديت به إليك طريقا
إني وجدتك في البلاء رفيقا
ج(1/139)
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله، يقول لسيدنا أنس بن مالك ((يا أنس إن استطعت إن تمسي وتصبح وليس في قلبك غش لأحد فافعل فإنَّ ذلك من سنتي ومن أحب سنتي فقد أحبني ومن أحبني كان معي في الجنة))..
سيدي:
يا رب صل على أعلى الورى شرفاً
وآله وعلى الصحاب كلهم
جج
محمد ما علت بالذكر أصوات
مني السلام عليهم والتحيات
26- الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلقنا ليثبت لنا أنه على كل شيء قدير ورزقنا ليثبت لنا أنه أكرم الأكرمين، ويميتنا ليثبت لنا أنه القهار ذو القوة المتين ويحيينا ليثبت لنا أنه أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين وأسرع الحاسبين. يا رب:
إلهي لست للفردوس أهلاً
فهب لي توبة واغفر ذنوبي
ولا أقوى على نار الجحيم
فإنك غافر الذنب العظيم
ج
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله.
رأت السيدة عائشة في الرؤيا أن ثلاثة أقمار قد هبطت من السماء إلى حجرتها، فلما أصبحت قصّت رؤياها على أبيها أبي بكر فقال لها يا عائشة سيدفن في بيتك ثلاثة من عظماء الرجال، فكان أولهم السيد الجليل محمد بن عبد الله ثم أبي بكر ثم عمر. سيدي:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه
فطاب من طيبهن القاع والأكم
فيه العفاف وفيه الجود والكرم
جج
27- الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
قال أحد الحكماء لابنه: يا بني لقد ذقت الطيبات كلها فلم أجد أطيب من العافية وحملت الصخر والحديد فلم أجد أثقل من الدين وذقت المرارة كلها فلم أجد أمرّ من الحاجة إلى الناس.
يا رب:
فعلنا خطايانا وسترك مسبل
إذا نحن لم نخطئ وتعف تُكرّماً
وليس لشيء أنت ساتره كشف
فمن غيرنا يهفو وغيرك من يعف
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله.(1/140)
جاءه جبريل الأمين ليقول له يا محمد ((من صلى عليك مرة صلى الله عليه بها عشرا ومن سلم عليك مرة سلم الله عليه بها عشرا))..
سيدي:
كيف ترقى رقيك الأنبياء
لم يدانوك في علاك وقد
أنت مصباح كل فضل فما
يا سماء ما طاولتها سماء
حال سنا منك دونهم وسناء
تصدر إلا عن ضوئك الأضواء
28- الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. الأنس بالله نور ساطع والأنس بغير الله سيف قاطع والعارف بالله هو الذي لا يفرح بموجود ولا يحزن على مفقود وإذا أحب الله عبداً ابتلاه فإذا صبر اجتباه، فإذا رضي اصطفاه.
يا رب:
يا أرحم الرحماء مالي حيلة
مالي إذا ضاقت وجوه مذاهبي
إلا الدعاء الله يا الله
أحد ألوذ بعزه إلا هو
جج
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله.
كان أجود الناس بالخير وكان يقول: ((إن من موجبات الرحمة إدخالك السرور على قلب أخيك المسلم)).
سيدي:
البر عندك يا رسول فريضة
المصلحون أصابع جمعت يدا
لو أن إنساناً تخير ملّة
يا أيها الأميّ حسبك رتبة
والصبر منك شجاعة وإباء
هي أنت بل أنت اليد البيضاء
ما اختار إلا دينك الكبراء
بالعلم إن دانت لك العلماء
29- الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. اطلع الله تعالى على قلوب العباد فوجد قلب سيدنا محمد من أطيب قلوب العباد فاختاره لرسالته، واطّلع على قلوب العباد من بعده فوجد قلوب أصحابه من أطيب قلوب العباد فاختارهم لصحبته.. يا رب:
إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى
وخير لباس المرء طاعة ربه
تقلب عرياناً ولو كان كاسيا
ولا خير فيمن كان لله عاصيا
ج(1/141)
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله.. إذا كان يوم القيامة يوم العطش الأكبر والحر الشديد فما من نبي إلا ويقول نفسي نفسي إلا محمد فإنه يقول أمتي.. أمتي..
سيدي:
ولدت بمولدك المكارم والندى
فأقمت للخلق الكريم منارة
فصل الخطاب لقد ملكت زمامه
والحلم عند الغيظ والإحسان
وسما بعذب حديثك التبيان
ونثرت ما لم يستطعه لسان
* * *
30- الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه ومَن والاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، اسمع إلى حبيب الله محمد وهو يقول لعمر بن الخطاب:( أذّن في الناس أن من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مخلصاً دخل الجنة).
يا رب
يا من تفرّد بالبهاء وبالسنا
يا من له وجب الكمال بذاته
ج
في عزه وله البقاء السرمدُ
فلذاك تشقي من تشاء وتسعد
ج
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله يقول في حديثه الشريف: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر، لواء الحمد بيدي آدم فمن دونه تحت لوائي ولا فخر، وأنا سيد الأولين والآخرين ولا فخر).
سيدي:
يا خير خلق الله يا من فيضه
يا رحمة للعالمين وعزهم
بك نالت الأكوان كل فضيلةٍ
عمّ البرايا المنتهى والمنتدى
يا غاية الآمال يا مُجلي الصدى
وتشرفت لما جنابك قد بدا
31 الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه ومَن والاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول رسولنا الكريم صلوات الله عليه لأبي هريرة :" إذا عملت سيئة فأتبعها حسنة تمحها، قلت: يا رسول الله: أَمِن الحسنات لا إله إلاّ الله؟ قال: هي أفضل الحسنات".
يارب:
سبحان من خلق الأشيا وقدرها
ويغفر الذنب للعاصي ويقبله
فنسأل الله حقاً حسن خاتمةٍ
ومن يجود على العاصي ويستره
إذا أناب وما لغفران يجبره
عند الممات وصفواً لا يكدره(1/142)
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله نبي ملأ الله قلبه رحمة وحناناً، وقال له:" فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك".
سيدي رسول الله:
حبيبي يا شفيع الخلق طرّاً
بجيش الحق أمّنت البرايا
ج
ويا من نوره عمّ الوجود
وجيش الحق تخشاه الأسود
ج
32- الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه ومَن والاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إ1ا دخل أهل الجنة الجنة تجلى عليهم الجبار، وقال لهم:" سأحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً".
ابن آدم:
اطلب رضا الله فيما ترتجيه وثق
وقف على الباب واطرق بالمتاب تنل
به تنال المنى والفوز والسّقا
أما ترى الباب مفتوحاً لمن طرقا؟
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله، يقول أبو سفيان قبل إسلامه متعجباً:" والله ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمدٍ محمداً".
سيدي رسول الله:
نظمت أسامي الرسل في صحيفةٍ
اسم الجلالة في بديع حروفه
يا أيها الأميّ حسبك رتبةً
في اللوح واسم محمدٍ طغراء
ألف هنالك واسم طه الباء
في العلم أن دانت لك العلماء
33- الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد
وآله وصحبه ومَن والاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول في حديثه القدسي :" يا بن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة".
ابن آدم:
لا تقنطنّ فإن الله منان
إن كان عندك إهمال ومعصيةٌ
وعنده للورى عفو وغفران
فعند ربك إفضالٌ وإحسان
ج
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله، القائل: "أُعطيت جوامع الكلِم، وختمت في النبوة والرسالة، وأنا خاتم النبيين".
سيدي رسول الله:
أنت النبي الذي ضاء الوجود به
صلى عليه إله العرش ثم على
وفيه خالفت لوّاماً وعذّالا
أهليه والصحب آباداً وآزالا
جج(1/143)
34- الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه ومَن والاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ابن آدم اسمع إلى رسول الله وهو يقول:( إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله) واعلم أنه لا يضر ولا ينفع ولا يصل ولا يقطع إلا الله).
يا رب:
أنت المُرتجى في كل هولٍ
وذكرك في فؤادي ليس يُمحى
جج
وأنت المُستعان على الرزايا
وحبّك في الضمير وفي الحنايا
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله، نبي رفع الله
ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة
إلاّ يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.
سيدي رسول الله بك:
بشّر الله السماء فزينت
يوم يتيه على الزمان صباحه
وتضوّعت بك الغبراء
ومساؤه بمحمد وضّاء
ج
35- الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه ومَن والاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول:" يا بن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة".
يا رب:
يا رب قد تبت فاغفر زلّتي كرماً
فاصفح بعفوك عمن جاء معتذراً
جج
وارحم بعفوك من أخطاء ومن ندما
واغفر ذنوب مسيء طالما اجترما
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله، الذي يقول:" كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى".
سيدي رسول الله:
أزكى البرية عنصراً وأجلّ من
صلى عليه الله ما سرت الصبا
فقد خصّ بالتقريب من رب السما
وشدا الهزار على الربا وترنّما
ج
36- الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه ومَن والاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحبيب المصطفى:" إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها.
يا رب:
أستغفر الله مما كان من زللي(1/144)
يا رب هب لي ذنوبي يا كريم فقد
ج
ومن ذنوبي وإفراطي وإصراري
أحكمت حبل الرجا يا خير غفّار
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله، سأله رجل: متى الساعة يا رسول الله، قال: ما أعددت لها؟ قال: والله ما أعددت لها كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، قال: أنت مع من أحببت".
سيدي رسول الله:
وحق المصطفى لي فيك حبّ
ولا أرضى سوى الفردوس مأوى
إذا مرض الرجاء يكون طباً
إذا كان الفتى مع من أحبّا
37- الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه ومَن والاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، طلب من عباده الدعاء ووعدهم بالإجابة، وإنه ليستحيي أن يرفع يديه داعياً ثم يردهما صفراً.
يارب:
يا من يغيث الورى من بعد ما قنطوا
فأنت أكرم مفضال تُمدُّ له
ججج
ارحم عبيداً أكفّ الذل قد بسطوا
أيدي العصاة وإن جاروا وإن قنطوا
ج
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله، الذي يقول: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين).
سيدي رسول الله:
يا دار خير المرسلين ومن به
عندي لأجلك لوعة وصبابة
في أرضك النور الذي ملأ الدنى
هُدِيَ الأنامُ وخصّ بالآيات
وتشوّق متوقّد الجمرات
صبحاً وأسفر حالك الظلمات
38- الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه ومَن والاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، طلب من الخلق دليلاً على المحبة بتقديم الطاعة له والاتباع حيث قال:" إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله"
ابن آدم:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه
لو كان حبك صادقاً لأطعته
ج
هذا لعمري في البيان بديع
إن المحب لمن يحب مطيع
ج
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله، وصفه ربه بأنه على خلق عظيم، ولذلك يقول:" إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
سيدي رسول الله:
إن كان للأخلاق ركنٌ قائمٌ
المجد والشرف العظيم صحيفة
في هذه الدنيا فأنت الباني(1/145)
جُعلتْ لها الخلاق كالعنوان
ج
39- الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه ومَن والاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول:( أنا عند حسن ظن عبدي بي فليظن بي ماشاء).
يا رب:
يا رب يا رب يا مولاي يا سيدي
فبحق أحمد حقق ظننا فلنا
ج
يا من عليه لكل الخلق تعويل
بجاه أحمد تأويه وتنويل
ج
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله، يقول في
حديثه الصحيح:" لكل نبي دعوة يدعو بها، واختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة".
سيدي:
حبيبي يا رسول الله يا غاية المنى
عليك صلاة الله ثم سلامه
ويا يداً ما في الوجود له مثلُ
كما المسك يُزكيها على ذاتك القول
40- الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه ومَن والاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول للعصاة:" من ذا الذي جاء إلى بابنا فطردناه؟ من ذا الذي لاذ بجنابنا وما قبلناه؟ أنا الكريم الذي لا أبخل، وأنا الحليم الذي لا أعجل، وأنا الذي أغفر الذنوب جميعاً ولا أبالي".
يا رب:
نزيل بابك يرجو رحمة وسعت
فاغفر له ولكل المسلمين ومَن
وليس للعبد عن مولاه تحويل
تغفرْ له فعليه الستر مسبول
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله، يقول في حديثه الشريف:" أنا في قبري حي طري، من صلى علي صليت عليه، ومن سلم علي سلمت عليه".
سيدي:
لو أسمعوا يعقوب ذكر ملاحةٍ
أو لو رآه عائداً أيوب في
كملت محاسنه فلو أهدى السنا
يكفيه أن البدر يخسف نوره
في وجهه نسي الجمال اليوسفي
سنة الكرى قدماً من البلوى شفي
للبدر عند تمامه لم يخسف
لكن نور محمد لم يخسف
ج
41- الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه ومَن والاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول ابن عمر رضي الله عنهما:" كنا نعدّ لرسول الله ( في المجلس الواحد مئة مرة " رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم".
يا رب:(1/146)
يا من أحاط بكل شيء علمه
إني سألتك بالنبي محمد
امنن عليّ بتوبة تمحو بها
وعليه في كل الأمور توكلي
وبما تلاه من الكتاب المنزل
ما كان مني في الزمان الأول
ج
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله، يقول الصحابي الجليل أبو هريرة:" والله ما رأيت أجمل من رسول الله، لكأن الشمس تجري في وجهه الشريف".
سيدي:
وجه الحبيب إذا تبدى طالعاً
قد زيّن الدنيا بطلعة وجهه
صلى بأملاك السموات العلا
ينسيك حسن محاسن القمرين
والبضعة الزهراء والحسنين
وجميعهم قاموا له صفين
ج
42- الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه ومَن والاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
يا رب:
ما لي إليك وسيلة إلا الرجا
لا تبتليني بالبعاد وبالجفا
ج
وتشفعي بمحمد وبآله
أنت العليم بذا العُبيْدِ وحاله
ج
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله، ما من نبي
ولا رسول إلا يقول يوم القيامة: نفسي نفسي إلا محمد.
يا سيدي:
يا سيدي يا رسول الله خذ بيدي
صلى عليك إله العرش ما هتفت
يوم الحساب إذا ضاقت بنا السبل
وُرْقُ الحمام وما سارت لك الإبل
جج
43- الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه ومَن والاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
يا رب:
يا رب رحماك فيمن قلّ ناصره
يا رب والطف بمن حُمّ القضاء به
ج
من بعد رفقته في الناس والأمم
وساورته رزايا الضيق والسقم
ججج
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله، الذي يقول:" أحبوا العرب لثلاث: لأني عربي، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنة عربي".
سيدي:
هو البشير النذير المستضاء به
الهاشمي الذي شاعت رسالته
ومن بإحسانه عمّ الأنام ندا
جهراً وأسخى الورى بالمكرمات يدا(1/147)
44- الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه ومَن والاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول في حديثه القدسي الشريف:" إذا تقرب العبد إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإذا تقرب إليّ ذراعاً تقربت منه باعاً، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة".
يا رب:
يا حبيب القلوب ما لي سواكا
يا رجائي وراحتي وسروري
فارحم اليوم مذنباً قد أتاكا
قد أبى القلب أن يحبّ سواكا
ج
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله، هو الذي يقول: " إني لأشفع يوم القيامة لأكثر مما على وجه الأرض من شجر وحجر ومدر".
نعم:
هو سيد الكونين والنور الذي
وهو المشفع في القيامة وحده
صلى عليك الله يا علم الهدى
ظهرت شريعتنا به بعد الخفا
فيمن هوى في النار أو من أشرفا
ما ناح قمري الأراك ورفرفا
ج
45- الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه ومَن والاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلقنا من عدم، ورزقنا من عُدم، وتكرم علينا بالإسلام، وشرفنا بمحمد عليه الصلاة والسلام.
يا رب:
سبحان من جعل الوجود صحيفة
سبحان من يسقي الوجود بأسره
حتى تُحدّ بشعلة من نار
جاماً صفت عن شربة الأكدار
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله، هو الذي يقول:" أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة".
سيدي رسول الله:
لأنت خير من يمشي على قدم
صلى عليك إله العرش ما طلعت
ج
وخير من فاق مولوداً ومن ولدا
شمس وما سار ركب في الفلا وحدا
ج
46- الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه ومَن والاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو مالك الملك وملك الملوك، أكرمنا بالإيمان، فنسأله أن يتم علينا نعمته، ويحشرنا تحت لواء محمد العدنان.
يا رب:
يا رب إنا موقنون بعجزنا
وامنح قلوب المسلمين حرارة
فأدم علينا قوة الإيمان
كحرارة الآيات في القرآن(1/148)
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله،هو الرسول
الذي قال له ربه:" وإنك لعلى خلق عظيم" وقال له:" وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين".
سيدي رسول الله:
يا أيها البدر الذي ملأ الثرى
يا أيها الشمس التي خفقت على
صلى عليك الله يا علم الهدى
ج
نوراً سبى الألباب والأبصارا
وجه البسيطة سؤدداً وفخارا
ما ركْبُ قومٍ للمدينة سارا
ج
47- الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه ومَن والاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ينادي على عباده يوم القيامة ويقول:" لمن الملك اليوم؟"، فلا يجيبه أحد، فيجيب نفسه ويقول:" لله الواحد القهار".
ابن آدم:
دع عنك ما قد فات في زمن الصبا
وغرور دنياك التي تسعى لها
ج
واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب
دارٌ حقيقتها متاعٌ يذهب
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله، يقول في حديثه الشريف:" من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه"
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم لقاك يا رب العالمين.
ابن آدم:
اصبر لدهر نال منك
فرحاً وحزناً مرةً
فهكذا مضت الدهور
لا الحزن دام ولا السرور
ججج
48- الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه ومَن والاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يوقل منادياً عباده الصالحين:" أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر".
ابن آدم:
فز بالرضا والعفو منه تعالى
وانشط لدينك لا تكن متكاسلاً
والله يأمرنا بنص كتابه
وزد الفؤاد نزاهة وكمالا
فالدين يأبى أن نكون كسالى
أن لا يناقض قولنا الأفعالا
ج
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله، قال له ربه:
"والله لو أتوني من كل طريق واستفتحوا عليّ كل باب ما فتحت لهم
حتى يأتوا من خلفك يا محمد".
سيدي رسول الله:
أنت الرسول الذي منّ الإله به
أنت الحبيب الذي أسرى به شرفاً(1/149)
صلى عليك إله العرش ما طلعت
على البرية وازدادت به السير
إلى السماء وجنح الليل معتكر
شمس وما خلفتها الأنجم الزهر
جج
49- الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه ومَن والاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، العز كل العز في طاعة الله والذل كل الذل في معصية الله. واجعل بربك كل عزك يستقر ويثبت.
يا رب:
لا عاش قلبٌ لستَ منه ولا اهتدى
خسر الذي ينساك طيبَ حياته
ج
إن ضل غير سبيل حبك حائرُ
ومن استعز بغير عزك خاسر
ج
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله، جاءنا بدين العزة والكرامة واسمع إلى الفاروق عمر وهو يقول: "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله".
يا سيدي يا رسول الله معذرةً
وقد سلكت بنا درباً معبدة
وقد طلبت إلينا أن نسير على
يا من أقمت لنا بالعز بنيانا
تهدي إلى خير دنيانا وأخرانا
تلك السبيل زرافات ووحدانا
ج
50- الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه ومَن والاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، اسمع إلى حبيب الله وهو يقول: "إن أفضل أهل الجنة منزلة من ينظر إلى وجه الله تعالى كل يوم مرتين".
يا رب:
يا من على عرش البقاء قد استوى
باقٍ ولا تفنى وكلٌ ميتٌ
فرداً وليس لذاته شركاء
حاشا لغيرك يا عظيم بقاء
ج
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله نبي حبيب يقول: "وددت لو أني رأيت إخواني، قال الصحابة أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال لا: إخواني الذين يجيئون بعدي يؤمنون بي ولم يروني".
سيدي:
وإني لمشتاق إلى نور أحمد
فلولاه كان الناس في الغي والعمى
عليه سلام الله ما لاح بارق
نبي إليه ترحل العجم والعرب
ولكنْ هداه قد حبانا به الرب
وما هتفت وُرق وما هطلت سُحْب(1/150)
51- الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه ومَن والاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحبيب المصطفى: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار".
يا رب:
يا ربِّ إني في هواك متيمٌ
وإذا دعوتك يا إلهي راجياً
ج
فاقبل رجائي وامحُ لي هفواتي
فأجب سؤالي واستجب دعواتي
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله، يقول الإمام علي كرم الله وجهه حينما سئل كيف كان حبكم لرسول الله؟ قال: "كان والله أحب إلينا من أبائنا وأمهاتنا وأولادنا، ومن الماء البارد على الظمأ".
سيدي:
محمد المصطفى المختار من مضر
تالله ما في فؤادي قط جارحة
صلى عليه إله العرش ما طلعت
من طبق الأرض طيباً عرف رياه
إلاّ وذكراه فيها لست أنساه
شمس وغابت حياءً من محياه
ج
52- الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه ومَن والاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يا رب خابت الآمال إلا فيك، وانقطع الرجاء إلا منك، فارحمنا دنياً وآخرة يا أرحم الرحماء يا الله.
يا رب:
يا رب إن حان اللقاء غداً وقد
يا رب فاغفر زلتي كرماً فما
جُمعتْ إلى يوم الحساب رفاتي
ألفيتُ غيرك غافر الزلات
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله حينما أراد آدم أن يتوب من معصيته قال: اللهم بحق محمد اغفر لي خطيئتي، فقال له الله: من أين عرفت محمداً؟ قال رأيت في كل موضع من الجنة مكتوباً: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنه أكرم الخلق عليك. فتاب الله وغفر له.
سيدي رسول الله:
لولاك ما خلقت شمس ولا قمر
عليك مني سلامٌ نشره عَطِرٌ
ج
ولا سماءٌ ولا لوح ولا قلم
ما دام قبرك للزوار يلتثم
أبيات شعرية في الإلهيات والنبوات
عذراً رسول الله
عذراً رسول الله إن قصرت في(1/151)
جاءت قديماً ذرة من نوره
والله لو جدّت عباقرة الدّنى
والله لو قلمُ الزمان من البداية
والله لو ماء البحار بجمعها
والله لو روض الحبيب تفجرت
تكفيه لقيا في السموات العلا
يكفيه أن البدر يخسف نوره
ج
وصفي جمالكم فجمالكم لن يوصفا
قد جمّل الرحمن منها يوسفا
في وصف أفضال له لم تعرفا
للنهاية ظل يكتب ما اكتفا
كان المدادَ لمدح أحمد ما وفا
أنواره للبدر ولّى واختفا
وبحضرة المولى الكريم تشرّفا
لكن نور محمد لن يخسفا
ليلة الميلاد
يا ليلة الميلاد ماذا صافحَتْ
كل الليالي البيض في الدنيا لها
فالقدر والأعياد والمعراج من
وحللت في التاريخ أشرف موضعٍ
وملأتِ عين الدهر منكِ محاسناً
يا ليلة طافت معاهد ذكرها
وُزنَتْ مزيّتُها بكل مزيّةٍ
جج
يمناك من شرفٍ أشمّ ومن غنا
نسب إليك فأنت مفتاح الهنا
حسناتك اللائي بهرن الأعينا
نادى برفعتها الزمان وأعلنا
وملأتِ سمع الدهر يا بشرى لنا
بخيالنا وهناك أشرقت الدّنا
مرت على الدنيا فكانت أوزنا
ج
العيد للأبطال
أحييكم بعيدكم السعيد
وألثم جبهة البطل المفدى
أعانق كل صنديد أبيٍّ
فيا أبناء يعرب قد صبرتم
ويا أبناء غزة هل ولدتم
فكنتم صحوة من غير حد
تمر عليكم الأعياد حزنى
أتى زمن البطولة فاستعدوا
فمن رحم البطولة سوف تنمو
دفنتم في الثرى أعتى يهودٍ
أحيي وقفة الشعب العنيد
يصون الأرض يهزأ بالوعيد
تفيّأ تحت هامات البنود
فكنتم شامخين كما الأسود
عمالقة بأزمان العبيد
وكم من صحوة فوق الحدود
كفا حبّاً يُعدّ بألف عيد
لدحر الغاصب الباغي العنيد
سرايانا وتورق من جديد
وقلتم للوغى هل من مزيد
ذكرى وأمة
ذكرى الرسول وأي ذكرى هذه
ذكراك يا خير الخلائق كلهم
يا قوم هل من سامع فأبثه
لم يجدِ نفعاً أن نقول محمد
أو أن نقول شذاه فاح كأنه
أو لؤلؤاً كانت نواجذ أحمد
إني أجلّ محمداً ومقامه
ما أنت إلا يا محمد قائدٌ
أنشأت من أدنى البرية أمةً
حررتهم من رقهم فجعلتهم
وكسرت طوق الذل من أعناقهم(1/152)
يا منقذ العرب الحريص عليهم
عادت قريظة والنضير وخيبر
حاشاك يا نعم الرسول من الونى
يا للمصيبة قد تركنا ديننا
لو أن دينك يا محمد نُفذت
ولما تخطفت الطغاة حقوقنا
صلى عليك الله يا علم الهدى
جج
فيها لمن هو أعوج تعديل
جاءت وشعبك ويلتاه ذليل
شكوايَ إن حديثها لطويل
كالبدر كان فللبدور أفول
مسكٌ وتبرٌ شعره المسدول
أو أن خدّ محمد لأسيل
عن أن يقول المادحون جميل
ومؤسس ومعلم ورسول
خلص الفرات لها ودان النيل
بين الأنام كأنهم قنديل
فإذا بهم عند اللقاء فحول
أضحت دماء المسلمين تسيل
عاد اليهود وتلك إسرائيل
لكن أصاب المسلمين خمول
حتى استبد بأمرنا المخبول
أحكامه لرست لنا فوق النجوم أصول
ولنا بذلك حجة ودليل
ما لاح صبح أو تغشّى ليل
العلم
كن عالماً في الناس أو متعلماً
من كل فنٍّ خذ ولا تجهل به
وإذا فهمت الفقه عشت مصدراً
وعليك بالإعراب فافهم سرّه
قيم الورى ما يحسنون وزينهم
فاعمل بما علمت فالعلماء إن
والعلم مهما صادف التقوى يكن
يا قارئ القرآن إن لم تتبع
وسبيل من لم يعلموا أن يحسنوا
قد يشفع العلم الشريف لأهله
هل يستوي العلماء والجهال في
ج
أو سامعاً فالعلم ثوب فخار
فالحر مطلعٌ على الأسرار
في العالمين معظم المقدار
فالسر في التقدير والإصغار
ملح الفنون ورقة الأشعار
لم يعملوا شجرٌ بلا أثمار
كالريح إذا مرت على الأزهار
ما جاء فيه فأين فضل القاري
ظناً بأهل العلم دون نفار
ويحل مبغضهم بدار بوار
فضل أم الظلماء كالأنوار
فضل الأب(1/153)
عن جابر بن عبد الله أن رجلاً جاء إلى رسول الله ( قال: يا رسول الله إن أبي يريد أخذ مالي، فقال له رسول الله ( : اذهب وائتني بأبيك، فلما جاء أبوه قال له رسول الله (: ما بال ابنك يشكوك؟ يقول تريد أن تأخذ ماله؟ فقال الرجل: يا رسول الله سله وهل أصرفه إلاّ على عماته وقراباته ونفسي وعيالي؟ وهنا نزل جبريل عليه السلام وقال: يا رسول الله: سل الرجل عن شيء قاله في نفسه ما سمعته أذناه، فقال النبي (: دعنا من هذا وأخبرني عن شيء قلته في نفسك ما سمعته أذناك، فقال الرجل: والله لا يزال الله يزيدنا بك يقيناً يا رسول الله، لقد قلت في نفسي شيئاً ما سمعته أذناي، قلت مخاطباً ابني:
غذوتك مولوداً وعلتكَ يافعاً
إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت
كأني انا المطروق دونك بالذي
تخاف الردى عيني عليك وإنها
فلما بلغت السن والغاية التي
جعلت جزائي غلظة وفظاظة
فليتك لو لم ترعَ حقّ أبوّتي
تُعلُّ بما أحني عليك وتنهل
لسقمك إلاّ ساهراً أتململ
طرقت به دوني فعيني تهمل
لتعلم أن الموت وقت مؤمّّل
إليها مدى ما كنت فيك أؤمل
كأنك أنت المنعم المتفضل
فعلت كما الجار المجاور يفعل
ج
قال جابر: فبكى رسول الله ( وقال للأب: كفى كفى والله ما سمع هذا الكلام ملك ولا حجر ولا شجر إلا وبكى، ثم أخذ رسول الله ( بتلابيب الابن وقال له:" اذهب أنت ومالك لأبيك".
أهلاً رمضان
بشرى يزف حبورها الرحمن
وعلى الورى قد حلّ ضيفاً زائراً
رمضان شهر الصوم فيه جوائز
وتقرب من ذاته سبحانه
[الصوم لي وأنا الذي أجزي به]
وبشارة من عنده بمفازة
[صوموا تصحوا] ذاك قول محمد
رمضان تسبيح الوجود وحمده
في ليلة القدر التي في ظلها
والأرض ضاءت والسماء تزينت
هي ليلة خير وأسمى حرمةً
رمضان ذكرى خير نصرٍ باهرٍ
نصر على الشرك البغيض وجيشه
نصر من الله العزيز بجنده
رمضان دوماً موعد للنصر بل
فيه النبي مضى يحارب داعياً
وبفتح مكة أشرقت شمس الهدى
وبذلك الفوز المبين قد انطوى(1/154)
رمضان مبعوث السماء إلى الورى
فصيامه فرض على ذي طاقةٍ
ولمن يسافر رخصةٌ قد أقّتتْ
ولكل ذي عذرٍ هنالك رخصةٌ
للصائمين غداً إلى مثواهم
ما صام من أرخى العنان لنفسه
فليحذر الإنسان فحش كلامه
من يحرم الأجر العظيم بغيِّه
حق التقاة على الإله مفازة
وندامة يوم الحساب وحسرة
النار مثوى المفطرين تعمداً
لكن بزجر النفس عن أهوائها
من يؤثر الدنيا على الأخرى غداً
وغداً يقول له الإله مغاضباً
ما كنت تبصر في الدنا واليوم من
تعساً بما كسبت يداك فأنت في
آمنت بالإسلام ديناً قيماً
كل يشدُّ أخاه مرصوصاً به
لا شيء يفصل بينهم لا الحد لا التمـ
أعظمْ بدينٍ قد سمت غاياته
هو دين رب العالمين شريعةٌ
رمضان أنت على الزمان وسامه
بالخير أقبل عائداً رمضان
فجزاء حسن ضيافةٍ غفران
للصائمين ورحمة وأمان
بمثوبةٍ يسمو بها الوجدان
هذا من الله الكريم بيان
للمحسنين وموثق وضمان
صلى عليه الواحد الديان
لله حيث تنزل الفرقان
طال السجود وهيمن الإيمان
والخلق في كلتيهما نشوان
من ألف شهر ينبئ القرآن
يزهو به الإسلام والأزمان
لما ببدرٍ جاهد الفرسان
كي يطمئن بذا الظهير جنان
بالفتح من رب الورى إيذان
للفه حتى أسلم العربان
وتحطمت في رجسها الأوثان
للشرك عهد وانتهى الطغيان
في الأرض حتى ينعم الإنسان
وعن المريض تجاوز الحنان
فإذا انقضت للصوم آن أوان
إتيانها يرضى به المنان
في الخلد باب اسمه الريان
فالنفس دوماً خلفها الشيطان
فأداة شر السيئات لسان
فهو الذي أودى به الحرمان
ولمن عصاه شقاوة وهوان
وخسارة ما بعدها خسران
عنها يحيد الصائم الظمآن
تمحى الذنوب وتغسل الأدران
في قبره عند السؤال دخان
والنار منقلب له ومكان
لم يبصروا آياتنا عميان
أصل الجحيم مكبل ومدان
فالناس تحت لوائه إخوان
متماسكين كأنهم بنيان
ـمييز في عرقٍ ولا الألوان
حيث الهدى والعدل والإحسان
ورسالةٌ دستورها القرآن
فلقد أعزَّ مقامك الرحمن
الهجرة
هجرتَ بطاحَ مكّة والشّعابا(1/155)
تَخِذْتَ من الدّجى يا بدرُ سِتراً
فكيف تركت خلفك كلّ شأن
وشرُّ مواطن الإنسان دارٌ
يناديهم فلا يلقى سميعاً
صبرتَ وكلُّ داعية يلاقي
تمرُّ بك الحوادثُ وهي كَلْمي
فما ألقيت من رهب سلاحا
تزيدك كلُّ حادثةٍ ثباتاً
أتعرف دعوةً لله قامت
سبيلُ الحق قد حُفّتْ بشوكٍ
نَبتْ بكَ أرضُ مكّة وهي أوفى
وضاقتْ في الحنيفة من إلهٍ
أما عُبِدتْ بها عُزّى قديماً
لقد وسَعت من الأديان بُطلاً
ومن عجبٍ تسيء إليك أرضٌ
منازلٌ كنت تنزلها طهوراً
فما عرفوا عليك بهن نقصاً
تقوم الليل في جنبات غارٍ
تزلزل بالدعاء ذُرى حِراء
لقد آذاك أهلٌ في حماهم
رمَوْا والله صانك من أذاهم
فلا ترجو السلامة من قريبٍ
فربَّ أباعدٍ كانوا رجاءً
أمينَ الله أهلُك قد أساؤوا
وقالوا الساحر الكذابُ حاشا
وكانوا من صفاتك في يقينٍ
ولكنْ دولةُ الأغراض تُعمي
لقد جحدوا ضياءك وهو سارٍ
كأن من الهدى فيه سراجٌ
ومن تكن المآربُ ضللته
أمين الله قومك قد أساؤوا
لقد عادوْك موجِدةً وكِبراً
مضوْا يستكثرون عليك فضلاً
هو الحسدُ الذي أكل البرايا
يكاد الحقدُ يمسخهم قروداً
ولما أنْ قدَرْت عفوت عنهم
دعَوْت لهم بمغفرةٍ وصَفْحٍ
ملكت رِقابهم عفْواً فلانوا
خرجْت إلى المدينة وهي دارٌ
فقد آواك أهلوها وكادوا
وجدت بها من الأنصار أهلاً
وربّ أباعد لك قد أجابوا
رجوْت بهم لدين الله نصْراً
وودّعت المنازل والرّحابا
ومن رَهَبُوت حِلْكته ثيابا
وخلّيت القرابة والصّحابا
يرى من أهلها فيها عذابا
ويدعوهم فلا يجد الجوابا
من الأهوال ما يوهي الصِّلابا
كأن مِزَاجها الصّخريَّ ذابا
ولا خلّيت من نصَبٍ حِرابا
وصبراً في المواقف وانكبابا
وكان قوامها شهْداً مُذابا
ولم تُملا على دَعةٍ رِضابا
وأرحب في سبيل الشّرك بابا
وما ضاقت بآلهة جَنابا
أما شبّ الضلال بها وشابا
ولم تسعِ الحنيفةَ والصّوابا
شبَبْتَ فما أسأْت بها شبابا
وتلقى الوحي فيها والكتابا
ولا أخذوا عليك بهن عابا
وتقطعه زكاةً واحتسابا(1/156)
فلولا اللهُ يمسكه لذابا
فكان أذاهمُ العجبَ العُجابا
فأخطأ سهمُ راميهم وخابا
ولا تأمن من الأهل انقلابا
ورب أقارب كانوا مُصابا
ولجّ لسانهم إثْماً وعابا
لربّك لم يقلْ يوماً كِذابا
فكيف يروْن دعوتك ارتيابا
وتُلقي فوقَ أعينها حجابا
يشقُّ البيدَ أو يطوي الهِضابا
ومن وضح اليقين بها شهابا
يجدْ في الحق زيفاً واضطرابا
وطار صوابُهم ومضى وغابا
وربّ مكابرٍ فقد الصّوابا
من الله الذي يعطي الرّغابا
وصيّرهم على إنسٍ ذئابا
ويخلُق فيهمُ ظفراً ونابا
ولم تفرض على الجاني عِقابا
فكان دعاؤك العالي مُجابا
ولم أرَ مثله ملك الرّقابا
شهِدتَ بها على الكفر انقلابا
لِينْسوك الرحيلَ والاِغترابا
وزدت بهم على البعد اقترابا
وما سمع القريبَ ولا أجابا
ولم أرَ راجياً في الله خابا
في مولد النبي الكريم
شعري بميلاد النبيّ تألّقا
في يوم مولده الرياض تفتّحت
وأريجها قد ضاع فينا نشره
في يوم مولده ترى نبع الهنا
فسما بنا "طه" لنغدو طائراً
سعدت حليمة من بني سعدٍ به
"فاصدع بما تُؤمر" صدعت ولم تخف
هذا أبو لهبٍ يذمّك سيدي
أيضاً ترى حمالة الحطب التي
جعلوك مجنوناً ، وقالوا ساحرٌ
يتغامزون إذا مررت بدربهم
ولكم صبرت لكي تبلّغ دعوةً
إني أرى بدراً بأرض جهادنا
يا يوم ميلاد الرسول أتيت والـ
في يوم ميلاد النبي محمدٍ
هو أسوةٌ فاتبع هداهُ ولا تحدْ
فمديحه بالشعر لا يغني إذا
يا رب صلّ على النبي وآله
في هذه الدنيا تتابع نهجه
ججج
لم لا ونورُ الله فينا أشرقا
أزهارها والغصن يزهو مورقا
وامتدّ في كل البقاع معبّقا
بالعذب من حوض النبي تدفّقا
يمضي إلى المجد الرفيع محلقا
بشرى لها قد أرضعت رمز النقا
لترى أبا جهل طغى وتزندقا
ويقول تبّاً بالفجور تحذلقا
في جيدها حبلٌ سيغدو محرقا
ورأوك غيماً شاعراً متشدّقا
والصدر بالغيظ الدفين تحنّقا
لم تبق في الآفاق جهلاً مطبقا
شهدتْ بصبرك سيدي والخندقا
إسلام في طوق الأعادي طُوّقا
عبقت بكل الأرض أنسامُ التقى(1/157)
عن دربه لتظل أنت الأسبقا
لم نجعل النهج القويم مُطبّقا
ما طار طير في السما أو رنّقا
وغداً بعَدْنٍ كم يطيب الملتقى
قلب الأم الكبير
أغرى امرؤ يوماً صبياً جاهلاً
قال ائتني بفؤاد أمك يا فتى
فمضى وأغرز خنجراً في صدرها
لكنه من فرط سرعته هوى
ناداه قلب الأم وهو مُعفّر
فكأن هذا الصوت رغم حنّوه
فارتد نحو القلب يغسله بما
ويقول يا قلب انتقم مني ولا
واستلّ خنجره ليطعن صدره
ناداه قلب الأم كُفَّ يداً ولا
بنقوده حتى ينال بها الوطرْ
ولك الجواهر والدراهم والدرر
والقلب أخرجه وعاد على الأثر
فتدحرج القلب المقطع إذ عثر
ولدي حبيبي هل أصابك من ضرر
غضب السماء على الغلام قد انهمر
فاضت به عيناه من سيل العبر
تغفر فإن جريمتي لا تغفر
طعناً ليبقى عِبرةً لمن اعتبر
تطعن فؤادي مرتين على الأثر
رحلة العمر
صرت في السبعين والنفسُ لماضيها مَشُوقةٌ
ولِبيتٍ قد ألفْناهُ شقيقاً وشقيقة
وأصيحابٍ كزغب الطّيرِ دُنياهم حديقة
فهل العمر الذي ولّى سرابٌ أم حقيقة؟
إنّ هذا العمر أحلامٌ ووهمٌ وخيال
كنتُ في العشرين ما بين كتابٍ ودفاترْ
ومشيت الدرب محفوفاً بألوان المخاطر
كنتُ أبني في الثّريّا كلّ يومٍ ألف خاطرْ
وأظنُّ الدرب مفروشاً وُروداً وأزاهرْ
فإذا مسلكه شوكٌ وهولٌ ونبالْ
عشتُ عشرينات عمري ومَرامي لا يخيبْ
كلُّ همّي أن أكون اللامعَ الفذَّ النَّجيبْ
وإذا قالوا غرامٌ ومحبٌّ وحبيبْ
وتغنَّوا بالهوى والحسن والغصنِ الرّطيبْ
قلت هذا ليس لي فيه نصيبٌ ومجالْ
مرّت الأيام والدنيا زحامٌ وهمومْ
لم يفزْ فيها جبانٌ أو كسولٌ أو نؤومْ
حفزَ الهمّةَ مني صوتُها الحاني الرّؤوم
طلع الفجر على من يَبْتَغي كَسْبَ العُلومْ
فانشِدِ المجدَ لترقى إنّهُ صَعْبُ المَنالْ
فجّرَ المَأمْولُ مِنّي كُلّ طاقاتِ الشّبابْ
ووَجدْتُ الكنْزَ مَخبوءاً بطيّاتِ الكِتابْ
فَمَشَيْت الدّربَ في جدّ لتَذليل الصّعابْ
شدّ ما كانَ لي السّبقُ على كُلّ الصّحابْ(1/158)
فعَرفتُ الحَزْمَ والصّبرَ سبيلاً للكمالْ
في الثلاثينات مِنْ عمري حَمَلْتُ البُندقيّة
وتَحمّلتُ كثيراً من عناء العَسْكرية
كُنْتُ فيها كالغيارى لا أرى إلاّ القَضيّة
يَوْمَ كانَ الشعبُ يسقى بالقنا والمَشْرفيّة
كُلّ مَيْدانِ فِداء مِنْ ميادين القتالْ
في الثلاثيناتِ مِنْ عُمري رَفَضْتُ المُستحيلا
وتَمرّدتُ على الظّالم يَغْزونا دَخيلا
سالكاً بالقهْر والعُنفِ لما يبغي سبيلا
لا يَرى في جوره الآثم ما يَشفي غليلا
عِندها أيْقَنْتُ أنّ النّصر في حَدِّ النّصالْ
هذه السِّنُّ من العُمْر هي السَِن الغَنيّة
بالطّموحات وبالإقدام والنّفسْ الأبيّة
فهي دُنيا من شُموخٍ وفِداء وحَميّة
واندفاع لَيْسَ تَثْنيهِ عن القصْد المَنِيّة
إنّها سِنُّ التّصدّي لأفانين المُحالْ
وإذا ما لاحَ للإنسانِ فَجْرُ الأربعينْ
وبَدَتْ لمتهُ بيضاء مِثْلَ الياسَمينْ
نَضجَ الفِكْرُ وشدّ القَلْبَ للحُبِّ الرَّصين
لَمْ يَعُدْ يُغْريهِ ما يُغري الشبابَ الطائشينْ
إنّما أغراهُ مكنونٌ لأسْرار الجَمالْ
هذهِ السّنُّ لها مِنْ كُلّ ذي عَقْلٍ تَحيّة
فهِي سِنُّ الوحْيَ والإصغاء للذاتِ العَليّة
فمِنَ الغَارِ تبدّى النّورُ يَهْدي البَشريّة
فَأَزالَ الشِّركَ وانجابَ ظَلامُ الجاهِليَّة
وهدى الله الورى للحقِّ من بعد الضّلالْ
برجُك العالي هو الأخلاقُ تزهو بالوفاء
لا صروح من جحودٍ ونفاقٍ ورياءْ
فافعل الخير ولا تبْغِ من الناس الجزاءْ
واتّقِ الله وساعدْ ما استطعْتَ الضّعفاء
نحنُ ماضون ولا ندري إلى أين المآلْ
نحنُ ماضون إلى موتٍ وبعثٍ ونشورْ
ورحيلٍ عن ديارٍ ومَتاعٍ وسرور
ندعُ الدنيا وما فيها ونأوي للقُبور
بعد أنْ عشنا حياةً لفّها ثوبُ الغرورْ
فانتبهْ يا أيها الإنسانُ فالعيش زوالْ
فهنيئاً لامرئٍ قد كان للخير مثالا
عاشه فعلاً ولا يرجُ ثواباً أو نوالا
وكفافُ العيش يُرضيه ولا يبغي سؤالا
هامُه لا ينحني إلاّ إلى الله تعالى(1/159)
إنه الإنسان حقّاً إنه خير مثالْ
أربعيناتٌ حياة المرء كدٌّ وكفاحْ
يُخفقُ الإنسان فيها أو يُواتيه النّجاح
فإذا جدَّ سعى المجد إليه والفَلاحْ
وإذا ما زرعَ الشّوكَ جنى منه الجراح
إنه الإخفاقُ أو تثبيت أقدام الرجال
وإذا الخمسون لاحت بين وعدٍ ووعيدْ
كانت الإشعارَ كي تستقبلَ اليومَ الجديدْ
عِللٌ ليس لها عن جسد المُضنى محيد
وعيونٌ خانها مرأى قريبٍ أو بعيد
إنها مرحلةُ الإنذار أن شُدَّ الرحالْ
وإذا الستون عاماً من حياة المرء ولّتْ
راح يستعرضُ أحلاماً كلمح البرق مرّتْ
هذه إشراقةُ الآتي مع الأبناء هلّتْ
غربت شمسٌ ولكن شموساً قد أطلّتْ
هكذا العمر يمضي من شبابٍ لاكتهالْ
هذه السنُّ هي الباب إلى دنيا التقاعدْ
أنت فيها تحصدُ الجَنْيَ ومَن غيرُك حاصد
إن بذرْتَ الشرّ فالشّرُّ لأنفاسك راصد
أو فعلت الخير لبّاكَ إلى كل المقاصدْ
فابتعد يا أيها الإنسان عن سوءِ الفَعالْ
صرتُ في السبعين من عمري فاهتزّ كياني
من صديقٍ كان ظلّي في حياتي فجفاني
ظنَّ أنّ الدهرَ بالفاقةِ والعجزِ رماني
فمضى يصطادُ مَن يحميه من غدر الزمانِ
ليس يدري أنه يبني قُصوراً من رمال
مرّت السبعون من عمري وما زلت أنادي
بجلاء الغاصب المحتلّ عن أرض بلادي
ففلسطين ولبنانُ جراحٌ في فؤادي
ورُبى الجولان تدعوني إلى خوض الجهاد
ليتني أشهد فجرَ النصر قبل الارتحالْ
ليتني لم أشهد الفرقةَ بين العربِ
لا ولم أشهدْ عدوّاً حاقداً يشمت بي
لا ولم تَدْنسْ بلادي من جيوش الأجنبي
ويْلتا من ذلِ قاعٍ بعد عزِّ الكوكب
نكسةٌ عابرةٌ والدهر حالٌ بعد حالْ
من وحي الحج
لبِّ النّداءَ وقلْ: لبيكَ ربّاهُ
كم كنتُ أرقبُه شوقاً ومغفرةً
ناداك فاسعدْ وطبْ نفساً بأمنيةٍ
وطف بمكة سبعاً حول كعبتها
وافزعْ إلى عرفاتٍ تلقَ ما صنعَتْ
يَميسُ في حُللِ الإحرام مُبتهلاً
لا الثلجُ ذاب ولا سُدّت به سبُلٌ
فقدرة الله ضقنا في تصورها
وانفر إلى الرَّجم واستوعبْ معانيَهُ(1/160)
إبليسُ من بين خلق الله قاطبةً
فالشّرُّ في الكون إبليسُ يُمثّله
وطفْ بمكة سبعاً للوداع وما
مثوى الرسول إذا ما زرته انهمرت
لُيقياه نفحةُ إيمانٍ حظيتَ بها
ما بين منبره والقبر روضته
وجاور المصطفى الفاروقُ أعدّلهم
فيا سعادة من عادى لصحبته
أما البقيع إذا ما زرتَ من نزلوا
فاقرأْ فداك أبي مجداً يُخلِّدُه
ذكراه لما تزلْ دنيا تُذكّرنا
فتالدٌ كم نباهي في أصالته
ذكرى البقيع بطولاتٌ مُخلّدةٌ
(هي الرسالة عين الله تكلؤُها
فبالرسالة عمّ الهديُ مُجتمعاً
وبالرسالة سار المصطفى قُدُماً
فالدين يحميك من شِركٍ ومن وثنٍ
والحجّ ركنٌ له فاحرص عليه ونلْ
فالله في عون من شدَّ الرحال لهُ
كم عاجزٍ طافَ محمولاً تُحيط به
أنّى اتجهت فأبصارٌ معلّقةٌ
إن الحجيج يرى آياتِ خالقه
وإنّ قلباً براهُ الوجدُ يحفظه
أعطاه نفحةَ إيمانٍ تكون له
فالشمسُ مُحرقةٌ والأرض لاهبةٌ
يا عائداً لرحاب الحجّ مُرّ بنا
عَوْدٌ حميدٌ إلى حجٍّ يكون لنا
يا نائحَ الوُرْقِ خلّ النوح ناحيةً
يحميك طيف رسول الله من سفَهٍ
حتى العناكبُ هبّتْ تفتديه وقد
آياتُ ربك مثل الشمس مشرقةٌ
هذي انطباعاتُ إنسان به ظمأٌ
لهم فاغفر لمن زلّت به قدمٌ
يا ربِّ من ذا الذي يعفو سواك إذا
يا ربِّ من ذا الذي يُرجى سواك إذا
فأنت أنت الذي من كلّ ضائقةٍ
يا ربّ لمن قد حجّ حجّته
شرَّفْتَني بنداءٍ لستُ أنساهُ
طُوبى لمن ربُّه للحجِّ ناداهُ
الله حققها لا المال والجاه
وأدِّ سعيَك سبعاً حين تسعاه
يدُ الإله كأن الثلج غطّاه
مُلبّياً ولهيب الحرّ يصلاه
ولا أُميط لثامٌ عن ثناياه
ذرعاً وفاقت كثيراً ما شهدناه
للرّجم معنىً قليلاً ما فهمناه
عصى إلهاً مُطاعاً قد عبدناه
كلّ الشرور رجمنا إذ رجمناه
أقسى الوداع ويمّم شطر مثواه
منك المدامع إيذاناً بلقياه
فاسجد وصلِّ وكبّر في مُصلاّه
طوبى له فجنان الخُلد سُكناه
وثاني اثنين كان الثالث الله
بعد الرحيل ليُمناه ويسراه
به فقد عُدّت للتاريخ تقراه(1/161)
دينٌ حنيفٌ وطبْ نفساً بذكراه
بما لنا من تُرابٍ قد ورثناه
وطارفٌ في حنايانا حفظناه
ذكراه كنزٌ ثمينٌ قد كنزناه
فكلما حاولوا تشويهها شاهوا)
عاش الضلال وليل الجهل يغشاه
وكان ما كان من وحيٍ تلقاه
ومن ضياعٍ إذا استوعبت فحواهُ
ما ناله مُستطيعٌ حين أدّاهُ
فلا تخفْ من عناءٍ كنت تخشاه
مخاطرٌُ والذي ناداه نجّاه
بمُستجيبٍ كريمٍ إنْ دعوناه
بقلبه لا بمنظارٍ صنعناه
ربٌّ قديرٌ إذا أعطاه أرضاه
عَوْناً على كلِّ ما عانى وقاساه
والجوُّ بركانُ جمرٍ فاغرٍ فاه
واتلُ الدعاء وزدْ مما تلوناه
زاداً ليومٍ كثيراً ما انتظرناه
واقصدْ حراءَ وعشّشْ في زواياه
كادتْ قريشُ به تؤذيك لولاه
مدّتْ على غاره ستراً فوشّاه
وهل يرى الشّمسَ من خانته عيناه؟
للحجِّ كرّمه المولى فأرواه
بالواجبات إذا ما العجزُ وافاه
ما أثقلتْ عبدكَ المخطيَّ خطاياه
ضاقت بعبدك في دنياه دنياه
تُنجي وتسمع من قد بثَّ شكواه
ففي قبولك دنياهُ وأخراه
من أمسِ الأمّة إلى غدها
عُودي لأمسكِ ينطلقْ منكِ الغدُ
يا أمة يبس الزمان، وعودها
تسري بأعماق السنين جذوره
ما ارتاع من عسف المحول ولا انثنى
ومذ اشتكت تلك الجنائن حوله
ألقى رواه الهدى بين غصونها
وسرت بها بعد الذيول غضارة القر
وتطلعت فإذا بسُنّةِ أحمدٍ
وإذا النبوةُ في الوجوه نضارةٌ
وإذا بصرعى الجاهلية في الوغى
وإذا بمكة وهي صمُّ جنادلٍ
عودي لدربكِ لا يصدّكِ أنه
وبأنّ أمسكِ من متاعب شوطه
فالمجد لا ترقى إليه أمةٌ
والفكر لم يقبسه يوماً خاطرٌ
عودي لأمسكِ، لا لأنكِ من رُؤى
ولأنّ روحكِ في السراة غُربة النّجـ
كلاّ فدربكِ في الحياة ودربهم
وسيصحوان غداً ليبلغ شأوه
عودي لأن غداً طرقت رتاجه
يُبنى الجديد على القديم وخير ما
ويغور في النسيان وهجُ حضارةٍ
سُننُ الحياة على الرمال قلاعها
يا أمة القرآن لم يذبل على
تندى به، خَضِلَ البيان، تلاوةٌ
وتشبُّ فيه بالفتوح سريةٌ
ويكاد حتى الصخر لو رنّت به
هدرتْ به لغةٌ كأنّ حروفها(1/162)
تتساءل الكلمات، وهي تُقلُّه:
للشعر ننسبه، ونعرف أنه
لكنه مهما استطال يظل في
يا أمة القرآن أمسك مخصبٌ
ما بالكِ استدبرته وتركته
يُلقيه في حلَك القلوب تبرّكٌ
ويكاد يستجدي محبّة فتية
يا أمة بهر الخلود لذاتها
وتأنّق التاريخ في خطواته
العدلُ أسٌّ..والعلوم فريضةٌ
والناس عند ولاتها وقضاتها
والأرض أرض الله، لا كسرى بها
ومحمدٌ عرشُ الممالك دونه
وعليٌّ ذو الشوبين يكسو( قميراً)
والرّاشدون، خلائفاً وأئمةً
حتى إذا فتحوا الفتوح وأسرجوا
وزهتْ بوهج ذيالة في (يثربٍ)
ألفيتنا يحدو طلائع ركبنا
وتشعّبت طرق المتيه فشر
يا أمة الإسلام وقفة حائرٍ
عودي لأمسكِ تركبي طرق الهدى
وأمام عينكِ حاضرٌ متقدّمٌ
فتخيّري ما تشتهين وجدّدي
وتعدّدي طرقاً فلا توهي السرى
فالرأي تصقله العقول تخالفت
والخوف ليس بأن نكون منائراً
الخوفُ أن يُبنى فريقٌ مسلمٌ
والخوف من لقيا عدوك شاهراً
والخوف أنّ (العنصرية) هوّمت
والخوف أن (الطائفية) تبتني
وتطير أسراباً تُرفرف حولها
يا قومُ حسبكم التفرق في المدى
ما شعَّ في دمكِ النبيُّ محمدٌ
ريّان من نبع النبوة أملدُ
وتشدّ أذرعه النجوم فيصعد
بيد العواصف فرعه المتأوّد
مما يعيث بها الخريف الأجرد
فأفاق حتى الهامد المتقصّد
آنِ تخضبُ روحها وتورّد
سُحبٌ يفيض بها النعيم ويرقُد
والعقل نورٌ والقلوب تودُّد
حممٌ، وفي ليل المتيهة فرقدُ
سودٍ لمؤتلق الكواكب مقصد
عسِرٌ ودرب الآخرين مُعبّد
هرمٌ، ويومك من صقالٍ أمردُ
لم يُبنَ فيها بالضحايا مصعدُ
ترف المجسّة من جليد أبردُ
ماضٍ طواها الحاضرُ المتجدّد
ـوى وعودكِ في قبيلك أحمد
لهما بأطراف المسيرة موعد
ماضِ ويفترشُ الهجيرة قعدُدُ
بابٌ بغير جلال أمسكِ موصد
يبقى من النشب الطريف المُتلد
بتراء، لم يرفع سناها محتد
تهوي، وفي القمم المنيفة تخلد
شفتيك هذا اللؤلؤ المتوقّد
وينشّه عطر الخشوع تهجّد
ويضجّ من بالمعارف مسجد
آياته يُصغى لها ويُردّد
من طيب ما حملت شذىً متجسّد(1/163)
من أين هذا الفارس المتفرّد؟
بوحُ الحياة وزهوها المتمرّد
حصر أمام شموخه يتنهّد
بوريف ما أعطى ويمك أربدُ
يختالُ بين بنيه وهو مصفّد
ويذيبه بين الشفاه تعوّد
لولا توهّج نوره لم يهتدوا
فيما أقام بها البُناةُ وشيّدوا
يجلو بها ما شرّعوه، وقعَدوا:
والحكم شورى..والسياسة سؤدد
شرعٌ سواء عيدهم والسيد
يَهب الحياة، ولا هرقل يُسعِد
قدراً، على خشن الحصيرة يرقُد
أغلاهما، وله الرخيص الأجرد
ما بين أقدام الرعيّة أعبد
الدنيا فضاء بها الزمان الأسود
غُرفٌ بأعلى (طاشقند) هُجّد
تيهٌ ويغمرنا ليلٌ سرمدُ
ق الأعمى وغرّب في دجاه الأرمد
تزِنين بها: ما يريح ويجهد
فالأرض سهلٌ والركائب حُشّدُ
فيه من الرشد الوفير الأجود
همماً تكاد من التغرّب تهمد
سعة المذاهب والمدى متوحّد
نظراً، وقد يصديه عقلٌ مفرد
شتى تضيء لنا الطريق وترشد
بحطام آخر مثله يتبدّد!!
لأخيك صارم حقده فتمجّد
زمناً..فأيقظها الدم المتورّد
أعشاشها بين العقول فنحمد
ونعبُّ فضل دمائنا ونغرّد
فالليل طاغٍ، والضياع معربدُ
في سبيل الحق
يا قوم هبوا فإن الوقت قد حانا
أو أن نقيم لما تحويه دعوتنا
ونكشف الستر عما بات مختبئاً
وأن نكفّ عن القوال أنفسنا
ولم يك القول يوماً ما بنافعنا
فلنترك القول لا نجعله عدتنا
ولينطلق كل فرد حسب طاقته
وليفهم الناس أن الدين ليس به
وليس في الدين ما يضني الورى أبداً
وأحقر الناس عند الله أغفلنا
أما كفانا صدوداً عن شريعتنا
شريعة الله هذي كيف ننكرها
أنبتغي بدلاً عنها بلا سبب
هذا لعمري ضلال لا يقول به
هنّا فهان علينا الذّلّ وا أسفاً
يا سيدي يا رسول الله معذرةً
وقد سلكت بنا درباً معبدةً
وقد طلبت إلينا أن نسير على
جج
لنمنح الناس شيئاً من مزايانا
من الفضائل بين الناس برهانا
عن أعين الناس أحقاباً وأزمانا
فالله عن كثرة الأقوال ينهانا
وربما جاء منا الضّرّ أحيانا
ولنجعل الفعل بعد اليوم ميزانا
يدعو لدعوتنا سرّاً وإعلانا
كما يظنون إرهاقاً وخسرانا(1/164)
بل ما يطهر أرواحاً وأبدانا
وأكرم الناس عند الله اتقانا
وهل يصدنّ عنها غير من خانا؟
وكان إنكارها كفراً وبهتانا
أنهدم الدين في تعمير دنيانا؟
إلا الذي يبتغي للشمس نكرانا
حتى خشينا الذي كان يخشانا
يا من أقمت لنا بالعزّ بنيانا
تهدي إلى خير دنيانا وأخرانا
تلك السبيل زرافات ووحدانا
جج
ليلة القرآن
شهد العدو بعزتي وتمنعي
هذي مشاعر كل قلب مؤمن
تحيي الموات من الشعور وتبعث
وتضيء آفاق الحياة لناشئٍ
وجد الحياة بهيجة فأحبها
ورنا إليها شاعرٌ فتحركت
سبحات فكر في الحياة وكنهها
في كلّ أمرٍ من أمور حياتنا
والناس ويح الناس لم يتفهموا
يا من تريد الخير دونك نبعه
واغسل به دون الحياة وخبثها
إن الرجوع إلى الصواب فضيلةٌ
تجد الحياة تفاوتاً وتجانساً
يا ليلة القرآن ردينا إلى
وخذي بأيدي الصاعدين بهمةٍ
هزي الشباب وجددي إيمانه
إسلامنا كالطّود يضرب في السما
كالبحر ليس له حدودٌ تنتهي
ما كان في الإسلام من رجعيةٍ
ما أنزل القرآن كي يتلى على
ما أنزل القرآن كيما تقتنى
هذي القشور فلا تقيموا حجّةً
ما أنزل القرآن إلا منهجاً
تستنبط الأحكام من آياته
عز الجدود به فكانت نهضةً
عرفوا الحقوق فلم يريدوا فوقها
ورأوا عليهم واجبات فاغتدوا
إن الحياة تجارب تسمو بها
راجع رصيدك من تقاك ولا تكن
تحيا بلا هدفٍ فتلك خسارةٌ
إن التقدم لا يكون بفكرةٍ
لا أرهب الدنيا وقرآني معي
وخواطر تنداح بين الأضلع
الهمم الرقود لدى النيام الهجّع
حلو البراءة بعد لم يتصنّع
بيضاء حب العاشق المتولع
شفتاه تهمس للنشيد بمطلع
ذكرى وتبصرة تكون لمن يعي
مسرى يلوح وآية للمبدع
صوراً تمرّ أمامهم بتسرّع
قم روّ قلبك من نمير المنبع
واسلك سبيل المبصر المتتبع
والطيش كل الطيش إن لم ترجع
كاللسع والعسل الشهي الممتع
هدي الرسول ووحدينا واجمعي
قعساء لم تجبن ولم تتزعزع
بالنصر رغم الباطل المتجمع
صعداً فما جدوى نقيق الضفدع
أنعافه ونعود للمستنقع
ليقوم ينعته بها غرّ دعي(1/165)
قبر تمدد فيه ميت لا يعي
منه التمائم في صدور الرضّع
منها على إسلامنا للمدّعي
للناس يهدف للنعيم الممرع
ويكون للتشريع أفضل مرجع
جبارة قامت على أسمى وعي
وتمسكوا بالحق دون توسّع
صبراً عليها بالعزيمة والسعي
روح الحليم إلى المحل الأرفع
في هذه الدنيا كمثل الرتع
معها الندامة في غدٍ لم تنفع
جعلت من الإنسان آلة مصنع
ج
إلهي!
إلهي يا كريمُ بغيرِ مَنْ
إلهي لست اعلمُ غيرَ أنّي
ذنوبي لا تُعدُّ ولا عيوبي
فرحمتُكَ العظيمةُ ليس تُحصى
فيا أملي ويا سُؤلي وقصدي
فأنت المُرتجى في كلِّ هولٍ
وذكرُكَ في فؤادي ليس يُمحى
ويا توّابُ يا ربِّ البرايا
كبيرُ الجرم حمّال الخطايا
وترحمُني وتمنحُني العطايا
وجودُكَ قد حوى كلَّ الزّوايا
أعذْني من ملازمة الدّنايا
وأنت المستعانُ على الرّزايا
وحبُّكَ في الضّمير وفي الحنايا
دمشق 1419هـ
يا رسول العالمين
ما لي بمدحِكَ يا محمّدُ مالي؟
وإذا أبوح بمدحكم يا سيدي
وأنا الفقير إلى رضاكَ وإنّني
لكنّني عبدٌ تسامى حبُّكم
فأبى عليَّ القلبُ أبقى صامتاً
وأبى يراعي أن يظلّ مُكبّلاً
فمشيتُ نحو رياضكم مُسترْوحاً
فأنستُ في مدحيكَ يا نور الهدى
ولقيتُ في ذكري لكم يا سيدي
ففداكَ ما ملكت يميني والحَشا
فانظرْ إليّ فإنني من دونكم
يا سيّد السادات فيك يطيب لي
فإذا أسير فأنت نور مسالكي
وإذا نطقت ففيك أنت مقالي
وإذا سلمْتُ ففي رضاكَ سلامتي
ولسوف أكتبُ فيكَ يا خيرَ الورى
فإذا رضيت فكل مَن فوق الثّرى
يا ربِّ صلِّ على النبيّ المُجتبى
وإذا أقول فأنت فوق مقالي
فانا المقلُّ بما يجودُ خيالي
لمقصّرٌ بالقول والأفعال
في خاطري وهواكمُ في بالي
عن ذكركمُ يا منبعَ الإجلالِ
ومُقيّداً بسلاسل الأغلالِ
عطر النبوّةِ من حماكَ العالي
نوراً يبدّد ظلمة الأهوال
فرَجاً يَمُجُّ ظُلامة الأحوال
وفداكَ روحي يا رسولُ ومالي
يا سيّدي طلَلٌ من الأطلالِ
مدحي ويحلو في هواك وصالي
أبداً وفي هذي الحياة مثالي(1/166)
وإذا سألتُ ففيكَ أنت سؤالي
وإذا أُجاهدُ كنتَ سيفَ نضالي
ولو استباحَ دفاتري عُذّالي
حجَرٌ وإنْ تقبَلْ فلست أُبالي
الهاشميِّ محمّدٍ والآلِ
ج
تأمل في رياض الأرض وانظر
عيون من لجين شاخصات
على قضب الزبرجد شاهدات
إلى آثار ما صنع المليك
على أهدابها ذهب سبيك
بأن الله ليس له شريك
* * *
سبحانك اللهم أنت الواحد
يا حي يا قيوم، أنت المرتجى
كل الوجود على وجودك شاهد
وإلى علاك عنى الجبين الساجد
ج
* * *
الحمد لله حمداً لا يعدّ لحاصر
لك الحمد ما أولاك بالحمد والثنا
إلهي تغمدنا برحمتك التي
أيحصى الحصى والنبت والرمل والقطرا
على نعم أتبعتها نعماً تترا
وسعت وأوسعت البرايا بها برا
* * *
يا من يجيب العبد قبل سؤاله
وإذا أتاه الطالبون لعفوه
ويجود للعاصين بالغفران
ستر القبيح وجاد بالإحسان
ج
* * *
يا فاطر الخلق البديع وكافلا رزق الجميع سحاب جودك هاطل
يا عالم السرّ الخفيِّ ومنجز الوعد الوفي قضاء حكمك عادل
عظمت صفاتك يا عظيم فجلّ أن يحصي الثناء عليك فيها قائل
ج
* * *
أنت الذي تهب الكثير
وتقول هل من تائب مستغفر
وتجير القلب الكسير وتغفر الزلات
أو سائل أقضي له الحاجات
* * *
أنت الذي أنس الفؤاد بذكره
يا منبتي دون العباد وبغيتي
تفنى الليالي والزمان بأسره
ج
أنت الذي ما إن سواه أريد
يا من له كل الأنام عبيد
وهواك غض في الفؤاد جديد
* * *
يا من يرانا في علاه ولا نراه
يا من يجود على العباد بفضله
هبنا رضاك فأنت أكرم واهب
ج
يا من يجير المستجير إذا دعاه
جل القدير وجل ما صنعت يداه
واغفر لعبدك يا عظيماً في رضاه
* * *
سبحان من له الملك والملوك عبيد
كل شيء سواه يبلى ويفنى
فالرجا فيك والرضا منك فضلاً
جج
وله العز والعزيز ذليل
وهو حي سبحانه لا يزول
ولك المنّ والعطاء الجزيل
* * *
شغفي بذكرك جنتي ونعيمي
يا من أخاطبه به في خاطري
وعلي بالتوحيد جاد تكرّماً
ج
وإذا نسيتك فهو عين جحيمي
وأزيد وهو محدثي ونديمي(1/167)
والعفو والغفران والتكريم
* * *
إلهي عبدك العاصي أتاكا
فإن تغفر فأنت لذاك أهل
ج
مقرّ بالذنب وقد عصاكا
وإن تطرد فمن يرحم سواكا؟
* * *
آيات فضلك قد تجلت في الظلام وفي الضياء
وفي انبثاق الفجر من قلب الحلك
أجريت كل الكائنات بحكمة في
ج
الأرض في البحر الخضمّ وفي الفلك
* * *
يا حبيب القلوب أنت الحبيب
يا طبيباً بطبه يتداوى
طلعت شمس من أحب بليل
إن شمس النهار تغرب ليلاً
أنت أنسي وأنت مني قريب
كل ذي سقم فنعم الطبيب
واستنارت فنا تلاها غروب
وشموس القلوب ليست تغيب
* * *
من للمسيء إذا أناب وعاد يطلب في رضاك
من للذي ضلّ الطريق وجاء ملتمساً هداك
رباه إنا في حماك فلا تكلنا إلى سواك
جج
* * *
مولاي أنت الواحد الفرد الذي
من كان يعلم أنك الحق الذي
ج
ملأ الوجود صفاته وهداه
بهر العقول فحسبه وكفاه
* * *
قف بالخضوع ونادِ ربك يا هو
واطلب بطاعته رضاه فلم يزل
إن الكريم يجيب من ناداه
بالجود يرضي طالبين رضاه
* * *
سبحانك اللهم خير معلم
أرسلت بالتوراة موسى مبشراً
فجرت ينبوع البيان محمد
علمت بالقلم القرون الأولى
وابن التبول فعلم الإنجيلا
فروى الحديث وناول التنزيلا
* * *
لما علمت بأن قلبي فارغ
وملأت كلي منك حتى لم أدع
ممن سواك ملأته بهداكا
مني مكاناً خالياً لسواكا
* * *
تذكر جميلي مذ خلقتك نطفة
وسلم لي الأمر واعلم بأنني
ولا تنسَ تصويري ولطفي في الحشا
أدبر أحكامي وأفعل ما أشا
* * *
ومما زادني شرفاً وتيها
دخولي تحت قولك يا عبادي
وكدت بأخمصي أطأ الثريا
وإن صيرت أحمد لي نبيا
* * *
يا من عليه مدى الأيام معتمدي
أنت المجيب لمن يدعوك يا أملي
يا من أجاب دعائي عند مسألتي
إليك وجهت وجهي لا إلى أحد
يا عدتي يا شفا دائي ويا سندي
ومن عليه وإن أخطأت معتمدي
* * *
يا من يجيب دعا المضطر في الظلم
إن كان أهل التقى فازوا بما عملوا
يا كاشف الضر والبلوى مع السقم
فمن يجود على العاصين بالكرم
* * *
أبيات شعرية في النبوات(1/168)
أنت الذي ناداك ربك مرحبا
أنت الذي من نورك البدر اكتسى
أنت الذي لما رفعت إلى السما
صلى عليك الله يا علم الهدى
ولقد دعاك لقربه وحباكا
والشمس مشرقة بنور بهاكا
بك سمت وتزينت لسراكا
ما حنّ مشتاق إلى مثواكا
* * *
صلوا على الهادي البشير محمد
فالله قد أثنى عليه مصرحا
تحظوا من الرحمن بالغفران
في محكم الآيات والقرآن
* * *
يا داعياً للواحد الدّيّان
يا رافعاً صوت العدالة عالياً
صلى عليك الله يا علم الهدى
ج
يا هازماً للبغي والطغيان
ومؤذناً في الناس بالقرآن
ما ناح قمري على الأغصان
* * *
فأنت رمز الهدى في الكون قاطبة
جعلت مالي وروحي في هواك فهل
وأنت للحق والإخلاص عنوان
لي من نداك لدى الرحمن غفران
جج
* * *
ميلاد أحمد للحياة حياة
الغيث والنور المبين ونفحة
لما أتى هذا الوجود أحاله
يا أيها المختار هل من ومضة
ج
فالأرض ظمأى والحبيب فرات
للعالمين ومنحة وعظات
روضاً فألسنة الوجود شدات
تُجلى بوهج بريقها الظّلمات
جج
* * *
أيام مولدك الكريم مضيئة
يوم أتى بك للوجود فإنه
في كل ماض في الزمان وآت
تاج الزمان وغرة السنوات
جج
* * *
قلبي غلا فيه ملام الحسد
شمس أضاء على العوالم نورها
بدر جلا ظلم الدجى بضيائه
بشر ملائكة السما سجدت له
لما تغلغل فيه حب محمد
فتأثرت منها عيون الرمد
فمحا بطلعته ضياء الفرقد
لولا محيا نوره لم تسجد
* * *
ترنم يا شجي الطير واسجع
نبي ذكره في كل أرض
نبي ألبس الدنيا جمالاً
يراقب يوم مولده زمان
بذكر محمد خير الأنام
شفاء للقلوب وللسقام
وزينا بنور واحتشام
مراقبة المحب المستهام
* * *
صلّوا على النور البهي محمد
فهو الدليل إذا اهتديت بنوره
إن الصلاة عليه تنجي من لظى
وهو الرسول فذاك مصباح الهدى
جج
* * *
قد زاد شوقي للحبيب محمد
روحي فداه ولست مالك غيرها
ج
فمتى إلى ذاك الحبيب وصول
والروح في حب الحبيب قليل
ج
* * *
عليك صلى الله كل عشيةٍ
تهدى لخير الخلق خير هدية
وضحى وحيّاه بكل تحية(1/169)
وتعزه وتجله وتكرم
عليك صلى الله غالب أمره
يا أيها المتلذذون بذكره
تعداد موجود الوجود بأسره
من كان منكم ظاعناً ومقيما
صلوا عليه وسلموا تسليما
* * *
صلى عليك إلهي يا محمد ما
تحية كشعاع الشمس طيّبة
جج
تنوعت نغمات الطائر الغرد
تستغرق الأمد الجاري إلى الأبد
* * *
أهيم بمكة الفيحاء حبّاً
وأذكرها وتطربني المعاني
لأن رسول الله أهل الله مكي
فأضحك حين اذكرها وأبكي
ج
* * *
يا خير من ترجى شفاعته
فاشفع فأنت شفيع الخلق قاطبة
فأنت أعظم خلق الله مكرمة
إذا شفعت فذنبي كله هانا
ولم يشفع سواك الله إنسانا
وأنت أطهرهم حسّاً ووجدانا
جج
* * *
حب النبي إذا سرى في مهجةٍ
حب النبي وهل تحيط بوصفه
ج
ألفيت بستان الهدى مأواها
روح تهز الكون في نجواها
* * *
أنا في مديحك يا محمد مغرمٌ
ذكراك في شفتي فوح قصيدة
في أضلعي ظمأ الرمال ولا أرى
أمتاح من هذا الجلال السرمدي
نفح العبير بها شفاه المنشد
من غير حوضك يا محمد موردي
ج
* * *
يا خير مخلوق وأكرم سيّدٍ
أنوارك العظمى إذا ما أشرقت
جج
وشفيع قوم أذنبوا وأساؤوا
يوم القيامة فالورى سعداء
* * *
ومالي شفيع غير جاه محمد
عليه صلاة الله ما لاح بارقٌ
ومن جاهه في الحشر ليس له ردُّ
وما هطلت سحبٌ وما قهقه الرّعد
* * *
أغرّ عليه للنبوة خاتمٌ
وضمّ الإله اسم النبي إلى اسمه
وشق له من اسمه ليجله
من الله ميمون يلوح ويشهد
إذا قال في الخمس المؤذّن أشهد
فذو العرش محمود وهذا أحمد
* * *
أرسلت داعية إلى الرحمن
أخرجت قومك من ضلالات الهوى
جججج
ودعوت فاهتزّت لك الثّقلان
وهديتنا للواحد الدّيّان
* * *
بلغ العلا بكماله
حسنت جميع خصاله
كشف الدجا بجماله
فبحقه صلوا عليه وآله
* * *
ولنا قلوبٌ عند قبر محمدٍ
أرواحنا نوت الإقامة عنده
طافت بنا حول الضريح الأمجد
تمسي وتصبح تحت ظلّ المرقد
ج
* * *
يا سيد الأكوان يا علم الهدى
صلى عليك الله جلّ جلاله
يا من به تشرّف الأزمان
ما اهتزّ في روض الحمى الأغصان
* * *(1/170)
لك في القلوب محبة ووفاء
يا سيد الأكوان إن لقاءكم
والمال منا والنفوس فداء
يوم القيامة فرحة وهناء
ج
* * *
يا رب صلِّ على النبي محمدٍ
فلقد عرفتك منعماً متفضّلاً
ج
واجعله شافعاً بفضلك في غد
ولقد دعوتك فاستجب لي سيّدي
* * *
خاتمة: أهمية هذا البحث
(
الحمد لله وكفى، وسلام على نبيه المصطفى، وآله الشرفاء وأصحابه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلّم تسليماً كثيراً، وبعد:
إن الخطابة الدينية من شعائر الإسلام ودلائل امتلائه بالحياة والحركة وسعيه إلى الامتداد، فتأثيرها الروحي عجيب فريد، خصوصاً إذا كان الخطيب صاحب عقيدة تزحم أقطار نفسه، وتضطرم بها مشاعره فينسكب الإيمان من نفسه مع ألفاظه، ويشق طريقه إلى القلوب شقاً، لذا فقد كان رسول الله ( مثلاً أعلى في صدق اللهجة وعمق التأثير، ففي كل أسبوع يحتشد المسلمون في المسجد الجامع ليستمعوا إلى الخطيب وهو يدعو إلى الله ويذكر به ويعلم دينه، وفي كل عيد يجتمع الرجال والنساء في ميادين رحبة ليستمعوا التوجيه المناسب بعد صلاة العيد من الخطيب.
وفي كل موسم جامع للحجيج تلتقي وفود الأمة الإسلامية المترامية الأطراف حول عرفة لتستمع إلى الخطيب وهو يتناول شؤون الأمة، ويشرح قضاياها ومبادئها، فالخطابة في الإسلام مظهر الحياة المتحركة فيه، الحياة التي تجعل هذا الدين يزحف من قلب إلى قلب، ويثب من فكر إلى فكر، وينتقل مع الزمن من جيل إلى جيل، ومع المكان من قطر إلى قطر، وذاك هو السر في أن نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام كان يخطب في كل أسبوع، وكل عيد، ويخطب أو ينيب عنه أميراً يخطب في وفود الحجيج عند جبل الرحمة.(1/171)
وإن ينابيع الخطابة الصحيحة لتفجر من معاني القرآن وأغراضه، والسنة المطهرة ومراميها لتكون وقود نهضة وضياء أمة، فما يضعف صوت السماء وما ينقطع مع هدير الخطيب الذي يتحدث باسم الله بين عباد الله وصوت السماء هنا ليس دعوة إلى عزلة أو أمراً بانسحاب...كلا، إنه صوغ الحياة نفسها، وفق إرادة الله وقيادة الأحياء إلى الحق الذي تحاول الشياطين اختطافهم دونه، ولذلك فلا تسمى خطابة إسلامية تلك الكلمات الميتة التي يسمعها الناس أحياناً في بعض المساجد ثم يخرجون وهم لا يدرون ماذا قال خطيبهم؛ لأنه لم يصلهم بروح القرآن، ولا أنعش قلوبهم بمعانيه، ولا علق أبصارهم بأغراضه، فكيف يتعرض لخطابة الناس باسم الدين رجل ضعيف البصر بمعاني القرآن الكريم، أو بصير ببعضها ولكنه محروم من نعمة الأدب وحلاوة الأداء.
فالعلماء والدعاة إلى الله عز وجل من أئمة وخطباء هم ورثة الأنبياء الكرام في العلم والحكمة، وهم رعاة الأمة في تصحيح عقائدها، وصيانة دينها يسعون جاهدين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودلالة هذه الأمة إلى طريق الهدى والرشد بالجد والجهد، ويسيرون بها نحو السعادة بما يعلمونها من أمور دينها، وبما يرشدونها إليه من التحلي بالفضائل، والتخلي عن الرذائل.
والخطباء في هذه الأمة إذا وقفوا على المنابر لحظتهم العيون، وإذا قالوا صغت لهم الآذان ووعت القلوب، فهم مطمح الأنظار وموضع الثقة، والحجة البالغة، والبرهان القاطع، والنور الساطع للناس أجمعين بما أوتوه من قوة البيان وفصاحة اللسان، وبذلك يخرجون الأمة من ظلمات الجهل إلى نور العلم، وينقذونها من ذل المعصية إلى عز الطاعة، فما عليهم إذا وهم أهل الغيرة على الدين، وذوو الشجاعة في إعلاء كلمة الله سبحانه إلا أن يعدوا العدة ويحكموا الخبرة التامة بأساليب الإقناع ووسائل التأثير مع صدق النية والإخلاص في العمل والتحلي بالرفق والتجمل باللين وسعة الصدر.(1/172)
فهذا هو سبيل الحكمة لا يضل من سلكه ولا يزل من تمسك به وإنه نعم السبيل الذي يوصل إلى الغاية المقصودة والصراط القويم الذي يرشد إلى الضالة المنشودة, قال تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) فيا دعاة الإسلام في مشارف الأرض ومغاربها ويا فرسان المنابر أدوا حق الله عليكم وانقلوا الإسلام إلى الأجيال اللاحقة نقيا مصفى كما انتقل إليكم عن الأجيال السابقة, وخذوا حذركم من الدخلاء والأدعياء الذين لا يحسنون تهذيب الأخلاق وتثقيف العقول وهداية الناس واعلموا أن أمتنا تتعرض لعبث هائل في قوامها الروحي والفكري والأخلاقي وأن أسراباً من الدخلاء والأدعياء شرعوا في اجتياح الأخضر واليابس في ميادين العقائد والأفكار والأخلاق ليجعلوا الإسلام أثر بعد عين إن استطاعوا, فأعيدوا بكل ما أوتيتم من قوة وما نلتم من علم وما ادخرتم من بيان وفصاحة وحسن تعبير وما أكرمكم الله من حكمة وموعظة حسنة للعالم كله, الحياة الصحيحة التي مصدرها إسلامكم والعالم كله بحاجة إلى إسلامكم ولن تنقطع حاجته إلى إسلامكم إلا يوم تستغني العيون عن الضياء والصدور عن الهواء فاحملوا الأمانة بصدق وبلغوها برفق واعملوا بها في عز وحافظوا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
10 رمضان 1425هـ الموافق 34/10/2004م
صدر للمؤلف:
1-البيان الزاهر إلى فرسان المنابر.
2-الكواكب الدري في سيرة الحصري.
3-الدرر المنثورات في إرشاد الفتيات وإسعاد الزوجات.
4- إكرام الموتى
1 -الخطابة لأرسطو1/168-170.
2 -الخطابة1/171.
3 -يريد ما يشق عليّ كلام مثل خطبة النكاح.
4 -عبرات الشرق على الزعيم سعد زغلول 268.
5 -المراد جماعة دار العلوم.
6 - بلد الفقيد بأقرب من كفر الزيات.
7 -عيرات الشرق على الزعيم سعد زغلول 272.
8 -الثعل: أطباء الناقة والبقرة والشاة.
9 -البيان والتبيين 1/84.
10 - جمهرة خطب العرب
11 -علم الخطابة -لويس شيخو.
12 -تهذيب الكامل 1/29.(1/173)
13 -جمهرة خطب العرب لأحمد زكي صفوت، وعلم الخطابة للأب لويس شيخو اليسوعي.
14 -صحيفة دار العلوم-السنة الأولى العدد الثالث-ترجمة حامد عبد القادر.
15 -تاريخ البلاغة والنقد للدكتور إبراهيم سلامة.
16 -سيرة ابن هشام 4/339.
17 -المرجع نفسه 1/24 زوره أصلحه وهبأ.
18 -البيان والتبيين 1/204 كلام قضيب: مرتجل. خشيب: ردئ لم يعد.
19 -البيان والتبيين 1/206.
20 -البيان والتبيين 2/9.
21 -المرجع نفسه 2/14.
22 -العمدة لابن الرشيق 1/129.
23 -البيان والتبيين 3/28.
24 -ندر تعليم الخطابة ، فقد ذكر الجاحظ أن بشر بن المعتمر وجد إبراهيم بن جبلة الكوفي وهو يعلم فتيانهم الخطابة (البيان والتبيين 1/135).
25 -المنسوب إلى سلمة بن جعفر وهو في ال كمتاب البرهان في وجوه البيان لأبي الحسين إسحاق بن إبراهيم الكاتب.
26 -كان عامر مسترضعاً في بني ليث، فقتلته هُذيل.
27 -القود: القصاص، أي من قتل عمداً قتل.
28 -في ابن هشام" رجب مضر" وإنما قال ( ذلك لأن ربيعة كانت تحرم رمضان فسمته رجباً، فبين ( أنه رجب مضر لا رجب ربيعة، وانه الذي بين جمادى وشعبان.
29 -عوان جمع عانية وهي الأسيرة، وفي بعض الأصول(عوار).
30 -في سيرة ابن هشام 4/310" أوسط العرب نسباً وداراً" يريد أشرفهم ( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً) وداراً أي بلداً، يعني مكة، وهي أشرف بقاع الله.
??
??
??
??
الشيخ عبد الرحمن الأحمد
البيان الزاهر إلى فرسان المنابر
20
19(1/174)