مدخل
...
علم الفيزياء عند العرب:
توطئة:
إن للعلوم التعليمية والطبيعية التي عني بها العرب في العصر الإسلامي، إثر حركة الترجمة أصولًا وفروعًا ومعاني وأوضاعًا ومناحي للنظر فيها، منها ما يوافق ومنها ما يخالف قليلًا أو كثيرًا نظائره في الوقت الحاضر.
وعلم الفيزيقا ترسب من العلم اليوناني، سواء أكان من أرسطو أو من علماء مدرسة الإسكندرية في العصر البطلمي، وينابيعه مصرية قديمة.
وتراه متناثرًا في مؤلفات علماء الإسلام من فلاسفة، كابن سينا في كتاب "فن السماع الطبيعي"، أو في شروحه الواسعة النطاق في كتابه "الشفاء"، وكذلك تجده في شذرات متفرقة في مؤلفات علماء الكلام من أشاعرة، ومعتزلة في سلسلة الآراء الممتدة من أبي الهذيل، ومن معمر وهشام الفوطي إلى الأشاعرة مارة بمعتزلة بغداد، أو عند الشهرستاني في "الملل والنحل" و"نهاية الإقدام في علم الكلام"، أو عند فخر الدين الرازي في المباحث المشرقية".
إنه لصق بالميتافيزيقا والفلسفة!
ونشأت مدارس كثيرة في دراسة الطبيعيات، وهي مدرسة المشائين التي تتبع أرسطو في تناولها لعلم الطبيعة1 كمنهج يجب اتباعه، ومن شيعة هذا
__________
1 علم الطبيعة لأرسطوطاليس ترجمة من اليونانية إلى الفرنسية "بارتملي سانتزلير"، ونقله إلى العربية أحمد لطفي السيد.(1/99)
المذهب الشيخ الرئيس ابن سينا، ومراجعة في هذا الصدد "كتاب السماع الطبيعي" و"الكون والفساد"، وكتب سمع الكيان لأرسطو، والمقالة الأولى من كتاب "ماطافوسيقا" في ما بعد الطبيعيات.
ومن شيعته أيضًا "نصير الدين الطوسي" في شروحه للغلافيات1 التي ترتبط بالفيزيقا كعلم، ومدرسة ثانية من العلمانيين أمثال زكريا الرازي الطبيب وأبي الريحان البيروني، ثم أبي البركات هبة الله2 البغدادي أوحد الزمان الذي كان يهوديًا، ثم أسلم وكان يحترف الطب أيضًا، ومدرسة ثالثة اهتمت بالفيزيقا والتصوف، وعلى رأسها صدر الدين3 الشيرازي، المعرف باسم "موللا صادرا"، وهو مؤسس مذهب "الحكمة المتعالية"، الذي ترسب من شروح وتوجيهات المذهب الصوفي لابن عربي، ومخالفًا في الوقت نفسه لرأي أرسطو في الحركة.
__________
1 شرح الإشارات والتنبيهات.
2 كتاب المعتبر في الطبيعيات.
3 مؤلف "الحركات الجوهرية".(1/100)
تصنيف العلوم عند العرب:
يقتضينا الأمر، قبل المضي قدمًا في تناول العلم الفيزيقي عند العرب، أن نتريث برهة لنتعرف على ملامح التركيب البنائي لأعرافهم وتقاليدهم، فالعربي يهتم بالكلي ثم يشتق منه ما شاء له من الاشتقاق والتفريعات، على غرار ما يعايشه في حاضره أو كان يعايشه في بداوته، فالوحدة الاجتماعية عنده هي العشيرة والقبيلة، وهذه تتألف بدورها من وحدات اجتماعية أصغر، هي الفخذ والبطن والعائلة، ولكل رابطتها وكبيرها، ومن رؤساء هذه الوحدات يتكون مجلس القبيلة أو العشيرة، نظم هرمي قد استراحو له.
ومنذ عصر الترجمة، وعلوم الأوائل الدخيلة تتدفق في تنوعات فكرية(1/100)
ومذهبية لم يكن لهم عهد بأمثالها، فأحدثت ارتطامًا مع الثقافة العربية الموجودة فعلًا آنذاك، ولم تكن الحضارة العربية قد تولدت بعد، ذلك؛ لأن الحضارة ثقافة قد بلغت مرحلة الشيخوخة، وثقافة العصر العباسي كانت في أوج شبابها.
لقد كان "الكندي" فيلسوف العرب1 أول من وضع لمفكري الإسلام التخطيط العام لتصنيف العلوم، وقسمه قسمين أساسيين: علوم فلسفية، وأخرى دينية.
فالفلسفية تشمل -عنده- الرياضيات والمنطق، والطبيعيات والميتافيزيقا والأخلاق والسياسة، والدينية تبحث في أصول الدين والعقائد والتوحيد، والرد على المبتدعة والمخالفين.
ويذكر ابن نباتة من كلام الكندي في الفلسفة أن علومها ثلاثة:
العلم الطبيعي والعلم الرياضي أي التعاليم، وهو أوسطها في الطبع، وعلم الربوبية، وهو أعلاها في الطبع.
أما "الفارابي"، فإنه يعد المفكر الإسلامي الأول الذي عني بدراسة تصنيفات العلوم، إذ أفرد لها كتاب "إحصاء العلوم"، وهو يعد من أهم كتبه على الإطلاق2، والتقسيم فيه هرمي:
الأول علوم اللسان وفروعه، وهي اللغة والنحو والصرف والشعر والقراءة.
والثاني المنطق، وهو ثمانية فنون تبدأ من المقولات، وتنتهي بالشعر.
والثالث الرياضيات أو التعاليم، وهي سبعة علوم: العدد والهندسة
__________
1 الكندي، فيلسوف العرب للدكتور أحمد فؤاد الأهواني "سلسلة أعلام العرب".
2 د. عثمان أمين [النشرة النقدية لكتاب إحصاء العلوم] .(1/101)
والمناظر وعلم النجوم التعليمي، وعلم الموسيقى وعلم الأثقال وعلم الحيل.
والرابع العلم الطبيعي والإلهي، وهو يتبع فيها طبيعيات أرسطو، وما بعد الطبيعيات.
والخامس العلم المدني، وعلم الفقه وعلم الكلام.
أما ابن خلدون في مقدمته، فهو يصنفها إلى علوم عقلية، وهذه تنقسم بدورها إلى المنطق والعلم الطبيعي والعلم الإلهي والتعاليم، والأخيرة تتفرع إلى الهندسة ومنها المناظر.
فكأن علم المناظر، وهو علم البصريات، كما ندرسه اليوم في كليات العلوم، يدخل تحت مظلة الهندسة في تقسيمات ابن خلدون، ويدخل تحت مظلة الرياضيات، والتعاليم مع زملاء له هي الموسيقى كتفريع علم الصوت، وعلم الأثقال أي الموازين والأوزان، وعلم الحيل أي الميكانيكا.
والعلم العقلي يعرفونه بأنه علم بأحوال أعيان الموجودات على ما هي عليه في نفس الأمر، وهذا المدلول يقربه من المدلول الحاضر للعلم أي "سيانس" بمعناه المشهور عند المحدثين.
وإذا نظرنا إلى العلم من وجهة نظر الفلاسفة الإسلاميين، كان العلم الطبيعي يمثل الناحية الوصفية من العلم أي الكيفية، وهو أول مرحلة يجتازها العلم في التعرف بالأشياء وأعراضها، وكان التعليمي في جملته يمثل الناحية الكمية، وهي المرحلة التي يكون بها كمال الأولى.
وهناك مرحلة ثالثة وصل إليها العلم العربي في منهجه العلمي، وهي مرحلة الاستقراء، وقد ظهر ذلك ضمنًا في أبحاثهم، كما أثبتت الدراسات1 مؤخرًا عند ابن الهيثم وغيره.
__________
1 منهج البحث العلمي عند العرب في مجال العلوم الطبيعية والكونية: بحث للدكتور جلال موسى.(1/102)
ونرى في قول الحسن بن الحسن1 بن الهيثم في الضوء ما يلي:
"الكلام في مائية [ماهية] الضوء من العلوم الطبيعية، والكلام في كيفية إشراق الضوء محتاج إلى العلوم التعليمية من أجل الخطوط التي تمتد عليها الأضواء، وكذلك الكلام في مائية الشعاع، وهو من العلوم الطبيعية.
والكلام في شكله وهيئته، وهو من العلوم التعليمية، وكذلك الأجسام المشفة التي تنفذ الأضواء فيها، والكلام في مائية شفيفها، وهو من العلوم الطبيعية، والكلام في كيفية امتداد الضوء فيها، وهو من العلوم التعليمية.
والكلام في الضوء وفي الشعاع وفي الشفيف، يجب أن يكون مركبًا من العلوم الطبيعية والعلوم التعليمية.
فظاهرة الضوء ودراسة انتشاره وانعكاسه أو انعطافه أو حيوده؛ كل ذلك يدخل ضمن إطار العلوم الطبيعية التي تمثل الجانب الوصفي للعلم، أما الزوايا التي يصنعها الشعاع الساقط، أو الشاعا المنكسر، أو البعد البؤري للمرايا المحرقة أو العدسات، كل هذا يحتاج إلى الهندسة والرياضيات، وهذا من شأن العلوم التعليمية.
وكتاب أقليدس2 في المناظر الذي وصل إلينا عن طريق مخطوط نصير الدين الطوسي، وعنوانه تحرير المناظر لأقليدس، قال:
"العين تحدث باستمداد من الأجرام النيرة في الجسم الشفاف المتوسط بينها، وبين المبصرات كالهواء وما شاكله، شعاعًا، كما تحدثه الأجرام النيرة وحدها بعينه، ويكون ذلك الشعاع كأنه ينبعث من العين وخارج منها، ثم إنه يصير
__________
1 مجموع الرسائل دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد الدكن عام 1357هـ.
2 سبق تحقيقه ونشره بمعرفة المؤلف في مجلة معهد المخطوطات عام 1962.(1/103)
آلة لها في الأبصار، فتختلف أحوال المناظر لاختلاف أوضاعه، فليصدق بذلك، وليتوهم ذلك الشعاع متصلًا بالعين على خطوط مستقيمة، ويحدث سموتًا مستقيمًا لا نهاية لكثرتها، والشكل الشعاعي مخروط رأسه يلي العين، وقاعدته على نهاية المبصرات، فالأشياء التي يقع عليها الشعاع تبصر، والتي لا يقع عليها لا تبصر، وما أبصر من زاوية عظيمة ظهر عظيمًا وبالعكس، وما أبصر من زوايا كثيرة ظهر كثيرًا، وما أبصر من زوايا متساوية ظهر متساويًا".
هذه فروض متوهمة، إذ أنه يفترض خروج الشعاع الضوئي من العين على السموت المستقيمة لم يتحقق منها إقليدس، وهو من الإسكندانيين أو الطوسي، وهو عالم المراغة والمتولي مرصدها الكبير.
ثم يتابع المخطوط:
"أقول: ومما ينبغي أن يسلم، قولنا:
إذا اختلف جهات الشعاعات علوًا وسفلًا ويمينًا ويسارًا، رؤيت المبصرات مختلفة الجهات بحسب ذلك، وما يقع عليه الشعاع أكثر فهو أصدق رؤية مما يقع عليه الشعاع أقل، وما يقع عليه سهم المخروط الشعاعي، فهو أصدق رؤية مما حوله، لكون الشعاع الواقع عليه أكثر وأشد تراكمًا، وما هو أقرب منه أصدق مما هو أبعد، ولذلك يقلب الناظر سهم المخروط نحو ما يقصد رؤيته أو يريد أن يتحققه، إذا انعطف الشعاع من جسم صقيل كالمرآة، حدثت هناك زاويتان متساويتان تسمى إحداهما زاوية الشعاع، والأخرى زاوية الانعطاف".
كل هذا لا يخرج عن كونه شروحًا وصفية، وتسجيلًا لما هو ظاهر للعيان، الأمر الذي يعتبر أول خطوات الموضوعية والنظرة العلمية، وهذا من المنحى الطبيعي.
ثم يتابع مرة أخرى براهينه في أشكال هندسية تبلغ ستة وستين شكلًا(1/104)
ليحدث التيقن العلمي من كل ظاهرة يتقدم بها، ولنضرب مثلًا:
أقرب المقادير المتساوية المختلفة الأبعاد أصدقها رؤية.
فالمقادير هنا ثابتة والأبعاد متغيرة، فأقرب المقادير هو ما يمتاز بأوضح الرؤية.
مثال آخر:
إذا دنا البصر من الكرة يصير ما يرى منها أقل مما كان أولًا، ويظن أنه صار أعظم، ويختتم الطوسي قائلًا: وهي جميعًا فروض متوهمة، ولكن يصدق بمقتضاها مباحث الكتاب.
ثمة موضوع آخر ينبغي التنويه به، وقوامه المنحى الفكري للمدارس العلمية التي نشأت في القرن الحادي عشر الميلادي، يظهر واضحًا في الحوار الذي دار بين البيروني وبين ابن سينا، ثم حسم الخلاف ظاهريًا بمعرفة أبي سعيد أحمد المعصومي تلميذ ابن سينا1.
ففي المسألة الثالثة في الطبيعيات يجري الحوار كالآتي:
البيروني: كيف الإدراك بالبصر، ولم ندرك ما يكون تحت الماء وشعاع العين ينعكس عن الأجرام الصقيلة، وسطح الماء صقيل؟
ابن سينا: "الإبصار عن أرسطوطاليس ليس هو بخروج شعاع من العين، وإنما ذلك قول أفلاطن، وعند التحصيل لا فرق بين بينهما؛ فلأن أفلاطن أطلق هذا القول إطلاقًا عاميًا أتى حسب ما يجوز العامة، وقد بين ذلك الشيخ أبو نصر الفارابي في كتابه "الجمع بين رأيي الحكيمين".
__________
1 مذاكرات حدثت بين البيروني وابن سينا يذكرها البيروني في كتابه الآثار الباقية صفحة 257، الذي ألفه وكان عمره 27 سنة، وهو أكبر سنًا من ابن سينا بحوالي سبع سنوات، لذلك يقول عنه الفتى الفاضل أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا.(1/105)
لكن الإبصار عند أرسطوطاليس، إنما هو الانفعال في الرطوبة الجليدية في العين لمماسة سطح المشف المستحيل عن الألوان القابل لها، المؤدي لها عند المحاذاة للجرم المؤدي لونه، ولما كانت الرطوبة الجليدية مشفة استحالت، وانفعلت عن اللون.
ومتى ما زالت هذه الرطوبة التي جعلت آلة تحس بها القوة الرائية، أدركت هذه القوة ما ظهر يها من التأثر، فكان ذلك إبصارًا، وبيان القول فيه تفسير المفسرين للمقالة الثانية من كتاب النفس للفيلسوف، وتفاسيرهم لكتاب الحس له، فإذا كان كذلك والماء والهواء جسمان مشفان، مؤديان إلى الحواس الرائية كيفيات الألوان ارتفع ذلك الشك".
لم يقتنع البيروني بإجابة زميله ابن سينا، فأرسل إليه ثانية يقول:
"ما حصل من جوابك إلا تحديد البصر عند أرسطو لا التفسير، وربما احتاج هذا الشيء إلى اختلاف كثير من التفاسير، ويجب مما قلت أن لا يميز الناظر بين الأبعاد، وأن يرى الصغير بالقرب من الكثير بالبعد في مكان واحد سواء.
وكذلك الأمر في الأصوات، يجب أن يسمع صوت الحمير من البعد الأبعد كالخفي من البعد الأقرب، وأن لا يميز بين أصوات المصوتين، ولو كان المشف ينفعل باللون كان البلور إذا وضع عليه سواد من أحد جوانبه، ثم نظر إليه من أحد الجوانب ما خلا المقابل للسواد يرى أسواد، وأيضًا لم يكن السؤال عن لمية الإدراك ما تحت سطح الماء، أي سألته عن إدراك بنفوذ البصر فيه مع إدراك ما قابل سطحه بانعكاس الشعاع في وقت واحد، ويتولى الفقيه المعصومي تلميذ ابن
سينا الرد على البيروني قائلًا:
"ذكرت أنه لم يذكر في الجواب إلا مذهب الفيلسوف في إدراك البصر، نعم؛ لأنك لم تسأله إلا عن كيفية الإدراك بالبصر، فبين لك أنه ليس(1/106)
بشعاع خارج من البصر بل هو تشكل الألوان في الرطوبة الجليدية في العين بوساطة الهواء، إذ هو المشف المؤدي للألوان، لكنه ما لم يحصل ضياء كان مشفًا بالقوة، فإذا حصل الضياء صار مشفًا بالفعل، وأدى الألوان إلى ما وراء الرطوبة المشفة في العين، فصادمته وتشكلت فيه، ولهذا ليس له لون في ذاته ليكون هو الذي يدرك به الألوان كالماء ليس له ذوق؛ لأن الرطوبة هي التي بها يدرك الذوق.
وأما تمييز اختلاف الأبعاد والصغير والكبير بالبصر، فإن ذلك مسألة مستأنفة ولبيانها حاجة إلى تطويل، وكذلك الأصوات؛ لأنا وجدنا الكبير البعيد والقريب الصغير يغايران على الاستقراء، فتتصور بأنه ذلك، وحصل لنا به التمييز بينهما، ولو كان إنسان لم يعهد جبالًا رفيعة السمك قط، فرأى جبلًا رفيعًا من بعيد لم يمكنه تصور مسافة ما بينه وبينه، وربما ظنه قريبًا منه، وأصغر في الحجم لعلة اعتياده لذلك.
وأما من استقرأ اعتماد رؤية الجبال وأبعادها، لم يكد يخفى عليه البعد إذا رأى شيئًا منها، وكذلك من سمع صوتًا لم يعتده ولم يسمع بمثله قط، أو لم يعتده كثيرًا لم يمكنه أن يميز كثيرها على البعد من يسيرها على القرب، كأصوات الصواعق والزلازل وما أشبهها، فقد ثبت أن هذا ليس لما ذكرت، بل لأجل العادة.
وأما الحديث على السواد، وقولك: إنه يجب أن يرى أسود كله فباطل، فإن الأشياء المشفة وإن أدت الألوان إلى الأبصار، فإنها يؤديها على المسامتة، وعلى الخط الأقصر بينها وبين البصر لا على التقويس والانحناء، فمقدار ما يسامت البصر من السواد في البلور يراه أسود، وما فضل عليه يراه أبيض.
وأما سؤالك عن كيفية إدراك البصر السمك تحت سطح الماء والنجوم فوق في حالة واحدة، فكما تقوله في إدراك شعاع البصر لهما جميعًا نقوله نحن في تشكلهما في العين"1.
__________
1 جمع هذه المحاورات وحققها بالفارسية: سيد حسين نصر، ومهدي محقق ونشرها مركز المطالعات بطهران عام 1352هـ: جابخانة مؤسسة انتشارات وجاب دانشكاه تهران.(1/107)
إرهاصات نحو المنهج العلمي الحديث:
لما بدأ علماء العرب ينظرون في علم المناظر بصفة خاصة، أدرك أصحاب التعاليم منهم أن البحث لكي تعتمد نتائجه، ويحقق صدقها لا بد فيه1:
أولًا: من نظر طبيعي يستقصى به أحوال الموجودات على ما هي عليه في الواقع، لا حسبما تفرض في الخبرة الحسية، وتدرك بالمشاهدة السطحية فحسب، بل حسبما يتعرف عليها أيضًا باتخاذ الآلات الملائمة، وبالاعتبار بالظروف والملابسات المختلفة، حتى يتسنى بذلك استقراء أحكام ما هو مطرد لا يتغير وبين لا يشتبه من الأمور، وتتخذ تلك الأحكام مقدمات يتوصل منها إلى ما يمكن التوصل إليه من نتائج.
ثم لا بد فيه ثانيًا، من نظر تعليمي هو من جهة يعني فيه بالمقادير والكم، ويعتمد فيه على البراهين الهندسية، وهو من جهة أخرى يعني فيه بالاستدلال بما يشاهد، ويستقرأ على معان أو صور، تعطي الغاية، وإن لم يكن على وجه اليقين تعطى الإنية، التي يطمح إليها الفلاسفة في العلم الطبيعي.
ثم لا بد فيه ثالثًا من عودة إلى النظر الطبيعي للتحقق من صدق النتائج القياسية، أو المعاني والصور المستدل عليها، بمطابقتها لما هو موجود في الواقع ونفس الأمر.
__________
1 مصطفى نظيف.(1/108)
ما كان يتأتى إدراك هذا المنهج الذي يجمع بين النظرين الطبيعي، والتعليمي على هذه الصفة، إلا بعد التأمل وإمعان النظر في الأسباب التي تدعو إلى اختلاف الآراء، وتباين المذاهب والوسائل التي تزول بها الشكوك1، وترتفع بها المشبهات، ويتوصل بها إلى معرفة الحقيقة بالقدر المستطاع.
ولم يكن كل ما في الأمر أن أحد أصحاب التعاليم من العرب عرف مجرد معرفة الشرائط التي يجب أن تتوافر في منهاج النظر في المسائل العلمية، فإن بين أيدينا علمًا عربيًا هو علم المناظر التزمت فيه هذه الشرائط جميعًا، وصار بعد أن كان قوام النظر فيه عند أقليدس وبطليموس وأرشميدس، وهم ينابيع هذا العلم عند العرب، وفي الفترة بين العصر الإسكندري والقرن الحادي عشر، فروضًا وهمية، صار علمًا موضوعه شيء موجود في عالم الأعيان، يقع الإبصار بتأثيره في العين، يبحث فيه عن خواص هذا الموجود العيني لا اكتفاء بالمشاهدة، بل على اساس الاعتبار كما تقول العرب، بالمعنى الذي يتضمن اتخاذ آلات يعتبر بها، توصف أجزاؤها وصفًا مفصلًا تبين فيه مقادير الأطوال والزوايا، وكيفية إعداد الأجزاء وتدريجها، وكيفية صنعها من المواد الخام، وكيفية تركيب الأجزاء لكي يتم إعداد الآلة، ثم كيفية استعمالها، وما يتطلبه ذلك من أجزاء إضافية في الأحوال المختلفة، على أساس الاعتبار بهذا المعنى، استقصيت خاصة امتداد الضوء في سموت مستقيمة، استقصيت في أحوال جميع الأضواء التي أمكن الحصول عليها كضوء الشمس، وضوء القمر وضوء النار، وأضواء الكواكب وضوء النهار وضوء الفجر، والضوء المشرق من حائط يستضيء بضوء الشمس، أو مشرق من حائط يستضيء بضوء مشرق من حائط آخر، وبالجملة في أحوال الأضواء الذاتية المشرقة من الأجسام المضيئة بذواتها، والأضواء العرضية المشرقة من الأجسام المستضيئة بغيرها.
__________
1 "شكوك بطليموس" مخطوط لابن الهيثم بدار بلدية الأسكندرية: تحقيق المؤلف سلسلة أعلام العرب: الحسن بن الهيثم.(1/109)
وعلى أساس الاعتبار بهذا المعنى، استقصيت كيفية الانعكاس في الأضواء الذاتية والعرضية على السطوح المستوية، وعن السطوح الكرية والأسطوانية والمخروطية المحدبة والمقعرة، وعلى أساس الاعتبار استقصيت أيضًا كيفية الإنعطاف من الهواء في الماء وبالعكس، ثم من الهواء في الزجاج وبالعكس ومن الماء في الزجاج وبالعكس، وذلك عند السطوح المستوية، وعند السطوح الإسطوانية والكرية المحدبة والمقعرة.
فإذا ما استقرئت أحكام ذلك نظر فيما تؤدي إليه من نتائج، واتبع في استنباط النتائج في الكثرة الغالبة من الأحوال البرهان الهندسي، وغن كانت تلك النتائج من غير المعروف حدوثه في الخبرة الحسية، كان بعد ذلك عودة إلى الاعتبار للتحقق من صدقها في الواقع ونفس الأمر.
على هذه الصفة عولجت الظواهر الضوئية المتعلقة بالأظلال، وبالخسوف كله وجزئه، وبالكسوف كله وجزئه وحلقه، وصور المبصرات التي تحدث بفعل الثقوب الضيقة وأسباب اشتباهها، والخيالات التي ترى في المرايا المختلفة، والخيالات التي ترى بالانعطاف.
وتناول البحث ما يترتب على الانعطاف من تغير في مواضع النجوم، وما أشبه من ظواهر، ثم إن الأخذ ببرهان اللمية أدى إلى ظهور النظرية العلمية في ذلك العصر بمعناها ومفهومها عند المحدثين، فاستقراء اأحكام وبيان نتائجها هو كمال الناحية الوصفية من العلم سواء كان العلم بكيف الأمور أو بكمها، وكمال العلم بجملته يتم بقيام النظرية العلمية، ويقصد بالنظرية العلمية معنى، أو صورة عقلية تكون ملائمة مناسبة للحقائق المعروفة، وتبيان وحدة هذه الملاءمة والمناسبة هو ما يقصد بالشرح والتفسير، أو بيان "اللم" في المسائل العلمية.
وههنا الموضع الذي رأى فيه الفلاسفة، وجوب التمييز بين برهان الإنية، وهو مطلوب العلم الطبيعي في زعمهم، وبرهان اللمية مطلوب العلم(1/110)
التعليمي، وهو مسلك السببية، وجدت النظرية العلمية بكل خصائصها من محاسن ومن قصور، ففي الوقت الذي لم يكن قد عرف فيه عمل العدسات، وضع ابن الهيثم نظريته في الأبصار، وهي النظرية التي صحح بها رأي أصحاب الشعاع، وصح بها أيضًا رأي الفلاسفة، وأدت مهمتها في ذلك العصر على صورة وضعها في تاريخ تقدم علم الضوء أشبه بمرحلة في الأبصار لها، وضعها المعروف في تاريخ تطور الخليقة.
وإضافة إلى ذلك قام بدراسات في الأغراض التالية بعملية، وعلمية ثم ربطها في أحكام1: تعيين نقطة الإنعكاس عن المرآة الكرية، وتعيين نقطة الانعكاس عن المرآة الأسطوانية، وتعيين نقطة الانعكاس عن المرأة المخروطية -والخيالات التي ترى بالانعكاس، وتفصيل أحوال الخيالات التي ترى في المرايا الكرية، وأحكام الانعطاف وما يتعلق بالانعطاف عن السطوح المستوية- وخيال النقطة المبصرة الذي يرى بالانعطاف، وخيالات المبصرات المردكة بالانعطاف عند السطح المستوي -والانعطاف عند السطوح الكرية- درس كل هذا دراسة مستفيضة ووضع لها نظمًا وأحكامًا استقرائية، كانت المرجع2 الأساس في عصر التنوير وعصر النهضة بأوروبا، بل نقلت بحروفها عند "تيودوريق" و"روجر بيكون"، "روبرت جروستست" و"فيتلو"، و"ديكارت".
ثم هو قرر كيفية انتشار الضوء كريا، فسبق بذلك "هوبجنز" كما قرر صورة مجملة لمبدأ من أهم مبادئ الفيزيقا الحديثة، هو مبدأ أقصر الأوقات الذي ينسب إلى "فرما"، وقرر أن للضوء سرعة محدودة، وحاول وإن لم يوفق، أن يضع للانعطاف نظرية على أساس هذا المبدأ، ولكن مع ذلك ضمنها الصواب الذي يخالف ما جاء به "نيوتن وديكارت" في نظرية الانعطاف.
__________
1 الحسن بن الهيثم للمؤلف من سلسلة أعلام العرب العدد 85.
2 الفيزيقا من "أوجسطين إلى جاليليو" تأليف الدكتور كرومبي الأستاذ بجامعة كمبردج.(1/111)
كذلك حاول ولم يوفق، وضع نظرية في الهالة، ونظرية في قوس قزح، فجاء الفارسي من بعده وحاول ولم يوفق في الهالة، ولكنه حاول ووفق كل التوفيق في قوس قزح، وسبق ديكارت إلى شرح حدوث القوس الأولى، بانعطافين وإنعكاس داخلي في قطيرات الماء وحدوث القوس الثانية بانعطافين وانعكاسين داخليين.
أقول: وجدت النظرية العلمية في العصر الإسلامي، وبلغ نضج التفكير أن عرفت المهمة التي تؤديها النظرية في العلم، وعرف معيار الصدق فيها.
ولدينا نظرية عبد الرحمن الخازني في كتابه "ميزان الحكمة"، لإيجاد النسب الوزنية لكل من الذهب، والفضة في سبيكة منهما دون السبك والفصل بينهما، فإذا فرض وزن الفضة في السبيكة، فهو والوزن الكلي للسبيكة في الهواء أ- والوزن النوعي للسبيكة س والوزن النوعي للذهب ب1 وللفضة ب2 إن وزن الفضة في السبيكة يمكن إيجاده من العلاقة الرياضية التالية:
كما سوف نذكره مع تقدم علم الأيدروستاتيكا عند العرب فيما بعد.
والتجريب يؤيد هذه النظرية، كما يراه الإمام أبو حفص عمر بن إبراهيم الخيامي بلفظه1:
"إذا أردت أن تعرف مقدار كل واحد من الذهب والفضة في جسم مركب منهما، أخذنا مقدارًا من الذهب الخالص، ونعرف وزنه في الهواء، وكذلك نأخذ فضة خالصة ونعرف وزنها الهوائي، ثم نأخذ كفتين متساويتين متشابهتين في ميزان له عمود متشابه الأجزاء أسطواني الشكل، ونضع
__________
1 ميزان الحكمة.(1/112)
الذهب في إحدى الكفتين في الماء، وفي الكفة الأخرى ما يثقلها، ونجعل العمود موزيًا للأفق، ونعرف مقداره، ثم نعرف نسبة وزنها الهوائي إلى وزنها المائي.
وكذلك نضع الفضة في إحدى الكفتين في الماء، وفي الكفة الأخرى ما يثقلها ونعرف مقداره ونسبة وزنه الهوائي إلى وزنه المائي، ثم نأخذ المركب ونعرف وزنه المائي إلى وزنه الهوائي، فإذا كانت النسبة مثل نسبة وزن الذهب الهوائي إلى وزنه المائي، فإن المركب هو من الذهب الخالص لا شيء فيه من الفضة، وإن كانت النسبة مثل نسبة الفضة، فإن المركب هو من الفضة لا شيء فيه من الذهب، وإن كانت النسبة فيما بينهما فحينئذ يكون الجرم مركبًا بينهما".
وهذا المنحى يقترب كثيرًا من طرق البحث عند المحدثين، بما استخدم من طرق الأصوليين والمتكلمين في قياس الغائب على الشاهد، وقرن السبر1 بالاعتبار أي التجربة.
ويلاحظ أن ابن الهيثم في "رسالة في الضوء" يستخدم لفظ الاعتبار، ويقرنها بلفظ السبر والمراد به الإبطال، وهو اصطلاح له دلالته عند علماء الكلام في إعتبارهم السبر والتقسيم أي الإبطال، والحصر مسلكًا عقليًا لاكتشاف العلة على أساس أن قوانين الاستقراء ليست فقط طرقًا للإثبات، بل هي أيضًا طرق لاكتشاف2 العلة.
وابن الهيثم كان من القائلين بأن الظواهر الطبيعية خاضعة لمبدأ الحتمية العلمية بمعنى أن جميع الظواهر خاضعة لقوانين ثابتة، إذ هي تتبع نظامًا3 سرمديًا أبديًا في كل مكان وكل زمان، وفي إمكان المعتبر أي
__________
1 دكتور محمد علي أبو زيان.
2 منهج البحث العلمي عند العرب. د. جلال موسى.
3 الحسن بن الهيثم سلسلة أعلام العرب للمؤلف.(1/113)
المجرب كشفها، إذ يتكرر حدوثها على نهج واحد يتوافر فيه التجانس والتماثل، على غرار النهج الذي اتبعه "نيوتن" في الكشف عن قوانين الجاذبية التي تتبع نظامًا لا تحيد عنه، وبلفظ ابن الهيثم:
"وظيفة صغار الأجزاء وكبارها واحدة ما دامت حافظة لصورتها، فالخاصة التي تخص طبيعتها تكون في كل جزء منها صغر أو كبر، ما دام على طبيعته وحافظًا لصورته".
ومن هذا المنطق استطاع "ويجن رستم القوهي" الحصول على حجم المجسم1 المكافئ، أو الحصول على مراكز الأثقال له وللمخروط ابتداء من منطلق الجوهر الفرد حتى الوصول به من الصغر إلى الكبر.
والتأمل في الظواهر كما هي موجودة أمام الحس، وإمعان النظر، وفرض الفروض، وإجراء التجارب، واستنباط النتائج هي أركان النهج العلمي الذي نراه عند ابن الهيثم، كما يقول2 الفارسي في تنقيح المناظر عن كتاب المناظر لابن الهيثم "فوجدت برد اليقين مما فيه، مع ما لم أحصه من الفوائد واللطائف والغرائب، مستندة إلى تجارب صحيحة، واعتبارات محررة بآلات هندسية ورصدية، وقياسات مؤلفة من مقدمات صادقة".
__________
1 المؤلف في بحث له برسالة العلم.
2 حيدر آباد الدكن.(1/114)
الفلاسفة يشتغلون بعلم الصوت:
لفلاسفة العرب تصانيف في الموسيقى والعلم الطبيعي، ضمنوها مباحث في منشأ الأصوات، وكيفية انتقالها واختلاف بعضها عن الآخر، وما إلى ذلك من موضوعات علم الصوت الحديث، أو علم الصوتيات وأسباب حدوث الحروف1، وقد بلغت معلوماتهم في ذلك من الدقة والصحة مبلغًا لا يستهان به، وإن كان يفتقر إلى التدليل الرياضي.
هكذا يعلمون أن الأصوات منشؤها حركة في الأجسام المحدثة لها، وإن انتقالها في الهواء على هيئة موجات تنتشر على شكل كري، وتضعف كلما اتسعت2 الكرة، والنموذج الذي يحدث "ليس المراد منه حركة انتقالية من ماء أو هواء واحد بعينه، بل هو أمر يحدث بصدم بعد صدم وسكون بعد سكون"3.
وقد قسموا4 الأصوات إلى أنواع منها "الجهير"، و"الخفيف"، ومنها "الحاد" و"الغليظ"، وهو تقسيم يتفق وتقسيم الأصوات في العلم الحديث إلى أصوات متباينة الشدة، وأصوات مختلفة الدرجة، فالأصوات الكبيرة الشدة سميت "جهيرة"، والأصوات العالية الدرجة سميت "حادة".
وعزوا الأصوات الجهيرة إلى عظم الأجسام المصوتة، وكثرة تموج الهواء بسببها، وعللوا اختلاف الأصوات التي تحدثها الحيوانات ذوات الرئة باختلاف طول أعناقها، وسعة حلاقيمها، وتركيب حناجرها، أما أصوات الزنابير والجراد والصرصر، فقد قالوا عنها: إنها تحدث عن تحريك جناحيها، كما تحدث عن تحريك أوتار العيدان، وإن اختلاف أصواتها يكون بحسب لطافة أعضائها وغلظتها، وطولها وقصرها.
وأما عن اهتزاز الأوتار فقد قالوا: إنها إذا تساوت في الغلظ والطول و"الخرق" أي التوتر، ونفرت كانت أصواتها مختلفة: الغليظ أغلظ، وإن كانت متساوية في الطول والغلظ ومختلفة في التوتر كانت أصوات المتوترة حادة، وأصوات المسترخية غليظة، وإن كانت متساوية في الطول والغلظ والتوتر مختلفة في النقر، كان أشدها نقرًا أعلاها صوتًا.
__________
1 مخطوط بدار الكتب المصرية سبق لي تحقيقه في رسالة العالم 1962.
2 رسائل أخوان الصفا.
3 البرهان في أسرار الميزان للجلدكي.
4 رسائل أخوان الصفا.(1/115)
وعلل الصدى1 بأنه يحدث عن انعكاس الهواء المتموج من مصادمة عال: كجبل أو حائط، ويجوز ألا يقع الشعور بالانعكاس لقرب المسافة، فلا يحس بتفاوت زمني الصوت وعكسه، كل هذه الظواهر ليست خافية عن الإحساس العادي، وإن كان قد شرحها الجلدكي شرحًا كيفيًا، وليس قياسيًا ولعل أبلغ مخطوط وصل إلينا من فلاسفة العرب في الصوتيات، هو مخطوط "أسباب حدوث الحروف للشيخ الرئيس ابن سينا، وهو يشتمل على فصول ستة هي كالآتي: [الخزانة التيمورية مجموعة رستم] 1- في سبب حدوث الصوت 2- في سبب حدوث الحروف 3- في تشريح الحنجرة واللسان 4- في الأسباب الجزئية لحرف من حروف العرب 5- في الحروف الشبيهة بهذه الحروف وليست في لغة العرب 6- في أن هذه الحروف من أي الحركات غير النطقية قد تسمع.
ولنقبض قبضة من هذا المخطوط إذ ندلي بالفصل الأول "في سبب حدوث الصوت"، بلفظ الشيخ الرئيس ابن سينا كالآتي:
"أظن أن الصوت سببه القريب تموج الهواء دفعة، وبقوة وبسرعة من أي سبب كان، والذي يشترط فيه من أمر القرع عساه أن لا يكون سببًا كليًا للصوت بل كأنه سبب أكثري، ثم إن كان سببًا كليًا فهو سبب بعيد ليس السبب الملاصق لوجود الصوت.
والدليل على أن القرع ليس سببًا كليًا للصوت، أن الصوت قد يحدث أيضًا عن مقابل القرع وهو القلع، وذلك أن القرع هو "تقريب جرم ما إلى جرم مقاوم لمزاحمته تقريبًا، تتبعه ماسة عنيفة لسرعة حركة التقريب وقوتها"، ومقابل هذا:
"تبعيد جرم ما عن جرم آخر مماس له منطبق أحدهما على الآخر
__________
1 البرهان في أسرار الميزان للجلدكي.(1/116)
تبعيدًا يتقلع عن مماسته انقلابًا عنيفًا لسرعة حركة التبعيد.
وهذا يتبعه صوت من غير أن يكون هناك قرع، لكن يلزم في الأمرين شيء واحد، وهو تموج سريع عنيف في الهواء، أما في القرع فالاضطرار القلوع الهواء إلى أن ينضغط، وينفذ من المسافة التي يسلكها القارع إلى جنبتها بعنف وشدة سرعة، وأما في القلع فالاضطرار القالع الهواء إلى أن يندفع إلى المكان الذي أخلاه المقلوع منها دفعة بعنف وشدة.
وفي الأمرين جميعًا يلزم المتباعد من الهواء أن ينقاد للشكل والموج الواقع هناك، وإن كان القرعي أشد انبساطًا من القلعي.
ثم ذلك الموج يتأدى إلى الهواء الراكد في الصماخ فيموجه، فتحس به العصبة المفروشة في سطحه.
فإذن العلة القريبة -كما أظن- هو التموج،
وللتموج علتان: قرع وقلع. [تضاغط وتخلخل بالمعنى الحديث]
وإن ذهب ذاهب إلى أن القلع يحدث في الهواء قرعًا وراءه، وهو سبب للصوت، فليس يضعف هذا القول مما يحتاج إلى أن نتكلف لإبانته".(1/117)
الموسيقى وعلم الصوت:
عند العرب تعتبر الموسيقى علمًا قائمًا بذاته، وتدرس كليات العلوم الموسيقى كتفريع منهجي لعلم الصوت في الوقت الحاضر، وللمرحوم الدكتور علي مصطفى مشرفة "باشا" بحوث في هذا الصدد مع زميله الدكتور محمود مختار، بحوث أكاديمية بحتة برباط رياضي وعددي.
أما في الماضي منذ العصر العباسي، فقد ارتبطت الموسيقى بفن الطرب والغناء، ولو أن بها بعض بصمات لعلم الصوت في نطاق محدود، ولقد كان الكندي فيلسوف العرب، صاحب أول مدرسة للموسيقى في الإسلام، كما كان إسحاق الموصلي صاحب أول مدرسة للغناء، وتطورت(1/117)
مدرسة الكندي على يد الفارابي الذي ألف كتاب الموسيقى الكبير، وضع فيه أسس التعاليم الصوتية، حتى لقد قيل: إنه سمي المعلم الثاني؛ لأنه أول من وضع تلك التعاليم، كما سمي أرسطو المعلم الأول؛ لأنه أول من وضع المنطق، وبلغت المدرسة ذروتها عند الشيخ الرئيس الذي فصل في كتابه "جوامع علم الموسيقى" فصلًا تامًا بين الموسيقى كعلم صوتي، وبينها كفن وصنعة.
ولكن بقيت كتب الكندي نبراسًا استضاء به كل من جاء بعده من الفلاسفة، ومن أشهر هذه الكتب ما يلي:
1- في خبر صناعة التأليف [نشرها د. محمود أحمد الحفني في ليبزج عام 1931 مع ترجمة بالألمانية] .
2- كتاب المصوتات الوترية.
3- في أجزاء خبرية في الموسيقى [نشرها د. محمود أحمد الحفني -القاهرة 1959] .
4- الرسالة الكبرى في التأليف [نشرها الدكتور زكريا يوسف-بغداد 1962] .
والسلم الموسيقى عند الكندي، وهو سلم الموسيقى العربية المستعملة حتى اليوم، يشتمل على اثنتي عشرة نغمة، وهو سلم مكون -أي كروماتي بالاصطلاح الحديث، ويوجد بين كل نغمة وأخرى بعد معين قد يكون طنينيًا -وقد يكون نصف طنيني.
والبعد الطنيني بعد كبير أي -Tone- بين نغمتين متجاورتين مثلًا، كما يكون بين دو -ري، ولقد كانت أوتار العود أربعة: البم -والمثلث- والمثنى والزير، وتسمى اليوم عشيران، ودوكاه، ونوى، وكردان -ربطًا بنظرية العناصر الأربعة: النار - الهواء - الماء - الأرض: والطبائع الأربعة: الحرارة - الرطوبة - البرودة - اليبوسة.
والأمزجة الأربعة: الصفراء - الدم - البلغم - السوداء.
فالزير يشبه بالصفراء، والمثنى بالحمرة والدم -والمثلث ببياض البلغم - واليم بسواد السواد: والنغم السبع تناظر الكواكب السبعة الجارية:
لقد تدخلت النظرية الرباعية في كافة مناشط الفلسفة الإسلامية في الطبيعيات، وانتهت في عصر التنوير بأوروبا.(1/118)
مفهوم علم الحرارة عند العرب:
تناول فلاسفة الإسلام علم الحرارة تناولًا وصفيًا وميتافيزيقيًا، مما أبعده عن التطور العضوي الذي يسمو به إلى آفاق متجددة، فالتأثير الأرسططاليسي ظل متعلقًا بهذا العلم يردده الفلاسفة بتخريجات متباينة.
وأرسطو نفسه يقول في "الكون والفساد": إن الحرارة هي التي تجمع ما بين الجواهر المتجانسة؛ لأن التفريق الذي يقال عن النار أنها تفعله، إنما هو في حقيقة الأمر تركيب الأشياء التي من نوع واحد، ما دام أن الذي يحصل أن النار تخرج الجواهر القريبة وتنقيها، والبرودة على ضد ذلك تجمع وتركب على السواء الأشياء التي من نوع واحد، والتي ليست من نوع واحد.
أما ابن سينا فيقول في كتاب النجاة: إن الحرارة هي كيفية فعلية محركة لما تكون فيه إلى فوق، لإحداثها الخفة، فيعرض أن تجمع المتجانسات، ونفرق المختلفات، وتحدث تخلخلًا من باب الكيف في الكثيف، وتكاثفًا من باب الوضع فيه لتحليله، وتصعيده اللطيف.
والبرودة هي كيفية فعلية تفعل جمعًا بين المتجانسات وغير المتجانسات، بحصره الأجسام بتكثيفها وعقدها اللذين من باب الكثيف، أقول ويجب أن تسقط من الحدين ما أورده لتفهم اللفظ المشترك، وتستعمل الباقي.(1/119)
وأما عز الدين بن أيدمر1 الجلدكي آخر الحكماء من الإسلاميين، وهو الذي عاش متنقلًا بين دمشق، والقاهرة في الثلاثينات الأولى من القرن الرابع عشر الميلادي في عصر الناصر محمد بن قلاوون، فهو يقول:
"دلت التجربة على أن أسباب الحرارة الاستضاءة والحركة ومجاورة النار، إذا كان القابل لشيء من ذلك قابلًا للحرارة، وأما إذا لم يكن قابلًا لها فلا، وأما البرودة فليست هي عدم الحرارة؛ لأنها محسوسة بالذات، ولا شيء من العدم كذلك، بل التقابل بينهما تقابل التضاد على حكم الميزان الحق، وتأثيرها على خلاف تأثير مقابلها".
لم يشرح لنا الجلدكي تجربة ما كما يشرحها "الكونت رمفورد [بنجامين طومسون سابقًا] ، وهو في إدارة المسبك الحربي في بافاريا، بإحداث ثقب في جدار مدفع، إحاطة بجالونين من الماء، فغلى الماء بعد ساعتين، وراع غليان الماء مراقبيه، فكان الاستنتاج بأن الحركة الناشئة من ثقب جدار المدفع هي التي ولدت الحرارة.
ولم يشرح لنا الجلدكي أيضًا أية تجربة أخرى تخص الاستضاءة أو النار، كتلك التجارب الشهيرة التي أجراها "جول" بتحويل الطاقة الميكانيكية إلى طاقة حرارية، مما هيأت له المجال لتقدير المكافئ الميكانيكي للحرارة، ثم بعد ذلك المكافئ الكهربي للحرارة، فالحرارة والحركة والكهرباء ما هي إلا طاقات ممكن تحويل إحداها إلى الأخرى.
عيب التفسير عند العرب لمفهوم الحرارة، أنه ينبني على إدراكات كيفية، وليس على إدراكات قياسية ترتبط فيما بينها بمعادلات رياضية، كما حدث عند العالم الإنجليزي "يوسف بلاك"، والأمريكي "بنجامين طومسون"، والإنجليزي "جول" ثم الإنجليزي أيضًا "توماس يونج" الذي أعطى أبعادًا
__________
1 من بحث للمؤلف في مجلة رسالة العلم عن النظرية التحليلية للحرارة.(1/120)
رياضية للطاقة طبقًا للمفهوم النيوتوني [حاصل ضرب الكتلة × مربع سرعة جزئيات المادة] ، أما مفهوم الطاقة فهو قد ترسب من مفهوم القوة الذي نبع من كتاب أصل الأنواع لداروين العالم الإنجليزي، فالتنازع للبقاء مصدره القوة، والطاقة نابعة من القوة، وهذا المذهب الذي ظل سائدًا في روح الحضارة الأوروبية، طوال فترات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، قد فسرت به ظواهر كثيرة.
ومن جهة أخرى نرى روح الحضارة العربية في الطبيعيات1 تظهر واضحة المعالم في نماذج الأسئلة، والأجوبة التي دارت رحاها بين "البيروني" و"ابن سينا" في القرن الحادي عشر الميلادي، ففي المسألة الثامنة يقول "البيروني":
"زعم أن الكواكب إذا تحركت حمي الهواء المماس لها، وقد علمنا أن الحرارة بإزاء الحركة، والبرودة بإزاء السكون، وأن الفلك إذا تحرك حركته السريعة حمي الهواء المماس له، فكان منه النار المسمى أثيرًا، وكلما كانت الحركة أسرع، كان الإحماء أبلغ وأشد، ومن الواضح البين أن أسرع الحركات في الفلك التي هي في معدل النهار، وإن كان ما قرب من القطبين يكون أبطأ حركة ... ".
"ويجيب ابن سينا بلفظه:
"ليست النار عند أكثر الفلاسفة كائنة بحركة الفلك، بل هي جوهر واسطقس بذاتها، كغيرها من الاسطقسات، وليس ما حكيت إلا مذهب من جعل الأسطقس شيئًا واحدًا من الأربعة، أو اثنين أو ثلاثة منها مثل "ثاليس" حين جعلها الماء، وهرقليطس إذ يجعلها النار، وديوجالس إذ جعلها جوهرًا بين الماء والهواء، وانكسندرس حين
__________
1 تحقيق سيد حسين نصر، ومهدي محقق [مركز مطالعات تهران] .(1/121)
يجعلها هواء، ويجعل كل واحد منهم الأجرام الأخرى، والمتولدات عوارض تعرض في الجسم أية ما وصفوه، وأنه ليس يكون عن جسم آخر، ويقول انكسمندرس: القول الذي حكيته أن الجوهر الأول هواء، فإذا أصابته كيفية البرودة صار ماء، وإذا سخن من تحريك الفلك كان نارًا أو أثيرًا.
أما أرسطوطاليس فليس يجعل شيئًا من الكليات الأربعة بكائن عن شيء آخر، ويجوز ذلك في جزئياتها، فليس إذن هذا الاعتراض يلزم أرسطوطاليس ولا من قال بهذا القول، وهو القول السديد الصواب ... ".
وفي المسألة السابعة من مسائل أخرى في الطبيعيات تجري الأسئلة هكذا:
البيروني: إذا كانت الأجسام تنبسط بالحرارة وتنقبض بالبرودة، وكان انصداع القماقم الصياحة وغيرها لأجل ذلك، فلم صارت الآنية تتصدع وتنكسر إذا جمد ما فيها من الماء إلى آخر الفصل؟
ابن سينا: إن من نفس المسالة يمكن أن يخرج لها جواب، فإنه كما أن الجسم لما انبسط عند التسخين طلب مكانًا أوسع، فشق القمقمة، كذلك الجسم إذا انقبض عند التبرد، وأخذ مكانًا صغيرًا كاد أن يقع الخلاء في الإناء، فشق وانصدع لاستحالة ذلك، ولهذا من الطبيعة وجوه غير هذا، وهي العلة لأكثر ما يقع من هذا، ولكن فيما ذكرنا كفاية في الجواب".
من هذه الأسئلة والأجوبة نستدل على مدى سير التفكير العلمي عند فلاسفة الإسلام، الذين كانوا يحتلون الصدارة في القرن الحادي عشر الميلادي.
تفسيرات وتخريجات تظهر فيها بصمات الفكر الإغريقي، ومحاولة الخروج من ربقته إلى آفاق جديدة، ولكن بطرق وصفية لا تخضع للمنطق الرياضي، تفسيرات ظلت عقبة كؤودًا لسنين طويلة لتقدم علم الحرارة.(1/122)
ثمة نظرية أخرى يذكرها ابن سينا في كتابه "النجاة"، والشهرستاني في كتابه "الملل والنحل" وهي نظرية العناصر الأربعة واستحالتها، وتتلخص في أن لكل عنصر من هذه العناصر طبيعتين فللنار الحرارة واليبوسة، وللهواء الحرارة والرطوبة، وللماء البرودة والرطوبة، وللأرض البرودة واليبوسة، ولم تكن البرودة معدودة عدم الحرارة، بل كانت تعد موجودة بالذات، وكانت الحرارة والبرودة تعد كل منهما "فاعلة"، أي مؤثرة ذات أثر مشاهد في الأجسام، فالحرارة تحدث في الجسم تغيرًا بالتحليل والخلخلة أي التمدد، والبرودة تحدث تغيرًا بالتعقيد والتكثيف أي التقلص، أما الرطوبة واليبوسة فهما خاصتان يترتب على الأولى قبول التفريق والجمع، والتشكيل بسهولة، ويترتب على الثانية عكس ذلك.
والعناصر الأربعة كانت تعد قابلة للاستحالة، والتغير مع وجود علاقات مشتركة بينها، فكرة أقرب ما تكون إلى النظرية الي ظلت سائدة، وهي تنادي ببقاء المادة وعدم فنائها، ومن أمثلة الاستحالة عندهم هي تحول الهواء إلى ماء كما يحدث على السطح الخارجي لكوز موضوع في داخل ثلج، أي أن قطرات الماء التي تتكون على السطح الخارجي، كانت تعد هواء في الأصل، وكذلك تحول الهواء إلى نار، فالنفخ الشديد في جذوة مشتعلة يزيد من اشتعالها، وعد هذا دليلًا على أن شيئًا من الهواء نفسه يشتعل، ويتحول إلى نار.
يرى ابن سينا أن العناصر الأربعة لا توجد صرفة خالصة، بل يكون فيها اختلاط، وأن لكل منها موضعًا خاصًا، أو"حيزا" ومواضعها جميعًا دون فلك القمر، أي في المكان المحصور بين مركز الأرض، وفلك القمر طبقًا لنظر "ابرخس" و"بطليموس" في هيئة الكون.
ويسأله البيروني أيضًا في المسألة العاشرة من الموضوع التالي:
البيروني: استحالات الأشياء بعضها إلى بعض، أهو على سبيل(1/123)
التجاوز والتداخل أم على سبيل التغير؟ ونمثل بالهواء والماء، فإن الماء إذا استحال إلى الهوائية أيصير هواء بالحقيقة، أو يتفرق فيه أجزاؤه حتى يغيب عن حسن البصر، فلا يرى الأجزاء المتبددة.
ابن سينا: استحالات بعضها إلى بعض ليست كما مثلت من استحالة الماء إلى هواء، بأن يضع أجزاءه بتفرق في الهواء حتى يغيب عن الحس، بل ذلك لخلع هيولي الماء صورة المائية وملابستها صورة الهوائية، ومن أراد أن يعرف ذلك على الاستيفاء، فلينظر في تفسير المفسرين لكتاب الكون والفساد، وكتاب الآثار العلوية، والمقالة الثالثة من "كتاب السماء"، ولكني أبين ذلك بطرق بينوه وأورد مثالًا استقرائيًا أثبتوا به قولهم".
ثم يستطرد ابن سينا في مسألة القمقمة التي يملأها، ويسخنها تسخينًا شديدًا، فشقت القربة لطلبها مكانًا أوسع من مكانها لتحول أجزاء مائها هواء، وذلك؛ لأنه ليس سبب التغير تفرق الأجزاء، وإنما هو قبول الهيولي لصورة ثانية.(1/124)
الموازين وعلم الهيدروستاتيكا
...
1976م بأشكال متنوعة، وفي دقة بالغة مصنوعة من النحاس الأصفر هي وصنجات الغيار وموضوعة في صناديق معلقة من الخشب والزجاج، وهي برقم 194 [ميزان الحكمة للخازني] ، برقم 195 لاستخدامات الصياغة، وحساب الخطأ فيها لا يزيد عن أربعة في الألف.
واهتم العلماء الإسلاميون بالدراسات التي ترتبط بنظريات الروافع، والموائع لاستنباط أدق الوسائل للموازين وصناعتها، سيما وقد جاء ذكر الميزان في القرآن الكريم في مواضع كثيرة منها: {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} .
{وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} ، ومن العلماء الذين أسهموا في هذا المجال أيام المأمون: سند بن علي، ويوحنا بن يوسف، وأحمد بن الفضل المساح، وفي أيام السامانية الطبيب النابغ محمد1 بن زكريا الرازي الذي عمل في الميزان رسالة ذكرها في كتاب الاثني عشر، وسماه الميزان الطبيعي.
وفي أيام الدولة الديلمية كان ينظر فيه ابن العميد، والفيلسوف ابن سينا ثم البيروني، وفي أيام الدولة القاهرة نظر فيه الإمام أبو حفص عمر الخيامي، ثم الإمام ابن حاتم المظفر بن إسماعيل الإسفزاري، ويعتبر أبو الفتح عبد الرحمن المنصور الخازني الذي كان خازنًا لمكتبة السلطان أبي الحارث سنجر بن ملكشاه بن ألب أرسلان سلطان خوارزم "1115م"، أعظم الذين وضعوا مؤلفًا في الميزان وعلم الميكانيكا والهيدروستاتيكا، وهو الموسوم بميزان الحكمة2، وفيه دراسات عن مراكز الأثقال والأوزان النوعية لكثير عن المعادن.
__________
1 ميزان الحكمة للخازني.
2 دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن.(1/125)
والموازين على شكلين: القرسطون أو القبان والميزان العادي.
أما القرسطون فهو عبارة عن فحل يتكون من ذراعين غير متساويين يقع مركز ثقله تحت نقطة الارتكاز، جاء في رسائل "إخوان الصفاء":
" ... ومن عجائب خاصية النسبة ما يظهر في الأبعاد والأثقال من المنافع، ومن ذلك يظهر في القرسطون، أعني القبان، وذلك أن أحد رأسي عمود القرسطون طويل بعيد من المعلاق والآخر قصير قريب منه؛ فإذا علق على رأسه الطويل ثقل قليل، وعلى رأسه القصير ثقل كثير تساويًا وتوازنًا متى كانت نسبة الثقل القليل إلى الكثير كنسبة بعد رأس القصير إلى بعد رأس الطويل من المعلاق ... ".
والمقصود هنا من المعلاق نقطة الارتكاز Falcrum.
ولثابت بن قرة كتابان:
أحدهما في صفة استواء الوزن، واختلافه وشرائط ذلك.
والثاني في القرسطون1.
وقد جرت عادة العلماء العرب أن يستهلوا مؤلفاتهم ببعض المسلمات العلمية، ثم يقرنوها بتجارب تصل بهم إلى الهدف المطلوب، ومن تلك المسلمات في رسالة القرسطون لثابت بن قرة ما يأتي مع الإحاطة بأن هذه المسلمات هي الآن من صميم علم الديناميكا، أو الاستاتيكا اللذين يدرسان في مدارسنا الآن، أو هما كانتا نقطة الانطلاق في مؤلفات علماء النهضة بأوروبا:
1- كل مسافتين يقطعهما متحركان في زمانين متساويين، فإن نسبة إحدى المسافتين إلى الأخرى كنسبة قوة المتحرك في المسافة المستوية إلى قوة المتحرك الآخر.
__________
1 جاويش بالفرنسية ونشرته الأكاديمية العالمية لتاريخ العلوم -ليدن 1976.(1/126)
2- كل خط ينقسم بقسمين متساويين، ويعلق في طرفيه ثقلان متساويان.
فإن ذلك الخط إذا علق بالنقطة القاسمة له بنصفين، وازى الأفق.
وكذلك إن نقل الثقلان على طرفيه، وجعلا على عمودين قائمين على ذلك الخط الخارجين عن طرفيه، فإنهما يعتدلان.
وإذا اختلفت أطوال العمودين، لم يتغير حال الخط في موازاة الأفق؛ لأن اختلاف أطوال الأعمدة ليست مغيرة جذب الثقل إلى أسفل.
وكذلك إن اختلفت جهات العمودين فإن الخط يبقى موازيًا للأفق.
واختلاف الجهات ليس بغير جذب طرفي الخط إلى أسفل، وإنما يحدث بعض الاختلاف حركة للخط استدارية، وليس ذلك مغير الموازاة للأفق.
3- كل خط يقسم قسمين مختلفين، وثبت فيه النقطة القاسمة وتحرك بأسره حركة لا يعود بها إلى موضعه، فإنه يحدث قطاعين متشابهين من دائرتين نصف قطر إحداهما القسم الأطول من قسمي الخط، ونصف قطر الأخرى القسم الآخر.
4- إذا كان عمود مستقيم مستوي الغلظ والجوهر علق بعلاقة بنقطة منه على غير وسطه، فأردنا أن نعلم كم مقدار الثقل الذي إذا علق بطرف القسم الآخر من قسمي العمود، اعتدل وزن ذلك العمود على موازاة الأفق، وبالإجابة عن ذلك يقول ابن قرة:
"فإنا نتعرف وزن ذلك العمود ومساحة طوله، وطول كل واحد من قسميه، ونأخذ فضل ما بين طولي القسمين فنضربه بوزن العمود، ونقسم ما(1/127)
اجتمع على طول العمود، وإنما يذهب في معنى الضرب والقسمة ههنا إلى ما قد جرت به العادة من الحساب مما قد تجاربناه كثيرًا، فما خرج من القسمة ضربناه على هذه السبيل في طول العمود، فما اجتمع قسمناه على مثلي طول القسم الأصغر من قسمي العمود".
أما الخازني فهو يسير على نفس المنوال، ويقول في كتابه "ميزان العدل"، وهو تسمية كتابه "ميزان الحكمة" أنه مبني على البراهين الهندسية، ومستنبط من العلل الطبيعية من وجهين:
1- مراكز الأثقال ومعرفة أوزان الأثقال المختلفة بتفاوت أبعاد ما يقاومها، وعليه مبنى القفان.
2- معرفة أوزان الأثقال المختلفة المقادير بتفاوت أجرام رطوبات يغاص فيها الموزون1، رقة وخثورا.
وجدير بالذكر ما يذكره الخازني عن الأسطورة المتناقلة عن أرشميدس، إذ طلب منه ملك صقلية أن يفحص إكليلًا من ذهب أهدي إليه في إجدى المناسبات، ليعرف إن كان مغشوشًا بفضة، على شرط ألا يكسره أو يصهره أو يعبث بشكله، لما فيه من إتقان صنعة وفن، فاستطاع ذلك أرشميدس.
ثم تطرق الخازني إلى ذكر تجارب مانالاوس في هذا الصدد، علمًا بأن كلًا من أرشميدس، ومانالاوس كانا من رعيل مدرسة الأسكندرية القديمة في العصر البطلمي، فهما مصريان علمًا وثقافة، وإن كانا يحملان أسماء إغريقية.
__________
1 قاعدة أرشميدس المعروفة.(1/128)
ولا أكون مغاليًا إن قلت: إن كثيرًا من مسلمات الخازني في كتابه، استعارها كل من "جاليليو" في كتابه "محاورات حول العلمين الجديدين"، وإسحاق نيوتن في فنه الكبير1 [البرنسيبيا] ، رغم مضي فارق الزمن بين الخازني، وبينهما بأكثر من خمسمائة عام، ومن هذه المسلمات:
1- الثقل هو القوة التي بها يتحرك الجسم الثقيل إلى مركز العالم، والجسم الثقيل هو الذي يتحرك بقوة ذاتية أبدًا إلى مركز العالم فقط، أعني أن الثقيل هو الذي له قوة تحركه إلى نقطة المركز، وفي الجهة أبدًا التي فيها المركز، ولا تحركه تلك القوة من جهة غير تلك الجهة، وتلك القوة هي لذاته لا مكتسبة من خارج، وغير مفارقة له ما دام على غير المركز، ومتحركًا بها أبدًا ما لم يعقه عائق إلى أن يصير إلى مركز العالم.
2- الأجسام الثقال مختلفة القوى فمنها ما قوته أعظم، وهي الأجسام الكثيفة، ومنها ما قوته أصغر وهي الأجسام السخيفة، والأجسام المتساوية القوى هي المتساوية الكثافة والسخافة.
3- إذا تحرك جسم ثقيل في أجسام رطبة، فإن حركته فيها بحسب رطوباتها، فتكون حركته في الجسم الأرطب أسرع.
وإذا تحرك في جسم رطب جسمان متساويا الحجم متشابها الشكل مختلفًا الكثافة، فإن حركة الجسم الأكثف فيه تكون أسرع.
4- الأجسام الثقال قد تتساوى أثقالها، وإن كانت مختلفة في القوة، مختلفة في الشكل.
والأجسام المتساوية الثقل هي التي إذا تحركت في جسم واحد من الأجسام الرطبة من نقطة واحدة، كانت حركتها متساوية، أعني أنها
__________
1 سبق للمؤلف تلخيص هذين الكتابين في مجلة "تراث الإنسانية".(1/129)
تجوز في أزمنة متساوية مسافات متساوية.
والأجسام المختلفة الثقل هي التي إذا تحركت على هذه الصفة، كانت حركاتها مختلفة، وأعطت ثقلًا أسرعها حركة.
5- الجسمان المتعادلا الثقل عند نقطة مفروضة، هما اللذان إذا ضما إلى جسم ثقيل، تكون تلك النقطة مركز ثقله، وصار مركزا ثقلها عن جنبتي تلك النقطة على خط مستقيم يمر بتلك النقطة، فإنه لا يتغير وضع ذلك الجسم، وتصير تلك النقطة مركز ثقل مجموعهما.
لم ينفرد الخازني ببحوثه في الجاذبية، فقد بحث غيره من قبله ومن بعده من علماء العرب فيها، وفي الأجسام الساقطة، ويعترف "جورج سارطون" بأن "ثابت بن قرة" و"موسى بن شاكر"، وغيرهما قالوا بالجاذبية وعرفوا شيئًا عنها، وقال "ثابت بن قرة":
"إن المدرة تعود إلى السفل؛ لأن بينها وبين كلية الأرض متشابهة في كل الأعراض، أعني البرودة والكثافة، والشيء ينجذب إلى أعظم منه ... ".
وقد شرح "محمد بن عمر الرازي" في أواخر القرن السادس للهجرة، فقال:
"إننا إذا رمينا المدرة إلى فوق، فإنها ترجع إلى أسفل، فعلمنا أن فيها قوة تقتضي الحصول في السفل، حتى إنا لما رميناها إلى فوق أعادتها تلك القوة إلى أسفل ... ".
وحتى لا يجرنا مجال علم الميكانيكا إلى تفريعات كثيرة يحسن بنا الرجوع إلى كتاب الميزان الجامع للخازني، فنلخص بعض أقسامه، ففي:
القسم الأول: نراه يبحث في الكليات والمقدمات نحو الثقل والخفة(1/130)
ومراكز الأثقال ومقدار غوص السفن في الماء، واختلاف أنساب الوزن والقبان، وكيفية الوزن، في الهواء وفي المايعات، وقياس المايعات لمعرفة الأخف والأثقل منها من غير وساطة الصنجات، ومعرفة النسب بين الفلزات والجواهر في الحجم، وأقوال المتقدمين والمتأخرين في ميزان الماء، وما أشاروا إليه.
القسم الثاني: ويبحث في صنعة ميزان الحكمة وامتحانه، وإثبات مراكز الفلزات والجواهر عليه، ووضع صنجات لائقة، ثم العمل في تحقيق الفلزات، وتمييز بعضها من بعض من غير سبله ولا تخليص، بعمل شامل للموازين كلها ومعرفة الجواهر الحجرية، وتمييز حقها من أشباهها وملوناتها، وزيادة فيه من باب الصرف، ودار الضرب بالعمل الكلي السيال والمعاملات.
القسم الثالث: وهو يشتمل على طرف الموازين، ومحلها نحو ميزان الدراهم والدنانير من غير واسطة الصنجات، وميزان تسوية الأرض إلى موازاة السطح الأفقي، وميزان يعرف بالقسطاس المستقيم، يوزن فيه من حبة إلى ألف، دراهم ودنانير بثلاث رمانات، وميزان الساعات يعرف به الساعات الماضية من ليل ونهار، وكسورهما بالدقائق والثواني وتصحيح الطالع بها بالدرج وكسورها.
ويحتوي فهرست الميزان الجامع على المقالات التالية:
المقالة الأولى: بحث في المقدمات الهندسية والطبيعية لبناء الميزان، وفي رءوس مسائل مراكز الأثقال لابن الهيثم المصري، وأبي سهل القوهي مع مسائل متفرقة غوص السفن، وفي رءوس مسائل أرشميدس وأقليدس ومانالاوس.
المقالة الثانية: بحث أسباب اختلاف الوزن مع مقارنة نتائج ثابت بن قرة، والمظفر الإسفزاري.(1/131)
المقالة الثالثة: بحث في النسب بين الفلزات والجواهر في الحجم، مع مقارنة نتائجه بنتائج أبي الريحاني البيروني.
المقالة الرابعة: بحث في موازين الماء التي استعملها أمثال أرشميدس، ومانالاوس ثم الميزان الطبيعي للطبيب محمد بن زكريا الرازي، والإمام عمر الخيامي، وهذا بحث مقارن يتضح فيه التطور والابتكار.
المقالة الخامسة: بحث في صنعة ميزان الحكمة وتركيبه وامتحانه وتعريفه.
المقالة السادسة: بحث في استعمال الصنجات الخاصة بالميزان، ثم بحث في تمييز الفلزات المختلفة ومعرفة وزنها في الهواء والماء.
المقالة السابعة: بحث في ميزان الصرف وتقويمه على كل نسبة مفروضة، ثم معرفة وزن كل فلز وجوهر من غير واسطة الصنجات.
المقالة الثامنة: بحث في ميزان الساعات وفي صفة خزانة الماء، أو الرمل وفي معرفة الساعات.
هذا وقد تقدم الدكتور "بلتي" من أكاديمية العلوم بنيويورك ببحث ينوه به بمعرفة العلماء العرب للثقل النوعي، وبمعرفتهم أيضًا بثقل الهواء، وأنهم استعملوا موازين دقيقة ثبت أن فرق الخطأ فيما وزن فيها أقل من 4 أجزاء من ألف جزء من الجرام.
وقد حدد البيروني الثقل النوعي لكثير من الفلزات، والجواهر باستعمال جهاز مخروطي مملوء بالماء، ثم بوزن الماء الذي تحل محله المادة التي أدخلها، والذي يخرج من الجهاز بواسطة ثقب موضوع في مكان مناسب، فالعلاقة بين ثقل المادة، وثقل حجم الماء المزاح يحدد الوزن النوعي المطلوب.
وسنذكر هنا قائمة من عمل "فيدمان" تبين القيم التي حصل عليها البيروني والخازني:(1/132)
علم الحيل:
هو، علم تخصص للأجهزة الميكانيكية وسماه اليونانيون "نيوماتيك" neumatic، ثم ترجم تحت اسم "الحيل الروحانية"، كما جاء في موسوعة كشف الظنون لحاجي خليفة كما يأتي:
"علم الآلات الروحانية المبنية على ضرورة عدم الخلاء كقدح العدل، وقدح الجور، أما الأول فهو إناء إذا امتلأ منها قدر معين يستقر فيها الشراب، وإن زيد عليها ولو بشيء يسير ينصب الماء، ويتفرغ الإناء عنه بحيث لا يبقى قطرة، وأما الثاني وله مقدار معين إن صب فيه الماء بذلك القدر القليل يثبت، وإن ملئ يثبت أيضًا، وإن كان بين المقدارين يتفرغ(1/133)
الإناء، كل ذلك لعدم إمكان الخلاء. قال أبو الخير: وأمثال هذه فهو من فروع علم الهندسة من حيث تعين قدر الإناء، وإلا فهو من فروع علم الطبيعي، ومن هذا القبيل دوران الساعات، ويسمى علم الآلات الروحانية لارتياح النفس بغرابة هذه الآلات، وأشهر كتب هذا الفن حيل بني موسى بن شاكر، وفيه مختصر لفيلن "فيلون"، وكتاب مبسوط للبديع الجزري".
ويحمل كتاب الجزري عنوان "الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل"، ومن عنوان الكتاب نشعر بأن الجزري جمع بين العلوم الميكانيكية النظرية التي كانت معروفة آنذاك، وبين النواحي التطبيقية العملية، فهو كتاب نظري وعملي في آن واحد، قام بتأليفه بناء على طلب ملك ديار بكر الملك الصالح ناصر الدين أبي الفتح، محمود بن محمد بن قرا أرسلان بن داود بن سكمان بن أرتق، الذي تولى الحكم في الفترة "1200-1222م"، وقد ترجمت فصول كثيرة منه في الربع الأول من هذا القرن إلى اللغة الألمانية من قبل كل من فيديمان وهاوسر، اللذين قاما بأبحاث هامة جدًا في تاريخ العلم والتكنولوجيا عند العرب.
هذا وقد نشرت مجلة تاريخ العلوم العربية التي يصدرها معهد التراث العلمي العربي في حلب العدد الأول أيار 1977، جزءًا من المخطوط المشار إليه، وفيه صور الآلات بالألوان.
وقد نشر الأستاذ ماجد عبد الله شمس "مقدمة لعلم الميكانيك في الحضارة العربية"، بمعونة جامعة بغداد مركز إحياء التراث العلمي العربي الكثير من محتويات هذا الكتاب، والكثير من الساعات المائية.
هذا وقد ترك أبناء موسى في عصر الخليفة المتوكل "232-247هـ" كتابًا في الميكانيك، يقول عنه ابن خلكان: "ولهم في الحيل كتاب عجيب نادر، يشتمل على كل غريبة، ولقد وقفت عليه، فوجدته من أحسن الكتب(1/134)
وأمتعها"، والكتاب يحتوي على مائة جهاز.
وفي مجال الساعات الشمسية تذكر المستشرقة سجريد هونكه:
"لقد امتاز العرب بمهارة فائقة في اختراع ساعات الشمس، وأعطوها شكلًا دائريًا يتوسطه محور دائري، وتمكنوا بواسطتها من تحديد موضع الشمس في كل حين، ومن تحديد الوقت ووضع التقسيمة الزمنية، وكانت الساعة الشمسية النقالة الأسطوانية أكثر اختراعاتهم أصالة وفنًا في هذا الحقل، وقد وصلت هذه الساعة أو"ساعة الرحلة"، كما كانوا يسمونها إلى يدي هرمان الكسيح في دير "راغو"، فقام بوصف هذه الآلة العجائبية وصفًا حسيًا عمليًا، وانتشرت هذه الساعة في أكثر أطراف بلاد الغرب بعد ذلك بزمن قليل.
ومن أمثلة الساعات الشمسية العربية ما سمي بـ"الرخامة"، ولثابت ابن قرة، وكذلك الخوارزمي مؤلفات في هذا الصدد.(1/135)
مدى تقدم علم المغناطيسية:
لم يتقدم هذا العلم تقدمًا ذا شأن، غير أنه مما لا شك فيه أن العرب كانوا يعلمون بالمغناطيس خاصيتين أساسيتين، وهما أنه يجذب الحديد، وأنه يتجه، وأحد طرفيه مشيرًا نحو الشمال، والآخر نحو الجنوب تقريبًا، وهذا الاتجاه لم يتحققوا من ذاتيته بأنه ناتج عن تأثير مجال المغناطيسية الأرضية، كما أنه كان معروفًا أيضًا أن الكهرباء [أس حجر الكهرمان] ، يكتسب بالدلك خاصيته جذب زغب الريش، والخفيف من القش وما شابه ذلك إليه.
وقد استغل الملاحون العرب المغناطيس لمعرفة الجهات في جهاز يشبه الآن "البوصلة" أي الإبرة، ويتركب أول الأمر من إبرة ممغطسة محمولة على قطعة من الخشب، أو موضوعة داخل قصبة مجوفة، تطفو فوق سطح الماء.(1/135)
وقد ذكر "بهاء الدين العاملي" في كتابه الكشكول تجربة بسيطة في التمغطس، وفي بيان أن أجزاء المغناطيس مغناطيسيات، وهذه التجربة منقولة عن "نصير الدين الطوسي".
ويقول "البيروني" في كتابه "الجماهر في معرفة الجواهر"، ما مؤداه أن حجر المغناطيس -كالهرمان- له خاصية الجذب، ولكنه أكثر منه فائدة؛ لأنه يستطيع أن ينتزع شفرة من الجرح، أو طرف المشرط من أحد العروق، أو خاتمًا معدنيًا ابتلعه الإنسان واستقر في بطنه، ويقول "ديوسفوروديس" العالم اليوناني: إن أجود أحجار المغناطيس ما كان لازوردي اللون، وعندما يحترق حجر المغناطيس يتحول إلى حجر حديدي آخر، إلا أننا لم نشاهد قط هذا الحجر [هكذا يقول البيروني] ، ولم يصفه لنا أحد.
وورد في أحد المؤلفات التي لا يعرف مؤلفها، أن أجود أحجار المغناطيس ما كان أسود ضاربًا إلى الحمرة، يليه في الجودة ما كان لونه كلون النار، ويقول بعضهم: إن حجر المغناطيس الذي يتهافت الناس على طلبه، يوجد بوفرة في إقليم "زبتره" على الحدود الشرقية لبلاد الروم أكثر مما يوجد في أي مكان آخر على وجه الأرض.
ويقال أيضًا: إن هياكل السفن التي تبنى لعبور الخليج العربي مخروزة بألياف النخيل، التي يتم إدخالها في ثقوب بالألواح الخشبية، في حين أن السفن التي تسير في البحر المتوسط مخروزة بمسامير من حديد، والسبب في تجنب المسامير في الحالة الأولى، هو وجود صخور مغنطيسية خفية من البحار يمكن أن تعرض السفن ذات المسامير الحديدية إلى خطر بالغ، على أن هذا أمر مستبعد؛ لأن السفن التي تعبر الخليج العربي لا تستغني عن المراسي، كما أنها تكون دائمًا محملة بالآلات الحديدية، وبخاصة الأسلحة المجلوبة من الهند.(1/136)
علم المناظر:
ذكره ابن خلدون في مقدمته كفرع من العلوم الهندسية، ثم ألمح بأن أشهر من كتب في هذا العلم، هو ابن الهيثم "القرن الحادي عشر الميلادي"، وفي الواقع قد سبقه الكندي في دراسة الضياء والمرايا المحرقة في كتابه "مطارح الشعاع"، وفيه ينوه بأن أرشميدس قد صنع مرايا مقعرة كرية الشكل، واستخدمها لكي يحرق سفن العدو التي اقتربت من "سيراكوزه" بجزيرة صقلية [طبعه الدكتور يحيى الهاشمي بحلب] .
ويعتبر كتاب المناظر لابن الهيثم فخرًا للعلم العربي بمضامينه الحديثة، إذ كان هو المرجع الوحيد في عصر النهضة بأوروبا حتى القرن السابع عشر، ويقول "الدومييلي" في كتابه "العلم عند العرب": إن أول كتاب نشر لابن الهيثم هو ترجمة لجيرار دي كريمونا أشهر المترجمين في أسبانيا "1114-1187"، ثم تبعه الراهب البولوني "فيتلو" عام 1270م، قال فيه: إنه نهج على منهج كتابين في هذا العلم أحدهما لبطليموس القلوذي عالم الأسكندرية الكبير، والآخر لمؤلف عربي عرف باسمه اللاتيني المحرف "الهازن"، وهو الحسن بن الهيثم ثم نشر "رزنر عام 1573 ترجمة لاتينية للأصل العربي لكتاب الهازن، ووسمها بالاسم اللاتيني بما معناه "الذخيرة في علم الأوبطيقي للهازن".
وفي أطروحة الدكتور عبد الحميد صبرة لشهادة الدكتوراه من لندن تحت عنوان "ظريات الضوء من ديكارت إلى نيوتن"، مقارنة بين النص العربي لابن الهيثم منقولًا عن مخطوط الفاتح بالآستانة، وبين الترجمة اللاتينية التي قام بها "رزنر" وفيها يتضح التوافق الكبير، ثم كان كتاب الذخيرة اللاتيني هو عمدة أهل أوروبا في هذا العلم في إبان عصر النهضة، حتى القرن السابع عشر كما سبق، وإلا لما اضطر الناشر إلى نشره بعد أن طبع الناشران "إيباتوس وتانشتتر عام 1535 كتاب "فيتلو" الأوبطيقا.(1/137)
ويقول العالم الأسباني "بويج" في أرشيف التاريخ المذهبي، والأدبي للعصور الوسطى طبعة باريس عام 1930م: إن "روجير بيكون"، قد قرأ الكتب العربية وتأثر بابن الهيثم، وقرر المستشرق الألماني "فيدمان" بعد تحقيقه مخطوط "تنقيح المناظر لذوي الأبصار والبصائر"، ومؤلفه "كمال الدين أبو الحسن الفارس" أن اسم "الهازن"، هو تحريف لاسم الحسن بن الهيثم، وأن "مسألة الهازن" التي كانت تدرس في جامعة كمبردج على يد الأستاذ "باروز" لتلاميذه، ومنهم "إسحاق نيوتن"، هي مما خاض الحسن بن الهيثم من بحوث في علم المناظر، أو موضوع الأبصار الذي كان يطلق عليه باليونانية "أوبطيقا" بمعنى البصريات.
وأول من أطلق في الإسلام اسم المناظر عليه هم المترجمون، الذين نقلوا إلى العربية كتابي أقليدس [تحرير المناظر] ، وبطليموس القلوذي [بصريات بطليموس] ، الذي ترجمه إلى اللاتينية، أوجين البالرمي نقلًا عن العربية عام 1154م.
تطور علم المناظر:
ينابيع هذا العلم عند العرب في عصر الترجمة أربعة:
1- مطارح الشعاع لأرشميدس درسه الكندي الفيلسوف.
2- تحرير المناظر لأقليدس درسه نصير الدين الطوسي، وسبق لي تحقيقه في مجلة معهد التراث لجامعة الدول العربية.
3- بصريات بطليموس وفيها دراسات عن الانعكاس والانكسار، والعلاقات بين زوايا السقوط وزوايا الانكسار.
ومن هذه المصادر نشأت مدارس متعددة للإبصار عند الإسلاميين، يفصلها "أثير الدين مفضل بن عمرو الأبهري"، العالم الإيراني الفيلسوف الذي توفي عام 1263م في كتابه "هداية الحكمة"، حيث يقول: إن مذاهب الإبصار ثلاثة:(1/138)
أولًا: مذهب الرياضيين: وهو أن الإبصار بخروج شعاع من العينيين على هيئة مخروط رأسه عند مركز البصر، وقاعدته عند سطح البصر، ثم إنهم اختلفوا فيما بينهم، فذهب جماعة إلى أن ذلك المخروط مصمت، وذهب جماعة إلى أنه مركب من خطوط شعاعية مستقيمة، أطرافها التي تلي البصر مجتمعة عند مركزه، ثم تمتد متفرقة إلى المبصر.
فما ينطلق عليه من المبصر أطراف تلك الخطوط أدركه البصر، وما وقع بين أطراف تلك الخطوط لم يدركه، ولذلك يخفى على البصر المسافات التي في غاية الدقة في سطوح المبصرات، وذهب جماعة ثالثة إلى أن الخارج من العينين خط واحد مستقيم، فإذا انتهى إلى المبصر يتحرك على سطحه في جهتي طوله وعرضه حركة في غاية السرعة، وتتخيل بحركته هيئة مخروطية.
ثانيًا: مذهب الطبيعيين: وهو أن الإبصار بالانطباع، وهو المختار عند أرسطو وأتباعه كالشيخ الرئيس وغيره، ولأرسطو بحث قائم بذاته عنوانه "الضوء ليس بجسم"1.
قالوا: إن مقابلة المبصر الباصرة توجب استعدادًا تفيض به صورته على الجليدية، ولا يكفي في الانكسار الانطباع في الجليدية، ولا يرى شيء واحد شيئين لانطباع صورته في جليدتي العينين، بل لا بد من تأدي الصورة إلى ملتقى العصبيتين المجوفتين، ومنه إلى الحس المشترك، ولم يريدوا بتأدي الصورة من الجليدية، ومنه إلى الحس المشترك انتقال الغرض الذي هو الصورة، بل أرادوا أن انطباعها في الجليدية معد بفيضان الصورة على الملتقى، وفيضانها عليه معد لفيضانها على الحس المشترك.
ثالثًا: مذهب طائفة الحكماء.
__________
1 نشره الأب شخيو في مجلة المشرق، وسبق لي تحقيقه في مجلة رسالة العلم عام 1975، وقد أرسله الأب شيخو لمؤتمر المستشرقين بباريس عام 1897م.(1/139)
وهو أن الإبصار ليس بالانطباع، ولا بخروج الشعاع الذي في البصر، بل إن الهواء المشف الذي بين الرائي والمرئي، يتكيف بكيفية الشعاع الذي في البصر، ويصير بذلك آلة للإبصار.
هذا المذهب الأخير يرفضه ابن الهيثم، ويدلل1 على بهتانه فيقول:
"وامتداد الضوء في الأجسام الطبيعية هو خاصة طبيعية لجميع الأضواء، لا يصح أن يقال: إن امتداد الضوء في جميع الأجسام المشفة على سموت الخطوط المستقيمة، هو خاصة تخص الأجسام المشفة.
لأن هذا القول الأخير يفسد عن السبر2 والاعتبار، والقول الأول هو الصحيح، وذلك أنه لو كان امتداد الضوء في الجسم المشف هو خاصة الجسم المشف، لكان امتداد الضوء لا يكون إلا على سموت مخصوصة، وليس يوجد الأمر كذلك بل توجد الأضواء في الأجسام المشفة على سموت متقاطعة، ومتوازية ومتلاقية وغير متلاقية في وقت واحد، ومن ضوء جسم واحد.
وذلك أن كل نقطة من الجسم المضيء يمتد منها ضوء على كل خط مستقيم، يصح أن يمتد من تلك النقطة، فالأضواء التي تمتد من نقطتين مفترقتين من النقط التي في الجسم المضيء تكون متقاطعة، أعني أن تكون الخطوط الممتدة من إحدى النقطتين في جميع الجهات متقاطعة للخطوط الممتدة من النقطة الأخرى في جميع الجهات، فإذا حضر في الوقت الواحد عدة من الأجسام المضيئة امتدت الأضواء من كل واحد منها، فتكون الخطوط التي تمتد عليها جميع تلك الأضواء مختلفة الوضع اختلافًا متفاوتًا، ويعرض من ذلك أن يكون امتداد الأضواء في جهات متضادة، إذا كانت
__________
1 الحسن بن الهيثم: سلسلة أعلام العرب رقم 85 للمؤلف.
2 السبر أي الأبطال عند الأصوليين والمتكلمين مسلك عقلي لاكتشاف العلة.(1/140)
الأجسام المضيئة في جهات متضادة بالقياس إلى الجسم المشف، فبطل الاختصاص، ولا يكون في الجسم المشف سموت مخصوصة تؤدي الضوء، ومع ذلك فإن الحركات الطبيعية لا تكون في جهات متضادة، فلو كانت الصورة المؤدية للضوء التي في الجسم المشف تؤدي الضوء على سموت مستقيمة بخاصة تخصها، لكانت لا تؤدي الضوء على سموت واحدة بأعيانها في جهتين متضادتين".
فما يقرر ابن الهيثم قرارًا جازمًا طبقًا لمبدأ الحتمية العلمية بأن الضوء وامتداده، ومن ثم الإبصار ليس خاصة تخص الأجسام المشفة، ولا يتكيف الهواء، وهو الشفيف بكيفية خاصة فتصيره آلة للإبصار، إنما الضوء وله كيان بذاته يمتد في الأجسام المشفة سواء كانت هواء أو ماء أو زجاجًا بصفة واحدة، وكيفية واحدة على سموت الخطوط المستقيمة.
نظام أبدي ثابت للضوء بما هو ضوء، نظام يشترك فيه جميع الأضواء ذاتيها وعرضيها، وليست صفة عارضة تعرض في بعض الأحوال، وتزول في البعض الآخر، وأن امتداد الضوء على السموت المستقيمة ليس من لواحق الضوء نفسه، وليس من لواحق الجسم المضيء الذي يشرق منه الضوء، بل إنه لازمة لا تنفك عن الضوء.
ثم يدلل على صحة كلامه بالتجريب الذي يسميه الاعتبار.
وإن قيل: إن بعض بحوث ابن الهيثم قد سبقه إليها بعض المتقدمين، سبقه أوقليدس مثلًا إلى أخر شطري قانون الانعكاس، وسبقه إلى تقدير عظم المبصر بالزاوية التي يبصر منها، وسبقه بطليموس إلى دراسة الانعطاف نظرًا لاهتمامه بإجراء بعض1 المشاهدات، ولكنه لم يتابعها بل تعجل تعميمها، وأتم جدوله في العلاقة بين زاوية السقوط وزاوية الانكسار،
__________
1 قام بطليموس بالإرصاد في الإسكندرية بين [عامي 127-151م] .(1/141)
ودون مشاهداته في باب من أبواب متنه الكبير "المجسطي"، فإن ابن الهيثم بحسب شهادة جورج1 سارتون، هو الذي عني بعلم المناظر عناية تفوق من سبقوه.
ولم تتحقق القياسات الموضوعية لزوايا السقوط، والانكسار إلا على يد "تيخوبراها" عام 1580م، و"كيلر" 1604م و"كاسيني" الأول عام 1661م على النمط الذي خططه ابن الهيثم.
والذين سبقوا ابن الهيثم إلى شيء في علم البصريات، لم يتخذوا في بحوثهم الاتجاه الصحيح، وصاغوها في قالب هو في تصوري منكوس غير مستقيم، فأوقليدس وبطليموس وأصحاب التعاليم جميعًا، كانوا متفقين في أن الإبصار هو بخروج شعاع من البصر إلى المبصر، كأن العين يمتد منها شيء حتى يلمس المبصر، ومتى يلمس هذا الشيء الممتد من العين إلى المبصر وقع الإحساس.
فهذا الشعاع الخارج من البصر هو في زعمهم، نظير ما يسميه علماء الأحياء في الحشرات2 "قرون الاستشعار"، والذي يدعو إلى الدهشة أن هذه الفكرة التي نتندر بها، بقي أثرها يتردد في الأذهان أجيالًا بعد ابن الهيثم، فإن صداها كان يدوي في فكر "ديكارت" الفيلسوف الفرنسي، إذ يشبه الإنسان وهو يبصر المبصرات بعينيه الاثنتين، بالكفيف الذي يتحسس المحسوسات من حوله، بعصوين يمسكهما في يديه، فالذي ينعكس أو ينعطف عند أوقليدس، أو عند بطليموس أو عند غيرهما من أصحاب التعاليم، وعنوا بدراسة كيفية انعكاسه، أو كيفية انعطافه في كتب المناظر، ليس هو الضوء بالمعنى الذي نفهمه اليوم، بل هو "قرون الاستشعار" الخارجة من العين في زعمهم، ويسمونه "الشعاع" في اصطلاحهم، وإذا
__________
1 العلم القديم والمدنية الحديثة لجورج سارتون ترجمة د. عبد الحميد صبرة 1960.
2 مصطفى نظيف.(1/142)
خرج هذا الشعاع من العين، ووقع على سطح مرآة ثم انعكس، ولمس بعد انعكاسه مبصرًا أبصرته العين بالانعكاس، وغذا هو خرج من العين، ونفذ في الهواء ولقي مشفًا غير الهواء، وانعطف فيه ثم لمس بعد الانعطاف مبصرًا أبصرته العين بالانعطاف، هذه هي فكرتهم جميعًا.
ولما جاء ابن الهيثم، فإنه أعاد من جديد البحث عن كل ذلك، واتخذ وجهة جديدة لم يتخذها المتقدمون، فأحدث ثورة بالغة الأثر في علم المناظر، كما يأتي بعد، ولكنه في تصوري كان معنيًا بصفة أساسية عن كيفية1 الإبصار من اتجاهين في المنهج، أحدهما قال عنه "الإبصار بالجملة"، وهو الاتجاه الذي عرض فيه إلى آلية الأبصار، إي إلى الأبصار من حيث هو أثر آلي يحدث بفعل الضوء، ونسميه "الناحية الفيزيقية"، وقد عالج ابن الهيثم كيفية الأبصار بالضوء الوارد من المبصر إلى البصر.
وذلك في الحالات التي يرد الضوء فيها رأسًا من المبصر إلى البصر، حيث يكون الإبصار "بالاستقامة"، وفي الحالات التي يرد فيها الضوء إلى البصر منعكسًا عن السطوح الصقيلة، واعتبر فيها بالسطوح المستوية، ثم الكرية والأسطوانية والمخروطية، المحدبة منها والمقعرة، حيث يكون الإبصار بالانعكاس، وفي الحالات التي يرد فيها الضوء إلى البصر منعطفًا في الأجسام المشفة عند السطوح المستوية والكرية، والأسطوانية المحدبة والمقعرة، حيث يكون الإبصار "بالانعطاف من وراء الأجسام المشفة".
أما الناحية الأخرى فهي التي عرض ابن الهيثم فيها إلى كيفية إدراك البصر لصفات، وكيفيات ولواحق تتعلق بالمبصر مثل إدراك بعده وعظمه، وتجسمه وشكله وما إلى ذلك من أمور يسميها، المعاني المبصرة الجزئية، وضمن مباحثه في هذه الناحية الأغلاط التي تعرض في الإبصار، وعللها، وشروط الإبصار المحقق السليم، ونسمي هذه الناحية "السيكلوجية"2.
__________
1 مصطفى نظيف.
2 مصطفى نظيف.(1/143)
واتسعت قنوات البحث عند ابن الهيثم، فشملت بحوثًا ودراسات عن كثير من الظواهر الضوئية الأساسية، مثل كيفية إشراق الأضواء في الأجسام المضيئة بذاتها، ومن الأجسام المستضيئة بغيرها، وكيفية امتداد الأضواء، وكيفية انعكاسها، وكيفية انعطافها، واستقراء الأحكام الخاصة بذلك، والتدليل بالبرهان الهندسي، والاستدلال بالقياس إلى النتائج التي تفضي إليها، وهي جميعًا بحوث ودراسات عن خواص الضوء في ذاته، غير أن العناية بها في كتاب المناظر، كانت من أجل علاقاتها بموضوع الإبصار، لذلك نجد أن المقالات1 السبع التي يشتمل عليها الكتاب، والتي فصلت فيها تلك الظواهر، وأحكمت دراستها، جعل ابن الهيثم عنواناتها تعرب عن معان تتعلق بأحوال البصر، لا بالضوء في ذاته، فالأولى مثلًا في كيفية الإبصار بالجملة، والثانية في تفصيل المعاني التي يدركها البصر، وعللها وكيفية إدراكها، والثالثة في أغلاط البصر فيما يدركه على استقامة وعللها، وبمثل هذا في سائر المقالات، حتى أن المقالة الرابعة التي يبحث فيها عن كيفية إنعكاس الضوء جعل عنوانها "في كيفية إدراك البصر بالانعكاس على الأجسام الصقيلة، والمقالة السابعة التي يبحث فيها عن انعطاف الضوء، جعل عنوانها "في كيفية إدراك البصر بالانعطاف من وراء الأجسام المشفة".
ومما يدل أيضًا على أن عناية ابن الهيثم بالظواهر الضوئية التي عالجها في كتاب المناظر، كانت من أجل علاقتها بموضوع الإبصار، أن له بحوثًا أخرى في موضوعات ضوئية، أفرد لها مقالات2 مستقلة عن كتاب المناظر منها مقالات في الضوء، وفي ضوء القمر، وفي مائية الأثر الذي على سطح القمر3، وفي أضواء الكواكب، وفي الأظلال وصورة الكسوف، والمرايا المحرقة بالداشرة، والمرايا المحرقة بالقطوع، والكرة المحرقة والأثرين، وكلها تعالج ظواهر في الضوء، كل هذه البحوث لم يعرض لها في كتاب المناظر الذي استنفد فكرته عن الأبصار من ناحيته الفيزيقية، والميكانيكية والسيكلوجية.
__________
1 مخطوط المناظر -حيدر آباد الدكن.
2 مقالات أخرى لابن الهيثم -حيدر آباد الدكن.
3 مخطوط ببلدية الأسكندرية حققه د. صبرة في مجلة معهد التراث العلمي بحلب.(1/144)
مباحث الأبصار بين ابن الهيثم، والفيلسوف "بركلي":
صدر في عام 1709م كتاب جديد بعنوان "نظرية جديدة في الأبصار" لرائد مذهب الأيديالية الفيلسوف "بركلي"، تناول فيه بإسهاب آراءه في كيفية إدراك البصر1 لكل واحد من المعاني الثلاثة: البعد والعظم والوضع، وذلك بعد انتشار الترجمة اللاتينية لكتاب المناظر لابن الهيثم، وبركلي فيلسوف وليس بعالم، والمطلع على كتابه بلحظ أن المعاني التي تتضمنها أقواله في إدراك البعد، وإدراك العظم، تنتظمها فكرة أساسية، هي هي الفكرة التي بنى عليها ابن الهيثم أقواله وشروحه في الموضوع.
فهي بلغة ابن الهيثم "أن الإبصار ليس مجرد انطباع حسي، وإنما هو انطباع حسي مع قياس، وتمييز بالمعاودة والتكرار إلى معرفة".
وهي بلغة "بركلي" أن الإبصار هو استدلال من الخبرة يحدث بتوسط حاسة البصر.
وفي إدراك البعد يقول "بركلي":
"إن البعد بما هو بعد لا يرى رأسًا من غير واسطة، فهو خط مستقيم يمتد أمام البصر، لا يدرك البصر معه إلا نقطة الطرف، وهي هي لا تتغير مهما طال البعد أو قصر".
وإدراك العظم في نظره، مثل إدراك البعد، يتوقف على الخبرة، ومما يقوله في هذا:
__________
1 مصطفى نظيف.(1/145)
"إن تقدير عظم المبصر شأنه كشأن تقدير بعده، يتوقف على وضع البصر منه، وعلى أشكال الأجسام وتعددها ومواضعها، وسائر مناسباتها التي تدل الخبرة على أنها تتعلق بالعظم الملموس صغيره وكبيره".
أما ابن الهيثم، فيدرك أن شيئًا موجودًا بالفعل في الأجسام هو الذي يدرك بالبصر، وله في ذلك قول صريح استهل به أقواله عن كيفية إدراك هذه المعاني قال:
"البصر لا يدرك شيئًا من المعاني المبصرة إلا في الجسم، والأجسام تجمع معاني كثيرة، ويعرض لها معان كثيرة والبصر يدرك منها كثيرًا من المعاني".
وموقف "ابن الهيثم" في موضوع الإبصار يختلف عن موقف "بركلي" في الموضوع نفسه، فهو يتميز بالنظرة الموضوعية، البعد والعظم والوضع: معان يرى ابن الهيثم أنها توجد في الأجسام، ويتم إدراكها وإدراك سائر المعاني الجزئية المبصرة.
أما "بركلي" فنظرته شخصية، يرى أن الخبرة تدل على أن مدركات معينة تدرك باللمس يصاحبها مدركات معينة تدرك بالبصر، وفي نظره هي مدركات ذهنية لا وجود لها في الخارج، ويرى أن العقل يربط بالخبرة بين المعنى المبصر، والمعنى الملموس الذي يصاحبه.
وهذه الاستدلالات هي التي وصلته إلى فسلفته الإيديالية، فالمعارف الإنسانية هي صور أو معان تدرك مباشرة بالشهود أو بالتذكر، ووجودها جميعًا ذهني، وليس لها مدلول عيني في الخارج.(1/146)
الضوء له سرعة:
أثبت ابن الهيثم أن الضوء ليس آنيًا، أي أن انتقاله في الوسط المشف لا يكون دفقة واحدة وفي غير زمان، بل يستغرق زمانًا محدودًا بسرعة محددة ويقول بلفظه:
"إذا كان الثقب مستترًا، ثم رفع الساتر فوصول الضوء من الثقب المقابل، ليس يكون إلا في زمان، وإن كان خفيًا على الحس".
واعترض "ديكارت" عام "1596-1650م" أي بعد وفاة ابن الهيثم بأكثر من خمسماية عام على نظرية ابن الهيثم، وقال: "إن مادة الهواء ممتدة من الثب حتى السطح المقابل للثقب، حيث يرى الضوء منعكسًا كعصا الضرير إذا لمس الشيء طرفها، أحس به في الطرف الآخر في التو دون زمان.
لكن تحقق الحدس الظني الذهني لابن الهيثم قبل الربع الأخير من القرن السابع عشر، ثم حققت التجارب بعد ذلك في منتصف القرن التاسع عشر، أن للضوء سرعة مقدارها 300 ألف كيلومتر في الثانية، وضوء الشمس يصل إلينا منها في سبع دقائق.
ثمة موضوع آخر افتراضه "هوبجنز" العالم المعاصر لديكارت، إذ يقول: إن الضوء ينشأ عن اهتزاز أجزاء الجسم المضيء، فتحمل المادة الأثيرية آثار هذه الاهتزازات إلى مسافات لا حد لها، وذلك كما ترى حين تصطدم كرة متحركة بالكرة الأولى في سلسلة من الكرات المتلاصقة في خط مستقيم.
لا فضل لهوبجنز في ذلك إذ أن ابن الهيثم يفترض في كتابه المناظر هذا التصور، فيقول بلفظه:
"إن الضوء يشرق من كل نقطة من كل جسم مضيء في الجسم المشف المتصل به إشراقًا كريًا"، ومعنى الإشراق1 الكري ليس سطحيًا كما يظن بادئ ذي بدء، فابن الهيثم يريد القول بأن النقطة من سطح الجسم المضيء، سواء كان ضوؤه ذاتيًا أو عرضيًا مستمدًا من غيره لا يشرق منها
__________
1 مصطفى نظيف.(1/147)
الضوء إلى جهة خارج الجسم فحسب، بل يشرق منها ضوء إلى جهة باطن الجسم أيضًا بقدر ما يسمح به امتداد الوسط المشف، من وراء النقطة المضيئة إلى تلك الجهة، وهو ما نراه في الانعكاس أو الانكسار، الانعكاس من السطوح الصقيلة أو الانكسار داخل وسط شفيف آخر.
موضوع ثالث هو التجريب الذي قام به ابن الهيثم لإثبات قانون الانعكاس بشطريه، لقد كان يسعى إلى انتخاب كرات صلدة من الحديد أو النحاس، ثم يسقطها من ارتفاعات مختلفة ليرى مقدار ارتدادها، أو يقذف بها فوق سطح صقيل وضع رأسيًا فوق حائط، في المرة الأولى كان سطح الصقيل أفقيًا فوق الأرض، وكان يستخدم قوسًا في الحالة الثانية، ثم يشاهد كيف يكون الانعكاس مع اختلاف لزوايا السقوط، ويقول بلفظه:
"فالضوء إذا لقي جسمًا صقيلًا فهو ينعكس عنه من أجل أنه متحرك، ومن أجل أن الجسم الصقيل يمانعه، ويكون رجوعه في غاية القوة؛ لأن حركته في غاية القوة؛ ولأن الجسم الصقيل يمانعه ممانعة في الغاية".
تمثل ديناميكي لقوانين الانعكاس ثم الانكسار، ومشروع تصوري لابن الهيثم بأن للضوء حركة ودفعًا، ويحلل الضوء الساقط إلى قسطين متعامدين أحدهما عمودي فوق السطح الصقيل والآخر مواز له، ثم يثبت هندسيًا أن زاوية السقوط تساوي زاوية الانعكاس بعد تركيب القسطين المنعكسين بعد الارتداد إلى محصلة هي الشعاع المنعكس، ولكنه فشل في الوصول إلى قاعدة الجيب للانكسار؛ لأنه كان معينًا بزاوية الانعطاف لا الانكسار.
من هذه التجارب التي يقول عنها ابن الهيثم الاعتبار استنبط "إسحاق نيوتن" في القرن السابع عشر نظريته عن الضوء، وهي نظرية الجسيمات، فالضوء بحسبه يتركب من دقائق متناهية في الصغر أطلق عليها الجسيمات، وهي حين تنتشر تصطدم باأجسام الصقيلة، أو تنكسر في الأجسام المشفة،(1/148)
فينتج عن ذلك الإحساس فوق شبكية العين.
نظرية ديناميكية استقى أصولها من ابن الهيثم، ومن افتراضات علماء الكلام عن الجوهر الفرد، فالمادة وأعراضها بحسبهم تتركب من أجزاء متناهية في الصفر أطلقوا عليها لفظ الجوهر الفرد، والضياء عندهم هو من أعراض المادة.
الضوء عند ابن الهيثم يمثل انتشاره بكرات صلدة، وعلماء الكلام يمثلونه في تكوين عناصره من الجوهر الفرد، وإسحاق نيوتن يقوم بتخريج هذا الهجين إلى نظرية جديدة هي نظرية الجسيمات للضوء.(1/149)
كمال الدين الفارسي:
تتلمذ على يد أستاذ جيله قطب الدين الشيرازي، وهذا بدوره قد تتلمذ على يد نصير الدين الطوسي عالم المراغة الكبير، والمستشار العلمي لهولاكوخان زعيم التتار، والذي سبق أن قلنا عنه: إنه مؤلف "تحرير المناظر لأوقليدس". وعاش الفارسي حتى أوائل القرن الرابع عشر الميلادي، وله مؤلف في علم الضوء سماه "تنقيح المناظر لذوي الأبصار والبصائر"، عثر عليه المستشرق الألماني "فيدمان" عام 1876 في مكتبة ليدن ونشر موجزًا عن محتويات الكتاب في رسالة عن مناظر ابن الهيثم نشر في عام 1910م، وللكتاب مخطوطات في بعض مكتبات استانبول والهند، وبدار الكتب المصرية مصور أو اثنان لإحدى مخطوطاته، وله نسخة مطبوعة نشرتها دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن1.
وحقق بعض فصول منه الأستاذ الكبير مصطفى نظيف.
ثم لخصه كل من الدكتور محمود مختار، والأستاذ مصطفى عوضين
__________
1 الجمعية المصرية لتاريخ العلوم عام 1958.(1/149)
حجازي في مجلة البحث العلمي، والتراث الإسلامي العدد الأول عام 1398هـ، بالمملكة العربية السعودية -جامعة الملك عبد العزيز بعنوان "ابن الهيثم والفارسي" مؤسسا علم البصريات.
ولقد جعل الفارسي لكتابه خاتمة وذيلًا ولواحق، أما الخاتمة فقد أورد فيها مباحث له في الانعطاف إتمامًا من عنده لما ورد في المقالة السابقة من كتاب ابن الهيثم، أما الذيل فخصصه لموضوع قوس قزح والهالة، أما اللواحق فهي ثلاث مقالات لابن الهيثم، في "الإظلال" و"صورة الكسوف" و"الضوء" وإضافات الفارسي في بحوث الضوء قد بدأت حيث انتهى ابن الهيثم، رغم امتداد الشقة بينهما، إذ تبلغ أكثر من ثلاثمائة عام تقريبًا، لم يسجل التاريخ فيها جديدًا على ما تركه ابن الهيثم في العالم الإسلامي أو الغربي، ومن بين هذه الإضافات موضوعات طرقها ابن الهيثم، واستكملها الفارسي في دراساته: منها "نظرية الإبصار"، وأحكام الانعطاف، ومباحث الكرة المحرقة.
ومما يجدر بالذكر هنا بصفة خاصة، ما أضافة الفارسي إلى بحوث ابن الهيثم في حقيقة كنه قوس قزح والهالة، فبعد أن لخص الفارسي قول ابن الهيثم فيها، ذكر أنه لم يقتنع بها، ونقدها وبين مواضع الضعف فيها، ثم قال: إنه درس أقوال ابن سينا في تكوين القوس والهالة من انعكاسات من سطوح قطرات الماء واهتدى با، ثم يقول أيضًا:
"أما اختياره، أعلى الله درجته، [ويعني ابن سينا] ما يصلح أن يكون سببًا لحدوث القوس أن يكون رشا، فما أصوب حدسه وأدق نظره فيه، وبذلك هدينا إلى أمر هذه الآثار".
ويلاحظ أن النظرية الحديثة في قوس قزح تنسب عادة إلى ديكارت [1596-1650م] وذلك؛ لأنه علل في كتاب له في الانعطاف حدوث قوس قزح على هيئة قوسين، بأن الابتدائية تحدث عن نفوذ ضوء الشمس من(1/150)
قطرات الماء الصغيرة بعد انعكاسه فيه مرة، وأن الثانوية تحدث عن نفوذه بعد انعكاسه فيها مرتين، وهذا تخريج لنظرية الفارسي.
ومما يذكر للفارسي بالتقدير كذلك، بحوثه في التفاريع [أي تكون الألوان بالانكسار] ، حيث يقول عنها: "إنها ألوان مختلفة متقاربة فيما بين الزرقة والخضرة والصفرة والحمرة، والدكنة تحخدث من صور نير قوي، وإرادة إلى البصر بالانعكاس والانعطاف، أو بما يتركب منهما".
ويقول الفارسي عن تدرج الألوان ما نصه:
"وأما حدوث الألوان بين البياض والسواد فلها طرق كثيرة تتدرج في سلوكها المتحرك من البياض على السواد، منها طريق إلى الصفرة يصير أولًا بمخالطة الكثافة والنور المقابلين:
تبنيًا ثم أترجيا ثم زعفرانيًا ثم نارنجيًا ثم ناريًا، ثم يزداد فيها الميل إلى السواد بحسب ازدياد الأجزاء الكثيفة، ونقصان النور حتى يصير أسود، ومنها طريق في الحمرة يصير أولًا ورديًأ ثم شقايقيًا، ثم أرجوانيًا، ثم بنفسجيًا.
ومنها طريق في الخضر، يكون فستقيًا، ثم كراثيًا، ثم زنجاريًا، ثم جوزيًا، ثم باذنجيًا، ثم نفطيًا.
ومنها طريق في الزرقة يكون اسمانجونيًا، ثم فيروزجيًا، ثم لاجورديًا، ثم نيليًا، ثم كحليًا"، هلا رأيتم مثل هذه الدقة في وصف الألوان!
وفي الخاتمة نردد هنا أنه لولا وجود ابن الهيثم، ثم الفارسي لتأخر نمو علم الضوء في أوروبا، كما تأخر علم الكهرباء.(1/151)