البلاغ المبين
تأليف فضيلة الشيخ
عبد المجيد يوسف الشاذلي
http://www.alshazly.net/
الجزء الأول
تصدير
يقول الله - عز وجل -:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ - وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ - إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ - وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لاَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ - وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأْرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ - وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } (1) صدق الله العظيم.
المقدمة
__________
(1) الأنفال، آيات: 20-29.(1/1)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أدى الأمانة وبلَّغ الرسالة ونصح للأمة وتركها على المحجَّة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلاَّ هالك.
أما بعد...
فهذه آيات بينات من كتاب ربنا عزَّ وجلّ بين يدي هذا الكتاب أعتصم بها من الضلالة والغواية في وقت تتتابع فيه الفتن كقطع الليل المظلم يرقق بعضها بعضًا يُمسي فيها المرء مؤمنًا ويُصبح كافرًا، ويصبح مؤمنًا ويمسي كافرًا يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا، تزيغ فيه القلوب عن الحق بعد ما تبيّن لقلة الصبر على وعثاء الطريق وبُعد السفر وبطش العدو وحيله ومكره وتمكنه وعلوه وقهره... فتضعف القلوب عن الثبات على الحق والاعتصام بالهدى، وتبحث عن المخارج والتأويلات والاجتهادات والتوفيقات والتلفيقات تعايشًا مع الواقع وهروبًا من المواجهة وخداعًا للنفس.(1/2)
يقول ربُّنا - عز وجل -: { وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين - وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ - فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الأْخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ - بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ - سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ } (1).
ويقول - سبحانه وتعالى -: { قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأْرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ - وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ - وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأْرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } (2).
__________
(1) آل عمران، آيات: 146-151.
(2) الأنعام، آيات: 71-73.(1/3)
ويقول المولى - عز وجل -: { يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ - الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ - الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ - فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ - وَلاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الأْخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ - إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْكُفْرَ بِالإيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ - وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ - مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } (1).
__________
(1) آل عمران، آيات: 171- 179.(1/4)
ويقول الله - عز وجل -: { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير } (1)، ويقول - عز وجل -: { وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالأْخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (2)، ويقول - عز وجل -: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ - وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } (3)، ويقول - عز وجل -: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ - وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (4)، ويقول - عز وجل -: {
__________
(1) البقرة، آية: 109.
(2) البقرة، آية: 217.
(3) آل عمران، الآيتان: 71-72.
(4) آل عمران، آيات: 99-102.(1/5)
وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } (1)، ويقول ربُّنا - عز وجل -: { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُنِيرٍ - ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ - ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَمٍ لِلْعَبِيدِ - وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالأْخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ - يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ - إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأْنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ - مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالأْخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ } (2).
__________
(1) هود، آية: 113.
(2) الحج، آيات: 8-16.(1/6)
ويقول - سبحانه وتعالى -: { وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقّ } (1)، ويقول - عز وجل -: { إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ - ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأْمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ - فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ - ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُم } (2).
قد أخذ علينا ربُّنا عزَّ وجلَّ الميثاقَ أن نبيَّن الحقَّ ولا نكتمه ولا نلبس الحقَّ بالباطلِ وألا نَقْلِبَ الحقائق ولا نشتري بآياتِ الله ثمنًا قليلاً ولا نخشَي في الله لومةَ لائمٍ وأن نظل قوامين لله شهداء بالقسط وذلك بالبلاغ والبيان في مواقف الإشهاد بين الناس.
يقول الإمام أحمد - رضي الله عنه - (3): «الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون مَنْ ضلَّ إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى ويبصّرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه وكم من ضال تائه قد هدوه فما أحسن أثرهم على الناس وما أقبح أثر الناس عليهم ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة فهم مخالفون للكتاب مختلفون في الكتاب مجتمعون على مفارقة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهَّال النَّاس بما يشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتن المضلين».
__________
(1) غافر، آية: 5.
(2) محمد، آيات: 25-28.
(3) مجموع الفتاوي، ج4، ص15.(1/7)
والمسألة بوضوح أن الغرب الصليبي يضيق بمن يُسميهم الأصوليين تارة أو المتطرفين والمتشددين تارة أخرى الذين يرفضون العلمانية والقومية وفصل الدين عن الدولة باعتبار أنها تمثل رغبة عن شرع الله إلى غيره مع إباحة المحرمات واتخاذ الوليّ من دون الله... وكل هذا من الكفر والشرك الذي يتنافى مع الإيمان والإسلام، والذين يُطالبون بالعودة إلى ما كان عليه القرون الثلاثة الأولى قبل تشعب الأهواء ونشأة الفرق وعلم الكلام، واختلاط مباحث العقيدة بمذاهب الفلسفة، وهو ما قال عنه الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه -(1): «أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -».
وهذه القضايا التي نتكلم فيها هى من المسلمات الشائعة في هذه الأصول ومن المعلوم من الدين بالضرورة عند عوام المسلمين، وكان أئمة الخير والحق يرشدون الناس ممن يغويهم علم الكلام ومباحث الفلسفة بترك هذه الأمور والعودة إلى دين العوام الذي تواتر لهم بالقول والعمل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى التابعين وتابعي التابعين حتى عصر الأئمة المجتهدين.
جاء في سنن الدارمي(2): أخبرنا محمد بن يوسف عن سفيان عن جعفر ابن برقان عن عمر بن عبد العزيز قال: سأله رجل عن شيء من الأهواء؟ فقال: عليك بدين الأعرابي والغلام في الكتاب والْه عما سوى ذلك.
وروى الدارمي أيضًا(3): أخبرنا يحيي بن حسان حدثنا عبد الله بن إدريس عن إسماعيل ابن أبي حكيم قال سمعت عمر بن عبد العزيز يقول: ”من جعل دينه غرضًا للخصومات أكثر التنقل“. وهذا أبو المعالي الجويني من أقطاب علم الكلام يقول عند موته: ”وددت لو أموت على دين عجائز نيسابور“(4).
__________
(1) سنن الدارمي.
(2) سنن الدارمي، طبعة المغني، الرياض، ج1، ص 343.
(3) المصدر السابق، ج1، ص 242.
(4) مجموع الفتاوى، ج4، ص73.(1/8)
ولكن جرثومة الإرجاء الخبيثة التي كمنت في تراث الخلف خلافًا لما كان عليه السلف مع أهواء معاصرة فيما يسمى بالصحوة الإسلامية أعطت الفرصة لأجهزة القمع أن تطرح الصفقة على من يريد أن يعمل في الساحة الإسلامية وأن ينتشر دون تضييق الخناق منهم على أن يتحرك في نطاق المسموح وأن يتجنب القضايا الساخنة وأن يواجه الأصوليين(1) ويُبدّعهم ويُفسِّقهم ويحذِّر الناس منهم ويُشغِّب عليهم حتى يلتبس الحق بالباطل ويكتم الحق ولا يصل إلى الناس.
فرضَوا بهذه الصفقة واطمأنوا بها، وهذا من حرب الدين بالدين، وهذا دور أجهزة القمع في تفاهماتها مع الساحة الإسلامية استجابة لتوجيهات حكوماتها التي تستجيب بدورها لتوجيهات الغرب الصليبي ـ وهو ما يسمونه الآن بعد حرب الخليج ”الشرعية الدولية“ و”الخط الدولي“ ـ بعد سقوط روسيا والكتلة الشرقية وخضوع دول العالم الثالث التي ترزح تحت التخلف والتبعية والديون والمجاعات. وإذعان أهل الإسلام وغياب صحوة الإسلام السياسية التي أثارها سيد قطب والمودودي والدكتور محمد محمد حسين وأمثالهم وبزوغ الإرجاء والعقلانية لهدم الأصولية بتحريف الكلم عن مواضعه. والخروج من كل أهداف ومواقف المواجهة مع العلمانية والتبعية للاستعمار الغربي الصليبي… وهكذا تسعى أوروبا وأمريكا أن تؤخر الوراثة الإسلامية للحضارة بديلاً عن الغرب المتداعي بالإيدز والإباحية والتصدّع الأخلاقي والاجتماعي بل والاقتصادي والسياسي إن لم يكن لأوروبا الآن فهو لأمريكا على الأقل رغم كل مظاهر القوة والجبروت.
ولهذا وبالرغم من كل هذه التحديات والمواجهات الصعبة التي تتهاوى لها الجبال لا مناص من الوقوف مع الحق وإن كرهَ الكافرون... وإنْ كره الكافرون… وإنْ كره الكافرون، واللهُ غالبٌ على أمره وسوف ينتصر الإسلام ويظهره الله على الدين كله ولو كره المشركون.
__________
(1) كما يُسَمُّونَهم.(1/9)
يقول تعالى: { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ } (1)، ويقول - عز وجل -: { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ - وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا - فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } (2).
تمهيد
يتناول هذا الكتاب موضوع الإسلام والإيمان والتوحيد والشرك والحد الفاصل بين الإيمان والكفر وتأثير العوارض من إكراه وخطأ وتأويل وجهل وعته وضعف إدراك، إضافة إلى أهل الفترات والولدان. ثم ينتقل بعد ذلك إلى أحكام الديار وأوضاعها و الأقوال فيها والأحكام في واقعنا المعاصر وما يترتب عليها من فقه حركة وأهداف دعوة وشرعيات وتصحيح مفاهيم متعلقة بالجذور التاريخية وواقع الصراع السياسي المعاصر.
لينتقل إلى الرد على الشبهات تفريطاً و إفراطاً؛ استقامة على الجادة وتمسكاً بالدين القيم والعروة الوثقى، وقد استهدف الكتاب الرد على بدع الإرجاء منذ بزوغها إلى يومنا هذا، ولم أشأ أن أجعل هذا الرد منفصلاً، فجاء في ثنايا الكتاب من المقدمة إلى نهاية الكلام عن الإرجاء وبداية الرد على الغلو والإفراط.
? ولقد بدأت مواجهة الإرجاء من الإمام الشافعي والإمام أحمد وشيوخهما وتلاميذهما، فكانت هذه المواجهة لتقرير أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص. وقد تقرر هذا والحمد لله.
__________
(1) إبراهيم، آية: 27.
(2) سورة النصر.(1/10)
? ثم انتقلت إلى المرحلة الثانية على يد الإمام ابن تيمية والإمام ابن القيم وتلاميذهما، فكانت هذه المواجهة لتقرير أن التوحيد توحيدان: توحيد في الربوبية، وتوحيد في الألوهية، وأنه لابد للمسلم ليكون مسلماً من الأصلين معاً وهما الإيمان والإسلام، وأن الإيمان بمعناه الخاص هو توحيد الربوبية وهو التوحيد في الخبر والعلم والمعرفة، وأن الإسلام بمعناه الخاص هو توحيد الألوهية وهو التوحيد في الإرادة والقصد والطلب، ولابد من ترك الشركين الأعظمين: شرك الاعتقاد وشرك العبادة، وان المسلم لا يمكن أن يكون مشركاً بأي حال من الأحوال، ثم يبقى مسلماً، وأن المشرك ليس مسلماً بأي حال من الأحوال لتنافي الحقيقتين؛ { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ } (1)، وأن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة ولا يدخلها إلا نفس مؤمنة.
? ثم جاءت المرحلة الثالثة من المواجهة مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتلاميذه ومدرسته، فقال له ولهم علماءُ المشركينَ ـ كما كان يسميهم الشيخ رحمه الله*ـ
لا نقول شيئاً فيمن قال لا إله إلا الله وإن قال ما قال وفعل ما فعل.
أن شيخ الإسلام ابن تيمية لا يُكَفِّر مرتكب الشرك الأكبر إذا كان جاهلاً.
أن شيخ الإسلام ابن تيمية لا يُكَفِّر المعين.
أن مرتكب الشرك الأعظم لا يَكْفُر به إذا كان حريصاً على الانتساب إلى الإسلام، ويؤدي الفرائض وبعض الأعمال الصالحة.
أن مرتكب الشرك الأعظم لا يكفر به ليس فقط إذا كان جاهلاً بل أيضاً إذا كان مقلداً أو متأولاً، ولا يكفر إلا المعاند.
أن قول لا إله إلا الله حصانة من الكفر لمرتكب الشرك الأعظم.
__________
(1) آل عمران، آية: 67.
* المراجع داخل الكتاب لكل ما ذكر في المقدمة(1/11)
ثم جاءوا إلى البدعة الشنيعة والفرية العظيمة وهو ما ذكره شيخ الإسلام عنهم في كتابه”مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد“، وهو أن الشرك الأكبر لا يكفر به إلا من أنكر الإسلام جملة وكذّب الرسول والقرآن واتبع يهودية أونصرانية أو غيرهما. ويقول شيخ الإسلام ابن عبد الوهاب في الرد عليهم «فإذا كان من انتسب إلى الإسلام لا يكفر إذا أشرك الشرك الأكبر لأنه مسلم يقول لا إله إلا الله ويصلي ويفعل كذا وكذا، لم يكن للشرك وعبادة الأوثان تأثير بل يكون ذلك كالسواد في الخلقة أو العمى أو العرج فإن كان صاحبها يدعي الإسلام فهو مسلم، وإن ادعى ملة غيرها فهو كافر، وهذه فضيحة عظيمة كافية في رد هذا القول الفظيع... إلخ». وقد تولى الشيخ وتلاميذه ومدرسته الرد على هذه البدع كلها في إطار دعوتهم إلى التوحيد.(1/12)
? ثم جاءت المرحلة الرابعة من المواجهة، فانطلقت أبواق الإرجاء في السبعينيات من القرن الماضي بكل أقوال المرجئة في القديم البعيد والقديم القريب، وفي التسعينات من القرن الماضي؛ نبغت بدعة تأسست على ما وصفه شيخ الإسلام ابن عبد الوهاب بالفضيحة العظيمة والقول الفظيع، تقول إن البراءة الإجمالية من الشرك، والإقرار الإجمالي بالتوحيد. حصانة من الكفر لمرتكب الشرك الأكبر، وأنه لا يكفر حتى ينقض عقد الإسلام، ولا يكفر بمفردات الشرك الأكبر، وأن مرتكب الشرك الأكبر لا يكفر به إلا بعد أمرين: الأول أن يتبين له أنه شرك أعظم، والثاني: أن يبقى بعد ذلك مصراً عليه عناداً لربه ونقضاً لميثاقيه معه بالبراءة الإجمالية من الشرك والإقرار الإجمالي بالتوحيد. ولكن إذا أتى الشرك الأكبر بعد ما تبيَّن له أنه شرك أكبر على وجه الضعف البشري وتغليباً للأهواء والمصالح وليس على وجه العناد ونقض الميثاق فإنه لا يكفر بالشرك الأكبر، ويكون شأنه شأن المعاصي حتى يأتيه على وجه العناد ونقض الميثاق ليس إلاَّ (1).
__________
(1) حسبما تحمله الألفاظ من معاني وربما يكون مقصود أصحابها دون ذلك. والله سبحانه و تعالى أعلم(1/13)
وبعد بداية القرن الحالي (سنة ألفين) وعودة الوجه الاستعماري القبيح وفرض التعايش وثقافة السلام وتجديد الخطاب الديني على المسلمين وتفكيك الدولة القومية واختراق السيادة الوطنية، وتفتيت المفتت، وتجزئة المجزأ... ركز رموز العولمة والعاملون في خدمتها على إحياء المدرسة التأويلية والتخلص من المدرسة النصوصية ووصفها بالسلفية على سبيل الذم، ووصمها بالتخلف والجمود، وأن المدرسة التأويلية هى الاتجاه العقلاني العصراني الذي سينقل المسلمين إلى مواكبة الحضارة وإلى أن يعيشوا العصر وثقافته وآلياته، وللمسلمين تراث في ذلك، هو تراث المعتزلة فرسان العقل، وتراث الفلسفة الإسلامية وفلسفة التصوف الإسلامي، التي أفادت الغرب في وثبته الحضارية، وهذا التراث هو الذي يُمْكِنُ أن يُكَوِّن عوامل ثقافية مشتركة، تقربهم إلى الغرب المسيحي.
ومخططو الغرب يعلمون من دراستهم الإستشراقية سيكولوجية الشيعة، واقترابها من سيكولوجية الكاثوليك، بعصمة المرجعيات الدينية هنا وعصمة الإكليروس هناك، ويعلمون سيكولوجية السنة واقترابهم من سيكولوجية الإنجيليين، برفضهم للكهنوت هنا وهناك. ومن ثمَّ ركزوا على وضع التأويل في يد المرجعيات عند الشيعة، وفي تحويل الإسلام إلى دين فردي عند السنة، كما هو الشأن عند الإنجيليين.
ومن ثمَّ برزت الدراسات عند السنة بتعريف المصالح المرسلة بالاستحسان المجرد وأحيوا ما يقوله الطوفي وغيره في هذا الشأن للاستئناس به. وبتخصيص الشرع بالعقل. وبإمكان استلهام روح الشريعة ومقاصدها الكلية دون النصوص الجزئية. وأن كل مجتهد مصيب كما يقول الجاحظ ـ وإن لم يكن من أهل السنة ـ وأن المتأول المخطيء مغفور له خطؤه كائناً ما كان. وهذا كله من الباطل الذي يجادلون به لدحض الحق. ومما لاشك فيه أن الفتوى والفقه يتغيران بتغير الزمان والمكان والظروف والملابسات، ولكن لابد من أمرين:
التمسك بالنصوص كلية وجزئية.(1/14)
فهم النصوص والاجتهاد عليها حسب قواعد أصول الفقه.وإلا كان الزيغ والضلال.
وفي إطار هذه الدعوة الإرجائية، تقارب مع الأنظمة والتوجهات العلمانية بدعوى إزالة التعارض بين الديمقراطية والإسلام، كما تقول أحزاب العدالة والتنمية في العالم الإسلامي للدخول في تعدديات علمانية، على أساس ان العلمانية نظام دولي لا يمكن تجاوزه.
وتنطلق الأبواق لتأكد هنا وهناك ـ على طول وعرض العالم الإسلامي من المغرب إلى تركيا إلى الشرق الأوسط إلى وسط آسيا إلى الشرق الأقصى ـ أن الرغبة عن شرع الله إلى غيره كفر دون كفر، وليست بأي حال كفراً ينقل عن الملة وأن موالاة الكافرين ليست كفراً ينقل عن الملة، بل وليست حراماً، بل إنها تكون مستحبة أحياناً، وواجبة أحياناً أخري ـ خلافاً لما يؤكده القرآن الكريم في سياقاته المتعددة ـ أما من اتخذوا من دون الله أولياء يقربونهم إلى الله زلفى، فما قصدوا غير عبادة الله وإن أخطأوا في التوجه... هكذا!!! ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولا بأس من انتهاج سياسات عملية يحصل من خلالها التكيف مع الواقع، ولكن معرفة الحق المجرد بعيداً عن الالتباسات وبعيداً عن الإفراط و التفريط أمر واجب لتحديد صلة الإنسان بربه سبحانه وتعالى وهو كذلك أمر عملي يساعد كثيراً في الخروج من النفق المظلم والركوع الذليل.
وفي إطار هذه المواجهة الرابعة جاء هذا الكتاب كإسهام متواضع في ركب مضيء.
ولقد راعيت في هذا الكتاب خمسة أمور:
صحة الاستدلالات وأن تكون على منهاج أهل السنة في البحث والاستدلال.
صحة المسائل وأن تأتي موافقة لتوحيد الأئمة وسلف الأمة وما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة.
أن يأتي العرض مرتباً على حسب تسلسل المعاني، وإفضائها بعضها لبعض من أول الكتاب حتى آخره، وأن يتم التبويب والعنونة الرئيسية والفرعية على حسب المعاني وتسلسلها.
ذكر المصادر.(1/15)
الأحاديث التي أستدل بها صحيحة مع ذكر السند، وأما التي تأتي في سياق نقول عن العلماء والمفسرين والشراح، بعضها صحيح وهو عمدتهم في الإستدلال، وبعضها حسن يأتي كمتابعات وشواهد. وإستدلالي هو بما ينتهي إليه رأي العالم أو المفسر أو الشارح فهماً للنصوص واجتهاداً عليها.
تعمدتُ ألاّ أراعى طريقة إعداد الرسائل الجامعية الأكاديمية؛ تجنباً للثقافة الباردة. وحرصت على أن يكون الكتاب على طريقة العلم للعمل ـ على طريقة السلف في الكتابة ـ والدراسات المتأنية الدقيقة للترشيد والانطلاق، وألاّ يخلو مع ذلك من العواطف و الانفعالات والوجدان الحي الذي يعيش قضايا أمته، تجربة الماضي، ومعاناة الحاضر ومرارته، وآفاق المستقبل.
تعرضت للأقوال ولم أتعرض للأشخاص بعداً عن الخصومة والتجريح الشخصي وتسامياً عليهما.
وبعد...
فهذا الكتاب للتأصيل وليس للدعوة، وإن جاءت به بعض ملامح الدعوة، وهو للدراسة المتعمقة المليئة بالتفصيل، وليس للتشويق والإمتاع الذهني السريع، وإن لم يخلُ من عناصر التشويق والإمتاع.
وبعد...
فأسأل الله العلىّ القدير ان يجعل عملي خالصاً لوجهه الكريم، ولله علينا الفضل والمنة من قبل ومن بعد، نسأله العزيمة على الرشد والثبات في الأمر، وان يسبغ علينا نعمته وستره في الدنيا والآخرة. وإن كانت ثمة تقصير أو إساءة فهو الغفور الرحيم. وبالله التوفيق.
الباب الأول
حد الإسلام(1/16)
حقيقة الإسلام هى توحيد الألوهية المتضمن لتوحيد الربوبية، وهذا هو الذي قال عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نحن معاشر الأنبياء أخوة لعلات ديننا واحد»(1)، وهو الدين الذي لا يقبل الله غيره من الأولين، والآخرين { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } (2). وهو الكلمة السواء التي دعا الله إليها أهل الكتاب { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَ نَعْبُدَ إِلاَ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } (3).
وحكم الإسلام يثبت بالنص والدلالة والتبعية، تبعية الدار أو الوالدين أو أفضلهما دينًا(4).
أمران متغايران لكنهما مرتبطان، عدم إدراك الفرق بينهما أو تجاهله ـ تلبيسًا وتخليطًا وقلبًا للحقائق وكتمانًا للحق ـ يُدخل على الناس ممن يدعوهم أو يتصدى لتعليمهم ضلالاً يغرقهم في ظلمات الشرك.
وإذا كان الأمر كذلك فنتكلم أولاً عن حقيقة الإسلام ثم نتكلم بعد ذلك عن حكمه. وفي ”صحيح البخاري“، ”باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل“(5).
__________
(1) مجموع الفتاوى، ج3، ص90.
(2) آل عمران، آية: 85.
(3) آل عمران، آية: 64.
(4) الشوكانى.
(5) صحيح البخاري، ج1، ص99، طبعة دار الريان للتراث.(1/17)
ويقول شيخ الإسلام(1): «وقد نطق القرآن بكفر المنافقين في غير موضع وجعلهم أسوأ حالاً من الكافرين، وأنهم في الدرك الأسفل من النار، وأنهم يوم القيامة يقولون للذين آمنوا { انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ } الآية. إلى قوله - عز وجل -: { فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا } (2) وأمر نبيه في آخر الأمر بأن لا يصلي على أحد منهم وأخبر أنه لن يغفر لهم وأمره بجهادهم والإغلاظ عليهم، وأخبر أنهم إن لم ينتهوا ليغرين الله بهم نبيه حتى يُقتلوا في كل موضع» ”ومع ذلك يُجرى عليهم حكم الإسلام حتى يُحكم عليهم بالردة“.
قالوا: حدّ الإسلام لفظ محدث.
ونقول: حد الإسلام هو حقيقته وهو معنى اللفظ ودلالته، وهو تعريفه، وهو مسمى الاسم، واللفظ قديم ليس محدث ولا مبتدع بخلاف غيره من الألفاظ التي تستعمل وليس لها أصل في الكتاب أو السنة لا ألفاظها ولا معانيها ومع ذلك لا نعترض عليها لأنه لا مشاحة في الاصطلاح.
حد الإسلام من حيث اللفظ:
حد الشيء:
يقول ابن القيم رحمه الله(3): «لا يختلف الناس أن حد الشيء ما يمنع دخول غيره فيه، ويمنع خروج بعضه منه».
وجوب معرفة حدود الأسماء:
يقول الشيخ عبد الله أبو بطين(4): «مما يتعين الاعتناء به: معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله لأن الله سبحانه ذم مَنْ لا يعرف حدود ما أنزل الله على رسوله، فقال تعالى: { الأْعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ } (5)».
__________
(1) الصارم المسلول، ص32-33، مطبعة العاصمة بالقاهرة.
(2) الحديد، آيات: 12-15.
(3) أعلام الموقعين، ج1، ص266.
(4) الانتصار لحزب الله الموحدين: ص16.
(5) التوبة، آية: 97.(1/18)
قال شيخ الإسلام(1): «ومعرفة حدود الأسماء واجبة، لأن بها قيام مصلحة الآدميين في المنطق الذي جعله الله رحمة لهم، لاسيما حدود ما أنزل الله على رسوله من الأسماء، كالخمر والربا، وهذه الحدود هى المميزة بين ما يدخل في المسمى وما يدل عليه من الصفات، وبين ما ليس كذلك، وقد ذمَّ الله سبحانه مَنْ لم يعلم حدود ما أنزل الله على رسوله».
ويقول ابن القيم رحمه الله (2): «ومعلوم أن الله سبحانه حدَّ لعباده حدود الحلال والحرام بكلامه، وذمَّ مَنْ لم يعلم حدود ما أنزل الله على رسوله والذي أنزله هو كلامه، فحدود ما أنزله الله هو الوقوف عند حد الاسم الذي علَّق عليه الحِلَ والحرمة فإنه هو المنزل على رسوله وحدَّه بما وُضع له لغة أو شرعًا بحيث لا يدخل فيه غير موضوعه ولا يخرج منه شيء من موضوعه».
يقول ابن القيم رحمه الله: «والأسماء التي لها حدود في كلام الله ورسوله ثلاثة أنواع: نوع له حد في اللغة كالشمس والقمر والبر والبحر والليل والنهار، فمن حمل هذه الأسماء على غير مسماها أو خصَّها ببعضه أو أخرج منها بعضه فقد تعدى حدودها.
ونوع له حد في الشرع كالصلاة والصيام والحج والزكاة والإيمان والإسلام والتقوي ونظائرها، فحكمها في تناولها لمسمياتها الشرعية كحكم النوع الأول في تناوله لمسماه اللغوي.
ونوع له حد في العرف لم يحده الله ورسوله بحد غير المتعارف عليه، ولا حد له في اللغة كالسفر والمرض المبيح للترخص والسفه والجنون الموجب للحجر».
حد الإسلام وحد الشرك:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله(3): «الأسماء التي علق الله بها الأحكام في الكتاب والسنة منها ما يُعرف حده ومسماه بالشرع فقد بيَّنه الله ورسوله: كاسم الصلاة والزكاة والصيام والحج والإيمان والإسلام والكفر والنفاق».
__________
(1) الانتصار لحزب الله الموحدين، ص49.
(2) أعلام الموقعين، ج1، ص266.
(3) مجموع الفتاوى، ج16، ص235.(1/19)
ويقول شيخ الإسلام(1): «والنبيّ - صلى الله عليه وسلم - فسَّر الإسلام والإيمان بما أجاب به كما يجاب عن المحدود بالحد، إذا قيل: ما كذا؟ قيل: كذا وكذا، كما في الحديث الصحيح لمَّا قيل ما الغيبة؟ قال: «ذكرك أخاك بما يكره»، وفي الحديث الآخر «الكِبرُ بطر الحق وغمط الناس».
يقول الشيخ عبد الله أبو بطين(2): «ففرض على المكلف معرفة حد العبادة وحقيقتها التي خلقه الله لأجلها ومعرفة حد الشرك وحقيقته الذي هو أكبر الكبائر».
يقول ابن القيم رحمه الله (3): «فالأولى بنا أن نذكر منازل العبودية الواردة في القرآن والسنة ونشير إلى معرفة حدودها ومراتبها: إذ معرفة ذلك من تمام معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله، وقد وصف الله تعالى مَنْ لم يعرفها بالجهل والنفاق، فقال تعالى: { الأْعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِه?(4). فبمعرفة حدودها دراية والقيام بها رعاية يستكمل العبد الإيمان ويكون من أهل ?إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ?».
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية (5): «وإذا ثبت أن كل سب ـ تصريحًا أو تعريضًا ـ موجب للقتل فالذي يجب أن يُعتنى به الفرق بين السبِّ الذي لا تُقبل منه التوبة والكفر الذي تُقبل منه التوبة، فنقول هذا الحكم قد نيط في الكتاب والسنة باسم أذى الله ورسوله، وفي بعض الأحاديث ذكر الشتم والسب، وكذلك جاء في ألفاظ الصحابة والفقهاء ذكر السب والشتم.
__________
(1) المصدر السابق، ج7، ص11.
(2) الانتصار لحزب الله الموحدين، ص49.
(3) مدارج السالكين، ج1، ص107.
(4) التوبة، آية: 97.
(5) الصارم المسلول، ص 468-469.(1/20)
والاسم إذا لم يكن له حد في اللغة كاسم الأرض والسماء والبحر والشمس والقمر ولا في الشرع كاسم الصلاة والزكاة والحج والإيمان والكفر فإنه يُرجع في حده إلى العرف كالقبض والحرز والبيع والرهن والكرى ونحوها، فيجب أن يُرجع في الأذى والسب والشتم إلى العرف فما عده أهل العرف سبًّا أو انتقاصًا أو عيبًا أو طعنًا ونحو ذلك فهو من السبِّ، وما لم يكن كذلك فهو كفر فيكون كفرًا ليس بسب حكم صاحبه حكم المرتد إن كان مظهرًا له وإلاَّ فهو زندقة».
حد الإسلام من حيث المعنى
مراتب الإيمان والفرق بين الترك والإتيان:
في ”صحيح مسلم“ (1) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال أتى: النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رجل فقال: يا رسول الله ما الموجبتان؟ فقال: «مَنْ مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة ومن مات يشرك بالله شيئًا دخل النار».
ومن المعلوم أن الدين ثلاث مراتب أو الإيمان ثلاث مراتب، قال تعالى: ?ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ?(2)، وهذه المراتب الثلاث هى:
1- مرتبة الإسلام أو الإيمان المجمل ”الظالم لنفسه“.
2- الإيمان الواجب ”المقتصد“.
3- الإحسان أو الإيمان الكامل المستحب ”السابق بالخيرات“.
وهذه المرتبة يجتمع فيها الدين كله فيشمل التوحيد وما زاد على ذلك من العمل بفعل الواجب وترك المحرم وما زاد على ذلك من العمل بفعل المندوب وترك المكروه والمسابقة إلى الخيرات والتوغل في التطوعات والإكثار من الحسنات والتقرب إلى الله بأوجه القربات والخيرات.
__________
(1) صحيح مسلم، ص66، طبعة دار ابن رجب.
(2) فاطر، آية: 32.(1/21)
فإذا ذهب بعض الإحسان بقى بعضه، وقد يذهب كله(1) فيبقى الإيمان، وقد يذهب بعض الإيمان ويبقى بعضه، وقد يذهب كله(2) ويبقى الإسلام أو التوحيد، والتوحيد يقع فيه التفاوت أو التفاضل بالكمالات وقد يذهب بعضها ويبقى بعضها أو تذهب كلها ويبقى ترك الشرك الأعظم، وهذا الترك لا يذهب بعضه ويبقى بعضه لأن التوحيد أن يكون الدين كله لله، والشرك أن يكون بعض الدين لله وبعضه لغيره.
وترك الشرك الأعظم لا تفاوت فيه ولا تفاضل ولا تبعيض ولا يذهب بعضه ويبقى بعضه ولا يصلح فيه الالتزام بدلاً من الفعل ولا الإجمال بدلاً من التفصيل، فمن التزم بترك الشرك الأعظم وترك جملة منه إلا أنه وقع في شرك أعظم، في فرد واحد من أفراد الشرك الأعظم، فقد مات يشرك بالله شيئًا وأوجب له ذلك الخلود في النار.
وقد حدَّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الحد الفاصل بين الإيمان والكفر بالترك لأن الترك اجتناب والاجتناب ليس فيه تفاوت إما أن يقع أو لا يقع والتقوى فيه أن تجعل بين ما لا بأس به وما به بأس حِمى، فلا يقرب ما به بأس، وقلة التقوى أن يقع في المتشابه بين الحلال والحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ولكن من وقع في الحرام فقد وقع، ومن لم يقع فيه لم يقع، «إذا نهيتكم عن شيء فانتهوا، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم».
__________
(1) للألفاظ عموم وخصوص، والمقصود هنا بكلمة ” كله“ ما زاد على الإيمان من عمل.
(2) المقصود أيضا ما زاد على الإسلام من عمل.(1/22)
فالإتيان يتفاوت ويتفاضل والترك يتماثل والتفاضل إذا وقع في الترك إنما هو في الباعث لا في نفس الترك، ولذلك حدد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الأمر بالترك، ولذا فهذه الموجبة موجبة: ”من مات لا يشرك بالله شيئًا“ متحققة في الملائكة والرسل والأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين من المقربين والأبرار وأصحاب اليمين وأهل الوعد والوعيد، والجهنميين عتقاء الرحمن أصحاب الخواتيم ممن لم يعملوا خيرًا قط زيادة على التوحيد، وهذا التحقق وإن لم يكن منفصلاً متميزًا عن غيره من العمل في حق كل هذه الفئات إلاَّ أنه ينفصل ويتميز في حق فئة منها وهي فئة الجهنميين أصحاب الخواتيم عتقاء الرحمن لأنهم ليس لهم عمل غير التوحيد أو ترك الشرك، فالكل متفق في هذه الموجبة إذ ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل، وليس وراء ترك الشرك إلا الكفر المخرج من الملة { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (1) متفاوتون متفاضلون فيما زاد على ذلك، وفي الحديث «ثم تأتي هذه الأمة ممن يعبد الله من برٍّ أو فاجر».
وإذا قيل هذا نفيٌ فأين الإثبات؟ نقول: إن ترك الشرك الأعظم لا يمكن أن يتحقق إلا بما ينفي الشرك من التوحيد وهذا أمر وضحه شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من العلماء وسيأتي بيان هذا، ووضحه توضيحًا مشهودًا جليًا الإمام عبد الرحمن بن حسن رحمه الله في شروط لا إله إلا الله، فلابد من أقل قدر من العلم ينفي الجهالة، وأقل قدر من اليقين يكفي لنفي الشك، وأقل قدر من الإخلاص يكفي لنفي الشرك، وأقل قدر من الصدق يكفي لنفي النفاق، وأقل قدر من الانقياد يكفي لنفي الترك، وأقل قدر من القبول يكفي لنفي الرد، وأقل قدر من المحبة يكفي لنفي ما يضادها من المحادة والمشاقة والمعاداة.
__________
(1) آل عمران، آية: 80. ...(1/23)
وهذا الأمر لا يجزئ فيه الالتزام أو البراءة الإجمالية أو الإقرار الإجمالي أو ما سوى ذلك من العبارات عن الإتيان والترك ولا يجزئ فيه الجملة عن التفصيل، ولا فرق فيه بين بدء واستمرار. فالله سبحانه وتعالى يقول: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَ نَعْبُدَ إِلاَ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } (1). فهذا ترك تفصيلي للشرك نبَّه على فرد من أفراده { َلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } لأهميته ولمناسبته للمخاطبين.
وتفسير العلماء { كَلِمَةٍ سَوَاء } لا نختلف فيها نحن ولا أنتم، تفسيرها ما بعدها { أَلاَ نَعْبُدَ إِلاَ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّه } ِ أي لا نقول عزير بن الله ولا المسيح بن الله ولا نعبد الملائكة ولا الأنبياء ولا الأصنام، ولا الطواغيت ولا نطيع الأحبار والرهبان فيما أحدثوا من التحريم والتحليل لأن كلاً منهم { بَعْضُنَا } بشر مثلنا يقول العلماء { فَإِنْ تَوَلَّوْا } أي عن التوحيد ـ لم يقولوا عن الالتزام بالتوحيد ولا عن البراءة الإجمالية ولا الإقرار الإجمالي ـ { فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } أي لزمتكم الحجة فاعترفوا بأننا مسلمون دونكم وأنكم كفرتم بما نطقت به الكتب وتتابعت عليه الرسل.
__________
(1) أل عمران، آية: 64.(1/24)
وتفسير الكلمة بالتوحيد، ولا يفسر التوحيد بالكلمة هذا(1) هو نص القرآن، ومن قال بخلاف ذلك فقد قلَب حقائق القرآن وحرَّف نصّ القرآن، فالتوحيد تحقيق الكلمة، وليست الكلمة تحقيقًا للتوحيد ولا تفسيرًا له، فالتوحيد يحقق الكلمة ويفسرها، وتفسيرها ما بعدها { أَلاَ نَعْبُدَ إِلاَ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } ومن قلب الحقائق أن يُقال أن التوحيد يتحقق بالكلمة أو يُفسر بالكلمة، ولهذا الأمر مزيد بيان سيأتي ذكره.
وهذه هى حقيقة الإسلام { فإنْ تولوا } أي عن التوحيد { فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } أي أننا مسلمون دونكم وأنكم كفرتم بما نطقت به الكتب وتطابقت عليه الرسل، فمن حقق التوحيد فقد حقق الإسلام، ومن تولي عن التوحيد فقد كفر بما نطقت به الكتب وتتابعت عليه الرسل، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يدخل الجنة إلا نفسٌ مسلمة» و«لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة»(2)، ويقول سبحانه وتعالى: { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } ، ويقول سبحانه وتعالى على لسان يعقوب: { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } . فالمعنى في الآيات كما ذكره المفسرون أن المسلم يحافظ على التوحيد وترك الشرك في كل أوقاته لأنه لا يدري متي يموت، حتى إذا جاءه الموت في أي وقت، مات موحدًا، أي مات مسلمًا.
ومن هذا نعلم أنه لا فرق في التوحيد وترك الشرك، بين بدء واستمرار، في حقيقة الإسلام ولا تكفي براءة أو إقرار، وإنما لابد من الإتيان والترك جملة وتفصيلاً وهذا هو التوحيد وهذه هى حقيقة الإسلام.
حقيقة الشرك لا تجتمع مع حقيقة التوحيد:
__________
(1) المراد أن الكلمة السواء مُفَسَّرة بالتوحيد، ولا يُفَسَّر التوحيد بالتلفظ بالشهادتين دون ترك الشرك الأكبر بكل صوره.
(2) صحيح مسلم، ص 74.(1/25)
فالنفس المسلمة والنفس المؤمنة هى التي تموت لا تشرك بالله شيئًا، وترك الشرك مستلزم للتوحيد، والتوحيد أن يكون الدين كله لله، والشرك أن يكون بعض الدين لله وبعضه لغيره، وعلى هذا فترك الشرك لا يمكن أن يذهب بعضه ويبقى بعضه، وإذا كان ترك الشرك أو ”التوحيد“ هو الإسلام فإن حقيقة الشرك الأعظم تنافي حقيقة الإسلام ولا تجامعه، ولا يمكن أن يجتمع إسلام وشرك { قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأْرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ } (1)، { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ } (2)، { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } (3). فلا تجتمع أصول الإسلام والتوحيد مع أصول الشرك لتنافي الحقيقتين، ولكن قد تجتمع فروع الإيمان وهي الطاعات مع فروع الكفر وهي المعاصي دون أن تجتمع أصول الإيمان مع أصول الكفر لتنافي الحقيقتين، والمشرك لا يسمى مسلما والكافر لا يسمي مؤمنًا، ومن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض فهو كافر، ومن فرَّق بين الله ورسله فقال أؤمن ببعض وأكفر ببعض فهو كافر.
لا يكفي الالتزام في ترك الشرك:
__________
(1) الأنعام، آية: 14.
(2) آل عمران، آية: 67.
(3) الأنعام، آية: 162.(1/26)
يقول الله سبحانه وتعالى: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ - وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } (1).
فمن قتل النفس فهو قاتل وإن التزم بترك القتل، ومن وقع في الشرك فهو مشرك وإن التزم بترك الشرك، ولكن حقيقة القتل لا تنافي حقيقة الإسلام بينما حقيقة الشرك تنافي حقيقة الإسلام، وبالنسبة للقتل ترك أو لا ترك لا منزلة بينهما، وبالنسبة للشرك ترك أو لا ترك لا منزلة بينهما، وفي الاثنين عبَّر عن النهي بصيغة الفعل وليس بصيغة اسم الفاعل، فمن وقع في الشرك فقد أشرك، ومن وقع في القتل مرة واحدة فقد قتل، والشرك رأس المحرمات ومن مات يُشرك بالله شيئًا دخل النار ومن مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، ولا يدخل الجنة إلا نفسٌ مسلمة وإلاَّ نفسٌ مؤمنة، ونحن مأمورون بألا نموت إلا ونحن مسلمون ولا ندري متى نموت فوجب أن نحافظ على الترك للشرك في كل أوقاتنا جملة وتفصيلاً حتى إذا جاءنا الموت جاءنا مسلمين { أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } (2).
__________
(1) الأنعام، الآيتان: 151-152.
(2) يوسف، آية: 101.(1/27)
والنهي لا يتحقق إلاَّ بالاجتناب والاجتناب لا يتحقق إلا بالترك وليس بالتزام الترك أو البراءة من الشرك.
الفرق بين الشرك والمعاصي:
وفي ”صحيح البخاري“ (1)، ”باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يُكفّر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك“ لقول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّك امرؤ فيك جاهلية»، وقول الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (2).
وفي تفسير القسطلاني: ”ولا يَكْفُر“ بفتح الياء وسكون الكاف. ”ولا يُكَفَّر“ بضم الياء وفتح الكاف وتشديد الفاء المفتوحة ”صاحبها بارتكابها“ أي لا يُنسب إلى الكفر باكتساب المعاصي والإتيان بها ”إلا بالشرك“ أي بارتكابه، خلافًا للخوارج القائلين بتكفيره بالكبيرة، والمعتزلة القائلين أنه لا مؤمن ولا كافر واحترز بالارتكاب عن الاعتقاد، فلو اعتقد حل حرام معلوم من الدين بالضرورة كفر قطعًا، ثم استدل المؤلف لما ذكر فقال لقول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّك امرؤ فيك جاهلية» أي أنك في تعييره على خلق من أخلاق الجاهلية ولست جاهليًا محضًا وقول الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِه } ِ أي يكفر به ولو بتكذيب نبيه لأن من جحد نبوة الرسول مثلاً فهو كافر ولو لم يجعل مع الله إلهًا آخر والمغفرة منتفية عنه بلا خلاف ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فصير ما دون الشرك تحت إمكان المغفرة، فمن مات على التوحيد غير مخلد في النار، وإنْ ارتكب من الكبائر غير الشرك ما عساه أن يرتكب. أهـ.
وواضح هنا بجلاء أن المسلم لا يكفر بارتكاب المعصية، ويكفر باعتقاد حل المحرم ويكفر بارتكاب الشرك دون اعتقاد حله، والشرك رأس المحرمات والشاهد اختلاف أحكام الشرك عن المعاصي.
__________
(1) صحيح البخاري، ج1، ص 106.
(2) النساء، آية: 48.(1/28)
وواضح أيضًا الفرق بين الشرك والمعاصي في الأحكام فمن تناول قضايا الشرك والتوحيد تناول المعاصي والطاعات فهو مخطئ لفروق الأحكام بينهما واختلاف أحكامهما، وواضح كفر من ارتكب الشرك بمجرد الارتكاب لا يمنع عنه ذلك اعتقاد ولا التزام ولا براءة إجمالية ولا أي شيء آخر، وليس الشأن هكذا في المعاصي فوضح الفرق.
وفي ”صحيح البخاري“ (1) حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني أبو إدريس عائذ الله بن عبد الله أن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - وكان شهد بدرًا وهو أحد النقباء ليلة العقبة أن رسول الله قال وحوله عصابة من أصحابه: «بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف فمن وفَّي منكم فأجره على الله ومن أصاب مِنْ ذلك شيئًا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئًا ثم ستره الله فهو إلى الله إنْ شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه، فبايعناه على ذلك».
قال ابن حجر في التفسير(2): «فإن قيل لمَ اقتصر على المنهيات ولم يذكر المأمورات؟ فالجواب، أنه لم يهملها بل ذكرها على طريق الإجمال في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تعصوا» إذ العصيان مخالفة الأمر، والحكمة في التنصيص على كثير من المنهيات دون المأمورات، أن الكف أيسر من إنشاء الفعل، لأن اجتناب المفاسد مقدم على اجتلاب المصالح والتخلي عن الرذائل قبل التحلي بالفضائل قوله - صلى الله عليه وسلم - «ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب» زاد أحمد في روايته قوله - صلى الله عليه وسلم - «فهو» أي العقاب كفارة زاد أحمد «له» وكذا هو للمصنف من وجه آخر في باب ”المشيئة“ من كتاب ”التوحيد“ وزاد «وطهور».
__________
(1) فتح الباري في شرح صحيح البخاري، ج1، ص 81-83.
(2) المصدر السابق، ص 81-83.(1/29)
قال النووي: عموم هذا الحديث مخصوص بقوله تعالى { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } . فالمرتد إذا قتل على ارتداده لا يكون القتل له كفارة قلت وهذا بناء على أن قوله - صلى الله عليه وسلم - «من ذلك شيئًا» يتناول جميع ما ذكر وهو ظاهر، وقد قيل يحتمل أن يكون المراد ما ذكر بعد الشرك بقرينة أن المخاطب بذلك المسلمون فلا يدخل حتى يحتاج إلى إخراجه ويؤيده رواية مسلم من طريق أبي الأشعث عن عبادة في هذا الحديث «ومن أتى منكم حدًا» إذ القتل على الشرك لا يسمي حدًا، لكن يعكر على هذا القائل أن الفاء في قوله «فمن» لترتب ما بعدها على ما قبلها، وخطاب المسلمين بذلك لا يمنع التحذير من الإشراك وما ذكر في الحدّ عرف حادث فالصواب ما قال النووي. وقال الطيبي: الحق أن المراد بالشرك: الشرك الأصغر وهو الرياء وتعقب بأن عرف الشارع إذا أطلق الشرك إنما يريد ما يقابل التوحيد، وقد تكرر هذا اللفظ في الكتاب والأحاديث حيث لا يُراد به إلا ذلك ويجاب بأن طلب الجمع يقتضي ارتكاب المجاز، فما قاله محتمل وإن كان ضعيفًا ولكن يعكر عليه أيضًا أنه عقب الإصابة بالعقوبة في الدنيا، والرياء لا عقوبة فيه فوضح أن المراد هو الشرك وأنه مخصوص».(1/30)
ويقول القسطلانى في الشرح(1): «ومقول قوله - صلى الله عليه وسلم - «بايعوني» أي عاقدوني «على» التوحيد «أن لا تشركوا بالله شيئًا» أي على ترك الإشراك وهو عام لأنه نكرة في سياق النهي كالنفي وقدَّمه على ما بعده لأنه الأصل، على أن «لا تسرقوا» فيه حذف المفعول ليدل على العموم «ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم» خصهم بالذكر لأنهم كانوا في الغالب يقتلونهم خشية الإملاق، ولأن قتلهم أكبر من قتل غيرهم وهو الوأد وهو أشنع القتل أو أنه قتل وقطيعة رحم، فصرف العناية إليه أكثر «ولا تأتوا» بحذف النون ولغير الأربعة ولا تأتون «ببهتان» أي بكذب يبهت سامعه أي يدهشه لفظاعته كالرمي بالزنا والفضيحة والعار وقوله - صلى الله عليه وسلم - «تفترونه» من الافتراء أي تختلقونه «بين أيديكم وأرجلكم» أي من قبل أنفسكم فكنَّى باليد والرجل عن الذات لأن معظم الأفعال بهما. إلى أن يقول: «ومن أصاب» منكم أيها المؤمنون «من ذلك شيئًا» غير الشرك... إلخ. كما ذكر ابن حجر». أهـ.
وواضح هنا أن الالتزام بترك المعاصي لا ينقضه الوقوع فيها ولا ينقض الالتزام إلا التزام بشرع آخر غير شرع الله سبحانه وتعالى حكمًا أو تحاكمًا أو تحكيمًا أو تشريعًا أو قبولاً لتشريع غير شرع الله أو رداً للشريعة، باستحلال المحرمات أو الإباء من قبول الفرائض أي إما رجوع إلى شرع آخر غير الشرع ـ أو برد الشرع دون رجوع إلى غيره ـ رجوعًا إلى مطلق الهوى.
__________
(1) إرشاد الساري إلى شرح صحيح البخاري، ج1، ص 133-134.(1/31)
أما الوقوع في المعاصي مع بقاء الالتزام بشرع الله سبحانه وتعالى لا يرغب عنه إلى غيره ولا يعدل به غيره فليس في هذا نقض للالتزام والميثاق مع الله ورسوله، أما من أصاب الشرك فهذا هو الكفر والذنب الذي لا يغفره الله سواء أكان ملتزمًا بترك الشرك أو غير ملتزم، فهذا التخصيص الذي ذكره العلماء ينفي تمامًا التسوية بين الشرك والمعاصي، ولو كان كذلك لاتفقت أحكامهما بأن تكون عقوبة الردة كفارة وأن يغفر الله الشرك بلا توبة، شأن المعاصي، فلما اختلف هذان الحكمان دلَّ على اختلاف الحكم الثالث وهو أن بقاء الالتزام لا ينفي الكفر عن المرتكب في حالة الشرك وينفيه في حالة المعصية، وقد نصَّ العلماء على أن الشرك لا يغفر إلا بالتوبة، أما المعاصي فتغفر بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية واجتناب الكبائر والمصائب المكفرة، وعذاب القبر وأهوال يوم القيامة ورجحان الحسنات على السيئات وشفاعة الغير والدعاء بظهر الغيب، وهبة الثواب وشفاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أمته وفضل الله على عباده.(1/32)
ومن اختلاف الشرك عن المعاصي أيضًا ما ذكره البخاري(1) وغيره من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ”باب ظلم دون ظلم“ يقول البخاري: حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا شعبة قال: حدثني بشر قال: حدثنا محمد بن شعبة عن سليمان عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: لما نزلت { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } (2) قال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيُّنا لم يظلم فأنزل الله { إنَّ الشرك لظلمٌ عظيمٌ } . يقول القسطلاني في التفسير بعد ذكر السند عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - (لما نزلت) زاد الأصيلي قال: لما نزلت هذه الآية { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍٍٍ أُولَئكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ } وقوله بظلم أي بظلم عظيم أي لم يخلطوه بشرك إذ لا أعظم من الشرك، وقد ورد التصريح بذلك عند المؤلف من طريق حفص بن غياث عن الأعمش ولفظه قلنا: يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه؟! قال: ليس كما تقولون، بل لم يلبسوا إيمانهم بظلم بشرك، ألم تسمعوا إلى قول لقمان، الآية.
__________
(1) إرشاد الساري إلى شرح صحيح البخاري، ص 156.
(2) الأنعام، آية: 82.(1/33)
لكن منع التيمي تصور(1) خلط الإيمان بالشرك وحمله على عدم حصول الصفتين لهم(2). كفر متأخر عن إيمان متقدم أي لم يرتدوا، أو المراد أنهم لم يجمعوا بينهما ظاهرًا وباطنًا أي لم ينافقوا وهذا أوجه (قال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وللأصيلي: النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أينا لم يظلم نفسه مبتدأ وخبر والجملة مقول القول فأنزل الله ولأبي ذر والأصيلي فأنزل الله عزَّ وجلّ عقب ذلك { إنَّ الشرك لظلمٌ عظيمٌ } .إلى أن يقول: والمراد بالظلم أعلى أنواعه وهو الشرك، وإنما فهموا حصر الأمن والاهتداء فيمن لم يلبس إيمانه حتى ينتفيا عمن لبس من تقديم لهم على الأمن في قوله { لَهُمُ الأَمْنُ } أي لهم لا غيرهم ومن تقديم { وَهُم } على { مُّهْتَدُونَ } .
وفي الحديث أن المعاصي لا تسمي شركًا وأن مَنْ لم يشرك بالله شيئًا(3) فله الأمن وهو مهتدي لا يُقال أن العاصي قد يُعذب في هذا الأمن والاهتداء الذي حصل له لأنه أجيب أنه أمن من الخلود في النَّار مهتد إلى طريق الجنة. أهـ.
__________
(1) بل هو صحيح لأن المقصود بالإيمان هنا ليس معناه الشرعي المستلزم لترك الشرك، إذ لو كان كذلك لكان المنع صحيحًا والتأويلان المذكوران صحيحان ولكن الإيمان هنا هو بالمعنى اللغوي أو الشرعي المقيد الذي لا يتم بمفرده دخول الملة حتى ينضاف لازمه وهو الإسلام وهو ترك الشرك فتكون الآية نصًا فى وجوب ذلك. قال ابن عباس: ”إيمانهم إقرارهم وشركهم أنهم يعبدون مع الله غيره“.
(2) لأنهما ضدان لا يجتمعان وأحدهما ينفى الآخر.
(3) ذكر المفسر شيئًا لأن الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - فسر ”ظلم “ وهى نكرة بشرك وهى نكرة. فأصبحت لفظة ”شرك“ بدلاً من لفظة ”ظلم“ نكرة فى سياق النفى تفيد العموم وهو حجة فى ان المجزئ فى ترك الشرك هو تركه جملة وتفصيلاً ليس مجرد الالتزام بالترك او البراءة الإجمالية.(1/34)
وفيه أيضًا أن درجات الظلم متفاوتة(1) كما تُرجم وأن العام يطلق ويراد به الخاص فحمل الصحابة ذلك على جميع أنواع الظلم فبين الله تعالى أن المراد نوع منه وأن المفسر يقضي على المجمل وأن النكرة في سياق النفي تعم وأن اللفظ يُحمل على خلاف ظاهره لمصلحة دفع التعارض (2). أهـ.
__________
(1) واعلى درجات الظلم هو نهاية التفاوت فلا تفاوت فيه.
(2) للإمام الشاطبى فى ذلك: ألاً تخصيص فى اللفظ لأن المعنى المستفاد من السياق هو ظلم الشرك وأن الصحابة رضوان الله عليهم تخوفوا من عمومه لما دون الشرك من فرط التقوى وفى الآية ما يفيد أن ما دون الشرك له حظ من نقص الأمن والهداية لمشاركته مع الشرك فى لفظ الظلم ولكن لا يختص بالحكم وهو نفى الأمن والهداية بإطلاق فذلك لا يكون إلا للشرك فالإيمان إذا كان بمعنى الإقرار والتصديق فقط فإذا اختلط به واجتمع معه الشرك فإن صاحبه لا يكون مسلمًا وإذا كان الإيمان بمعنى الإقرار والتصديق وترك الشرك ثم ورد عليه شرك فإن صاحبه يصير كافرًا ففى الحالتين لا يجتمع إيمان بمعناه الشرعى الذى تتحقق معه حقيقة الإسلام ودخول الملة فى الحقيقة وفى نفس الأمر مع الشرك فى وقت واحد فإن الشرك إما أن يمنع حقيقة الإسلام ويوجب الكفر وإما أن يرد عليها فيصير صاحبه كافرًا بهذا الورود ولا فرق فى ذلك بين بدء واستمرار فلا يوجد وقت يكون مسموحًا فيه بهذا الاختلاط مع بقاء حقيقة الإسلام ثم يوجد وقت آخر لا يكون مسموحًا فيه بهذا الاختلاط، بل هذا الاختلاط فى كل الأوقات يمنع حقيقة الإسلام أو يغيرها إلى الكفر.(1/35)
وهنا واضح أن وقوع الشرك أيْ الشرك الأعظم أيُّ فرد من أفراد الشرك الأعظم ينفي الأمن والهداية بإطلاق، أي يوجب الخلود في النار ولو كان ملتزمًا بترك الشرك تاركًا لجملة منه، وهذا هو تفسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بظلم بشركٍ، نكرة في سياق النفي تفيد العموم وذلك مثل كلمة ”شيئًا“ التي تفيد الاستغراق في غالبية النصوص التي تحرم الشرك { أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا } ، «من مات يشرك بالله شيئًا دخل النار»، وقول الله - عز وجل -: { وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ(1) بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } (2) حقيقة الشرك تنافي توحيد العبادة وتوحيد الاعتقاد الذي يستلزمه توحيد العبادة، ولا تجتمع معه وهي تنافي حقيقة الإسلام لأن حقيقة التوحيد وحقيقة الإسلام واحدة وهي منافية لحقيقة الشرك ولا تجتمع معها، والمشرك لا يكون مسلمًا أبدًا والمسلم لا يكون مشركًا أبدًا لتنافي الحقيقتين، كالطول والقصر والنور والظلمة والحياة والموت... إلخ { قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ } (3)، { حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ } (4).
__________
(1) صيغة الفعل تفيد المرة الواحدة.
(2) المائدة، آية: 72.
(3) الأنعام، آية: 14.
(4) النحل، آية: 123.(1/36)
وإذا كان اختلاط الإيمان مع أي فرد من أفراد الشرك ”بشرك“ يصير به المؤمن كافرًا وينتفي عنه الأمن والهداية بإطلاق، فكيف يجتمع مع ما يسمونه الإقرار الإجمالي والبراءة الإجمالية وعقد الإسلام وهو ما يسمونه إيمانًا إنكارُ البعث، والشك في قدرة الله تعالى، والشك في علمه وعبادة غير الله وإهانة المقدسات ثم يبقي مع ذلك مسلمًا مؤمنًا بهذه الحصانة من الكفر مع الاستغراق في كل صور الشرك حتى أذنيه، هل هذا إلا مصادمة النصوص كفاحًا.
والمرجئة ـ وهي لم تبلغ هذا ـ لا يفرقون بين المعاصي والشرك ولا شيء عندهم غير التلفظ والانتساب وما سوى ذلك فهو معاصي.
والخوارج تجعل الجميع شركًا، وأهل السنة يفرقون بين الشرك والمعاصي فلا يسوون بينهما في الأحكام فيقولون:
التوحيد وضده الشرك.
السنة وضدها البدعة.
الطاعة وضدها المعصية.
فالتوحيد غير السنة، والسنة غير الطاعة، والشرك غير البدعة والبدعة غير المعصية.
وعند المرجئة كله طاعات ومعاصي بعد الانتساب والتلفظ.
وكل المخالفات حتى المعصية عند الخوارج كله شرك.
والتمييز بين هذه الأمور في حدودها وأحكامها وقواعدها يتميز به أهل السنة عن غيرهم.
الإسلام هو التوحيد أو التوحيد هو الإسلام والكلمة السواء والدين الواحد والدين الذي لا يقبل الله غيره، ودين الأنبياء وأصل الدين.(1/37)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية(1):«... ولما كان الكبر مستلزمًا للشرك والشرك ضد الإسلام، وهو الذنب الذي لا يغفره الله قال الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (2). كان الأنبياء جميعًا مبعوثين بدين الإسلام، فهو الدين الذي لا يقبل الله غيره لا من الأولين ولا من الآخرين. قال نوح - عليه السلام -: { فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ } (3)، وقال تعالى فى حق إبراهيم: { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ - وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلاَتَمُوتُنَّ إِلاَ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (4)، وقال موسى - عليه السلام -: { يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } (5)، وقال تعالى: { إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا } (6)، وقالت بلقيس: { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (7)، وقال تعالى: { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } (8)، وقال تعالى: { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلاَمُ } (9)، وقال - جل جلاله -: { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ
__________
(1) رسالة العبودية، ص34.
(2) النساء، آية: 48.
(3) يونس، آية: 72.
(4) البقرة، الآيتان: 131-132.
(5) يونس، آية: 84.
(6) المائدة، آية: 44.
(7) النمل، آية: 44.
(8) المائدة، آية: 111.
(9) آل عمران، آية: 19.(1/38)
وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا } (1)». أهـ.
حقيقة واحدة ـ وإن تنوعت الانتسابات وتنوعت الشرائع ـ بُعث بها الأنبياء وهي الانقياد لله سبحانه وتعالى الذي انقادت له السموات والأرض طوعًا وكرهًا وهي حقيقة الاستسلام لله سبحانه بترك الشرك والكبر، وهو مستلزم للشرك، ولذلك كان الشرك ذنبًا لا يغفره الله وكان الإسلام المتحقق بترك الشرك هو الدين الذي لا يقبل الله غيره من الأولين والآخرين ـ فلا إسلام يقبل مع الشرك لا من الأولين ولا من الآخرين ـ ولا إسلام يتحقق مع الشرك، ولا إسلام بالانتساب إنما الإسلام بالاستسلام الذي لا يتحقق إلا بترك الشرك والكبر.
__________
(1) آل عمران، آية: 83.(1/39)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية(1): «وأما الكتب السماوية المتواترة عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقاطعة بأن الله لا يقبل من أحد دينًا سوى الحنيفية وهي الإسلام العام: عبادة الله وحده لا شريك له والإيمان بكتبه ورسله واليوم الآخر، كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } (2). وبذلك أخبرنا عن الأنبياء المتقدمين وأئمتهم، قال نوح: { فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ } (3)، وقال في آل إبراهيم: { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فى الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فى الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ - إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ - وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (4)، وقال - عز وجل -: { إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا } (5)، وقال فى الحواريين: { أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } (6)، وقد قال مطلقًا: { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ
__________
(1) الفتاوى الكبرى، ص335، مسألة333.
(2) البقرة، آية: 62.
(3) يونس، آية: 72.
(4) البقرة، الآيتان: 131-132.
(5) المائدة، آية: 44.
(6) المائدة، آية: 111.(1/40)
إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ - إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلاَمُ } (1)، وقال - عز وجل -: { قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ - وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فى الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ } (2)». أهـ.
هذا شيخ الإسلام ابن تيمية يقول بوضوح نقلاً عن السلف والقرون الثلاثة الأولى أن الكتب السماوية المتواترة عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقاطعة بأن الله لا يقبل من أحد سوى الحنيفية وهي الإسلام العام عبادة الله وحده لا شريك له والإيمان بكتبه ورسله واليوم الآخر.
وهؤلاء يقولون أن الله يقبل من العبد كل صور الشرك والكفر من عبادة غير الله كسجود معاذ، والشك فى قدرة الله كسؤال الحواريين { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } (3)، والشك فى علم الله كسؤال عائشة عن علم الله بما فى نفسها، وإنكار البعث كالرجل الذي ذرى نفسه، وإهانة المقدسات كفعل موسى كليم الله عندما ألقي الألواح(4)، فلا بأس على المسلم إذا أهان المصحف وألقاه فى الحش كل هذا لا ينقض حقيقة الإسلام ولا يتنافى معه ولا بأس منه على المسلم إذا كانت معه البراءة الإجمالية من الشرك والإقرار الإجمالي بالتوحيد وعقد الإسلام، وإذا مات على كل هذا الشرك مع هذه الحصانات مات مسلمًا ودخل الجنة... إلى آخر هذا الهراء.
__________
(1) آل عمران، الآيتان: 18-19.
(2) آل عمران، آية: 84.
(3) المائدة، آية: 112.
(4) كل هذا بزعمهم وكل المذكورين مبرءون مما نسبوه إليهم.(1/41)
سبحانك هذا بهتانٌ عظيمٌ، فالحواريون وموسى كليم الله وهو واحد من أولي العزم من الرسل لا ينجيه من الكفر إلا الجهل، وكذلك عائشة ومعاذ والله سبحانه وتعالى يقبل من العبد كل صور الشرك والكفر... هكذا!! وإذا مات على ذلك مات مسلمًا ودخل الجنة!! من أين جاءوا بهذا الهراء والافتراء على الله يقول ربنا - عز وجل -: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فى بَعْضِ الأمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ - فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ - ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } (1).
وقريب من هذا عقائد أصحاب ”فقه الأقلية“ يبشرون بها من زمن ووراءهم كتائب الاعتدال؟! في إطار الاتجاهات الحديثة في الإسلام التي تحررت من الأصولية وواكبت العصر وأطلقت لمجتهديها العنان للبروسترويكا الإسلامية حتى تنطلق الصحوة الإسلامية فى آفاق جديدة وتخرج عن الجمود؟؟ (كما يقال).
ولكن لم تبلغ من الجرأة أن يُدَّعى أن هذا الهراء هو مذهب السلف وهو دلالة نصوص الكتاب والسنة، أما هؤلاء فلا يختلف قولهم، ولكنهم أكثر جرأة على الله منهم وإذا سهل عندهم افتراء الكذب على الله فما الذي يحول بينهم وبين الافتراء على السلف وعلى شيخ الإسلام ابن تيمية - رضي الله عنه - { أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ } (2) وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت» رواه البخاري.
__________
(1) محمد، آيات: 25-28.
(2) هود، آية: 92.(1/42)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية(1): «وقوله تعالى: { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } (2) أمر مع القسط بالتوحيد الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له وهذا أصل الدين، وضده الذنب الذي لا يُغفر قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (3)، وهو الدين الذي أمر الله به جميع الرسل وأرسلهم به إلى جميع الأمم قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ } (4)، وقال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فى كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } (5)، وقال تعالى: { شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } (6)، وقال تعالى: { يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ - وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } (7).
__________
(1) الفتاوى الكبرى، ج1، ص348، مسألة 234.
(2) الأعراف، آية: 29.
(3) النساء، آية: 48.
(4) الأنبياء، آية: 25.
(5) النحل، آية: 36.
(6) الشورى، آية: 13.
(7) المؤمنون، آية: 51.(1/43)
ولهذا ترجم البخاري فى صحيحه ”باب ما جاء فى أن دين الأنبياء واحد“ وذكر الحديث الصحيح فى ذلك. وهو الإسلام العام(1) الذي اتفق عليه جميع النبيين قال نوحٌ - عليه السلام -: { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ } (2)، وإبراهيم - عليه السلام -: { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ - وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (3)، وقال موسى - عليه السلام -: { يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } (4)، وعن عيسى - عليه السلام - { قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } (5)، وقالت بلقيس: { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (6)، وقال تعالى: { إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا } (7).
__________
(1) التوحيد هو الإسلام العام، والتوحيد هو عبادة الله وحده لا شريك له وضده الشرك الذى لا يغفره الله والإسلام العام هو أصل الدين الذى أرسلت به جميع الرسل إلى جميع الأمم.
(2) يونس، آية: 72.
(3) البقرة، الآيتان: 131-132.
(4) يونس، آية: 84.
(5) آل عمران، آية: 52.
(6) النمل، آية: 44.
(7) المائدة، آية: 44.(1/44)
وهذا التوحيد الذي هو أصل الدين هو أعظم العدل وضده وهو الشرك أعظم الظلم كما أخرج الشيخان فى الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال لما نزلت هذه الآية { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } (1). شق ذلك على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال: ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح { إنَّ الشرك لظلمٌ عظيمٌ } ». أهـ.
هذا ما يقوله شيخ الإسلام ابن تيمية الإسلام هو التوحيد، لم يقل الإسلام هو التلفظ، ولم يقل الإسلام هو الانتساب، ولم يقل الإسلام هو عقد الإسلام، والإسلام والتوحيد وهما شيء واحد معناهما أن نعبد الله ولا نشرك به شيئًا كما جاءت بها النصوص، وشيئًا نكرة فى سياق النهي تفيد الاستغراق، فمن التزم بالتوحيد والبراءة من الشرك وترك جملة من الشرك وأقر بالتوحيد وأشرك مع ذلك بالله شيئًا لم يكن قد عبد الله وحده ولم يشرك به شيئًا، ويكون قد أتى بالشرك الذي هو أعظم الظلم والذنب الذي لا يغفره الله ـ عمومًا ليس له تخصيص ـ وهو ضد التوحيد وضد الإسلام لأن الإسلام والتوحيد شيء واحد ووقوع الشرك ينفي التوحيد وينفي الإسلام والمشرك لا يكون مسلمًا بأي حال من الأحوال، والأنبياء عندما جاءوا بدين الإسلام لم يشتركوا فى مجرد الاسم، ولم يشتركوا فى انتساب ولا تلفظ، بل انتساباتهم(2) مختلفة وتلفظاتهم مختلفة وشرائعهم متنوعة، ولم تجمعهم غير حقيقة واحدة هى الإسلام أن نعبد الله ولا نشرك به شيئًا، ونؤمن بالله والكتب والرسل والملائكة واليوم الآخر والقدر خيره وشره، فمن فرق بين الله ورسله وقال نؤمن ببعض ونكفر ببعض ليس
__________
(1) الأنعام، آية: 82.
(2) يقول الله عز وجل: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } (المائدة، آية: 69).(1/45)
مسلمًا، ومن كان عدوًا لجبريل وميكال فإنَّ الله عدوٌ للكافرين، ومن فرَّق بين أحكام الله وأخباره فقبل بعضها ورد البعض الآخر فقد آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض، ومن صدَّق بعض أخباره وكذَّب البعض الآخر فقد كذب الله سبحانه فى كل ما قال وجعل القرآن عضين. هذه بديهيات كان يعلمها الغلام فى الكُتَّاب والجارية فى خدرها والراعي يسوق غنمه وإبله فماذا حدث فى آخر الزمان، ويلٌ للعرب من شرٍ قد اقترب ولا حول ولا قوة إلا بالله.(1/46)
يقول ابن كثير(1) - رضي الله عنه - فى تفسير قوله تعالى: { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } (2): «هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة فى الأحكام المتفقة فى التوحيد كما ثبت فى ”صحيح البخاري“ عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «نحن معاشر الأنبياء أخوة لعلات ديننا واحد» يعني بذلك التوحيد الذي بعث الله به كل رسول أرسله وضمنه كل كتاب أنزله كما قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ } (3)، وقال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فى كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } (4). وأمَّا الشرائع فمختلفة فى الأوامر والنواهي فقد يكون الشيء فى هذه الشريعة حرامًا ثم يُحل فى الأخرى وبالعكس وخفيفًا فيزداد فى الشدة فى هذه دون هذه لما له تعالى من الحجة الدامغة والحكمة البالغة، قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } (5). يقول سبيلاً وسنة، والسنن مختلفة هى فى التوراة شريعة وفي الإنجيل شريعة وفي الفرقان شريعة يحل الله ما يشاء ويحرم ما يشاء ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، والدين الذي لا يقبل الله غيره: التوحيد والإخلاص لله تعالى الذي جاء به جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام». أهـ.
__________
(1) تفسير ابن كثير، ج2، ص66.
(2) المائدة، آية: 48.
(3) الأنبياء، آية: 25.
(4) النحل، آية: 36.
(5) المائدة، آية: 48.(1/47)
ويقول البيضاوي(1): فى تفسير قوله تعالى { قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } (2) يقول: « { كَلِمَةٍ سَوَاءٍ } .لا يختلف فيها الرسل والكتب وتفسيرها ما بعدها { أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ } . ولا نقول عزيرٌ بن الله ولا المسيح بن الله ولا نطيع الأحبار أو الرهبان فيما أحدثوا من التحريم والتحليل لأن كلاً منهم بشر مثلنا روى أنه لما نزلت { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } (3). قال عدي بن حاتم: ما كنا نعبدهم يا رسول الله قال: أليس كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم قال: نعم قال: (هو ذاك) فإن تولوا عن التوحيد { فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } ، أي لزمتكم الحجة أو اعترفوا بأننا مسلمون دونكم أو اعترفوا بأنكم كفرتم بما نطقت به الكتب وتطابقت عليه الرسل». أهـ.
هذا هو الإسلام، وهذه هى حقيقة الإسلام، تحقيق الكلمة بالتوحيد مَنْ يأت الله بغير هذا لأي سبب كان ولأي عذر كان فلن يُقبل منه وهو فى الآخرة من الخاسرين، ومن يرد أن يتقرب إلى الله بغير هذا فلن يُقبل منه وهو فى الآخرة من الخاسرين.
__________
(1) تفسير البيضاوى.
(2) آل عمران، آية: 64.
(3) التوبة، آية: 31.(1/48)
وإذا كان الدين هو مطلق الطاعة والانقياد فإن الله لا يقبل أي انقياد كان وأي طاعة كانت وإنما يقبل فقط طاعة معينة محددة هى الإسلام الذي لا يتحقق إلا بتحقيق الكلمة بالتوحيد إتيانًا وتركًا وليس التزامًا وإقرارًا بالتوحيد أو براءة إجمالية أو عقد انتساب يُعفيه من جريمة الشرك، ويُخصص عموم قوله تعالى { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (1)، وقوله تعالى: { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلاَمُ } (2)، { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فى الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ } (3) لأن هذه العمومات قطعية لا تخصيص لها البتة بأي حال من الأحوال، والعمومات المكية إذا كانت عارية عن التخصيص لأنها قواعد الدين الكلية، فالعمومات الراجعة إلى أصل الدين وأصل التوحيد أولى منها بذلك.
أما الانتسابات فمتنوعة وعقود هذه الانتسابات متنوعة وكل هذا ليس له تأثير فى الحقيقة، فالله سبحانه يقول: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } (4).
__________
(1) النساء، آية: 48.
(2) آل عمران، آية: 19.
(3) آل عمران، آية: 85.
(4) البقرة، آية: 62.(1/49)
ويقول عن النصارى فى سياق المدح: { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ - وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } (1).
وهؤلاء هم الذين قال عنهم فى سورة القصص: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ - وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ - أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ - وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } (2).
وقال عن اليهود فى سياق المدح: { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ } (3)، { وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } (4)، { إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ } (5).
__________
(1) المائدة، الآيتان: 82-83.
(2) القصص، الآيات: 52-55.
(3) الأعراف، آية: 137.
(4) الأعراف، آية: 159.
(5) الأعراف، آية: 156.(1/50)
وقال عن الاثنين فى سياق الذم: { وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ - اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } (1)، وقال سبحانه: { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } (2). والمغضوب عليهم هم اليهود والضالون هم النصارى، وقال - عز وجل -: { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } (3).
__________
(1) التوبة، الآيتان: 30-31.
(2) الفاتحة، آية: 7.
(3) المائدة، آية: 72.(1/51)
فالانتساب متحقق لليهود والنصارى حتى اليوم، ولم يكن فى يوم من الأيام حصانة من الشرك يمنع منافاته للإسلام ويمنع وقوع الكفر به ويمنع الخلود فى النار به يوم القيامة، وكذلك عقد هذا الانتساب مع أنبيائهم متحقق حتى اليوم وليس له أيضًا هذا التأثير، وكذلك إقرارهم الإجمالي بالتوحيد وبراءتهم الإجمالية من الشرك متحقق هم يقولون ثلاثة، وإذا سألتهم قالوا لا نعبد إلا إلهًا واحدًا وليس للمخلوقات إلا خالق واحد، وإذا كانت هذه الأشياء المتحققة لهم حتى اليوم من الانتساب وعقد الانتساب والإقرار الإجمالي بالتوحيد والبراءة الإجمالية من الشرك تمنع وقوع كفرهم بارتكابهم لمفردات الشرك والجحود وما إلى ذلك فإن إنكارهم لرسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - هو فرد من مفردات الشرك والكفر فيجب بناءً على هذا ألا يكفروا به، وهذا معلوم بطلانه من ديننا بالضرورة «ما يسمع بي يهوديٌ أو نصرانيٌ ثم لا يؤمن بي إلا وجبت له النار» والله سبحانه وتعالى يقول: { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ } (1).
والله سبحانه وتعالى يقول: { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ - وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (2).
__________
(1) آل عمران، آية: 67.
(2) آل عمران، الآيتان: 79-80.(1/52)
يقول ابن كثير فى تفسيره(1): «أي لا يأمركم بعبادة أحد غير الله لا نبي مرسل ولا ملك مقرب { أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } . أي لا يفعل ذلك إلا من دعا إلى عبادة غير الله ومن دعا إلى عبادة غير الله فقد دعا إلى الكفر، والأنبياء إنما يأمرون بالإيمان وهو عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُون } (2) وقال إخبارًا عن الملائكة: { وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ } (3)». أهـ.
يقول الله سبحانه وتعالى: { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } (4).
وكل ردة وقعت على مدار التاريخ البشري كله إنما كانت بعد انتساب ومع وجود عقد الانتساب ومع الإقرار بالتوحيد والبراءة من الشرك وإنما وقعت بمفردات الشرك أو الشك أو الجحود وتتابع الأمر حتى أصبحوا يورّثون أبناءهم ما هم عليه، وأصبح الحق فى غربة، فكانت الجاهلية هكذا دومًا على مدار التاريخ البشري كله مع كل الرسل يقول الله - عز وجل -: { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (5).
__________
(1) تفسير ابن كثير، ج1، ص377.
(2) الأنبياء، آية: 25.
(3) الأنبياء، آية: 29.
(4) المائدة، آية: 73.
(5) البقرة، آية: 213.(1/53)
يقول شيخ الإسلام(1): «قال تعالى: { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } يعني فاختلفوا كما فى سورة يونس وكذلك فى قراءة بعض الصحابة، وهذا على قراءة الجمهور من الصحابة والتابعين أنهم كانوا على دين الإسلام وفي تفسير ابن عطية أنهم كانوا على الكفر وليس هذا بشيء وتفسير ابن عطية عن ابن عباس ليس بثابت عن ابن عباس بل قد ثبت عنه أنه قال: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام. وقد قال تعالى فى سورة يونس { وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا } فذمهم على الاختلاف بعد أن كانوا على دين واحد فعلم أنه كان حقًا». أهـ.
وكلامنا عن الشرك وليس عن المعاصي وكما قال البخاري: ”المعاصي من أمر الجاهلية ولا يَكْفُر أو يُكَفَّر بارتكابها إلا بالشرك“. فالشرك يُكَفِّر المسلم ويَكْفُر بارتكابه، وأمَّا المعاصي فلا يُكَفِّر بارتكابها إلا الخوارج، ومن لم ير الشرك كفرًا يكفر المسلم بمجرد ارتكابه كان مكذبًا لصريح القرآن منكرًا لمعلوم من الدين بالضرورة والله سبحانه وتعالى يقول: { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (2).
__________
(1) منهاج السنة، ج3، ص65.
(2) آل عمران، آية: 80.(1/54)
وإذا كان ارتكاب اليهود والنصارى للشرك ينفي عنهم الإسلام ويوجب لهم الكفر بانتفاء الإسلام رغم انتسابهم لدين الإسلام ورغم إقرارهم الإجمالي بالتوحيد وبراءتهم الإجمالية من الشرك فإن نفس القاعدة تسري علينا، فالذين آمنوا، والنصارى، واليهود والصابئون، سواء فى هذه القاعدة لأن دين الأنبياء واحد يتحقق بالتوحيد وينتفي بالشرك والكبر، { وَلَقَدْ أُوحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } (1) { وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } (2)، وكلامنا إنما هو على حقيقة الإسلام، والإمام البخاري يقول: باب ”إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل لقوله تعالى: { قَالَتْ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } “ (3). فإذا كان على الحقيقة فهو على قوله جلَّ ذكره { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلاَمُ } (4).
حقيقة الإسلام من حيث اللفظ:
__________
(1) الزمر، آية: 65.
(2) الأحزاب، آية: 4.
(3) الحجرات، آية: 14.
(4) آل عمران، آية: 19.(1/55)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية(1): «وكل واحد من المستكبرين والمشركين ليسوا مسلمين... بل الإسلام هو الاستسلام لله وحده، ولفظ الإسلام يتضمن الاستسلام لله ويتضمن إخلاصه لله، وقد ذكر ذلك غير واحد من أهل العربية كأبي بكر بن الأنباري وغيره، ومن المفسرين من يجعلهما قولين كما يذكر طائفة منهم البغوي: إن المسلم هو المستسلم لله، وقيل هو المخلص، والتحقيق أن المسلم يجمع بين هذا وهذا فمن لم يستسلم لله لم يكن مسلمًا، ومن استسلم لغيره كما يستسلم له لم يكن مسلمًا، ومن استسلم له وحده فهو المسلم، كما فى القرآن { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } (2) والاستسلام له يتضمن الاستسلام لقضائه وأمره ونهيه { إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } (3)». أهـ.
__________
(1) رسالة النبوات، ص73-74.
(2) النساء، آية: 125.
(3) يوسف، آية: 90.(1/56)
وهؤلاء يقولون المشركون مسلمون إذا كان معهم عقد الإسلام لم ينتسبوا مع وقوعهم فى الشرك إلى دين آخر أو يرفضوا الانتساب لأي دين، ويقولون هم مسلمون وإن كانوا مشركين إذا كان معهم الإقرار الإجمالي بالتوحيد والبراءة الإجمالية من الشرك دون أن يكون لهذا الإقرار الإجمالي وهذه البراءة الإجمالية حقيقة يمكن أن يقف أحد عليها أو يمكن لأحد تحصيل معناها وحدّها، وليس لها فى الواقع إلا معنى الانتساب، فمن ظل منتسبًا إلى الإسلام عندهم فهو المسلم فى الحقيقة وإن مات على ذلك دخل الجنة لمجرد الانتساب وإن كان ”مشركًا“، ”شاكًا“، ”مكذبًا“ ينكر البعث ويعبد غير الله ويشك فى علم الله وقدرته، ويهين المقدسات ويقول(1) إن لله صاحبة وولدًا وأنه سبحانه يلد ويولد وأنه اتخذ الملائكة إناثًا، وأن بينه وبين الجِنَّةِ نسبًا، أي لو جمع كل الكفريات والشركيات قولاً وعملاً واعتقادًا فإنه مسلم فى الحقيقة لمجرد الانتساب، هذه هى حقيقة دعواهم وعقيدتهم، ومسألة الانتساب لها حقيقة يمكن الوقوف عليها وإن كانت باطلاً، أما الإقرار الإجمالي بالتوحيد والبراءة الإجمالية من الشرك فقولان ليس لهما حقيقة يمكن الوقوف عليها، والمعروف عن التوحيد وترك الشرك أنه لا يتحقق إلا بالإتيان والترك قولاً وعملاً، ظاهرًا، وباطنًا، وليس غريبًا أن يلجأ البعض إلى ألفاظ لا حقيقة لها يلبس بها على الناس دينهم فقد وقع هذا قديمًا وقديمًا قالوا:
مما يقال ولا حقيقة عنده ... معقولة تدنو إلى الإفهام
الكسب عند الأشعري والحال
... عند البهشمي وطفرة النظام
__________
(1) حسب قواعدهم التي أصَّلوها، وأحيانا يصرحون ببعض هذا.(1/57)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية(1): «والله أرسل رسوله بالإسلام والإيمان بعبادة الله(2) وحده، وتصديق الرسول فيما أخبر(3). فالأعمال عبادة الله، والعلوم تصديق الرسول وكان النبيّ يقرأ فى ركعتي الفجر تارة بسورتي الإخلاص، وتارة { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا } الآية، فإنها تتضمن: الإيمان والإسلام، وبالآية { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ } الآية».
ويقول(4): «والإرادة إرادة ما أمروا به، وذلك عبادة الله وحده لا شريك له فهذه هى السعادة وذلك إنما يكون بتصديق رسله وطاعتهم فلهذا كانت السعادة متضمنة لهذين الأصلين: الإسلام والإيمان، عبادة الله وحده وتصديق رسوله، وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله قال تعالى: { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } (5). قال أبو العالية هما خصلتان يسأل عنهما كل واحد: من كنت تعبد؟ وبماذا أجبت المرسلين؟».
__________
(1) رسالة النبوات، ص86.
(2) وهى الإسلام.
(3) وهو الإيمان.
(4) رسالة النبوات، 91-94.
(5) الأعراف، آية: 6.(1/58)
إلى أن يقول: وقد قال تعالى: { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فى الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ } (1). والإسلام هو دين جميع الأنبياء والمرسلين ومن اتبعهم من الأمم كما أخبر الله بنحو ذلك فى غير موضع فى كتابه. فأخبر عن نوح وإبراهيم وإسرائيل أنهم كانوا مسلمين وكذلك عن أتباع عيسى وموسى وغيرهم، والإسلام هو أن يستسلم لله لا لغيره فيعبد الله ولا يشرك به شيئًا ويتوكل عليه وحده، ويرجوه ويخافه وحده، ويحب الله المحبة التامة لا يحب مخلوقًا كما يحب الله ويبغض ويوالي لله ويعادي لله، فمن استكبر عن عبادة الله لم يكن مسلمًا، ومن عبد مع الله غيره لم يكن مسلمًا، وإنما تكون عبادته بطاعته وطاعة رسوله { مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } (2). فكل رسول بعث بشريعة فالعمل بها فى وقتها هو دين الإسلام، وأما ما بُدِّلَ منها فليس من دين الإسلام.
وإذا نسخ منها ما نسخ، لم يبق من دين الإسلام، كاستقبال بيت المقدس فى أول الهجرة بضعة عشر شهرًا، ثم الأمر باستقبال الكعبة وكلاهما فى وقته دين الإسلام، فبعد النسخ لم يبق دين الإسلام إلا أن يولي وجهه شطر المسجد الحرام فمن قصد أن يصلي إلى غير تلك الجهة لم يكن على دين الإسلام لأنه يريد أن يعبد الله بما لم يأمر به».
__________
(1) آل عمران، آية: 85.
(2) النساء، آية: 80.(1/59)
يقول شيخ الإسلام(1): «والإسلام يتضمن الاستسلام لله وحده فمن استسلم له ولغيره كان مشركًا، ومن لم يستسلم له كان مستكبرًا عن عبادته والمشرك به والمستكبر عن عبادته كافرٌ، والاستسلام له وحده يتضمن عبادته وحده وطاعته وحده، فهذا دين الإسلام الذي لا يقبل الله غيره، وذلك بأن يطاع فى كل وقت بفعل ما أمر به فى ذلك الوقت، فإذا أمر فى أول الأمر باستقبال الصخرة ثم أمرنا ثانيًا باستقبال الكعبة كان كل من الفعلين ـ حين أمر به ـ داخلاً فى الإسلام، فالدين هو الطاعة والعبادة له فى الفعلين، وإنما يتنوع بعض صور الفعل وهو جهة المصلي فكذلك الرسل وإن تنوعت الشرعة والمنهاج والوجه والنسك فإن ذلك لا يمنع أن يكون الدين واحدًا، كما لم يمنع ذلك فى شريعة الرسول الواحد». أهـ.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية(2): «دين الإسلام مبنيٌ على أصلين: أن يُعبد الله وحده لا شريك له، وأن نعبده بما شرعه من دينه وهو ما أمرت به الرسل أمر إيجاب أو استحباب، فيعبد فى كل زمان بما أمر به فى ذلك الزمان، فلما كانت شريعة التوراة محكمة كان العاملون بها مسلمين، وكذلك شريعة الإنجيل، وكذلك فى أول الإسلام، لما كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يصلي إلى بيت المقدس كانت صلاته إليه من الإسلام، ولما أمر بالتوجه إلى الكعبة كانت الصلاة إليها من الإسلام والعدول عنها إلى الصخرة خروجًا عن دين الإسلام، فكل من لم يعبد الله بعد بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - بما شرعه الله من واجب ومستحب فليس بمسلم». أهـ.
__________
(1) الرسالة التدمرية، ص52.
(2) قاعدة جليلة فى التوسل والوسيلة، ص50.(1/60)
ويقول شيخ الإسلام(1): «والحقيقة، حقيقة الدين، دين ربّ العالمين هى ما اتفق عليه الأنبياء والمرسلون، وإن كان لكل منهم شرعة ومنهاجًا، فالشرعة هى الشريعة. قال تعالى: { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } (2) وقال - عز وجل -: { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ - إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ } (3). والمنهاج هو الطريق، قال تعالى: { وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لاَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا } (4). فالشرعة بمنزلة الشريعة للنهر، والمنهاج هو الطريق الذي يسلك فيه والغاية المقصودة هى حقيقة الدين وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وهي حقيقة دين الإسلام، وهو أن يستسلم العبد لله ربِّ العالمين لا يستسلم لغيره، فمن استسلم لغيره كان مشركًا، والله لا يغفر أن يشرك به، ومن لم يستسلم لله بل استكبر عن عبادته كان ممن قال الله فيه: { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } (5)، ودين الإسلام هو دين الأولين والآخرين من النبيين والمرسلين، وقوله تعالى: { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فى الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ } (6) عام فى كل زمان ومكان». أهـ.
__________
(1) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة، ص97- 98، مكتبة القاهرة، (على يوسف سلمان) حققه وصحح أصوله طه الزينى.
(2) المائدة، آية: 48.
(3) الجاثية، الآيتان: 18-19.
(4) الجن، آية: 16.
(5) غافر، آية: 60.
(6) آل عمران، آية: 85.(1/61)
ويقول(1): «وكذلك فى العبادات فالنصارى يعبدونه ببدع ابتدعوها ما أنزل الله بها من سلطان، واليهود معرضون عن العبادات حتى فى يوم السبت الذي أمرهم الله أن يتفرغوا فيه لعبادته، إنما يشتغلون فيه بالشهوات، فالنصارى مشركون واليهود مستكبرون عن عبادته، والمسلمون عبدوا الله وحده بما شرع ولم يعبدوه بالبدع وهذا هو دين الإسلام الذي بعث الله به جميع النبيين، وهو أن يستسلم العبد لله لا لغيره، وهو الحنيفية دين إبراهيم، فمن استسلم لله ولغيره كان مشركًا، ومن لم يستسلم له فهو مستكبر، وقد قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (2)، وقال - عز وجل -: { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } (3). أهـ.
ويقول أيضًا (4): «فإن الله إنما خلق الخلق لعبادته وخلق فيهم الشهوات ليتناولوا بها ما يستعينون به على عبادته، ومن لم يعبد الله فإنه فاسد هالك، والله لا يغفر أن يشرك به، فيُعبد معه غيره، فكيف بمن عطَّل عبادته فلم يعبده البتة كفرعون وأمثاله وقد قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (5) والتعطيل ليس دون الشرك بل أعظم منه فالمستكبرون عن عبادته أعظم جرمًا من الذين يعبدونه ويعبدون معه غيره، وهؤلاء لا يغفر لهم فأولئك أولى». أهـ.
__________
(1) منهاج السنة، ج3، ص43.
(2) النساء، آية: 48.
(3) غافر، آية: 60.
(4) منهاج السنة، ج3، ص43.
(5) النساء، آية: 48.(1/62)
ويقول شيخ الإسلام (1): «والله سبحانه له حقوق لا يشركه فيها غيره، وللرسل حقوق لا يشركهم فيها غيرهم وللمؤمنين على المؤمنين حقوق مشتركة، ففي الصحيحين عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: كنت رديف النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: «يا معاذ: أتدري ما حق الله على العباد؟ فقلت الله ورسوله أعلم. قال: حقه عليهم، أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، يا معاذ أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حقهم عليه أن لا يعذبهم».
فالله مستحق أن يعبد لا يشرك به شيء، وهذا هو أصل التوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزلت به الكتب، قال تعالى: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } (2)، وقال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ } (3)، وقال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فى كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } (4).
ويدخل فى ذلك أن لا تخاف إلا إياه ولا تتقي إلا إياه، وكذلك قال الله تعالى { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } (5). يقول ابن تيمية: فجعل التحسب بالله وحده، وجعل الفضل لله وجعل الرغبة إلى الله دون ما سواه إلى أن يقول: فالله هو الذي يُتوكل عليه ويُستعان به ويُستغاث به، ويخاف ويرجى ويعبد، وتنيب القلوب إليه، ولا حول ولا قوة إلا به، ولا منجي منه إلا إليه، والقرآن كله يحقق هذا الأصل.
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم، ص440-464.
(2) الزخرف، آية: 45.
(3) الأنبياء، آية: 25.
(4) النحل، آية: 36.
(5) التوبة، آية: 59.(1/63)
والرسول - صلى الله عليه وسلم - يطاع ويحب ويرضى به، ويُسلم إليه حكمه، ويعزَّر ويوقَّر ويتبع ويؤمن به وبما جاء به، قال تعالى: { مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } (1)، وقال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ } (2)، وقال تعالى: { وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ } (3). وقال تعالى: { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فى سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } (4). وفي الصحيحين عنه قال - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاث مَنْ كُنَّ فيه وجد حلاوةَ الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ، ومن كان يكره أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقي فى النار»، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين». وقال تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (5)، وقال تعالى: { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا - لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } (6). فالإيمان بالله والرسول، والتعزير والتوقير للرسول والتسبيح لله وحده.
__________
(1) النساء، آية: 80.
(2) النساء، آية: 64.
(3) التوبة، آية: 62.
(4) التوبة، آية: 24.
(5) آل عمران، آية: 31.
(6) الفتح، الآيتان: 8-9.(1/64)
والعبادات التي شرعها الله كلها تتضمن إخلاص الدين كله لله تحقيقًا لقوله تعالى: { وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } (1).
فالصلاة لله وحده، والصدقة لله وحده، والصيام لله وحده، والحج لله وحده، إلى بيت الله وحده، فالمقصود من الحج عبادة الله وحده فى البقاع التي أمر الله بعبادته فيها، ولهذا كان الحج شعار الحنيفية حتى قال طائفة من السلف حنفاء الله: أي حجاجًا، فإن اليهود والنصارى لا يحجون البيت. قال طائفة من السلف لما أنزل الله تعالى: { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } (2).
__________
(1) البينة، آية: 5.
(2) آل عمران، آية: 85.(1/65)
قالت اليهود والنصارى: نحن مسلمون فأنزل الله تعالى: { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } (1)، فقالوا لا نحج، فقال تعالى: { وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ } (2)، وقوله تعالى: { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلاَمِ دِينًا... } الآية. عام فى الأولين والآخرين بأن دين الإسلام هو دين الله الذي جاء به أنبياؤه وعليه عباده المؤمنون، كما ذكر الله ذلك فى كتابه من أول رسول بعثه إلى أهل الأرض نوح وإبراهيم وإسرائيل وموسى وسليمان وغيرهم من الأنبياء، قال الله تعالى فى حق نوح: { فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِين } (3)، وقال تعالى فى حق إبراهيم وإسرائيل: { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فى الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فى الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ - إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِين - وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ - أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } (4)، وقال تعالى عن يوسف: { أَنْتَ وَلِيِّ فى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } (5)، وقال تعالى عن موسى: { يَا
__________
(1) آل عمران، آية: 97.
(2) آل عمران، آية: 97.
(3) يونس، آية: 72.
(4) البقرة، الآيات: 130-133.
(5) يوسف، آية: 100.(1/66)
قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } (1)، وقال فى أنبياء بني إسرائيل: { إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا... } (2) الآية، وقال عن بلقيس: { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (3)، وقال عن الحواريين: { رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } (4)، وقال تعالى: { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } (5)، وقال تعالى: { وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِين َ - بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } (6).
وقد فُسر إسلام الوجه لله بما يتضمن إخلاص قصد العبد لله بالعبادة له وحده، وهو محسنٌ بالعمل الصالح المشروع، وهذان الأصلان: جماع الدين. أن لا نعبد إلا الله، وأن نعبده بما شرع، لا نعبده بالبدع، قال تعالى: { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } (7).
__________
(1) يونس، آية: 84.
(2) المائدة، آية: 44.
(3) النمل، آية: 44.
(4) آل عمران، آية: 53.
(5) النساء، آية: 125
(6) البقرة، الآيتان: 111-112.
(7) الكهف، آية: 110.(1/67)
وهذان الأصلان هما تحقيق الشهادتين اللتين هما رأس الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدًا رسول الله، فإن الشهادة لله بأنه لا إله إلا هو، تتضمن: إخلاص الألوهية له، فلا يجوز أن يتأله القلب غيره، لا بحب ولا خوف ولا رجاء ولا إجلال ولا إكبار ولا رغبة ولا رهبة بل لابد أن يكون الدين كله لله، كما قال تعالى: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } (1) فإذا كان بعض الدين لله، وبعضه لغيره كان فى ذلك من الشرك بحسب ذلك، وكمال الدين كما جاء فى الحديث الذي رواه الترمذي وغيره «من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان». فالمؤمنون يحبون الله ولله، والمشركون يحبون مع الله كما قال تعالى: { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } (2).
__________
(1) الأنفال: 39.
(2) البقرة، آية: 165.(1/68)
والشهادة بأن محمدًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تتضمن تصديقه فى كل ما أخبر وطاعته فى كل ما أمر فما أثبته وجب إثباته، وما نفاه وجب نفيه، كما يجب على الخلق أن يثبتوا لله ما أثبته الرسول لربِّه من الأسماء والصفات، وينفوا عنه ما نفاه عنه من مماثلة المخلوقات فيخلصون من التمثيل والتعطيل، وعليهم أن يفعلوا ما أمرهم به، وأن ينتهوا عما نهاهم عنه، ويحلوا ما أحله ويحرموا ما حرمه، فلا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله ولا دين إلا ما شرعه الله ورسوله، ولهذا ذمَّ الله المشركين فى سورة الأنعام والأعراف وغيرهما من السور، لكونهم حرَّموا ما لم يحرمه الله، ولكونهم شرعوا دينًا لم يأذن به الله ، كما فى قوله تعالى: { وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنْ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيبًا... } (1) إلى آخر السورة، وما ذكر الله فى صدر سورة الأعراف، وكذلك قوله تعالى: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } (2).
__________
(1) الأنعام، آية: 136.
(2) الشورى، آية:21.(1/69)
وقد قال تعالى: { قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } (1)، فقرن بعدم إيمانهم بالله واليوم الآخر أنهم لا يحرمون ما حرمه الله ورسوله ولا يدينون دين الحقّ، والمؤمنون صدقوا الرسول فيما أخبر به عن الله واليوم الآخر، فآمنوا بالله واليوم الآخر وأطاعوه فيما أمرَ ونَهَى وحلَّل وحرَّم، فحرَّموا ما حرَّم الله ورسولُه، ودانوا دينَ الحقِّ، فإنَّ الله بعثَ الرسولَ يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، فأمرهم بكل معروف ونهاهم عن كل منكر، وأحلَّ لهم كل طيب وحرم عليهم كل خبيث.
__________
(1) التوبة، آية: 29.(1/70)
ولفظ الإسلام يتضمن الاستسلام، والانقياد ويتضمن الإخلاص مأخوذ من قوله الله تعالى: { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِرَجُلٍ } (1) فلابد فى الإسلام من الاستسلام لله وحده وترك الاستسلام لما سواه، وهذا حقيقة قولنا ”لا إله إلا الله“ فمن استسلم لله ولغير الله فهو مشرك، والله لا يغفر أن يشرك به، ومن لم يستسلم له فهو مستكبر عن عبادته، وقد قال تعالى: { وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } (2)، وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - فى الصحيح أنه قال: «لا يدخل الجنة من فى قلبه مثقال ذرة من كبر، ولا يدخل النار من فى قلبه مثقال ذرة من إيمان، فقيل له: يا رسول الله: الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنًا، أفمن الكبر ذاك؟ قال: لا إن الله جميلٌ يحبُّ الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس» بطر الحق جحوده ودفعه وغمط الناس ازدراءهم واحتقارهم، فاليهود موصوفون بالكبر والنصاري موصوفون بالشرك قال تعالى فى نعت اليهود: { أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ } (3)، وقال في نعت النصارى: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } (4)، ولهذا قال فى سياق الكلام على النصارى: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ
__________
(1) الزمر، آية: 29.
(2) غافر، آية: 60.
(3) البقرة، آية: 87.
(4) التوبة، آية: 31.(1/71)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } (1).
وقال تعالى في سياق تقريره للإسلام وخطابه لأهل الكتاب: { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون َ - فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فى شِقَاقٍ } إلى قوله تعالى: { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } (2). ولما كان أصل الدين(3) الذي هو دين الإسلام واحدًا وإن تنوعت شرائعه قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فى الحديث الصحيح: «إنَّا معاشر الأنبياء ديننا واحد» و«الأنبياء أخوة لعلات» و«إنَّ أولى الناس بابن مريم لأنا فليس بيني وبينه نبيّ» فدينهم واحد وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وهو يعبد فى كل وقت بما أمر به فى ذلك الوقت، وذلك هو دين الإسلام فى ذلك الوقت، وتنوع الشرائع فى الناسخ والمنسوخ من المشروع كتنوع الشريعة الواحدة، وكما أن دين الإسلام الذي بعث الله به محمدًا - صلى الله عليه وسلم - هو دين واحد مع أنه كان فى وقت يجب استقبال بيت المقدس فى الصلاة كما أمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المسلمين بذلك بعد الهجرة لبضعة عشر شهرًا، وبعد ذلك يجب استقبال الكعبة، ويحرم استقبال الصخرة، فالدين واحد وإن تنوعت القبلة فى وقتين من أوقاته، ولهذا شرع الله تعالى لبني إسرائيل السبت ثم نسخ ذلك وشرع لنا الجمعة، فكان الاجتماع يوم السبت واجبًا إذ ذاك، ثم صار الواجب هو الاجتماع يوم الجمعة، وحرم الاجتماع يوم السبت، فمن خرج عن شريعة موسى
__________
(1) آل عمران، آية: 64.
(2) البقرة، الآيات: 136-140.
(3) أصل الدين واحد فى كل الرسالات لا تختلف أحكامه.(1/72)
قبل النسخ لم يكن مسلمًا، ومن لم يدخل فى شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد النسخ لم يكن مسلمًا، ولم يشرع الله لنبيٍّ من الأنبياء أن يعبد غير الله البتة(1)، قال تعالى: { شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } (2) فأمر الرسل أن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه، وقال تعالى { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيم ٌ - وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } (3)، وقال تعالى: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } (4)، ثم قال تعالى: { مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِين َ - مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } (5) فأهل الإشراك متفرقون وأهل الإخلاص متفقون قال تعالى: { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِين َ - إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } (6) فأهل الرحمة مجتمعون متفقون والمشركون فرّقوا دينهم وكانوا شيعًا.
__________
(1) من العمومات غير المخصوصة شأن أصول الدين كلها.
(2) الشوري، آية: 13.
(3) المؤمنون، الآيتان: 51-52.
(4) الروم، آية: 30.
(5) الروم، الآيتان: 31-32.
(6) هود، الآيتان: 118-119.(1/73)
وقد غلط فى مسمى التوحيد، طوائف من أهل النظر والكلام ومن أهل الإرادة والعبادة حتى قلبوا حقيقته فى نفوسهم، فطائفة ظنت أن التوحيد هو نفي الصفات بل نفي الأسماء الحسنى أيضًا، وسموا أنفسهم أهل التوحيد وأثبتوا ذاتًا مجردة من الصفات ووجودًا مطلقًا بشرط الإطلاق وقد علم بصريح المعقول المطابق لصحيح المنقول أن ذلك لا يكون إلا فى الأذهان لا فى الأعيان وزعموا أن إثبات الصفات يستلزم ما يسمونه تركيبًا وظنوا أن العقل ينفيه.(1/74)
وطائفة ظنوا أن التوحيد: ليس إلا الإقرار بتوحيد الربوبية وأن الله خالق كل شيء وهو الذي يسمونه توحيد الأفعال، ومن أهل الكلام من أطال نظره فى تقرير هذا الموضع إما بدليل أن الاشتراك يوجب نقص القدرة وفوات الكمال، وبأن استقلال كل من الفاعلين بالمفعول محال، وإما بغير ذلك من الدلائل ويظن أنه بذلك قرر الوحدانية، وأثبت أنه لا إله إلا هو، وأن الإلهية هى القدرة على الاختراع، ونحو ذلك، فإذا ثبت أنه لا يقدر على الاختراع إلا الله وأنه لا شريك له فى الخلق، كان هذا عندهم هو معنى قولنا ”لا إله إلاَّ الله“ ولم يعلم أن مشركي العرب كانوا مقرين بهذا التوحيد، كما قال تعالى: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } (1)، وقال تعالى: { قُلْ لِمَنْ الأرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ... } الآية(2)، وقال تعالى: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ } (3) قال ابن عباس وغيرهم: تسألهم من خلق السماوات والأرض فيقولون الله، وهم مع هذا يعبدون غيره، وهذا التوحيد هو من التوحيد الواجب لكنه لا يحصل به كل الواجب، ولا يخلص العبد بمجرده عن الإشراك الذي هو أكبر الكبائر الذي لا يغفره الله بل لابد أن يخلص لله الدين والعبادة فلا يعبد إلا إياه ولا يعبده إلا بما شرع فيكون دينه كله لله ثم إن طائفة ممن تكلم فى تحقيق التوحيد على طريقة أهل التصوف ظن أن توحيد الربوبية هو الغاية والفناء فيها هو النهاية، وأنه إذا شهد ذلك سقط عنه استحسان الحسن واستقباح القبيح، فآل بهم الأمر إلى تعطيل الأمر والنهي والوعد والوعيد ولم يفرقوا بين مشيئته الشاملة لجميع المخلوقات وبين محبته ورضاه المختص بالطاعات وبين كلماته الكونيات التي لا يجاوزهن
__________
(1) لقمان، آية: 25.
(2) المؤمنون، الآيتان: 84-85.
(3) يوسف، آية: 106.(1/75)
برٌ ولا فاجرٌ، لشمول القدرة لكل مخلوق وكلماته الدينيات التي اختص بموافقتها أنبياؤه، وأولياؤه، فالعبد مع شهود الربوبية العامة الشاملة، للمؤمن والكافر والبر والفاجر عليه أن يشهد ألوهيته التي اختص بها عباده المؤمنين الذين عبدوه وأطاعوا أمره واتبعوا رسله قال تعالى: { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فى الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } (1)، وقال تعالى: { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } (2)، وقال تعالى: { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ } (3) ومن لم يفرق بين أولياء الله وأعدائه وبين ما أمر به وأوجبه من الإيمان والأعمال الصالحات وبين ما كرهه ونهى عنه وأبغضه من الكفر والفسوق والعصيان مع شمول قدرته ومشيئته وخلقه لكل شيء، وإلا وقع فى دين المشركين الذين قالوا: { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } (4) والقدر يؤمن به ولا يحتج به بل العبد مأمور بأن يرجع إلى القدر عند المصائب ويستغفر الله عند الذنوب والمعايب.
__________
(1) ص، آية: 28.
(2) الجاثية، آية: 21.
(3) القلم، آية: 35.
(4) الأنعام، آية: 148.(1/76)
ثم إن أولئك المبتدعين الذين أدخلوا فى التوحيد نفي الصفات وهؤلاء الذين أخرجوا عنه متابعة الأمر: إذا حققوا القولين أفضي بهم الأمر إلى أن لا يفرقوا بين الخالق والمخلوق بل يقولون بوحدة الوجود كما قاله أهل الإلحاد القائلين بالوحدة والحلول والاتحاد الذين يعظمون الأصنام وعابديها وفرعون وهامان وقومهما ويجعلون وجود خالق الأرض والسماوات هو وجود كل شيء من الموجودات ويدعون التوحيد والتحقيق والعرفان وهم من أعظم أهل الشرك والتلبيس والبهتان، يقول عارفهم السالك فى أول الأمر يفرق بين الطاعة والمعصية ـ أي نظرًا إلى الأمر ـ ثم يرى طاعة بلا معصية ـ أي نظرًا إلى القدر ـ ثم لا طاعة ولا معصية ـ أي نظرًا إلى أن الوجود واحد.
ومن أحكم الأصلين المتقدمين فى الصفات والخلق والأمر يميز بين الأمر المحبوب المرضي لله وبين غيره مع شمول القدر لهما وأثبت للخالق سبحانه وتعالى الصفات التي توجب مباينته للمخلوقات وأنه ليس فى مخلوقاته شيء من ذاته ولا فى ذاته شيء من مخلوقاته، أثبت التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه كما نبَّه على ذلك فى سورتي الإخلاص { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } ، { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } .(1/77)
وسورة { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } فيها التوحيد القولي العلمي الذي تدل عليه الأسماء والصفات ولهذا قال تعالى: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ - اللَّهُ الصَّمَدُ - لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ - وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } ، وسورة { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُون } فيها التوحيد القصدي العملي كما قال تعالى: { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُون َ - لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُون } . وبهذا يتميز مَنْ يعبد الله ممن يعبد غيره، وإن كان كل واحد منهما يقر بأن الله ربُّ كل شيء ومليكه ويتميز عباد الله المخلصون الذين لم يعبدوا إلا إياه ممن عبدوا غيره وأشركوا به أو نظروا إلى القدر الشامل لكل شيء فسوي بين المؤمنين والكفار، كما كان يفعل المشركون من العرب ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: ”إنها براءة من الشرك“». أهـ.
ومن كل ما سبق نقله يتضح أن:
الإسلام: إخلاص:
والإخلاص: إخلاص الولاء لله ، يقول سبحانه وتعالى: { قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ } (1).
ولما كانت العبادة هى غاية الحب مع غاية الذل، والولاء أصله الحب فإن إخلاص الولاء لله هو إخلاص العبادة لله بمعنى إفراد الله بغاية الحب، يقول سبحانه وتعالى: { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } (2).
والولاء: ولاء نصرة، وولاء اتباع، وولاء نسك.
__________
(1) الأنعام، آية: 14.
(2) البقرة، آية: 165.(1/78)
أ- وعن ولاء النصرة يقول سبحانه وتعالى: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ - وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ } (1).
ب- ويقول - عز وجل - عن ولاء الاتباع: { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (2)، ويقول تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيم ٌ - قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } (3)، ويقول سبحانه وتعالى: { اتبعوا ما أُنزِلَ إليكم من ربِّكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون } (4)، ويقول تعالى: { إِنَّ وَلِيِّي اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ } (5).
ج- ويقول سبحانه وتعالى عن ولاية النسك: { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّين - أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ في مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } (6).
__________
(1) المائدة، الآيتان: 55-56.
(2) البقرة، آية: 257.
(3) آل عمران، الآيتان: 31-32.
(4) الأعراف، آية: 3.
(5) الأعراف، آية: 196.
(6) الزمر، الآيتان: 2-3.(1/79)
الإسلام هو الإخلاص: والإخلاص، إفراد الله سبحانه وتعالى بحقه الخالص، وحق الله الخالص فى العبادات:
... أ- بإخلاص قصدها إليه والتوجه بها إليه وحده عزَّ وجل، فالصلاة لله وحده والصدقة لله وحده والصوم لله وحده والحج لله وحده إلى بيت الله وحده.
... ب- بقبول شرعه فيها: يعبد فى كل وقت بما أمر به فى ذلك الوقت. وحق الله الخالص فى العادات والمعاملات: بقبول شرعه فيها.
يقول الله عزَّ وجل عن إفراد الله سبحانه وتعالى ـ بحقه الخالص فى العبادات والعادات والمعاملات ـ: { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ َ - لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } (1).
__________
(1) الأنعام، الآيتان: 162-163.(1/80)
والإسلام هو الإخلاص، والإخلاص: إخلاص الطاعة لله وحده وهو يطاع فى كل وقت بما أمر به فى ذلك الوقت وهذا هو معنى تحقيق العبودية لله بقبول شرعه ورفض ما سواه وهذا هو معنى إفراد الله بالعبادة بمعني الطاعة والذل والخضوع والانقياد، ومعني إخلاص الاستسلام لله وحده، وإخلاص الدين لله وحده، يقول - عز وجل -: { إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } (1)، ويقول سبحانه وتعالى: { وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } (2)، ويقول - عز وجل -: { فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } (3)، ويقول تبارك وتعالى: { هُوَ الْحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِي الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } (4)، ويقول تعالى: { قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّين - وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِين } (5).
إخلاص الاستسلام: أي إخلاص العبادة والطاعة.
__________
(1) يوسف، آية: 40.
(2) البينة، آية: 5.
(3) غافر، آية: 14.
(4) غافر، الآيتان: 65-66.
(5) الزمر، الآيتان: 11-12.(1/81)
إخلاص الدين يقول شيخ الإسلام: «الإسلام دين والدين مصدر دان يدين دينًا إذا ذلَّ وخضع، ويقول أن الإسلام من جنس الدين والعمل والطاعة والانقياد والخضوع، فمن ابتغى غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه» أي إخلاص الطاعة لله بقبول شرعه ورفض ما سواه، فمن ابتغي غير ذلك فلن يقبل منه، فمن قبل شرع الله وشرع غيره لم يكن مسلمًا، ومن لم يقبل شرع الله لم يكن مسلمًا.
وعن إخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى وحده بمعنى الطاعة يقول شيخ الإسلام: «وعبادته تتضمن كمال الذل والحب له وذلك يتضمن كمال طاعته { مَنْ يُطعِ الرسولَ فَقَدْ أطاعَ الله } ، وقد قال تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُم } ، وقال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ } ».
الإسلام هو الاستسلام:
والاستسلام مع الإخلاص معناه أن يكون الاستسلام خالصًا لله وحده، وهذا يتضمن إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة.
والعبادة معناها: الحب والحب أصل الولاء والولاء، ولاء نصرة أو اتباع أو نسك والتوحيد هو إفراد الله سبحانه وتعالى بالولاء والنسك والاتباع.
والعبادة معناها: الطاعة، وهي لا تتحقق إلا بقبول الأحكام والتوحيد هو إفراد الله بالطاعة بقبول شرعه ورفض ما سواه.
والعبادة معناها: حق الله الخالص، وحق الله الخالص أربعة أمور:
العبادات الظاهرة، وهي توقيفية غير معقولة المعنى تفتقر إلى نية.
الأعمال القلبية المتعلقة بها أو المستقلة عنها التي يتأله بها القلب ربه.
الولاء: { قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ } (1).
__________
(1) الأنعام، آية: 14.(1/82)
الحكم: { أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا } (1).
والتوحيد هو: إفراد الله بحقه الخالص فى النسك الظاهر والأعمال القلبية المتعلقة به أو المستقلة عنه والولاء والحكم.
والعبادة معناها: حق الله الخالص فى التعبدات... والتعبدات:
عبادات: وحق الله الخالص فيها بالتوجه إليه وحده وقبول شرعه فيها.
عادات: وهي راجعة إلى محاسن الشيم وحق الله فيها هو قبول شرعه فيها.
معاملات: وهي راجعة إلى أوجه المصالح والحقوق التي يتعاطاها العباد فيما بينهم وحق الله الخالص فيها هو قبول شرعه فيها.
والتوحيد هو: إفراد الله عزَّ وجلَّ بحقه الخالص فى العبادات والعادات والمعاملات، فى العبادات بالتوجه إليه وحده وقبول شرعه فيها وفي العادات والمعاملات إفراد الله بحقه الخالص فيها بقبول شرعه فيها ورفض شريعة غيره، وهو يطاع فى كل وقت بما أمر به فى ذلك الوقت، فالرجوع فى العبادات والعادات والمعاملات إلى غير شرع الله المحكم من الدين المبدَّل أو المنسوخ أو رد أمر الله الذي جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيها خروج عن الإسلام بالشرك والكبر.
ومن لم يعبد الله عزَّ وجلَّ بهذه المعاني الأربعة للعبادة فقد خرج عن حقيقة الإسلام بالكبر، ومن عبد غير الله معه فقد خرج عن حقيقة الإسلام بالشرك، ومن عبد الله بغير ما أمر بالدين المبدَّل أو المنسوخ فقد خرج عن حقيقة الإسلام بالشرك والكبر.
والإسلام هو الاستسلام الذي لا يتحقق إلا بقبول الأحكام ولابد أن يكون ذلك لله خالصًا.
وهذا هو معنى تحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى بقبول شرعه ورفض ما سواه فمن خرج عن شرع الله المحكم الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى شرع الله المنسوخ أو شرع غير الله سواء فعل ذلك:
تدينًا بادعاء موافقة الرسول أو التصريح بمخالفته.
أو غير متدين بهذا الخروج.
__________
(1) الأنعام، آية: 114.(1/83)
فقد خرج عن حقيقة الاستسلام لله وحده. بأن يطاع الله وحده في كل وقت بما أمر به فى ذلك الوقت ومن خرج عن حقيقة الإسلام لله وحده شركًا أو كبرًا لم يكن مسلمًا وقد خرج عن حقيقة الإسلام ومن دين الله الذي لا يقبل غيره وكفر بهذا الخروج فمن رجع إلى شرع غير شرع الله حكمًا أو تحاكمًا أو تحكيمًا أو تشريعًا من دون الله أو قبولاً لشرع غير الله فقد خرج عن حقيقة الاستسلام لله وحده بطاعة غيره بقبول شرع غيره وذلك هو الشرك.
ومن رد أمر الله عليه بالإباء من قبول الفرائض أو استحلال المحرمات أو الطعن فى حكمة التشريع أو الاستهزاء أو الاستخفاف أو الاستهانة فقد خرج عن حقيقة الاستسلام لله وحده وذلك هو الكبر.
والمشرك والمستكبر كلاهما كافر لخروجهما عن حقيقة الإسلام ومنافاة حقيقتهما له. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية(1): «... ودين الإسلام مبني على أصلين: أن يعبد الله وحده لا شريك له، وأن نعبده بما شرعه من دينه وهو ما أمرت به الرسل أمر إيجاب أو استحباب، فيعبد فى كل زمان بما أمر به فى ذلك الزمان، فلما كانت شريعة التوراة محكمة كان العاملون بها مسلمين، وكذلك شريعة الإنجيل وكذلك فى أول الإسلام لما كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يصلي إلى بيت المقدس كانت صلاته إليه من الإسلام ولما أمر بالتوجه إلى الكعبة كانت الصلاة إليها من الإسلام والعدول عنها إلى الصخرة خروجًا عن دين الإسلام. فكل من لم يعبد الله بعد بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - بما شرعه الله من واجب ومستحب فليس بمسلم». أهـ.
__________
(1) قاعدة جليلة فى التوسل والوسيلة، ص 50.(1/84)
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية (1): «... كما أن ”لفظ الشريعة“ يتكلم به كثير من الناس ولا يفرق بين الشرع المنزل من عند الله تعالى وهو الكتاب والسنة الذي بعث الله به رسوله فإن هذا الشرع ليس لأحد من الخلق الخروج عنه ولا يخرج عنه إلا كافر. ثم يقول: فلفظ الشرع والشريعة إذا أريد به الكتاب والسنة لم يكن لأحد من الأولياء ولا لغيرهم أن يخرج عنه ومن ظن أن لأحد الأولياء طريقًا إلى الله غير متابعة محمد - صلى الله عليه وسلم - باطنًا وظاهرًا فهو كافر».
ويقول فى نفس الرسالة:«... فإن أصل الأصول: تحقيق الإيمان بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلابد من الإيمان بالله ورسوله وبما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلابد من الإيمان بأن محمدًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جميع الخلق إنسهم وجنهم، عربهم وعجمهم، علمائهم وعبادهم، ملوكهم وسوقتهم، وأنه لا طريق إلى الله عزَّ وجل لأحد من الخلق إلا بمتابعته ظاهرًا وباطنًا حتى لو أدركه موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء لوجب عليهم اتباعه كما قال تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ - فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ } (2) قال ابن عباس رضى الله عنهما: ما بعث الله نبيًا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه.
__________
(1) رسالة الفرقان، ص 65.
(2) آل عمران، الآيتان: 81-82.(1/85)
وقد قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا - وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا - فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا - أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فى قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فى أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا - وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا - فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فى أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } (1)». أهـ.
يقول البيضاوي فى تفسير قوله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ } (2) «... كأنه احتج بذلك على أن إرسال الرسول لما لم يكن إلا ليطاع كان من لم يطعه ولم يرض بحكمه لم يقبل رسالته ومن كان كذلك كان كافرًا مستوجب القتل». أهـ.
__________
(1) النساء، الآيات:60-65.
(2) النساء، آية: 64.(1/86)
ويقول النسفي فى تفسير قوله تعالى { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِينًا } (1) «... إن كان العصيان عصيان رد وامتناع عن القبول فهو ضلال كفر، وإن كان عصيان فعل مع قبول الأمر واعتقاد الوجوب فهو ضلال خطأ وفسق». أهـ.
ويقول ابن كثير - رضي الله عنه - فى تفسير قوله تعالى: { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } (2) «... ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بأهوائهم وآرائهم وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان الذي وضع لهم الياسق وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها بمجرد نظره وهواه فصارت فى بنيه شرعًا متبعًا يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يُحكِّم سواه فى قليل ولا كثير». أهـ.
__________
(1) الأحزاب، آية: 36.
(2) المائدة، آية: 50.(1/87)
المناط هو: الخروج عن شرع الله والعدول عنه بالرجوع إلى غيره أو رَدِّه دون رجوع إلى غيره، وهذا هو المناط فقط دون أي شيء آخر وهذا هو الشرك والكبر المنافي لحقيقة الاستسلام بأن يطاع الله وحده فى كل وقت بما أمر به فى ذلك الوقت وهو بهذا يتنافى مع حقيقة الإسلام ومنافاة حقيقة الإسلام كفر { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (1).
التوحيد في ثلاث آيات من القرآن:
قول الله - عز وجل -: { قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ } (2) ”إفراد الله بولاية النسك والنصرة والاتباع“.
وقول الله - عز وجل -: { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } (3) ”إفراد الله بحقه الخالص فى العبادات بصرفها إليه وحده وبقبول شرعه فيها، وفي العادات والمعاملات بقبول شرعه فيها“.
وقول الله - عز وجل -: { قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ َ - وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ } (4). ”إخلاص الطاعة لله وحده بقبول شرعه ورفض ما سواه“.
وهذه هى حقيقة الإسلام فى الآيات الثلاثة:
__________
(1) آل عمران، آية: 80.
(2) الأنعام، آية: 14.
(3) الأنعام، الآيتان: 162-163.
(4) الزمر، الآيتان: 11-12.(1/88)
”الآية الأولي“ تستلزم الدخول فى ولاية الإسلام وقبول الشرع وإفراد الله بالنسك. و”الثانية“ تستلزم إفراد الله بالنسك وقبول الشرع. و”الثالثة“ قبول الشرع. والتكليف مأخوذ من قوله تعالى: { قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ } والآيات فيها دلالة لفظ الإسلام بالمطابقة ومعنى الإسلام هو التوحيد المنافي للشرك، وذلك من قوله { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ } . وفيها أن الإسلام هو التوحيد المنافي للشرك لقوله تعالى: { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ } .
حقيقة الإسلام وحقيقة توحيد العبادة شيء واحد:
وهي تستلزم توحيد الاعتقاد فتكون حقيقة الإسلام هى ”توحيد الألوهية المتضمن لتوحيد الربوبية“ .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن يذكر المعاني الثلاثة لاسم الله الواحد التي يقصر الأشاعرة التوحيد عليها وهي معاني توحيد الربوبية إذا خلت من البدع ولا تتضمن شيئًا من توحيد الألوهية يقول(1): «فهذه المعاني الثلاثة هى التي يقولون أنها معنى اسم الله الواحد وهي التوحيد وفيها من البدع التي خولف بها الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة ما قد نبهنا على بعضه.
__________
(1) الفتاوى الكبرى، طبعة دار المعرفة، بيروت، ج5، ص 248 وما بعدها.(1/89)
وأما التوحيد الذي ذكره الله فى كتابه وأنزل كتبه وبعث به رسله واتفق عليه المسلمون من كل ملة فهو كما قال الأئمة شهادة أن لا إله إلا الله وهو عبادة الله وحده لا شريك له كما بين ذلك بقوله - عز وجل - { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } (1). فأخبر أن الإله إلهٌ واحد لا يجوز أن يتخذ إله غيره فلا يعبد إلا إياه كما قال فى السورة الأخرى { وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } (2)، وكما قال - عز وجل -: { لاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولاً } إلى قوله { فَتُلْقَى فى جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا } (3)، وكما قال - عز وجل -: { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ - إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ - أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } (4)، وكما قال - عز وجل -: { وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ } (5) وأما الشرك الذي ذكره الله فى كتابه إنما هو عبادة غيره من المخلوقات كعبادة الملائكة أو الكواكب أو الشمس أو القمر أو الأنبياء أو تماثيلهم أو قبورهم أو غيرهم من الآدميين ونحو ذلك مما هو كثير فى هؤلاء الجهمية ونحوهم ممن يزعم أنه محقق فى التوحيد وهو من أعظم الناس إشراكًا، وقال تعالى: { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ
__________
(1) البقرة، آية: 163.
(2) النحل، آية: 51.
(3) الإسراء، الآيات: 22-39.
(4) الزمر، الآيات: 1-3.
(5) الفرقان، آية: 68.(1/90)
هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } (1)، وقال - عز وجل -: { قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونَنِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ - وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ - بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ } (2)، وقال تعالى: { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } (3)، وقال تعالى: { وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فى الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا } (4)، وقال تعالى: { وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ - أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ - وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ - مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فى الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ } (5)، وقال تعالى: { إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ - وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ } (6)، وقال تعالى: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ } (7).
__________
(1) الزمر، آية: 38.
(2) الزمر، الآيات: 64-66.
(3) الزمر، آية: 45.
(4) الإسراء، آية: 46.
(5) ص، الآيات: 4-7.
(6) الصافات، الآيتان: 35-36.
(7) يوسف، آية: 106.(1/91)
قال ابن عباس وعطاء وعكرمة ومجاهد يسألهم مَنْ خلق السماوات والأرض فيقولون الله وهم مع هذا يعبدون غيره ويشركون به ويقولون له ولد وثالث ثلاثة فكان الكفَّار يقرون بتوحيد الربوبية وهو نهاية ما يثبته هؤلاء المتكلمون إذا سلموا من البدع فيه وكانوا مع هذا مشركين لأنهم كانوا يعبدون غير الله.
وقال تعالى: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } (1)، وقال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ } (2)، وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فى كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ } (3). فبيَّن سبحانه وتعالى أنه بهذا التوحيد بعث جميع الرسل وأنه بعث إلى كل أمة رسولاً به وهذا هو الإسلام الذي لا يقبل الله لا من الأولين ولا من الآخرين دينًا غيره قال تعالى: { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ - قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ - وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فى الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ } (4).
__________
(1) الزخرف، آية: 45.
(2) الأنبياء، آية: 25.
(3) النحل، آية: 36.
(4) آل عمران، الآيات: 83-85.(1/92)
فدين الله(1) أن يدينه العباد ويدينون له فيعبدونه ويطيعونه وذلك هو الإسلام له فمن ابتغى غير هذا دينًا فلن يقبل منه، وكذلك قال فى الآية الأخرى: { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ - إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ ... } (2) فذكر أن الدين عند الله الإسلام(3) بعد إخباره بشهادته وشهادة الملائكة وأولو العلم أنه لا إله إلا هو.
والإله هو المستحق للعبادة فأما من اعتقد فى الله أنه ربُّ كل شيء وخالقه وهو مع هذا يعبد غيره فإنه مشرك بربِّه متخذٌ من دونه إلهًا آخر فليست الألوهية هى الخلق أو القدرة على الخلق أو القدم كما يفسرها هؤلاء المبتدعون فى التوحيد من أهل الكلام. إذ المشركون الذين شهد الله ورسوله بأنهم مشركون من العرب وغيرهم لم يكونوا يشكون فى أن الله خالق كل شيء وربه فلو كان هذا هو الألوهية لكانوا قائلين أنه لا إله إلا هو.
__________
(1) الحق يصرخ فى الكلمات: الدين هو قبول شرع الله ورفض ما سواه وهذه هى حقيقة الإسلام ومن ابتغي الانتساب إلى الإسلام بغير حقيقته فلن يقبل منه وهو فى الآخرة من الخاسرين.
(2) آل عمران، الآيتان: 18-19.
(3) الآيتان يتكاملان غاية التكامل وأجمله وأكمله وأتمه فالإسلام كدين ينتسب إليه لا يتحقق إلا بحقيقته وهي إخلاص الدين لله وحده وإخلاص الطاعة وذلك يتحقق بقبول شرع الله ورفض ما سواه والدين كطريقة متبعة لا يُقبل بغير حقيقة الاستسلام لله وحده وأن يكون ذلك لله خالصًا وذلك بإخلاص الطاعة له وحده وذلك يتحقق بقبول شرع الله ورفض ما سواه وسبحان من أغلق طريق الباطل أمام المرجئة بهذا الإحكام ولكنهم يقتحمونها بالكذب على الله والفرار من المحكمات واللواذ بالمتشابهات لابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.(1/93)
فهذا موضع عظيم جدًا ينبغي معرفته لما قد لبس على طوائف من الناس أصل الإسلام حتى صاروا يدخلون فى أمور عظيمة هى شرك ينافي الإسلام لا يحسبونها شركًا وأدخلوا فى التوحيد والإسلام أمورًا باطلة ظنوها من التوحيد وهي تنافيه وأخرجوا من الإسلام والتوحيد أمورًا عظيمة لم يظنوها من التوحيد وهي أصله فأكثر هؤلاء المتكلمين لا يجعلون التوحيد إلا ما يتعلق بالقول والرأي واعتقاد ذلك دون ما يتعلق بالعمل والإرادة واعتقاد ذلك.
بل التوحيد الذي لابد منه لا يكون إلا بتوحيد الإرادة والقصد وهو توحيد العبادة وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله: أن يقصد الله بالعبادة ويريده بذلك دون ما سواه وهذا هو الإسلام فإن الإسلام يتضمن أصلين:
أحدهما: الاستسلام لله.
والثاني: أن يكون ذلك له سالمًا فلا يشركه أحد فى الإسلام، وهذا هو الاستسلام لله ”دون ما سواه“ وسورة { قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ } تفسر ذلك. ولا ريب أن العمل مسبوق بالعلم. فلابد أن يعلم ويشهد أن لا إله إلا الله. وأما التوحيد القولي الذي هو الخبر عن الله ففي سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن وفيها اسمه الأحد الصمد. وكل من هذين الاسمين يدل على نقيض مذهب الجهمية كما بيناه فى موضعه.
وعبادة الله وحده يدخل فيها كمال المحبة لله وحده وكمال الخوف منه وحده والرجاء له والتوكل عليه وحده. فكل ذلك من أصول التوحيد الذي أوجبه الله على عباده وبذلك يكون الدين كله لله كما أمر الله رسله والمؤمنين بالقتال إلى هذه الغاية حيث يقول { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } (1)». أهـ.
انظر إلى قول شيخ الإسلام: «لما قد لبس على الناس أصل الإسلام حتى صاروا يدخلون فى أمور عظيمة هى شرك يتنافى مع الإسلام لا يحسبونها شركًا».
__________
(1) الأنفال، آية: 39.(1/94)
فالإسلام له أصل وبعض الناس ينكر هذا والشرك ينافي الإسلام وإن كان صاحبه يجهل ذلك ولا يحسبه كذلك بسبب الاعتقادات الفاسدة.
ثم يقول: «وأدخلوا فى التوحيد والإسلام» فالتوحيد والإسلام مترادفان لحقيقة واحدة وهما كشيء واحد وهو الشاهد على الباب. ثم يقول: «أمورًا باطلة ظنوها من التوحيد وهي تنافيه». فالتوحيد له ما ينافيه من الشرك «وأخرجوا من التوحيد والإسلام» ـ مرة ثانية التوحيد والإسلام شيء واحد وحقيقة واحدة ـ «أمورًا عظيمة لم يظنوها من التوحيد وهي أصله» أيضًا التوحيد له أصول وتوحيد العبادة هو تحقيق الشهادتين وهو حقيقة الإسلام بالاستسلام لله دون ما سواه أي إسلام الطاعة له دون ما سواه التي لا تتحقق إلا بتحقيق العبودية لله بقبول شرعه ورفض ما سواه والتوحيد الإرادي القصدي الطلبي لا يتحقق إلا بأن يقصد الله بالعبادة ويريده بذلك ليس مجرد إقرار بتوحيد الألوهية بل لابد فيه من العمل وهو الالتزام وترك الشرك. والعمل مسبوق بالعلم فلابد أيضًا من أن يعلم ويشهد ولا يكفي ذلك دون العمل.
والتوحيد الإرادي القصدي الطلبي مستلزم للتوحيد الخبري العلمي المعرفي ولذلك قلنا فى بداية الباب أن حقيقة الإسلام هى توحيد الألوهية المتضمن بالتلازم توحيد الربوبية وهذه هى حقيقة الإسلام المقابلة للكفر وهي أيضًا حقيقة الإيمان المقابلة للكفر.
العمومات التي لا تخصص:
يقول - عز وجل -: { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } (1)
عموم ليس له تخصيص.
__________
(1) المؤمنون، آية: 91.(1/95)
ويقول - عز وجل -: { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } عموم ليس له تخصيص فمن أشرك فى شيء واحد فقد أشرك بالله شيئًا ومن مات يشرك بالله شيئًا كان غير مسلم وخُلِّدَ فى النار عمومًا ليس له تخصيص ولن يغني عنه إقرار إجمالي بالتوحيد ولا عقد إسلام ولا براءة إجمالية من الشرك ولا أي شيء آخر، لأن شيئًا نكرة فى سياق نهي تفيد العموم ثم هذا من أصول الدين والعمومات المكية والمدنية، ومما تقرر كأصول ثابتة للدين فى الأولين والآخرين من الأنبياء والمرسلين ثم هو فى شرعنا مما تكرر فتقرر وانتشر فتأكد وأتي به شواهد على معاني أصولية وفروعية فخرج بذلك الإحكام عن أي تشابه أو استثناء أو تخصيص أو تقييد أو أي شيء آخر يخرجه عن كونه قاعدة محكمة من قواعد التوحيد فى كل زمان ومكان.
وقول الله - عز وجل -: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } عموم ليس له تخصيص ومن خصصه بالجهل وغيره فقد كذَّب صريح القرآن ولبَّس على العوام دينهم وافترى على الله الكذب وقال عليه بغير علم.(1/96)
وقد مرَّ تفسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى: { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } (1) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «بظلم» ”بظلم: بشرك“ نكرة في سياق نفي تفيد العموم وهو أيضًا عموم ليس له تخصيص وإن كان عموم مفهوم كما مرَّ. يقول عبد الله بن عباس فى تفسير قوله تعالى: { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } (2)، وقوله - عز وجل -: { وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } (3)، وأما قول الله - عز وجل -: { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } ، وقوله - عز وجل -: { وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } فإن الله تعالى يوم القيامة يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم لا يتعاظم عليه ذنب أن يغفره، ولا يغفر شركًا، فلما رأي المشركون ذلك قالوا إنَّ ربَّنَا يغفر الذنوب ولا يغفر الشرك تعالوا نقول إنَّا كنا أهل ذنوب ولم نكن مشركين فقال الله تعالى أما إذا كتموا الشرك فأختم على أفواههم فيختم على أفواههم فتنطق أيديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون فعند ذلك يعرف المشركون أن الله لا يكتم حديثًا وذلك قوله - عز وجل -: { يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوْا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمْ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } (4).
هذا خبر وليس وعيدًا يقول عنه المرجئة إن الله يخلف وعيده ولا يخلف وعده وخبر الله لا يتخلف ”وشركًا“ منكّرة، نكرة فى سياق نفي هل بعد هذا من بيان هل بعد هذا من بلاغ.
__________
(1) الأنعام، آية: 82.
(2) الأنعام، آية: 23.
(3) النساء، آية: 42.
(4) النساء، آية: 42.(1/97)
يا قوم المخالفة بالمعصية مع التزام الشرع ذنب يغفره الله لمن يشاء والخروج عن الشرع فى العبادات أو العاديات أو المعاملات والعدول عنه إلى غيره شرك يتنافي مع حقيقة الإسلام وهو شرك لمن شرع ولمن حكم وتحاكم وحكّم ما شُرع ولمن قبل إجراء حياته على مقتضى ما شرع وكذلك رد أمر الله عليه بالإباء من قبول الفرائض إسقاطًا للوجوب أو استحلال المحرمات امتناعًا عن التزام حكم الله بالتحريم أو الطعن فى حكمة التشريع أو الاستهزاء به أو الاستخفاف أو الاستهانة به، والعدول عن الشرع إلى غيره من الدين المبدَّل والمنسوخ كفر برسالة محمد وكفر ببعض الكتاب مع الإيمان ببعض، ولابد أن يكون الإيمان بالكتاب متلازمًا بعضه لبعض وإلا كان كفرًا بالكتاب، هذا الأمر بدهي جدًا لا يحتاج إلى استدلال خاص أكثر من معرفة حقيقة الإسلام التي أشرنا إليه.
اللهم هل بلغت اللهم فاشهد.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية(1) فى الفرق بين الخبر والوعيد فى الاستدلال بآيات الكتاب الكريم على كفر شاتم الرسول يقول: وأما الآيات الدالات على كفر الشاتم وقتله أو على أحدهما إذا لم يكن معاهدًا وإن كان مظهرًا للإسلام فكثيرة مع أن هذا مجمع عليه كما تقدم حكاية الإجماع عن غير واحد، منها قوله تعالى: { وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ } إلى قوله { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم } إلى قوله { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيم } (2).
__________
(1) الصارم المسلول: ص24.
(2) التوبة، الآيات: 61-63.(1/98)
فعلم أن إيذاء رسول الله محادة لله ولرسوله لأنه ذكر الإيذاء هو الذي اقتضي ذكر المحادة فيجب أن يكون داخلاً فيه ولولا ذلك لم يكن الكلام مؤتلفًا إذا أمكن أن يقال أنه ليس بمحاد ودلَّ ذلك على أن الإيذاء والمحادة كفرٌ لأنه أخبر أن له نار جهنَّم خالدًا فيها ولم يقل ”هى جزاؤه“ وبين الكلامين فرق“ { فهي جزاؤه } وعيدٌ قد يتحقق وقد يتخلف أما { فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ } فخبر لا يتخلف وعلي ذلك فهو عموم لا يتخصص وهو فى مظهري الإسلام وفي غير مظهري الإسلام بلا فرق ومثله قول الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فى نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ } ، { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ - جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ } { في } خبر، { جزاؤهم } وعد وخبر الله لا يتخلف ووعد الله لا يخلف وقد تأتي صيغ مماثلة فى الوعيد ولكن يأتي فيها ما يؤكد أنها للوعيد وليست للخبر مثل قوله تعالى: { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } (1) وهي فى الوعيد وليست فى الخبر لقوله تعالى: { جزاؤه } وكذلك اللعن هنا بصيغة الدعاء وليس بصيغة الخبر ولا يفيد معنى التأبيد فى اللعن و { أعدَّ } هنا غير الإعداد فى قوله تعالى: { وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } (2). وفي المحارب { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
__________
(1) النساء، آية: 93.
(2) آل عمران، آية: 131.(1/99)
وَيَسْعَوْنَ فى الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فى الدُّنيَا وَلَهُمْ فى الآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (1) { ذلك لهم } تفيد هنا الوعيد وليس الخبر لذكر إنما جزاء قبل ذلك وربط { لهم } بـ { ذلك } .
يقول أبو بطين رحمه الله(2) والكلام عن شيخ الإسلام ابن تيمية: «لقد جزم رحمه الله فى مواضع كثيرة بكفر من فعل ما ذكره من أنواع الشرك وحكى إجماع المسلمين على ذلك ولم يستثن الجاهل ونحوه وقال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } (3)، وقال عن المسيح أنه قال: { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ } (4) فمن خصَ ذلك الوعيد بالمعاند فقط وأخرج الجاهل والمتأول والمقلد فقد شاق الله ورسوله وخرج عن سبيل المؤمنين، والفقهاء يصدرون باب ”حكم المرتد لمن أشرك بالله“ ولم يقيدوا ذلك بالمعاند وهذا أمر واضح ولله الحمد وقد قال الله تعالى: { رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لئلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } (5). وقد ذكر العلماء من أهل كل مذهب أشياء كثيرة لا يمكن حصرها من الأقوال والأفعال والاعتقادات أنه يكفر صاحبها ولم يقيدوا ذلك بالمعاند».
__________
(1) المائدة، آية: 33.
(2) الانتصار لحزب الله الموحدين، ص 23.
(3) النساء، آية: 48.
(4) المائدة، آية: 72.
(5) النساء، آية: 165.(1/100)
ويقول أبو بطين - رضي الله عنه - (1): «فالمدعي أن مرتكب الكفر متأولاً أو مجتهدًا مخطئًا أو مقلدًا أو جاهلاً معذور مخالف للكتاب والسنة والإجماع بلا شك مع أنه لابد أن ينقض أصله فلو طرد أصله كفر بلا ريب كما لو توقف فى تكفير من شك فى رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - ونحو ذلك».
وهذا استدلال قاطع وحاسم أنه لا فرق بين شرك وشرك ولا بين كفر وكفر فى تخصيصه بالجهل من عموم الوعيد وإن محاولة التفريق بين إنكار البعث والشك فى قدرة الله وعلمه وإهانة المقدسات والشرك بالله فى العبادة وبين الإقرار المجمل بالتوحيد وعقد الإسلام والبراءة الإجمالية من الشرك مع الوقوع فى كل هذه الصور من الشرك تفريق باطل، فقد علم من دين الله بالضرورة أنه لا فرق بين كفر وكفر ولا بين شرك وشرك إذا كان أعظم وكفر ينقل عن الملة.
والقول بأن المشرك مسلم ـ فرية عظيمة وبدعة قبيحة ـ لأن معنى ذلك أن من مات على الشرك الأعظم يكون قد مات مسلمًا. ولقى الله بدين يقبل منه { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فى الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ } (2) وإذا كان من مات على الشرك قد مات على دين يقبل منه فمعني هذا أن الله سبحانه وتعالى قد أذن أن يعبد معه غيره والله سبحانه وتعالى يقول: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } (3) وهذا باطل فما ترتب عليه مثله.
__________
(1) الانتصار لحزب الله الموحدين، ص 14.
(2) آل عمران، آية: 85.
(3) الزخرف، آية: 45.(1/101)
وأبو بطين - رضي الله عنه - لم يفرق بين كفر وكفر ولا بين شرك وشرك ولا بين شرك وكفر، كما لم يفرق البخاري وشراحه بين الشرك والكفر بل جعلوه كله شيئًا واحدًا فيقول (1): «فإن كان مرتكب الشرك الأكبر معذورًا لجهله فمن هو الذي لا يُعذر ولازم هذه الدعوى: أنه ليس لله حجة على أحد إلا المعاند مع أن صاحب هذه الدعوى لا يمكنه طرد أصله بل لابد أن يتناقض فإنه لا يمكنه أن يتوقف فى تكفير من شك فى رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - أو شك فى البعث أو غير ذلك من أصول الدين والشَّاك جاهل والفقهاء رحمهم الله يذكرون فى كتب الفقه حكم المرتد وأنه المسلم الذي يكفر بعد إسلامه نطقًا أو فعلاً أو شكًا أو اعتقادًا، وسبب الشك: الجهل ولازم هذا أنه لا يكفر جهلة اليهود والنصارى ولا الذين يسجدون للشمس والقمر والأصنام لجهلهم ولا الذين حرقهم علىٌّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - بالنار لأننا نقطع أنهم جُهَّال وقد أجمع العلماء على كفر من لم يكفر اليهود والنصارى أو يشك فى كفرهم ونحن نتيقن أن أكثرهم جهَّال.
وقال الشيخ تقيّ الدين: من سبَّ الصحابة أو واحدًا منهم واقترن بسبه دعوي أن عليًا إلهٌ أو أن جبرائيل غلط فلا شك فى كفر هذا بل لا شك فى كفر من توقف فى تكفيره، قال: ومن زعم أن الصحابة ارتدوا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا نفرًا قليلاً لا يبلغون بضعة عشرًا أو أنهم فسقوا فلا ريب فى كفر قائل ذلك بل من شك فى كفره فهو كافر قال: ومن ظن أن قوله سبحانه وتعالى: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ } (2) بمعني قدَّر، وأن الله ما قدَّر شيئًا إلا وقع وجعل عبَّاد الأصنام ما عبدوا إلا الله: فإن هذا من أعظم الناس كفرًا بالكتب كلها». انتهى.
__________
(1) رسالة الانتصار لحزب الله الموحدين، ص16-18، ضمن رسائل عقيدة الموحدين.
(2) الإسراء، آية: 23.(1/102)
ولا ريب أن أهل هذه المقالة هم أهل علم وزهد وعبادة وأن سبب دعواهم هذه الجهل وقد أخبر الله سبحانه عن الكفار أنهم فى شكٍّ مما تدعوهم إليه الرسل وأنهم فى شك من البعث فقالوا لرسلهم: { وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ } (1)، وقال - عز وجل -: { وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ } (2)، وقال إخبارًا عنهم: { إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } (3)، وقال عن الكفار: { إِنَّهُمْ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ } (4)، وقال تعالى: { هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً - الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } (5)، ووصفهم بغاية الجهل كما فى قوله تعالى: { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ } (6).
__________
(1) إبراهيم، آية: 9.
(2) هود، آية: 110.
(3) الجاثية، آية: 32.
(4) الأعراف، آية: 30.
(5) الكهف، الآيتان: 103-104.
(6) الأعراف، آية: 179.(1/103)
وقد ذمَّ الله المقلدين بقوله عنهم: { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ } (1). ومع ذلك كفرهم سبحانه وتعالى واستدل العلماء بهذه الآية ونحوها على أنه لايجوز التقليد فى معرفة الله والرسالة وحجة الله قائمة على الناس بإرسال الرسل إليهم وإن لم يفهموا حجج الله وبيناته، قال الشيخ موفق الدين أبو محمد بن قدامة رحمه الله ـ لما أنجز كلامه إلى مسألة هل كل مجتهد مصيب، ورجح قول الجمهور أنه ليس كل مجتهد مصيبًا بل الحق فى قول واحد من أقوال المجتهدين ـ قال: وزعم الجاحظ أن مخالف ملة الإسلام إذا نظر فعجز عن إدرك الحق فهو معذور غير آثم.
__________
(1) الزخرف، آية: 22.(1/104)
إلى أن قال: أما ما ذهب إليه الجاحظ فباطل يقينًا وكفر بالله ورد عليه وعلي رسوله فإنَّا نعلم قطعًا أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمر اليهود والنصارى بالإسلام واتباعه وذمهم على إصرارهم وقاتلهم جميعًا بقتل البالغ منهم ونعلم أن المعاند العارف ممن يقل، وإنما الأكثر مقلدة اعتقدوا دين آبائهم تقليدًا ولم يعرفوا معجزات النبيّ وصدقه والآيات الدالة فى القرآن على هذا كثيرة لقوله - عز وجل -: { ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ النَّارِ } (1)، وقال - عز وجل -: { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ } (2)، { إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } (3)، وقوله - عز وجل -: { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ } (4)، { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ } (5)، { الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا - أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ } (6)». أهـ.
__________
(1) ص، آية: 27.
(2) فصلت، آية: 23.
(3) الجاثية، آية: 24.
(4) المجادلة، آية: 18.
(5) الأعراف، آية: 30.
(6) الكهف، الآيتان: 104-105.(1/105)
وقالوا لا يعذر بجهله من لم يقر بالتوحيد إقرارًا إجماليًا ولم يتبرأ من الشرك براءة إجمالية ومن ليس عنده عقد الإسلام، أما من كان عنده عقد الإسلام فهذا يعذر بجهله إذا عبد القمروالنجوم والأصنام مع الله سبحانه وتعالى فوقع فى جميع صنوف الشرك إذا لم يخرج عن براءته الإجمالية من الشرك مع ذلك. لا يكفر بشيء من ذلك كله إذا لم يخرج عن إقراره الإجمالي بالتوحيد مع ذلك وبقي مع ذلك على عقد الإسلام لم ينسلخ منه وشبهوا الشرك بالمعاصي، فمن التزم ترك المعاصي التزامًا بشرع الله سبحانه وتعالى لا يبطل التزامه المخالفة بالمعصية إذا لم يلتزم شرعًا آخر يبيح هذه المعاصي أو يأمر. بها كذلك المقصود بترك الشرك هو الالتزام بترك الشرك. وأن الوقوع فى الشرك لا ينافي هذا الالتزام إذا لم يلتزم شرعًا آخر يبيح هذا الشرك أو يأمر به، وأن الذي يقع فى الشرك لا يكفر بذلك بل إن المسلمين فى عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أغلبهم على الشرك مع إسلامهم، وأنهم أمروا بترك الشرك تباعًا لا جملة واحدة فى بدء الدعوة، وأن من أسلم بعد اكتمال تحريم الشرك الذي حُرِّم منجمًا كتحريم المعاصي كان يلتزم فقط بالبراءة الإجمالية ويبقى على كثير من مفردات الشرك التي كان عليها دون أن يضر ذلك بإسلامه، وأنه كان يبصَّر أو يوعظ بترك الشرك تباعًا بعد ذلك حسبما تيسر ذلك وربما تُرِكَ الكثير منهم على مفردات شركه دون نهي عن ذلك وبقوا مع ذلك مسلمين لأنهم لم يتح للمسلمين تبصيرهم بترك مفردات الشرك وأنه لا يكفر أحد بالوقوع فى مفردات الشرك والكفر إلا إذا تبين له أن ذلك ينقض التزامه بترك الشرك فعاند بعد ما تبين له الحق أما إذا لم يتبين له الحق وأصر بعد التعريف فهو لا يكفر. هذه هى عقيدة القوم { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا } (1).
__________
(1) الكهف، آية: 5.(1/106)
حتى إذا كان يعلم أن هذا شرك أو كفر ويفعله ولا يقصد به نقض التزامه بالتوحيد فهو كمن يعلم أن هذه معصية ويفعلها ولا يقصد بفعلها نقض التزامه بالشرائع. وقد سبق أن أوضحنا أن المقصود بتحريم الشرك هو الترك ليس مجرد الالتزام بالترك وأن المقصود بالأمر بالتوحيد هو الفعل ليس مجرد الالتزام بالفعل، والمعاصي لا تناقض ولا تنافي حقيقة الإسلام حتى يكفر مرتكبها بارتكابها لمنافاة الفعل لحقيقة الإسلام.
أما الشرك فهو ينافي حقيقة الإسلام لذا يكفر مرتكبه لمجرد الارتكاب لمنافاته لحقيقة الإسلام ولا يكفر فى حالة المعصية إلا بالخروج عن الشرع والعدول عنه شركًا أو كبرًا لمنافاة ذلك لحقيقة الإسلام بالشرك والكبر فيكون الكفر. والخروج عن الشرع والعدول عنه هو أحد مفردات الشرك. والتزام الشرع وقبوله هو أحد مفردات التوحيد فهل المطلوب فيه أيضًا الالتزام وليس الترك والالتزام وليس الفعل وأن المخالفة بفعل الخروج عن الشرع معصية وترك الالتزام بالشرائع معصية وأن الكفر هو ترك الالتزام بالالتزام؟؟!!
الالتزام بالشرائع ركنٌ من أركان التوحيد مثل اعتقاد أن الله سبحانه وتعالى واحد فى ذاته ليس له شبيهًا فى صفاته ولا شريكًا فى خلقه وأنه هو الحق وأن ما دونه الباطل وأنه واحدٌ أحد فرد صمد حيٌ قيومٌ لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد وأنه هو الأول والآخر والظاهر والباطن وأنه لا معبود بحق إلا هو وفعل إفراده بالولاء وترك اتخاذ الأنداد معه وإفراده بالنسك فالصلاة لله والصدقة والصيام والحج والنذر والدعاء والذبح كل هذا من مفردات التوحيد وضدها مفردات الشرك فإذا كان الذي يقع فى مفردات الشرك لا يكفر فكذلك من لم يلتزم بالشرائع لأنه أحد المفردات وكل هذا باطل، ولا يوجد شيء اسمه الالتزام بالتوحيد بل التوحيد والشرك إتيان وترك. اللهم هل بلغت اللهم فاشهد.(1/107)
أما باقي هذه الافتراءات على الله فسوف نرد عليها فى سياق كلامنا عندما يأتي مناسبة ذلك والشاهد هنا عن هذا الاستدلال لأبي بطين رحمه الله هو عدم التفريق بين عقد الإسلام وغيره من مفردات الشرك.
أي أن يطرد العذر على اليهود والنصارى أو لا يقوم ولا يثبت أما عن تخصيص عبادة الله وحده وتخصيص قول الله سبحانه وتعالى: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ } (1). فلابد من استكمال الموضوع بقواعد الأصول فى ذلك نقلاً عن الإمام الشاطبي وغيره.
يقول الإمام الشاطبي(2): «إنه قد ثبت فى الأصول العلمية أن كل قاعدة كلية أو دليل شرعي كلي إذا تكررت فى مواضع كثيرة وأتي بها شواهد على معانٍ أصولية أو فروعية ولم يقترن بها تقييد ولا تخصيص مع تكررها وإعادة تقررها فذلك دليل على بقائها على مقتضى لفظها من العموم كقوله تعالى: { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } (3)، وقوله: { وَأَنْ لَيْسَ لِلإنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى } (4)».
__________
(1) النساء، آية: 48.
(2) الاعتصام، ج1، ص 141.
(3) الإسراء، آية: 15.
(4) النجم، آية: 39.(1/108)
ويقول(1): «العمومات إذا اتحد معناها وانتشرت فى أبواب الشريعة أو تكررت فى مواطن بحسب الحاجة من غير تخصيص فهي مُجراة على عمومها على كل حال، وإن قلنا بجواز التخصيص بالمنفصل والدليل على ذلك بالاستقراء فإن الشريعة قررت أن لا حرج علينا فى الدين فى مواضع كثيرة ولم تستثن منها موضعًا ولا حالاً فعده علماء الملة أصلاً مطردًا وعمومًا مرجوعًا إليه من غير استثناء ولا طلب مخصص ولا احتشام من إلزام الحكم به ولا توقف فى مقتضاه، وليس ذلك إلا لما فهموا بالتكرار والتأكيد من القصد إلى التعميم التام، وأيضًا قررت { ولا تزر وازرة وزر أخري } فأعملت العلماء المعنى فى مجاري عمومه وردُّوا ما خالفه من أفراد الأدلة بالتأويل وغيره وبينت بالتكرار أن ”لا ضرر ولا ضرار“ فأبي أهل العلم من تخصيصه وحملوه على عمومه وأن من سنَّ سنة حسنة أو سيئة كان له ممن اقتدى به حظًا إن حسنًا وإن سيئًا، وأن من مات مسلمًا دخل الجنة ومن مات كافرًا دخل النار.
وعلي الجملة فكل أصل تكرر تقريره وتأكد أمره وفهم ذلك من مجاري الكلام فهو مأخوذ على حسب عمومه، وأكثر الأصول تكرارًا الأصول المكية كالأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربي والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي وأشباه ذلك، فأما إن لم يكن العموم مكررًا ولا مؤكدًا ولا منتشرًا فى أبواب الفقه فالتمسك بمجرده فيه نظر، فلابد من البحث عما يعارضه أو يخصصه.
وإنما حصلت التفرقة بين الصنفين لأن ما حصل فيه التكرار والتأكيد والانتشار صار ظاهره باحتفاف القرائن به إلى منزلة النص القاطع الذي لا احتمال فيه بخلاف ما لم يكن كذلك فإنه معرض لاحتمالات فيجب التوقف فى القطع بمقتضاه حتى يعرض على غيره ويبحث عن وجود معارض فيه». أهـ.
__________
(1) الموافقات، ج3 ، ص 306.(1/109)
ويقول الإمام الشاطبي بعد أن يذكر من القرآن مثل قوله تعالى: { وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } (1)، وقوله { وَلاَ تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ } (2) وما فى هذا المعنى من الآيات: «... وما تقدم من آيات القرآن كلها عمومات لا تحتمل التخصيص لأنها محكمات نزلت بمكة احتجاجًا على الكفار وردًا عليهم فى اعتقادهم حمل بعضهم على بعض أو دعواهم ذلك عنادًا ولو كانت تحتمل الخصوص فى هذا المعنى لم يكن فيها رد عليهم ولا قامت عليهم بها حجة، أما على القول بأن العموم إذا خصَّ لا يبقى حجة فى الباقي فظاهر، وأما على قول غيرهم فلتطرق احتمال التخصيص بالقياس أو غيره وإذا تأمل الناظر العمومات المكية وجدها عريّة عن التخصيص والنسخ وغير ذلك من الأمور المعارضة فينبغي للبيب أن يتخذها عمدة فى الكليات الشرعية ولا ينصرف عنها». أهـ.
وقد قلت (3):أن الكليات على نوعين:
تامة لا تحتمل التخصيص ولا غيره.
وكليات يدخل عليها التخصيص من الفروع الجزئية مع مراعاة ضابطين:
أولهما: أن الجزئي يستند فى تخصيصه للكلى أو إلى كلي آخر فيرجع الأمر بذلك إلى تخصيص الكليات بعضها بعضًا.
ثانيهما: ألا يقدح تخصيص الجزئي للكليات فى قطعية الكلي بخلاف العمومات الجزئية، وقلت أن الكليات التامة تستفاد من:
الإحكام الراجع إلى الصيغ.
أصول الدين.
العمومات المكية.
ما تكرر فتقرر وانتشر فتأكد وأتي به شواهد على معان أصولية وفروعية.
التعدد والتلازم:
__________
(1) فاطر، آية: 18.
(2) الأنعام، آية: 52.
(3) حد الإسلام، ص 70-71.(1/110)
يقول أبو بطين رحمه الله(1): «وأما الإقرار بتوحيد الربوبية وهو أن الله سبحانه خالق كل شيء ومليكه ومدبره، فهذا يقرُّ به المسلم والكافر ولابد منه لكن لا يصير به الإنسان مسلمًا حتى يأتي بتوحيد الألوهية الذي دعت إليه الرسل وأبى عن الإقرار به المشركون وبه يتميز المسلم من المشرك وأهل الجنة من أهل النار وقد أخبر سبحانه فى مواضع من كتابه عن المشركين أنهم يقرون بتوحيد الربوبية ويحتج عليهم سبحانه بإقرارهم بتوحيد الربوبية على إشراكهم فى توحيد الألوهية قال سبحانه: { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ - فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ } (2) الآية.
قال البكري الشافعي فى تفسيره على هذه الآية: إن قلت إذا أقروا بذلك فكيف عبدوا الأصنام؟ قلت كلهم كانوا يعتقدون بعبادتهم الأصنام عبادة الله والتقرب إليه لكن فى طرق مختلفة ففرقة قالت: ليس لنا أهلية عبادة الله بلا واسطة لعظمته فعبدناها لتقربنا إليه زلفى، وفرقة قالت: الملائكة ذوو وجاهة عند الله اتخذناها أصنامًا على هيئة الملائكة لتقربنا إلى الله زلفى، وفرقة قالت: جعلنا الأصنام قبلة لنا فى العبادة كما أن الكعبة قبلة فى عبادته، وفرقة اعتقدت أن لكل صنم شيطانًا موكلاً بأمر الله فمن عبد الصنم حق عبادته قضي الشيطان حوائجه بأمر الله وإلا أصابه شيطانه بنكبة بأمر الله».
__________
(1) الانتصار لحزب الله الموحدين، ص 7-10.
(2) يونس، الآيتان: 31-32.(1/111)
وقال ابن كثير عن قوله: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } (1). إنما يحملهم على عبادتهم أنهم عمدوا إلى أصنام اتخذوها على صور الملائكة المقربين فى زعمهم فعبدوا تلك الصور تنزيلاً لذلك منزلة عبادتهم الملائكة ليشفعوا لهم عند الله فى نصرهم ورزقهم وما ينوبهم من أمر الدنيا، قال قتادة والسدي ومالك عن زيد بن أسلم وابن زيد: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } (2) أي ليشفعوا لنا وليقربونا عنده منزلة.
{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ } (3)، { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ } (4)، وقال - عز وجل -: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ } (5)، قال ابن عباس وغيره: إذا سألتهم من خلق السماوات والأرض؟ قالوا: الله وهم يعبدون معه غيره، ففسروا الإيمان فى هذه الآية بإقرارهم بتوحيد الربوبية. والشرك بعبادتهم غير الله وهو توحيد الألوهية.
فلما تقرر معنى الإله وأنه المعبود تعين علينا معرفة حقيقة العبادة وحدَّها فعرفها بعضهم بأنها: ما أمر به شرعًا من غير اطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي.
وقال بعضهم: هى كمال الحب مع كمال الخضوع وهذا يستلزم طاعة المحبوب والانقياد له.
__________
(1) الزمر، آية: 3.
(2) الزمر، آية: 3.
(3) الزخرف، آية: 9.
(4) الزخرف، آية: 87.
(5) يوسف، آية: 106.(1/112)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: هى اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة كالصلاة والصيام والزكاة والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. والدعاء والذكر وقراءة القرآن وأمثال ذلك من العبادة فالدين كله داخل فى العبادة فإذا علم الإنسان وتحقق معنى الإله وأنه المعبود وعرف حقيقة العبادة، تبين له أن من جعل شيئًا من العبادة لغير الله فقد عبده واتخذه إلهًا وإن فرَّ من تسميته إلهًا أو معبودًا وسمي ذلك توسلاً وتشفعًا أو التجاء ونحو ذلك.
فالمشرك مشرك شاء أم أبي كما أن المرابي مراب شاء أم أبى وإن لم يسم ما فعله ربًا وشارب الخمر شارب خمر وإن سمَّاها بغير اسمها وفي الحديث عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «يأتي ناس من أمتي يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها» فتغيير الاسم لا يغير حقيقة المسمى ولا يزيل حكمه كتسمية البوادي سوالفهم الباطلة حقًا وتسمية الظلمة ما يأخذونه من الناس بغير اسمه.(1/113)
ولما سمع عدي بن حاتم ـ وهو نصراني ـ قول الله تعالى { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } (1) قال للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّا لسنا نعبدهم قال: «أليس يحرمون ما أحلَّ الله فتحرمونه ويحلون ما حرَّم الله فتحلونه. قال: قلت: بلى. قال: فتلك عبادتهم». فعديٌّ - رضي الله عنه - ما كان يحسب أن موافقتهم فيما ذكر عبادة منهم لهم فأخبره النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك عبادة منهم لهم مع أنهم لا يعتقدونه عبادة لهم. وكذلك ما يفعله عباد القبور من دعاء أصحابها وسؤالهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات والتقرب إليهم بالذبائح والنذور عبادة منهم للمقبورين وإن كانوا لا يسمونه ولا يعتقدونه عبادة وكذلك الذين قالوا للنبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «اجعل لنا ذات أنواط» ما كانوا يظنون أن قولهم ”اجعل لنا ذات أنواط“ كقول بني إسرائيل { اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } (2) ولم يظنوا أن هذا من التأله لغير الله الذي تنفيه ”لا إله إلا الله“ لأنهم يقولون: لا إله إلا الله ويعرفون معناها ـ لأنهم عرب ـ لكن خفيت عليهم هذه المسألة لحداثة عهدهم بالكفر حتى قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «الله أكبر إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: { اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } لتركبن سنن من كان قبلكم». فإن قيل فالنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لم يكفرهم بذلك قلنا: هذا يدل على أن من تكلم بكلمة الكفر جاهلاً بمعناها ثم نُبِّه فتنبَّه أنه لا يكفر. ولاشك أن هؤلاء لو اتخذوا ذات أنواط بعد إنكار النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لكفروا وقال الله تعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ - إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي } (3)
__________
(1) التوبة، آية: 31.
(2) الأعراف، آية: 138.
(3) الزخرف، آية: 26.(1/114)
. قال مجاهد وقتادة: هى شهادة أن لا إله إلا الله فلا يزال فى ذرية إبراهيم من يعبد الله وحده. ففي الآية والحديثين قبلها بيان لمعنى لا إله إلا الله وأن المراد منها البراءة من التأله والعبادة لغير الله وإفراده سبحانه بالعبادة ومن أعظم المصائب إعراض أكثر الناس عن النظر فى معنى هذه الكلمة العظيمة حتى صار كثير منهم يقول: من قال لا إله إلا الله ما نقول فيه شيئًا وإن فعل ما فعل لعدم معرفتهم بمعنى هذه الكلمة نفيًا وإثباتًا مع أن قائل هذا لابد وأن يتناقض فلو قيل له ما تقول فيمن قال: لا إله إلا الله ولا يقر برسالة محمد بن عبد الله لم يتوقف فى تكفيره أو أقر بالشهادتين وأنكر البعث لم يتوقف فى تكفيره أو استحل الزنا واللواط أو نحوهما أو قال إن الصلوات الخمس ليست بفرض أو إن صيام رمضان ليس بفرض فلابد أن يقول بكفر من قال ذلك فكيف لا تنفعه لا إله إلا الله إذن ولا تحول بينه وبين الكفر؟ فإذا ارتكب ما يناقضها وهو عبادة غير الله وهو الشرك الأكبر الذي هو أكبر الذنوب قيل هو يقول لا إله إلا الله ولا يجوز تكفيره لأنه يتكلم بكلمة التوحيد لكن آفة الجهل والتقليد أوجبت ذلك.(1/115)
وهؤلاء ونحوهم إذا سمعوا من يقرر أمر التوحيد وينكر الشرك استهزأوا به وعابوه قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدَّس الله روحه ـ فى أثناء كلام له ـ والضالون مستخفون بتوحيد الله، معظمون دعاء غيره من الأموات وإذا أمروا بالتوحيد ونهوا عن الشرك استخفوا به كما قال تعالى: { وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً - إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا } (1) الآية. فاستهزءوا بالرسول لما نهاهم عن الشرك ومازال المشركون يسبون الأنبياء ويصفونهم بالسفاهة والضلال والجنون إذا دعوهم إلى التوحيد لما فى أنفسهم من تعظيم الشرك وكذلك من فيه شبهة منهم إذا رأوا مَنْ يدعو إلى التوحيد استهزءوا به لما عندهم من الشرك.
ومن كيد الشيطان لمبتدعة هذه الأمة ـ المشركين بالبشر من المقبورين وغيرهم ولما علم عدو الله أن كل من قرأ القرآن أو سمعه ينفر من الشرك ومن عبادة غير الله ـ ألقى فى قلوب الجهال أن هذا الذي يفعلونه مع المقبورين وغيرهم ليس عبادة لهم وإنما هو توسل وتشفع بهم والتجاء إليهم ونحو ذلك فسلب العبادة والشرك اسمهما من قلوبهم وكساهما أسماء لا تنفر عنها القلوب ثم ازداد اغترارهم وعظمت الفتنة بأن صار بعض من ينسب إلى علم ودين يسهل عليهم ما ارتكبوه من الشرك ويحتج لهم بالحجج الباطلة فإنَّا للهِ وإنَّا إليه راجعون.
قال الشيخ أبو بطين فى موضع آخر من الرسالة(2): «ومما يتعين الاعتناء به: معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله لأن الله سبحانه وتعالى ذمَّ من لا يعرف حدود ما أنزل الله على رسوله فقال تعالى: { الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ } (3).
__________
(1) الفرقان، الآيتان41-42.
(2) الانتصار لحزب الله الموحدين، ص 24
(3) التوبة، آية: 97.(1/116)
قال شيخ الإسلام: معرفة حدود الأسماء واجبة لأن بها قيام مصلحة الآدميين فى المنطق الذي جعله الله رحمة لهم لاسيما حدود ما أنزل الله على رسوله من الأسماء: كالخمر والربا فهذه الحدود هى المميزة بين ما يدخل فى المسمي وما يدل عليه من الصفات وفيه ما ليس كذلك.
ففرض على المكلف معرفة حد العبادة وحقيقتها التي خلقنا الله لأجلها ومعرفة حد الشرك وحقيقته الذي هو أكبر الكبائر وتجد كثيرًا ممن يشتغل بالعلم لا يعرف حقيقة الشرك الأكبر وإن قال: إنه الشرك فى العبادة لقول الله تعالى: { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } (1)، { وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } (2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا» فإنه لا يعرف حد العبادة وحقيقته وربما قال العبادة التي صرفها لغير الله شرك، كالصلاة والسجود مع اعترافه بأن الشرك الذي حرمه الله هو الشرك فى العبادة فإذا طلب منه الدليل على أن الله سمى الصلاة لغيره أو السجود لغيره شركًا لم يجده وربما قال لأن ذلك خضوع والخضوع لغير الله شرك فيقال له هل تجد فى القرآن أو السنة تسمية هذا الخضوع شركًا فلا يجده فيلزمه أن يقول لأنه عبادة لغير الله فيقال وكذلك الدعاء والذبح والنذر عبادات مع ما يلزم هذه العبادات من أعمال القلوب من الذل والخضوع والحب والتعظيم والتوكل والخوف والرجاء وغير ذلك وفي الحديث «الدعاء مخ العبادة» وقد قرن الله سبحانه بين الصلاة والذبح فى قوله - عز وجل -: { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } (3) أي أخلص له فى صلاتك وذبيحتك فكما أن الصلاة لغير الله شرك فكذا قرين الصلاة وهو الذبح لغيره شرك وقال تعالى: { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا
__________
(1) النساء، آية: 36.
(2) الكهف، آية:110.
(3) الكوثر، آية: 2.(1/117)
أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } (1).
ومن العجب قول بعض من يحتج للمشركين بالأموات أنهم لا يرجون قضاء حاجتهم من الميت ونحن نقول: هذه مكابرة ومغالطة لأنه من المعلوم عند كل ذي عقل أنهم ما دعوهم وتذللوا وخضعوا لهم وبذلوا أموالهم بالنذور والذبائح إلا لأنهم يرجون حصول مطلوبهم وقضاء حاجاتهم من جهتهم فكيف يتصور عند عاقل أن يسمع من يسأل الميت والغائب حاجة بأن يقول أعطني كذا أو أنا فى حسبك ويستغيث به فى دفع عدو أو كشف ضر ويتذلل ويخضع له ثم يقول أنه لا يرجو حصول مطلوبه أو دفع مرهوبه من جهته!
وكيف يتصور أن يبذل ماله بالنذر والذبح ـ مع أن المال عزيز عند أهله ـ لمن لا يرجوه ويعتقد أنه لا يحصل له من جهته نفع ولا دفع ضر فهذا من أبين المحال وأبطل الباطل كيف وهم يفخرون بقضاء حاجاتهم وكشف كرباتهم من جهتهم فبعض منهم يعتقد أن الميت ونحوه يفعل ذلك وبعضهم يقول: هم وسيلتنا إلى الله يعنون واسطة بينهم وبين الله. كما عليه المشركون الأولون، كما أخبر الله عنهم أنهم يقولون { هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } (2)، { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } (3)، بل كثيرٌ من مبتدعة هذه الأمة أعظم غلوًا واعتقادًا فى ولائهم من المشركين الأولين لأن الله سبحانه وتعالى أخبر عن المشركين الموجودين حين نزول القرآن أنهم يخلصون لله الدعاء فى حال الشدة وينسون الهتهم وكثير من غلاة أهل هذا الزمان يخلصون الدعاء عند الأمور المهمة والشدائد لأوليائهم كما هو مستفيض عنهم قال الله تعالى إخبارًا عن المشركين الأولين: { فَإِذَا رَكِبُوا فى الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } (4).
__________
(1) الأنعام، الآيتان: 162-163.
(2) يونس، آية: 18.
(3) الزمر، آية: 3.
(4) العنكبوت، آية: 65.(1/118)
ومن العجب قول بعض من ينسب إلى علم ودين أن طلبهم من المقبورين والغائبين ليس دعاء لهم بل هو نداء أفلا يستحي هذا القائل من الله إذا لم يستح من الناس من هذه الدعوى الفاسدة السمجة التي يروج بها على رعاع الناس والله سبحانه قد سمى الدعاء، نداء فى قوله تعالى: { إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا } (1)، وقوله - عز وجل -: { فَنَادَى فى الظُّلُمَاتِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ } (2). وأي فرق بين ما إذا سأل العبد ربَّه حاجة وبين ما إذا طلبها من غيره ميت أو غائب بأن الأول يسمي دعاءً والثاني نداءً، ما أسمج هذا القول وأقبحه وهو قول يستحي من حكايته لولا أن يروج على الجهال لاسيما إذا سمعوه ممن يعتقدون علمه ودينه وأي فرق بين سؤال الميت حاجة وبين سؤالها من صنم ونحوه فإن الثاني يسمي دعاءً والأول نداءً، فإن قال الكل يسمي نداء لا دعاء فهذا مشاقة للقرآن، ومحادة لله ورسوله ولا يحتاج فى بيان بطلانه لأكثر من حكايته وما أظن عاقلاً يحيك هذا فى نفسه وإنما هو عناد ومكابرة إنما تروج على أشباه البهائم أما يخاف هذا أن يتناوله قوله - عز وجل -: { وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ } (3).
__________
(1) مريم، آية: 3.
(2) الأنبياء، آية: 87.
(3) غافر، آية: 5.(1/119)
والله سبحانه وتعالى سمَّى سؤال غيره دعاء فى غير موضع من كتابه { إِنْ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ } (1). والدعاء فى القرآن يتناول دعاء العبادة ودعاء المسألة ويقال لمن ادعى أن الشرك هو الصلاة والسجود لغير الله فقط مع أن هذا مكابرة من مدعيه فكمًا أن السجود عبادة فكذلك الدعاء والنذر والذبح وغيرها كما تقدم تعريفه وقد نهى الله عن دعاء غيره وذمَّ فاعل ذلك وأمرنا بإخلاص الدعاء له أكثر مما ذكر فى خصوصية السجود مع أن الدعاء فى القرآن يتناول دعاء المسألة ودعاء العبادة الذي يدخل فيه السجود وغيره من أنواع العبادة. قال تعالى: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } (2)، وقال - عز وجل -: { فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } (3)، وقال تعالى: { لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ } (4)، وقال - عز وجل -: { وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنْ الظَّالِمِينَ } (5)، وقال - عز وجل -: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ } (6)، وقال - عز وجل -: { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ - إِنْ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } (7).
__________
(1) فاطر، آية: 14.
(2) الجن، آية: 18.
(3) غافر، آية: 14.
(4) الرعد، آية: 14.
(5) يونس، آية: 106.
(6) الأحقاف، آية: 5.
(7) فاطر، الآيتان: 13-14.(1/120)
وفي القرآن مثل ذلك ما لا يحصى. قال شيخ الإسلام فى الكلام على دعوة ذي النون: ولفظ الدعاء والدعوة فى القرآن يتناول دعاء العبادة ودعاء المسألة وفُسِّر قوله تعالى: { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } (1) بالوجهين وفي حديث النزول «من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له» والمستغفر سائل والسائل داعٍ لكن ذكر السائل لدفع الشر يعد السائل للخير وذكرهما بعد الدعاء الذي يتناولهما وغيرهما من عطف الخاص على العام وسماها دعوة لتضمنها النوعين فقوله { أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ } عتراف بتوحيد الألوهية وهو يتضمن النوعين فإن الإله هو المستحق لأن يدعي بالنوعين. وقال ابن القيم فى ”البدائع“ بعد آيات ذكرها قال: «وهذا فى القرآن كثير يبين أن المعبود لابد أن يكون مالكًا للنفع والضر فهو يدعي للنفع والضر دعاء المسألة ويدعي رجاء وخوفًا دعاء العبادة فعلم أن النوعين متلازمان فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة. إلى أن قال: وليس هذا من استعمال اللفظ المشترك فى تفسير معنييه كليهما ولا استعمال اللفظ فى حقيقته ومجازه بل هذا استعمال له فى حقيقته الواحدة المتضمنة للأمرين جميعًا. فعلي هذا يكون النهي عن دعاء غير الله نصًا فى دعاء العبادة وفي دعاء المسألة حقيقة فهو نهي عن كل منهما حقيقة».
__________
(1) غافر، آية: 60.(1/121)
ويقول الشيخ فى الرسالة نقلاً عن شيخ الإسلام ابن تيمية من ”اقتضاء الصراط المستقيم“: «وجماع ذلك أن الشرك نوعان شرك فى ربوبيته بأن يجعل لغيره معه تدبير، كما قال تعالى: { قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فى السَّمَاوَاتِ وَلاَ فى الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } (1). وشِركٌ فى الألوهية بأن يدعوا غيره دعاء عبادة أو دعاء مسألة كما قال تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ». أهـ.
__________
(1) سبأ، آية: 22.(1/122)
ومفاد كلام أبي بطين رحمه الله أن الإنسان لا يصير مسلمًا بتوحيد الربوبية بل لابد معه من توحيد الألوهية وهو توحيد العبادة فهما إذن متلازمان لا يقبل أحدهما بدون الآخر، كما أن مفردات كل من التوحيدين متلازمة، مفردات الربوبية متلازمة، ومفردات توحيد الألوهية متلازمة، فاليهود كفروا لأنهم آمنوا ببعض صفات الله سبحانه وكفروا ببعضها الآخر فقالوا: { إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءٌ } وقالوا { يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ } ، وقالوا: { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } ، وقالوا: { عزيرٌ بن الله } ، وقال غيرهم: { المسيح بن الله } ولاشك أنهم آمنوا بغير هذا من صفات الله، وآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعضه الآخر فحرموا الاسترقاق واستحلوا القتل وآمنوا ببعض الكتب وكفروا بالآخر، فقالوا: { نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ } فرَّقوا بين الله ورسله فقالوا: { نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ } والمؤمنون آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسوله ولم يفرقوا بين أحد منهم ولما قالوا التماسًا للتخفيف هذه لا نطيقها قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتقولون: كما قال أهل الكتابين قبلكم سمعنا وعصينا، بل قولوا سمعنا وأطعنا فلما قالوها وذلت بها ألسنتهم أنزل الله - عز وجل -: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } (1). ولاشك أنهم سمعوا وأطاعوا لما سوى ذلك ولا يتم الإيمان إلا بالقبول لكل الشرع ورفض شريعة واحدة رفض للشرع كله وهذا هو معنى قوله تعالى { ادْخُلُوا فى السِّلْمِ كَافَّةً } (2)
__________
(1) البقرة، آية: 285.
(2) البقرة، آية: 208.(1/123)
. وقالت اليهود ميكال يأتي بالرزق والخير وجبريل لا يأتي إلا بالشدة وهو عدونا فأنزل الله - جل جلاله -: { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ } (1).
فالإيمان بصفات الله عزَّ وجل التي لا يتم العلم به إلا بالعلم بها ـ بخلاف غيرها من صفاته التي لا يكون الجهل بها جهلاً به ـ يتلازم والإيمان بالله يتلازم مع الإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره وعندما كذب قوم بالقدر خرجوا من الإسلام وكذلك من كذب بالبعث فهذا الإيمان المقابل للكفر لا يذهب بعضه ويبقي بعضه فيجتمع إيمان وكفر، والكفر يستوي قليله وكثيره، وكل كفر مخرج من الملة لا ينفع معه ما بقى من الإيمان ولا يتحقق الإيمان إلا بالخلو من جميع النواقض المكفرة وأن يقول أسلمت لله وتخليت { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ } (2). إيمانهم إقرارهم وشركهم أنهم يعبدون مع الله غيره ومن عبد مع الله غيره فى بعض العبادات فقد أشرك بالله شيئًا ومن أشرك بالله شيئًا لا ينفعه ما بقى معه من توحيد وكما قال أبو بطين رحمه الله فقد خسروا الإيمان بتوحيد الربوبية ولا يدخل به صاحبه الملة ولا ينجو به من الخلود فى النار إلا مع ترك الشرك فى العبادة وهو حقيقة. الإسلام فالإيمان والإسلام متلازمان أو توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية متلازمان لا يقبل أحدهما بدون الآخر، وعند الإطلاق يدخل معنى أحدهما تحت لفظ الآخر، فحقيقة الإيمان وحقيقة الإسلام واحدة عند الإطلاق فى الإيمان والإسلام المقابل للكفر وهي توحيد الألوهية المستلزم والمتضمن لتوحيد الربوبية وتوحيد الربوبية وتوحيد الألوهية كلاهما متعدد ومتلازم فى نفسه ومع قرينه، والتلازم معه التعدد لا يمكن مع أن يبقى بعضه ويذهب بعضه لأن فى هذا نفي للتلازم فينتفي
__________
(1) البقرة، آية: 98.
(2) يوسف، آية: 106.(1/124)
التعدد أيضًا ويؤول الأمر لشيء واحد وهو مجرد الانتساب وهو قول الإرجاء وهو معلوم البطلان من الدين بالضرورة.
أما الإيمان المطلق الشامل لمراتب التكاليف الثلاثة وليس المقابل للكفر كما فى قول الله - جل جلاله -: { حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ - فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَنِعْمَةً } (1). فهذا التعدد ليس فيه تلازم فيمكن أن يبقى بعضه ويذهب بعضه { خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا } (2). ويمكن أن يذهب الإيمان الكامل أو المستحب كله، قولاً وعملاً ويبقى الإيمان الواجب. ويمكن أن يذهب الإيمان الواجب كله ويبقى الإيمان المجمل، وإذا كان الإيمان المجمل أو الإسلام هو التوحيد فالتوحيد صلب وكمالات، ويتفاضل فيه الناس ويتفاوتون تفاوتًا وتفاضلاً عظيمًا. وهناك قدر متحقق فى جميع أهل التوحيد ممن أوجب لهم توحيدهم الخلود فى الجنة والخروج من النار وهو ترك الشرك الأعظم بنوعيه فى الاعتقاد والعبادة، فهذا القدر كما سبق أن قلنا لابد أن يتحقق فى المرسلين والأنبياء والشهداء والصالحين والصديقين والمقربين والأبرار وأهل الوعد بلا وعيد وأهل الوعد مع الوعيد والجهنميين عتقاء الرحمن أصحاب الخواتيم آخر من يخرج من النار لم يعملوا خيرًا قط زائدًا على التوحيد، وترك الشرك الأعظم بنوعيه فى الاعتقاد والعبادة لا يتحقق إلا بالتوحيد، فلابد من أقل قدر من العلم تنتفي به الجهالة، وأقل قدر من اليقين ينتفي به الشك، وأقل قدر من الصدق ينتفي به النفاق، وأقل قدر من الإخلاص ينتفي به الشرك، وأقل قدر من القبول ينتفي به الرد، وأقل قدر من الانقياد ينتفي به الترك، وأقل قدر من المحبة تنتفي به العداوة والمشاقة والمحادة. وهذا هو الحد الفاصل بين الإيمان والكفر أو حد الإسلام،
__________
(1) الحجرات، الآيتان: 7-8.
(2) التوبة، آية: 102.(1/125)
وهذا التعدد فيه مع التلازم ولا يمكن أن يذهب بعضه ويبقى بعضه لأن التوحيد أن يكون الدين كله لله، والشرك أن يكون بعض الدين لله وبعضه لغير الله، كما قال شيخ الإسلام فى ”اقتضاء الصراط“ و”الفتاوى“ وغير ذلك وفي الإيمان المقابل للكفر لا يمكن أن تجتمع أصول الإيمان مع أصول الكفر، ولا صلب التوحيد مع الشرك الأعظم. وفي الإيمان المطلق فيما زاد على التوحيد من عمل إيجابًا أو استحبابًا يمكن أن تجتمع شعب الكفر وهي المعاصي مع شعب الإيمان وهي الطاعات وشعب الإيمان مع شعب النفاق ـ ليس النفاق الخالص ـ.
والمعاصي بأي قدر بالغة ما بلغت لا تنافي حقيقة الإسلام ولا حقيقة الإيمان، فلا يقع بها الكفر ولا تُخرج من الملة وهي من شعب الكفر، ومن أمر الجاهلية، كما قال البخاري - رضي الله عنه -: ”المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر مرتكبها إلا بالشرك“ أي بارتكابه الشرك يَكْفر ويُكفَّر مرتكبه لمجرد الارتكاب، والمعصية لا يَكْفر ولا يُكفَّر مرتكبها إلا برد الأمر أو باعتقاد الحل لا يكفر لمجرد الارتكاب خلافًا للشرك. ودخول الكفر بأي قدر مهما قل يخرج من الملة وينتفي معه الإسلام والإيمان، لأن الشرك والكفر يناقضان حقيقة الإسلام، وحقيقة الكفر تنافي حقيقة الإيمان، وبالخروج من الملة لا ينفع ما بقي من الإيمان لأنه من يكفر بالإيمان فقد حبط عمله { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } (1).
__________
(1) الزمر، آية: 65.(1/126)
والعبادة حق الله الخالص، والتوحيد هو إفراد الله سبحانه وتعالى بحقه الخالص، ولا يتحقق توحيد العبادة بأن تكون الصلاة والسجود لله، ويكون دعاء المسألة ودعاء العبادة لغير الله معه أو من دونه أو يكون الذبح أو النذر أو تقريب القرابين وتسييب السوائب لغير الله معه أو من دونه، بل لابد أن ينصرف إلى الله سبحانه كل ما هو حق خالص لله، فإذا انصرف لغيره حق خالص له فى شيء واحد فقد أشرك من فعل ذلك بالله شيئًا، ومن فعل ذلك ومات عليه فقد أوجب له ذلك الخلود فى النار «مَنْ مات يشرك بالله شيئًا دخل النار»، وشيئًا نكرة فى سياق نهي فى قوله تعالى: { أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا } (1). وفي تعريف الإسلام فى حديث جبريل - عليه السلام - «أن تعبد الله ولا تشرك به شيئًا» يفيد العموم والاستغراق والتوحيد كما قلت أن يكون الدين كله لله، والشرك أن يكون بعض الدين لله وبعضه لغير الله فلا يصلح فى توحيد العبادة أن يبقى بعضه ويذهب بعضه لأن التعدد فيه مع التلازم والله سبحانه وتعالى لا يغفر شركًا ومن مات يشرك بالله شيئًا دخل النار، ومن مات لا يشرك بالله شيئًا نكرة فى سياق نفي دخل الجنة، ولا يدخل الجنة إلا نفسٌ مسلمةٌ ولا يدخل الجنة إلا نفسٌ مؤمنة فالنفس المسلمة أو المؤمنة هى النفس تموت، ولا تشرك بالله شيئًا وإن حُرِّقت وقُطِّعت.
__________
(1) آل عمران، آية: 64.(1/127)
والخوارج يوجبون التعدد مع التلازم فى الإيمان المطلق، أي فى جملة الفرائض وهو معلوم البطلان من الدين بالضرورة لأنه يستلزم التكفير بالمعصية وفي ذلك مصادمة نصوص القرآن والسنة كفاحًا والمرجئة يقولون أن التعدد ليس معه تلازم ويمكن أن يذهب بعض الإيمان ويبقى بعضه فى الإيمان المقابل للكفر أي فى التوحيد وترك الشرك، وفي الإيمان المطلق وهو زيادة العمل على التوحيد لا يفرقون فى ذلك بين التوحيد وترك الشرك وبين ما يزيد على التوحيد من عمل أو قول إيجابًا أو استحبابًا وهو أيضًا معلوم البطلان من الدين ضرورة لأنه يصادم النصوص كفاحًا ويستلزم أن يكون المشرك مسلمًا قد لقىَ الله بدين يقبل منه وينجو به من الخلود فى النار مع موته على الشرك الأعظم وهو بذلك تكذيب لفظي لقوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (1) وغير ذلك من النصوص وأهل السنة يثبتون التعدد مع التلازم فى صلب التوحيد وترك الشرك ولا يمكن أن يذهب بعضه ويبقى بعضه فى صلب التوحيد وترك الشرك الأعظم ويثبتون التعدد مع نفي التلازم فى الإيمان المطلق وهو ما زاد على صلب التوحيد من عمل أو قول إيجابًا أو استحبابًا فيفرقون بين الشرك الأعظم والمعاصي وبين صلب التوحيد والطاعات.
وهذا التفريق هو الذي يتميز به أهل السنة عن المرجئة والخوارج فأهل السنة قالوا: ثلاثة أشياء ضد ثلاثة أشياء: التوحيد وضده الشرك السنة وضدها البدعة والطاعة وضدها المعصية.
__________
(1) النساء، آية: 48.(1/128)
ووقوع حقيقة العبادة لغير الله شرك شاء المشرك أم أبي وتغيير الأسماء لا يغير حقائق الأشياء وسواء قصد به العبادة واعتقده وعلمه عبادة أم لم يقصد به العبادة ولم يعتقده عبادة، ولم يعلم وجه كون الفعل عبادة، فالعبادة دين، والله - سبحانه وتعالى - يقول: { وقَاتِلُوهُمْ حَتَّي لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُهُ للهِ } (1). والفتنة كما قال العلماء هى الشرك، وذلك بأن يكون بعض الدين لله، وبعضه لغير الله عزَّ وجل. وقوله لا إله إلا الله لا ينفي عنه وقوع الشرك منه. والعبادة لغير الله لا فرق فيها بين صلاة وسجود وصيام وحج وذبح ونذر ودعاء مسألة ودعاء عبادة أو دعاء ونداء أو تقضي حوائج فكله عبادة لغير الله ومن ترك شرك الاعتقاد ووقع فى شيء من شرك العبادة فهو مشرك غير مسلم وغير مؤمن وإذا مات على ذلك أوجب له ذلك الخلود فى النار، ومنع الخروج منها { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } (2). وهو بالشرك كافر لمنافاة الشرك لحقيقة الإسلام، وترك الشرك كما سبق أن قلنا متلازم فالوقوع فى شرك أعظم واحد يخرج من الملة ويحبط معه العمل ولا ينفع ما بقى معه من إيمان أو ما بقى معه من توحيد، وكذلك من ترك شرك العبادة ووقع فى شيء من شرك الاعتقاد بلا فرق.
__________
(1) الأنفال، آية: 39.
(2) المائدة، آية: 72.(1/129)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية(1) عن أن الإيمان بالرسل متلازم: «والله تعالى جعل من دين الرسل أن أولهم يبشر بآخرهم ويؤمن به وآخرهم يصدق بأولهم ويؤمن به قال تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ } (2). وقال ابن عباس لم يبعث الله نبيًا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه وقال تعالى: { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا... } (3). وجعل الإيمان بهم متلازمًا وكفر من قال أنه آمن ببعض وكفر ببعض قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً - أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا } (4)». أهـ.
__________
(1) الرسالة التدمرية، طبعة مكتبة التراث الإسلامي، ص 77.
(2) آل عمران، آية: 81.
(3) المائدة، آية: 48.
(4) النساء، الآيتان: 150-151.(1/130)
ويقول شيخ الإسلام فى مواضع كثيرة عن تلازم توحيد العبادة مع توحيد الاعتقاد، يقول فى ”الرسالة التدمرية“ بعد كلام(1): «وبهذا وغيره يعرف ما وقع من الغلط فى مسمى التوحيد فإن عامة المتكلمين الذين يقررون التوحيد فى كتب الكلام والنظر غايتهم أن يجعلوا التوحيد ثلاثة أنواع، فيقولون هو واحد فى ذاته لا قسيم له، وواحد فى صفاته لا شبيه له، وواحد فى أفعاله لا شريك له. إلى أن يقول: والتوحيد أن يعبد الله وحده لا شريك له، والإشراك أن يجعل مع الله إلهًا آخر، وإذا تبين أن غاية ما يقرره هؤلاء النظار أهل الإثبات للقدر، المنتسبون للسنة ـ إنما هو توحيد الربوبية، وأن الله ربّ كل شيء، ومع هذا فالمشركون كانوا مقرين بذلك مع أنهم مشركون وكذلك طوائف من أهل التصوف والمنتسبين إلى المعرفة والتحقيق والتوحيد غاية ما عندهم من التوحيد هو شهود هذا التوحيد، وأن يشهد أن الله ربَّ كل شيء ومليكه وخالقه، لاسيما إذا غاب العارف بموجوده عن وجوده وبمشهوده عن شهوده، وبمعروفه عن معرفته، ودخل فى فناء توحيد الربوبية بحيث يفني من لم يكن، ويبقي من لم يزل، فهذا عندهم هو الغاية التي لا غاية وراءها، ومعلوم أن هذا هو تحقيق ما أقر به المشركون من التوحيد، ولا يصير الرجل بمجرد هذا التوحيد مسلمًا فضلاً عن أن يكون وليًا لله أو من سادات الأولياء». أهـ.
__________
(1) الرسالة التدمرية، ص 83.(1/131)
ويقول فى ”الفتاوى“ بعد أن يذكر توحيد الاعتقاد بأنواعه الثلاثة الذات والصفات والأفعال يقول(1): «وأما التوحيد العملي الذي ذكره الله فى كتابه وأنزل به كتبه وبعث به رسله واتفق عليه المسلمون من كل ملة فهو كما قال الأئمة: شهادة أن لا إله إلا الله وهو عبادة الله وحده لا شريك له. إلى أن يقول: والشرك الذي ذكره الله فى كتابه إنما هو عبادة غيره من المخلوقات كعبادة الملائكة أو الكواكب أو الشمس أو القمر أو الأنبياء أو تماثيلهم أو قبورهم أو غيرهم من الآدميين ونحو ذلك مما هو كثير فى هؤلاء الجهمية ونحوهم ممن يزعم أنه محقق فى التوحيد وهو أعظم الناس إشراكًا وقال تعالى: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ } (2). وقال ابن عباس وعطاء وعكرمة ومجاهد يسألهم من خلق السموات والأرض فيقولون الله وهم مع هذا يعبدون غيره ويشركون به، ويقولون له ولد، وثالث ثلاثة، فكان الكفار يقرون بتوحيد الربوبية وهو نهاية ما يثبته هؤلاء المتكلمون إذا سلموا من البدع فيه ومع هذا كانوا مشركين لأنهم كانوا يعبدون غير الله... فدين الله أن يدينه العباد ويدينون له فيعبدونه ويطيعونه وذلك هو الإسلام له فمن ابتغي غير هذا دينًا فلن يقبل منه. إلى أن يقول: فهذا موضع عظيم جدًا ينبغي معرفته لما قد لبس على الناس أصل الإسلام حتى صاروا يدخلون فى أمور عظيمة هى شرك يتنافى مع الإسلام لا يحسبونها شركًا، وأدخلوا فى التوحيد والإسلام أمورًا باطلة ظنوها من التوحيد وهي تنافيه وأخرجوا من الإسلام والتوحيد أمورًا عظيمة لم يظنوها من التوحيد وهي أصله. فأكثر هؤلاء المتكلمين لا يجعلون التوحيد إلا ما يتعلق بالقول والرأي واعتقاد ذلك دون ما يتعلق بالعمل والإرادة واعتقاد ذلك.
__________
(1) الفتاوى الكبري، ج5، ص 248 وما بعدها.
(2) يوسف، آية 106.(1/132)
بل التوحيد الذي لابد منه لا يكون إلا بتوحيد الإرادة والقصد وهو توحيد العبادة وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله أن يقصد الله بالعبادة ويريده بذلك دون ما سواه وهذا هو الإسلام فإن الإسلام يتضمن أصلين:
أحدهما: الاستسلام لله.
والثاني: أن يكون ذلك سالمًا له فلا يشركه أحد فى الإسلام له وهذا هو الاستسلام لله بغير شريك وسورة ”قل يا أيها الكافرون“ تفسر ذلك وأما التوحيد القولي الذي هو الخبر عن الله ففي سورة ”قل هو الله أحد“ التي تعدل ثلث القرآن وفيها اسمه الأحد الصمد وكل من هذين الاسمين يدل على نقيض مذهب هؤلاء الجهمية.
وعبادة الله وحده يدخل فيها كمال المحبة وحده وكمال الخوف منه وحده وكمال الرجاء له والتوكل عليه وحده كما يبين ذلك القرآن فى غير موضع فكل ذلك من أصل التوحيد الذي أوجبه الله على عباده وبذلك يكون الدين كله كما أمر الله رسوله والمؤمنين بالقتال إلى هذه الغاية حيث يقول { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } ». أهـ.
ويقول ابن تيمية(1): «وطائفة ظنوا أن التوحيد ليس إلا إقرارًا بتوحيد الربوبية وأن الله خالق كل شيء وهو الذي يسمونه توحيد الأفعال. إلى أن يقول: وهذا التوحيد هو التوحيد الواجب لكن لا يحصل به كل الواجب ولا يخلص بمجرده عن الإشراك الذي هو أكبر الكبائر والذي لا يغفره الله بل لابد أن يخلص لله الدين والعبادة فلا يعبد إلا إياه ولا يعبده إلا بما شرع فيكون دينه كله لله عزَّ وجلَّ». أهـ.
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم، مطبعة المدني، ص 459 - 464(1/133)
ويقول في ”موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول“(1): «ولهذا كان من أتباع هؤلاء ـ يعني المتكلمين ـ من يسجد للشمس والقمر والكواكب ويدعوها كما يدعو الله تعالى ويصوم لها وينسك لها ويتقرب إليها ثم يقول إن هذا ليس بشرك وإنما الشرك إذا اعتقدت أنها هى المدبرة لي فإذا جعلتها سببًا أو واسطة لم أكن مشركًا ومن المعلوم من دين الإسلام بالاضطرار أن هذا شرك فهذا ونحوه من التوحيد الذي بعث الله به رسله وهم لا يدخلونه فى مسمى التوحيد الذي اصطلحوا عليه وأدخلوا فى ذلك نفي صفاته». أهـ.
ويقول ابن القيم رحمه الله(2): «وهذا الإفراد نوعان: أحدهما: إفراد فى الاعتقاد والخبر وذلك نوعان أيضًا:
أحدهما: إثبات مباينة الربّ تعالى للمخلوقات وعلوه فوق عرشه من فوق سبع سموات.
الثاني: إفراده سبحانه وتعالى بصفات الكمال وإثباتها له، وفي هذا النوع يكون إفراده سبحانه بعموم قضائه وقدره لجميع المخلوقات.
النوع الثاني من الإفراد إفراد القديم عن المحدث فى العبادة».
ويقول فى موضع آخر: «وأما التوحيد الذي دعت إليه الرسل ونزلت به كتبه فوراء ذلك وهو نوعان: توحيد فى المعرفة والإثبات، وتوحيد في القصد والطلب.
والنوع الأول هو حقيقة ذات الربّ تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله وعلوه فوق سماواته على عرشه وتكلمه بكتبه وتكليمه لمن شاء من عباده وإثبات عموم قضائه وقدره وحكمه وقد أفصح القرآن من هذا النوع جد الإفصاح كما فى سورة الحديد وسورة طه وآخر سورة الحشر وأول سورة تنزيل السجدة وأول آل عمران وسورة الإخلاص بكمالها وغير ذلك.
__________
(1) على هامش منهاج السنة، ج1، ص 135.
(2) مدارج السالكين، ج3، ص 449-455.(1/134)
النوع الثاني: مثل ما تضمنته سورة ”قل يا أيها الكافرون“ وقوله تعالى: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ... } (1) الآية. وأول تنزيل الكتاب، وآخرها، وأول يونس، ووسطها، وآخرها، وأول الأعراف، وآخرها، وجملة الأنعام». أهـ.
ومر ما قلناه من أن الشرك نوعان، نوع فى الاعتقاد ونوع فى العبادة عن أبي بطين رحمه الله.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية فى التلازم بين الإيمان والإسلام نقلاً عن المروزي(2): «فمثل الإسلام من الإيمان كمثل الشهادتين إحداهما من الأخرى فى المعنى والحكم فشهادة الرسول غير شهادة الوحدانية فهما شيئان فى الأعيان وإحداهما مرتبطة بالأخرى فى المعني والحكم كشيء واحد كذلك الإيمان والإسلام أحدهما مرتبط بالآخر كشيء واحد لا إيمان لمن لا إسلام له ولا إسلام لمن لا إيمان له إذ لا يخلو المسلم من إيمان به يصح إسلامه ولا يخلو المؤمن من إسلام به يحقق إيمانه من حيث اشترط الله للأعمال الصالحة الإيمان واشترط للإيمان الأعمال الصالحة فمن كان ظاهره أعمال الإسلام ولا يرجع إلى عقود الإيمان بالغيب فهو منافق نفاقًا ينقل عن الملة ومن كان عقده الإيمان بالغيب ولا يعمل بشرائع الإسلام وأحكام الإيمان فهو كافر كفرًا لا يثبت معه توحيد ومن كان مؤمنًا بالغيب وبما أخبرت به الرسل عن الله عاملاً بما أمر الله به فهو مؤمن مسلم وقد أجمع أهل القبلة على أن كل مؤمن مسلم وكل مسلم مؤمن بالله وملائكته وكتبه قال: ومثل الإيمان فى الأعمال كمثل القلب فى الجسم لا ينفك أحدهما عن الآخر ولا يكون ذو جسم حي بغير قلب ولا ذو قلب بغير جسم فهما شيئان منفردان وهما فى الحكم والمعني متصلان فكذلك أعمال الإسلام من الإسلام هو ظاهر الإيمان وهو من أعمال الجوارح والإيمان باطن الإسلام وهو من أعمال القلوب فالإسلام أعمال الإيمان والإيمان عقود
__________
(1) آل عمران، آية، آية:64.
(2) كتاب الإيمان لابن تيمية، ص 255 وما بعدها.(1/135)
الإسلام فلا إيمان إلا بعمل ولا عمل إلا بعقد مثل قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنيات... » الحديث. فأثبت بذلك عمل الجوارح من المعاملات وعمل القلوب من النيات فمثل العمل من الإيمان كمثل الشفتين من اللسان لأن الشفتين تجمع الحروف واللسان يظهر الكلام وفي سقوط أحدهما بطلان الكلام وكذلك فى سقوط العمل ذهاب الإيمان لذلك حين عدَّد الله نعمه على الإنسان بالكلام ذكر الشفتين مع اللسان { وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ } (1) فعبر عن الكلام باللسان والشفتين لأن الكلام الذي حدث به النعمة لا يتم إلا بهما وأيضًا فإن الله قد جعل ضد الإسلام والإيمان واحدًا فلولا أنهما كشيء واحد فى الحكم والمعني ما كان ضدهما واحدًا فقال: { كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ } (2)، وقال { أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (3). فجعل ضدهما الكفر وعلي مثل هذا أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان والإسلام من صنف واحد فقال - صلى الله عليه وسلم - فى حديث ابن عمر: «بني الإسلام على خمس»، وقال فى حديث ابن عباس رضى الله عنهما عن وفد عبد القيس أنهم سألوه عن الإيمان فذكر هذه الأوصاف فدل بذلك على أنه لا إيمان باطن إلا بإسلام ظاهر ولا إسلام ظاهر علانية إلا بإيمان سر وأن الإيمان والعمل قرينان لا ينفع أحدهما بدون الآخر. قال ويجتمعان فى عبد واحد مؤمن مسلم فيكون ما ذكره من عقود القلب وصف قلبه وما ذكره من العلانية وصف جسمه.
__________
(1) البلد، آية: 9
(2) آل عمران، آية: 86
(3) آل عمران، آية: 80(1/136)
قال أيضًا: فإن الأمة مجتمعة على أن العبد لو آمن بجميع ما ذكره من عقود القلب فى حديث جبريل من وصف الإيمان ولم يعمل بما ذكره فى وصف الإسلام أنه لا يسمي مؤمنًا وأنه إن عمل بجميع ما وصف به الإسلام ثم لم يعتقد ما وصفه من الإيمان أنه لا يسمى مسلمًا وقد أخبر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أن الأمة لا تجتمع على ضلالة». أهـ.
وفي” إرشاد الساري إلى صحيح البخاري“ يقول القسطلاني (1): «ثم استدل المؤلف ”يعني البخاري“ على مذهبه بقوله تعالى: { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ } أي غير التوحيد والانقياد لحكم الله تعالى { دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ } جواب الشرط. ووجه الدلالة على ترادفهما أن الإيمان لو كان غير الإسلام لما كان مقبولا، فتعين أن يكون عينه لأن الإيمان هو الدين، والدين هو الإسلام لقوله تعالى { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ } فينتج أن الإيمان هو الإسلام». أهـ.
__________
(1) إرشاد الساري إلى صحيح البخاري، ص 148.(1/137)
وكذلك ما ذكره ابن تيمية عن الخطابي فى ” شرح البخاري“ يقول شيخ الإسلام: «وقد ذكر الخطابي فى شرح البخاري كلامًا يقتضي تلازمهما مع اقتران اسميهما. وذكره البغوي فى ”شرح السنة“ فقال قد جعل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الإسلام اسمًا لما ظهر من الأعمال، وجعل الإيمان اسمًا لما بطن من الاعتقاد، وليس ذلك لأن الأعمال ليس من الإيمان أو التصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذلك تفصيل لجملة هى كلها شيء واحد وجماعها الدين ولذلك قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم». والتصديق والعمل يتناولهما اسم الإسلام والإيمان جميعًا يدل عليه قوله تعالى: { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ } (1)، وقوله - عز وجل - { وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا } (2) وقوله - جل جلاله -: { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } (3). فتبين أن الدين الذي رضيه الله سبحانه ويقبله من عباده هو الإسلام ولا يكون الدين فى محل القبول إلا بانضمام التصديق إلى العمل.
__________
(1) آل عمران، آية: 19.
(2) المائدة، آية: 3.
(3) آل عمران، آية: 85.(1/138)
وهنا يتضح استدلال البخاري - رضي الله عنه - وأرضاه على أن الإيمان والإسلام شيء واحد فى المعنى والحكم لقوله تعالى { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ } (1) وقوله سبحانه { وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا } (2)، وقوله - جل جلاله - { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فى الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ } (3) ـ أي أنه إذا كان الإيمان غير الإسلام فلن يكون مقبولا عند الله ـ والله سبحانه وتعالى يقول: { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فى الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ } (4)، ويقول عزَّ من قائل: { وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا } (5)،
__________
(1) آل عمران، آية: 19.
(2) المائدة، آية: 3.
(3) آل عمران، آية: 85 .
(4) آل عمران، آية: 85.
(5) المائدة، آية: 3.(1/139)
ولم(1) يقل ومن يبتغ غير الإسلام علمًا ومعرفة وتصديقًا وإيمانًا ولا قال ورضيت لكم الإيمان تصديقًا وعلمًا فإن الإسلام من جنس الدين والعمل والطاعة والانقياد والخضوع فمن ابتغى غير الإسلام أي غير ذلك دينًا فلن يقبل منه، والإيمان وإن كان أصله علم وتصديق ومعرفة فإن الدين لازم له ثم داخل فيه ليكون مقبولا عند الله وهذا هو العمل ولذلك ترجم البخاري لذلك بأن الإيمان هو العمل وأن الإيمان والإسلام شيء واحد عند الإطلاق، فقال: ”باب من يري أن الإيمان هو العمل“، وقال: ”باب سؤال جبريل النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة وبيان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - له“، ثم قال: «جاء جبريل - عليه السلام - يعلمكم دينكم». فجعل ذلك كله دينًا وما بين النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لوفد عبد القيس من الإيمان وقوله تعالى: { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ. } انتهى أبواب البخاري.
__________
(1) مستفاد من كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية.(1/140)
ويقول القسطلاني في ”شرح البخاري“ عن الإيمان المقابل للكفر وكيف أنه ملاك الأمر كله لأن الباقي مبني عليه مشروط به وهو أول واجب على المكلف يقول: «وهو لغة التصديق وهو كما قال التفتازاني إذعان لحكم المخبر وقبوله وجعله صادقًا فليس حقيقة التصديق أن يقع فى القلب نسبة التصديق إلى الخبر أو المخبر من غير إذعان أو قبول بل هو إذعان وقبول لذلك بحيث يقع عليه اسم التسليم على ما صرح به الإمام الغزالي والإسلام لغة الانقياد والخضوع ولا يتحقق ذلك إلا بقبول الأحكام والإذعان وذلك حقيقة التصديق كما سبق قال تعالى: { فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ - فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ } (1). فالإيمان لا ينفك عن الإسلام حكمًا فهما متحدان فى التصديق وإن تغايرا بحسب المفهوم إذ مفهوم الإيمان تصديق القلب ومفهوم الإسلام أعمال الجوارح وبالجملة لا يصح فى الشرع أن يحكم على أحد بأنه مؤمن وليس بمسلم، أو مسلم وليس بمؤمن ولا نعني بوحدتهما سوى هذا ومن أثبت التغاير يقال له ما حكم مَنْ آمن ولم يسلم أو أسلم ولم يؤمن ومن أثبت لأحدهما حكمًا ليس بثابت للآخر فقد ظهر بطلان قوله». أهـ.
وهذا في الإيمان والإسلام المقابل للكفر فيجب أن تكون حقيقة الإيمان المقابلة للكفر وحقيقة الإسلام المقابلة للكفر واحدة وذلك عند التجريد والإطلاق أما عند التقييد والاقتران فهما متلازمان قرينان لا يقبل أحدهما بدون الآخر وباجتماعهما يدخل الإنسان الملة ويكون مسلمًا وبغير ذلك لا يكون مسلمًا، إذا اجتمعا افترقا فصار لكل معناه ودخول الملة بمجموعهما وإذا افترقا اجتمعا أي دخل كل منهما تحت لفظ الآخر عند الافتراق فصارت حقيقتهما واحدة، أما ما زاد على صلب التوحيد من عمل فالإيمان غير الإسلام.
__________
(1) الذاريات، الآيتان: 35-36.(1/141)
{ قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } وتتنوع دلالات كل لفظ منهما فى غير الدلالة على أصل الدين بتنوع الاستعمالات وذلك حديث آخر.
والسلف يستثني فى الإيمان الواجب ويقطع فى الإيمان المجمل كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية فى كتابه ”الإيمان“ وإجماع العلماء فى تفسير قوله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ فى قلبه مثقال ذرة» قالوا جميعًا زيادة على أصل التوحيد لأن أصل التوحيد لا يتبعض وفي حديث الرجل الذي ذرى نفسه فى المسند «لم يعمل خيرًا قط زيادة على التوحيد».
فالإيمان الذي يرجع إلى ما زاد على التوحيد من عمل يذهب بعضه ويبقي بعضه ويزيد وينقص حتى يتبقى منه ذرة أو يذهب كله، أما الإيمان الراجع إلى أصل التوحيد: توحيد الألوهية المتضمن والمستلزم لتوحيد الربوبية فهذا التعدد فيه مع التلازم كما رأينا وإذا ذهب بعضه وبقى بعضه كان ذلك هو الشرك أن يكون بعض الدين لله وبعضه لغير الله والتوحيد أن يكون الدين كله لله، إذا قلنا أن الإيمان الراجع إلى أصل التوحيد يزيد وينقص ويذهب ويبقى بعضه وقد يذهب كله. فمعنى ذلك أن يجتمع التوحيد مع الشرك وأفسد ذلك التلازم وإذا انتفى التلازم انتفى التعدد وصرنا إلى قول المرجئة المعلوم بطلانه من الدين بالضرورة وهو ما رده الإمام أحمد وجملة علماء السلف.
الإسلام يُعَرَّف بحقيقته ويُعَرَّف بمتعلقاته:(1/142)
الإسلام يُعَرَّف بحقيقته فى قول الله - عز وجل -: { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ } (1)، وفي قوله - عز وجل -: { وَمَن يَّبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُّقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِين } (2)، وفي قوله - عز وجل -: { وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (3)، وفي قوله تبارك وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (4)، وفي قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يدخل الجنَّة إلا نفس مسلمة».
ويُعَرَّف بمتعلقاته فى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده».
ويُعَرَّف بحقيقته ومتعلقاته فى حديث جبريل وحديث ابن عمر وخالد بن معدان للإسلام صوًي ومنارات كمنارات الطريق... إلى آخر الحديث.
وتعريف الإسلام بحقيقته له حدان:
فالإسلام يُعَرَّف بما يتسع به الاسم لمسماه وحقيقة الإسلام هى:
توحيد الألوهية المستلزم والمتضمن لتوحيد الربوبية وهذا التوحيد يتفاضل فيه الناس تفاضلاً عظيمًا.
__________
(1) آل عمران، آية: 19.
(2) آل عمران، آية: 85 .
(3) البقرة، آية: 132.
(4) آل عمران، آية: 102.(1/143)
والإسلام يُعَرَّف بأقل ما ينطبق به الاسم على مسماه وهو الحد الفاصل بين الإيمان والكفر وهو ترك الشرك الأعظم بنوعيه شرك الاعتقاد وشرك العبادة ولا ينتفي الشرك إلا بالتوحيد، فلابد لأقل قدر من العلم يكفي لنفي الجهالة وأقل قدر من اليقين يكفي لنفي الشك وأقل قدر من الصدق يكفي لنفي النفاق وأقل قدر من الإخلاص يكفي لنفي الشرك وأقل قدر من القبول يكفي لنفي الرد وأقل قدر من الانقياد يكفي لنفي الترك وأقل قدر من المحبة يكفي لنفي ما يضادها من المحادة والمعاداة فالنفي يستلزم الإثبات.
وهذا يتضمن:
فى جانب الإثبات:
المعرفة التي ينبني عليها الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره إقرارًا واعتقادًا.
التزام شريعة الإسلام وهذا من ترك الشرك أيضًا لأن الالتزام ترك الامتناع من التزام حكم الله بالإيجاب أو التحريم ونفي النفي إثبات.
التزام ولاية الإسلام فالمنافق لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء وهذا من النواقض المكفرة للتوحيد فى الولاء وهو «التارك لدينه المفارق للجماعة» وترك هذا يوجب الانحياز إلى المؤمنين «المسلمون أمة واحدة تتكافأ دماؤهم يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم» والمسلم من يحب الله ويحب فى الله والمشرك يحب الله ويحب مع الله والكافر من لا يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.
وفي جانب النفي:
... ترك الشرك بنوعيه فى الاعتقاد والعبادة.
ويدخل في هذا القول والعمل، والعمل ينشأ من: ترك العمل عمل، والالتزام عمل، مواقف الثبات فى الفتنة التي يتطلبها الإسلام عمل، وإن لم يكن له كيفيات محددة ولا يُطلب فى حقيقة الإسلام عملٌ ثبوتىٌ له كيفيات محددة والصورة العملية للوقوع: الإقرار مع الخلو من النواقض المكفرة، والتعريف بالنفي: { لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ شيئًا } :
ليكون الإثبات أقل ما يتحقق به النفي.(1/144)
لتأكيد الإثبات والنفي إتيانًا وتركًا وذلك مثل قوله تعالى: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } وبالوالدين إحسانًا أمر ذكر فى سياق التحريم والنهي وذلك ليكون المعني اجتناب ترك الإحسان إلى الوالدين وهذا تأكيد لفعل الإحسان لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه».
لأن الاجتناب يتماثل والإتيان يتفاضل.
والله سبحانه وتعالى أعلم وهو وليّ التوفيق.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية(1) في بيان حدود الأسماء: «ومما ينبغي أن يعلم أن الألفاظ الموجودة في القران والحديث إذا عرف تفسيرها وما أريد بها من جهة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولا غيرهم ولهذا قال الفقهاء: الأسماء ثلاثة أنواع:
ـ نوع يعرف حده بالشرع كالصلاة والزكاة.
ـ ونوع يعرف حده باللغة كالشمس والقمر.
ـ ونوع يعرف حده بالعرف كلفظ القبض ولفظ المعروف في قوله تعالى: { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ } (2) ونحو ذلك.
ورُوى عن ابن عباس أنه قال: تفسير القرآن على أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله، من ادعى علمه فهو كاذب.
__________
(1) مجموع الفتاوى، ج7، ص 286 وما بعدها
(2) النساء، آية: 19(1/145)
فاسم الصلاة والصيام والحج ونحو ذلك قد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما يراد بها في كلام الله ورسوله وكذلك لفظ الخمر وغيرها ومن هناك يعرف معناها فلو أراد أحد أن يفسرها بغير ما بينه النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لم يقبل منه، وأما الكلام في اشتقاقها ووجه دلالتها فذلك من جنس علم البيان وتعليل الأحكام هو زيادة في العلم وبيان حكمة ألفاظ القرآن الكريم لكن معرفة المراد بها لا يتوقف على هذا، واسم الإيمان والإسلام والنفاق والكفر هى أعظم من هذا كله فالنبيّ - صلى الله عليه وسلم - قد بيَّن المراد بهذه الألفاظ بيانًا لا يحتاج معه إلى الاستدلال على ذلك بالاشتقاق وشواهد استعمال العرب ونحوه فلهذا يجب الرجوع في مسميات هذه الأسماء إلى بيان الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فإنه شاف كاف بل معاني هذه الأسماء معلومة من حيث الجملة للعامة والخاصة بل كل من تأمل ما تقوله الخوارج والمرجئة في معنى الإيمان علم بالاضطرار أن طاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - من تمام الإيمان وأنه لم يكن يجعل كل من أذنب ذنبًا كافرًا ويعلم أنه لو قدر أن قومًا قالوا للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - نحن نؤمن بما جئتنا به بقلوبنا من غير شك ونقر بألسنتنا بالشهادتين إلا أنّا لا نطيعك في شيء مما أمرت به ونهيت عنه فلا نصلي ولا نصوم ولا نحج ولا نصدق الحديث ولا نؤدي الأمانة ولا نفي بالعهد ولا نصل الرحم ولا نفعل شيئًا من الخير الذي أمرت به ونشرب الخمر وننكح ذوات المحارم بالزنا الظاهر ونقتل من قدرنا عليه من أصحابك وأمتك ونأخذ أموالهم بل نقتلك أيضًا ونقاتلك مع أعدائك هل كان يتوهم عاقل أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقول لهم أنتم مؤمنون كاملو الإيمان وأنتم أهل شفاعتي يوم القيامة ويرجى لكم أن لا يدخل أحد منكم النار بل كل مسلم يعلم بالاضطرار أنه يقول لهم أنتم أكفر الناس بما جئت به ويضرب رقابهم إن لم يتوبوا عن ذلك وكذلك يعلم كل(1/146)
مسلم أن شارب الخمر والزاني والقاذف لم يكن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يجعلهم مرتدين يجب قتلهم بل القرآن والنقل المتواتر عنه - صلى الله عليه وسلم - يبين أن هؤلاء لهم عقوبات غير عقوبة المرتد عن الإسلام كما ذكر الله تبارك وتعالى في القرآن جلد القاذف والزاني وقطع السارق وهذا متواتر عنه - صلى الله عليه وسلم - ولو كانوا مرتدين لقتلهم فكلا القولين يعلم فساده بالاضطرار من دين الإسلام.
وأهل البدع إنما دخل عليهم الداخل لأنهم أعرضوا عن هذا الطريق وصاروا يبنون دين الإسلام على مقدمات يظنون صحتها إما في دلالة الألفاظ وإما في المعاني المعقولة ولا يتأملون بيان الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وكل مقدمات تخالف بيان الله ورسوله فإنها تكون ضلالاً ولهذا تكلم أحمد ـ رحمه الله ـ في رسالته المعروفة في الرد على من يتمسك بما يظهر له من القرآن من غير استدلال ببيان الرسول والصحابة والتابعين وكذلك ذكر في رسالة إلى أبي عبد الرحمن الجرجاني في الرد على المرجئة، وهذه طريقة سائر أئمة المسلمين لا يعدلون عن بيان الرسول إذا وجدوا إلى ذلك سبيلاً ومن عدل عن سبيلهم وقع في البدع التي مضمونها أنه يقول على الله ورسوله ما لا يعلم أو غير الحق وهذا مما حرمه الله ورسوله وقال تعالى في الشيطان: { إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } (1)، وقال تعالى: { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لاَ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ } (2) وهذا من تفسير القرآن بالرأي الذي جاء فيه الحديث «من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار».
__________
(1) البقرة، آية: 169.
(2) الأعراف، آية: 169.(1/147)
مثال ذلك أن المرجئة لما عدلوا عن معرفة كلام الله ورسوله أخذوا يتكلمون في مسمي الإيمان والإسلام وغيرهما بطرق ابتدعوها مثل أن يقولوا الإيمان في اللغة هو التصديق والرسول إنما خاطب الناس بلغة العرب لم يغيرها فيكون مراده بالإيمان التصديق ثم قالوا: والتصديق إنما يكون بالقلب واللسان أو بالقلب فالأعمال ليست من الإيمان ثم عمدتهم في أن الإيمان هو التصديق قوله تعالى: { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا } (1). أي بمصدق لنا فيقال لهم اسم الإيمان قد تكرر ذكره في القرآن والحديث أكثر من ذكر سائر الألفاظ وهو أصل الدين وبه يخرج الناس من الظلمات إلى النور، ويفرق بين السعداء والأشقياء ومن يوالي ومن يعادي والدين كله تابع لهذا وكل مسلم يحتاج إلى معرفة ذلك، أفيجوز أن يكون الرسول قد أهمل بيان هذا كله ووكله إلى هاتين المقدمتين ومعلوم أن الشاهد الذي استشهدوا به على أن الإيمان هو التصديق أنه من القرآن، ونقل معنى الإيمان متواتر عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أعظم من توافر لفظة الكلمة فإن الإيمان يحتاج إلى معرفته جميع الأمة فينقلونه بخلاف كلمة من سورة فأكثر المؤمنين لم يكونوا يحفظون هذه السورة فلا يجوز أن يجعل بيان أصل الدين مبنيًا على مثل هذه المقدمات ولهذا كثر النزاع والاضطراب بين الذين عدلوا عن صراط الله المستقيم وسلكوا السبل وصاروا من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات فهذا كلام عام مطلق ثم يقال: هاتان المقدمتان كلاهما ممنوعة فمن الذي قال أن لفظ الإيمان مرادف للفظ التصديق وهب أن المعني يصح إذا استعمل في هذا الموضع فلم قلت أنه يوجب الترادف ولو قلت ما أنت بمسلم لنا ما أنت بمؤمن لنا صح المعني لكن لِمَ قلت أن هذا هو المراد بلفظ مؤمن وإذا قال الله: { أَقِيمُوا الصَّلاة } ولو قال القائل: أتموا الصلاة، ولازموا الصلاة، التزموا الصلاة، افعلوا الصلاة،كان
__________
(1) يوسف، آية: 17.(1/148)
المعني صحيحًا لكن لا يدل هذا على معنى أقيموا فكون اللفظ يرادف اللفظ يراد دلالته على ذلك ثم يقال ليس هو مرادفًا له وذلك من وجوه:
أحدهما: أنه يقال للمخبر إذا صدقته صدقه ولا يقال آمنه وآمن به بل يقال آمن له كما قال تعالى: { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ } (1)، وقال تعالى: { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ } (2)، وقال فرعون: { قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ } (3)، وقالوا لنوح: { أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ } (4)، وقال تعالى: { قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } (5)، وقالوا: { أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ } (6)، وقال: { وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِي } (7). فإن قيل: فقد يقال ما أنت بمصدق لنا، قيل: اللام تدخل على ما يتعدى بنفسه إذا ضعف عمله، إما بتأخيره أو بكونه اسم فاعل أو مصدرًا أو باجتماعهما فيقال فلانٌ يعبد الله ويخافه ويتقيه ثم إذا ذكر اسم الفاعل قيل: عابدٌ لربه متقٍ لربه خائف لربه وكذلك تقول فلانٌ يرهب الله ثم تقول: هو راهب لربه. وإذا ذكرت الفعل وأخرته تقويه باللام كقوله { وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ } وقد قال: { وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } (8) فعداه بنفسه وهناك ذكر اللام فإن هنا قوله: { فإياي } أتم من قوله ”فلي“ وقوله هنالك: { لِرَبِّهِمْ } أتم من قوله ”ربهم“ فإن الضمير المنفصل المنصوب أكمل من ضمير الجر بالباء، وهناك اسم ظاهر فتقويته باللام أولي وأتم من تجريده ومن هذا قوله: { إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } (9)
__________
(1) العنكبوت، آية:26.
(2) يونس، آية: 83.
(3) الشعراء، آية: 49.
(4) الشعراء، آية: 111.
(5) التوبة، آية: 61.
(6) المؤمنون، آية: 47.
(7) الدخان، آية: 21.
(8) البقرة، آية: 40.
(9) يوسف، آية: 43.(1/149)
ويقال: عبرت رؤياه وكذلك قوله: { وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ } (1) وإنما يقال غظته لا يقال غظت له ومثله كثير فيقول القائل ما أنت بمصدق لنا أدخل فيه اللام لكونه اسم فاعل وإلا فإنما يقال صدقته لا يقال صدقت له، ولو ذكروا الفعل لقالوا ما صدقتنا. وهذا بخلاف لفظ الإيمان فإنه تعدي إلى الضمير باللام دائمًا وإنما لا يقال آمنته قط وإنما يقال: آمنت له كما يقال: أقررت فكان تفسيره بلفظ الإقرار أقرب من تفسيره بلفظ التصديق مع أن بينهما فرقًا.
الثاني: إنه ليس مرادفًا للفظ التصديق في المعنى فإن كل مخبر عن مشاهدة أو غيب يقال له في اللغة صدقت كما يقال كذبت فمن قال السماء فوقنا قيل له صدق كما يقال كذب، وأما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر عن غائب لم يوجد في الكلام أن من أخبر عن مشاهده كقوله طلعت الشمس وغربت أنه يقال: آمنا له كما يقال صدقناه، ولهذا المحدثون والشهود ونحوهم يقال: صدقناهم وما يقال آمنا لهم فإن الإيمان مشتق من الأمن فإنما يستعمل في خبر يؤتمن عليه المخبر كالأمر الغائب الذي يؤتمن عليه المخبر، ولهذا لم يوجد قط في القرآن وغيره لفظ آمن له إلا في هذا النوع والاثنان إذا اشتركا في معرفة الشيء يقال صدق أحدهما صاحبه ولا يقال آمن له لأنه لم يكن غائبًا عنه ائتمنه عليه ولهذا قال: { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ } ، { أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا } ، { آمَنْتُم له } ، { يؤمنُ بالله ويؤمنُ للمؤمنين } فيصدقهم فيما أخبروا به مما غاب عنه وهو مأمون عنده على ذلك فاللفظ متضمن مع التصديق معنى الائتمان والأمانة كما يدل عليه الاستعمال والاشتقاق.
ولهذا قالوا: { مَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا } أي لا تقر بخبرنا ولا تثق به ولا تطمئن إليه ولو كنا صادقين، لأنهم لم يكونوا عنده ممن يؤتمن على ذلك فلو صدقوا لم يأمن لهم.
__________
(1) الشعراء، آية: 55.(1/150)
الثالث: لفظ الإيمان في اللغة لم يقابل بالتكذيب كلفظ التصديق فإنه من المعلوم في اللغة أن كل مخبر يقال له صدقت أو كذبت ويقال صدقناه أو كذبناه ولا يقال لكل مخبر آمنا له أو كذبناه ولا يقال أنت مؤمن له أو مكذب له بل المعروف في مقابلة الإيمان لفظ الكفر يقال هو مؤمن أو كافر، والكفر لايختص بالتكذيب بل لو قال: أنا أعلم أنك صادق لكن لا أتبعك بل أعاديك وأبغضك وأخالفك ولا أوافقك لكان كفره أعظم. فلما كان الكفر المقابل للإيمان ليس هو التكذيب فقط علم أن الإيمان ليس هو التصديق فقط بل إذا كان الكفر يكون تكذيبًا، ويكون مخالفة ومعاداة وامتناعًا بلا تكذيب فلابد أن يكون الإيمان تصديقًا مع موافقة وموالاة وانقياد لا يكفي مجرد التصديق فيكون الإسلام جزء مسمى الإيمان كما كان الامتناع ضد الانقياد مع التصديق جزء مسمى الكفر فيجب أن يكون كل مؤمن مسلمًا منقادًا للأمر وهذا هو العمل». أهـ.(1/151)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية(1): «الوجه الحادي والعشرون: الكفر أعم من التكذيب: أنه تعالى قال: { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } (2) فنفى عنهم التكذيب وأثبت الجحود، ومعلوم أن التكذيب باللسان لم يكن منتفيًا عنهم، فعلم أنه نفى عنهم تكذيب القلب ولو كان المكذب الجاحد مع علمه يقوم بقلبه خبر نفساني لكانوا مكذبين بقلوبهم، فلما نفى عنهم تكذيب القلوب علم أن الجحود الذي هو ضرب من الكذب والتكذيب بالحق المعلوم ليس هو كذبًا في النفس ولا تكذيب فيها وذلك يوجب أن العالم بالشيء لا يكذب به ولا يجد في نفسه خلاف علمه، فإن قيل العالم بالشيء العارف به قد يؤمن بذلك وقد يكفر به كما قال تعالى: { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } (3). وذلك مثل المعاندين من المشركين وأهل الكتاب، وليس كفرهم لمجرد لفظهم فإنهم أيضًا قد يقولون بألسنتهم ما يعلمونه ولا يكونون مؤمنين مثل ما كان يقول أبو طالب من الإخبار بأن محمدًا رسول الله، ومثل إخبار كثير من اليهود والنصارى بعضهم لبعض برسالته ومع هذا فليسوا مؤمنين ولا مصدقين ومنهم اليهود الذين حاوروه وقالوا نشهد أنك رسول الله قيل الجواب على ذلك هو:
__________
(1) الفتاوي الكبرى، ج5، ص 198 وما بعدها.
(2) الأنعام، آية: 33.
(3) النمل، آية: 14.(1/152)
الوجه الثاني والعشرون: وهو أن ما أخبرت به الرسل من الحق ليس إيمان القلب مجرد العلم بذلك فإنه لو علم بقلبه أن ذلك حق وكان مبغضًا له وللرسول الذي جاء به ولمن أرسله، معاديًا لذلك مستكبرًا عليهم ممتنعًا عن الانقياد لذلك الحق لم يكن هذا مؤمنًا مثابًا في الآخرة باتفاق المسلمين مع تنازعهم الكثير في مسمى الإيمان ولهذا لم يختلفوا في كفر إبليس مع أنه كان عالمًا عارفًا بل لابد في الإيمان من علم في القلب وعمل في القلب أيضًا ولهذا كان عامة أئمة المرجئة الذين يجعلون الإيمان مجرد ما في القلب أو ما في القلب واللسان يدخلون في ذلك محبة القلب وخضوعه للحق ولا يجعلون ذلك مجرد علم القلب. ولفظ التصديق يتناول العلم الذي في القلب، ويتناول أيضًا ذلك العمل في القلب الذي هو موجب العلم ومقتضاه فإنه يقال صدَّق علمه بعمله وذلك لأن وجود العلم مستلزم لوجود هذا العمل الذي في القلب الذي هو إسلام القلب بمحبته وخشوعه فإذا عدم مقتضي العلم فإنه قد يزول العلم من القلب بالكلية ويطبع على القلب حتي يصير منكرًا لما عرفه جاهلاً بما كان يعلمه وهذا العلم وهذا العمل كلاهما يكون من معاني الألفاظ.(1/153)
فلفظ الشهادة والإقرار والإيمان والتصديق ينتظم هذا كله. لكن لفظ الخبر والنبأ ونحو ذلك هو العلم وإن استلزم هذه الأعمال فهو كما يستلزم العلم لذلك فإذا قال أحد هؤلاء العالمين الجاحدين الذين ليسوا بمؤمنين: محمد رسول الله كقول أولئك اليهود وغيرهم فهذا خبر محض مطابق لعلمهم الذي قال الله فيه: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } (1). لكن كما لا ينفعهم مجرد العلم لا ينفعهم مجرد الخبر، بل لابد أن يقترن بالعلم في الباطن مقتضاه من العمل الذي هو المحبة والتعظيم والانقياد ونحو ذلك، كما أنه لابد أن يقترن بالخبر الظاهر مقتضاه من الاستسلام والانقياد لأهل الطاعة(2).
فهؤلاء الذين يعلمون الحق الذي بعث الله به رسوله ولا يؤمنون به ولا يقرون به يوصفون بأنهم كفار وبأنهم جاحدون ويوصفون بأنهم مكذبون بألسنتهم وأنهم يقولون بألسنتهم خلاف ما في قلوبهم وقد أخبر الله في كتابه أنهم ليسوا بمكذبين بما علموه أي مكذبين بقلوبهم، وإن لم يكونوا مؤمنين مقرين مصدقين إذ العبد لا يخلو في الشيء الواحد عن التصديق والتكذيب والكفر أعم من التكذيب، فكل من كذَّب الرسول كافر وليس كل كافر مكذبًا بل من يعلم صدقه ويقر به وهو مع ذلك يبغضه أو يعاديه كافر، أو من أعرض فلم يعتقد لا صدقه ولا كذبه كافر وليس بمكذب، وكذلك العالم بالشيء قد يخلو عن التكذيب وعن التصديق به الذي هو مستلزم لعمل القلب وإن لم يخل عن التصديق الذي هو مجرد علم القلب، فأما أن يقوم بالقلب تصديق قولي غير العلم فهذا هو الذي ادعاه هؤلاء الشذاذ عن الجماعة وهو مورد النزاع». أهـ.
__________
(1) البقرة، آية: 146.
(2) الله والرسول وقبول الحكم الشرعي مطلقًا سواء كان راجعا إلى النص أو ما حمَّل عليه بطرق الاجتهاد.(1/154)
ومفاد كلام الشيخ أن الجحد يكون بالقول والعمل الظاهر ولا يكون بقول القلب وقد يكون بعمل القلب.
حقيقة الإيمان: مقابلة الخبر بالتصديق والأمر بالانقياد:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في المسألة الرابعة في الرد على من قال أن ساب الرسول لا يكفر إلا باعتقاد حل السب، يقول الشيخ(1): «ومنشأ هذه الشبهة التي أوجبت هذا الوهم من المتكلمين ومن حذا حذوهم من الفقهاء أنهم رأوا أن الإيمان هو تصديق الرسول فيما أخبر به، ورأوا أن اعتقاد صدقه لا ينافي السب والشتم بالذات كما أن اعتقاد إيجاب طاعته لا ينافي معصيته فإن الإنسان قد يهين من يعتقد وجوب إكرامه، كما يترك ما يعتقد وجوب فعله، ويفعل ما يعتقد وجوب تركه، ثم رأوا أن الأمة قد كفَّرت الساب فقالوا: إنما كفر لأن سبه دليل على أنه لم يعتقد أنه حرام واعتقاد حله تكذيب للرسول فكفر بهذا التكذيب لا بتلك الإهانة، وإنما الإهانة دليل على التكذيب فإذا فرض أنه في نفس الأمر ليس بمكذب كان في نفس الأمر مؤمنًا، وإن كان حكم الظاهر إنما يجري عليه بما أظهره فهذا مأخذ المرجئة ومعضديهم وهم الذين يقولون الإيمان هو الاعتقاد والقول، وغلاتهم وهم الكرامية الذين يقولون مجرد القول وإن عري عن الاعتقاد، وأما الجهمية الذين يقولون: هو مجرد المعرفة والتصديق بالقلب فقط، وإن لم يتكلم بلسانه، فلهم مأخذ آخر وهو أنه قد يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فإذا كان في قلبه التعظيم والتوقير للرسول لم يقدح إظهار خلاف ذلك بلسانه في الباطن كما لا ينفع المنافق إظهار خلاف ما في قلبه في الباطن وجواب الشبهة الأولى من وجوه:
__________
(1) الصارم المسلول، ص 456 وما بعدها.(1/155)
أحدها: أن الإيمان وإن كان أصله تصديق القلب فذلك التصديق لابد أن يوجب حالاً في القلب وعملاً له وهو تعظيم الرسول وإجلاله ومحبته وذلك أمر لازم كالتألم والتنعم عند الإحساس بالمؤلم والمنعم وكالنفرة والشهوة عند الشعور بالمنافي والملائم، فإذا لم تحصل هذه الحال والعمل في القلب لم ينفع ذلك التصديق ولم يغن شيئًا وإنما يمتنع حصوله إذا عارضه معارض من حسد الرسول والتكبر عليه أو الإهمال له أو إعراض القلب عنه ونحو ذلك كما أن إدراك الملائم والمنافي يوجب اللذة والألم إلا أن يعارضه معارض، ومتي حصل المعارض كان وجود ذلك التصديق كعدمه، كما يكون وجود ذلك كعدمه بل يكون ذلك المعارض موجبًا لعدم المعلول الذي هو حال في القلب وبتوسط عدمه يزول التصديق الذي هو العلة فينقلع الإيمان بالكلية من القلب، وهذا هو الموجب لكفر من حسد الأنبياء أو تكبر عليهم أو كره فراق الإلف والعادة مع علمه بأنهم صادقون وكفرهم أغلظ من كفر الجهال.(1/156)
الثاني: إن الإيمان وإن كان يتضمن التصديق فليس هو مجرد التصديق وإنما هو الإقرار والطمأنينة وذلك لأن التصديق إنما يعرض للخبر فقط، فأما الأمر فليس فيه تصديق من حيث هو أمر، وكلام الله خبر وأمر فالخبر يستوجب تصديق المخبر، والأمر يستوجب الانقياد له والاستسلام وهو عمل في القلب جماعه الخضوع والانقياد للأمر وإن لم يفعل المأمور به، فإذا قوبل الخبر بالتصديق والأمر بالانقياد فقد حصل أصل الإيمان في القلب وهو الطمأنينة والإقرار فإن اشتقاقه من الأمن الذي هو القرار والطمأنينة وذلك إنما يحصل إذا استقر في القلب التصديق والانقياد وإذا كان كذلك فالسب إهانة واستخفاف والانقياد للأمر إكرام وإعزاز ومحال أن يهين القلب من قد انقاد له وخضع واستسلم أو يستخف به، فإذا حصل في القلب استخفاف واستهانة امتنع أن يكون فيه انقياد أو استسلام فلا يكون فيه إيمان وهذا هو بعينه كفر إبليس فإنه سمع أمر الله فلم يكذب رسولاً ولكن لم ينقد للأمر ولم يخضع له واستكبر عن الطاعة فصار كافرًا وهذا موضع زاغ فيه خلق من الخلف تخيل لهم أن الإيمان ليس في الأصل إلا التصديق ثم يرون مثل إبليس وفرعون ممن لم يصدر عنه تكذيب أو صدر عنه تكذيب باللسان لا بالقلب وكفره من أغلظ الكفر فيتحيرون ولو أنهم هُدوا لما هدي إليه السلف الصالح لعلموا أن الإيمان: قول وعمل أعني في الأصل قولاً في القلب وعملاً في القلب فإن الإيمان بحسب كلام الله ورسالته، وكلام الله ورسالته يتضمن أخباره وأوامره فيصدق القلب أخباره تصديقًا يوجب حالاً في القلب بحسب المصدق به والتصديق هو من نوع العلم والقول، وينقاد لأمره ويستسلم، وهذا الانقياد والاستسلام هو من نوع الإرادة والعمل ولا يكون مؤمنًا إلا بمجموع الأمرين فمن ترك الانقياد كان مستكبرًا فصار من الكافرين وإن كان مصدقًا فالكفر أعم من التكذيب يكون تكذيبًا وجهلاً ويكون استكبارًا وظلمًا ولهذا لم يوصف إبليس إلا بالكفر والاستكبار(1/157)
دون التكذيب ولهذا كان كفر من يعلم مثل اليهود ونحوهم من جنس كفر إبليس وكان كفر من يجهل مثل النصارى ونحوهم ضلالاً وهو الجهل ألا ترى أن نفرًا من اليهود جاءوا إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وسألوه عن أشياء فأخبرهم فقالوا: نشهد أنك نبي، ولم يتبعوه وكذلك هرقل وغيره فلم ينفعهم هذا العلم وهذا التصديق؟ ألا ترى أن من صدق الرسول بأن ما جاء به هو رسالة الله وقد تضمنت خبرًا وأمرًا احتاج إلى مقام ثان وهو تصديقه خبر الله وانقياده لأمر الله. فإذا قال ”أشهد أن لا إله إلا الله“ فهذه الشهادة تتضمن تصديق خبره والانقياد لأمره و”أشهد أن محمد رسول الله“ تضمنت تصديق الرسول فيما جاء به من عند الله فبمجموع هاتين الشهادتين يتم الإقرار، فلما كان التصديق لابد منه في كلا الشهادتين ـ وهو الذي يتلقى الرسالة بالقبول ـ ظن من ظن أنه أصل لجميع الإيمان، وغفل عن أن الأصل الآخر لابد منه وهو الانقياد.
وإلا فقد يصدق الرسول ظاهرًا وباطنًا ثم يمتنع عن الانقياد للأمر إذ غايته في تصديق الرسول أن يكون بمنزلة من سمع الرسالة من الله سبحانه كإبليس وهذا مما يبين لك أن الاستهزاء بالله أو برسوله ينافي الانقياد له لأنه قد بلغ عن الله أنه أمر بطاعته فصار الانقياد له من تصديقه في خبره فمن لم ينقد لأمره فهو إما مكذبٌ له أو ممتنع عن الانقياد لربِّه وكلاهما كفرٌ صريحٌ ومن استخَّف به واستهزأ بقلبه امتنع أن يكون منقادًا لأمره فإن الانقياد إجلال وإكرام والاستخفاف إهانة وإذلال وهذان ضدان فمتي حصل في القلب أحدهما انتفى الآخر فعلم أن الاستخفاف والاستهانة به ينافي الإيمان منافاة الضد للضد.(1/158)
الوجه الثالث: إن العبد إذا فعل الذنب مع اعتقاد أن الله حرَّمه عليه واعتقاد انقياده لله فيما حرَّمه وأوجبه فهذا ليس بكافر، فأما إن اعتقد أن الله لم يحرمه أو أنه حرَّمه لكنه امتنع من قبول هذا التحريم وأبى أن يذعن لله وينقاد فهو: إما جاحد أو معاند. ولهذا قالوا من عصى الله مستكبرًا كإبليس كفر بالاتفاق، ومن عصى مشتهيًا لم يكفر عند أهل السنة والجماعة، وإنما يكفره الخوارج. فإن العاصي المستكبر وإن كان مصدقًا بأن الله ربُّه فإن معاندته له ومحادته تنافي هذا التصديق، وبيان هذا أن من فعل المحارم مستحلاً لها فهو كافر بالاتفاق، فإنه ما آمن بالقرآن من استحل محارمه، وكذلك لو استحلها من غير فعل. والاستحلال اعتقاد أن الله لم يحرمها، وتارة بعدم اعتقاد أن الله حرَّمها، وهذا يكون لخلل في الإيمان بالربوبية ولخلل في الإيمان بالرسالة، ويكون جحدًا محضًا غير مبني على مقدمة، وتارة يعلم أن الله حرَّمها ويعلم أن الرسول إنما حرَّم ما حرَّمه الله ثم يمتنع عن التزام هذا التحريم ويعاند المحرم فهذا أشد كفرًا ممن قبله، وقد يكون هذا مع علمه أن من لم يلتزم هذا التحريم عاقبه الله عزَّ وجلَّ وعذَّبه، ثم إن هذا الامتناع وهذا الإباء إما لخلل في اعتقاد حكمة الآمر وقدرته فيعود هذا لعدم التصديق بصفة من صفاته، وقد يكون مع العلم بجميع ما يصدق به تمردًا واتباعًا لغرض النفس وحقيقته كفر هذا، لأنه يعترف لله ولرسوله بكل ما أخبر به ويصدق بكل ما يصدق به المؤمنون ولكنه يكره ذلك ويبغضه ويسخطه لعدم موافقته لمراده ومشتهاه، ويقول أنا لا أقر بذلك ولا ألتزمه، وأبغض هذا الحق وأنفر عنه، فهذا نوع غير النوع الأول، وتكفير هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، والقرآن مملوء من تكفير مثل هذا النوع، بل عقوبته أشد وفي مثله قيل: «أشدُّ النَّاسِ عذابًا يومَ القيامةِ عالمٌ لم ينفعه الله بعلمه» وهو إبليس ومن سلك سبيله. وبهذا يظهر الفرق بين العاصي(1/159)
فإنه يعتقد وجوب ذلك الفعل عليه ويحب أن يفعله، لكن الشهوة والنفرة منعته من الموافقة فقد أتي من الإيمان بالتصديق والخضوع والانقياد وذلك قول وعمل لكنه لم يكمل العمل. وأما إهانة الرجل من يعتقد وجوب كرامته كالوالدين ونحوهما فلأنه لم يهن من كان الانقياد له والإكرام شرطًا في إيمانه، وإنما أهان من إكرامه شرط في بره وطاعته وتقواه، وجانب الله والرسول إنما كفر فيه لأنه لا يكون مؤمنًا حتي يصدق تصديقًا يقتضي الخضوع والانقياد فحيث لم يقتضيه لم يكن ذلك التصديق إيمانًا بل كان وجوده شرٌّ من عدمه.(1/160)
ثم يقول: وأما الشبهة الثانية فجوابها من ثلاثة أوجه: إحداها: أن من تكلم بالتكذيب والجحد وسائر أنواع الكفر من غير إكراه على ذلك فإنه يجوز أن يكون مع ذلك في نفس الأمر مؤمنًا ومن جوَّز هذا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه. الثاني: أن الذي عليه الجماعة أن من لم يتكلم بالإيمان بلسانه من غير عذرٍ لم ينفعه ما في قلبه من المعرفة، وأن القول من القادر عليه شرط في صحة الإيمان حتي اختلفوا في تكفير من قال: ”إن المعرفة تنفع من غير عمل الجوارح“، وما ذكره القاضي(1) رحمه الله من التأويل لكلام الإمام أحمد فقد ذكر هو وغيره خلاف ذلك في غير موضع وكذلك ما دلَّ عليه كلام القاضي عياض فإن مالكًا وسائر الفقهاء من التابعين ومن بعدهم ـ إلا من ينسب إلى بدعة ـ قالوا: الإيمان قولٌ وعملٌ. الثالث: أن من قال: إن الإيمان مجرد معرفة القلب من غير احتياج إلى النطق باللسان، يقول: لا يفتقر الإيمان في نفس الأمر إلى القول الذي يوافقه باللسان، لا يقول أن القول الذي ينافي الإيمان لا يبطله، فإن القول قولان قولٌ يوافق تلك المعرفة وقول يخالفها فهبْ أن القول الموافق لا يشترط لكن القول المخالف ينافيها فمن قال بلسانه كلمة الكفر من غير حاجة عامدًا لها عالمًا بأنها كلمة الكفر فإنه يكفر بذلك ظاهرًا وباطنًا، ولا يجوز أن يقال: أنه في الباطن يجوز أن يكون مؤمنًا ومن قال ذلك فقد مرق من الإسلام قال سبحانه: { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (2) ومعلوم أنه لم يرد بالكفر هنا اعتقاد القلب فقط لأن ذلك لا يكره الرجل عليه وهو قد استثنى من أكره ولم يرد من قال واعتقد لأنه استثنى المكره وهو لا يكره على العقد
__________
(1) القاضي أبو يعلي، الصارم المسلول، ص 461
(2) النحل، آية: 106.(1/161)
والقول، وإنما يكره على القول فقط فعلم أنه أراد من تكلم بكلمة الكفر فعليه غضبٌ من الله وله عذاب عظيم وأنه كافر بذلك إلا من أكره وهو مطمئنٌ بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرًا من المكرهين فإنه كافر أيضًا فصار من تكلم بالكفر كافرًا إلا من أكره فقال بلسانه كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، وقال تعالى في حق المستهزئين: { لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } (1). فبيَّنَ أنهم كفار بالقول مع أنهم لم يعتقدوا صحته، وهذا باب واسع والفقه فيه ما تقدم من أن التصديق بالقلب يمنع إرادة التكلم وإرادة فعل فيه استهانة أو استخفاف كما أنه يوجب المحبة والتعظيم واقتضاؤه وجود هذا، وعدم هذا أمر جرت به سنة الله في مخلوقاته كاقتضاء إدراك الموافق للذة وإدراك المخالف للألم فإذا عدم المعلول كان مستلزمًا لعدم العلة وإذا وجد الضد كان مستلزمًا لعدم الضد الآخر فالكلام والفعل المتضمن للاستخفاف والاستهانة مستلزم لعدم التصديق النافع ولعدم الانقياد والاستسلام فلذلك كان كفرًا. واعلم أن الإيمان وإن قيل هو التصديق فالقلب يصدق بالحق والقول يصدق ما في القلب والعمل يصدق القول والتكذيب بالقول مستلزم للتكذيب بالقلب ورافع للتصديق الذي كان في القلب إذ أعمال الجوارح تؤثر في القلب كما أن أعمال القلب تؤثر في الجوارح فأيما قام به كفر تعدى حكمه إلى الآخر والكلام في هذا واسع وإنما نبهنا على هذه المقدمة». أهـ.
الإيمان يستلزم الإسلام ويتضمنه والإسلام جزء مسماه:
__________
(1) التوبة، آية: 66.(1/162)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية(1): «وقد وصف الله السحرة بالإسلام والإيمان معًا فقالوا: { آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ - رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ } (2)، وقالوا: { وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا } (3)، وقالوا: { إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ } (4)، وقالوا: { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } (5)، ووصف الله أنبياء بني إسرائيل بالإسلام في قوله: { يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا } (6)، والأنبياء كلهم مؤمنون ووصف الحواريين بالإيمان والإسلام فقال تعالى: { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } (7)، وقال الحواريون: { نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } (8).
__________
(1) مجموع الفتاوى، ج7، ص 262 وما بعدها.
(2) الشعراء، الآيتان: 47-48.
(3) الأعراف، آية: 126.
(4) الشعراء، اية: 51.
(5) الأعراف، آية: 126.
(6) المائدة، آية: 44.
(7) المائدة، اية: 111.
(8) آل عمران، آية: 52.(1/163)
وحقيقة الفرق أن الإسلام دينٌ والدين مصدر دان يدين دينًا إذا خضع وذل ودين الإسلام الذي ارتضاه الله وبعث به رسله هو الاستسلام لله وحده فأصله في القلب هو الخضوع لله وحده بعبادته وحده دون ما سواه، فمن عبده وعبد معه إلهًا آخر لم يكن مسلمًا ومن لم يعبده بل استكبر عن عبادته لم يكن مسلمًا والإسلام هو الاستسلام لله والخضوع له والعبودية له وهكذا قال أهل اللغة أسلم الرجل إذا استسلم فالإسلام في الأصل من باب العمل عمل القلب والجوارح وأما الإيمان فأصله تصديق وإقرار ومعرفة فهو من باب قول القلب المتضمن عمل القلب والأصل فيه هو التصديق والعمل تابع له».(1/164)
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية(1): «فإن الإيمان أصله معرفة القلب وتصديقه والعمل تابع لهذا العلم والتصديق ملازم له ولا يكون العبد مؤمنًا إلا بهما. أما الإسلام فهو عمل محض مع قول، والعلم والتصديق ليس جزء مسماه ولكن يلزمه جنس التصديق فلا يكون عمل إلا بعلم لكن لا يستلزم الإيمان المفصل الذي بينه الله ورسوله كما قال تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ } (2)، وقوله - عز وجل -: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } (3). وسائر النصوص التي تنفي الإيمان عمن لم يتصف بما ذكره فإن كثيرًا من المسلمين مسلم باطنًا وظاهرًا ومعه تصديق مجمل ولم يتصف بهذا الإيمان وقال تعالى: { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ } (4)، وقال - عز وجل -: { وَرَضِيتُ لَكُمْ الإسْلاَمَ دِينًا } (5). ولم يقل ومن يبتغ غير الإسلام علمًا ومعرفة وتصديقًا وإيمانًا ولا قال رضيت لكم الإيمان تصديقًا وعلمًا فإن الإسلام من جنس الدين والعمل والطاعة والانقياد والخضوع فمن ابتغى غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه والإيمان طمأنينة ويقين أصله علم وتصديق ومعرفة والدين تابع له». أهـ.
الإيمان والتوحيد:
__________
(1) الإيمان، ص 291
(2) الحجرات، آية: 15.
(3) الآنفال، الآية: 2.
(4) آل عمران، آية: 85.
(5) المائدة، آية: 3.(1/165)
يقول شيخ الإسلام (1): «ولكنَّ أول الدين وآخره وظاهره وباطنه هو التوحيد وإخلاص الدين كله لله وتحقيق قوله” لا إله إلا الله “ فإن المسلمين وإن اشتركوا في الإقرار بها فهم يتفاضلون في تحقيقها تفاضلاً لا تقدر أن تضبطه حتي إن كثيرًا منهم يظنون أن التوحيد المفروض هو الإقرار والتصديق بأن الله خالق كل شيء وربُّه لا يميزون بين الإقرار بتوحيد الربوبية الذي أقر به مشركو العرب وبين توحيد الألوهية الذي دعاهم إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يجمعون بين التوحيد القولي والعملي فإن المشركين ما كانوا يقولون إن العالم خلقه اثنان ولا أن مع الله ربًا يتفرد دونه بخلق كل شيء بل كانوا كما قال الله عنهم: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } (2)، وقال تعالى: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ } (3)، وقال تعالى: { قُلْ لِمَنْ الأرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ - قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم ِ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُون - قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُون - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ } (4). وكانوا مع إقرارهم بأن الله هو الخالق وحده يجعلون معه آلهة أخري ويجعلونهم شفعاء لهم ويقولون: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } (5)، { يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } (6). والإشراك في الحب والدعاء والعبادة والسؤال غير الإشراك في الاعتقاد والإقرار، قال
__________
(1) الفتاوي الكبري، ج2 ، ص291.
(2) لقمان، آية: 25
(3) يوسف، آية: 106.
(4) المؤمنون، آيات: 84-89.
(5) الزمر، آية: 3.
(6) البقرة، آية: 165.(1/166)
تعالى: { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } (1). فمن أحب مخلوقًا كما يحب الخالق فهو مشرك به، قد اتخذ من دون الله أندادًا يحبهم كحب الله وإن كان مقرًا بأن الله خالقه.
ولهذا فرَّق الله ورسوله بين مَنْ أحب مخلوقًا لله وبين من أحب مخلوقًا مع الله فالأول يكون الله هو محبوبه ومعبوده الذي هو منتهي حبه وعبادته لا يحب معه غيره لكنه لما علم أن الله يحب أنبياءه وعباده الصالحين أحبهم لأجله وكذلك لما علم أن الله يحب فعل المأمور وترك المحظور أحب ذلك فكان حبه لما يحبه تابعًا لمحبة الله وفرعًا عليه وداخلاً فيه بخلاف من أحب مع الله فجعله ندًا لله يرجوه ويخافه أو يطيعه من غير أن يعلم أن طاعته طاعة لله ويتخذه شفيعًا له من غير أن يعلم أن الله يأذن له أن يشفع فيه، قال تعالى: { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } (2)، وقال تعالى(3): { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } (4). وقد قال عديٌّ بن حاتم للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - ما عبدوهم، قال: «أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم فكانت تلك عبادتهم إياهم». قال تعالى: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } (5)
__________
(1) البقرة، آية: 165.
(2) يونس، آية: 18.
(3) أدخل شيخ الإسلام شرك النصارى أحبارهم ورهبانهم في شرك العبادة والمحبة والسؤال وأخرجها من شرك الاعتقاد وفي هذا رد على مَنْ يؤول كلامه على غير هذا.
(4) التوبة، آية: 31.
(5) الشوري، آية: 21.(1/167)
، وقال تعالى: { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً - يَاوَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلاً - لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإنسَانِ خَذُولاً } (1). فالرسول وجبت طاعته لأنه مَنْ يطع الرسول فقد أطاع الله فالحلال ما أحله والحرام ما حرَّمه والدين ما شرعه. ومن سوى ذلك ـ من العلماء والمشايخ الأمراء والملوك ـ إنما تجب طاعتهم إذا كانت طاعتهم طاعة لله وهو إذا أمر الله ورسوله بطاعتهم فطاعتهم داخلة في طاعة الرسول قال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ } (2). فلم يقل وأطيعوا الرسول وأطيعوا أولي الأمر منكم بل جعل طاعة أولي الأمر داخلة في طاعة الرسول وطاعة الرسول طاعة لله وأعاد الفعل في طاعة الرسول دون طاعة أولى الأمر فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله فليس لأحد إذا أمره الرسول بأمر أن ينظر فيه هل أمر به الله أم لا بخلاف أولي الأمر فإنهم قد يأمرون بمعصية فليس كل من أطاعهم مطيعًا لله، بل لابد فيما يأمرون به أن يعلم أنه ليس معصية لله وينظر هل أمر الله به أم لا سواء كان أولي الأمر من العلماء أو الأمراء.
__________
(1) الفرقان، آيات: 27-29.
(2) النساء، آية: 59.(1/168)
ويدخل في هذا تقليد العلماء وطاعة أمراء السرايا وغير ذلك وبهذا يكون الدين كله لله، قال تعالى: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } (1)، وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لما قيل له يا رسول الله: الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياءً فأيُّ ذلك في سبيل الله فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا فهو في سبيل الله»، ثم إنَّ كثيرًا من الناس يحب خليفة أو عالمًا أو شيخًا أو أميرًا فيجعله ندًا لله وإن كان قد يقول أنه يحبه لله فمن جعل غير الرسول تجب طاعته في كل ما يأمر به وينهي عنه وإن خالف أمر الله ورسوله فقد جعله ندًا وربما صنع به كما تصنع النصارى بالمسيح ويستغيث به ويدعوه ويوالي أولياءه ويعادي أعداءه مع إيجابه طاعته في كل ما يأمر به وما ينهي عنه ويحلله ويحرمه ويقيمه مقام الله ورسوله فهذا من الشرك الذي يدخل أصحابه في قوله تعالى: { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } (2). إلى أن يقول: والعمل الظاهر هو موجب إيمان القلب ومقتضاه فإذا حصل إيمان القلب حصل إيمان الجوارح ضرورة، وإيمان القلب لابد فيه من تصديق القلب وانقياده وإلا فلو صدق قلبه بأن محمدًا رسول الله وهو يبغضه ويحسده ويستكبر عن متابعته لم يكن قد آمن قلبه.
__________
(1) الأنفال، آية: 39.
(2) البقرة، آية: 165.(1/169)
والإيمان وإن تضمن التصديق فليس هو مرادفًا له فلا يقال لكل مصدق بشيء أنه مؤمن به فلو قال: أنا أصدق بأن الواحد نصف الاثنين وأن السماء فوقنا والأرض تحتنا ونحو ذلك مما يشاهده الناس ويعلمونه لم يُقلْ لهذا أنه مؤمن بذلك بل لا يستعمل إلا فيمن أخبر بشيء من الأمور الغائبة كقول أخوة يوسف: { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا } (1) فإنهم أخبروه بما غاب عنه وهم يفرقون بين آمن له وآمن به فالأول: يقال للمخبر، والثاني: يقال للمخبر به كما قال تعالى عن أخوة يوسف: { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا } ، وقال تعالى: { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ } (2)، وقال تعالى: { وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } (3). ففرق بين إيمانه بالله وإيمانه للمؤمنين لأن المراد يصدق المؤمنين إذا أخبروه وأما إيمانه بالله فهو من باب الإقرار به، ومنه قوله تعالى عن فرعون وملئه { أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا } (4) أي نقر لهما ونصدقهما، ومنه قوله - عز وجل -: { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } (5)، ومنه قوله تعالى: { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ } (6)، ومن المعنى الآخر قوله تعالى: { يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } (7)، وقوله - عز وجل -: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } (8)، وقوله - عز وجل -: { وَلَكِنَّ
__________
(1) يوسف، آية: 17.
(2) يونس، آية: 83.
(3) التوبة، آية: 61.
(4) المؤمنون، آية: 47.
(5) البقرة، آية: 75.
(6) العنكبوت، آية: 26.
(7) البقرة، آية: 3.
(8) البقرة، آية: 285.(1/170)
الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } (1) أي أقر بذلك ومثل هذا في القرآن كثير. والمقصود هنا أن لفظ الإيمان إنما يستعمل في بعض الأخبار، وهو مأخوذ من الأمن كما أن الإقرار مأخوذ من أقر فالمؤمن صاحب أمن كما أن المقر صاحب إقرار، فلابد في ذلك من عمل القلب بموجب تصديقه فإذا كان عالمًا بأن محمدًا رسول الله ولم يقترن بذلك حبه وتعظيمه، بل كان يبغضه ويستكبر عن اتباعه فإن هذا ليس بمؤمن به بل كافر به، ومن هذا الباب كفر إبليس وفرعون وأهل الكتاب الذين يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وغير هؤلاء فإن إبليس لم يكذب خبرًا ولا مخبرًا بل استكبر عن أمر ربه، وفرعون وقومه قال الله فيهم: { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } (2)، وقال له موسي: { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاَء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا } (3)، وقال تعالى: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } (4) فبمجرد علم القلب بالحق إن لم يكن يقترن به عمل القلب بموجب علمه مثل محبة القلب له واتباع القلب له لم ينفع صاحبه بل أشد الناس عذابًا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه وقد كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقول «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ونفس لا تشبع ودعاء لا يسمع وقلب لا يخشع» لكن الجهمية ظنوا أن مجرد علم القلب وتصديقه هو الإيمان، وأنه من دل الشرع على أنه ليس بمؤمن كان ذلك يدل على عدم علم قلبه، وهذا من أعظم الجهل شرعًا وعقلاً وحقيقته توجب التسوية بين المؤمن والكافر، ولهذا أطلق وكيع بن الجراح وأحمد بن حنبل وغيرهم من الأئمة كفرهم بذلك. فإن
__________
(1) البقرة، آية: 177.
(2) النمل، آية: 14.
(3) الإسراء، آية: 102.
(4) الأنعام، آية: 20.(1/171)
من المعلوم أن الإنسان يكون عالمًا بالحق ويبغضه لغرض آخر فليس كل من كان مستكبرًا عن الحق يكون غير عالم به وحينئذ فالإيمان(1) لابد فيه من تصديق القلب وعمله وهذا معنى قول السلف الإيمان قول وعمل، ثم إذا تحقق القلب بالتصديق والمحبة التامة المتضمنة للإرادة لزمه وجود الأفعال الظاهرة(2) فإن الإرادة الجازمة إذا اقترن بها القدرة التامة لزم وجود المراد قطعًا وإنما ينتفي وجود الفعل لعدم كمال القدرة، ولعدم كمال الإرادة وإلا فمع كمالهما يجب وجود الفعل الاختياري، فإذا أقر القلب إقرارًا تامًا بأن محمدًا رسول الله وأحبه محبة تامة امتنع مع ذلك ألا يتكلم بالشهادتين مع قدرته على ذلك، لكن إن كان عاجزًا لخوف أو نحوه لم يكن قادرًا على النطق بهما.
وأبو طالب وإن كان عالمًا بأن محمدًا رسول الله وهو محبٌ له فلم تكن محبته لله بل كان يحبه لأنه ابن أخيه فيحبه للقرابة وإن أحب ظهوره فلِمَا يحصل له بذلك من الشرف والرئاسة فأصل محبوبه هو الرئاسة فلهذا لما عرض عليه الشهادتين عند الموت رأى أن بالإقرار بهما زوال دينه الذي يحبه فكان دينه أحب إليه من ابن أخيه ولهذا فلم يقر بهما فلو كان يحبه لأنه رسول الله كما كان أبو بكر يحبه والذي قال الله فيه: { وَسَيُجَنَّبُهَا الأتْقَى - الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى - وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى - إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى - وَلَسَوْفَ يَرْضَى } (3)
__________
(1) واضح من الكلام عن الإيمان هنا هو عن الإيمان المقابل للكفر وليس عن الإيمان الواجب أو المستحب وأن العمل بهذا المعني هنا ركنٌ من أركان أصل الإيمان وشرط لصحته وليس لكماله كما يقول فروخ الجهمية.
(2) القول والعمل ليس للقلب فقط بل ظاهرًا وباطنًا وهذا أيضًا خلاف ما يقوله فروخ الجهمية.
(3) الليل، الآيات: 17-21.(1/172)
وكما كان يحبه سائر المؤمنين كعمر وعثمان وغيرهم لنطق بالشهادتين قطعًا فكان حبه حبًا مع الله لا حبًا في الله ولهذا لم يقبل الله ما فعله من نصر الرسول ومؤازرته لأنه لم يعمله لله والله لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه بخلاف الذي فعل ما فعل ابتغاء وجه ربِّه الأعلي وهذا مما يحقق أن الإيمان والتوحيد لابد فيهما من عمل القلب كحب القلب فلابد من إخلاص الدين لله، والدين لله لا يكون دينًا إلا بعمل فإن الدين يتضمن الطاعة والعبادة وقد أنزل الله عزَّ وجلّ سورتي الإخلاص، ”قل يا أيها الكافرون“، ”قل هو الله أحد“ إحداهما في توحيد العمل والإرادة فقال في الأول: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ - اللَّهُ الصَّمَدُ - لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ - وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } فأمره أن يقول هذا التوحيد وقال في الثاني: { قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُون - لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُون - وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُد ُ - وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّم ْ - وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُد ُ - لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } فأمره أن يقول ما يوجب البراءة من عبادة غير الله، وإخلاص العبادة لله والعبادة أصلها القصد والإرادة والعبادة إذا أفردت دخل فيها التوكل ونحوه». أهـ.
الإسلام توحيد العبادة والإيمان توحيد الاعتقاد وبهما معًا يكون المسلم مسلمًا:(1/173)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (1): «ولما كانت سورة البقرة ـ ويقال أنها أول سورة نزلت بالمدينة ـ افتتحها الله بأربع آيات في صفة المؤمنين وآيتين في صفة الكافرين وبضع عشرة آية في صفة المنافقين فإنه من حين هاجر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - صار الناس ثلاث أصناف إما مؤمن وإما كافر مظهر الكفر وإما منافق بخلاف ما كانوا عليه بمكة فإنه لم يكن هناك منافق ولهذا قال أحمد بن حنبل وغيره: لم يكن من المهاجرين منافقًا وإنما كان النفاق في قبائل الأنصار فإن مكة كان الكفار مستولين عليها فلا يؤمن ويهاجر إلا من هو مؤمن ليس هناك داع إلى النفاق والمدينة آمن بها أهل الشوكة فصار للمؤمنين بها عز ومنعة بالأنصار، فمن لم يظهر الإيمان آذوه فاحتاج المنافقون إلى إظهار الإيمان مع أن قلوبهم لم تؤمن والله تعالى افتتح سورة البقرة ووسط البقرة وختم البقرة بالإيمان بجميع ما جاءت به الأنبياء فقال تعالى في أولها ما تقدم وقال في وسطها: { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا } إلى قوله: { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ - فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ... } (2) الآية، وقال في آخر البقرة: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ } إلى قوله: { ... وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } (3).
__________
(1) كتاب الإيمان، ص 152.
(2) البقرة، الآيتان: 136-137.
(3) البقرة، الآيتان: 285-286.(1/174)
وفي الصحيحين عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «الآيتان من آخر البقرة من قرأ بهما في ليلة كفتاه» والآية الوسطى ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ بها في ركعتي الفجر وبـ { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواء... } الآية. وبـ ”قل يا أيها الكافرون“ وبـ ”قل هو الله أحد“ تارة فيقرأ بما فيه ذكر الإيمان والإسلام، أو بما فيه ذكر التوحيد والإخلاص»(1). أهـ.
ويقول شيخ الإسلام في ”قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة“:
«وقد بين فيه التوحيد الذي بعث الله به رسوله قولاً وعملاً فالتوحيد القولي مثل سورة ”قل هو الله أحد“ والتوحيد العملي ”قل يا أيها الكافرون“، ولهذا كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بهاتين السورتين في ركعتي الفجر، والطواف وغير ذلك وقد كان أيضًا يقرأ في ركعتي الفجر وركعتي الطواف في الركعة الأولي: { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا } (2) الآية، وفي الثانية: { قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } (3) الآية، فإن هاتين الآيتين فيهما دين الإسلام وفيهما الإيمان القولي والإيمان العملي فقوله تعالى: { قولوا أمنا بالله وما أنزل إلينا } الآية، يتضمن الإيمان القولى والإسلام، وقوله - عز وجل -: { قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ... } الآية. يتضمن الإسلام وهو الإيمان العملي فأعظم نعمة أنعمها الله على عباده الإيمان والإسلام». أهـ.
ويقول شيخ الإسلام في ”رسالة النبوات“ (4):
__________
(1) التوحيد هو توحيد الربوبية والإخلاص هو توحيد العبادة.
(2) البقرة، آية: 136.
(3) آل عمران، آية: 64.
(4) رسالة النبوات، ج1، ص 86.(1/175)
«والله أرسل رسوله بالإسلام والإيمان أو بعبادة الله وحده وتصديق الرسول فيما أخبر فالأعمال: عبادة الله والعلوم: تصديق الرسول وكان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في ركعتي الفجر تارة بسورتي الإخلاص ”قل هو الله أحد“ و”قل يا أيها الكافرون“ وتارة بقوله تعالى في سورة البقرة: { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا... } (1) الآية. فإنها تتضمن الإيمان والإسلام وبالآية من سورة آل عمران: { قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ } الآية». أهـ.
ويقول في موضع آخر من نفس الرسالة(2):
«والإرادة النافعة إرادة ما أُمروا به وذلك عبادة الله وحده لا شريك له فهذا هو السعادة وذلك إنما يكون بأمرين:
بتصديق الرسل وبطاعتهم ولهذا كانت السعادة متضمنة لهذين الأصلين: الإسلام والإيمان أو عبادة الله وحده وتصديق الرسل وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله قال تعالى: { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } (3).
قال أبو العالية: هما خصلتان يسأل عنهما كل أحد يقال من كنت تعبد وبماذا أجبت المرسلين». أهـ.
تعريف أشاعرة السنة للإيمان المقابل للكفر:
يقول القسطلاني في ”شرح البخاري“ عن الإيمان(4):
__________
(1) البقرة، آية: 136.
(2) المصدر السابق، ج 1، ص 91.
(3) الأعراف، آية: 6.
(4) صحيح البخاري، ج1، ص 113، 114.(1/176)
«ولما فرغ المؤلف من باب الوحي لأنه كالمقدمة لهذا الكتاب الجامع شرع يذكر المقاصد الدينية وبدأ فيها بالإيمان لأنه ملاك الأمر كله لأن الباقي مبني عليه ومشروط به وهو أول واجب على المكلف. إلى أن يقول: كتاب الإيمان بكسر الهمزة وهو لغة التصديق وهو كما قال التفتازانى: إذعان لحكم المخبر وقبوله وجعله صادقًا إفعال من الأمن كأن حقيقة آمن به أمنه التكذيب والمخالفة ويُعدي باللام كما في قوله تعالى حكاية عن أخوة يوسف: { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا } (1) أي بمصدق لنا وبالباء كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «الإيمان أن تؤمن بالله... » الحديث. فليس حقيقة التصديق أن يقع في القلب نسبة التصديق إلى الخبر أو المخبر من غير إذعان وقبول بل هو إذعان وقبول لذلك، بحيث يقع عليه اسم التسليم على ما صرَّح به الإمام الغزالي. إلى أن يقول: والإسلام لغة الانقياد والخضوع ولا يتحقق ذلك إلا بقبول الأحكام والإذعان وذلك حقيقة التصديق كما سبق، قال الله تعالى: { فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنْ الْمُؤْمِنِين - فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ } (2) فالإيمان لا ينفك عن الإسلام حكمًا فهما متحدان في التصديق وإن تغايرا بحسب المفهوم إذ مفهوم الإيمان تصديق القلب ومفهوم الإسلام أعمال الجوارح وبالجملة لا يصح في الشرع أن يحكم على أحد بأنه مؤمن وليس بمسلم أو مسلم وليس بمؤمن ولا نعني بوحدتهما سوى هذا ومن أثبت التغاير فقد يقال له ما حكم من آمن ولم يسلم أو أسلم ولم يؤمن فإن أثبت لأحدهما حكمًا ليس بثابت للآخر فقد ظهر بطلان قوله». أهـ.
القول الفصل:
__________
(1) يوسف، آية: 17.
(2) الذاريات، الآياتان: 35-36.(1/177)
يقول الله - عز وجل -: { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } (1) فأثبت لهم القول ونفى عنهم الإيمان، فالإيمان ليس قولاً باللسان فقط.
ويقول الله - عز وجل -: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } (2) فأثبت لهم المعرفة ونفى عنهم الإيمان، فالإيمان ليس معرفة بالقلب فقط.
ويقول الله - عز وجل -: { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } (3) وقد سبق قول صحابته - صلى الله عليه وسلم - وأينا لم يظلم نفسه فقال - صلى الله عليه وسلم -: ما معناه في إحدى الروايات بظلم بشرك، وفي رواية أخرى «ليس بذاك ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح إنَّ الشرك لظلمٌ عظيم».
فالإيمان إذا كان قولا باللسان ومعرفة بالقلب يسمي إيمانًا لغة وتسمية شرعية مقيدة، فإذا كان مع ترك الشرك فهذا هو المقبول عند الله شرعًا. وأما من آمن ولبس إيمانه بشرك فأولئك نفي عنهم الأمن والهداية بإطلاق، والشرك أن يعبد مع الله غيره والله لا يغفر أن يشرك به والتعطيل ليس دون الشرك بل هو أعظم منه، فالمستكبرون عن عبادته أعظم جرمًا من الذين يعبدونه ويعبدون معه غيره وهو لا يغفر لهم، فأولئك أولي، والإسلام أن نعبد الله ولا نشرك به شيئًا فالذي آمن ولم يلبس إيمانه بظلم هو الذي أقر بلسانه وصدق بقلبه وعبد الله ولم يشرك به شيئًا، أي أتي بالإيمان والإسلام وعند إطلاق لفظ الإسلام والإيمان يدخل فيه معنى اللفظ الآخر.
__________
(1) البقرة، آية: 8.
(2) الأنعام، آية: 20.
(3) الأنعام، آية: 82.(1/178)
يقول أبو بطين رحمه الله (1): «وقال - عز وجل -: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ } (2) قال ابن عباس وغيره: إذا سألتهم مَنْ خلق السماوات والأرض قالوا الله وهم يعبدون معه غيره. ففسروا الإيمان في هذه الآية بإقرارهم بتوحيد الربوبية والشرك بعبادتهم غير الله وهو توحيد الألوهية». أهـ.
وتوحيد الألوهية هو أن يعبد الله ولا يشرك به شيئًا وهو الإسلام ولذلك جمع الله سبحانه وتعالى بين الإيمان والإسلام أو بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية في قوله تعالى: { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } (3).
ثم أفرد لفظ الإيمان وأطلق بعد ذلك في قوله تعالى: { فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ } (4).
فدخل في لفظ الإيمان معنى الإيمان والإسلام المذكورين قبلاً وهذه هى الحقيقة الشرعية للإيمان. وفي قوله تعالى: { قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } (5) جمع بين الإيمان والإسلام.
__________
(1) الانتصار لحزب الله الموحدين، ص 8.
(2) يوسف، آية: 106.
(3) البقرة، آية: 136.
(4) البقرة، آية: 137.
(5) آل عمران، آية: 84.(1/179)
ثم أفرد لفظ الإسلام وأطلقه في قوله تعالى بعد ذلك: { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ } (1).
وهذه هى الحقيقة الشرعية للفظ الإسلام حيث دخل تحت لفظه معنى الإيمان والإسلام المذكورين قبلاً، وهذا هو معنى قوله تعالى: { الذين آمنوا بآيتنا وكانوا مسلمين } (2)، { إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ } (3)، { آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } (4). وعلي هذا تكون حقيقة الإيمان هى: توحيد الربوبية المستلزم لتوحيد الألوهية وتكون حقيقة الإسلام هى توحيد الألوهية المستلزم لتوحيد الربوبية.
ولما كنا مخاطبين بالعبادة وكان العلم سابقًا على القول والعمل كانت حقيقتهما واحدة وهي: توحيد الألوهية المستلزم والمتضمن لتوحيد الربوبية وذلك كحقيقة شرعية مطلقة مجردة وليس كدلالات مقيدة ومقترنة فتكون حقائق عرفية تتنوع بتنوع الاستعمال حسبما يقتضي السياق وأما الحقائق اللغوية للفظ فتتسع لما تتسع له الدلالات العرفية والحقيقة الشرعية ثابتة لا تتغير بتغير المناسبات ولا بتعدد أو تغير السياقات ومعروف تقدم الحقيقة الشرعية الاصطلاحية على العرفية الاستعمالية وتقدم العرفية الاستعمالية على اللغوية الوضعية القياسية.
تعريف الإيمان:
__________
(1) آل عمران، آية: 85.
(2) الأعراف، آية: 69.
(3) الروم، آية: 53.
(4) آل عمران، آية: 52.(1/180)
يُعَرَّف الإيمان بحقيقته كما في حديث جبريل عليه السلام، ويُعَرَّف بحقيقته ومتعلقاته كما في قول الله - عز وجل -: { وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ - فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } (1). وهذا هو الإيمان الذي قال عنه الفقهاء أنه قول وعمل يزيد وينقص. فمن الإيمان ما يقابل الكفر، ومن الإيمان ما يقابل الفسوق، ومن الإيمان ما يقابل العصيان، أصل الإيمان وهو حقيقته وشعب الإيمان وهي متعلقاته ويُعرَّف الإيمان بمتعلقاته فقط «المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم».
__________
(1) الحجرات، الآيتان: 7-8.(1/181)
وكما سبق أن قلنا في حقيقة الإسلام نقول في حقيقة الإيمان أن تعريف الإيمان بحقيقته له حدان، حد يتسع لكل ما ينطبق به الاسم على مسماه وحد يضيق إلى أقل ما ينطبق به الاسم على مسماه وهذا هو الحد الفاصل بين الإيمان والكفر وبين الدخول في الملة والخروج منها، وأقل ما ينطبق اسم الإيمان على مسماه هو أقل ما ينطبق به اسم التوحيد على مسماه وهو ترك الشرك الأعظم «من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة ومن مات يشرك بالله شيئًا دخل النار» وترك الشرك الأعظم هنا جملة وتفصيلا. فمن مات على شيء من الشرك الأعظم مات كافرًا غير مسلم وغير مؤمن ولا يدخل الجنة إلا نفسٌ مسلمة ولا يدخل الجنة إلا نفسٌ مؤمنة ومن مات على شيء من الشرك الأعظم فقد لقي الله بدين لا يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين وكما سبق أن قلنا إن ترك الشرك لا يمكن أن يتحقق إلا بتحقق التوحيد فلابد في النفي من إثبات وفي الإثبات من نفي، فالتوحيد نفي وإثبات، فلا يتحقق ترك الشرك الأعظم إلا بالعلم النافي للجهالة واليقين النافي للشك والصدق النافي للنفاق والإخلاص النافي للشرك والقبول النافي للرد والانقياد النافي للترك والمحبة النافية لما يضادها، ”وهذا يتحقق بصورة عملية: بالعلم الضروري للإيمان، العلم بالله سبحانه وتعالى وبأقل ما يتحقق به الإيمان لأن الأصل في الإيمان هو العلم، والعمل لازم له ثم هو يشمل اللازم والملزوم، الإقرار بالتوحيد والرسالة، الالتزام بشرائع الإسلام والدخول في ولايته، ترك الشرك بنوعيه في الاعتقاد والعبادة. وهذه الأركان متلازمة لا يذهب بعضها ويبقى البعض الآخر“ أما ما يزيد على التوحيد من عمل فغير متلازم يذهب بعضه ويبقى بعضه { خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا } (1) ولذلك قال العلماء في تفسير أحاديث الشفاعة وأحاديث يوم القيامة عمَنْ في قلبه ذرة من إيمان أو من خير أي زائدًا على التوحيد أو التصديق، لأن
__________
(1) التوبة، آية: 102.(1/182)
التصديق والتوحيد كصلب لا يتبعض وفي حديث الرجل الذي ذرى نفسه في مسند الإمام أحمد «أنه لم يعمل خيرًا قط زائدًا على التوحيد» وآخر من يخرج من النار هم الجنهميون عتقاء الرحمن أصحاب الخواتيم ثم لا يبقى في النار إلا من حبسه القرآن وهو قول الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (1). ومن حبسه القرآن هو من مات يشرك بالله شيئًا وإن وحَّد في كل شيء غير ذلك. أما من مات لا يشرك بالله شيئًا وإن لم يعمل خيرًا قط غير ذلك فهؤلاء يخرجهم الرحمن بقبضته من النار وهم عتقاء الرحمن لم يعلم أمرهم إلا الله ولذلك لم يخرجوا من النار بشفاعة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لخفاء أمرهم كما قال عنهم ابن حجر.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن الاستثناء والقطع في الإيمان(2): «... وأما الموافاة فما علمت أحدًا من السلف علل بها الاستثناء ولكن كثيرًا من المتأخرين من يعلل بها من أصحاب الحديث من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وغيرهم كما يعلل بها نظارهم كأبي الحسن الأشعري وأكثر أصحابه ولكن ليس هذا قول السلف أصحاب الحديث والسلف يقطع في الإيمان المجمل ويستثني في الإيمان المطلق المتعلق بفعل الواجبات.
بَيَّن شيخ الإسلام مخالفة القول بالموافاة لما كان عليه السلف فيقول: وأما الجمهور وأكثر الناس فيقولون: بل هو إذا كان كافرًا فهو عدو لله ثم إذا آمن واتقى صار وليًا لله يقول الله - عز وجل -: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } إلى قوله: { عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (3).
__________
(1) النساء، آية: 48.
(2) كتاب الإيمان، ص 337. ”بتصرف يسير“
(3) الممتحنة، آيات: 1-7.(1/183)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وكذلك كان، فإن هؤلاء أهل مكة الذين كانوا يعادون الله ورسوله قبل الفتح، آمن أكثرهم وصاروا من أولياء الله ورسوله». أهـ.
علاقة الإيمان بالإسلام في تعريفهما بمتعلقاتهما:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية(1): «وأما إذا قيد الإيمان فقرن بالإسلام أو بالعمل الصالح فإنه قد يراد به ما في القلب من الإيمان باتفاق الناس وهل يراد به أيضًا المعطوف عليه ويكون من باب عطف الخاص على العام أو لا يكون حين الاقتران داخلاً في مسماه بل يكون لازمًا له على مذهب أهل السنة أو لا يكون بعضًا ولا لازمًا هذا فيه أقوال ثلاثة للناس ـ كما سيأتي إن شاء الله تعالى ـ وهذا موجود في حالة الأسماء فيتنوع مسماها بالإطلاق، والتقييد ومثال ذلك اسم المعروف والمنكر، إذا أطلق دخل في المعروف كل خير وفي المنكر كل شر، ثم قد يقترن بما هو أخص منه كقوله تعالى: { لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ } (2) فغاير بين المعروف وبين الصدقة والإصلاح بين الناس كما غاير بين اسم الإيمان والعمل واسم الإيمان والإسلام، وفي قوله تعالى: { اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا } (3)، وقوله - عز وجل -: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } (4) فعطف قولهم على الإيمان كما عطف القول السديد على التقوي ومعلوم أن التقوى إذا أطلقت دخل فيها القول السديد كذلك الإيمان إذا أطلق دخل فيه السمع والطاعة لله والرسول وكذلك قوله - عز وجل -: { آمِنُوا
__________
(1) كتاب الإيمان، ص 123.
(2) النساء، آية: 114.
(3) الأحزاب، آية: 70.
(4) البقرة، آية: 285 .(1/184)
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهَِ } (1)، وقوله - عز وجل -: { كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ((2)َ.
وإذا أطلق الإيمان بالله دخل فيه الإيمان بتلك التوابع، وكذلك لفظ البر إذا أطلق كان مسماه مسمى التقوى، والتقوى إذا أطلقت كان مسماها مسمى البر ثم يجمع بينهما كما في قوله تعالى: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى((3) وكذلك اسم الفقير إذا أطلق دخل فيه المسكين، والمسكين إذا أطلق لفظه تناول الفقير، وإذا قرن بينهما فأحدهما غير الآخر فالأول كقوله - عز وجل -: { وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } (4)، وكقوله - عز وجل -: { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } (5)، والثاني كقوله: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا } (6) وهذه الأسماء تختلف دلالتها بالإطلاق والتقييد والتجريد والاقتران تارة تكون إن أفرد أحدها كان أعم من ذلك الآخر كاسم الإيمان والمعروف مع العمل ومع الصدقة، والمنكر مع الفحشاء والبغي وتارة يكونان متساويين في العموم والخصوص كلفظ الإيمان والبر ولفظ الفقير والمسكين وعطف الشيء على الشيء في القرآن وسائر الكلام يقتضي مغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه مع اشتراك المعطوف عليه في الحكم الذي ذكر لهما والمغايرة على مراتب: أعلاها أن يكونا متباينين ليس أحدهما هو الآخر ولا جزء منه ولا يعرف لزوم له كقوله تعالى: { خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ } (7)، وقوله - عز وجل -: { وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } (8) ويليه أن يكون بينهما لزوم كقوله - عز وجل -:
__________
(1) الحديد، آية: 7.
(2) البقرة، آية: 285.
(3) المائدة، آية: 2.
(4) البقرة، آية: 271.
(5) المائدة، آية: 89.
(6) التوبة، آية : 60.
(7) العنكبوت، آية: 44.
(8) البقرة، آية: 98.(1/185)
{ وَلاَ تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ } (1)، والثالث عطف بعض الشيء على الشيء نفسه كقوله - عز وجل -: { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى } (2)، والرابع عطف الشيء على الشيء نفسه لاختلاف الصفتين كقوله - عز وجل -: { سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى - الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى - وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى - وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى } (3)». أهـ.
والإسلام مع الإيمان عند الاقتران يكونان على عدة أوضاع:
الوضع الأول: أن يكون الإسلام جزء مسمى الإيمان فيكون الإيمان أشمل كقوله - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام:« أنه إفشاء السلام وإطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام» وعن الإيمان أنه «السماحة والصبر» والسماحة والصبر أشمل من حيث المعنى.
الوضع الثاني: أن يكون الإيمان جزء مسمى الإسلام فيكون الإسلام أشمل وذلك كما في قوله تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإسْلاَمَ دِينًا } (4) والإيمان كما في حديث جبريل عليه السلام «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره». وفي الحديث، قال: «فأيُّ الإسلام أفضل. قال: الإيمان. قال: وما الإيمان. قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالبعث بعد الموت... » إلى آخر الحديث رواه أحمد من حديث أيوب عن أبي قلابة عن رجل من أهل الشام عن أبيه.
الوضع الثالث: أن يكون الإيمان والإسلام قسيمين وذلك على ضربين:
الضرب الأول: الإسلام عمل باطن وظاهر والإيمان قول باطن وظاهر « نؤمن بهن ونعمل بهن».
الضرب الثاني: الإسلام ظاهر قول وعمل والإيمان باطن قول وعمل « الإيمان سر والإسلام علانية».
الوضع الرابع: أن يكون الإسلام لازمًا للإيمان(5).
__________
(1) البقرة، آية: 42.
(2) البقرة، آية: 238.
(3) الأعلي، آيات: 1-4.
(4) المائدة، اية: 3.
(5) مرَّ بيان ذلك.(1/186)
الوضع الخامس: تقسيم المراتب: { قَالَتْ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } (1)، وقول الإمام أحمد في تفسيره لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» خرج من الإيمان إلى الإسلام ورسم دائرتين وقال خرج من هذه إلى تلك، وقول الله - عز وجل -: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } (2). فالمسلمون أعمّ من المؤمنين، والمؤمنون أعمّ من المحسنين. والإحسان أعمّ من الإيمان، والإيمان أعمّ من الإسلام، والإسلام يثبت بالتوحيد والخروج من ملل الكفر، والإيمان مازاد على ذلك من عمل بفعل الواجب وترك المحرم، والإحسان ما يزيد على ذلك بفعل المندوب وترك المكروه والتوغل في التطوعات والمسارعة إلى الخيرات.
الوضع السادس: أن يكون الإسلام والإيمان صفتين متلازمتين لموصوف واحد هو الدين.
يقول شيخ الإسلام(3): «ومن جهة أنه إذا وصف الواجب بصفات متلازمة دل على أن كل صفة من تلك الصفات متي ظهرت وجب اتباعها وهذا مثل الصراط المستقيم الذي أمر الله سؤال هدايته فإنه قد وصف بأنه الإسلام ووصف بأنه اتباع القرآن ووصف بأنه طاعة الله ورسوله ووصف بأنه طريق العبودية ومعلوم أن كل اسم من هذه الأسماء يجب اتباع مسماه ومسماها كلها واحد وإن تنوعت صفاته، فأي صفة ظهرت وجب اتباع مدلولها فإنه مدلول الأخرى وكذلك أسماء الله تعالى وأسماء كتابه وأسماء رسوله وهي مثل أسماء دينه». أهـ.
__________
(1) الحجرات، آية: 14.
(2) فاطر، آية: 32.
(3) كتاب الإيمان، ص 34.(1/187)
ويقول (1): «”فصل“، وهذا النوع من نمط أسماء الله وأسماء كتابه وأسماء دينه قال تعالى: { قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى } (2)، وقال تعالى: { وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ } (3)، وقال - عز وجل -: { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ - هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ - هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (4). فأسماؤه الحسنى كلها متفقة في الدلالة على نفسه المقدسة ثم كل اسم يدل على معنى من صفاته ليس هو المعني الذي دلَّ عليه الاسم الآخر فالعزيز يدل على نفسه مع عزته والخالق يدل على نفسه مع خلقه والرحيم يدل على نفسه مع رحمته ونفسه تستلزم جميع صفاته فصار كل اسم يدل على ذاته والصفة المختصة به بطريق المطابقة وعلي أحدهما بطريق التضمن وعلي الصفة الأخرى بطريق اللزوم. وهكذا أسماء كتابه، القرآن والفرقان والهدى والبيان والشفاء والنور وغير ذلك هى بهذه المنزلة. إلى أن يقول: وهكذا أسماء دينه الذي أمر الله به رسوله يسمي إيمانًا وبرًا وتقوى وخيرًا ودينًا وعملاً صالحًا وصراطًا مستقيمًا ونحو ذلك وهو في نفسه واحد لكن كل اسم يدل على صفة ليست هى الصفة التي يدل عليها الآخر وتكون تلك الصفة هى الأصل في اللفظ والباقي تابعًا لها ثم صارت دالة عليها
__________
(1) المصدر السابق، ص 140.
(2) الإسراء، آية: 110.
(3) الأعراف، آية: 180.
(4) الحشر، آيات: 22-24.(1/188)
بالتضمن». أهـ.
حقيقة التوحيد وأقوال العلماء فيه:
ويقول ابن القيم(1) - رضي الله عنه - بعد أن يستوفي توحيد المتكلمين والصوفية والفلاسفة: «وأما التوحيد الذي دعت إليه رسل الله ونزلت به كتبه فوراء ذلك وهو نوعان:
توحيد في المعرفة والإثبات.
توحيد في الطلب والقصد.
فالنوع الأول: هو حقيقة ذات الرب تعالى وأسمائه وصفاته وعلوه فوق سمواته على عرشه وتكلمه بكتبه وتكليمه لمن شاء من عباده وإثبات عموم قضائه وقدره وحكمه وقد أفصح القرآن عن هذا النوع جد الإفصاح كما في سورة الحديد، وسورة طه، وآخر سورة الحشر، وأول تنزيل السجدة، وأول آل عمران، وسورة الإخلاص بكمالها وغير ذلك.
النوع الثاني: مثل ما تضمنته سورة قل يا أيها الكافرون، وقوله تعالى: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ } الآية، وأول تنزيل الكتاب، وآخرها، وأول يونس، ووسطها، وآخرها، وأول الأعراف، وآخرها، وجملة الأنعام، وغالب سور القرآن، بل كل سورة في القرآن فهي متضمنة لنوعي التوحيد. بل نقول قولاً كليًا: إن كل آية في القرآن فهي متضمنة للتوحيد شاهدة به داعية إليه فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله فهو التوحيد العلمي الخبري وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع كل ما يعبد من دونه. فهو التوحيد الإرادي الطلبي. وإما أمرٌ ونهيٌ وإلزام بطاعته في أمره ونهيه فهي حقوق(2) التوحيد ومكملاته وإما خبر عن كرامة الله لأهل توحيده وطاعته وما فعل بهم في الدنيا وما يكرمهم به في الآخرة فهو جزاء توحيده وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا وما يحل بهم في العقبى من العذاب فهو خبر عمن خرج عن حكم التوحيد». أهـ.
__________
(1) مدارج السالكين، دار التراث العربي، ج3، ص 325.
(2) حقوق التوحيد: هى الطاعات بفعل المأمور وترك المحظور وهي من متعلقات الإيمان والإسلام وحقيقة الإيمان والإسلام هى هى حقيقة التوحيد.(1/189)
1- ويقول شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في”رسالة كشف الشبهات“ (1): «اعلم رحمك الله أن التوحيد هو: إفراد الله بالعبادة وهو دين الرسل الذي أرسلهم الله به إلى عباده فأول الرسل نوح - عليه السلام - أرسله الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين ودًا وسواعًا ويغوث ويعوق ونسرًا وآخر الرسل محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي كسر صور هؤلاء الصالحين أرسله إلى قوم يتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله كثيرًا ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله يقولون نريد منهم التقرب إلى الله ونريد شفاعتهم عنده مثل الملائكة وعيسى بن مريم وأناس غيرهم من الصالحين فبعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد(2) محض حق الله لا يصلح منه شيء لغير الله لا لملك مقرب، ولا لنبيٍّ مرسل فضلاً عن غيرهما وإلا فهؤلاء المشركون يشهدون أن الله هو الخالق وحده لا شريك له وأنه لا يرزق إلا هو ولا يحيي إلا هو ولا يميت إلا هو ولا يدبر الأمر إلا هو وأن جميع السماوات ومن فيهن والأرضين السبع ومن فيهن كلهم عبيده وتحت تصرفه وقهره. فإذا أردت الدليل على أن هؤلاء الذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشهدون بهذا فاقرأ قوله تعالى: { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } (3)، وقوله - عز وجل -: { قُلْ لِمَنْ الأرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ
__________
(1) كتاب عقيدة الموحدين، ص91 وما بعدها.
(2) يسمون عبادتهم لشيء ليقربهم إلى الله زلفى اعتقاد في ذلك الشيء، وذلك اصطلاح الناس من الأعراب في البوادي في وقت الشيخ حتى لا يختلط بالاعتقاد بمعناه الاصطلاحي كما سنبينه.
(3) يونس، آية: 31.(1/190)
كُنتُمْ تَعْلَمُونَ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُون َ - قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ َ - قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ } (1). وغير ذلك من الآيات فإذا تحققت أنهم مقرون بهذا ولم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعرفت أن التوحيد الذي جحدوه هو توحيد العبادة الذي يسميه المشركون في زماننا ”الاعتقاد“ كما كانوا يدعون الله سبحانه ليلاً ونهارًا ثم منهم من يدعو الملائكة لأجل صلاحهم وقربهم من الله ليشفعوا له أو يدعو رجلاً صالحًا مثل اللات أو نبيًا مثل عيسى وعرفت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاتلهم على هذا الشرك ودعاهم إلى إخلاص العبادة كما قال تعالى: { فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } (2)، وقال - عز وجل -: { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ } (3) وتحققت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاتلهم ليكون الدعاء كله لله والنذر كله لله والذبح كله لله والاستغاثة كلها لله وجميع العبادات كلها لله وعرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام وأن قصدهم الملائكة والأنبياء والأولياء يريدون شفاعتهم والتقرب إلى الله بذلك هو الذي أحلَّ دماءهم وأموالهم عرفت حينئذ التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأبى عن الإقرار به المشركون وهذا التوحيد هو معنى قولك ”لا إله إلا الله“ فإن الإله عندهم هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور سواء كان ملكًا أو نبيًا أو وليًا أو شجرة أو قبرًا أو جنيًا لم يريدوا أن الإله هو الخالق الرازق المدبر فإنهم يعلمون
__________
(1) المؤمنون، آيات: 84-89.
(2) الجن، آية: 18.
(3) الرعد، آية: 14.(1/191)
أن ذلك لله وحده كما قدمت لك وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ السيدِّ فأتاهم النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم إلى كلمة التوحيد وهي ”لا إله إلا الله“ والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها، والكفَّار الجهال يعلمون أن مراد النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بهذه الكلمة هو إفراد الله تعالى بالتعلق به والكفر بما يعبد من دون الله والبراءة منه فإنه لما قال لهم قولوا لا إله إلا الله قالوا: { أَجَعَلَ الألِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } (1). فإذا عرفت أن جهَّال الكفار يعرفون ذلك فالعجب ممن يدعي الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهَّال الكفار بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب لشيء من المعاني والحاذق منهم يظن أن معناها لا يخلق ولا يرزق إلا الله فلا خير في رجلٍ جهالُ الكفارِ أعلمَ منه بمعني ”لا إله إلا الله“.
__________
(1) ص، آية: 5.(1/192)
وإذا عرفت ما ذكرت لك معرفة قلب وعرفت الشرك بالله الذي قال الله فيه: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (1) وعرفت دين الله الذي أرسل به الرسل من أولهم إلى آخرهم الذي لا يقبل الله من أحد سواه وعرفت ما أصبح غالب الناس فيه من الجهل بهذا أفادك فائدتين: الفرح بفضل الله ورحمته كما قال تعالى: { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } (2) وأفادك أيضًا الخوف العظيم فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه وقد يقولها وهو جاهل فلا يعذر بالجهل وقد يقولها وهو يظن أنها تقربه إلى الله تعالى كما ظن المشركون، خصوصًا إنْ ألهمك الله ما قصَّ عن قوم موسى مع صلاحهم وعلمهم أنهم أتوه قائلين: { اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } (3) فحينئذ يعظم حرصك وخوفك على ما يخلصك من هذا وأمثاله، واعلم أنه سبحانه من حكمته لم يبعث نبيًا بهذا التوحيد إلا جعل له أعداء كما قال تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا } (4) وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وكتب وحجج كما قال تعالى: { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ } (5).
__________
(1) النساء، آية: 48.
(2) يونس، آية: 58.
(3) الأعراف، آية: 138.
(4) الأنعام، آية: 112.
(5) غافر، آية: 83.(1/193)
إذا عرفت ذلك عرفت أن الطريق إلى الله لابد له من أعداء قاعدين عليه أهل فصاحة وعلم وحجج فالواجب عليك أن تتعلم من دين الله ما يصير لك سلاحًا تقاتل به هؤلاء الشياطين الذين قال إمامهم ومقدمهم لربِّك - عز وجل -: { لاَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ - ثُمَّ لاَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ } (1) ولكن إذا أقبلت على الله وأصغيت إلى حججه وبيناته فلا تخف: { إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا } (2). والعامي من الموحدين يغلب ألفًا من علماء هؤلاء المشركين كما قال تعالى: { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ } (3) فجندُ الله هم الغالبون بالحجة واللسان كما هم الغالبون بالسيف والسنان وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح وقد منَّ الله علينا بكتابه الذي جعله: { تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } (4).
__________
(1) الأعراف، الآيتان: 16-17.
(2) النساء، آية: 76.
(3) الصافات، آية: 173.
(4) النحل، آية: 89 .(1/194)
فلا يأتي صاحب باطل بحجة إلا وفي القرآن ما ينقضها ويبين بطلانها كما قال تعالى: { وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } (1). قال بعض المفسرين ”هذه الآية عامة في كل حجة أتي بها أهل الباطل إلى يوم القيامة“ وأنا أذكر لك أشياء مما ذكر الله في كتابه جوابًا لكلام احتج به المشركون في زماننا علينا فنقول جواب أهل الباطل من طريقين: مجمل ومفصل، فأما المجمل فهو الأمر العظيم والفائدة الكبيرة لمن عقلها وذلك قوله تعالى: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } (2). وقد صحَّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم» مثال ذلك إذا قال لك بعض المشركين: { أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } (3) وأن الشفاعة حق وأن الأنبياء لهم جاه عند الله أو ذكر كلامًا للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - يستدل به على شيء من باطله وأنت لا تفهم معنى الكلام الذي ذكره فجاوبه بقولك إن الله ذكر أن الذين في قلوبهم زيغ يتركون المحكم ويتبعون المتشابه وما ذكرته لك من أن الله ذكر في كتابه أن المشركين يقرون بالربوبية وإن كفرهم بتعلقهم على الملائكة والأنبياء والأولياء مع قولهم: { هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } (4) هذا أمر محكم بَيِّن لا يقدر أحد أن يغير معناه وما ذكرت لي أيها المشرك من القرآن أو كلام النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لا أعرف معناه ولكن أقطع أن كلام الله لا يتناقض وأن
__________
(1) الفرقان، آية: 33.
(2) آل عمران، آية: 7.
(3) يونس، آية: 62.
(4) يونس، آية: 18.(1/195)
كلام النبيّ لا يخالف كلام الله وهذا جواب سديد ولكن لا يفهمه إلا من وفقه الله فلا نستهن به فإنه كما قال تعالى: { وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } (1).
وأما الجواب المفصل فإن أعداء الله لهم اعتراضات كثيرة يصدون بها الناس عنه منها قولهم نحن لا نشرك بالله بل نشهد أنه لا يخلق ولا يرزق ولا ينفع ولا يضر إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا فضلاً عن عبد القادر أو غيره ولكن أنا مذنب والصالحون لهم جاه عند الله وأطلب من الله بهم فجاوبه بما تقدم وهو أن الذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقرون بما ذكرت ومقرون أن أوثانهم لا تدبر شيئًا وإنما أرادوا الجاه والشفاعة واقرأ عليه ما ذكره الله في كتابه ووضحه فإن قال: هؤلاء الآيات نزلت فيمن يعبد الأصنام كيف تجعلون الصالحين أصنامًا؟ فجاوبه بما تقدم فإنه إن أقر أن الكفار يشهدون بالربوبية كلها لله وأنهم ما أرادوا ممن قصدوا إلا الشفاعة، ولكن أراد أن يفرق بين فعلهم وفعله بما ذكره فاذكر له أن الكفار منهم من يدعو الصالحين والأصنام ومنهم من يدعو الأولياء الذين قال الله فيهم: { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } (2)، ويدعون عيسى بن مريم وأمه، وقد قال الله تعالى: { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمْ الأيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } (3)، واذكر قوله تعالى: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ - قَالُوا سُبْحَانَكَ
__________
(1) فصلت، آية: 35.
(2) الإسراء، آية: 57.
(3) المائدة، اية: 75.(1/196)
أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ } (1)، وقوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ } (2) الآية. فقل له عرفت أن الله كفَّر من قصد الأصنام وكفَّر أيضًا من قصد الصالحين وقاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فإن قال: الكفار يريدون منهم وأنا أشهد أن الله هو النافع الضار المدبر لا أريد إلا منه والصالحون ليس لهم من الأمر شيء ولكن أقصدهم أرجو من الله شفاعتهم. فالجواب: أن هذا قول الكفار سواء بسواء فاقرأ عليه قوله تعالى: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } (3)، وقوله تعالى: { هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } (4).
__________
(1) سبأ، الآيتان: 40-41.
(2) المائدة، اية: 116.
(3) الزمر، آية: 3.
(4) يونس، آية: 18.(1/197)
واعلم أن هذه الشبه الثلاث هى أكبر ما عندهم فإذا عرفت أن الله وضحها في كتابه وفهمتها فهمًا جيدًا فما بعدها أيسر منها فإن قال أنا لا أعبد إلا الله وهذا الالتجاء إلى الصالحين ودعاؤهم ليس بعبادة فقل له أنت تقر أن الله فرض عليك إخلاص العبادة وهو حقه عليك فإذا قال نعم قل له بين لي هذا الذي فرض عليك وهو إخلاص العبادة لله وحده وهو حقه عليك فإنه لا يعرف العبادة ولا أنواعها فبينها له بقولك قال الله تعالى: { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } (1) فإذا أعلمته بهذا فقل له هل علمت هذا عبادة لله فلابد أن يقول نعم والدعاء مخ العبادة فقل له إذا أقررت أنه عبادة ودعوت الله ليلاً ونهارًا خوفًا وطمعًا ثم دعوت في تلك الحاجة نبيًا أو غيره هل أشركت في عبادة الله غيره، فلابد أن يقول نعم، فقل له إذا عملت بقول الله إذ قال الله: { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } (2) وأطعت الله ونحرت له هل هذه عبادة فلابد أن يقول نعم فقل له إذا نحرت لمخلوق، نبيٍّ، أو جنيٍّ أو غيرهما هل أشركت في هذه العبادة غير الله فلابد أن يقر ويقول نعم وقل له أيضًا المشركون الذين نزل فيهم القرآن هل كانوا يعبدون الملائكة والصالحين واللات وغير ذلك فلابد أن يقول نعم فقل له وهل كانت عبادتهم إياهم إلا في الدعاء والذبح والالتجاء ونحو ذلك وإلا فهم مقرون أنهم عبيد الله، وتحت قهره، وأن الله هو الذي يدبر الأمر ولكن دعوهم والتجئوا إليهم للجاه والشفاعة وهذا ظاهر جدًا، فإن قال أتنكر شفاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتبرأ منها فقل لا أنكرها ولا أتبرأ منها بل هو - صلى الله عليه وسلم - الشافع المشفع وأرجو شفاعته ولكن الشفاعة كلها لله كما قال تعالى: { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } (3) ولا تكون إلا من بعد إذن الله كما قال الله - عز وجل -: { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ
__________
(1) الأعراف، آية: 55.
(2) الكوثر، آية: 2 .
(3) الزمر، آية: 44.(1/198)
عِنْدَهُ إلاَّ بِإِذْنِهِ } (1) ولا يشفع النبيُّ في أحد إلا من بعد أن يأذن الله فيه كما قال - عز وجل -: { وَلاَ يَشْفَعُونَ إلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى } (2) وهو لا يرضى إلا التوحيد، كما قال تعالى: { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } (3).
فإذا كانت الشفاعة كلها لله ولا تكون إلا من بعد إذنه ولا يشفع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ولا غيره في أحد حتى يأذن الله فيه ولا يأذن إلا لأهل التوحيد، تبين لك أن الشفاعة كلها لله وأطلبها منه وأقول اللهم لا تحرمني شفاعته اللهم شفعه في وأمثال هذا.
فإن قال: النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أعطي الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه الله فالجواب أن الله أعطاه الشفاعة ونهاك عن هذا فقال: { فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } (4) وأيضًا فإن الشفاعة أعطيها غير النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فصح أن الملائكة يشفعون والأفراط يشفعون والأولياء يشفعون أتقول أن الله أعطاهم الشفاعة وأنا أطلبها منهم فإن قلت هذا رجعت إلى عبادة الصالحين التي ذكر الله في كتابه وإن قلت لا بطل قولك أعطاه الله الشفاعة، وأنا أطلبها مما أعطاه الله فإن قال أنا لا أشرك بالله شيئًا حاش وكلا ولكن الالتجاء للصالحين ليس بشرك فقل له إذا كنت تقر أن الله حرَّم الشرك أعظم من تحريم الزنا وتقر أن الله لا يغفره فما هذا الأمر الذي حرمه الله وذكر أنه لا يغفره؟! فإنه لا يدري فقل له كيف تبرئ نفسك من الشرك وأنت لا تعرفه أم كيف يحرم الله عليك هذا ويذكر أنه لا يغفره ولا تسأل عنه ولا تعرفه؟ أتظن أن الله يحرمه ولا يبينه لنا؟!
__________
(1) البقرة، آية: 255.
(2) الأنبياء، آية: 28.
(3) آل عمران، آية: 85.
(4) الجن، آية: 18.(1/199)
فإن قال الشرك عبادة الأصنام ونحن لا نعبد الأصنام فقل وما معنى عبادة الأصنام؟ أتظن أنهم يعتقدون أن تلك الأخشاب والأحجار تخلق وترزق وتدبر أمر من دعاها فهذا يكذبه القرآن كما في قوله تعالى: { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأرْضِ } (1) الآية. وإن قال هو من قصد خشبة أو حجرًا أو بنية على قبر أو غيره يدعون ذلك ويذبحون له ويقولون أنه يقربنا إلى الله زلفى ويدفع الله عنَّا ببركته فقل صدقت وهذا هو فعلكم عند الأحجار والبنايات التي على القبور وغيرها فهذا أقر أن فعلهم هذا هو عبادة الأصنام ويقال له أيضًا قولك الشرك عبادة الأصنام هل مرادك أن الشرك مخصوص بهذا وأن الاعتماد على الصالحين ودعاؤهم لا يدخل في ذلك؟ فهذا يرده ما ذكر الله جلّ وعلاّ في كتابه من كفر من تعلق على الملائكة وعيسى والصالحين فلابد أن يقر لك أن من أشرك في عبادة الله أحدًا من الصالحين فهو الشرك المذكور في القرآن وهو المطلوب.
وسر المسألة أنه إذا قال أنا لا أشرك بالله فقل له وما الشرك بالله فسره لي فإن قال هو عبادة الأصنام فقل وما معنى عبادة الأصنام فسرها لي فإن قال أنا لا أعبد إلا الله وحده فقل ما هى عبادة الله وحده فسرها لي فإن فسرها بما بينه القرآن فهو المطلوب وإن لم يعرف فكيف يدعي شيئًا هو لا يعرفه وإن فسر ذلك بغير معناه بينت له الآيات الواضحات في معنى الشرك بالله وعبادة الأوثان وأنه الذي يفعلونه في هذا الزمان بعينه وأن عبادة الله وحده لا شريك له هى التي ينكرون علينا ويصيحون كما صاح إخوانهم حيث قالوا: { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } (2).
فإن عرفت أن الذي يسميه المشركون في زماننا هذا ”الاعتقاد“ هو الشرك الذي أنزل فيه القرآن وقاتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس عليه فاعلم أن شرك الأولين أخف من شرك أهل زماننا بأمرين:
__________
(1) يونس، آية: 31.
(2) ص، اية: 5.(1/200)
أحدهما: أن الأولين لا يشركون ولا يدعون الملائكة والأولياء والأوثان مع الله إلا في الرخاء وأما في الشدة فيخلصون لله الدين كما قال تعالى: { وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا } (1)، وقوله - عز وجل -: { قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِين - بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } (2)، وقوله جلَّ وعلا: { وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ } إلى قوله: { قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ } (3)، وقوله سبحانه وتعالى: { وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } (4). فمن فهم هذه المسألة التي وضحها الله في كتابه وهي أن المشركين الذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعون الله ويدعون غيره في الرخاء وأما في الضر والشدة فلا يدعون إلا الله وحده لا شريك له وينسون ساداتهم تبين له الفرق بين شرك أهل زماننا وشرك الأولين ولكن أين من يفهم قلبه هذه المسألة فهمًا راسخًا والله المستعان.
__________
(1) الإسراء، آية: 67.
(2) الأنعام، الآيتان: 40-41.
(3) الزمر، آية: 8.
(4) لقمان، آية: 32.(1/201)
الأمر الثاني: أن المشركين الأولين يدعون مع الله أناسًا مقربين عند الله إمَّا أنبياء وإما أولياء وإما ملائكة أو يدعون أشجارًا أو أحجارًا مطيعة لله ليست عاصية، وأهل زماننا يدعون مع الله أناسًا من أفسق الناس والذين يدعونهم هم الذين يحكون عنهم الفجور من الزنا والسرقة وترك الصلاة وغير ذلك والذي يعتقد في الصالح والذي لا يعصي مثل الخشب والحجر أهون ممن يعتقد فيمن يشاهد فسقه وفساده ويشهد به فإذا تحققت أن الذين قاتلهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصح عقولاً وأخف شركًا من هؤلاء فاعلم أن لهؤلاء شبهة يوردونها على ما ذكرنا وهي من أعظم شبههم فاصغ سمعك لجوابها وهي أنهم يقولون إنَّ الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن لا إله إلا الله ويكذبون الرسول وينكرون البعث ويكذبون القرآن ويجعلونه سحرًا ونحن نشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ونصدق بالقرآن ونؤمن بالبعث ونصلي ونصوم فكيف تجعلوننا مثل أولئك؟(1/202)
فالجواب: أنه لا خلاف بين العلماء كلهم أن الرجل إذا صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء وكذبه في شيء أنه كافر لم يدخل في الإسلام وكذلك إذا آمن ببعض القرآن وجحد بعضه كمن أقر بالتوحيد وجحد وجوب الصلاة أو أقر بالتوحيد والصلاة وجحد وجوب الزكاة أو أقر بهذا كله وجحد الصوم، أو أقر بهذا كله وجحد الحج ولما لم ينقد أناس في زمن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - للحج أنزل الله في حقهم: { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِين } (1) ومن أقر بهذا كله وجحد البعث كفر بالإجماع وأحل دمه وماله كما قال الله - جل جلاله -: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً - أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } (2). فإذا كان الله قد صرح في كتابه أن من آمن ببعض وكفر ببعض فهو الكافر حقًا زالت هذه الشبهة وهذه هى التي ذكرها بعض أهل الإحساء في كتابه الذي أرسله إلينا ويقال إذا كنت تقر أن من صدق الرسول في كل شيء وجحد وجوب الصلاة فهو كافر حلال الدم بالإجماع وكذلك إذا أقر بكل شيء إلا البعث وكذلك إذا جحد وجوب صوم رمضان وصدق بهذا كله لا يجحد هذا ولا تختلف المذاهب فيه وقد نطق به القرآن كما قدمنا فمعلوم أن التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وهو أعظم فريضة من الصلاة والزكاة والصوم والحج فكيف إذا جحد الإنسان شيئًا من هذه الأمور كفر ولو عمل بكل ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر
__________
(1) آل عمران، آية: 97.
(2) النساء، الآيتان: 150-151.(1/203)
سبحان الله ما أعجب هذا الجهل، ويقال أيضًا هؤلاء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاتلوا بني حنيفة وقد أسلموا مع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويؤذنون ويصلون فإن قال أنهم يقولون أن مسيلمة نبي قلنا هذا هو المطلوب إذا كان من رفع رجلاً إلى رتبة نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كفر وأحل دمه وماله ولم تنفعه الشهادتان ولا الصلاة فكيف بمن رفع شمسان أو يوسف أو صحابيًا أو نبيًا في مرتبة جبَّار السماوات والأرض؟ سبحان الله ما أعظم شأنه. { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } (1). ويقال أيضًا الذين حرقهم على بن أبي طالب بالنار كلهم يدعون الإسلام وهم من أصحاب على وتعلموا العلم من الصحابة ولكن اعتقدوا في على مثل الاعتقاد في يوسف وشمسان وأمثالهما فكيف أجمع الصحابة على قتلهم وكفرهم أتظنون أن الصحابة يكفرون المسلمين؟ أم تظنون الاعتقاد في تاج وأمثاله لا يضر والاعتقاد في علىّ بن أبي طالب يُكَفِّر؟. ويقال أيضًا: بنو عبيد القدَّاح الذين ملكوا المغرب ومصر في زمان بني العباس كلهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويدعون الإسلام ويصلون الجمعة والجماعة فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياء دون ما نحن فيه أجمع العلماء على كفرهم وقتالهم وأن بلادهم بلاد حرب وغزاهم المسلمون حتى استنقذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين. ويقال أيضًا إذا كان الأولون لم يكفروا إلا لأنهم جمعوا بين الشرك وتكذيب الرسول والقرآن وإنكار البعث وغير ذلك فما معنى الباب الذي ذكر العلماء في كل مذهب ”باب حكم المرتد“ وهو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه. ثم ذكروا أنواعًا كثيرة كل نوع منها يُكَفِّر ويحل دم الرجل وماله حتى أنهم ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه أو كلمة يذكرها على وجه المزاح واللعب
__________
(1) الروم، اية: 59.(1/204)
ويقال أيضًا الذين قال الله فيهم: { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ } (1). أما سمعت أن الله كفَّرهم بكلمة مع كونهم في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجاهدون معه ويصلون معه ويزكون ويحجون ويوحدون وكذلك الذين قال الله فيهم: { قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ - لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } (2) فهؤلاء الذين صرح الله أنهم كفروا بعد إيمانهم وهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك قالوا كلمة ذكروا أنهم قالوها على وجه المزح فتأمل هذه الشبهة وهي قولهم تكفرون المسلمين أناسًا يشهدون أن لا إله إلا الله ويصلون ويصومون ثم تأمل جوابها فإنه من أنفع ما في هذه الأوراق(3). ومن الدليل على ذلك أيضًا ما حكى الله عزَّ وجل عن بني إسرائيل مع إسلامهم وعلمهم وصلاحهم أنهم قالوا لموسى: { اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } (4) وقول أناس من الصحابة رضوان الله عليهم «اجعل لنا ذات أنواط» فحلف - صلى الله عليه وسلم - أن هذا نظير قول بني إسرائيل: { اجْعَل لَنَا إِلَهًا } ولكن للمشركين شبهة يدلون بها عند هذه القصة وهي أنهم يقولون أن بني إسرائيل لم يكفروا وكذلك الذين قالوا «اجعل لنا ذات أنواط» لم يكفروا. فالجواب: أن نقول أن بني إسرائيل لم يفعلوا ذلك وكذلك الذين سألوا النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لم يفعلوا ولا خلاف أن بني إسرائيل لم يفعلوا ذلك ولو فعلوا ذلك لكفروا وكذلك لا خلاف في أن الذين نهاهم النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لو لم يطيعوه واتخذوا ذات أنواط بعد نهيه لكفروا وهذا هو المطلوب ولكن هذه القصة تفيد أن المسلم بل العالم قد يقع في أنواع من الشرك لا
__________
(1) التوبة، آية: 74.
(2) التوبة، الآيتان: 65-66.
(3) حقًا رحمك الله رحمة واسعة.
(4) الأعراف، آية: 138.(1/205)
يدري عنها فتفيد التعلم والتحرز ومعرفة أن قول الجاهل ”التوحيد فهمناه“ أن هذا من أكبر الجهل ومكايد الشيطان وتفيد أيضًا أن المسلم المجتهد إذا تكلم بكلام كفر وهو لا يدري فنبه على ذلك فتاب من ساعته أنه لا يكفر كما فعل بنو إسرائيل والذين سألوا النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وتفيد أيضًا أنه لو لم يكفر فإنه يغلظ عليه الكلام تغليظًا شديدًا كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وللمشركين شبهة أخرى يقولون أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنكر على أسامة قتل من قال لا إله إلا الله وقال له: «أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله» وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» وأحاديث أخري في الكف عمن قالها ومراد هؤلاء الجهلة أن من قالها لا يكفر ولا يقتل ولو فعل ما فعل فيقال لهؤلاء المشركين الجهَّال معلوم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاتل اليهود وسباهم وهم يقولون لا إله إلا الله وأن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاتلوا بني حنيفة وهم يشهدون أنه لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول ويصلون ويدعون الإسلام وكذلك الذين حرَّقهم على بن أبي طالب - رضي الله عنه - بالنار وهؤلاء الجهلة مقرون أن من أنكر البعث كفر وقتل ولو قال لا إله إلا الله وأن من جحد شيئًا من أركان الإسلام كفر وقتل ولو قالها فكيف لا تنفعه إذا جحد فرعًا من الفروع وتنفعه إذا جحد التوحيد الذي هو أساس دين الإسلام ورأسه ولكن أعداء الله ما فهموا معنى الأحاديث. فأما حديث أسامة فإنه قتل رجلاً ادعى الإسلام بسبب أنه ظنَّ أنه ما ادعى الإسلام إلا خوفًا على دمه وماله والرجل إذا أظهر الإسلام وجب الكفّ عنه حتى يتبين منه ما يخالف ذلك وأنزل الله تعالى في ذلك: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا } (1) أي فتثبتوا فالآية تدل على أنه يجب
__________
(1) النساء، آية: 94.(1/206)
الكف عنه والتثبت فإذا تبين منهم بعد ذلك ما يخالف الإسلام قتل لقوله تعالى: { فَتَبَيَّنُوا } ولو كان لا يقتل إذا قالها لم يكن للتثبت معنى وكذلك الحديث الآخر وأمثاله معناه ما ذكرناه وأن من أظهر التوحيد والإسلام وجب الكف عنه إلا أن يتبين منه ما يناقض ذلك والدليل على هذا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي قال: «أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله»، وقال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» هو الذي قال في الخوارج «أينما لقيتموهم فاقتلوهم لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد» مع كونهم من أكثر الناس عبادة وتهليلاً وتسبيحًا حتى أن الصحابة يحقرون أنفسهم عندهم وتعلموا العلم من الصحابة فلم تنفعهم لا إله إلا الله ولا كثرة العبادة ولا ادعاء الإسلام لما ظهر منهم مخالفة الشريعة وكذلك ما ذكرناه من قتال اليهود وقتال الصحابة بني حنيفة وكذلك أراد النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يغزو بني المصطلق لما أخبره رجلٌ أنهم منعوا الزكاة حتى نزل قول الله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } (1) وكان الرجل كاذبًا عليهم فكل هذا يدل على أن مراد النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث التي احتجوا بها ما ذكرناه.
__________
(1) الحجرات، آية: 6(1/207)
ولهم شبهة أخرى وهي ما ذكر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن الناس يوم القيامة يستغيثون بآدم ثم بنوح ثم بإبراهيم ثم بموسى ثم بعيسى صلوات الله وسلامه عليهم فكلهم يعتذر حتى ينتهوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: فهذا يدل على أن الاستغاثة بغير الله ليست شركًا. فالجواب: أن نقول سبحان من طبع على قلوب أعدائه فإن الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه لا ننكرها كما قال تعالى في قصة موسى: { فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ } وكما يستغيث الإنسان بأصحابه في الحرب وغيرها من الأشياء يقدر عليها المخلوق ونحن أنكرنا استغاثة العبادة التي يفعلونها عند قبور الأولياء أو في غيبتهم في الأشياء التي لا يقدر عليها إلا الله إذا ثبت ذلك فاستغاثتهم بالأنبياء يوم القيامة يريدون منهم أن يدعوا الله أن يحاسب الناس حتى يستريح أهل الجنة من كرب الموقف وهذا جائز في الدنيا والآخرة وذلك أن تأتي عند رجل صالح حي يجالسك ويسمع كلامك وتقول له ادع الله لي كما كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألونه ذلك في حياته أما بعد موته فحاشا وكلا أنهم سألوا ذلك عند قبره بل قد أنكر السلف على من قصد دعاء الله عند قبره فكيف بدعاءه نفسه.(1/208)
ثم يقول الشيخ: ولنختم الكلام بمسألة عظيمة مهمة جدًا تفهم مما تقدم ولكن نفرد لها الكلام لعظم شأنها ولكثرة الغلط فيها فنقول لا خلاف أن التوحيد لابد أن يكون بالقلب واللسان والعمل فإن أختلَّ شيء من هذا لم يكن الرجل مسلمًا فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند ككفر فرعون وإبليس وأمثالهما وهذا يغلط فيه كثير من الناس يقولون إن هذا حق ونحن نفهم هذا ونشهد أنه حق لكن لا نقدر أن نفعله ولا يجوز عند أهل بلدنا إلا من وافقهم وغير ذلك من الأعذار ولم يدر المسكين أن غالب أئمة الكفر يعرفون الحق ولم يتركوه إلا لشيء من الأعذار كما قال الله تعالى: { اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً } (1) إلى غير ذلك من الآيات كقوله - عز وجل -: { يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } (2). فإن عمل بالتوحيد عملاً ظاهرًا وهو لا يفهمه ولا يعتقده بقلبه فهو منافق وهو شرٌّ من الكافر الخالص { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنْ النَّارِ } (3) وهذه المسألة مسألة طويلة يتبين لك إذا تبينتها في ألسنة الناس تري من يعرف الحق ويترك العمل به لخوف نقص دنيا أو جاه أو مداراة لأحد وترى من يعمل به ظاهرًا لا باطنًا فإذا سألته عما يعتقد بقلبه فإذا هو لا يعرفه ولكن عليك بفهم آيتين من كتاب الله أولهما { لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } (4) فإذا تحققت أن بعض الصحابة الذين غزوا الروم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفروا بسبب كلمة قالوها على وجه اللعب والمزح تبين لك أن الذي يتكلم بالكفر ويعمل به خوفًا من نقص مال أو جاه أو مداراة لأحد أعظم ممن يتكلم بكلمة يمزح بها.
__________
(1) التوبة، آية: 9.
(2) البقرة، آية: 146.
(3) النساء، آية: 145.
(4) التوبة، آية: 66.(1/209)
الآية الثانية قوله تعالى: { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ - ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ } (1) الآية. فلم يعذر الله من هؤلاء إلا من أكره مع كون قلبه مطمئنًا بالإيمان وأما غير هذا فقد كفر بعد إيمانه سواء فعله خوفًا أو مداراة أو مشحة بوطنه أو أهله أو عشيرته أو ماله أو فعله على وجه المزح أو لغير ذلك من الأغراض إلا المكره والآية تدل على هذا من وجهين:
الأول: قوله تعالى: { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ } فلم يستثني الله إلا المكره ومعلوم أن الإنسان لا يكره إلا على الكلام أو الفعل وأما عقيدة القلب فلا يكره عليها أحد.
والثاني: قوله تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ } فصرح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد أو الجهل أو البغض للدين أو محبة الكفر وإنما سببه أن له في ذلك حظًا من حظوظ الدنيا فآثره على الدين والله سبحانه وتعالى أعلم وأعزّ وأكرم وصلي الله على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -». أهـ.
ونخلص من هذا:
أن الرجل لا يكون مسلمًا إلا بالتوحيد.
التوحيد يكون بالقلب واللسان والعمل فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلمًا.
التوحيد لا يتحقق إلا بترك الشرك أي أن التوحيد إتيان وترك، إثبات ونفي، قول وعمل، ظاهر وباطن، جملة وتفصيلات.
__________
(1) النحل، الآيتان: 106-107.(1/210)
التوحيد لا يتحقق مع الوقوع في مفردات الشرك والكفر ولا يكفي فيه مجرد الالتزام عن الفعل والترك ولا يغني فيه الإجمال عن التفصيل ولا الإقرار والبراءة عن الفعل والترك أمَّا ما يقال عن البراءة الإجمالية والإقرار الإجمالى وعقد الإسلام فليس له صورة تتمثل من خلاله إلا التلفظ والانتساب وادعاء الإسلام والتبرؤ من الشرك وهذا كله لا يعتبر شيئًا ولا ينفع صاحبه بشيء مع الوقوع في مفردات الشرك كما وضح بجلاء من هذا النقل فالمشرك مشرك ما دام أتي بحقيقة الشرك ولا فرق في ذلك بين بدء واستمرار، فالمسلم لا يكون مسلمًا في الحقيقة ونفس الأمر إلا بترك الشرك فالنفي سابق على الإثبات سبقًا معنويًا وإلا فهما متلازمان { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } (1) ولا يكفي في ذلك براءة إجمالية بل لابد من ترك الشرك جملة وتفصيلاً لا فرق في ذلك بين بدء واستمرار ومن مات يشرك بالله شيئًا دخل النار ولم يخرج منها ومن مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة خالدًا فيها في أي وقت كان موته لا فرق بين بدء واستمرار هذا هو معنى قوله تعالى: { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (2) أي أن يحافظ المسلم على توحيده في كل لحظة فإنه لا يدري متي يموت والمسلم لا يكون مسلمًا إلا بترك الشرك جملة وتفصيلاً تركه كله حتى يكون دينه كله لله وإلا كان مشركًا إذا كان بعض دينه لله وبعضه لغير الله لا يصلح أن يترك بعضه ويقع في بعضه في البدء ثم التخلص منه شيئًا فشيئًا في الاستمرار حتى يأتي وقت يتركه كله فإنه يبقى مشركًا غير مسلم طالما هو يشرك بالله شيئًا ولو مات على ذلك مات غير مسلم ولم يحدث أبدًا أن أقر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو أحد الصحابة الناس على أن يلتزموا فقط بترك الشرك ويتركوا منه
__________
(1) البقرة، آية: 256.
(2) آل عمران، آية: 102.(1/211)
ما يقدرون عليه ثم يتركونه بعد ذلك شيئًا فشيئًا تباعًا عبادة بعد عبادة ونوعًا بعد نوع فهذا فضلاً على أنه لم يقع فإنه لا ينضبط أبدًا إلا بإقرار مفردات الشرك كمفردات المعاصي مع الالتزام العام بتركها وهو تسوية للتوحيد بالطاعات وللشرك بالمعاصي بلا فرق ومعناه جحد الشرك أو وضعه في معنى التلفظ والانتساب لإثبات لفظه ونفي معناه. ومعناه إقرار أن المسلم يسلم بغير التوحيد ولا يكفر بالشرك وهو تكذيب لصريح القرآن ولا حول ولا قوة إلا بالله.
2- ويقول شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب(1) بعد أن يذكر الشيخ تكفير المعين لوقوعه في شرك العبادة أو وقوعه في مفردات الشرك والكفر عمومًا يقول: «وتمام الكلام هنا في مسئلتين، الأولي: أن يقال هذا الذي يفعله كثير من العوام عند قبور الصالحين ومع كثير من الأحياء والأموات والجن من التوجه إليهم ودعائهم لكشف الضرّ والنذر لهم لأجل ذلك هل هو الشرك الأكبر الذي فعله قوم نوح ومن بعدهم إلى أن انتهي الأمر إلى قوم خاتم الرسل قريش وغيرهم فبعث الله الرسل وأنزل الكتب ينكر عليهم ذلك ويكفرهم ويأمر بقتالهم حتى يكون الدين كله لله ؟ أم هذا شرك أصغر وشرك المتقدمين غير هذا؟
__________
(1) مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد، من كتاب عقيدة الموحدين، ص 67 وما بعدها.(1/212)
فاعلم أن الكلام في هذه المسألة سهلٌ على مَنْ يسَّرَهُ الله عليه بسبب أن علماء المشركين يقرون بأنه الشرك الأكبر ولا ينكرونه إلا ما كان من مسيلمة الكذاب وأصحابه كابن إسماعيل وابن خالد مع تناقضهم في ذلك واضطرابهم فأكثر أحوالهم يقرون أنه الشرك الأكبر ولكن يعتذرون بأن أهله لم تبلغهم الدعوة وتارة يقولون لا يكفر إلا من كان في زمن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وتارة يقولون أنه شرك أصغر وينسبونه لابن القيم في المدارج كما تقدم وتارة لا يذكرون شيئًا من ذلك بل يعظمون أهله وطريقتهم في الجملة وأنهم خير أمة أخرجت للناس وأنهم العلماء الذين يجب رد الأمر إليهم عند التنازع وغير ذلك من الأقاويل المضطربة وجواب هؤلاء كثير في الكتاب والسنة والإجماع وما يجاوبون به أصرح إقرارهم في غالب الأوقات أن هذا هو الشرك الأكبر وأيضًا إقرار غيرهم من علماء الأقطار مع أن أكثرهم قد دخل في الشرك وجاهد أهل التوحيد ولكن لم يجدوا بدًا من الإقرار به لوضوحه.
المسألة الثانية: الإقرار بأن هذا هو الشرك الأكبر ولكن لا يكفر به إلا من أنكر الإسلام جملة وكذَّب الرسولَ والقرآن واتبع يهودية أو نصرانية أو غيرهما.
وهذا هو الذي يجادل به أهل الشرك والعناد في هذه الأوقات وإلا المسألة الأولي قلَّ فيها الجدال ولله الحمد لما وقع من إقرار علماء المشركين بها فاعلم أن تصور هذه المسألة تصورًا حسنًا يكفي في إبطالها من غير دليل خاص لوجهين:(1/213)
الوجه الأول: أن مقتضى قولهم أن الشرك بالله وعبادة الأصنام لا تأثير لها في التكفير لأن الإنسان إن انتقل عن الملة إلى غيرها وكذَّب الرسول والقرآن فهو كافر وإن لم يعبد الأوثان كاليهود فإذا كان من انتسب إلى الإسلام لا يكفر إذا أشرك الشرك الأكبر لأنه مسلم بقوله لا إله إلا الله ويصلي ويفعل كذا وكذا لم يكن للشرك وعبادة الأوثان تأثير بل يكون ذلك كالسواد في الخلقة أو العمي أو العرج فإن كان صاحبها يدَّعي الإسلام فهو مسلم وإن ادعى ملة غيرها فهو كافر وهذه فضيحة عظيمة كافية في رد هذا القول الفظيع.(1/214)
الوجه الثاني: أن معصية الرسول في الشرك وعبادة الأوثان بعد بلوغ العلم كفر صريح بالفطر والعقول والعلوم الضرورية فلا يتصور أنك تقول لرجل ولو هو من أجهل الناس وأبلدهم ما تقول فيمن عصى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم ينقد له في ترك عبادة الأوثان والشرك مع أنه يدعي أنه مسلم إلا ويبادر بالفطرة الضرورية إلى القول بأن هذا كافر من غير نظر في الأدلة أو سؤال أحد من العلماء ولكن لغلبة الجهل وغرابة العلم وكثرة من يتكلم في هذه المسألة من الملحدين اشتبه الأمر فيها على بعض العوام من المسلمين الذين يحبون الحق فلا تحقرها وامعن النظر في الأدلة التفصيلية لعل الله أن يمن عليك بالإيمان الثابت ويجعلك من الأئمة الذين يهدون بأمره فمن أحسن ما يزيل الإشكال فيها ويزيد المؤمن يقينًا ما جرى من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والعلماء بعدهم فيمن انتسب إلى الإسلام كما ذكر أنه - صلى الله عليه وسلم - بعث البراء ومعه الراية إلى رجل تزوج امرأة أبيه يقتله ويأخذ ماله. ومثل همه بغزو بني المصطلق لما قيل أنهم منعوا الزكاة ومثل قتال الصديق وأصحابه لمانعي الزكاة وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم وتسميتهم مرتدين ومثل إجماع الصحابة في زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على تكفير قدامة بن مظعون وأصحابه إن لم يتوبوا لما فهموا من قوله تعالى: { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا } (1) حلِّ الخمر لبعض الخواص ومثل إجماع الصحابة في زمن عثمان في تكفير أهل المسجد الذين ذكروا كلمة في نبوة مسيلمة مع أنهم لم يتبعوه وإنما اختلف الصحابة في قبول توبتهم ومثل تحريق على - رضي الله عنه - أصحابه لما غلوا فيه ومثل إجماع التابعين مع بعض الصحابة على كفر المختار بن أبي عبيد ومن اتبعه مع أنه يدعي أنه يطلب بدم الحسين وأهل البيت ومثل إجماع
__________
(1) المائدة، آية: 93.(1/215)
التابعين ومن بعدهم على قتل الجعد بن درهم وهو مشهور بالعلم والدين وهلم جرا من وقائع لا تعد ولا تحصى، ولم يقل أحد من الأولين والآخرين لأبي بكر الصديق وغيره كيف تقاتل بني حنيفة وهم يقولون لا إله إلا الله ويصلون ويزكون وكذلك لم يستشكل أحد في تكفير قدامة وأصحابه لو لم يتوبوا وهلم جرا إلى زمن بني عبيد القداح الذين ملكوا المغرب ومصر والشام، وغيرها مع تظاهرهم بالإسلام وصلاة الجمعة والجماعة ونصب القضاة والمفتين لما أظهروا من الأقوال والأفعال ما أظهروا لم يستشكل أحد من أهل العلم والدين قتالهم ولم يتوقفوا فيه وهم في زمن ابن الجوزى والموفق ابن قدامة وصنَّف ابن الجوزى كتابًا لما أخذت مصر منهم سماه ”النصر على فتح مصر“ ولم يسمع أحد من الأولين والآخرين أن أحدًا أنكر شيئًا من ذلك أو استشكل لأجل ادعائهم الملة أو لأجل قول لا إله إلا الله أو لأجل إظهار شيء من أركان الإسلام إلا ما سمعناه من هؤلاء الملاعين في هذه الأزمان مع إقرارهم أن هذا هو الشرك الأكبر ولكن من فعله أو حسَّنه أو كان مع أهله أو ذمّ التوحيد أو حارب أهله لأجله وأبغضهم لأجله أنه لا يكفر لأنه يقول لا إله إلا الله أو لأنه يؤدي أركان الإسلام الخمسة ويستدلون بأن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - سماها الإسلام؟ هذا لم يسمع قط إلا من هولاء الملحدين الجاهلين الظالمين فإن ظفروا بحرف واحد من أهل العلم أو أحد منهم يستدلون به على قولهم الفاحش الأحمق فليذكروه لكن الأمر كما قال اليمني في قصيدته:
أقاويل لا تعزي إلى عالم فلا ... تساوي فلسًا إن رجعت إلى نقد.
انتهى كلام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب.
تعليق:(1/216)
هذا هو أصل القول أن مفردات الشرك الأكبر لا يكفر مرتكبها إذا كان معه التلفظ أو الانتساب أو البراءة الإجمالية أو الإقرار الإجمالى أو عقد الإسلام، من هنا نعرف من أين جاء هذا القول اللعين وأن الإنسان لا يكفر بمفردات الشرك الأكبر لذاتها وإنما لدلالتها على نقض هذه الأمور التي تعطي حصانة من الخروج من الملة برغم الوقوع في مفردات الشرك والكفر الأكبرين.
3- وفي كتاب ”مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد“ وكتاب ”الكلمات النافعة في المكفرات الواقعة“ للشيخ محمد بن عبد الوهاب وابنه الشيخ عبد الله يقدمان نقولاً عن شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره تفيد أن التلفظ أو الانتساب أو البراءة الإجمالية أو الإقرار الإجمالي أو أداء الكثير من فرائض الإسلام لا تعطي حصانة من الخروج من الملة إذا وقع الإنسان في أحد مفردات الشرك أو الكفر الأكبر ومن هذه النقول.
جاء في الكتابين:(1/217)
(أ) وقال الشيخ تقي الدين في ”الرسالة السنية“ لما ذكر حديث الخوارج ومروقهم عن الدين وأمره - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم قال(1): «فإذا كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه ممن انتسب للإسلام مَنْ مرق منه مع عبادته العظيمة حتى أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم فيعلم أن المنتسب للإسلام والسنة قد يمرق أيضًا من الإسلام في هذا الزمان، بأسباب منها الغلو الذي ذمه الله تعالى في كتابه حيث قال: { قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ } (2) وعلىٌّ ابن أبي طالب حرَّق الغالين من الرافضة فأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كندة فقذفهم فيها واتفق الصحابة على قتلهم لكن ابن عباس كان مذهبه أن يقتلوا بالسيف بلا تحريق وهو قول أكثر العلماء وقصتهم معروفة عند العلماء وكذلك الغلو في بعض المشايخ. بل الغلو في على بن أبي طالب بل الغلو في المسيح ونحوه فكل من غلا في نبيٍّ أو رجل صالح وجعل فيه نوعًا من الإلهية مثل أن يقول يا سيدي فلان انصرني أو أغثني أو ارزقني أو اجبرني أو أنا في حسبك ونحو هذه الأقوال فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل فإن الله سبحانه إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده لا شريك له لا يجعل معه إله آخر والذين يجعلون مع الله آلهة أخري مثل المسيح والملائكة والأصنام لم يكونوا معتقدين أنها تخلق الخلائق أو تنزل المطر أو تنبت النبات وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم أو صورهم ويقولون: { مَا نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } (3)، ويقولون: { هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } (4). فبعث الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - ينهي أن يدعي أحدٌ من دونه لا دعاء عبادة ولا دعاء
__________
(1) مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد من كتاب عقيدة الموحدين، ص 55.
(2) المائدة، آية: 77.
(3) الزمر، آية: 3 .
(4) يونس، آية: 18.(1/218)
استغاثة قال تعالى: { قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً } (1) الآية. قالت طائفة من السلف كان أقوام يدعون المسيح والملائكة وعزيرًا ثم ذكر رحمه الله تعالى آيات ثم قال: وعبادة الله وحده لا شريك له هى أصل الدين وهي التوحيد الذي بعث الله به الرسل ونزلت به الكتب قال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } (2)، وقال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ } (3) وكان - صلى الله عليه وسلم - يحقق التوحيد ويعلمه أمته حتى قال له رجل: ما شاء الله وشئت. قال - عليه السلام -: «أجعلتنى لله ندًا بل ما شاء الله وحده» ونهى عن الحلف بغير الله وقال: «مَنْ حَلفَ بغير الله فقدْ كَفَرَ أو أشَرَكَ» وقال في مرض موته «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذر ما صنعوا وقال: «اللهم لا تجعلْ قبرِي وثنًا يُعبَد»، وقال: «لا تتَّخِذوا قَبرِي عِيدًا ولا بيوتَكُم قبورًا وصَلُّوا على حيثُمَا كنتُم فإنَّ صلاتَكُم تبلغُنِي» ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور ولا الصلاة عندها وذلك لأن من أكبر أسباب عبادة الأوثان هو تعظيم القبور ولهذا اتفق العلماء على أنه من سلم على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عند قبره أنه لا يتمسح بحجرته ولا يقبلها لأنه إنما يكون ذلك لأركان البيت فلا يشبه بيت المخلوق بيت الخالق، كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين ورأسه الذي لا يقبل الله عملاً إلا به ويغفر لصاحبه ولا يغفر لمن تركه قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ
__________
(1) الإسراء، آية: 56.
(2) النحل، آية: 36.
(3) الأنبياء، آية: 25.(1/219)
ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (1) الآية. ولهذا كانت كلمة التوحيد أفضل الكلام وأعظم آية في القرآن آية الكرسي { اللَّهُ لاَ إِلَهَ إلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } (2)، وقال «مَنْ كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة» والإله هو الذي تألهه القلوب عبادة له واستغاثة به ورجاء وخشية وإجلالاً». أهـ.
يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب: فتأمل أول الكلام وآخره وتأمل كلامه فيمن دعا نبيًا أو وليًا مثل أن يقول سيدي فلان أغثني ونحوه أنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل هل يكون هذا إلا في المعين.
(ب) وجاء في الكتابين أيضًا(3):
«وقال أبو العباس في كتاب ”اقتضاء الصراط المستقيم“ في الكلام على قوله تعالى: { وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } (4) ظاهره أن ما ذُبِحَ لغير الله سواء لفظ به أو لم يلفظ حرام، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبح للحم وقال فيه باسم المسيح ونحوه، كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله أزكي مما ذبحناه للحم وقلنا عليه باسم الله، فإن عبادة الله بالصلاة والنسك له أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور، والعبادة لغير الله أعظم كفرًا من الاستعانة بغير الله. فلو ذبح لغير الله متقربًا إليه لحرم وإن قال فيه باسم الله كما قد يفعله طائفة من منافقى هذه الأمة وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبائحهم بحال لكن يجتمع في الذبيحة مانعان ومن هذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح للجنِّ». أهـ.
وهذا الذي ينسب إليه أعداء الدين أنه لا يكفر المعين فانظر أرشدك الله إلى تكفيره من ذبح لغير الله من هذه الأمة وتصريحه أن المنافق يصير مرتدًا بذلك وهذا في المعين إذ لا يتصور أن تحرم إلا ذبيحة معين. انتهى كلام الشيخ محمد عبد الوهاب.
__________
(1) النساء، آية: 48، 116.
(2) البقرة، آية: 255.
(3) مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد من كتاب عقيدة الموحدين، ص 63.
(4) المائدة، آية: 3.(1/220)
(ج) وجاء في الكتابين أيضًا(1):
«وقال أبو العباس أيضًا في الكلام على كفر مانعي الزكاة: والصحابة لم يقولوا هل أنت مقر بوجوبها أو جاحد لها؟ هذا لم يعهد عن الخلفاء والصحابة بل قال الصديق لعمر - رضي الله عنه -: والله لو منعوني عقالاً ـ أو عناقًا ـ كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعه فجعل المبيح للقتال مجرد المنع لا جحد الوجوب. وقد روى أن طوائف منهم كانوا يقرون بالوجوب لكن بخلوا بها ومع هذا فسيرة الخلفاء مع جميعهم سيرة واحدة وهي قتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم والشهادة على قتلاهم بالنار وسموهم جميعًا أهل الردة وكان من أعظم فضائل الصديق عندهم أن ثبته الله على قتالهم ولم يتوقف كما توقف غيره فناظرهم حتى رجعوا إلى قوله وأما قتال المقرين بنبوة مسيلمة فهؤلاء لم يقع بينهم نزاع في قتالهم. وهذه حجة من يقول إن قاتلوا الإمام عليها كفروا وإلا فلا فإن كفر هؤلاء وإدخالهم في أهل الردة قد ثبت باتفاق الصحابة المستند إلى نصوص الكتاب والسنة بخلاف مَنْ لم يقاتل الإمام عليها فإن في الصحيح عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قيل له منع بن جميل. فقال: «ما ينقم بن جميل إلا أن كان فقيرًا فأغناه الله». فلم يأمره بقتاله ولا حكم بكفره.
وفي السنَّة من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - «ومن منعها فإنَّا آخذوها وشطر إبله» الحديث. انتهى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية.
يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب فهذا الذي ينسب إليه أعداء الدين عدم تكفير المعين قال رحمه الله بعد ذلك: «وكفر هؤلاء وإدخالهم في أهل الردة قد ثبت باتفاق الصحابة المستند إلى نصوص الكتاب والسنَّة». أهـ.
__________
(1) مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد من كتاب عقيدة الموحدين، ص 63(1/221)
ويقول الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية: فتأمل كلامه وتصريحه بأن الطائفة الممتنعة عن أداء الزكاة إلى الإمام أنهم يقاتلون ويحكم عليهم بالكفر والردة عن الإسلام وتسبي ذراريهم وتغنم أموالهم وإن أقروا بوجوب الزكاة وصلوا الصلوات الخمس وقبلوا جميع شرائع الإسلام غير أداء الزكاة وأن ذلك ليس بمسقط للقتال لهم والحكم عليهم بالكفر والردة وإن ذلك قد ثبت بالكتاب والسنة واتفاق الصحابة رضى الله عنهم». أهـ.
(د) وجاء في الكتابين أيضًا(1):
«وقال الإمام أبو الوفا بن عقيل: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم وهم عندي كفار بهذه الأوضاع مثل تعظيم القبور وخطاب الموتي بالحوائج وكتب الرقاع فيها يا مولاي افعل لي كذا وكذا وإلقاء الخرقة على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى». انتهى.
يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب تعليقًا: «والمراد منه قوله: ”وهم عندي كفار بهذه الأوضاع“». أهـ.
ويقول الشيخ عبد الله: «فتأمل قوله: ”وهم عندي كفار بهذه الأوضاع“ وتشبيهه إياهم بمن عبد اللات والعزى».
__________
(1) مفيد المستفيد ، ص 64.(1/222)
(هـ) وينقل أيضًا الشيخان عن شيخ الإسلام ابن تيمية ما جاء في كتاب ”اقتضاء الصراط المستقيم“ ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية: «وكانت الطواغيت التي تشد إليها الرحال ثلاثة ”اللات والعزى ومناة“ وكل واحد منها لمصر من أمصار العرب. إلى قوله: فأنكر - صلى الله عليه وسلم - مجرد مشابهتهم للكفار في اتخاذ شجرة يعكفون عليها معلقين سلاحهم فكيف بما هو أطم من ذلك من الشرك بعينه. إلى أن قال: فمن ذلك أمكنة بدمشق مثل مسجد يقال له مسجد الكف يقال أنه كف على بن أبي طالب - رضي الله عنه - حتى هدم الله ذلك الوثن وهذه الأمكنة كثيرة موجودة في البلاد وفي الحجاز منها مواضع». انتهى كلام شيخ الإسلام بن تيمية.
يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب: «وتأمل أيضًا ما ذكره في اللات والعزى ومناة وجعله فعل المشركين معها هو بعينه الذي يفعل بدمشق وغيرها».
ويقول الشيخ عبد الله: «فتأمل رحمك الله كلام هذا الإمام في اللات والعزي ومناة وجعله بعينه هذا الذي يفعل بدمشق وغيرها من البلاد من ذلك».
(و) وينقل الشيخان أيضًا كلام الإمام ابن القيم في ”شرح كتاب المنازل“ من الشركين الأكبر والأصغر مما يبين أن مرتكب الشرك الأكبر يكفر به ويخرج به من الملة كشأن الكفار الأصليين بلا فرق بين من كان مسلمًا فارتد بذلك وبين من يمارس ذلك وهو على أصل الكفر.
ويقول الشيخ عبد الله تعليقًا على ذلك: «فتأمل رحمك الله هذا الكلام وما فيه من التصريح بأن هذا الذي يفعل عند المشاهد والقباب التي على القبور في كثير من البلدان أنه هو الشرك الأكبر الذي فعله المشركون وأن كثيرًا منها غير اللات والعزى ومناة بل أعظم شركًا من شرك أهل اللات والعزي ومناة وتصريحه بأنهم فعلوا فعل المشركين واتبعوا سبيلهم حذو القذة بالقذة وغلب الشرك على أكثر النفوس لظهور الجهل وخفاء العلم». أهـ.(1/223)
ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب(1): «فهل بعد هذا البيان بيان إلا العناد بل الإلحاد ولكن تأمل قوله أرشدك الله ”وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من عادي المشركين“. وتأمل أن الإسلام لا يصلح إلا بمعاداة أهل الشرك الأكبر وإن لم يعاديهم فهو منهم وإن لم يفعله».
انتهى كلام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب.
ثم يذكر كلام الشيخ وابنه بعض أقوال المذاهب فيمن كفر بعد إسلامه نشير لبعض منها:
4- يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نفس الكتاب(2):
(أ) وقال ابن القيم في ”إغاثة اللهفان“ في إنكار تعظيم القبور: «وقد آل الأمر بهؤلاء المشركين أن صنَّف بعض غلاتهم في ذلك كتابًا سماه ”مناسك المشاهد“ ولا يخفى أن هذا مفارق لدين الإسلام ودخول في دين عبادة الأصنام». انتهى.
... وهذا الذي ذكره ابن القيم رجل من المعينين يقال له بن المفيد فقد رأيت ما فيه بعينه فكيف تنكر تكفير المعين؟
(ب) وأما كلام سائر أتباع الأئمة في التكفير فنذكر منه قليلاً من كثير:
أما كلام الحنفية فكلامهم هذا من أغلظ الكلام حتى أنهم يكفرون المعين إذا قال مصيحف أو مسيجد أو صلى صلاة بلا وضوء ونحو ذلك وقال في ”النهر الفائق“: وعلم أن الشيخ قاسمًا قال في ”شرح درر البحار“: «إن النذر الذي يقع من أكثر العوام بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء قائلاً يا سيدي فلان إن رُدَّ غائبى أو عوفي مريضي فلك من الذهب أو الفضة أو الشمع أو الزيت كذا باطل إجماعًا لوجوه. إلى أن قال: ظنَّ أن الميت يتصرف في الأمر واعتقاد هذا كفر. إلى أن قال: وقد ابتلي الناس بذلك ولاسيما في مولد الشيخ أحمد البدوي». أنتهي كلامه.
فانظر إلى تصريحه إن هذا كفر مع قوله أنه يقع من أكثر العوام وأن أهل العلم قد ابتلوا بما لا قدرة لهم على إزالته.
__________
(1) مفيد المستفيد، ص 61.
(2) المصدر السابق، ص 66.(1/224)
وقال القرطبي رحمه الله لما ذكر سماع النقر أو صوته قال: هذا حرام بالإجماع، وقد رأيت فتوى شيخ الإسلام جمال الملة أن مستحل هذا كافر ولما علم أن حرمته بالإجماع لزم أن يكفر مستحله فقد رأيت كلام القرطبي وكلام الشيخ الذي نقل عنه في كفر من استحل السماع والرقص مع كونه دون ما نحن فيه بالإجماع بكثير.
وأما كلام المالكية في هذا فهو أكثر من أن يحصر وقد اشتهر عن فقهائهم سرعة الفتوى والقضاء بقتل الرجل عند الكلمة التي لا يفطن لها أكثر الناس وقد ذكر القاضي عياض في آخر ”كتاب الشفاء“ من ذلك طرفًا ومما ذكر أن من حلف بغير الله على وجه التعظيم كفر وكل هذا دون ما نحن فيه بما لا نسبة بينه وبينه.
وأما كلام الشافعية فقال ”صاحب الروضة“ رحمه الله: «أن المسلم في الكلام إذا ذبح للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - كفر، وقال أيضًا: ومن شك في كفر طائفة ابن عربي فهو كافر وكل هذا دون ما نحن فيه. وقال: ابن حجر في ”شرح الأربعين“ على حديث بن عباس «إذا سألت فاسأل الله» ما معناه أن من دعا غير الله فهو كافر وصنَّف في هذا النوع كتابًا مستقلاً سمَّاه ”الإعلام بقواطع الإسلام“ وذكر فيه أنواعًا كثيرة في الأقوال والأفعال كل واحد منها ذكر أنه يُخرج من الإسلام ويكفر به المعين وغالبه لا يساوي عشير معشار ما نحن فيه». أهـ.(1/225)
ويقول الشيخ في ختام كتابه نقلاً عن شيخ الإسلام ابن تيمية وتعليقًا عليه: «ومن جواب له رحمه الله لما سئل عن الحشيشة: أكل هذه الحشيشة حرام وهي أخبث الخبائث المحرمة سواء أكل منها كثيرًا أو قليلاً لكن الكثير المسكر منها حرام باتفاق المسلمين ومن استحل ذلك فهو كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافرًا مرتدًا لا يُغسَّل ولا يُصلي عليه ولا يدفن بين المسلمين، وحكم المرتد شر من حكم اليهود والنصارى سواء اعتقد أن ذلك يحل للعامة أو للخاصة الذين يزعمون أنها لقمة الفكر والذكر وأنها تحرك العزم الساكن وتنفع في الطريق وقد كان بعض السلف ظن أن الخمر يباح للخاصة متأولاً قوله تعالى: { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } (1) فاتفق عمر وعلى وغيرهما من علماء الصحابة على أنهم إن أقروا بالتحريم جلدوا وإن أصرُّوا على الاستحلال قتلوا». أهـ.
... ما نقلته من كلام الشيخ رحمه الله يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب معلقًا: «فتأمل كلام هذا الذي ينسب عنه عدم تكفير المعين إذا جاهر بسبِّ دين الأنبياء وصار مع أهل الشرك ويزعم أنهم على الحق ويأمر بالمصير معهم وينكر على من لا يسب التوحيد ويدخل مع المشركين لأجل انتسابه للإسلام، انظر كيف كفر المعين ولو كان عابدًا باستحلال الحشيشة ولو زعم حلها للخاصة الذين تعينهم على الفكرة واستدل بإجماع الصحابة على تكفير قدامة وأصحابه إن لم يتوبوا وكلامه في المعين وكلام الصحابة في المعين فكيف بما نحن فيه مما لا يساوي استحلال الحشيشة جزءًا من ألف جزء منه».
5- ويقول الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في كتاب ”الكلمات النافعة في المكفرات الواقعة“(2):
__________
(1) المائدة، آية: 93.
(2) كتاب عقيدة الموحدين، ص 222.(1/226)
«أما بعد فهذه فصول وكلمات نقلتها من كلام العلماء المجتهدين من أصحاب الأئمة الأربعة الذين هم أئمة أهل السنة والدين في بيان بعض الأفعال والأقوال المكفرة للمسلم المخرجة له من الدين وإن تلفَّظه بالشهادتين وانتسابه إلى الإسلام وعمله ببعض شرائع الدين لا يمنع من تكفيره وقتله وإلحاقه بالمرتدين والسبب الحامل على ذلك أن بعض من ينتسب إلى العلم والفقه من أهل هذا الزمان غلط في ذلك غلطًا فاحشًا قبيحًا، وأنكر على من أفتى به من أهل العلم والدين إنكارًا شنيعًا ولم يكن لهم بذلك من مستند صحيح لا من كلام الله ولا من كلام رسوله ولا من كلام أئمة العلم والدين.
إلى أن قال: واعلم أن هذه المسائل من أهم ما ينبغي للمؤمن الاعتناء به لئلا يقع في شيء منها وهو لا يشعر وليتبين له الإسلام والكفر حتى يتبين له الخطأ من الصواب ويكون على بصيرة من دين الله ولا يغتر بأهل الجهل والارتياب. إلى أن يقول: وقد اعتني العلماء رضى الله عنهم بذلك في كتبهم وبوَّبوا لذلك في كتب الفقه في كل مذهب من المذاهب الأربعة وهو ”باب حكم المرتد“ وهو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه وذكروا أنواعًا كثيرة كل نوع منها يكفر به المسلم ويبيح دمه وماله. إلى أن يقول: ونبدأ بكلامهم في الشرك الأكبر وتكفيرهم لأهله حين وقع في زمانهم من بعض المنتسبين إلى الإسلام والسنة».
(أ) أما كلام الشافعية:(1/227)
فقال ابن حجر رحمه الله في كتاب ”الزواجر عن اقتراف الكبائر“: الكبيرة الأولي: الكفر أو الشرك أعاذنا الله منه، ولما كان الكفر أعظم الذنوب كان أحق أن يبسط الكلام عليه وعلى أحكامه قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (1)، وقال تعالى: { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } (2)، وقال تعالى: { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ } (3)، وفي الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئًا فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور. فمازال يكررها حتي قلنا ليته سكت» ثم ذكر أحاديث كثيرة، ثم قال: ”تنبيهات“ منها بيان الشرك وذكر جملة من أنواعه لكثرة وقوعها في الناس وعلى ألسنة العامة من غير أن يعلموا أنها كذلك فإذا بانت لهم فلعلهم أن يجتنبوها لئلا تحبط أعمال مرتكبي ذلك ويخلدوا في أعظم العذاب وأشد العقاب، ومعرفة ذلك أمر مهم جدًا فإن من ارتكب مكفرًا تحبط جميع أعماله ويجب عليه قضاء الواجب منها عند جماعة من الأئمة منهم أبي حنيفة ومع ذلك فقد توسع أصحابه في المكفرات وعدُّوا منها جملاً مستكثرة جدًا وبالغوا في ذلك أكثر من بقية أئمة المذاهب هذا مع قولهم أن الردة تحبط جميع الأعمال وبأن من ارتد بانت منه زوجته وحرمت عليه فمع هذا التشديد بالغوا في الاتساع في المكفرات فتعين على كل ذي مسكة في دينه أن يعرف ما قالوه حتى يجتنبه ولا يقع فيه فيحبط عمله ويلزمه قضاءه وتبين منه زوجته عند هؤلاء الأئمة ثم ذكر أنواع الكفر نوعًا نوعًا.
__________
(1) النساء، آية: 48.
(2) لقمان، آية: 13.
(3) المائدة، آية: 72.(1/228)
وقال النووي في ”شرح مسلم“: وأما الذبح لغير الله فالمراد به أن يذبح باسم غير الله كمن ذبح للصنم أو الصليب أو لموسى أو لعيسى أو للكعبة ونحو ذلك وكل هذا حرام ولا تحل هذه الذبيحة سواء كان الذابح مسلمًا أو نصرانيًا أو يهوديًا نص عليه الشافعي واتفق عليه أصحابنا فإن قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له غير الله والعبادة له كان ذلك كفرًا فإن كان الذابح قبل ذلك مسلمًا صار بالذبح مرتدًا.
(ب) وأما كلام الحنفية:
فقال في كتاب ”تبيين المحارم المذكورة في القرآن“، ”باب الكفر“ وهو الستر وجحود الحق وإنكاره وهو أول ما ذكر في القرآن العظيم من المعاصي قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ... } (1) الآية. وهو أكبر الكبائر على الإطلاق فلا كبيرة فوق الكفر.
__________
(1) البقرة، آية: 6 .(1/229)
إلى أن قال: واعلم أن ما يلزم به الكفر أنواع نوع متعلق بالله سبحانه وتعالى ونوع يتعلق بالقرآن وسائر الكتب المنزلة ونوع يتعلق بنبينا - صلى الله عليه وسلم - وسائر الأنبياء والملائكة ونوع يتعلق بالأحكام. فأما ما يتعلق بالله سبحانه وتعالى إذا وصف الله سبحانه وتعالى بما لا يليق بأن شبه الله سبحانه وتعالى بشيء من المخلوقات أو نفي صفاته أو قال بالحلول والاتحاد أو معه قديم غيره أو معه مدبر مستقل غيره أو اعتقد أنه سبحانه جسم أو محدث أو غير حي أو اعتقد أنه لا يعلم الجزئيات أو سخر باسم من أسمائه أو أمر من أوامره أو وعيده أو وعده، أو أنكرها أو سجد لغير الله تعالى أو سبَّ الله سبحانه أو ادعى أن له ولدًا وصاحبة أو أنه متولد بشيء كائن عنه أو أشرك بعبادته شيئًا من خلقه أو افترى على الله سبحانه وتعالى الكذب بادعاء الإلهية والرسالة أو نفي أن يكون خالقه ربه وقال: ”ليس لي ربًّا“ أو قال لذرة من الذرات هذه خلقت عبثًا وهملاً وما أشبه ذلك مما لا يليق به { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا } (1) يكفر في هذه الوجوه كلها بالإجماع سواء فعله عمدًا أو هزلاً ويقتل إن أصر على ذلك وإن تاب تاب الله عليه وسلم من القتل. أنتهي كلامه بحروفه.
فتأمل رحمك الله تصريحه بأن من أشرك في عبادة الله غيره أنه يكفر بالإجماع ويقتل إن أصر على ذلك.
__________
(1) الإسراء، آية: 43.(1/230)
(ج) وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله(1) لما سئل عن قتال التتار مع التمسك بالشهادتين ولما زعموا من اتباع أصل الإسلام فقال: «كل طائفة ممتنعة عن التزام شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة من هؤلاء القوم أو غيرهم فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين وملتزمين بعض شرائعه كما قاتل أبو بكر والصحابة رضى الله عنهم مانعي الزكاة وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم مع سابقة مناظرة عمر لأبي بكر رضى الله عنهما فاتفق الصحابة على القتال على حقوق الإسلام عملاً بالكتاب والسنة وكذلك ثبت عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - من عشرة أوجه الحديث عن الخوارج والأمر بقتالهم وأخبر أنهم شر الخلق والخليقة مع قوله «تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم» فعلم أن مجرد الاعتصام بالإسلام مع عدم التزام شرائعه ليس بمسقط للقتال فالقتال واجب حتى يكون الدين كله لله وحتى لا تكون فتنة فمتي كان الدين لغير الله فالقتال واجب وأيما طائفة ممتنعة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات أو الصيام أو الحج أو عن التزام تحريم الدماء أو الأموال أو الخمر والميسر أو الزنا أو نكاح ذوات المحارم أو عن التزام جهاد الكفار أو ضرب الجزية على أهل الكتاب أو غير ذلك من التزام واجبات الدين أو محرماته التي لا عذر لأحد في جحودها أو تركها والتي يكفر الواحد بجحودها فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها وهذا مما لا أعلم فيه خلافًا بين العلماء وإنما اختلف العلماء في الطائفة الممتنعة إذا أصرت على ترك بعض السنن كركعتي الفجر أو الأذان أو الإقامة عند من لا يقول بوجوبها ونحو ذلك من الشعائر فهل تقاتل الطائفة الممتنعة على تركها أم لا فأما الواجبات أو المحرمات المذكورة ونحوها فلا خلاف في القتال عليها وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنزلة البغاة الخارجين على الإمام أو الخارجين عن طاعته
__________
(1) كتاب عقيدة الموحدين، ص 235.(1/231)
كأهل الشام مع أمير المؤمنين علىّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - فإن أولئك خارجون عن طاعة إمام معين أو خارجون عليه لإزالة ولايته، وأما المذكورون فهم خارجون عن الإسلام بمنزلة مانعي الزكاة ومنزلة الخوارج الذين قاتلهم على بن أبي طالب - رضي الله عنه - ولهذا افترقت سيرته - رضي الله عنه - في قتاله أهل البصرة وأهل الشام وفي قتاله لأهل النهروان.
فكانت سيرته مع البصريين والشاميين سيرة الأخ مع أخيه ومع الخوارج بخلاف ذلك وثبتت النصوص عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بما استقر عليه إجماع الصحابة من قتال الصديق - رضي الله عنه - لمانعي الزكاة وقتال علىّ للخوارج». أنتهي كلام شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى.
يقول الشيخ عبد الله: «فتأمل رحمك الله تعالى تصريح هذا الإمام في هذه الفتوى بأن من امتنع عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة كالصلوات الخمس والصيام والزكاة أو الحج أو ترك المحرمات كالزنا أو تحريم الدماء والأموال أو شرب الخمر أو المسكرات أو غير ذلك أنه يجب قتال الطائفة الممتنعة عن ذلك حتى يكون الدين كله لله ويلتزموا جميع شرائع الإسلام وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين وملتزمين بعض شرائع الإسلام وأن ذلك مما اتفق عليه الفقهاء من سائر الطوائف الصحابة فمن بعدهم وأن ذلك عمل بالكتاب والسنة فتبين لك أن مجرد الاعتصام بالإسلام مع عدم التزام شرائعه ليس بمسقط للقتال وأنهم يقاتلون قتال كفر وخروج عن الإسلام كما صرح به في آخر الفتوى بقوله: وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنزلة البغاة الخارجين على الإمام بل هم خارجون عن الإسلام منزلة مانعي الزكاة والله أعلم». أنتهي كلام الشيخ عبد الله.(1/232)
(د) ويقول الشيخ عبد الله نقلاً عن ابن القيم - رضي الله عنه -(1)، وقال في ”الإقناع“ وشرحه ”باب حكم المرتد“: «وهو الذي يكفر بعد إسلامه نطقًا أو اعتقادًا أو شكًا أو فعلاً وهو مميز فتصح ردته كإسلامه لا مكرهًا لقوله تعالى: { إلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ } (2) ولو هازلاً لعموم قوله تعالى: { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ } (3) الآية. وأجمعوا على وجوب قتل المرتد فمن أشرك بالله تعالى كفر بعد إسلامه لقوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (4)، أو جحد ربوبيته أو وحدانيته كفر لأن جاحد ذلك مشرك بالله تعالى أو جحد صفة من صفاته أو اتخذ له صاحبة أو ولدًا كفر، أو ادعي النبوة، أو صدَّق من ادعاها بعد النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كفر لأنه مكذب لقوله تعالى: { وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ } (5)، أو جحد نبيًا أو كتابًا من كتب الله أو شيئًا منه أو جحد الملائكة أو واحدًا ممن ثبت أنه ملك كفر لتكذيبه القرآن أو جحد البعث كفر أو سبَّ الله ورسوله كفر أو استهزأ بالله وكتبه أو رسله كفر لقوله تعالى: { قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ } (6) الآية.
__________
(1) كتاب عقيدة الموحدين، ص 268.
(2) النحل، ية: 106.
(3) البقرة، آية: 217.
(4) النساء، آية: 48.
(5) الأحزاب، آية: 40
(6) التوبة، آيه: 65(1/233)
قال الشيخ: أو كان مبغضًا لرسوله أو لما جاء به كفر اتفاقًا أو جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم كفر إجماعًا لأن ذلك كفعل عابدي الأصنام قائلين { مَا نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } (1) أو أتي بقول أو فعل صريح في الاستهزاء بالدين الذي شرعه الله كفر للآية السابقة أو وجد منه امتهان للقرآن كفر وإن أتي بقول يخرجه عن الإسلام مثل أن يقول يهودي أو نصراني فهو كافر أو سخر بوعد الله أو وعيده فهو كافر لأنه كالاستهزاء بالله أو لم يكفر من دان بغير الإسلام أو شك في كفره. إلى أن قال: ومن قال أنا محتاج إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - في علم الظاهر دون علم الباطن أو قال أن من الأولياء من يسعه الخروج عن شريعته كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى فهو كافر ومن سبَّ الصحابة رضى الله عنهم أو واحدًا منهم واقترن بسبِّه دعوى أن عليًا إله أو أن جبريل غلط فلا شك في كفر هذا بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره وأما من لعن أو قبَّح مطلقًا فهذا محل الخلاف توقف أحمد في تكفيره وقتله». أهـ.
نقل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن الإمام ابن القيم من كتاب ”الإقناع“ والله سبحانه وتعالى أعز وأجل وأحكم وأعلم.
__________
(1) الزمر، آية: 3.(1/234)
6- ويقول أبو بطين رحمه الله(1): «ومن أعظم المصائب إعراض أكثر الناس عن النظر في هذه الكلمة العظيمة حتى صار كثير منهم يقول من قال لا إله إلا الله، ما نقول فيه شيئًا وإن فعل ما فعل لعدم معرفتهم بمعني هذه الكلمة نفيًا وإثباتًا. مع أن قائل ذلك لابد أن يتناقض، فلو قيل له ما تقول فيمن قال لا إله إلا الله ولا يقر برسالة محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ لم يتوقف في تكفيره أو أقر بالشهادتين وأنكر البعث؟ لم يتوقف في تكفيره أو استحل الزنا أو اللواط أو نحوهما أو قال: إن الصلوات الخمس ليست بفرض أو أن صيام رمضان ليس بفرض؟ فلابد أن يقول يكفر من قال ذلك!! فكيف لا تنفعه لا إله إلا الله إذن ولا تحول بينه وبين الكفر!
فإذا ارتكب ما يناقضها: وهو عبادة غير الله وهو الشرك الأكبر الذي هو أكبر الذنوب قيل هو يقول لا إله إلا الله ولا يجوز تكفيره لأنه تكلم بكلمة التوحيد لكن آفةَ الجهل والتقليد أوجبت ذلك». أهـ.
__________
(1) الانتصار لحزب الله الموحدين، ص9.(1/235)
7- ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية (1): «”الوجه الثالث“: إن الجنس المبيح للدم لا فرق بين قليله وكثيره وغليظه وخفيفه في كونه مبيحًا للدم سواء كان قولاً أو فعلاً كالردة والزنا والمحاربة ونحو ذلك وهذا هو قياس الأصول. إلى أن يقول: إذا كانت الأصول المنصوصة أو المجمع عليها مستوية في إباحة الدم بين المرة الواحدة والمرات المتعددة كان الفرق بينهما في إباحة الدم إثبات حكم بلا أصل ولا نظير له بل على خلاف الأصول الكلية وذلك غير جائز ويوضح ذلك أن ما ينقض الإيمان من الأقوال يستوي فيه واحده وكثيره وإن لم يصرح بالكفر كما لو كفر بآية واحدة أو بفريضة ظاهرة أو بسبِّ الرسول مرة واحدة وكذلك ما ينقض الإيمان من الأقوال لو صرح به وقال قد نقضت العهد وبرئت من ذمتك، انتقض عهده بذلك وإن لم يكرره فكذلك ما يستلزم ذلك من السب والطعن في الدين ونحو ذلك لا يحتاج إلى تكرير». أهـ.
8- أقوال الشيخ سليمان بن عبد الله ابن محمد بن عبد الوهاب(2)
يقول في شرح كتاب ”التوحيد“ وهو كما جاء في كتاب ”التوحيد حق الله على العبيد“ للشيخ محمد بن عبد الوهاب يقول:
(1) باب ”كتاب التوحيد“:
__________
(1) الصارم المسلول، ص 73.
(2) كتاب تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد .(1/236)
وقول الله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ } (1)، وقوله تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } (2) الآية، وقوله تعالى: { وَقَضَى رَبُّكَ إلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } (3) الآية، وقوله تعالى: { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } (4) الآية، وقوله تعالى: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ إلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا... } (5) الآية.
ومما يقول شيخ الإسلام بن عبد الوهاب في شرح هذه النصوص في كتابه، فيه مسائل(6):
الأولى: الحكمة في خلقه الجن والإنس.
الثانية: أن العبادة هى التوحيد لأن الخصومة فيه.
الثالثة: أن مَنْ لم يأت به لم يعبد الله ففيه معنى قوله { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } الآية.
الرابعة: الحكمة في إرسال الرسل.
الخامسة: أن الرسالة عمت كل أمة.
السادسة: أن دين الأنبياء واحد.
السابعة: المسألة الكبيرة: أن عبادة الله لا تحصل إلا بالكفر بالطاغوت، ففيه معنى قوله { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ } (7) الآية.
الثامنة: أن الطاغوت عام في كل ما عُبد من دون الله.
التاسعة: عظم شأن الثلاث آيات المحكمات في سورة الأنعام عند السلف وفيها عشر مسائل أولاها النهي عن الشرك.
__________
(1) الذاريات، آية: 56.
(2) النحل، آية: 36.
(3) الإسراء، آية: 23 .
(4) النساء، آية: 36 .
(5) الأنعام، آية: 151.
(6) مجموعة التوحيد، طبعة دار الفكر، ص 167.
(7) البقرة، آية: 256.(1/237)
العاشرة: الآيات المحكمات في سورة الإسراء وفيها ثماني عشرة مسألة، بدأها بقوله: { لاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولاً } (1) وختمها بقوله: { وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا } (2).
قال ابن مسعود(3): من أراد أن ينظر إلى وصية محمد - صلى الله عليه وسلم - التي عليها خاتمه فليقرأ قول الله تعالى: { قل تعالوا أتلُ ما حرَّم ربُّكم عليكم أن لا تشركوا به شيئًا } إلى قوله: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا... } (4) الآية. وعن معاذ ابن جبل - رضي الله عنه - قال: كنتُ رديفَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - على حمار فقال لي: «يا معاذ، أتدري ما حقّ الله على العباد وما حقّ العباد على الله ؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حقّ الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك بالله شيئًا. قلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ قال لا تبشرهم فيتكلوا». أخرجاه في الصحيحين.
يقول المصنف: ونبهنا الله على شأن هذه المسائل بقوله { ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنْ الْحِكْمَةِ } (5).
الحادية عشر: آية سورة النساء التي تسمي آية الحقوق العشرة بدأها الله بقوله { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } (6).
الثانية عشر: التنبيه على وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند موته.
__________
(1) الإسراء، آية: 22.
(2) الإسراء، آية: 39.
(3) تيسير العزيز الحميد، طبعة دار الشهاب، ص 63 .
(4) الأنعام، آية: 153.
(5) الإسراء، آية: 39.
(6) النساء، آية: 36.(1/238)
يقول الشيخ سليمان في شرح هذا الباب(1): قال الله تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } (2) أي اعبدوا الله وحده واتركوا عبادة ما سواه فلهذا خلقت الخليقة وأرسلت الرسل وأنزلت الكتب، قال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلاَ أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ } (3). وهذه الآية هى معنى لا إله إلا الله فإنها تضمنت النفي والإثبات كما تضمنته ”لا إله إلا الله “ ففي قوله - عز وجل -: { اُعْبُدُوا اللَّه } الإثبات، وفي قوله - عز وجل -: { َاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } النفي. فدلت الآية على أنه لابد في الإسلام من النفي والإثبات، فيثبت العبادة لله وحده وينفي عبادة ما سواه وهو التوحيد الذي تضمنته سورة ”قل يا أيها الكافرون“. وهو معنى قوله تعالى: { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } (4) وطريقة القرآن في مثل هذا أن يقرن النفي بالإثبات.
قال ابن القيم: فينفي عبادة ما سواه ويثبت عبادته سبحانه وهذا هو حقيقة التوحيد والنفي المحض ليس بتوحيد وكذلك الإثبات بدون نفي فلا يكون التوحيد إلا متضمنًا للنفي والإثبات وهذا حقيقة لا إله إلا الله.
__________
(1) تيسير العزيز الحميد، ص 50 .
(2) النحل، آية: 36.
(3) الرعد، اية: 36.
(4) البقرة، آية: 256.(1/239)
وعن معاذ بن جبل قال: كنت رديف النبيّ - صلى الله عليه وسلم - على حمار فقال يامعاذ: «أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله». الحديث. قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا» أي يوحدوه بالعبادة وحده ولا يشركوا به شيئًا وفائدة هذه الجملة أن التجرد من الشرك لابد منه في العبادة وإلا فلا يكون العبد آتيًا بعبادة الله بل مشرك وهذا هو معنى قول المصنف(1) أن العبادة هى التوحيد لأن الخصومة فيه(2) وفيه معرفة حق الله على العباد وهي عبادة الله وحده لاشريك له، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئًا» تقديره أن لا يعذب من يعبده ولا يشرك به شيئًا.
__________
(1) الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
(2) يقول الشيخ أن العبادة هى التوحيد لأن الخصومة فيه، الثالثة أن من لم يأت به لم يعبد الله ففيه معنى قوله ولا أنتم عابدون ما أعبد والمعني أن من أشرك بالله شيئًا لم يوحد الله بالعبادة ومن لم يوحد الله بالعبادة لم يعبد الله ومن لم يعبد الله كافر فمن تلبس بالشرك لم يدخل في الإسلام حتى يتجرد منه ومن وقع فيه بعد أن تجرد منه فقد ارتد به وهذا هو الحق وكل ما يقال غير ذلك فهو باطل.(1/240)
والعبادة هى الإتيان بالأوامر والانتهاء عن المناهى لأن مجرد عدم الإشراك لا يقتضي نفي العذاب، قال الحافظ: اقتصر على نفي الإشراك لأنه يستدعي التوحيد بالاقتضاء ويستدعي إثبات الرسالة باللزوم إذ من كذَّب الرسول فقد كذَّب الله ومَنْ كذَّب الله فهو مشرك وهو مثل قول القائل: من توضأ صحت صلاته أي مع سائر الشروط فالمراد من مات حال كونه مؤمنًا بجميع ما يجب أن يؤمن به. قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تبشرهم فيتكلوا» أي يعتمدوا على ذلك فيتركوا التنافس في الأعمال الصالحة. وفي رواية فأخبر بها معاذ عند موته تأثمًا ـ أي مخافة الإثم ـ قال الوزير المظفَّر: لم يكن يكتمها إلا عن جاهل يحمله جهله على سوء الأدب بترك الخدمة في الطاعة(1).
أقول تعليقًا على هذا الباب:
أن من أشرك بالله شيئًا لم يوحد الله سبحانه وتعالى بالعبادة ومن لم يوحد الله بالعبادة لم يعبد الله فدخل تحت قوله تعالى: { وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } (2) فصار بذلك كافرًا فمن كان متلبسًا بشرك أكبر في العبادة لا يدخل الإسلام حقيقة حتى يتجرد منه ومن تلبس به بعد أن تجرد منه فقد ارتد به، و ”شيئًا“ نكرة في سياق النهي تفيد العموم والاستغراق ولا يوجد شيء كائنًا ما كان يجعل صاحبه يدخل في الإسلام مع التلبس بأي شرك كان مادام هذا الشرك شركًا أكبر ولا يوجد شيء يعطي صاحبه حصانه تمنعه من الردة مع التلبس بشرك أكبر، لا التلفظ ولا الانتساب ولا البراءة الإجمالية من الشرك ولا الإقرار الإجمالي بالتوحيد.
(2) يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب ”باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب“: وذكر آية الأنعام وحديث عبادة وعتبان وأبي سعيد الخدرى وأنس كما هو مذكور في ”كتاب التوحيد“.
ويقول الشيخ سليمان في ”الشرح“(3):
__________
(1) تيسير العزيز الحميد، ص 64-67.
(2) الكافرون، آية: 3.
(3) المصدر السابق، ص 72-74 .(1/241)
عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان عليه من العمل» قوله «من شهد أن لا إله إلا الله» أي من تكلم بهذه الكلمة عارفًا لمعناها، عاملاً بمقتضاها باطنًا وظاهرًا كما دل عليه قوله - عز وجل -: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللَّهُ } (1)، وقوله سبحانه: { إلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } (2) أما النطق بها من غير معرفة لمعناها ولا عمل بمقتضاها فإن ذلك غير نافع بالإجماع وفي الحديث ما يدل على ذلك وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من شهد» إذ كيف يشهد وهو لا يعلم ومجرد النطق بشيء لا يسمي شهادة به ومعني «لا إله إلا الله» أي لا معبود بحق إلا إله واحد وهو الله وحده لا شريك له. قال قوم هود { أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا } (3) وهو إنما دعاهم إلى ”لا إله إلا الله“ { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ } (4) فهذا معنى ”لا إله إلا الله“ وهو عبادة الله وترك عبادة ما سواه وهو الكفر بالطاغوت والإيمان بالله فتضمنت هذه الكلمة العظيمة أن ما سوى الله ليس بإله، وأن إلهية ما سواه أبطل الباطل وإثباتها أظلم الظلم، فلا يستحق العبادة سواه كما لا تصلح الإلهية لغيره. فتضمنت نفي الإلهية عما سواه وإثباتها له وحده لا شريك له، وذلك يستلزم الأمر باتخاذه إلهًا وحده والنهي عن اتخاذ غيره معه إلهًا وهذا يفهمه المخاطب من هذا النفي والإثبات.
__________
(1) محمد، آية: 19.
(2) الزخرف، آية: 86.
(3) الأعراف، آية: 70.
(4) الأنبياء، آية: 25.(1/242)
قال الوزير أبو المظفر في ”الإفصاح“: قوله شهادة أن لا إله إلا الله يقتضي أن يكون الشاهد عالمًا بأن ”لا إله إلا الله“، كما قال - عز وجل -: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللَّهُ } (1) وينبغي أن يكون الناطق بها شاهدًا فيها فقد قال الله عزَّ وجل ما أوضح به أن الشاهد بالحق إذا لم يكن عالمًا بما شهد به فإنه غير بالغ من الصدق به مع من شهد من ذلك بما يعلمه في قوله سبحانه: { إلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } (2)، وقال: اقتضى الإقرار بها أن تعلم أن كل ما فيه إمارة للحدث فإنه لا يكون إلهًا فإذا قلت ”لا إله إلا الله“ فقد اشتمل نطقك هذا على أن ما سوى الله ليس بإله فيلزمك إفراده سبحانه بذلك وحده. قال وجملة الفائدة في ذلك أن تعلم أن هذه الكلمة هى مشتملة على الكفر بالطاغوت والإيمان بالله فإنك لما نفيت الإلهية وأثبت الإيجاب لله سبحانه كنت ممن كفر بالطاغوت وآمن بالله.
__________
(1) محمد، آية: 19.
(2) الزخرف، آية: 86.(1/243)
إلى أن يقول: لكن القوم أهل اللسان العربي علموا أنها تهدم دعاء الأموات والأصنام من الأساس. وتَكُبُّ بناء سؤال الشفاعة من غير الله وصرف الإلهية لغيره لأم الرأس فقالوا: { مَا نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } (1) ، { هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } (2)، { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَاب } (3) فتبًا لمن كان أبو جهل ورأس الكفر في قريش وغيرهم أعلم منه بـ ”لا إله إلا الله“ قال تعالى: { إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ - وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ } (4) فعرفوا أنها تقتضي ترك عبادة ما سوى الله وإفراد الله بالعبادة وهكذا يقول عبَّاد القبور إذا طلبت منهم إخلاص الدعوة والعبادة لله وحده. أنترك سادتنا وشفعاءنا في قضاء حوائجنا؟ فيقال لهم وهذا الترك والإخلاص هو الحق كما قال تعالى: { بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ } (5) وقد عرف المشركون معنى لا إله إلا الله وأبوا على النطق والعمل بها فلم ينفعهم توحيد الربوبية مع الشرك في الإلهية كما قال تعالى: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ } (6) وعبَّاد القبور نطقوا بها وجهلوا معناها وأبوا عن الإتيان به(7)ـ التوحيد ـ فصاروا كاليهود الذين يقولونها ولا يعرفون معناها ولا يعملون بها. ولا ريب أنه لو قال أحد من المشركين ”لا إله إلا الله“ ونطق بشهادة أن محمد رسول الله ولم يعرف
__________
(1) الزمر، آية: 3 .
(2) يونس، آية: 18.
(3) ص، آية: 5.
(4) الصافات، الآيتان: 36-37.
(5) الصافات، آية: 38.
(6) يوسف، آية: 106
(7) التوحيد ترك وإتيان ترك الشرك جملة وتفصيلاً وإتيان التوحيد جملة وتفصيلاً وليس مجرد الالتزام للترك والإتيان مع الوقوع في مفردات الشرك وترك مفردات التوحيد.(1/244)
معناها ولم يعرف معنى الإله ولا معنى الرسول وصلي وصام وحجّ ولا يدري ما ذلك إلا أنه رأي الناس يفعلونه فتابعهم ولم يفعل شيئًا من الشرك فإنه لا يشك أحد في عدم إسلامه وقد أفتي بذلك فقهاء المغرب كلهم في أول القرن الحادي عشر أو قبله في شخص كان كذلك كما ذكره صاحب ”الدر الثمين في شرح المرشد المعين“ من المالكية ثم قال شارحه: وهذا الذي أفتوا به جلي في غاية الجلاء ولا يمكن أن يختلف فيه اثنان. ولا ريب أن عبَّاد القبور أشد من هذا لأنهم اعتقدوا الإلهية في أرباب متفرقين واعلم أنه وردت أحاديث ظاهرها أنه من أتي بالشهادتين حرَّم على النار كحديث أنس قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «قال الله تعالى: يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة»، ثم ذكر حديث معاذ الذي سبقت الإشارة إليه. إلى أن يقول: وحاصله أن لا إله إلا الله سبب لدخول الجنة والنجاة من النار ومقتضى لذلك لكن المقتضي لا يعمل عمله إلا باستجماع شروطه وانتفاء موانعه فقد يتخلف عنه مقتضاه لفوات شرط من شروطه أو لوجود مانع ولهذا قيل للحسن أن أناسًا يقولون من قال لا إله إلا الله دخل الجنة فقال من قال لا إله إلا الله فأدي حقها وفرضها دخل الجنة.
عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال موسى يا رب علمني شيئًا أذكرك وأدعوك به فقال: «قل يا موسى: لا إله إلا الله. قال: كل عبادك يقولون هذا. قال: يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة: مالت بهن لا إله إلا الله».(1/245)
قال المصنف(1): «تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة فإنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان وما بعده(2) تبين لك معنى قول ”لا إله إلا الله“ وتبين لك خطأ المغرورين، ومنه أن الأنبياء يحتاجون للتنبيه على معنى قول لا إله إلا الله، ومنه التنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات، مع أن كثيرًا ممن يقولها يخف ميزانه وفيه أنك إذا عرفت حديث أنس عرفت أن قول لا إله إلا الله ليس قولها باللسان بل لابد من ترك الشرك».
أقول تعليقًا: أن القول في حديث عتبان لابد فيه من عمل القلب «يبتغي بذلك وجه الله» وبالجمع مع حديث عبادة لابد فيه من معنى الشهادة وهو العلم بما يشهد به والعمل بمقتضى ذلك مع الإيمان بالرسل والكتب والبعث والحساب وبالجمع مع حديث أبي سعيد الخدرى، يتبين أن المقصود ليس القول لأن كثيرًا ممن يقولها يخف ميزانه، ولكن المقصود العلم بمدلولها، والعمل بمقتضاها وبالجمع مع حديث أنس يتبين أن تحريم النار على من يقول لا إله إلا الله ليس بقولها باللسان ولكن لترك الشرك ظاهرًا وباطنًا.
يقول الشيخ في كتاب ”التوحيد“ (3): «الثالثة عشر: أنك إذا عرفت حديث أنس عرفت أن قوله في حديث عتبان «فإن الله حرَّم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله» أنه ترك الشرك ليس قولها باللسان.
__________
(1) الشيخ محمد بن عبد الوهاب، تيسير العزيز الحميد، ص 98.
(2) هكذا في كتاب التوحيد حق الله على العبيد للشيخ، وتيسير العزيز الحميد، ص98.
(3) كتاب التوحيد، ص170(1/246)
وقد بدأ الشيخ هذا الباب بقوله تعالى: { الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ } ويقول في تفسير النصوص: المسألة الرابعة ـ تفسير الآية التي في سورة الأنعام ـ مشيرًا إلى أن الإيمان كمعرفة بالقلب ونطق باللسان وهو توحيد الربوبية لا يدخل صاحبه الإسلام حتي يجتمع معه توحيد الإلهية بترك الشرك وما يستلزمه ذلك من إتيان التوحيد في العبادة بجميع مفرداته فقوله تعالى: { بِظُلْمٍ } قد فسرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «بظلم: بشرك» وكلا الكلمة وتفسيرها نكرة في سياق نفي تفيد الاستغراق وأن المقصود ترك الشرك بجميع مفرداته وإتيان التوحيد في العبادة بجميع مفرداته.
(3) باب ”الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله“:
يذكر الشيخ قول الله - عز وجل -: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ } (1) الآية، وحديث ابن عباس رضى الله عنهما عن وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ عندما بعثه إلى اليمن وحديث سهل بن سعيد رضى الله عنه عن إعطاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الراية لعلى يوم خيبر.
يقول الشيخ سليمان(2): عن ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بعث معاذًا إلى اليمن قال له: «إنَّك تأتي قومًا من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله»، وفي رواية «إلى أن يوحدوا الله فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب».
__________
(1) يوسف، آية: 108.
(2) تيسير العزيز الحميد، ص 124- 138.(1/247)
قوله وفي رواية «إلى أن يوحدوا الله» هذه الرواية في التوحيد من ”صحيح البخاري“ وفي بعض الروايات فادعهم إلى شهادة لا إله إلا الله وأني رسول الله وفي بعضها أن محمدًا رسول الله وأكثر الروايات فيها ذكر الدعوة إلى الشهادتين، وأشار المصنف بإيراد هذه الرواية إلى التنبيه على معنى شهادة أن ”لا إله إلا الله“ إذ معناها توحيد الله بالعبادة وترك عبادة ما سواه، فلذلك جاء الحديث مرة بلفظ «شهادة أن لا إله إلا الله» ومرة «إلى أن يوحدوا الله» ومرة «فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات»، وذلك هو الكفر بالطاغوت والإيمان بالله الذي قال الله فيه: { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } (1) ومعني الكفر بالطاغوت هو خلع الأنداد والآلهة التي تُدعي من دون الله من القلب وترك الشرك بها رأسًا وبغضه وعداوته ومعني الإيمان بالله، هو إفراد الله بالعبادة التي تتضمن غاية الحب وغاية الذل والانقياد لأمره، وهذا هو الإيمان بالله المستلزم للإيمان بالرسل عليهم السلام المستلزم لإخلاص العبادة لله تعالى وذلك هو توحيد الله تعالى ودينه الحق المستلزم للعلم النافع والعمل الصالح وهو حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله، وحقيقة المعرفة بالله وحقيقة عبادته وحده لا شريك له، فلله ما أفقه من روي هذا الحديث بهذه الألفاظ المختلفة لفظًا المتفقه معنى فعرفوا أن المراد من شهادة أن لا إله إلا الله هو الإقرار بها علمًا ونطقًا وعملاً خلافًا لما يظنه بعض الجهَّال أن المراد من هذه الكلمة هو مجرد النطق بها أو الإقرار بوجود الله أو ملكه لكل شيء من غير شرك فإن هذا القدر قد عرفه عبَّاد الأوثان وأقروا به، فضلاً عن أهل الكتاب ولو كان كذلك لم يحتاجوا إلى الدعوة إليه.
__________
(1) البقرة، آية: 256.(1/248)
وفيه دليل على أن التوحيد الذي هو إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له وترك عبادة ما سواه هو أول واجب فلهذا كان أول ما دعت إليه الرسل عليهم السلام كما قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ } (1)، وقال - عز وجل -: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت } (2)، وفي الحديث ”أن الإنسان قد يكون قارئًا عالمًا وهو لا يعرف معنى لا إله إلا الله أو يعرفه ولا يعمل به“ نبَّه عليه المصنف، واعلم أنه لم يذكر في هذا الحديث ونحوه الصوم والحج مع أن بعث معاذًا كان في آخر الأمر كما تقدم فأشكل ذلك على كثير من العلماء، وإيضاح ذلك أنه كان يذكر في كل مقام ما يناسبه، فيذكر تارة الفرائض التي يقاتل عليها كالصلاة، والزكاة ويذكر تارة الصلاة والزكاة، والصيام، إما أن يكون قبل فرض الحج وإما أن يكون المخاطب بذلك ليس عليه حج وأما الصلاة والزكاة فلهما شأن ليس لسائر الفرائض ولهذا ذكر الله تعالى في كتابه القتال عليهما لأنهما عبادتان ظاهرتان بخلاف الصوم. وفي الصحيحين عن سهل ابن سعد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم خيبر: «لأعطين الراية غدًا رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه، فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يُعطاها، فقال: أين علىّ بن أبي طالب، فقيل: هو يشتكي عينيه. قال: فأرسلوا إليه فأتى به فبصق في عينيه، ودعا له فبرأ كأن لم يكن به وجع وأعطاه الراية وقال: انفذ على رِسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه. فو الله لأن يهدي الله بِكَ رجلاً واحدًا خير لك مِنْ حُمْرِ النِّعَمِ».
__________
(1) الأنبياء، آية: 26.
(2) النحل، آية: 36 .(1/249)
قوله: «وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه» أي في الإسلام أي إذا أجابوا إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حقوقه التي لابد من فعلها كالصلاة والزكاة، وهذا كقوله في حديث أبي هريرة «فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها» وقد فسره أبو بكر الصديق لعمر رضى الله عنهما لما قاتل أهل الردة الذين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله فقال له عمر كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها». قال أبو بكر فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها.(1/250)
وحاصله أنهم إذا أجابوا إلى الإسلام الذي هو التوحيد فأخبرهم بما يجب عليهم بعد ذلك من حق الله تعالى في الإسلام من الصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك من شرائع الإسلام الظاهرة وحقوقه فإن أجابوا إلى ذلك فقد أجابوا إلى الإسلام حقًا، وإن امتنعوا عن شيء من ذلك فالقتال باق بحاله إجماعًا فالتكلم بكلمتي الشهادة دليل العصمة لا أنه عصمة، أو يقال هو العصمة لكن بشرط العمل يدل على ذلك قول الله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا } (1) ولو كان النطق بالشهادتين عاصمًا لم يكن للتثبت معنى ويدل على ذلك قوله تعالى: { فَإِنْ تَابُوا } أي عن الشرك وفعلوا التوحيد { وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } (2) فدلَّ على أن القتال يكون على هذه الأمور وفيه أن لله تعالى حقوقًا في الإسلام من لم يأت بها لم يكن مسلمًا كإخلاص العبادة له والكفر بما يعبد من دونه. وفيه بعث الإمام الدعاة إلى الله كما كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه الراشدون يفعلون وفيه تعليم الإمام أمرائه وعماله ما يحتاجون إليه.
__________
(1) النساء، آية: 94.
(2) التوبة، آية: 5.(1/251)
يقول شيخ الإسلام ابن عبد الوهاب (1) في تفسير نصوص هذا الباب التي أوردها «فيه مسائل: الأولى: أن الدعوة إلى الله طريق من اتبعه - صلى الله عليه وسلم -، الثانية: التنبيه على الإخلاص، الرابعة: من دلائل حسن التوحيد كونه تنزيهًا لله تعالى عن المسبة، الخامسة: أن من قبح الشرك كونه مسبة لله، السادسة: وهي من أهمها إبعاد المسلم عن المشركين لئلا يصير منهم ولو لم يشرك، السابعة: كون التوحيد أول واجب، الثامنة: أنه يبدأ به قبل كل شيء حتى الصلاة، التاسعة: أن معنى ”أن يوحدوا الله“ معنى شهادة أن لا إله إلا الله، العاشرة: أن الإنسان قد يكون من أهل الكتاب وهو لا يعرفها أو يعرفها ولا يعمل بها، الخامسة والعشرون: الدعوة إلى الإسلام قبل القتال، السادسة والعشرون: أنه مشروع لمن دُعوا قبل ذلك وقوتلوا، الثامنة والعشرون: المعرفة بحق الله في الإسلام».
أقول تعليقًا:
أول واجب هو التوحيد كما يقال عن الإيمان أنه أول ما يجب على المكلف وبه تقبل وتصح الأعمال. والتوحيد والإيمان عند الإطلاق شيء واحد وليس أول ما يجب على المكلف أو أول ما يخاطب به هو البراءة الإجمالية والإقرار الإجمالي وعقد الإسلام فقط بل أول ما يخاطب به المكلف هو إخلاص العبادة لله بالإتيان والترك { وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } (2) ومازال للموضوع مزيد بيان. ويقول المؤلف في تفسير قوله تعالى: { فإن تابوا } أي من الشرك وفعلوا التوحيد ولم يقل التزموا بالتوحيد وإن خالفوه بالشرك الأكبر بالوقوع في بعض مفرداته مع البراءة منه. وفيه أن الإسلام هو التوحيد، والطاعات هى حقوق الإسلام وحقوق التوحيد.
(4) باب ”تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله“:
__________
(1) كتاب مجموعة التوحيد، ص 174 وما بعدها.
(2) البينة، آية: 5.(1/252)
وقول الله تعالى: { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } (1) الآية، وقوله - عز وجل -: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ - إلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي } (2) الآية، وقوله - عز وجل -: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } (3) الآية، وقوله - عز وجل -: { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } (4) الآية، وفى الصحيح عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حَرُم ماله ودمه وحسابه على الله عزَّ وجل».
__________
(1) الإسراء، آية: 57.
(2) الزخرف، الآيتان: 26-27.
(3) التوبة، آية: 31 .
(4) البقرة، آية: 165.(1/253)
يقول الشيخ ابن عبد الوهاب(1) وشرح هذه الترجمة وما بعدها من الأبواب فيه أكبر المسائل وأهمها وهي تفسير التوحيد وتفسير الشهادة وبيَّنها بأمور واضحة منها آية الإسراء بيَّن فيها الرد على المشركين الذين يدعون الصالحين، ففيها بيان أن هذا هو الشرك الأكبر، ومنها آية براءة بين فيها أن أهل الكتاب اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله وبين أنهم لم يؤمروا إلا بأن يعبدوا إلهًا واحدًا مع أن تفسيرها الذي لا إشكال فيه طاعة العلماء والعبَّاد في المعصية(2)، لا دعاؤهم إياهم، ومنها قول الخليل عليه السلام للكفار { إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ - إلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهدِينِ } (3) فاستثنى من المعبودين ربَّه، وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة هى شهادة لا إله إلا الله فقال - عز وجل -: { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } (4)، ومنها آية البقرة في الكفار الذين قال الله فيهم { وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ } (5) ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله فدل على أنهم يحبون الله حبًا عظيمًا ولم يدخلهم في الإسلام(6). فكيف بمن أحب الند أكبر من حبِّ الله فكيف بمن لا يحب إلا الند وحده ولم يحب الله.
__________
(1) مجموعة التوحيد، ص 177.
(2) في التحليل والتحريم ومطلق التشريع المطلق.
(3) الزخرف، آية: 26.
(4) الزخرف، آية: 27.
(5) البقرة، آية: 167.
(6) لا دخول في حقيقة الإسلام إلا بالتوحيد وترك الشرك جملة وتفصيلاً .(1/254)
ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله» وهذا من أعظم ما يبين معنى ”لا إله إلا الله“ فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصمًا للدم والمال بل ولا معرفة معناها مع لفظها بل ولا الإقرار بذلك بل ولا كونه لا يدعو(1) إلا الله وحده لا شريك له بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله فإن شكَّ أو توقف لم يحرم ماله ودمه فيا لها من مسألة، ما أعظمها وأجلها ويا له من بيان ما أوضحه وحجة ما أقطعها للمنازع.
يقول الشيخ سليمان بن عبد الله في كتابه شرحًا لهذا الباب(2):
”تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله“: «التوحيد اسم لمعنى عظيم وقول له معنى جليل هو أجل من جميع المعاني وحاصله هو البراءة من عبادة كل ما سوى الله، والإقبال بالقلب والعبادة على الله وذلك هو معنى الكفر بالطاغوت والإيمان بالله وهو معنى لا إله إلا الله كما قال تعالى: { ِوَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إلاَّ هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيم } (3)، وقال حكاية عن مؤمن آل فرعون: { وَيَاقَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ - تَدْعُونَنِي لأكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ - لاَ جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلاَ فِي الآخِرَةِ... } (4) الآيات. والآيات في هذا كثيرة تبين أن معنى لا إله إلا الله هو البراءة من عبادة ما سوى الله من الشفعاء والأنداد وإفراد الله بالعبادة فهذا هو الهدي ودين الحق الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه.
__________
(1) لا دخول في حقيقة الإسلام إلا بالتوحيد وترك الشرك جملة وتفصيلا.ً
(2) تيسير العزيز الحميد، ص 139-152.
(3) البقرة، آية: 163 .
(4) غافر، آيات: 41-43 .(1/255)
أما قول الإنسان ”لا إله إلا الله“ من غير معرفة لمعناها ولا عمل به أو دعواه أنه من أهل التوحيد وهو لا يعرف التوحيد بل ربما يخلص لغير الله من عبادته في الدعاء والخوف والذبح والنذر والتوبة والإنابة وغير ذلك من أنواع العبادات فلا يكفي في التوحيد بل لا يكون إلا مشركًا والحالة هذه كما هو الشأن في عبَّاد القبور، ثم ذكر المصنف الآيات التي تدل على هذا فقال: قال - عز وجل -: { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ } (1). قلت: يبين معنى هذه الآية الآية التي قبلها وهي قوله: { قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً - أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ... } (2) فتبين أن معنى التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله هو ترك ما عليه المشركون من دعوة الصالحين والاستشفاع بهم إلى الله في كشف الضر وتحويله ـ فكيف بمن أخلص لهم الدعوة ـ وأنه لا يكفي في التوحيد(3) دعواه والنطق بكلمة الشهادة من غير مفارقة لدين المشركين وأن دعاء الصالحين لكشف الضر أو تحويله هو الشرك الأكبر، قال تعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ - إلاَّ الَّذِي
__________
(1) الإسراء، آية: 57.
(2) الإسراء، الآيتان: 56-57.
(3) ما أفقه الشيخ وحفيده في بيان الحق فدعوي التوحيد غير النطق وبيَّنا أنَّ كلاهما لا يكفي بل لابد من ترك الشرك. ويقول البعض أنه بالنطق يتحقق الإقرار الإجمالي والبراءة الإجمالية من الشرك فإذا وقع في مفردات الشرك مع ذلك فلا بأس به لأنه لم ينقض إقراره وبراءته بالشرك وإنما تنقض البراءة والإقرار بالعناد مع الشرك بعد إقامة الحجة فيكون ذلك دليلاً على نقض الميثاق وهذا من أبين الباطل.(1/256)
فَطَرَنِي... } (1) فتبين بهذا أن معنى لا إله إلا الله هو البراءة مما يعبد من دون الله وإفراد الله بالعبادة، وذلك هو التوحيد لا مجرد الإقرار بوجود الله وملكه وقدرته وخلقه لكل شيء ـ فإن هذا يقر به الكفار ـ وذلك هو معنى قوله { إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي } فاستثنى من المعبودين ربَّه وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة هى شهادة ”أن لا إله إلا الله“.
قوله تعالى: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } (2) الأحبار: العلماء، والرهبان هم العباد. ومراد المصنف رحمه الله بإيراد هذه الآية هنا أن الطاعة في تحريم الحلال وتحليل الحرام من العبادة المنفية عن غير الله تعالى ولهذا فسرت العبادة بالطاعة وفسر الإله بالمعبود المطاع فمن أطاع مخلوقًا في ذلك فقد عبده، إذ معنى التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله يقتضي إفراد الله بالطاعة وإفراد الرسول بالمتابعة فإن من أطاع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد أطاع الله وهذا أعظم ما يبين التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله لأنها تقتضي نفي الشرك في الطاعة.
__________
(1) الزخرف، آية: 26-27 .
(2) التوبة، آية: 31.(1/257)
قول الله - عز وجل -: { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } الآية (1). ومن الأمور المبينة لتفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله آية البقرة في الكفار الذين قال الله فيهم { وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ } (2) فقد ذكر سبحانه أنهم يحبون أندادهم كحب الله فدلّ على أنهم يحبون الله حبًا عظيمًا ولم يدخلهم في الإسلام فكيف بمن أحب الندَّ حبًا أكبر من حب الله وكيف بمن لا يحب إلا الند وحده ولم يحب الله. قلت مراده أن معنى التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله هو إفراد الله بأصل الحب الذي يستلزم إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له وعلى قدر التفاضل في هذا الأصل وما ينبني عليه من الأعمال الصالحة يكون تفاضل الإيمان والجزاء عليه في الآخرة.
__________
(1) البقرة، آية: 165.
(2) البقرة، آية: 167.(1/258)
فمن أشرك بالله تعالى في ذلك فهو المشرك لهذه الآية وأخبر الله تعالى عن أهل هذا الشرك أنهم يقولون لآلهتهم وهم في الجحيم { تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ - إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } (1) ومعلوم أنهم ما ساووهم به في الخلق والرزق والملك وإنما ساووهم في المحبة والتعظيم والطاعة والعبادة، قال في الصحيح عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله» قوله من قال: «لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله ...» اعلم أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث علَّق عصمة المال والدم بأمرين: الأول: قول لا إله إلا الله والثاني: الكفر بما يعبد من دون الله ، فلم يكتفي باللفظ المجرد عن المعني، بل لابد من قولها والعمل بها، قال المصنف: وهذا من أعظم ما يبين معنى لا إله إلا الله فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصمًا للدم والمال بل ولا معرفة معناها مع التلفظ بها ولا الإقرار بذلك.
بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم دمه وماله حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله فإن شك أو تردد لم يحرم ماله ودمه، فيا لها من مسألة ما أجلها ويا له من بيان ما أوضحه وحجة ما أقطعها للمنازع، قلت: وقد أجمع العلماء على معنى ذلك فلابد في العصمة من الإتيان بالتوحيد والتزام أحكامه، وترك الشرك كما قال تعالى: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } (2)
__________
(1) الشعراء، الآيتان: 97-98.
(2) الأنفال، آية: 39.
* القتال ليس من أجل الكلمة ولكن من أجل ترك الشرك وهي حجة قاطعة والدخول في الإسلام أعني في حقيقته ليس بالكلمة ولكن بترك الشرك وهذا هو البدء وهذا الأمر مهم جدًا وهذه حجة أساسية مع قول الله عزَّ وجل: { قل يا أهل الكتاب... } الآية، في معرفة كيف يكون البدء هل هو بترك الشرك جملة وتفصيلاً أم فقط بالتزام ذلك وإن التبس ببعض مفرداته(1/259)
والفتنة هنا هى الشرك، فدلَّ على أنه إذا وجد الشرك فالقتال* باق بحاله، قال تعالى: { فَإِذَا انسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (1) فأمر بقتالهم على فعل التوحيد وترك الشرك وإقامة شعائر الدين الظاهرة فإذا فعلوها خلي سبيلهم ومتي أبوا عن فعلها أو فعل شيء منها فالقتال باق بحاله إجماعًا ولو قالوا لا إله إلا الله وكذلك النبيّ - صلى الله عليه وسلم - علقَّ العصمة بما علقها الله به في كتابه كما في هذا الحديث، وفي ”صحيح مسلم“ عن أبي هريرة مرفوعًا «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله»، وفي الصحيحين عنه قال: لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكفر من كفر من العرب. فقال عمر لأبي بكر: كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقها وحسابه على الله»، فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عِقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعه فقال عمر بن الخطاب فو الله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق».
__________
(1) التوبة، آية: 5.(1/260)
فانظر كيف فهم الصديق أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يرد مجرد اللفظ بها من غير إلزام لمعناها وأحكامها فكان ذلك هو الصواب واتفق عليه الصحابة فهذا الحديث كآية براءة بين فيه ما يقاتل عليه الناس ابتداءً فإذا فعلوه وجب الكف عنهم إلا بحقها فإن فعلوا بعد ذلك ما يناقض هذا الإقرار والدخول في الإسلام وجب القتال حتى يكون الدين كله لله، بل لو أقروا الأركان الخمسة وفعلوها وأبوا عن فعل الوضوء للصلاة ونحوه أو عن تحريم بعض محرمات الإسلام كالربا أو الزنا، أو نحو ذلك وجب قتالهم إجماعًا ولم تعصمهم لا إله إلا الله ولا ما فعلوه من الأركان وهذا من أعظم ما يبين معنى لا إله إلا الله وأنه ليس المراد منها مجرد النطق فإذا كانت لا تعصم من استباح محرمًا أو أبي عن فعل الوضوء مثلاً بل يقاتل على ذلك حتى يفعله فكيف تعصم من دان بالشرك وفعله وأحبه ومدحه وأثني عليه أهله ووالى عليه وعادى عليه، وأبغض التوحيد الذي هو إخلاص العبادة لله وتبرأ منه وحارب أهله وكفَّرهم وصد عن سبيل الله كما هو شأن عبَّاد القبور وقد أجمع العلماء على أن من قال لا إله إلا الله وهو مشرك أنه يقاتل حتى يأتي التوحيد.(1/261)
وقال شيخ الإسلام لما سئل عن قتال التتار مع التمسك بالشهادتين ولما زعموا من اتباع أصل الإسلام فقال: «كل طائفة ممتنعة من التزام شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة من هؤلاء القوم أو غيرهم فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين ملتزمين بعض شرائعه كما قاتل أبو بكر- رضي الله عنه - مانعى الزكاة وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم. قال فأيما طائفة ممتنعة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات أو الصيام أو الحج أو عن التزام تحريم الدماء أو الأموال أو الخمر أو الميسر أو نكاح ذوات المحارم أو عن التزام جهاد الكفار أو ضرب الجزية على أهل الكتاب أو غير ذلك من التزام واجبات الدين أو محرماته التي لا عذر لأحد في جحودها أو تركها والتي يكفر الواحد بجحودها فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها.
وهذا مما لا أعلم فيه خلافًا بين العلماء، قال: وهؤلاء عند المحققين من أهل العلم ليسوا بمنزلة البغاة بل هم خارجون عن الإسلام وبمنزلة مانعي الزكاة. إلى أن يقول: فإذا كان من التزم شرائع الدين كلها إلا تحريم الميسر أو الربا أو الزنا يكون كافرًا يجب قتاله، فكيف بمن أشرك بالله ودُعيَ إلى إخلاص الدين لله والبراءة والكفر بمن عُبد غير الله فأبي عن ذلك واستكبر وكان من الكافرين. قوله - صلى الله عليه وسلم -: «وحسابه على الله» فمن أتى بالتوحيد والتزم شرائعه ظاهرًا وجب الكف عنه حتى يتبين منه ما يخالف ذلك وفيه وجوب الكف عن الكافر إذا دخل في الإسلام ولو في حال القتال حتى يتبين منه ما يخالف ذلك، وفيه أن الإنسان قد يقول لا إله إلا الله ولا يكفر بما يعبد من دون الله، وفيه أن شروط الإيمان الإقرار بالشهادة والكفر بما يعبد من دون الله مع اعتقاد ذلك واعتقاد جميع ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفيه أن أحكام الدنيا على الظاهر وأن مال المسلم ودمه حرام إلا في حق كالقتل قصاصًا ونحوه». أهـ.(1/262)
أقول معلقًا:
إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعط عصمة الدم والمال أبدًا ولا في حالة واحدة لا لفرد ولا لطائفة لمن تلفظ بأي تلفظ كان الشهادتين أو غيرهما معهما أو من دونهما، مع الوقوع والتلبس بمفردات الشرك والكفر الأكبر اكتفاءً بما يدَّعي كذبًا وبهتانًا من دلالة الشهادتين على الإقرار الإجمالي بالتوحيد والبراءة الإجمالية من الشرك مع إمكان الوقوع في مفردات الشرك في البدء، وكذلك لم يعط عصمة الدم والمال اكتفاءً بدعوى التوحيد والبراءة مع الوقوع أيضًا في مفردات الشرك الأكبر والكفر الأكبر إذا لم تكن الشهادتان تكفيان في الدلالة على هذا الإقرار المزعوم والبراءة المزعومة وكان لابد من دعوى التوحيد للدلالة على ذلك، فلا التلفظ ولا دعوى التوحيد أعطي عصمة وحصانة من الكفر مع وقوع الشرك والكفر الأكبر، ولا أدخل هذا ولا ذلك صاحبه في الإسلام حقيقة مع التلبس بالشرك، بل دلالة الشهادتين إنما هى على إتيان التوحيد وترك الشرك وليست على مجرد البراءة الإجمالية أو الإقرار الإجمالي. والتلفظ برغم هذه الدلالة ودعوى التوحيد لا يدخلان صاحبهما في الإسلام حقيقة مع التلبس بالشرك الأكبر ولا يمنعان عن صاحبهما الردة إن وقع في إحدى مفردات الشرك أو الكفر الأكبر بعد أن تجرد منها.(1/263)
ولابد من ترك الشرك جملة وتفصيلاً في البدء والنهاية، فالقتال في البدء من أجل ترك الشرك { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } (1)، والنجاة في النهاية من أجل ترك الشرك «مَنْ مَاتَ لا يُشرِك باللهِ شيئًا دخلَ الجنَّة» وكما أوضح الشيخ أن ترك الشرك وإتيان التوحيد لا يتحقق بمجرد الإتيان والترك بل لابد مع ذلك من موالاة لأهل التوحيد وبراءة من أهل الشرك، وهذا هو معنى البراءة وليس معناها مجرد الالتزام بالتوحيد مع إمكان الوقوع في مفردات الشرك كما يحدث في الطاعات والمعاصي فقد أوضحنا قبلاً أن الإنسان إذا التزم بالأوامر والنواهي ثم خالف بالمعصية ولم ينقض التزامه بالرجوع إلى شرع آخر غير شرع الله أو رفض شرع الله والخروج عليه فإن الحدود كفارات لذنبه، وإن ستره الله فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، وهذا في الطاعة والمعصية أو البدعة والسنة، أما في الشرك فالحد ليس كفارة للشرك والله لا يغفر أن يشرك به إلا بالتوبة لاختلاف أحكام التوحيد والشرك عن أحكام الطاعات والمعاصي والسنن والبدع. قال العلماء: ثلاثة أشياء ضد ثلاثة أشياء التوحيد ضده الشرك والسنة ضدها البدعة والطاعة وضدها المعصية، كذلك لا يكفي لتحقيق التوحيد في البدء مجرد العهد أو الميثاق أو الالتزام بالإتيان مع إمكان عدم فعله ولا يكفي لتحقيق التوحيد مجرد الالتزام أو العهد أو الميثاق بالبراءة من الشرك مع إمكان الوقوع في مفرداته، بل لابد من فعل التوحيد وترك الشرك وهذا هو معنى لا إله إلا الله، وبهذا وحده تتحقق العصمة وهذا هو ما يطلب في البداية من الناس بقول الله - عز وجل -: { قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إلاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا
__________
(1) الأنفال، آية: 39.(1/264)
اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } (1) وهذا ما يُقاتل عليه الناس حتى يأتوا به { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } (2) ودعوة الرسل إلى قومهم { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } (3) لم يقولوا لهم اعطوا الميثاق والعهد بهذا في البداية وإن ظللتم متلبسين بالشرك فأنتم مسلمون بذلك مع الشرك حتى تأتيكم الشرائع بترك الشرك تباعًا، فمن علمها تركه ومن جهلها ظل متلبسًا به، ومن علمها وظل متلبسًا به لضعف بشري أو لتقليد أو لتأويل لم يكفر بالشرك حتى ينضاف إليه العناد، فيدلّ ذلك على نقض الميثاق فيكون كفره بالنقض وليس بالشرك، وإنما يأتي دور الشرك لدلالته مع العناد على النقض، فإذا ثبت عدم النقض مع التلبس بالشرك فلا يكفر بالشرك، بل قالوا لهم { وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } (4)، وقال تعالى: { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (5) فالكفر من أجل الشرك وليس من أجل دلالة الشرك مع العناد على النقض ـ اللهم هل بلغت اللهم فاشهد ـ
__________
(1) آل عمران، آية: 64.
(2) الأنفال، آية: 39.
(3) الأعراف، آية: 59.
(4) المائدة، آية: 72.
(5) آل عمران، آية: 80.(1/265)
وقد مرَّ كلام الشيخ سليمان: «وقد أجمع العلماء على أن من قال لا إله إلا الله وهو مشرك أنه يقاتل حتى يأتي بالتوحيد». وقد مرَّ كلام شيخ الإسلام ابن عبد الوهاب أن معنى أن يوحدوا الله، معنى «شهادة لا إله إلا الله» وقوله: «وفيه أنك إذا عرفت حديث أنس عرفت أن قول لا إله إلا الله ليس قولها باللسان بل لابد من ترك الشرك» وإذا كانت هناك كلمة تدعى إليها الناس وتفسير الكلمة الذي لا إشكال فيه هو ما بعدها في قول الله - عز وجل -: { قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ } وهو { ألاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } (1) كما قال العلماء تفسيرها ما بعدها، ومعناه الذي لا إشكال فيه هو إفراد الله بالعبادة وترك الشرك جملة وتفصيلا وذلك لأن { شيئًا } نكرة في سياق نهي تفيد العموم والاستغراق والتفصيل وذكر بعض المفردات لها دليل على إرادة المفردات وليس مجرد البراءة الإجمالية من الشرك وهذا هو ما يُدعى إليه الناس في البدء، وأنه كما مر لا يمكن لأحد أن يدخل في حقيقة الإسلام حتى يتجرد من الشرك جملة وتفصيلاً ومن وقع في شيء من مفرداته بعد أن تجرد منه فقد ارتد بما وقع فيه من الشرك الأكبر لا فرق في ذلك بين كثيره وقليله فمن أشرك بالله شيئًا فقد وجبت له النار خالدًا فيها إذا مات على ذلك.
(5) باب ”من الشرك لبس الحلق“:
__________
(1) آل عمران، آية: 64.(1/266)
قول الله - عز وجل -: { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ } (1) الآية، وعن عمران بن حصين - رضي الله عنه -: «أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً في يده حلقة من صُفْر فقال ما هذه: قال من الواهنة فقال: انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنًا فإنك لو مت وهى عليك ما أفلحت أبدًا»، رواه أحمد بسند لا بأس به، وله عن عقبة ابن عامر مرفوعًا: «من تعلق بتميمة فلا أتمَّ الله له ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له» وفي رواية «من تعلق تميمة فقد أشرك» ولابن أبي حاتم عن حذيفة أنه رأي رجلاً في يده خيط من الحمَّي فقطعه وتلا قوله تعالى: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ } (2).
يقول الشيخ بن عبد الوهاب فيه مسائل(3): الأولى: التغليظ في لبس الحلقة والخيط ونحوهما لمثل ذلك. الثانية: أن الصحابي لو مات وهي عليه ما أفلح، فيه شاهد لكلام الصحابة أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر. الثالثة: أنه لم يعذر بالجهالة. الرابعة: أنها لا تنفع في العاجلة بل تضر لقوله: «لا تزيدك إلا وهنًا». الخامسة: الإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك. السادسة: التصريح بأن من تعلق شيئًا وُكِّلَ إليه. السابعة: التصريح بأن من تعلق تميمة فقد أشرك. الثامنة: أن تعليق الخيط من الحمي من ذلك. التاسعة: تلاوة حذيفة الآية دليل على أن الصحابة يستدلون بالآيات التي في الشرك الأكبر على الأصغر كما ذكر ابن عباس في آية البقرة. العاشرة: أن تعليق الودع من العين على ذلك. الحادية عشر: الدعاء على مَنْ تعلق تميمة أن الله لا يتم له ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له: أي لا ترك الله له.
__________
(1) الزمر، آية: 38.
(2) يوسف، آية: 106.
(3) مجموعة التوحيد، ص 178 وما بعدها.(1/267)
يقول الشيخ سليمان(1) شارحًا قول الله تعالى: { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ } (2) الآية. يقول: «قال مقاتل: فسألهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فسكتوا أي لأنهم لا يعتقدون ذلك فيها، وإنما كانوا يدعونها على معنى أنها وسائط وشفعاء عند الله، لا أنهم يكشفون الضر ويجيبون دعاء المضطر، فهم يعلمون أن ذلك لله وحده، كما قال تعالى: { ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُون َ - ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } (3).
ويقول تعليقًا على حديث عمران بن حصين قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فإنَّك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدًا» أي لأنه مشرك والحالة هذه والفلاح هو الفوز والظفر والسعادة. قال المصنف: فيه شاهد لكلام الصحابة أن الشرك الأصغر أكبر الكبائر، وأنه لم يعذر بالجهالة، والإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك. قلت: وفيه أن الصحابي لو مات وهي عليه ما أفلح أبدًا. ففيه رد على المغرورين الذين يفخرون بكونهم من ذرية الصالحين.
__________
(1) تيسير العزيز الحميد، ص 153 وما بعدها.
(2) الزمر، آية: 38.
(3) النحل، الآيتان: 53-54.(1/268)
ويقول تعليقًا على حديث ابن أبي حاتم عن حذيفة وأنه رأي رجلاً في يده خيط من الحمي فقطعه وتلا قوله تعالى: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ } (1) قوله: فقطعه فيه إنكار هذا، وإن كان يعتقد أنه سبب، فالأسباب لا يجوز منها إلا ما أباحه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - مع عدم الاعتماد عليه، فكيف بما هو شرك كالتمائم والخيوط والخرز والطلاسم ونحو ذلك مما يعلقه الجهَّال. وفيه إزالة المنكر باليد بغير إذن الفاعل وإن كان يظن أن الفاعل يزيله وأن إتلاف آلات المنكر واللهو جائزة وإن لم يأذن صاحبها».
(6) باب قوله تعالى(2): { أَفَرَأَيْتُمْ اللاَتَ وَالْعُزَّى - وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى أَلَكُمْ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنثَى - تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى } (3):
قال ابن إسحاق في السيرة: وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحجاب وتهدي لها كما تهدي للكعبة وتطوف بها وتنحر عندها وهي تعرف فضل الكعبة عليها لأنها عرفت أنها بيت إبراهيم - عليه السلام - ومسجده.
__________
(1) يوسف، آية: 106 .
(2) تيسير العزيز الحميد، ص 178 .
(3) النجم، آيات: 19-22 .(1/269)
يقول الشيخ سليمان: «قلت: هذا الذي ذكره ابن إسحاق من شرك العرب هو بعينه الذي يفعله عبّاد القبور بل زادوا على الأولين... إذا تبين هذا فمعنى الآية كما قال القرطبي أن فيها حذفًا تقديره أفرأيتم هذه الآلهة هل نفعت أو ضرت حتى تكون شركاء لله { مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ } (1). أي من حجة { إِنْ يَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ } (2). أي ليس لهم مستند إلا حسن ظنهم بآبائهم الذين سلكوا هذا المسلك الباطل قبلهم وإلا حظ أنفسهم في رياستهم وتعظيم آبائهم الأقدمين. وعن أبي واقد الليثي قال: «خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى { اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُون } َ ؟ لتركبن سنن من كان قبلكم». رواه الترمذى وصححه.
__________
(1) النجم، آية: 23.
(2) النجم، آية: 23.(1/270)
يقول الشيخ سليمان: قوله: ونحن حدثاء عهد بكفر أي قريبوا عهد بكفر فيه دليل أن غيرهم لا يجهل هذا وأن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يأمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادات الباطلة، قوله - صلى الله عليه وسلم -: قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: { اجْعَل لَنَا إِلَهًا } ، أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن هذا الأمر الذي طلبوه منه وهو اتخاذ شجرة للعكوف عندها وتعليق الأسلحة بها تبركًا كالأمر الذي طلبه بنو إسرائيل من موسى - عليه السلام - حيث قالوا: { اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَة } ، فإذا كان اتخاذ شجرة لتعليق الأسلحة والعكوف عندها اتخاذ إله مع الله مع أنهم لا يعبدونها ولا يسألونها فما الظن بما حدث من عبَّاد القبور من دعاء الأموات والاستغاثة بهم والذبح والنذر لهم والطواف بقبورهم وتقبيلها وتقبيل أعتابها وجدرانها والتمسح بها والعكوف عندها وجعل السدنة والحجاب لها وأي نسبة بين هذا وبين تعليق الأسلحة على شجرة تبركًا، وفيها أن معنى الإله هو المعبود، وأن من أراد أن يفعل الشرك جهلاً فنهي عن ذلك فانتهى لا يكفر وإن لا إله إلا الله تنفي هذا الفعل مع دقته وخفائه على أولئك الصحابة فكيف بما هو أعظم منه، ففيه رد على الجهال الذين يظنون أن معناها الإقرار بأن الله خالق كل شيء وأن ما سواه مخلوق ونحو ذلك من العبارات والإغلاظ على من وقع منه ذلك جهلاً.
أقول تعليقًا: يظهر من كلام الشيخ هنا أن الشرك هنا أصغر لقوله في المسألة الحادية عشر: إن الشرك فيه أكبر وأصغر لأنهم لم يرتدوا بهذا، والرابعة عشر: سد الذرائع، الخامسة عشر: النهي عن التشبه بأهل الجاهلية، التاسعة عشر: أن ما ذمّ الله به اليهود والنصارى في القرآن فهو لنا، الحادية والعشرون إن سنة أهل الكتاب مذمومة كسنن المشركين.(1/271)
أقول معلقًا: الشبهة الطارئة في الكفر الأكبر والشرك الأكبر لا يكفر بها المسلم إذا نهي فانتهي وأُمِرَ فأتمر ونُبِّه فتنبه، لكونه لم يفعل الكفر وهذا واضح في قول قوم موسى { اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } (1). فإنهم لم يفعلوا بعد أن نبههم موسى - عليه السلام - فتنبهوا أو لم يفعلوا الكفر، أما في حالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد يكون الفعل ذريعة إلى الشرك إذا كان مجرد التبرك وقد يكون شركًا أكبر إذا كان فيه معنى العكوف والقضية قضية عين تحتمل الأمرين معًا وهذا ليس حجة لصعوبة معرفة الأكبر من الأصغر وحديث العهد بالكفر إذا وقع في الكفر الأكبر كفر به ولكن لا يُكَفَّر به حتى تقوم عليه الحجة وغيره في الأمور الظاهرة ممن يقيم في عمران المسلمين يكفر به ويُكَّفر به ولا يقام عليه حد الردة حتى يستتاب إلا إذا كانت الردة مغلَّظة، بسبّ أو حرابة أو كان زنديقًا منافقًا لا يستتاب أو ممتنع لا تدركه اليد ولا تصل إليه القدرة.
(7) باب ”ما جاء في الذبح لغير الله“:
وقول الله تعالى: { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - لاَ شَرِيكَ لَهُ } (2) الآية، وقوله { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } (3).
__________
(1) الأعراف، آية: 138.
(2) الأنعام، الآيتان: 162-163.
(3) الكوثر، آية: 2.(1/272)
يقول الشيخ سليمان(1): في الآية دليل بل دلائل متعددة على أن الذبح لغير الله شرك وفيها بيان العبادة وأن التوحيد مناف للشرك مضاد له. وعن طارق بن شهاب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «دخل الجنة رجل في ذباب ودخل النار رجل في ذباب. قالوا وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: مرَّ رجلان على قوم لهم صنم لا يجاوزه أحدٌ حتى يقرب له شيئًا فقالوا لأحدهما قرِّب قال ليس عندي شيء أقرِّب قالوا له قرِّب ولو ذبابًا فقرَّبَ ذبابًا فخلوا سبيله فدخل النَّار فقالوا للآخر قرِّب فقال ما كنت لأقرب لأحد شيئًا دون الله عزَّ وجلَّ فضربوا عنقه فدخل الجنة» رواه أحمد. أهـ.
يقول الشيخ ابن عبد الوهاب(2): «والثامنة: هذه القصة العظيمة وهي قصة الذباب، التاسعة: كونه دخل النار بسبب ذلك الذباب الذي لم يقصده بل فعله تخلصًا من شرهم، العاشرة: معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين كيف صبر ذلك على القتل ولم يوافقهم على طلبهم، مع كونهم لم يطلبوا إلا العمل الظاهر، الحادية عشر: أن الذي دخل النار مسلم لأنه لو كان كافرًا لم يقل دخل النار في ذباب، الثانية عشر: فيه شاهد للحديث الصحيح «الجنَّةُ أقرَبُ إلى أحَدِكُم مِنْ شِرَاكِ نَعْلِه ِوالنَّارُ مثل ذلك»، الثالثة عشر: معرفة أن عمل القلب(3) هو المقصود الأعظم حتى عند عبدة الأوثان».
(8) باب ”من الشرك النذر لغير الله“:
__________
(1) تيسير العزيز الحميد، ص 193.
(2) مجموعة التوحيد، ص184.
(3) المعني لقولهم قرِّب لمواطأة الباطن للظاهر والشرك والهلاك حدث بالظاهر منفردًا دون مواطأة الباطن ولا قصد الكفر لمجرد فعل الكفر الأكبر كما هو واضح من كلام الشيخ.(1/273)
قوله تعالى: { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ } (1)، وقوله - عز وجل -: { وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ } (2)، وفي الصحيح عن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه».
فيقول الشيخ ابن عبد الوهاب: فيه مسائل: الأولي: وجوب الوفاء بالنذر، الثانية: إذا ثبت كونه عبادة لله فصرفه إلى غيره شرك، الثالثة: أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به.
يقول الشيخ سليمان أخبر تعالى بأن ما أنفقناه من نفقة أو نذرناه من نذر متقربين بذلك إليه أنه يعلمه ويجازينا عليه فدلَّ ذلك على أنه عبادة وبالضرورة يدري كل مسلم أن من صرف شيئًا من أنواع العبادة لغير الله فقد أشرك.
(9) باب ”من الشرك أن يستغيث بغير الله“:
__________
(1) الإنسان، آية: 7 .
(2) البقرة، آية: 270.(1/274)
يقول الشيخ سليمان(1): «اعلم أن الدعاء نوعان: دعاء عبادة ودعاء مسألة: ويراد به في القرآن هذا تارة وهذا تارة ويراد به مجموعهما وهما متلازمان. دعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو كشف ضر ولهذا أنكر تعالى على من عُبِدَ من دونه ولا يملك ضرًا ولا نفعًا كقوله: { قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا } (2) الآية، وقال سبحانه: { قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } (3). فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء مسألة، وكل دعاء مسألة مستلزم لدعاء العبادة. وبهذا التحقيق يندفع عنك ما يقوله عبَّاد القبور إذا احتج عليهم بما ذكر الله في القرآن من الأمر بإخلاص الدعاء له. قالوا: المراد به العبادة فيقولون في مثل قوله تعالى: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } (4) .أي لا تعبدوا مع الله أحدًا فيقال لهم، وإن أريد به دعاء العبادة فلا ينفي أن يدخل دعاء المسألة في العبادة لأن دعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة كما أن دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة، هذا لو لم يرد في دعاء المسألة بخصوصه من القرآن إلا الآيات التي ذكر فيها دعاء العبادة، فكيف وقد ذكر في القرآن في غير موضع. قال تعالى { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } (5)، وقال - عز وجل -: { وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا } (6)، وقال تعالى: { أغير الله تدعونَ إنْ كنتم صادقين } ، وقال سبحانه: { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي } (7)، وقال - عز وجل -: { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا
__________
(1) تيسير العزيز الحميد، ص 215-231.
(2) الأنعام، آية: 71.
(3) المائدة، آية: 76.
(4) الجن، آية: 18.
(5) الأعراف، آية: 55.
(6) الأعراف، آية: 56.
(7) مريم، آية: 48.(1/275)
يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ } (1). فثبت بهذا أن الدعاء عبادة من أَجّل العبادات بل هو أكرمها على الله كما تقدم فإن لم يكن الإشراك فيها شركًا فليس في الأرض شرك، وإن كان في الأرض شرك فالشرك في الدعاء أولي أن يكون شركًا من الإشراك في غيره من أنواع العبادة بل الإشراك في الدعاء هو أكبر شرك المشركين الذين بعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنهم يدعون الأنبياء والصالحين والملائكة ويقربون إليهم ليشفعوا لهم عند الله.
وإذا تبين ذلك فاعلم أن العلماء أجمعوا على أن من صرف شيئًا من نوعي الدعاء لغير الله فهو مشرك ولو قال لا إله إلا الله محمدًا رسول الله وصلي وصام، إذ شرط الإسلام مع التلفظ بالشهادتين أن لا يعبد إلا الله فمن أتي بالشهادتين وعبد غير الله فما أتي بهما حقيقة وإن تلفظ بهما كاليهود الذين يقولون: لا إله إلا الله وهم مشركون ومجرد التلفظ بهما لا يكفي في الإسلام(2) بدون العمل بمعناهما واعتقاده إجماعًا.
قال الإمام أبو الوفاء على بن عقيل الحنبلي: لما صعبت التكاليف على الجهَّال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع صنعوها ووضعوها لأنفسهم فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم وهم عندي كفار لهذه الأوضاع مثل تعظيم القبور وخطاب الموتى بالحوائج وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل كذا وكذا أو إلقاء الخرق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى.
__________
(1) فاطر، آية: 13.
(2) أكرر لا يدخل الإنسان في حقيقة الإسلام إلا بالتوحيد وترك الشرك ولا إسلام مع الشرك لا بدءًا ولا استمرارًا ولا انتهاءًا، والمقصود بالتوحيد والشرك هو الإتيان والترك جملة وتفصيلاً ليس مجرد الالتزام الذي يثبت بادعاء التوحيد مع إمكان الوقوع في مفردات الشرك والكفر الأكبر.(1/276)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فإذا كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ممن انتسب إلى الإسلام من مَرَقَ منه مع عبادته العظيمة فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان أيضًا قد يمرق أيضًا من الإسلام وذلك بأسباب منها:
الغلو الذي ذمه الله في كتابه حيث قال: { يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ } (1) وكذلك الغلو في بعض المشايخ بل الغلو في على بن أبي طالب بل الغلو في المسيح عليه السلام فكل من غلا في نبيّ أو رجل صالح وجعل فيه نوعًا من الإلهية مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني أو أغثني أو ارزقني أو أجبرني أو أنا في حسبك ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل، فإن الله إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده ولا يدعي معه إله آخر والذين يدعون مع الله آلهة أخري مثل المسيح والملائكة والأصنام لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق أو تنزل المطر أو تنبت النبات وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم أو يعبدون صورهم ويقولون { مَا نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } (2).
__________
(1) النساء، آية: 171.
(2) الزمر، آية: 3 .(1/277)
وقال شيخ الإسلام: من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم كفر إجماعًا. نقله عنه غير واحد مقررين له منهم ابن مفلح في ”الفروع“، وصاحب ”الإنصاف“، وصاحب ”الغاية“، وصاحب ”الإقناع“، وشارحه وغيرهم ونقله صاحب ”القواطع“ في كتابه عن صاحب ”الفروع“ وقال الإمام الحافظ بن عبد الهادي في رده على السبكى: وقوله أي قول السبكى: إن المبالغة في تعظيمه أي تعظيم الرسول - صلى الله عليه وسلم - واجبه إن أريد به المبالغة بحسب ما يراه كل أحد تعظيمًا حتى الحج إلى قبره والسجود له والطواف به واعتقاد أنه يعلم الغيب وأنه يعطي ويمنع ويملك ـ لمن استغاث به من دون الله ـ الضر والنفع وأنه يقضي حوائج السائلين ويفرِّج كربات المكروبين وأنه يشفع فيمن يشاء ويدخل الجنة من شاء فدعوى المبالغة في هذا التعظيم مبالغة في الشرك وانسلاخ من جملة الدين. قلت: هذا هو اعتقاد عبَّاد القبور فيمن هو دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضلاً عن الرسول». أهـ.
يقول الشيخ(1) في تفسير هذا الباب: المسألة الثانية تفسير قوله: { وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ } (2)، الثالثة: أن هذا هو الشرك الأكبر، الرابعة: أن أصلح الناس لو فعله إرضاء لغيره صار من الظالمين، السادسة: كون ذلك لا ينفع في الدنيا مع كونه كفرًا، الثامنة: أن طلب الرزق لا ينبغي إلا من الله كما أن الجنة لا تطلب إلا منه ومن هذه المسائل أن المدعو غافل عن دعاء الداعي، تسمية تلك الدعوى عبادة وأنها سبب لبغض المدعو للداعي وعداوته له وكفر المدعو بتلك العبادة وتلك الدعوة سبب كون الداعي أضل الناس وذلك تفسيرًا لقوله تعالى: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } (3).
__________
(1) مجموعة التوحيد، ص 187.
(2) يونس، آية: 106.
(3) الآحقاف، آية: 5.(1/278)
(10) باب ”ما جاء أن بعض هذه الأمّة يعبد الأوثان“(1):
وقوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } (2)، وقوله تعالى: { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ } (3)، وقوله تعالى: { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا } (4)، وعن أبي سعيد الخدرى - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لتتبعنَّ سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخل جحر ضبّ لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال فمن!» أخرجاه.
ولمسلم عن ثوبان - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله زوى لي الأرض. إلى قوله: حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا ويسبي بعضهم بعضًا». رواه البرقاني في صحيحه، وزاد «إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة ولا تقوم الساعة حتى يلحق حيٌّ من أمتي بالمشركين وحتى يعبد فئام من أمتي الأوثان...» إلى آخرالباب.
يقول الشيخ سليمان(5) في تفسير حديث ثوبان: «والمعنى أن الله تعالى لا يسلط الكفار على معظم المسلمين وجماعتهم وإمامهم ما داموا بضد هذه الأوصاف المذكورة في قوله حتى يكون يهلك بعضهم بعضًا فأما إذا وجدت هذ الأوصاف فقد يسلط الكفار على جماعتهم ومعظمهم وإمامهم كما وقع».
__________
(1) كتاب التوحيد، ص 203.
(2) النساء، آية: 51.
(3) المائدة، آية: 60.
(4) الكهف، آية: 21.
(5) تيسير العزيز الحميد، ص 372.(1/279)
يقول الشيخ ابن عبد الوهاب(1): «فيه مسائل: الرابعة: وهي أهمها، ما معنى الإيمان بالجبت والطاغوت؟ هل هو اعتقاد قلب أو هو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها، الخامسة: قولهم إن الكفار الذين يعرفون كفرهم أهدي سبيلاً من المؤمنين، السادسة وهي المقصودة بالترجمة: أن هذا لابد أن يوجد في هذه الأمة كما تقرر في حديث أبي سعيد، السابعة: التصريح بوقوعها، أعني عبادة الأوثان في هذه الأمة في جموع كثيرة، الثامنة: العجب العجاب. خروج من يدعي النبوة مثل المختار مع تكلمه بالشهادتين وتصريحه أنه من هذه الأمة وأن الرسول حق وأن القرآن حق وفيه أن محمدًا خاتم النبيِّّن ومع هذا يصدق في هذا كله مع التضاد(2) الواضح، الرابعة عشر: التنبيه على معنى عبادة الأوثان».
(11) باب ”ما جاء في الرياء“:
__________
(1) كتاب التوحيد، ص 203.
(2) السبب جناية التأويل على الدين.(1/280)
يقول الشيخ سليمان(1): «قال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إلى أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ… } (2) الآية. في الآية دليل على الشهادتين وأن الله تعالى فرض على نبينا - صلى الله عليه وسلم - أن يخبرنا بتوحيد الإلهية ـ وإلا فتوحيد الربوبية لم ينكره الكفار الذين كذبوه وقاتلوه ـ ذكر عن السلف من أهل العلم في الآية أنواع مما يفعله الناس اليوم ولا يعرفون معناه الأول: العمل الصالح الذي يفعله كثير من الناس ابتغاء وجه الله من صدقة وصلاة وإحسان إلى الناس وترك الظلم ونحو ذلك مما يفعله الإنسان أو يتركه خالصًا لله ولكنه لا يريد ثوابه في الآخرة وإنما يريد أن يجازيه الله بحفظ ماله وتنميته أو حفظ أهله وعياله أو إدامته النعم عليه ولا همة له في طلب الجنة والنجاة من النار فهذا يعطي ثوابه في الدنيا وليس له في الآخرة نصيب. النوع الثاني: أن يعمل أعمالاً صالحة يقصد بها مالاً مثل أن يحج بمال يأخذه لا لله أو يهاجر لدنيا يصيبها. النوع الثالث: أن يعمل بطاعة الله مخلصًا في ذلك لله وحده لا شريك له لكنه على عمل يكفره كفرًا يخرجه عن الإسلام مثل اليهود والنصارى إذا عبدوا الله وتصدقوا أو صاموا ابتغاء وجه الله والدار الآخرة ومثل كثير من هذه الأمة الذين فيهم كفر(3) أو شرك أكبر يخرجهم من الإسلام بالكلية إذا أطاعوا الله طاعة خالصة يريدون بها ثواب الله في الدار الآخرة لكنهم على أعمال تخرجهم من الإسلام وتمنع قبول أعمالهم فهذا النوع قد ذكر أيضًا في الآية عن أنس بن مالك وغيره». أهـ.
(12) باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرمه الله فقد اتخذهم أربابًا من دون الله.
__________
(1) تيسير العزيز الحميد، ص 536.
(2) الكهف، آية: 110.
(3) نكرة معناها أي كفر أو شرك أكبر كان.(1/281)
لقول الشيخ سليمان: «لما كانت الطاعة من أنواع العبادات بل هى العبادة، فإنها طاعة الله بامتثال ما أمر به على ألسنة رسله عليهم السلام نبه المصنف رحمه الله بهذه الترجمة على وجوب اختصاص الخالق تبارك وتعالى بها والمقصود هنا الطاعة الخاصة في تحريم الحلال أو تحليل الحرام فمن أطاع مخلوقًا في ذلك غير الرسول - صلى الله عليه وسلم - ـ فإنه لا ينطق عن الهوى ـ فهو مشرك كما بين النبيّ - صلى الله عليه وسلم - مبلغًا عن ربِّه { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ } (1) وفسرها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بطاعتهم في تحريم الحلال وتحليل الحرام، ثم ذكر حديث عديّ ابن حاتم وعلق عليه بقوله: صرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث بأن عبادة الأحبار والرهبان هى طاعتهم في تحريم الحلال وتحليل الحرام وهو طاعتهم(2) في خلاف حكم الله ورسوله».
(13) باب قول الله عزّ وجل { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا } (3) الآيات.
__________
(1) التوبة، آية: 31.
(2) المعني أن تخاطب بخلاف حكم الله ورسوله فتقبله وتطيعه.
(3) النساء، آية: 60.(1/282)
يقول الشيخ سليمان: لما كان التوحيد الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله مشتملاً على الإيمان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - مستلزمًا له وذلك هو الشهادتان ولهذا جعلهما النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ركنًا واحدًا في قوله بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، نبَّه في هذا الباب على ما تضمنه التوحيد واستلزمه من تحكيم الرسول - صلى الله عليه وسلم - في موارد النزاع إذ هو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله ولازمها الذي لابد منه لكل مؤمن فإن من عرف أن لا إله إلا الله فلابد من الانقياد لحكم الله والتسليم لأمره الذي جاء من عنده على لسان رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - فمن شهد أن لا إله إلا الله ثم عدل إلى تحكيم غير الرسول - صلى الله عليه وسلم - في موارد النزاع فقد كذب في شهادته وإن شئت قلت لما كان التوحيد مبنيًا على الشهادتين إذ لا تنفك إحداهما عن الأخرى لتلازمهما وكما تقدم في هذا الكتاب(1). فى معنى شهادة أن لا إله إلا الله التي تتضمن حق الله على عباده. نبَّه في هذا الباب على معنى شهادة أن محمد رسول الله التي تتضمن حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنها تتضمن أنه عبد لا يعبد ورسول صادق لا يكذب بل يطاع ويتبع لأنه المبلغ عن الله تعالى.
__________
(1) كتاب التوحيد.(1/283)
ومن لوازم ذلك متابعته وتحكيمه في موارد النزاع وترك التحاكم إلى غيره كالمنافقين الذين يدعون الإيمان به ويتحاكمون إلى غيره وبهذا يتحقق العبد بكمال التوحيد وكمال المتابعة وذلك هو كمال سعادته وهو معنى الشهادتين إذا تبين هذا فمعني الآية المترجم لها: أن الله تبارك وتعالى أنكر على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى الأنبياء قبله وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -... وقوله تعالى: { وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ } (1) أي بالطاغوت وهو دليل على أن التحاكم إلى الطاغوت مناف للإيمان مضاد له فلا يصح الإيمان إلا بالكفر به وترك التحاكم إليه فمن لم يكفر بالطاغوت لم يؤمن بالله.
قوله: { وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا } (2) أي لأن إرادة التحاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من طاعة الشيطان وهو إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير.
(14) باب ”قول ما شاء الله وشئت“:
__________
(1) النساء، آية:60.
(2) النساء، آية: 60.(1/284)
يقول الشيخ سليمان(1): «ولابن ماجة عن الطفيل أخي عائشة رضى الله عنهما لأمها قال: رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود قلت إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون عزير بن الله، قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد ثم مررت بنفر من النصارى. فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله. قالوا وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت ثم أتيت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، قال هل أخبرتَ بها أحدًا. قلت: نعم. قال: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فإن طفيلاً رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها فلا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله وحده».
يقول الشيخ سليمان: وقوله «إنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها وفي رواية أحمد والطبراني وإنكم كنتم تقولون كلمة كان يمنعني الحياء منكم أن أنهاكم عنها...» وفيه الدليل على أنها من الشرك الأصغر إذ لو كانت من الأكبر لأنكرها من أول مرة قالوها.
يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب(2): المسألة الرابعة: أن هذا ليس من الشرك الأكبر لقوله «يمنعني كذا وكذا».
(15) باب مَنْ هزلَ بشيءٍ فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول وقول الله تعالى: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } (3) الآية:
__________
(1) تيسير العزيز الحميد، ص 630 وما بعدها.
(2) مجموعة التوحيد، ص 226.
(3) التوبة، آية: 65.(1/285)
يقول الشيخ سليمان(1): «قال تعالى: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } الآية. { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ } أي سألت المنافقين الذين تكلموا بكلمة الكفر استهزاءً { لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } أي يعتذرون بأنهم لم يقصدوا الاستهزاء والتكذيب وإنما قصدوا الخوض في الحديث واللعب. { قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ } لم يعبأ باعتذارهم إما لأنهم كانوا كاذبين فيه(2) وإما لأن الاستهزاء على وجه الخوض واللعب لا يكون صاحبه معذورًا وعلي التقديرين فهذا عذر باطل فإنهم أخطأوا موقع الاستهزاء وهل يجتمع الإيمان بالله وكتابه ورسوله والاستهزاء بذلك في قلب؟ بل ذلك عين الكفر فلذلك كان الجواب مع ما قبله { لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } وقول من يقول إنهم كفروا بعد إيمانهم بلسانهم مع كفرهم أولاً بقلوبهم لا يصح لأن الإيمان باللسان مع كفر القلب قد قارنه الكفر فلا يقال قد كفرتم بعد إيمانكم فإنهم لم يزالوا كافرين في نفس الأمر، وإن أريد أنكم أظهرتم الكفر بعد إظهاركم الإيمان فهم لم يظهروا ذلك إلا لخوضهم وهم مع خوضهم مازالوا هكذا، بل لما نافقوا وحُذِّروا أن تنزل عليهم سورة تبين ما في قلوبهم من النفاق وتكلموا بالاستهزاء أي. صاروا كافرين بعد إيمانهم ولا يدل اللفظ على أنهم مازالوا منافقين. إلى أن قال تعالى: { لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ... } الآية فدَّل على أنهم عند أنفسهم لم يكونوا قد أتوا كفرًا بل ظنوا أن ذلك ليس بكفر فتبين أن الاستهزاء بآيات الله ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه».
__________
(1) المصدر السابق، ص671 وما بعدها.
(2) يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «إنهم لم يكونوا كاذبين في اعتذارهم بل كانوا صادقين ولم يعلموا أنهم يكفرون بما صدر عنهم ولم يعتقدوه ولم يقصدوا به الكف».(1/286)
يقول شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب(1): عن ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة دخل حديث بعضهم في بعض: أنه قال رجل في غزوة تبوك «ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونًا ولا أكذب ألسنًا ولا أجبن عند اللقاء» يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه القراء فقال له عوف ابن مالك كذبت ولكنك منافق لأخبرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذهب عوف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليخبره فوجد القرآن قد سبقه فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد ارتحل - صلى الله عليه وسلم - وركب ناقته فقال: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونتحدث حديث الركب نقطع به عناء الطريق قال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقًا بنسعة ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن الحجارة تنكب رجليه وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب، فيقول له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: { أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ } (2) ما يلتفت إليه وما يزيد عليه».
يقول الشيخ في ”المسائل“: «فيه مسائل، الأولى: وهي العظيمة أن من هزل بهذا فهو كافر. الثانية: أن هذا هو تفسير الآية فيمن فعل ذلك كائنًا من كان. الثالثة: الفرق بين النميمة وبين النصيحة لله ولرسوله. الرابعة: الفرق بين العفو الذي يحبه الله وبين الغلظة على أعداء الله. الخامسة: أن من الأعذار ما لا ينبغي أن يقبل». أهـ.
9- فهم حقيقة لا إله إلا الله محمد رسول الله وحقيقة التوحيد من خلال بعض النقول من كتاب ”فتح المجيد شرح كتاب التوحيد“ للشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ:
(1) باب ”فضل التوحيد وما يُكَفِّر به من الذنوب“(3):
__________
(1) مجموعة التوحيد، ص 228 وما بعدها.
(2) التوبة، آية: 65.
(3) فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، طبعة دار الحديث، ص 36 .(1/287)
عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنَّة حق والنَّار حق أدخله الله الجنَّة على ما كان من العمل».
قوله: «مَنْ شَهِدَ أنَّ لاَ إلهَ إلاَّ الله» أي من تكلم بها عارفًا لمعناها عاملا بما تقتضيه باطنًا وظاهرًا فلابد في الشهادتين من العلم واليقين والعمل بمدلولهما كما قال تعالى: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ } (1)، وقوله - عز وجل -: { إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } (2) أما النطق بها من غير معرفة لمعناها ولا يقين ولا عمل بمقتضاها من البراءة من الشرك وإخلاص القول والعمل قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح فغير نافع بالإجماع. قال القرطبي في ”المفهم على صحيح مسلم“، باب ”لا يكفي مجرد التلفظ بالشهادتين بل لابد من استيقان القلب“، هذه الترجمة تنبيه على فساد مذهب غلاة المرجئة القائلين بأن التلفظ بالشهادتين كاف في الإيمان وأحاديث(3) هذا الباب تدل على فساده بل هو مذهب معلوم الفساد من الشريعة لمن وقف عليها ولأنه يلزم منه تسويغ النفاق والحكم للمنافق بالإيمان الصحيح وهو باطل قطعًا. وفي هذا الحديث ما يدل على هذا وهو قوله «من شهد» فإن الشهادة لا تصح إلا إذا كانت عن علم ويقين وإخلاص وصدق.
__________
(1) محمد، آية: 19.
(2) الزخرف، آية: 86.
(3) رتَّب الإمام مسلم عليه رحمة الله أحاديثَ باب الإيمان للدلالة على فساد مذهب المرجئة.(1/288)
ومعنى ”لا إله إلا الله“ لا معبود بحق إلا الله وهو في غير موضع من القرآن. ويآتيك في قول البضاعى صريحًا ”وحده“ تآكيد للإثبات، ”لا شريك له“ تأكيد للنفي قاله الحافظ، كما قال تعالى: { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيم } (1)، وقال - عز وجل -: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ } (2)، وقال - عز وجل -: { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا(3) اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } فأجابوه ردًا عليه بقولهم أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا } (4)، وقال تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } (5) فتضمن ذلك نفي الإلهية عما سوى الله وهي العبادة وإثباتها لله وحده لا شريك له والقرآن من أوله إلى آخره يبين هذا ويقرره ويرشد إليه.
__________
(1) البقرة، آية: 163 .
(2) الأنبياء، آية: 25 .
(3) معنى العبادة معلوم بضرورة اللغة والفطرة وبيان الرسل والواقع فهم يمارسون فيه العبادة فعلاً لله ولغيره والخلاف على مَنْ الذي يقصد بها هل هو الله وحده أم الله ومعه الشركاء.
(4) الأعراف، آية: 70.
(5) الحج، آية: 62.(1/289)
قال في ”قرة العيون“: وقد تضمنت هذه الكلمة العظيمة نفيًا وإثباتًا فنفت الإلهية عن كل ما سوى الله بقولك ”لا إله“ وأثبت الإلهية لله وحده بقولك ”إلا الله“ قال تعالى: { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (1) فكم ضلَّ بسبب الجهل لمعناها مَنْ ضلَّ وهم الأكثرون فقلبوا حقيقة المعني وأثبتوا الإلهية المنفية لمن نفيت عنه من المخلوقين أرباب القبور والمشاهد والطواغيت والأشجار والأحجار والجنِّ وغير ذلك واتخذوا ذلك دينًا وشبهوا وزخرفوا واتخذوا التوحيد بدعة وأنكروا على من دعاهم إليه فلم يعرفوا منها ما عرف أهل الجاهلية من كفار قريش ونحوهم فإنهم عرفوا معناها وأنكروا ما دلت عليه من الإخلاص كما قال تعالى: { إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُون - وَيقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ } (2) والمشركون من أواخر هذه الأمة أنكروا ما أنكره أولئك على من دعاهم إلى ترك عبادة ما كانوا يعبدونه من دون الله من الموتى والقبور والمشاهد والطواغيت ونحوها فأولئك عرفوا المعني وأنكروه وهؤلاء جهلوا المعني وأنكروه ولذلك تجده يقول ”لا إله إلا الله“ ويدعو مع الله غيره. قاله الوزير أبو المظفر في ”الإفصاح“: قوله شهادة ”أن لا إله إلا الله“ يقتضي أن يكون الشاهد عالمًا بأنه لا إله إلا الله كما قال تعالى: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ } (3).
وجملة الفائدة في ذلك أن تعلم أن هذه الكلمة مشتملة على الكفر بالطاغوت والإيمان بالله فإنك لما نفيت الإلهية وأثبت الإيجاب لله سبحانه كنت ممن كفر بالطاغوت وآمن بالله.
__________
(1) آل عمران، آية: 18.
(2) الصافات، الآيتان: 35-36 .
(3) محمد، آية: 19.(1/290)
قال شيخ الإسلام: «الإله هو المعبود المطاع، فإن الإله هو المألوه. والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب المخضوع له غاية الخضوع... فـ ”لا إله إلا الله“ لا تنفع إلا من عرف مدلولها نفيًا وإثباتًا واعتقد ذلك وقبله وعمل به وأما من قالها من غير علم واعتقاد وعمل فهذا جهل صرف، فهي حجة عليه بلا ريب... فإن مشركي العرب ونحوهم جحدوا لا إله إلا الله لفظًا ومعني وهؤلاء أقروا بها لفظًا وجحدوها معنى... بل زاد شركهم على شرك العرب بمراتب فإن أحدهم إذا وقع في شدة أخلص الدعاء لغير الله تعالى ويعتقدون أنه أسرع فرجًا لهم من الله بخلاف حال المشركين الأولين فإنهم كانوا يشركون في الرخاء وأما في الشدائد فإنما يخلصون لله وحده. كما قال تعالى: { فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } (1)
... قوله في الحديث «عبده ورسوله» أتي بهاتين الصفتين وجمعهما دفعًا للإفراط والتفريط فإن كثيرًا ممن يدعي أنه من أمته أفرط بالغلو قولا وفعلاً وفرَّط بترك متابعته واعتمد على الآراء المخالفة لما جاء به وتعسف في تأويل أخباره وأحكامه وصرفها عن مدلولها والصدوف عن الانقياد لها مع إطراحها، فإن شهادة أن محمدًا رسول الله تقتضي الإيمان به، وتصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر والانتهاء عما عنه نهي وزجر. وأن يعظم أمره ونهيه ولا يقدم عليه قول أحد كائنًا من كان والواقع اليوم وقبله ممن ينتسب إلى العلم من القضاة والمفتين خلاف ذلك.
__________
(1) العنكبوت، آية: 65.(1/291)
قوله(1): على ما كان من العمل ـ هذه الجملة جواب الشرط ـ قال الحافظ معنى قوله «على ما كان من العمل»، أي من صلاح أو فساد لأن أهل التوحيد لابد لهم من دخول الجنة... قال القاضي عياض ما ورد في حديث عباده يكون مخصوصًا لمن قال ما ذكره - صلى الله عليه وسلم - وقرن بالشهادتين حقيقة الإيمان والتوحيد الذي ورد في حديثه فيكون له من الأجر ما يرجح على سيئاته ويوجب له المغفرة والرحمة ودخول الجنة لأول وهلة.
__________
(1) فتح المجيد، ص 48.(1/292)
وقوله(1) - صلى الله عليه وسلم - :«من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله» ـ وهو حقيقة معناها الذي دلت عليه هذه الكلمة من الإخلاص ونفي الشرك، والصدق والإخلاص متلازمان لا يوجد أحدهما بدون الآخر فإن من لم يكن مخلصًا فهو مشرك ومن لم يكن صادقًا فهو منافق والمخلص أن يقولها مخلصًا الإلهية لمن لا يستحقها غيره وهو الله تعالى ـ وهذا التوحيد أساس الإسلام الذي قال فيه الخليل - عليه السلام - { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ } (2)، وقالت بلقيس { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (3)، وقال الخليل { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ } (4) والحنيف هو الذي ترك الشرك رأسًا وتبرأ منه وفارق أهله وعاداهم وأخلص أعماله الباطنة والظاهرة لله وحده كما قال تعالى: { وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } (5) فإسلام الوجه لله هو إخلاص العبادة المنافي للشرك والنفاق وهو معنى الآية ونحوها إجماعًا فهذا هو الذي ينفعه قوله ”لا إله إلا الله“ ولهذا قال تعالى: { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } وهذا بخلاف من يقولها وهو يدعو غير الله ويستغيث به من ميت أو غائب لا ينفع ولا يضر كما نري عليه أكثر الخلق، فهؤلاء وإن قالوا فقد تلبسوا بما يناقضها فلا تنفع قائلها إلا بالعلم بمدلولها نفيًا وإثباتًا والجاهل بمعناها وإن قالها لا تنفعه لجهله بما وضعت له من الوضع العربي الذي أريد منها من نفي الشرك، وكذلك إذا عرف معناها بغير
__________
(1) قرة عيون الموحدين، مكتبة التوعية الإسلامية، ص 29 .
(2) البقرة، اية: 128.
(3) النمل، آية: 44.
(4) الأنعام، اية: 79.
(5) لقمان، آية: 22.(1/293)
تيقن له، فإذا انتفى اليقين وقع في الشك ومما قيدت به في الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم -: «غير شاك» فلا تنفع إلا من قالها بعلم ويقين لقوله «صادقًا من قلبه» ـ خالصًا من قلبه ـ وكذلك من قالها غير صادق في قوله فإنها لا تنفعه لمخالفة القلب اللسان كحال المنافقين الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم وكذلك حال المشرك فلا تقبل من مشرك لمنافاة الشرك للإخلاص ولما دلت عليه هذه الكلمة مطابقة فإنها دلت على نفي الشرك والبراءة منه والإخلاص لله وحده لا شريك له مطابقة ومن لم يكن كذلك لم ينفعه قوله ”لا إله إلا الله“ كما هو حال كثير من عبدة الأوثان، يقولون: لا إله إلا الله وينكرون ما دلت عليه من الإخلاص ويعادون أهله وينصرون الشرك وأهله. وقد قال تعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ - إلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِي - وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ } (1) وهى لا إله إلا الله وقد عبَّر عنها الخليل بمعناها الذي وضعت له ودلت عليه. وهو البراءة من الشرك وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له. وكذلك من قالها ولم يقبل ما دلت عليه من الإخلاص كان قوله لهذه الكلمة كذبًا منه بل قد عكس مدلولها فأثبت ما نفته من الشرك ونفي ما أثبتته من الإخلاص. أهـ.
__________
(1) الزخرف، آيات: 26-28 .(1/294)
قلت: ”الشيخ عبد الرحمن آل الشيخ“ فتبين بهذا السياق معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأنها تتضمن ـ ترك الشرك لمن قالها بصدق ويقين وإخلاص ـ وفي الحديث الدليل على أنه لا يكفي في الإيمان النطق من غير اعتقاد وبالعكس. قال - صلى الله عليه وسلم -: «يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة وما يزن خردلة وما يزن ذرة»، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة(1) من إيمان».
عن أنس(2) سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «قال الله تعالى يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة». قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا» شرط ثقيل في الوعد بحصول المغفرة وهو السلامة من الشرك كثيره وقليله، صغيره وكبيره، ولا يسلم من ذلك إلا من سلَّمه الله تعالى وذلك هو القلب السليم كما قال تعالى: { يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ - إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } .
__________
(1) من الإيمان الواجب زيادة على التوحيد لأن التوحيد لا يتبعض هكذا يقول العلماء في تفسير الحديث إجماعًا.
(2) فتح المجيد، ص 59.(1/295)
وفي هذا الحديث ما يبين معنى لا إله إلا الله التي رجحت جميع المخلوقات وجميع الحسنات وإن ذلك ترك الشرك قليله وكثيره وذلك يقتضي كمال التوحيد فلايسلم من الشرك إلا مَنْ حقق التوحيد وأتي بما تقتضيه هذه الكلمة من العلم واليقين والصدق والإخلاص والمحبة والقبول والانقياد. قوله تعالى(1) { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } (2)، وقال تعالى عن خليله إبراهيم: { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا - فلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيًّا } (3) فهذا هو تحقيق الإخلاص والتوحيد وهو البراءة من الشرك وأهله واعتزالهم والكفر بهم وعداوتهم وبغضهم،
قال المصنِّف الشيخ محمد بن عبد الوهاب في تفسير قوله تعالى: { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } (4)، قال: لئلا يستوحش سالك الطريق مِنْ قلة السالكين { قَانِتًا لِلَّهِ } لا للملوك ولا للتجار المترفين { حَنِيفًا وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } خلافًا لمن كثر سوادهم وزعم أنه من المسلمين.
(2) باب ”الخوف من الشرك“:
__________
(1) المصدر السابق، ص 64 .
(2) الممتحنة، آية: 4.
(3) مريم، الآيتان: 48-49 .
(4) النحل، آية: 120.(1/296)
قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } (1). قال في قرة العيون(2): «قال النووي رحمه الله تعالى: أما دخول المشرك النار فهو على عمومه فيدخلها ويخلد فيها ولا فرق بين الكتابي اليهودي والنصراني وبين عبدة الأوثان وسائر الكفرة ولا فرق عند أهل الحق بين الكافر عنادًا وغيره ولا بين من خالف ملة الإسلام وبين من انتسب إليها ثم حكم بكفره بجحده ما يكفر بجحده ـ وأما دخول من مات غير مشرك الجنة فهو مقطوع به. قال الشيخ حامد الفقي: هذا قول أهل السنة والجماعة لا اختلاف بينهم في ذلك وهذه الآية من أعظم ما يوجب الخوف من الشرك لأن الله تعالى قطع المغفرة من المشرك وأوجب له الخلود في النار وأطلق ولم يقيد ثم قال سبحانه: { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (3) مخصص ومقيد فيما دون الشرك ـ فهذا الذنب الذي هذا شأنه لا يأمن أن يقع فيه فلا يرجى معه نجاة إن لم يتب منه قبل الوفاة».
قوله(4): «مَنْ لقى الله لا يشرك به شيئًا»، قال القرطبي: أي لم يتخذ معه شريكًا في الإلهية ولا في الخلق ولا في العبادة ومن المعلوم من الشرع المجمع عليه عند أهل السنة أن من مات على ذلك فلابد له من دخول الجنة، وإن جرت عليه قبل ذلك أنواع من العذاب. والمحنة أن مَنْ مات على الشرك لا يدخل الجنة ولا يناله من الله رحمة ويخلد في النار أبد الآباد من غير انقطاع. وقال غيره اقتصر على نفي الشرك لاستدعائه التوحيد بالاقتضاء واستدعائه إثبات الرسالة باللزوم ـ إذْ مَنْ كذَّب رسل الله فقد كذَّب الله ومَنْ كذَّب الله فهو مشرك وهو كقولك من توضأ صحت صلاته ـ أي مع سائر الشروط. فالمراد من مات حال كونه مؤمنًا بجميع ما يجب الإيمان به إجمالا في الإجمالي وتفصيلاً في التفصيلي.
__________
(1) النساء، آية: 48، 116 .
(2) قرة عيون الموحدين، طبعة مكتبة التوحيد الإسلامية، ص 43.
(3) النساء، آية: 48.
(4) فتح المجيد، ص 83.(1/297)
(3) باب ”الدعاء إلى شهادة(1) أن لا إله إلا الله“:
قال تعالى: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ } (2)، قال المصنِّف رحمه الله: فيه مسائل، منها التنبيه على الإخلاص لأن كثيرًا ولو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه، ومنها أن البصيرة من الفرائض، ومنها: أن من دلائل حسن التوحيد أنه تنزيه لله تعالى عن المسبِّة، ومنها أن من قبح الشرك كونه مسبة لله، ومنها إبعاد المسلم عن المشركين لئلا يصير منهم ولو لم يشرك... السابعة: كون التوحيد أول واجب وأنه يبدأ به قبل كل شيء حتى الصلاة، وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بعث معاذًا إلى اليمن قال: «إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله» وفي رواية «إلى أن يوحدوا الله».
__________
(1) المصدر السابق، ص 87.
(2) يوسف، آية: 108.(1/298)
قال في قرة العيون(1): وكانوا يقولونها لكنهم جهلوا معناها الذي دلت عليه من إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له وترك عبادة ما سواه فكان قولهم لا إله إلا الله لا ينفعهم لجهلهم بمعني هذه الكلمة كحال أكثر المتأخرين من هذه الأمة فإنهم كانوا يقولونها مع ما كانوا يفعلونه من الشرك بعبادة الأموات والغائبين والطواغيت والمشاهد فيأتون بما ينافيها فيثبتون ما نفته من الشرك باعتقادهم وقولهم وفعلهم وينفون ما أثبتته من الإخلاص وظنوا أن معناها القدرة على الاختراع تقليدًا للمتكلمين من الأشاعرة وغيرهم وهذا توحيد الربوبية الذي أقر به المشركون فلم يدخلهم في الإسلام { قُلْ لِمَنْ الأرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } (2) وأمثال هذه الآيات في القرآن كثير وهذا التوحيد قد أقر به مشركو الأمم وأقر به أهل الجاهلية الذين بعث فيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - فلم يدخلهم في الإسلام لأنهم قد جحدوا ما دلت عليه هذه الكلمة من توحيد الإلهية وهو إخلاص العبادة ونفي الشرك والبراءة منه كما قال تعالى: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ } (3) الآية. فهذا التوحيد هو أصل الإسلام قال تعالى: { إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ } (4)، وقال تعالى: { ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ } (5)، وقال سبحانه: { ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ } (6)، وقال تعالى: { فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } (7)، { أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ }
__________
(1) قرة عيون الموحدين، ص 48.
(2) المؤمنون، آية: 84.
(3) آل عمران، آية: 64.
(4) يوسف، آية: 40.
(5) فاطر، آية: 13.
(6) غافر، آية: 12.
(7) غافر، آية: 14.(1/299)
(1) أشار المصنف رحمه الله بذكر هذه الرواية «أن يوحدوا الله» إلى التنبيه على معنى شهادة أن لا إله إلا الله، فإن معناها توحيد الله بالعبادة ونفي عبادة ما سواه، وفي رواية «فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله» وذلك هو الكفر بالطاغوت والإيمان بالله. قال تعالى: { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا } (2). والعروة الوثقي هى ”لا إله إلا الله“ وفي رواية البخاري فقال - صلى الله عليه وسلم -: «ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأنِّي رسول الله».
__________
(1) الزمر, آية: 3.
(2) البقرة، آية: 256.(1/300)
قلت ”الشيخ عبد الرحمن آل الشيخ“: لابد في شهادة أن لا إله إلا الله من سبعة شروط لا تنفع قائلها إلا باجتماعها. أحدها: العلم المنافي للجهل، والثاني: اليقين المنافي للشك، والثالث: القبول المنافي للرد، والرابع: الانقياد المنافي للترك، والخامس: الإخلاص المنافي للشرك، والسادس: الصدق المنافي للكذب، والسابع: المحبة المنافية لضدها. وفيه دليل على أن التوحيد الذي هو إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له وترك عبادة ما سواه هو أول واجب، ولهذا كان أول ما دعت إليه الرسل عليهم السلام أن { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } (1) وفيه معنى ”لا إله إلا الله“ وتقدم أن لا إله إلا الله قد تقيدت بالكتاب والسنة بقيود ثقال منها العلم، واليقين والإخلاص، والصدق، والمحبة والقبول، والانقياد، والكفر بما يعبد من دون الله. فإذا اجتمعت هذه القيود لمن قالها نفعته هذه الكلمة، وإن لم تجتمع هذه لم تنفع، والناس متفاوتون في العلم بها والعمل، فمنهم من ينفعه قولها، ومنهم من لا ينفعه كما لا يخفى. قوله - صلى الله عليه وسلم -(2) لعليّ في غزوة خيبر قال: «أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام». قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ثم ادعهم إلى الإسلام» أي الذي هو معنى لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وإن شئت قلت الإسلام هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله.
وما اقتضته الشهادتان من إخلاص العبادة لله وحده وإخلاص الطاعة لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ... فتبين أن أصل الإسلام هو التوحيد ونفي الشرك في العبادة وهو دعوة جميع المرسلين وهو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة فيما أمرهم به على ألسنة رسله.
أقول معلقًا:
__________
(1) الأعراف، آية: 59.
(2) فتح المجيد، ص 98.(1/301)
واضح جدًا أنه لا دخول في حقيقة الإسلام بغير التوحيد وترك الشرك جملة وتفصيلا بل والبراءة من أهله ومعاداتهم، وأنه لا وجود لحقيقة الإسلام بغير التوحيد وترك الشرك جملة وتفصيلا والبراءة من أهله ومعاداتهم لا فرق في ذلك بين بدء واستمرار وانتهاء.
ويقول الملبسون المضللون المحرفون للكلم عن مواضعه الذين يزعمون لأنفسهم صفة أهل السنة والجماعة وهم من أبعد الناس عنها ويتهمون أئمة أهل السنة بالبدعة وأنهم خوارج مبتدعون، فقالوا ولبئس ما قالوا:
إن المشرك مسلم إذا كان معه عقد الإسلام بالانتساب أو بالدعوى أو التلفظ. قلبوا الحقيقة، حقيقة أن لا إله إلا الله ؛ فالانتساب أو الدعوى لا تنفع صاحبها مع الشرك. قلبوها وجعلوها حصانة له من الكفر مع الشرك، وأثبتوا له بها مع الشرك صفة الإسلام وحقيقته.
وقالوا: إن الشرك لا يكفر به صاحبه في وجود هذه الحصانة.
وأنه إذا مات عليه دخل الجنة.
وليس فرضًا على الناس أن يتركوا الشرك حتى يكونوا مسلمين في الحقيقة ونفس الأمر بل هم مسلمون بغير ذلك ويتركون الشرك تباعًا كالمعاصي إذا أتاهم من يعلمهم ذلك ويأمرهم به وإن لم يأتهم فلا حرج عليهم مع التلبس بالشرك وهم مسلمون بعقد الإسلام مع تلبسهم بالشرك الأعظم وإن ماتوا على ذلك دخلوا الجنة.
وقالوا إن الناس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا كذلك أغلبهم متلبسين بالشرك مع عقد الإسلام وأقرهم على ذلك.
وقالوا: إن الشرك لم يحرم بحده جملة في بدء الرسالة وإنما حرم تباعًا منجمًا؟؟ كالمعاصي.
وقالوا: إن الذين كفروا من الأمم السابقة لم يكن بسبب الشرك أو الكفر الأعظم ولكن لأنه لم يكن معهم عقد الإسلام.
وكل واحدة من هذه الشناعات إنكار(1) لمعلوم من الدين بالضرورة.
__________
(1) لازم الأقوال.(1/302)
واللهُ يقول: { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِين } (1)، ويقول - عز وجل -: { قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ } (2)، ويقول - عز وجل -: { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } (3)، ويقول - عز وجل -: { قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ - وَأُمِرْتُ لأنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ } (4). فلا إسلام بغير الحقيقة وترك الشرك والإسلام هو ترك الشرك فكيف يكون الإسلام مع الشرك؟
والله يقول: { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (5) فالشرك كفر بمنافاته لحقيقة الإسلام.
والله يقول: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا } (6)، ويقول - عز وجل -: { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } (7).
__________
(1) آل عمران، آية: 67.
(2) الأنعام، آية: 14.
(3) الأنعام، الآيتان: 162-163.
(4) الزمر، الآيتان: 11-12 .
(5) آل عمران، اية: 80.
(6) النساء، آية: 48، 116.
(7) المائدة، آية: 72.(1/303)
ودعوة الرسل أول ما يدعون إليه أقوامهم: أن يعبدوا الله ما لهم من إلهٍ غيره. التوحيد وترك الشرك جملة وتفصيلاً وبغير هذا لا يكونون مسلمين. فالتوحيد هو أول ما يجب على المكلف وبه تقبل وتصح الأعمال وبدونه لا يكون المسلم مسلمًا.
ولم يحدث أن تلبس مسلم بالشرك وأقره الرسول على ذلك بل أول ما حدث ولاء للكافرين من بعض من ينتسب إلى الإسلام أو مظاهرة للمشركين أو إعراض عن حكم الله إلى حكم كعب بن الأشرف أو إلى أبي برزة الأسلمى كانت كل هذه الأفعال كفرًا كفر به صاحبه، ولم يكن الفعل قبل ورود النص التفصيلي فيه على وضع البراءة الأصلية كشأن المحرمات قبل التحريم مثل الخمر والربا والميسر أو الاستغفار للمشركين يقول الله فيها: { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } (1)، ويقول: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَايَتَّقُونَ } (2) بل كان الفعل كفرًا كفروا به { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاء } (3) رغم كونه أول ما وقع اكتفاء بتحريم الشرك بحده وليس بمفرداته كتحريم البدع والفِرَقِ فإنما تحرم بحدها وليس بمفرداتها «كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار» اكتفاء بوجود حد البدعة في الاعتقاد أو القول أو العمل دون وجود بيان تفصيلي من الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالمحرمات من البدع ولا يوجد تفصيل بهذه المحرمات أبدًا ولا يمكن أن يوجد بخلاف المعاصي فإنه لا تحريم إلا بنص ولا تجريم إلا بتحريم ولا عقوبة إلا بتجريم. أما الشرك فيحرم بقول الرسول { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } (4) وبقول ”لا إله إلا الله محمدًا“ رسول الله فيحرم بحده دون حاجة إلى بيان تفصيلي بمفرداته
__________
(1) المائدة، آية: 93.
(2) التوبة، اية: 114.
(3) النساء، آية: 89.
(4) الأعراف، آية: 59.(1/304)
كالبدع سواء بسواء أو إن صح القول أن البدع تحرم بحدها مثلما يحرم الشرك بحده، كل ما فيه حد الشرك فهو حرام ويكفر به صاحبه وكل ما فيه حد البدع فهو حرام ولا يكفر به صاحبه إلا أن تكون البدعة بعينها كفرًا.
إذا كان الشرك يحرم تباعًا لوجدنا تحريم عبادة الأصنام في العام الأول من البعثة وعبادة الملائكة في العام الثاني وعبادة الجن في العام الثالث وعبادة الكواكب في العام الرابع وعبادة النجوم في العام الخامس وعبادة المسيح وعزير في العام السادس وعبادة الأحبار والرهبان بعد الهجرة... إلخ. ولكن الشرك حرم جملة بحده بقوله لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله دون حاجة إلى العلم بمفرداته.
الكفر والردة والجاهلية في الأمم السابقة كانت مسبوقة بإسلام، فالإسلام سابق منذ أن خلق الله آدم عليه السلام. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في تفسير قوله تعالى: { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } (1) يقول شيخ الإسلام في ”منهاج السنة“: وقال تعالى: { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } يعني فاختلفوا كما في سورة يونس وكذلك في قراءة بعض الصحابة وهذا على قراءة الجمهور من الصحابة والتابعين أنهم كانوا على دين الإسلام. وفي تفسير ابن عطية عن ابن عباس أنهم كانوا على الكفر وهذا ليس بشيء وتفسير ابن عطية عن ابن عباس ليس بثابت عن ابن عباس بل ثبت عنه أنه قال كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام وقد قال في سورة يونس { وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا } (2) فذمّهم على الاختلاف بعد أن كانوا على دين واحد فعلم أنه كان حقًا. أهـ.
__________
(1) البقرة، آية: 213.
(2) يونس، آية: 19.(1/305)
والذين كفروا بالشرك من اليهود والنصارى كفروا مع بقاء انتسابهم ومع بقاء دعواهم للإسلام ومع بقائهم على بعض شعائرهم وشرائعهم وتكاليفهم الشرعية، والحبران اللذان قال لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أسلما فإنكما لم تسلما قالا له أسلمنا قبلك وقال لهما كذبتما يمنعكما من الإسلام استحلالكما الخنزير وقولكما المسيح بن الله وعبادتكما الصليب» أو كما قال - صلى الله عليه وسلم - والذين يؤتيهم الله أجرهم مرتين من أهل الكتاب قالوا: { إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ } (1) فصدقهم الله بما قالوا لأنهم كانوا فعلاً مسلمين ببقائهم على دين الحق الذي جاء به عيسى حتى اتبعوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - يقول الله تعالى عنهم: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ - وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ - أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } (2)، والله - سبحانه وتعالى - يقول: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } (3) ويقول عن غيرهم ممن بقي على نفس الانتساب ونفس الدعوى لكن مع التلبس بالشرك الذي كفروا به: { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } (4)، وقال - عز وجل -: { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } (5)،
__________
(1) القصص، آية: 53.
(2) القصص، آيات: 52-54.
(3) البقرة، آية: 62.
(4) المائدة، آية: 72.
(5) المائدة، آية: 73 .(1/306)
وقال - عز وجل -: { قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } (1) الآيات فلم يكن لهم من الانتساب ودعوى الإسلام والبقاء على بعض الشرائع حصانة من الكفر مع التلبس بالشرك، ومن لم يتلبس منهم بشرك ظل على إسلامه وقال الله عنه: { لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } (2) لا فرق بين انتساب وانتساب، أمتنا وأمة اليهود وأمة النصارى والصابئين وسائر الأمم لا يفيد الانتساب شيئًا. الشرك هو الشرك والإسلام هو الإسلام.
(4) باب ”تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله“(3):
قول الله تعالى: { قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً } (4) الآية. أكثر المفسرين على أنها نزلت فيمن يعبد المسيح وأمه والعزير والملائكة وقد نهى الله عن ذلك أشد النهي كما في هذه الآية من التهديد والوعيد على ذلك وهذا يدل على أن دعاءهم من دون الله شرك بالله ينافي التوحيد وينافي شهادة أن لا إله إلا الله فإن التوحيد أن لا يدعي إلا الله وحده وكلمة الإخلاص نفت هذا الشرك لأن دعوة غير الله تأليه وعبادة له والدعاء مخ العبادة.
قوله تعالى: { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَة } (5)
__________
(1) التوبة، آية: 29.
(2) يونس، آية: 62.
(3) فتح المجيد، ص 104.
(4) الإسراء، آية: 56.
(5) الإسراء، آية: 57.(1/307)
قال في قرة العيون(1): «أي أولئك الذين يدعوهم أهل الشرك ممن لا يملك كشف الضر ولا تحويله من الملائكة والأنبياء والصالحين كالمسيح وأمه والعزير فهؤلاء دينهم التوحيد بخلاف من دعاهم من دون الله ووصفهم بقوله: { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } . فيطلبون القرب من الله بالإخلاص له وطاعته فيما أمر وترك ما نهاهم عنه، وأعظم القُرَب (من الله) التوحيد الذي بعث الله به أنبياءه ورسله وأوجب عليهم العمل به والدعوة إليه وهذا الذي يقربهم إلى الله أي إلى عفوه ورضاه ووصف ذلك بقوله - عز وجل -: { وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ } فلا يرجون أحدًا سواه ولا يخافون غيره وذلك هو توحيده لأن ذلك يمنعهم من الشرك ويوجب لهم الطمع في رحمة الله والهرب من عقابه. والداعي لهم والحالة هذه قد عكس الأمر وطلب منهم ما كانوا ينكرون من الشرك بالله في دعائهم لمن كانوا يدعونه من دون الله ففيه معنى قوله تعالى: { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } (2) وفيه الرد على من ادعي أن شرك المشركين إنما هو بعبادة الأصنام. وتبين هذه الآية أن الله تعالى أنكر على من دعا معه غيره من الأنبياء والصالحين والملائكة ومن دونهم وأن دعاء الأموات والغائبين لجلب نفع أو دفع ضر هو من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله وأن ذلك ينافي ما دلت عليه حكمة الإخلاص.
__________
(1) قرة عيون الموحدين، طبعة دار الصحابة للتراث، ص 49.
(2) فاطر، آية: 14.(1/308)
قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ - إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } (1) الآية. فتدبر كيف عبر الخليل عن هذه الكلمة العظيمة بمعناها الذي دلت عليه ووضعت له من البراءة من كل ما يعبد من دون الله من المعبودات في الخارج كالكواكب والهياكل والأصنام التي صورها قوم نوح على صور الصالحين ود وسواع ويغوث ويعوق ونسرا وغيرها من الأوثان والأنداد التي يعبدها المشركون بأعيانها ولم يستثن من جميع المعبودات إلا الذي فطره وهو الله وحده لا شريك له. فهذا الذي دلت عليه كلمة الإخلاص مطابقة. كما قال تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ } (2). فكل عبادة يقصد بها غير الله من دعاء وغيره فهي باطلة وهو الشرك الذي لا يغفره الله، قال تعالى: { ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ - مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا } الآية(3)، قوله تعالى: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } (4) الآية، وفي الحديث الصحيح أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تلا هذه الآية على عديّ بن حاتم. فقال: يا رسول الله لسنا نعبدهم، قال: «أليس يحلون لكم ما حرَّم الله فتحلونه ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ قال: بلى. قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: فتلك عبادتهم». فصارت طاعتهم في هذه المعصية عبادة لغير الله وبها اتخذوهم أربابًا، كما هو الواقع في هذه الأمة وهذا من الشرك الأكبر المنافي للتوحيد الذي هو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله فتبين بهذه الآية أن كلمة الإخلاص نفت هذا كله لمنافاته لمدلول هذه الكلمة فأثبتوا ما نفته من الشرك وتركوا ما أثبتته من التوحيد.
__________
(1) الزخرف، آية: 26.
(2) لقمان، آية: 30.
(3) غافر، آية : 73.
(4) التوبة، آية:31.(1/309)
قوله تعالى: { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا } (1) الآية. فكل من اتخذ ندًا لله يدعوه من دون الله، ويرغب إليه، ويرجوه لما يؤمله منه من قضاء حاجاته، وتفريج كرباته، كحال عبَّاد القبور والطواغيت والأصنام فلابد أن يعظموهم ويحبوهم لذلك، فإنهم أحبوهم مع الله وإن كانوا يحبون الله تعالى ويقولون { لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ } ويصلون ويصومون. فاتخاذهم الأنداد يحبونهم كحب الله يبطل كل قول يقولونه، وكل عمل يعملونه، لأن المشرك لا يقبل منه عمل ولا يصح منه، وهؤلاء وإن قالوا ”لا إله إلا الله“ فقد تركوا كل قيد قيدت به هذه الكلمة العظيمة، من العلم بمدلولها، لأن المشرك جاهل بمعناها ومن جهله بمعناها جعل لله شريكًا في المحبة وغيرها، وهذا هو الجهل المنافي للعلم بما دلت عليه من الإخلاص، ولم يكن صادقًا في قولها لأنه لو عرف معناها وما دلت عليه لأنكره أو شك فيه ولم يقبله قوله تعالى: { قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ } (2) الآية. هذه الآية رد على من يدعو صالحًا ويقول أنا لا أشرك بالله شيئًا، الشرك عبادة الأصنام، قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ... } (3) الآية. تبين أن معنى ”لا إله إلا الله“ توحيد الله بإخلاص العبادة له والبراءة من كل ما سواه.
__________
(1) البقرة، آية: 165.
(2) الإسراء، آية: 56.
(3) الزخرف، آية: 26.(1/310)
قال المصنف رحمه الله: وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة هى شهادة ”أن لا إله إلا الله“ قوله تعالى: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } (1) الآية. دلت الآية على أن من أطاع غير الله ورسوله، وأعرض عن الأخذ بالكتاب والسنة في تحليل ما حرَّم الله أو تحريم ما أحلَّه الله، وأطاعه في معصية الله، واتبعه فيما لم يأذن به الله فقد اتخذه ربًّا ومعبودًا. فكلمة الإخلاص ”لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ“ تنفي كل شرك في أي نوع كان من أنواع العبادة، وتثبت العبادة بجميع أفرادها لله تعالى. وقد تقدم بيان أن الإله هو المألوه أي المعبود الذي تؤلهه القلوب بالحب والتعظيم والطاعة وغيرها من أنواع العبادة فـ ”لا إله إلا الله“ نفت كل ذلك عن غير الله، وأثبتته لله وحده، فهذا ما دلت عليه كلمة الإخلاص مطابقة. فلابد من معرفة معناها واعتقاده وقبوله والعمل به باطنًا وظاهرًا.
وفي الصحيح عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حُرِّمَ ماله ودمه».
قال في ”قرة العيون“(2): «فيه دليل على أنه لا يحرم ماله ودمه إلا إذا قال: ”لا إله إلا الله “ وكفر بما يعبد من دون الله ، فإن قالها ولم يكفر بما يعبد من دون الله ، فدمه وماله حلال لكونه لم ينكر الشرك ويكفر به، ولم ينفه كما نفته ”لا إله إلا الله“».
قلت ”الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ“: وفي الحديث معنى قوله تعالى: { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } (3)
__________
(1) التوبة، آية: 31.
(2) قرة عيون الموحدين، طبعة دار الصحابة للتراث، ص 54.
(3) البقرة، آية: 256.(1/311)
قال المصنف رحمه الله تعالى(1): وهذا من أعظم ما يبين معنى ”لا إله إلا الله“ فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصمًا للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع التلفظ بها، بل ولا الإقرار بذلك، ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله فإن شك أو تردد لم يحرم ماله ودمه.
قوله تعالى: { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } (2) الآية، وقال تعالى: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ... } (3) أمر بقتالهم حتى يتوبوا من الشرك ويخلصوا أعمالهم لله تعالى ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإن أبوا عن ذلك أو بعضه قوتلوا إجماعًا.
وفي ”صحيح مسلم“: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله». وفي الصحيحين: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله».
وهذان الحديثان تفسير الآيتين آية الأنفال وآية براءة وقد أجمع العلماء على أن من قال لا إله إلا الله ولم يعتقد معناها ولم يعمل بمقتضاها أنه يقاتل حتى يعمل بما دلت عليه من النفي والإثبات.
قلت ”الشيخ عبد الرحمن بن حسن الشيخ“: وأفاد الحديث أن الإنسان قد يقول لا إله إلا الله ولا يكفر بما يعبد من دون الله فلم يأت بما يعصم دمه وماله كما دلّ على ذلك الآيات المحكمات. قال المصنف الآيات والأحاديث السابقة فيها أكبر المسائل وأهمها(4):
__________
(1) المصدر السابق، ص 57.
(2) التوبة، آية: 5.
(3) الأنفال، آية: 39.
(4) فتح المجيد، ص 118.(1/312)
آية الإسراء بين فيها الرد على المشركين الذين يدعون الصالحين ففيها بيان أن هذا هو الشرك الأكبر { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ... } (1) الآية.
آية براءة { اتخذوا أحبارهم... } (2) الآية. بين أنهم لم يؤمروا إلا بأن يعبدوا إلهًا واحدًا مع أن تفسيرها الذي لا إشكال فيه طاعة العلماء والعباد في المعصية لادعاؤهم إياهم.
قول الخليل - صلى الله عليه وسلم -: { إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ... } (3) الآية. هذه البراءة وهذه الموالاة هى تفسير شهادة أن لا إله إلا الله.
قوله «من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله...» هذا من أعظم ما يبين معنى لا إله إلا الله.
فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصمًا للدم والمال بل ولا معرفة معناها مع التلفظ بها، بل ولا الإقرار بذلك بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ودمه.
(5) باب ”ما جاء في الذبح لغير الله“(4):
قوله تعالى: { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } (5). فالله تعالى أمر عباده بأن يتقربوا إليه بالنسك كما تعبدهم بالصلاة وغيرها من أنواع العبادات فإن الله أمرهم أن يخلصوا جميع أنواع العبادة له دون كل ما سواه.
__________
(1) الإسراء، آية: 57.
(2) التوبة، آية: 31.
(3) الزخرف، الآيتان: 26-27.
(4) فتح المجيد، ص 154.
(5) الأنعام، الآيتان: 162-163.(1/313)
قال في قرة العيون(1): إن هذه الآية دلت على أن أقوال العبد وأعماله الباطنة والظاهرة لا يجوز أن يصرف منها شيء لغير الله كائنًا من كان فمن صرف منها شيئًا لغير الله فقد وقع فيما نفاه الله تعالى من الشرك بقوله سبحانه: { وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ } (2) والقرآن كله في تقرير هذا التوحيد في العبادة وبيانه ونفي الشرك والبراءة منه(3). عن طارق بن شهاب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «دخل الجنة رجل في ذباب ودخل النار رجل في ذباب قالوا وكيف ذلك يا رسول الله ؟ قال مرَّ رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتي يقرب له شيئًا فقالوا لأحدهما قرِّب قال ليس عندي شيء أقرب قالوا قرِّب ولو ذبابًا فقرب ذبابًا فخلوا سبيله فدخل النار وقالوا للآخر قرِّب فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئًا دون الله عزَّ وجل فضربوا عنقه فدخل الجنة» رواه أحمد.
وفي هذا الحديث التحذير من الوقوع في الشرك وأن الإنسان قد يقع فيه وهو لا يدري أنه من الشرك الذي يوجب النار. وفيه أنه دخل النار بسبب لم يقصده ابتداءً وإنما فعله تخلصًا من شر أهل الصنم. وفيه أن هذا الرجل كان مسلمًا قبل ذلك وإلا فلو لم يكن مسلمًا لم يقل دخل النار في ذباب. وفيه أن عمل القلب هو المقصود الأعظم حتى عند عبدة الأوثان.
قال في قرة العيون(4): ... لأنه قصد غير الله بقلبه أو انقاد بعمله فوجبت له النار ففيه معنى حديث «من لقى الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة ومن لقيه يشرك به شيئًا دخل النار».
__________
(1) قرة عيون الموحدين، ص 77.
(2) يوسف، آية: 108.
(3) فتح المجيد، ص 161.
(4) قرة عيون الموحدين، ص 80.(1/314)
فإذا كان هذا فيمن قرب للصنم ذبابًا فكيف بمن يستسمن الإبل والبقر والغنم ليتقرب بنحرها وذبحها لمن كان يعبده من دون الله من ميت أو غائب أو طاغوت أو مشهد أو شجر أو حجر أو غير ذلك. والمشركون في أواخر هذه الأمة يعدون ذلك أفضل من الأضحية في وقتها الذي شرعت فيه وربما اكتفي بعضهم بذلك عن أن يضحي لشدة رغبته وتعظيمه ورجائه لمن كان يعبد من دون الله وقد عمت البلوى بهذا وما هو أعظم منه.
(6) باب ”من الشرك الاستعاذة بغير الله“(1):
قال تعالى: { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } (2). قلت: ”الشيخ عبد الرحمن بن حسن“: ... والاستعاذة من العبادات التي أمر الله بها عباده. كما قال تعالى: { وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } (3). فما كان عبادة لله فصرفه لغير الله شرك في العبادة فمن صرف شيئًا من هذه العبادات لغير الله فقد جعله شريكًا لله في عبادته ونازع الربِّ في إلهيته كما إن من صلي لله وصلي لغيره يكون عابدًا لغير الله ولا فرق.
قوله تعالى(4): { قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ...ُ } (5) الآية. قال شيخ الإسلام: أن دعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة، كما أن دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة. إلى أن يقول: إن كل أمر شرعه الله لعباده وأمرهم به ففعله لله عبادة فإذا صرف من تلك العبادة شيئًا لغير الله فهو مشرك مصادم لما بعث الله به رسوله من قوله { قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي } (6).
__________
(1) فتح المجيد، ص 178 .
(2) الجن، آية 6.
(3) الأعراف، آية: 200.
(4) فتح المجيد، ص 185.
(5) المائدة، آية: 76.
(6) الزمر، آية: 14.(1/315)
قال شيخ الإسلام في ”الرسالة السنية“: «فإذا كان على عهد النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ممن انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضًا من الإسلام لأسباب منها الغلو في بعض المشايخ بل الغلو في على بن أبي طالب بل الغلو في المسيح، فكل من غلا في نبيٍّ أو رجل صالح وجعل فيه نوعًا من الإلهية مثل أن يقول يا سيدي فلاني انصرني أو أغثني أو ارزقني أو أنا في حسبك ونحو هذه الأقوال فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل فإن الله تعالى إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده لا شريك له ولا يدعي معه إله آخر والذين يدعون مع الله آلهة أخري مثل المسيح والملائكة والأصنام فلم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق أو تنزل المطر أو تنبت النبات وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم أو يعبدون صورهم يقولون: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } (1)، ويقولون: { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } (2). فبعث الله سبحانه الرسل تنهي أن يدعي أحد من دون الله لادعاء عباده ولا دعاء استغاثة، وقال أيضًا: من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم كفر إجماعًا». أهـ.
__________
(1) الزمر، آية: 3.
(2) يونس، آية: 18.(1/316)
وفي الرسالة السادسة للشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ قال رحمه الله(1): «ما ذكرت من معرفتك جهل أكثر الناس بمعنى لا إله إلا الله وإن تكلموا بها لفظًا فقد أنكروها معنى فانتبه لأمور ستة أو سبعة لا يسلم العبد من الكفر والنفاق إلا باجتماعها وباجتماعها والعمل بمقتضاها يكون العبد مسلمًا إذ لابد من مطابقة القلب للسان علمًا وعملاً واعتقادًا وقبولاً ومحبة وانقيادًا فلابد من العلم بها المنافي للجهل ولابد من الإخلاص المنافي للشرك ولابد من الصدق المنافي للكذب بخلاف المشركين والمنافقين ولابد من اليقين المنافي للشك والريب فقد يقولها وهو شاك في مدلولها ومقتضاها ولابد من المحبة المنافية للكراهة ولابد من القبول المنافي للرد فقد يعرف معناها ولا يقبله كحال مشركي العرب ولابد أيضًا من الانقياد المنافي للترك كترك مقتضياتها ولوازمها وحقوقها المصححة للإسلام والإيمان». أهـ.
لا دخول في حقيقة الإسلام لمن لم يتجرد عن الشرك ومن تلبس به ارتد وكفر به ومن مات عليه مات كافرًا مخلدًا في النار أبد الآباد لا يغفر الله له ومن أشرك في شيء واحد كمن أشرك في كل شيء حتي لو كان هذا الشيء تقريب الذباب للصنم بغير قصد للكفر تخلصًا من أهل الصنم ولا حصانة للمشرك لا بالانتساب ولا بدعوى الإسلام ولا بالإقامة على بعض الشرائع فإنه لا عمل يقبل ولا يصح مع الشرك ولا إله إلا الله لا تنفع صاحبها مع التلبس بالشرك تعطيه حصانة من الكفر مع التلبس، والمشرك ليس مسلمًا ولا دخول في حقيقة الإسلام بدون التوحيد وترك الشرك جملة وتفصيلاً .
أما حكم الإسلام فيثبت بطرقه الشرعية وهي ثلاث:
التبعية: تثبت حكم الإسلام للرضيع الوليد بتبعية أبويه أو أفضلهما دينًا، وللقيط بتبعية الدار وكذلك للمجنون.
الدلالة: لمن وجدناه يؤدي شعيرة تميز المسلم عن الكافر.
__________
(1) مجموعة الرسائل والمسائل، ج2، قسم 2 ، ص 81.(1/317)
النص: على التفصيل المذكور في كتب الفقه والذي ذكره الشوكاني في نيل الأوطار والذي سيأتي بيانه بالتفصيل عند الكلام عن الأحكام.
كذلك أحكام الردة لها ضوابطها في حالات الفرد والجماعات، مع مراعاة المقاصد الشرعية المختلفة، وبعد ثبوت البينات وإجراءات الاستتابة وإقامة الحجة وكل ما يتصل بهذا الشأن، وسيأتي الكلام عنه تفصيلاً. وليس كل من ثبت له حكم الإسلام يكون مسلمًا في الحقيقة ونفس الأمر، وأبيّن ما يدل على ذلك حال المنافقين تجري عليهم الأحكام الشرعية للمسلمين وهم كفار يعاملون معاملة المسلمين، ولهذه الأحكام والمعاملات تفصيلات أيضًا تذكر في حينها، وإنما أردنا هنا فقط أن نفرق بين الأمرين الدخول في حقيقة الإسلام: توحيد الألوهية المتضمن والمستلزم لتوحيد الربوبية، وإثبات حكم الإسلام: بالتبعية والدلالة والنص.
التلازم بين الظاهر والباطن في الإيمان وفساد مذهب المرجئة الذي لا يقول بهذا التلازم:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية(1): «”فصل“، الوجه الثاني: من غلط المرجئة ظنهم أن ما في القلب من الإيمان ليس إلا التصديق فقط دون أعمال القلوب كما تقدم عن جهمية المرجئة. الثالث ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تامًا بدون شيء من الأعمال.
ولهذا يجعلون الأعمال ثمرة الإيمان ومقتضاه بمنزلة السبب مع المسبب ولا يجعلونها لازمة له والتحقيق أن إيمان القلب التام يستلزم العمل الظاهر بحسبه لا محالة وتمنع أن يقوم بالقلب إيمان تام بدون عمل ظاهر ولهذا صاروا يقدرون مسائل يمتنع وقوعها لعدم تحقق الارتباط الذي بين البدن والقلب مثل أن يقولوا رجل في قلبه من الإيمان مثل ما في قلب أبي بكر وعمر وهو لا يسجد لله سجدة ولا يصوم رمضان ويزني بأمه وأخته ويشرب الخمر نهار رمضان يقولون: هذا مؤمن تام الإيمان فيبقي سائر المؤمنين ينكرون هذا غاية الإنكار.
__________
(1) كتاب الإيمان، ص 155.(1/318)
قال أحمد بن حنبل: حدثنا خلف بن حيان حدثنا معقل بن عبيد الله العبسى قال: قدم علينا سالم الأفطس بالإرجاء فنفر منه أصحابنا نفورًا شديدًا منهم ميمون بن مهران وعبد الكريم بن مالك فإنه عاهد الله ألا يؤيه وإياه سقف بيت إلا المسجد قال معقل: فحججت فدخلت على عطاء بن أبي رباح في نفر من أصحابي وهو يقرأ: { حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } (1). قلت إن لنا حاجة فأخْلنا ففعل فأخبرته أن قومًا قبلنا قد أحدثوا وتكلموا وقالوا إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين فقال: أو ليس الله تعالى يقول: { وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } (2). فالصلاة والزكاة من الدين قال فقلت إنهم يقولون ليس في الإيمان زيادة فقال: أو ليس قد قال الله تعالى فيما أنزل: { لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ } (3) هذا الإيمان فقلت إنهم انتحلوك وبلغني أن ابن ذر دخل عليك في أصحاب له فعرضوا عليك قولهم فقبلته فقلت هذا الأمر فقال: لا والله الذي لا إله إلا هو مرتين أو ثلاث ثم قال قدمت المدينة فجلست إلى نافع فقلت يا أبا عبد الله إن لي إليك حاجة فقال سر أم علانية فقلت لا بل سر قال رُبَّ سرٍ لا خير فيه قلت ليس من ذلك فلما صلينا العصر قام وأخذ بثوبي ثم خرج من الخوخة ولم ينتظر القاص فقال حاجتك قال فقلت أخلني هذا فقال تنح قال فذكرت له قولهم فقال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أمرت أن أضربهم بالسيف حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوا لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» قال: قلت إنهم يقولون نحن نقر بأن الصلاة فرضٌ ولا نصلي وبأن الخمر حرام ونشربها وبأن نكاح الأمهات حرام ونحن
__________
(1) يوسف، آية: 110.
(2) البينة، آية: 5.
(3) الفتح، آية: 4.(1/319)
ننكح فنثر يده من يدي وقال: ”من فعل هذا فهو كافر“». أهـ.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية(1): «والشافعي رحمه الله كان معظمًا لعطاء بن أبي رباح ويقول ليس في التابعين أتبع للحديث منه وكذلك أبو حنيفة قال ما رأيت مثل عطاء، وقد أخذ الشافعي هذه الحجة عن عطاء فروي ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي: حدثنا أبي حدثنا عبد الملك بن عبد الحميد الميموني حدثنا أبو عثمان بن محمد بن محمد الشافعي سمعت أبي يقول ليلة للحميدي ما يحتج عليهم يعني أهل الأرجاء بآية أحج من قوله { وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } (2)،(3).
__________
(1) كتاب الإيمان ، ص 158.
(2) البينة، آية: 5.
(3) الدين لا يكون دينًا إلا بعمل أي إذا كان توحيد العبادة وهو الذي اقتصر الأمر عليه في الآية فلا يمكن أن يخلو عنه الإيمان الذي لا يقبل العمل ولا يصح إلا به ويصير قولاً بلا عمل وفي هذا إبطال لقول المرجئة.(1/320)
وقال الشافعي في ”الأم“ في ”باب النية في الصلاة“: يحتج بأن لا تجزئ الصلاة إلا بنية بحديث عمر بن الخطاب عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنيات» ثم قال: وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ومن أدركناهم يقولون: الإيمان: قول وعمل ونية لا يجزي(1) واحد من الثلاثة إلا بالآخر. وقال حنبل: حدثنا الحميدى وآخرون أن أناسًا يقولون من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شيء حتى يموت ويصلي مستدبر القبلة حتى يموت فهو مؤمن ما لم يكن جاحدًا إذا علم أن تركه ذلك غير إيمانه إذا كان مقرًا بالفرائض واستقبال القبلة فقلت هذا الكفر الصراح وخلاف كتاب الله وسنة رسوله وعلماء المسلمين قال تعالى: { وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين...َ } (2). وقال حنبل سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول من قال هذا فقد كفر بالله وردَّ على الله أمره وعلي الرسول ما جاء به». أهـ.
__________
(1) هكذا الإيمان المجمل فلابد فيه من هذا التلازم والإيمان الواجب والإيمان الكامل والمستحب، أي مرتبة من مراتب الإيمان تتخلف بتخلف واحد من أركانه الثلاثة ولكن الإسلام يتخلف بتخلف الإيمان المجمل ولا يتخلف بتخلف الإيمان الكامل أو الواجب.
(2) البينة، آية: 5.(1/321)
ويقول شيخ الإسلام(1): «فإن الإيمان أصله الإيمان الذي في القلب ولابد فيه من شيئين: تصديق القلب وإقراره ومعرفته ويقال لهذا قول القلب قال الحسن بن محمد التوحيد قول القلب والتوكل عمل القلب، فلابد فيه من قول القلب وعمله ثم قول البدن وعمله، ولابد فيه من عمل القلب مثل حب الله ورسوله وخشية الله وحب ما يحبه الله ورسوله وبغض ما يبغض الله ورسوله وإخلاص العمل لله وحده وتوكل القلب على الله وحده وغير ذلك من أعمال القلوب التي أوجبها الله ورسوله وجعلها من الإيمان، ثم القلب هو الأصل فإذا كان فيه معرفة وإرادة سرى ذلك إلى البدن بالضرورة ولا يمكن أن يتخلف البدن عما يريده القلب ولهذا قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب». وقال أبو هريرة: ”القلب ملك والأعضاء جنوده فإذا طاب الملك طابت جنوده وإذا خبث الملك خبثت جنوده“. وقول أبي هريرة تقريب وقول النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أحسن بيانًا فإن الملك وإن كان صالحًا فالجند لهم اختيار وقد يعصون به ملكهم وبالعكس فيكون فيهم صلاح مع فساده أو فساد مع صلاحه بخلاف القلب فإن الجسد تابع له لا يخرج عن إرادته قط كما قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد». فإذا كان القلب صالحًا بما فيه من الإيمان علمًا وعملاً قلبيًا لزم ضرورة صلاح الجسد بالقول الظاهر والعمل بالإيمان المطلق كما قال أهل الحديث قول وعمل، قول باطن وظاهر وعمل باطن وظاهر والظاهر تابع للباطن لازم له متي صلح الباطن صلح الظاهر وإذا فسد فسد ولهذا قال من قال من الصحابة عن المصلي العابث: ”لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه“.
__________
(1) كتاب الإيمان، ص 140.(1/322)
فلابد في إيمان القلب من حب الله ورسوله وأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما قال تعالى: { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } (1). فوصف الذين آمنوا بأنهم أشد حبًا لله من المشركين لأندادهم. وفي الآية قولان: قيل يحبونهم كحب المؤمنين لله والذين آمنوا أشد حبًا لله منهم لأندادهم، وقيل يحبونهم كما يحبون الله والذين آمنوا أشد حبًا لله منهم لله وهذا هو الصواب، والأول قول متناقض وهو باطل فإن المشركين لا يحبون الأنداد مثل محبة المؤمنين لله وتستلزم المحبة الإرادة والإرادة التامة مع القدرة التامة تستلزم الفعل، فيمتنع أن يكون الإنسان محبًا لله ورسوله مريدًا لما يحبه الله ورسوله إرادة جازمة مع قدرته على ذلك وهو لا يفعله، فإذا لم يتكلم الإنسان بالإيمان مع قدرته دل على أنه ليس في قلبه الإيمان الواجب الذي فرضه الله عليه. ومن هنا يظهر خطأ قول جهم بن صفوان ومن اتبعه، حيث ظنوا أن الإيمان مجرد تصديق القلب وعلمه ولم يجعلوا أعمال القلب من الإيمان، وظنوا أنه قد يكون الإنسان مؤمنًا كامل الإيمان بقلبه وهو مع هذا يسبّ الله ورسوله ويعادي الله ورسوله ويعادي أولياء الله ويوالي أعداء الله ويقتل الأنبياء ويهدم المساجد ويهين المصحف ويكرم الكفار غاية الكرامة ويهين المؤمنين غاية الإهانة، قالوا وهذه كلها معاصي لا تنافي الإيمان الذي في قلبه، بل يفعل هذا وهو في الباطن عند الله مؤمن. وقالوا إنما تثبت له في الدنيا أحكام الكفار لأن هذه الأقوال أمارة على الكفر فيحكم بالظاهر، كما يحكم بالإقرار والشهود وإن كان في الباطن قد يكون بخلاف ما أقر به وبخلاف ما شهد به الشهود. فإذا أورد عليهم الكتاب والسنة والإجماع على أن الواحد من هؤلاء كافر في نفس الأمر معذب في الآخرة قالوا: فهذا دليل على انتفاء
__________
(1) البقرة، آية: 165.(1/323)
التصديق والعلم من قلبه فالكفر عندهم شيء واحد وهو الجهل والإيمان شيء واحد وهو العلم أو تكذيب القلب وتصديقه فإنهم متنازعون هل تصديق القلب شيء غير العلم أو هو هو؟ وهذا القول مع أنه أفسد قول قيل في الإيمان فقد ذهب إليه كثير من أهل الكلام والمرجئة وقد كفَّر السلف كوكيع بن الجراح وأحمد ابن حنبل وأبي عبيد وغيرهم من يقول بهذا القول وقالوا إبليس كافر بنص القرآن وإنما كُفره باستكباره وامتناعه عن السجود لآدم لا لكونه كذَّب خبرًا وكذلك فرعون وقومه قال الله فيهم: { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } (1)، وقال موسى لفرعون: { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاَء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لاَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا } (2). فموسى وهو الصادق المصدوق يقول: { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاَء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ بَصَائِرَ } . فدلَّ على أن فرعون كان عالمًا بأن الله أنزلَ الآيات وهو من أكبر خلق الله عنادًا وبغيًا لفساد إرادته وقصده لا لعدم علمه، قال تعالى: { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ } (3)، وقال تعالى: { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } (4)، وكذلك اليهود الذين قال الله فيهم: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } (5). وكذلك المشركين الذين قال الله فيهم: { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } (6)».
__________
(1) النمل، آية: 14.
(2) الإسراء، آية: 102.
(3) القصص، آية: 4.
(4) النمل، آية: 14.
(5) البقرة، آية: 146.
(6) الأنعام، آية: 33.(1/324)
يقول شيخ الإسلام(1): «وقد علمنا بالاضطرار أن اليهود وغيرهم كانوا يعرفون أن محمدًا رسول الله وكان يحكم بكفرهم فقد علمنا من دينه ضرورة أنه يكفَّر الشخص مع ثبوت التصديق بنبوته في القلب إذا لم يعمل بهذا التصديق بحيث يحبه ويعظمه ويسلم لما جاء به.
ويقول: ذكر الخطابي في ”شرح البخاري“ كلامًا يقتضي تلازمهما مع افتراق اسميهما وذكره البغوي في ”شرح السنة“ فقال قد جعل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الإسلام اسمًا لما ظهر من الأعمال وجعل الإيمان اسمًا لما بطن من الاعتقاد وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان أو لأن التصديق بالقلب ليس من الإسلام بل ذلك تفصيل لجملة واحدة هى كلها شيء واحد وجماعها الدين ولذلك قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم» والتصديق والعمل يتناولهما اسم الإسلام والإيمان جميعًا يدل عليه قوله تعالى: { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلاَمُ } (2)، وقوله - عز وجل -: { وَرَضِيتُ لَكُمْ الإسْلاَمَ دِينًا } (3)، وقوله - عز وجل -: { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } (4). فبين أن الدين الذي رضيه ويقبله من عباده هو الإسلام ولا يكون الدين في محل الرضا والقبول إلا بانضمام التصديق إلى العمل». أهـ.
لابد من ترك القول المخالف والإتيان بالقول الموافق:
يقول شيخ الإسلام في(5): «وأما الشبهة الثانية فجوابها من ثلاث أوجه:
أحدها: أن من تكلم بالتكذيب والجحد وسائر أنواع الكفر من غير إكراه على ذلك فإنه يجوز أن يكون في ذلك في نفس الأمر مؤمنًا ومن جوَّز هذا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه.
__________
(1) الإيمان، ص 277.
(2) آل عمران، آية: 19.
(3) المائدة، آية: 3.
(4) آل عمران، آية: 85.
(5) الصارم المسلول، ص 461.(1/325)
الثاني: أن الذي عليه الجماعة إن من لم يتكلم بالإيمان بلسانه من غير عذر لم ينفعه ما في قلبه من المعرفة وإن القول من القادر عليه شرط في صحة(1) الإيمان حتى اختلفوا في تكفير من قال: إن المعرفة تنفع من غير عمل الجوارح.
الثالث: أن من قال: أن الإيمان مجرد معرفة القلب من غير احتياج إلى النطق باللسان، يقول: لا يفتقر الإيمان في نفس الأمر إلى القول الذي يوافقه باللسان، لا يقول أن القول الذي ينافي الإيمان لا يبطله فإن القول قولان: قول يوافق تلك المعرفة وقول يخالفها فهب أن القول الموافق لا يشترط لكن القول المخالف ينافيها فمن قال بلسانه كلمة الكفر من غير حاجة عامدًا لها عالمًا بأنها كلمة كفر فإنه يكفر بذلك ظاهرًا وباطنًا ولا يجوز أن يقال: إنه في الباطن يجوز أن يكون مؤمنًا ومن قال ذلك فقد مرق من الإسلام قال سبحانه: { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (2). ومعلوم أنه لم يرد بالكفر هنا اعتقاد القلب فقط لأن ذلك لا يكره الرجل عليه وهو قد استثنى من أكره ولم يُرد من قال واعتقد لأنه استثني المكره وهو لا يكره على العقد والقول وإنما يكره على القول فقط، فعلم أنه أراد من تكلم بكلمة الكفر فعليه غضبٌ من الله وله عذاب عظيم وأنه كافر بذلك إلا من أكره وهو مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرًا من المكرهين فإنه كافر أيضًا فصار من تكلم بالكفر كافرًا إلا من أكره فقال بلسانه كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان وقال تعالى في حق المستهزئين: { لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } (3). فبيَّن
__________
(1) قد مرَّ الكلام على هذا في الكلام عن حقيقة الإيمان فلا داعي للتكرار نقلاً عن الفتاوى وغيرها
(2) النحل، آية: 106.
(3) التوبة، آية: 66.(1/326)
أنهم كفار بالقول مع بيان أنهم لم يعتقدوا صحته وهذا باب واسع والفقه فيه ما تقدم من أن التصديق بالقلب يمنع إرادة التكلم وإرادة فعل فيه استهانة واستخفاف كما أنه يوجب المحبة والتعظيم واقتضاؤه وجود هذا وعدم هذا أمر جرت به سنة الله في مخلوقاته كاقتضاء إدراك الموافق للذة وإدراك المخالف للألم، فإذا عدم المعلول كان مستلزمًا لعدم العلة وإذا وجد الضد كان مستلزمًا لعدم الضد الآخر فالكلام والفعل المتضمن للاستخفاف والاستهانة مستلزم لعدم التصديق النافع ولعدم الانقياد والاستسلام ولذلك كان كفرًا». أهـ.
وإكراه الإجبار يفسد الإرادة فيمنع وقوع الفعل ويرفع تكييفه الشرعي وهو مرتبط برخصة «إنْ عادوا فعد» والأصل فيه الإيمان قولاً وعملاً ظاهرًا وباطنًا والقول والعمل المخالف وقع باطلاً فكأنه لم يقع ولا تأثير له بانتفاء الإرادة وباعتبار الأقوال والأفعال في هذه الحالة كأفعال العجماوات والجمادات ليس لها تكييف شرعي. وإكراه التهديد يستجاب فيه في الأقوال فقط إذا كان ملجئًا لأن الأقوال لا تقتضي أثرها بالضرورة، فيمكن فيها التقية ”ليس التقية بالعمل وإنما التقية باللسان“ والأعمال تقتضي أثرها بالضرورة فلا يمكن فيها التقية، ولذلك لا يستجاب فيها للإكراه في أعمال الكفر ”حديث الذباب“ من رفض تقريب شيء قتل ومن قرَّب ذبابًا لينجو بنفسه من القتل كفر، كذلك لا يجوز التحول عن الدين بعد إعلانه { بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا } (1)، { وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا } ، «لا تشرك بالله وإنْ قُتلت وحُرقت» وأما قبل الإعلان فيجوز للمسلم أن يكتم إيمانه ولكن كتمان الدين الحق شيء وإظهار الدين الباطل شيء آخر.
__________
(1) الأعراف، آية: 89.(1/327)
يقول شيخ الإسلام في هذا(1): «وأما قوله تعالى: { إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً } (2). قال مجاهد إلا مصانعة، والتقاة ليست بأن أكذب وأقول بلساني ما ليس في قلبي فإن هذا نفاق ولكن أفعل ما أقدر عليه كما في الصحيح عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان». فالمؤمن إذا كان بين الكفار والفجار لم يكن عليه أن يجاهدهم بيده مع عجزه ولكن إذا أمكنه بلسانه وإلا فبقلبه مع أنه لا يكذب ويقول بلسانه ما ليس في قلبه إمَّا أن يظهر دينه وإما أن يكتمه وهو مع هذا لا يوافقهم على دينهم كله بل غايته أن يكون كمؤمن آل فرعون وامرأة فرعون وهو لم يكن موافقًا لهم على جميع دينهم ولا كان يكذب ولا يقول بلسانه ما ليس في قلبه بل كان يكتم إيمانه وكتمان الدين شيء وإظهار الدين الباطل شيء آخر فهذا لم يبحه الله قط إلا لمن أكره بحيث أبيح له النطق بكلمة الكفر والله تعالى قد فرَّق بين المنافق والمكره، والرافضة حالهم من جنس حال المنافقين لا من جنس حال المكره الذي أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان فإن هذا الإكراه لا يكون عامًا من جمهور بني آدم بل المسلم يكون أسيرًا في بلاد الكفر ولا أحد يكرهه على كلمة الكفر ولا يقولها ولا يقول بلسانه ما ليس في قلبه وقد يحتاج إلى أن يلين لناس من الكفار ليظنوه منهم وهو مع هذا لا يقول بلسانه ما ليس في قلبه بل يكتم ما في قلبه، وفرقٌ بين الكذب وبين الكتمان فكتمان ما في النفس يستعمله المؤمن حيث يعذره الله تعالى في الإظهار كمؤمن آل فرعون أما الذي يتكلم بالكفر فلا يعذره إلا إذا أكره، والمنافق الكذاب لا يعذر بحال ولكن في المعاريض مندوحة من الكذب». أهـ.
__________
(1) منهاج السنة، ج3، ص 260.
(2) آل عمران، آية: 28.(1/328)
ويقول شيخ الإسلام(1): «وهذا نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - كان بمكة هو وأصحابه في غاية الضعف ومع هذا فكانوا يباينون الكفار ويظهرون مباينتهم بحيث يعرف المؤمن من الكافر وكذلك هاجر من هاجر منهم إلى أرض الحبشة مع ضعفهم وكانوا يباينون النصارى». أهـ.
فالذي يكتم إيمانه ينطق بالشهادتين ويقرأ القرآن ويذكر الله ويغتسل من الجنابة ويتوضأ للصلاة يفعل كل ذلك فيقع فيه القول والعمل الظاهر الموافق لما في نفسه ولكن لا يظهره للناس. والذي يكتم إيمانه لا يقع في القول المخالف ولا يترك القول الموافق بينه وبين نفسه وبينه وبين الله بل يصوم ويصلي.
ونحن نتكلم هنا عن حقيقة الإيمان والإسلام أي بين المرء ونفسه وبينه وبين الله ولا يعنينا هنا حكمه على غيره وحكم غيره عليه فهذه مسألة أخري لها ضوابطها سوف نتعرض لها فيما بعد فلا الإكراه يمنع الإقرار مع التصديق ولا العجز أيضًا فإذا فقد الإنسان القدرة على النطق بل إذا فقد حاسة النطق والسمع والبصر وبقي له إدراكه وحاسة اللمس استطاع أن يعبر عما في نفسه والصلاة يقوم بها المؤمن بالإيماء حتى وهو في حالات الاحتضار ويقَدِّر في نفسه حركاتها والإكراه على كلمة الكفر والإجبار على أي شيء كان مؤقت طارئ أما الموقف الدائم بعيدًا عن حالات الإجبار التي لا يمكن أن تستمر دومًا «فلا تشرك بالله وإن قطعت وحرقت»، «ودخل رجل النار في ذبابة» { وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا } (2) لابد في ذلك من موافقة ما في النفس بالقول والعمل الموافق وإلا أصبح الإيمان حديث نفس وخواطر قلب أو انقلب إلى شك أو ذهب بالكلية، عرف ثم أنكر، فالإيمان لا يستقر مع القلب كقيم ثابتة إلا بالعمل الظاهر، وبغيره يصير حديث نفس وخواطر قلب وهذا هو معنى ليس الإيمان بالتمني.
__________
(1) منهاج السنة، ج4، ص 108.
(2) الأعراف، آية: 89.(1/329)
يقول شيخ الإسلام(1): «وقول القائل المحبة للإحسان محبة العامة وتلك محبة الخاصة ليس بشيء، بل كل مؤمن يحب الله لذاته ولو أنكر ذلك بلسانه ومن لم يكن الله ورسوله أحب إليه مما سواهما لم يكن مؤمنًا ومن قال: إنِّي لا أجد هذه المحبة في قلبي لله ورسوله فأحد الأمرين لازمه. إما أن يكون صادقًا في هذا الخبر فلا يكون مؤمنًا فإن أبا جهل وأبا لهب وأمثالهما إذا قالوا ذلك كانوا صادقين في هذا الخبر وهم كفَّار أخبروا عما في نفوسهم من الكفر مع أن هؤلاء في قلوبهم محبة الله لكن مع الشرك به فإنهم اتخذوا من دون الله أندادًا يحبونهم كحبِّ الله ولهذا أبغضوا الرسول وعادوه لأنه دعاهم إلى عبادة الله وحده ورفض ما يحبونه معه فنهاهم أن يحبوا شيئًا كحبِّ الله فأبغضوه على هذا فقد يكون بعض هؤلاء المشركين الذين اتخذوا من دون الله أندادًا يحبونهم كحبِّ الله يفضل ذلك الندّ على الله في أشياء، وهؤلاء قد يعلمون أن الله عزَّ وجل أجل وأعظم لكن تهوى نفوسهم ذلك الند أكثر والربُّ تعالى إذا جعل من يحب الأنداد كحبه مشركين، فمن أحب الند أكثر كان أعظم شركًا وكفرًا، كما قال تعالى: { وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } (2). فلولا تعظيمهم لآلهتهم على الله لما سبُّوا الله إذا سُبَّت آلهتهم وقال تعالى: { وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنْ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } (3). وقال أبو سفيان يوم أحد: أعل هبل أعل هبل أعل هبل فقال - صلى الله عليه وسلم -:« ألا تجيبوه؟ قالوا: وما نقول؟ قال: قولوا:
__________
(1) منهاج السنة، ج3، ص 99-101.
(2) الأنعام، آية: 108.
(3) الأنعام، آية: 136.(1/330)
الله أعلى وأجل. وقال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم. فقال - صلى الله عليه وسلم -: ألا تجيبوه. قالوا: وما نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم».
ويوجد كثير من الناس يحلف بند جعله لله وينذر له ويوالي في محبته ويعادي من يبغضه ويحلف به فلا يكذب ويوفي بما ينذره له وهو يكذب إذا حلف بالله ولا يوفي بما نذره لله ولا يوالي في محبة الله ولا يعادي في الله كما يوالي ويعادي لذلك الند، فمن قال إني لا أجد في قلبي أن الله أحبّ إلى مما سواه فأحد الأمرين لازم إما أن يكون صادقًا فيكون كافرًا مخلدًا في النار من الذين اتخذوا من دون الله أندادًا يحبونهم كحبِّ الله، وإما أن يكون غالطًا في قوله لا أجد في قلبي هذا والإنسان قد يكون في قلبه معارف وإرادات ولا يدري أنها في قلبه فوجود الشيء في القلب شيء والدراية به شيء آخر، ولهذا يوجد الواحد من هؤلاء يطلب تحصيل ذلك في قلبه وهو حاصل في قلبه فتراه يتعب تعبًا كثيرًا لجهله، وهذا كالموسوس في الصلاة فإن كل من فعل فعلاً باختياره وهو يعلم ما يفعله فلابد أن ينويه ووجود ذلك بدون النية التي هى الإرادة ممتنع.(1/331)
إلى أن يقول: وكذلك كثير من المعارف قد يكون في نفس الإنسان ضروريًا وفطريًا وهو يطلب الدليل عليه لإعراضه عما في نفسه وعدم شعوره بشعوره فهكذا كثير من المؤمنين يكون في قلبه محبة الله ورسوله وقد نظر في كلام الجهمية والمعتزلة نفاة المحبة واعتقد ذلك قولاً صحيحًا لما ظنه من صحة شبهاتهم أو تقليدًا لهم فصار يقول بموجب ذلك الاعتقاد وينكر ما في نفسه. إلى أن يقول: وقد ثبت في الصحيحين عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين». وما من مؤمن إلا وهو يجد في قلبه للرسول من المحبة ما لا يجد لغيره حتى أنه إذا سمع محبوبًا له من أقاربه أو أصدقائه يسب الرسول هان عليه عداوته ومهاجرته بل وقتله لحب الرسول وإن لم يفعل ذلك لم يكن مؤمنًا قال تعالى: { لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } (1). بل قد قال تعالى: { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } (2). فتوعد من كان الأهل والمال أحبَّ إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله وفي الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاث من كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان مَنْ كان اللهُ ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما ومن كان يحبُّ المرء لا يحبه إلا لله ومَنْ كان يكره أن يرجع إلى الكفر بعد إذ
__________
(1) المجادلة، آية: 22.
(2) التوبة، آية: 24.(1/332)
أنقذه الله منه كما يكره أن يلقي في النار» ثبت في الصحيحين عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «كل مولودٍ يولد على الفطرةِ» وفي ”صحيح مسلم“ عنه أنه قال: «يقول الله تعالى: خلقتُ عِبَادي حُنَفَاءً فاجْتَالتْهُم الشَّياطِينُ وحرَّمَتْ عليهم ما أحْلَلْتُ لهم وأمرتْهُم أن يُشركوا بي ما لم أنزِّلْ به سلطانًا» فالله فطر عباده على الحنيفية ملة إبراهيم وأصلها محبة الله وحده فما من فطرة لم تفسد إلا وتجد فيها محبة الله تعالى لكن قد تفسد الفطرة إما: لكبر وغرض فاسد كما في فرعون، وإما بأن يشرك معه غيره في المحبة كما قال تعالى: { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } (1).
وأما أهل التوحيد الذين يعبدون الله مخلصين له الدين فإن في قلوبهم محبة الله لا يماثله فيها غيره ولهذا كان الربُّ محمودًا حمدًا مطلقًا على كل ما فعله وحمدًا خاصًا على إحسانه إلى الحامد فهذا حمد الشكر والأول حمده على كل ما عمله كما قال: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } (2). والحمد ضد الذم والحمد خبر بمحاسن المحمود مقرون بمحبته والذم خبر بمساوي المذموم مقرون ببغضه ولا يكون حمد المحمود إلا مع محبته ولا يكون ذم المذموم إلا مع بغضه... فلا تكون عبادة إلا بحب المعبود ولا يكون حمدًا إلا بحب المحمود وهو سبحانه المعبود المحمود وفي ”صحيح مسلم“ «أفضل ما قلتُ أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير» فجمع بين التوحيد والتحميد». أهـ.
__________
(1) البقرة، آية: 165.
(2) الأنعام، آية: 1.(1/333)
واضح من كلام شيخ الإسلام أن ما في الباطن لا يستقر كيقين إلا بالعمل الظاهر ولا ينضبط من حيث وقوعه ومن حيث الدراية به إلا بالعمل الظاهر والأعمال أصدق تعبير للإنسان عما في نفسه من شعوره هو لشعوره أو من تعبيره عنه.
يقول شيخ الإسلام(1): «ولا فرق بين من يعتقد أن الله ربُّه وأن الله أمره بهذا الأمر ثم يقول أنه لا يطيعه لأن أمره ليس بصواب ولا سداد وبين من يعتقد أن محمدًا رسول الله وأنه صادق واجب الاتباع في خبره وأمره ثم يسبه أو يعيب أمره أو شيئًا من أحواله أو تنقص انتقاصًا لا يجوز أن يستحقه الرسول وذلك أن الإيمان قول وعمل فمن اعتقد الوحدانية في الألوهية لله سبحانه وتعالى والرسالة لعبده ورسوله ثم لم يتبع هذا الاعتقاد موجبه من الإجلال والإكرام الذي هو حال في القلب يظهر أثره على الجوارح بل قارنه الاستخفاف والتسفيه والازدراء بالقول أو بالفعل كان وجود ذلك الاعتقاد كعدمه وكان ذلك موجبًا لفساد ذلك الاعتقاد ومزيلاً لما فيه من المنفعة والصلاح إذ الاعتقادات الإيمانية تزكي النفوس وتصلحها فمتي لم توجب زكاة النفس ولا صلاحها فما ذاك إلا لأنها لم ترسخ في القلب ولم تصر صفة ونعتًا للنفس ولا صلاحًا وإذا لم يكن علم الإيمان المفروض صفة لقلب الإنسان لازمة له لم ينفعه فإنه يكون بمنزلة حديث النفس وخواطر القلب، والنجاة لا تحصل إلا بيقين في القلب ولو أنه مثقال ذرة(2) هذا فيما بينه وبين الله أما في الظاهر فتجرى الأحكام على ما يظهره من القول والفعل». أهـ.
__________
(1) الصارم المسلول، ص 324.
(2) زيادة على التوحيد.(1/334)
ويقول شيخ الإسلام(1): «أحدها: أن الإيمان وإن كان أصله تصديق القلب فذلك التصديق لابد أن يوجب حالاً في القلب وعملاً له وهو تعظيم الرسول وإجلاله ومحبته فإذا لم تحصل هذه الحال والعمل في القلب لم ينفع ذلك التصديق ولم يغن شيئًا وإنما يمتنع حصوله إذا عارضه معارض من حسد الرسول أو التكبر عليه أو الإهمال له وإعراض القلب عنه ومتي حصل المعارض كان وجود ذلك التصديق كعدمه بل يكون ذلك المعارض موجبًا لعدم المعلول الذي هو حال في القلب وبعدمه يزول التصديق الذي هو العلة فينقلع الإيمان بالكلية من القلب وهذا هو الموجب لكفر من حسد الأنبياء أو تكبر عليهم أو كره فراق الإلف والعادة مع علمه بأنهم صادقون وكفرهم أغلظ من كفر الجهَّال». أهـ.
ويقول(2): «واعلم أن الإيمان وإن قيل هو التصديق فالقلب يصدق بالحق والقول يصدق ما في القلب والعمل يصدق القول والتكذيب بالقول مستلزم التكذيب بالقلب ورافع للتصديق الذي كان في القلب إذ أعمال الجوارح تؤثر في القلب كما أن أعمال القلب تؤثر في الجوارح». أهـ.
ويقول شيخ الإسلام ردًا على المرجئة: «وأما قولهم أن الله قد فرَّق بين الإيمان والعمل الصالح في مواضع فهذا صحيح وقد بينَّا أن الإيمان إذا أطلق أدخل الله ورسوله فيه الأعمال المأمور بها وقد يقرن بالأعمال وذكرنا نظائر لذلك كثيرة وذلك لأن أصل الإيمان ما في القلب والأعمال الظاهرة لازمة لذلك ولا يتصور وجود إيمان القلب الواجب مع عدم جميع أعمال الجوارح بل متي نقصت الأعمال الظاهرة كان لنقص الإيمان الذي في القلب فصار الإيمان متناولاً للملزوم واللازم». أهـ.
__________
(1) الصارم المسلول، ص 457.
(2) المصدر السابق، ص 463.(1/335)
ويقول شيخ الإسلام بعد أن يقرر أنه يمتنع تكليف الإنسان أن يعتقد خلاف ما يعلمه وإن طلب كذب نفساني يخالف العلم لا يمكن التكليف به إذ هو أمر لا حقيقة له يقول: «ولهذا(1) لما قسم الأولون والآخرون العلم إلى تصور وتصديق وجعلوا التصور هو العلم بالمفردات الذي هو مجرد تصورها والتصديق العلم بالمركبات الخبرية من النفي والإثبات فسموا العلم بذلك تصديقًا وجعلوا نفس العلم هو نفس التصديق ولو كان في النفس تصديق لتلك القضايا الخبرية ليس هو العلم لوجب الفرق بين العلم بها وتصديقها ولا ريب أن هذا العلم والتصديق قد يعتقده الإنسان فيعقله ويضبطه ويلتزم بموجبه وقد لا يعتقده ولا يعقله ولا يضبطه ولا يلتزم بموجبه فالأول هو المؤمن والثاني هو الكافر. إذا كان ذلك فيما جاءت به الرسل عن الله فليس كل من علم شيئًا عقله واعتقده أي ضبطه وأمسكه والتزم موجبه كما أنه ليس كل من اعتقد شيئًا كان عالمًا به فلفظ العقد والاعتقاد شبيه بلفظ العقل والاعتقال ومعنى كل منهما يجامع العلم تارة ويفارقه أخري فمن هنا قد يتوهم أن في النفس خبرًا غير العلم ولفظ العقد والعقل لما كان جاريًا على من يمسك العلم فيعيه ويحفظه تارة ويعمل بموجبه كان مشعرًا بأنه يوصف بذلك تارة وبضده تارة وهو الخروج عن العلم وعن موجبه وقد يستعمل اللفظ فيمن يمسك بما ليس بعلم ومن هذين الوجهين امتنع أن يوصف الله بالاعتقاد فإنه سبحانه وتعالى عالم لا يجوز أن يفارقه علمه ولا يعتقد ما ليس بعلم فوصفه به يدل على جواز وصفه بضد العلم ولفظ الفقه والفهم كلاهما يستلزم علمًا مسبوقًا بعدمه وهذا في حق الله ممتنع». أهـ.
معنى الإيمان وكيف يوجد:
__________
(1) الفتاوى الكبرى، ج5، ص 201.(1/336)
العلم وهو معرفة الشيء على ما هو عليه أو إدراكه على ما هو عليه وإذا عقله الإنسان فاعتقده وأمسكه وضبطه تحول إلى عقيدة راسخة ويقين جازم وذلك إذا صادف العلم محلاً قابلاً أما إذا لم يصادف محلاً قابلاً فإنه يتحول إلى حديث نفس وخواطر قلب أو ينقلب إلى شك أو ينقلع بالكلية وهذا العلم إذا ثبت كعقيدة راسخة ويقين جازم فإنه قد يعطي موجبه من الموافقة والموالاة والانقياد. وقد لا يعطي موجبه من الموالاة والموافقة والانقياد إذا صادفته الموانع التي تمنع من ذلك، وإذا وجدت الموافقة والموالاة والانقياد لزم عنه ضرورة إرادة، والإرادة مع القدرة يلزم عنها مرادات لا يتخلف البدن عن إرادة القلب فمتي تخلفت المرادات مع القدرة كان ذلك دليلاً على تخلف الإرادة وتخلف الإرادة يكون دليلاً على تخلف موجب العلم من الموافقة والموالاة والانقياد وتخلف هذا الموجب إما أن يكون مع بقاء العلم كعقيدة راسخة ويكون العلم عندئذ حجة على صاحبه وأشدّ الناس عذابًا عالم لم ينفعه الله بعلمه أو يكون دليلاً على عدم دخول العلم أصلاً أو دخوله ثم تحوله إلى شك أو خواطر قلب وحديث نفس أو ذهابه بالكلية عرف ثم أنكر. والإيمان هو العلم مع ثقة وطمأنينة ورضا وحب وركون واستمساك يعطي موجبه من الموافقة والموالاة والانقياد التي يلزم عنها إرادة جازمة وهذه الإرادة مع القدرة يلزم عنها مرادات لا يتخلف البدن عن إرادة القلب.
فالموافقة موجب العلم مع الثقة والطمأنينة والحب والرضا والركون والاستمساك والإرادة لازم الموافقة والمرادات لازم الإرادة مع القدرة. هذا هو معنى الإيمان.
ومن هنا فإن حقيقة الكفر تكون بمنافاة معنى الإيمان: بالجهل أو الشك أو التكذيب أو الجحد أو الإعراض والنبذ والخلع والبراءة أو ترك الموافقة والموالاة والانقياد أو العداوة والمحادة والمشاقة والخصومة.
كما أن الكفر يكون بمنافاة حقيقة الإسلام بالشرك والكبر.(1/337)
وعلى هذا فالكفر يكون بواحد من الأمور التسعة وهي:
الجهل، الشك، التكذيب، الجحد، الإعراض، الخلع والبراءة والنبذ، ترك الموافقة والموالاة والانقياد، والعداوة والمحادة والمشاقة، والشرك والكبر.
لابد في الإيمان من قول وعمل ونية لا يجزئ واحد من الثلاثة عن الآخر كما قال الإمام الشافعي. لا يقال أن الإيمان يزيد وينقص وقد ينقص منه العمل كله فبقيت النية والقول، أو نقص فيه العمل كله والنية كلها وقد بقي معه القول، أو نقص منه القول كله والنية كلها والعمل كله ولم يبق منه شيء فما الذي يصح به الاسم هل هو مجرد الانتساب أو دعوى الإسلام مع الشرك ؟؟ لابد أن يبقى ما يصح الاسم باجتماعه من القول والعمل والنية كما قال الإمام الشافعي وليس وراء ذلك إلا الكفر وذلك واضح من كلام الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في الكلام عن الدخول في حقيقة الإسلام والذي لا يتحقق إلا باجتماع سبعة أمور ثم ذكرها والإيمان مراتب كل مرتبة لها حدودها.
الإيمان المجمل: التوحيد ما يتسع به الاسم لمسماه من صلب التوحيد وكمالاته أو أقل ما يتحقق به الاسم أو أقل ما ينطبق به الاسم على مسماه ويصح به الاسم وهو صلب التوحيد «الموجبة» ظاهرًا وباطنًا قولاً وعملاً إتيانًا وتركًا إثباتًا ونفيًا.
الإيمان الواجب: فعل الواجب وترك المحرم قولاً وعملاً ظاهرًا وباطنًا.
الإيمان الكامل أو المستحب: بفعل المندوب وبترك المكروه قولاً وعملاً ظاهرًا وباطنًا.
والإيمان الكامل أو المستحب وكذلك الإيمان الواجب قد لا يبقى منه شيء وكذلك مكملات التوحيد وإذا بقى صلب التوحيد فمن مات على ذلك مات مسلمًا مؤمنًا وقد وجبت له الجنة ولم يخلد في النار وصلب التوحيد إما أن يذهب كله أو يبقى كله وما سوى ذلك فإنه يذهب بعضه ويبقى بعضه.
والعاجز: لا يعجز عن الترك وترك العمل عمل يثاب عليه المرء.(1/338)
ومن فقد السمع والبصر والكلام وبقى له الإدراك يستطيع التعبير باللمس ومن ثم يكون الإقرار، لا يتخلف الإقرار أبدًا، وإذا أداه فقد الحواس إلى فقد الإدراك فهو غير مكلف، والإيمان تكليف وهو أول ما يجب على المكلف وبه تُقبل وتصح الأعمال وإذا لم يكن مكلفًا فقد يمتحن في العرصات يوم القيامة ويثبت له حكم الإسلام في الدنيا بتبعية الدار أو الأبوين أو أفضلهما دينًا والعجز لا يمنع من إخراج زكاة المال والصلاة لا تسقط على المكلف ولو بالإيماء وتقدير حركاتها وهيئاتها، وما عجز عنه الإنسان فالنية الجازمة تقوم مقام العمل خيرًا وشرًا.
والإجبار: يسبقه إسلام أظهره صاحبه للناس أو فيما بينه وبين نفسه وفيما بينه وبين الله والإجبار يمنع وقوع الفعل فكأنه لم يكن وهو على ما كان عليه قبله.
والإكراه: موقف عارض: إذا كان في القول الذي لا يترتب عليه أثره بالضرورة فهو خداع للمكره رفع الله الإثم عن صاحبه وإذا كان في عمل الكفر فإنه لا يجوز (حديث تقريب الذباب) وهذا هو الفرق بين النطق بكلمة الكفر للإكراه الملجئ وعدم الاستجابة للتقريب للصنم ولو ذبابًا لأن الأول لا يترتب عليه أثره بالضرورة والثاني يترتب وإذا كان الإكراه للتحول عن الدين أو الإشراك فإنه لا يجوز«لا تشرك بالله وإن قُتِّلت أو حُرِّقْت» { وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَ . }
والذي يكتم دينه لا يظهر الدين الباطل ولا يمنع ذلك من الصلاة والصيام والوضوء والاغتسال من الجنابة فمن باب أولى الإقرار وترك الشرك والتزام التوحيد.(1/339)
وفي الحديث الصحيح «إنما الدنيا لأربعة أنفر: عبد رزقه الله مالاً وعلمًا فهو يتقي فيه ربَّه ويصل فيه رحمه ويعلم لله فيه حقًا فهذا بأفضل المنازل وعبد رزقه الله علمًا ولم يرزقه مالاً فهو صادق النية يقول لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان فهو بنيته فأجرهما سواء. وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علمًا فهو يخبط في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربَّه ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقًا فهذا بأخبث المنازل وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علمًا فهو يقول لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته فوزرهما سواء» رواه الترمذى، وقال حديث حسن صحيح.
وفي الحديث «إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم حبسهم المرض». وفي رواية «إلا شركوكم في الأجر» رواه مسلم. وفي الحديث «إن أقوامًا خلفنا بالمدينة ما سلكنا شعبًا ولا واديًا إلا وهم معنا حبسهم العذر» وقال الله عنهم: { تولَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ } (1) وفي حديث أصحاب المغارة «فلما قعدت بين رجليها قالت اتق الله ولا تفضَّ الخاتم إلا بحقه فانصرفت عنها وهي أحبُّ الناس إلى وتركت الذهب الذي أعطيتها اللهم إن كنت فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه...» الحديث.
__________
(1) التوبة، آية: 92.(1/340)
وبقيت للجهمية شبهة وهي قولهم وجد الإيمان في القلب قبل أن يتكلم به أو يعمل بمقتضاه فهو مؤمن بما في قلبه قبل أن يتكلم بالإيمان أو يعمل به فهو مؤمن لما وجد في قلبه أولاً بمعنى أن الإيمان يوجد منه شيء قبل شيء فما وجد أولاً اكتسب منه صاحبه وصف الإيمان لاحتمال أن يموت قبل أن يترتب عليه مقتضياته فلو مات لحظته وُجِدَ الإيمان في قلبه بحيث لا يتمكن من العمل بمقتضياته حسب الترتيب الزمني وهذه شبهة زائفة لأن الإيمان متي وجد في قلبه أو تكلم به قبل أن يمضي فيه عزيمة لم يكن مؤمنًا ومن تكلم بالكفر ولم يمض به عزيمة كان كافرًا فإذا أمضى بالإيمان عزيمة فهذه لحظة إيمانه ليس قبل ذلك. فإن مات لحظتها ولم يفعل شيئًا فقد فعل ترك الشرك وقد همَّ بما حال الموت بينه وبينه، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فقد أتى بما همَّ به من الإقرار والدخول في التوحيد، ومثال ذلك الجنين في بطن أمه لا يسمى إنسانًا ولا ينفخ فيه الروح حتى يكتمل خلقه { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ } (1) بعد أن كان نطفة، فعلقة، فمضغة... إلخ. وهو يولد إنسان، لا يسمى الذراع إنسان ولا اليد إنسان، إنما الإنسان إنسان بما فيه من حياة ومن روح وبدن يصح أن يسمى بهما إنسان وإلا كان مسخاً ولهذا قال شيخ الإسلام وغيره إن علم القلب لا ينفع صاحبه حتى يقترن به عمل القلب وإقرار اللسان لا ينفع صاحبه حتى يقترن به الانقياد للشرع وقد مرَّ ذلك.
ستة مسالك لمعرفة التوحيد:
المسلك الأول: مسلك العلم الضروري: ويعرف من دعوة الرسل:
دعوة الرسل:
__________
(1) المؤمنون، آية: 14.(1/341)
يقول أبو بطين رحمه الله(1): «أما بعد فقد قال الله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } (2) فلما أعلمنا الله سبحانه أنما خلقنا لعبادته وجب علينا الاعتناء بما خلقنا له علمًا وعملاً وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (3) الآية، وقال تعالى: { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } (4) قال ابن عباس رضى الله عنهما: كل ما في القرآن من الأمر بالعبادة فالمراد به التوحيد وبذلك أرسل الله جميع الرسل، قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ } (5)، وقال تعالى: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَانِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } (6)، وكل رسول أول ما يقرع به أسماع قومه أن يقول { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } (7)». أهـ.
__________
(1) الانتصار لحزب الله الموحدين، ص 4.
(2) الذاريات، آية: 56.
(3) البقرة، آية: 21.
(4) النساء، آية: 36.
(5) الأنبياء، آية: 25.
(6) الزخرف، آية: 45.
(7) الأعراف، آية: 59.(1/342)
أقول: وأول ما يتبادر للذهن من معنى العبادة(1) هو ما يتقرب به الإنسان إلى الله على نحو غيبي غير معقول المعني وأشد الناس تخلفًا في مستواه الثقافي والحضاري وأشد الناس بعدًا عن الدين وأجهلهم به يدرك الفرق بين قوله تعالى: { إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الآخَرِ } (2) وبين قوله: { فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ - فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ } (3) يدرك الفرق بين القربان للإله والذبيحة للضيف الأول تعبدي معنوي غيبي غير معقول المعنى أي لا يجرى على منطق الأسباب والمسببات الظاهرة، ولا يرجع إلى حقوق العباد التي يتعاطونها فيما بينهم على سنن الفضل أو العدل، والآخر مادي حسي معقول المعنى يرجع إلى منطق الأسباب والمسببات الظاهرة ويرجع إلى حق الضيف وهو من مكارم الأخلاق كالإحسان إلى الوالدين والإحسان إلى الجار والبرِّ بالضيف والمسكين واليتيم وفك العاني فهي حقوق العباد فيما بينهم على سنن الفضل وهذا أيضًا يفترق عن البيع والشراء والإجارة والوصية والزواج والعمل وهي معاوضات تجري على سنن العدل، وكذلك الفرق بين الاستعانة والاستغاثة والاستعاذة بالخالق والمعبود تفترق في العلم الضروري عن الاستعانة والاستغاثة بالمخلوق الأولي غيبية معنوية غير معقولة المعني والثانية مادية حسية معقولة المعني يحكمها منطق الأسباب والمسببات الظاهرة وترجع إما إلى تبادل المصالح بين العباد أو إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم يتفضل به بعضهم على بعض، فالأولى حق الله والثانية حق العبد على العبد فضلاً أو عدلاً. وكذلك الفرق بين الصوم والصلاة والحج والدعاء والنذر وتقديم القربان، وبين البيع والشراء وسائر أنواع
__________
(1) التقرب والاستعانة بالله سبحانه ـ أو بغيره شركًا ـ على وجه غيبي غير معقول المعنى.
(2) المائدة، آية: 27.
(3) الذاريات، الآيتان: 26-27.(1/343)
التعاملات بين الناس ومن هذا المنطلق يعرف أن عبادة الأوثان والأصنام والصور ومظاهر الطبيعة والشمس والقمر والنجوم والكواكب والملائكة والجن والبشر وعيسى عليه السلام وعزير أو على أو محمد - صلى الله عليه وسلم - أو تقضي الحوائج من الموتى كدعاء المسألة أو دعاء العبادة أو النذر أو تسييب السوائب أو الذبح لغير الله أو الذبح باسم غير الله أو السجود أو الحج أو التوبة للشيخ أو السجود أو الطواف والاستلام أو التبتل للغير كل ذلك عبادة لغير الله تعالى لأن كله غيبي غير معقول المعني لا يرجع إلى حقوق العباد بعضهم على بعض ولا يحكمه منطق العباد في تعاملاتهم بالفضل أو العدل ولا يحكمه منطق الأسباب والمسببات الظاهرة التي تدخل وتحكم في وعلي قدرات المخلوق في كل هذا يدرك أنه شرك بدون حاجة إلى خصوصية النصوص عليه لمجرد كونه عبادة هى حق خالص لله عزَّ وجل تصرف إلى غيره فتكون شركًا يَكْفُر ويكفَّر مرتكبه وإذا كان كذلك فمن العلم الضروري أيضًا من قولة الرسول - صلى الله عليه وسلم -: { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } (1) أن يعرف الله { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ } (2). وفي الحديث «فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يعبدوا الله» ثم في نفس الحديث «فإذا هم عرفوا الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم ...» الحديث.
__________
(1) الأعراف، آية: 59.
(2) محمد، آية: 19.(1/344)
ومعرفة الله تكون بمعرفة صفاته فلا يُعرف الله عزَّ وجل حتى يعرف أنه هو الأول والآخر والظاهر والباطن والحي الذي لا يموت وأنه خالق كل شيء وبكل شيء عليم وعلي كل شيء قدير والقيوم على كل شيء وأنه واحد أحد فرد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وأنه ليس كمثله شيء وقد يجهل من صفات الله وأفعاله ما يجهل ولكن فرق كبير بين جهل بالصفة لا يؤدي إلى جهل بالذات وبين جهل بالصفة يؤدي إلى جهل بالذات، الجهل بالذات كفر والجهل بالصفة أمر وارد يتعرض له كل مسلم وفي الحديث عن أسماء الله تعالى: «أو استأثرت به في علم الغيب عندك». ومن قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لقومه { أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ } (1)، { أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ } (2). فهي قولة نوح وقول كل رسول حكيت عنه أو لم تحك يعرف أن جماع الدين أصلان:
أن يعبد الله وحده.
وأن يعبد بما شرعه في كل وقت على ألسنة رسله في ذلك الوقت.
فلابد من الرجوع في عبادة الله وحده إلى شرع الله وحده الذي جاء به رسوله في كل وقت بما أمر به في ذلك الوقت فلا يعبد الله بالدين المبدل ولا بالشريعة المنسوخة ويعبد بالدين المحكم والشريعة الناسخة.
__________
(1) الصف، آية: 5.
(2) نوح، آية: 3.(1/345)
وانظر إلى كلام شيخ الإسلام في هذا في ”اقتضاء الصراط المستقيم“ لم يستدل على ذلك بخصوصية النصوص وإنما احتج على ذلك بالعلم الضروري من دعوة الرسل يقول(1) في هذا: «ولما كان أصل الدين الذي هو دين الإسلام واحدًا وإن تنوعت شرائعه قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «إنَّا معاشر الأنبياء ديننا واحد» و«الأنبياء أخوة لعلات» فدينهم واحد وهو عبادة الله وحده لا شريك له وهو يعبد في كل وقت بما أمر به في ذلك الوقت وذلك هو دين الإسلام في ذلك الوقت وتنوع الشرائع في الناسخ والمنسوخ من المشروع كتنوع الشريعة الواحدة فكما أن دين الإسلام الذي بعث الله به محمدًا - صلى الله عليه وسلم - هو دين واحد مع أنه قد كان به وقت يجب استقبال ”بيت المقدس“ في الصلاة كما أمر النبي المسلمين بذلك بعد الهجرة ببضعة عشر شهرًا وبعد ذلك يجب استقبال الكعبة ويحرم استقبال الصخرة فالدين واحد وإن تنوعت القبلة في وقتين من أوقاته ولهذا شرع الله تعالى لبني إسرائيل السبت ثم نسخ ذلك وشرع لنا الجمعة فكان الاجتماع يوم السبت واجبًا إذ ذاك ثم صار الواجب هو الاجتماع يوم الجمعة وحرم الاجتماع يوم السبت فمن خرج عن شريعة موسى قبل النسخ لم يكن مسلمًا ومن لم يدخل شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد النسخ لم يكن مسلمًا». أهـ.
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم، مكتبة المدنى، ومطبعة صبرة، ص 454.(1/346)
والشرع الذي جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يقتصر على ما يعبد به الله عزَّ وجل بل تعداه إلى ما يقيم القسط بين الناس { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ... } (1) الآية. والقسط هو ما أنزل الله يقول الله عزَّ وجلَّ: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ... } (2) الآية.
ـ فمن يخرج عن شرع الله الذي جاء به الرسول فيما يعبد به الله - جل جلاله -. ـ ومن يخرج عن شرع الله الذي جاء به الرسول فيما يقيم القسط بين الناس، فقد رد رسالة الرسول والكتاب الذي جاء به والله الذي أرسله فكفر بكل ذلك يقول الله عزَّ وجلَّ: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ - قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } (3).
ويقول البيضاوي في تفسير قول الله - عز وجل -: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ } (4) أن من لم يطعه في شريعته فقد رد رسالته ومن فعل ذلك كان كافرًا مستوجب القتل هذا معنى كلامه وقد مرَّ ذكره.
__________
(1) الأعراف، آية: 29.
(2) الحديد، آية: 25.
(3) آل عمران، الآيتان: 31-32.
(4) النساء، آية: 64.(1/347)
الخروج عن شريعة الرسول فيما يعبد به الله كفر بالرسول وبالرسالة وبالله الذي أرسل الرسول بالرسالة، وكذلك الخروج عن شريعة الرسول فيما يقيم القسط بين الناس كفر بالرسول والرسالة وبالله الذي أرسل الرسول بالرسالة سواء بسواء، والخروج عن شريعة الرسول في أي منها يكون بالرجوع إلى شرع آخر غير شرع الله المحكم من الدين المبدَّل والدين المنسوخ. وذلك حكمًا وتحاكمًا وتحكيمًا وتشريعًا وقبولاً في الحياة اليومية فيما يعبد الله به أو فيما يقيم القسط بين الناس أو يكون بالخروج عن شريعة الرسول في أي منهما برد أمر الله عليه وذلك بالإباء من قبول الفرائض أو الاستحلال ومعني كل منها الامتناع من التزام حكم الله بالوجوب أو الامتناع عن التزام حكم الله بالتحريم، أو يكون بالخروج عن شريعة الرسول بالطعن في حكمة التشريع أو الاستهزاء أو الاستخفاف أو الاستهانة وكل هذا من العلم الضروري الذي تقوم الحجة به بكلمة واحدة هى ”محمد رسول الله“ وأنه الرسول الخاتم وأن شريعته ناسخة لما قبلها.
ولا يتم قبول شرع الرسول إلا بالدخول في ولايته، فالمسلمون أمة واحدة تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يدٌ على من سواهم، فليس من المسلمين من لا يكون يده معهم على من سواهم، وليس من المسلمين من تكون يده مع من سواهم عليهم.(1/348)
علمًا بأن تقرير تفرد الله عزَّ وجلَّ بالحاكمية سابق من حيث المعنى في دعوة الرسل على تفرده سبحانه وتعالى بالعبادة وذلك في قوله تعالى على لسان نوح: { إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ - أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ } (1)، وقوله تعالى: { وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ - أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } (2)، وفى قوله تعالى: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } (3) ، وقوله تعالى: { إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } (4)، وقوله تعالى: { أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } (5)
المسلك الثاني: معرفة التوحيد من دلالة الشهادتين:
وحقيقة ”لا إله إلا الله محمد رسول الله“، معناه أن لا يعبد إلا الله وأنه يعبد بما شرع على ألسنة رسله في كل وقت بما أمر به في ذلك الوقت، وأن محمدًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن يصدق فيما أخبر ويطاع فيما أمر، أي تصديق خبره جملة وعلي الغيب، وقبول شرعه جملة وعلي الغيب ولا يخرج عن شرعه إلى غيره ولا يرد شرعه. وإنه لا إسلام ولا إيمان ولا نجاة ولا ملة ولا دين إلا بهذا، والشرك أن يعبد مع الله غيره، وهو نوعان: شرك في الاعتقاد، وشرك في العبادة. فشرك العبادة أن يعبد مع الله غيره وشرك الاعتقاد ألا يفرد الله عزَّ وجلَّ بصفاته على النحو الذي يليق بجلاله.
__________
(1) نوح، الآيتان: 2-3.
(2) الأعراف، الآيتان: 61-62.
(3) الإسراء، آية: 23.
(4) يوسف، آية: 40.
(5) الأعراف، آية: 54.(1/349)
وما قاله شيخ الإسلام في ”الصارم المسلول“ (1): «ألا ترى أن من صدق الرسول بأن ما جاء به هو رسالة الله وقد تضمنت خبرًا وأمرًا احتاج إلى مقام ثان وهو تصديقه خبر الله وانقياده لأمر الله فإذا قال أشهد أن لا إله إلا الله فهذه الشهادة تتضمن تصديقه خبره والانقياد لأمره وأشهد أن محمدًا رسول الله تضمنت تصديق الرسول فيما جاء به من عند الله فبمجموع الشهادتين يتم الإقرار فلما كان التصديق لابد منه في كلا الشهادتين وهو الذي يتلقى الرسالة بالقبول ظن من ظن أنه أصل لجميع الإيمان وغفل عن أن الأصل الآخر لابد منه وهو الانقياد». أهـ.
والانقياد معناه إفراد الله عزَّ وجل بحقه الخالص في العبادات والعادات والمعاملات وقبول شرعه فيها والموالاة على هذا الشرع.
المسلك الثالث: معرفة التوحيد من الدلالات اللغوية للإسلام والإيمان قبل تنزيل النصوص التفصيلية المحددة له:
معنى الإسلام: هو الاستسلام وهو الإخلاص ومعناه الاستسلام لله وحده بطاعته وحده وعبادته وحده ولا يتحقق ذلك إلا بقبول الأحكام فمن استسلم لله ولغيره فهو مشرك ومن رد الاستسلام فهو مستكبر وكلاهما كافر.
ومعنى الإيمان: العلم مع ثقة وطمأنينة ورضا وحب وركون واستمساك يوجب موافقة وموالاة وانقياد يلزم منها إرادة في القلب، ولا يمتنع البدن عن إرادة القلب مع القدرة.
وبهذا يكون معنى الكفر أو حقيقته بمنافاة حقيقة الإسلام بالشرك والكبر.
وبمنافاة حقيقة الإيمان بالجهل أو الشك أو التكذيب أو الجحد أو الخلع والإعراض والنبذ والبراءة أو ترك الموافقة والموالاة والانقياد أو المحادة والمشاقة والمعاداة.
__________
(1) الصارم المسلول، ص 458.(1/350)
وبهذا فإن الشرك والكفر يحرمان بحدهما قبل أن تذكر مفرداتهما بالنصوص الدالة عليها ”الانتصار لحزب الله الموحدين“ وهما في هذا شبيهان بالبدع فإن البدع تحرم بحدها ولا تحرم بمفرداتها فإن مفرداتها لا تنحصر وقد يشار إلى بعضها تمثيلاً للعام ببعض أفراده ”كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار“.
والحيل تحرم بحدها وإن ذكرت النصوص كثيرًا من مفرداتها تمثيلاً للعام ببعض أفراده إلا أن أفرادها لا تنحصر وهي تحرم بحدها وليس قياسًا لما لم يذكر على ما ذكر.
وكذلك الفِرَق تحرم بحدها وهو ما تفترق به الأمة افتراقًا دنيويًا إلى شيع لا تفئ بعضها إلى بعض أو افتراقًا دينيًا بالمروق عن الجادة إلى ابتداعات في أصول كلية من الدين مع مباينة وإشهار سيف، والنجاة فيما قال عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أنا عليه وأصحابي» ولم يذكر ما سوى ذلك بمفرداته ولكن يعرف بحده.
والمعاصى: لا يمكن أن تحرم إلا بمفرداتها أو قياسًا على مفرداتها ولا تحرم أبدًا بحدها ولا تحريم إلا بنص على كل فرد منها.
فتعلموا الفروق يا قوم ـ اللهم هل بلغت اللهم فاشهد ـ
ومن تعريف القسطلانى للإيمان الذي هو أول واجب على المكلف نقلاً عن الإيجي والغزالى والتفتازانى أنه إذعان لحكم المخبر وقبوله فإن الإيمان يتضمن معنى الإيمان عند الاقتران وهو تصديق الخبر ومعني الإسلام عند الاقتران وهو الاستسلام الذي لا يتحقق إلا بقبول الأحكام. نقول من هذا التعريف فإن قبول الأحكام يستلزم بالضرورة شيئين:
التفريق بين حق الله الخالص في العبادات والتوحيد وبين حقوق العباد في العادات والمعاملات وما يترتب على ذلك كما مرَّ ذكره.
الموالاة على الشرع فإنه من تمام قبول الشرع.
المسلك الرابع: معرفة التوحيد من معرفة معاني العبادة الخمسة المتصلة بالتوحيد: وهذه المعاني هى:(1/351)
إنها غاية الحب والحب أصل الولاء والولاء نصرة أو اتباع أو نسك، وإفراد الله بالعبادة إفراده بكل ذلك وهذا هو التوحيد.
إنها غاية الذل وذلك يقتضي تحقيق العبودية لله بقبول شرعه ورفض ما سواه وهو معنى طاعة الله وحده لتحقيق عبادته وحده.
إنها حق الله الخالص في العبادات بصرفها إليه وحده وبقبول شرعه فيها والموالاة على هذا الشرع. وفي العادات والمعاملات بقبول شرعه فيها والموالاة على هذا الشرع.
إنها حق الله الخالص مطلقًا وذلك بإفراده سبحانه بالولاء والحكم والنسك والأعمال القلبية المستقلة عنه أو المتعلقة به.
إنها القصد ومعني توحيد العبادة أن يكون الله سبحانه وتعالى هو المقصود بالطاعات التي هى العبادة بمعناها الشامل والإله هو المعبود، ومعنى لا إله إلا الله؛ لا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالى، والتوحيد هنا هو إفراد الله سبحانه وتعالى بما لا يكون إلا لله في كل ما هو إرادي قصدي طلبى.
المسلك الخامس: معرفة التوحيد من معرفة معاني الإسلام بالمطابقة من النصوص:
والإسلام هو أن يكون الولاء لله وحده { قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ } (1). وأن يكون الانقياد والخضوع والدين والطاعة ـ وهو معنى تحقيق العبودية لله بقبول شرعه ورفض ما سواه ـ لله وحده { قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ - وَأُمِرْتُ لأنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ } (2).
__________
(1) الأنعام، آية: 14.
(2) الزمر، الآيتان: 11-12.(1/352)
وأن يكون الحق خالصًا لله في النسك بقبول شرعه فيها وصرفها إليه عزَّ وجل، وفي الحياة والممات بقبول شرعه فيها وموالاته عليه { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } (1).
المسلك السادس: مسلك العلم النظرى:
ما يرجع إلى التوحيد من إثبات ونفي أو إتيان وترك أو قول وعمل أو اعتقاد ونية أو ظاهر وباطن يعرف بالضوابط الآتية على سبيل الحصر.
الضابط الأول: التوحيد هو إفراد الله عزَّ وجلَّ بما لا يكون إلا لله فما لم يكن كذلك فليس من التوحيد.
الضابط الثانى: هذا الإفراد إما أن يكون فى:
معرفة الله عزَّ وجل على النحو الذي أخبر به عن نفسه سبحانه وتعالى وهو التوحيد الخبري العلمي المعرفي.
إفراد الله عزَّ وجلَّ بحقه الخالص في الإرادة والقصد والطلب ”توحيد العبادة“ وهو التوحيد الإرادي القصدي الطلبي.
__________
(1) الأنعام، الآيتان: 162-163.(1/353)
الضابط الثالث: لما كان التوحيد يفرض بحده والشرك يحرَّم بحده قبل بيان تفصيلاته بمفرداته فكل ما تأخر فرضه أو تحريمه فهو خارج عن التوحيد وعن الشرك الأكبر لأن البيان لا يتأخر عن وقت الحاجة والحاجة للتوحيد وترك الشرك الأكبر قائمة منذ لحظة البلاغ الأول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولذا فإن مفردات الشرك الأكبر أو النواقض المكفرة للتوحيد عندما وقعت من مرتكبيها أول ما وقعت وحكاها القرآن عنهم كفرهم بها قبل بيان كونها من مفردات الشرك الأكبر اكتفاء بتحريم الشرك بحده بقوله تعالى: { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } (1) فوقعت الأفعال والتروك مجرمة قبل بيان مفرداتها معاقبًا عليها وهذا بخلاف المعاصي فإنه لا تحريم إلا بنص تفصيلي بكل مفردة على حدة ولا تجريم إلا بتحريم ولا عقوبة إلا بتجريم قال تعالى في موالاة الكافرين: { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا } (2) وقال في الاستغفار للمشركين: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ } (3) فكلّ ما لم يقع مكفرًا به عند أول وقوعه فليس من النواقض المكفرة للتوحيد، وبمعني آخر فإننا نقول كان المسلم مسلمًا قبل فرض الصلاة والصوم والحج والزكاة وقبل فرض القتال وقبل تحريم الخمر، والميسر والربا وقبل فرض الحجاب ولكن لم يُقر أحد على إسلام مع عبادة الأصنام والتحاكم إلى الكهان. وموالاة الكافرين واعتقاد أن عيسى بن الله وأن الملائكة بناته ـ سبحانه وتعالى ـ وأن الله ثالث ثلاثة وأن له سبحانه وتعالى صاحبة وولد أو بنين وبنات وأن بينه وبين الجنة نسبًا والإسلام إنما يكون بترك الشرك بنوعيه في الاعتقاد والعبادة والشرك يعلم بالعلم الضروري من الرسول وكذلك التوحيد بحده في كل من الاعتقاد والعبادة قبل بيان المفردات.
__________
(1) الأعراف, آية: 59.
(2) النساء، آية: 89.
(3) التوبة، آية: 115.(1/354)
الضابط الرابع: نواقض صلب التوحيد مكفرة فما لم تكن نواقضه مكفرة فليس من صلب التوحيد وربما كان من كمالاته.
ويعرف كون النواقض مكفرة أو غير مكفرة ليعرف إذا كانت نواقض للصلب أو الكمالات بتنزيل الحكم على مناطه.
والمناط: هو الوصف المناسب المؤثر. ومناسبته وتأثيره هو في الحكم الذي يتنزل عليه، ولا فرق في ذلك بين التوحيد وبين غيره من الأحكام المتعلقة بالفروع قال تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا... } (1) الآية. فالسرقة: مناط، والقطع: حكم.
{ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } (2).
الزنا: مناط، والجلد: حكم لغير المحصن، وفي الأثر ”زنا ماعز فرجم“ الزنا: مناط، والرجم: حكم للمحصن.
{ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ } (3).
ومَنْ لم يشرع للناس ما شرعه الله لهم ليحكم به في مواضع النزاع فيحل حلاله ويحرم حرامه. مَنْ لم يفعل ذلك: مناط، والكفر المخرج من الملة: حكم.
{ لاَ يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ } (4). ولاية الكافرين: مناط، والخروج من الملة بانقطاع صلته بالله سبحانه من كل وجه: حكم. وهكذا.
وفي مجال الحديث عن المناط يُجرِّد السياق القرآني المناط كوصف مناسب مؤثر عن مزاحمة الأوصاف الأخرى له، وعن تأثير خصوصية المحل فيه حتى يتجرد للحكم وهذا هو تنقيح المناط، إن وجد غير منقح في سياق فإنه يوجد منقحًا في سياق آخر، فلا يحتاج مع بيان القرآن إلى جهد مجتهد في تنقيح المناط. أما تحقيق المناط فإن له مسلكان:
__________
(1) المائدة، آية: 38.
(2) النور، آية: 2.
(3) المائدة، آية: 44.
(4) آل عمران، آية: 28.(1/355)
المسلك الأول: تقديم الدلالة الاصطلاحية الشرعية على الدلالة العرفية الاستعمالية المستفادة من السياق، وتقديم العرفية الاستعمالية على الإفرادية الوضعية اللغوية المستفادة من وضع اللغة.
المسلك الثاني: أن يكون للدلالة الاصطلاحية الشرعية صور تتمثل فيها يتولى السياق القرآني ذكرها على سبيل الحصر في مناسباتها.
وفي مجال الحديث عن الحكم فلابد من التفريق بين ما ينقل عن الملة وما لا ينقل من الألفاظ والاستعمالات بضوابط لغوية مستفادة من تصرف الشارع في عباراته وبيان ذلك:
لفظ الكفر: إذا كان منكرًا ومقيدًا لا ينقل، وإذا كان معرفًا ومطلقًا ينقل عن الملة.
لفظ الإيمان: إذا نفي الإيمان وأثبت الإسلام بإشارة لفظية أو معنوية فإن هذا النفي هو للإيمان الواجب مع إثبات الإيمان المجمل، لأنه لا إيمان بلا إسلام ولا إسلام بلا إيمان، وكذلك إذا نفي الإيمان من وجه وأثبته من وجه آخر، فإن هذا نفي للتمام وهو الإيمان الواجب وليس نفيًا للأصل وهو الإيمان المجمل فلا ينقل من الملة.
وذلك مثل إدخال الولدان في مسمى الرجال في قوله تعالى: { وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثَيَيْنِ } (1). وإخراج الولدان من مسمى الرجال في قوله تعالى: { وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا } (2) الآية، وقوله تعالى: { إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً } (3).
__________
(1) النساء، آية: 176.
(2) النساء، آية: 75.
(3) النساء، آية: 98.(1/356)
فأدخل الولدان في مسمى الرجال باعتبار ثبوت الأصل وأخرجهم من مسمى الرجال باعتبار نقص التمام. وإذا نفي الإيمان من كل وجه وعن كل اعتبار، ولم يثبته بأي وجه أو بأي اعتبار، ولم يثبت مع هذا النفي إسلامًا بإشارة لفظية أو معنوية، وتكرر النفي في مناسبات شتي ووصف مرتكب نفس الفعل بأوصاف أخرى مثل الشرك أو النفاق أو الكفر أو نفي الصلة دل على أن المقصود من النفي هو عدم ثبوت الأصل فينقل عن الملة.
نفي الصلة: إذا كان من كل وجه فإنه ينقل عن الملة { فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ } (1) { لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } (2). وإذا كان من وجه دون وجه لا ينقل عن الملة «من غش أمتي فليس مني».
لفظ الشرك: الأصل فيه أنه ينقل عن الملة إلا إذا قامت القرينة على كونه شركًا أصغر بدلالة اللفظ أو النص أو نص آخر على نفس الفعل.
لفظ النفاق: الأصل فيه أنه ينقل عن الملة إلا إذا قامت القرينة على كونه شعبة من شعب النفاق أو أن الكفر فيه بالمآل وليس في الحال.
لفظ الفسق والظلم: حسب القرينة ويستعمل اللفظان في القرآن فيما ينقل وفيما لا ينقل.
لفظ الضلال: حسب القرينة ويستعمل في القرآن بمعني الكفر، البدعة، المعصية، الحيرة، وغالب استعماله في السنة بمعني البدعة.
لفظ اللعن: إذا كان خبريًا وأبديًا فإنه ينقل وإذا كان بمعنى الدعاء والتأقيت فإنه لا ينقل.
العذاب المهين في الكفار والعذاب الأليم في الكفار والعصاة من الموحدين.
__________
(1) آل عمران، آية: 28.
(2) الأنعام، آية: 159.(1/357)
العذاب الأخروي إذا أفاد التأبيد مع الخلود في النار أو أصحاب النار مع الخلود أو القطع بعدم الخروج من النار وعدم دخول الجنة حتى يلجَ الجملُ في سمِّ الخياط أو تحريم الجنة فإنه فيما ينقل إذ مجرد قول لا يدخلون الجنة فمعناه لا يدخلون جنة معينة أو يتأخر دخولهم والقول بالإلقاء في النار فمعناه دخولها ولكن ليس معناه الخلود فيه والتأبيد بل يخرج منها إلى الجنة إذا كان موحدًا والقول بأن هذا جزاؤه فهذا وعيد متوقف على استيفاء شروط وانتفاء موانع وقد لا يتحقق.
لفظ الفاحشة والفحشاء والمنكر والبغي والإثم والمعصية والذنب والسيئة والخطء والخطيئة والغضب والكره والمقت والمكروه، فالأصل أنها فيما لا ينقل وقد تستعمل فيما ينقل بقرينة تدل على ذلك.
أمثلة:
إفراد الله سبحانه وتعالى بالحكم ركن من أركان توحيد العبادة بهذه الضوابط:
قوله تعالى { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } (1) فيه معنى اعتقاد وجوب الصفة لله سبحانه وتعالى وتفرده بها على النحو الذي يليق بكماله جلّ وعلا وفيه معنى ابتغاء الحكم عنده عزَّ وجل وقوله تعالى: { أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا } (2)، { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } (3) فيه فقط معنى ابتغاء الحكم عند الله عزَّ وجل، وأن هذه عبادة يقصد بها، وإذا قصد بها غيره كان هذا عبادة لغير الله عزَّ وجل، لأنه راجع إلى إفراد الله عزَّ وجل بحقه الخالص.
لم يكن المسلم مسلمًا وهو يتحاكم إلى الكهان، وأول ما وقعت الرغبة عن شرع الله إلى غيره وقعت مكفرًا بها، ولم تكن مناسبة وقوعها هى بداية التحريم.
__________
(1) الشورى، آية: 10.
(2) الأنعام، آية: 114.
(3) المائدة، آية: 50.(1/358)
النواقض مكفرة بتنزيل الحكم على مناطه ويراعى في ذلك ضوابط تنقيح المناط، وتحقيق المناط، وتنزيل الحكم على مناطه، وتحديد كون الحكم مما ينقل أو لا ينقل.
مثال ذلك قوله تعالى: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ } (1).
ـ الدلالة الشرعية الاصطلاحية لكلمة يحكم: يشرع.
ـ الدلالة الاستعمالية: قد تكون يشرع أو يقضي أو يجتهد حسب السياق.
ـ والدلالة اللغوية: من خُيِّر فاختار فقد حكِّم فحكم.
فيكون معنى { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ } من لم يشرع للناس ما شرعه الله لهم ليقضي به في مواضع النزاع فيحل حلاله ويحرم حرامه فأولئك هم الكافرون.
أولئك: تعريف، هم: تعريف، ال: تعريف، فالكفر هنا ينقل عن الملة.
والوصف تجرد عن مزاحمة أوصاف أو خصوصية محل فيكون منقحًا وهو محقق أيضًا ولبيان ذلك نقول:
__________
(1) المائدة، آية: 44.(1/359)
الحكم في قوله تعالى: { يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ } (1) ينصبُّ على محل هو اليهود متصف بعدة أوصاف هى: سمَّاعون للكذب، أكَّالون للسحت، يُحرفون الكلم عن مواضعه، لم يطهر الله قلوبهم وأراد فتنتهم، يتولون عن حكم الله في التوراة إلى غيره مما يدَّعون عدم الإيمان به، إيمانهم زعمٌ باللسان دون موافقة القلب فهنا يوجد محل مع مزاحمة أوصاف فلا ندري هل يختص هذا الحكم بوصف من الأوصاف دون غيره أو ببعض هذه الأوصاف دون غيره أو يختص بها في حالة الاجتماع دون الافتراق أم يختص كل وصف منها في حالة الانفراد والاجتماع وهل للمحل تأثير بحيث لو وجدت هذه الأوصاف في غير هذا المحل لم يختص بهذا الحكم إلى أن يأتي موضع النص من السياق فيتجرد الوصف عن المحل وعن مزاحمة الأوصاف في قوله تعالى: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ } وهو مناسب يدرك العقل مناسبته ويعتبر الشرع مثله، ويؤثر بحرف الفاء فيكون مناطًا كما سبق بيانه ثم في التحقيق كما مرَّ بتقديم الدلالة الاصطلاحية على إرادة الدلالة الاستعمالية أو القياسية اللغوية الإفرادية ثم الدلالة الاستعمالية في السياق تتفق مع الدلالة الاصطلاحية على إرادة معنى يشرع من لفظ يحكم وليس معنى يقضي أو يجتهد.
ولكن هناك قاعدة أن الدلالات الإفرادية والاستعمالية يكون لها حظ من الحكم وإن لم تكن مرادة إذا كانت الدلالة الشرعية الاصطلاحية هى المرادة، وعليه قيل كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق للجور في القضاء والجرأة على الاجتهاد ومطلق المخالفة الشرعية مع بقاء الالتزام بشرع الله.
مثال آخر: إفراد الله عزَّ وجل بالولاية ركن من أركان التوحيد:
__________
(1) المائدة، آية: 41.(1/360)
يقول الله - عز وجل -: { أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (1). فالولي صفة من صفات الله عزَّ وجل لابد من اعتقاد وجوبها له جل وعلا وتفرده بها على النحو الذي يليق بكماله سبحانه وتعالى، وقوله - عز وجل -: { قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ } (2). الاتخاذ معنى إرادي قصدي طلبي فهو يرجع إلى توحيد العبادة، وهنا إفراد الله عزَّ وجل بما لا يكون إلا لله وهذا الإفراد في توحيد العبادة لمعني ”أتخذ“.
__________
(1) الشورى، آية: 9.
(2) الأنعام، آية: 14.(1/361)
لم يكن المسلم مسلمًا وهو يظاهر المشركين على المسلمين أو يتآمر مع الكفار على المسلمين لإبادة خضرائهم أو استئصال شأفتهم أو يكثر سواد الطاعنين في دين الله ترويجًا لباطلهم ابتغاء العزة عندهم أو وهو يرجح ولاية المشركين على ولاية المسلمين أو يعدل ولاية المسلمين بولاية المشركين، ترجيحًا أو عدلاً لولاية القبيلة على أو بولاية العقيدة أو وهو منعدم الولاء بين المسلمين والكافرين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء أو هو داخل تحت ولاية الكافرين بطوعه وإرادته، وعندما وقعت هذه الأفعال لأول مرة حكي عنها القرآن وقرر حكمها تفصيليًا ومع ذلك لم تكن هذه الوقائع هى السبب لبداية التحريم وكان ما قبلها على أصل الإباحة، بل كان التحريم سابقًا عليها اكتفاء بتحريم الشرك بحده لقوله تعالى: { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } (1). ولذلك وقعت هذه الوقائع عندما وقعت أول مرة محرَّمة مجرَّمة مكفرًا بها معاقبًا عليها، وعندما أوشك أن يحدث اقتتال بين الأوس والخزرج على ثارات ودعاوى الجاهلية أخبرهم أنه إذا انتهي وجود الجماعة المسلمة بالتفرق إلى الجماعات العرقية القديمة كان هذا التفرق المطلق كفر كما أن الأحاديث أخبرت أن التشبه المطلق بالكفار كفر.
__________
(1) الأعراف، آية: 59.(1/362)
ومن ناحية تنزيل الحكم على مناطه فهو بقول الله - عز وجل -: { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ - كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ - تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ - وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ فاسقون } (1). فنجد أن حكم اللعن والكفر يترتب على المعصية والاعتداء وعدم التناهي عن المنكر وموالاة الكافرين وذلك في محل هو بني إسرائيل ثم تجد من السياق أن وصف الكفر يختص بوصف واحد من هذه الأوصاف هو موالاة الكافرين لكن مازال في محل هو بني إسرائيل ثم في قوله تعالى: { لاَ يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ } (2). اختص حكم الكفر بوصف موالاة الكافرين مجردًا عن خصوصية محل ومزاحمة أوصاف.
ثم تجد أن موالاة الكافرين بمعناها الاصطلاحي الشرعي وليس اللغوي أو الاستعمالي تتمثل في صور هى:
مظاهرة المشركين في قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ... } (3). الآيات، وأسباب النزول.
ترجيح ولاية القبيلة على ولاية العقيدة أو العدل بين ولاية القبيلة وولاية العقيدة في قوله تعالى: { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ } (4). الآيات، وأسباب النزول.
__________
(1) المائدة، آيات: 78-81.
(2) آل عمران، آية: 28.
(3) النساء، آيات: 97-99.
(4) النساء، آيات: 88-91.(1/363)
تكثير سواء الطاعنين في دين الله ترويجًا لباطلهم ابتغاء للعزة عندهم.
انعدام الولاء.
الدخول تحت ولاية الكافرين طوعًا والمناطات الثلاثة (3)، (4)، (5) في قوله: { بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } إلى قوله تعالى: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا } (1) الآيات.
التآمر مع الكفار على المسلمين بقصد الإضرار بهم في قوله تعالى: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ... } (2) الآيات وغير ذلك كثير من السياقات في القرآن.
التفرق المطلق والتجمع على دعاوى الجاهلية من تخوم الأرض ونعرات الجنس في قوله تعالى: { قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ } إلى قوله { ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } (3) السياق في سورة آل عمران.
التشبه المطلق في السنة من خلال الأحاديث الصحيحة عنه - صلى الله عليه وسلم - وهذا على سبيل الحصر ولا يدخل فيها أي معاني أخرى مستفادة من احتمالات لفظ الولي أو الولاية أو مشتقاته أو استعمالاته في اللغة.
وهنا تعليق مهم جدًا في هذا الصدد:
النواقض المكفرة للتوحيد بنوعيه هى الشرك الأكبر بنوعيه وهي الكفر الاعتقادي سواء كان ذلك في مجال العلم أو القول أو العمل أو الباطن أو الظاهر.
ما جاء فيه لفظ الكفر وليس ناقضًا للتوحيد بنوعيه الخبري العلمي المعرفي أو الإرادي القصدي الطلبي فهو كفر عملي أو مجازي أو شرك أصغر أو كفر دون كفر مسميات مترادفة لمسمي واحد وسواء كان ذلك في مجال العلم أو القول أو العمل.
__________
(1) النساء، آيات: 138-145.
(2) التوبة، آيات: 107-110.
(3) آل عمران، آيات: 98-112.(1/364)
البعض يقع في خطأ شنيع ويؤول النصوص التي جاءت في شرك العبادة وهو الشرك الأكبر الذي عني القرآن بتقريره أكثر من أي شيء آخر أقول يخطئ ويؤول هذا الشرك إلى ما يسميه بالكفر العملي ظنًا منه أن الكفر الاعتقادي ليس هو ما يرجع إلى الشرك الأكبر بنوعيه بل ما يرجع إلى شرك الاعتقاد فقط. ومن ثم يثبت التوحيد في العبادة على أنه توحيد في الباطن دون الظاهر وأن الشرك فيه في الباطن فقط أو بدلالة الأقوال والأعمال الظاهرة الدالة على انخرام الباطن بما لا ينحصر ويؤول نصوص القرآن والسنة التي جاءت في الأعمال والأقوال الظاهرة من شرك العبادة وهذا خطأ شنيع وسقطة في إحدي وهدات الإرجاء الخطرة والحق أن توحيد الاعتقاد وتوحيد العبادة يثبت قولاً وعملاً إتيانًا وتركًا ظاهرًا وباطنًا بتنزيل الأحكام على المناطات وفقًا للضوابط التي سبق ذكرها والله سبحانه أعلم وهو ولي التوفيق.
وما جاء فيه لفظ الكفر مما ليس ناقضًا للتوحيد وهو إما أن يكون كما أسلفنا القول كفر عملي أو كفر دون كفر أو كفر مجازي أو ربما كان كفر ينقل عن الملة بقيد آخر مثل الاعتقاد أو الاستحلال أو الإجماع على الترك أو الإباء من قبول الفرائض وليس ذلك إعمالاً لقواعد التأويل التي نرفضها تمامًا ولكن إعمالاً للجمع بين النصوص، كما جاء فيمن جاء للعراف إحدى الروايات أنه يكفر بما أنزل على محمد والأخرى بإبطال صلاته أربعين يومًا فيكون الأول لمن يتخذ ذلك مسلكًا ثابتًا نابعًا عن اعتقاد أو توجه ثابت والأخرى لمن فعله عبثًا أو بطريقة عفوية غير مبنية على توجه ثابت، كذلك بعض ما جاء في شأن تارك الصلاة.
في حالة إذا كان النص يفيد النقل عن الملة قطعًا فهو كفر دلالة وليس كفرًا في الحال أي لدلالة النص على عدم وجود الإيمان في قلبه والكفر في الحال هو لنواقض التوحيد المكفرة.(1/365)
أما كفر اللوازم والمآلات فهو باعتبار لازم القول أو الاعتقاد أو ما يؤول إليه والقاعدة فيه أن الكفر بالمآل ليس بكفر في الحال ولازم المذهب ليس بمذهب ما لم يلتزمه صاحبه والبعض من العلماء يكفر الداعية دون المقلد والبعض لا يكفر هذا ولا ذاك والبعض يفرق بين شدة الالتصاق للازم والمآل وبين بُعدِه والبعض لا يفرق والأقوى فيه ترك التكفير إلا بعد التزام اللوازم أو البقاء على المعتقدات الفاسدة بعد وضوح لوازمها ومآلاتها.
يقول صاحب ”الانتصار لحزب الله الموحدين“: قال المجد رحمه الله:
”كل بدعة كفَّرنا فيها الداعية فإنَّا نُفَسِّق المقلد فيها كَمَنْ يقول بخلق القرآن أو أن علم الله مخلوق أو أن أسماءه مخلوقة أو أنه لا يُري في الآخرة أو سبَّ الصحابة تدينًا أو أن الإيمان مجرد الاعتقاد وما أشبه ذلك“. والمجد هو أبو البركات عبد السلام بن عبد الله بن تيمية، محدث أصولي فقيه.
حقيقة الكفر لا تتقيد بهذه القيود:
1- التقييد بعقد الإسلام أو بقول لا إله إلا الله أو الانتساب أو دعوى الإسلام:(1/366)
لا دخول في حقيقة الإسلام إلا بالتوحيد وترك الشرك، وبالشرك ـ بعد التجرد منه ـ تحدث الردة عن الإسلام بالكفر المخرج من الملة يقول يوسف عليه السلام في قوله تعالى: { إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ - وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } (1)، وقال تعالى: { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } (2)، { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } (3)، وقال - عز وجل -: { وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ } (4). استغفروه أي من الشرك، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله فقد حُرِّمَ دمه وماله». أما أن الشرك يكفر به من يرتكبه فيقول تعالى: { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (5)، ويقول تعالى: { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } (6)، ويقول عن الأنبياء: { وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (7). وفي البخاري ”باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يَكْفُر أو يُكَّفر مرتكبها إلا بالشرك“.
__________
(1) يوسف، الآيتان: 37-38.
(2) التوبة، آية: 5.
(3) التوبة، آية: 11.
(4) هود، آية: 61.
(5) آل عمران, آية: 80.
(6) الزمر، آية: 65.
(7) الأنعام، آية: 88.(1/367)
أما عن الانتساب فيقول تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } (1)، ويقول - عز وجل -: { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } (2)، { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } (3).
يقول الشيخ أبو بطين رحمه الله(4): «ومن أعظم المصائب إعراض أكثر الناس عن النظر في معنى هذه الكلمة العظيمة حتى صار كثير منهم يقول: من قال لا إله إلا الله ما نقول فيه شيئًا وإن فعل ما فعل!!! لعدم معرفتهم بمعني هذه الكلمة نفيًا وإثباتًا. مع أن قائل ذلك لابد أن يتناقض فلو قيل له ما تقول فيمن قال: لا إله إلا الله ولا يقر برسالة محمد بن عبد الله؟! لم يتوقف في تكفيره أو أقر بالشهادتين وأنكر البعث؟ لم يتوقف في تكفيره أو استحل الزنا أو اللواط أو نحوهما أو قال إن الصلوات الخمس ليست بفرض أو أن صيام رمضان ليس بفرض؟ فلابد أن يقول بكفر من قال ذلك فكيف لا تنفعه لا إله إلا الله إذًا ولا تحول بينه وبين الكفر؟ فإذا ارتكب ما يناقضها وهو عبادة غير الله وهو الشرك الأكبر الذي هو أكبر الذنوب قيل هو يقول لا إله إلا الله ولا يجوز تكفيره لأنه يتكلم بكلمة التوحيد!! لكن آفة الجهل والتقليد أوجبت ذلك».
أقول قد مرَّ في هذا نقل مستفيض عن الشيخ بن عبد الوهاب والشيخ سليمان والشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ أصحاب كتب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد وأصحاب ”تيسير العزيز الحميد“ و”فتح المجيد“.
2- حقيقة الكفر لا تتقيد باعتقاده:
__________
(1) البقرة، آية: 62.
(2) المائدة، آية: 73.
(3) المائدة، آية: 72.
(4) الانتصار لحزب الله الموحدين، ص 9.(1/368)
يقول صاحب كتاب ”إيثار الحق عن الخلق“(1): «ومن العجب أن الخصوم من البهاشمة وغيرهم لم يساعدوا على تكفير النصارى الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ومن قال بقولهم مع نص القرآن على كفرهم إلا بشرط أن يعتقدوا ذلك مع القول وعارضوا هذه الآية الظاهرة بعموم مفهوم قوله - عز وجل -: { وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا } (2). كما سيأتي بيانه وضعفه ومع وضوح الآية الكريمة في الكفر بالقول. إلى أن يقول(3): وعلي هذا لا يكون شيء من الأفعال والأقوال كفر إلا مع الاعتقاد حتى قتل الأنبياء والاعتقاد من السرائر المحجوبة فلا يتحقق كفر كافر قط إلا بالنص الخاص عن شخص شخص(4). ولا يدل حرب الأنبياء على ذلك لاحتمال أن يكون على الظاهر كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «فمن حكمت له بمال أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار».
__________
(1) إيثار الحق عن الخلق، ص 418، مكتبة العلم بجدة، مكتبة ابن تيمية.
(2) النحل، آية: 106.
(3) المصدر السابق، ص 419.
(4) وهذا باطل إجماعًا.(1/369)
ويقول في موضع آخر(1): وقد بالغ الشيخ أبو هاشم وأصحابه وغيرهم فقالوا: هذه الآية تدل على أن من لم يعتقد الكفر ونطق بصريح الكفر وبسب الرسل أجمعين وبالبراءة منهم وبتكذيبهم من غير إكراه وهو يعلم أن ذلك كفر أنه لا يكفر وهو ظاهر اختيار الزمخشري في كشافه فإنه فسَّر شرح الصدر بطيب النفس بالكفر وباعتقاده معًا وهذا كله ممنوع لأمرين ”أحدهما“ معارضة قولهم بقوله تعالى: { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } (2). فنصَّ بكفر من قال ذلك بغير شرط فخرج المكره بالنص والإجماع وبقي غيره، فلو قال مكلف مختار غير مكره بمقالة النصاري التي نصَّ القرآن على أنها كفر ولم يعتقد صحة ما قال لم يُكَفِّرُوه مع أنه لعلمه بقبح قوله يجب أن يكون أعظم إثمًا من بعض الوجوه لقوله تعالى: { وهم يعلمون } فعكسوا وجعلوا الجاهل بذنبه كافرًا والعالم الجاحد بلسانه مع علمه مسلمًا. ”الأمر الثاني“ أن حجتهم دائرة بين دلالتين ظنيتين قد اختلف فيهما في الفروع الظنية:
إحداهما: قياس العامد على المكره والقطع على أن الإكراه وصف ملغي مثل كون القائل بالثلاثة نصرانيًا وهذا نازل جدًا ومثله لا يقبل في الفروع الظنية.
__________
(1) المصدر السابق، ص 437.
(2) المائدة، آية: 73.(1/370)
وثانيتهما: عموم المفهوم { وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا } (1). فإنه لا حجة لهم في منطوقها قطعًا وفاقًا، وفي المفهوم خلاف مشهور هل هو حجة ظنية مع الاتفاق على أنه هنا ليس بحجة قطعية ثم في إثبات عموم له خلاف، وحجتهم هنا من عمومه أيضًا وهو أضعف منه، بيانه أن مفهوم الآية: ومن لم يشرح بالكفر صدرًا فهو بخلاف ذلك سواء قال كلمة الكفر بغير إكراه أو قالها مع إكراه فاحتمل أن لا يدخل المختار بل رجَّح أن لا يدخل لأن سبب النزول في المكره والعموم المنطوق يضعف شموله بذلك ويختلف فيه فضعف ذلك في الظنيات من ثلاث جهات: من كونه مفهومًا، وكونه عموم مفهوم وكونه على سبب مضاد لمقصودهم.
قال قتادة: نزلت في عمَّار بن ياسر ذكره الذهبي في ترجمته من النبلاء ورواه الواحدي عن ابن عباس فكيف يقدم مع ذلك كله على منطوق { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } (2)». أهـ.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية (3) بعد ذكر قوله تعالى: { يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ - وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } (4): «فقد أخبر أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم إنما تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له بل كنا نخوض ونلعب وبيَّن أن الاستهزاء بآيات الله كفر ولا يكون هذا إلا ممن شرح صدره بهذا الكلام ولو كان الإيمان في قلبه منعه أن يتكلم بهذا الكلام.
__________
(1) النحل، آية: 106.
(2) المائدة، آية: 73.
(3) الإيمان، ص 207.
(4) التوبة، الآيتان: 64-65.(1/371)
ويقول(1): إن الله سبحانه لم يقل لهؤلاء المستهزئين قد كذبتم في قولكم: { إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } (2). فلم يكذبهم في هذا العذر كما كذبهم في سائر ما أظهروه من العذر الذي يوجب براءتهم من الكفر لو كانوا صادقين، بل بيَّن أنهم كفروا بعد إيمانهم بهذا الخوض واللعب.
ويقول شيخ الإسلام في موضع آخر عن المستهزئين(3): قال تعالى في حق المستهزئين: { لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } (4). فبيَّن أنهم كفار بالقول مع أنهم لم يعتقدوا صحته وهذا باب واسع». أهـ.
وفي ”الانتصار لحزب الله الموحدين“ (5): «فتغيير الاسم لا يغير حقيقة المسمى ولا يزيل حكمه كتسمية البوادي سوالفهم الباطلة حقًا وتسمية الظلمة ما يأخذونه من الناس بغير اسمه ولما سمع عدي بن حاتم وهو نصراني قول الله تعالى: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } (6). قال للنبيّ - صلى الله عليه وسلم -: لسنا نعبدهم. فقال - صلى الله عليه وسلم -: «أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرَّم الله فتحلونه. قال: قلت بلى، قال: فتلك عبادتهم» فعديّ - رضي الله عنه - ما كان يحسب أن موافقتهم فيما ذكر عبادة منهم فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك عبادة منهم لهم مع أنهم لا يعتقدونه عبادة لهم وكذلك ما يفعله عبَّاد القبور من دعاء أصحابها وسؤالهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات والتقرب إليهم بالذبائح والنذور عبادة منهم للمقبورين وإن كانوا لا يسمونه ولا يعتقدونه عبادة».
__________
(1) الصارم المسلول، ص 465.
(2) التوبة، آية: 65.
(3) الصارم المسلول، ص 4- 5.
(4) التوبة، آية: 66.
(5) الانتصار لحزب الله الموحدين، ص 8-9.
(6) التوبة، آية: 31.(1/372)
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن مانعي الزكاة (1): «والصحابة لم يقولوا هل أنت مقر بوجوبها أو جاحد لها. هذا لم يعهد عن الصحابة بحال بل قال الصديق لعمر رضى الله عنهما: والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها. فجعل المبيح للقتال مجرد المنع لا جحد الوجوب، وقد روى أن طوائف منهم كانوا يقرون بالوجوب لكن يبخلون بها ومع هذا فسيرة الخلفاء فيهم سيرة واحدة وهى قتل مقاتليهم وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم».
ويقول شيخ الإسلام: «وأيضًا فإن اليهود كانوا يعتقدون صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يتبعوه، وفرعون كان يعتقد صدق موسى ولم ينقد له، بل جحد بآيات الله ظلمًا وعلوًا، وإبليس لم يكذب في أمر الله تعالى له بالسجود، وإنما أبى عن الانقياد كفرًا واستكبارًا فلم ينفع الاعتقاد هؤلاء لما تركوا الانقياد». أهـ.
__________
(1) نقلاً عن الكلمات النافعات من كتاب ”عقيدة الموحدين“، ص 237.(1/373)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية(1): «ويجب أن يعلم أن القول بأن كفر الساب في نفس الأمر إنما هو لاستحلاله السبّ زلة منكرة وهفوة عظيمة ويرحم الله القاضي أبي يعلي لقد ذكر في غير موضع ما يناقض ما قاله هنا، وإنما وقع من وقع في هذه المهواة بما تلقوه من كلام طائفة من متأخرى المتكلمين ـ وهم الجهمية الإناث الذين ذهبوا مذهب الجهمية الأولى في أن الإيمان هو مجرد التصديق الذي في القلب وإن لم يقترن به قول اللسان ولم يقتض عملاً في القلب ولا في الجوارح ـ وصرح القاضي أبو يعلي هنا قال عقب أن ذكر ما حكيناه عنه وعلي هذا لو قال الكافر: أنا معتقد بقلبي معرفة الله وتوحيده ولكني لا آتي بالشهادتين كما لا آتي غيرها من العبادات كسلاً. لم يحكم بإسلامه في الظاهر ويحكم به باطنًا. قال: وقول الإمام أحمد: ومن قال أن المعرفة تنفع في القلب من غير أن يتلفظ بها فهو جهمي، محمول على أحد وجهين: أحدهما: أنه جهمي في ظاهر الحكم. الثاني: على أنه يمتنع من الشهادتين عنادًا، لأنه احتج أحمد في ذلك بأن إبليس عرف ربه بقلبه ولم يكن مؤمنًا. ومعلوم أن إبليس اعتقد أنه لا يلزم امتثال أمره تعالى بالسجود لآدم، وقد ذكر القاضي في غير موضع أنه لا يكون مؤمنًا حتى يصدق بلسانه مع القدرة وبقلبه، وإن الإيمان قول وعمل كما هو مذهب الأئمة كلهم مالك وسفيان والأوزاعى والليث والشافعي وأحمد وإسحاق ومن قبلهم وبعدهم من أعيان الأمة وليس الغرض هنا استيفاء الكلام في الأصل وإنما الغرض التنبيه على ما يختص هذه المسألة وذلك من وجوه:
__________
(1) الصارم المسلول، ص 454.(1/374)
أحدها: أن الحكاية المذكورة عن الفقهاء أنه ”إن كان مستحلاً كفر وإلا فلا“ ليس لها أصل، وإنما نقلها القاضي من كتاب بعض المتكلمين الذين نقلوها عن الفقهاء، وهؤلاء نقلوا قول الفقهاء بما ظنوه جاريًا على أصولهم أو بما قد سمعوه من بعض المنتسبين إلى الفقه ممن لا يعد قوله قولاً. وقد حكينا نصوص أئمة الفقهاء وحكاية إجماعهم عمن هو من أعلم الناس بمذاهبهم، فلا يظن ظان أن في المسألة خلافًا يجعل المسألة من مسائل الخلاف والاجتهاد، وإنما ذلك غلط لا يستطيع أحد أن يحكي عن واحد من الفقهاء أئمة الفتوى هذا التفصيل البتة.
الوجه الثاني: أن الكفر إذا كان هو الاستحلال فإنما معناه اعتقاد أن السبَّ حلال فإنه لما اعتقد أن ما حرَّمه الله تعالى حلال كفر، ولا ريب أن من اعتقد في المحرمات المعلوم تحريمها أنها حلال كفر لكن لا فرق في ذلك بين سبِّ النبيّ وبين قذف المؤمنين والكذب عليهم والغيبة لهم إلى غير ذلك من الأقوال التي عُلِمَ أن الله حرَّمها فإنه من فعل شيئًا من ذلك مستحلاً كفر مع أنه لا يجوز أن يقال من قذفَ مسلمًا أو اغتابه كفر يعني بذلك إذا استحله.
الوجه الثالث: أن اعتقاد حِلَّ السب كفر سواء اقترن به وجود السب أو لم يقترن فإذًا لا أثر للسب في التكفير وجودًا وعدمًا وإنما المؤثر هو الاعتقاد وهو خلاف ما أجمع عليه العلماء.(1/375)
الوجه الرابع: أنه إذا كان المكفر هو اعتقاد الحل فليس في السب ما يدل على أن الساب مستحل فيجب أن لا يكفر لا سيما إذا قال: ”أنا أعتقد أن هذا حرام وإنما أقول غيظًا وسفهًا أو عبثًا أو لعبًا“ كما قال المنافقون: { إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } (1). وكما إذا قال إنما قذفت هذا وكذبت عليه لعبًا وعبثًا، فإن قيل لا يكونون كفارًا فهو خلاف نص القرآن، وإن قيل يكونون كفارًا، فهو تكفير بغير موجب إذا لم يجعل نفس السب مكفرًا، وقول القائل أنا لا أصدقه في هذا لا يستقيم، فإن التكفير لا يكون بأمر محتمل، فإذا كان قد قال: ”أنا أعتقد أن ذلك ذنب ومعصية وأنا أفعله“ فكيف يكفر إن لم يكن ذلك كفر، ولهذا قال سبحانه وتعالى: { لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } (2). ولم يقل قد كذبتم في قولكم إنما كنا نخوض ونلعب فعلم أنه لم يكذبهم في هذا العذر كما كذبهم في سائر ما أظهروه من العذر الذي يوجب براءتهم من الكفر لو كانوا صادقين، بل بَيَّن أنهم كفروا بعد إيمانهم بهذا الخوض واللعب، وإذا تبين أن مذهب سلف الأمة ومن اتبعهم من الخلف أن هذه المقالة في نفسها كفر استحلها صاحبها أو لم يستحلها، فالدليل على ذلك جميع ما قدمناه في المسألة الأولي من الدليل على كفر الساب مثل قوله تعالى: { وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ } (3)، وقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } (4)، وقوله تعالى: { لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } (5).وما ذكرناه من الأحاديث والآثار فإنما هو أدلة بينة في أن نفس أذى الله ورسوله كفر مع قطع النظر عن اعتقاد التحريم وجودًا وعدمًا، بل في الحقيقة كل ما دل على أن الساب كافر وأنه حلال الدم لكفره، فقد دل على هذه المسألة، إذ لو كان
__________
(1) التوبة، آية: 65.
(2) التوبة، آية: 66.
(3) التوبة، آية: 61.
(4) الأحزاب، آية: 57.
(5) التوبة، آية: 66.(1/376)
الكفر المبيح هو اعتقاد أن السب حلال لم يجز تكفيره وقتله حتى يظهر هذا الاعتقاد ظهورًا تثبت بمثله الاعتقادات المبيحة للدماء». أهـ.
وقد سبق نقل باقي السياق في باب حقيقة الإيمان ابتداء من منشأ الشبهة في قوله: فعلم أن الاستخفاف والاستهانة به ينافي الإيمان منافاة الضد للضد. ولولا خشية الإطالة لذكرته هنا لما فيه من قوة الدليل على فساد تقييد حقيقة الكفر بشرط الاعتقاد.
ثم يقول شيخ الإسلام(1): «وأما إهانة الرجل من يعتقد وجوب كرامته كالوالدين ونحوهما فلأنه لم يهن من كان الانقياد له والإكرام شرطًا في إيمانه، وإنما أهان من إكرامه شرط في بره وطاعته وتقواه وجانب الله ورسوله إنما كفره فيه لأنه لا يكون مؤمنًا حتى يصدقه تصديقًا يقتضي الخضوع والانقياد فحيث لم يقتضيه لم يكن ذلك التصديق إيمانًا بل كان وجوده شرًا من عدمه». أهـ.
3- حقيقة الكفر لا تتقيد بشرط الاستحلال:
قد مرَّ ما ذكرناه في الكلام عن الاعتقاد وهو منطبق على الكلام عن الاستحلال بمعني اعتقاد الحل ولكن نزيد هنا أن الاستحلال نفسه ليس هو فقط اعتقاد الحل بل يتعدى ذلك إلى غير هذا من المعاني.
__________
(1) الصارم المسلول، ص 460.(1/377)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية(1): «إن العبد إذا فعل الذنب مع اعتقاد أن الله حرَّمه عليه واعتقاد انقياده لله فيما حرَّمه وأوجبه فهذا ليس بكافر فأما إن اعتقد أن الله لم يحرمه أو أنه حرَّمه لكن امتنع من قبول هذا التحريم وأبي أن يذعن لله وينقاد فهو إما جاحد أو معاند ولهذا قالوا من عصي الله مستكبرًا كإبليس كفر بالاتفاق ومن عصى مشتهيًا لم يكفر عند أهل السنة والجماعة وإنما يكفره الخوارج فإن العاصي المستكبر وإن كان مصدقًا بأن الله ربه فإن معاندته له ومحادته تنافي هذا التصديق، وبيان هذا أن من فعل المحارم مستحلاً لها فهو كافر بالاتفاق فإنه ما آمن بالقرآن من استحل محارمه وكذلك لو استحلها من غير فعل والاستحلال اعتقاد أن الله لم يحرمها وتارة بعدم اعتقاد أن الله حرَّمها وهذا يكون لخلل في الإيمان بالربوبية ولخلل في الإيمان بالرسالة ويكون جحدًا محضًا غير مبني على مقدمة وتارة يعلم أن الله حرمها ويعلم أن الرسول إنما حرَّم ما حرَّمه الله ثم يمتنع عن التزام هذا التحريم ويعاند المحرَّم فهو أشد كفرًا ممن قبله وقد يكون هذا مع علمه أن من لم يلتزم هذا التحريم عاقبه الله وعذَّبه ثم إن هذا الامتناع والإباء إما لخلل في اعتقاد حكمة الآمر وقدرته فيعود هذا إلى عدم التصديق بصفة من صفاته، وقد يكون مع العلم بجميع ما يُصدَّق به تمردًا أو اتباعًا لغرض النفس وحقيقته كفر هذا لأنه يعترف لله ورسوله بكل ما أخبر به ويصدق بكل ما يصدق به المؤمنون لكنه يكره ذلك ويبغضه ويسخطه لعدم موافقته لمراده ومشتهاه ويقول أنا لا أقر بذلك ولا ألتزمه وأبغض هذا الحق وأنفر عنه فهذا نوع غير النوع الأول وتكفير هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام والقرآن مملوء من تكفير مثل هذا النوع بل عقوبته أشد وفي مثله قيل «أشد الناس عذابًا يوم القيامة عالمٌ لم ينفعه الله بعلمه». وهو إبليس ومن سلك سبيله وبهذا يظهر الفرق بينه
__________
(1) الصارم المسلول، ص 459.(1/378)
وبين العاصي فإنه يعتقد وجوب ذلك الفعل عليه ويحب أن يفعله لكن الشهوة والنفرة منعته من الموافقة فقد أتي من الإيمان بالتصديق والخضوع والانقياد وذلك قول وعمل ولكن لم يكمل العمل». أهـ.
أقول: وجه الاستدلال هنا أنه إذا كان الاستحلال يكون كفرًا في بعض صوره للامتناع عن التزام حكم الله بالتحريم أي مناقضة الخضوع والانقياد اكتفاءًا بالاعتقاد فإن كل ما يناقض الخضوع والانقياد يكون كفرًا لمنافاته للإيمان الذي هو اعتقاد وانقياد.
ولما كانت الإهانة تتنافى مع الخضوع والانقياد ولا تتنافى مع الاعتقاد لم يكفر ساب والديه لأن الإنسان قد يهين من يعتقد وجوب إكرامه فإهانته لوالديه هنا ليست دليلاً على عدم اعتقاده وجوب إكرامهما حتى يكفر بذلك ولكن الإهانة تتنافى مع الخضوع والانقياد والخضوع والانقياد للوالدين ليست شرطًا في الإيمان ولذلك قال شيخ الإسلام(1): «وأما إهانة الرجل من يعتقد وجوب كرامته كالوالدين ونحوهما فلأنه لم يهن من كان الانقياد له والإكرام شرطًا في إيمانه وإنما أهان من إكرامه شرط في بره وطاعته وتقواه وجانب الله والرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما كفر فيه بالإهانة لأن الإهانة دليل على عدم وجود الانقياد وليست دليلاً على عدم اعتقاد وجوب الإكرام والانقياد شرط في الإيمان ولذلك كان سبّ الله والرسول كفرًا لمنافاته للانقياد الذي لا يكون بغيره إسلام، ولا إيمان وعليه فإن كل ما ينافي الانقياد فهو كفر بغير شرط الاستحلال». والله ولي التوفيق، انتهى بتصرف.
يقول شيخ الإسلام(2): «وذلك أن نقول: إن سب الله أو سب رسوله كفرٌ ظاهرٌ وباطن سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم أو كان مستحلاً له أو كان ذاهلاً عن اعتقاده هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل». أهـ.
4- حقيقة الكفر لا تتقيد بالجحود:
__________
(1) الصارم المسلول، ص460.
(2) الصارم المسلوم، ص451.(1/379)
يقول شيخ الإسلام(2): «وقد قال الإمام أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهويه وهو أحد الأئمة يعدل بالشافعي وأحمد: قد أجمع المسلمون أن من سبَّ الله أو سبَّ رسوله عليه الصلاة والسلام أو دفع شيئًا مما أنزل الله أو قتل نبيا من أنبياء الله أنه كافر بذلك وإن كان مقرًا بما أنزل الله». أهـ.
ويقول(1): «والكفر لا يختص بالتكذيب بل لو قال أنا أعلم أنك صادق لكن لا أتبعك بل أعاديك وأبغضك وأخالفك ولا أوافقك لكان كفره أعظم». أهـ.
__________
(1) كتاب الإيمان، ص222.(1/380)
ويقول(1): «فإذا حصل في القلب استخفاف واستهانة امتنع أن يكون فيه انقياد واستسلام فلا يكون فيه إيمان وهذا هو بعينه كفر إبليس فإنه سمع أمر الله فلم يكذب رسولاً ولكن لم ينقد للأمر ولم يخضع له واستكبر عن الطاعة فصار كافرًا وهذا موضع زاغ فيه خلق من الخلف تخيل لهم أن الإيمان ليس في الأصل إلا التصديق ثم يرون مثل إبليس وفرعون ممن لم يصدر عنه تكذيب أو صدر عنه تكذيب باللسان لا بالقلب، وكفره من أغلظ الكفر فيتحيرون، ولو أنهم هدوا لما هدى إليه السلف الصالح لعلموا أن الإيمان قول وعمل أعني في الأصل قولاً في القلب، وعملاً في القلب فإن الإيمان بحسب كلام الله ورسالته(2). وكلام الله ورسالته يتضمن أخباره وأوامره فيصدق القلب أخباره تصديقًا يوجب حالاً في القلب بحسب المصدَّق به. والتصديق هو من نوع العلم والقول وينقاد لأمره ويستسلم وهذا الانقياد والاستسلام هو من نوع الإرادة والعمل ولا يكون مؤمنًا إلا بمجموع الأمرين فمن ترك الانقياد كان مستكبرًا فصار من الكافرين وإن كان مصدقًا فالكفر أعمّ من التكذيب يكون تكذيبًا وجهلاً ويكون استكبارًا وظلمًا ولهذا لم يوصف إبليس إلا بالكفر والاستكبار دون التكذيب ولهذا كان كفر من يعلم مثل اليهود ونحوهم من جنس كفر إبليس وكان كفر من يجهل مثل النصارى ونحوهم ضلالاً وهو الجهل». أهـ.
يقول الشيخ حافظ حكمي(3): «أنواع الكفر لا تخرج عن أربعة:
2- كفر جحود ... 1- كفر جهل وتكذيب
4- كفر نفاق ... 3- كفر عناد واستكبار
فأحدها يخرج من الملة بالكلية.
فإن انتفي تصديق القلب مع عدم العلم بالحق. فكفر الجهل والتكذيب { بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } (4).
__________
(1) المصدر السابق، ص458.
(2) استدلال بنوع الخطاب على طبيعة الإيمان.
(3) الشيخ حافظ حكمي، معارج القبول، ج2، ص 18-19.
(4) يونس، آية: 39.(1/381)
وإن كتم الحق مع العلم بصدقه فكفر الجحود والكتمان { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ... } (1)، { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } (2).
وإن انتفى عمل القلب من النية والإخلاص والمحبة، والإذعان مع انقياد الجوارح الظاهرة فكفر نفاق. { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } (3).
وإن انتفى عمل القلب وعمل الجوارح مع المعرفة بالقلب والاعتراف باللسان فكفر عناد واستكبار ككفر إبليس وكفر غالب اليهود الذين شهدوا أن الرسول حق ولم يتبعوه». انتهى بتصرف.
5- حقيقة الكفر لا تتقيد بالعلم:
وذلك لأن الكفر لا يقتصر على الجحد أو العناد، وإنما يدخل فيه أيضًا انتفاء تصديق القلب مع عدم العلم بالقلب فيكون كفرًا بالجهل والتكذيب. { بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } (4). وذكر شيخ الإسلام عن الذين قالوا: { إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } (5). لم يعلموا أنهم يكفرون بهذا ولم يعتقدوا ما قالوه ولم يقصدوا أن يكفروا به.
__________
(1) النمل، آية: 14.
(2) البقرة، آية: 146.
(3) البقرة، آية: 8.
(4) يونس, آية: 39.
(5) التوبة، آية: 65.(1/382)
ويقول صاحب كتاب ”تطهير الاعتقاد“(1): «قوله تعالى: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُون - لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } (2). فهؤلاء لم يعتقدوا ما قالوه ولم يقصدوا أن يكفروا»(3). «فإن قلت هم جاهلون أنهم مشركون بما يفعلونه، قلت قد خرَّج الفقهاء في كتب الفقه في باب الردة أن من تكلم بكلمة الكفر يكفر وإن لم يقصد معناها». أهـ.
وما جاء في ”الانتصار لحزب الله الموحدين“ عن قوله تعالى: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } (4). يقول أبو بطين رحمه الله(5): «فعدي - رضي الله عنه - ما كان يحسب أن موافقتهم فيما ذكر عبادة منهم لهم فأخبره - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك عبادة منهم لهم مع أنهم لا يعتقدونه عبادة لهم». أهـ.
فالنصارى لا يعلمون أن موافقة الأحبار والرهبان في التحريم والتحليل بخلاف الشرع عبادة لهم يقع بها الشرك والكفر المخرج من الملة ولم يعتقدوا هذه الموافقة عبادة ولم يقصدوا بها العبادة، ومع ذلك لأن لها حقيقة العبادة وقعت عبادة منهم لهم يتحقق بها الشرك الأكبر وهو الكفر المخرج من الملة.
وقدامة بن مظعون - رضي الله عنه - لم يكن يعلم أن استحلاله للخمر ردة يستتاب منها هو ومن معه، ولم يقصد بهذا الاستحلال الكفر، ولم ينشرح صدره به، ومع ذلك أجمع رأي عمر وأهل الشورى أن يستتاب هو وأصحابه فإن أقروا بالتحريم جلدوا، وإن لم يقروا به كفروا ثم إنه تاب وكاد ييأس لعظم ذنبه في نفسه حتى أرسل إليه عمر - رضي الله عنه - بأول غافر.
__________
(1) تطهير الاعتقاد، ص 55.
(2) التوبة، الآيتان: 65-66.
(3) تطهير الاعتقاد، ص 131.
(4) التوبة، آية: 31.
(5) الانتصار لحزب الله الموحدين، ص 8.(1/383)
والكلام في الجهل والعلم يطول ولنا معه وقفة أخري بعد الانتهاء من هذا الباب وإنما احتجنا هنا تأكيد أن لا يكون العلم شرطًا.
6- حقيقة الكفر لا تتقيد بشرح الصدر:
يتضح فساد هذا التقييد من قوله تعالى: { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (1).
يقول شيخ الإسلام(2): «وهذه الآية مما يدل على فساد قول جهم، فإنه(3) جعل كل من تكلم بالكفر من أهل وعيد الكفَّار إلا مَنْ أكره وقلبه مطمئن بالإيمان فإن قيل فقد قال تعالى: { وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا } (4). قيل هذا موافق لأولها فإنه مَنْ كفر من غير إكراه فقد شرح بالكفر صدرًا وإلا تناقض أول الآية وآخرها ولو كان المراد بمن كفر هو الشارح صدره وذلك يكون بلا إكراه لم يستثن المكره فقط بل كان يجب أن يستثني المكره وغيره إذا لم يشرح صدره، وإذا تكلم بكلمة الكفر طوعًا فقد شرح بها صدرًا وهي كفر».
__________
(1) النحل، آية: 106.
(2) كتاب الإيمان، ص 167.
(3) آي القرآن.
(4) النحل، آية: 106.(1/384)
ويقول(1): «فمن قال بلسانه كلمة الكفر من غير حاجة عامدًا لها عالمًا بأنها كلمة كفر فإنه يكفر بذلك ظاهرًا وباطنا ولا يجوز أن يقال: أنه في الباطن يجوز أن يكون مؤمنًا ومن قال ذلك فقد مرق من الإسلام قال سبحانه: { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (2). ومعلوم أنه لم يُرد الكفر هنا اعتقاد القلب فقط لأن ذلك لا يكره الرجل عليه وهو قد استثنى من أكره ولم يرد من قال واعتقد لأنه استثني المكره وهو لا يكره على العقد(3). والقول وإنما يكره على القول فقط فعلم أنه أراد من تكلم بكلمة الكفر فعليه غضب من الله وله عذاب عظيم وأنه كافر بذلك إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرًا من المكرهين فإنه كافر أيضًا فصار من تكلم بالكفر كافرًا إلا من أكره فقال بلسانه كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان وقال تعالى في حق المستهزئين: { لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } (4). فبيَّن أنهم كفار بالقول مع أنهم لم يعتقدوا صحته». أهـ.
7- حقيقة الكفر لا تتقيد بالعناد ولا يمنعها التأويل:
__________
(1) شيخ الإسلام ابن تيمية، الصارم المسلول، ص 462.
(2) النحل، آية: 106.
(3) العقد هو اعتقاد القلب.
(4) التوبة، آية: 66.(1/385)
ويقول ابن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى: { فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمْ الضَّلاَلَةُ } (1). وهذا من أبين الأدلة على خطأ من زعم أن الله لا يعذِّب أحدًا على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها فيركبها عنادًا منه لربه فيها لأنه لو كان كذلك لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضلّ وهو يحسب أنه مهتدى، وفريق الهدي فرق وقد فرَّق الله بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية(2).
قوله تعالى: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } (3). لم يعتقدوا ما قالوه ولم يحسبوه كفرًا ولم يقصدوا به الكفر ولم يعاندوا وإنما هَزلوا وأرادوا قطع الطريق ووعثاء السفر.
__________
(1) الأعراف، آية: 30.
(2) ابن كثير، ج2، ص 209.
(3) التوبة، آية: 65.(1/386)
يقول أبو بطين رحمه الله(1): «واحتج بعض من يجادل عن المشركين بقصة الذي أوصي أهله أن يحرقوه بعد موته على أن من ارتكب الكفر جاهلاً لايكفر ولايكفر إلا المعاند والجواب عن ذلك كله، أن الله سبحانه وتعالى أرسل رسله مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وأعظم ما أرسلوا به ودعوا إليه عبادة الله وحده لا شريك له، والنهي عن الشرك الذي هو عبادة غيره فإن كان مرتكب الشرك الأكبر معذورًا لجهله فمن هو الذي لا يُعذَر؟!! ولازم هذه الدعوى أنه ليس لله حجة على أحد إلا المعاند مع أن صاحب هذه الدعوى لا يمكن طرد أصله بل لابد له أن يتناقض فإنه لا يمكنه أن يتوقف في تكفير من شك في رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - أو شك في البعث أو غير ذلك من أصول الدين والشاك جاهل. والفقهاء رحمهم الله يذكرون في كتب الفقه حكم المرتد وأنه المسلم الذي يكفر بعد إسلامه نطقًا أو فعلاً أو شكًا أو اعتقادًا وسبب الشك الجهل ولازم هذا لا يَكفُرْ جهلة اليهود والنصارى ولا الذين يسجدون للشمس والقمر والأصنام لجهلهم، ولا الذين حرَّقهم على بن أبي طالب - رضي الله عنه - بالنار لأننا نقطع أنهم جهَّال وقد أجمع العلماء رحمهم الله على كفر من لم يكفِّر اليهود والنصارى أو يشك في كفرهم ونحن نتيقن أن أكثرهم جهَّال وقال الشيخ تقي الدين: مَنْ سبَّ الصحابة أو واحدًا منهم واقترن بسبه دعوى أن عليًا إله أو أن جبرائيل غلط فلا شك في كفر هذا بل لا يُشك في كفر من توقف في تكفيره قال ومن زعم أن الصحابة ارتدوا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا نفرًا قليلاً لا يبلغون بضعة عشر أو أنهم فسقوا فلا ريب في كفر قائل ذلك بل من شك في كفره فهو كافر قال ومن ظن أن قوله - سبحانه وتعالى -: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ } (2). بمعني قدَّر وأن الله ما قدَّر شيئًا إلا
__________
(1) الانتصار لحزب الله الموحدين، ص 13.
(2) الإسراء، آية: 23.(1/387)
وقع وجعل عبَّاد الأصنام ماعبدوا إلا الله فإن هذا من أعظم الناس كفرًا بالكتب كلها.
ولا ريب(1) أن أصحاب هذه المقالة أهل علم وزهد وعبادة وأن سبب دعواهم هذه الجهل، وقد أخبر الله سبحانه عن الكفار أنهم في شك مما تدعوهم إليه الرسل وأنهم في شك من البعث فقالوا لرسلهم { وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ } (2)، وقال - عز وجل -: { وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ } (3)، وقال إخبارًا عنهم: { إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } (4)، وقال عن الكفار: { إِنَّهُمْ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ } (5)، وقال تعالى: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً - الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } (6). ووصفهم بغاية الجهل كما في قوله تعالى: { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ } (7)، وقد ذمَّ الله المقلدين بقوله عنهم: { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ } (8). الآيتين ومع ذلك كفَّرهم سبحانه وتعالى واستدل العلماء بهذه الآية ونحوها على أنه لا يجوز التقليد في معرفة الله والرسالة، وحجة الله سبحانه قائمة على الناس بإرسال الرسل إليهم وإن لم يفهموا حجج الله وبيناته.
__________
(1) الكلام مستمر لأبي بطين.
(2) إبراهيم، آية: 9.
(3) هود، آية: 110.
(4) الجاثية، آية: 32.
(5) الأعراف، آية: 30.
(6) الكهف، آيتان: 103-104.
(7) الأعراف، آية: 179.
(8) الزخرف، آية: 22.(1/388)
قال الشيخ موفق الدين أبو محمد بن قدامة رحمه الله لما أنجز كلامه في مسألة، هل كل مجتهد مصيب؟ ورجَّح قول الجمهور أنه ليس كل مجتهد مصيبًا بل الحق في قول واحد من أقوال المجتهدين. قال: «وزعم الجاحظ أن مخالف ملة الإسلام إذا نظر فعجز عن إدراك الحق فهو معذور غير آثم. إلى أن قال: أما ما ذهب إليه الجاحظ فباطل يقينًا وكفر بالله وردٌّ عليه وعلي رسوله، فإنَّا نعلم قطعًا أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمر اليهود والنصارى بالإسلام وإتباعه، وذمهم على إصرارهم وقاتلهم جميعهم يقتل البالغ منهم، ونعلم أن المعاند العارف ممن يقل، وإنما الأكثر مقلدة اعتقدوا دين آبائهم تقليدًا ولم يعرفوا معجزات الرسول وصدقه والآيات الدالات في القرآن على هذا كثيرة كقوله تعالى: { ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ النَّارِ } (1)، وقال - عز وجل -: { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ } (2)، { إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } (3)، وقوله - عز وجل -: { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ } (4)، { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ } (5)، { الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا - أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ } (6) وفي الجملة ذمّ المكذبين للرسول مما لا ينحصر في الكتاب والسنة. انتهى.
__________
(1) ص ، آية: 27.
(2) فصلت, آية: 23.
(3) الجاثية، آية: 24.
(4) المجادلة، آية: 18.
(5) الأعراف، آية: 30.
(6) الكهف، الآيتان: 104-105.(1/389)
والعلماء يذكرون أن من أنكر وجوب عبادة من العبادات الخمس أو قال في واحدة منها أنها سنة لا واجبة أو جحد حل الخبز ونحوه أو جحد تحريم الخمر أو نحوه أو شك في ذلك ومثله لا يجهله كفر، وإن كان مثله يجهله عرّف ذلك فإن أصرَّ بعد التعريف كفر وقتل، ولم يقولوا إذا تبين له الحق وعاند كفر. إلى أن يقول: وقد ذكر العلماء من أهل كل مذهب أشياء كثيرة لا يمكن حصرها من الأقوال والأفعال والاعتقادات أنه يكفر صاحبها ولم يقيدوا ذلك بالمعاند.
فالمدعي أن مرتكب الكفر متأولاً أو مجتهدًا أو مخطئًا أو مقلدًا أو جاهلاً معذور مخالف للكتاب والسنة والإجماع بلا شك مع أنه لابد أن ينقض أصله فلو طرد أصله كفر بلا ريب كما لو توقف في تكفير من شك في رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - ونحو ذلك». أهـ.
يقول صاحب ”الانتصار“(1) أيضًا بعد ذكر كلام شيخ الإسلام بن تيمية عن كفر المشركين: «فقد جزم رحمه الله(2) في مواضع كثيرة بكفر من فعل ما ذكره من أنواع الشرك وحكي إجماع المسلمين على ذلك ولم يستثن الجاهل ونحوه، وقال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } (3). وقال عن المسيح أنه قال: { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ } (4). فمن خصَّ ذلك الوعيد بالمعاند فقط وأخرج الجاهل والمتأول والمقلد فقد شاق الله ورسوله وخرج عن سبيل المؤمنين، والفقهاء يصدرون باب حكم المرتد لمن أشرك بالله ولم يقيدوا ذلك بالمعاند وهذا أمر واضح ولله الحمد وقد قال الله تعالى: { رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لئلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } (5)». أهـ.
8- حقيقة الكفر لا تتقيد بقصد الكفر:
__________
(1) الأنتصار لحزب الله الموحدين،ص 23.
(2) شيخ الإسلام ابن تيمية.
(3) النساء، آية: 48.
(4) المائدة، آية: 72.
(5) النساء، آية: 165.(1/390)
يقول ابن القيم رحمه الله(1): «فإن المتكلم عليه أن يقصد بتلك الألفاظ معانيها والمستمع عليه أن يحملها على تلك المعاني فإن لم يقصد المتكلم بها معانيها بل تكلم بها غير قاصد لمعانيها أو قاصدًا لغيرها أبطل الشارع عليه قصده فإن كان هازلاً أو لاعبًا لم يقصد المعني ألزمه الشارع المعني كمن هزل بالكفر والطلاق والنكاح والرجعة بل لو تكلم الكافر بكلمة الإسلام هازلاً ألزمه به وجرت عليه أحكامه ظاهرًا». أهـ.
ويقول الإمام الشاطبي عن مانعي الزكاة(2): «من لم يرتد من المانعين، إنما منع تأويلاً وفي هذا القسم وقع النزاع بين الصحابة - رضي الله عنهم - لا فيمن ارتد رأسًا ولكان أبا بكر لم يعذر بالتأويل والجهل ونظر إلى حقيقة ما كان عليه الأمر فطلبه إلى أقصاه حتى قال والله لو منعوني عقالاً». أهـ.
وجاء في تطهير الاعتقاد(3): «قوله تعالى: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُون َ - لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } (4) فهؤلاء لم يعتقدوا ما قالوه ولم يقصدوا أن يكفروا فإن قلت هم جاهلون أنهم مشركون بما يفعلونه قلت قد خرج الفقهاء في كتب الفقه باب ”الردة“ إن من تكلم بكلمة الكفر يكفر وإن لم يقصد معناها». أهـ.
__________
(1) أعلام الموقعين، ج3، ص106.
(2) الاعتصام، ج2، ص356.
(3) تطهير الاعتقاد، ص22.
(4) التوبة، الآيتان: 65-66.(1/391)
ويقول أبو بطين(1): «وقد أخبر سبحانه في مواضع من كتابه عن المشركين أنهم يقرون بتوحيد الربوبية ويحتج عليهم سبحانه بإقرارهم بتوحيد الربوبية على إشراكهم في توحيد الإلهية قال سبحانه: { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُون َ - فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ } (2). قال البكري الشافعي في تفسيره على هذه الآية إن قلت إذا أقروا بذلك فكيف عبدوا الأصنام؟ قلت كلهم كانوا يعتقدون بعبادتهم الأصنام عبادة الله والتقرب إليه لكن من طرق مختلفة ففرقة قالت: ليست لنا أهلية عبادة الله بلا واسطة لعظمته فعبدناها لتقربنا إليه زلفى، وفرقة قالت: الملائكة ذوو وجاهة عند الله فاتخذنا أصنامًا على هيئة الملائكة لتقربنا إلى الله زلفى، وفرقة قالت: جعلنا الأصنام قبلة لنا في العبادة كما أن الكعبة قبلة في عبادته وفرقة اعتقدت أن لكل صنم شيطانًا وكلاً بأمر الله فمن عبد الصنم حقَّ عبادته قضي الشيطان حوائجه بأمر الله وإلا أصابه شيطانه بنكبة بأمر الله.
وقال ابن كثير عن قوله: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } (3). إنما يحملهم على عبادتهم أنهم عمدوا إلى أصنام اتخذوها على صور الملائكة المقربين في زعمهم فعبدوا تلك الصور تنزيلاً لذلك منزلة عبادتهم الملائكة ليشفعوا لهم عند الله في نصرهم ورزقهم وما ينوبهم من أمر الدنيا. قال قتادة والسدي ومالك عن زيد بن أسلم وابن زيد { إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } . أي ليشفعوا لنا وليقربونا عنده». أهـ.
أقول:
__________
(1) الانتصار لحزب الله الموحدين، ص 7.
(2) يونس، آية: 31.
(3) الزمر، آية: 3.(1/392)
هؤلاء جميعهم لم يقصدوا أن يكفروا بما فعلوا وبما أشركوا ولكنهم كفروا بما فعلوا وبما أشركوا.
ويقول صاحب ”الانتصار“ (1): «فالدِّين كله داخل في العبادة فإذا علم الإنسان وتحقق معنى الإله وأنه المعبود وعرف حقيقة العبادة تبين له أنه من جعل شيئًا من العبادة لغير الله فقد عبده واتخذه إلهًا وإن فرَّ من تسميته معبودًا أو إلهًا وسمى ذلك توسلاً وتشفعًا والتجاءًا أو نحو ذلك.
فالمشرك مشرك شاء أم أبي كما أن المرابي مرابي شاء أم أبى وإن لم يسم ما فعله ربًا وشارب الخمر شارب للخمر وإن سماها بغير اسمها وفي الحديث عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «يأتي أناس من أمتي يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها ...» الحديث.
فتغيير الاسم لا يغير حقيقة المسمي ولا يزيل حكمه كتسمية البوادي سوالفهم الباطلة حقًا وتسمية الظلمة ما يأخذونه من الناس بغير اسمه، ولما سمع عدي بن حاتم ـ وهو نصراني ـ قول الله تعالى: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّه } (2) قال للنبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: لسنا نعبده!! فقال: «أليس يحرمون ما أحلَّ الله فتحرمونه ويحلون ما حرَّم الله فتحلونه. قال: قلت: بلي. قال: فتلك عبادتهم» فعدي - رضي الله عنه - ما كان يحسب أن موافقتهم فيما ذكر عبادة منهم فأخبر- صلى الله عليه وسلم - أن ذلك عبادة منهم لهم مع أنهم لا يعتقدونه عبادة لهم وكذلك ما يفعله عُبَّاد القبور من دعاء أصحابها وسؤالهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات والتقرب إليهم بالذبائح والنذور عبادة منهم للمقبورين وإن كانوا لا يسمونه ولا يعتقدونه عبادة لهم». أهـ.
__________
(1) الانتصار، ص 7-8.
(2) التوبة، آية: 31.(1/393)
ويقول في موضع آخر من الكتاب(1): «ومن كيد الشيطان لمبتدعة هذه الأمة من المشركين بالبشر من المقبورين وغيرهم ولمَّا علم عدو الله أن كل من قرأ القرآن أو سمعه ينفر من الشرك ومن عبادة غير الله، ألقي في قلوب الجهال أن هذا الذي يفعلونه مع المقبورين وغيرهم ليس عبادة لهم وإنما هو توسل وتشفع بهم والتجاء إليهم، ونحو ذلك، فسلب العبادة والشرك اسمهما من قلوبهم وكساهما أسماء لا تنفر عنها القلوب ثم ازداد اغترارهم وعظمت الفتنة بأن صار بعض من ينسب إلى علم ودين يسهل عليهم ما ارتكبوه من الشرك ويحتج لهم بالحجج الباطلة، فإنا لله وإنَّا إليه راجعون».
__________
(1) الإنتصار، ص10.(1/394)
ويقول في موضع آخر من الكتاب(1): «ومن العجب قول بعض من ينتسب إلى علم ودين أن طلبهم من المقبورين والغائبين ليس دعاءً لهم بل هو نداء!! أفلا يستحي هذا القائل من الله إذا لم يستح من الناس من هذه الدعوى الفاسدة السمجة التي يروج بها على رعاع الناس والله سبحانه قد سمى الدعاء نداء في قوله تعالى: { إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا } (2)، وقوله: { فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ } (3) وأي فرق بين ما إذا سأل العبد ربَّه حاجة وبين ما إذا طلبها من غيره ميت أو غائب، بأن الأول يسمى دعاءً، والثاني نداءً. وما أسمج هذا القول وأقبحه وهو قول يستحى من حكايته لولا أنه يروج على الجهال، لاسيما إذا سمعوه ممن يعتقدون علمه ودينه. وأي فرق بين سؤال الميت حاجة وبين سؤالها من صنم ونحوه بأن الثاني يسمى دعاءً والأول نداءً؟!! فإن قال: الكل يسمى نداءً لا دعاء فهذا مشاقة للقرآن ومحادة لله ورسوله. وما أظن عاقلاً يحيك هذا في نفسه، وإنما هو عناد ومكابرة إنما تروج على أشباه البهائم، أما يخاف هذا أن يتناوله قوله تعالى: { وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ } (4). والله سبحانه سمَّى سؤال غيره دعاء في غير موضع من كتابه: { إِنْ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ } (5). والدعاء في القرآن يتناول دعاء العبادة ودعاء المسألة». أهـ.
__________
(1) المصدر السابق، ص18.
(2) مريم، آية: 3.
(3) الأنبياء، آية: 87.
(4) غافر، آية: 5.
(5) فاطر، آية: 14.(1/395)
وحقيقة(1) الفرق في النداء والدعاء والاستعانة وغير ذلك أن الاستغاثة تجوز في الأسباب الظاهرة العادية من الأمور الحسية في قتال أو إدراك عدو أو سبع ونحوه كقوله يا لزيد، يا لقومي، يا للمسلمين، كما ذكروا في كتب النحو بحسب الأسباب الظاهرة بالفعل وأما الاستعانة بالقوة والتأثير أو في الأمور المعنوية من الشدائد وكالمرض وخوف الغرق والضيق والفقر وطلب الرزق ونحوه، فمن خصائص الله فلا يطلب فيها غيره هذه هى حقيقة الفرق، فكل ما يرجع إلى الاستغاثة بالقوة والتأثير في المعنوية فهو عبادة لكونه راجع إلى أمر غيبي غير معقول المعنى فيكون تعبديًا سواء سميناه دعاءً أو نداءً أو استعانة أو استغاثة أو دعاء عبادة أو دعاء مسألة فكله عبادة بهذا الاعتبار وهو لغير الله شرك ولكونه شركًا يكون كفرًا قصد به صاحبه ذلك أم لا.
يقول أبو بطين في موضع آخر من الكتاب(2): «قال ابن القيم: ومن ذبح للشيطان ودعاه واستعاذ به وتقرب إليه بما يُحب فقد عبده وإن لم يسم ذلك عبادة ويسميه استخدامًا وصدق هو استخدام من الشيطان له». أهـ.
وينقل أبو بطين عن شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم: «فعلى هذا فلو ذبح لغير الله متقربًا إليه لحرم وإن قال فيه بسم الله كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة الذين يتقربون إلى الكواكب بالذبح والنذور ونحو ذلك وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال لكن يجتمع في الذبيحة مانعان ومن هذا الباب ما يفعله الجاهلون بمكة من الذبح للجن. ويقول نقلاً عن ابن القيم في نقله عن شيخ الإسلام ابن تيمية: وقال في موضع آخر المسلم إذا ذبح لغير الله أو ذبح بغير اسمه لم تبح ذبيحته وإن كان يكفر بذلك». أهـ.
__________
(1) مستفاد من السياق.
(2) الانتصار لحزب الله الموحدين، ص 27.(1/396)
أقول: والمانعان كونهما ذبيحة مرتد وكونها ذبحت لغير الله أو ذبحت بغير اسمه، والشاهد هنا هو الردة مع عدم القصد إلى الكفر بالذبح لغير الله والذبح بغير اسمه عزَّ وجل.
يقول ابن تيمية(1): «والغرض هنا أنه كما أن الردة تتجرد عن السب فكذلك قد تتجرد عن قصد تبديل الدين وإرادة التكذيب بالرسالة كما تجرد كفر إبليس عن قصد التكذيب بالربوبية وإن كان عدم هذا القصد لا ينفعه كما لا ينفع من قال(2) الكفر أن لا يقصد أن يكفر».
__________
(1) الصارم المسلول، ص325.
(2) من تلفظ بالكفر.(1/397)
ويقول أيضًا في ”الصارم“(1): «السنة الثالثة عشرة ما رويناه من حديث أبي القاسم عبد الله بن محمد البغوي قال حدثنا يحيي بن عبد الحميد الحماني حدثنا على بن مسهر عن صالح بن حيان عن ابن بريدة عن أبيه أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بلغه أن رجلاً قال لقوم أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمرني أن أحكم فيكم برأيي وفي أموالكم كذا وكذا وكان خطب امرأة منهم في الجاهلية فأبوا أن يزوجوه ثم ذهب حتى نزل على المرأة فبعث القوم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «كذب عدو الله، ثم أرسل رجلاً فقال: إن وجدته حيًا فاقتله وإن أنت وجدته ميتًا فحرِّقه بالنار» فانطلق فوجده قد لدغ فمات فحرَّقه بالنار فعند ذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ كذب على متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار» ورواه أبو أحمد بن عدي في كتابه ”الكامل“. قال: حدثنا الحسين بن محمد بن عنبر حدثنا حجاج بن يوسف الشاعر حدثنا زكريا بن عدي حدثنا على بن مسهر عن صالح بن حيان عن ابن بريده عن أبيه قال كان حي من بني ليث من المدينة على ميلين وكان رجل قد خطب منهم في الجاهلية فلم يزوجوه فأتاهم وعليه حُلة فقال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كساني هذه الحلة وأمرني أن أحكم في أموالكم ودمائكم ثم انطلق فنزل على تلك المرأة التي كان يحبها فأرسل القوم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «كذب عدو الله، ثم أرسل رجلاً فقال: إن وجدته حيًا وما أراك تجده حيًا فاضرب عنقه، وإن وجدته ميتًا فأحرقه بالنار». فقال: فذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من كذب على متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار» هذا إسناده صحيح على شرط الصحيح لا نعلم له علة.
__________
(1) الصارم المسلول، ص 146- 147.(1/398)
إلى أن يقول شيخ الإسلام(1): وللناس في هذا الحديث قولان: أحدهما: الأخذ بظاهره في قتل مَنْ تعمد الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن هؤلاء من قال يكفر بذلك. إلى أن يقول: القول الثاني: أن الكاذب عليه تغلّظ عقوبته لكن لا يكفر ولا يجوز قتله لأن موجبات الكفر والقتل معلومة وليس هذا منها فلا يجوز أن يثبت ما لا أصل له. ومن قال هذا فلابد أن يقيد قوله بأنه لم يكن الكذب عليه متضمنًا لعيب ظاهر، فأما إن أخبر أنه سمعه يقول كلامًا يدل على نقصه وعيبه دلالة ظاهرة مثل حديث عرق الخيل ونحوه من الترهات فهذا مستهزئ به استهزاءًا ظاهرًا ولا ريب أنه كافر حلال الدم.
__________
(1) الصارم المسلول، ص148.(1/399)
وقد أجاب من ذهب إلى هذا القول عن الحديث بأن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - علم أنه كان منافقًا فقتله لذلك لا للكذب وهذا الجواب ليس بشيء. لأن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لم يكن من سنته أن يقتل أحدًا من المنافقين الذين أخبر الثقة عنهم بالنفاق أو الذين نزل القرآن بنفاقهم فكيف يقتل رجلاً لمجرد علمه بنفاقه؟ ثم إنه سمَّى خلقًا من المنافقين لحذيفة وغيره ولم يقتل منهم أحدًا وأيضًا فالسبب المذكور في الحديث إنما هو كذبه على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كذبًا له فيه غرض وعليه رتب القتل فلا تجوز إضافة القتل إلى سبب آخر وأيضًا فإن الرجل إنما قصد بالكذب نيل شهوته ومثل هذا قد يصدر من الفسَّاق كما يصدر من الكفار وأيضًا فإمَّا أن يكون نفاقه لهذه الكذبة أو لسبب ماض فإن كان لهذه فقد ثبت أن الكذب عليه نفاق والمنافق كافر، وإذا كان النفاق متقدمًا وهو المقتضي للقتل لا لغيره فعلام يؤخر الأمر بقتله إلى هذا الحين وعلام لم يؤاخذه الله تعالى بهذا النفاق حتى فعل ما فعل وأيضًا فإن القوم أخبروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله فقال: «كذب عدو الله» ثم أمر بقتله إن وجد حيًا ثم قال: «ما أراك تجده حيًا» لعلمه - صلى الله عليه وسلم - بأن ذنبه يوجب تعجيل العقوبة، والنبيّ - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر بالقتل أو غيره من العقوبات والكفَّارات عقب فعل وُصِفَ له صالح لترتب ذلك الجزاء عليه كان ذلك الفعل هو المقتضي لذلك الجزاء لا غيره كما أن الأعرابي لمَّا وصف له الجماع في رمضان أمره بالكفَّارة ولما أقر عنده ماعز والغامدية وغيرهما بالزنا أمر بالرجم وهذا مما لا خلاف فيه بين الناس نعلمه نعم قد يختلفون في نفس الموجب هل هو مجموع تلك الأوصاف أو بعضها وهو نوع من تنقيح المناط فأما أن يجعل ذلك الفعل عديم التأثير والموجب لتلك العقوبة غيره الذي لم يذكر وهذا فاسد بالضرورة لكن يمكن أن يقال فيه ما هو أقرب من هذا وهو أن(1/400)
هذا الرجل كذب على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كذبًا يتضمن انتقاصه وعيبه لأنه زعم أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - حكمه في دمائهم وأموالهم وأذن له أن يبيت حيث شاء من بيوتهم ومقصوده بذلك أن يبيت عند تلك المرأة ليفجر بها ولا يمكنهم الإنكار عليه إذا كان محكمًا في الدماء والأموال، ومعلوم أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لا يحلل الحرام ومن زعم أنه أحل المحرمات من الدماء والأموال والفواحش فقد انتقصه وعابه ونسب للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلى أنه يأذن له أن يبت عند امرأة أجنبية خاليًا بها وأنه يحكم بما شاء في قوم مسلمين وهذا طعن على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وعيب له.
وعلي هذا التقدير فقد أمر بقتل من عابه وطعن عليه من غير استتابة وهو المقصود في هذا المكان فثبت أن الحديث نصٌ في قتل الطاعن عليه من غير استتابة على كلا القولين، ومما يؤكد القول الأول أن القوم لو ظهر لهم أن هذا الكلام سبّ وطعن لبادروا إلى الإنكار عليه ويمكن أن يقال رابهم أمره فتوقفوا حتى استثبتوا ذلك من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لما تعارض وجوب طاعة الرسول وعظم ما أتاهم به هذا اللعين، ومن نصر القول الأول قال: كل كذب عليه فهو متضمن للطعن عليه كما تقدم ثم إن هذا الرجل لم يذكر في الحديث أنه قصد الطعن والازدراء وإنما قصد تحصيل شهوته بالكذب عليه وهذا شأن كل من تعمد الكذب عليه فإنه إنما يقصد تحصيل غرض له إن لم يقصد الاستهزاء به والأغراض في الغالب إما مال أو شرف كما أن المسيء إنما يقصد إذا لم يقصد مجرد الإضلال، إما الرياسة بنفاذ الأمر وحصول التعظيم أو تحصيل الشهوات الظاهرة، وبالجملة فمن قال أو فعل ما هو كفر كفر بذلك وإن لم يقصد أن يكون كافرًا إذ لا يقصد الكفر أحد إلا ما شاء الله»(1). أهـ.
__________
(1) الصارم المسلول، ص154.(1/401)
ونقول: ابن قدامة ومن معه من أهل الشام ممن استحل الخمر بتأويل على عهد عمر رضى الله عنهما لم يقصد الكفر ولم ينشرح صدره به نحن نقطع بذلك بل نقول إنه من قوة شعوره بالإيمان ظنَّ أن الآية تستثنيه من التحريم ومن يمكن أن يكون على شاكلته من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ومع ذلك رأي عمر - رضي الله عنه - ومن معه من أهل الشوري أنها ردّة يستتابون منها فإن تابوا وأقروا بالتحريم جُلدوا، وإن لم يتوبوا قتلوا عليها فاستتابوهم، فتابوا.
يقول الإمام الشاطبي في ”الاعتصام“ (1): «ذكر إسماعيل بن إسحق عن على - رضي الله عنه - قال شرب نفرٌ من أهل الشام الخمر وعليهم يزيد بن أبي سفيان فقالوا هى لنا حلال، وتأولوا هذه الآية: { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا... } (2) قال: فكتب فيهم إلى عمر. قال: فكتب عمر إليه: أن ابعث بهم إلى قبل أن يفسدوا من قبلك، فلما قدموا إلى عمر استشار فيهم الناس، فقالوا: يا أمير المؤمنين نرى أنهم قد كذبوا على الله وشرعوا في دينه ما لم يأذن به فاضرب أعناقهم، وعلىٌّ - رضي الله عنه - ساكت، قال: فما تقول يا أبا الحسن؟ فقال أري أن تستتيبهم فإن تابوا جلدتهم ثمانين لشربهم الخمر، وإن لم يتوبوا ضربت أعناقهم، فإنهم قد كذبوا على الله وشرعوا في دين الله ما لم يأذن به. فاستتابهم فتابوا، فضربهم ثمانين ثمانين». أهـ.
الجزء الثاني
عوارض الأهلية
استكمال الكلام عن الإكراه
ثم الكلام عن التأويل والخطأ
أولاً: استكمال الكلام عن الإكراه:
قبل الدخول في تأثير التأويل والخطأ في حقيقة الإسلام نستكمل الكلام عن النوع المتبقي من الإكراه وهو إكراه الاستضعاف بعد أن تكلمنا عن إكراه التهديد والتقية والإجبار كموقف طارئ والإجبار لتغيير الملة بشكل دائم يرثه الأبناء في أثناء كلامنا عن معنى الإيمان والإسلام وحقيقة الشرك والكفر المقابلة لهما في الجزء الأول.
الاستضعاف:
__________
(1) الاعتصام، ج3، ص46.
(2) المائدة، آية: 93.(1/402)
يقول الله - عز وجل -: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا - إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً - فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا } (1).
وتفسير هذه الآية فيمن لا عذر له وفيمن له عذر مستفيض في التفاسير وقد أشرت إليها في كتاب ”حد الإسلام وحقيقة الإيمان“ في الإكراه وفي موضوع الولاء والبراء ونذكر هنا من تفسير ابن كثير(2) من أول قوله تعالى { إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً - فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا } ويذكر ابن كثير حديث البخاري حدثنا أبو نعيم حدثنا شيبان عن يحيي عن أبي سلمة عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي العشاء إذ قال: «سمع الله لمن حمده ثم قال قبل أن يسجد: اللهم انج عيَّاش ابن أبي ربيعة اللهم انج سلمة بن هشام، اللهم انج الوليد بن الوليد، اللهم انج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها سنين كسني يوسف». كما يذكر حديث ابن عباس من وجهين فيقول: وقال عبد الرازق: أنبأنا ابن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: سمعت ابن عباس يقول: «كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان».
__________
(1) النساء، آيات: 97-99.
(2) تفسير ابن كثير، ج1، ص 542.(1/403)
ويقول ابن كثير: وقال البخاري: أنبأنا أبو النعمان حدثنا حمَّاد بن يزيد عن أيوب بن أبي مليكة عن ابن عباس: { إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ } قال: «كنت أنا وأمي ممن عذر الله عزَّ وجلَّ».
أقول: وحد الاستضعاف هو تعذر الانتقال وعدم استطاعة تغيير الحال، فالمسلم في زماننا هذا إذا خوطب بشرع غير شرع الله عزَّ وجلَّ أو فرضت عليه ولاية غير ولاية الإسلام وقد تعذر عليه الانتقال ولم يستطع تغيير الحال «فمن أنكر فقد سَلِمَ ومَنْ كَرِهَ فقد برئ ولَكِنْ مَنْ رَضى وتابعَ» فأقل ما يتحقق به إيمانه أن يعلم الله عزَّ وجلَّ من قلبه أنه كاره ودلالة الكره اعتزال مَنْ نحَّي شريعة الله عن الحياة وفرض عليه غير ولاية الإسلام وعدم مشايعته بالعمل وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل.
ثانيًا
تأثير الخطأ والتأويل
الباب الأول
مقدمة
أولاً قبل أن نتكلم في تأثير الخطأ والتأويل ينبغي تعريف العلم والجهل:
العلم هو: إدراك الشيء على ما هو عليه.(1/404)
فمثلاً الذي بلغته رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - فقطع قلبه بعدم صحتها فهو كافر وإن أقر بصحتها بلسانه فهو كافر كفر نفاق وإن وافق لسانه قلبه فقد انتفى عنه الإيمان ظاهرًا وباطنًا وكفره هذا لفساد الاعتقاد فربما يكون من النصارى أو المشركين ممن يتقرب إلى الله بما لا يرضيه من الدين المنسوخ أو المبدَّل فلا يكون من أهل العناد وهو في كفره هذا جاهل لأنه لم يدرك الشيء على ما هو عليه فكفره كفر جهل وتكذيب لا كفر ظلم وبغي وعناد وهو من أهل الجهل المركب كمن قال الله - سبحانه وتعالى - فيهم: { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } (1)، وهو من أهل الضلال والزيغ { الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } (2)، { فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمْ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمْ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ } (3) فكفره كفر ضلال وجهل لا كفر عناد وظلم وبغي وأما من شك في صحة الرسالة ولم يجزم أنه مهتدٍ فيما يدين به فهو من أهل الشك والحيرة أصحاب الجهل البسيط { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } (4) ومن أعرض فلم يصدق ولم يكذب مع بلوغه الشرائع وتمكنه من العلم فكفره كفر جهل وإعراض، فتكذيب الرسالة كفر ضلال، والشك في صحتها كفر شك
__________
(1) النور، آية: 40.
(2) الكهف، آية: 104.
(3) الأعراف، آية: 30.
(4) النور، آية: 38.(1/405)
والإعراض عنها لا يصدقه ولا يكذبه فكفر إعراض وجهل، والضلال والشك والإعراض: جهل. أما من بلغته الرسالة فعلم أنها حق واستيقن بذلك قلبه وعاند وجحد بلسانه أو أقر بلسانه وامتنع عن الانقياد لها واتباعها بجوارحه فكفره كفر عناد وظلم وبغي { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } (1)، { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } (2)، أو مثل كفر إبليس أقر بالربوبية ورد أمر الله عليه أو مثل كفر من قال الله فيهم: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ } (3). قال ابن عباس: إيمانهم إقرارهم وشركهم أنهم يعبدون مع الله غيره. ولذلك فإن الكفر لا يقتصر على الجهل وفساد الاعتقادات كما تقول طائفة من المتكلمين ولا يقتصر على العناد كما يقول طائفة من المبدلين في عصرنا هذا أو سلفهم ممن قال عنهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله علماء المشركين.
بل يشمل النوعين: كفر الجهل بأنواعه الثلاثة من الضلال والشك والإعراض وكفر العناد بالجحد أو الامتناع من الانقياد.
وهذا هو قول شيخ الإسلام في هذا:
__________
(1) النمل، آية: 14.
(2) الأنعام، آية: 33.
(3) يوسف، آية: 106.(1/406)
يقول في ”الصارم المسلول“ (1): «إن الإيمان قول وعمل. يعني في الأصل قولاً في القلب وعملاً في القلب، فإن الإيمان بحسب كلام الله ورسالته: وكلام الله ورسالته يتضمن أخباره وأوامره، فيصدق القلب أخباره تصديقًا يوجب حالاً في القلب بحسب المصدَّق به، والتصديق هو من نوع العلم والقول وينقاد لأمره ويستسلم وهذا الانقياد والاستسلام هو من نوع الإرادة والعمل ولا يكون مؤمنًا إلا بمجموع الأمرين فمتي ترك الانقياد كان مستكبرًا فصار من الكافرين وإن كان مصدقًا فالكفر أعم من التكذيب فيكون تكذيبًا وجهلاً ويكون استكبارًا وظلمًا ولهذا لم يوصف إبليس إلا بالكفر والاستكبار دون التكذيب ولهذا كان كفر من يعلم مثل اليهود ونحوهم من جنس كفر إبليس وكان كفر من يجهل مثل النصارى ونحوهم ضلالاً وهو الجهل ألا تري أن نفرًا من اليهود جاءوا إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وسألوه عن أشياء فأخبرهم فقالوا نشهد أنك نبيٌّ ولم يتبعوه وكذلك هرقل وغيره فلم ينفعهم هذا العلم وهذا التصديق ألا تري أن من صدق الرسول بأن ما جاء به هو رسالة الله وقد تضمنت خبرًا وأمرًا أنه يحتاج إلى مقام ثان وهو تصديقه خبر الله وانقياده لأمر الله فإذا قال أشهد «أن لا إله إلا الله» فهذه الشهادة تتضمن تصديق خبره والانقياد لأمره وأشهد أن محمدًا رسول الله تتضمن تصديق الرسول فيما جاء به من عند الله فبمجموع هاتين الشهادتين يتم الإقرار فلما كان التصديق لابد منه في كلا الشهادتين ـ وهو الذي تلقى الرسالة بالقبول ـ ظن من ظن أنه أصل لجميع الإيمان وغفل عن أن الأصل الآخر لابد منه وهو الانقياد وإلاَّ فقد يصدق الرسول ظاهرًا وباطنًا ثمَّ يمتنع عن الانقياد للأمر إذ غايته في تصديق الرسول أن يكون بمنزلة من سمع الرسالة من الله سبحانه وتعالى كإبليس». أهـ.
__________
(1) الصارم المسلول: ص 458.(1/407)
وواضح جدًا هنا أن الجهل بأنواعه الثلاث من الإعراض إلى الشك إلى الضلال وفساد الاعتقادات يكون كفرًا لأن الأصل في الإيمان هو العلم، والعلم قد يدخل إلى القلب فإذا لم يتأكد بالعمل والانقياد فإنه قد يتعرض لعوارض كثيرة فلا يتحول إلى اعتقاد راسخ ومن هنا فإنه إما أن ينقلع بالكلية أو يتحول إلى شك أو إلى خواطر قلب ووساوس صدر ولذا لا يثبت العلم علمًا إلا بأن يضبطه صاحبه ويعقله فيتحول إلى اعتقاد وإذا حدث ذلك فإن هذا العلم لا يرجع إلى الجهل مرة أخري ولكن هذا العلم قد يعطي موجبه من الموافقة والموالاة والانقياد، وذلك يولد إرادة في القلب يلزم عنها مرادات القلب من أعمال الجوارح وقد لا يعطي موجبه من الموافقة والموالاة والانقياد فلا توجد هذه الإرادة ولا توجد هذه المرادات في أعمال الجوارح وقد يوجد ضدها من الخلع والنبذ والبراءة والإعراض أو ضدها من العداوة والمشاقة والمحادة وذلك إما يكون بسبب العوارض مرة ثانية من الحسد والكبر أو كراهته ترك الإلف أو إيثارًا لحب على حب أو بغض الأنبياء وعداوتهم. وإذا كان الأصل في الإيمان هو العلم فلا يوجد الإيمان بدون العلم ولكن لا يقتصر عليه فإنه يشمل اللازم والملزوم ظاهرًا وباطنًا من علم القلب وعمله وإقرار اللسان وانقياد الجوارح، قول وعمل ظاهر وباطن. اعتقاد وانقياد فلابد في الإيمان من علم ينفي الجهالة ومن قبول ينفي الرد وانقياد ينفي الترك ومحبة تنفي ما يضادها من المحادة والمشاقة والعداوة ولذلك فإن الكفر يكون تكذيبًا وجهلاً ويكون استكبارًا وظلمًا والإيمان لا يكون إلا بمجموع الأمرين الاعتقاد والانقياد.(1/408)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية(1): «قال الله تعالى: { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى - مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى - وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى - إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } إلى قوله تعالى: { أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى - وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى - أَلَكُمْ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنثَى - تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى - إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى } (2) فنزَّهَ اللهُ رسولَه من الضلال والغي. والضلال عدم العلم والغي اتباع الهوى كما قال تعالى: { وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً } (3) فالظلوم غاوٍ والجهول ضال إلا من تاب الله عليه كما قال تعالى: { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } (4) ولهذا أمرنا الله أن نقول في صلاتنا { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ - صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } (5) والضال الذي لم يعرف الحق كالنصارى والمغضوب عليهم والغاوي الذي يعرف الحق ويعمل بخلافه كاليهود، والصراط المستقيم يتضمن معرفة الحق والعمل به كما في الدعاء المأثور «اللهم أرني الحقَّ حقًا ووفقني لاتباعه وأرني الباطلَ باطلاً ووفقني لاجتنابه ولا تجعله مشتبهًا عليَّ فأتبع الهوي»، وفي ”صحيح مسلم“ عن عائشة رضى الله عنها أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام
__________
(1) منهاج السنة، ج1، ص 5.
(2) النجم، آيات: 1-23.
(3) الأحزاب، آية: 72.
(4) الأحزاب، آية: 73.
(5) الفاتحة، الآيتان: 6-7.(1/409)
من الليل يصلي يقول: «اللهم ربَّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطرَ السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم». فمن خرج عن الصراط المستقيم كان متبعًا لظنه وما تهواه نفسه { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } (1) وهذا حال أهل البدع المخالفة للكتاب والسنة فإنهم إن يتبعون إلا الظنّ وما تهوي الأنفس ففيهم جهل وظلم لاسيما الرافضة فإنهم أعظم ذوي الأهواء جهلاً وظلمًا». أهـ.
ثم نقول وبالله التوفيق:
__________
(1) القصص، آية: 50.(1/410)
أولاً: من بلغته الشرائع والرسالة فتكلم بعلم وعدل فإن أصاب فله أجران. والصواب أن يكون قوله راجحًا فيما اجتهد فيه. وإنْ أخطأ فله أجر والخطأ أن يكون قوله مرجوحًا فيما اجتهد فيه وإن كان قوله باطلاً فخطؤه مغفور وهى زلات العلماء وسواء كان هذا في المسائل الخبرية أم في المسائل العملية بلا فرق والعلم اتباع الكتاب والسنة وما أجمعت عليه الأمة فمن كان له علم بذلك وسلك طريقًا سنيًا في الطلب ولم يطلب العلم بطرق مبتدعة مخالفًا بذلك الكتاب والسنة وسلف الأمة وأقوال الأئمة بنوع تأويل يتأوله. والعدل أن لا يتبع الهوى. وإذا كان هذا في أصول الدين مثل التوحيد، الصفات، القدر والنبوات فإن هذا علم منقول موروث يؤخذ من مصادره «ما أنا عليه وأصحابي» ولم يختلف صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء من هذا وإن تنازعوا في غيره ولم يختلف سلف الأمة في شيء من ذلك ولا اختلف في شيء من ذلك الأئمة بل هى عقيدة واحدة دلت عليها نصوص الكتاب والسنة وكلام الأئمة وسلف الأمة ولم يحدث فيها اختلاف إلا بعد اختلاف الأهواء واختلاطها وتشعبها وما كان هذا شأنه فإن الاجتهاد فيه محدود ولا اجتهاد مع النص ولا مع نقل مستفيض متواتر أجمعت عليه الأمة، وبالتالي فإن الخطأ فيه قليل وفي أمور ثانوية هامشية لا يمكن أن تصل إلى الكفر أو الشرك وأما المسائل العملية فالاجتهاد فيها كثير متشعب لتجدد المناطات ورغم كثرة من اجتهد فيها ومن أخطأ في اجتهاده فكان قوله مرجوحًا أو معدودًا في زلات العلماء فلم يقع أحد من العلماء بسبب ذلك في كفر أو شرك لأن هذه الأمور قد بينها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيانًا شافيًا كافيًا قاطعًا للعذر فلا يضل فيها عالم وإنما يبتدع من ليس بعالم وما ابتدع عالم قط حتى يكفر أو يشرك بالجهل أو بالتأويل.
ـ ومن بلغته الرسالة والشرائع فتكلم فيها بجهل وظلم فهؤلاء هم أهل البدع والضلالات والأهواء.(1/411)
والبدعة بالنسبة لأحكام الإيمان والكفر كما قال الإمام الشاطبي - رضي الله عنه - مدارها بين أربعة أحوال:
بدع اتفق العلماء على عدم تكفير أهلها.
بدع اختلف العلماء في تكفير أهلها.
بدع وصل الاختلاف في تكفير أهلها إلى درجة التماري «ويتمارون في الفوق».
بدع أجمع العلماء على كفر أهلها.
والبدع التي اختلف العلماء في تكفير أهلها يكون الكفر بها بالمآل والكفر بالمآل ليس بكفر في الحال أو باللوازم ولازم المذهب ليس بمذهب حتي يلتزمه صاحبه. ويكون القول فيها بترك التكفير أرجح والبدع التي يقع فيها التماري فقد دلت النصوص على كفر مرتكبها وإن كان من تمسك لهم بالإسلام بأدني شبهة لا حرج عليه في ذلك ويكون تكفيرهم أرجح وبين هذين الطرفين بدع يُكفَّرُ الداعية ويفسق المقلد ويكون هذا أرجح من تكفير جميعهم أو ترك تكفير جميعهم.
ـ ومن لم تبلغه الرسالة والشرائع فلا تلزمه الشرائع إلا بالبلوغ والعقل ليس موجبًا للتكليف ولا تكليف إلا بشرع وليس له أن يجهل الله أو يجحده أو يعبد معه غيره.
ـ ومن بلغته الرسالة وغابت عنه أغلب الشرائع فليس له أن يجتهد وليس له أن يقول على الله بغير علم ويلزمه ما علم من الشرائع دون ما لم يعلم.
ـ ومن بلغته الرسالة وبلغته جملة من الشرائع وغابت عنه جملة منها فله أن يجتهد وهو في هذا كمن بلغته الشرائع وليس له أن يقول على الله بغير علم ويلزمه ما علم من الشرائع دون ما لم يعلم والخطأ لا يغفر الكفر ولا الشرك ولكن يمنع تكوين المناط المكفر وإذا وقع الكفر أو الشرك فهما مخرجان من ملة الإسلام لا يمنع من ذلك شيء، أما مع تأثير العوارض في منع تكوين مناطات الكفر والشرك فلم يقع شيء يخرج من الملة، والخطأ ليس إثمًا وإنما الإثم بفعل المحظور أو بترك المأمور قولاً أو عملاً أو اعتقادًا.(1/412)
وقدامة بن مظعون رغم سبقه وكونه بدريًا من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن السابقين الأولين فقد كان ممن حكم الصحابة - رضي الله عنهم - بكفره مع من استحل الخمر من أهل الشام متأولين قوله تعالى: { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } (1) يقول محمد بن أحمد الحفظي ابن عبد القادر البخاري في رسالة ”درجات الصاعدين إلى مقامات الموحدين في علم التوحيد“(2): «وقد حكم الصحابة بكفر من استحل الخمر متأولاً قوله تعالى: { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } . ومن أولئك قدامة بن مظعون ولكنهم تابوا ورجعوا عما تأولوه». أهـ.
__________
(1) المائدة، آية: 93.
(2) عقيدة الموحدين، ص 315.(1/413)
وقد مرَّ كلام الشاطبي في ”الاعتصام“ أن فريقًا من الصحابة قال لعمر عن هؤلاء المتأولين، أنهم قد كذبوا على الله وشرعوا في دين الله ما لم يأذن به الله فنري أن تضرب أعناقهم وقال عليٌّ أرى أن تستتيبهم فإن تابوا جلدتهم ثمانين وإن لم يتوبوا ضربت أعناقهم، فاستتابهم عمر - رضي الله عنه - فتابوا، وهنا مبحث دقيق وهو هل يجوز تكفير مثل قدامة قبل الاستتابة أم لا يجوز هذا إلا بعد الاستتابة لشبهة التأويل مع سابقته وفضله والأرجح أن لا يُكفَّر إلا بعد الاستتابة ولكن التأويل لم يمنع من الاستتابة من الردة ولم يمنع من تقرير العقوبة في حالة التوبة بالجلد وفي حالة عدم التوبة بالقتل ردة عن الإسلام ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه ”الصارم المسلول“ (1): «والمضمون لأهل بدر إنما هو المغفرة إما بأن يستغفروا إن كان الذنب مما لا يغفر إلا بالاستغفار أو لم يكن كذلك وإما بدون أن يستغفروا ألا ترى أن قدامة بن مظعون ـ وكان بدريًا ـ تأول في خلافة عمر ما تأول في استحلال الخمر من قوله تعالى { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } الآية، حتي أجمع رأي عمر وأهل الشوري أن يستتاب هو وأصحابه فإن أقروا بالتحريم جلدوا وإن لم يقروا به كفروا ثم إنه تاب وكاد أن ييأس لعظم ذنبه في نفسه حتي أرسل إليه عمر - رضي الله عنه - بأول غافر فعلم أن المضمون للبدريين أن خاتمتهم حسنة وأنه مغفور لهم وإن جاز أن يصدر عنهم قبل ذلك ما عسى أن يصدر فإن التوبة تمحو ما قبلها». أهـ.
__________
(1) الصارم المسلول، ص 468.(1/414)
فإن قال شيخ الإسلام(1): «أن الصحابة لم يُكفِّروا قدامة ومن معه وبينت لهم الحجة وتابوا ورجعوا فالثابت قطعًا ومما لا خلاف عليه أنها كانت ردة يستتاب صاحبها، فإن تاب وإلا قتل كافرًا مرتدًا ويجوز في الردة الإدانة بالكفر قبل الاستتابة وتكون الاستتابة لحفظ النفس وعصمتها بالإسلام بعد فيئها إليه وليس بغرض استيفاء الشروط وانتفاء الموانع لثبوت البينة والحجة الشرعية بالكفر ثم يستتاب مع ذلك».
وذلك مثل قول شيخ الإسلام(2): «فإنَّ من الجهال من يتوهم أن المراد بذلك توهين أمر الصلاة وإن من فوتها سقط عنه القضاء فيدعو ذلك السفهاء إلى تفويتها وهذا لا يقوله مسلم بل من قال أنَّ مَنْ فوَّتها فلا إثمَ عليه فهو كافرٌ مُرتَدٌّ يُستَتاب فإن تاب وإلا قتل». أنتهى كلامه في منهاج السنة
__________
(1) منهاج السنة، ج3، ص 21.
(2) المصدر السابق، ج3، ص 57.(1/415)
ومثل قوله في ”الصارم“ (1): «ويبين ذلك ما روى إبراهيم بن الحكم ابن إبان حدثني أبي عن عكرمة عن أبي هريرة - رضي الله عنه - «أن أعرابيًا جاء إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يستعينه في شيء فأعطاه شيئًا ثم قال: أحسنت إليك؟ قال الأعرابي: لا، ولا أجملت. قال: فغضب المسلمون وقاموا إليه، فأشار إليهم أن كفوا. ثم قام فدخل منزله، ثم أرسل إلى الأعرابي فدعاه إلى البيت ـ يعني فأعطاه فرضى ـ فقال: إنك جئتنا فسألتنا فأعطيناك فقلت ما قلت وفي أنفس المسلمين شيءٌ من ذلك فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتي يذهب من صدورهم ما فيها عليك. قال: نعم. فلما كان الغد أو العشي جاء. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن صاحبكم جاء فسألنا فأعطيناه فقال ما قال وإنَّا دعوناه إلى البيت فأعطيناه فزعم أنه قد رضى أكذلك؟ قال الأعرابي: نعم. فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرًا. فقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «ألا إنَّ مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة فشردت عليه فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفورًا فناداهم صاحب الناقة خلوَّا بيني وبين ناقتي فأنا أرفق بها فتوجه لها صاحب الناقة بين يديها فأخذ لها من قُمام الأرض فجاءها فاستناخت فشدَّ عليها رحلها واستولى عليها، وإني لو تركتكم حين قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار» يقول شيخ الإسلام: «وذكره بهذا يبين لك أن قتل ذلك الرجل لأجل قوله ما قال كان جائزًا قبل الاستتابة وإنه صار كافرًا بتلك الكلمة». أهـ.
وفي حالات الخفاء والتباس الأمور من كثرة ما تكلم الناس في موضوع ما بالحق والباطل توجه تهمة الردة ولا تتم الإدانة بها إلا بعد ثبوت الإدانة بالبينات والحجج الشرعية لاستيفاء الشروط وانتفاء الموانع فيقال هذه ردة يستتاب صاحبها، فإن تاب وإلا قتل كافرًا مرتدًا وفي الحالة الأولي يقال هذا مرتد كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل.
__________
(1) الصارم المسلول، ص 203.(1/416)
فالاستتابة يتقدم عليها التكفير في تبديل الدين والأمور الظاهرة وما قطعنا فيه بالإدانة بالكفر ويتأخر عنها التكفير في الأمور الخفية وفي حالة عدم القطع بالكفر في حق المعين لاحتمال أوجه أخري للتكييف الشرعي للفعل أو القول حتي تستوفي الشروط وتنتفي الموانع فنقطع بكفره أو ببراءته من تهمة الردة فإذا حكمنا بكفره استتبناه وإذا حكمنا ببرائته وعظناه بما يتفق وحاله، وفي كلا الحالتين ففي حالة قدامة ومن معه من أهل الشام كانت ردة يستتاب صاحبها فإن تاب وإلا قتل مرتدًا كافرًا أي أنه كانت هناك ردة يستتاب منها سواء قطعنا بكفرهم أو اكتفينا باتهامهم بحيث تثبت التهمة فيتوبوا أو يقتلوا ردة أو يتبين أن الفعل لم يكن ردة فلا توجه لهم الاستتابة ويعاقبوا على الفعل وواضح من نقل الخبر أنه قد ثبت في حقهم الردة وأنهم قد تابوا، وأما المرأة التي زنت من مرعوش بدرهمين فلم تبلغها الشرائع وهى مظنة ذلك لحداثة عهدها بإسلام وقدومها من بادية نائية والشرائع لا تلزم إلا بعد البلوغ ولذلك لم تستتب ولم يقم عليها الحد حتي مع ترك الاستتابة، لأنه لا استحلال ولا معصية دون الاستحلال إلا بعد انتهاك حرمة المحرَّم بعد بلوغ الشرائع بالمعصية أو بالاستحلال وهذا ما لم يحدث ولذلك فإن هذه لا يوجد في حقها الإعراض ولاشك ولا فساد اعتقاد ولذلك لم يستتيبوها ولم يقيموا عليها الحد بخلاف قدامة وأصحابه. على هذا فإن التأويل لم يمنع الاستتابة من الردة أي لم يمنع من الاتهام بها على أحد القولين ولم يمنع الإدانة بها على القول الآخر ولم يمنع من إقامة الحد بعد التوبة.
ثم ننتقل بعد ذلك إلى:
ـ حكم من تكلم بغير علم وبغير عدل أي بجهل وظلم.
ـ ما هو نوع خطأ من تكلم بغير علم وبغير عدل.
ـ من تكلم بعلم وعدل.
ـ ما هو خطأ من تكلم بعلم وعدل.
ـ التأويل وأنواعه.
ـ الخطأ وأنواعه وهل يغفر الشرك والكفر.
ثانيًا: من تكلم بغيرعلم وبغيرعدل:(1/417)
يقول الإمام الشافعي رضى الله عنه:
«ومن تكلف ما جهل ومالم تثبت له معرفته كانت موافقته للصواب ـ إن وافقه من حيث لا يعرفه ـ غير محمودة والله أعلم وكان بخطئه غير معذور إذا نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الخطأ والصواب فيه».
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية(1): «فالأمور المشتركة بين الأمة لايحكم فيها إلا بالكتاب والسنة ليس لأحد أن يلزم الناس بقول عالم ولا أمير ولا شيخ ولا ملك ومن اعتقد أنه يحكم بين الناس بشيء من ذلك ولا يحكم بينهم بالكتاب والسنة فهو كافر وحكام المسلمين يحكمون في الأمور المعينة لا يحكمون في الأمور الكلية وإذا حكموا في المعينات فعليهم أن يحكموا بما في كتاب الله فإن لم يكن فبما في سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن لم يجدوا اجتهد الحاكم برأيه وقد قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - :«القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاضٍ في الجنة فمن علم الحق وقضى به فهو في الجنة ومن علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار ومن قضى للناس على جهل فهو في النار» وإذا حكم بعلم وعدل فإذا اجتهد فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر كما ثبت ذلك في الصحيحين عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من وجهين والمقصود هنا أنه إذا وجب فيما شجر بين عموم المؤمنين أن لا يتكلم إلا بعلم وعدل ويرد ذلك إلى الله والرسول فذلك في أمر الصحابة أظهر فلو طعن طاعن في بعض ولاة الأمور من ملك وحاكم وأمير وشيخ ونحو ذلك وجعله كافرًا معتديًا على غيره في ولاية وغيرها وجعل غيره هو العالم العادل المبرأ من كل خطأ وذنب وجعل كل من أحب الأول وتولاه كافرًا أو ظالمًا مستحقًا للسبِّ وأخذ يسبه فإنه يجب الكلام في ذلك بعلم وعدل والرافضة سلكوا في الصحابة مسلك التفرق فوالوا بعضهم وغلوا فيه وعادوا بعضهم وغلوا في معاداته وقد يسلك كثير من الناس ما يشبه هذا في أمرائهم وملوكهم وعلمائهم وشيوخهم فيحصل بينهم رفض في
__________
(1) منهاج السنة، ج3، ص 32-33.(1/418)
غير الصحابة، تجد أحد الحزبين يتولى فلانًا ومحبيه ويبغض فلانًا ومحبيه وقد يسب ذلك بغير حق وهذا كله من التفرق والتشيع الذي نهى الله عنه ورسوله فقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } (1)، وقال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ - وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا } (2)، وقال تعالى: { وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ - يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ - وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (3). قال ابن عبَّاس: تبيض وجوه أهل السنة وتسودُّ وجوه أهل البدعة ولهذا كان أبو أمامة الباهلي وغيره يتأولها في الخوارج فالله تعالى أمر المؤمنين كلهم أن يعتصموا بحبله جميعًا ولا يتفرقوا وقد فسَّر حبله بكتابه وبدينه وبالإسلام وبالإخلاص وبأمره وبعهده وبطاعته وبالجماعة وهذه كلها منقولة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وكلها صحيحة فإن القرآن يأمر بدين الإسلام وذلك هو عهده وأمره وبطاعته والاعتصام به جميعًا إنما يكون في الجماعة ودين الإسلام حقيقته الإخلاص لله وفي ”صحيح مسلم“ عن أبي هريرة عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إنَّ الله
__________
(1) الأنعام، آية: 159.
(2) آل عمران، الآيتان: 102-103.
(3) آل عمران، آيات: 105-107.(1/419)
يرضي لكم ثلاثًا، أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم». أهـ.
فمن تكلم بغير علم وبغير عدل يدخل بسبب ذلك في أهل الابتداع والافتراق والاختلاف المذموم فيمن فرَّق دينه واحتزب ومن تكلم بغير علم وبغير عدل فهو من أهل الوعيد ليس مأجورًا ولا معذورًا، ومن تكلم بعلم وعدل فأمره يدور بين الأجرين والأجر الواحد أو رفع الوزر ومغفرة الخطأ.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية(1): «والنصارى ضالون لهم عبادة ورحمة ورهبانية لكن بلا علم ولهذا يتبعون أهواءهم بلا علم قال تعالى: { يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ } (2)، ويقول - عز وجل -: { قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } (3) أي وسط الطريق وهى السبيل القصد التي قال الله فيها: { وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ } (4) وهى الصراط المستقيم فأخبر بتقدم ضلالهم ثم ذكر صفة ضلالهم والأهواء هى إرادات النفوس بغير علم فكل من فعل ما تريد نفسه بغير علم يبين أنه مصلحة فهو متبع هواه والعلم بالذي هو مصلحة العبد عند الله في الآخرة هو العلم الذي جاءت به الرسل قال تعالى: { فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ } (5)، وقال تعالى: { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ
__________
(1) المنهاج، ج3، ص 84.
(2) النساء، آية: 171.
(3) المائدة، آية: 77.
(4) النحل، آية: 9.
(5) القصص، آية: 50.(1/420)
الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } (1)، وقال تعالى: { فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ } (2)، وقال تعالى: { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } (3).
__________
(1) البقرة، آية: 120.
(2) المائدة، آية: 48.
(3) الجاثية، آية: 18.(1/421)
إلى أن يقول: وقال أبو عثمان النيسابوري: من أمَّر السنة على نفسه قولاً وفعلا نطق بالحكمة ومن أمرَّ الهوي على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة لأن الله تعالى يقول: { وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا } (1) وقال بعضهم ما ترك أحدٌ شيئًا من السنة إلا لكبر في نفسه وهو كما قالوا فإنه إذا لم يكن متبعًا للأمر الذي جاء به الرسول كان يعمل بإرادة نفسه فيكون متبعًا لهواه بغير هدي من الله وهذا عيش النفس وهو من الكبر فإنه شعبة من قول الذين قالوا: { لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ } (2) وكثيرٌ من هؤلاء يظن أنه يصل برياضته واجتهاده في العبادة وتصفية نفسه إلى ما وصلت إليه الأنبياء من غير اتباع لطريقتهم وفيهم طوائف يظنون أنهم صاروا أفضل من الأنبياء وأن الولي الذي يظنون هم أنه الولي أفضل من الأنبياء ومنهم من يقول أن الأنبياء والرسل إنما يأخذون العلم من مشكاة خاتم الأولياء ويدعي في نفسه أنه خاتم الأولياء ويكون ذلك العلم هو حقيقة قول فرعون إن هذا الوجود المشهود واجب بنفسه ليس له صانع مباين له لكن هذا يقول هو الله وفرعون أظهر الإنكار بالكلية لكن كان فرعون في الباطن أعرف منهم فإنه كان مثبتًا للصانع وهؤلاء ظنوا أن الوجود المخلوق هو الوجود الخالق كما يقول ذلك ابن عربي وأمثاله من الاتحادية والمقصود ذكر من عدل عن العبادات التي شرعها الرسول إلى عبادات بإرادته وذوقه ووجده ومحبته وهواه وأنهم صاروا في أنواع من الضلال من جنس ضلال النصارى ففيهم من يدعي إسقاط وساطة الأنبياء والوصول إلى الله بغير طريقهم ويدعي ما هو أفضل من النبوة ومنهم من يدعي الاتحاد والحلول الخاص إما لنفسه وإما لشيخه وإما لطائفته الواصلين إلى حقيقة التوحيد بزعمه وهذا قول النصارى، والنصارى موصوفون بالغلو وكذلك هؤلاء مبتدعة العبَّاد والغلو فيهم وفي الرافضة ولهذا يوجد في هذين
__________
(1) النور، آية: 54.
(2) الأنعام، آية: 124.(1/422)
الصنفين كثير ممن يدعي إما لنفسه وإما لشيخه الإلهية كما يدعيه كثير من الإسماعيلية لأئمتهم بني عبيد وكما يدعيه كثير من الغالية إما للاثني عشر وإما لغيرهم من أهل البيت ومن غير أهل البيت كما تدعيه النصيرية وغيرهم وكذلك في جنس المبتدعة الخارجين عن الكتاب والسنة من أهل التعبد والتصوف منهم طوائف من الغلاة يدعون الإلهية ودعوي ما هو فوق النبوة وإن كان متفلسفًا يُجوِّز وجود نبي بعد محمد - صلى الله عليه وسلم - كالسهروردي المقتول في الزندقة وابن سبعين وغيرهما صاروا يطلبون النبوة بخلاف من أقر بما جاء به الشرع ورأي أن الشرع الظاهر لا سبيل إلى تغييره فإنه يقول النبوة ختمت لكن الولاية لم تختم ويدعي من الولاية ما هو أعظم من النبوة وما لا يكون للأنبياء المرسلين وإن الأنبياء يستفيدون منها ومن هؤلاء من يقول بالحلول والاتحاد وهم في الحلول والاتحاد نوعان نوع يقول بالحلول والاتحاد العام المطلق كابن عربي وأمثاله ويقولون في النبوة إن الولاية أعظم منها كما يقول ابن عربي مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي».(1/423)
إلى أن يقول: وأما الذين يقولون بالاتحاد الخاص فهؤلاء منهم من يصرح بذلك وأما من كان عنده علم بالنصوص الظاهرة ورأي أن هذا يناقض ما عليه المسلمون في الظاهر فإنه يجعل هذا مما يشار إليه ويرمز به ولا يباح به ثم إن كان معظمًا للرسول والقرآن ظن أن الرسول كان يقول بذلك لكنه لم يبح به لأنه مما لا يمكن للبشر أن يبوحوا به وإن كان غير معظم للرسول زعم أنه تعدى حد الرسول وهذا الضلال حدث قديمًا من جهال العباد ولهذا كان العارفون كالجنيد بن محمد سيد الطائفة قدَّس الله سره لما سئل عن التوحيد قال التوحيد إفراد الحدوث عن القدم فإنه كان عارفًا ورأي أقوامًا ينتهي بهم الأمر إلى الاتحاد فلا يميزون بين القديم والمحدث وكان أيضًا طائفة من أصحابه وقعوا في الفناء في توحيد الربوبية الذي لا يميز فيه بين المأمور والمحظور فدعاهم الجنيد إلى الفرق الثاني وهو توحيد الإلهية الذي يميز فيه بين المأمور والمحظور فمنهم من وافقه ومنهم من خالفه ومنهم من لم يفهم كلامه وقد ذكر بعض ما جري من ذلك أبو سعيد بن الأعرابي في طبقات النسَّاك». أهـ.
أقول: كل هذا الضلال بالتأويل وليس بالعناد وهم يحسبون أنهم مهتدون وأنهم يحسنون صنعًا وهم بهذا كما نري مذمومون ليسوا معذورين ولا مأجورين لا بالأجرين ولا بالأجر الواحد لأنهم لم يتبعوا طريق العلم الشرعي فصاروا غير معذورين في الخطأ.(1/424)
يقول أيضًا شيخ الإسلام(1): «وأيضًا فصاحب البدعة يبقي صاحب هوي يعمل لهواه لا ديانة ويصد عن الحق الذي يخالف هواه فهذا يعاقبه الله على هواه ومثل هذا يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة ومن فسَّق من السلف الخوارج ونحوهم كما روى عن سعد بن أبي وقاص أنه قال فيهم قوله تعالى: { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ - الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ } (2) فقد يكون هذا قصده لاسيما إذا تفرق الناس فكان منهم من يطلب الرياسة له ولأصحابه وإذا كان المسلم الذي يقاتل الكفار قد يقاتلهم شجاعة وحمية ورياء وذلك ليس في سبيل الله فكيف بأهل البدع الذين يخاصمون ويقاتلون عليها فإنهم يفعلون ذلك شجاعة وحمية وربما يعاقبون لما اتبعوا أهواءهم بغير هدى من الله لا لمجرد الخطأ الذي اجتهدوا فيه ولهذا قال الشافعي لأن أتكلم في علم يقال لي فيه أخطأت أحبّ إليَّ من أن أتكلم في علم يقال لي فيه كفرت فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضًا ومن ممادح أهل العلم أنهم يُخَطِّئُونَ ولا يُكَفِّرُون(3) وسبب ذلك أن أحدهم قد يظن ما ليس بكفر كفرًا وقد يكون كفرًا لأنه تبين(4) له أنه تكذيب للرسول وسبٌّ للخالق والآخر لم يتبين له ذلك فلا يلزم إذا كان هذا العالم بحاله يكفر إذا قاله أن يكفر من لم يعلم بحاله. إلى أن يقول: فإن الإنسان عليه أولاً أن يكون أمره لله وقصده طاعة الله فيما أمر
__________
(1) المنهاج، ج3، ص 62-68.
(2) البقرة، الآيتان: 26-27.
(3) ليس مطلقًا ويكون في المسائل الخفية التي يكون الكفر فيها باللوازم والمآلات.
(4) أي يلزم فيه ذلك فلا يكفر إلا بعد إقامة الحجة وبيان اللوازم والمآلات وليس لأن المتأول معذور مطلقًا وإن خالف العلم الضروري كمن أداه اجتهاده إلى صحة عقائد اليهود والنصارى فإن هذا فاسد جدًا.(1/425)
به وهو يحب صلاح المأمور أو إقامة الحجة عليه فإن فعل ذلك لطلب الرياسة لنفسه أو لطائفته وتنقيص غيره كان ذلك خطيئة لا يقبله الله وكذلك إذا فعل ذلك لطلب السمعة والرياء كان عمله حابطًا ثم إذا رُدَّ عليه ذلك أو أوذي أو نسب إلى أنه مخطئ وغرضه فاسد طلبت نفسه الانتصار لنفسه وأتاه الشيطان فكان مبدأ عمله لله ثم صار له هوي يطلب به أن ينتصر على من آذاه وربما اعتدى على ذلك المؤذي وهكذا يصيب أصحاب المقالات المختلفة إذا كان كل منهم يعتقد أن الحق معه وأنه على السنة فإن أكثرهم قد صار لهم في ذلك هوي أن ينتصر جاههم أو رياستهم وما نسب إليهم لا يقصدون أن تكون كلمة الله هى العليا وأن يكون الدين كله لله بل يغضبون على من خالفهم وإن كان مجتهدًا معذورًا لا يغضب الله عليه ويرضون عمن كان يوافقهم وإن كان جاهلاً سيء القصد ليس له علم ولا حسن قصد فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله ويذموا من لم يذمه الله ورسوله وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء أنفسهم لا على دين الله ورسوله وهذا حال الكفار الذين لا يطلبون إلا أهواءهم ويقولون هذا صديقنا وهذا عدونا وبلغة المغل(1) هذا بال هذا باغي لا ينظرون إلى موالاة الله ورسوله ومعاداة الله ورسوله. ومن هنا تنشأ الفتن بين الناس قال الله تعالى: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } (2) فإذا لم يكن الدين كله لله كانت فتنة وأصل الدين أن يكون الحب لله والبغض لله والموالاة لله والمعاداة لله والعبادة لله والاستعانة بالله والخوف من الله والرجاء من الله والإعطاء لله والمنع لله وهذا إنما يكون بمتابعة رسول الله الذي أمره أمر الله ونهيه نهى الله ومعاداته معاداة الله وطاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك ولا يطلبه ولا يرضى
__________
(1) المغل: أي المغول.
(2) الأنفال، آية: 39.(1/426)
لرضا الله ورسوله ولا يغضب لغضب الله ورسوله بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه ويكون مع ذلك معه شبهة دين أن الذي يرضي له ويغضب له هو السنة وهو الحق وهو الدين. فإذا قدَّر أن الذي معه هو الحق المحض دين الإسلام ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هى العليا بل قصد الحمية لنفسه وطائفته أو الرياء ليعظم هو ويُثنى عليه، أو فعل ذلك شجاعة وطبعًا أو لغرض من الدنيا لم يكن لله ولم يكن مجاهدًا في سبيل الله، فكيف إذا كان الذي يدعي الحق والسنة هو كنظيره معه حق وباطل وسنة وبدعة ومع خصمه حق وباطل وسنة وبدعة وهذا حال المختلفين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا وكفر بعضهم بعضًا وفسَّق بعضهم بعضًا ولهذا قال تعالى فيهم: { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ - وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } (1).
__________
(1) البينة، الآيتان: 4-5.(1/427)
إلى أن يقول: وقد قال تعالى في سورة يونس: { وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا } (1) فذمهم على الاختلاف بعد أن كانوا على دين واحد فعلم أنه كان حقًا والاختلاف في كتاب الله على وجهين أحدهما أن يكون كله مذمومًا كقوله تعالى: { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } (2)، والثاني أن يكون بعضهم على الحق وبعضهم على الباطل كقوله تعالى { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ البَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } (3) لكن إذا أطلق الاختلاف فالجميع مذموم كقوله تعالى: { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ - إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ } (4)،(5).
__________
(1) يونس، آية: 19.
(2) البقرة، آية: 176.
(3) البقرة، آية: 253.
(4) هود، الآيتان: 118-119.
(5) قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «إنَّما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم» ولهذا فسروا الاختلاف في هذا الموضع بأنه كله مذموم قال الفراء في اختلافهم وجهان أحدهما: كفر بعضهم بكتاب بعض والثاني: تبديل ما بدلوا وهو كما قال فإن المختلفين كل منهم يكون معه حق وباطل فيكفر بالحق الذي مع الآخر ويصدق بالباطل الذي معه وهو تبديل ما بدل: فالاختلاف لابد أن يجمع النوعين».(1/428)
وبعد أن يذكر شيخ الإسلام اختلاف اليهود والنصارى مع أمة الإسلام يذكر اختلاف أهل الأهواء فيقول(1): «فالخارجي يقول ليس الشيعي على شىء والشيعي يقول ليس الخارجي على شىء والقدري النافي يقول ليس المثبت على شىء والقدري الجبري المثبت يقول ليس النافي على شىء والوعيدية تقول ليست المرجئة على شىء والمرجئة تقول ليست الوعيدية على شىء بل ويوجد مثل هذا بين أهل المذاهب الأصولية والفروعية المنتسبين إلى السنة فالكلابي يقول ليس الكرامي على شىء والكرامي يقول ليس الكلابي على شىء والأشعري يقول ليس السالمي على شىء والسالمي يقول ليس الأشعري على شىء وصنَّف السالمي كأبي على الأهوازي كتابًا في مثالب الأشعري وصنَّف الأشعري كابن عساكر كتابًا يناقض ذلك من كل وجه وذكر فيه مثالب السالمية وكذلك أهل المذاهب الأربعة وغيرها ولاسيما وكثير منهم قد تلبس ببعض المقالات الأصولية وخلط هذا بهذا فالحنبلي والشافعي والمالكي يخلط بمذهب مالك والشافعي وأحمد شيئًا من أصول الأشعرية والسالمية وغير ذلك ويضيفه إلى مذهب مالك والشافعي وأحمد وكذلك الحنفي يخلط بمذهب أبي حنيفة شيئا من أصول المعتزلة والكرامية والكلابية ويضيفه إلى مذهب أبي حنيفة وهذا من جنس الرفض والتشيع لكنه تشيع في تفضيل بعض الطوائف والعلماء لا تشيع في تفضيل بعض الصحابة. والواجب على كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله أن يكون أصل قصده توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له وطاعة رسوله يدور على ذلك ويتبعه أين وجده ويعلم أن أفضل الخلق بعد الأنبياء هم الصحابة فلا ينتصر لشخص انتصارًا مطلقًا عامًا إلا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا لطائفة انتصارًا مطلقًا عامًا إلا للصحابة - رضي الله عنهم - أجمعين فإن الهدى يدور مع الرسول حيث دار ويدور مع أصحابه دون أصحاب غيره ـ حيث داروا ـ فإذا اجتمعوا لم يجتمعوا على خطأ قط بخلاف أصحاب عالم من
__________
(1) منهاج السنة، ج3، ص 65.(1/429)
العلماء فإنهم قد يجتمعون على خطأ بل كل قول قالوه ولم يقله غيرهم من الأئمة لا يكون إلا خطأ فإن الدين الذي بعث الله به رسوله ليس مسلمًا إلى عالم واحد وأصحابه ولو كان كذلك لكان ذلك الشخص نظير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو شبيه بقول الرافضة في الإمام المعصوم، ولابد أن يكون الصحابة والتابعون يعرفون ذلك الحق الذي بعث الله به الرسول قبل وجود المتبوعين الذين تنسب إليهم المذاهب في الأصول والفروع ويمتنع أن يكون هؤلاء جاءوا بحق يخالف ما جاء به الرسول، فإن كل ما خالف الرسول فهو باطل ويمتنع أن يكون أحدهم علم من جهة الرسول ما يخالف الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فإن أولئك لم يجتمعوا على ضلالة فلابد أن يكون قوله إن كان حقًا مأخوذًا عما جاء به الرسول موجودًا فيمن قبله، وكل قول قيل في دين الإسلام مخالف لما مضى عليه الصحابة والتابعون لم يقله أحد منهم بل قالوا خلافه فإنه قول باطل.(1/430)
والمقصود هنا أن الله تعالى ذكر أن المختلفين جاءتهم البينة وجاءهم العلم وإنما اختلفوا بغيًا ولهذا ذمهم الله وعاقبهم، فإنهم لم يكونوا مجتهدين مخطئين بل كانوا قاصدين البغي عالمين بالحق معرضين عن القول وعن العمل به، ونظير هذا قوله تعالى: { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } (1) قال الزجاج: اختلفوا للبغي لا لقصد البرهان.إلى أن يقول: ولهذا كان أهل الاختلاف المطلق كلهم مذمومين في الكتاب والسنة فإنه ما منهم إلا من خالف حقًا واتبع باطلاً ولهذا أمر الله الرسل أن تدعوا إلى دين واحد وهو دين الإسلام ولا يتفرقوا فيه وهو دين الأولين والآخرين من الرسل وأتباعهم قال تعالى: { شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } (2)، وقال في الآية الأخرى: { يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ - وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ - فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } (3) أي كتبًا. اتبع كل قوم كتابًا مبتدعًا غير كتاب الله فصاروا متفرقين مختلفين، وإن أهل التفرق والاختلاف ليسوا على الحنيفية المحضة التي هى الإسلام المحض الذي هو إخلاص الدين لله الذي ذكره الله في قوله: { وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ
__________
(1) آل عمران، آية: 19.
(2) الشورى، آية: 13.
(3) المؤمنون، آيات:51-53.(1/431)
وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } (1)، وقال في الآية الأخرى: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ - مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ - مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } (2). فنهاه أن يكون من المشركين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا وأعاد حرف ”من “ ليُبَيّن أن الثانية بدل من الأولى والبدل هو المقصود بالكلام وما قبله توطئة له وقال تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } . إلى قوله: { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ - إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } (3). فأخبر أن أهل الرحمة لا يختلفون.
إلى أن يقول شيخ الإسلام: وقد تدبرت كتب الاختلاف التي يذكر فيها مقالات الناس إما نقلاً مجردًا مثل كتاب ”المقالات“ لأبي الحسن الأشعري وكتاب ”الملل والنحل“ للشهرستاني ولأبي عيسى الوراق أو مع انتصار لبعض الأقوال كسائر ما صنفه أهل الكلام مع اختلاف طبقاتهم فرأيت عامة الاختلاف الذي فيها من الاختلاف المذموم». أهـ.
__________
(1) البينة، آية: 5.
(2) الروم، آيات:30-32.
(3) هود، آيات:110-119.(1/432)
فكيف يقال إن الباطنية والاتحادية والرافضية والجهمية كل هؤلاء معذورون بسبب التأويل وأنهم مجتهدون مخطئون مغفور لهم خطؤهم!! وهم إنما وقعوا فيما وقعوا فيه لغلبة الهوى عليهم فأعماهم وأصمهم عن الحق فتكلموا فيما تكلموا فيه بظلم وجهل ودخلوا في معنى التفرقة والاختلاف المذموم بسبب الأهواء التي تتجارى بصاحبها كما يتجارى الكلب بصاحبه فلا تدع عمومًا ولا تفصيلاً إلا دخلته وهم مع هذا ليسوا معاندين وإنما خالفوا الحق بالتأويل. وهم يحسبون أنهم مهتدون وأنهم يحسنون صنعًا أشربوا بدعهم وأعمتهم الضلالة عن الحق فكل من دخل في معنى الافتراق والتشيع والاختلاف المذموم فهو غير معذور وإنما معاقب مذموم لأنه دخل فيما دخل فيه بظلم وجهل.
يقول شيخ الإسلام(1): «فالنصارى تصدق بالباطل واليهود تكذب بالحق ولهذا كان في مبتدعة أهل الكلام شبه من اليهود وفي مبتدعة أهل التبعد شبه من النصارى فآخر أولئك الشك والريب وآخر هؤلاء الشطح والدعاوى الكاذبة لأن أولئك كذبوا بالحق فصاروا إلى الشك وهؤلاء صدقوا بالباطل فصاروا إلى الشطح فأولئك { كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } (2)، وهؤلاء { كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا } (3). فمبتدعة أهل العلم والكلام طلبوا العلم بما ابتدعوه ولم يتبعوا العلم المشروع ويعملوا به فانتهوا إلى الشك المنافي للعلم بعد أن كان لهم علم بالمشروع لكن زاغوا فأزاغ الله قلوبهم وكانوا مغضوبًا عليهم ومبتدعة العبَّاد طلبوا القرب من الله بما ابتدعوه في العبادة فلم يحصل لهم إلا البعد منه فإنه ما ازداد مبتدع اجتهادًا إلا ازداد من الله بعدًا والبعد عن رحمة الله هو اللعنة وهو غاية النصارى». أهـ.
__________
(1) منهاج السنة، ج3، ص 42.
(2) النور، آية: 40.
(3) النور، آية: 39.(1/433)
واضح جدًا من تقرير المسألة أن طلب العلم بالطرق المبتدعة وعدم اتباع العلم المشروع لا تؤدي إلا إلى الضلال وفساد الاعتقاد والشك والحيرة والزيغ عن الحق، وهذا كله بالتأويل الفاسد وليس بعناد الشرع كفاحًا وهو الابتداع. والرسول الكريم قرر«أن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار» فالإحداث ابتداع والابتداع ضلال والضلال في النار فهو مذموم ومعاقب عليه غير معذور فيه ولا يثاب عليه بالأجرين أو بالأجر الواحد فتأمل الفرق، وكذلك فيمن طلب العبادة بغير علم بما ابتدعه من العبادة التي لا ترجع إلى العلم الشرعي فهى بدعة وهى إحداث وكل إحداث بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، ليس في هذا عذر وليس فيه ثواب بالأجرين أو بالأجر من أجل الاجتهاد أصاب أم أخطأ لأنه تكلم بغير علم وبغير عدل فقد خرج من نطاق الأجر والعذر إلى نطاق الوزر، والوزر إنما يكون بحسب ما وقع فيه فصار من أهل الوعيد، فإن كان وزره دون الشرك والكفر فهذا وعيد يمكن أن يتخلف بمكفرات الذنوب كالحسنات الماحية والبلاء يقع على المؤمن فلا يدع عليه خطيئة، وإن كان الوعيد على الشرك والكفر فإن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.
ثم نأتي بعد هذه المقدمات إلى تقرير المسألة في
«درء تعارض العقل والنقل».
الباب الثانى
التأويل المذموم
أولاً: تأويل التحريف
طلب العلم بالطرق المبتدعة
يقول شيخ الإسلام(1):
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل، ج1، ص2.(1/434)
«قول القائل إذا تعارضت الأدلة السمعية والعقلية أو السمع والعقل أو النقل والعقل أو الظواهر النقلية والقواطع العقلية أو نحو ذلك من العبارات فإما أن يجمع بينها وهو محال لأنه جمع بين النقيضين، وإما أن يرادا جميعًا، وإما أن يقدم السمع وهو محال لأن العقل أصل النقل فلو قدمناه عليه كان ذلك قدحًا في العقل الذي هو أصل النقل والقدح في أصل الشىء قدح فيه فكان تقديم النقل قدحًا في النقل والعقل جميعًا فوجب تقديم العقل. ثم النقل إما أن يتأول وإما أن يفوَّض وإما إذا تعارضا تعارض الضدين امتنع الجمع بينهما ولم يمتنع ارتفاعهما وهذا الكلام قد جعله الرازي وأتباعه قانونًا كليًا فيما يستدل به من كتب الله وكلام أنبيائه وما لا يستدل به ولهذا ردوا الاستدلال بما جاءت به الأنبياء والمرسلون في صفات الله تعالى وغير ذلك من الأمور التي أُنبؤا بها وظنَّ هؤلاء أن العقل يعارضها وقد يضم بعضهم إلى ذلك أن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين.(1/435)
إلى أن يقول: ولهؤلاء في نصوص الأنبياء طريقتان: طريقة التبديل، وطريقة التجهيل. أما أهل التبديل فهم نوعان: أهل الوهم والتخييل، وأهل التحريف والتأويل. فأهل الوهم والتخييل هم الذين يقولون أن الأنبياء أخبروا عن الله وعن اليوم الآخر وعن الجنة والنار، بل وعن الملائكة بأمور غير مطابقة للأمر في نفسه لكنهم خاطبوهم بما يتخيلون به ويتوهمون به أن الله جسم عظيم، وأن الأبدان تعاد وأن لهم نعيمًا محسوسًا وعقابًا محسوسًا وإن كان الأمر ليس كذلك في نفس الأمر لأن من مصلحة الجمهور أن يخاطبوا بما يتوهمون به ويتخيلون أن الأمر هكذا وإن كان هذا كذبًا فهو كذب لمصلحة الجمهور إذ كانت دعوتهم ومصلحتهم لا تمكن إلا بهذه الطريقة، وقد وضع ابن سينا وأمثاله قانونهم على هذا الأصل كالقانون الذي ذكره في رسالته ”الأضحوية“ وهؤلاء يقولون: الأنبياء قصدوا بهذه الألفاظ ظواهرها، وقصدوا أن يفهموا الجمهور منها هذه الظواهر وإن كانت الظواهر في نفس الأمر كذبًا وباطلاً ومخالفة للحق، فقصدوا إفهام الجمهور بالكذب والباطل للمصلحة. ثم من هؤلاء من يقول النبيّ كان يعلم الحق ولكن أظهر خلافه للمصلحة، ومنهم من يقول ما كان يعلم الحق كما يعلمه نظار الفلاسفة وأمثالهم، وهؤلاء يفضلون الفيلسوف الكامل على النبيّ ويفضلون الولي الكامل الذي له هذا المشهد على النبيّ، كما فضل ابن عربي الطائي خاتم الأولياء في زعمه على الأنبياء، وكما يفضل الفارابي ومبشر بن فاتك وغيرهما الفيلسوف على النبيّ، وأما الذين يقولون إنَّ النبيَّ كان يعلم ذلك فقد يقولون أن النبيَّ أفضل من الفيلسوف لأنه علم ما علمه الفيلسوف وزيادة وأمكنه مع ذلك أن يخاطب الجمهور بطريقة يعجز عن مثلها الفيلسوف.(1/436)
وابن سينا وأمثاله من هؤلاء، وهذا في الجملة قول المتفلسفة والباطنية كالملاحدة الإسماعيلية وأصحاب رسائل إخوان الصفا والفارابي وابن سينا والسهروردي المقتول وابن رشد الحفيد وملاحدة الصوفية الخارجين عن طريقة المشايخ المتقدمين من أهل الكتاب والسنة كابن عربي وابن سبعين وابن الطفيل صاحب رسالة ”حي بن يقظان“ وخلق كثير غير هؤلاء. إلى أن يقول: وأما أهل التحريف والتأويل فهم الذين يقولون أن الأنبياء لم يقصدوا بهذه الأقوال ما في نفس الأمر، وأن الحق في نفس الأمر هو ما علمناه بعقولنا، ثم يجتهدون في تأويل هذه الأقوال إلى ما يوافق رأيهم بأنواع التأويلات التي يحتاجون فيها إلى إخراج اللغات عن طريقتها المعروفة، وإلى الاستعانة بغرائب المجازات والاستعارات وهم في أكثر ما يتأولونه قد يعلم عقلاؤهم علمًا يقينيًا أن الأنبياء لم يريدوا بقولهم ما حملوه عليه وهؤلاء كثيرًا ما يجعلون التأويل من باب دفع المعارض فيقصدون حمل اللفظ على ما يمكن أن يريده متكلم بلفظه لا يقصدون طلب مراد المتكلم به وحمله على ما يناسب حاله، وكل تأويل لا يقصد به صاحبه بيان مراد المتكلم وتفسير كلامه بما يعرف به مراده وعلى الوجه الذي يعرف به مراده فصاحبه كاذب على من تأول كلامه، ولهذا كان أكثرهم لا يجزمون بالتأويل بل يقولون يجوز أن يراد كذا، وغاية ما معهم إمكان احتمال اللفظ، وأما كون النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - المعين يجوز أن يريد ذلك المعنى بذلك اللفظ فغالبه يكون الأمر فيه بالعكس، ويعلم من سياق الكلام وحال المتكلم امتناع إرادته لذلك المعنى بذلك الخطاب المعين. وفي الجملة فهذه طريقة خلق كثير من المتكلمين وغيرهم وعليها بنى سائر المتكلمين المخالفين لبعض النصوص مذهبهم من المعتزلة والكلابية والسالمية والكرامية والشيعة وغيرهم.(1/437)
إلى أن يقول(1): وهؤلاء هم أهل التضليل والتجهيل الذين حقيقة قولهم أن الأنبياء وأتباع الأنبياء جاهلون ضالون لا يعرفون ما أراد الله بما وصف به نفسه من الآيات وأقوال الأنبياء، ثم هؤلاء منهم من يقول المراد بها خلاف مدلولها الظاهر والمفهوم ولا يعرف أحد من الأنبياء والملائكة والصحابة والعلماء ما أراد الله بها كما لا يعلمون وقت الساعة، ومنهم من يقول بل تجري على ظاهرها وتحمل على ظاهرها ومع هذا فلا يعلم تأويلها إلا الله، فيتناقضون حيث أثبتوا لها تأويلاً يخالف ظاهرها وقالوا مع هذا أنها تحمل على ظاهرها، وهذا ما أنكره ابن عقيل على شيخه القاضي أبي يعلى في كتاب ”ذم التأويل“ وهؤلاء الفرق مشتركون في القول بأن الرسول لم يبين المراد بالنصوص التي يجعلونها مُشْكَلة أو متشابهة، ولهذا يجعل كل فريق المشكل من نصوصه غير ما يجعل الفريق الآخر مشكلاً فمنكر الصفات الخبرية الذي يقول أنها لا تعلم بالعقل يقول نصوصها مُشْكلة متشابهة بخلاف الصفات المعلومة بالعقل فإنها عنده محكمة بينه، وكذلك يقول من ينكر العلو والرؤية نصوص هذه مشكلة، ومنكر الصفات مطلقًا يجعل ما يثبتها مشكلاً دون ما يثبت أسماءه الحسنى، ومنكر معاني الأسماء يجعل نصوصها مشكلة، ومنكر معاد الأبدان وما وصفت به الجنة والنار يجعل ذلك مشكلاً أيضًا، ومنكر القدر يجعل ما يثبت أن الله خالق كل شىء وما شاء كان مشكلاً دون آيات الأمر والنهي والوعد والوعيد، والخائض في القدر بالجبر يجعل نصوص الوعيد بل والأمر والنهي مشكلة فقد يستشكل كل فريق ما لا يستشكله غيره ثم يقول فيما يستشكله أن معاني نصوصه لم يبينها الرسول. ثم منهم من يقول لم يعلم معانيها أيضًا، ومنهم من يقول بل علمها ولم يبينها بل أحال في بيانها على الأدلة العقلية. وعلى من يجتهد في العلم تأويل تلك النصوص فهم مشتركون في أن الرسول لم يعلم أو لم يعلم بل جهل معناها
__________
(1) عن أهل الطريقة الثانية، طريقة التجهيل.(1/438)
أو جهَّلها الأمة من غير أن يقصد أن يعتقدوا الجهل المركب، وأما أولئك فيقولون بل قصد أن يعلم الجهل المركب والاعتقادات الفاسدة وهؤلاء مشهورون عند الأمة بالإلحاد والزندقة، بخلاف أولئك فإنهم يقولون الرسول لم يقصد أن يجعل أحدًا جاهلاً معتقدًا للباطل، ولكن أقوالهم تتضمن أن الرسول لم يبين الحق فيما خاطب به الأمة من الآيات والأحاديث إما مع كونه لم يعلمه أو مع كونه علمه ولم يبينه.
إلى أن يقول: فهؤلاء الطوائف قد يقولون نحن عرفنا الحق بعقولنا ثم اجتهدنا في حمل كلام الأنبياء على ما يوافق مدلول العقل، وفائدة إنزال هذه المتشابهات المشكلات اجتهاد الناس في أن يعرفوا الحق بعقولهم ثم يجتهدوا في تأويل كلام الأنبياء الذين لم يبينوا به مرادهم أو إنا عرفنا الحق بعقولنا وهذه النصوص لم تعرف الأنبياء معناها كما لم يعرفوا وقت الساعة ولكن أمرنا بتلاوتها من غير تدبر لها ولا فهم لمعانيها أو يقولون بل هذه الأمور لا تعرف بعقل ولا بنقل بل نحن منهيون عن معرفة العقليات وعن فهم السمعيات، وأن الأنبياء وأتباعهم لا يعرفون العقليات ولا يفهمون السمعيات. إلى أن يقول: وقد بينا في موضع آخر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بلغ البلاغ المبين وبين مراده، وأن كل ما في القرآن والحديث من لفظ يقال فيه أنه يحتاج إلى التأويل الاصطلاحي الخاص الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره فلابد أن يكون الرسول قد بين مراده بذلك اللفظ بخطاب آخر لا يجوز عليه أن يتكلم بالكلام الذي مفهومه ومدلوله باطل ويسكت عن بيان المراد الحق، ولا يجوز أن يريد من الخلق أن يفهموا من كلامه ما لم يبينه لهم ويدلهم عليه لإمكان معرفة ذلك بعقولهم. إلى أن يقول: فمن زعم أنه تكلم بما لا يدل إلا على الباطل لا على الحق ولم يبين مراده وأنه أراد بذلك اللفظ المعنى الذي ليس بباطل وأحال الناس في معرفة المراد على ما يعلم من غير جهته بآرائهم فقد قدح في الرسول... والرسول أعلم الخلق(1/439)
بالحق وأقدر الناس على بيان الحق وأنصح الخلق للخلق... فالعاجز عن القول أو الفعل يمتنع صدور ذلك عنه والجاهل بما يقوله ويفعله لا يأتي بالقول المحكم والفعل المحكم وصاحب الإرادة الفاسدة لا يقصد الهدى والنصح والصلاح، فإذا كان المتكلم عالمًا بالحق قاصدًا لهدى الخلق قصدًا تامًا قادرًا على ذلك وجب وجود مقدوره ومحمد - صلى الله عليه وسلم - أعلم الخلق بالحق وهو أفصح الخلق لسانًا وأصحهم بيانًا وهو أحرص الخلق على هدى العباد.
وقد أوجب الله عليه البلاغ المبين وأنزل عليه الكتاب ليبين للناس ما نزل إليهم فلابد أن يكون خطابه وبيانه وكلامه أكمل وأتم من بيان غيره، فكيف يكون مع هذا لم يبين الحق وبينه من قامت الأدلة الكثيرة على جهله أو نقص علمه وعقله، ولما كان ما يقوله كثير من الناس في باب أصول الدين والكلام والعلوم العقلية والحكمة يعلم كل من تدبر أنه مخالف لما جاء به الرسول، وأن الرسول لم يقل مثل هذا واعتقد من اعتقد أن ذلك من أصول الدين، وأنه يشتمل على العلوم الكلية والمعارف الإلهية والحكمة الحقيقية أو الفلسفة الأولية صار كثير منهم يقول إن الرسول لم يكن يعرف أصول الدين أو لم يبين أصول الدين، ومنهم من هاب النبيَّ ولكن يقول الصحابة والتابعون لم يكونوا يعرفون ذلك، ومن عظم الصحابة والتابعين مع تعظيم أقوال هؤلاء يبقى حائرًا كيف لم يتكلم أولئك الأفاضل في هذه الأمور التي هى أفضل العلوم ومن هو مؤمن بالرسول معظم له يستشكل كيف لم يبين أصول الدين مع أن الناس إليها أحوج منهم إلى غيرها.(1/440)
ولما كنت بالديار المصرية سألني من سألني من فضلائها في هذه المسألة فقالوا في سؤالهم، إن قال قائل هل يجوز الخوض فيما تكلم الناس فيه من مسائل أصول الدين وإن لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها كلام أم لا ؟ وإنْ قيل بالجواز فما وجهه وقد فهمنا منه - عليه السلام - النهي عن الكلام في بعض المسائل؟ وإذا قيل بالجواز فهل يجب ذلك؟ وهل نقل عنه - عليه السلام - ما يقتضى وجوبه؟ وهل يكفي في ذلك ما يصل إليه المجتهد من غلبة الظن أو لابد من الوصول إلى القطع فهل يعذر في ذلك أو يكون مكلفًا به؟ وهل ذلك من باب تكليف ما لا يطاق والحالة هذه أم لا؟ وإذا قيل بالوجوب فما الحكمة في أنه لم يوجد فيه من الشارع نص يعصم من الوقوع في المهالك وقد كان - عليه السلام - حريصًا على هدي أمته؟
فأجبت: الحمد لله رب العالمين أما المسألة الأولى: هل يجوز الخوض فيما تكلم الناس فيه من مسائل أصول الدين وإن لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها كلام أم لا سؤال ورد بحسب ما عهد من الأوضاع المبتدعة الباطلة فإن المسائل التي هى من أصول الدين التي تستحق أن تسمى أصول الدين أعني الدين الذي أرسل الله به رسوله وأنزل به كتابه لا يجوز أن يقال لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها كلام، بل هذا كلام متناقض في نفسه إذ كونها من أصول الدين يوجب أن تكون من أهم أمور الدين وأنها مما يحتاج إليه الدين، ثم نفى نقل الكلام فيها عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوجب أحد أمرين: إما أن الرسول أهمل الأمور المهمة التي يحتاج إليها الدين فلم يبينها، أو أنه بينها فلم تنقلها الأمة. وكلا هذين باطل قطعًا، وهو من أعظم مطاعن المنافقين في الدين، وإنما يظن هذا وأمثاله من هو جاهل بحقائق ما جاء به الرسول أو جاهل بما يعقله الناس بقلوبهم أو جاهل بهما جميعًا.(1/441)
إلى أن يقول: وذلك أن أصول الدين إما أن تكون مسائل يجب اعتقادها ويجب أن تذكر قولاً أو تعمل عملاً كمسائل التوحيد والصفات والقدر والنبوة والمعاد أو دلائل هذه المسائل أما القسم الأول فكل ما يحتاج الناس إلى معرفته واعتقاده والتصديق به من هذه المسائل فقد بينه الله ورسوله بيانًا شافيًا قاطعًا للعذر إذ هذا من أعظم ما بلغه الرسول البلاغ المبين وبينه للناس، وهو من أعظم ما أقام الله به الحجة على عباده فيه بالرسل الذين بينوه وبلغوه وكتاب الله الذي نقل الصحابة ثم التابعون من الرسول لفظه ومعانيه والحكمة التي هى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشتملة من ذلك على غاية المراد وتمام الواجب والمستحب، والحمد لله الذي بعث فينا رسولاً من أنفسنا يتلو علينا آياته ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضى لنا الإسلام دينًا.
إلى أن يقول: إنما يظن عدم اشتمال الكتاب والحكمة على بيان ذلك من كان ناقصًا في عقله وسمعه ومن له نصيب من قول أهل النار الذين قالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير، وإن كان ذلك كثيرًا في كثير من المتفلسفة والمتكلمة وجهَّال أهل الحديث والمتفقهة والصوفية. وأما القسم الثاني فهو دلائل هذه المسائل الأصولية فإنه وإن كان يظن طوائف من المتكلمين أو المتفلسفة أن الشرع إنما يدل بطريقة الخبر الصادق فدلالته موقوفة على العلم بصدق المخبر ويجعلون ما ينبني عليه صدق المخبر معقولات محضة فقد غلطوا في ذلك غلطًا عظيمًا بل ضلوا ضلالاً مبينًا في ظنهم أن دلالة الكتاب والسنة إنما هى بطريق الخبر المجرد، بل الأمر ما عليه سلف الأمة أهل العلم والإيمان من أن الله سبحانه وتعالي بين من الأدلة العقلية التي يحتاج إليها في العلم بذلك ما لا يُقدِّر أحد من هؤلاء قدره ونهاية ما يذكرونه جاء القرآن بخلاصته على أحسن وجه.(1/442)
إلى أن يقول: وهذا باب واسع عظيم جدًا ليس هذا موضعه، وإنما الغرض التنبيه على أن في القرآن والحكمة النبوية غاية أصول الدين من المسائل والدلائل ما يستحق أن يكون من أصل الدين، وأما ما يدخله بعض الناس في هذا المسمى من الباطل فليس ذلك من أصول الدين، وإن أدخلت فيه مثل هذه المسائل والدلائل الفاسدة مثل نفي الصفات والقدر ونحو ذلك من المسائل، ومثل الاستدلال على حدوث العالم بحدوث الأعراض التي هى صفات الأجسام القائمة بها إما الأكوان وإما غيرها وتقرير المقدمات التي يحتاج إليها هذا الدليل، والتزام طوائف من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم لأجلها نفي صفات الرب مطلقًا أو نفي بعضها لأن الدال عندهم على حدوث هذه الأشياء هو قيام الصفات بها والدليل يجب طرده فالتزموا حدوث كل موصوف بصفة قائمة به، وهو ايضًا في غاية الفساد والضلال، ولهذا التزموا القول بخلق القرآن وإنكار رؤية الله في الآخرة وعلوه على عرشه إلى أمثال ذلك من اللوازم التي التزموها من طرد مقدمات هذه الحجة التي جعلها المعتزلة ومن اتبعهم أصل دينهم فهذه داخلة فيما سماه هؤلاء اصول الدين، ولكن ليس في الحقيقة من أصول الدين الذي شرعه الله لعباده. وأما الدين الذي قال الله فيه { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } (1) فذاك له أصول وفروع بحسبه، وإذا عرف أن مسمى أصول الدين في عرف الناطقين بهذا الاسم فيه إجمال وإبهام لما فيه من الاشتراك بحسب الأوضاع والاصطلاحات تبين أن الذي هو عند الله ورسوله وعباده المؤمنين أصول للدين فهو موروث عن الرسول وأما من شرع دينًا لم يأذن به الله فمعلوم أن أصوله المستلزمة له لا يجوز أن تكون منقولة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ هو باطل وملزوم الباطل باطل. إلى أن يقول: وهذا التقسيم ينبه أيضًا على مراد السلف والأئمة بذم الكلام وأهله إذ ذاك متناول لمن
__________
(1) الشورى، آية: 21.(1/443)
استدل بالأدلة الفاسدة أو استدل على المقالات الباطلة فأما من قال الحق الذي أذن الله فيه حكمًا ودليلاً فهو من أهل العلم والإيمان والله يقول الحق وهو يهدى السبيل.
إلى أن يقول: فالسلف والأئمة لم يذموا الكلام لمجرد ما فيه من الاصطلاحات المولدة كلفظ الجوهر والعرض والجسم وغير ذلك، بل لأن المعاني التي يعبرون عنها بهذه العبارات فيها من الباطل المذموم في الأدلة والأحكام ما يجب النهي عنه لاشتمال هذه الألفاظ على معاني مجملة في النفي والإثبات، كما قال الإمام أحمد في وصفه لأهل البدع فقال: ”هم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون على مفارقة الكتاب، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يلبسون عليهم“.(1/444)
أما قول السائل: فإن قيل بالجواز فما وجهه وقد فهمنا منه - صلى الله عليه وسلم - النهي عن الكلام في بعض المسائل. فيقال قد تقدم الاستفسار والتفصيل في جواب السؤال، وأن ما هو في الحقيقة أصول الدين الذي بعث الله به رسوله فلا يجوز أن ينهي عنه بحال بخلاف ما سمى أصول الدين، وليس هو أصولاً في الحقيقة لا دلائل ولا مسائل أو هو أصول لدين لم يشرعه الله بل شرعه من شرع من الدين ما لم يأذن به الله. وأما ما ذكره السائل من نهيه فالذي جاء به الكتاب والسنة النهي عن أمور منها القول على الله بلا علم كقوله تعالى: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } (1)، وقوله - عز وجل -: { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌٌ } (2) ومنها أن يقال على الله غير الحق كقوله - عز وجل -: { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لاَ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ } (3)، ومنها الجدل بغير علم كقوله تعالى: { هَاأَنْتُمْ هَؤُلاَءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } (4) الآية، ومنها الجدل في الحق بعد ظهوره كقوله تعالى: { يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ } (5)، ومنها الجدل بالباطل كقوله - عز وجل -: { وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ } (6)، ومنها الجدل في آياته كقوله - عز وجل -: { مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } (7)
__________
(1) الأعراف، آية: 33.
(2) الإسراء، آية: 36.
(3) الأعراف، آية: 169.
(4) آل عمران، آية: 66.
(5) الأنفال، آية: 6.
(6) الكهف، آية: 56.
(7) غافر، آية: 4 .(1/445)
، وقوله - عز وجل -: { الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا } (1)، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ } (2)، وقوله - عز وجل -: { وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ } (3)، وقوله - عز وجل -: { وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } (4) الآية. ومن الأمور التي نهى الله عنها في كتابه التفرق والاختلاف كقوله - عز وجل -: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا } إلى قوله: { وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم ٌ - يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } (5)، قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } (6)، وقال تعالى: { فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرةَ اللهِ التي فطرَ الناس عليها لا تبديل لخلق الله } إلى قوله { وَلاَ تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ ٌ - مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا } (7)، وقد ذمَّ أهل التفرق والاختلاف في مثل قوله تعالى: { وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ
__________
(1) غافر، آية: 35.
(2) غافر، آية: 56.
(3) الشوري، آية: 35.
(4) الشوري، آية: 16.
(5) آل عمران، آيات: 103- 106.
(6) الأنعام، آية: 159.
(7) الروم، آيات: 30-32.(1/446)
الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } (1)، وفي مثل قوله { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ٌ - إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُْم } (2)، وقوله - عز وجل -: { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } (3).
إلى أن يقول: وأما أن يكون الكتاب والسنة نهي عن معرفة المسائل التي تدخل فيما يستحق أن يكون من أصول الدين فهذا لا يجوز اللهم إلا أن ينهي عن بعض ذلك في بعض الأحوال مثل مخاطبة شخص بما يعجز عن فهمه فيضل كقول عبد الله بن مسعود ”ما من رجل يحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم“.
إلى أن يقول: وأما قول السائل: إذا قيل بالجواز فهل يجب وهل نقل عنه - صلى الله عليه وسلم - ما يقتضي وجوبه فيقال: لا ريب أنه يجب على كل أحد أن يؤمن بما جاء به الرسول إيمانًا عامًا مجملاً، ولا ريب أن معرفة ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - على التفصيل فرض على الكفاية، فإن ذلك داخل في تبليغ ما بعث الله به رسوله وداخل في تدبر القرآن وعقله وفهمه وعلم الكتاب والحكمة وحفظ الذكر والدعاء إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعاء إلى سبيل الربِّ بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هى أحسن ونحو ذلك، فما أوجبه الله على المؤمنين فهو واجب على الكفاية منهم، وأما ما وجب على أعيانهم فهذا يتنوع بتنوع قدرهم وحاجتهم ومعرفتهم وما أمر به أعيانهم ولا يجب على العاجز عن سماع بعض العلم أو عن فهم دقيقه ما يجب على القادر على ذلك.
__________
(1) آل عمران، آية: 19.
(2) هود، آية، الآيتان: 118- 119.
(3) البقرة، آية: 176.(1/447)
أما قوله: هل يكفي في ذلك ما يصل إليه المجتهد من غلبة الظن أو لابد فيه من الوصول إلى القطع؟ فيقال: الصواب في ذلك التفصيل. إلى أن يقول: فما أوجب الله فيه العلم واليقين وجب فيه ما أوجبه الله من ذلك كقوله - عز وجل -: { اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (1)، وقوله - عز وجل -: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } (2)، وكذلك يجب الإيمان بما أوجب الله الإيمان به، وقد تقرر في الشريعة أن الوجوب معلق باستطاعة العبد كقوله تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» أخرجاه في الصحيحين. فإذا كان كثير مما تنازعت فيه الأمة من هذه المسائل الدقيقة قد يكون عند كثير من الناس مشتبهًا لا يقدر فيه على دليل يفيده اليقين لا شرعي ولا غيره لم يجب على مثل هذا في ذلك ما لا يقدر عليه وليس عليه أن يترك ما يقدر عليه من اعتقاد قول غالب على ظنه لعجزه عن تمام اليقين، بل ذلك هو الذي يقدر عليه لاسيما إذا كان مطابقًا للحق، فالاعتقاد المطابق للحق ينفع صاحبه ويثاب عليه ويسقط به الفرض إذا لم يقدر على أكثر منه، لكن ينبغي أن يعرف أن عامة من ضل في هذا الكتاب أو عجز فيه عن معرفة الحق فإنما هو لتفريطه في اتباع ما جاء به الرسول وترك النظر والاستدلال الموصل إلى معرفته، فلما أعرضوا عن كتاب الله ضلوا كما قال تعالى: { يَابَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنْ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } (3)، وقوله تعالى: { اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ
__________
(1) المائدة، آية: 98.
(2) محمد، آية: 19.
(3) الأعراف، آية: 35.(1/448)
هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى ٌ - وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } (1)، قال ابن عباس: تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أنه لا يضل في الدنيا ولا يشقي في الآخرة ثم قرأ هذه الآية، وكما في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن عليّ - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنها ستكون فتنٌ قلت فما المخرج منها يا رسول الله قال كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغي الهدي في غيره أضلَّه الله وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسن ولا يخلق عن كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه ولا يشبع منه العلماء» ـ وفي رواية ـ «ولا تختلف به الآراء وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا - يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ } (2) من قال به صدق ومن عمل به أُجر ومن حكم به عدل ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم»، وقال تعالى: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } (3)، وقال تعالى: { المص - كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ - اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } (4)، وقال - عز وجل -: { وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ - أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا
__________
(1) طه، الآيتان: 123- 124.
(2) الجن، آية:1.
(3) الأنعام، آية: 153.
(4) الاعراف، آيات:1- 3 .(1/449)
عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ - أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ } (1) فذكر سبحانه أنه يجزي الصادف عن آياته مطلقًا سواء كان مكذبًا أم لم يكن سوء العذاب بما كانوا يصدفون، يبين ذلك أن كل من لم يقر بما جاء به الرسول فهو كافرٌ سواء اعتقد كذبه أو استكبر عن الإيمان به أو أعرض عنه اتباعًا لما يهواه أو ارتاب فيما جاء به، فكل مكذب بما جاء به فهو كافر، وقد يكون كافرًا من لم يكذبه إذا لم يؤمن به ولهذا أخبر الله في غير موضع من كتابه بالضلال والعذاب لمن ترك اتباع ما أنزله وإن كان له نظر جدل واجتهاد في عقليات وأمور غير ذلك وجعل ذلك من نعوت الكفار والمنافقين، وقال تعالى: { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون } (2)، قال تعالى: { وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون } (3)، وقال تعالى: { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ - فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ } (4)، وقال
__________
(1) الانعام، آيات: 155- 157 .
(2) غافر، آية: 83.
(3) الاحقاف، آية: 26.
(4) غافر، آية: 84.(1/450)
- عز وجل -: { الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا } (1)، وفي الآية الأخرى { إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (2)، والسلطان هو الحجة المنزلة من عند الله كما قال تعالى: { أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ } (3)، وقال تعالى: { أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ - فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ } (4)، وقال - عز وجل -: { إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ } (5) وقد طالب الله تعالى من اتخذ دينًا بقوله { اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } (6) فالكتاب الكتاب والأثارة الرواية والإسناد، وقد قال تعالى في نعت المنافقين { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا - وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا - فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا - أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ
__________
(1) غافر، آية: 35.
(2) غافر، آية: 56.
(3) الروم، آية: 35.
(4) الصافات، الآيتان: 156- 157.
(5) النجم، آية: 23.
(6) الاحقاف، آية: 4.(1/451)
مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا } (1). وفي هذه الآيات أنواع من العبر الدالة على ضلال من تحاكم إلى غير الكتاب والسنة وعلي نفاقه وإن زعم أنه يريد التوفيق بين الأدلة الشرعية وبين ما يسميه هو عقليات من الأمور المأخوذة عن بعض الطواغيت من المشركين وأهل الكتاب وغير ذلك من أنواع الاعتبار.
فمن كان خطؤه لتفريطه فيما يجب عليه من اتباع القرآن والإيمان مثلاً، أو لتعديه حدود الله بسلوك السبيل التي نهي عنها، أو لاتباع هواه بغير هدي من الله فهو الظالم لنفسه وهو من أهل الوعيد بخلاف المجتهد في طاعة الله ورسوله باطنًا وظاهرًا الذي يطلب الحق باجتهاده كما أمره الله ورسوله فهذا مغفور له خطؤه(2) كما قال تعالى { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } إلى قوله: { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } (3) وقد ثبت من حديث ابن عباس أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لم يقرأ بحرف من هاتين الآيتين ومن سورة الفاتحة إلا أعطي ذلك. فهذا يبين استجابة هذا الدعاء للنبي والمؤمنين وأن الله لا يؤاخذهم إن نسوْا أو أخطأوا (4)
__________
(1) النساء، آيات: 60، 63.
(2) الكلام واضح كالشمس في واضحة النهار وأن من خالف ما تدل عليه نصوص الكتاب والسنة مما كان عليه الأئمة وسلف الأمة من العقيدة الموروثة عما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بأنواع من التأويلات الفاسدة فهو غير معذور بالخطأ وغير مغفور له خطؤه.
(3) البقرة، الآيتان: 285-286.
(4) واضح أن هذا لمن اجتهد في طاعة الله والرسول باطنًا وظاهرًا والذي يطلب الحق باجتهاده كما أمره الله ورسوله وليس للمشركين والنصارى والباطنية والقرامطة والاتحادية والجهمية والأباضية وأهل البدع.(1/452)
.
أما قول السائل هل ذلك من باب تكليف ما لا يطاق؟ يقول بعد كلام: الصواب الذي عليه محققوا المتكلمين وأهل الفقه والحديث والتصوف وغيرهم ما دل عليه القرآن وهو أن الاستطاعة التي هى مناط الأمر والنهي وهى المصححة للفعل لا يجب أن تقارن الفعل، وأما الاستطاعة التي يجب معها وجود الفعل فهى مقارنة له. فالأولى كقوله تعالى: { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } (1)، وقول النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لعمران بن حصين: «صلِّ قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا فإن لم تستطع فعلي جنب» ومعلوم أن الحج والصلاة يجب على المستطيع سواء فعل أم لم يفعل، فعلم أن هذه الاستطاعة لا يجب أن تكون مع الفعل. والثانية كقوله تعالى: { مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ } (2)، وقوله - عز وجل -: { وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا - الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا } (3) على قول من يفسر الاستطاعة بهذه، وأما على تفسير السلف والجمهور فالمراد بعدم الاستطاعة مشقة ذلك عليهم وصعوبته على نفوسهم ونفوسهم لا تستطيع إرادته وإن كانوا قادرين على فعله لو أرادوه وهذه حال من صده هواه أو رأيه الفاسد عن استماع كتب الله المنزلة واتباعها وقد أخبر أنه لا يستطيع ذلك وهذه الاستطاعة هى المقارنة للفعل الموجبة له وأما الأولي فلولا وجودها لم يثبت التكليف كقوله - عز وجل -: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } (4)، وقوله - عز وجل -: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } (5) وأمثال ذلك فهؤلاء المفرطون والمعتدون في أصول الدين إذا لم
__________
(1) آل عمران، آية: 97.
(2) هود، آية: 20.
(3) الكهف، الآيتان: 100-101.
(4) التغابن، آية: 16.
(5) الأعراف، آية: 42.(1/453)
يستطيعوا سمع ما أنزل الله إلى الرسول فهم من هذا القسم، وكذلك أيضًا تنازعهم في المأمور به الذي علم الله أنه لا يكون أو أخبر مع ذلك أنه لا يكون فمن الناس من يقول أن هذا غير مقدور عليه كما أن غالية القدرية يمنعون أن يتقدم علم الله وخبره وكتابه بأنه لا يكون وذلك لاتفاق الفريقين على أن خلاف المعلوم لا يكون ممكنًا ولا مقدروا عليه وقد خالفهم في ذلك جمهور الناس وقالوا هذا منقوض عليهم بقدرة الله تعالى فإنه أخبر بقدرته على أشياء مع أنه لا يفعلها كقوله - عز وجل - { بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ } ، وقوله - عز وجل -: { وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } .(1/454)
إلى أن يقول: إن الله يعلمه على ما هو عليه فيعلمه ممكنًا مقدورًا للعبد غير واقع ولا كائن لعدم إرادة العبد له أو لبغضه إياه ونحو ذلك لا لعجزه عنه وهذا النزاع يزول بتنوع القدرة عليه كما تقدم. فإنه غير مقدور القدرة المقارنة للفعل وإن كان مقدورًا القدرة المصححة للفعل التي هى مناط الأمر والنهي. إلى أن يقول: أما العاجز عن الفعل لا يطيقه كما لا يطيق الأعمى والأقطع والزمن نقط المصحف. فقد اتفقوا على أنه غير واقع في الشريعة وإنما تنازعوا في جواز الأمر به عقلاً. إلى أن يقول: وأما قول السائل وما الحكمة في أنه لم يوجد فيه من الشارع نص يعصم من الوقوع في المهالك وقد كان حريصًا على هدي أمته. فنقول: هذا السؤال مبني على الأصل الفاسد المتقدم المركب من الإعراض عن الكتاب والسنة وطلب الهدي في مقالات المختلفين المتقابلين بالنفي والإثبات للعبارات المجملات المشتبهات الذين قال الله فيهم: { وإنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } (1)، وقال تعالى: { وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا } (2)، قال تعالى: { وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } (3)، وقال تعالى: { فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } (4) وقد تقدم التنبيه على منشأ الضلال في هذا السؤال وأمثاله وما في ذلك من العبارات المتشابهات المجملات المبتدعات سواء كان المحدث هو اللفظ ودلالته أو كان المحدث هو استعمال ذلك اللفظ في ذلك المعنى كلفظ أصول الدين حيث أدخل فيه كل قوم من المسائل والدلائل ما ظنوه هم من أصول دينهم وإن لم يكن من أصول الدين الذي بعث الله به رسوله وأنزل به كتبه كما ذكرنا وأنه
__________
(1) البقرة، آية: 176.
(2) يونس، آية: 19.
(3) آل عمران، آية: 19 .
(4) المؤمنون، آية: 53.(1/455)
إذا منع إطلاق هذه المجملات المحدثات في النفي والإثبات ووقع الاستفسار والتفصيل تبين سواء السبيل، وبذلك تبين أن الشارع - صلى الله عليه وسلم - نص على كل ما يعصم من المهالك نصًا قاطعًا للعذر فقال تعالى: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ } (1)، وقال تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإسْلاَمَ دِينًا } (2)، وقال تعالى: { لئلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } (3)، وقال تعالى: { وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ } (4)، وقال تعالى: { قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ - يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ } (5)، وقال أبو ذر: «لقد توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما طائر يقلب جناحيه إلا ذكر لنا منه علمًا» وفي ”صحيح مسلم“ أن بعض المشركين قالوا لسلمان لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخرأة قال أجل وقال - صلى الله عليه وسلم - «تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك» (6). إلى أن يقول: وهذه الجملة يعلم تفصيلها بالبحث والنظر والتتبع والاستقراء والطلب لعلم هذه المسائل في الكتاب والسنة فمن طلب ذلك وجد في الكتاب والسنة من النصوص القاطعة للعذر في هذه المسائل ما فيه غاية الهدي والبيان والشفاء. إلى أن يقول: ولهذا كان سلف الأمة وأئمتها يجعلون كلام الله ورسوله هو
__________
(1) التوبة، آية: 115.
(2) المائدة، آية: 3.
(3) النساء، آية: 165.
(4) النور، آية: 54.
(5) المائدة، آية: 15.
(6) لم يخص ذلك بالمعاند دون الضال والشاك والمقلد لأن الحجة قد قامت به - صلى الله عليه وسلم - وهي قائمة أبدًا حتي يأتي أمر الله أو تقوم الساعة وطائفة من أمته تقوم علي الحق وتظهر به.(1/456)
الإمام والفرقان الذي يجب اتباعه فيثبتون ما أثبته الله ورسوله وينفون ما نفاه الله ورسوله.
إلى أن يقول: وأما المختلفون في الكتاب المخالفون له والمتفقون على مفارقته فتجعل كل طائفة ما أصلته من أصول دينها الذي ابتدعته هو الإمام الذي يجب اتباعه وتجعل ما خالف ذلك من نصوص الكتاب والسنة من المجملات المتشابهات التي لا يجوز اتباعها بل يتعين حملها على ما وافق أصلهم الذي ابتدعوه والإعراض عنها وترك التدبر وهذان الصنفان يشبهان ما ذكره الله في قوله - عز وجل -: { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } إلى قوله - عز وجل - { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ - فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ } (1) فإنَّ الله ذمَّ الذين يحرفون الكلم عن مواضعه وهو متناول لمن حمل الكتاب والسنة على ما أصَّلَه من البدع الباطلة وذمَّ الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني وهو متناول لمن ترك تدبر القرآن ولم يعلم إلا مجرد تلاوة وحروف». أهـ.
التأويل وأنواعه: أو لفظ التأويل ومعانيه:
يطلق لفظ التأويل ويراد به:
فهم مراد الله فيما خاطبه به وإدراك ما يؤول إليه المعنى وهو حسن.
مطلق التفسير.
ما كان الظاهر فيه غير مراد لدليل قوي واضح يدل عليه فهذا من باب البيان أو التعارض والترجيح.
تأويل التحريف وتبديل المعنى عافانا الله منه.
__________
(1) البقرة، آيات: 75-79.(1/457)
يقول الإمام ابن تيمية - رضي الله عنه - في ذلك(1): «”الوجه السادس عشر“: أن يقال غاية ما ينتهي إليه هؤلاء المعارضون لكلام الله ورسوله بآرائهم من المشهورين بالإسلام هو التأويل أو التفويض فأما الذين ينتهون إلى أن يقولوا الأنبياء أوهموا وخيلوا ما لا حقيقة له في نفس الأمر فهؤلاء معروفون عند المسلمين بالإلحاد والزندقة، والتأويل المقبول هو ما دل على مراد المتكلم والتأويلات التي يذكرونها لا يُعلم أن الرسول أرادها بل يعلم بالاضطرار في عامة النصوص أن المراد منها نقيض ما قالوه كما يعلم مثل ذلك في تأويلات القرامطة والباطنية من غير أن يحتاج ذلك إلى دليل خاص وحينئذ فالمتأول إن لم يكن مقصوده معرفة مراد المتكلم كان تأويله للفظ بما يحتمله من حيث الجملة في كلام من تكلم بمثله من العرب هو من باب التحريف والإلحاد لا من باب التفسير وبيان المراد وأما التفويض فمن المعلوم أن الله تعالى أمرنا أن نتدبر القرآن وحضنا على عقله وفهمه فكيف يجوز مع ذلك أن يراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله وأيضًا فالخطاب الذي أريد به هدانا والبيان لنا وإخراجنا من الظلمات إلى النور إذا كان ما ذكر فيه من النصوص ظاهره باطل وكفر ولم يرد منا أن نعرف لا ظاهره ولا باطنه أو أريد منا أن نعرف باطنه من غير بيان في الخطاب لذلك فعلي التقديرين لم نخاطب بما بين فيه الحق ولا عرَّفنا أن مدلول هذا الخطاب باطل وكفر وحقيقة قول هؤلاء في المخاطب لنا أنه لم يبين الحق ولا أوضحه مع أمره لنا أن نعتقده وأن ما خاطبنا به وأمرنا باتباعه والرد إليه لم يبين به الحق ولا كشفه بل دلَّ ظاهره على الكفر والباطل وأراد منا ألا نفهم منه شيئًا أو أن نفهم منه ما لا دليل عليه فيه وهذا كله مما يعلم بالاضطرار تنزيه الله ورسوله عنه وأنه من جنس أقوال أهل التحريف والإلحاد وبهذا احتج الملاحدة كابن سينا وغيره على مثبتي المعاد
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل، ج1 ، ص 115.(1/458)
وقالوا القول في نصوص المعاد كالقول في نصوص التشبيه والتجسيم وزعموا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يبين ما الأمر عليه في نفسه لا في العلم بالله تعالى ولا باليوم الآخر فكان الذي استطال به على هؤلاء هو موافقتهم له على نفي الصفات وإلا فلوا آمنوا بالكتاب كله حق الإيمان لبطلت معارضته ولادحضت حجتهم ولهذا كان ابن النفيس المتطبب الفاضل يقول ليس إلا مذهبان مذهب أهل الحديث أو مذهب الفلاسفة فأما هؤلاء المتكلمون فقولهم ظاهر التناقض والاختلاف، يعنى أهل الحديث أثبتوا كل ما جاء به الرسول وأولئك جعلوا الجميع تخييلاً وتوهيمًا ومعلوم بالأدلة الكثيرة السمعية والعقلية فساد مذهب هؤلاء الملاحدة فتعين أن يكون الحق مذهب السلف أهل الحديث والسنة والجماعة ثم إن ابن سينا وأمثاله من الباطنية المتفلسفة والقرامطة يقولون أنه أراد من المخاطبين أن يفهموا الأمر على خلاف ما هو عليه وأن يعتقدوا ما لا حقيقة له في الخارج لما في هذا التخييل والاعتقاد الفاسد لهم من المصلحة والجهمية والمعتزلة وأمثالهم يقولون أنه أراد أن يعتقدوا الحق على ما هو عليه مع علمهم بأنه لم يبين ذلك في الكتاب والسنة بل النصوص تدل على نقيض ذلك فأولئك يقولون أراد منهم اعتقاد الباطل وأمرهم به وهؤلاء يقولون أراد اعتقاد ما لم يدلهم إلا على نقيضه والمؤمن يعلم بالاضطرار أن كلا القولين باطل ولابد للنفاة أهل التأويل من هذا أو هذا وإذا كان كلاهما باطلاً كان تأويل النفاة للنصوص باطلاً فيكون نقيضه حقًا وهو إقرار الأدلة الشرعية على مدلولاتها ومن خرج عن ذلك لزمه من الفساد ما لا يقوله إلا أهل الإلحاد وما ذكرناه من لوازم قول أهل التفويض هو لازم لقولهم الظاهر المعروف بينهم إذ قالوا أن الرسول كان يعلم معاني هذه النصوص المشكلة المتشابهة ولكن لم يبين للناس مراده بها ولا أوضحه إيضاحًا يقطع به النزاع وأما على قول أكابرهم أن معاني هذه النصوص المشكلة المتشابهة(1/459)
لا يعلمه إلا الله وأن معناها الذي أراده الله بها هو ما يوجب صرفها عن ظواهرها فعلي قول هؤلاء يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص ولا الملائكة ولا السابقون الأولون وحينئذ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه بل يقولون كلامًا لا يعقلون معناه وكذلك نصوص المثبتين للقدر عند طائفة والنصوص المثبتة للأمر والنهي والوعد والوعيد عند طائفة والنصوص المثبتة للمعاد عند طائفة ومعلوم أن هذا قدح في القرآن والأنبياء إذ كان الله أنزل القرآن وأخبر أنه جعله هدى وبيانًا للناس وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين وأن يبين للناس ما نزِّل إليهم وأمر بتدبر القرآن وعقله ومع هذا فأشرف ما فيه وهو ما أخبر به الربُّ عن صفاته أو عن كونه خالقًا لكل شيء وهو بكل شيء عليم أو عن كونه أمر ونهي ووعد وتوعد أو عما أخبر به عن اليوم الآخر لا يعلم أحدًا معناه فلا يعقل ولا يتدبر ولا يكون الرسول بين للناس ما نزل إليهم ولا بلغ البلاغ المبين وعلي هذا التقدير فيقول كل ملحد ومبتدع الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي وعقلي وليس في النصوص ما يناقض ذلك لأن تلك النصوص مشكلة متشابهة ولا يعلم أحد معناها وما لا يعلم أحد معناه لا يجوز أن يستدل به فيبقى هذا الكلام سدًا لباب الهدي والبيان من جهة الأنبياء وفتحًا لباب من يعارضهم ويقول أن الهدى والبيان في طريقنا لا في طريق الأنبياء لأنا نحن نعلم ما نقول ونبينه بالأدلة العقلية والأنبياء لم يعلموا ما يقولون فضلاً عن أن يبينوا مرادهم فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد فإن قيل أنتم تعلمون أن كثيرًا من السلف رووا أن الوقف عند قوله - عز وجل -: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ } (1) بل كثيرٌ من الناس يقول هذا مذهب السلف
__________
(1) آل عمران، آية: 7 .(1/460)
ونقلوا هذا القول عن أبيّ بن كعب وابن مسعود وعائشة وابن عباس وعروة بن الزبير وغير واحد من السلف والخلف وإنْ كان القول الآخر وهو أن السلف يعلمون تأويله منقولاً عن ابن عباس أيضًا وهو قول مجاهد ومحمد بن جعفر وابن إسحق وابن قتيبة وغيرهم وما ذكرتموه قدح في أولئك السلف وأتباعهم قيل ليس الأمر كذلك فإن أولئك السلف الذين قالوا لا يعلم تأويله إلا الله كانوا يتكلمون بلغتهم المعروفة بينهم ولم يكن لفظ التأويل عندهم يراد به معنى التأويل الاصطلاحي الخاص وهو صرف اللفظ عن المعنى المدلول عليه المفهوم منه إلى معنى يخالف ذلك فإن تسمية هذا المعنى وحده تأويلا إنما هو اصطلاح طائفة من المتأخرين من الفقهاء والمتكلمين وغيرهم ليس هو عرف السلف من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم لاسيما ومن يقول إن لفظ التأويل هذا معناه يقول أنه يحمل اللفظ على المعنى المرجوح لدليل يقترن به ـ وهؤلاء يقولون هذا المعنى المرجوح لا يعلمه أحد من الخلق والمعنى الراجح لم يرده الله ـ وإنما كان لفظ التأويل في عرف السلف يراد به ما أراده الله بلفظ التأويل في مثل قوله تعالى: { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } (1)، وقال تعالى: { ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } (2)، وقال يوسف { يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ } (3)، وقال يعقوب له: { وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ } (4)، { وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَاِدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ } (5)، وقال يوسف: { لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ } (6)
__________
(1) الاعراف، آية: 53.
(2) النساء، آية: 59.
(3) يوسف، آية: 100.
(4) يوسف، آية: 6.
(5) يوسف، آية: 45.
(6) يوسف، آية: 37.(1/461)
فتأويل الكلام الطلبي للأمر والنهي هو نفس فعل المأمور به وترك المنهي عنه، كما قال سفيان بن عيينة: ”السنَّة تأويل الأمر والنهي“، وقالت عائشة: ”كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في ركوعه وسجوده:« سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن»، وقيل لعروة بن الزبير فما بال عائشة كانت تصلي في السفر أربعًا قال تأولت كما تأول عثمان ونظائره متعددة، وأما تأويل ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر فهو نفس الحقيقة التي أخبر عنها وذلك في حق الله هو كنه ذاته وصفاته التي لا يعلمها غيره ولهذا قال مالك وربيعة وغيرهما الاستواء معلوم والكيف مجهول وكذلك قال ابن الماجشون وأحمد بن حنبل وغيرهما من السلف يقولون إنَّا لا نعلم كيفية ما أخبر الله به عن نفسه وإن علمنا تفسيره ومعناه ولهذا ردَّ أحمد بن حنبل على الجهمية والزنادقة فيما طعنوا فيه من متشابه القرآن وتأولوه على غير تأويله فردَّ على من حمله على غير ما أريد به وفسر هو جميع الآيات المتشابهة وبيَّن المراد به وكذلك الصحابة والتابعون فسروا جميع القرآن وكانوا يقولون أن العلماء يعلمون تفسيره وما أريد به وإن لم يعلموا كيفية ما أخبر الله به عن نفسه وكذلك لا يعلمون كيفيات الغيب فإن ما أعده الله لأوليائه من النعيم لا عينٌ رأته ولا أذنٌ سمعته ولا خطر على قلب بشر. فذاك الذي أخبر به لا يعلمه إلا الله بهذا المعنى فهذا حق وأما من قال أن التأويل الذي هو تفسيره وبيان المراد به لا يعلمه إلا الله فهذا ينازعه فيه عامة الصحابة والتابعين الذين فسروا القرآن كله وقالوا إنهم يعلمون معناه كما قال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته أقف عند كل آية وأسأله عنها. وقال ابن مسعود ما في كتاب الله آية إلا وأنا أعلم فيما أنزلت وقال الحسن البصري ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يُعلم ما أراد بها ولهذا كانوا يجعلون القرآن يحيط بكل ما يطلب من علم(1/462)
الدِّين كما قال مسروق ما نسأل أصحاب محمد عن شيء إلا وعلمه في القرآن ولكن علمنا قصر عنه وقال الشعبي ما ابتدع قومٌ بدعة إلا في كتاب الله بيانها وأمثال ذلك من الآثار الكثيرة المذكورة بالأسانيد الثابتة». أهـ.
وخلاصة ما مرَّ من النقول:
أن التأويل إذا لم يكن على المعانى الثلاثة(1) الأولي وهى:
فهم مراد الله فيما خاطبهم به وإدراك ما يؤول إليه المعنى مثل تفسير عبد الله بن عباس رضى الله عنهما لسورة النصر.
مطلق التفسير بالقول أو العمل مثل قول السيدة عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها: ”كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في ركوعه وسجوده «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي» يتأول القرآن“.
التأويل الاصطلاحي وحمل اللفظ على المعنى المرجوح لدليل يقترن به من الشرع وهو نوع من البيان.
وكان التأويل لمعارضته النصوص أو الإعراض عنها فهو التأويل المحرم وأصحابه مذمومون معاقبون مبتدعون ضالون غير مثابين ولا مأجورين ولا مغفور لهم خطؤهم.
ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن هؤلاء الذين عارضوا النصوص أو أعرضوا عنها بالتأويل أو التفويض أنهم شرٌّ من الخوارج يقول في ذلك(2): «معلوم أن الخوارج هم مبتدعة مارقون كما ثبت بالنصوص المستفيضة عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وإجماع الصحابة ذمهم والطعن عليهم وهم إنما تأولوا آيات من القرآن على ما اعتقدوه وجعلوا من خالف ذلك كافرًا لاعتقادهم أنه خالف القرآن فمن ابتدع أقوالا ليس لها أصل في القرآن وجعل من خالفها كافرًا كان قوله شرًا من قول الخوارج ولهذا اتفق السلف والأئمة على أن قول الجهمية شرٌّ من قول الخوارج». أهـ.
__________
(1) هناك معني رابع لكلمة التأويل وهو: مطابقة المُخْبَر عنه بالغيب للخبر عند الوقوع أو المعاينة ”يوم يأتي تأويله“ الآية، وهو وجه في تفسير قوله تعالي ”وما يعلم تأويله إلا الله..“ الآية.
(2) درء تعارض العقل والنقل، ج1 ، ص 165.(1/463)
وقد سبق نقل كلام شيخ الإسلام عن هذا التأويل المحرم قبل ذلك والذي هو الزيغ الذي أخبر الله عنه في سورة آل عمران يقول(1): «يضع كل فريق لأنفسهم قانونًا فيما جاءت به الأنبياء عن الله فيجعلون الأصل الذي يعتمدونه ويعتقدونه هو ما ظنوا أن عقولهم عرفته ويجعلون ما جاءت به الأنبياء تبعًا فما وافق قانونهم قبلوه وما خالفه لم يتبعوه وهذا يشبه ما وضعته النصارى من أمانتهم التي جعلوها عقيدة إيمانهم وردوا نصوص التوراة والإنجيل إليها لكن تلك الأمانة التي اعتمدوا فيها على ما فهموه من نصوص الأنبياء أو ما بلغهم عنهم وغلطوا في الفهم أو في تصديق الناقل كسائر الغالطين ممن يحتج بالسمعيات فإن غلطه إما في الإسناد، وإما في المتن. وأما هؤلاء فوضعوا قوانينهم على ما رأوه بعقولهم وقد غلطوا في الرأي والعقل فالنصارى أقرب إلى تعظيم الأنبياء والرسل من هؤلاء لكن النصارى يشبههم من ابتدع بدعة بفهمه الفاسد من النصوص أو بتصديقه النقل الكاذب عن الرسول كالخوارج والوعيدية والمرجئة والإمامية وغيرهم بخلاف بدعة الجهمية والفلاسفة فإنها مبنية على ما يقرون هم بأنه مخالف للمعروف من كلام الأنبياء وأولئك يظنون أن ما ابتدعوه هو المعروف من كلام الأنبياء وأنه صحيح عندهم». أهـ.
__________
(1) المصدر السابق، ج1 ، ص 3 .(1/464)
ويقول(1): «والأصل في هذا الباب أن الألفاظ نوعان مذكور في كتاب الله وسنة رسوله وكلام أهل الإجماع فهذا يجب اعتبار معناه وتعليق الحكم به فإن كان المذكور به مدحًا استحق صاحبه المدح وإن كان ذمًا استحق الذم وإن أثبت شيئًا وجب إثباته وإن نفي شيئًا وجب نفيه لأن كلام الله حق وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - حق وكلام أهل الإجماع حق وهذا كقوله تعالى: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ - اللَّهُ الصَّمَدُ - لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ - وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } (2)، وقوله تعالى: { هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ - هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ... } (3) ونحو ذلك من أسماء الله وصفاته، وكذلك قوله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } (4)، وقوله تعالى: { لاَ تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ } (5)، وقوله تعالى: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ - إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } (6) وأمثال ذلك مما ذكره الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فهذا كله حق، ومن دخل في اسم مذموم في الشرع كان مذمومًا كاسم الكافر والمنافق والملحد ونحو ذلك، ومن دخل في اسم محمود في الشرع كان محمودًا كاسم المؤمن والتقي والصديق ونحو ذلك. وأما الألفاظ التي ليس لها أصل في الشرع فتلك لا يجوز تعليق المدح والذم والإثبات والنفي على معناها إلا أن يبين أنه يوافق الشرع، والألفاظ التي تعارض بها النصوص هى من هذا الضرب كلفظ الجسم والحيز والجهة والجوهر والعرض، فمن كانت معارضته بمثل هذه الألفاظ لم يجز له أن يُكفِّر مخالفه إن لم يكن قوله مما بين الشرع أنه كفر، لأن الكفر حكم شرعي متلقي عن صاحب
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل، ج1، ص 143، بهامش منهاج السنة.
(2) سورة الصمد.
(3) الحشر، الآيتان: 22- 23.
(4) الشوري، آية: 11.
(5) الانعام، آية: 103.
(6) القيامة، الآيتان: 22-23.(1/465)
الشريعة، والعقل قد يُعلم به صواب القول وخطؤه وليس كل ما كان خطأ في العقل يكون كفرًا في الشرع كما أنه ليس كل ما كان صوابًا في العقل تجب في الشرع معرفته. ومن العجب قول من يقول من أهل الكلام أن أصول الدين التي يكفر مخالفها هى علم الكلام الذي يعرف بمجرد العقل، وأما ما لا يعرف بمجرد العقل فهى الشرعيات عندهم. وهذه طريقة المعتزلة والجهمية ومن سلك سبيلهم كأتباع صاحب الإرشاد وأمثالهم فيقال لهم هذا الكلام تضمن شيئين: أحدهما: أن أصول الدين هى التي تعرف بالعقل المحض دون الشرع، والثاني: أن المخالف لها كافر. وكل من المقدمتين وإن كانت باطلة فالجمع بينهما متناقض، وذلك أن ما لا يعرف إلا بالعقل لا يعلم أن مخالفه كافر الكفر الشرعي، فإنه ليس في الشرع أن من خالف ما لا يعلم إلا بالعقل يكفر، وإنما الكفر يكون بتكذيب الرسول فيما أخبر به أو الامتناع عن متابعته مع العلم بصدقه مثل كفر فرعون واليهود ونحوهم.(1/466)
وفي الجملة فالكفر متعلق بما جاء به الرسول وهذا ظاهر على قول من لا يوجب شيئًا ولا يحرمه إلا بالشرع، فإنه لو قدر عدم الرسالة لم يكن كفر محرم ولا إيمان واجب عندهم، ومن أثبت ذلك بالعقل فإنه لاينازع أنه بعد مجئ الرسول تعلق الكفر والإيمان بما جاء به لا بمجرد ما يعلم بالعقل، فكيف يجوز أن يكون الكفر بأمور لا تعلم إلا بالعقل إلا أن يدل الشرع على أن تلك الأمور التي لا تعلم إلا بالعقل كفر، فيكون حكم الشرع مقبولا لكن معلوم أن هذا لا يوجد في الشرع، بل الموجود في الشرع تعليق الكفر بما يتعلق به الإيمان وكلاهما متعلق بالكتاب والرسالة، فلا إيمان مع تكذيب الرسول ومعاداته، ولا كفر مع تصديقه وطاعته. ومن تدبر هذا رأي أهل البدع من النفاة يعتمدون على مثل هذا فيبتدعون بدعًا بآرائهم ليس فيها كتاب ولا سنة، ثم يكفرون من خالفهم فيما ابتدعوه، وهذا حال من كفر الناس بما أثبتوه من الأسماء والصفات التي يسميها هو تركيبًا وتجسيمًا وإثباتًا لحلول الصفات والأعراض به ونحو ذلك من الأقوال التي ابتدعتها الجهمية والمعتزلة، ثم كفروا من خالفهم فيها. والخوارج الذين تأولوا آيات من القرآن وكفَّروا مَنْ خالفهم فيها أحسن حالاً من هؤلاء، فإن أولئك علقوا الكفر بالكتاب والسنة لكن غلطوا في فهم النصوص، وهؤلاء علقوا الكفر بكلام ما أنزل الله به من سلطان، ولهذا كان ذم السلف للجهمية من أعظم الذم حتى قال عبد الله بن المبارك: إنَّا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية، بل الحق أنه لو قُدِّر أن بعض الناس غلط في معان دقيقة لا تعلم إلا بنظر العقل وليس فيها بيان في النصوص والإجماع لم يجز لأحد أن يكفر مثل هذا ولا يفسقه، بخلاف من نفي ما أثبتته النصوص الظاهرة المتواترة فهذا أحق بالتكفير إن كان المخطئ في هذا الباب كافرًا.(1/467)
إلى أن يقول: وكل قول لم يرد لفظه ولا معناه في الكتاب والسنة وكلام سلف الأمة، فإنه لا يدخل في الأدلة السمعية ولا تعلق للسنة والبدعة بموافقته ومخالفته فضلاً عن أن يعلق بذلك كفر وإيمان، وإنما السنة موافقة الأدلة الشرعية والبدعة مخالفتها، وقد يقال عما لم يعلم أنه موافق لها أو مخالف أنه بدعة إذ الأصل أنه غير مشروع فقد تذرع إلى البدعة، وإن كان ذلك العمل تبين له فيما بعد أنه مشروع وكذلك من قال في الدين قولاً بلا دليل شرعي، فإنه تذرع إلى البدعة وإن تبين له فيما بعد موافقته للسنة. والمقصود هنا أن الأقوال التي ليس لها أصل في الكتاب والسنة والإجماع كأقوال النفاة التي يقولها الجهمية والمعتزلة وغيرهم وقد يدخل فيها ما هو حق وباطل هم يصفون بها أهل الإثبات للصفات الثابتة بالنص فإنهم يقولون: كل من قال أن القرآن غير مخلوق أو أن الله يرى في الآخرة أو أنه فوق العالم فإنه مجسم مشبه حشوي، وهذه الثلاثة مما اتفق عليها سلف الأمة وأئمتها وحكي إجماع أهل السنة عليها غير واحد من الأئمة والعالمين بأقوال السلف مثل أحمد بن حنبل وعلى بن المدينى وإسحق بن إبراهيم وداود بن على وعثمان بن سعيد الدارمى ومحمد بن إسحق بن خزيمة وأمثال هؤلاء». أهـ.
ويقول(1): «فإن ما خالف النصوص فهو بدعة باتفاق المسلمين وما لم يعلم أنه خالفها فقد لا يسمي بدعة قال الشافعي - رضي الله عنه -: البدعة بدعتان: بدعة خالفت كتابًا أو سنة أو إجماعًا أو أثرًا عن بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذه بدعة ضلالة، وبدعة لم تخالف شيئًا من ذلك، فهذه قد تكون حسنة لقول عمر نعمت البدعة هذه وهذا الكلام أو نحوه رواه البيهقي بإسناده الصحيح في المدخل». أهـ.
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل،ج1، ص 148.(1/468)
ويقول(1): «وهؤلاء الذين يعارضون الكتاب والسنَّة بأقوالهم بنوا أمرهم على أصل فاسد وهو أنهم جعلوا قول الله ورسوله من المجمل الذي لا يستفاد منه علم ولا هدى، فجعلوا المتشابه من كلامهم هو المحكم والمحكم من كلام الله ورسوله هو المتشابه، كما يجعل الجهمية من المتفلسفة والمعتزلة ونحوهم ما أحدثوه من الأقوال التي نفوا بها صفات الله ونفوا بها رؤيته في الآخرة وعلوه على خلقه وكون القرآن كلامه ونحو ذلك وجعلوا تلك الأقوال محكمة، وجعلوا قول الله ورسوله مؤولاً عليها أو مردودًا أو غير ملتفت إليه ولا متلقى الهدى منه». أهـ.
__________
(1) المصدر السابق، ج1 ، ص164.(1/469)
ويقول(1): «المقصود هنا أن الأئمة الكبار كانوا يمنعون من إطلاق الألفاظ المبتدعة المجملة المشتبهة، لما فيها من لبس الحق بالباطل مع ما توقعه من الاشتباه والاختلاف والفتنة، بخلاف الألفاظ المأثورة والألفاظ التي بينت معانيها، فإن ما كان مأثورًا حصلت به الألفة وما كان معروفًا حصلت به المعرفة، كما يروي عن مالك أنه قال إذا قلَّ العلم ظهر الجفاء وإذا قلت الآثار كثرت الأهواء، فإذا لم يكن اللفظ منقولاً ولا معناه معقولاً ظهر الجفاء والأهواء، ولهذا تجد قومًا كثيرين يحبون قومًا ويبغضون قومًا لأجل أهواء لا يعرفون معناها ولا دليلها، بل يوالون على إطلاقها أو يعادون من غير أن تكون منقولة نقلاً صحيحًا عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وسلف الأمة، ومن غير أن يكونوا هم يعقلون معناها ولا يعرفون لازمها ومقتضاها وسبب هذا إطلاق أقوال ليست منصوصة وجعلها مذاهب يدعي إليها ويوالي ويعادي عليها. وقد ثبت في الصحيح أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في خطبته «إن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» فدين المسلمين مبني على اتباع كتاب الله وسنة رسوله، وما اتفقت عليه الأمة فهذه الثلاثة هى أصول معصومة وما تنازعت فيه الأمة ردوه إلى الله والرسول وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصًا يدعو إلى طريقته ويوالي عليها ويعادي غير النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ولا ينصب لهم كلامًا يوالي عليه ويعادي غير كلام الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وما اجتمعت عليه الأمة بل هذا من فعل أهل البدع». انتهى.
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل، ج1، ص 162.(1/470)
ويقول عن أهل التأويل والتفويض(1): «وفي الحديث المأثور عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «أن أخوف ما أخاف عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الفتن» وهؤلاء المعرضون عن الطريقة النبوية السلفية يجتمع فيهم هذا وهذا اتباع شهوات الغي ومضلات الفتن فيكون فيهم من الضلال والغي بقدر ما خرجوا عن الطريق الذي بعث الله به رسوله، ولهذا أمرنا الله أن نقول في كل صلاة: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ - صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } (2)، وقد صحّ عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون»، وكان يقول: «احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون». إلى أن يقول: وذلك لأن الهدى هو فيما بعث الله به رسوله فمن أعرض عنه لم يكن مهتديًا، فكيف بمن عارضه بما يناقضه وقدم مناقضه عليه قال تعالى لما أهبط آدم: { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى - وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى - قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا - قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى } (3) قال ابن عباس رضى الله عنهما: ”تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقي في الآخرة“ ثم قرأ هذه الآية. وقوله تعالى: { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي } (4) يتناول الذكر الذي أنزله وهو الهدي الذي جاءت به الرسل، كما قال تعالى في آخر الكلام: { كَذَلِكَ أَتَتْكَ
__________
(1) المصدر السابق، ج1، ص 92.
(2) الفاتحة، الآيتان: 6- 7.
(3) طه، آيات: 122- 126.
(4) طه، آية: 123.(1/471)
آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا } (1) أي تركت اتباعها والعمل بما فيها، فمن طلب الهدى بغير القرآن ضل ومن اعتز بغير الله ذل، قال تعالى: { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } (2)، وقال - عز وجل -: { وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } (3)، وفي حديث علىّ - رضي الله عنه - الذي رواه الترمذي ورواه أبو نعيم من عدة طرق عن علىّ عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لما قال:« إنها ستكون فتنة قلت فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال كتابُ الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم وهو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبَّار قصمه الله ومن ابتغي الهدي في غيره أضله الله وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسن ولا يخلق عن كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه ولا تشبع منه العلماء من قال به صدق ومن عمل به أجر ومن حكم به عدل ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم» وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا التنبيه على أنه لو سُوِّغ للناظرين أن يعرضوا عن كتاب الله تعالى ويعارضوه بآرائهم ومعقولاتهم لم يكن هناك أمر مضبوط يحصل لهم به علم ولا هدى.
__________
(1) طه، آية: 126.
(2) الاعراف، آية: 3.
(3) الأنعام، آية: 153.(1/472)
إلى أن يقول(1): «فإذا كان فحول النظر وأساطين الفلسفة الذين بلغوا في الذكاء والنظر إلى الغاية وهم ليلهم ونهارهم يكدحون في معرفة هذه العقليات ثم لم يصلوا فيها إلى معقول صريح يناقض الكتاب، بل إما إلى حيرة وارتياب، وإما إلى اختلاف بين الأحزاب فكيف غير هؤلاء ممن لم يبلغ مبلغهم في الذهن والذكاء ومعرفة ما سلكوه من العقليات، فهذا وأمثاله مما يبين أن من أعرض عن الكتاب وعارضه بما يناقضه لم يعارضه إلا بما هو جهل بسيط أو جهل مركب فالأول: { كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } (2)، والثاني: { كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } (3)، وأصحاب القرآن والإيمان في نور على نور قال تعالى: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ - صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ } (4)، وقال تعالى: { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ... } (5) إلى آخر الآية. وقال تعالى: { فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل، ج1، ص 94.
(2) النور، آية: 39.
(3) النور، آية: 40.
(4) الشوري، الآيتان: 52-53.
(5) النور، آية: 35.(1/473)
الْمُفْلِحُونَ } (1) فأهل الجهل البسيط منهم أهل الشك والحيرة من هؤلاء المعارضين للكتاب المعرضين عنه وأهل الجهل المركب أرباب الاعتقادات الباطلة التي يزعمون أنها عقليات». أهـ.
ويقول(2): «ونحن نقول لا يجوز أن يتعارض دليلان قطعيان لا عقليان ولا سمعيان ولا سمعي وعقلي، ولكن قد ظنَّ مَنْ لم يفهم حقيقة القولين تعارضهما لعدم فهمه لفساد أحدهما، فإن قيل نحن نستدل بمخالفة العقل للسمع على أن دلالة السمع المخالفة له باطلة، إما لكذب الناقل عن الرسول أو خطئه في النقل، وإما لعدم دلالة قوله على ما يخالف العقل في محل النزاع. قيل هذا معارض بأن يقال نحن نستدل بمخالفة العقل للسمع على أن دلالة العقل المخالفة له باطلة لبطلان بعض مقدماتها، فإن مقدمات الأدلة العقلية المخالفة للسمع فيها من التطويل والخفاء والاشتباه والاختلاف والاضطراب ما يوجب أن يكون تطرق الفساد إليها أعظم من تطرقه إلى مقدمات الأدلة السمعية، ومما يبين ذلك أن يقال دلالة السمع على مواقع الإجماع مثل دلالته على موارد النزاع، فإن دلالة السمع على علم الله تعالى وقدرته وإرادته وسمعه وبصره كدلالته على رضاه ومحبته وغضبه واستوائه ونحو ذلك، وكذلك دلالته على عموم قدرته ومشيئته كدلالته على عموم علمه. فالأدلة السمعية لم يردها من ردها لضعف فيها وفي مقدماتها لكن لاعتقاده أنها تخالف العقل، بل كثير من الأدلة السمعية التي يردونها تكون أقوي بكثير من الأدلة السمعية التي يقبلونها وذلك لأن تلك لم يقبلوها لكون السمع جاء بها لكن لاعتقادهم أن العقل دل عليها والسمع جعلوه عاضدًا للعقل وحجة على من ينازعهم من المصدقين بالسمع لم يكن هو عمدتهم ولا أصل علمهم كما صرح بذلك أئمة هؤلاء المعارضين لكتاب الله وسنة رسوله بآرائهم، وإذا كان كذلك تبين أن ردهم الأدلة السمعية المعلومة الصحيحة بمجرد مخالفة عقل
__________
(1) الأعراف، آية: 157.
(2) درء تعارض العقل والنقل، ج1، ص 98.(1/474)
الواحد أو الطائفة منهم أو مخالفة ما يسمونه عقلاً لا يجوز إلا أن يبطلوا الأدلة السمعية بالكلية ويقولون أنها لا تدل على شيء وأن إخبار الرسول عما أخبر به لا يفيد التصديق بثبوت ما أخبر به، وحينئذ فما لم يكن دليلاً لا يصل أن يجعل معارضًا.
والكلام هنا إنما هو لمن علم أن الرسول صادق وأن ما أخبر به ثابت، وأن إخباره لنا بالشيء يفيد تصديقنا بثبوت ما أخبر به، فمن كان هذا معلومًا له امتنع أن يجعل العقل مقدمًا على خبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بل يضطره الأمر إلى أن يجعل الرسول يكذب أو يخطئ تارة في الخبريات ويصيب أو يخطئ أخري في الطلبيات، وهذا تكذيب للرسول وإبطال لدلالة السمع وسد لطريق العلم بما أخبر به الأنبياء والمرسلون وتكذيب بالكتاب وبما أرسل الله به تعالى رسله وغايته إن أحسن المقال أن يجعل الرسول مخبرًا بالأمور على خلاف حقائقها لأجل نفع العامة ثم إذا قال ذلك امتنع أن يستدل بخبر الرسول على شيء فعاد الأمر جذعًا لأنه إذا جوَّز على خبر الرسول التلبيس كان كتجويزه عليه الكذب وحينئذ فلا يكون مجرد إخبار الرسول موجبًا للعلم بثبوت ما أخبر به وهذا وإن كان زندقة وكفرًا وإلحادًا فهو باطل في نفسه ـ كما قد بين في غير هذا الموضع ـ فنحن في هذا المقام إنما نخاطب من يتكلم في تعارض الأدلة السمعية والعقلية ممن يدعي حقيقة الإسلام من أهل الكلام الذين يلبسون على أهل الإيمان بالله ورسوله.(1/475)
وأما من أفصح بحقيقة قوله وقال إن كلام الله ورسوله لا يستفاد منه علم بغيب ولا تصديق بحقيقة ما أخبر به ولا معرفة بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله وملائكته وجنته وناره وغير ذلك، فهذا لكلامه مقام آخر، فإن الناس في هذا الباب أنواع منهم من يقر بما جاء به السمع في المعاد دون الأفعال والصفات، ومنهم من يقر بذلك في بعض أمور المعاد دون بعض، ومنهم من يقر بذلك في بعض الصفات والمعاد مطلقًا دون الأفعال وبعض الصفات، ومنهم من لا يقر بحقيقة شيء من ذلك لا في الصفات ولا في المعاد، ومنهم من لا يقر بذلك أيضًا في الأمر والنهي بل يسلك طريق التأويل في الخبر والأمر جميعًا لمعارضة العقل عنده كما فعلت القرامطة الباطنية وهؤلاء أعظم الناس كفرًا وإلحادًا. والمقصود هنا أن من أقر بصحة السمع وأنه علم صحته بالعقل لا يمكنه أن يعارضه بالعقل البتة لأن العقل عنده هو الشاهد بصحة السمع، فإذا شهد مرة أخري بفساده كانت دلالته متناقضة فلا يصلح لإثبات السمع ولا لمعارضته، فإن قال أنا أشهد بصحة ما لم يعارض العقل قيل هذا لا يصح لوجوه: ”أحدها“: إن الدليل العقلي دلَّ على صدق الرسول وثبوت ما أخبر به مطلقًا فلا يجوز أن يكون صدقه مشروطًا بعدم المعارض. ”الثاني“: أنه إن جوزت عليه أن يعارضه العقل الدال على فساده لم تثق بشيء منه لجواز أن يكون في عقل غيرك ما يدل على فساده فلا تكون قد علمت بعقلك صحته البتة وأنت تقول أنك علمت صحته بالعقل. ”الثالث“: أن ما يستخرجه الناس بعقولهم أمرٌ لا غاية له سواء كان حقًا أو باطلاً، فإذا جوَّز المجوز أن يكون في المعقولات ما يناقض خبر الرسول لم يثق بشيء من أخبار الرسول لجواز أن يكون في المعقولات التي لم تظهر له بعد ما يناقض ما أخبر به الرسول، ومن قال أنا أقر من الصفات بما لم ينفه العقل أو أثبت من السمعيات ما لم يخالفه العقل لم يكن لقوله ضابط، فإن تصديقه بالسمع مشروط بعدم جنس لا ضابط له ولا منتهى، وما كان(1/476)
مشروطًا بعدم ما لا ينضبط لم ينضبط فلا يبقى مع هذا الأصل إيمان. ولهذا تجد من تعود معارضة الشرع بالرأي لا يستقر في قلبه الإيمان، بل يكون كما قال الأئمة: أن علماء الكلام زنادقة، وقالوا: قل أحد نظر في الكلام إلا كان في قلبه غل على أهل الإسلام. ومرادهم بأهل الكلام من تكلم في الله بما يخالف الكتاب والسنة، ففي الجملة لا يكون الرجل مؤمنًا حتى يؤمن بالرسول إيمانًا جازمًا ليس مشروطًا بعدم معارض، فمتي قال أؤمن بخبره إلا أن يظهر له معارض يدفع خبره لم يكن مؤمنًا به، فهذا أصل عظيم تجب معرفته فإن هذا الكلام هو ذريعة الإلحاد والنفاق». أهـ.
ثم يقول: «وحينئذ فيجب الإقرار بأن خبر الأنبياء يوجب العلم بثبوت ما أخبروا به. إلى أن يقول: فتبين أن تجويزهم أن يكون في نفس الأمر دليل يناقض السمع يوجب أن لا يكون في نفس الأمر دليل سمعي يعلم به مخبره، وهذا مما يبين به تناقضهم حيث أثبتوا الأدلة السمعية ثم قالوا ما يوجب إبطالها وحيث أثبتوا الأدلة العقلية ثم قالوا ما يوجب تناقضها». أهـ.(1/477)
ويقول(1): «وإن قالوا نحن لا نعلم شيئًا مما دلَّ عليه الشرع من الخبريات أو من غيرها، إلا أن نعلم بالاضطرار أن الرسول أخبر به فيقال لهم على هذا التقدير وكل ما لا يعلم شخص بالاضطرار أن الرسول أخبر به يجب أن ينفيه إذا قام عنده ما يظنه دليلاً عقليًا، فإن قالوا: نعم. لزم أنه يجوز لكل أحد أن يكذب بما لم يضطر إلى أن الرسول أخبر به، وإن كان غيره قد علم بالاضطرار أن الرسول أخبر به وحينئذ فيلزم من ذلك تجويز تكذيب الرسول ونفي الحقائق الثابتة في نفس الأمر والقول بلا علم والقطع بالباطل، وإن قالوا نحن إنما نجوز ذلك إذا قام دليل عقلي قاطع قيل هذا باطل لوجهين: ”أحدهما“: أنه إذا لم يعلم بالاضطرار أنه أخبر به كان على قولكم غير معلوم الثبوت، وحينئذ فإذا قام عنده دلالة ظنية ترجح النفي أخبر بموجبها وإن جوَّز أن يكون غيره يعلم بالاضطرار نقيضها. ”الثاني“ الأدلة القطعية ليست جنسًا متميزًا عن غيره ولا شيئًا اتفق عليه العقلاء، بل كل طائفة من النظار تدعي أن عندها دليلاً قطعيًا على ما تقوله مع أن الطائفة الأخرى تقول أن ذلك الدليل باطل، وأن بطلانه يعلم بالعقل بل قد تقول أنه قد قام عندها دليل قطعي على نقيض تلك، وإذا كانت العقليات ليست متميزة ولا متفقًا عليها وجوز أصحابها فيما لم يعلمه أحدهم بالاضطرار من أخبار الرسول أن يقدمها عليه لزم من ذلك تكذيب كل من هؤلاء بما يعلم غيره بالاضطرار أن الرسول أخبر به. ومعلوم أن العلوم الضرورية أصل للعلوم النظرية، فإذا جوَّز الإنسان أن يكون ما علمه غيره من العلوم الضرورية باطلاً، جوَّز أن تكون العلوم الضرورية باطلة، وإذا بطلت بطلت النظرية فصار قولهم مستلزمًا لبطلان العلوم كلها وهذا مع أنه مستلزم لعدم علمهم بما يقولون، فهو متضمن لتناقضهم ولغاية السفسطة. وإن قالوا ما علمنا بالاضطرار أن الرسول أراده أقررنا به ولم نجوز أن يكون في العقل
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل، ج1، ص 104.(1/478)
ما يناقضه، وما علم غيرنا لم نقر به وجوَّزنا أن يكون في العقل ما يناقضه، أمكن تلك الطائفة أن تعارض بمثل ذلك فيقولون: بل نحن نقر علمنا الضروري ونقدح في علمهم الضروري بنظرياتنا، وأيضًا فمن المعلوم أن من شافهه الرسول بالخطاب يعلم من مراده بالاضطرار ما لا يعلم غيره، وإن من كان أعلم بالأدلة الدالة على مراد المتكلم كان أعلم بمراده من غيره وإن لم يكن نبيًا فكيف بالأنبياء، فإن النحاة أعلم بمراد الخليل وسيبويه من الأطباء، والأطباء أعلم بمراد بقراط وجالينوس من النحاة، والفقهاء أعلم بمراد الأئمة الأربعة وغيرهم من الأطباء والنحاة، وكل من هذه الطوائف يعلم بالاضطرار من مراد أئمة الفن ما لا يظنه غيرهم فضلاً عن أن يعلمه علمًا ضروريًا أو نظريًا، وإذا كان كذلك فمن له اختصاص بالرسول ومزيد علم بأقواله وأفعاله ومقاصده يعلم بالاضطرار من مراده ما لا يعلمه غيرهم، فإذا جوَّز لمن يحصل له هذا العلم الضروري أن يقوم عنده قاطع عقلي بنفي ما علم هؤلاء بالاضطرار لزم ثبوت المعارضة بين العلوم الضرورية والنظرية وأنه يقدم فيها النظرية، ومعلوم أن هذا فاسد، فتبين أن قول هؤلاء يستلزم من تناقضهم وفساد مذاهبهم وتكذيب الرسل ما يستلزم من الكفر والجهل، وأنه يستلزم تقديم النظريات على الضروريات، وذلك يستلزم السفسطة التي ترفع العلوم النظرية والضرورية.(1/479)
إلى أن يقول: «فإن قيل نحن جازمون بصدق الرسول فيما أخبر به، وأنه لا يخبر إلا بحق لكن إذا احتج محتج على خلاف ما اعتقدناه بعقولنا بشيء مما نقل عن الرسول يقبل هذه المعارضة للقدح إما في الإسناد، وإما في المتن. إما أن نقول: النقل لم يثبت إن كان مما لم تعلم صحته كما تنقل أخبار الآحاد، وما ينقل عن الأنبياء المتقدمين. أما في المتن بأن نقول: دلالة اللفظ على مراد المتكلم غير معلومة بل مظنونة إما في محل النزاع، وإما فيما هو أعظم من ذلك. فنحن لا نشك في صدق الرسول بل في صدق الناقل أو دلالة المنقول على مراده، قيل هذا العذر باطل في هذا المقام لوجوه: ”أحدها“: أن يقال لكم فإذا علمتم أن الرسول أراد هذا المعنى: إما أن تعلموا مراده بالاضطرار كما يعلم أنه أتي بالتوحيد والصلوات الخمس والمعاد بالاضطرار، وإما بأدلة أخري نظرية وقد قام عندكم القاطع العقلي على خلاف ما علمتم أنه أراده فكيف تصنعون، فإن قلتم نقدم العقل لزمكم ما ذكر من فساد العقل المصدق للرسول مع الكفر وتكذيب الرسول، وإن قلتم نقدم قول الرسول أفسدتم قولكم المذكور الذي قلتم فيه العقل أصل النقل، فلا يمكن تقديم الفرع على أصله وإن قلتم يمتنع معارضة العقل الصريح لمثل هذا السمع، لأنا علمنا مراد الرسول قطعًا يمتنع أن يقوم دليل عقلي يناقضه وحينئذ فيبقى الكلام هل قام سمعي قطعي على مورد النزاع أم لا؟ ويكون دفعكم للأدلة السمعية بهذا القانون باطلاً متناقضًا. ”الثاني“: أنه إذا كنتم لا تردون من السمع إلا ما لم تعلموا أن الرسول أراده دون ما علمتم أن الرسول أراده بقي احتجاجكم بكون العقل معارضًا للسمع احتجاجًا باطلاً لا تأثير له. ”الثالث“: أنكم تدعون في مواضع كثيرة أن الرسول جاء بهذا، وأنا نعلم ذلك اضطرارًا، ومنازعوكم يدعون قيام القاطع العقلي على مناقض ذلك كما في المعاد وغيره، وكذلك يقول منازعوكم في العلو والصفات إنا نعلم اضطرارًا مجئ الرسول بهذا بل هذا(1/480)
أقوى. ”الرابع“: أن هذا يعارض بأن يقال دليل العقل مشروط بعدم معارضة الشرع، لأن العقل ضعيف عاجز والشبهات تعرض له كثيرًا وهذه المتايه والمحارات التي اضطرب فيها العقلاء لا أثق فيها بعقل يخالف الشرع، ومعلوم أن هذا أولى بالقبول من الأول». أهـ.
ويقول: وقد تبين بذلك أنه لا يمكن أن يكون تصديق الرسول فيما أخبر به مقيدًا بشرط ولا موقوفًا على انتفاء مانع، بل لابد من تصديقه في كل ما أخبر تصديقًا جازمًا كما في أصل الإيمان به، فلو قال الرجل أنا أؤمن به إن أذن لي أبي أو شيخي أو إلا أن ينهاني أبي أو شيخي لم يكن مؤمنًا به بالاتفاق، وكذلك من قال أؤمن به إن ظهر لي صدقه لم يكن بعد قد آمن به، ولو قال أؤمن به إلا أن يظهر لي كذبه لم يكن مؤمنًا. وحينئذ فلابد من الجزم بأنه يمتنع أن يعارض خبره دليل قطعي لا سمعي ولا عقلي، وأن ما يظنه الناس مخالفًا له إما أن يكون باطلاً، وإما أن لا يكون مخالفًا، وأما تقدير قول مخالف لقوله وتقديمه عليه فهذا فاسد في العقل كما هو كفر في الشرع، ولهذا كان من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أنه يجب على الخلق الإيمان بالرسول إيمانًا مطلقًا جازمًا عامًا بتصديقه في كل ما أخبر به، وطاعته في كل ما أمر، وإن كل ما عارض ذلك فهو باطل، وإن من قال يجب تصديق ما أدركته بعقلي ورد ما جاء به الرسول لرأيي وعقلي، وتقديم عقلي على ما أخبر به الرسول مع تصديقي بأن الرسول صادق فيما أخبر به فهو متناقض فاسد العقل ملحد في الشرع، وأما من قال لا أصدق ما أخبر به حتى أعلمه بعقلي فكفره ظاهر، وهو عمن قيل فيه { وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ م اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } (1)، وقوله تعالى: { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا
__________
(1) الأنعام، آية: 124.(1/481)
كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون - فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ - فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا } (1)، ومن عارض ما جاءت به الرسل برأيه فله نصيب من قوله تعالى: { كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ } (2)، وقوله تعالى: { الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ } (3) والسلطان هو الكتاب المنزل من السماء فكل من عارض كتاب الله المنزل بغير كتاب الله الذي قد يكون ناسخًا له أو مفسرًا له كان قد جادل في آيات الله بغير سلطان آتاه، ومن هذا قوله تعالى: { وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } (4)، وقوله تعالى: { وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا } (5) وأمثال ذلك مما في كتاب الله تعالى مما يذم به الذين عارضوا رسل الله وكتبه بما عندهم من الرأي والكلام والبدع مشتقة من الكفر، فمن عارض الكتاب والسنة بآراء الرجال كان قوله مشتقًا من أقوال هؤلاء الضلال كما قال مالك: أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد لجدل هذا». أهـ.
__________
(1) غافر، الآيتان: 84-85.
(2) غافر، آية: 34.
(3) غافر، آية: 56.
(4) غافر، آية: 5.
(5) الكهف، آية: 56.(1/482)
ويقول شيخ الإسلام(1): «”الوجه الثالث عشر“: أن يقال الأمور السمعية التي يقال أن العقل عارضها كإثبات الصفات والمعاد ونحو ذلك هى مما علم بالاضطرار أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جاء بها، وما كان معلومًا بالاضطرار من دين الإسلام امتنع أن يكون باطلاً مع كون الرسول رسول الله حقًا، فمن قدح في ذلك وادعي أن الرسول لم يجئ به كان قوله معلوم الفساد بالضرورة من دين المسلمين». أهـ.
ويقول(2): «”الوجه الخامس عشر“: أن يقال كون الدليل عقليًا أو سمعيًا ليس هو صفة تقتضي مدحًا ولا ذمًا ولا صحة ولا فسادًا، بل ذلك يبين الطريق الذي به علم وهو السمع أو العقل، وإن كان السمع لا بد معه من العقل وكذلك كونه عقليًا ونقليًا. أما كونه شرعيًا فلا يقابل بكونه عقليًا وإنما يقابل بكونه بدعيًا إذ البدعة تقابل الشرعة وكونه بدعيًا صفة ذم وكونه شرعيًا صفة مدح وما خالف الشريعة فهو باطل ثم الشرعي قد يكون سمعيًا وقد يكون عقليًا، فإن كون الدليل شرعيًا يراد به كون الشرع أثبته ودلَّ عليه ويراد به كون الشرع أباحه وأذن فيه». أهـ.
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل، ج1، ص 112.
(2) المصدر السابق، ج1 ،ص 114.(1/483)
يقول(1): «فإذا رد الناس ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنة فالمعاني الصحيحة ثابتة فيهما، والمحق يمكنه بيان ما يقوله من الحق بالكتاب والسنة ولو كان الناس محتاجين في أصول دينهم إلى ما لم يبينه الله ورسوله لم يكن الله قد أكمل للأمة دينهم ولا أتم عليهم نعمته، فنحن نعلم أن كل حق يحتاج الناس إليه في أصول دينهم لابد أن يكون مما بينه الرسول إذ كانت فروع الدين لا تقوم إلا بأصوله، فكيف يجوز أن يترك الرسول أصول الدين التي لا يتم الإيمان إلا بها لا يبينها للناس. ومن هنا يعرف ضلال من ابتدع طريقًا أو اعتقادًا زعم أن الإيمان لا يتم إلا به مع العلم بأن الرسول لم يذكره، وهذا مما احتج به علماء السنة على من دعاهم إلى قول الجهمية القائلين بخلق القرآن، وقالوا: إن هذا لو كان من الدين الذي يجب الدعاء إليه لعرفه الرسول ودعا أمته إليه كما ذكره أبو عبد الرحمن الأذرمي في مناظرته للقاضي أحمد بن أبي دؤاد قدّام الواثق، وهذا مما رد به علماء السنة على من زعم أن طريقة الاستدلال على إثبات الصانع سبحانه بإثبات الأعراض وحدوثها من الواجبات التي لا يحصل الإيمان إلا بها وأمثال ذلك وبالجملة فالخطاب له مقامات، فإن كان الإنسان في مقام دفع من يلزمه ويأمره ببدعة ويدعوه إليها أمكنه الاعتصام بالكتاب والسنة، وأن يقول لا أجيبك إلا إلى كتاب الله وسنة رسوله بل هذا هو الواجب مطلقًا وكل من دعا إلى شيء من الدين بلا أصل من كتاب الله وسنة رسوله فقد دعا إلى بدعة وضلالة، والإنسان في نظره مع نفسه ومناظرته لغيره إذا اعتصم بالكتاب والسنة هداه الله إلى صراطه المستقيم، فإن الشريعة مثل سفينة نوح - عليه السلام - من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق. وقد قال تعالى: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } (2)، وقال
__________
(1) المصدر السابق، ص 139.
(2) الأنعام، آية: 153.(1/484)
تعالى: { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } (1)، وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته: «إن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشرُّ الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة» وقال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في سياق حجة الوداع: «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله تعالى» وفي الصحيح أنه قيل لعبد الله بن أبي أوفي هل وصي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال لا قيل فلم وقد كتب الوصية على الناس؟ قال: وصَّي بكتاب الله، وقد قال تعالى: { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَّاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ } ، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } ومثل هذا كثير». أهـ.
ومن هنا نعلم:
__________
(1) الأعراف، آية: 3.(1/485)
أن التأويل الذي يراد به حمل نصوص الكتاب والسنة على ما أصله أصحابه من البدع والذي لا يقصد به أصحابه معرفة مراد المتكلم بل ما يمكن أن يجتمع مع اللفظ بغريب الاستعارات وبعيد الإشارات ويكون المعلوم من الدين بالاضطرار أن مراد المتكلم على خلافه، والتأويل الذي يعارض به أصحابه نصوص الشرع أو يعرضوا به عن نصوص الشرع رجوعًا إلى عقلياتهم أو كلامياتهم أو فلسفياتهم أو وجدانياتهم أو حقائقهم أو ذوقياتهم ويقدمونها على نصوص الشرع التي تناقضها ويحملون نصوص الشرع عليها ويجعلونها محكمة ونصوص الشرع مجملة متشابهة هو تأويل من باب التحريف والإلحاد، وليس من باب البيان وأصحابه ضالون مبتدعون مارقون غير مهتدين محرفون الكلم عن مواضعه ولا يعلمون الكتاب إلا أماني ويلبسون الحق بالباطل ويكتمون الحق، وتأويلهم تأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة وهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب متفقون على مفارقة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يلبسون عليهم، فهم أهل الغي والضلال وهم بهذا كله شر من الخوارج، لأن الخوارج وإن كان معلومًا أنهم مبتدعة مارقون كما ثبت بالنصوص المستفيضة عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وإجماع الصحابة على ذمهم والطعن عليهم، وهم إنما تأولوا آيات من القرآن على ما اعتقدوه وجعلوا من خالف ذلك كافرًا لاعتقادهم أنه خالف القرآن. فمن ابتدع أقوالاً ليس لها أصل في القرآن وجعل من خالفها كافرًا كان قوله شرًا من قول الخوارج، لأن الخوارج إنما غلطوا في الفهم، وأما هؤلاء فقد وضعوا قوانينهم على ما رأوه بعقولهم وقد غلطوا في الرأي والعقل. فمن حيث الدلائل:
الخوارج مبتدعة من وجهين:
أنهم تكلموا بغير علم.
أنهم تكلموا بغير عدل.
وأصحاب التأويلات الفاسدة التي يحملون النصوص عليها تقديمًا للعقل على النقل مبتدعة من ثلاث أوجه.(1/486)
أنهم تكلموا بغير علم.
أنهم تكلموا بغير عدل.
أنهم عارضوا نصوص الشرع وأعرضوا عنها بمعقولاتهم وقدموا معقولاتهم عليها، وحملوا النصوص عليها وخالفوا بذلك مصادر الشريعة المعصومة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة وهذا التأويل محرم مذموم معاقب عليه وهو تأويل التبديل والتحريف وليس من البيان المشروع.
ومن ثم فإذا كان خطأ الخوارج في تأويلاتهم غير مغفور فخطأ هؤلاء غير مغفور من باب أولى.
وأما من حيث المسائل:
فيقول(1): «وقال الخلال في السنة: أخبرني على بن عيسي أن حنبلاً حدثهم قال: سمعت أبا عبد الله يقول: من زعم أن الله لم يكلم موسي فقد كفر بالله وكذَّب القرآن وردَّ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره يستتاب من هذه المقالة فإن تاب وإلا ضربت عنقه. قال: وسمعت أبا عبد الله قال - عز وجل -: { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } فأثبت الكلام لموسي كرامة منه لموسي ثم قال تعالى يؤكد كلامه { تَكْلِيمًا } قلت لأبي عبد الله: الله عزَّ وجلَّ يكلم عبده يوم القيامة؟ قال: نعم. فمن يقضي بين الخلائق إلاَّ الله عزَّ وجلَّ يكلم عبده نعم، ويسأله الله متكلم لم يزل الله يأمر بما يشاء ويحكم وليس له عدل ولا مثيل كيف شاء وأنَّى شاء. قال الخلال: أخبرنا محمد بن على بن بحر أن يعقوب بن بختان حدثهم أن أبا عبد الله سئل عمن زعم أن الله لم يتكلم. قال: بلى تكلم بصوت، وهذه الأحاديث نرويها كما جاءت لكل حديث وجه يريدون أن يموهوا على الناس من زعم أن الله لم يكلم موسى فهو كافر. إلى أن يقول: قال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن قوم يقولون لما كلم الله موسى لم يتكلم بصوت فقال أبي: بلي تكلم تبارك وتعالى بصوت وهذه الأحاديث نرويها كما جاءت، وحديث ابن مسعود إذا تكلم الله بالوحي سمع له صوت كجر السلسلة على الصفوان وقال أبي: والجهمية تنكره. قال أبي: هؤلاء كفار يريدون أن يموهوا على الناس من زعم أن
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل، ج2، ص 20.(1/487)
الله لم يتكلم فهو كافر إنما تروي هذه الأحاديث كما جاءت.
ويقول(1): قال الحاكم سمعت أبا عبد الرحمن بن أحمد المقري يقول سمعت أبا بكر محمد بن إسحاق يقول: الذي أقول به أن القرآن كلام الله ووحيه وتنزيله غير مخلوق، ومن قال أن القرآن أو شيئًا منه ومن وحيه وتنزيله مخلوق، أو يقول أن الله لا يتكلم بعد ما كان تكلم به في الأزل، أو يقول أن أفعال الله مخلوقة، أو يقول أن القرآن محدث، أو يقول أن شيئًا من صفات الله صفات الذات، أو اسمًا من أسماء الله مخلوقة، فهو عندي جهمي يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه. هذا مذهبي، ومذهب من رأيت من أهل الشرق والغرب من أهل العلم، ومن حكى عني خلاف ذلك فهو كاذب باهت». أهـ.
إذا كان الأمر كذلك فكيف بالله يقال أن كل متأول كائنًا ما كان قوله أو عمله أو اعتقاده فهو مثاب على اجتهاده ومغفور له خطؤه؟؟!!
ثانيًا: الابتداع
(اتباع الهوى)
ويوضح لنا الشاطبي الفرق بين من يُغفر له خطؤه وتأوله وبين من لا يُغفر له خطؤه وتأوله فيقول(2):
__________
(1) المصدر السابق، ج1 ،ص 39.
(2) الاعتصام، ج1، ص 133.(1/488)
«وبقى مما هو محتاج إلى ذكره في هذا الموضوع شرح معنى عام يتعلق بما تقدم وهو أن البدع ضلالة، وأن المبتدع ضالٌ ومضل، والضلالة مذكورة في كثير من النقل المذكور ويشير إليها في الآيات الاختلاف والتفرق شيعًا وتفرق الطرق بخلاف سائر المعاصي فإنها لم توصف في الغالب بوصف الضلالة إلا أن تكون بدعة أو شبه البدعة، وكذلك الخطأ الواقع في المشروعات ـ وهو المعفو ـ لا يسمى ضلالاً ولا يطلق على المخطئ اسم ضال كما لا يطلق على المتعمد لسائر المعاصي، وإنما ذلك ـ والله أعلم ـ لحكمة قصد التنبيه عليها وذلك أن الضلال والضلالة ضد الهَدْى والهُدَى، والعرب تطلق الهُدى حقيقة في الظاهر المحسوس فتقول هديته الطريق وهديته إلى الطريق، ومنه نقل إلى طريق الخير والشر. قال تعالى: { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ } (1)، { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } (2)، { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } (3) والصراط والسبيل والطريق بمعنى واحد فهو حقيقة في الطريق المحسوس ومجاز في الطريق المعنوي، وضده الضلال وهو الخروج عن الطريق. ومنه البعير الضال، والشاة الضالة، ورجل ضلَّ عن الطريق إذا خرج عنه، لأنه التبس عليه الأمر ولم يكن له هاد يهديه وهو الدليل. وصاحب البدعة لما غلب عليه الهوى مع الجهل بطريق السنة توهم أن ما ظهر له بعقله هو الطريق القويم دون غيره فمضى عليه فحاد بسببه عن الطريق المستقيم فهو ضال من حيث ظنّ أنه راكب للجادة، كالمار بالليل على الجادة وليس له دليل يهديه يوشك أن يضل عنها فيقع في متابعة(4)، وإن كان بزعمه يتحرى قصدها. فالمبتدع من هذه الأمة إنما ضلَّ في أدلتها حيث أخذها مأخذ الهوى والشهوة لا مأخذ الانقياد تحت أحكام الله وهذا هو الفرق بين المبتدع وغيره، لأن المبتدع جعل الهوى أول مطالبه وأخذ
__________
(1) الإنسان، آية: 3.
(2) البلد، آية: 8.
(3) الفاتحة، آية: 6.
(4) يتتابع عليه الضلال حتي يفتقد الجادة تمامًا مهما طلبها.(1/489)
الأدلة بالتبع ومن شأن الأدلة أنها جارية على كلام العرب ومن شأن كلامها الاحتراز فيه بالظواهر، فقلما تجد فيه نصًا لا يحتمل حسبما قرره من تقدم في غير هذا العلم، وكل ظاهر يمكن فيه أن يصرف عن مقتضاه في الظاهر المقصود ويتأول على غير ما قُصِدَ فيه، فإذا انضم إلى ذلك الجهل بأصول الشريعة وعدم الاضطلاع بمقاصدها كان الأمر أشد وأقرب إلى التحريف والخروج عن مقاصد الشرع، فكان المدرك أعرق في الخروج عن السنة وأمكن في ضلال البدعة، فإذا غلب الهوى أمكن انقياد ألفاظ الأدلة إلى ما أراد منها، والدليل على ذلك أنك لا تجد مبتدعًا ممن ينسب إلى الملة إلا وهو يستشهد على بدعته بدليل شرعي فينزله على ما وافق عقله وشهوته وهو أمر ثابت في الحكمة الأزلية التي لا مرد لها قال تعالى: { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا } ، وقال - عز وجل -: { كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } لكن إنما ينساق لهم من الأدلة المتشابه منها لا الواضح والقليل منها لا الكثير وهو أدل الدليل على اتباع الهوى، فإن المعظم والجمهور من الأدلة إذا دلَّ على أمر بظاهره فهو الحق، فإن جاء على ما ظاهره الخلاف فهو النادر والقليل، فكان من حق الظاهر رد القليل إلى الكثير، والمتشابه إلى الواضح غير أن الهوى زاغ بمن أراد الله زيغه فهو في تيه من حيث يظن أنه على الطريق بخلاف غير المبتدع فإنه إنما جعل الهداية إلى الحق أول مطالبه وأخَّرَ هواه ـ إن كان ـ فجعله بالتبع فوجد جمهور الأدلة ومعظم الكتاب واضحًا في الطلب الذي بحث عنه فوجد الجادة وما شذَّ له عن ذلك، فإما أن يرده إليه، وإما أن يكله إلى عالمه ولا يتكلف البحث عن تأويله وفيصل القضية بينهما قوله تعالى: { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } إلى قوله { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ(1/490)
رَبِّنَا } (1) فلا يصح أن يسمى مَنْ هذه حاله مبتدعًا ولا ضالاً وإن حصل في الخلاف أو خفى عليه، أما أنه غير مبتدع فلأنه اتبع الأدلة ملقيًا إليها حكمة الانقياد باسطًا يد الافتقار مؤخرًا هواه ومقدمًا لأمر الله، وأما كونه غير ضال فلأنه على الجادة سلك وإليها لجأ، فإن خرج عنها يومًا وأخطأ فلا حرج عليه بل يكون مأجورًا حسبما بينه الحديث الصحيح «إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران»، وإن خرج متعمدًا فليس على أن يجعل خروجه طريقًا مسلوكًا له أو لغيره وشرعًا يدان به، على أنه إذا وقع الذنب موقع الاقتداء قد يسمى استنانًا فيعامل معاملة مَنْ سنَّه(2)، كما جاء في الحديث «من سنَّ سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» الحديث، وقوله - صلى الله عليه وسلم - «ما من نفس تقتل ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها لأنه أول من سنَّ القتل» فسمى القتل سنة بالنسبة إلى من عمل به عملاً يقتدى به فيه لكنه لا يسمى بدعة لأنه لم يوضع على أن يكون تشريعًا، ولا يسمى ضلالاً لأنه ليس في طريق المشروع أو في مضاهاته له. وهذا تقرير واضح يشهد له الواقع في تسمية البدع ضلالات ويشهد له أيضًا أحوال من تقدم قبل الإسلام وفي زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن الله تعالى قال: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ } (3) فإن الكفار لما أمروا بالإنفاق شحوا على أموالهم وأرادوا أن يجعلوا لذلك الشح مخرجًا فقالوا { أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ } ، ومعلوم أن الله لو شاء لم يحوج أحدًا إلى أحد لكنه ابتلي عباده لينظر كيف يعملون، فقص هواهم على هذا الأصل العظيم، واتبعوا ما تشابه من الكتاب بالنسبة
__________
(1) آل عمران، آية: 7.
(2) أي من ابتدعه فيكون مبتدعًا.
(3) يس, آية: 47.(1/491)
إليه فلذلك قيل لهم { إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ } (1)، وقال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ } (2) فكان هؤلاء قد أقروا بالتحكيم غير أنهم أرادوا أن يكون التحكيم على وفق أغراضهم زيغًا عن الحق، وظنًا منهم أن الجميع حكم، وأن ما يحكم به كعب بن الأشرف أو غيره مثل ما يحكم به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وجهلوا أن حكم النبيّ - صلى الله عليه وسلم - هو حكم الله لا يرد، وأن حكم غيره معه مردود إن لم يكن جاريًا على حكم الله، ولذلك قال الله تعالى: { وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا } (3) لأن ظاهر الآية يدل على أنها نزلت فيمن دخل في الإسلام لقوله - عز وجل - { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ } كذا إلى آخره. وجماعة من المفسرين قالوا أنها نزلت في رجل من المنافقين أو في رجل من الأنصار، وقال سبحانه: { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ } (4) فهم شرعوا شرعة وابتدعوا في ملة إبراهيم - عليه السلام - هذه البدعة توهمًا أن ذلك يقربهم من الله كما يقرب من الله ما جاء به إبراهيم - عليه السلام - من الحق فزلوا وافتروا على الله الكذب، إذ زعموا أن هذا من ذلك وتاهوا في المشروع، فلذلك قال الله تعالى على أثر الآية: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } (5)، وقال سبحانه: { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمْ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا
__________
(1) يس، آية: 47.
(2) النساء،آية: 60.
(3) النساء، آية:60.
(4) المائدة، آية: 103.
(5) المائدة، آية: 105.(1/492)
وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } (1) فهذه نزلت مجملة بعد تفصيل تقدم وهو قوله تعالى: { وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنْ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيبًا } (2) الآية، فهذا تشريع كالمذكور قبل هذا، ثم قال - عز وجل -: { وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ } (3) الآية، وهو تشريع أيضًا بالرأي مثل الأول، ثم قال - عز وجل -: { وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ } (4)... إلخ.
__________
(1) الأنعام، آية: 140 .
(2) الأنعام، آية: 136.
(3) الأنعام، آية: 137.
(4) الأنعام، آية: 138.(1/493)
فحاصل الأمر أنهم قتلوا أولادهم بغير علم وحرموا ما أعطاهم الله من الرزق بالرأي على جهة التشريع، فلذلك قال تعالى: { قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } ، ثم قال تعالى بعد تعزيرهم على هذه المحرمات التي حرموها وهى ما في قوله تعالى: { قُلْ أَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمْ الأنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمْ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } (1) وقوله لا يهدى يعني أنه يضله، والآيات التي قرر فيها حال المشركين في إشراكهم أتي فيها بذكر الضلال، لأن حقيقته أنه خروج عن الصراط المستقيم لأنهم وضعوا آلهتهم لتقربهم إلى الله زلفى في زعمهم فقالوا { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } (2) فوضعوهم موضع من يتوسل به حتي عبدوهم من دون الله، إذ كان أول وضعها فيما ذكره العلماء صورًا لقوم يودونهم ويتبركون بهم ثم عبدت فأخذتها العرب من غيرها على ذلك القصد وهو الضلال المبين وقال تعالى: { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ م وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ } (3) فزعموا في الإله الحق ما زعموا من الباطل بناء على دليل عندهم متشابه في نفس الأمر حسبما ذكره أهل السير، فتاهوا بالشبهة عن الحق لتركهم الواضحات وميلهم إلى المتشابهات كما أخبر الله تعالى في آية آل عمران، فلذلك قال تعالى: { قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } (4)
__________
(1) الأنعام، آية: 144.
(2) الزمر، آية: 3.
(3) المائدة، آية: 73.
(4) المائدة، آية: 77.(1/494)
وهم النصارى ضلُّوا في عيسى - عليه السلام -، ومن ثم قال تعالى بعد ذكر شواهد العبودية في عيسي { ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ } (1) وبعد ذكر دلائل التوحيد وتقديس الواحد تبارك وتعالى عن اتخاذ الولد وذكر اختلافهم في مقالاتهم الشنيعة قال - عز وجل -: { لَكِنْ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ } (2). وذكر الله المنافقين وأنهم يخادعون الله والذين آمنوا وذلك لكونهم يدخلون معهم في أحوال التكاليف على كسل وتقية أن ذلك يخلصهم أو أنه يغني عنهم شيئًا وهم في الحقيقة إنما يخدعون أنفسهم وهذا هو الضلال بعينه لأنه إذا كان يفعل شيئًا يظن أنه له فإذا هو عليه فليس على هدى من عمله ولا هو سالك على سبيله، ولذلك قال - عز وجل -: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } إلى قوله { وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } (3)، وقال تعالى حكاية عن الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى: { ءَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لاَ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ } (4) معناه كيف أعبد من دون الله ما لا يغني شيئًا وأترك إفراد الربِّ الذي بيده الضرّ والنفع هذا خروج عن طريقه إلى غير طريق { إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ } (5) والأمثلة في تقرير هذا الأصل كثيرة جميعها يشهد بأن الضلال في غالب الأمر إنما يستعمل في موضوع يزل صاحبه لشبهة تعرض له أو تقليد من عرضت له الشبهة، فيتخذ ذلك الزلل شرعًا ودينًا يدين به مع وجود واضحة الطريق الحق ومحض الصواب، ولما لم يكن الكفر في الواقع مقتصرًا على هذا الطريق، بل ثم طريق آخر وهو الكفر بعد العرفان عنادًا أو ظلمًا. ذكر الله تعالى
__________
(1) مريم، آية: 34.
(2) مريم، آية: 38.
(3) النساء، الآيتان: 142-143.
(4) يس، آية: 23.
(5) يس، آية: 24.(1/495)
الصنفين في السورة الجامعة وهى أم القرآن فقال - عز وجل -: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ - صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } فهذه هى الحجة العظمي التي دعا الأنبياء عليهم السلام إليها ثم قال - عز وجل -: { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } (1) فالمغضوب عليهم هم اليهود لأنهم كفروا بعد معرفتهم نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ألا ترى إلى قول الله فيهم: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } (2) يعني اليهود. والضالون هم النصارى لأنهم ضلُّوا في الحجة في عيسى - عليه السلام - وعلي هذا التفسير أكثر المفسرين، وهو مروي عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ويلحق بهم في الضلال المشركون الذين أشركوا مع الله إلهًا غيره لأنه قد جاء في أثناء القرآن ما يدل على ذلك ولأن لفظ القرآن في قوله - عز وجل - { وَلاَ الضَّالِّين } يعمهم وغيرهم، فكل من ضلّ عن سواء السبيل داخل فيه ولا يبعد أن يقال أن { الضَّالِّينَ } يدخل فيه كل من ضلَّ عن الصراط المستقيم كان من هذه الأمة أو لا، إذ قد تقدم في الآيات المذكورة قبل هذا مثله فقوله تعالى: { وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } عام في كل ضال سواء كان ضلاله كضلال الشرك أو النفاق أو كضلال الفرق المعدودة في الملة الإسلامية وهو أبلغ وأعلي في قصد حصر أهل الضلال وهو اللائق بكلية فاتحة الكتاب والسبع المثانى والقرآن العظيم الذي أوتيه محمد - صلى الله عليه وسلم -». أهـ.
__________
(1) الفاتحة، آية: 7.
(2) البقرة، آية: 146.(1/496)
وواضح جدًا أن أصحاب التأويل المحرَّم المذموم مبتدعة، والمبتدعة ضالون، والضالون غير مثابين على اجتهادهم وغير مغفور لهم خطؤهم وأنهم آثمون، وإن البدعة التي أدت بصاحبها إلى الشرك والكفر الأعظم بدعة ضلالة، صاحبها غير مثاب على اجتهاده، وغير مغفور له خطؤه بل هو معاقب بشركه الأعظم وبكفره الأعظم وبنفاقه الخالص سواء كان من هذه الأمة أم من غيرها. وإن الكفر والشرك الأعظمين إذا كانا كفر وشرك ضلال وبدعة فصاحبه ليس بمعاند وإنما هو ضال من حيث يحسب أنه مهتدي لغلبة الهوى والجهل، وجهله جهل ضلالة أو جهل شك أي جهل مركب أو جهل بسيط، والضلالة لا تكون إلا لشبهة عرضت مع وجود واضحة الطريق الحق ومحض الصواب، فالحجة قائمة وهو يسلك لهذا الطريق التأويلات الفاسدة زيغًا عن الحق وميلاً إلى الهوى فهو مبتدع بهذه المسألة ضال بها غير مثاب على اجتهاده ولا مغفور له خطؤه سواء كان من هذه الأمة أم من غيرها. وكل المبتدعين ضالون متأولون لا تكون بدعة إلا بتأويل وهم رغم تأويلهم غير مثابين على اجتهادهم ولا مغفور لهم خطؤهم سواء كانوا من هذه الأمة أم من غيرها. اللهم هل بلغت اللهم فاشهد.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في ”اقتضاء الصراط المستقيم“ (1):
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم، دار إحياء السنة المحمدية، ص 453.(1/497)
«فمن دعا إلى غير الله فقد أشرك، ومن دعا إليه بغير إذنه فقد ابتدع، والشرك بدعة، والمبتدع يؤول إلى الشرك، ولم يوجد مبتدع إلا وفيه نوع(1) من الشرك. ويقول(2): ولهذا تجد ما أحدث من الشرك والبدع يفترق أهله، فكان لكل قوم من مشركي العرب طاغوت يتخذونه ندًا من دون الله فيقربون له ويستعينون به ويشركون به، وهؤلاء ينفرون عن طاغوت هؤلاء وهؤلاء ينفرون عن طاغوت هؤلاء. ولكن قد يكون لأهل هذا الطاغوت شريعة ليست للآخرين، كما أن أهل المدينة يهلون لمناة الثالثة الأخرى ويتحرجون من الطواف بين الصفا والمروة حتى أنزل الله { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } (3).
وهكذا تجد من يتخذ شيئًا من نحو هذا الشرك كالذين يتخذون القبور وآثار الأنبياء والصالحين مساجد، تجد كل قوم يقصدون بالدعاء والاستغاثة والتوجه من لا تعظمه الطائفة الأخرى بخلاف أهل التوحيد، فإنهم يعبدون الله وحده ولا يشركون به شيئًا في بيوته التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، مع أنه قد جعل لهم الأرض كلها مسجدًا وطهورًا، وإن حصل فيهم نزاع في شيء مما يسوغ فيه الاجتهاد لم يوجب ذلك لهم تفرقًا واختلافًا، بل يعلمون أن المصيب منهم له أجران وأن المجتهد المخطئ له أجر على اجتهاده وخطؤه مغفور له، والله هو معبودهم وحده إياه يعبدون وعليه يتوكلون وله يخشون ويرجون وبه يستعينون ويستغيثون وله يدعون ـ يسألون ـ فإن خرجوا إلى الصلاة في المساجد كانوا مبتغين فضلاً منه ورضوانًا كما قال تعالى في نعتهم { تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا } (4).
__________
(1) ذريعة من ذرائعه.
(2) المصدر السابق، ص 456.
(3) البقرة، آية: 158.
(4) الفتح، آية: 29.(1/498)
ويقول(1): ثم إنَّ أولئك المبتدعين الذين أدخلوا في التوحيد نفي الصفات، وهؤلاء الذين أخرجوا عنه متابعة الأمر، إذا حققوا القولين أفضي بهم الأمر إلى أن لا يفرقوا بين الخالق والمخلوق، بل يقولون بوحدة الوجود كما قاله أهل الإلحاد القائلين بالوحدة والحلول والاتحاد الذين يعظمون الأصنام وعابديها وفرعون وهامان وقومهما، ويجعلون وجود خالق الأرض والسموات هو وجود كل شيء من الموجودات، ويدعون التوحيد والتحقيق والعرفان وهم من أعظم أهل الشرك والتدليس والبهتان، يقول عارفهم السالك في أول أمره يفرق بين الطاعة والمعصية ـ أي نظرًا إلى الأمر ـ ثم يرى طاعة بلا معصية ـ أي نظرًا إلى القدر ـ ثم لا طاعة ولا معصية أي نظرًا إلى أن الوجود واحد». أهـ.
ويقول عن المتكلمين(2): «فكان القول الذي أصلوه ونقلوه عن أهل الملل والدليل عليه كلاهما بدعة في الشرع لا أصل لواحد منهما في كتاب ولا سنة مع أن أتباعهم يظنون أن هذا هو دين المسلمين فكانوا في مخالفة المعقول بمنزلتهم في مخالفة المنقول». أهـ.
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم، ص 463.
(2) منهاج السنة، ج1، ص 82.(1/499)
ويقول الإمام الشاطبى في ذمِّ البدع(1)، ”الباب الثاني في ذم البدع وسوء منقلب أصحابها“ : «فعلى الجملة، العقول لا تستقل بإدراك مصالحها دون الوحي، فالابتداع مضاد لهذا الأصل لأنه ليس له مستند شرعي بالفرض فلا يبقي إلا ما ادعوه من العقل. إلى أن يقول: ”الثاني“: أن الشريعة جاءت كاملة لا تحتمل الزيادة ولا النقصان لأن الله تعالى قال فيها: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإسْلاَمَ دِينًا } (2). إلى أن يقول: فإذا كان كذلك فالمبتدع إنما محصول قوله بلسان حاله أو مقاله إن الشريعة لم تتم وأنه بقي منها أشياء يجب أو يستحب استدراكها لأنه لو كان معتقدًا لكمالها وتمامها من كل وجه لم يبتدع ولا استدرك عليها. وقائل هذا ضال عن الصراط المستقيم قال ابن الماجشون سمعت مالكًا يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - خان الرسالة لأن الله - عز وجل - يقول: { اليومَ أكملتُ لكم دينكم } فما لم يكن يومئذٍ دينًا فلا يكون اليوم دينًا. ”والثالث“: أن المبتدع معاند للشرع مشاق له لأن الشارع قد عين لمطالب العبد طرقًا خاصًة على وجوه خاصة وقصر الخلق عليها بالأمر والنهى والوعد والوعيد، وأخبر أن الخير فيها وأن الشر في تعديها ـ إلى غير ذلك ـ لأن الله يعلم ونحن لا نعلم وأنه، إنما أرسل الرسول - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين. فالمبتدع راد لهذا كله، فإنه يزعم أن ثمَّ طرقًا أخر ليس ما حصره الشارع بمحصور ولا ما عينه بمتعين كأن الشارع يعلم ونحن أيضًا نعلم، بل ربما يفهم من استدراكه الطرق على الشارع أنه علم ما لم يعلمه الشارع وهذا إن كان مقصودًا للمبتدع فهو كفر بالشريعة والشارع وإن كان غير مقصود فهو ضلال مبين.
__________
(1) الاعتصام، ج1، ص 46.
(2) المائدة، آية: 3.(1/500)
إلى أن يقول(1): ”الرابع“: أن المبتدع قد نزل نفسه منزلة المضاهى للشارع، لأن الشارع وضع الشرائع وألزم الخلق الجري على سننها وصار هو المنفرد بذلك، لأنه حكم بين الخلق فيما كانوا فيه يختلفون وإلا فلو كان التشريع في مدركات الخلق لم تنزل الشرائع ولم يبق الخلاف بين الناس، ولا احتيج إلى بعث الرسل عليهم السلام. هذا الذي ابتدع في دين الله قد صيَّر نفسه نظيرًا ومضاهيًا حيث شَّرع مع الشارع وفتح للاختلاف بابًا ورد قصد الشارع في الانفراد بالتشريع وكفى بذلك. ”والخامس“: أنه اتباع للهوى، لأن العقل إذا لم يكن متبعًا للشرع لم يبق له إلا الهوى والشهوة، وأنت تعلم ما في اتباع الهوى وأنه ضلال مبين ألا تري قوله تعالى: { يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } (2) فحصر الحكم في أمرين لا ثالث لهما عنده وهو الحق والهوى، وعزل العقل مجردًا إذ لا يمكن في العادة إلا ذلك وقال - عز وجل -: { وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } (3) فجعل الأمر محصورًا بين أمرين اتباع الذكر، واتباع الهوى. وقال - عز وجل -: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ } (4) وهى مثل ما قبلها، وتأملوا هذه الآية فإنها صريحة في أن من لم يتبع هدى الله في هوى نفسه فلا أحد أضل منه وهذا شأن المبتدع فإنه اتبع هواه بغير هدي من الله وهدى الله هو القرآن. وما بينته الشريعة وبينته الآية أن اتباع الهوى على ضربين: أحدهما: أن يكون تابعًا للأمر والنهي فليس
__________
(1) الاعتصام، ج1، ص 50، طبعة المكتبة التجارية الكبري بمصر.
(2) ص، آية: 26.
(3) الكهف، آية: 28.
(4) القصص، آية: 50.(2/1)
بمذموم ولا صاحبه بضال كيف وقد قدم الهدى فاستنار به في طريق هواه وهو شأن المؤمن التقي، والآخر: أن يكون هواه هو المقدم بالقصد الأول، كأن الأمر والنهي تابعين بالنسبة إليه أو غير تابعين وهو المذموم، والمبتدع قدَّم هوى نفسه على هدى، الله فكان أضلَّ الناس وهو يظن أنه على هدى. وقد انجر هنا معنى يتأكد التنبيه عليه وهو أن الآية المذكورة عينت للاتباع في الأحكام الشرعية طريقين:
أحدهما: الشريعة. ولا مرية في أنها علم وحق وهدي.
الآخر: الهوى. وهو المذموم لأنه لم يُذكر في القرآن إلا في سياق الذم.(2/2)
ولم يجعل ثمَّ طريقًا ثالثًا، ومن تتبع الآيات ألفي ذلك كذلك، ثم العلم الذي أحيل عليه والحق الذي حُمد إنما هو القرآن وما نزل من عند الله كقوله تعالى: { قُلْ أَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمْ الأنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ } (1)، وقال بعد ذلك { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمْ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ } (2)، وقال - عز وجل -: { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمْ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } (3). وهذا كله لاتباع أهوائهم في التشريع بغير هدى من الله، وقال - عز وجل -: { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ } (4) وهو اتباع الهوى في التشريع إذ حقيقته افتراء على الله، وقال - عز وجل -: { أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ } (5) أي لا يهديه دون الله شيء وذلك بالشرع لا بغيره وهو الهدى.
وإذا ثبت هذا وأن الأمر دائر بين الشرع والهوى تزلزلت قاعدة حكم العقل المجرد، فكأنه ليس للعقل في هذا الميدان مجال إلاَّ من تحت نظر الهوى فهو إذًا اتباع الهوى بعينه في تشريع الأحكام». أهـ.
__________
(1) الأنعام، آية: 143.
(2) الأنعام، آية: 144.
(3) الأنعام، آية: 140.
(4) المائدة، آية: 103.
(5) الجاثية، آية: 23.(2/3)
ويقول(1): «وأما النقل فمن وجوه أحدها: ما جاء في القرآن الكريم مما يدل على ذمِّ مَنْ ابتدع في دين الله في الجملة فمن ذلك قول الله تعالى: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ } (2). فهذه الآية من أعظم الشواهد وقد جاء في الحديث تفسيرها فصحَّ من حديث عائشة رضى الله عنها أنها قد سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قوله: { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } قال - صلى الله عليه وسلم -: «فإذا رأيتهم فاعرفيهم» وصحَّ عنها أنها قالت: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ... } إلى آخر الآية. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمَّى الله فاحذروهم». وهذا التفسير فيهم ولكنه جاء في رواية عن عائشة أيضًا قالت: تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ } الآية. قال - صلى الله عليه وسلم -: «فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عني الله فاحذروهم». وهذا أبين لأنه جعل علامة الزيغ الجدال في القرآن، وهذا الجدال مُقيَّد باتباع المتشابه، فإذًا الذمّ إنما لحق من جادل فيه بترك المحكم وهو أم الكتاب ومعظمه والتمسك بمتشابهه ولكنه بعد مفتقر إلى تفسير أظهر، فجاء عن أبي غالب واسمه حرور قال: كنت بالشام فبعث المهلِّب سبعين رأسًا من
__________
(1) الاعتصام، ج1، ص 53.
(2) آل عمران، آية: 7.(2/4)
الخوارج فنصبوا على درج دمشق فكنت على ظهر بيت لي فمرَّ أبو أمامة فنزلت فاتبعته، فلما وقف عليهم دمعت عيناه وقال: ”سبحان الله ما يصنع السلطان ببني آدم ! قالها ثلاثًا كلاب جهنم، كلاب جهنم، شر قتلي تحت ظل السماء ـ ثلاث مرات ـ خير قتلى من قتلوه، طوبى لمن قتلهم أو قتلوه“ ثم التفتَ إليَّ فقال: ”أبا غالب إنَّك بأرض هم بها كثير فأعاذك الله منهم“ قلت: رأيتك بكيت حين رأيتهم. قال: بكيت رحمة حين رأيتهم كانوا من أهل الإسلام“. هل تقرأ سورة آل عمران؟ قلت: نعم. فقرأ: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ } حتى بلغ { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ } وإنَّ هؤلاء كان في قلوبهم زيغٌ فَزِيغَ بهم ثم قرأ: { وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ } إلى قوله: { فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (1) قلت هم هؤلاء يا أبا أمامة قال: نعم. قلت: من قبلك تقول أو شيء سمعت من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: إنِّي إذًا لجرئٌ، بل سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا مرة ولا مرتين حتى عدَّ سبعًا ثم قال: “إن بني إسرائيل تفرقوا على أحد وسبعين فرقة وإنَّ هذه الأمة تزيد عليها فرقة كلها في النار إلا السواد الأعظم“ قلت: يا أبا أمامة ألا تري ما فعلوا؟ قال: ”عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم“ الآية. خرجه إسماعيل القاضي وغيره. ـ وفي رواية ـ قال: قال: ”ألا تري ما فيه السواد الأعظم“ وذلك في أول خلافة عبد الملك والقتل يومئذ ظاهر. قال: ”عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم“ وخرجه الترمذي مختصرًا وقال فيه: حديثٌ حسنٌ وخرَّجه الطحاوى أيضًا باختلاف في بعض الألفاظ، وفيه فقيل له: يا أبا أمامة تقول لهم هذا القول ثم تبكي! ـ يعنى قوله: شر قتلي ـ قال: ”رحمة لهم
__________
(1) آل عمران، آيات: 105-107 .(2/5)
إنهم كانوا من أهل الإسلام فخرجوا منه“ ثم تلا { هو الذي أنزل عليك الكتاب } حتى ختمها ثم قال: ”هم هؤلاء“ ثم تلا هذه الآية { يومَ تبيضُ وجوهٌ وتسودُّ وجوهٌ } حتى ختمها ثم قال: ”هم هؤلاء“.
وذكر الآجرى عن طاوس قال: ذُكر لابن عباس الخوارج وما يصيبهم عند قراءة القرآن. فقال: يؤمنون بمحكمه ويضلون عند متشابهه وقرأ: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ } (1) فقد ظهر بهذا التفسير أنهم أهل البدع، لأن أبا أمامة - رضي الله عنه - جعل الخوارج داخلين في عموم الآية، وأنها تتنزل عليهم وهم من أهل البدع عند العلماء، إما على أنهم خرجوا ببدعتهم عن أهل الإسلام، وإما على أنهم من أهل الإسلام لم يخرجوا عنهم على اختلاف العلماء فيهم، وجعل هذه الطائفة ممن في قلوبهم زيغٌ فزيغ بهم، وهذا الوصف موجود في أهل البدع كلهم مع أن لفظ الآية عام فيهم وفي غيرهم ممن كان على صفاتهم، ألا ترى أن صدر هذه السورة إنما نزل في نصارى نجران ومناظرتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في اعتقادهم في عيسى - عليه السلام - حيث تأولوا عليه أنه الإله أو أنه ابن الله أو أنه ثالث ثلاثة بأوجه متشابهة، وتركوا ما هو الواضح في عبوديته حسبما نقله أهل السير، ثم تأوله العلماء من السلف الصالح على قضايا دخل أصحابها تحت حكم اللفظ كالخوارج فهى ظاهرة في العموم ثم تلا أبو أمامة الآية الأخرى وهى قوله سبحانه: { وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ } إلى قوله { فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } وفسَّرها بمعنى ما فسر به الآية الأخرى فهى الوعيد والتهديد لمن تلك صفته، ونهى المؤمنين أن يكونوا مثلهم، ونقل عبيد عن حميد بن مهران قال: سألت الحسن كيف يصنع أهل هذه الأهواء الخبيثة بهذه الآية في آل عمران: {
__________
(1) آل عمران، آية: 7.(2/6)
وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ } قال نبذوها وربِّ الكعبة وراء ظهورهم. وعن أبي أمامة أيضًا قال: هم الحرورية. وقال ابن وهب: سمعت مالكًا يقول: ما آية في كتاب الله أشد على أهل الاختلاف من أهل الأهواء من هذه الآية { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ } إلى قوله { بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } قال مالك: فأي كلام أبين من هذا؟ فرأيته يتأولها لأهل الأهواء ورواه ابن القاسم وزاد قال لي مالك: إنما هذه الآية لأهل القبلة وما ذكره في الآية قد نقل عن غير واحد كالذي تقدم للحسن، وعن قتادة في قوله تعالى: { كالذين تفرقوا واختلفوا } يعني أهل البدع. وعن ابن عباس في قوله تعالى: { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } قال تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة، ومن الآيات قوله تعالى: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (1) فالصراط المستقيم هو سبيل الله الذي دعا إليه وهو السنة. والسبل هى سبل أهل الاختلاف الحائدين عن الصراط المستقيم وهم أهل البدع وليس المراد سبل المعاصي لأن المعاصي من حيث هى معاص لم يضعها أحد طريقًا تسلك دائمًا على مضاهاة التشريع، وإنما هذا الوصف خاص بالبدع المحدثات ويدل على هذا ما روى إسماعيل عن سليمان بن حرب قال: حدثنا حمَّاد بن زيد عن عاصم بن بهدله عن أبي وائل عن عبد الله قال: خطَّ لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا خطًا طويلاً ـ وخطَّ لنا سليمان خطًا طويلاً ـ وخط عن يمينه وعن يساره فقال - صلى الله عليه وسلم -: «هذا سبيل الله ثم خطَّ لنا خطوطًا عن يمينه ويساره وقال: هذه سبل وعلي كل سبيل منها شيطان يدعو إليه» ثم تلا هذه الآية { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ
__________
(1) الأنعام، آية: 153.(2/7)
وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ } يعني الخطوط { فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } (1). وقال بكر بن العلاء أحسبه أراد شيطانًا من الإنس وهى البدع والله أعلم. والحديث مخرج من طرق، وعن عمر بن سلمة الهمدانى قال: كنا جلوسًا في حلقة ابن مسعود في المسجد وهو بطحاء قبل أن يحصب فقال له عبيد الله بن عمر بن الخطاب ـ وكان أتى غازيًا ـ ما الصراط المستقيم يا أبا عبد الرحمن؟ قال: هو وربِّ الكعبة الذي ثبت عليه أبوك حتى دخل الجنة، ثم حلف على ذلك ثلاث أيمان ولاء ثم خطَّ في البطحاء خطًا بيده وخطَّ بجانبه خطوطًا وقال ترككم نبيُّكم - صلى الله عليه وسلم - على طرفه وطرفه الآخر في الجنة، فمن ثبت عليه دخل الجنة ومن أخذ في هذه الخطوط هلك وفي ـ رواية ـ يا أبا عبد الرحمن ما الصراط المستقيم؟ قال: تركنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أدناه وطرفه في الجنة وعن يمينه جواد وعن يساره جواد وعليها رجال يدعون من مرَّ بهم، هلم لك، هلم لك، فمن أخذ في تلك الطرق انتهت به إلى النار، ومن استقام إلى الطريق الأعظم انتهى إلى الجنة ثم تلا ابن مسعود { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ } الآية كلها، وعن مجاهد في قوله - عز وجل - { وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ } قال: البدع والشبهات. إلى أن يقول: فهذا التفسير يدل على شمول الآية لجميع طرق البدع لا تختص ببدعة دون أخري، ومن الآيات قول الله تعالى: { وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } فالسبيل القصد هو طريق الحقِّ وما سواه جائر عن الحق أى عادل عنه، وهى طرق البدع والضلالات أعاذنا الله من سلوكها بفضله وكفى بالجائر أن يحذر منه فالمساق يدل على التحذير والنهى.
__________
(1) الأنعام، آية: 153.(2/8)
ويذكر الشاطبي تفسير ابن وضاح عن عاصم بن بهدلة لهذه الآية بحديث عبد الله بن مسعود الذي فسَّرَ به الآية السابقة { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ } . إلى أن يقول: { قَصْدُ السَّبِيلِ } طريق السنة { وَمِنْهَا جَائِرٌ } يعني إلى النار وذلك الملل والبدع. وعن مجاهد قصد السبيل أي المقتصد منها بين الغلو والتقصير، وذلك يفيد أن الجائر هو الغالي أو المقصر، وكلاهما من أوصاف البدع.
وعن علىٍّ - رضي الله عنه - أنه كان يقرؤها { فمنكم جائر } . قالوا: يعنى هذه الأمة فكأن هذه الآية مع الآية قبلها يتواردان على معنى واحد.
ومنها قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } (1). هذه الآية قد جاء تفسيرها في الحديث من طريق عائشة رضى الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يا عائشة { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا } مَنْ هم؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: هم أصحاب الأهواء وأصحاب البدع وأصحاب الضلالة من هذه الأمة، يا عائشة إن لكل ذنب توبة، ما خلا أصحاب الأهواء والبدع ليس لهم توبة، وأنا برئٌ منهم وهم مني براءُ».
__________
(1) الأنعام، آية: 159.(2/9)
قال ابن عطية: هذه الآية تعم أهل الأهواء والبدع والشذوذ في الفروع وغير ذلك من أهل التعمق في الجدال والخوض في الكلام. هذه كلها عرضة للزلل ومنطقة لسوء المعتقد. ويريد ـ والله أعلم ـ بأهل التعمق في الفروع ما ذكره أبو عمر بن عبد البر في فصل ذمِّ الرأي من كتاب العلم له ـ وسيأتي ذكره بحول الله ـ وحكى ابن بطال في ”شرح البخاري“ عن أبي حنيفة أنه قال: لقيت ابن رباح بمكة فسألته عن شيء فقال: من أين أنت؟ قلت: من أهل الكوفة. قال: أنت من أهل القرية الذين فرَّقوا دينهم وكانوا شيعًا؟ قلت: نعم. قال: من أي الأصناف أنت؟ قلت: ممن لا يسبّ السلف، ويؤمن بالقدر ولا يكفِّر أحدًا بذنب، فقال عطاء: عرفت فالزم.
وعن الحسن قال: خرج علينا عثمان بن عفان - رضي الله عنه - يومًا يخطبنا، فقطعوا عليه كلامه فتراموا بالبطحاء، حتى جعلت ما أبصر أديم السماء. قال: وسمعنا صوتًا من بعض حجر أزواج النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فقيل: هذا صوت أمِّ المؤمنين قال: فسمعتها وهى تقول: ألا إنَّ نبيَّكم قد برئ ممن فرَّق دينه واحتزب، وتلت { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } . قال القاضي إسماعيل: أحسبه يعني بقوله: ”أم المؤمنين“ أمّ سلمة، وأن ذلك قد ذكر في بعض الحديث، وقد كانت عائشة في ذلك الوقت حاجّة. وعن أبي هريرة أنها نزلت في هذه الأمة، وعن أبي أمامة هم الخوارج. قال القاضي: ظاهر القرآن يدل على أن كل من ابتدع في الدين بدعة من الخوارج وغيرهم فهو داخل في هذه الآية، لأنهم إذا ابتدعوا تجادلوا وتخاصموا وتفرَّقوا وكانوا شيعًا.
ومنها قوله تعالى: { وَلاَ تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ - مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } (1) قرئ { فارقوا دينهم } وفسِّر عن أبي هريرة أنهم الخوارج ورواه أبو أمامة مرفوعًا.
__________
(1) الروم، الآيتان: 31-32.(2/10)
وقيل: هم أصحاب الأهواء والبدع. قالوا: روته عائشة رضى الله عنها مرفوعًا إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وذلك لأن هذا شأن من ابتدع حسبما قاله إسماعيل القاضي وكما تقدم في الآي الأخر.
ومنها قوله تعالى: { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } (1).
فعن ابن عباس أن لبسكم شيعًا هو الأهواء المختلفة، ويكون على هذا قوله - عز وجل -: { وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } تكفير البعض للبعض حتى يتقاتلوا، كما جري للخوارج حين خرجوا على أهل السنة والجماعة، وقيل معنى { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا } ما فيه إلباس من الاختلاف.
وقال مجاهد وأبو العالية: إنَّ الآية لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - قال أبو العالية: هنَّ أربع، ظهر اثنتان بعد وفاة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بخمس وعشرين سنة فألبسوا شيعًا وأذيق بعضهم بأس بعض، وبقيت اثنتان، فهما ولابد واقعتان، الخسف من تحت أرجلكم والمسخ من فوقكم، وهذا كله صريح في أن اختلاف الأهواء مكروه غير محبوب ومذموم غير محمود.
وفيما نقل عن مجاهد في قول الله { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ - إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } (2) قال في المختلفين: إنهم أهل الباطل، إلا من رحم ربك. قال: فإن أهل الحق ليس فيهم اختلاف.
__________
(1) الأنعام، آية: 65.
(2) هود، الآيتان: 118-119.(2/11)
وروى عن مطرف بن الشخير أنه قال: لو كانت الأهواء واحدًا لقال القائل: لعل الحق فيه. فلما تشعبت وتفرقت عرف كل ذي عقل أن الحق لا يتفرق. وعن عكرمة ولا يزالون مختلفين. يعني في الأهواء { إلا مَنْ رحم ربُّك } هم أهل السنة. إلى أن يقول: وروى ابن وهب عن عمر بن عبد العزيز، ومالك بن أنس أن أهل الرحمة لا يختلفون... وفي البخاري عن عمر بن مصعب قال: سألت أبي عن قوله تعالى: { هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً } (1) هم الحرورية؟ قال: لا. هم اليهود والنصارى، أما اليهود فكذبوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، وأما النصارى فكذبوا بالجنة وقالوا لا طعام فيها ولا شراب. والحرورية { الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ } (2) وكان شعبة يسميهم الفاسقين. وفي تفسير سعيد بن منصور، عن مصعب بن سعد قال: قلت لأبي { الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } (3) أهم الحرورية؟ قال: لا ! أولئك أصحاب الصوامع ولكن الحرورية الذين قال الله فيهم { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } (4).
وخرَّج عبد بن حميد في تفسيره هذا المعنى بلفظ آخر عن مصعب بن سعد فأتى على هذه الآية: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً } إلى قوله { يُحْسِنُونَ صُنْعًا } (5) قلت: أهم الحرورية؟ قال: لا ! هم اليهود والنصارى، أما اليهود فكفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا ليس فيها طعام ولا شراب، ولكن الحرورية { الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ } *(6)
__________
(1) الكهف، آية: 103.
(2) البقرة، آية: 27.
(3) الكهف، آية: 104.
(4) الصف, آية: 5 .
(5) الكهف، الآيتان: 103-104.
(6) البقرة, آية: 27.
* { والذين ينقضون عهدَ اللهِ من بعدِ ميثاقه ويقطعون ما أمرَ اللهُ بِهِ أن يُوصَلَ ويفسدونَ في الأرضِ أولئِكَ لهم اللعنةُ ولهم سوءُ الدَّار } (الرعد، آية: 25)(2/12)
.
فالأول: لأنهم خرجوا عن طريق الحق بشهادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنهم تأولوا التأويلات الفاسدة، وكذا فعل المبتدعة، وهو بابهم الذي دخلوا فيه.
والثاني: لأنهم تصرفوا في أحكام القرآن والسنة هذا التصرف.
فأهل حروراء وغيرهم من الخوارج قطعوا قوله تعالى: { إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ } (1) عن قوله - عز وجل -: { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } (2) وغيرها، وكذا فعل سائر المبتدعة حسبما يأتيك بحول الله... إلى أن يقول: والثالث: لأن الحرورية جردوا السيوف على عباد الله وهو غاية الفساد في الأرض. وذلك في كثير من أهل البدع شائع، وسائرهم يفسدون بوجوه من إيقاع العداوة والبغضاء بين أهل الإسلام. وهذه الأوصاف الثلاثة تقتضيها الفرقة التي نبَّه عليها الكتاب والسُّْنة كقوله تعالى: { وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا } (3)، وقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا } (4) وأشباه ذلك. وفى الحديث: «إن الأمة تتفرق على بضع وسبعين فرقة».
__________
(1) الأنعام, آية: 57.
(2) المائدة, آية: 95.
(3) آل عمران، آية: 105.
(4) الأنعام، آية: 159.(2/13)
وهذا التفسير في الرواية الأولي لمصعب بن سعد أيضًا فقد وافق أباه على المعنى المذكور، ثم فسَّرسعد بن أبي وقاص في رواية سعيد بن منصور: أن ذلك بسبب الزيغ الحاصل فيهم: وذلك في قوله تعالى: { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } (1) وهو راجع إلى آية آل عمران في قوله - عز وجل -: { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } (2). فإنه أدخل - رضي الله عنه - الحرورية في الآيتين بالمعنى. وهو الزيغ في إحداهما، والأوصاف المذكورة في الأخرى لأنها فيهم موجودة فآية الرعد تشمل بلفظها، لأن اللفظ فيها يقتضي العموم لغة، وإن حملناها على الكفار خصوصًا فهى تعطي أيضًا فيهم حكمًا من جهة ترتيب الجزاء على الأوصاف المذكورة حسبما هو مبين في الأصول. وكذلك آية الصّف لأنها خاصة بقوم موسى عليه السلام، ومن هنا كان شعبة يسميهم الفاسقين ـ أعني الحرورية ـ لأن معنى الآية واقع عليهم. وقد جاء فيها { وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } (3) والزيغ أيضًا كان موجودًا فيهم، فدخلوا في معنى قوله - عز وجل -: { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُم } ومن هنا يفهم أنها لا تختص من أهل البدعة بالحرورية، بل تعم كل من اتصف بتلك الأوصاف التي أصلها الزيغ، وهو الميل عن الحق اتباعًا للهوى.
وإنما فسرها سعد - رضي الله عنه - بالحرورية لأنه إنما سئل عنهم على الخصوص والله أعلم، لأنهم أول من ابتدع في دين الله، فلا يقتضي ذلك تخصيصًا.
__________
(1) الصف، آية: 5 .
(2) آل عمران، آية: 7.
(3) الصف، الآية: 5.(2/14)
وأما المسئول عنها أولاً: وهى آية الكهف فإن سعدًا نفي أن تشمل الحرورية. وقد جاء عن علىّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه فسَّر { الأخسرين أعمالاً } بالحرورية أيضًا. إلى أن يقول: ولما قال سبحانه في وصفهم { الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا } وصفهم بالضلال مع ظنِّ الاهتداء، دلَّ على أنهم المبتدعون في أعمالهم عمومًا، كانوا من أهل الكتاب أو لا، من حيث قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «كلُّ بدعة ضلالة». فقد يجتمع التفسيران في الآية: تفسير سعد بأنهم اليهود والنصارى، وتفسير علىّ بأنهم أهل البدعة لأنهم قد اتفقوا على الابتداع، ولذلك فسرَّ كفر النصارى بأنهم تأولوا في الجنة غير ما هى عليه، وهو التأويل بالرأي. فاجتمعت الآيات الثلاث على ذمِّ البدعة، وأشعر كلام سعد بن أبي وقاص بأن كل آية اقتضت وصفًا من أوصاف المبتدعة فهم مقصودون بما فيها من الذمِّ والخزي وسوء الجزاء إما بعموم اللفظ وإما بمعنى الوصف.(2/15)
وروى ابن وهب أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أتي بكتاب في كتف فقال: «كفي بقوم حمقًا ـ أو قال ضلالاً ـ أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى غير نبيهم، أو كتاب إلى غير كتابهم» فنزلت { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ } (1). وخرج عبد الحميد عن الحسن قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من رغب عن سنتي فليس مني» ثم تلا هذه الآية: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } (2). إلى أن يقول: وجاء عن سفيان بن عيينة وأبي قلابة وغيرهما أنهما قالوا: كل صاحب بدعة أو فرية ذليل. واستدلوا بقول الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ } (3) وخرَّج ابن وهب عن مجاهد في قول الله: { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ } (4) يقول: ما قدموا من خير، وآثارهم التي أورثوا الناس بعدهم من الضلالة. إلى أن يقول(5): ”الوجه الثاني“: من النقل: ما جاء في الأحاديث المنقولة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهى كثيرة تكاد تفوت الحصر إلا أنا نذكر منها ما تيسر مما يدل على الباقي ونتحرى في ذلك ـ بحول الله ـ ما هو أقرب إلى الصحة.
__________
(1) العنكبوت، الآية: 51.
(2) آل عمران، الآية: 31.
(3) الأعراف، الآية: 152.
(4) يس، الآية: 12.
(5) الاعتصام، ج1، ص 68.(2/16)
فمن ذلك ما في الصحيح من حديث عائشة رضى الله عنها عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي رواية لمسلم «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» وهذا الحديث عدَّه العلماء ثلث الإسلام، لأنه جمع وجوه المخالفة لأمره عليه السلام. ويستوي في ذلك ما كان بدعة أو معصية. وخرَّج مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في خطبته: «أما بعد فإن خيرَ الحديثِ كتابُ الله ِ، وخير الهدى هدىُ محمدٍ، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ بدعة ضلالة» وفي رواية قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس، يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ثم يقول: «من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادى له، وخيرَ الحديث كتابُ الله، وخير الهدى هدى محمدٍ، وشرَّ الأمورِ محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة». وفي رواية للنسائي «وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في النار».(2/17)
وذكر أن عمر - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب بهذه الخطبة. وعن ابن مسعود موقوفًا ومرفوعًا، أنه كان يقول: إنما هما اثنتان ـ الكلام والهدى ـ فأحسن الكلام كلام الله ، وأحسن الهدى هدى محمد - صلى الله عليه وسلم -، ألا وإياكم ومحدثات الأمور، فإن شرَّ الأمور محدثاتها، إنَّ كل محدثة بدعة، وفي لفظ: ”غير أنكم ستحدثون ويحدث ويحدث لكم، فكل محدثة ضلالة وكل ضلالة في النار“ وكان ابن مسعود يخطب بهذا كل خميس... إلى أن يقول: وفي الصحيح من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من دعا إلى الهدى كان له من الأجر مثل أجور من يتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من يتبعه لا ينقص من آثامهم شيئًا»... وروى الترمذي أيضًا وصححه وأبو داود وغيرهما عن العرباض بن سارية قال صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب. فقال قائل: يا رسول الله كأن هذا موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة لولاة الأمور وإن كان عبدًا حبشيًا فإنه من يعيش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» وروى على وجوه من طرق». أهـ.
ثم يذكر الشاطبي أحاديث أخرى كثيرة يضيق المقام عن ذكرها هنا .إلى أن يقول(1): «وليعلم الموفق أن بعض ما ذكر من الأحاديث يقصر عن رتبة الصحيح، وإنما أتى بها عملاً بما أصَّله المحدثون في أحاديث الترغيب والترهيب. إذ قد ثبت ذم البدع وأهلها بالدليل القاطع القرآني والدليل السُّني الصحيح فما زيد من غيره فلا حرج في الإتيان به إن شاء الله».
__________
(1) الاعتصام، ج1، ص 77.(2/18)
يقول الإمام الشاطبي(1): ”الوجه السادس“: يذكر فيه بعض ما في البدع من الأوصاف المحذورة والمعاني المذمومة، وأنواع الشؤم، وهو كالشرح لما تقدم أولاً وفيه زيادة بسط وبيان زائد على ما تقدم في أثناء الأدلة، ويذكر سبعة عشر وجهًا من الأوصاف المذمومة والعواقب المحذورة فيقول: فاعلموا أن البدعة لا يقبل معها عبادة من صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا غيرها من القربات. ومجالس صاحبها تنزع منه العصمة ويوكل إلى نفسه، والماشي إليه وموقره معين على هدم الإسلام، فما الظنُّ بصاحبها وهو ملعونٌ على لسان الشريعة، ويزداد من الله بعبادته بعدًا ؟! وهى مظنة إلقاء العداوة والبغضاء، ومانعة من الشفاعة المحمدية، ورافعة للسنن التي تقابلها، وعلي مبتدعها إثمُ مَنْ عمل بها، وليس له من توبة، وتلقى عليه الذلة والغضب من الله، ويبعد عن حوض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويخاف عليه أن يكون معدودًا في الكفار الخارجين عن الملة وسوء الخاتمة عند الخروج من الدنيا، ويسودُّ وجهُهُ في الآخرة يعذب بنار جهنم، وقد تبرأ منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتبرأ منه المسلمون، ويخاف عليه الفتنة في الدنيا زيادة إلى عذاب الآخرة، فأما أن البدعة لا يقبل معها عمل، فقد روى عن الأوزاعي أنه قال: كان بعض أهل العلم يقول: لا يقبل الله من ذي بدعة صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا جهادًا ولا حجًا ولا عمرة ولا صرفًا ولا عدلا... إلى أن يقول: وكان أيوب السختياني يقول: ما ازداد صاحب بدعة اجتهادًا إلا ازداد من الله بعدًا.
__________
(1) المصدر السابق، ج1، ص 106.(2/19)
وقال هشام بن حسان: لا يقبل الله من صاحب بدعة صلاة ولا صيامًا ولا زكاة ولا حجًا ولا جهادًا ولا عمرة ولا صدقة ولا عتقًا ولا صرفًا ولا عدلاً. وخرج بن وهب عن عبد الله بن عمر قال: من كان يزعم أن مع الله قاضيًا أو رازقًا أو يملك لنفسه خيرًا أو نفعًا موتًا أو حياة أو نشورًا لقى الله فأدحض حجته ، وأخرس لسانه، وجعل صلاته وصيامه هباءً منثورًا، وقطع به الأسباب، وكبَّه في النار على وجهه.
وهذه الأحاديث وما كان نحوها مما ذكرناه أو لم نذكره تتضمن عمدة صحتها كلها فإن المعنى المقرر فيها له في الشريعة أصل صحيح لا مطعن فيه.
أما أولاً: فإنه قد جاء في بعضها ما يقتضي عدم القبول وهو في الصحيح كبدعة القدرية حيث قال فيها عبد الله بن عمر: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أنِّي برئٌ منهم، وأنهم براء مني، فوالذى يحلف به عبد الله بن عمر لو كان لأحدهم مثل أحدٍ ذهبًا فأنفقه ما تقبله الله منه حتى يؤمن بالقدر. ثم استشهد بحديث جبريل المذكور في ”صحيح مسلم“.
ومثله حديث الخوارج وقوله فيه: يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ـ بعد قوله ـ تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم وأعمالكم مع أعمالهم... الحديث. وإذا ثبت في بعضهم هذا لأجل بدعة فكل مبتدع يخاف عليه مثل من ذكره.
وأما ثانيًا: فإن كان المبتدع لا يُقبل منه عمل، إما أن يراد أنه لا يقبل له بإطلاق على أي وجه وقع من وفاق سنة أو خلافها، وإما أن يراد أنه لا يقبل منه ما ابتدع فيه خاصة دون ما لا يبتدع فيه.
فأما الأول: فيمكن على أحد أوجه ثلاثة.(2/20)
الأول: أن يكون على ظاهره من أن كل مبتدع أي بدعة كانت، فأعماله لا تقبل معها ـ داخلتها تلك البدعة أم لا ويشير إليه حديث ابن عمر المذكور آنفًا: ويدل عليه حديث علىٌ بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه خطب الناس وعليه سيف فيه صحيفة معلقة، فقال والله ما عندنا كتابٌ نقرؤه إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة، فنشرها فإذا فيها أسنان الإبل، وإذا فيها المدينة حرم من عير إلى ثور. من أحدث فيها حدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً. وذلك على رأى من فسر الصرف والعدل بالفريضة والنافلة. وهذا شديد جدًا على أهل الإحداث في الدين.
الثاني: أن تكون بدعته أصلاً يتفرع عليه سائر الأعمال، كما إذا ذهب إلى إنكار العمل بخبر الواحد بإطلاق، فإن عامة التكليف مبني عليه، لأن الأمر إنما يرد على المكلف من كتاب الله أو من سنة رسوله. وما تفرع منهما راجع إليهما فإن كان واردًا من السنة فمعظم نقل السنة بالآحاد، بل قد أعوز أن يوجد حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متواترًا وإن كان واردًا من الكتاب، فإنما تبينه السنة فكل ما لم يبين في القرآن فلابد لمطرح نقل الآحاد أن يستعمل رأيه وهو الابتداع بعينه، فيكون فرع ينبني على ذلك بدعة لا يقبل منه شيء، كما في الصحيح من قوله عليه السلام «كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد» وكما إذا كانت البدعة التي ينبني عليها كل عمل فإن الأعمال بالنيات، وإنما لكل إمرئ ما نوى.(2/21)
ومن أمثلة ذلك قول من يقول: إن الأعمال إنما تلزم من لم يبلغ درجة الأولياء المكاشفين بحقائق التوحيد، فأما من رفع له الحجاب وكوشف بحقيقة ما هنالك فقد ارتفع التكليف عنه، بناءً منهم على أصل هو كفر صريح لا يليق في هذا الموضع ذكره. وأمثلة ما ذهب إليه بعض المارقين من إنكار العمل بالأخبار النبوية جاءت تواترًا أو آحادًا وأنه إنما يرجع إلى كتاب الله. وفي الترمذي عن أبي رافع عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا ألفين أحدَكم متكئًا على أريكته يأتيه أمري مما أمرتُ به أونهيتُ عنه فيقول: لا أدري! ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه» حديث حسن... ومن الأمثلة إذا كانت البدعة تخرج صاحبها عن الإسلام باتفاق أو باختلاف إذ للعلماء في تكفير أهل البدع قولان. وفي الظواهر ما يدل على ذلك كقوله عليه السلام في بعض روايات حديث الخوارج حين ذكر السهم بصيغة الخوارج(1) من الرمية بين الفرث والدم ومن الآيات قوله سبحانه وتعالى: { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } (2) الآية ونحو الظواهر المتقدمة.
__________
(1) معناه: الخوارج لم يصيبوا شيئًا من الدين كما مرق السهم من الرمية فلم يصب منها شيئًا لا من الفرث ولا من الدم.
(2) آل عمران، آية: 106.(2/22)
الوجه الثالث: أن صاحب البدعة في بعض الأمور التعبدية أو غيرها قد يجره اعتقاد بدعته الخاصة إلى التأويل الذي يصيّر اعتقاده في الشريعة ضعيفًا، وذلك يبطل عليه جميع عمله. بيان ذلك أمثلة: منها: أن يترك العقل مع الشرع في التشريع، وإنما يأتي الشرع كاشفًا لما اقتضاه العقل، فيا ليت شعري هل حكَّم هؤلاء في التعبد لله شرعه أم عقولهم؟ بل صار الشرع في نحلتهم كالتابع المعين لا حاكمًا متبعًا ، وهذا هو التشريع الذي لم يبق للشرع معه أصالة، فكل ما عمل هذا العامل مبنيًا على ما اقتضاه عقله، وإن شرك الشرع فعلي حكم الشركة لا على أفراد الشرع، فلا يصح بناء على الدليل الدال على إبطال التحسين والتقبيح العقليين، إذ هو عند علماء الكلام من مشهور البدع، وكل بدعة ضلالة... ومنها:(2/23)
أن المستحسن للبدع يلزمه عادة أن يكون الشرع عنده لم يكمل بعد، فلا يكون لقوله تعالى { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } (1) معنى يعتبر به عندهم، ومحسن الظن منهم يتأولها حتى يخرجها عن ظاهرها، وذلك أن هؤلاء الفرق التي تبتدع العبادات أكثرها مما يكثر الزهد والانقطاع والانفراد عن الخلق، وإلي الاقتداء بهم يجري أغمار العوام، والذي يلزم الجماعة وإن كان أتقى خلق الله لا يعدونه إلا من العامة أما الخاصة فهم أهل تلك الزيادات، ولذلك تجد كثيرًا من المعتزين بهم، والمائلين إلى جهتهم، يزدرون بغيرهم ممن لم ينتحل مثل ما انتحلوا، ويعدونهم من المحجوبين عن أنوارهم، فكل من يعتقد هذا المعنى يضعف في يده قانون الشرع الذي ضبطه السلف الصالح، وبيَّن حدوده الفقهاء الراسخون في العلم، إذ ليس هو عنده في طريق السلوك بمنهض حتى يدخل مدخل خاصتهم، وعند ذلك لا يبقى لعمل في أيديهم روح الاعتماد الحقيقي، وهو باب عدم القبول في تلك الأعمال، وإن كانت بحسب ظاهر الأمر مشروعة، لأن الاعتقاد فيها أفسدها عليهم، فحقيق أن لا يقبل ممن هذا شأنه صرف ولا عدل، والعياذ بالله!.
وأما الثاني: وهو أن يراد بعدم القبول لأعمالهم ما ابتدعوا فيه خاصة فيظهر أيضًا، وعليه يدل الحديث المتقدم «كل عمل ليس عليه أمرنا فهو ردٌ » والجميع من قوله: «كل بدعة ضلالة» أي أن صاحبها ليس على الصراط المستقيم، وهو معنى عدم القبول، وفق قول الله: { وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِه } (2) وصاحب البدعة لا يقتصر في الغالب على الصلاة دون الصيام، ولا على الصيام دون الزكاة، ولا على الزكاة دون الحج، ولا على الحج دون الجهاد، إلى غير ذلك من الأعمال لأن الباعث له على ذلك حاضر معه في الجميع، وهو الهوى والجهل بشريعة الله.
__________
(1) المائدة، آية: 3.
(2) الأنعام، الآية: 153.(2/24)
وفي ”المبسوطة“ عن يحيى بن يحيى أنه ذكر الأعراف وأهله فتوجع واسترجع ثم قال: قومٌ أرادوا وجهًا من الخير فلم يصيبوه فقيل له: يا أبا محمد! أفيرجي لهم مع ذلك لسعيهم ثواب؟ قال: ليس في خلاف السنة رجاء ثواب.
وأما أن صاحب البدعة تنزع منه العصمة ويوكل إلى نفسه فقد تقدم نقله، ومعناه ظاهر جدًا ، فإن الله تعالى بعث إلينا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين حسبما أخبر في كتابه، وقد كنا قبل طلوع ذلك النور الأعظم لا نهتدي سبيلاً، ولا نعرف من مصالحنا الدنيوية إلا قليلاً على غير كمال، ولا من مصالحنا الأخروية قليلاً ولا كثيراً، بل كل أحد يركب هواه وإن كان فيه ما فيه ويطرح هوى غيره فلا يلتفت إليه، فلا يزال الاختلاف بينهم والفساد فيهم يخص ويعم، حتى بعث الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - لزوال الريب والالتباس، وارتفاع الخلاف الواقع بين الناس، كما قال تعالى { كان النَّاس أمةً واحدةً فبعث الله النبيِّين } إلى قوله { فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ } (1)، وقوله - عز وجل -: { وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا } (2) ولم يكن حاكمًا بينهم فيما اختلفوا فيه إلا وقد جاءهم بما ينتظم به شملهم، وتجتمع به كلمتهم، وذلك راجع إلى الجهة التي من أجلها اختلفوا، وهو ما يعود عليهم بالصلاح في العاجل والآجل ويدرأ عنهم الفساد على الإطلاق، فانحفظت الأبدان والدماء والعقل والأنساب والأموال، من طرق يعرف مآخذها العلماء وذلك القرآن المنزل على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قولاً وعملاً وإقرارًا، ولم يُردوا إلى تدبير أنفسهم للعلم بأنهم لا يستطيعون ذلك ولا يستقلون بدرك مصالحهم ولا تدبير أنفسهم فإذا ترك المبتدع هذه الهبات العظيمة، والعطايا الجزيلة، وأخذ في استصلاح نفسه أو دنياه بنفسه بما لم يجعل الشرع
__________
(1) البقرة، آية: 213.
(2) يونس، الآية: 19.(2/25)
عليه دليلاً، فكيف له بالعصمة والدخول تحت هذه الرحمة؟ وقد حلَّ يده من حبل العصمة إلى تدبير نفسه، فهو حقيق بالبعد عن الرحمة. قال الله تعالى: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا } (1) بعد قوله: { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِه } (2) فأشعر أن الاعتصام بحبل الله هو تقوى الله حقًا وأن ما سوى ذلك تفرقة، لقوله { وَلاَ تَفَرَّقُوا } والفرقة من أخسِّ أوصاف المتبدعة، لأنه خرج عن حكم الله وباين جماعة أهل الإسلام.
وأما أن الماشي إليه والموقِّر له معين على هدم الإسلام فقد تقدم من نقله وروى أيضًا مرفوعًا: «من أتى صاحب بدعة ليوقره، فقد أعان على هدم الإسلام» وعن هشام بن عروة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من وقَّرَ صاحبَ بدعةٍ فقد أعان على هدمِ الإسلامِ». ويجامعها في المعنى ما صح من قوله - صلى الله عليه وسلم - «من أحدث حدثًا أو آوي محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين...» الحديث. وعلي كل حال فتحيا البدع وتموت السنن، وهو هدم الإسلام بعينه. وعلي ذلك دلَّ حديث معاذ: «فيوشك قائل أن يقول: ما لهم لا يتبعوني وقد قرأت القرآن؟ ما هم بمتبَّعي حتى أبتدع لهم غيره، وإياكم وما ابتدع، فإن كل ما ابتدع ضلالة»، فهو يقتضي أن السنن تموت إذا أحيت البدع، وإذا ماتت انهدم الإسلام. وعلي ذلك دلَّ النقل عن السلف زيادة إلى صحة الاعتبار، لأن الباطل إذا عمل به لزم ترك العمل بالحق كما في العكس، لأن المحل الواحد لا يشتغل إلا بأحد الضدين. وأيضًا فمن السنة الثابتة ترك البدع، فمن عمل ببدعة واحدة فقد ترك تلك السنة.
__________
(1) آل عمران، الآية: 103.
(2) آل عمران، الآية: 102.(2/26)
فمما جاء من ذلك ما تقدم ذكره عن حذيفة - رضي الله عنه - أنه أخذ حجرين فوضع أحدهما على الآخر ثم قال لأصحابه: هل ترون ما بين هذين الحجرين من النور؟ قالوا: يا أبا عبد الله! ما نرى بينهما إلا قليلاً، فقال: والذي نفسي بيده لتظهرن البدع حتى لا يرى من الحق إلا قدر ما بين هذين الحجرين من النور، واللهِ لتفشونَّ البدع حتى إذا ترك منها شيء قالوا تركت السنة وله أثر آخر قد تقدم... وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: ما يأتي على الناس من عام إلا أحدثوا فيه بدعة وأماتوا فيه سنة، حتى تحيا البدع وتموت السنن.
وأما أن صاحبها ملعونٌ على لسان الشريعة: فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث حدثًا أو آوي محدثًا فعليه لعنةُ الله والملائكة والناس أجمعين».
وعُدَّ من الإحداث، الاستنان بسنَّة سوء لم تكن.
وهذه اللعنة قد اشترك فيها صاحب البدعة مع من كفر بعد إيمانه، وقد شهد أن بعثة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - حق لا شك فيها ، وجاءه الهدي من الله والبيان الشافي، وذلك قول الله تعالى: { كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ } إلى قوله { أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } (1) إلى آخرها.
واشترك أيضًا مع من كتم ما أنزل الله وبينه في كتابه. وذلك قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ } (2) إلى آخرها.
__________
(1) آل عمران، الآيتان: 86-87.
(2) البقرة، الآية: 159.(2/27)
فتأملوا المعنى الذي اشترك المبتدع فيه مع هاتين الفرقتين، وذلك مضادة الشارع فيما شرع، لأن الله تعالى أنزل الكتاب وشرع الشرائع، وبيَّن الطريق للسالكين على غاية ما يمكن من البيان، فضادّها الكافر بأن جحدها جحدًا، وضادها كاتمها بنفس الكتمان، لأن الشرع يبين ويظهر، وهذا يكتم ويخفي، وضادها المبتدع بأن وضع الوسيلة لترك ما بيَّن وإخفاء ما أظهر، لأن من شأنه أن يدخل الإشكال في الواضحات، من أجل اتباع المتشابهات لأن الواضحات تهدم له ما بني عليه في المتشابهات فهو آخذ في إدخال الإشكال على الواضحات حتى يرتكب ما جاءت اللعنة في الابتداع به من الله والملائكة والناس أجمعين.
وأما أن يزداد من الله بعدًا. فلما روى عن الحسن أنه قال: صاحب البدعة ما يزداد من الله اجتهادًا، صيامًا وصلاة، إلا ازداد من الله بعدًا. وعن أيوب السختياني قال: ما ازداد صاحب بدعة اجتهادًا إلا ازداد من الله بعدًا. ويصحح هذا النقل ما أشار إليه الحديث الصحيح في قوله - صلى الله عليه وسلم - في الخوارج «يخرج من ضئضئ هذا قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم...» إلى أن قال: «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية». فبيَّن أولاً اجتهادهم ثم بيَّن آخرًا بُعدهم من الله تعالى. وهو بين أيضًا من جهة أنه لا يقبل منه صرف ولا عدل كما تقدم، فكل عمل يعمله على البدعة فكما لو لم يعمله ويزيد على تارك العمل بالعناد الذي تضمنه ابتداعه، والفساد الداخل على الناس به في أصل الشريعة، وفي فروع الأعمال والاعتقادات، وهو يظن مع ذلك أن بدعته تقربه من الله وتوصله إلى الجنة(1). وقد ثبت بالنقل الصحيح الصريح بأنه لا يقربه من الله إلا العمل بما شرع، وعلي الوجه الذي شرع وهو تاركه، وأن البدع تحبط الأعمال وهو ينتحلها.
__________
(1) وجه رائع لبيان كيف يجتمع العناد مع الجهل في حالة الضلالة والبدعة.(2/28)
وأما أن البدع مظنة إلقاء العداوة والبغضاء بين أهل الإسلام فلأنها تقتضي التفرق شيعًا. وقد أشار إلى ذلك القرآن الكريم حسبما تقدم في قوله { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } ، وقوله - عز وجل - { وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } (1)، وقوله - عز وجل - { وَلاَ تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ - مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } (2)، وقوله - عز وجل - { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء } (3) وما أشبه ذلك من الآيات في هذا المعنى.
__________
(1) الأنعام، الآية: 153.
(2) الروم، الآيتان: 31- 32.
(3) الأنعام، الآية: 159.(2/29)
وقد بيَّن - صلى الله عليه وسلم - أن فساد ذات البين هى الحالقة وأنها تحلق الدين، هذه الشواهد تدل على وقوع الافتراق والعداوة عند وقوع الابتداع، وأول شاهد عليه في الواقع قصة الخوارج إذ عادوا أهل الإسلام حتى صاروا يقتلونهم ويدعون الكفار كما أخبر عنه الحديث الصحيح. ثم يليهم كل من كان له صولة منهم بقرب الملوك فإنهم تناولوا أهل السنة بكل نكال وعذاب وقتل أيضًا، حسبما بينه جميع أهل الأخبار. ثم يليهم كل من ابتدع بدعة فإن من شأنهم أن يثبطوا الناس عن اتباع الشريعة ويذمونهم ويزعمون أنهم الأرجاس الأنجاس المكبين على الدنيا ويضعون عليهم شواهد الآيات في ذمِّ الدنيا وذمِّ المكبين عليها، كما يروى عن عمرو بن عبيد أنه قال: لو شهد عندي عليٌّ وعثمان وطلحة والزبير على شراك نعل ما أجزت شهادتهم... فهكذا أهل الضلال يسبُّون السلف الصالح لعل بضاعتهم تنفق { وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ } (1). وأصلُ هذا الفساد من قِبَل الخوارج فهم أول من لعن السلف الصالح، وكفَّر الصحابة رضى الله عن الصحابة، ومثل هذا كله يورث العداوة والبغضاء...
وأما أنها مانعة من شفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فلما روى أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «حلت شفاعتى لأمتي إلا صاحب بدعة» ويشير إلى صحة المعنى فيه ما في الصحيح قال - صلى الله عليه وسلم -: «أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم، وأنه سيؤتى برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال ـ إلى قوله ـ فيقال لم يزالوا مرتدين على أعقابهم ...» الحديث.
وأما أنها رافعة للسنن التي تقابلها، فقد تقدم الاستشهاد عليها في أن الموقر لصاحبها معين على هدم الإسلام.
__________
(1) التوبة، الآية: 32.(2/30)
وأما أن على مبتدعها إثمُ من عمل بها إلى يوم القيامة، فلقوله تعالى: { لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } (1)، ولما في الصحيح من قوله - صلى الله عليه وسلم - «من سنَّ سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها» الحديث. وإلي ذلك أشار الحديث الآخر «ما من نفسٍ تقتل ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفلٌ منها، لأنه أول من سنَّ القتل». وهذا التعليل يشعر بمقتضي الحديث قبله، إذ علَّل تعليق الإثم على ابن آدم لكونه أول من سنَّ القتل، فدلَّ على أن مَنْ سنَّ ما لا يرضاه الله ورسوله فهو مثله، إذ لم يتعلق الإثم بمن سنَّ القتل لكونه قتلاً دون غيره، بل لكونه سنَّ سنة سوء وجعلها طريقًا مسلوكة. ومثل هذا ما جاء في معناه مما تقدم أو يأتي كقوله: «من ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئًا» وغير ذلك من الأحاديث.
فليتق الله امرؤ ربه ولينظر قبل الإحداث في أي منزلة يضع قدمه في مصون أمره، يثق بعقله في التشريع ويتهم ربَّه فيما شرع، ولا يدري المسكين ما الذي يوضع له في ميزان سيئاته مما ليس في حسابه ، ولا شعر أنه من عمله؛ فما من بدعة يبتدعها أحدٌ فيعمل بها من بعده، إلا كتب عليه إثمُ ذلك العامل، زيادة إلى إثم ابتداعه أولاً، ثم عمله ثانيًا.
__________
(1) النحل، الآية: 25.(2/31)
وإذا ثبت أن كل بدعة تبتدع فلا تزداد على طول الزمان إلا مضيًا ـ حسبما تقدم ـ واشتهارًا وانتشارًا، فعلي وزان ذلك يكون إثم المبتدع لها، وكما أن من سنَّ سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، وأيضًا فإذا كانت كل بدعة يلزمها إماتة سنة تقابلها، كان على المبتدع إثم ذلك أيضًا، فهو إثم زائد على إثم الابتداع، وذلك الاثم يتضاعف تضاعف إثم البدعة بالعمل بها، لأنها كلما تجددت في قول أو عمل تجددت إماتة السنة كذلك.
واعتبروا ذلك ببدعة الخوارج فإن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عرَّفنا بأنهم «يمرقون من الدين كما يمرقُ السهمُ من الرمية» الحديث إلى آخره. ففيه بيان أنهم لم يبق لهم من الدين إلا ما إذا نظر فيه الناظر شك فيه وتمارى. هل هو موجود فيهم أم لا؟ وإنما سببه الابتداع في دين الله، وهو الذي دلَّ عليه قوله: «يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان» وقوله - صلى الله عليه وسلم - «يقرءون القرآن لا يتجاوز تراقيهم» فهذه بدع ثلاث، إعاذة بالله من ذلك بفضله.(2/32)
وأما أن صاحبها ليس له توبة فلما جاء من قوله - صلى الله عليه وسلم - «إن الله حجر التوبة على كل صاحب بدعة»... وخرج ابن وهب عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقول: اثنان لا نعاتبهما: صاحب طمع، وصاحب هوى، فإنهما لا ينزعان... وعن أيوب قال: كان رجلٌ يرى رأيًا فرجع عنه فأتيت محمدًا فرحًا بذلك أخبره، فقلت: أشعرت أن فلانًا ترك رأيه الذي كان يرى؟ فقال: انظر إِلاَمَ يتحول؟ إن آخر الحديث أشد عليهم من الأول، أوله «يمرقون من الدين» وآخره: «ثم لا يعودون» وهو حديث أبي ذر أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «سيكون من أمتي قومٌ يقرءون القرآن ولا يجاوز حلاقيمهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه هم شرُّ الخلق والخليقة»... ويدلُّ على ذلك أيضًا حديث الفرق إذ قال فيه: «وإنه سيخرج في أمتي أقوامٌ تجاري بهم الأهواء، كما يتجارى الكَلِب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله» وهذا النفي يقتضي العموم بإطلاق، ولكنه قد يحمل على العموم العادي، إذ لا يبعد أن يتوب عما رأى ويرجع إلى الحق، كما نقل عن عبد الله بن الحسن العنبري، وما نقلوه في مناظرة ابن عباس الحرورية الخارجين على عليٍّ - رضي الله عنه -، وفي مناظرة عمر بن عبد العزيز لبعضهم، ولكن الغالب في الواقع الإصرار... وسبب بعده عن التوبة أن الدخول تحت تكاليف الشريعة صعب على النفس لأنه أمر مخالف للهوى، وصاد عن سبيل الشهوات، فيثقل عليهم جدًا لأن الحق ثقيل، والنفس إنما تنشط بما يوافق هواها لا بما يخالفه، وكل بدعة فللهوى فيها مدخل، لأنها راجعة إلى نظر مخترعها لا إلى نظر الشارع، فعلي حكم التبع لا بحكم الأصل مع ضميمة أخرى، وهى أن المبتدع لابد له من تعلق بشبهة دليل ينسبها إلى الشارع، ويدعي أن ما ذكره هو مقصود الشارع، فصار هواه مقصودًا بدليل شرعي في زعمه، فكيف يمكنه الخروج عن ذلك وداعي الهوى مستمسك بحسن ما يتمسك به؟ وهو الدليل الشرعي في(2/33)
الجملة.
... فالمبتدع يزيد في الاجتهاد لينال في الدنيا التعظيم والمال والجاه وغير ذلك من أصناف الشهوات، بل التعظيم على شهوات الدنيا، ألا ترى إلى انقطاع الرهبان في الصوامع والديارات، عن جميع الملذوذات، ومقاساتهم في أصناف العبادات، والكف عن الشهوات؟ وهم مع ذلك خالدون في جهنم قال الله - عز وجل - { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ - عَامِلَةٌ نَاصِبَة - تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً } (1)، وقال - عز وجل -: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالًا - الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } (2). وماذاك إلا لخفة يجدونها في ذلك الالتزام، ونشاط يداخلهم يستسهلون به الصعب بسبب ما داخل النفس من الهوى، فإذا بدا للمبتدع ما هو عليه رآه محبوبًا عنده لاستبعاده للشهوات وعمله من جملتها ورآه موافقًا للدليل عنده، فما الذي يصده عن الاستمساك به والازدياد منه؟ وهو يرى أن أعماله أفضل من أعمال غيره، واعتقاداته أوفق وأعلى؟ أفيفيد البرهان مطلبًا؟ { كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } (3).
__________
(1) الغاشية، الآيات: 2-4 .
(2) الكهف، الآيتان: 103-104.
(3) المدثر، آية: 31.(2/34)
وأما أن المبتدع يُلقى عليه الذل في الدنيا والغضب من الله تعالى: فلقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ } (1) حسبما جاء في تفسير الآية عن بعض السلف وقد تقدم ووجهه ظاهر لأن المتخذين للعجل إنما ضلوا به حتى عبدوه، لما سمعوا من خواره، ولما ألقي إليهم السامريّ فيه، فكان في حقهم شبهة خرجوا بها عن الحق الذي كان في أيديهم قال الله تعالى: { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ } فهو عموم فيهم وفيمن أشبههم، من حيث كانت البدع كلها افتراء على الله حسبما أخبر في كتابه في قوله تعالى: { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمْ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ } (2).
وأما البعد عن حوض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فلحديث ”الموطأ“: «فليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال ...» الحديث. وفي حديث عبد الله «أنا فرطكم على الحوض ليرفعن إليَّ رجالٌ منكم حتى إذا تأهبت لأتناولهم اختلجوا دوني، فأقول: أي ربّ! أصحابي، يقول: لا تدري ما أحدثوه بعدك».
وأما الخوف عليه من أن يكون كافرًا، فلأن العلماء من السلف الأول وغيرهم اختلفوا في تكفير كثير من فرقهم مثل الخوارج والقدرية وغيرهم، ودل على ذلك ظاهر قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } (3)، وقوله - عز وجل -: { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } (4) الآية.
__________
(1) الأعراف، الآية: 152.
(2) الأنعام، الآية:140.
(3) الأنعام، الآية: 159.
(4) آل عمران، الآية: 106.(2/35)
وقد حكم العلماء بكفر جملة منهم كالباطنية وسواهم ، لأن مذهبهم راجع إلى مذهب الحلولية القائلين بما يشبه قول النصارى في اللاهوت والناسوت، والعلماء إذا اختلفوا في أمر: هل هو كفر أم لا؟ فكل عاقل يربأ بنفسه أن ينسب إلى خطة خسف كهذه بحيث يقال له: إنَّ العلماء اختلفوا: هل أنت كافر أم ضال غير كافر؟ أو يقال: إن جماعة من أهل العلم قالوا بكفرك وأنت حلال الدم.
وأما أنه يخاف على صاحبها سوء الخاتمة والعياذ بالله فلأن صاحبها مرتكب إثمًا وعاص لله تعالى حتمًا، ولا نقول الآن: هو عاص بالكبائر أو بالصغائر، بل نقول: هو مصر على ما نهى الله عنه، والإصرار يعظم الصغيرة إن كانت صغيرة حتى تصير كبيرة، وإن كانت كبيرة فأعظم. ومن مات مصرًا على المعصية فيخاف عليه، فربما إذا كشف الغطاء وعاين علامات الآخرة استفزه الشيطان وغلبه على قلبه، حتى يموت على التغيير والتبديل، وخصوصًا حين كان مطيعًا له فيما تقدم من زمانه مع حب الدنيا المستولي عليه. قال عبد الحق الإشبيلي: إن سوء الخاتمة لا يكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه فما سمع بهذا قط ولا علم به والحمد لله، وإنما يكون لمن كان له فساد في العقل أو إصرار على الكبائر، وإقدام على العظائم، أو لمن كان مستقيمًا ثم تغيرت حاله وخرج عن سننه، وأخذ في طريق غير طريقه، فيكون عمله ذلك سببًا لسوء خاتمته وسوء عاقبته، والعياذ بالله، قال الله تعالى { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ } (1).
__________
(1) الرعد، الآية: 11.(2/36)
فهذا ظاهر إذا اغتر بالبدعة من حيث هى معصية. فإذا نظرنا إلى كونها بدعة فذلك أعظم لأن المبتدع مع كونه مصرًا على ما نهى عنه يزيد على المصرِّ بأنه معارض للشريعة بعقله، غير مسلم لها في تحصيل أمره، معتقدًا في المعصية أنها طاعة، حيث حسَّن ما قبَّحَهُ الشارع، وفي الطاعة أنها لا تكون طاعة إلا بضميمة نظره، فهو قد قبَّح ما حسّنه الشارع، ومن كان هكذا فحقيق بالقرب من سوء الخاتمة إلا ما شاء الله. وقد قال تعالى في جملة من ذم { أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } (1) والمكر جلب السوء من حيث لا يفطن له، وسوء الخاتمة من مكر الله، إذ يأتي الإنسان من حيث لا يشعر به اللهم إنَّا نسألك العفو والعافية.
وأما اسوداد وجهه في الآخرة فقد تقدم في ذلك معنى قوله - عز وجل - { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } (2) وفيها أيضًا الوعيد بالعذاب لقوله { فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } (3) وقوله - عز وجل - قبل ذلك: { وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (4).
وأما البراءة منه ففي قوله - عز وجل -: { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } (5)، وفي الحديث: «أنا برئ منهم وهم برآء مني» وقال ابن عمر - رضي الله عنه - في أهل القدر« إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني برئٌ منهم وأنهم برآء مني»... قال ابن وهب: وسمعت مالكًا إذا جاءه بعض أهل الأهواء يقول: أما أنا فعلى بينة من ربي، وأما أنت فشاكّ، فاذهب إلى شاكٍ مثلك فخاصمه، ثم قرأ: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ } (6).
__________
(1) الأعراف، الآية: 99.
(2) آل عمران، الآية: 106.
(3) آل عمران، الآية: 106.
(4) آل عمران، الآية: 105.
(5) الأنعام، الآية: 159.
(6) يوسف، الآية: 108.(2/37)
وأما أنه يُخشى عليه الفتنة، فلما حكى عياض عن سفيان بن عيينة أنه قال: سألت مالكًا عمن أحرم من المدينة وراء الميقات؟ فقال: هذا مخالف لله ورسوله، أخشي عليه الفتنة في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة، أما سمعت قوله تعالى: { فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (1)، وقد أمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يُهلّ من المواقيت وحكي ابن عربي عن الزبير بن بكار قال: سمعت مالك بن أنس ـ وأتاه رجل ـ فقال: يا أبا عبد الله من أين أحرم؟ قال: من ذي الحليفة من حيث أحرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: إني أريد أن أحرم من المسجد. فقال لا تفعل. قال: فإني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر. قال: لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة. فقال: وأيُّ فتنة هذه؟ إنما هى أميال أزيدها، قال: وأي فتنةٌ أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصَّر عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ إني سمعت اللهَ يقول { فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
وهذه الفتنة التي ذكرها مالك رحمه الله تفسير الآية هى شأن أهل البدع وقاعدتهم التي يؤسسون عليها بنيانهم، فإنهم يرون أن ما ذكره الله في كتابه وما سنَّه نبيُّه - صلى الله عليه وسلم - دون ما اهتدوا إليه بعقولهم». أهـ.
__________
(1) النور، الآية: 63.(2/38)
أقول: جاء في سنن الدارمي(1): «أخبرني الحكم بن المبارك حدثنا عمر بن يحيي قال سمعت أبي يحدث عن أبيه قال: كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد فجاءنا أبو موسى الأشعري فقال: أخرج إليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا. فجلس معنا حتى خرج فلما خرج قمنا إليه جميعًا فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن: إنِّي رأيتُ في المسجد آنفًا أمرًا أنكرته ولم أرَ والحمدُ لله إلا خيرًا قال: فما هو؟ فقال: إن عشتَ فستراه. قال: رأيت في المسجد قومًا حلقًا جلوسًا ينتظرون الصلاة في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول كبروا مائة، فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة، فيهللون مائة، ويقول سبحوا مائة، فيسبحون مائة قال: فماذا قلت لهم، قال: ما قلت لهم شيئًا انتظار رأيك أو انتظار أمرك. قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم، ثم مضى ومضينا معه حتى أتى حلقة من تلك الحلق فوقف عليهم. فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون. قالوا: يا أبا عبد الله حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح. قال: فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن ألا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم. هؤلاء صحابة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هى أهدى من ملة محمد أو مفتتحوا باب ضلالة. قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير. قال كم من مريد للخير لن يصيبه. إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدثنا أن قومًا يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وايم الله ما أدري لعل أكثرهم منكم. ثم تولى عنهم. فقال عمرو بن سلمة: رأينا عامة أولئك الحلقة يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج. أهـ.
ويقول الإمام الشاطبي(2):
__________
(1) سنن الدارمي، ج1 ، ص 68.
(2) الاعتصام، ج1 ، ص 174.(2/39)
«ويتعلق بهذا الفصل أمرٌ آخر وهو الحكم في القيام على أهل البدع من الخاصة أو العامة وهذا باب كبير في الفقه تعلق بهم من جهة جنايتهم على الدين، وفسادهم في الأرض، وخروجهم عن جادة الإسلام، إلى بنيّات الطريق التي نبّه عليها قول الله تعالى { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } (1) وهو فصل من تمام الكلام على التأثيم لكنه مفتقر إلى النظر في شعب كثيرة. إلى أن يقول: فخرج من مجموع ما تكلم فيه العلماء أنواع:
”أحدها“: الإرشاد والتعليم وإقامة الحجة كمسألة ابن عباس - رضي الله عنه - حين ذهب إلى الخوارج فكلمهم حتى رجع منهم ألفان أو ثلاثة آلاف.
”الثاني“: الهجران وترك الكلام والسلام حسبما تقدم عن جملة من السلف في هجرانهم لمن تلبس ببدعة، وما جاء عن عمر من قصة صبيغ العراقي.
”الثالث“: كما غرَّب عمر صبيغًا ويجري مجراه السجن وهو:
”الرابع“: كما سجنوا الحلاج قبل قتله سنين عديدة.
”الخامس“: ذكرهم بما هم عليه وإشاعة بدعتهم كي يحذروا ، ولكي لا يغتر بكلامهم كما جاء عن كثير من السلف في ذلك.
”السادس“: القتال إذا ناصبوا المسلمين وخرجوا عليهم كما قاتل عليّ - رضي الله عنه - الخوارج. وغيره من خلفاء السنة.
”السابع“: القتل إن لم يرجعوا مع الاستتابة، وهو قد أظهر بدعته، وأما من أسرها وكانت كفرًا أو ما يرجع إليه فالقتل بلا استتابة وهو:
”الثامن“: لأنه من باب النفاق كالزندقة.
”التاسع“: تكفير من دلَّ الدليل على كفره، كما إذا كانت البدعة صريحة في الكفر كالإباحية والقائلين بالحلول كالباطنية ، أو كانت المسألة في باب التكفير بالمآل، فذهب المجتهد إلى التكفير كابن الطيب في تكفيره جملة من الفرق، وينبني على ذلك:
__________
(1) الأنعام، آية: 153.(2/40)
”الوجه العاشر“: وذلك أنه لا يرثهم ورثتهم من المسلمين ولا يرثون أحدًا منهم، ولا يغسلون إذا ماتوا، ولا يصلي عليهم ولا يدفنون في مقابر المسلمين، ما لم يكن المستتر فإن المستتر يحكم له بحكم الظاهر، وورثته أعرف بالنسبة إلى الميراث.
”الحادي عشر“: الأمر بأن لا يناكحوا، وهو من ناحية الهجران وعدم المواصلة.
”الثاني عشر“: تجريحهم على الجملة، فلا تقبل شهادتهم ولا روايتهم، ولا يكونون ولاة ولا قضاة، ولا ينصبون في مناصب العدالة من إمامة أو خطابة. إلا أنه قد ثبت عن جملة من السلف رواية جماعة منهم ، واختلفوا في الصلاة خلفهم من باب الأدب ليرجعوا عما هم عليه.
”الثالث عشر“: ترك عيادة مرضاهم، وهو من باب الزجر والعقوبة.
”الرابع عشر“: ترك شهود جنائزهم كذلك.
”الخامس عشر“: الضرب كما ضرب عمر رضى عنه صبيغًا». أهـ.
أقول: وجملة أوصاف أهل البدع كما ذكرها الشاطبي في الاعتصام هى:
الإحداث.
الاستدراك على الشرع.
رد قصد الشارع في الانفراد بالتشريع.
إعمال النظر العقلي مع طرح السنة.
الجهل بأدوات الفهم. ... 6- الجهل بمقاصد الشريعة.
تحسين الظن بالعقل. ... 8- اتباع الهوى.
اتباع المتشابه. ... 10- الضلال.
الغلو. ... ... 12- الزيغ.
البغي والغواية. ... 14- الجدال والخصومات.
كثرة التنقل. ... 16- التكلف والتعمق والتنطع.
الإشراب. ... ... 18- الفرقة والخلاف.
الإعراض عن الدليل والاعتماد على الرجال تعظيما لهم وغلوًا فيهم أو تهاونًا بالشرع.
تميزالاستدلالات باتباع المتشابهات وتحريف المناطات وتحميل الآيات ما لا تحتمله عند السلف الصالح والتمسك بالأحاديث والاحتجاجات الواهية وأخذ الأدلة ببادئ الرأي والتأويلات الفاسدة ورد الأحاديث التي لا توافق أغراضهم ومذاهبهم.
الخروج عن السمت الأول وسنة السلف الصالح وعن طريقهم المستقيم إلى البنيات والشعاب.(2/41)
يقول الإمام الشاطبي (1): في أن ذم البدع والمحدثات عام لا يخص محدثة دون غيرها: «فاعلموا ـ رحمكم الله ـ أن ما تقدم من الأدلة حجة في عموم الذم من أوجه: أحدها: أنها جاءت مطلقة عامة على كثرتها لم يقع فيها استثناء البتة، ولم يأت فيها ما يقتضي أن منها ما هو هدى، ولا جاء فيها كل بدعة ضلالة إلا كذا وكذا، ولا شيء من هذه المعاني، فلو كان هنالك محدثة يقتضي النظر الشرعي فيها الاستحسان أو أنها لاحقة بالمشروعات، لذكر ذلك في آية أو حديث لكنه لا يوجد، فدلَّ على أن تلك الأدلة بأسرها على حقيقة ظاهرها من الكلية التي لا يتخلف عن مقتضاها فرد من الأفراد.
والثاني: أنه قد ثبت في الأصول العلمية أن كل قاعدة كلية أو دليل شرعي كلي إذا تكررت في مواضع كثيرة وأتى بها شواهد على معان أصولية أو فروعية، ولم يقترن بها تقييد ولا تخصيص، مع تكررها، وإعادة تقررها، فذلك دليل على بقاءها على مقتضي لفظها من العموم كقوله تعالى: { أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى - وَأَنْ لَيْسَ لِلإنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى } (2) وما أشبه ذلك. وبسط الاستدلال على ذلك هناك، فما نحن بصدده من هذا القبيل، إذ جاء في الأحاديث المتعددة والمتكررة في أوقات شتي وبحسب الأحوال المختلفة: أن كل بدعة ضلالة، وأن كل محدثة بدعة، وما كان نحو ذلك من العبارات الدالة على أن البدع مذمومة. ولم يأت في آية ولا حديث تقييد ولا تخصيص ولا ما يفهم منه خلاف ظاهر الكلية فيها، فدلَّ ذلك دلالة واضحة على أنها على عمومها وإطلاقها.
والثالث: إجماع السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم على ذمها كذلك، وتقبيحها والهروب عنها، وعمن اتسم بشيء منها ولم يقع منهم في ذلك توقف ولا مثنوية. فهو ـ بحسب الاستقراء ـ إجماع ثابت، فدلَّ على أن كل بدعة ليست بحق، بل هى من الباطل.
__________
(1) الاعتصام، ج1، ص 141.
(2) النجم، الآيتان: 38- 39.(2/42)
والرابع: أن متعقل البدعة يقتضي ذلك بنفسه، لأنه من باب مضادة الشارع وإطراح الشرع، وكل ما كان بهذه المثابة فمحال أن ينقسم إلى حسن وقبيح، وأن يكون منه ما يمدح ومنه ما يذم، إذ لا يصح في معقول ولا منقول استحسان مشاقة الشارع. وقد تقدم بسط هذا في أول الباب الثاني. وأيضًا فلو فرض أنه جاء في النقل استحسان بعض البدع أو استثناء بعضها عن الذم لم يتصور لأن البدعة طريقة تضاهي المشروعة من غير أن تكون كذلك. وكون الشارع يستحسنها دليل على مشروعيتها، إذ لو قال الشارع ”المحدثة الفلانية حسنة“ لصارت مشروعة كما أشاروا إليه في الاستحسان حسبما يأتي إن شاء الله.
ولما ثبت ذمها ثبت ذمّ صاحبها لأنها ليست بمذمومة من حيث تصورها فقط، بل من حيث اتصف بها المتصف، فهو إذًا المذموم على الحقيقة، والذم خاصة التأثيم، فالمبتدع مذموم آثم، وذلك على الإطلاق والعموم ويدل على ذلك أربعة أوجه:
أحدها: أن الأدلة المذكورة إن جاءت فيهم نصًا فظاهر، كقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } (1)، وقوله - عز وجل - { وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ } (2) إلى آخر الآية. وقوله عليه السلام: «فليذادن رجال عن حوضي» الحديث إلى سائر ما نصّ فيه عليهم. وإن كانت نصًّا في البدعة فراجعة المعنى إلى المبتدع من غير إشكال، وإذا رجع الجميع إلى ذمهم رجع الجميع إلى تأثيمهم.
__________
(1) الأنعام، الآية: 159.
(2) آل عمران، الآية: 105.(2/43)
الثاني: أن الشرع قد دلَّ على أن الهوى هو المتبع الأول في البدع، وهو المقصود السابق في حقهم ودليل الشرع كالتبع في حقهم، ولذلك تجدهم يتأولون كل دليل خالف هواهم، ويتبعون كل شبهة وافقت أغراضهم ألا ترى إلى قوله تعالى: { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } (1) فأثبت لهم الزيغ أولاً، وهو الميل عن الصواب، ثم اتباع المتشابه وهو خلاف المحكم الواضح المعنى، الذي هو أمُّ الكتاب ومعظمه ومتشابهه على هذا قليل، فتركوا اتباع المعظم إلى اتباع الأقل المتشابه الذي لا يعطي مفهومًا واضحًا ابتغاء تأويله، وطلبًا لمعناه الذي لا يعلمه إلا الله، أو يعلمه الله والراسخون في العلم، وليس إلا بردِّه إلى المحكم ولم يفعل المبتدعة ذلك. فانظروا كيف اتبعوا أهواءَهم أولاً في مطالبة الشرع بشهادة الله، وقال الله تعالى: { إنَّ الذين فرقوا دينهم } الآية. فنسب إليهم التفريق ولو كان التفريق من مقتضي الدليل لم ينسبه إليهم ولا أتى به في معرض الذم وليس ذلك إلا باتباع الهوى.
__________
(1) آل عمران، الآية: 7.(2/44)
وقال تعالى: { وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } (1) فجعل طريق الحق واضحًا مستقيمًا ونهى عن البنيات. والواضح من الطرق والبينات، كل ذلك معلوم بالعوائد الجارية، فإذا وقع التشبيه بها بطريق الحق مع البُنيَّات في الشرع فواضح أيضًا، فمن ترك الواضح واتبع غيره فهو متبع لهواه لا للشرع. وقال تعالى: { وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ } (2) فهذا دليل على مجيء البيان الشافي، وإن التفرق إنما حصل من جهة المتفرقين لا من جهة الدليل، فهو إذًا من تلقاء أنفسهم، وهو اتباع الهوى، بعينه، والأدلة على هذا كثيرة تشير أو تصرح بأن كل مبتدع إنما يتبع هواه، وإذا اتبع هواه كان مذمومًا وآثمًا والأدلة عليه أيضًا كثيرة كقوله - عز وجل - { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّه } (3)، وقوله - عز وجل -: { وَلاَ تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } (4)، وقوله - عز وجل - { وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } (5) وما أشبه ذلك: فإذًا كل مبتدع مذموم آثم.
والثالث: أن عامة المبتدعة قائلة بالتحسين والتقبيح، فهو عمدتهم الأولى وقاعدتهم التي يبنون عليها الشرع، فهو المقدم في نحلهم بحيث لا يتهمون العقل، وقد يتهمون الأدلة، إذا لم توافقهم في الظاهر، حتى يردوا كثيرًا من الأدلة الشرعية.
__________
(1) الأنعام، الآية: 153.
(2) آل عمران، الآية: 105.
(3) القصص، الآية: 50.
(4) ص، آية: 26.
(5) الكهف، آية: 28.(2/45)
وقد علمت ـ أيها الناظر ـ أنه ليس كل ما يقضي به العقل يكون حقًا، ولذلك تراهم يرتضون اليوم مذهبًا ويرجعون عنه غدًا، ثم يصيرون بعد غد إلى رأي ثالث. ولو كان كل ما يقضي به حقًا لكفى في إصلاح معاش الخلق ومعادهم، ولم يكن لبعثة الرسل عليهم السلام فائدة، ولكان على هذا الأصل تعد الرسالة عبثًا لا معنى له، وهو كله باطل، فما أدى إليه مثله.
فأنت ترى أنهم قدموا أهواءهم على الشرع، ولذلك سمُّوا في بعض الأحاديث وفي إشارة القرآن أهل الأهواء، وذلك لغلبة الهوى على عقولهم واشتهاره فيهم لأن التسمية بالمشتق إنما يطلق إطلاق اللقب إذا غلب ما اشتقت منه على المسمى بها، فإذًا تأثيم من هذه صفته ظاهر، لأن مرجعه إلى اتباع الرأي وهو اتباع الهوى المذكور آنفًا.
والرابع: أن كل راسخ لايبتدع أبدًا، وإنما يقع الابتداع ممن لم يتمكن من العلم الذي ابتدع فيه، حسبما دل عليه الحديث، ويأتي تقريره بحول الله، فإنما يؤتى الناس من قبل جهالهم الذين يُحسبون أنهم عُلماء، وإذا كان كذلك فاجتهاد من اجتهد منهيٌّ عنه إذ لم يستكمل شروط الاجتهاد فهو على أصل العمومية، ولما كان العامي حرامًا عليه النظر في الأدلة والاستنباط، كان المخضرم الذي بقي عليه كثيرٌ من الجهالات مثله في تحريم الاستنباط والنظر المعمول به، فإذا أقدم على محرم عليه كان آثمًا بإطلاق.
وبهذه الأوجه الأخيرة ظهر وجه تأثيمه، وتبين الفرق بينه وبين المجتهد المخطئ في اجتهاده». أهـ.
ويقول الإمام الشاطبي(1):
__________
(1) الاعتصام، ج1، ص 167.(2/46)
«”فصل“: إذا ثبت أن المبتدع آثم فليس الإثم الواقع عليه على رتبة واحدة ، بل هو على مراتب مختلفة، من جهة كون صاحبها مستترًا بها أو معلنًا، ومن جهة كون البدعة حقيقية أو إضافية، ومن جهة كونها بينة أو مشكلة، ومن جهة كونها كفرًا أو غير كفر، ومن جهة الإصرار عليها أو عدمه، إلى غير ذلك من الوجوه التي يقطع معها بالتفاوت في عظم الإثم وعدمه أو يغلب على الظنّ». أهـ.
أقول: اترك بعض ما ذكره الإمام في شرح هذه الفروق لوضوحه . إلى أن يقول(1): وأما الاختلاف من جهة كونه خارجًا على أهل السنة أو غير خارج، فلأن غير الخارج لم يزد على الدعوة مفسدة أخري يترتب عليها إثمٌ، والخارج زاد الخروج على الأئمة ـ وهو موجب للقتل ـ والسعي في الأرض بالفساد، وإثارة الفتن والحروب، إلى حصول العداوة والبغضاء بين أولئك الفرق، فله من الإثم العظيم أوفر حظ.
__________
(1) المصدر السابق،ج1، ص 170.(2/47)
ومثاله قصة الخوارج الذين قال فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» وأخبارهم شهيرة وقد لا يخرجون هذا الخروج بل يقتصرون على الدعوة لكن على وجه أدعي إلى الإجابة، لأن فيه نوعًا من الإكراه، والإخافة، فلا هو مجرد دعوة، ولا هو شق العصا من كل وجه، وذلك أن يستعين على دعوة بأولي الأمر من الولاة والسلاطين، فإن الاقتداء هنا أقوى بسبب خوف الولاة من الإيقاع بالآبي سجنًا أو ضربًا أو قتلاً، كما اتفق لبشر المريسي في زمن المأمون، ولأحمد بن أبي دؤاد في خلافة الواثق، وكما اتفق لعلماء المالكية بالأندلس إذ صارت ولايتها للمهديين، فمزقوا كتب المالكية وسموها كتب الرأي، ونكلوا بجملة من الفضلاء بسبب أخذهم في الشريعة بمذهب مالك، وكانوا هم مرتكبين للظاهرية المحضة، التي هى عند العلماء بدعة ظهرت بعد المائتين من الهجرة، وياليتهم وافقوا مذهب داود وأصحابه لكنهم تعدوا ذلك إلى أن قالوا برأيهم، ووضعوا للناس مذاهب لاعهد لهم بها في الشريعة، وحملوهم عليها طوعًا أو كرهًا، حتى عمَّ داؤها في الناس، وثبتت زمانًا طويلاً، ثم ذهب منها جملة وبقيت أخري إلى اليوم.(2/48)
إلى أن يقول: وأما الاختلاف من جهة كونها ظاهرة المآخذ أو مشكلة فلأن الظاهر عند الإقدام عليها محض مخالفة، فإن كانت مشكلة فليست بمحض مخالفة، لإمكان أن لا تكون بدعة، والإقدام على المحتمل، أخفض رتبة من الإقدام على الظاهر، ولذلك عدَّ العلماءُ ترك المتشابه من قبيل المندوب إليه في الجملة. ونبَّه الحديث على أن ترك المتشابه لئلا يقع في الحرام، فهو حمى له، وإن واقع المتشابه واقع في الحرام، وليس ترك الحرام في الجملة من قبيل المندوب بل هو من قبيل الواجب... وأما الاختلاف من حيث الإصرار عليها أو عدمه فلأن الذنب قد يكون صغيرًا فيعظم بالإصرار عليه كذلك البدعة تكون صغيرة فتعظم بالإصرار عليها، فإذا كانت فلتة فهى أهون منها إذا داوم عليها، ويلحق بهذا المعنى إذا تهاون بها المبتدع وسهل أمرها، نظير الذنب إذا تهاون به، فالمتهاون أعظم وزرًا من غيره.
وأما الاختلاف من جهة كونها كفرًا وعدمه فظاهر أيضًا، لأن ما هو كفر جزاؤه التخليد في العذاب ـ عافانا الله ـ وليس كذلك ما لم يبلغ حكم سائر الكبائر مع الكفر في المعاصي، فلا بدعة أعظم وزرًا من بدعة تخرج من الإسلام، كما أنه لا ذنب أعظم من ذنب يخرج عن الإسلام، فبدعة الباطنية والزنادقة ليست كبدعة المعتزلة والمرجئة وأشباههم، ووجوه التفاوت كثيرة، ولظهورها عند العلماء لم نبسط الكلام عليها، والله المستعان بفضله». أهـ.(2/49)
يقول الإمام الشاطبي(1): في أحكام البدع وأنها ليست على رتبة واحدة: « ”ووجه ثان“: أن البدع إذا تؤمل معقولها وجدت رتبها متفاوتة، فمنها ما هو كفر صراح كبدعة الجاهلية التي نبَّه عليها القرآن، كقوله تعالى: { وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنْ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَاْ } (2) الآية، وقوله تعالى { وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ } (3)، وقوله تعالى: { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ } (4). وكذلك بدعة المنافقين حيث اتخذوا الدين ذريعة لحفظ النفس والمال، وما أشبه ذلك مما لا يشك أنه كفر صراح.
ومنها ما هو من المعاصي التي ليست بكفر أو يختلف هل هى كفر أم لا ! كبدعة الخوارج والقدرية والمرجئة ومن أشبههم من الفرق الضالة.
ومنها ما هو معصية ويتفق على أنها ليست بكفر كبدعة التبتل والصيام قائمًا في الشمس، والخصاء بقصد قطع شهوة الجماع.
ومنها ما هو مكروه كما يقول مالك في اتباع رمضان بست من شوال، وقراءة القرآن بالإدارة، والاجتماع للدعاء عشية عرفة، وذكر السلاطين في خطب الجمعة... وما أشبه ذلك».
ويقول الإمام الشاطبي عن البدع المكروهة(5):
__________
(1) الاعتصام، ج2، ص 37.
(2) الأنعام، الآية: 136.
(3) الأنعام، الآية: 139.
(4) المائدة، الآية: 103.
(5) الاعتصام، ج2، ص 51.(2/50)
«وأما ثانيًا: فإن إثبات قسم الكراهة في البدع على الحقيقة مما ينظر فيه، فلا يغتر المغتر بإطلاق المتقدمين من الفقهاء لفظ المكروه على بعض البدع، وإنما حقيقة المسألة أن البدع ليست على رتبة واحدة في الذم ـ كما تقدم بيانه ـ وأما تعيين الكراهة التي معناها نفي إثم فاعلها وارتفاع الحرج البتة، فهذا مما لا يكاد يوجد عليه دليل من الشرع ولا من كلام الأئمة على الخصوص.
أما الشرع ففيه ما يدل على خلاف ذلك لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ردّ على من قال: «أما أنا فأقوم الليل ولا أنام، وقال الآخر: أما أنا فلا أنكحُ النساء إلى آخر ما قالوا. فردَّ عليهم ذلك - صلى الله عليه وسلم - وقال: مَنْ رغبَ عن سنتي فليس مني» وهذه العبارة أشد شيء في الإنكار، ولم يكن ما التزموا إلا فعل مندوب أو ترك مندوب إلى فعل مندوب آخر، وكذلك ما في الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً قائمًا في الشمس فقال: «ما بالُ هذا؟ : قالوا: نذرَ أنْ لا يستظل ولا يتكلم ولا يجلس ويصوم، فقال رسول - صلى الله عليه وسلم -: مُرْهُ فليجلس وليتكلم وليستظل وليُتِّمَ صومه». قال مالك: أمره أن يتمَّ ما كانَ لله عليه فيه طاعة، ويترك ما كان عليه فيه معصية».
وبعد أن يذكر الإمام الشاطبي أمثلة أخري يقول(1): «فتأمل كيف جعل القيام في الشمس وترك الكلام ونذر المشي إلى الشام أو مصر معاصي، حتى فسَّر فيها الحديث المشهور «من نذرَ أن يعصي الله فلا يعصه» مع أنها في أنفسها أشياء مباحات، لكنه لما أجراها مجرى ما يتشرع به ويدان لله به صارت عند مالك معاصي لله وكلية قوله - صلى الله عليه وسلم -: «كل بدعة ضلالة» شاهدة لهذا المعنى، والجميع يقتضي التأثيم والتهديد والوعيد، وهى خاصية المحرم».
__________
(1) المصدر السابق، ج2، ص 51.(2/51)
ثم يقول الإمام الشاطبي(1): «وهو أن المحرم ينقسم في الشرع إلى ما هو صغيرة وإلي ما هو كبيرة ـ حسبما تبين في علم الأصول الدينية ـ فكذلك يقال في البدع المحرمة إنها تنقسم إلى الصغيرة والكبيرة اعتبارًا بتفاوت درجاتها».
وبعد أن يتكلم عن انقسام المعاصي إلى صغيرة وكبيرة وأن البدع من جملة المعاصي فيسري عليها هذا الانقسام. يقول(2): «وأما في البدع فثبت لها أمران: أحدهما: أنها مضادة للشارع ومراغمة له، حيث نصب المبتدع نفسه نصب المستدرك على الشريعة، لا نصب المكتفي بما حدَّ له.
والثاني: أن كل بدعة ـ وإن قلَّت ـ تشريع زائد أو ناقص، أو تغيير للأصل الصحيح، وكل ذلك قد يكون على الانفراد، وقد يكون ملحقًا بما هو مشروع، فيكون قادحًا في المشروع، ولو فعل أحد مثل هذا في نفس الشريعة عامدًا لكفر، إذ الزيادة والنقصان فيها أو التغيير ـ قلَّ أو كثر ـ كفر، فلا فرق بين ما قل منه وما كثر فمن فعل مثل ذلك بتأويل فاسد أو برأي غالط رآه، أو ألحقه بالمشروع إذا لم تكفره لم يكن في حكمه فرق بين ما قل منه وما كثر، لأن الجميع جناية لا تحملها الشريعة بقليل ولا بكثير».
__________
(1) الاعتصام، ج2، ص 57 .
(2) المصدر السابق، ج2، ص 60.(2/52)
ويقابل هذا بقوله(1): «إن البدع تنقسم إلى ما هى كلية في الشريعة وإلي جزئية ومعنى ذلك أن يكون الخلل الواقع بسبب البدعة كليًا في الشريعة كبدعة التحسين والتقبيح العقليين، وبدعة إنكار الأخبار السنية اقتصارًا على القرآن، وبدعة الخوارج في قولهم: لا حكم إلا لله. وما أشبه ذلك من البدع التي لا تختص فرعًا من فروع الشريعة دون فرع، بل نجدها تنتظم ما لا ينحصر من الفروع الجزئية، أو يكون الخلل الواقع جزئيًا إنما يأتي في بعض الفروع دون بعض كبدعة التثويب بالصلاة الذي قال فيه مالك: التثويب ضلال. وبدعة الأذان والإقامة في العيدين، وبدعة الاعتماد في الصلاة على إحدى الرجلين وما أشبه ذلك، فهذا القسم لا تتعدى فيه البدعة محلها، ولا تنتظم تحتها غيرها حتى تكون أصلاً لها».
__________
(1) المصدر السابق، ج2، ص 59.(2/53)
ثم ينتهي بعد هذه المقابلة. إلى أن يقول(1): «ثم إن البدع على ضربين كلية وجزئية، فأما الكلية فهى السارية فيما لا ينحصر من فروع الشريعة، ومثالها بدع الفرق الثلاث والسبعين، فإنها مختصة بالكليات منها دون الجزئيات... وأما الجزئية فهى الواقعة في الفروع الجزئية، ولا يتحقق دخول هذا الضرب من البدع تحت الوعيد بالنار، وإن دخلت تحت الوصف بالضلال، كما لايتحقق ذلك في سرقة لقمة أو التطفيف بحبة، وإن كان داخلاً تحت وصف السرقة، بل المتحقق دخول عظائمها وكلياتها كالنصاب في السرقة، فلا تكون تلك الأدلة واضحة الشمول لها، ألا ترى أن خواص البدع غير ظاهرة في أهل البدع الجزئية غالبًا؟ كالفرقة والخروج عن الجماعة، وإنما تقع الجزئيات في الغالب كالزلة والفلتة، ولذلك لا يكون اتباع الهوى فيها مع حصول التأويل في فرد من أفراد الفروع، ولا المفسدة الحاصلة بالجزئية كالمفسدة الحاصلة بالكلية فعلى هذا إذا اجتمع في البدعة وصفان: كونها جزئية وكونها بالتأويل، صحّ أن تكون صغيرة والله أعلم ومثاله مسألة من نذر أن يصوم قائمًا لا يجلس، وضاحيًا لا يستظل، ومن حرَّم على نفسه شيئًا مما أحل الله من النوم أو لذيذ الطعام، أو النساء أو الأكل بالنهار، وما أشبه ذلك... غير أن الكلية والجزئية قد تكون ظاهرة وقد تكون خفية، كما أن التأويل قد يقرب مأخذه وقد يبعد، فيقع الإشكال في كثير من أمثلة هذا الفصل، فيعد كبيرة ما هو من الصغائر وبالعكس، فيوكل النظر فيه إلى الاجتهاد». أهـ.
__________
(1) الاعتصام، ج2، ص 64.(2/54)
يقول الإمام الشاطبي(1) في حديثه عن الفِرَقِ من أهل البدع فيقول: «إن هذه الفرق تحتمل من وجهة النظر أن يكونوا خارجين عن الملة بسبب ما أحدثوا فهم قد فارقوا أهل الإسلام بإطلاق، وليس ذلك إلا الكفر، إذ ليس بين المنزلتين منزلة ثالثة تتصور. ويدل على هذا الاحتمال ظواهر من القرآن والسنة، كقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } (2) وهى آية نزلت ـ عند المفسرين ـ في أهل البدع، ويوضحه من قرأ { إِِنَّ الَّذِينَ فَارقُوا(3) دِينَهُمْ } والمفارقة للدين بحسب الظاهر إنما هى الخروج عنه، وقوله - عز وجل -: { فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } (4) الآية. وهى عند العلماء منزلة في أهل القبلة وهم أهل البدع وهذا كالنص إلى غير ذلك من الآيات.
وأما الحديث فقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض» وهذا نص في كفر من قيل ذلك فيه، وفسره الحسن بما تقدم في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ويصبح مؤمنًا ويمسي كافرًا ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا» الحديث، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الخوارج: «دعه فإن له أصحابًا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه فلا يوجد فيه شيء ـ وهو القدح ـ ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء من الفرث والدم» فانظر إلى قوله «من الفرث والدم» فهو الشاهد على أنهم دخلوا في الإسلام فلا يتعلق بهم منه شيء.
__________
(1) الاعتصام، ج2 ، ص 194.
(2) الأنعام، الآية: 159.
(3) هي قراءة حمزة والكسائي في هذه الآية من سورة الأنعام وفيما يماثلها من سورة الروم.
(4) آل عمران، الآية: 106.(2/55)
وفي رواية أبي ذر - رضي الله عنه - «سيكون بعدي من أمتي قومٌ يقرءون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه، هم شرٌّ الخلق والخليقة» ـ إلى غير ذلك من الأحاديث ـ إنما هى قوم بأعيانهم، فلا حجة فيها على غيرهم، لأن العلماء استدلوا بها على جميع أهل الأهواء، كما استدلوا بالآيات، وأيضًا فالآيات إن دلَّت بصيغ عمومها فالأحاديث تدل بمعانيها لاجتماع الجميع في العلة.
فإن قيل: الحكم بالكفر والإيمان راجع إلى حكم الآخرة، والقياس لا يجرى فيها. فالجواب: إن كلامنا في الأحكام الدنيوية، وهل يحكم لهم بحكم المرتدين أم لا؟ وإنما أمر الآخرة لله لقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } (1) ويحتمل أن لا يكونوا خارجين عن الإسلام جملة، وإن كانوا قد خرجوا عن جملة من شرائعه وأصوله.
ويدل على ذلك جميع ما تقدم... ويحتمل وجهًا ثالثًا، وهو أن يكون منهم من فارق الإسلام لكون مقالته كفر وتؤدي معنى الكفر الصريح، ومنهم من لم يفارقه، بل انسحب عليه حكم الإسلام وإن عظم مقاله وشنع مذهبه، لكنه لم يبلغ به مبلغ الخروج إلى الكفر المحض والتبديل الصريح.
ويدل على ذلك الدليل بحسب كل نازلة، وبحسب كل بدعة، إذ لا شك في أن البدع يصح أن يكون منها ما هو كفر كاتخاذ الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى، ومنها ما ليس بكفر كالقول بالجهة(2) عند جماعة وإنكار الإجماع وإنكار القياس وما أشبه ذلك.
__________
(1) الأنعام، آية: 159.
(2) بل هم أهل السنة وليس في الأمر جهة ولكنهم أثبتوا النصوص كما جاءت كما مر.(2/56)
ولقد فصَّل بعض المتأخرين في التكفير تفصيلاً في هذه الفرق، فقال: ما كان من البدع راجعًا إلى اعتقاد وجود إله مع الله، كقول السبئية في عليٍّ - رضي الله عنه - ”إنَّه إلهٌ“ أو حلول الإله في بعض أشخاص الناس كقول الجناحية: ”إنَّ الله تعالى له روحٌ يحل في بعض بني آدم، ويتوارث“ أو إنكار رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - كقول الغرابية: ”إن جبريل غلط في الرسالة فأداها إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، وعليٌّ كان صاحبها“ أو استباحة المحرمات وإسقاط الواجبات، وإنكار ما جاء به الرسول كأكثر الغلاة من الشيعة، مما لا يختلف المسلمون في التكفير به، وما سوى ذلك من المقالات، فلا يبعد أن يكون معتقدها غير كافر».
ومن كل هذا نعلم أن:
خاصية البدع هى التأويل والضلال ومع ذلك فالمبتدع آثمٌ مذموم وهو متأولٌ فلم يقل له الشرع لا بأس عليك ما دمت متأولاً فأنت مثابٌ على اجتهادك مغفورٌ لك خطؤك كائنًا ما كان فعلك ولو كان كفرًا صريحًا وشركًا أعظمًا. كما أن مراتب الذم متفاوتة منها ما هو كفر صريح لاشك في كفره، ومنها ما اختلف العلماء على تكفيره، ومنها ما يصل فيه الاختلاف إلى درجة التماري ومنها ما اتفق العلماء على ترك تكفيره ولم يقل أحد منهم كلا بل هو مثاب على اجتهاده مغفور له خطؤه مادام متأولاً، وخطأ المبتدعة في التأويل إنما جاء من قبلهم ولهذا لم يعذروا، به وقد مرَّ قول الإمام الشاطبي في قول الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ } الآية. فنسب إليهم التفريق ولو كان التفريق من مقتضي الدليل لم ينسبه إليهم ولا أتي به في معرض الذم وليس ذلك إلا باتباع الهوى.(2/57)
ووصف الضلال الذي لا ينفك عن وصف البدعة لا يخلو من عناد إذ هو زيغٌ عن الحق أولاً ثم اتباع للمتشابه فإنه يحمله على ما أصَّله من البدع ثم حمل المحكم عليه فيجعل المحكم متشابهًا والمتشابه محكمًا وذلك للبغي وغلبة الهوى لا لقصد البرهان وهو مع عناده للشرع والفساد الذي أدخله على الناس في أصل الشريعة وفي فروع الأعمال والاعتقادات يظن في ذلك أن بدعته تقربه من الله وتوصله إلى الجنة ولا يقرب إلى الله إلا العمل بما شرع وعلي الوجه الذي شرع وهو تاركه والبدعة تحبط الأعمال وهو ينتحلها والحجة قائمة عليه بالبينات والعلم وإذا كان وصف الضلال لا يخلو من عناد وإن كان الغالب فيه الجهل مع قصد الخير الذي قال عنه عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: ”كم من مريدٍ للخير لن يصيبه إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدثنا أن قومًا يقرءون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم“، فكذلك وصف العناد لا يخلو من ضلال وإنْ كان معنى الضلال هو فساد الاعتقادات ومعنى العناد هو صحة الاعتقادات مع جحد الحق أو معاندته بترك الموالاة والموافقة والانقياد، فإن أهل العناد موصوفون بالعلم تارة لبيان عظيم جرمهم ويذكرون بعدم العلم تارة أخرى وبالجهل لأن من علم الحق فلم يطلب الجنة ويهرب من النار فذلك علمٌ لم ينفع اللهُ صاحبه به فهو والجهل سواء. وعليه فإن أصحاب البدع ليسوا معاندين وهم متأولون أصحاب جهل مركب وقد قامت الحجة عليهم بزيغهم وتركهم للمحكم والواضح وتفرقهم في الدين وتفريقهم لدينهم فجاء التفريق من قبلهم لا من قبل الدليل وهم مع هذا يظنون أنهم يحسنون صنعًا وأن بدعتهم تقربهم إلى الجنة وتقربهم إلى الله وقصد الخير لا يمنعهم من الإثم لغلبة الهوي ومعارضة الشرع والاستدراك عليه فالمتأولون من أهل البدع مذمومون آثمون ورتب الذم والإثم متفاوتة حسب كل بدعة وكل نازلة، منها ما هو كفر صريح، ومنها ما هو كفر بالمآل، ومنها ما اتفق ليس بكفر والله أعلم».(2/58)
ويقول صاحب كتاب ”إيثار الحق على الخلق“ (1):
«”الوجه الثامن“: إن الخطأ لما كان منقسمًا إلى مغفور قطعًا كالخطأ في الاجتهاديات على الصحيح وغير مغفور قطعًا كالخطأ في نفي البعث والجنة والنار وتسمية الإمام بأسماء الله تعالى إلى غير ذلك، ومختلف فيه محتمل الإلحاق بأحد القسمين نظرنا لأنفسنا في الإقدام على تكفير أهل التأويل من أهل القبلة وفي الوقف عنه عند الاشتباه فوجدنا الوقف عنه حينئذ مع تقبيح بدع المبتدعة لا يحتمل أن يكون كفرًا ولا خطأ غير معفو عنه لأنه لا يدل على ذلك برهان قاطع، ولا دليل ظاهر بالأدلة الواضحة في العفو حينئذ على تقدير الخطأ، وأما الإقدام على التكفير فعلى تقدير الخطأ فيه لا نأمن أن يكون كفرًا أو خطأ. غير معفو عنه كخطأ الخوارج لورود النصوص الصحيحة الكثيرة بذلك وعدم الإجماع على تأويلها فوجدنا الوقف حينئذ أحوط للدين والدار الآخرة حتى لو قدرنا والعياذ بالله تعالى أن الخطأ في كل واحد منهما ذنب غير مغفور لكان الخطأ في الوقف أهون من الخطأ في التكفير». أهـ.
ويقول أيضًا(2): عن ترك تكفير أهل البدع بالتأويل: «ومذهب السلف الصالح في ذلك هو المختار مع أمرين أحدهما: القطع بقبح البدعة والإنكار لها والإنكار على أهلها. وثانيهما: عدم الإنكار على مَنْ كفّر كثيرًا منهم فإنَّا لا نقطع بعدم كفر بعضهم ممن فحشت بدعته بل نقف في ذلك ونكل علمه والحكم فيه إلى الله سبحانه». أهـ.
__________
(1) إيثار الحق علي الخلق، مكتبة ابن تيمية، ص 445.
(2) المصدر السابق، ص 420.(2/59)
ويقول أيضًا(1): «وهذه فائدة جيدة تمنع من القطع بتكفير من أخطأ في التكفير متأولاً فإنَّا لو كفَّرنا بذلك لكفرنا الجم الغفير فالحمد لله على التوفيق لترك ذلك والنجاة منه والبعد عنه على أنه يرد عليهم أن الاستحلال بالتأويل قد يكون أشد من التعمد مع الاعتراف بالتحريم وذلك حيث يكون المستحل بالتأويل لمعلوم التحريم بالضرورة كترك الصلاة فإن من تركها متأولاً كفرناه بالإجماع وإن كان عامدًا معترفًا ففيه الخلاف فكان التأويل هنا أشد تحريمًا فلذلك ينبغي ترك التكفير المختلف فيه حذرًا من الوقوع فيه والله أعلم». أهـ.
__________
(1) المصدر السابق، ص 430.(2/60)
ويقول(1): «وفي التكفير بالتأويل أربعة أقوال، الأول: أنه لا كفر بالتأويل، الثاني: أنه يكفر به ولكن لا تجري عليهم أحكام الكفار في الدنيا، الثالث: أن أمرهم إلى الإمام في الأحكام، الرابع: أنه كالكفر بالتصريح فيكون قتالهم إلى آحاد الناس على الصحيح في الكفار بالتصريح، واختلف في كفار التأويل مَنْ هم على أربعة أقوال أيضًا، الأول: أنهم من أهل القبلة الثاني: من ذهب إلى مذهب وهو فيه مخطئ بشبهة يعلم بطلانها دلالة من الدين والصريح بخلافه، الثالث: من ذهب إلى الخطأ بشبهة والصريح بخلافه، الرابع من ورد فيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كافر والصريح بخلافه واعلم أن أصل الكفر هو التكذيب المتعمد لشيء من كتب الله تعالى المعلومة أو لأحد من رسله عليهم السلام أو لشيء مما جاءوا به إذا كان ذلك الأمر المكذب به معلومًا بالضرورة من الدين، ولا خلاف أن هذا القدر كفر ومن صدر عنه فهو كافر إذا كان مكلفًا مختارًا غير مختل العقل ولا مكره، وكذلك لا خلاف في كفر من جحد ذلك المعلوم بالضرورة للجميع وتستَّر باسم التأويل فيما لا يمكن تأويله كالملاحدة في تأويل جميع الأسماء الحسني بل جميع القرآن والشرائع والمعاد الأخروي من البعث والقيامة والجنة والنار». أهـ.
__________
(1) إيثار الحق علي الخلق، ص 415.(2/61)
ويقول شيخ الإسلام بن تيمية في تكفير أهل التأويل والبدع(1): «إنما الكفر يكون بتكذيب الرسول فيما أخبر به أو الامتناع عن متابعته مع العلم بصدقه مثل كفر فرعون واليهود ونحوهم، وفي الجملة فالكفر متعلق بما جاء به الرسول وهذا ظاهر على قول من لا يوجب شيئًا ولا يحرمه إلا بالشرع، فإنه لو قدر عدم الرسالة لم يكن كفر محرَّم ولا إيمان واجب عندهم، ومن أثبت ذلك بالعقل فإنه لا ينازع أنه بعد مجئ الرسول تعلق الكفر والإيمان بما جاء به لا بمجرد ما يعلم بالعقل فكيف يجوز أن يكون الكفر بأمور لا تُعلم إلا بالعقل إلا أن يدل الشرع على أن تلك الأمور التي لا تعلم إلا بالعقل كفر فيكون حكم الشرع مقبولاً لكن معلوم أن هذا لا يوجد في الشرع بل الموجود في الشرع تعليق الكفر بما يتعلق به الإيمان وكلاهما متعلق بالكتاب والرسالة، فلا إيمان مع تكذيب الرسول ومعاداته ولا كفر مع تصديقه وطاعته». أهـ.
ومن كل هذه النقول نعلم:
أن البدعة ليست كفرًا من حيث الدلائل وإن كانت مذمومة لأنهم دخلوا تحت أذيال التأويل ولم يعارضوا الشرع كفاحًا، والقول في ذلك سبق نقله. ومن حيث المسائل قد تتفاوت فمنها ما هو متفق على أنه كفر، ومنها ما هو متفق على أنه ليس بكفر، ومنها ما هو مختلف عليه وقد يبلغ الاختلاف إلى درجة التماري بين العلماء. أما التأويل فإن كان تأويل تحريف وتبديل للمعنى بحمل المتشابه على ما أصلوه من البدع بأوجه الاحتمالات والتأويلات والاستعارات الغريبة وما إلى ذلك فهذا مذموم ولكنه ليس كفرًا.
ومن حيث المسائل فإن أفضى إلى كفر صريح كفر به صاحبه كالبدعة سواء بسواء حسب كل نازلة وكل مسألة.
وأما التأويل إذا كان تكذيبًا لصريح القرآن تستر أصحابه بالتأويل فهو كفر من حيث الدلائل بغض النظر عن المسائل.
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل بهامش منهاج السنة، ص 145.(2/62)
وأما ما يقال عن الاختلاف في كفار التأويل فالمقصود به من كان كفرهم بالمآل واللوازم منهم فإن من كانت أعماله وأقواله واعتقاداته مكفرة بعينها سواء كان ذلك بعناد أو ابتداع أو بتأويل أو بغير تأويل فهو كافر.
ومن كانت أعماله وأقواله واعتقاداته غير مكفرة بعينها ولكن مآلاتها مكفرة ولها لوازم مكفرة مع قرب المآلات ومباشرة اللوازم، بحيث تكون المآلات قريبة واللوازم مباشرة فهذا يختلف فيه العلماء على الوجه الذي فصلناه نقلاً عن صاحب ”إيثار الحق على الخلق“ فهنا أربعة أقوال:
أن الكفر بالمآل ليس بكفر في الحال ولازم المذهب ليس بمذهب.
تكفير الداعية وتفسيق المقلِّد وهو قول الإمام أحمد وغيره من أئمة الهدى في جملة كثيرة من الفرق ومن أهل الابتداع في الأصول الكلية من الدين مثل ما حكى الشاطبي عن ابن الطيب وغيره.
التكفير بالمآل ولكن لا تجري عليهم أحكام الكفار في الدنيا ويعدون من أهل القبلة ويكون أمرهم إلى الإمام.
أنهم ككفار التصريح يكون قتالهم إلى آحاد الناس على الصحيح في الكفار بالتصريح.
يقول صاحب ”الانتصار لحزب الله الموحدين“(1): «مع أن رأي الشيخ رحمه الله تعالى ـ في التوقف عن تكفير الجهمية ونحوهم ـ خلاف نصوص الإمام أحمد وغيره من أئمة الإسلام قال المجد رحمه الله كل بدعة كفَّرنا فيها الداعية فإنَّا نفسق المقلد كمن يقول بخلق القرآن أو أن علم الله مخلوق أو أن أسماءه مخلوقة أو أنه لا يُرى في الآخرة أو يسبّ الصحابة تدينًا أو أن الإيمان مجرد الاعتقاد وما أشبه ذلك فمن كان عالمًا في شيء من هذه البدع يدعو إليه ويناظر عليه فهو محكوم بكفره نصَّ أحمد على ذلك في مواضع. إلى أن يقول أبو بطين رحمه الله: فانظروا كيف حكموا بكفرهم مع جهلهم». أهـ.
__________
(1) الانتصار لحزب الله الموحدين، ص 15.(2/63)
ومقصوده بجهلهم هنا ليس عدم التمكن من العلم وعدم بلوغ الشرائع لفظًا أو معنى، وإنما مقصوده الجهل المركب ومعناه: فساد الاعتقادات مع الخلو من العناد ومع التمكن من العلم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا ويتقربون بذلك إلى الله ويحسبونه من أعمالهم الصالحة التي تقربهم إلى الله وتدخلهم الجنة وهى خاصية الضلال.
وهؤلاء الذين توقفوا عن تكفير طائفة من الفرق بالمآلات لم يقطعوا بعدم كفرهم ولم ينكروا على من كفَّرهم وإنما أخذوا بالاحتياط في التوقف عن التكفير ولم يقولوا عن هؤلاء أنهم مثابون على اجتهادهم مغفور لهم خطؤهم كالخطأ في الاجتهاديات.
والله سبحانه وتعالى أعلم وهو الموفق.
المقاصد والتأويل:
والتأويل يكون لقصد الخير لكن بنوع من الاستدراك على الشرع ثقة بما ينبغي أن يتهم وهو الرأي واتهامًا لما ينبغي أن يوثق به وهو الشرع ومن هنا هلك الخوارج، ولذلك كان الأحنف يقول يوم صفين يا أيها الناس اتهموا الرأي فقد رأيتنا يوم الحديبية ولو استطعنا أن نرد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرددناه. ولذلك فإن استحلال القتل بالتأويل لا يكون اجتهادًا مثابًا عليه صاحبه مغفور له خطؤه في حق الخوارج، ومن كان على شاكلتهم لأنه ليس راجعًا إلى الاجتهاد، وإنما هو راجع إلى الرأي، ولذلك قال عنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «شرُّ قتلي تحت أديم السماء» وسبب ذلك أنهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، بخلاف قتال الجمل وقتال صفين فإنه كان راجعًا إلى خطأ في الاجتهاد وليس للرأي، وقصد الخير قد يقع حتى من المشركين الخلَّص والكافرين كفرًا صريحًا ولكن على وجه حرموا فيه من العلم ووكلوا فيه إلى نذير أنفسهم وذلك لتحسين الظن بالعقل والاستدراك على الشرع والقول على الله بغير علم.(2/64)
يقول صاحب كتاب ”كشف الشبهتين“(1): «ثم روى بإسناده قال جاء رجل إلى حذيفة وأبو موسى الأشعري قاعد فقال أرأيت رجلاً ضرب بسيفه غضبًا لله حتى قتل أفي الجنة أم في النار. فقال أبو موسى: في الجنة. فقال حذيفة: استفهم الرجل وأفهمه ما تقول ـ حتى فعل ذلك ثلاث مرات ـ فلما كان في الثالثة قال: والله لا أستفهمه، فدعا به حذيفة فقال: رويدك إن صاحبك لو ضرب بسيفه حتى ينقطع، فأصاب الحق حتى يقتل عليه فهو في الجنة، وإن لم يصب الحق ولم يوفقه الله للحق فهو في النار. ثم قال: والذي نفسي بيده ليدخلنَّ النار في مثل الذي سألت عنه أكثر من كذا أو كذا». أهـ.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في ”موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول“(2): «لكن نحن نعلم أن كل مسلم فهو ينزه الله تعالى عن النقص والعيب بل العقلاء كلهم متفقون على ذلك، فإنه ما من أحد يعظم الصانع سبحانه وتعالى وصف الله بصفة وهو يعتقد أنها آفة وعيب ونقص في حقه وإن كان بعض الملحدين يصفه بما يعتقده هو نقصًا وعيبًا فهذا من جنس نفاة الصانع تعالى، ولهذا كان نفاة الصفات نفوها وهم يعتقدون أن إثباتها يقتضي النقص كالحدوث والإمكان ومشابهة الأحياء ومثبتوها إنما أثبتوها لاعتقادهم أن إثباتها يوجب الكمال وعدمها يستلزم النقص والعدم ومشابهة الجمادات وكذلك مثبتة القدر ونفاته، بل بعض نفاة النبوة زعموا أنهم نفوها تعظيمًا لله أن يكون رسوله من البشر، وأهل الشرك أشركوا تعظيمًا لله أن يعبد بلا واسطة تكون بينه وبين خلقه». أهـ.
__________
(1) كشف الشبهتين، ص 28.
(2) منهاج السنة، ج2، ص 173.(2/65)
ويقول الشاطبي(1): «فأنت ترى العرب في الجاهلية كيف تأولوا فيما أحدثوه احتجاجًا منهم كقولهم في أصل الإشراك { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفي } ، وكترك الحمس الوقوف بعرفة لقولهم لا نخرج من الحرم اعتدادًا بحرمته وطواف من طاف منهم بالبيت عريانًا قائلين لا نطوف بثياب عصينا اللهَ فيها». أهـ.
وقد يكون التأويل للتلبيس على الناس حتى يغيبوا عن الناس حقائق الأشياء بتغيير أسمائها.
يقول صاحب كتاب ”الانتصار لحزب الله الموحدين“ (2): «فالمشرك مشرك شاء أم أبى كما أن المرابي مراب شاء أم أبى وإن لم يسم ما فعله ربًا، وشارب الخمر شارب للخمر وإن سماها بغير اسمها، وفي الحديث عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - «يأتي ناس من أمتي يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها» فتغيير الاسم لا يغير حقيقة المسمى ولا يزيل حكمه كتسمية البوادي سوالفهم الباطلة حقًا، وتسمية الظلمة ما يأخذونه من الناس بغير اسمه، ولما سمع عدي بن حاتم وهو نصراني قول الله تعالى: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله } قال للنبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّا لسنا نعبدهم. قال: أليس يحرمون ما أحلَّ الله فتحرمونه، ويحلون ما حرَّم الله فتحلونه. قال قلت: بلى. قال: فذلك عبادتهم». فعدي - رضي الله عنه - ما كان يحسب أن موافقتهم فيما ذكر عبادة منهم، فأخبره - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك عبادة منهم لهم مع أنهم لا يعتقدونه عبادة لهم. وكذلك ما يفعله عبَّاد القبور من دعاء أصحابها وسؤالهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات والتقرب إليهم بالذبائح والنذور عبادة منهم للمقبورين وإن كانوا لا يسمونه ولا يعتقدونه عبادة». أهـ.
__________
(1) الاعتصام، ج1، ص 40.
(2) الانتصار لحزب الله الموحدين، ص 8.(2/66)
ويقول صاحب ”إيثار الحق على الخلق“ (1): «يلحق بهذا الإشارة إلى مذهب أهل السنة معنى قوله تعالى: { ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير } قالوا: المراد نفي التشبيه بتعظيم الأسماء الحسنى وإثباتها لا بنفيها كما قالت القرامطة مثاله: أنه عليم لا يعزب عن علمه شيءٌ ولا يزول علمه ولا يتغير ولا يكتسب بالنظر الذي يجوز فيه الخطأ ويتعلق بالماضي والمستقبل والغيب والشهادة ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ولا تأخذه سنة ولا نوم، وأمثال ذلك في كل اسم ويدل على قولهم وجوه: الأول: قوله في آخر الآية { وهو السميع البصير } وهو أوضح دليل على ذلك. الثاني: تمدحه تعالى بكل اسم على انفراده. الثالث: قوله تعالى: { ولله المثل الأعلي وهو العزيز الحكيم } ، وقوله تعالى: { وله المثل الأعلي في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم } وهو كمال الثناء بأسمائه الحسنى كما ذكره المفسرون، والقرآن يفسر بعضه بعضًا. وأما نفي الأسماء عنه وتأويلها فلا يدل عليه عقل ولا سمع، بل هو خلاف المعلوم ضرورة من الدين وليس فيه من الشبهة غير تسميتهم له تنزيهًا وهو اسم حسن على مسمى قبيح، فالواجب تنزيه الله تعالى عنه. الرابع: إجماع أهل الإسلام على مدحه تعالى بإثبات الأسماء الحسنى لا بنفيها، فإن تسمية الملاحدة نفيها تنزيهًا لله تعالى من مكائدهم للإسلام والمسلمين وكم فعلت الزنادقة في الإسلام من نحو ذلك يسترون قبائح عقائدهم بتحسين العبارات قاتلهم الله تعالى». أهـ.
__________
(1) إيثار الحق علي الخلق، ص 192.(2/67)
ويقول شيخ الإسلام بن تيمية في هذا المعنى في ”موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول“(1): «وكانت المعتزلة تقول أنَّ الله منزه عن الأعراض والأبعاض والحوادث والحدود ومقصودهم نفي الصفات ونفي الأفعال ونفي مباينته للخلق وعلوه على العرش، وكانوا يعبرون عن مذاهب أهل الإثبات أهل السنة بالعبارات المجملة التي تشعر الناس بفساد المذهب فإنهم إذا قالوا إنَّ الله منزَّه عن الأعراض لم يكن في ظاهر هذه العبارة ما ينكر لأن الناس يفهمون من ذلك أنه منزهٌ عن الاستحالة والفساد كالأعراض التي تعرض لبني آدم من الأمراض والأسقام. ولا ريب أن الله منزهٌ عن ذلك ولكن مقصودهم أنه ليس له علم ولا قدرة ولا حياة ولا كلام قائم به ولا غير ذلك من الصفات التي يسمونها هم أعراضًا، وكذلك إذا قالوا إنَّ الله منزهٌ عن الحدود والأحياز والجهات أوهموا الناس أن مقصودهم بذلك أنه لا تحصره المخلوقات ولاتحوزه المصنوعات، وهذا المعنى صحيح، ومقصودهم أنه ليس مباينًا للخلق ولا منفصلاً عنه، وأنه ليس فوق السموات ربٌ ولا على العرش إلهٌ، وأن محمدًا لم يعرج به إليه، ولم ينزل منه شيء، ولا يصعد إليه شيء، ولا يتقرب إليه شيءٌ، ولا يتقرب إلى شيء، ولا ترفع إليه الأيدي في الدعاء ولا غيره ونحو ذلك من معاني الجهمية، وإذا قالوا أنه ليس بجسم أوهموا الناس أنه ليس من جنس المخلوقات ولا مثل أبدان الخلق وهذا المعنى صحيح، ولكن مقصودهم بذلك أنه لا يرى ولا يتكلم بنفسه ولا يقوم به صفة ولا هو مباين للخلق وأمثال ذلك، وإذا قالوا لا تحله الحوادث أوهموا الناس أن مرادهم أنه لا يكون محلاً للتغيرات والاستحالات ونحو ذلك من الأحداث التي تحدث للمخلوقين فتحيلهم وتفسدهم وهذا معنى صحيح ولكن مقصودهم بذلك أنه ليس له فعل اختياري يقوم بنفسه ولا له كلام ولا فعل يقوم به يتعلق بمشيئته وقدرته وأنه لا يقدر على استواء أو نزول أو إتيان أو مجئ وأن المخلوقات
__________
(1) منهاج السنة، ج2، ص 6(2/68)
التي خلقها لم يكن منه عند خلقها فعل أصلاً بل عين المخلوقات هى الفعل ليس هناك فعل ومفعول وخلق ومخلوق، بل المخلوق عين الخلق والمفعول عين الفعل ونحو ذلك. وابن كلاب ومن اتبعه وافقوهم على هذا وخالفوهم في إثبات الصفات». أهـ.
ويستمر كلامه عن المعتزلة والأشاعرة ثم يقول(1): «لكن المعتزلة ـ القائلون بأن دلالة السمع موقوفة على صحته ـ صرحوا بأنه لا يستدل بأقوال الرسول على ما يجب ويمتنع من الصفات، بل ولا الأفعال وصرحوا بأنه لا يجوز الاحتجاج على ذلك بالكتاب والسنة وإن وافق العقل فكيف إذا خالفه، وهذه الطريقة هى التي سلكها من وافق المعتزلة في ذلك كصاحب الإرشاد وأتباعه، وهؤلاء يردون دلالة الكتاب والسنة تارة يصرحون بأنا وإن علمنا مراد الرسول فليس قوله مما يجوز أن يحتج به في مسائل الصفات لأن قوله إنما يدل بعد ثبوت صدقه الموقوف على مسائل الصفات، وتارة يقولون إنما لم يدل لأنا لا نعلم مراده لتطرق الاحتمالات إلى الأدلة السمعية، وتارة يطعنون في الأخبار. فهذه الطرق الثلاث التي وافقوا فيها الجهمية ونحوهم من المبتدعة أسقطوا بها حرمة الكتاب والرسول عندهم وحرمة الصحابة والتابعين لهم بإحسان حتى يقولوا أنهم لم يحققوا أصول الدين كما حققناها، وربما اعتذروا عنهم بأنهم كانوا مشتغلين بالجهاد، ولهم من جنس هذا الكلام الذي يوافقون به الرافضة وغيرهم من أهل البدع ويخالفون به الكتاب والسنة والإجماع، وإنما نبهنا على أصول دينهم وحقائق أقوالهم وغايتهم، وأنهم يدَّعون في أصول الدين المخالفة للكتاب والسنة المعقول والكلام، وكلامهم فيه من التناقض والفساد ما ضارعوا به أهل الإلحاد فهم من جنس الرافضة لا عقل صريح ولا نقل صحيح، بل منتهاهم السفسطة في العقليات، والقرمطة في السمعيات، وهذا منتهى كل مبتدع خالف شيئًا من الكتاب والسنة حتى في المسائل العملية والقضايا الفقهية». أهـ.
__________
(1) منهاج السنة، ص 8.(2/69)
الاستطاعة المصححة للفعل والاستطاعة المقارنة للفعل
سبق أن نقلنا كلام شيخ الإسلام عن أن المفرطين المعتدين في أصول الدين إذا لم يستطيعوا سمع ما أنزل الله إلى الرسول فهم من الذين قال الله عنهم: { ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون } ممن كانت أعينهم في غطاء عن ذكر الله وكانوا لا يستطيعون سمعًا من الذين قالوا عن أنفسهم { لو كنَّا نسمع أو نعقل ما كنَّا في أصحاب السعير } فلا عقل صريح ولا سمع صحيح، بل سفسطة في العقليات، وقرمطة في السمعيات، ففقد الاستطاعة المقارنة للفعل بسبب التفريط أو الاعتداء والخروج عن المنهج الصحيح في البحث والنظر أو بسبب تعرض الإنسان لما لا يحسن لا يكون صاحبها معذورًا بخطئه ولا مثابًا على اجتهاده وإن كان متأولاً. وأما من أعطي ذلك كله حقه ثم أخطأ فهنا فقد الاستطاعة المصححة للفعل فيكون تكليف صاحبها بالإصابة برغم بذل غاية الوسع في طلبها ثم العجز عنها تكليفًا بما لا يطاق أو بما فيه حرج زائد ويكون المخطئ هنا مغفورًا له خطؤه وربما كان مثابًا على اجتهاده.
أخطأ خلق كثير من الناس في عصرنا هذا فهم كلام شيخ الإسلام في ترك التفرقة في مسائل الخطأ بين المسائل الخبرية والمسائل العملية ونحن هنا نضع جميع النقاط على جميع الحروف بخصوص هذه المسألة حتى يزول الإشكال بالاستفصال، ومصدر الخطأ ثلاث مواضع.
الموضع الأول: مسألة أصول الدين أو أصل الدين.
الموضع الثاني: مسألة القطع والتواتر والمعلوم من الدين بالضرورة.
الموضع الثالث: مسألة الفرق بين الخطأ في الخبريات والخطأ في العمليات إثباته مطلقًا أو نفيه مطلقًا أو القول بالتفصيل.
المسألة الأولى: أصول الدين أو أصل الدين(2/70)
فيقول البعض افتراء على الشيخ أن شيخ الإسلام يقول لا يوجد في الإسلام أصل وفروع ويزيدون هم بأن من قال بوجود الأصل والفروع فهو مبتدع، والحقيقة: أن منكر ذلك هو المبتدع وأن الشيخ لم ينكر ذلك بل قرره مرارًا وتكرارًا وقال إن أصل الدين هو أن تعبد الله وحده ولا تشرك به شيئًا وأن أصل الدين هو توحيد العبادة المتضمن والمستلزم لتوحيد الاعتقاد وأن هذا هو دين الأنبياء وهو الإسلام العام وهو الدين الواحد الذي ذكره الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حديثه نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات ديننا واحد، فالدين الواحد هو التوحيد والشرائع المتنوعة هى بمثابة الأمهات المختلفة، فالدين الواحد بين الأنبياء هو التوحيد وأما الشرائع فمتنوعة مختلفة من التوراة إلى الإنجيل إلى القرآن يحل الله ما يشاء ويحرم ما يشاء ليعلم من يخافه ويطيعه ممن يعصيه والدين الذي لا يقبل الله غيره هو التوحيد وإخلاص العبادة لله - عز وجل - وكما قرر شيخ الإسلام فإن مسائل الأصول الكبار هى مسائل التوحيد والنبوات والقدر والمعاد والصفات، أما الأصول التي أنكر أن تكون أصولاً فهى ما ألزم به المعتزلة وغيرهم من المتكلمين الناس بتعليمه وجعله من الدين الذي لا يصح الإيمان بدونه وهو من العقليات التي لم يوجبها الله ورسوله ولا تعلمها أصحابه ولا ألزموا بها الناس.
الأمر الثاني: تكفيرهم مخالفيهم بخطئهم في العقليات دون الشرعيات والمفروض أن يكون التكفير بما نصت عليه نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة على أنه كفر... وهذه بعض النقول في ذلك مع أن هذا الموضوع قد سبق بيانه.(2/71)
يقول شيخ الإسلام في ذلك(1): «وقوله تعالى: { أمرَ ربِّي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين } أمر مع القسط بالتوحيد الذي هو: عبادة الله وحده لا شريك له وهذا أصل الدين وضده الذنب الذي لا يغفر. قال تعالى: { إنَّ الله لا يغفرُ أن يُشْرَكْ به ويغفر ما دونَ ذلكَ لِمَنْ يشاءُ } وهو الدين الذي أمر الله به جميع الرسل وأرسلهم به إلى جميع الأمم قال تعالى: { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } ، وقال تعالى: { ولقد بعثنا في كل أمةٍ رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } ، وقال تعالى: { شرعَ لكم من الدين ما وصَّي به نوحًا والذي أوحينا إليك وما وصَّينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } ، وقال تعالى: { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحًا إنِّي بما تعملون عليمٌ، وإنَّ هذه أمتكم أمةً واحدةً وأنا ربُّكم فاتقون } ولهذا ترجم البخاري في صحيحه ”باب ما جاء في أن دين الأنبياء واحد“، وذكر الحديث الصحيح في ذلك وهو الإسلام العام الذي اتفق عليه جميع النبيين قال نوحٌ عليه السلام: { وأمرتُ أن أكونَ من المسلمين } ، وفي قصة إبراهيم { إذْ قال له ربُّه أسلمْ قالَ أسلمتُ لربِّ العالمين - ووصي بها إبراهيمُ بنيه ويعقوب يا بنيَّ إنَّ اللهَ اصطفي لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } ، وقال موسى: { يا قومِ إنْ كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إنْ كنتم مسلمين } ، وقال تعالى: { قال الحواريون نحن أنصارُ الله آمنا بالله وأشهد بأنَّا مسلمون } ، وفي قصة بلقيس { ربِّ إنِّي ظلمتُ نفسي وأسلمت مع سليمانَ للهِ ربِّ العالمين } ، وقال تعالى: { إنَّا أنزلنا التوراةَ فيها هدًي ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا } وهذا التوحيد الذي هو أصل الدين هو أعظم العدل وضده وهو الشرك أعظم الظلم كما
__________
(1) الفتاوى الكبرى، ج1، مسألة 234، ص 348.(2/72)
أخرج الشيخان في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال لما أنزلت هذه الآية: { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } شق ذلك على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: أينا لم يظلم نفسه فقال: ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح { إنَّ الشركَ لظلمٌ عظيمٌ } ».
ويقول شيخ الإسلام(1): «وهذا تأملته في مسائل الأصول الكبار كمسائل التوحيد والصفات ومسائل القدر والثواب والمعاد وغير ذلك وجدت ما يعلم بصريح العقل لم يخالفه سمع قط. إلى أن يقول: الرسل لا يخبرون بمحالات العقول بل بمحارات العقول فلا يخبرون بما يعلم العقل انتفاءه بل يخبرون بما يعجز العقل عن معرفته».
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل، ج1، ص 83، بهامش منهاج السنة (بتصرف).(2/73)
ويقول(1): «فأجبت الحمد لله ربِّ العالمين. أما المسألة الأولي فقول السائل: هل يجوز الخوض فيما تكلم الناس فيه من مسائل أصول الدين وإن لم ينقل عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيها كلام أم لا؟ سؤال ورد بحسب ما عهد من الأوضاع المبتدعة الباطلة، فإن المسائل التي هى من أصول الدين التي تستحق أن تسمي أصول الدين، أعني الدين الذي أرسل الله به رسوله وأنزل به كتابه لا يجوز أن يقال لم ينقل عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيها كلام، بل هذا كلام متناقض في نفسه إذ كونها من أصول الدين يوجب أن تكون من أهم أمور الدين، ثم إنها مما يحتاج إليه الدين ثم نفي نقل الكلام فيها عن الرسول يوجب أحد أمرين: إما أن الرسول أهمل الأمور المهمة التي يحتاج إليها الدين فلم يبينها، أو أنه بينها فلم تنقلها الأمة. وكلا هذين باطل قطعًا وهو من أعظم مطاعن المنافقين في الدين، وإنما يظن هذا وأمثاله من هو جاهل بحقائق ما جاء به الرسول أو جاهل بما يعقله الناس بقلوبهم أو جاهل بهما جميعًا، فإن جهله بالأول يوجب عدم علمه بما يشتمل عليه ذلك من أصول الدين وفروعه، وجهله بالثاني يوجب أن يدخل في الحقائق المعقولة ما يسميه هو وأشكاله عقليات، وإنما هى جهليات. وجهله بالأمرين يوجب أن يظن من أصول الدين ما ليس منها من المسائل والوسائل الباطلة، وأن يظن عدم بيان الرسول لما ينبغي أن يعتقد في ذلك كما هو واقع لطوائف من أصناف الناس حذاقهم فضلاً عن عامتهم، وذلك أن أصول الدين إما أن تكون مسائل يجب اعتقادها ويجب أن تذكر قولاً أو تعمل عملاً كمسائل التوحيد والصفات والقدر والنبوة والمعاد، أو دلائل هذه المسائل.
__________
(1) الفتاوى الكبرى، ج1 ، ص 12.(2/74)
أما القسم الأول: فكل ما يحتاج الناس إلى معرفته واعتقاده والتصديق به من هذه المسائل فقد بيَّنه الله ورسوله بيانًا شافيًا قاطعًا للعذر، إذ هذا من أعظم ما بلغه الرسول البلاغ المبين وبينه للناس وهو من أعظم ما أقام الله به الحجة على عباده فيه بالرسل الذين بينوه وبلغوه وكتاب الله الذي نقله الصحابة ثم التابعون عن الرسول لفظه ومعانيه والحكمة التي هى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشتملة من ذلك على غاية المراد وتمام الواجب والمستحب والحمد لله الذي بعث فينا رسولاً من أنفسنا يتلو علينا آياته ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة. إلى أن يقول: وإنما يظن عدم اشتمال الكتاب والحكمة على بيان ذلك من كان ناقصًا في عقله وسمعه ومن له نصيب من قول أهل النار الذين قالوا: { وقَالُواْ لَو كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } (1) وإن كان ذلك كثيرًا في كثير من المتفلسفة والمتكلمة وجهَّال أهل الحديث والمتفقهة والصوفية.
وأما القسم الثاني: وهو دلائل هذه المسائل الأصولية فإنه وإن كان يظن طوائف من المتكلمين أو المتفلسفة أن الشرع إنما يدل بطريق الخبر الصادق فدلالته موقوفة على العلم بصدق المخبر، ويجعلون ما ينبني عليه صدق المخبر معقولات محضة فقد غلطوا في ذلك غلطًا عظيمًا، بل ضلوا ضلالاً مبينًا في ظنهم أن دلالة الكتاب والسنة إنما هى بطريق الخبر المجرد بل الأمر ما عليه سلف الأمة أهل العلم والإيمان من أن الله سبحانه بيَّن من الأدلة العقلية التي يحتاج إليها في العلم بذلك ما لا يقدِّر أحد من هؤلاء قدره ونهاية ما يذكرونه جاء القرآن بخلاصته على أحسن وجه». أهـ.
__________
(1) تبارك، آية: 10.(2/75)
ويقول(1): «وهذا باب واسع عظيم جدًا ليس هذا موضعه، وإنما الغرض التنبيه على أن في القرآن والحكمة النبوية عامة أصول الدين من المسائل والدلائل ما يستحق أن يكون أصول الدين، وأما ما يدخله بعض الناس في هذا المسمى من الباطل فليس ذلك من أصول الدين وإن أدخلت فيه مثل هذه المسائل والدلائل الفاسدة مثل نفي الصفات والقدر ونحو ذلك من المسائل ومثل الاستدلال على حدوث العالم بحدوث الأعراض التي هى صفات الأجسام القائمة بها، إما الأكوان وإما غيرها وتقرير المقدمات التي يحتاج إليها هذا الدليل»(2).
إلى أن يقول(3): «والتزم طوائف من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم لأجلها نفي صفات الربِّ مطلقًا أو نفي بعضها لأن الدال عندهم على حدوث هذه الأشياء هو قيام الصفات بها والدليل يجب طرده فالتزموا حدوث كل موصوف بصفة قائمة به وهو أيضًا في غاية الفساد والضلال ولهذا التزموا القول بخلق القرآن وإنكار رؤية الله في الآخرة وعلوه على عرشه إلى أمثال ذلك من اللوازم التي جعلها المعتزلة ومن اتبعهم أصل دينهم، فهذه داخلة فيما سماه هؤلاء أصول الدين ولكن ليست في الحقيقة من أصول الدين الذي شرعه الله لعباده وأما الدين الذي قال الله فيه: { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } فذاك له أصول وفروع بحسبه، وإذا عرف أن مسمى أصول الدين في عرف الناطقين بهذا الاسم فيه إجمال وإبهام لما فيه من الاشتراك بحسب الأوضاع والاصطلاحات، تبين أن الذي هو عند الله ورسوله وعباده المؤمنين أصول الدين، فهو موروث عن الرسول. وأما من شرع دينًا لم يأذن به الله، فمعلوم أن أصوله المستلزمة له لا يجوز أن تكون منقولة عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -». أهـ.
المسألة الثانية: القطع والتواتر والمعلوم من الدين بالضرورة
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل، بهامش منهاج السنة، ج1، ص 19.
(2) راجع: درء التعارض، ج1، ص 20.
(3) المصدر السابق، ص 21.(2/76)
أما المعلوم من الدين بالضرورة فهناك معلوم من الدين بالضرورة يعلمه العامة والخاصة ويكفر جاحده، وهناك معلوم من الدين بالضرورة يعلمه العلماء ويجب الرجوع إليهم فيه قبل مخالفته.
يقول شيخ الإسلام(1): «وإذا قدر أنه لم يتعارض قطعي وظني لم ينازع عاقل في تقديم القطعي، لكن كون السمعي لا يكون قطعيًا دونه خرط القتاد، وأيضًا فإن الناس متفقون على أن كثيرًا مما جاء به الرسول معلوم بالاضطرار من دينه كإيجاب العبادات وتحريم الفواحش والظلم وتوحيد الصانع وإثبات المعاد وغير ذلك، وحينئذ فلو قال قائل إذا قام الدليل العقلي القطعي على مناقضة هذا فلابد من تقديم أحدهما، فلو قدم هذا السمعي قدح في أصله وإن قدم العقلي لزم تكذيب الرسول فيما علم بالاضطرار أنه جاء به. وهذا هو الكفر الصريح فلابد لهم من جواب عن هذا، والجواب عنه أنه يمتنع أن يقوم عقلي قطعي يناقض هذا، فتبين أن كل ما قام عليه دليل قطعي سمعي يمتنع أن يعارضه قطعي عقلي». أهـ.
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل، ج1 ، ص 42.(2/77)
ويقول(1) : «”والوجه الثاني“: أن يقال كل من له أدني معرفة بما جاء به النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يعلم بالاضطرار أنَّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لم يدع الناس بهذه الطريقة طريقة الأعراض، ولا نفي الصفات أصلاً لا نصًا ولا ظاهرًا، ولا ذكر ما يفهم منه ذلك لا نصًا ولا ظاهرًا ولا ذكر أن الخالق ليس فوق العالم ولا مباينًا له أو أنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا ذكر ما يفهم منه ذلك لا نصًا ولا ظاهرًا، بل ولا نفي الجسم الاصطلاحي ولا ما يرادفه من الألفاظ، ولا ذكر أن الحوادث يمتنع دوامها في الماضي والمستقبل أو في الماضي لا نصًا ولا ظاهرًا، ولا أن الربَّ صار الفعل ممكنًا له بعد أن لم يكن ممكنًا ولا أنه صار الكلام ممكنًا بعد أن لم يكن ممكنًا ولا أن كلامه ورضاه وغضبه وحبه وبغضه ونحو ذلك أمور مخلوقة بائنة عنه وأمثال ذلك مما يقوله هؤلاء لا نصًا ولا ظاهرًا، بل علم الناس خاصتهم وعامتهم بأن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر ذلك أظهر من علمهم بأنه لم يحج بعد الهجرة إلا حجة واحدة وأن القرآن لم يعارضه أحد، وأنه لم يفرض صلاة إلا الصلوات الخمس وأنه لم يكن يؤخر صلاة النهار إلى الليل وصلاة الليل إلى النهار، وأنه لم يكن يؤذن له في العيدين والكسوف والاستسقاء، وأنه لم يرض بدين الكفار ولا المشركين ولا أهل الكتاب قط، وأنه لم يسقط الصلوات الخمس عن أحد من العقلاء، وأنه لم يقاتله أحد من المؤمنين به لا أهل الصفة ولا غيرهم، وأنه لم يكن يؤذن بمكة ولا كان بمكة أهل صفة ولا كان بالمدينة أهل صفة قبل أن يهاجر إلى المدينة، وأنه لم يجمع أصحابه قط على سماع كف ولا دف، وأنه لم يكن يقصر شعر كل من أسلم أو تاب من ذنب، وأنه لم يكن يقتل كل من سرق أو قذف أو شرب، وأنه لم يكن يصلي الخمس إذا كان صحيحًا إلا بالمسلمين لم يكن يصلي الفرض وحده ولا في الغيب، وأنه لم يحجب في الهواء قط، وأنه لم
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل، ص 56.(2/78)
يقل رأيت ربِّي في اليقظة لا ليلة المعراج ولا غيرها، ولم يقل إنَّ الله ينزل عشية عرفة إلى الأرض وإنما قال ينزل إلى السماء الدنيا. إلى أن يقول: وأمثال ذلك مما يعلم العلماء بأحواله علمًا ضروريًا أنه لم يكن ومن روى ذلك عنه وأخذ يستدل على ثبوت ذلك علموا بطلان قوله بالاضطرار كما يعلمون بطلان قول السفسفطائية، وأنهم لم يشتغلوا بحل شبههم وحينئذ فمن استدل بهذه الطريقة أو أخبر الأمة بمثل قول نفاة الصفات كان كذبه معلومًا بالاضطرار أبلغ مما يعلم كذب من ادعي هذه الأمور المنتفية عنه وأضعافها وهذا مما يعلمه من له أدني خبرة بأحوال الرسل فضلاً عن المتوسطين فضلاً عن الوارثين له العالمين بأقواله وأفعاله». أهـ.
ويقول في نفس الكتاب(1): «”الوجه الثالث عشر“: أن يقال الأمور السمعية التي يقال أن العقل عارضها كإثبات الصفات والمعاد ونحو ذلك هى مما علم بالاضطرار أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جاء بها، وما كان معلومًا بالاضطرار من دين الإسلام امتنع أن يكون باطلاً مع كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - رسول الله حقًا فمن قدح في ذلك وادعى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يجئ به كان قوله معلوم الفساد بالضرورة من دين المسلمين.
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل، ج1، ص 112.(2/79)
”الوجه الرابع عشر“: أن يقال أن أهل العناية بِعلم الرسول - صلى الله عليه وسلم - العالمين بالقرآن وتفسير الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين لهم بإحسان والعالمين بأخبار الرسول والصحابة والتابعين لهم بإحسان عندهم من العلوم الضرورية بمقاصد الرسول ومراده ما لا يمكنهم دفعه عن قلوبهم ولذلك كانوا كلهم متفقين على ذلك من غير تواطؤ ولا تشاعر كما اتفق أهل الإسلام على نقل حروف القرآن ونقل الصلوات الخمس والقبلة وصيام شهر رمضان وإذا كانوا قد نقلوا مقاصده ومراده عنه بالتواتر كان ذلك كنقلهم حروفه وألفاظه بالتواتر، ومعلوم أن النقل المتواتر يفيد العلم اليقيني سواء كان التواتر لفظيًا أو معنويًا كتواتر شجاعة خالد وشعر حسان وتحديث أبي هريرة عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وفقه الأئمة الأربعة وعدل العمرين ومغازى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - مع المشركين وأهل الكتاب وعدل كسري وطب جالينوس ونحو سيبويه، يبين هذا أن أهل العلم والإيمان يعلمون من مراد الله ورسوله بكلامه أعظم مما يعلمه الأطباء من كلام جالينوس ونحو سيبويه، فإذا كان من ادعي من كلام سيبويه وجالينوس ونحوهما ما يخالف ما عليه أهل العلم بالطب والنحو والحساب من كلامهم كان قوله معلوم البطلان، فمن ادعي في كلام الله ورسوله خلاف ما عليه أهل الإيمان كان قوله أظهر بطلانًا وفسادًا، لأن هذا معصوم محفوظ.(2/80)
وجماع هذا أن يعلم أن المنقول عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - شيئان: ألفاظه وأفعاله ومعاني ألفاظه ومقاصده بأفعاله وكلاهما منه ما هو متواتر عند العامة والخاصة، ومنه ما هو متواتر عند الخاصة، ومنه ما يختص بعلمه بعض الناس وإن كان عند غيره مجهولاً أو مظنونًا أو مكذوبًا به، وأهل العلم بأقواله كأهل العلم بالحديث والتفسير المنقول والمغازي والفقه يتواتر عندهم من ذلك ما لا يتواتر عند غيرهم ممن لم يشركهم في علمهم، وكذلك أهل العلم بمعاني القرآن والحديث والفقه في ذلك يتواتر عندهم من ذلك ما لا يتواتر عند غيرهم من معاني الأقوال والأفعال المأخوذة عن الرسول كما يتواتر عند النحاة من أقوال الخليل وسيبويه والكسائي والفراء وغيرهم ما لا يعلمه غيرهم، ويتواتر عند كل من أصحاب مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وأحمد وداود وأبي ثور وغيرهم من مذاهب هؤلاء الأئمة ما لا يعلمه غيرهم، ويتواتر عند أتباع رؤوس أهل الكلام والفلسفة من أقوالهم ما لا يعلمه غيرهم ويتواتر عند أهل العلم بنقد الحديث من أقوال شعبة ويحيى بن سعيد وعلى بن المديني ويحيى ابن معين وأحمد بن حنبل وأبي زرعة وأبي حاتم والبخاري وأمثالهم في الجرح والتعديل ما لا يعلمه غيرهم بحيث يعلمون بالاضطرار اتفاقهم على تعديل مالك والثوري وشعبة وحماد بن زيد والليث بن سعد وغير هؤلاء، وعلي تكذيب محمد بن سعيد المصلوب ووهب بن وهب القاضي وأحمد بن عبد الله الجوباري وأمثالهم». أهـ.
من هنا يتضح:
بطلان القول بأنه لا يوجد معلوم من الدين بالضرورة، وأنه أمر نسبي بل هناك ما يتواتر ويكون معلومًا من الدين بالضرورة أو بالاضطرار عند العامة، وما يتواتر ويكون معلومًا من الدين بالضرورة عند الخاصة، فإذا أخذ من جهتهم صار معلومًا لغيرهم بعلمهم، وإذا لم يؤخذ عن جهتهم سقط عذر المعرض عن ذلك إذا أخطأ فيه.
المسألة الثالثة: الفرق بين الأصول والفروع(2/81)
ويوجد في الأصول والفروع ما هو معلوم من الدين بالضرورة عند العامة وعند الخاصة والذي يجب أن يعلمه العامة أو من هو منهم من جهة الخاصة ليعلمه علمًا ضروريًا بعلمهم له علمًا ضروريًا، ولكن الأصول تتميز عن الفروع هنا بفارق مهم جدًا وهو أن العقائد لا يجوز أن يتجدد منها للخلف ما لم يكن واجبًا على السلف بخلاف الفروع فقد تتجدد الحوادث ويقع للمتأخر فيها ما لم يقع للمتقدم، فالأصول لا تدخلها الاجتهاديات، أما الفروع فتدخلها الاجتهاديات، ولذلك نجد إمام أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل الذي يقول: أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ينقل عن الصحابة عدة أقوال قد تكون مختلفة أحيانًا اختلافًا بينًا ويقررها أقوالاً في مذهبه وذلك في الفروع ولا نجد له عن الصحابة في الأصول إلا قولاً واحدًا، لأن الصحابة كانت لهم أقوال مختلفة في الفروع وكان قولهم واحدًا في الأصول، ولذلك عابوا على المتكلمين إعراضهم عن المنقول إلى معقولاتهم التي عارضوا بها المنقول عن الصحابة وأولوا لها القرآن.
فقالوا:
ما باله حتى السواك أبانه وقواعد الإسلام لم تتقرر(2/82)
ولذلك فكل ما لم يبين من العقائد في عصر النبوة فلا حاجة إلى اعتقاده ولا الخوض فيه لأن الأمة قد أجمعت على أن البيان لا يتأخر عن وقت الحاجة سواء كان إلى معرفته سبيل أم لا، وسواء كان حقًا أم لا وخصوصًا إذا أدى الخوض فيه إلى التفرق المنهي عنه { وخضتم كالذي خاضوا } فيكون في إيجابه إيجاب ما لم ينص على إيجابه ويؤدي إلى المنصوص على تحريمه وهو الافتراق، وما تبين من العقائد في عصر النبوة نقله الصحابة ونقله أهل السنة والأثر، ولذلك نجد قولهم واحدًا فيه لا اختلاف بينهم لا من حيث الجملة ولا التفاصيل وتجد الاختلاف الكثير عند من أعرض عن المنقول إلى المعقول يقول صاحب كتاب ”إيثار الحق على الخلق“ (1): «ومما يصلح للاستدلال به في هذا المقام قوله تعالى: { وتري كلَّ أمةٍ جاثية كلُّ أمةٍ تُدْعَي إلى كتابِها } فلولا أن كتابها هو موضع الحجة عليها في أمور الدين ومهماته ما اختص بالدعاء إليه ونحوها قوله تعالى: { اللهُ الذي أنزلَ الكتابَ بالحقِّ والميزان } فجعل الكتاب في بيان الدين وحفظه وتمييز الحق من الباطل كالميزان في بيان الحقوق الدنيوية وحفظها، بل جعل الحق مختصًا به بالنص والميزان معطوفًا عليه بالمفهوم أي والميزان بالحق. وقال بعد الأمر بوفاء الكيل والوزن: { لا نكلف نفسًا إلا وسعها } لأنه يحتاج إلى المعاملة بالكيل والوزن وإن وقع التظالم الخفي في مقادير مثاقيل الذر أو أقل منه، ولم يقل ذلك بعد الأمر بلزوم كتابه واتباع رسله، لأنه لا حاجة ولا ضرورة إلى البدعة في الاعتقاد. وأما الفروع العملية فلما وقعت الضرورة إلى الخوض فيها بالظنون لم يكن فيها حرج بالنص والإجماع فتأمل ذلك فإنه مفيد». أهـ.
__________
(1) إيثار الحق علي الخلق، ص 111.(2/83)
وإذا كان الرجوع إلى عمل الصحابة مطلوب في الفروع العملية وإن دخلتها الاجتهاديات واختلفت فيها أقوالهم وأعمالهم وفتاواهم فإنه مطلوب في العقائد قطعًا، ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الفرقة الناجية «ما أنا عليه وأصحابي» وقال عنها أنها الجماعة، فالجماعة هى ما كان عليه وأصحابه - صلى الله عليه وسلم - وهى النجاة، فمن أعرض عن ذلك كان مذمومًا هالكًا وليس مجتهدًا مثابًا ولا متأولاً مغفورًا له خطؤه، وإذا كان التأكيد أكثر في هذا الشأن على الأصول الاعتقادية، بل هى الأصل وغيرها تبع لها، فليس ذلك راجعًا إلى أن هذه عقلية لا يعذر فيها، وهذه شرعية يعذر فيها كما يقول المتكلمون، ولكن لأن هذه لامجال فيها للاجتهادات فلاحاجة ولا ضرورة لاعتقاد البدعة وهذه تتجدد فيها الحوادث فيقع للمتأخر فيها ما لم يقع للمتقدم وهذه قد قضت الضرورة إلى الخوض فيها بالظنون فرفع فيها الحرج بخلاف الأولى التي لا توجد حاجة فيها إلى اعتقاد ما لم يبين في عصر النبوة ولا الخوض فيه. ولذلك قال عبد الله بن مسعود عن العقائد اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم. وليس هذا هو الشأن في الاجتهاديات ولذلك قال مالك: ـ وهو إمام أهل الأثر ـ للرجل الذي جاء يجادله أرأيت إن غلبتني، قال: تتبعني، قال: فإن غلبتك، قال: أتبعك، قال: فإن جاء آخر فغلبنا قال: نتبعه، قال مالك: أرى الدين واحدًا وأراك أكثرت التنقل. وقال: كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا لجدله ما جاء به جبريل إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - ؟!(2/84)
ونكتة الموضوع أن العقائد ما نص عليه الشارع فقد نص عليه، وما سكت عنه سكت عنه مع وجود المقتضى للتشريع، أما الاجتهاديات فقد يسكت الشارع مع عدم وجود المقتضى للتشريع وقت التشريع ثم يوجد بعد انقضاء وقت التشريع مثل جمع المصحف فلا يكون الفعل بدعة بل مصلحة مرسلة وخصوصًا أنه معقول المعنى اجتهادي تضافرت قواعد الشرع على إثباته، أما الأصول فلا يتجدد لها مقتضيات للتشريع بعد انقضاء الرسالة فمازاد أو نقص عن ذلك بعد إكمال الدين صار بدعة، ولذلك نجد مالكًا يتوسع في المصالح المرسلة ولا يخرج عن المنقول في العقائد قيد أنملة.
والمصادر المعصومة ثلاثة: الكتاب والسنة وإجماع الأمة وهو ما نقل عن الصحابة فمن خرج عن ذلك لم يكن معذورًا في خطئه ولا مثابًا في اجتهاده، ولذلك يقول أحمد: أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمن خرج عن ذلك خرج من السنة إلى البدعة ومن المحجة البيضاء التي ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، والهالك ليس مثابًا على اجتهاده ولا معذورًا في خطئه. ولننظر إلى الفروع العملية، كيف اختلفت فيها أقوال أهل السنة والأثر في دائرة المشروع، وكيف اتفقت مذاهبهم في الأصول، بل للحق والدقة أنه ليس لهم مذاهب في الأصول بل هو مذهب واحد إجمالاً وتفصيلاً وهذه أمثلة ولنبدأ أولا بالفروع العملية:(2/85)
يقول(1) شيخ الإسلام ابن تيمية ـ - رضي الله عنه - وأرضاه ـ يقول بعد كلام: «ومثل طوائف الفقه من الحنفية والمالكية والسفيانية والأوزاعية والشافعية والحنبلية والداوودية وغيرهم مع تعظيم الأقوال المشهورة عن أهل السنة والجماعة لايوجد لطائفة منهم قول انفردوا به عن سائر الأمة وهو صواب بل ما مع كل طائفة منهم من الصواب يوجد عند غيرها من الطوائف وقد ينفردون بخطأ لايوجد عند غيرهم، لكن قد تنفرد طائفة بالصواب عمن يناظرها من الطوائف كأهل المذاهب الأربعة قد يوجد لكل منهم أقوال انفرد بها، وكان الصواب الموافق للسنة معه دون الثلاثة لكن يكون قوله قد قاله غيره من الصحابة والتابعين وسائر علماء الأمة بخلاف ما انفردوا به ولم ينقل عن غيرهم فهذا لايكون إلا خطأ، وكذلك أهل الظاهر كل قول انفردوا به عن سائر الأمة فهو خطأ، وأما ما انفردوا به عن الأربعة وهو صواب فقد قاله غيرهم من السلف. وأما الصواب الذي ينفرد به كل طائفة من الثلاثة فهو كثير لكن الغالب أن يوافقه عليه بعض أتباع الثلاثة وذلك كقول أبي حنيفة بأن المحرم يجوز له أن يلبس الخف المقطوع وما أشبهه كالجمجم والمداس وهو وجه في مذهب الشافعي وغيره، وكقوله بأن طهارة المسح يشترط لها دوام الطهارة دون ابتدائها، وقوله أن النجاسة تزول بكل ما يزيلها وهذا أحد الأقوال الثلاثة في مذهب أحمد ومذهب مالك، وكذلك قوله بأنها تطهر بالاستحالة، ومثل قول مالك بأن الخمس مصارفه مصرف الفئ وهو قول في مذهب أحمد فإنه عنه روايتان في خمس الركاز هل يصرف مصرف الفئ أو مصرف الزكاة، وإذا صرف مصرف الفيء فإنما هو تابع لخمس الغنيمة، ومثل قوله بجواز أخذ الجزية من كل كافر جازت معاهدته لا فرق بين العرب والعجم ولا بين أهل الكتاب وغيرهم فلا يعتبر قط أمر النسب بل الدين في الذمة والاسترقاق وحل الذبائح والمناكح وهذا أصح الأقوال في هذا الباب، وهو أحد القولين في مذهب
__________
(1) منهاج السنة، ج3، ص 44-46.(2/86)
أحمد فإنه لا يخالفه إلا في أخذ الجزية من مشركي العرب ولم يبق من مشركي العرب أحد بعد نزول آية الجزية، بل كان جميع مشركي العرب قد أسلموا. ومثل قول مالك أن أهل مكة يقصرون الصلاة بمني وعرفة وهو قول في مذهب أحمد وغيره، ومثل مذهبه في الحكم بالدلائل والشواهد وفي إقامة الحدود ورعاية مقاصد الشريعة وهذا من محاسن مذهبه ومذهب أحمد قريب من مذهبه في أكثر ذلك. ومثل قول الشافعي أن الصبي إذا صلى في أول الوقت ثم بلغ لم يُعد الصلاة وكثير من الناس يعيب هذا على الشافعي وغلطوا في ذلك، بل الصواب قوله وهو وجه في مذهب أحمد وقوله تفعل ذوات الأسباب في وقت النهي وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وكذلك قوله بطهارة المني كقول أحمد في أظهر الروايتين، ومثل قول أحمد في نكاح البغي لا يجوز حتى تتوب، وقوله أن الصيد إذا جرح ثم غاب أنه يؤكل ما لم يوجد فيه أثر آخر وهو قول في مذهب الشافعي، وقوله بأن صوم النذر يصام عن الميت بل وكل المنذورات تفعل عن الميت، ورمضان يطعم عنه وبعض الناس يضعف هذا القول وهو قول الصحابة ابن عباس وغيره ولم يفهموا غوره، وقوله أن المحرم إذا لم يجد النعلين والإزار لبس الخفين والسراويل بلا قطع ولا فتق فإن هذا كان آخر الأمرين من النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وقوله بأن مرور المرأة والكلب الأسود والحمار يقطع الصلاة، وقوله بأن الجدة ترث وابنها حي، وقوله بصحة المساقاة والمزارعة وما أشبه ذلك وإن كان البذر من العامل على إحدى الروايتين عنه وكذلك طائفة من أصحاب الشافعي، وقوله في إحدى الروايتين أن طلاق السكران لا يقع وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة والشافعي، وقوله أن الوقف إذا تعطل نفعه بيع واشترى به ما يقوم مقامه وفي مذهب أبي حنيفة ما هو أقرب إلى مذهب أحمد من غيره وكذلك في مذهب مالك، وكذلك قوله في إبدال الوقف كإبدال المسجد بغيره ويجعل الأول غير مسجد كما فعل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وفي مذهب أبي حنيفة(2/87)
ومالك يجوز الإبدال للحاجة في مواضع، وقوله بقبول شهادة العبد، وقوله بأن صلاة المنفرد خلف الصف يجب عليه فيها الإعادة، وقوله في أن فسخ الحج إلى العمرة جائز مشروع بل هو أفضل، وقوله بأن القارن إذا ساق الهدي فقرانه أفضل من التمتع والإفراد كما فعل النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ومثل قوله إن صلاة الجماعة فرض على الأعيان». أهـ.
وبعض هؤلاء الأئمة يأخذ بقول الصحابي والتابعي في الفروع العملية ويجعل أقوال الصحابة والتابعين وإن تعددت أقوالاً أو أوجهًا في مذهبه، والبعض الآخر لا يأخذ ولا حرج في ذلك، فلا حرج في خلاف الصحابي والتابعي هنا إذا كان الاعتماد على نصوص الكتاب والسنة ومن قرأ في الفروع العملية علم أن أقوال الصحابة والتابعين متعددة ليست قولاً واحدًا. وأما الأصول الاعتقادية فقولهم قول واحد فالخروج عنه أو مخالفته بدعة. ما ينفرد به أبو حنيفة ويكون وجهًا في مذهب الشافعي وهو صواب هل يكون الوجه الآخر في مذهب الشافعي باطل أم خطأ كلا قد يكون راجحًا أيضًا، وقد يكون مرجوحًا وما ينفرد به أبو حنيفة وهو صواب وهو أحد الأقوال الثلاثة في مذهب أحمد ومالك هل يكون القولان الآخران في مذهب أحمد ومالك باطلان أم خطأ كلا بل ربما كانا أرجح أو متساويين في الرجحان أو مرجوحين عن القول الذي وافق قول أبي حنيفة.(2/88)
وكذلك ما يقوله مالك وهو أحد القولين في مذهب أحمد أو هو قول في مذهب أحمد، وكذلك ما يقوله الشافعي وهو وجه في مذهب أحمد أو إحدى الروايتين عن أحمد أو كقول أحمد في أظهر الروايتين عنه الأقوال الأخرى في مذهب أحمد كلها حق وصواب قد تكون أرجح أو متساوية في الرجحان أو أقل في الرجحان فتكون مرجوحة ولكنها ليست باطلة ولا خطأ، وكذلك ما يقوله أحمد في إحدى الروايتين عنه وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة والشافعي أو قالت به طائفة من أصحاب الشافعي أو هو قول في مذهب الشافعي، فإن الرواية الأخرى في مذهب أحمد والأقوال والأوجه الأخرى في مذهب الشافعي أو أبي حنيفة أو مالك صحيحة مقبولة شرعية، وإذا كان ثَمَّ راجح أو مرجوح، وقد يصير الراجح مرجوحًا والمرجوح راجحًا لبعض الظروف والملابسات وباعتبار المآلات والنظر إلى مقاصد الشريعة، وقد يكون الحكمان باقيان يُعمل بكل في مناسبته ليس ثمة خطأ وإذا كان ثمة خطأ فليس ثمة بدعة، وإذا كانت ثمة زلة لعالم فلا يثبت عليها ولا ينافح عنها ولا يطلبون من غيرهم المتابعة عليها، فإذا تنبهوا رجعوا وإن لم يتنبهوا إليها غفرها الله لهم لأنهم كلهم قد قال بلسان الحال أو المقال إذا صح الحديث فهو مذهبي واضربوا بقولي هذا عرض الحائط، فإذا كان صوابًا فمن الله ورسوله وإذا كان خطأ فهو من الشيطان، وهذا هو شأن الفروع العملية بخلاف الأصول الاعتقادية، فإنها قول واحد ومذهب واحد ليس فيها أقوال ولا مذاهب ولا راجح ولا مرجوح ولا تغير في الأحكام لتجدد القضايا وتغير الزمان.(2/89)
يقول الشاطبي عن الاختلاف المرحوم(1): «ثم إن هؤلاء المتفقين قد يعرض لهم الاختلاف بحسب القصد الثاني لا القصد الأول، فإن الله تعالى حكم بحكمته أن تكون فروع هذه الملة قابلة للأنظار ومجالاً للظنون، وقد ثبت عند النظار أن النظريات لا يمكن الاتفاق فيها عادة، فالظنيات عريقة في إمكان الاختلاف، لكن في الفروع دون الأصول وفي الجزئيات دون الكليات، فلذلك لا يضر هذا الاختلاف.
وقد نقل المفسرون عن الحسن في هذه الآية أنه قال: أما أهل رحمة الله فإنهم لا يختلفون اختلافًا يضرهم. يعني لأنه في مسائل الاجتهاد التي لا نص فيها بقطع العذر، بل لهم فيه أعظم العذر، ومع أن الشارع لما علم أن هذا النوع من الاختلاف واقع، أتي فيه بأصل يُرجَعُ إليه، وهو قول الله تعالى: { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } (2) الآية. فكل اختلاف من هذا القبيل حكم الله فيه أن يرد إلى الله، وذلك رده إلى كتابه، وإلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وذلك رده إليه إذا كان حيًّا وإلي سنته بعد موته، وكذلك فعل العلماء - رضي الله عنهم - إلا أن لقائل أن يقول: هل هم داخلون تحت قوله تعالى: { ولا يزالون مختلفين } أم لا؟ والجواب: أنه لا يصح أن يدخل تحت مقتضاها أهل هذا الاختلاف من أوجه:
الأول: أن الآية اقتضت أن أهل الاختلاف المذكورين مباينون لأهل الرحمة لقوله { ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربُّك } (3) فإنها اقتضت قسمين: أهل الاختلاف، والمرحومين، فظاهر التقسيم أن أهل الرحمة ليسوا من أهل الاختلاف وإلا كان قسم الشيء قسيمًا له ولم يستقم معنى الاستثناء.
__________
(1) الاعتصام، ج2، ص 168.
(2) النساء، الآية: 59.
(3) هود، الآيتان: 118- 119.(2/90)
والثاني: أنه قال فيها { ولا يزالون مختلفين } فظاهر هذا أن وصف الاختلاف لازم لهم حتى أطلق عليهم لفظ اسم الفاعل المشعر بالثبوت، وأهل الرحمة مبرءون من ذلك، لأن وصف الرحمة ينافي الثبوت على المخالفة، بل إن خالف أحدهم في مسألة فإنما يخالف فيها تحريًا لقصد الشارع فيها، حتى إذا تبين له الخطأ فيها راجع نفسه وتلافي أمره، فخلافه في المسألة بالعرض لا بالقصد الأول، فلم يكن وصف الاختلاف لازمًا ولا ثابتًا، فكان التعبير عنه بالفعل الذي يقتضي العلاج والانقطاع أليق في الموضع.
والثالث: أنا نقطع بأن الخلاف في مسائل الاجتهاد واقع ممن حصل له محض الرحمة وهم الصحابة ومن اتبعهم بإحسان - رضي الله عنهم -، بحيث لا يصح إدخالهم في قسم المختلفين بوجه، فلو كان المخالف منهم في بعض المسائل معدودًا من أهل الاختلاف ـ ولو بوجه ما ـ لم يصح إطلاق القول في حقه: أنه من أهل الرحمة وذلك باطل بإجماع أهل السنة.
والرابع: أن جماعة من السلف الصالح جعلوا اختلاف الأمة في الفروع ضربًا من ضروب الرحمة، وإذا كان من جملة الرحمة، فلا يمكن أن يكون صاحبه خارجًا من قسم أهل الرحمة.(2/91)
وبيان كون الاختلاف المذكور رحمة ما روى عن القاسم بن محمد قال: لقد نفع الله باختلاف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العمل، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سعة. وعن ضمرة بن رجاء قال: اجتمع عمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد فجعلا يتذاكران الحديث ـ قال ـ فجعل عمر يجيءُ بالشيء يخالف فيه القاسم ـ قال ـ وجعل القاسم يشق ذلك عليه حتى يتبين ذلك فيه فقال له عمر: لا تفعل فما يسرني باختلافهم حمر النعم وروى ابن وهب عن القاسم أيضًا قال: لقد أعجبني قول عمر بن عبد العزيز: ما أحب أن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يختلفون، لأنه لو كان قولاً واحدًا لكان الناس في ضيق، وإنهم أئمة يقتدي بهم، فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان سنة ومعنى هذا أنهم فتحوا للناس باب الاجتهاد وجواز الاختلاف فيه، لأنهم لو لم يفتحوه لكان المجتهدون في ضيق، لأن مجال الاجتهاد ومجالات الظنون لا تتفق عادة ـ كما تقدم ـ فيصير أهل الاجتهاد مع تكليفهم باتباع ما غلب على ظنونهم مكلفين باتباع خلافهم، وهو نوع من تكليف ما لا يطاق وذلك من أعظم الضيق. فوسع الله على الأمة بوجود الخلاف الفروعي فيهم، فكان فتح باب للأمة، للدخول في هذه الرحمة، فكيف لا يدخلون في قسم { من رحم ربك } فاختلافهم في الفروع كاتفاقهم فيها والحمد لله.(2/92)
وبين هاتين الطريقين(1) واسطة أدنى من الرتبة الأولى وأعلى من الرتبة الثانية، وهى أن يقع الاتفاق في أصل الدين ويقع الاختلاف في بعض قواعده الكلية، وهو المؤدي إلى التفرق شيعًا. فيمكن أن تكون الآية تنتظم هذا القسم من الاختلاف، ولذلك صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أن أمته تفترق على بضع وسبعين فرقة، وأخبر أن هذه الأمة تتبع سنن من كان قبلها شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، وشمل ذلك الاختلاف الواقع في الأمم قبلنا، ويرشحه وصف أهل البدع بالضلالة وإيعادهم بالنار،وذلك بعيد من تمام الرحمة». أهـ.
ويقول الإمام الشاطبي(2) : «وقد ذهب جماعة من المفسرين إلى أن المراد بالمختلفين في الآية أهل البدع، وأن من رحم ربك أهل السنة، ولكن لهذا الكتاب أصل يرجع إلى سابق القدر لا مطلقًا، بل مع إنزال القرآن محتمل العبارة للتأويل، وهذا لابد من بسطه فاعلموا أن الاختلاف في بعض القواعد الكلية لا يقع في العاديات الجارية بين المتبحرين في علم الشريعة الخائضين في لجتها العظمى العالمين بمواردها ومصادرها.
والدليل على ذلك اتفاق العصر الأول وعامة العصر الثاني على ذلك، وإنما وقع اختلافهم في القسم المفروغ منه آنفًا، بل كل خلاف على الوصف المذكور وقع بعد ذلك فله أسباب ثلاثة قد تجتمع وقد تفترق».
يلخصها الشاطبي في الجهل واتباع الهوى والتصميم على اتباع العوائد ولزم فيها تفصيلات أخرى(3) سنذكرها كما وقعت تاريخيًا والغالب على البدع أنها مقصورة على المخالفات في الأصول الاعتقادية والمسائل التعبدية ولا تدخل في المسائل العملية الفروعية إلا من هذه الأوجه:
إذا اتخذ الناس رؤوسًا جهالاً فأفتوا بغير علم فضلُّوا وأضلوا ”اتباع الجهال“
__________
(1) الاختلاف في أصل الدين والاختلاف في الفروع العملية.
(2) الاعتصام، ج2 ، ص 172.
(3) لم تسنح الفرصة لمعالجتها في هذا الكتاب وربما أعالجها في كتابٍٍِ آخر إن شاء الله(2/93)
أخذ الشريعة على تشهي الأغراض، والأخذ بالحيل واتباع المتشابه.
التقليد المذموم.
رد أحاديث الآحاد وعليها جملة الشريعة.
القول في الشرع بالاستحسان والظنون والاشتغال بالمعضلات ورد الفروع بعضها إلى بعض دون ردها إلى أصولها فاستعمل فيها الرأي قبل أن تنزل وفي الاشتغال بهذا تعطيل السنن والتذرع إلى جهلها مع التعمق في القياس والإعراض عن السنن.
شيوع المعاصي واختلال القيم ووضع المعاصي على مضاهاة التشريع فإن المعصية إذا وضعت على مضاهاة التشريع صارت بدعة(1).
فإن دخول شوب التشريع يجعل المعصية بدعة والتشريع المطلق كفر ممن شرعه وممن أمضاه وممن رضيه وقبله وتابع عليه.
وإذا تأملت هذه الأمور الستة المذكورة وجدتها راجعة إلى خلل في أصول الفقه أو أصول الاعتقاد فعادت إلى الأصول مرة ثانية، وأصول الفقه هى الأصول العملية، وأصول الاعتقاد هى الأصول الاعتقادية. ومن هذه الأوجه أدخل فيها الإمام الشاطبي الابتداع وبدون هذه الأوجه لا يدخلها الابتداع بمجرد خلاف الصحابة أو عدم الأخذ برأي الصحابي أو التابعي في الاجتهاد إذا كان المجتهد يجتهد على نصوص الكتاب والسنة على وفق أصول الاجتهاد، أما الأصول والعبادات فالخروج فيها عما كان عليه السلف الصالح بدعة لمجرد المخالفة، لأن الفروع العملية معقولة المعنى تدخلها المصالح المرسلة والمسائل الاعتقادية والعبادية لا تدخلها المصالح المرسلة ولا حاجة فيها تدعو إلى اعتقاد البدعة أو العمل بها فالمخالفة فيها بدعة.
__________
(1) الاعتصام، ج2.(2/94)
يقول الشاطبي(1): «الثاني: أن البدع تنقسم إلى ما هى كلية في الشريعة وإلي جزئية، ومعنى ذلك أن يكون الخلل الواقع بسبب البدعة كليا في الشريعة كبدعة التحسين والتقبيح العقليين وبدعة إنكار الأخبار السنية اقتصارًا على القرآن وبدعة الخوارج في قولهم لا حكم إلا لله وما أشبه ذلك من البدع التي لا تختص فرعًا من فروع الشريعة دون فرع بل تجدها تنتظم ما لا ينحصر من الفروع الجزئية». أهـ.
ويقول(2): «وأما الراسخون في العلم فليسوا كذلك، وماذاك إلا باتباعهم أم الكتاب وتركهم الاتباع للمتشابه. وأم الكتاب يعم ما هو من الأصول الاعتقادية أو العملية، إذ لم يخص الكتاب ذلك ولا السنة، بل ثبت في الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» وفي الترمذي تفسير هذا بإسناد غريب عن غير أبي هريرة، فقال في حديثه «وأن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاثة وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة قالوا: من هى يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي». والذي عليه النبيّ وأصحابه ظاهر في الأصول الاعتقادية والعملية على الجملة لم يخص من ذلك شيء دون شيء، وفي أبي داود «وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهى الجماعة» وهى بمعنى الرواية التي قبلها، وقد روى ما يُبين هذا المعنى ذكره ابن عبد البر بسند لم يرضه وإن كان غيره قد هون الأمر فيه أنه قال: «ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة الذين يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال». فهذا نصٌ على دخول الأصول العملية تحت قوله «ما أنا عليه وأصحابي» وهو ظاهر فإن المخالف في أصل من أصول الشريعة العملية لا يقصر عن
__________
(1) الاعتصام، ج2، ص 59.
(2) الموافقات، ج4، ص 177.(2/95)
المخالف في أصل من الأصول الاعتقادية في هدم القواعد الشرعية». أهـ.
وليس معنى هذا تصويب المجتهدين في الفروع، بل الشريعة على قول واحد في الأصول الاعتقادية والفروع العملية، وإن كانت هناك مسائل يدق فيها النظر وتتجاذبها أصول تتردد بينها فمن قوي عنده من المجتهدين إلحاقها بأحد الجانبين ألحقها به، ومن قوى عنده إلحاقها بالجانب الآخر ألحقها به، ومن ذلك ما يقوله ابن رشد في ”بداية المجتهد“ في بيوع الشروط والثنيا: «واختلف العلماء من هذا الباب في بيع وإجارة معًا في عقد واحد فأجازه مالك وأصحابه، ولم يجزه الكوفيون ولا الشافعي لأن الثمن يرون أنه يكون حينئذ مجهولاً. ومالك يقول: إذا كانت الإجارة معلومة لم يكن الثمن مجهولاً وربما رآه الذين منعوه من باب بيعتين في بيعة وأجمعوا على أنه لا يجوز السلف والبيع كما قلنا، واختلف قول مالك في إجازة السلف والشركة فمرة أجاز ذلك ومرة منع؛ وهذه كلها اختلف العلماء فيها لاختلافها بالأقل والأكثر في وجود علل المنع فيها المنصوص عليها فمن قويت عنده علة المنع في مسألة منعها ومن لم تقو عنده أجازها وذلك راجع إلى ذوق المجتهد لأن هذه المواد يتجاذب القول فيها إلى الضدين على السواء عند النظر فيها، ولعل في أمثال هذه المواد يكون القول بتصويب كل مجتهد صوابًا لهذا ذهب بعض العلماء في أمثال هذه المسائل إلى التخيير». أهـ.(2/96)
هذا شأن الفروع العملية فكيف يكون شأن الأصول الاعتقادية. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن محنة الإمام أحمد في موضوع خلق القرآن (1): «مذهب أهل السنة والجماعة مذهب قديم معروف قبل أن يخلق الله أبا حنيفة ومالكًا والشافعي وأحمد، فإنه مذهب الصحابة الذين تلقوه عن نبيهم، ومن خالف ذلك كان مبتدعًا عند أهل السنة والجماعة، فإنهم متفقون على أن إجماع الصحابة حجة ومتنازعون في إجماع من بعدهم، وأحمد بن حنبل وإن كان قد اشتهر بإمامة السنة والصبر في المحنة فليس ذلك لأنه انفرد بقول أو ابتدع قولاً، بل لأن السنة التي كانت موجودة معروفة قبله علمها ودعا إليها وصبر على ما امتحن به ليفارقها، وكان الأئمة قبل قد ماتوا قبل المحنة فلما وقعت محنة الجهمية نفاة الصفات في أوائل المائة الثالثة على عهد المأمون وأخيه المعتصم ثم الواثق ودعوا الناس إلى التجهم وإبطال صفات الله وهو المذهب الذي ذهب إليه متأخروا الرافضة، وكانوا قد أدخلوا معهم من أدخلوه من ولاة الأمر فلم يوافقهم أهل السنة والجماعة حتى هددوا بعضهم بالقتل وقيدوا بعضهم وعاقبوهم بالرهبة والرغبة، وثبت أحمد بن حنبل على ذلك الأمر حتى حبسوه مدة ثم طلبوا أصحابهم لمناظرته فانقطعوا معه في المناظرة يومًا بعد يوم، ولما لم يأتوا بما يوجب موافقته لهم وبين خطأهم فيما ذكروا من الأدلة وكانوا قد طلبوا أئمة الكلام من أهل البصرة وغيرهم مثل أبي عيسي محمد بن عيسي برغوث صاحب حسين النجار وأمثاله ولم تكن المناظرة مع المعتزلة فقط بل كانت مع جنس الجهمية من المعتزلة والنجارية والضرارية وأنواع المرجئة، فكل معتزلي جهمي وليس كل جهمي معتزلي لكن جهم أشد تعطيلاً لأنه ينفي الأسماء والصفات، والمعتزلة تنفي الصفات وبشر المريسي كان من المرجئة لم يكن من المعتزلة بل كان من كبار الجهمية، وظهر للخليفة المعتصم أمرهم وعزم على رفع المحنة حتى ألحَّ عليه ابن أبي دؤاد يشير
__________
(1) منهاج السنة، ج 1، ص 256.(2/97)
عليه أنك إن لم تضربه وإلا انكسر ناموس الخلافة، فضربه فعظمت الشناعة من العامة والخاصة فأطلقوه، ثم صارت هذه الأمور سببًا في البحث عن مسائل الصفات وما فيها من النصوص والأدلة والشبهات من جانبي المثبتة والنفاة وصنفت الناس في ذلك مصنفات وأحمد وغيره من علماء أهل السنة والحديث مازالوا يعرفون فساد مذهب الروافض والخوارج والقدرية والجهمية والمرجئة لكن بسبب المحنة كثر الكلام ورفع الله قدر هذا الإمام فصار إمامًا من أئمة أهل السنة وعلمًا من أعلامها لقيامه بإعلامها وإظهارها واطلاعه على نصوصها وآثارها وبيان خفي أسرارها لا أنه أحدث مقالة ولا ابتدع رأيًا ولهذا قال بعض شيوخ الغرب المذهب لمالك والشافعي والظهور لأحمد يعني أن مذاهب الأئمة في الأصول مذهب واحد وهو كما قال». أهـ.
أقول:
انظروا: مذهب الأئمة في الأصول مذهب واحد.
يعنى هنا أصول وفروع والأصول المذهب فيها واحد والفروع المذاهب أربعة وأكثر من ذلك.
ليس هنا(1) وجه ولا قول ولا أقوال وهذا يوجد كثيرًا في الفروع داخل المذهب الواحد ثم هناك مذاهب متعددة.
هنا مجرد الخلاف بدعة من خالف مذهب أهل السنة مبتدع لماذا لأن هذا المذهب أجمعت عليه الصحابة فليس عليه خلاف بين الصحابة فهو مذهب الصحابة، والخروج عن مذهب الصحابة مروق من الدين، وهذا هو معنى يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية المذكور في حديث الخوارج ومقصود به كل من خالف الفرقة الناجية وهى كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي» هل يصلح هنا أن يقال كما قال عمر بن عبد العزيز في الفروع العملية ”ما يسرني باختلافهم حمر النعم“ وقوله ”ما أحب أن أصحاب محمد لا يختلفون لأنه لو كان قولاً واحدًا لكان الناس في ضيق وأنهم أئمة يقتدى بهم فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان سنة“ ؟!
__________
(1) أي في الأصول.(2/98)
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في ”درء تعارض النقل والعقل“ في مسألة الصفات (1): «والتفاسير المأثورة عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين مثل تفسير محمد بن جرير الطبري وتفسير عبد الرحمن بن إبراهيم المعروف بدحيم وتفسير عبد الرحمن بن أبي حاتم وتفسير ابن المنذر وتفسير أبي بكر عبد العزيز وتفسير أبي الشيخ الأصبهاني وتفسير أبي بكر بن مردويه وما قبل هؤلاء من التفاسير مثل تفسير أحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم وبقيّ بن مخلد وغيرهم ومن قبلهم مثل تفسير عبد بن حميد وتفسير عبد الرزاق ووكيع بن الجراح فيها من هذا الباب الموافق لقول المثبتين ما لا يكاد يحصى، وكذلك الكتب المصنفة في السنة التي فيها آثار النبيّ والصحابة والتابعين. وقال أبو محمد حرب بن إسماعيل الكرماني في مسائله المعروفة التي نقلها عن أحمد وإسحق وغيرهما وذكر معها من الآثار عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - والصحابة وغيرهم ما ذكر وهو كتاب كبير صنَّفه على طريقة الموطأ ونحوه من المصنفات قال في آخره في الجامع باب القول في المذهب هذا مذهب أئمة العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المعروفين بها المقتدى بهم فيها وأدركت من أدركت من علماء أهل العراق والحجاز والشام وغيرهم عليها فمن خالف شيئًا من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مبتدع خارج عن الجماعة زائل عن منهج أهل السنة وسبيل الحق وهو مذهب أحمد وإسحاق بن إبراهيم وبقي بن مخلد وعبد الله بن الزبير الحميدي وسعيد بن منصور وغيرهم ممن جالسنا وأخذنا عنهم العلم، وذكر الكلام في الإيمان والقدر والوعيد والإمامة، وما أخبر به الرسول من أشراط الساعة وأمر البرزخ والقيامة وغير ذلك.
__________
(1) منهاج السنة، ج2، ص 12.(2/99)
إلى أن قال: وهو سبحانه بائن من خلقه لا يخلو من علمه مكان ولله عرش وللعرش حملة يحملونه، وله حد الله أعلم بحده والله على عرشه عزَّ ذكره وتعالى جده ولا إله غيره والله تعالى سميعٌ لا يشك بصير لا يرتاب، عليم لا يجهل، جواد لا يبخل، حليم لا يعجل، حفيظ لا ينسي، يقظان لا يسهو، رقيب لا يغفل، يتكلم ويتحرك، يسمع ويبصر وينظر ويقبض ويبسط ويفرح ويحب ويكره ويبغض ويرضي ويسخط ويغضب ويرحم ويعفو ويغفر ويعطي ويمنع وينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا كيف شاء وكما شاء ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. إلى أن قال: ولم يزل الله متكلمًا عالمًا فتبارك الله أحسن الخالقين». أهـ.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية(1): «وقال الشيخ أبو الحسن بن عبد الملك الكرخي الشافعي في كتابه الذي سماه ”الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول“ وذكر اثني عشر إمامًا، الشافعي ومالك والثوري وأحمد وابن عيينه وابن المبارك والأوزاعي والليث بن سعد وإسحق بن راهويه والبخاري وأبو زرعة وأبو حاتم. قال فيه: سمعت الإمام أبا منصور محمد بن أحمد يقول سمعت الإمام أبا بكر عبد الله بن أحمد يقول سمعت الشيخ أبا حامد الإسفراييني يقول: مذهبي ومذهب الشافعي وفقهاء الأمصار أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال القرآن مخلوق فهو كافر، والقرآن حمله جبريل مسموعًا من الله تعالى والنبيّ - صلى الله عليه وسلم - سمعه من جبريل، والصحابة سمعوه من الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي نتلوه نحن بألسنتنا وفيما بين الدفتين وما في صدورنا مسموعًا ومكتوبًا ومحفوظًا ومنقوشًا، وكل حرف منه كالباء والتاء كله كلام الله غير مخلوق، ومن قال مخلوق فهو كافر عليه لعائن الله والملائكة والناس أجمعين». أهـ.
__________
(1) درء التعارض، بحاشية منهاج السنة، ج2، ص48 .(2/100)
ويقول شيخ الإسلام(1): «قال الحاكم سمعت أبا عبد الرحمن بن أحمد المقري يقول سمعت أبا بكر محمد بن إسحق يقول: الذي أقول به أن القرآن كلام الله ووحيه وتنزيله غير مخلوق، ومن قال أن القرآن أو شيئًا منه ومن وحيه وتنزيله مخلوق، أو يقول أن الله لا يتكلم بعد ما كان تكلم به في الأزل، أو يقول أن أفعال الله مخلوقة، أو يقول أن القرآن محدث، أو يقول أن شيئًا من صفات الله صفات الذات أو اسمًا من أسماء الله مخلوق، فهو عندي جهمي يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه هذا مذهبي ومذهب من رأيت من أهل الشرق والغرب من أهل العلم، ومن حكى عني خلاف هذا فهو كاذب باهت». أهـ.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية فيما ينقل عن الإمام أحمد في ”درء التعارض“ (2): «وقال الخلال في السنة أخبرني عليٌ بن عيسي أن حنبلاً حدثهم قال سمعت أبا عبد الله يقول: من زعم أن الله لم يكلم موسي فقد كفر بالله وكذَّب القرآن وردَّ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره يستتاب من هذه المقالة فإن تاب وإلا ضربت عنقه. إلى أن يقول:(3) وقال عبد الله بن أحمد سألت أبي عن قوم يقولون لمَّا كلم الله موسي لم يتكلم بصوت فقال أبي: بلي، تكلم تبارك وتعالى بصوت وهذه الأحاديث نرويها كما جاءت وحديث ابن مسعود إذا تكلم الله بالوحي سُمع له صوت كجر السلسلة على الصفوان قال أبي: والجهمية تنكره قال أبي: وهؤلاء كفار يريدون أن يموهوا على الناس من زعم أن الله لم يتكلم فهو كافر».
الباب الخامس
الإعراض عن المصادر الموثوقة
مروق المتكلمين والجهمية وردهم لمذهب الصحابة:
__________
(1) درء التعارض، بحاشية منهاج السنة، ج2، ص 39.
(2) المصدر السابق، ج2، ص 20.
(3) درء التعارض، ج2، ص 21.(2/101)
يقول شيخ الإسلام في ”درء التعارض“(1): «وأما المختلفون في الكتاب المخالفون له المتفقون على مفارقته فتجعل كل طائفة ما أصلته من أصول دينها الذي ابتدعته هو الإمام الذي يجب اتباعه وتجعل ما خالف ذلك من نصوص الكتاب والسنة من المجملات المتشابهات التي لا يجوز اتباعها بل يتعين حملها على ما وافق أصلهم الذي اتبعوه أو الإعراض عنها وترك التدبر لها». أهـ.
ويقول(2): «وهؤلاء الذين يعارضون الكتاب والسنة بأقوالهم بنوا أمرهم على أصل فاسد وهو أنهم جعلوا قول الله ورسوله من المجمل الذي لا يستفاد منه علم ولا هدى فجعلوا المتشابه من كلامهم هو المحكم، والمحكم من كلام الله ورسوله هو المتشابه كما يجعل الجهمية من المتفلسفة والمعتزلة ونحوهم ما أحدثوه من الأقوال التي نفوا بها صفات الله ونفوا بها رؤيته في الآخرة وعلوه على خلقه وكون القرآن كلام الله ونحو ذلك جعلوا تلك الأقوال محكمة وجعلوا قول الله ورسوله مؤولاً عليها أو مردودًا أو غير ملتفت إليه ولا متلقى للهدى منه». أهـ.
__________
(1) منهاج السنة، ج1، ص 41 .
(2) المصدر السابق، ج1، ص164.(2/102)
ويقول(1): «لكن المعتزلة ـ القائلون بأن دلالة السمع موقوفة على حجته ـ صرحوا بأنه لا يستدل بأقوال الرسول على ما يجب ويمتنع من الصفات بل ولا الأفعال، وصرحوا بأنه لا يجوز الاحتجاج على ذلك بالكتاب والسنة وإن وافق العقل فكيف إذا خالفه وهذه الطريقة هى التي سلكها من وافق المعتزلة في ذلك كصاحب الإرشاد وأتباعه وهؤلاء يردون دلالة الكتاب والسنة تارة يصرحون بأنَّا وإن علمنا مراد الرسول فليس قوله مما يجوز أن يحتج به في مسائل الصفات لأن قوله إنما يدل بعد ثبوت صدقه الموقوف على مسائل الصفات، وتارة يقولون إنما لم يدل لأنا لا نعلم مراده لتطرق الاحتمالات إلى الأدلة السمعية، وتارة يطعنون في الأخبار فهذه الطرق الثلاثة التي وافقوا فيها الجهمية ونحوهم من المبتدعة أسقطوا بها حرمة الكتاب والرسول عندهم وحرمة الصحابة والتابعين لهم بإحسان حتى يقولوا إنهم لم يحققوا أصول الدين كما حققناها، وربما اعتذروا عنهم بأنهم كانوا مشتغلين بالجهاد، ولهم من جنس هذا الكلام الذي يوافقون به الرافضة ونحوهم من أهل البدع ويخالفون به الكتاب والسنة والإجماع مما ليس هذا موضع بسطه، وإنما نبهنا على أصول دينهم وحقائق أقوالهم وغايتهم وأنهم يدعون في أصول الدين المخالفة للكتاب والسنة المعقول والكلام وكلامهم فيه من التناقض والفساد ما ضارعوا به أهل الإلحاد فهم من جنس الرافضة لا عقل صريح ولا نقل صحيح بل منتهاهم السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات وهذا منتهى كل مبتدع خالف شيئًا من الكتاب والسنة حتى في المسائل العملية والقضايا الفقهية» أهـ.
__________
(1) المصدر السابق، ج2، ص 8.(2/103)
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في ”الرسالة التسعينية“ (1): «وقد رأيت أبا المعالي في ضمن كلامه يذكر ما ظاهره الاعتذار عن الصحابة وباطنه جهل بحالهم مستلزم إذا اطرد الزندقة والنفاق فإنه أخذ يعتذر عن كون الصحابة لم يمهدوا أصول الدين ولم يقرروا قواعده فقال لأنهم كانوا مشغولين بالجهاد والقتال عن ذلك هذا مما في كلامه وهذا إنما قالوه لأن هذه الأصول والقواعد التي يزعمون أنها أصول الدين قد علموا أن الصحابة لم يقولوها وهم يظنون أنها أصول صحيحة وأن الدين لا يتم إلا بها وللصحابة - رضي الله عنهم - أيضًا من العظمة في القلوب ما لم يمكنهم دفعه حتى يصيروا بمنزلة الرافضية القادحين في الصحابة لكن أخذوا من الرفض شعبة كما أخذوا من التجهم شعبة وذلك دون ما أخذته المعتزلة من الرفض والتجهم. إلى أن يقول: ولهذا كان المغاربة الذين اتبعوا بن التومرت المتبع لأبي المعالي أمثل وأقرب إلى الإسلام من المغاربة الذين اتبعوا القرامطة وغلوا في الرفض والتجهم حتى انسلخوا من الإسلام فظنوا أن هذه الأصول التي وضعوها هى أصول الدين الذي لا يتم الدين إلا بها. وجعلوا الصحابة حين تركوا أصول الدين كانوا مشغولين عنه بالجهاد وهم في ذلك بمنزلة كثير من جندهم ومقاتلتهم الذين قد وضعوا قواعد وسياسة للملك والقتال فيها الحق والباطل ولم يجدوا تلك السيرة تشبه سيرة الصحابة ولم يمكنهم القدح فيهم فأخذوا يقولون كانوا منشغلين بالعلم والعبادة عن هذه السيرة وأبهة الملك الذي وضعناه.
__________
(1) الفتاوى الكبرى، ج5، ص 306.(2/104)
وكل هذا قول من هو جاهل بسيرة الصحابة وعلمهم ودينهم وقتالهم هل انتشر عن أحد من المنتسبين إلى القبلة، وعن أحد من الأمم المتقدمين والمتأخرين من العلم والدين ما انتشر وظهر عنهم أم هل فتحت أمة البلاد وقهرت العباد كما فعلته الصحابة رضوان الله عليهم ولكن كانت علومهم وأعمالهم وأقوالهم وأفعالهم حقًا باطنًا وظاهرًا وكانوا أحق الناس بموافقة قولهم لقول الله وفعلهم لأمر الله فمن حاد عن سبيلهم لم يرَ ما فعلوه فيزين له سوء عمله حتى يراه حسنًا ويظن أنه حصل له من العلوم النافعة والأعمال الصالحة ما قصروا عنه وهذه حال أهل البدع ولهذا قال الإمام أحمد في رسالته التي رواها عبدوس بن مالك العطار أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد ثبت عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من غير وجه أنه قال: «خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» والأدلة الدالة على تفضيل القرن الأول ثم الثاني أكثر من أن تذكر ومعلوم أن أم الفضائل العلم والدين والجهاد فمن ادعي أنه حقق من العلم بأصول الدين أو الجهاد ما لم يحققوه كان من أجهل الناس وأضلهم وهو بمنزلة من يدعي من أهل الزهد والعبادة والنسك أنهم حققوا من العبادات والمعارف والمقامات والأحوال ما لم يحققه الصحابة وقد يبلغ الغلو بهذه الطوائف إلى أن يفضلوا نفوسهم وطرقهم على الأنبياء وطرقهم ونجدهم عند التحقيق من أجهل الناس وأضلهم وأفسقهم وأعجزهم». أهـ.
هذا غير من يقول بأن الفيلسوف خير من النبي أو يقول أن النبوة مكتسبة وأنه لن يموت حتى يقال له قم فأنذر ومن يقول مقام النبوة في برزخ فُوَيْقَ الرسول ودون الولي.
مروق الخوارج وخروجهم عن المصادر المعصومة:(2/105)
يقول شيخ الإسلام(1): «وأيضًا فإن في الصحيحين عن أبي سعيد عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في حديث الذي لمزه في قسمة الذهيبة التي أرسل بها على من اليمن وقال يا رسول الله اتق الله. أنه قال: «يخرج من ضئضئي هذا قوم يتلون كتاب الله رطبًا لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد» وفي الصحيحين عن علىٍّ - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «سيخرج قومٌ في آخر الزمان أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم يوم القيامة».
__________
(1) الصارم المسلول، ص 156.(2/106)
إلى أن قال: وفيما رواه الترمذي وغيره عن أبي أمامة أنه قال: «هم شر قتلي تحت أديم السماء خير قتلي من قتلوه» وذكر أنه سمع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك مرات متعددة وتلا فيهم قوله تعالى: { يومَ تبيَّضُ وجوهٌ وتسودُّ وجوهٌ فأمَّا الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم } وقال هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم وتلا فيهم قوله تعالى: { فأمَّا الذين في قلوبهم زيغٌ فيتبعون ما تشابه منه } وقال زاغوا فزيغ بهم ولا يجوز أن يكون أمر بقتلهم لمجرد قتالهم الناس كما يقاتل الصائل من قاطع الطريق ونحوه، وكما يقاتل البغاة لأن أولئك إنما يشرع قتالهم حتى تنكسر شوكتهم ويكفوا عن الفساد ويدخلوا في الطاعة ولا يقتلون أينما لقوا ولا يقتلون قتلي عاد وليسوا شر قتلي تحت أديم السماء ولا يؤمر بقتلهم وإنما يؤمر في آخر الأمر بقتالهم فعلم أن هؤلاء أوجب قتلَهم مروقُهم من الدين لما غلوا فيه حتى مرقوا منه كما دلَّ عليه قوله في حديث عليّ «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فأينما لقيتموهم فاقتلوهم» فرتب الأمر بالقتل على مروقهم، فعلم أنه الموجب له ولهذا وصف النبيّ - صلى الله عليه وسلم - الطائفة الخارجة وقال: «لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضى لهم على لسان محمد لنكلوا عن العمل وآية ذلك أن فيهم رجلاً له عضد ليس له ذراع على رأس عضده مثل حلمة الثدي عليه شعرات بيض، وقال إنهم يخرجون على حين فرقة من الناس يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق» وهذا كله في الصحيح فثبت أن قتلهم لخصوص صفتهم لا لعموم كونهم بغاة أو محاربين وهذا القدر موجود في الواحد منهم كوجوده في العدد منهم، وإنما لم يقتلهم عليٌّ - رضي الله عنه - أول ما ظهروا لأنه لم يبن لهم أنهم الطائفة المنعوتة حتى سفكوا دم ابن خباب، وأغاروا على سرح الناس، فظهر فيهم قوله «يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان» فعلم أنهم المارقون ولأنه لو قتلهم قبل المحاربة لربما غضبت لهم(2/107)
قبائلهم وتفرقوا على عليّ - رضي الله عنه - وقد كان حاجته إلى مداراة عسكره، واستئلافهم كحال النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في حاجته في أول الأمر إلى استئلاف المنافقين، وأيضًا فإن القوم لم يتعرضوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل كانوا يعظمونه ويعظمون أبا بكر وعمر، ولكن غلوا في الدين غلوًا جاوزوا به حده لنقص عقولهم فصاروا كما تأوله عليّ فيهم من قوله - عز وجل -: { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنونَ صنعًا } وأوجب ذلك لهم عقائد فاسدة ترتب عليها أفعال منكرة كفرهم بها كثير من الأمة وتوقف فيها آخرون، فلما رأى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الرجل الطاعن في القسمة الناسب له إلى عدم العدل بجهله وغلوه وظنه أن العدل هو ما يعتقده من التسوية بين جميع الناس دون النظر إلى ما في تخصيص بعض الناس وتفضيله من مصلحة التأليف وغيرها من المصالح، علم أن هذا أول أولئك فإنه إذا طعن عليه في وجهه على سنته فهو يكون بعد موته وعلى خلفائه أشد طعنًا. وقد حكى أرباب المقالات عن الخوارج أنهم يجوزون على الأنبياء الكبائر ولهذا لا يلتفتون إلى السنة المخالفة في رأيهم لظاهر القرآن وإن كانت متواترة فلا يرجمون الزاني ويقطعون يد السارق فيما قل وكثر زعمًا منهم على ما قيل أن لا حجة إلا القرآن وأن السنة الصادرة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليست حجة بناء على ذلك الأصل الفاسد، قال من حكي ذلك عنهم أنهم لا يطعنون في النقل لتواتر ذلك وإنما يثبتونه على هذا الأصل ولهذا قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في صفتهم «إنهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم» يتأولونه برأيهم من غير استدلال على معانيه بالسنة وهم لا يفهمونه بقلوبهم وإنما يتلونه بألسنتهم». أهـ.(2/108)
وأقول: وهذا هو معنى المروق، الإعراض عن بيان الرسول والصحابة والتابعين لمعاني القرآن الكريم، يقول الإمام الشاطبي: «والتحقيق أنهم أصناف مختلفة، فهذا رأي طائفة منهم وطائفة قد يكذبون النقلة، وطائفة لم يسمعوا ذلك ولم يطلبوا علمه، وطائفة يزعمون أن ما ليس له ذكر في القرآن بصريحه فليس حجة على الخلق إما لكونه منسوخًا أو مخصوصًا بالرسول أو غير ذلك، وكذلك ما ذكر من تجويزهم الكبائر فأظنه والله أعلم قول طائفة منهم.
إلى أن يقول: وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «شرُّ الخلق والخليقة»، وقوله «شر قتلي تحت أديم السماء» نص في أنهم من المنافقين لأن المنافقين أسوأ حالاً من الكفار كما ذكر أن قوله تعالى: { ومِنْهُم مَنْ يلمزك في الصدقات } نزلت فيهم، وكذلك في حديث أبي أمامة أن قوله تعالى: { أكفرتم بعد إيمانكم } نزلت فيهم هذا مما لا خلاف فيه إذا صرحوا بالطعن في الرسول والعيب له كفعل أولئك اللامّزين له». أهـ.
ويقول عنهم صاحب كتاب ”إيثار الحق على الخلق“: «أن الأحاديث قد وردت بمروقهم عن علىٍّ وسهل بن سعيد وأبي سعيد الخدري وابن عمر وأبي ذر ورافع بن عمرو الغفاري وجابر بن عبد الله وابن مسعود وأبي برزة الأسلمي وأبي أمامة مرفوعًا: «كانوا مسلمين فصاروا كفارًا» وإسناده حسن ورواها غير هؤلاء بما هو معروف في مجمع الزوائد وكتب الإسلام من المسانيد والتواريخ وغيرها». أهـ.
ويقول عنهم الإمام الشاطبي(1) بعد أن يذكر اتباعهم لظواهر القرآن على غير تدبر ولا نظر في مقاصده ومعاقده وقتلهم أهل الإسلام وتركهم أهل الأوثان. يقول: «فهذان وجهان ذكرا في الحديث من مخالفتهم لقواعد الشريعة الكلية اتباعًا للمتشابهات وقد ذكر الناس من آرائهم غير ذلك من جنسه كتكفيرهم لأكثر الصحابة ولغيرهم.
__________
(1) الموافقات، ج 4، ص 180.(2/109)
ومنه سرى قتلهم لأهل الإسلام وأن الفاعل للفعل إذا لم يعلم أنه حلال أو حرام فليس بمؤمن، وأن لا حرام إلا ما في قوله - عز وجل -: { قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ... } (1) الآية. وما سوى ذلك فحلال وأن الإمام إذا كفر كفرت رعيته كلهم شاهدهم وغائبهم، وأن التقية لا تجوز في قول ولا فعل على الإطلاق والعموم، وأن الزاني لا يرجم بإطلاق والقاذف للرجال لا يحد وإنما يحد قاذف النساء خاصة وأن الجاهل معذور في أحكام الفروع بإطلاق وأن الله سيبعث نبيًا من العجم بكتاب ينزله الله عليه جملة ويترك شريعة محمد، وأن المكلف قد يكون مطيعًا بفعل الطاعة غير قاصد بها وجه الله وإنكارهم سورة يوسف من القرآن وأشباه ذلك». أهـ.
وكل هذا راجع إلى أنهم لا يرون عصمة السنَّة ولا عصمة إجماع الصحابة ويثقون برأيهم أكثر من ثقتهم بهذه المصادر المعصومة، وهذا هو المروق وبهذا كان كفرهم وعدم عذرهم بتأويلاتهم الفاسدة ووجوب قتالهم كما سيأتي في حينه إن شاء الله.
وجوب الاتباع:
__________
(1) الأنعام، آية: 145.(2/110)
يقول الإمام الشاطبي في ”الموافقات“ (1): «المسألة التاسعة سنة الصحابة - رضي الله عنهم - سنة يعمل عليها ويرجع إليها ومن الدليل على ذلك أمور أحدها ثناء الله عليهم من غير مثنوية ومدحهم بالعدالة وما يرجع إليها كقوله تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } (2)، وقوله - عز وجل -: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } (3). ففي الأولى إثبات الأفضلية على سائر الأمم وذلك يقضي باستقامتهم في كل حال، وجريان أحوالهم على الموافقة دون المخالفة، وفي الثانية إثبات العدالة مطلقًا، وذلك يدل على ما دلت عليه الأولى. ولا يقال: إنَّ هذا عامٌ في الأمة، فلا يختص بالصحابة دون من بعدهم. لأنَّا نقول: أولاً: ليس كذلك، بناءً على أنهم المخاطبون على الخصوص، ولا يدخل معهم من بعدهم إلا بقياس وبدليل آخر، وثانيًا: على تسليم التعميم أنهم أول داخل في شمول الخطاب، فإنهم أول من تلقى ذلك من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهم المباشرون للوحي، وثالثًا: أنهم أولى بالدخول من غيرهم إذ الأوصاف التي وصفوا بها لم يتصف بها على الكمال إلا هم فمطابقة الوصف للاتصال شاهد على أنهم أحقُّ من غيرهم بالمدح. وأيضًا فإنَّ من بعد الصحابة من أهل السنة عدلوا الصحابة على الإطلاق والعموم فأخذوا عنهم رواية ودراية من غير استثناء ولا محاشاة، بخلاف غيرهم فلم يعتبروا منهم إلا من صحت إمامته وثبتت عدالته، وذلك مصدق لكونهم أحقّ بذلك المدح من غيرهم فيصح أن يطلق على الصحابة أنهم خير أمة بإطلاق، وأنهم وسط أي عدول بإطلاق، وإذا كان كذلك فقولهم معتبر، وعملهم مقتدى به، وهكذا سائر الآيات التي جاءت بمدحهم، كقوله تعالى: { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ
__________
(1) الموافقات، ج4، ص 74.
(2) آل عمران، آية: 110.
(3) البقرة، الآية: 143.(2/111)
دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا } (1) إلى قوله: { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ } (2) الآية، وأشباه ذلك.
والثاني: ما جاء في الحديث من الأمر باتباعهم، وأن سنتهم في طلب الاتباع كسنة النبيّ- صلى الله عليه وسلم -، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «فعليكم بِسُنَّتِي وسنَّة الخلفاءِ الراشدينَ المهديين. تمسَّكُوا بها وعُضُّوا عليها بالنَّواجِذِ»، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «تفترق أمَّتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النَّار إلاَّ واحدة، قالوا: ومَنْ هُمْ يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي».
__________
(1) الحشر، الآية: 8.
(2) الحشر، الآية: 9.(2/112)
الثالث: إنَّ جمهور العلماء قدموا الصحابة عند ترجيح الأقاويل، فقد جعل طائفة قول أبي بكر وعمر حجة ودليلاً، وبعضهم عدَّ قول الخلفاء الأربعة دليلاً، وبعضهم يعد قول الصحابة على الإطلاق حجة ودليلاً، ولكل قول من هذه الأقوال متعلق من السنة. إلى أن يقول: وأيضًا فقد وصفهم السلف الصالح ووصف متابعتهم بما لابد من ذكر بعضه. فعن سعيد بن جبير أنه قال: ”ما لم يعرفه البدريون فليس من الدين“ وعن الحسن وقد ذكر أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - قال: ”إنهم كانوا أبرَّ هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قومًا اختارهم اللهُ لصحبة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - فتشبَّهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فإنَّهم وربِّ الكعبةِ على الصراط المستقيم“، وعن إبراهيم قال: ”لم يدخر لكم شيء خبئ عن القوم لفضل عندكم“، وعن حذيفة أنه كان يقول: ”اتقوا اللهَ يا معشرَ القراء وخذوا طريق مَنْ قبلكم فلعمري لئن اتبعتموه لقد سبقتم سبقًا بعيدًا، ولئن تركتموه يمينًا وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيدًا“، وعن ابن مسعود: ”من كان منكم متأسيًا فليتأسَّ بأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّهم كانوا أبرَّ هذه الأمةِ قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، وأقومها هديًا، وأحسنها حالاً قومًا اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، فإنَّهم كانوا على الهدى المستقيم“. ومن ذلك قول عمر بن عبد العزيز قال: ”سنَّ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وولاةُ الأمرِ بعده سننًا الأخذُ بها تصديقٌ لكتابِ الله، واستكمالٌ لطاعةِ الله، وقوةٌ على دين الله، مَنْ عَمِلَ بها مهتدٌ، ومَنْ استنصَرَ بها منصورٌ، ومَنْ خالفها اتبعَ غيرَ سبيلِ المؤمنين، وولاَّه الله ما تولَّى وأصْلاهُ جهنَّم وساءَتْ مصيرًا“ وفي رواية بعد قوله ـ وقوةٌ على دين الله ـ ”ليس لأحدٍ تغييرها ولا تبديلها، ولا النظر في رأي خالفها. مَنْ اهتدى بها مهتد“.(2/113)
الحديث! وكان مالك يعجبه كلامه جدًا وعن حذيفة قال: ”اتبعوا آثارنا فإنْ أصبتم فقد سبقتم سبقًا بينًا، وإن أخطأتم فقد ضللتم ضلالاً بعيدًا“، وعن ابن مسعود ونحوه فقال: ”اتبعوا آثارنا ولا تبتدعوا فقد كفيتم“». أهـ.
أقول:
وقد مرَّ قبل ذلك من كتاب ”الاعتصام“ مثل هذه النقول وهى كثيرة في ”سنن الدارمي“ و”كتب السنن“ فتراجع في مظانها، ومن ذلك ما جاء في ”الاعتصام“ عن ابن عباس(1): «”عليكم بالاستفاضة والأثر وإياكم والبدع“».
وفي ”الاعتصام“(2) أيضًا عن ابن مسعود: «”عليكم بالعلم وإيَّاكم والتبدع والتنطع والتعمق وعليكم بالعتيق“». أهـ.
ويقول الشاطبي(3) : «كل دليل شرعي لا يخلو أن يكون معمولاً به في السلف المتقدمين دائمًا أو أكثريًا، أو لا يكون معمولاً به إلا قليلاً أو في وقت ما، أو لا يثبت به عمل فهذه ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يكون معمولاً به دائمًا أو أكثريًا، فلا إشكال في الاستدلال به ولا في العمل على وفقه، وهى السنة المتبعة والطريق المستقيم، كان الدليل مما يقتضي إيجابًا أو ندبًا أو غير ذلك من الأحكام، كفعل النبيّ - صلى الله عليه وسلم - مع قوله في الطهارات والصلوات على تنوعها من فرض أو نفل، والزكاة بشروطها، والضحايا والعقيقة والنكاح والطلاق والبيوع وسواها من الأحكام التي جاءت في الشريعة وبيَّنها - صلى الله عليه وسلم - بقوله أو فعله أو إقراره، ووقع فعله أو فعل صحابته معه أو بعده على وفق ذلك دائمًا أو أكثريًا. وبالجملة ساوى القول الفعل ولم يخالفه بوجه، فلا إشكال في صحة الاستدلال وصحة العمل من سائر الأمة بذلك على الإطلاق فمن خالف ذلك فلم يعمل به على حسب ما عمل به الأولون جرى فيه ما تقدم في كتاب الأحكام من اعتبار الكلية والجزئية فلا معنى للإعادة.
__________
(1) الاعتصام، ج1 ، ص 81.
(2) المصدرالسابق، ص 79.
(3) الموافقات، ج3، ص 56-78 .(2/114)
والثاني: أن لا يقع العمل به إلا قليلاً أو في وقت من الأوقات أو حال من الأحوال ووقع إيثار غيره والعمل به دائمًا أو أكثريًا فذلك الغير هو السنة المتبعة والطريق السابلة. وأمَّا ما لم يقع العمل عليه إلا قليلاً فيجب التثبت فيه وفي العمل على وفقه، والمثابرة على ما هو الأعم والأكثر، فإنَّ إدامة الأولين للعمل على مخالفة هذا الأقل إمَّا أن يكون لمعنى شرعي أو لغير معني شرعي، وباطل أن يكون لغير معنى شرعي فلابد أن يكون لمعنى شرعي تحرُّوا العمل به وإذا كان كذلك فقد صار العمل على وفق القليل كالمعارض للمعني الذي تحرُّوا العمل على وفقه وإنْ لم يكن معارضًا في الحقيقة فلابد من تحرى ما تحروا وموافقة ما داوموا عليه.
إلى أن يقول(1): بسبب ذلك ينبغي للعامل أن يتحرى العمل على وفق الأولين فلا يسامح نفسه في العمل بالقليل إلا قليلاً وعند الحاجة ومسّ الضرورة إنْ اقتضى معنى التخيير ولم يَخَف نسخ العمل أو عدم صحة في الدليل أو احتمالاً لا ينهض به الدليل أن يكون حجة وما أشبه ذلك.
__________
(1) الموافقات، ج3، ص 70.(2/115)
إلى أن يقول(1): والقسم الثالث: أن لا يثبت عن الأولين أنهم عملوا به على حال فهو أشدُّ مما قبله والأدلة المتقدمة جارية هنا بالأولى وما توهمه المتأخرون من أنه دليلٌ على ما زعموا ليس بدليل عليه البتة إذ لو كان دليلاً عليه لم يعزب عن فهم الصحابة والتابعين ثم يفهمه هؤلاء فعمل الأولين كيف كان مصادم لمقتضي هذا المفهوم ومعارض له ولو كان ترك العمل فما عمل به المتأخرون من هذا القسم مخالف لإجماع الأولين وكل مَنْ خالف الإجماع فهو مخطئ وأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - لا تجتمع على ضلالة فما كانوا عليه من فعل أو ترك فهو السنَّة والأمر المعتبر وهو الهدى وليس ثمَّ إلا صوابٌ أو خطأ فكل مَنْ خالف السلف الأولين فهو على خطأ وهذا كاف والحديث الضعيف الذي لا يعمل العلماء بمثله جار هذا المجرى ومن هنالك لم يسمع أهل السنَّة دعوى الرافضة أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نصَّ على عليّ أنَّه الخليفة بعده لأن عمل كافة الصحابة على خلافه دليل على بطلانه أو عدم اعتباره لأن الصحابة لا تجتمع على خطأ وكثيرًا ما تجد أهل البدع والضلالة يستدلون بالكتاب والسنة يحملونهما مذاهبهم ويغبرون بمشتبهاتهما في وجوه العامة ويظنون أنهم على شيء ولذلك أمثلة كثيرة كالاستدلالات الباطنية على سوء مذاهبهم بما هو شهير في النقل عنهم وسيأتي منهم أشياء في دليل الكتاب إنْ شاء الله واستدلال التناسخية على صحة ما زعموا بقوله تعالى: { فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ } (2) وكثيرٌ من فرق الاعتقادات تعلق بظواهر من الكتاب والسنَّة في تصحيح ما ذهبوا إليه مما لم يجر له ذكر ولا وقع ببال أحد من السلف الأولين وحاش لله من ذلك ومنه أيضًا استدلال من أجاز قراءة القرآن بالإدارة وذكر الله برفع الأصوات وبهيئة الاجتماع بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما اجتمع قومٌ يتلون كتابَ الله ويتدارسونه فيما
__________
(1) المصدر السابق، ص 71 .
(2) الانفطار، آية: 8.(2/116)
بينهم» الحديث. والحديث الآخر «وما اجتمع قومٌ يذكرونَ الله»... إلخ. وبسائر ما جاء في فضل مجالس الذكر وكذلك استدلال مَنْ استدلَّ على جواز دعاء المؤذنين بالليل يقول تعالى: { وَلاَ تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } (1) الآية، وقوله - عز وجل -: { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } (2) وبجهر قوَّام الليل بالقرآن واستدلالهم على الرقص في المساجد وغيرها بحديث لعب الحبشة في المسجد بالدرق والحراب وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «دونكم يا بني أرفدة» واستدلال كل مَنْ اخترع بدعة أو استحسنَ محدثة لم تكن في السلف الصالح بأن السلف اخترعوا أشياءَ لم تكن في زمان رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ككتب المصحف وتصنيف الكتب وتدوين الدواوين وتضمين الصنَّاع وسائر ما ذكر الأصوليون في أصل المصالح المرسلة فخلطوا وغلطوا واتبعوا ما تشابه من الشريعة ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويلها وهو كله خطأ على الدين واتباع لسبيل الملحدين فإنَّ هؤلاء الذين أدركوا هذه المدارك وعبروا على هذه المسالك إمَّا أن يكونوا قد أدركوا من فهم الشريعة ما لم يفهمه الأولون أو حادوا عن فهمها وهذا الأخير هو الصواب إذ المتقدمون من السلف الصالح هم كانوا على الصراط المستقيم ولم يفهموا من الأدلة المذكورة وما أشبهها إلا ما كانوا عليه وهذه المحدثات لم تكن فيهم ولا عملوا بها فدلَّ على أن تلك الأدلة لم تتضمن هذه المعاني المخترعة بحال وصار عملهم بخلاف ذلك دليلاً جماعيًا على أن هؤلاء في استدلالهم وعملهم مخطئون ومخالفون للسنة فيقال لمن استدل بأمثال ذلك هل وجد هذا المعني الذي استنبطت في عمل الأولين أو لم يوجد فإنْ زعم أنه لم يوجد ـ ولابد من ذلك ـ فيقال له أفكانوا غافلين عمَّا تنبهت له أو جاهلين به أم لا ولا يسعه أن يقول بهذا لأنه فتح لباب الفضيحة على نفسه وخرقٌ
__________
(1) الأنعام، آية: 52.
(2) الأعراف، آية: 55.(2/117)
للإجماع وإن قال إنهم كانوا عارفين بمآخذ هذه الأدلة كما كانوا عارفين بمآخذ غيرها قيل له فما الذي حال بينهم وبين العمل بمقتضاها على زعمك حتي خالفوها إلى غيرها؛ وماذاك إلا لأنهم اجتمعوا فيها على خطأ دونك أيها المتقول !! والبرهان الشرعي والعادي دالٌّ على عكس القضية فكل ما جاء مخالف لما عليه السلف الصالح. فهو الضلال بعينه فإنْ زعم أن ما انتحله من ذلك إنَّما هو من قبيل المسكوت عنه في الأولين وإذا كان مسكوتًا عنه ووجد له في الأدلة مساغ فلا مخالفة إنما المخالفة أن يعاند ما نقل عنهم بضده وهو البدعة المنكرة. قيل له بل هو مخالف لأن ما سكت عنه في الشريعة على وجهين أحدهما: أن تكون مظنّة العمل به موجودة في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يشرع له أمر زائد على ما مضي فيه فلا سبيل إلى مخالفته لأن تركهم لما عمل به هؤلاء مضاد له فمن استلحقه صار مخالفًا للسنة حسبما تبين في كتاب ”المقاصد“.(2/118)
والثاني: أن لا توجد(1) مظنة العمل به ثم توجد فيشرع له أمر زائد يلائم تصرفات الشرع في مثله وهى المصالح المرسلة وهى من أصول الشريعة المبني عليها إذ هى راجعة إلى أدلة الشرع حسبما تبين في علم الأصول فلا يصح إدخال ذلك تحت جنس البدع وأيضًا فالمصالح المرسلة عند القائل بها لا تدخل في التعبدات البتة وإنما هى راجعة إلى حفظ أصل الملة وحياطة أهلها في تصرفاتهم العادية ولذلك تجد مالكًا وهو المسترسل في القول بالمصالح المرسلة مشدِّدًا في العبادات أن لا تقع إلا على ما كانت عليه في الأولين فلذلك نهى عن أشياء وكره أشياء وإنْ كان إطلاق الأدلة لا ينفيها بناء منه على أنها تقيدت مطلقاتها بالعمل فلا مزيد عليه وقد تمهد أيضًا في الأصول أن المطلق إذا وقع العمل به على وجه لم يكن حجة في غيره، فالحاصل أن الأمر أو الإذن إذا وقع على أمر له دليل مطلق فرأيت الأولين قد عنوا به على وجه استمر عليه عملهم فلا حجة فيه على العمل على وجه آخر بل هو مفتقر إلى دليل يتبعه في إعمال ذلك الوجه وذلك كله مبين في باب الأوامر والنواهي من هذا الكتاب لكن على وجه آخر فإذًا ليس ما انتحل هذا المخالف العمل به من قبيل المسكوت عنه ولا من قبيل ما أصله المصالح المرسلة فلم يبق إذًا أن يكون إلا من قبيل المعارض لما مضى عليه عمل الأقدمين وكفى بذلك مذلة قدم وبالله التوفيق ـ ثم يقول اعلم أن المخالف لعمل الأولين فيما تقدم ليست على رتبة واحدة بل فيها ما هو خفيف ومنها ما هو شديد ـ والمخالف على ضربين:
__________
(1) كذلك في الجانب التفسيري في الكتاب والسنَّة غير الجانب التشريعي كالتفسير العلمي والبياني للقرآن وتفسير بواعث النشاط الإنساني وحركة التاريخ والاجتماع والعمران ونظرية الأخلاق ونظريات الاقتصاد وسنن الصراع ونظرة المسلم للكون واستدلالات القرآن بطرق البرهان العقلي اتساعًا للعطاء القرآني دون أن يخالف ذلك الأصول المقررة عن السلف لمذهب أهل السنة.(2/119)
أحدهما: أن يكون من أهل الاجتهاد فلا يخلو أن يبلغ في اجتهاده غاية الوسع أو لا. فإن كان كذلك فلا حرج عليه وهو مأجور على كل حال وإن لم يعط الاجتهاد حقه وقصَّر فيه فهو آثمٌ حسبما بيَّن أهل الأصول. والثاني أن لا يكون من أهل الاجتهاد وإنما أدخل نفسه فيه غلطًا أو مغالطة إذ لم يشهد له بالاستحقاق أهل الرتبة ولا رأوه أهلاً للدخول معهم فهذا مذموم وقلما تقع المخالفة لعمل المتقدمين إلا من أهل هذا القسم لأن المجتهدين وإن اختلفوا في الأمر العام في المسائل التي اختلفوا فيها لا يختلفون إلا فيما اختلف فيه الأولون أو في مسألة موارد للظنون لا ذكر لهم فيها فالأول يلزم منه اختلاف الأولين في العمل والثاني يلزم منه الجريان على ما ورد فيه عمل. أما القسم الثاني فإنَّ أهله لا يعرفون ما في موافقة العمل من أوجه الرجحان فإنْ موافقته شاهدٌ للدليل الذي استدل به ومصدق له على نحو ما يصدقه الإجماع فإنه نوع من الإجماع فعلى بخلاف ما إذا خالفه فإنَّ المخالفة موهنة له أو مكذبة وأيضًا فإنَّ العمل مخلص للأدلة في شوائب المحامل المقدرة الموهنة لأن المجتهد متي نظر في دليل على مسألة احتاج إلى البحث عن أمور كثيرة لا يستقيم إعمال الدليل دونها والنظر في أعمال المتقدمين قاطع لاحتمالاتها حتمًا ومعين لناسخها من منسوخها ومبين لمجملها إلى غير ذلك فهو عون في سلوك سبيل الاجتهاد عظيم ولذلك اعتمده مالك بن أنس ومن قال بقوله وقد تقدم منه أمثلة وأيضًا فإنَّ ظواهر الأدلة إذا اعتبرت من غير اعتماد على الأولين فهي مؤدية إلى التعارض والاختلاف وهو مشاهد معني ولأن تعارض الظواهر كثير مع القطع بأن الشريعة لا اختلاف فيها ولذلك لا تجد فرقة من الفرق الضالة ولا أحدًا من المختلفين في الأحكام ـ لا الفروعية ولا الأصولية ـ يعجز عن الاستدلال على مذهبه بظواهر من الأدلة وقد مرَّ من ذلك أمثلة بل قد شاهدنا ورأينا من الفسَّاق مَنْ يستدل على مسائل الفسق(2/120)
بأدلة ينسبها إلى الشريعة المنزهة. بل قد استدل بعض النصارى على صحة ما هم عليه الآن بالقرآن ثم تحيل فاستدل على أنهم مع ذلك كالمسلمين في التوحيد ولهذا كله يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون وما كانوا عليه في العمل به فهو أحرى بالصواب وأقوم في العلم والعمل فاعلم أن أخذ الأدلة، على الأحكام يقع في الوجود على وجهين، أحدهما: أن يؤخذ الدليل مأخذ الافتقار واقتباس ما تضمنه من الحكم ليعرض عليه النازلة المفروضة لتقع في الوجود على وفاق ما أعطي الدليل من الحكم إما قبل وقوعها فبأن توقع على وفقه وإما بعد وقوعها فليتلافي الأمر ويستدرك الخطأ الواقع فيها بحيث يغلب على الظنِّ أو يقطع بأن ذلك قصد الشارع وهذا الوجه هو شأن اقتباس السلف الصالح للأحكام من الأدلة والثاني أن يؤخذ مأخذ الاستظهار على صحة غرضه في النازلة العارضة أن يظهر بادئ الرأي موافقة ذلك الغرض للدليل من غير تحرٍ لقصد الشارع بل المقصود منه تنزيل الدليل على وفق غرضه وهذا الوجه هو شأن اقتباس الزائغين للأحكام من الأدلة ويظهر هذا المعنى من الآية الكريمة: { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } (1) فليس مقصودهم الاقتباس منها وإنما مرادهم الفتنة بها بهواهم إذ هو السابق المعتبر وأخذ الأدلة فيه بالتبع لتكون لهم حجة في زيغهم والراسخون في العلم ليس لهم هوى يقدمونه على أحكام الأدلة فلذلك يقولون: { آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا } (2)، ويقولون { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } (3) فيتبرءون إلى الله مما ارتكبه أولئك الزائغون فلذلك صار أهل الوجه الأول محكمين للدليل على أهوائهم وهو أصل الشريعة لأنها إنما جاءت لتخرج المكلف عن هواه حتي
__________
(1) آل عمران، آية: 7.
(2) آل عمران، آية: 7.
(3) آل عمران، آية: 8.(2/121)
يكون عبدًا لله وأهل الوجه الثاني محكمون أهواءهم على الأدلة حتي تكون الأدلة في أخذهم لها تبعًا». أهـ .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية بعد كلام(1): «ومن ذلك ما ذكره شيخ الحرمين أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي في كتابه الذي سماه ”الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول إلزامًا لذوي البدع والفضول“ وكان من أئمة الشافعية ذكر فيه من كلام الشافعي ومالك والثوري وأحمد ابن حنبل والبخاري صاحب الصحيح وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك والأوزاعي والليث بن سعد وإسحق بن راهويه في أصول السنّة ما يُعرف به اعتقادهم وذكر في تراجمهم ما فيه تنبيهٌ على مراتبهم ومكانتهم في الإسلام وذكر أنه اقتصر في النقل عنهم دون غيرهم لأنهم هم المقتدى بهم والمرجوع شرقًا وغربًا إلى مذاهبهم ولأنهم أجمع لشرائط القدوة والإمامة من غيرهم وأكثر لتحصيل أسبابها وأدواتها من جودة الحفظ والبصيرة والفطنة والمعرفة بالكتاب والسنَّة والإجماع والسند والرجال والأحوال ولغات العرب ومواضعها والتاريخ، والناسخ والمنسوخ والمنقول والمعقول والصحيح والمدخول في الصدق والصلابة. وظهور الأمانة والديانة ممن سواهم. قال: وإنْ قصَّر واحدٌ منهم في سبب منها جبر تقصيره قرب عصره من الصحابة والتابعين لهم بإحسان باينوا هؤلاء بهذا المعنى مَنْ سواهم فإنَّ غيرهم من الأئمة وإنْ كانوا في منصب الإمامة لكن أخلُّوا ببعض ما أشرت إليه مجملاً من شرائطها إذْ ليس هذا موضعًا لبيانها قال: ووجهٌ ثالثٌ لابدَّ مِنْ أن نبين فيه فنقول: إنَّ في النقل عن هؤلاء إلزامًا للحجة على كل من ينتحل مذهب إمام يخالفه في العقيدة فإنَّ أحدهما لا محالة يضلل صاحبه إذ يبدعه أو يكفره فانتحال مذهبه مع مخالفته في العقيدة مستنكر والله شرعًا وطبعًا، فمَنْ قال: أنا شافعي الشرع أشعري الاعتقاد، قلنا له: هذا من الأضداد لا بل من الارتداد إذ لم يكن الشافعي أشعري الاعتقاد،
__________
(1) مجموع الفتاوي، ج4، ص 175.(2/122)
ومَنْ قال: أنا حنبلي في الفروع معتزلي في الأصول. قلت: قد ضللتَ إذًا عن سواءِ السبيل فيما تزعمه إذْ لم يكن أحمد معتزلي الدين والاجتهاد. قال: وقد افتتن أيضًا خلقٌ من المالكية بمذاهب الأشعرية وهذه واللهِ سبَّةٌ وعارٌ وفلتة تعود بالوبال والنَكَال وسوءِ الدار على منتحل مذاهب هؤلاء الأئمة الأربعة الكبار فإنَّ مذهبهم ما رويناه من تكفيرهم الجهمية والمعتزلة والقدرية والواقفية وتكفيرهم اللفظية وبسط الكلام في مسألة اللفظ. إلى أن قال: فأمَّا غير ما ذكرناه من الأئمة فلم ينتحل أحدٌ مذهبهم فلذلك لم نتعرض للنقل عنهم. قال: فإنْ قيل فهلا اقتصرتم إذًا على النقل عمن شاع مذهبه وانتحل اختياره من أصحاب الحديث وهم الأئمة الشافعي ومالك والثوري وأحمد إذ لا نرى أحدًا ينتحل مذهب الأوزاعي والليث وسائرهم، قلنا لأنَّ مَنْ ذكرناه من الأئمة سوى هؤلاء أرباب المذاهب في الجملة إذ كانوا قدوة في عصرهم ثم اندرجت مذاهبهم الأخرى تحت مذاهب الأئمة المعتبرة وذلك أن ابن عيينة كان قدوة لكن لم يصنِّف في الذي كان يختاره من الأحكام وإنما صنَّف أصحابه وهم الشافعي وأحمد وإسحاق فاندرج مذهبه تحت مذهبهم وأمَّا الليث بن سعد فلم يقم أصحابه بمذهبه قال الشافعي لم يرزق الأصحاب إلا أن قوله يوافق قول مالك أو قول الثوري لا يخطئهما فاندرج مذهبه تحت مذهبهما وأمَّا الأوزاعي فلا نري له في أعمِّ المسائل قولاً إلاَّ ويوافق قول مالك أو قول الثوري أو قول الشافعي فاندرج اختياره أيضًا تحت اختيار هؤلاء وكذلك اختيار إسحاق يندرج تحت مذهب أحمد لتوافقهما قال فإنْ قيلَ فمن أين وقعت على هذا التفصيل والبيان في اندراج مذاهب هؤلاء تحت مذاهب الأئمة. قلت: من التعليقة للشيخ أبي حامد الإسفرائيني التي هي ديوان الشرائع وأم البدائع في بيان الأحكام ومذاهب العلماء الأعلام وأصول الحجج العظام في المختلف والمؤتلف. قال: وأمَّا اختيار أبي زرعة وأبي حاتم في الصلاة(2/123)
والأحكام مما قرأته وسمعته من مجموعيهما فهو موافق لقول أحمد ومندرج تحته وذلك مشهور وأمَّا البخاري فلم أرَ له اختيارًا ولكن سمعت محمد بن طاهر الحافظ يقول: استنبط البخاري في الاختيارات مسائل موافقة لمذهب أحمد وإسحق فلهذه المعاني نقلنا عن الجماعة الذين سميناهم دون غيرهم إذ هم أرباب المذاهب في الجملة ولهم أهلية الاقتداء بهم لحيازتهم شرائط الإمامة وليس من سواهم في درجتهم وإنْ كانوا أئمة كبراء قد ساروا بسيرهم ثم ذكر بعد ذلك ”الفصل الثاني عشر“ في ذكر خلاصة تحوي مناصيص الأئمة ـ بعد أن أفرد لكل منهم فصلاً ـ قال: لما تتبعت أصول ما صحَّ لي روايته فعثرتُ فيها بما قد ذكرت من عقائد الأئمة فرتبتها عند ذلك على ترتيب الفصول التي أثبتها وأفتتحت كل فصل بنيف من المحامد يكون لإمامتهم إحدى الشواهد داعية إلى اتباعهم ووجوب وفاقهم وتحريم خلافهم وشقاقهم فإن اتباع مَنْ ذكرناه من الأئمة في الأصول في زماننا بمنزلة اتباع الإجماع الذي يبلغنا عن الصحابة والتابعين إذ لا يسع مسلمًا خلافه ولا يعذر فيه فإنَّ الحقَّ لا يخرج عنهم لأنهم الأدلاء وأرباب مذاهب هذه الأمة والصدور والسادة والعلماء القادة أولو الدين والديانة والصدق والأمانة والعلم الوافر والاجتهاد الظاهر ولهذا المعنى اقتدوا بهم في الفروع فجعلوهم فيها وسائل بينهم وبين الله حتي صاروا أرباب المذاهب في المشارق والمغارب فليرضوا كذلك بهم في الأصول فيما بينهم وبين ربِّهم وبما نصُّوا عليه ودعوا إليه قال: فإنَّا نعلم قطعًا أنَّهم أعرف قطعًا بما صحَّ مِنْ معتقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من بعده لجودة معارفهم وحيازتهم شرائط الإمامة ولقرب عصرهم من الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه».(2/124)
ثم بعد أن يقول إنَّ مِنَ السنَّة سنةُ العقائد وهي من الإيمان إحدى القواعد يذكر مناصيص العلماء المذكورين بينهم فيقول(1): «ليعلم المستنُّ إنَّ سنَّةَ العقائدِ على ثلاثة أضْرُب: ضربٌ: يتعلق بأسماء الله وذاته وصفاته. وضربٌ: يتعلق برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبه ومعجزاته. وضربٌ: يتعلق بأهل الإسلام في أولاهم وأخراهم. أمَّا الضرب الأول فلنعتقد أنَّ لله أسماء وصفات قديمة غير مخلوقة جاء بها كتابه وأخبر بها الرسول أصحابه فيما رواه الثقات وصحَّحه النقَّاد الأثبات ودلَّ القرآنُ المبينُ والحديثُ الصحيحُ المتينُ على ثبوتها. قال رحمه الله تعالى: وهي أنَّ الله تعالى أولٌ لَمْ يَزَلْ وآخِرٌ لا يزال، أحدٌ قديمٌ وصمدٌ كريمٌ عليمٌ حليمٌ عليٌّ عظيمٌ رفيعٌ مجيدٌ وله بطشٌ شديدٌ وهو يبدئ ويعيد فعَّالٌ لِمَا يُريدُ قويٌّ قديرٌ منيعٌ نصيرٌ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } (2) إلى سائر أسمائه وصفاته من النفس والوجه والعين والقدم واليدين والعلم والنظر والسمع والبصر والإرادة والمشيئة والرضى والغضب والمحبة والضحك والعجب والاستحياء والغيرة والكراهية والسخط والقبض والبسط والقرب والدنو والفوقية والعلو والكلام والسلام والقول والنداء والتجلي واللقاء والنزول والصعود والاستواء وأنَّه تعالى في السماء وأنَّه على عرشه بائنٌ من خلقِهِ. قال مالكٌ: إنَّ الله في السَّماءِ وعِلْمه في كل مكان وقال عبد الله بن المبارك: نعرف ربَّنَا فوقَ سبعِ سمواته على العرش بائنًا من خلقه ولا نقول كما قالت الجهمية أنه ههنا وأشار إلى الأرض وقال سفيان الثوري: { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } قال: علمه».
__________
(1) مجموع الفتاوى، ص 180.
(2) الشوري، آية: 11.(2/125)
قال الشافعي(1): «إنَّه على عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف شاء. وقال أحمد: أنه مستو على العرش عالمٌ بكل مكان، وأنه ينزل كل ليلة إلى السماء الدُّنيا كيف شاء، وأنه يأتي يوم القيامة كيف شاء، وأنه يعلو على كرسيه، والإيمان بالعرش والكرسي وما ورد فيهما من الآيات والأخبار، وأنَّ الكلم الطيب يصعد إليه وتعرج الملائكة والروح إليه، وأنَّه خلق آدم بيديه وخلق القلم وجنَّة عدن وشجرة طوبى بيديه وكتب التوراة بيديه، وأنَّ كلتا يديه يمين. وقال ابن عمر: خلق الله بيديه أربعة أشياء آدم والعرش والقلم وجنة عدن، وقال لسائر الخلق كن فكان، وأنه يتكلم بالوحي كيف يشاء، قالت عائشة رضى الله عنها: لشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بوحى يتلى. وأنَّ القرآن كلام الله بجميع جهاته منزلٌ غير مخلوق، ولا حرف منه مخلوق منه بدأ وإليه يعود. قال عبد الله بن المبارك: مَنْ كفر بحرف من القرآن فقد كفر، ومَنْ قال لا أؤمن بهذه اللام فقد كفر، وأنَّ الكتب المنزلة على الرسل مائة وأربعة كتب كلام الله غير مخلوق. قال أحمد وما في اللوح المحفوظ وما في المصاحف وتلاوة الناس وكيفما يقرأ وكيفما يوصف فهو كلام الله غير مخلوق. قال البخاري: وأقول في المصحف قرآن وفي صدور الرجال قرآن. فمن قال غير هذا يستتاب فإنْ تابَ وإلاَّ فسبيله سبيل الكفر. قال وذكر الشافعي المعتقد بالدلائل فقال: لله أسماء وصفات جاء بها كتابه وأخبر بها نبيُّه أمتَه لا يسع أحدًا من خلق الله قامت عليه الحجة ردها. إلى أن قال: نحو إخبار الله سبحانه إيانا: أنَّه سميعٌ بصيرٌ وأنَّ له يدين لقوله - عز وجل - { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } (2) وأنَّه له يمينًا بقوله - عز وجل -: { وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِه } (3) وأنَّ له وجهًا لقوله: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } (4)
__________
(1) الفتاوي الكبري، ج5، ص 393-401.
(2) المائدة، آية: 64.
(3) الزمر، آية: 67.
(4) القصص، آية: 88.(2/126)
، وقوله - عز وجل -: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإكْرَامِ } (1) وأنَّ له قدمًا لقوله: «حتي يضعُ الربُّ فيها قدمه» يعني جهنم وأنه يضحك من عبده المؤمن لقوله - صلى الله عليه وسلم - للذي قتل في سبيل الله: «إنه لقى الله وهو يضحك إليه» وأنه يهبط كل ليلة إلى السماء الدنيا لخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك وأنه ليس بأعور لقول رسول الله إذ ذكر الدجال، فقال: «أنه أعور» وأنَّ المؤمنين يروْنَ ربَّهم يومَ القيامة بأبصارهم كما يرون القمر ليلة البدر وأنَّ له إصبع لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن».
__________
(1) الرحمن، آية: 27.(2/127)
قال: «وسوى ما نقله الشافعي أحاديث جاءت في الصحاح والمسانيد وتلقتها الأمة بالقبول والتصديق نحو ما في الصحيح من حديث الذات، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا شخص أغْيَر مِنَ الله»، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أتعجبونَ من غيرَةِ سعدٍ واللهِ لأنَا أغيرُ مِنْ سعدٍ واللهُ أغيرُ مِنِّي» وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ليسَ أحدٌ أحبَّ إليه المدحُ مِنَ الله ولذلك مدحَ نفسه وليس أحد أغيرَ مِنَ الله من أجل ذلك حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن»، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «يدُ الله ملأى»، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «بيده الأخرى الميزان يخفض ويرفع»، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الله يقبض يومَ القيامة الأرضين وتكون السموات بيمينه ثم يقول أنا الملك»، ونحوه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاث حثيات من حثيات الربِّ»، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لما خلق آدم مسح ظهره بيمينه»، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي رزين قلت: يا رسول الله فما يفعل ربُّنا بنا إذا لقيناه قال: «تعرضون عليه بادية له صفحاتكم لا يخفى عليه منكم خافية فيأخذ ربُّك بيده غرفة من الماء فينضح قبلكم فلعمر إلهك ما يخطئ وجه أحدكم منها قطرة» أخرجه أحمد في المسند.(2/128)
وحديث القبضة التي يخرج بها من النار قومًا لم يعملوا خيرًا قط قد عادوا حممًا فيلقيهم في نهر من أنهار الجنَّة يقال له نهرُ الحياةِ، ونحو الحديث «رأيتُ ربِّي في أحسن صورة»، ونحو قوله - صلى الله عليه وسلم -: «خلق آدم على صورته»، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «يدنو أحدكم من ربِّه حتي يضع كنفه عليه»، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «كلم أباك كفاحًا»، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما منكم مِنْ أحدٍ إلاَّ سيكلمه ربُّه ليس بينه وبينه ترجمانٌ يُتَرْجِمُ له»، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «يتجلى لنا ربُّنا يومَ القيامة ضاحكًا»، وفي حديث المعراج في الصحيح «ثم دنا الجبَّارُ ربُّ العِزَّةِ فتدلَّى حتي كانَ مِنْه قابَ قوسَيْنِ أو أدْنَى»، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «كتب كتابًا فهو عنده فوق العرش إنَّ رحمتي سبقت غضبي»، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزال جهنَّمُ يُلقَى فيها وتقولُ هلْ مِنْ مزِيدٍ حتي يضع ربُّ العزةِ فيها قدمه ـ وفي رواية ـ رجله فينزوي بعضها إلى بعض وتقول قد قد ـ وفي رواية قط قط ـ بعزتك»، ونحو قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فيأتيهم ـ يوم القيامةِ ـ الله في صورته التي يعرفون فيقول أنا ربُّكم فيقولون أنت ربُّنا»، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «يحشرُ الله العبَادَ فيناديهم بصوتٍ يسمعه مَنْ بَعُدَ كما يسمعه مَنْ قَرُبَ. أنا الملك أنا الديَّان». إلى غيره من الأحاديث هالتنا أو لم تهلنا بلغتنا أم لم تبلغنا اعتقادنا فيها وفي الآي الواردة في الصفات: أن نقبلها ولا نحرفها ولا نكيفها ولا نعطلها ولا نتأولها وعلي العقول لا نحملها وبصفات الخلق لا نشبهها ولا نعمل فكرنا ورأينا فيها ولا نزيد عليها ولا ننقص منها بل نؤمن بها ونكل علمها إلى عالمها كما فعل ذلك السلف الصالح وهم القدوة لنا في كل علم. روينا عن إسحق أنَّه قال: لا نزيل صفة مما وصف الله بها نفسه أو وصفه بها الرسول عن جهتها لا(2/129)
بكلام ولا بإرادة إنما يلزم المسلم الأداء ويوقن بقلبه أنَّ ما وصف الله به نفسه في القرآن إنما هي صفاته ولا يعقل نبيٌّ مرسل ولا ملك مقرَّبٌ تلك الصفات إلا بالأسماء التي عرَّفَهم الربُّ عزًّ وجل، فإمَّا أن يدرك أحد مِنْ بني آدم تلك الصفات فلا يدركه أحدٌ. الحديث... إلخ. وكما روينا عن مالك والأوزاعي وسفيان والليث وأحمد بن حنبل أنهم قالوا في الأحاديث في الرؤية والنزول: «أمِرُّوها كما جاءت» وكما روي عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة أنه قال في الأحاديث التي جاءت: «إنَّ الله يهبطُ إلى السماءِ الدُّنيا» ونحو هذا من الأحاديث أن هذه الأحاديث قد رواها الثقات فنحن نرويها ونؤمن بها ولا نفسرها». انتهى كلام الكرجي رحمه الله.
الأصول المعلومة بالاضطرار من المسائل الخبرية عند العامة والمعلومة بالضرورة عند الخاصة ومنها ينتقل علمها الضروري إلى الأمة هي أصول عقائد أهل السنة أما الفروع من المسائل الخبرية فقد يختلف فيها المتأخرون كما اختلف فيها المتقدمون وكذا الشأن في الأصول والفروع في المسائل العملية(1) إلا أن الخلاف في الفروع الخبرية أقل لاعتمادها على النقل واعتماد العملية على الاجتهاد.
__________
(1) أي أن الفروع شأنها غير شأن الأصول في كلا المسائل الخبرية والعملية بلا فرق.(2/130)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في حواره مع الأشاعرة(1): «”الوجه الخامس عشر“: أن يقال هذه القواعد التي جعلتموها أصول دينكم وظننتم أنَّكم بها صِرتُم مؤمنين بالله وبرسوله واليوم الآخر، وزعمتم أنَّكم تقدمتم بها على سلف الأمة وأئمتها وبها دفعتم أهل الإلحاد من المتفلسفة والمعتزلة ونحوهم هي عند التحقيق تهدم أصول دينكم وتسلط عليكم عدوكم وتوجب تكذيب نبيكم والطعن في خير قرون هذه الأمة وهذا أيضًا فيما فعلتموه في الشرعيات والعقليات، أما الشرعيات فإنَّكم لما تأولتم ما تأولتم من نصوص الصفات الإلهية تأولت المعتزلة ما قررتموه أنتم واحتجوا بمثل حجتكم ثم زادت الفلاسفة وتأولوا ما جاءت به النصوص الإلهية في الإيمان باليوم الآخر وقالت المتفلسفة مثل ما قلتم لإخوانكم المؤمنين ولم يكن لكم حجة على المتفلسفة فإنَّكم إذا احتججتم بالنصوص تأولوها ولهذا كان غايتكم في مناظرة هؤلاء أن تقولوا نحن نعلم بالاضطرار أن الرسول أخبر بمعاد الأبدان وأخبر بالفرائض الظاهرة كالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان ونحو ذلك لجميع البرية والأمور الضرورية لا يمكن القدح فيها فإنْ قال لكم المتفلسفة هذا غير معلوم بالضرورة كان جوابكم أن تقولوا هذا جهلٌ منكم أو تقولوا إنَّ العلوم الضرورية لا يمكن دفعها عن النفس ونحن نجد العلم بهذا أمرًا ضروريًا في أنفسنا وهذا كلامٌ صحيح منكم لكن في هذا تقول لكم المثبتة أهل العلم بالقرآن وتفسيره المنقول عن السلف والأئمة وبالأحاديث الثابتة عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين نحن نعلم بالاضطرار أنَّها أثبتت الصفات وأن الله فوق العالم والعلم بهذا ضروري عندهم كما ذكرتم أنتم في معاد الأبدان والشرائع الظاهرة، بل لعل العلم بهذا أعظم من العلم ببعض ما تنازعكم فيه المعتزلة والفلاسفة من أمور المعاد كالصراط والميزان والحوض والشفاعة ومسألة منكر ونكير
__________
(1) الفتاوي الكبري، الرسالة التسعينية، ج5، ص 310-313.(2/131)
وأيضًا فالعلم بعلو الله على عرشه ونحو ذلك يعلم بضرورية عقلية وأدلة عقلية يقينية لا يعلم بمثلها معاد الأبدان فالعلوم الضرورية والأدلة السمعية والعقلية على ما نفيتموه من علو الله على خلقه ومباينته لهم ونحو ذلك أكمل وأقوي من العلوم الضرورية والأدلة السمعية والعقلية على كثير مما خالفتم فيه المعتزلة بل والفلاسفة ولهذا يوجد عن كثير من السلف موافقة المعتزلة في بعض ما خالفتموهم فيه كما يوجد عن بعض السلف إنكار سماع الذي في القبر للأصوات وعن بعض السلف إنكار المعراج بالبدن وأمثال ذلك ولا يوجد عن واحد منهم موافقتكم على أنَّ الله ليس بداخل العالم ولا خارجه وأنه ليس فوق العالم بل ولا على ما نفيتموه من الجسم وملازمه وكذلك المعتزلة وإن كانوا ضالين في مسألة إنكار الرؤية فمعهم فيها من الظواهر التي تأولوها والمقاييس التي اعتمدوا عليها أعظم مما معكم في إنكار مباينة الله لمخلوقاته وعلوه على عرشه، ومن العجب أنَّكم تقولون أن محمدًا رأي ربَّه ليلةَ المعراج وهذه مسألة نزاع بين الصحابة أو تقولوا رآه بعينه ولم يقل ذلك أحد منهم ثم تقولون أن محمدًا لم يعرج به إلى الله، فإنَّ الله ليس هو فوق السموات فتنكرون ما اتفق عليه السلف وتقولون بما تنازعوا فيه ولم يقله أحدٌ منهم فالمعتزلة في جعلهم المعراج منامًا أقرب إلى السلف وأهل السنة منكم حيث قلتم رآه بعينه ليلة المعراج وقلتم مع هذا أنه ليس فوق السموات ربٌّ يُعرَجُ إليه فهذا النفيُ أنتم والمعتزلة فيه شركاءٌ وهم امتازوا بقولهم المعراج منامًا وهو قولٌ مأثور عن طائفة من السلف وأنتم امتزتم بقولكم رآه بعينه وهذا لم يثبت عن أحد من السلف وإنَّما نقل عنهم بأسانيد ضعيفة ثم أنَّكم أظهرتم للمسلمين مخالفة المعتزلة في مسألة الرؤية والقرآن ووافقتم أهلَ السنَّةِ على إظهار القول بأنَّ الله يُرَى في الآخرة وأنَّ القرآنَ كلامُ الله غيرُ مخلوق والقول بأنَّ الله لا يُرَى في(2/132)
الآخرة وأنَّ القرآن مخلوقٌ من البدع القديمة التي أظهرها الجهمية المعتزلة وغيرهم في عصر الأئمة حتي امتحنوا الإمام أحمد وغيره لذلك ووافقتم المعتزلة على نفيهم وتعطيلهم الذي ما كانوا يجترءون على إظهاره في زمن السلف والأئمة وهو قولهم أنَّ الله لا داخل العالم ولا خارجه وأنَّه ليس فوق السموات ربٌّ ولا على العرش إلهٌ فإنَّ هذه البدعة الشنعاء والمقالة التي هى شرٌّ من كثير من اليهود والنصارى لم يكن يظهرها أحدٌ من المعتزلة للعامة ولا يدعو عموم النَّاس إليها وإنَّما كان السلف يستدلون على أنهم يبطنون ذلك بما يظهرونه من مقالاتهم فموافقتكم للمعتزلة على ما أسروه من التعطيل والإلحاد هو أعظم مخالفة للشرع والعقل مما خالفتموه فيه في مسألة الرؤية والقرآن فإنَّ كلَّ عاقلٍ يعلم أنَّ دلالة القرآن على علو الله على عرشه أعظم من دلالته على أنَّ الله يُرى وليس في القرآن آية توهم المستمع أنَّ الله ليس داخل العالم ولا خارجه وفيه ما يوهم بعض النَّاس نفي الرؤية ولكن يعارضون آيات العلو الكثيرة الصريحة بما يتوهم أنه يدل على أنه بذاته في كل مكان وأنتم لا تقولون لا بهذا ولا بهذا فلم يكن معكم على هذا النفي آية تشعر بمذهبكم فضلاً عن أن تدل عليه نصًا أو ظاهرًا ولا حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا قول صحابيّ ولا تابعيّ ولا إمام وإنما غايتكم أن تتمسكوا بأثرٍ مكذوبٍ كما تذكرونه عن علىٍّ أنَّه قال الذي أيَّن الأين لا يقال له أين وهذا مِنَ الكَذِبِ على علىٍّ باتفاق أهلْ العلمِ لا إسناد له وكذلك حديث الملائكة الأربعة مع أنَّ ذلك لا حجة فيه لكم وكذلك القول بأنَّ القرآن مخلوقٌ فيه من الشبهة ما ليس في نفي علو الله على عباده، ولهذا كان في فطر جميع الأمم الإقرار بعلو الله على خلقه وأمَّا كونه يُرى أو لا يُري أو يتكلم أو لا يتكلم فهذا عندهم ليس في الظهور بمنزلة ذاك فوافقتم الجهمية المعتزلة وغيرهم على ما هو أبعد(2/133)
عن العقل والدين مما خالفتموه فيه ومعلومٌ اتفاق سلف الأمة وأئمتها على تضليل الجهمية من المعتزلة وغيرهم بل قد كفروهم وقالوا فيهم ما لم يقولوه في أحد من أهل الأهواء بل أخرجوهم عن الثنتين والسبعين فرقة وقالوا إنَّا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية فكنتم فيما وافقتم فيه الجهمية من المعتزلة وغيرهم وما خالفتموهم فيه كمَنْ آمن ببعض الكتاب وكفرَ ببعضٍ ولكنْ هو إلى الكفرِ أقربَ مِنْه للإيمان». انتهى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية.
لذلك كله يقول القاضي عياض: قال القاضي في ”الشفا“ شرح ملا على القاري: «يذهب عبيد الله بن الحسن العنبري إلى تصويب أقوال المجتهدين في أصول الدين فيما كان معرفته التأويل وفارق بذلك فرق الأمة أو أجمعوا سواه على أن الحق في أصول الدين واحد والمخطئ فيها آثمٌ عاصٍ فاسقٌ وأن الخلاف في تكفيره وقد حكي القاضي أبو بكر الباقلاني مثل قول عبيد الله عن داود الأصبهاني. قال وحكي قومٌ عنهما أنهما قالا ذلك في كل من علم الله سبحانه من حاله استفراغ الوسع في طلب الحق من أهل ملتنا أو من غيرهم وقال نحو هذا القول الجاحظ في أن كثيرًا من العامة والنساء والبله ومقلدة النصارى واليهود وغيرهم لا حجة لله عليهم إذ لم تكن لهم طباع يمكن معها الاستدلال وقد نحي الفارابي قريبًا من هذا المنحي في كتاب ”التعرف“ وقائل هذا كله كافر بإجماع على كفر من لم يكفر أحدًا من النصارى واليهود وكل من فارق دين المسلمين أو وقف في تكفيرهم أو شك قال القاضي أبو بكر لأن التوقيف والإجماع اتفقا على كفرهم فمن وقف في ذلك فقد كذَّب النص والتوقيف أو شك فيه والتكذيب والشك فيه لا يقع إلا من كافر». انتهي كلام القاضي والكلام من الوضوح بحيث لايحتاج إلى تعليق.(2/134)
الأمر لا يقتصر على رفع العذر أو عدم إثبات الاجتهاد أو الأجر بل يتعداه إلى الفسق والكفر وقد سبق نقل كلام المجد عن مذهب الإمام أحمد ونعيده هنا من ”الانتصار لحزب الله الموحدين“ قال المجد رحمه الله: «كل بدعة كفرنا فيها الداعية فإنَّا نفسق المقلد فيها كمن يقول بخلق القرآن أو أن علم الله مخلوق أو أن أسماءه مخلوقه أو أنه لا يرى في الآخرة أو يسبِّ الصحابة تدينًا أو أن الإيمان مجرد الاعتقاد وما أشبه ذلك فمن كان عالمًا في شيء من هذه البدع يدعو إليه ويناظر عليه فهو محكوم بكفره نصَّ أحمد على ذلك في مواضع». أهـ.
يقول صاحب ”الانتصار لحزب الله الموحدين“: «فانظروا كيف حكموا بكفرهم مع جهلهم». انتهى كلام صاحب الانتصار.
ولا يقتصر الأمر على التكفير أو التفسيق بل يجب في حقهم القتل والقتال وقد رتب الشارع القتل على المروق كما في أحاديث الخوارج وهي ليست خاصة بهم بل هي عامة في كل المارقين والمروق كما سبق أن بينَّا يكون بالإعراض عن المصادر المعصومة والخروج عليها ويكون القتال في الحالات التالية:
إذا أدى المروق إلى الكفر، تصريحًا أو مآلاً.
أو الإخلال بأصل أو أصول كلية من الدين مع المباينة دون إشهار السيف وذلك لما في ذلك من تفريق الأمة وإفساد الدين.
أو إذا كان الإخلال في أصل أو أصول كلية من الدين مع إشهار السيف مع وضوح المباينة أو عدم وضوحها.
أو إذا كان ذلك مع رفض الالتزام بالشرع والخروج عن الطاعة أو لدفع الصيال على الدين من الدعاة والزنادقة الذين يتعرضون لإفساده.(2/135)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في ”الرسالة التسعينية“(1): «قال الحافظ أبو القاسم اللالكائي في كتابه المشهور في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لما ذكر عقوبات الأئمة لأهل البدع قال: واستتاب أمير المؤمنين القادر بالله حرس الله مهجته وأمدَّ بالتوفيق أموره ووفقه من القول والعمل لما يرضي مليكه فقهاء المعتزلة الحنفية في سنة ثمان وأربعمائة فأظهروا الرجوع وتبرءوا من الاعتزال ثم نهاهم عن الكلام والتدريس والمناظرة في الاعتزال والرفض والمقالات المخالفة للإسلام لوالسنة وأخذ خطوطهم بذلك وأنهم مهما خالفوه حلَّ بهم من النكال والعقوبة ما يتعظ به وامتثل أمين الدولة وأمين الملة أبو القاسم محمود يعني بن سبكتكين أعزَّ الله نصرَه أمر أمير المؤمنين القادر بالله واستن بسنته في أعماله التي استخلفه عليها من خراسان وغيرها في قتل المعتزلة والرافضة والإسماعيلية والقرامطة والجهمية والمشبهة وصلبهم وحبسهم ونفاهم والأمر باللعن عليهم على منابر المسلمين وإبعاد كل طائفة من أهل البدع وطردهم عن ديارهم وصار ذلك في الإسلام إلى أن يرث الله الأرضَ ومَنْ عليها وهو خيرُ الوارثين». أهـ.
ويقول صاحب ”الأطلس“ (2) عن السلطان محمود بن سبكتكين الغزنوى: «في كل ناحية كان محمود يفتحها كان يزيل كل المذاهب الخارجة عن أهل السنة والجماعة ومن هنا فقد قضي على كل أثر للتشيع أو الاعتزال وغيره في كل البلاد التي دخلها وكذلك أزال مذاهب الرافضة والإسماعيلية والقرامطة والجهمية ومن إليهم». أهـ.
ولموضوع القتل والقتال والدماء وعلاقة كل ذلك بالتأويل لنا عودة كمعالجة متكاملة للموضوع.
الباب السادس
الخطأ وأنواعه
خطأ التأويل لا يغفر الكفر والفرق بين خطأ الفعل وخطأ الاعتقاد:
__________
(1) الفتاوي الكبري، ج5، ص 332.
(2) د. حسين مؤنس، أطلس التاريخ الإسلامي.(2/136)
يقول ابن جرير في التفسير قوله - عز وجل -: { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } (1): «وهذا تعليم من الله عزَّ وجلَّ عباده المؤمنين دعاءه كيف يدعونه وما يقولونه في دعائهم إياه ومعناه قولوا: { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } إن نسينا شيئًا مما افترضته علينا أو أخطأنا فأصبنا شيئًا مما حرَّمْتَهُ علينا. حدثنا الحسن ابن يحيي قال: أخبرنا عبد الرازق قال: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله - عز وجل -: { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } قال: بلغني أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال:« إنَّ الله تجاوز لهذه الأمة عن نسيانها وما حدثت به أنفسها». حدثني موسى قال: حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط قال: زعم السدي أن هذه الآية حين نزلت { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } قال: قال له جبريل - صلى الله عليه وسلم -: افعل ذلك يا محمد، ثم يقول الطبري: فإن قال لنا قائل وهل يجوز أن يؤاخذ الله عباده بما نسوا أو أخطأوا فيسألوه أن لا يؤاخذهم بذلك؟ قيل إن النسيان على وجهين:
__________
(1) البقرة، آية: 286.(2/137)
أحدهما على وجهة التضييع من العبد والتفريط والآخر على وجه عجز الناسي عن حفظ ما استحفظ ووكل به وضعف عقله عن احتماله فأما الذي يكون من العبد على وجه التضييع منه والتفريط فهو ترك منه لما أمر بفعله فذلك الذي يرغب العبد إلى الله عزَّ وجلّ في تركه مؤاخذته به وهو النسيان الذي عاقب الله عزَّ وجلّ به آدم - صلى الله عليه وسلم - فأخرجه من الجنة فقال في ذلك { وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا } (1) وهو النسيان الذي قال جلَّ ثناؤه { فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا } (2) فرغبة العبد إلى الله - عز وجل - بقوله { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } (3) فيما كان من نسيان منه لما أمر بفعله على هذا الوجه الذي وصفنا ما لم يكن تركه ما ترك من ذلك تفريطًا منه فيه وتضييعًا كفرًا بالله عزَّ وجلَّ فإن ذلك إذا كان كفرًا بالله فإن الرغبة إلى الله في تركه المؤاخذة به غير جائزة لأن الله عزَّ وجلَّ قد أخبر عباده أنه لا يغفر لهم الشرك به فمسألته فعل ما قد أعلمهم أن لا يفعله خطأ وإنما يكون مسألته المغفرة فيما كان من مثل نسيانه القرآن بعد حفظه بتشاغله عنه وعن قراءته ومثل نسيانه صلاة أو صيامًا باشتغاله عنهما بغيرهما حتى ضيعهما وأما الذي العبد به غير مؤاخذ لعجز يمنعه عن حفظه وقلة احتمال عقله ما وكل بمراعاته فإن ذلك من العبد غير معصية وهو به غير آثم فذلك الذي لا وجه لمسألة العبد ربَّه أن يغفره له لأنه مسألة منه له أن يغفر له ما ليس له بذنب. وذلك مثل الأمر يغلب عليه وهو حريص على تذكره وحفظه كالرجل يحرص على حفظ القرآن بجد منه فيقرأه ثم ينساه بغير تشاغل منه بغيره عنه ولكن بعجز عن حفظه وقلة احتمال عقله ذكر ما أودع قلبه منه وما أشبه ذلك من النسيان فإن ذلك
__________
(1) طه، آية: 115.
(2) الأعراف، آية: 51.
(3) البقرة، آية: 286.(2/138)
مما لا يجوز مسئلة الربِّ مغفرته لأنه لا ذنب للعبد فيه فيغفر له باكتسابه وكذلك للخطأ وجهان: أحدهما: من وجه ما نُهى عنه العبد فيأتيه بقصد منه وإرادة فذلك خطأ منه وهو به مأخوذ يقال فيه خطئ فلان وأخطأ فيما أتى من الفعل وأُثِّم إذا أتى ما يأثم فيه وركبه ومنه قول الشاعر:
الناس يلحون الأمير إذا هموا خطؤا الصواب ولا يلام المرشد
يعني أخطأوا الصواب وهذا الوجه الذي يرغب العبد إلى ربِّه في صفح ما كان منه من إثم عنه إلا ماكان من ذلك كفرًا والآخر منهما ما كان منه على وجه الجهل به والظن منه بأن له فعله كالذي يأكل في شهر رمضان ليلاً وهو يحسب أن الفجر لم يطلع أو يؤخر صلاة في يوم غيم وهو ينتظر بتأخيره إياها دخول وقتها فيخرج وقتها وهو يرى أن وقتها لم يدخل فإن ذلك من الخطأ الموضوع عن العبد الذي وضع الله عزَّ وجلَّ عن عباده الإثم فيه فلا وجه لمسألة العبد ربَّه أن لا يؤاخذه به». أهـ.(2/139)
يقول ابن كثير والطبري وغيرهم في تفسير قوله تعالى: { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } (1) قال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم حدثني أبو عبد الرحمن يعني العلاء عن أبيه عن أبي هريرة قال: لما نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (2) اشتد ذلك على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم جثوا على الركب وقالوا: يا رسول اللهِ كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين قبلكم سمعنا وعصينا: بل قولوا { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } فلما أقر بها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } (3) فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل الله: { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } (4) الآية. يقول ابن كثير(5): ورواه مسلم منفردًا به من حديث يزيد بن زريع عن روح بن القاسم عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة فذكر مثله ولفظه ولما فعلوا ذلك نسخها
__________
(1) البقرة، آية: 284.
(2) البقرة، آية: 284.
(3) البقرة، آية: 285.
(4) البقرة، آية: 286.
(5) ابن كثير، ج1، ص 338.(2/140)
الله فأنزل الله { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } قال نعم { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } قال نعم { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } قال نعم. { وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } قال: نعم وفي حديث ابن عباس قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن آدم ابن سليمان سمعت سعيد بن جبير عن ابن عباس لما نزلت هذه الآية { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } قال دخل قلوبهم منه شيءٌ لم يدخل قلوبهم من شيء قبله؟ قال فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا» فألقى الله الإيمان في قلوبهم فأنزل الله: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } إلى قوله { فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } وهكذا رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي كريب وإسحق ابن إبراهيم ثلاثتهم عن وكيع به وزاد { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } قال قد فعلت { ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا } قال قد فعلت { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } قال قد فعلت. { واعف عنَّا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين } قال قد فعلت». أهـ.
ونخرج من هذا أن الخطأ على أربعة أنحاء:(2/141)
خطأ المعصية: ويغفره الله بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية والمصائب المكفرة والشفاعة وهبة الثواب والدعاء من الغير واجتناب الكبائر وعذاب القبر وأهوال يوم القيامة ورجحان الحسنات على السيئات وبفضل من الله.
خطأ الفعل: وهو أن تتعري الأفعال والأقوال عن المقاصد فتصير كأفعال العجماوات والجمادات ليس لها تكييف شرعي وهذا مما لا حساب عليه إلا بما كان دية وكفارة في قتل الخطأ.
الخطأ الذي يأتي فلتة عن عجلة وشهوة أو شبهة طارئة سرعان ما تزول ومنه سبب نزول الآية «دخل في قلوبهم منها شيء» أو قالوا وهذه لا نطيقها ولذلك قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أتقولون كما قال أهل الكتابين قبلكم سمعنا وعصينا بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير» وهذا الخطأ قد غفره الله لهذه الأمة.
ومن ذلك أمثلة نسوقها:
في السيرة في غزوة بدر قال بن إسحاق(1): « حدثني عبد الله بن أبي بكر أن يحيي بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة قال قُدِمَ بالأساري حين قدم بهم وسودة بنت زمعة زوج النبيّ - صلى الله عليه وسلم - مع آل عفراء في مناحتهم على عوف ومعوذ ابني عفراء قال وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب قال تقول سودة والله إني لعندهم إذ أتينا فقيل هؤلاء الأساري قد أتى بهم قالت فرجعت إلى بيتي ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه وإذا أبو يزيد سهيل بن عمرو في ناحية الحجرة مجموعة يداه إلى عنقه بحبل قالت فلا والله ما ملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد كذلك أن قلت أي أبا يزيد أعطيتم بأيديكم ألاَّ مِتُّم كرامًا فواللهِ ما أنبهني إلا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من البيت:« يا سودة أعَلى الله وعلى رسوله تحرضين. وقالت: قلت يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما ملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد مجموعة يداه إلى عنقه أن قلت ما قلت». أهـ.
__________
(1) سيرة ابن هشام، ج2، ص 476.(2/142)
وفي ”الصارم المسلول“ (1) لشيخ الإسلام ابن تيمية من ذلك: «لما استعذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عبد الله بن أبيّ بن سلول في حديث الإفك فقام سعد ابن معاذ الأنصاري فقال أنا أعذرك فيه يا رسول الله إن كان من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلاً صالحًا ولكن احتملته الحمية ـ فقال لسعد بن معاذ لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله فقام أسيد بن حضير وهو بن عم سعد بن معاذ ـ فقال لسعد بن عبادة كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنَّك منافق تجادل عن المنافقين قالت فثار الحيان الأوس والخزرج حتى همُّوا أن يقتتلوا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخفضهم حتى سكتوا أو سكت».
__________
(1) الصارم المسلول، ص 48.(2/143)
ومن ذلك أيضًا ما يقوله شيخ الإسلام عن استحقاق ذي الخويصرة القتل بقوله يا محمد ما عدلت في القسمة أو أنك تقسم وما نرى عدلاً أو هذه قسمة ما أريد بها وجه الله. ثم يقول(1): فإن قيل فما الفرق بين قول هؤلاء اللامزين في كونه نفاقًا موجبًا للكفر وحل الدم حتى صار جنس هذا القائل شر الخلق وبين ما ذكر من موجدة قريش والأنصار. إلى أن يقول(2): قيل إن أحدًا من المؤمنين من قريش والأنصار وغيرهم لم يكن في شيء من كلامه تجوير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تجويز ذلك عليه ولا اتهام له أنه حابي في القسمة لهوي النفس وطلب الملك ولا نسبة له إلى أنه لم يرد بالقسمة وجه الله تعالى ونحو ذلك مما جاء مثله في كلام المنافقين. وذوو الرأي من القبيلتين وهم الجمهور لم يتكلموا بشيء أصلاً بل قد رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله كما قالت فقهاء الأنصار ”أما ذوو رأينا فلم يقولوا شيئًا“ وأما الذين تكلموا من أحداث الأسنان ونحوهم فرأوا أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إنما يقسم المال لمصالح الإسلام ولا يضعه في محل إلا لأن وضعه فيه أولي من وضعه في غيره هذا مما لا يشكون فيه وكان العلم بجهة المصلحة قد تنال بالوحي وقد تنال بالاجتهاد ولم يكونوا علموا أن ذلك مما فعله النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وقال أنه بوحي من الله فإن من كره ذلك أو اعترض عليه بعد أن يقول ذلك فهو كافر مكذب وجوزوا أن يكون قسمه اجتهادًا وكانوا يراجعونه في الاجتهاد في الأمور الدنيوية المتعلقة بمصالح الدين وهو باب يجوز له العمل فيه باجتهاده باتفاق الأمة وربما سألوه عن الأمر لا لمراجعته فيه ولكن ليتثبتوا وجهه ويتفقهوا في سنته ويعلموا علته وكانت المراجعة المشهورة منهم لا تعدو هذين الوجهين: إما لتكميل نظره - صلى الله عليه وسلم - في ذلك إن كان من الأمور السياسية
__________
(1) الصارم المسلول، ص 163.
(2) المصدر السابق، ص 164.(2/144)
التي للاجتهاد فيها مساغ أو ليتبين لهم وجه ذلك إذا ذكر ويزدادوا علمًا وإيمانًا وينفتح لهم طريق التفقه فيه.
فالأول مثل مراجعة الخباب بن المنذر له لما نزل ببدر منزلاً... ومراجعة سعد بن معاذ له - صلى الله عليه وسلم - لما عزم على أن يصالح غطفان عام الخندق على نصف تمر المدينة والثاني مثل مراجعة سعد بن أبي وقاص له - صلى الله عليه وسلم - لما قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إنِّي لأعطي الرجل وغيره أحبّ إليّ منه خشية أن يكبَّ في النار على وجهه»(1) متفق عليه.
__________
(1) بتصرف يسير.(2/145)
إلى أن يقول شيخ الإسلام(1): وقد ذكر بعض أهل المغازي في حديث الأنصار: وددنا أن نعلم من أين هذا إن كان من قبل الله صبرنا وإن كان رأي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعتبناه فبهذا تبين أن من وجد منهم جوَّز أن يكون القسم وقع باجتهاد في المصلحة فأحب أن يعلم الوجه الذي أعطي به غيره ومنع هو مع فضله على غيره في الإيمان والجهاد وغير ذلك وهذا في بادئ الرأي هو الموجب للعطاء وأن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يعطيه كما أعطي غيره وهذا معني قولهم ”استعتبناه“ أي طلبنا منه أن يعتبنا أي يزيل عتبنا إما ببيان الوجه الذي أعطي غيرنا أو بإعطائنا وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ما أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث الرسل مبشرين ومنذرين فأحب النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أن يعذروه فيما فعل فبين لهم ذلك فلما تبين لهم الأمر بكوا حتى أخضلوا لحاهم ورضوا حق الرضا والكلام المحكي عنهم يدل على أنهم رأوا القسمة وقعت اجتهادًا وأنهم أحق بالمال من غيرهم فتعجبوا من إعطاء غيرهم وأرادوا أن يعلموا هل هو وحي أو اجتهاد يتعين اتباعه لأنه المصلحة أو اجتهاد يمكن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ بغيره إذا رأى أنه أصلح وإن كان هذا القسم إنما يمكن فيما لم يستقر أمره ويقره عليه ربُّه. إلى أن يقول: وأما قول بعض قريش والأنصار في الذهيبة التي بعث بها علىٍّ من اليمن أيعطي صناديد أهل نجد ويدعنا؟ فمن هذا الباب أيضًا إنما سألوه على هذا الوجه وها هنا جوابان آخران، الأول: أن بعض أولئك القائلين قد كان منافقًا يجوز قتله مثل الذي سمعه ابن مسعود يقول في غنائم حنين أن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله كان في ضمن قريش والأنصار منافقون كثيرون. الجواب الثاني: أن الاعتراض قد يكون ذنبًا ومعصية يخاف على صاحبه النفاق وإن لم يكن نفاقًا مثل قوله تعالى: { يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ }
__________
(1) الصارم المسلول، ص 167.(2/146)
(1) ومثل مراجعتهم له في فسخ الحج إلى العمرة وإبطائهم عن الحل وكذلك كراهتهم للحل عام الحديبية وكراهيتهم للصلح ومراجعة من راجع منهم فإن من فعل ذلك فقد أذنب ذنبًا كان عليه أن يستغفر الله منه كما أن الذين رفعوا أصواتهم فوق صوته أذنبوا ذنبًا تابوا منه وقد قال: { وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الأمْرِ لَعَنِتُّمْ } (2) قال سهل بن حنيف اتهموا الرأي على الدين فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفعلت فهذه أمور صدرت عن شهوة وعجلة لا عن شك في الدين كما صدر عن حاطب التجسس لقريش مع أنها ذنوب ومعاصي يجب على صاحبها أن يتوب وهي بمنزلة عصيان أمر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ومما يدخل في هذا حديث أبي هريرة في فتح مكة قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن» فقالت الأنصار أما الرجل فقد أدركته رغبة في قرابته ورأفة بعشيرته. قال أبو هريرة: وجاء الوحي وكان إذا جاءه لا يخفي علينا فإذا جاء فليس أحدٌ منا يرفع طرفه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ينقضي الوحي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا معشر الأنصار قالوا: لبيك يا رسول الله قال: قلتم أما الرجل فقد أدركته رغبة في قرابته ورأفة بعشيرته قالوا قد كان ذلك قال: كلا إني عبد الله ورسوله هاجرت إلى الله وإليكم المحيا محياكم والممات مماتكم فأقبلوا إليه يبكون ويقولون والله ما قولنا إلا لضن بالله ورسوله قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم». رواه مسلم.
__________
(1) الأنفال، آية: 6.
(2) الحجرات، آية: 7.(2/147)
يقول شيخ الإسلام(1): «إنما حملهم على ذلك الضن بالله ورسوله وعذرهم فيما قالوا لما رأوا وسمعوا لأن مفارقة الرسول شديدة على مثل أولئك المؤمنين الذين هم شعار وغيرهم دثار والكلمة التي تخرج عن محبة وتعظيم وتشريف وتكريم تغفر لصاحبها بل يحمد عليها وإن كان مثلها لو صدر بدون ذلك استحق صاحبها النكال». أهـ.
خطأ الاعتقاد: منه ما لا يغفر ويكون صاحبه كافرًا أو فاسقًا ومنه ما يغفر ومن الخطأ الذي لا يغفر:
تأويلات الباطنية والقرامطة التي هي تكذيب لصريح القرآن.
تأويلات التحريف من المتكلمين وغيرهم إعراضًا عن المصادر المعصومة ومعارضةً لها.
تأويلات المبتدعة بحملهم النصوص على أهوائهم.
من تكلم بغير علم وبغير عدل.
هـ- من أداه خطؤه إلى الكفر بأي وجه كان.
وأما الخطأ الذي يغفر فهو ممن:
اجتهد وهو أهل للاجتهاد فيما يسوغ فيه الاجتهاد وتدعو إليه الضرورة وأعطي الاجتهاد حقه ولم يقصر فيه وبلغ فيه غاية الوسع ولم يعرض عن المصادر المعصومة وتكلم بعلم وعدل ولم يؤدِ به خطؤه إلى الكفر.
وما يقع فيه الخطأ من هؤلاء فمجاله:
الاجتهاديات: وذلك لقول الله - عز وجل -: { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ - فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } (2)، وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر»، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» صحيح في معناه وإن تكلموا في سنده كما قال الإمام الشاطبي في الموافقات والاجتهادات يدور الأمر فيها على:
الراجح ولصاحبه أجران.
المرجوح ولصاحبه أجر واحد.
زلة العالم وهي خطأ مغفور ولا يتابع عليه صاحبه ولا يعتمد عليه ولا يبني عليه.
__________
(1) الصارم المسلول، ص171.
(2) الأنبياء، آية: 78.(2/148)
يقول الإمام الشاطبي(1): «زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة ولا الأخذ بها تقليدًا له وذلك لأنها موضوعة على المخالفة للشرع ولذلك عدت زلة وإلا فلو كانت معتدًا بها لم يجعل لها هذه الرتبة ولا نسب إلى صاحبها الزلل فيها كما أنه لا ينبغي أن ينسب صاحبها إلى التقصير ولا أن يشنع عليه بها ولا ينتقص من أجلها أو يعتقد فيه الاقدام على المخالفة بحتًا فإن هذا كله خلاف ما تقتضي رتبته في الدين وقد تقدم من كلام معاذ بن جبل وغيره ما يرشد إلى هذا المعني وقد روى عن ابن المبارك أنه قال: كنا في الكوفة فناظروني في ذلك يعني في النبيذ المختلف فيه فقلت لهم تعالوا فليحتج المحتج منكم عمن شاء من أصحاب النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالرخصة فإن لم نبين الرد عليه عن ذلك الرجل بشدة صحت عنه فاحتجوا فما جاءوا عن واحد برخصة إلا جئناهم بشدة فلما لم يبق في يد أحد منهم إلا عبد الله بن مسعود وليس احتجاجهم عنه في رخصة النبيذ بشيء يصح عنه قال ابن المبارك فقلت للمحتج عنه في الرخصة يا أحمق عدَّ أن ابن مسعود لو كان ها هنا جالسًا فقال هو لك حلال وما وصفنا عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في الشدة كان ينبغي لك أن تحذر أو تحير أو تخشي فقال قائلهم يا أبا عبد الرحمن فالنخعي والشعبي وسمي عدة معهما كانوا يشربون الحرام، فقلت لهم دعوا عند الاحتجاج تسمية الرجال فربَّ رجلٍ في الإسلام مناقبه كذا وكذا وعسى أن يكون منه زلة أفلأحد أن يحتج بها؟ فإن أبيتم فما قولكم في عطاء وطاووس وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وعكرمة قالوا: كانوا خيارًا قال فقلت فما قولكم في الدرهم بالدرهمين يدًا بيد. فقالوا: حرامًا فقال ابن المبارك: إن هؤلاء رأوه حلالاً فماتوا وهم يأكلون الحرام؟! فبقوا وانقطعت حجتهم هذا ما حكي والحق ما قال ابن المبارك فإن الله تعالى يقول: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
__________
(1) الموافقات، ج4، ص170.(2/149)
وَالرَّسُولِ } (1) الآية. فإذا كان بينًّا ظاهرًا أن قول القائل مخالف للقرآن أو للسنّة لم يصح الاعتداد به ولا البناء عليه ولأجل هذا يُنقض قضاء القاضي إذا خالف النص أو الإجماع مع أن حكمه مبني على الظواهر مع إمكان خلاف الظاهر ولا ينقض مع الخطأ في الاجتهاد وإن تبين لأن مصلحة نصب الحاكم تناقض نقض حكمه ولكن ينقض مع مخالفة الأدلة لأنه حكم بغير ما أنزل الله ». أهـ.
2- ما يسوغ فيه الخلاف من المسائل الفروعية في الأمور الخبرية العلمية وليس في الأصول الكبار ولا في الأصول الاعتقادية عامة أو في المسائل القطعية التي لا يسوغ فيها الاجتهاد من فروع الشريعة والتي تعلمها الأمة بالضرورة أو بالاضطرار من دينها وهذه المسائل الفروعية من المسائل الخبرية العلمية مثل هل يعذب الميت ببكاء أهله عليه أو هل رأي محمد ربه يوم المعراج رأي العين؟ وهل عرج به بالروح والبدن أم بالروح فقط وهل كان المعراج منامًا أم عرج به ببدنه ومثل ذلك. ...
3- زلة العالم في الأصول الاعتقادية إذا لم يثبت عليها فكانت فلتة لم يستقر عليها وسارع إلى مراجعة الأصول المجمع عليها والوقوف عندها.
يقول الشاطبي(2): «لا يخلو المنسوب إلى البدعة أن يكون مجتهدًا فيها أو مقلدًا والمقلد إما مقلد مع الإقرار بالدليل الذي زعمه المجتهد دليلاً والأخذ فيه بالنظر وإما مقلد له فيه من غير نظر كالعامي الصرف فهذا ثلاثة أقسام:
__________
(1) النساء، آية: 59.
(2) الاعتصام، ج1، ص 146.(2/150)
فالقسم الأول على ضربين: أحدهما أن يصح كونه مجتهدًا فالابتداع منه لا يقع إلا فلتة وبالعرض لا بالذات وإنما تسمي غلطة أو زلة لأن صاحبها لم يقصد اتباع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويل الكتاب أي لم يتبع هواه ولا جعله عمدة والدليل عليه أنه إذا ظهر له الحق أذعن له وأقرَّ به ومثاله ما يذكر عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أنه كان يقول بالإرجاء ثم رجع عنه، وقال: وأول ما أفارق ـ غير شاك ـ أفارق ما يقول المرجئون. وذكر مسلم عن يزيد بن صهيب الفقير قال: كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد أن نحج، ثم نخرج على الناس. قال: فمررنا على المدينة فإذا جابر بن عبد الله يحدث القوم جالس إلى سارية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: وإذا هو قد ذكر الجهنميين قال: فقلت له: يا صاحب رسول الله، ما هذا الذي تحدثون؟ والله يقول: { إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } (1) و { كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا } (2) فما هذا الذي تقوله؟ قال: فقال: أفتقرأ القرآن؟ قلت نعم، قال: فهل سمعت بمقام محمد - صلى الله عليه وسلم - ؟ ـ يعني الذي يبعثه الله فيه ـ قلت: نعم، قال: فإنه مقام محمد - صلى الله عليه وسلم - المحمود الذي يخرج الله به من يخرج من النار. قال: ثمَّ نعت وضع الصراط ومرَّ الناس عليه. قال: وأخاف ألا أكون أحفظ ذلك. قال: غير أنه قد زعم أن قومًا يخرجون من النار بعد أن يونوا فيها. قال: يعني فيخرجون كأنهم عيدان السماسم فيدخلون نهرًا من أنهار الحياة فيغتسلون فيه فيخرجون كأنهم القراطيس فرجعنا وقلنا: ويحكم أترون الشيخ يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجعنا فلا والله ما خرج منا غير رجل واحد. أو كما قال: ويزيد الفقير من ثقات أهل الحديث، وثقه ابن معين، وأبو زرعة. وقال أبو
__________
(1) آل عمران، آية: 192.
(2) الحج، آية: 22.(2/151)
حاتم: صدوق، وخرج عنه البخاري. وعبيد الله بن الحسن العنبري كان من ثقة أهل الحديث، ومن كبار العلماء العارفين بالسنة، إلا أن الناس رموه بالبدعة بسبب قول حكى عنه من أنه كان يقول: بأن كل مجتهد من أهل الأديان مصيب، حتى كفَّره القاضي أبو بكر وغيره، وحكى القتيبي عنه كان يقول: إنَّ القرآن يدل على الاختلاف فالقول بالقدر صحيح وله أصل في الكتاب والقول بالإجبار صحيح وله أصل في الكتاب، ومن قال بهذا فهو مصيب لأن الآية الواحدة ربما دلت على وجهين مختلفين وسئل يومًا عن أهل القدر وأهل الإجبار؟ قال: كلٌّ مصيب، هؤلاء قومٌ عظَّموا الله، وهؤلاء قومٌ نزهوا الله فقال: وكذلك القول في الأسماء، فكل من سمَّى الزاني مؤمنًا فقد أصاب، ومن سماه كافرًا فقد أصاب. ومن قال هو فاسق وليس بمؤمن ولا كافر فقد أصاب، ومن قال هو كافر وليس بمشرك فقد أصاب لأن القرآن يدل على كل هذه المعاني. قال: وكذلك السنن المختلفة كالقول بالقرعة وخلافه، والقول بالسعاية وخلافه، وقتل المؤمن بالكافر، ولا يقتل مؤمن بكافر، وبأي ذلك أخذ الفقيه فهو مصيب. قال: ولو قال قائل: إن القاتل في النار كان مصيبًا، ولو قال: في الجنة كان مصيبًا، ولو وقف وأرجأ أمره كان مصيبًا إذا كان إنما يريد بقوله إنَّ الله تعبده بذلك وليس عليه علم الغيب.
قال ابن أبي خيثمة: أخبرني سليمان بن أبي شيخ قال كان عبيد الله بن الحسن بن الحسين بن أبي الحريقي العنبري البصري اتهم بأمر عظيم، وروى عنه كلام ردئ.
قال بعض المتأخرين: هذا الذي ذكره ابن أبي شيخ عنه قد روى أنه رجع عنه لما تبين له الصواب، وقال: إذًا أرجع وأنا من الأصاغر ولأن أكون ذنبًا في الحق، أحبُّ إليَّ أن أكون رأسًا في الباطل.(2/152)
فإن ثبت عنه ما قيل فيه فهو على جهة الزلة من العالم، وقد رجع عنها رجوع الأفاضل إلى الحق، لأنه بحسب ظاهر حاله فيما نقل منه إنما اتبع ظواهر الأدلة الشرعية فيما ذهب إليه، ولم يتبع عقله، ولا صادم الشرع بنظره، فهو أقرب من مخالفة الهوى، ومن ذلك الطريق ـ والله أعلم ـ وفق إلى الرجوع إلى الحق.
وكذلك يزيد الفقير فيما ذكر عنه، لا كما عارض الخوارج عبد الله ابن عباس - رضي الله عنه -، إذ طالبهم بالحجة فقال بعضهم، لا تخاصموه فإنه ممن قال الله فيه { بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } (1) فرجحوا المتشابه على المحكم وناصبوا بالخلاف السواد الأعظم.
وأما إن لم يصح بمسبار العلم أنه من المجتهدين فهو الحري باستنباط ما خالف الشرع كما تقدم، إذ قد اجتمع له مع الجهل بقواعد الشرع الهوي الباعث عليه في الأصل وهو التبعية، إذ قد تحصل له مرتبة الإمامة والاقتداء، وللنفس فيها من اللذة ما لا مزيد عليه، ولذلك يعسر خروج حبّ الرئاسة من القلب إذا انفرد، حتى قال الصوفية: حب الرئاسة آخر ما يخرج من قلوب الصديقين فكيف إذا انضاف إليه الهوى من الأصل وانضاف إلى هذين الآخرين دليل ـ في ظنه ـ شرعي على صحة ما ذهب إليه فيتمكن الهوى من قلبه تمكنًا لا يمكن في العادة الانفكاك منه، وجرى منه مجرى الكلب في صاحبه، كما جاء في حديث الفرق، فهذا النوع ظاهر أنه آثم في ابتداعه إثمُ مَنْ سنَّ سنة سيئة». انتهى كلام الشاطبي.
__________
(1) الزخرف، آية: 58.(2/153)
4- الخلاف في الأمر قبل أن يستقر ويتقرر تقررًا نهائيًا لا مراجعة فيه ويصير علمه عند الخاصة ثم منه إلى العامة ضروريًا أو يصير ضروريًا عند العامة والخاصة ومن ذلك أن القرآن نزل على سبعة أحرف ثم إن الله نسخ بعض تلك الحروف لما كان جبريل يعارض النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن في كل رمضان وكانت العرضة الأخيرة هي حرف زيد بن ثابت الذي يقرأ الناس به اليوم وهو الذي جمع عثمان والصحابة - رضي الله عنهم - أجمعين عليه الناس.
روى النزَّال بن سبره عن عبد الله بن مسعود قال سمعت رجلاً قرأ آية سمعت من النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خلافها فأخذت بيده فانطلقت به إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له فعرفت في وجهه الكراهية، وقال:« كلاكما محسنٌ ولا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا» رواه مسلم. وروى عن عمر أنه أخذ بتلابيب رجل كان يقرأ بسورة على حرف غير الذي يقرأ هو به فذهب به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:«لهما كلا الحرفين أنزل عليّ».(2/154)
وفي ”الموافقات“ عن جمع المصحف(1): «بيان ذلك أن جمع المصحف مثلاً لم يكن في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للاستغناء عنه بالحفظ في الصدور ولأنه لم يقع في القرآن اختلاف يخاف بسببه الاختلاف في الدين وإنما وقعت فيه نازلتان أو ثلاثة كحديث عمر بن الخطاب مع هشام بن حكيم رضى الله عنهما وقصة أبي ابن كعب مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما وفيه قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا تماروا في القرآن فإن المراء فيه كفر». فحاصل الأمر أن جمع المصحف كان مسكوتًا عنه في زمانه - صلى الله عليه وسلم - ثم لما وقع الاختلاف في القرآن وكثر حتى صار أحدهم يقول للآخر أنا كافر بما تقرأ صار جمع المصحف واجبًا ورأيًا سديدًا في واقعة لم يتقدم بها عهد فلم يكن فيها مخالفة وإلا لزم أن يكون النظر في كل واقعة لم تحدث في الزمان المتقدم بدعة وهو باطل باتفاق لكن مثل هذا النظر من باب الاجتهاد الملائم لقواعد الشريعة وإن لم يشهد له أصل معين وهو الذي يسمى بالمصالح المرسلة». أهـ.
أقول: وعندما رىي حذيفة هذا الاختلاف قال له سلمان رضى الله عنهما: ”أدرك هذه الأمة لا تختلف في الكتاب كما اختلفت فيه الأمم قبلهم“ ولما جمع عثمان - رضي الله عنه - المصحف على حرف زيد بن ثابت وأرسل بنسخه إلى الأمصار صارت حروف القرآن من المعلوم من الدين بالاضطرار واتفق أهل الإسلام على نقل حروف القرآن ونقل الصلوات الخمس والقبلة وصيام شهر رمضان بالتواتر فمن أنكر منه حرفًا أو بدَّل أو غيَّر فالأمة متفقة على تكفيره لا يتنازع في ذلك أحد ولا يعذر أحد في ذلك لا بتأويل ولا من غير تأويل وهذا أمر يعرفه الصبية في الكتاتيب والرعاة في مسارحهم والنساء في خدورهن، فانظر كيف تغير الحكم قبل أن يتقرر الأمر وبعد أن تقرر واستقر.
__________
(1) الموافقات، ج2، ص 341.(2/155)
ومن هذا الباب مراجعة الصحابة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية ويوم فتح مكة وفي فسخ الحج إلى العمرة وإبطائهم إلى الحل عام الحديبية وكراهتهم لذلك وكذلك الخلاف في أسرى بدر والاستغفار للمشركين قبل أن ينهى عنه وكذلك الاستغفار والصلاة على المنافقين وإبطال النسيء... إلخ.
العذر بعدم البلوغ لفظًا أو بيان معني اللفظ: وذلك مثل عمار - رضي الله عنه - عندما تمعك في التراب للجنابة والذين تيمموا إلى الآباط والذين أصابتهم جنابة فلم يتيمموا ولم يصلوا والذين فهموا: { حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } بخيط أبيض وآخر أسود ووضعهما تحت وسادته فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن وسادك إذًا لعريض» وفي رواية أخري «إنك لعريض القفا» ثم قال: «بل هو سواد الليل وبياض النهار» فلما قيل لهم من الفجر وبعد بيان الرسول أمسكوا عند الفجر وقد كان منهم من أخطأ فهم هذا فأكل وشرب بعد الفجر وكذلك من أكل بردًا وهو صائم ومن كان لا يغتسل من التقاء الختانين... إلخ.(2/156)
القتل الخطأ خطأ الفعل وخطأ التأويل: ما ذكره الطبري وابن كثير في تفسير قوله تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا - وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا - يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } (1) ذكر ابن كثير واقعة عياش بن أبي ربيعة وقتله الحارث بن يزيد الغامدي يحسبه مازال على شركه ولا يعلم أنه قد أسلم وقتل أبي الدرداء لرجل قال كلمة الإيمان فظنه قالها متعوذًا فقتله فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هل شققت عن قلبه» وقتل خالد بن الوليد لبني خزيمة عندما لم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فقالوا صبئنا صبئنا فجعل يقتل فيهم فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليًا بن أبي طالب كرَّم الله وجهه فودي قتلاهم وما أتلف من أموالهم حتى ميلغة الكلب. يقول ابن كثير(2)
__________
(1) النساء، آيات: 92-94.
(2) ابن كثير، ج1، ص 535.(2/157)
: وهذا الحديث يؤخذ منه أن خطأ الإمام أو نائبه يكون في بيت المال وكذلك ذكر ابن كثير في تفسير قوله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا } (1) الآية. أن أسامة بن زيد والمقداد بن الأسود كل منهم قتل رجلاً ذكر كلمة الإيمان فظنوه قالها متعوذًا وكذلك قال: مرَّ رجل من بني سليم بنفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرعي غنمًا له فسلم عليهم فقالوا لا يسلم علينا إلا ليتعوذ منا فعمدوا إليه فقتلوه وأتوا بغنمه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت الآية وكذلك ذكر ابن كثير قصة محلم بن جثامة الذي لفظته الأرض عندما قتل عامر بن الأضبط الأشجعي لشيء كان بينه وبينه مدعيًا الخطأ وقصة فزار الذي دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ديته إلى أبيه ألف دينار ودية أخري وسيره ثم نزلت فيه الآية { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا... } (2) الآية. ويقول ابن كثير في تفسير قوله تعالى: { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } (3) أي هذه توبة القاتل خطأ إذا لم يجد العتق صام شهرين متتابعين يقول ابن كثير ومن لم يقو على الصيام أطعم ستين مسكينًا.
__________
(1) النساء، آية: 94.
(2) النساء، آية: 94.
(3) النساء، آية: 92.(2/158)
ويذكر الطبري في سبب النزول عياش بن أبي ربيعة وأبا الدرداء وأوجب الدية والكفارة على خطأ القتل وخطأ التأويل. قال أبو جعفر الطبري: «الصواب من القول في ذلك أن يقال إنَّ الله عرَّف عبادَه هذه الآية ما على من قتل مؤمنًا خطأ من كفارة ودية وجائز أن تكون الآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة وقتيله وفي أبي الدرداء وصاحبه وأي ذلك كان. ويقول في تفسير قوله تعالى: { وإن كان من قومٍ بينكم وبينهم ميثاق فديةٌ مسلمةٌ إلى أهله وتحريرُ رقبةٍ مؤمنةٍ } قال قومٌ هو في الكافر المعاهد وقال قومٌ مؤمنٌ من قومٍ كفار بيننا وبينهم ميثاق ورجح ابن جرير التفسير الأول، ويقول في تفسير قوله تعالى: { فمن لم يجد فصيامُ شهرين متتابعين. توبةً من الله وكان الله عليمًا حكيمًا } فمن لم يجد رقبة يحررها كفارة لخطئه في قتْلِه مَنْ قَتَل مِنْ مؤمنٍ أو معاهد لعسرته بثمنها فصيامُ شهرين متتابعين يقول فعليه صيامُ شهرين متتابعين». ويرجح ابن جرير أن الصيام عن الرقبة وليس عن الدية لأن الدية على عاقلة القاتل والكفارة على القاتل بإجماع الحجة على ذلك نقلاً عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - وقد ذكر ابن جرير أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي الدرداء عندما قتل الرجل فتأولها «قم فحرر» وروى أيضًا عن قول الله - عز وجل -: { فمَنْ لم يجد فصيامُ شهرين متتابعين } أنها نزلت في عياش بن أبي ربيعة قتل مؤمنًا خطأ ويقول ابن جرير من تفسير قوله - عز وجل -: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا } أنها نزلت:
1- بسبب قتيل قتلته سرية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ما قال إني مسلم أو بعد شهادة الحق أو بعد ما سلم عليهم لغنيمة كانت معه أو غير ذلك من ملكه فأخذوه منه.
في محلم بن جثامة وقتله عامر بن الأضبط لإحنة كانت بينهما في الجاهلية.(2/159)
وفي رواية أخرى مرَّ رجلٌ من بني سليم على نفرٍ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلم عليهم فقالوا ما سلم عليكم إلا ليتعوذ منكم فعمدوا إليه فقتلوه وأخذوا غنمه فأتوا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت الآية.
وقيل نزلت في رجل اسمه مرداس قتله رجل من بني ليث فأمر رسول الله لأهله بديته وردَّ عليهم ماله ونهى المؤمنين عن فعل ذلك.
وقيل نزلت في سرية عليها أسامة بن زيد قتلت رجلاً قال لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله فقال له رسول الله :- صلى الله عليه وسلم - «كيف أنت ولا إله إلا الله. قال: يا رسول الله إنما قالها متعوذًا فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هلا شققت عن قلبه». وروى أنها نزلت في المقداد وروي أنها نزلت في أبي الدرداء. يقول ابن جرير: حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: نزل ذلك في رجل قتله أبو الدرداء فذكر من قصة أبي الدرداء نحو القصة التي ذكرت عن أسامة بن زيد وقد ذكرت في تأويل قوله { وما كان لمؤمنٍ أن يقتلَ مؤمنًا إلا خطأً } ثم قال في الخبر ونزل الفرقان { وما كان لمؤمنٍ أن يقتل مؤمنًا إلا خطأً } فقرأ حتى بلغ { لستَ مؤمنًا تبتغون عرض الحياة الدنيا } إلى آخر الآيات.(2/160)
واضح جدًا أن سياق قوله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } (1) الآيات. متصل في سياق واحد مع قوله تعالى: { وما كان لمؤمنٍ أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ } الآية. وإن القتل الخطأ يستوي فيه خطأ الفعل وخطأ التأويل تجب فيه الكفارة للمؤمن إذا كان من قوم مؤمنين أو كافرين حربيين أو مواثقين. وللكافر إذا كان قومه أهل عهد وميثاق ويجب في المؤمن والكافر الدية إذا كان قومهما أهل عهد وفي المؤمن إذا كان قومه مؤمنين أومواثقين ولم يكونوا حربيين حتى لا يتقووا بالدية على قتال المسلمين وإن الكفارة توبة من القتل خطأً وهذا دليل واضح جدًا على أن التأويل لا يسقط الدية ولا الكفارة لا عن قتل المؤمن ولا عن قتل الواحد من أهل العهد.
الخطأ في الحكم على الأشخاص بالتكفير أو التفسيق:
مثل قول عمر عن حاطب دعني اضرب عنق هذا المنافق وقول أسيد ابن حضير لسعد بن عبادة ولكنك منافق تجادل عن المنافقين وما إلى ذلك والخطأ هنا معفوٌ عنه إذا كان الحكم عن علم وعدل لمصلحة المسلمين وليس عن فضول أو تكلّف أو عن ظلم وجهل.
__________
(1) النساء، آية: 94.(2/161)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك (1):«أهل السنة يقولون أن أهل الجنة ليس من شرطهم سلامتهم عن الخطأ بل ولا عن الذنب بل يجوز أن يذنب الرجل منهم ذنبًا صغيرًا أو كبيرًا ويتوب منه وهذا متفق عليه بين المسلمين ولو لم يتب منه فالصغائر تمحي باجتناب الكبائر عند جماهيرهم بل وعند الأكثرين منهم أن الكبائر تمحى بالحسنات التي هى أعظم منها وبالمصائب المكفرة وغير ذلك وإذا كان هذا أصلهم فيقولون ما ذكر عن الصحابة من السيئات كثير منه كذب وكثير منه كانوا مجتهدين فيه ولكن لا يعرف كثير من الناس وجه اجتهادهم وما قدِّر أنه كان فيه ذنب من الذنوب لهم فهو مغفور لهم إما بتوبة وإما بحسنات ماحية وإما بمصائب مكفرة وإما بغير ذلك فإنه قد قام الدليل الذي يجب القول بموجبه أنهم من أهل الجنة فامتنع أن يفعلوا ما يوجب النار ولا محالة وإذا لم يمت أحدهم على ما يوجب النار لم يقدح ما سوى ذلك في استحقاقهم الجنة ونحن قد علمنا أنهم من أهل الجنة ولو لم يعلم أن أولئك المعينين في الجنة لم يجز لنا أن نقدح في استحقاقهم للجنة بأمور لا نعلم أنها توجب النار فإن هذا لا يجوز في آحاد المؤمنين الذين لم يعلم أنهم يدخلون الجنة وليس لنا أن نشهد لأحد منهم بالنار لأمور محتملة لا تدل على ذلك فكيف يجوز ذلك في خيار المؤمنين والعلم بتفاصيل أحوال كل واحد منهم باطنًا وظاهرًا وحسناته وسيئاته واجتهاداته أمر يتعذر علينا معرفته فكان كلامنا في ذلك كلامًا فيما لا نعلمه والكلام بلا علم حرام فلهذا كان الإمساك عما شجر بين الصحابة خيرًا من الخوض في ذلك بغير علم بحقيقة الأحوال إذ كان كثير من الخوض في ذلك أو أكثره كلامًا بلا علم وهذا حرام ولو لم يكن فيه هوي ومعارضة الحق المعلوم فكيف إذا كان كلامًا لهوى يطلب فيه دفع الحق المعلوم وقد قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاض في الجنة رجل علم
__________
(1) منهاج السنة، ج2، ص 183-184.(2/162)
الحق وقضى به فهو في الجنة ورجلٌ علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار» فإذا كان هذا في قضاء بين اثنين في قليل المال أو كثيره فكيف القضاء بين الصحابة في أمور كثيرة فمن تكلم في هذا الباب بجهل أو بخلاف ما يعلم كان مستوجبًا للوعيد ولو تكلم بحق لقصد الهوى لا لوجه الله تعالى أو يعارض به حقًا آخر لكان أيضًا مستوجبًا للذم والعقاب ومن علم ما دلَّ عليه القرآن والسنة من الثناء على القوم ورضا الله عنهم واستحقاقهم الجنة وأنهم خير هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس لم يعارض هذا المتيقن المعلوم بأمور مشتبهة منها ما لا يعلم صحته ومنها ما يتبين كذبه ومنها ما لا يعلم كيف وقع ومنها ما يعلم عذر القوم فيه ومنها ما يعلم توبتهم منه ومنها ما يعلم أن لهم من الحسنات ما يغمره فمن سلك سبيل أهل السنة استقام قوله وكان من أهل الحق والاستقامة والاعتدال وإلا حصل في جهل ونقص وتناقض كحال هؤلاء الضلال». أهـ.
والأمر لا يحتاج إلى تعليق أن من سبَّ الصحابة وكفَّرهم من الرافضة ليس معذورًا بتأويله بل مذموم لأنه تكلم بظلم وجهل ولذا فليس لهم في الفئ نصيب وكفرهم العلماء بتكفيرهم للصحابة لتكذيبهم صريح القرآن الذي يزكيهم ولتركهم الدين المنقول عنهم. قالت عائشة: ”يا ابن أخي أمروا أن يستغفروا لهم فسبوهم“ والخوارج غير معذورين في التأويل بل هذا التكفير دليل مروقهم ومروقهم موجب قتل الواحد المقدور عليه منهم ولو لم يقاتل كما مرَّ ذكره والله أعلم وأعزّ وأكرم.
من أخطأ في معان دقيقة لا تعلم إلا بنظر العقل وليس فيها بيان من النصوص واحتاج إلى ذلك ولم يعرض عن أو يعارض ما أثبتته النصوص الظاهرة المتواترة.(2/163)
قتال البغاة: وتأويلات البغاة: جاء في تفسير ”النيسابوري“(1) على هامش تفسير ”الطبري“: «في الصحيحين عن أنس أنه قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا نبيَّ الله لو أتيت عبد الله بن أبي فانطلق إليه على حمار وانطلق المسلمون يمشون وهي أرض سبخة فبال الحمار فقال إليك عني فوالله لقد آذاني نتن حمارك فقال عبد الله بن رواحة والله إن بول حماره أطيب ريحًا منك فغضب لعبد الله رجلٌ من قومه وغضب لكل واحد منهما أصحابه فوقع بينهم ضربٌ بالجريد والأيدي والنعال فأنزل الله فيهم { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا } (2) جمع لأن الطائفتين في معني القوم أو الناس أو لأن أول الجمع اثنان فرجع إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأصلح بينهم وعن مقاتل قرأها عليهم فاصطلحوا والطائفة الجماعة وهي أقل من الفرقة لقوله: { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ } (3) وارتفاعها بمضمر دلَّ عليه ما بعده أي إن اقتتلت طائفتان واختير (إن) دون (إذا) مع كثرة وقوع القتال بين المؤمنين ليدل على أنه مما لا ينبغي أن يقع إلا نادرًا وعلي سبيل الفرض والتقدير ولهذه النكتة بعينها قال طائفتان ولم يقل فرقتان تحقيقًا للتقليل كما قلنا وفي تقديم الفاعل إشارة أيضًا إلى هذا المعنى لأن كونهما طائفتين مؤمنتين يقتضي ألا يقع القتال بينهما ولهذا اختير المُضي في الفعل ولم يقل يقتتلون لئلا ينبيء عن الاستمرار وفيه أيضًا من التقابل ما فيه وإنما قدم الفعل في قوله { إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ } (4) ليعلم أن المجئ بالنبأ الكاذب يورث كون الجاني به فاسقًا سواء كان قبل ذلك فاسقًا أم لا ولو أخر الفعل لم تتناول الآية إلا مشهور الفسق قبل المجئ بالنبأ قال بعض العلماء وإنما قال اقتتلوا على الجمع ولم
__________
(1) النيسابوري، علي هامش ابن جرير الطبري.
(2) الحجرات، آية: 9.
(3) التوبة، آية: 122.
(4) الحجرات، آية: 6.(2/164)
يقل فأصلحوا بينهم لأن عند القتال يكون لكل منهم فعل برأسه أما عند العود إلى الصلح فإنه تتفق كلمة كل طائفة وإلا لم يتحقق الصلح فكان كل من الطائفتين كنفس واحدة فكانت التثنية أفقه والبغي الاستطالة وإباء الصلح والفئ الرجوع وبه سُمِّي الظل لأنه يرجع بعد نسخ الشمس أو لأن الناس يرجعون إليه والغنيمة لأنها ترجع من الكفار إلى المسلمين ومعني قوله { إلى أمر الله } قيل إلى طاعة الرسول أو من يقوم مقامه من ولاة الأمر لقوله { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ } (1) وقيل إلى الصلح لقوله { وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } (2) وقيل إلى أمر الله بالتقوي لأن من خاف الله حقَّ خشيته لا تبقي له عداوة إلا مع الشيطان وإنما قال فإن بغت ولم يقل إذا بناء على أن بغي إحداهما مع صلاح الأخري كالنادر وكذا قوله فإن فاءت لأن الفئة الباغية مع جهلها وعنادها وإصرارها على حقدها كالأمر النادر واعلم أن الباغية في اصطلاح الفقهاء:
__________
(1) النساء، آية: 59.
(2) الأنفال، آية: 1.(2/165)
فرقة خالفت الإمام بتأويل باطل بطلانًا بحسب الظن لا القطع فيخرج المرتد لأن تأويله باطل قطعًا وكذا الخوارج وهكذا يخرج مانع حق الشرع لله أو للعباد عنادًا لأنه لا تأويل له ولابد أن يكون له شوكة وعدد وعُدد يحتاج الإمام في دفعهم إلى كلفة ببذل مال أو إعداد رجال فإن كانوا أفرادًا يسهل ضبطهم فليسوا بأهل بغي والأكثرون على أن البغاة ليسوا بفسقة ولا كفرة لقوله تعالى: { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا } (1) وعن علىٍّ - رضي الله عنه -: ”إخواننا بغوا علينا“ ولكنهم يخطئون فيما يفعلون ويذهبون إليه من التأويل كما وقع للخارجة عن علىٍّ - رضي الله عنه - حيث اعتقدوا أنه يعرف قتلة عثمان ويقدر عليهم ولا يقتص لمواطأته إياهم. واتفقوا على أن معاوية ومن تابعه كانوا باغين للحديث المشهور أن عمارًا تقتله الفئة الباغية، أما الذي يتلفه العادل على الباغي وبالعكس في غير القتال فمضمون على القاعدة الممهدة في تضامن النفوس وغرامة الأموال وأما في القتال فلا يضمن العادل لأنه مأمور بالقتال ولا الباغي على الأصح لأن في الوقائع التي جرت في عصر الصحابة والتابعين لم يطلب بعضهم بعضًا بضمان نفس ومال ولأنه لو وجبت الغرامة لنفرهم ذلك عن العود إلى الطاعة والأموال المأخوذة في القتال ترد بعد انقضاء الحرب إلى أربابها من الجانبين والمراد من متلف القتال ما يتلف بسبب القتال ويتولد عنه هلاكه حتى لو فرض إتلاف في القتال من غير ضرورة القتال كان كالإتلاف في غير القتال والذين لهم تأويل بلا شوكة لزمهم ضمان ما أتلفوا من نفس ومال وإن كان على صورة القتال وحكمهم حكم قطاع الطريق إذا قاتلوا ولو أسقطنا الضمان لأبدت كل شرذمة فرقة من أهل الفساد تأويلاً وفعلت ما شاءت وفي ذلك إبطال السياسات ولهذه النكتة قرن بالإصلاح والثاني قوله ”بالعدل“ لأن تضمين الأنفس والأموال يحتاج فيه إلى سلوك سبيل العدل والنصفة لئلا
__________
(1) الحجرات، آية: 9.(2/166)
يؤدي إلى ثوران الفتنة مرة أخري واحتج الشافعي لوجوب الضمان إذا لم يكن قتال بأن ابن ملجم قتل عليّ - رضي الله عنه - زاعمًا أن له شبهة وتأويلاً فأمر بحبسه وقال لهم إن قتلتم لا تمثلوا به فقتله الحسن بن على رضى الله عنهما وما أنكر عليه أحد وأما الذين لهم شوكة ولا تأويل فالظاهر عند بعضهم نفي الضمان وعند الآخرين الوجوب وأما كيفية قتال الباغين فإن أمكن الأسر لم يقتلوا وإن أمكن الإثخان فلا يذفف عليه مثل دفع الصائل إلا إذا التحم القتال وتعسر الضبط». أهـ.
الباب السابع
التأويل وأوضاع وأحكام القتال
الفرق بين قتال المارقين أصحاب التأويل الباطل قطعًا لا ظنًا والمأخوذ من حديث الخوارج ”طوبي لمن قتلهم أو قتلوه“، ”شر قتلي تحت أديم السماء“ وبين قتال البغاة وقتال الفتنة وجريان حكم قتال المارقين على المتغلبين الذين يقاتلون على الملك وعلي عصبية وعلي رايات عمية لا يدري القاتل فيما قتل ولا المقتول فيما قتل وجريان حكمهم أيضًا على الممتنعين عن الشرائع والمرتدين عنها والمبدلين لها وعلي قتال المرتدين على بدع مكفرة وجريان الضمان على إتلاف الأموال في ثائرة الحرب عليهم إذا لم يقطع بكفرهم أو قطع بكفرهم ولم يقطع بجريان حكم الكفر إلى ذراريهم بحيث لم يستقر مع الردة تغير التبعية ففي حالة الكفر بالردة مع تغير التبعية يجري عليهم حكم الكفار الأصليين من الأسر والغنيمة للأنفس والأموال وإذا لم يُقطع بكفرهم أو قُطع بكفرهم مع عدم تغيير تبعية الإسلام عن ديارهم وذراريهم واقتصر حكم الكفر عليهم ففي هذه الحالة يكون الضمان، فلا مناص من أحدهما إما الغنيمة وإما الضمان وسوف نستعرض النقول في ذلك لبيان هذه المعاني ثم نعقب بعد ذلك لتأكيد هذه المعاني.
1- التتار:(2/167)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية(1): «ما تقول السادة العلماء أئمة الدين - رضي الله عنهم - أجمعين وأعانهم على بيان الحق المبين وكشف غمرات الجاهلين والزائغين في هؤلاء التتار الذين يقدمون إلى الشام مرة بعد مرة وقد تكلموا بالشهادتين وانتسبوا إلى الإسلام ولم يبقوا على الكفر الذي كانوا عليه في أول الأمر فهل يجب قتالهم أم لا وما الحجة على قتالهم وما مذاهب العلماء في ذلك وما حكم من كان معهم ممن يفر إليهم من عسكر المسلمين الأمراء وغيرهم وما حكم من قد أخرجوه معهم مكرهًا وما حكم من يكون مع عسكرهم من المنتسبين إلى العلم والفقه والفقر والنصوص ونحو ذلك وما يقال فيمن زعم أنهم مسلمون والمقاتلون لهم مسلمون وكلاهما ظالم فلا يقاتل مع أحدهما وفي قول مَنْ زعم أنهم يقاتلون كما تقاتل البغاة المتأولون وما الواجب على جماعة المسلمين من أهل العلم والدين وأهل القتال وأهل الأموال في أمرهم افتونا في ذلك بأجوبة مبسوطة شافية فإن أمرهم قد أشكل على كثير من المسلمين بل على أكثرهم تارة لعدم العلم بأحوالهم وتارة لعدم العلم بحكم الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - في مثلهم والله الميسر لكل خير بقدرته ورحمته إنه على كل شيء قدير وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الجواب:
__________
(1) الفتاوي الكبري، ج4، دار المعرفة للطباعة والنشر، ص 332.(2/168)
الحمد لله ربِّ العالمين نعم يجب قتال هؤلاء بكتاب الله وسنة رسوله واتفاق أئمة المسلمين وهذا مبني على أصلين أحدهما: المعرفة بحالهم والثاني: معرفة حكم الله في مثلهم. فأما الأول: فكل من باشر القوم يعلم حالهم ومن لم يباشرهم يعلم ذلك بما بلغه من الأخبار المتواترة وأخبار الصادقين ونحن نذكر جل أمورهم بعد أن نبين الأصل الآخر الذي يختص بمعرفته أهل العلم بالشريعة الإسلامية فنقول كل طائفة خرجت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها باتفاق أئمة المسلمين وإن تكلمت بالشهادتين فإذا أقروا بالشهادتين وامتنعوا على الصلوات الخمس وجب قتالهم حتى يصلوا وإن امتنعوا عن الزكاة وجب قتالهم حتى يؤدوا الزكاة وكذلك إن امتنعوا عن صيام شهر رمضان أو حج البيت العتيق وكذلك إن امتنعوا عن تحريم الفواحش أو الزنا أو الميسر أو الخمر أو غير ذلك من محرمات الشريعة وكذلك إن امتنعوا عن الحكم في الدماء والأموال والأعراض والأبضاع ونحوها بحكم الكتاب والسنة وكذلك إن امتنعوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد الكفار إلى أن يسلموا ويؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون وكذلك إن أظهروا البدع المخالفة للكتاب والسنة واتباع سلف الأمة وأئمتها مثل أن يظهروا الإلحاد في أسماء الله وآياته أو التكذيب بأسماء الله وصفاته أو التكذيب بقدره وقضائه أو التكذيب بما كان عليه جماعة المسلمين على عهد الخلفاء الراشدين أو الطعن في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان أو مقاتلة المسلمين حتى يدخلوا في طاعتهم التي توجب الخروج عن شريعة الإسلام وأمثال هذه الأمور قال الله تعالى: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } (1) فإذا كان بعض الدين لله وبعضه لغير الله وجب القتال حتى يكون الدين كله لله، وقال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
__________
(1) الأنفال، آية: 39.(2/169)
اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ - فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } (1) وهذه الآية نزلت في أهل الطائف وكانوا قد أسلموا وصلوا وصاموا ولكن كانوا يتعاملون بالربا فأنزل الله هذه الآية وأمر المؤمنين فيها بترك ما بقى من الربا، وقال: { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } (2) وقد قرئ فأذنوا وآذنوا وكلا المعنين صحيح والربا آخر المحرمات في القرآن وهو مال يوجد بتراضي المتعاملين فإذا كان من لم ينته عنه محاربًا لله ورسوله فكيف بمن لم ينته عن غيره من المحرمات التي هي أسبق تحريمًا وأعظم تحريمًا وقد استفاض عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - الأحاديث بقتال الخوارج وهي متواترة عند أهل العلم بالحديث. قال الإمام أحمد صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه وقد رواها مسلم في صحيحه وروى البخاري منها ثلاثة أوجه حديث على وأبي سعيد الخدري وسهل بن حنيف وفي السنن والمسانيد طرق أخري متعددة وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في صفتهم: «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة لئن أدركتهم لأقتلهم قتل عاد» وهؤلاء قاتلهم أمير المؤمنين على بن أبي طالب بمن معه من الصحابة واتفق على قتالهم سلف الأمة وأئمتها لم يتنازعوا في قتالهم كما تنازعوا في القتال يوم الجمل وصفين فإن الصحابة كانوا في قتال الفتنة ثلاث أصناف: قوم قاتلوا مع على - رضي الله عنه - وقومٌ قاتلوا مع مقاتله وقومٌ قعدوا عن القتال لم يقاتلوا الواحدة من الطائفتين وأما الخوارج فلم يكن منهم أحد من الصحابة ولا نهي عن قتالهم أحد من الصحابة وفي
__________
(1) البقرة، الآيتان: 278-279.
(2) البقرة، آية: 279.(2/170)
الصحيح عن أبي سعيد أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولي الطائفتين بالحق وفي لفظ أدنى الطائفتين إلى الحق» فبهذا الحديث الصحيح ثبت أن عليًا وأصحابه كانوا أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه وأن تلك المارقة التي مرقت من الإسلام ليس حكمها حكم إحدي الطائفتين بل أمر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بقتال هذه المارقة وأكد الأمر بقتالهم ولم يأمر بقتال إحدي الطائفتين كما أمر بقتال هذه المارقة بل قد ثبت عنه في الصحيح من حديث أبي بكرة أنه قال للحسن «إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين» فمدح الحسن وأثني عليه بما أصلح الله به بين الطائفتين حين ترك القتال وقد بويع له واختار الأصلح وحقن الدماء مع نزوله عن الأمر. فلو كان القتال مأمورًا به لم يمدح الحسن ويثني عليه بترك ما أمر الله به وفعل ما نهى الله عنه.(2/171)
والعلماء لهم في قتال من يستحق القتال من أهل القبلة طريقان: منهم من يري قتال على يوم حروراء ويوم الجمل وصفين كله من باب قتال أهل البغي وكذلك يجعل قتال أبي بكر لمانعي الزكاة وكذلك قتال سائر من قوتل من المنتسبين إلى القبلة كما ذكر ذلك من ذكره من أصحاب أبي حنيفة والشافعي ومن وافقهم من أصحاب أحمد وغيرهم وهم متفقون على أن الصحابة ليسوا فساقًا بل هم عدول فقالوا إن أهل البغي عدول مع قتالهم وهم مخطئون خطأ المجتهدين في الفروع وخالفت في ذلك طائفة كابن عقيل وغيره فذهبوا إلى تفسيق أهل البغي وهؤلاء نظروا إلى من عدوه من أهل البغي في زمنهم فرأوهم فساقًا ولا ريب أنهم لا يدخلون الصحابة في ذلك وإنما يُفَسِّق الصحابةَ بعضُ أهلِ الأهواء من المعتزلة ونحوهم كما يكفرهم بعض أهل الأهواء من الخوارج والروافض وليس ذلك من مذهب الأئمة والفقهاء أهل السنة والجماعة ولا يقولون أن أموالهم معصومة كما كانت وما كان ثابتًا بعينه رد إلى صاحبه وما أتلف في حال القتال لم يضمن حتى أن جمهور العلماء يقولون لايضمن لا هؤلاء ولا هؤلاء كما قال الزهري: وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوافرون فأجمعوا أن كل مال أو دم أصيب بتأويل القرآن فإنه هدر وهل يجوز أن يستعان بسلاحهم في حربهم إذا لم يكن إلى ذلك ضرورة على وجهين في مذهب أحمد يجوز والمنع قول الشافعي والرخصة قول أبي حنيفة واختلفوا في قتل أسيرهم واتباع مدبرهم والتذفيف على جريحهم إذا كان لهم فئة يلجئون إليها فجوز ذلك أبو حنيفة ومنعه الشافعي وهو المشهور في مذهب أحمد وفي مذهبه وجه أن يتبع مدبرهم من أول القتال وأما إذا لم يكن لهم فئة فلا يقتل أسير ولا يذفف على جريح كما رواه سعيد وغيره عن مروان ابن الحكم قال: خرج صارخ لعلىٍّ يوم الجمل لا يقتلن مدبر ولا يذفف على جريح ومن أغلق بابه فهو آمن ومن ألقي السلاح فهو آمن فمن سلك هذه الطريقة فقد يتوهم أن هؤلاء التتار من(2/172)
أهل البغي المتأولين ويحكم فيهم بمثل هذه الأحكام كما أدخل من أدخل في هذا الحكم مانعي الزكاة والخوارج. وسنبين فساد هذا التوهم إن شاء الله تعالى.
والطريقة الثانية أن قتال مانعي الزكاة والخوارج ونحوهم ليس كقتال أهل الجمل وصفين وهذا هو المنصوص عن جمهور الأئمة المتقدمين وهو الذي يذكرونه في اعتقاد أهل السنة والجماعة وهو مذهب أهل المدينة مالك وغيره ومذهب أئمة الحديث كأحمد وغيره وقد نصُّوا على الفرق بين هذا وهذا في غير موضع حتى في الأموال فإن منهم من أباح غنيمة أموال الخوارج.(2/173)
وقد نصَّ أحمد في رواية أبي طالب في حرورية كان لهم سهم في قرية فخرجوا يقاتلون المسلمين فقتلهم المسلمون فأرضهم فيءٌ للمسلمين فيقسم خُمسهُ على خمسةٍ وأربعة أخماس للذين قاتلوا يقسم بينهم أو يجعل الأمير الخراج على المسلمين ولا يقسم مثل ما أخذ عمر السواد عنوة ووقفه على المسلمين فجعل أحمد الأرض التي للخوارج إذا غنمت بمنزلة ما غنم من أموال الكفار وبالجملة فهذه الطريقة هي الصواب المقطوع به فإن النص والإجماع فرق بين هذا وهذا وسيرة على - رضي الله عنه - تفرق بين هذا وهذا فإنه قاتل الخوارج بنص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفرح بذلك ولم ينازعه فيه أحد من الصحابة وأما القتال يوم صفين فقد ظهر منه من كراهته والذم عليه ما ظهر وقال في أهل الجمل وغيرهم إخواننا بغوا علينا طهرهم السيف وصلي علىٌّ على قتلي الطائفتين وأما الخوارج ففي الصحيحين عن علىٍّ بن أبي طالب قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «سيخرج قومٌ في آخر الزمان أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم يوم القيامة» وفي صحيح مسلم عن زيد بن وهب أنه كان في الجيش الذي كانوا مع على الذين ساروا إلى الخوارج فقال علىٌّ أيها الناس إني سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يخرج قومٌ من أمتي يقرءون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيءٌ ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء يقرؤون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم لا تجاوز صلاتهم تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضي لهم على لسان محمد نبيهم لنكلوا عن العمل وآية ذلك أن فيهم رجلاً له عضد ليس له ذراع على عضده مثل حلمة الثدي عليه شعرات بيض» قال فيذهبون إلى معاوية وأهل الشام ويتركون هؤلاء(2/174)
يخلفونكم في ذراريكم وأموالكم والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم فإنهم قد سفكوا الدم الحرام وأغاروا في سرح الناس فسيروا على اسم الله قال فلما التقينا وعلي الخوارج يومئذ عبد الله بن وهب رئيسًا فقال لهم ألقوا الرماح وحلوا سيوفكم من حقوتها فإني أناشدكم كما ناشدوكم يوم حروراء فرجعوا فوحشوا برماحهم وسلوا السيوف وسحرهم الناس برماحهم قال وأقبل بعضهم على بعض وما أصيب من الناس يومئذ إلا رجلان فقال علىّ التمسوا فيه المخدع فالتمسوه فلم يجدوه فقام على سيفه حتى أتى ناسًا قد أقبل بعضهم على بعض قال أخروهم فوجدوه مما يلي الأرض فكبر ثم قال صدق الله وبلغ رسوله قال فقام إليه عبيدة السلماني فقال يا أمير المؤمنين والله الذي لا إله إلا هو أسمعت هذا الحديث من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال أي والله الذي لا إله إلا هو حتى استحلفه ثلاثًا وهو يحلف له. أيضًا فإن الأمة متفقون على ذم الخوارج وتضليلهم وإنما تنازعوا في تكفيرهم على قولين مشهورين في مذهب مالك وأحمد وفي مذهب الشافعي أيضًا نزاع في كفرهم ولهذا كان فيهم وجهان في مذهب أحمد وغيره على الطريقة الأولي أحدهما: أنهم بغاة والثاني أنهم كفار كالمرتدين يجوز قتلهم ابتداءً وقتل أسيرهم واتباع مدبرهم ومن قدر عليه منهم استتيب كالمرتد فإن تاب وإلا قتل كما أن مذهبه في مانعي الزكاة إذا قاتلوا الإمام عليها هل يكفرون مع الإقرار بوجوبها على روايتين وهذا كله مما يبين أن قتال الصديق لمانعي الزكاة وقتال علىٍّ الخوارج ليس مثل القتال يوم الجمل وصفين فكلام عليٍّ وغيره في الخوارج يقتضي أنهم ليسوا كفارًا كالمرتدين عن أصل الإسلام وهذا هو المنصوص عن الأئمة كأحمد وغيره وليسوا مع ذلك حكمهم كحكم أهل الجمل وصفين بل هم نوع ثالث وهذا أصح الأقوال الثلاثة فيهم وممن قاتلهم الصحابة مع إقرارهم بالشهادتين والصلاة وغير ذلك مانعي الزكاة كما في الصحيحين عن أبي هريرة ”أن عمر بن(2/175)
الخطاب قال لأبي بكر يا خليفة رسول الله كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنِّي رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» فقال له أبو بكر ألم يقل لك إلا بحقها فإن الزكاة من حقها والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها قال عمر فما هو إلا أن رأيت أن الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه الحق“ وقد اتفق الصحابة والأئمة بعدهم على قتال مانعي الزكاة وإن كانوا يصلون الخمس ويصومون شهر رمضان وهؤلاء لم يكن لهم شبهة سائغة فلهذا كانوا مرتدين وهم يقاتلون على منعها وإن أقروا بالوجوب كما أمر الله وقد حكى عنهم أنهم قالوا أن الله أمر نبيه بأخذ الزكاة بقوله { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } (1) وقد تسقط بموته. وكذلك أمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقتال الذين لا ينتهون عن شرب الخمر وأما الأصل الآخر: وهو معرفة أحوالهم فقد علم أن هولاء القوم جاروا على الشام في المرة الأولى عام تسعة وتسعين وأعطوا الناس الأمان وقرؤوه على المنبر بدمشق ومع هذا فقد سبوا من ذراري المسلمين ما يقال أنه مائة ألف أو يزيد عليه وفعلوا ببيت المقدس وبجبل الصالحية ونابلس وحمص وداريا وغير ذلك من القتل والسبي ما لا يعلمه إلا الله حتى يقال أنهم سبوا من المسلمين قريبًا من مائة ألف وجعلوا يفجرون بخيار نساء المسلمين في المساجد وغيرها كالمسجد الأقصي والأموي وغيره وجعلوا الجامع الذي بالعقيبة دكًا وقد شاهدنا عسكر القوم فرأينا جمهورهم لا يصلون ولم نر في عسكرهم مؤذنًا ولا إمامًا وقد أخذوا من أموال المسلمين وذراريهم وخربوا من ديارهم ما لا يعلمه إلا الله ولم يكن معهم في دولتهم إلا من كان شر الخلق إما زنديق منافق لا يعتقد دين الإسلام في الباطن وإما من هو من شر أهل
__________
(1) التوبة، آية: 103.(2/176)
البدع كالرافضة والجهمية والاتحادية ونحوهم وإما من هو من أفجر الناس وأفسقهم وهم في بلادهم مع تمكنهم لا يحجون البيت العتيق وإن كان فيهم من يصلي ويصوم فليس الغالب عليهم إقام الصلاة ولا إيتاء الزكاة وهم يقاتلون على ملك جنكيز خان فمن دخل في طاعتهم جعلوه وليًا لهم وإن كان كافرًا ومن خرج عن ذلك جعلوه عدوًا لهم وإن كان من خيار المسلمين. ولا يقاتلون على الإسلام ولا يضعون الجزية والصغار بل غاية كثير من المسلمين منهم من أكابر أمرائهم ووزرائهم أن يكون المسلم عندهم كمن يعظمونه من المشركين من اليهود والنصاري كما قال أكبر مقدميهم الذين قدموا إلى الشام وهو يخاطب رسل المسلمين ويتقرب إليهم بأنا مسلمون فقال هذان آيتان عظيمتان جاءا من عند الله محمد وجنكيز خان فهذا غاية ما يتقرب به أكبر مقدميهم إلى المسلمين أن يسوي بين رسول الله وأكرم الخلق عليه وسيد ولد آدم وخاتم المرسلين وبين ملك كافر مشرك من أعظم المشركين كفرًا وفسادًا وعدوانًا من جنس بختنصر وأمثاله. وذلك أن اعتقاد هؤلاء التتار كان في جنكيز خان عظيمًا فإنهم يعتقدون أنه ابن الله من جنس ما يعتقده النصارى في المسيح ويقولون أن الشمس حبلت أمه وأنها كانت في خيمة فنزلت الشمس من كوة الخيمة فدخلت فيها حتى حبلت ومعلوم عند كل ذي دين أن هذا كذب وهذا دليل على أنه ولد زنا وأن أمه زنت فكتمت زناها حتى تدفع عنها معرة الزنا وهم مع هذا يجعلونه أعظم رسول عند الله في تعظيم ما سنَّه لهم وشرعه بظنه هو حتى يقولوا لما عندهم من المال هذا رزق جنكيز خان ويشكرونه على أكلهم وشربهم وهم يستحلون قتل من عادي ما سنَّه لهم هذا الكافر الملعون المعادي لله ولأنبيائه ورسوله وعباده المؤمنين فهذا وأمثاله من مقدميهم كان غايته بعد الإسلام أن يجعل محمد - صلى الله عليه وسلم - بمنزلة هذا الملعون ومعلوم أن مسيلمة الكذاب كان أقل ضررًا على المسلمين من هذا وادعى أنه شريك محمد في الرسالة(2/177)
وبهذا استحل الصحابة قتاله وقتال أصحابه المرتدين فكيف بمن كان فيما يظهره من الإسلام يجعل محمدًا كجنكيز خان وإلا فهم مع إظهارهم للإسلام يعظمون أمر جنكيز خان على المسلمين المتبعة لشريعة القرآن ولا يقاتلون أولئك المتبعين لمَا سنَّه جنكيز خان كما يقاتلون المسلمين. بل أعظم أولئك الكفار يبذلون له الطاعة والانقياد ويحملون إليه الأموال ويقرون له بالنيابة ولا يخالفون ما يأمرهم به إلا كما يخالف الخارج عن طاعة الإمام للإمام وهم يحاربون المسلمين ويعادونهم أعظم معاداة ويطلبون من المسلمين الطاعة لهم وبذل الأموال والدخول فيما وضعه لهم ذلك الملك الكافر المشرك المشابه لفرعون أو النمرود ونحوهم بل هو أعظم فسادًا في الأرض منهما قال الله تعالى: { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ } (1) وهذا الكافر علا في الأرض يستضعف أهل الملل كلهم من المسلمين واليهود والنصاري ومن خالفه من المشركين يقتل الرجال ويسبي الحريم ويأخذ الأموال ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ويرد الناس عما كانوا عليه من سلك الأنبياء والمرسلين إلى أن يدخلوا فيما ابتدعه من سنته الجاهلية وشريعته الكفرية فهم يدَّعون دين الإسلام ويعظمون دين أولئك الكفار على دين المسلمين ويطيعونهم ويوالونهم أعظم بكثير من طاعة الله ورسوله وموالاة المؤمنين والحكم فيما شجر بين أكابرهم بحكم الجاهلية لا بحكم الله ورسوله وكذلك الأكابر من وزرائهم وغيرهم ويجعلون دين الإسلام كدين اليهود والنصاري وإن هذه كلها طرق إلى الله بمنزلة المذاهب الأربعة عند المسلمين ثم منهم من يرجح دين اليهود أو دين النصارى ومنهم من يرجح دين المسلمين وهذا القول فاش غالب فيهم حتى في فقهائهم وعبادهم لاسيما الجهمية من الاتحادية
__________
(1) القصص، آية: 4.(2/178)
الفرعونية ونحوهم فإنه غلبت عليهم الفلسفة وهذا مذهب كثير من المتفلسفة أو أكثرهم وعلي هذا كثير من النصارى أو أكثرهم وكثير من اليهود أيضًا بل لو قال القائل إن غالب خواص العلماء منهم والعباد على هذا المذهب لما بعد وقد رأيت من ذلك وسمعت ما لا يتسع له هذا الموضع ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين وباتفاق جميع المسلمين أن من سوَّغ اتباع غير دين الإسلام أو اتباع شريعة غير شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض الكتاب كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً - أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } (1) واليهود والنصارى داخلون في ذلك وكذلك المتفلسفة يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ومن تفلسف من اليهود والنصارى يبقى كفره من وجهين وهؤلاء أكثر وزرائهم الذي يصدرون عن رأيه غايته أن يكون من هذا الضرب فإنه كان يهوديًا متفلسفًا ثم انتسب إلى الإسلام مع ما فيه من اليهودية والتفلسف وضم إلى ذلك الرفض فهذا هو أعظم من عندهم من ذوي الأقلام وذلك أعظم من كان عندهم من ذوي السيف فليعتبر المؤمن وبالجملة فما من نفاق وزندقة وإلحاد إلا وهي داخلة في اتباع التتار، لأنهم من أجهل الخلق وأقلهم معرفة بالدين وأبعدهم عن اتباعه وأعظم الخلق اتباعًا للظن وما تهوى الأنفس وقد قسموا الناس أربعة أقسام: يال، وباع، وداشمند، وطاط، أي صديقهم، وعدوهم، والعالم، والعامي، فمن دخل في طاعتهم الجاهلية وسنتهم الكفرية كان صديقهم ومن خالفهم كان عدوهم ولو كان من أنبياء الله ورسله وأوليائه وكل من انتسب إلى علم أو دين سموه داشمند كالفقيه والزاهد والقسيس
__________
(1) النساء، آية: 150.(2/179)
والراهب ودنان اليهود والمنجم والساحر والطبيب والكاتب والحاسب فيدرجون سادن الأصنام، فيدرجون في هذا من المشركين وأهل الكتاب وأهل البدع ما لا يعلمه إلا الله ويجعلون أهل العلم والإيمان نوعًا واحدًا بل يجعلون القرامطة الملاحدة الباطنية الزنادقة المنافقين كالطوسي وأمثاله هم الحكام على جميع من انتسب إلى علم أو دين من المسلمين واليهود والنصارى وكذلك وزيرهم السفيه الملقب بالرشيد يحكم على هذه الأصناف ويقدم شرار المسلمين كالرافضة والملاحدة على خيار المسلمين أهل العلم والإيمان حتى تولي قضاء القضاة من كان أقرب إلى الزندقة والإلحاد والكفر بالله ورسوله بحيث تكون موافقة الكفار والمنافقين من اليهود والقرامطة والملاحدة والرافضة على ما يريدونه أعظم من غيره ويتظاهر من شريعة الإسلام بما لابد له منه لأجل من هناك من المسلمين حتى أن وزيرهم هذا الخبيث الملحد المنافق صنَّف مصنفًا مضمونه أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رضي بدين اليهود والنصاري وأنه لا يُنكر عليهم ولا يذمون ولا ينهون عن دينهم ولا يؤمرون بالانتقال إلى الإسلام واستدل الخبيث الجاهل بقوله { قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ - لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ - وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُد ُ - وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ - وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ - لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } (1) وزعم أن هذه الآية تقتضي أنه يرضي دينهم وقال وهذه الآية محكمة وليست منسوخة وجرت بسبب ذلك أمور ومن المعلوم أن هذا جهل منه فإن قوله { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } (2) ليس فيه ما يقتضي أن يكون دين الكفار حقًا ولا مرضيًا له وإنما يدل على تبرئه من دينهم ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - هذه السورة إنها براءة من الشرك كما قال في الآية الأخري { وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ
__________
(1) سورة الكافرون.
(2) الكافرون، آية: 6.(2/180)
عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } (1) فقوله { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } (2) كقوله { لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } (3) وقد اتبع ذلك بموجبه ومقتضاه حيث قال: { أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } (4) ولو قدر أن في هذه السورة ما يقتضي أنهم لم يؤمروا بترك دينهم فقد علم من دين الإسلام بالاضطرار بالنصوص المتواترة وبإجماع الأمة أنه أمر المشركين وأهل الكتاب بالإيمان به وأنه جاءهم على ذلك وأخبر أنهم كافرون مخلدون في النار. وقد أظهروا الرفض ومنعوا أن تذكر على المنابر الخلفاء الراشدين وذكروا عليًا وأظهروا الدعوة للاثني عشر الذين تزعم الرافضة أنهم أئمة معصومون وأنَّ أبا بكر وعمر وعثمان كفار وفجار ظالمون لا خلافة لهم ولا لمن بعدهم ومذهب الرافضة شر من مذهب الخوارج المارقين فإن الخوارج غايتهم تكفير عثمان وعلى وشيعتهما والرافضة تكفير أبي بكر وعمر وعثمان وجمهور السابقين الأولين وتجحد من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعظم مما جحد به الخوارج وفيهم من الكذب والافتراء والغلو والإلحاد ما ليس في الخوارج وفيهم من معاونة الكفار على المسلمين ما ليس في الخوارج والرافضة تحب التتار ودولتهم لأنه يحصل بدولة المسلمين والرافضة هم معاونون للمشركين واليهود والنصاري على قتال المسلمين وهم كانوا من أعظم الأسباب في دخول التتار قبل إسلامهم إلى أرض المشرق بخراسان والعراق والشام وكان من أعظم الناس معاونة لهم على أخذهم لبلاد الإسلام وقتل المسلمين وسبي حريمهم وقضية ابن العلقمي وأمثاله مع الخليفة وقضيتهم في حلب مع صاحب حلب مشهورة يعرفها عموم الناس وكذلك في الحروب التي بين المسلمين وبين النصاري بسواحل الشام قد عرف أهل
__________
(1) يونس، آية: 41.
(2) الكافرون، آية: 6.
(3) القصص، آية: 55.
(4) يونس، آية: 41.(2/181)
الخبرة أن الرافضة تكون مع النصاري على المسلمين وأنهم عاونوهم على أخذ البلاد لما جاء التتار وعزَّ على الرافضة فتح عكا وغيرها من السواحل وإذا غلب المسلمون النصاري والمشركين كان ذلك غصة عند الرافضة وإذا غلب المشركون والنصاري المسلمين كان ذلك عيدًا ومسرة عند الرافضة ودخل في الرافضة أهل الزندقة والإلحاد من النصيرية والإسماعيلية وأمثالهم من الملاحدة القرامطة وغيرهم ممن كان بخراسان والعراق والشام وغير ذلك والرافضة جهمية قدرية وفيهم من الكذب والبدع والافتراء على الله ورسوله أعظم مما في الخوارج المارقين الذين قاتلهم أمير المؤمنين على وسائر الصحابة بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل فيهم من الردة عن شرائع الدين أعظم مما في مانعي الزكاة الذين قاتلهم أبو بكر الصديق والصحابة ومن أعظم ما ذمَّ به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الخوارج قوله: «فهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأديان» كما أخرج في الصحيحين عن أبي سعيد قال: «بعث عليٌّ إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بذهيبة فقسمها بين أربعة يعني من أمراء نجد فغضبت قريش والأنصار قالوا يعطي صناديد أهل نجد ويدعنا قال إنما أتألفهم، فأقبل رجل غائر العينين مشرف الوجنتين ناتئ الجبين كثّ اللحية محلوق فقال يا محمد اتق الله: قال من يطع الله إذ عصيته أيأمنني الله على أهل أرض ولا تأمنوني فسأله رجل قتله فمنعه فلما ولي قال: إن من ضئضئي هذا أو في عقب هذا قومًا يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان لئن أدركتهم لأقتلنهم قتلَ عادٍ» وفي لفظ في الصحيحين عن أبي سعيد قال: «بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقسم قسمًا أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بني تميم فقال يا رسول الله اعدل فقال: ويلك فمن يعدل إذا لم أعدل قد خبت وخسرت إنْ لم أكن أعدل فقال: عمر: يا رسول الله أتأذن لي فيه(2/182)
فاضرب عنقه فقال: دعه فإن له أصحابًا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرؤن القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى نضيه فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء قد سبق الفرث والدم آيتهم رجل أسود إحدي عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة يخرجون على حين فرقة من الناس». قال أبو سعيد فأشهد أنِّي سمعت هذا الحديث من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأشهد أن عليًا بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه فأمر بذلك الرجل فالتمس فأتي به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي نعته. فهؤلاء الخوارج المارقون من أعظم ما ذمهم به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان وذكر أنهم يخرجون على حين فرقة من الناس والخوارج مع هذا لم يكونوا يعاونون الكفار على قتال المسلمين والرافضة يعاونون الكفار على قتال المسلمين فلم يكفهم أنهم لا يقاتلون الكافر مع المسلمين حتى قاتلوا المسلمين مع الكفار فكانوا أعظم مروقًا من الدين من أولئك المارقين بكثير كثير. وقد أجمع المسلمون على وجوب قتال الخوارج والروافض ونحوهم إذا فارقوا جماعة المسلمين كما قاتلهم عليٌّ - رضي الله عنه - فكيف إذا ضموا إلى ذلك من أحكام المشركين كنائسًا وجنكيز خان ملك المشركين ما هو من أعظم المضادة لدين الإسلام وكل من قفز إليهم من أمراء فحكمه حكمهم وفيهم من الردة عن شرائع الإسلام بقدر ما ارتدوا عنه من شرائع الإسلام وإذا كان السلف قد سموا مانعي الزكاة مرتدين مع كونهم يصومون ويصلون ولم يكونوا يقاتلون جماعة المسلمين فكيف بمن صار مع أعداء الله ورسوله قاتلاً للمسلمين مع أنه والعياذ بالله لو استولي هؤلاء المحاربون لله ورسوله المحادون لله ورسوله المعادون لله ورسوله على أرض الشام ومصر في مثل(2/183)
هذا الوقت لأفضي ذلك إلى زوال دين الإسلام ودروس شرائعه أما الطائفة بالشام ومصر ونحوهما فهم في هذا الوقت المقاتلون عن دين الإسلام وهم من أحق الناس دخولاً في الطائفة المنصورة التي ذكرها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقوله في الأحاديث الصحيحة المستفيضة عنه «لا تزالُ طائفةٌ من أمتي ظاهرينَ على الحقِّ لا يضرُّهم مَنْ خالفهم ولا مَنْ خَذَلَهُم حتى تقوم الساعة»، وفي رواية لمسلم «لا يزال أهل الغرب» والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - تكلم بهذا الكلام بمدينته النبوية فغربه ما يغرب عنها وشرقه ما يشرق عنها.(2/184)
إلى أن يقول: وقد جاء في حديث آخر في صفة الطائفة المنصورة أنهم بأكناف البيت المقدس وهذه الطائفة هي التي بأكناف البيت المقدس اليوم ومن يتدبر أحوال العالم في هذا الوقت فيعلم أن هذه الطائفة هي أقوم الطوائف بدين الإسلام علمًا وعملاً وجهادًا عن شرق الأرض وغربها فإنهم هم الذين يقاتلون أهل الشوكة العظيمة من المشركين وأهل الكتاب ومغازيهم مع النصاري ومع المشركين من الترك ومع الزنادقة المنافقين من الداخلين في الرافضة وغيرهم كالإسماعيلية ونحوهم من القرامطة معروفة معلومة قديمًا وحديثًا والعز الذي للمسلمين بمشارق الأرض ومغاربها هو بعزهم ولهذا لما هزموا سنة تسع وتسعين وستمائة دخل على أهل الإسلام من الذلِّ والمصيبة بمشارق الأرض ومغاربها ما لا يعلمه إلا الله وذلك أن سكان اليمن في هذا الوقت ضعاف عاجزون عن الجهاد أو مضيعون له وهم مطيعون لمن ملك هذه البلاد حتى ذكروا أنهم أرسلوا بالسمع والطاعة لهؤلاء وملك المشركين لما جاء إلى حلب جرى بها من القتل ما جرى وأما سكان الحجاز فأكثرهم أو كثير منهم خارجون عن الشريعة وفيهم من البدع والضلال والفجور مالا يعلمه إلا الله وأهل الإيمان والدين فيهم مستضعفون عاجزون إنما تكون لهم القوة والعزة في هذا الوقت لغير أهل الإسلام بهذه البلاد فلو ذلت هذه الطائفة والعياذ بالله تعالى لكان المؤمنون بالحجاز من أذل الناس لاسيما وقد غلب فيهم الرفض وملك هؤلاء التتار والمحاربون لله ورسوله الآن مُرْفُوضون فلو غلبوا لفسد الحجاز بالكلية وأما بلاد أفريقيا فأعرابها غالبون عليها وهم من شرِّ الخلق بل هم مستحقون للجهاد والغزو وأما الغرب الأقصي فمع استيلاء الإفرنج على أكثر بلادهم لا يقومون بجهاد النصاري الذين هناك بل في عسكرهم من النصاري الذين يحملون الصلبان خلق عظيم لو استولي التتار على هذه البلاد لكان أهل المغرب معهم من أذل الناس لاسيما والنصاري تدخل مع التتار فيصيرون حزبًا على أهل(2/185)
المغرب فهذا وغيره مما يبين أن هذه العصابة التي بالشام ومصر في هذا الوقت هم كتيبة الإسلام وعزهم عزّ الإسلام وذلهم ذل الإسلام فلو استولي عليهم التتار لم يبق للإسلام عزّ ولا كلمة عالية ولا طائفة ظاهرة عالية يخافها أهل الأرض تقاتل عنه فمن قفز عنهم إلى التتار كان أحق بالقتال من كثير من التتار فإن التتار فيهم المكره وغير المكره وقد استقرت السنة بأن عقوبة المرتد أعظم من عقوبة الكافر الأصلي من وجوه متعددة منها: أن المرتد يقتل بكل حال ولا يضرب عليه الجزية ولا تعقد له ذمة بخلاف الكافر الأصلي ومنها أن المرتد يقتل وإن كان عاجزًا عن القتال بخلاف الكافر الأصلي الذي ليس هو من أهل القتال فإنه لا يقتل عند أكثر العلماء كأبي حنيفة ومالك وأحمد ولهذا كان مذهب الجمهور أن المرتد يقتل كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد ومنها أن المرتد لا يرث ولا يناكح ولا تؤكل ذبيحته بخلاف الكافر الأصلي إلى غير ذلك من الأحكام وإذا كانت الردة عن أصل الدين أعظم من الكفر بأصل الدين فالردة عن شرائعه أعظم من خروج الخارج الأصلي عن شرائعه ولهذا كان كل مؤمن يعرف أحوال التتار ويعلم أن المرتدين الذين فيهم من الفرس والعرب وغيرهم شر من الكفار الأصليين من الترك ونحوهم وهم بعد أن تكلموا بالشهادتين مع تركهم لكثير من شرائع الدين خير من المرتدين من الفرس والعرب وغيرهم وبهذا يتبين أن من كان معهم ممن كان مسلم الأصل هو شرٌ من الترك الذين كانوا كفارًا فإن المسلم الأصلي إذا ارتد عن بعض شرائعه كان أسوأ حالاً عمن لم يدخل بعد في تلك الشرائع مثل مانعي الزكاة وأمثالهم ممن قاتلهم الصديق وإن كان المرتد عن بعض الشرائع متفقهًا أو متصوفًا أو تاجرًا أو كاتبًا أو غير ذلك فهؤلاء شر من الترك الذين لم يدخلوا في تلك الشرائع وأصروا على الإسلام ولهذا يجد المسلمون من ضرر هؤلاء على الدين ما لا يجدونه من ضرر أولئك وينقادون للإسلام وشرائعه وطاعة الله ورسوله(2/186)
أعظم من انقياد هؤلاء الذين ارتدوا عن بعض الدين ونافقوا في بعضه وإن تظاهروا بالانتساب إلى العلم والدين وغاية ما يوجد من هؤلاء يكون ملحدًا نصيريًا أو إسماعيليًا أو رافضيًا وخيارهم يكون جهميًا إتحاديًا أو نحوه فإنه لا ينضم إليهم طوعًا من المظهرين للإسلام إلا منافق أو زنديق أو فاسق فاجر ومن أخرجوه معهم مكرهًا فإنه يبعث على نيته ونحن علينا أن نقاتل العسكر جميعه إذ لا يتميز المكره من غيره وقد ثبت في الصحيح عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يغزو هذا البيت جيش من الناس فبينا هم ببيداء من الأرض إذ خسف بهم فقيل يا رسول الله إن فيهم المكره فقال يبعثون على نياتهم» أخرجه أرباب الصحيح عن عائشة وحفصة وأم سلمة قالت: «قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يعوذ عائذٌ بالبيت فيبعث إليه بعث فإذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم فقلت يا رسول الله فكيف بمن كان كارهًا قال يخسف به معهم ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته» وفي الصحيحين عن عائشة قالت: «عبث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في منامه فقلنا يا رسول الله صنعت شيئًا في منامك لم تكن تفعله فقال العجب أن ناسًا من أمتي يؤمون هذا البيت برجل من قريش وقد لجأ إلى البيت حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم فقلت يا رسول الله إن الطريق قد يجمع الناس قال نعم فيهم المستنصر والمجنون وابن السبيل فيهلكون مهلكًا واحدًا ويصدرون مصادر شتي فيبعثهم الله - عز وجل - على نياتهم» وفي لفظ البخاري عن عائشة قالت: «قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغزو جيش الكعبة فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم قالت قلت يا رسول الله يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم قال يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم».(2/187)
إلى أن يقول: فالله تعالى أهلك الجيش الذي أراد أن ينتهك حرماته المكره فيهم وغير المكره مع قدرته على التمييز بينهم مع أنه يبعثهم على نياتهم فكيف يجب على المؤمنين المجاهدين أن يميزوا بين المكره وغيره وهم لا يعلمون ذلك بل لو ادعى مدع أنه خرج مكرهًا لم ينفعه ذلك بمجرد دعواه كما روى أن العباس بن عبد المطلب قال للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - لما أسره المسلمون يوم بدر يا رسول الله إني كنت مكرهًا فقال: «أما ظاهرك فكان علينا وأما سريرتك فإلي الله» بل لو كان فيهم قومٌ صالحون من خيار الناس ولم يمكن قتالهم إلا بقتل هولاء لقتلوا أيضًا فإن الأئمة متفقون على أن الكفار لو تترسوا بالمسلمين وخيف على المسلمين إذا لم يقاتلوا فإنه يجوز أن نرميهم ونقصد الكفار ولو لم نخف على المسلمين جاز رمي أولئك المسلمين أيضًا في أحد قولي العلماء. ومن قتل لأجل الجهاد الذي أمر الله به رسوله وهو في الباطن مظلوم كان شهيدًا وبعث على نيته ولم يكن قتله أعظم فسادًا من قتل من يقتل من المؤمنين المجاهدين وإذا كان الجهاد واجبًا وإن قتل من المسلمين ما شاء الله فقيل من يقتل في صفهم من المسلمين لحاجة الجهاد ليس أعظم من هذا بل قد أمر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - المكره في قتال الفتنة بكسر سيفه وليس له أن يقاتل وإن قتل كما في ”صحيح مسلم“ عن أبي بكرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنها ستكون فتن الإثم تكون فتن القاعد فيها خيرٌ من الماشي والماشي فيها خير من الساعي ألا فإذا نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه فقال رجل يا رسول الله أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض قال يعمد إلى سيفه فيدقه على حده بحجر ثم لينج إن استطاع النجاة اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت. فقال رجل يا رسول الله أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى إحدي الصفين أو إحدي الفئتين فيضربني رجل(2/188)
بسيفه أو بسهمه فيقتلني قال يبوء بإثمه وإثمك ويكون من أصحاب النار» ففي هذا الحديث أنه نهي عن القتال في الفتنة بل أمر بما يتعذر معه القتال من الاعتزال أو إفساد السلاح الذي يقاتل به وقد دخل في ذلك المكره وغيره ثم بيَّن أن المكره إذا قتل ظلمًا كان القاتل قد باء بإثمه وإثم المقتول كما قال تعالى في قصة ابني آدم عن المظلوم { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ } (1) ومعلوم أن الإنسان إذا صال صائل على نفسه جاز له الدفع بالسنة والإجماع وإنما تنازعوا هل يجب عليه الدفع بالقتال على قولين هما روايتان عن أحمد إحداهما: يجب الدفع عن نفسه ولو لم يحضر الصف والثانية: يجوز له الدفع عن نفسه وأما الابتداء بالقتال في الفتنة فلا يجوز بلا ريب والمقصود أنه إذا كان المكره على القتال في الفتنة ليس له أن يقاتل بل عليه إفساد سلاحه وأن يصبر حتى يقتل مظلومًا فكيف بالمكره على قتال المسلمين مع الطائفة الخارجة عن شرائع الإسلام كمانعي الزكاة والمرتدين ونحوهم فلا ريب أن هذا يجب عليه إذا أكره على الحضور أن لا يقاتل وإن قتله المسلمون كما لو أكرهه الكفار على حضور صفهم ليقاتل المسلمين وكما لو أكره رجل رجلاً على قتل مسلم معصوم فإنه لا يجوز له قتله باتفاق المسلمين وإن أكرهه بالقتل فإنه ليس حفظ نفسه بقتل ذلك المعصوم أولي من العكس فليس له أن يظلم غيره فيقتله لئلا يُقتل هو بل إذا فعل ذلك كان القود على المكرَه والمكرِه جميعًا عند أكثر العلماء كأحمد ومالك والشافعي في أحد قوليه وفي الآخر يجب القود على المكرِه فقط كقول أبي حنيفة وقيل القود على المكرَه المباشر كما روى ذلك عن زفر وأبو يوسف لوجوب الضمان والدية بدل القود ولم يوجبه وقد روى مسلم في صحيحه عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في قصة أصحاب الأخدود وفيها أن الغلام أمر
__________
(1) المائدة، آية: 29.(2/189)
بقتل نفسه لأجل مصلحة ظهور الدين ولهذا جوَّز الأئمة الأربعة أن ينغمس المسلم في صف الكفار وإن غلب على ظنه أنهم يقتلونه إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين فإن كان الرجل يفعل ما يعتقد أنه يقتل به لأجل مصلحة الجهاد مع أن قتله نفسه أعظم من قتله لغيره كان ما يفضي إلى قتل غيره لأجل مصلحة الدين التي لا تحصل إلا بذلك ودفع ضرر العدو المفسد للدين والدنيا الذي لا يندفع إلا بذلك أولي وإذا كانت السنة والإجماع متفقين على أن الصائل المسلم إذا لم يندفع صوله إلا بالقتل قتل وإن كان المال الذي يأخذه قيراط من دينار كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح «من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون حرمه فهو شهيد» فكيف بقتال هؤلاء الخارجين عن شرائع الإسلام المحاربين لله ورسوله الذين صولهم وبغيهم أقل ما فيهم فإن قتال المعتدين الصائلين ثابت بالسنة والإجماع وهؤلاء معتدون صائلون على المسلمين في أنفسهم وأموالهم وحرمهم ودينهم وكل من هذه يبيح قتال الصائل عليها ومن قتل دونها فهو شهيد فكيف بمن قاتل عليها كلها وهم من شر البغاة المتأولين الظالمين لكن من زعم أنهم يقاتلون كما تقاتل البغاة المتأولون فقد أخطأ خطأ قبيحًا وضلَّ ضلالاً بعيدًا فإن أقل ما في البغاة المتأولين أن يكون لهم تأويل سائغ خرجوا به ولهذا قالوا إن الإمام يراسلهم فإن ذكروا شبهة بينها وإن ذكروا مظلمة أزالها فأي شبهة لهؤلاء المحاربين لله ورسوله الساعين في الأرض فسادًا الخارجين عن شرائع الدين ولا ريب أنهم لا يقولون أنهم أقوم بدين الإسلام علمًا وعملاً من هذه الطائفة بل هم مع دعواهم الإسلام يعلمون أن هذه الطائفة أعلم بالإسلام منهم وأتبع له منهم وكل من تحت أديم السماء من مسلم وكافر يعلم ذلك وهم مع ذلك ينذرون المسلمين بالقتال فامتنع أن تكون لهم شبهة بينة يستحلون بها قتال المسلمين كيف وهم قد سبوا غالب حريم الرعية الذين(2/190)
لم يقاتلوهم حتى إن الناس قد رأوهم يعظمون البقعة ويأخذون ما فيها من الأموال ويعظمون الرجل ويتبركون به ويسلبونه ما عليه من الثياب ويسبون حريمه ويعاقبونه بأنواع العقوبات التي لا يعاقب بها إلا أظلم الناس وأفجرهم والمتأول تأويلاً دينيًا لا يعاقب إلا من يراه عاصيًا للدين وهم يعظمون من يعاقبونه في الدين ويقولون أنه أطوع لله منهم فأي تأويل بقي لهم ثم لو قدر أنهم متأولون لم يكن تأويلهم سائغًا بل تأويل الخوارج ومانعي الزكاة أوجه من تأويلهم أما الخوارج فإنهم ادعوا اتباع القرآن وأن ما خالفه من السنة لا يجوز العمل به وأما مانعوا الزكاة فقد ذكروا أنهم قالوا أن الله قال لنبيه { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } (1) وهذا خطاب لنبيه فقط فليس علينا أن ندفعها لغيره فلم يكونوا يدفعونها لأبي بكر ولا يخرجونها له والخوارج لهم علم وعبادة وللعلماء معهم مناظرات كمناظرتهم مع الرافضة والجهمية وأما هؤلاء فلا يناظرون على قتال المسلمين فلو كانوا متأولين لم يكن لهم تأويل يقوله ذو عقل وقد خاطبني بعضهم بأن قال ملكنا ملك بن ملك بن ملك إلى سبعة أجداد وملككم ابن مولي. فقلت له: آباء ذلك الملك كلهم كفار ولا فخر بالكافر بل المملوك المسلم خير من الملك الكافر قال الله تعالى: { وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ } (2) فهذه وأمثالها حججهم ومعلوم أن من كان مسلمًا وجب عليه أن يطيع المسلم ولو كان عبدًا ولا يطيع الكافر وقد ثبت في الصحيح عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «اسمعوا وأطيعوا وإن أمِّرَ عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله». ودينُ الإسلام إنما يُفضل الإنسان بإيمانه وتقواه لا بآبائه ولو كانوا من بني هاشم أهل بيت النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فإنه خلق الجنة لمن أطاعه وإن كان عبدًا حبشيًا وخلق النار لمن عصاه ولو كان
__________
(1) التوبة، آية: 103.
(2) البقرة، آية: 221.(2/191)
شريفًا قرشيًا. وقد قال تعالى: { يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } (1) وفي السنة عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا فضلَ لعربي على عجمي ولا لعجميٍ على عربيٍ ولا لأسود على أبيض ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى الناس من آدم وآدم من تراب» وفي الصحيحين عنه أنه قال لقبيلة قريبة منه: «إن آل أبي فلان ليسوا بأوليائي إنما وليَّ اللهُ وصالحُ المؤمنين»، فأخبر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن موالاته ليست بالقرابة والنسب بل بالإيمان والتقوى فإذا كان هذا في قرابة الرسول فكيف بقرابة جنكيز خان الكافر المشرك وقد أجمع المسلمون على أن من كان أعظم إيمانًا وتقوى كان أفضل ممن هو دونه في الإيمان والتقوى وإن كان الأول أسود حبشيًا والثاني علويًا أو عباسيًا». أهـ.
وفي نفس الكتاب(2) في أجناد يمتنعون عن قتال التتار ويقولون أن فيهم من يخرج مكرهًا معهم وإذا هرب أحدهم هل يتبع أم لا؟
ويقول(3) شيخ الإسلام: «إذا دخل التتار الشام ونهبوا أموال النصاري والمسلمين ثم نهب المسلمون التتار وسلبوا القتلى فهل المأخوذ من أموالهم وسلبهم حلال أم لا ؟
الجواب: كل ما أخذ من التتار يُخمَّس ويباح الانتفاع به».
__________
(1) الحجرات، آية: 13.
(2) الجواب علي نحو ما تم نقله ولكن باختصار ويمكن الرجوع إليه في الفتاوي الكبرى، ص353 حتى ص 358، مسألة 516.
(3) الفتاوي الكبري، ج4، ص 332، مسألة 513.(2/192)
ويقول(1) في قوم ذوي شوكة مقيمي بأرض وهم لا يصلون الصلوات المكتوبة وليس عندهم مسجد ولا أذان ولا إقامة وإن صلى أحدهم صلى الصلاة غير المشروعة ولا يؤدون الزكاة مع كثرة أموالهم من المواشي والزروع وهم يقتتلون فيقتل بعضهم بعضًا أو ينهبون مال بعضهم ويقتلون الأطفال وقد لا يمتنعون عن سفك الدماء وأخذ الأموال لا في شهر رمضان ولا في الأشهر الحرم ولا غيرها وإذا أسر بعضهم بعضًا باعوا أسراهم للإفرنج ويبيعون رقيقهم من الذكور والإناث للإفرنج علانية ويسوقونهم كسوق الدواب ويتزوجون المرأة في عدتها ولا يورثون النساء ولا ينقادون لحاكم المسلمين وإذا دعى أحدهم إلى الشرع قال: أنا الشرع إلى غير ذلك فهل يجوز قتالهم والحالة هذه وكيف الطريقة إلى دخولهم في الإسلام مع ما ذكر. الجواب: نعم يجوز بل يجب بإجماع المسلمين قتال هؤلاء وأمثالهم من كل طائفة ممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة مثل الطائفة الممتنعة عن الصلوات الخمس أو عن أداء الزكاة المفروضة إلى الأصناف الثمانية التي سماها الله تعالى في كتابه وعن صيام شهر رمضان أو الذين لا يمتنعون عن سفك دماء المسلمين وأخذ أموالهم أو لا يتحاكمون بينهم بالشرع الذي بعث الله به رسوله كما قال أبو بكر الصديق وسائر الصحابة - رضي الله عنهم - في مانع الزكاة وكما قاتل علىٌّ بن أبي طالب وأصحاب النبيّ - صلى الله عليه وسلم - الخوارج الذين قال فيهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرؤن القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة» وذلك بقوله تعالى: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } (2)، ويقول تعالى: {
__________
(1) المصدر السابق، ص 234، مسألة 401.
(2) الأنفال، آية: 39.(2/193)
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ - فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } (1) والربا آخر ما حرَّمه الله ورسوله فكيف بما هو أعظم تحريمًا ويدعون قبل القتال إلى التزام شرائع الإسلام فإن التزموها استوثق منهم ولم يكتف منهم بمجرد الكلام كما فعل أبو بكر بمن قاتلهم بعد أن أذلهم وقال اختاروا إما الحرب المجلية وإما السلم المخزية وقال أنا خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا هذه الحرب المجلية قد عرفناها فما السلم المخزية قال تشهدون أن قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار وننزع منكم الكراع يعني الخيل والسلاح حتى يري خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون أمرًا بعد. فهكذا الواجب في مثل هؤلاء إذا أظهروا الطاعة يرسل إليهم من يعلمهم شرائع الإسلام ويقيم بهم الصلوات وما ينتفعون به من شرائع الإسلام وإما أن يستخدم بعض المطيعين منهم في جند المسلمين ويجعلهم في جماعة المسلمين وإما بأن ينزع منهم السلاح الذي يقاتلون به ويمنعون من ركوب الخيل وإما أنهم يضعونه حتى يستقيموا وإما أن يقتل الممتنع منهم التزام الشريعة. وإن لم يستجيبوا لله ولرسوله وجب قتالهم حتى يلتزموا بشرائع الإسلام الظاهرة المتواترة وهذا متفق عليه بين علماء المسلمين والله أعلم.
ويقول شيخ الإسلام(2): «في البغاة والخوارج هل هى ألفاظ مترادفة بمعني واحد أم بينهما فرق وهل فرقت الشريعة بينهما في الأحكام الجارية عليهما أم لا وإذا ادعي مدع أن الأئمة اجتمعت على أن لا فرق بينهم إلا في الاسم وخالفه مخالف مستدلاً بأن أمير المؤمنين عليًا - رضي الله عنه - فرَّق بين أهل الشام وأهل النهروان فهل الحق مع المدعي أو مع مخالفه؟
الجواب:
__________
(1) البقرة، الآيتان: 278-279.
(2) الفتاوى الكبرى، مكتبة المدنى، ج4، مسألة 411، ، ص 283.(2/194)
الحمد لله أما قول القائل أن الأئمة اجتمعت على أن لا فرق بينهما إلا في الاسم فدعوى باطلة ومدعيها مجازف فإن نفي الفرق بينهما إنما هو قول طائفة من أهل العلم من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم مثل كثير من المصنفين في قتال أهل البغي فإنهم قد يجعلون قتال أبي بكر لمانعي الزكاة وقتال على الخوارج وقتاله لأهل الجمل وصفين إلى غير ذلك من قتال المنتسبين إلى الإسلام من باب قتال أهل البغي ثم مع ذلك فهم متفقون على أن قتل طلحة والزبير ونحوهما من الصحابة من أهل العدالة لايجوز أن يحكم عليهم بكفر ولا فسق بل مجتهدون إما مصيبون وإما مخطئون وذنوبهم مغفورة لهم ويطلقون القول بأن البغاة ليسوا فساقًا فإذا جعل هؤلاء وأولئك سواء لزم أن تكون الخوارج وسائر من يقاتلهم من أهل الاجتهاد الباقين على العدالة ولهذا قال طائفة بفسق البغاة ولكن أهل السنة متفقون على عدالة الصحابة وأما جمهور أهل العلم فيفرقون بين الخوارج المارقين وبين أهل الجمل وصفين وغير أهل الجمل وصفين ممن يعد من البغاة المتأولين وهذا هو المعروف عن الصحابة وعليه عامة أهل الحديث والفقهاء والمتكلمين وعليه نصوص أكثر الأئمة وأتباعهم من أصحاب مالك وأحمد والشافعي وغيرهم وذلك أنه قد ثبت في الصحيح عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولي الطائفتين بالحق» وهذا الحديث يتضمن ذكر الطوائف الثلاثة ويبين أن المارقين نوع ثالث ليسوا من جنس أولئك فإن طائفة عليّ أولي بالحق من طائفة معاوية وقال في حق الخوارج المارقين «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة» وفي لفظ «لو يعلم الذين يقاتلونهم ما لهم على لسان نبيهم لنكلوا عن العمل» وقد روى مسلم(2/195)
أحاديثهم في الصحيح من عشرة أوجه وروى هذا البخاري من غير وجه ورواه أهل السنن والمسانيد وهي مستفيضة عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - متلقاة بالقبول أجمع عليها علماء الأمة من الصحابة ومن اتبعهم واتفق الصحابة على قتال هؤلاء الخوارج وأما الجمل وصفين فكانت منهم طائفة قاتلت مع هذا الجانب وطائفة قاتلت مع هذا الجانب وأكثر أكابر الصحابة لم يقاتلوا لا مع هذا الجانب ولا مع هذا الجانب واستدل التاركون للقتال بالنصوص الكثيرة عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في ترك القتال في الفتنة وبينوا أن هذا قتال فتنة وكان علىٌّ - رضي الله عنه - مسرورًا لقتال الخوارج ويروي الحديث عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في الأمر بقتالهم وأما قتال صفين فذكر أنه ليس معه فيه نص وإنما هو رأي رآه وكان أحيانًا يحمد من لم ير القتال وقد ثبت في الصحيح عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في الحسن «أن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» فقد مدح الحسن وأثنى عليه بإصلاح الله به بين الطائفتين أصحاب علىٍّ وأصحاب معاوية وهذا يبين أن ترك القتال كان أحسن وأنه لم يكن القتال واجبًا ولا مستحبًا وقتال الخوارج قد ثبت عنه أنه أمر به وحضَّ عليه فكيف يسوي بين ما أمر به وحضَّ عليه وبين ما مدح تاركه وأثنى عليه فمن سوى بين قتال الصحابة الذين اقتتلوا بالجمل وصفين وبين قتال ذي الخويصرة التميمي وأمثاله من الخوارج المارقين والحرورية المعتدين كان قوله من جنس أقوال أهل الجهل والظلم المبين ولزم صاحب هذا القول أن يصير من جنس الرافضة أو المعتزلة الذين يكفرون أو يفسقون المقاتلين بالجمل وصفين كما يقال مثل ذلك في الخوارج المارقين فقد اختلف السلف والأئمة في كفرهم على قولين مشهورين مع اتفاقهم على الثناء على الصحابة المقتتلين بالجمل وصفين والإمساك عما شجر بينهم فكيف نشبه هذا بهذا وأيضًا فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أمر(2/196)
بقتال الخوارج قبل أن يقاتلوا وأما أهل البغي فإن الله تعالى قال فيهم: { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (1) فلم يأمر بقتال الباغية ابتداءً فالقتال ابتداءً ليس مأمورًا به ولكن إذا اقتتلوا أمر بالإصلاح بينهم ثم إن بغت الواحدة قوتلت ولهذا قال مَنْ قال من الفقهاء أن البغاة لا يُبتدأون بقتالهم حتي يقاتلوا وأما الخوارج فقد قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيهم: «أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة» وقال: «لئن أدركتهم لأقتلنهم قتلَ عادٍ» وكذلك مانعوا الزكاة فإن الصدِّيق والصحابة ابتدؤا قتالهم وقال الصديق والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله لقاتلتهم عليه وهم يقاتلون إذا ما امتنعوا من أداء الواجبات وإن أقروا بالوجوب ثم تنازع الفقهاء في كفر من منعها وقاتل الإمام عليها مع إقراره بالوجوب على قولين هما روايتان عن أحمد كالروايتين عنه في تكفير الخوارج وأما أهل البغي المجرد فلا يكفرون باتفاق أئمة الدين فإن القرآن قد نصَّ على إيمانهم وأخوتهم مع وجود الاقتتال والبغي والله أعلم». أهـ.
__________
(1) الحجرات، آية: 9.(2/197)
ويقول(1): «والأفضل ترك قتال أهل البغي حتي يبدأوا الإمام وقاله مالك وله قتل الخوارج ابتداء أو متممة تخريجهم وجمهور العلماء يفرقون بين الخوارج والبغاة المتأولين وهو المعروف عن الصحابة وأكثر المصنفين لقتال أهل البغي يري القتال من ناحية عليّ. ومنهم من يرى الإمساك وهو المشهور من قول أهل المدينة وأهل الحديث مع رؤيتهم لقتال من خرج عن الشريعة كالحرورية ونحوهم وأنه يجب والأخبار توافق هذا فاتبعوا النص الصحيح والقياس المستقيم وعلىٌّ كان أقرب إلى الصواب من معاوية ومن استحل أذي من أمره ونهاه بتأويل فكالمبتدع ونحوه يسقط بتوبته حق الله تعالى وحق العبد ـ واحتج أبو العباس ـ لذلك بما أتلفه البغاة لأنه من الجهاد الذي يجب الأجر فيه على الله تعالى وقتال التتار ولو كانوا مسلمين هو وقتال الصديق - رضي الله عنه - مانعي الزكاة ويأخذ مالهم وذريتهم وكذا المقفز إليهم ولو ادعى إكراهًا ومن أجهز على جريح لم يأثم ولو تشهد ومَنْ أخذ منهم شيئًا خُمِّس وبقيته له والرافضة الجبلية يجوز أخذ أموالهم وسبى حريمهم يخرج على تكفيرهم قال أصحابنا وإن اقتتلت طائفتان لعصبية أو طلب رئاسة فهما ظالمتان ضامنتان فأوجبوا الضمان على مجموع الطائفة وإن لم يعلم عين المتلف وإن تقاتلا تقاصا لأن المباشر والمعين سواء عند الجمهور وإن جهل قدر ما نهبه كل طائفة من الأخري تساويا كمن جهل قدر الحرام المختلط بمال فإنه يخرج النصف والباقي له ومن دخل لصلح فقتل فجهل قاتله ضمنه الطائفتان وأجمع العلماء على أن كل طائفة ممتنعة عن شريعة متواترة من شرائع الإسلام فإنه يجب قتالها حتي يكون الدين كله لله كالمحاربين وأولى». أهـ.
__________
(1) الفتاوي الكبري، ج4، ص 599.(2/198)
ويقول عن دار ماردين: «هى قسم ثالث يعامل فيه المسلم بما يستحقه ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه كما يقول إن دماء المسلمين محرمة وإعانة الخارجين عن شريعة دين الإسلام محرمة ومساعدتهم لعدو المسلمين بالأنفس والأموال محرمة عليهم ويجب عليهم الامتناع عن ذلك وإذا لم يمكن الامتناع إلا بالهجرة تعينت». انتهى باختصار.
حكم المتأولين من النصيرية(1):
... جاء في ”الفتاوى الكبرى“ لابن تيمية - رضي الله عنه -: «مسألة في النصيرية القائلين باستحلال الخمر وتناسخ الأرواح وقدم العالم وإنكار وجود البعث والنشور والجنة والنار في غير الحياة وبأن الصلوات الخمس عبارة عن أسماء وهي علىٌّ وحسن وحسين ومحسن وفاطمة فذكر هذه الأسماء الخمسة تجزئهم عن الغسل من الجنابة والوضوء وبقية شروط الصلوات الخمس وواجباتها وبأن الصيام عندهم عبارة عن اسم ثلاثين رجلاً وثلاثين امرأة يعدونهم في كتبهم ويضيق هذا الموضع عن إيرادهم وأن إلههم خلق السموات والأرض وهو علىٌّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - فهو عندهم الإله في السماء والإمام في الأرض فكانت الحملة في ظهور اللاهوت بهذا الناسوت على رأيهم أنه يواسي خلقه وعبيده ويعلمهم كيف يعبدونه ويعرفونه وبأن النصيري عندهم لا يصير نصيرًا مؤمنًا يجالسونه ويشربون معه ويطلعونه على أسرارهم ويزوجونه من نسائهم حتي يخاطبه معلمه وحقيقة الخطاب عندهم أن يحلفوه على كتمان دينه ومعرفة مشايخه وأكابر أهل مذهبه وأن لا ينصح مسلمًا ولا غيره إلا من كان من أهل دينه وعلي أن يعرف إمامه دونه بظهوره في كوارة وإداوه فيعرف انتقال الاسم والمعنى في كل حين وزمان فالاسم عندهم في أول القياس آدم والمعنى شيث والاسم هو يعقوب والمعنى هو يوسف ويستدلون على هذه الصورة ـ كما يزعمون ـ بها في القرآن العزيز حكاية عن يعقوب ويوسف عليهما السلام فيقولون أما يعقوب فإنه كان الاسم فما قدر أن
__________
(1) الفتاوى الكبرى، ج4، ص 246، مسألة 408.(2/199)
يجاوز منزلته فقال: { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } (1) وأما يوسف فكان هو المعنى المطلوب فقال: { َلاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْم } (2) فلم يعلق الأمر بغيره لأنه علم أنه هو الإله المتصرف ويجعلون موسى هو الاسم ويوشع هو المعنى ويقولون يوشع ردت له الشمس لما أمرها فأطاعت أمره وهل ترد الشمس إلا لربها ويجعلون سليمان هو الاسم وآصف هو المعنى ويقولون سليمان عجز عن إحضار عرش بلقيس وقدر عليه آصف لأن سليمان كان الصورة وآصف كان المعني القادر المقتدر ويعدون الأنبياء والمرسلين واحدًا واحدًا على هذا النمط إلى زمان رسول الله فيقولون محمد هو الاسم وعلىٌّ هو المعنى ويوصلون العدد على هذا الترتيب في كل زمان إلى وقتنا هذا. فمنهم حقيقة الخطاب والدين عندهم أن يُعلم أن عليًا هو الربُّ ومحمدٌّ هو الحجاب وسلمان هو الباب فإن ذلك على الترتيب لم يزل ولا يزال وكذلك الخمسة الأيتام والاثني عشر نقيبًا وأسماؤهم معروفة عندهم في كتبهم الخبيثة فهم لا يزالون يظهرون مع الربِّ والحجاب والباب في كل كور ودور أبدًا سرمدًا وأن إبليس الأبالسة عمر بن الخطاب واثنين في رتبة الأبالسة أبو بكر ثم عثمان - رضي الله عنهم - أجمعين ونزَّههم وأعلى رتبتهم على أقوال الملحدين وانتحال الغالين المفسدين فلا يزالون في كل وقت موجودين حسبما ذكر ولمذاهبهم الفاسدة سعة وتفاصيل ترجع إلى هذه الأصول وهذه الطائفة الملعونة استولت على جانب كبير من الشام فهم معروفون مشهورون متظاهرون بهذا المذهب وقد حقق أحوالهم كل من خالطهم وعرفهم من عقلاء المسلمين وعامة الناس أيضًا في هذا الزمان لأن أحوالهم كانت مستورة عن كثير من الناس وقت استيلاء الإفرنج المخذولين على البلاد الساحلية فلما كانت أيام الإسلام انكشفت حالهم وكثر ضلالهم والابتلاء بهم كثير جدًا فهل يجوز للمسلم أن يزوجهم أو
__________
(1) يوسف، آية: 98.
(2) يوسف، آية: 92.(2/200)
يتزوج منهم وهل يحل لهم أكل ذبائحهم والحالة هذه وأكل الجبن المعمول من ذبيحتهم وما حكم أوانيهم وملابسهم وهل يجوز دفنهم بين المسلمين أم لا وهل يجوز استخدامهم في ثغور المسلمين وتسليمها إليهم أم يجب على وليّ الأمر قطعهم واستخدام غيرهم من الرجال المسلمين الأكفاء، وهل يأثم إذا أخر طردهم أم يجوز له التمهل مع أن في عزمه ذلك فإذا استخدمهم ثم قطعهم أو لم يقطعهم هل يجوز له صرف أموال بيت المسلمين عليهم وإذا صرفها وتأخر لبعضهم بقية من معلومه المسمى فأخره ولي الأمر عنه وصرفه على غيره من المسلمين أو المستحق أو أرصده لذلك هل يجوز له فعل هذه الصور أم يجب عليه وهل دماء النصيرية المذكورين مباحة وأموالهم فيء حلال أم لا؟ وإذا جاهدهم وليُّ الأمر باحتمال باطلهم وقطعهم عن حصون المسلمين وتحذير أهل الإسلام من مناكحتهم وأكل ذبائحهم وأمرهم بالصوم والصلاة ومنعهم من إظهار دينهم الباطل وهم يلونه من الكفار هل ذلك أفضل وأكثر أجرًا من النصاري والترصد لقتال التتار في بلادهم وهم بلاد سيبس وبلاد الإفرنج على أهلها أم هذا أفضل وهل يعد مجاهد النصيرية المذكورين مرابطًا ويكون أجره كأجر المرابط في الثغور على ساحل البحر خشية قصد الإفرنج أم هذا أكثر أجرًا وهل يجب على من عرف المذكورين ومذاهبهم أن يشهر أمرهم ويساعدهم على إبطال باطلهم وإظهار الإسلام ولعل الله تعالي أن يجعل ذريتهم وأولادهم مسلمين أم يجوز له التغافل والإهمال وما أجر المجتهد على ذلك والمجاهد فيه والمرابط له والعازم عليه وأبسطوا القول في ذلك مثابين.
الجواب:(2/201)
الحمد لله هؤلاء القوم الموصوفون المسمون بالنصيرية وسائر أصناف القرامطة الباطنية أكفر من اليهود والنصارى بل وأكفر من كثير من المشركين ضررهم على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أعظم ضررًا من الكفار المحاربين مثل كفار الترك والإفرنج وغيرهم فإن هؤلاء يتظاهرون عند جهال المسلمين بالتشيع وموالاة أهل البيت وهم في الحقيقة لا يؤمنون بالله ولا برسوله ولا بكتابه ولا بأمر ولا نهى ولا ثواب ولا عقاب ولا جنة ولا نار ولا بأحد من المرسلين مثل محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا بملة من الملل السالفة بل يأخذون كلام الله ورسوله المعروف عند المسلمين يتأولونه على أمور يغيرونها يدعون أنها من علم الباطن من جنس ما ذكره السائل ومن غير هذا الجنس فإنهم ليس لهم حد محدود فيما يدعونه من الاتحاد في أسماء الله وآياته وتحريف كلام الله ورسوله عن مواضعه إذ مقصودهم إنكار الإيمان وشرائع الإسلام بكل طريق مع الباطن بأن لهذه الأمور حقائق يعرفونها من جنس ما ذكر السائل ومن جنس قولهم أن الصلوات الخمس معرفة أسرارهم والصيام المفروض كتمان أسرارهم وحج البيت العتيق زيارة شيوخهم وأن يدا أبي لهب أبي بكر وعمر وأن النبأ العظيم والإمام المبين علىّ بن أبي طالب ولهم في معاداة الإسلام وأهله وقائع مشهورة وكتب مصنفة وإذا كانت لهم مكنة سفكوا دماء المسلمين كما قتلوا الحجاج وألقوهم في زمزم وأخذوا مرة الحجر الأسود فبقى معهم مدة وقتلوا من علماء المسلمين ومشايخهم وأمرائهم وجندهم من لا يحصي عدده إلا الله وصنَّفوا كتبًا كثيرة فيما ذكره السائل وغيره وصنَّف علماء المسلمين كتبًا في كشف أسرارهم وهتك أستارهم وبينوا فيها ما هم عليه من الكفر والزندقة والإلحاد الذين هم فيه أكفر من اليهود والنصارى ومن براهمة الهند الذين يعبدون الأصنام وما ذكره السائل في وصفهم قليل من الكثير الذي يعرفه العلماء من وصفهم. ومن المعلوم عندهم أن السواحل الشامية إنما استولت(2/202)
عليها النصاري من جهتهم وهم دائمًا مع كل عدو للمسلمين فهم مع النصاري على المسلمين ومن أعظم المصائب عندهم فتح المسلمين للساحل وانقهار النصارى بل ومن أعظم المصائب عندهم انتصار المسلمين على التتار ومن أعظم أعيادهم إذا استولي والعياذ بالله النصارى على ثغور المسلمين فإن ثغور المسلمين مازالت بأيدي المسلمين حتي جزيرة قبرص فتحها المسلمون في خلافة أمير المؤمنين عثمان ابن عفان فتحها معاوية بن أبي سفيان وفي(1) أثناء المائة الرابعة فإن هؤلاء العادين لله ورسوله كثروا حينئذ بالسواحل وغيرها واستولي النصاري على الساحل ثم بسببهم استولوا على القدس وغيره فإن أحوالهم كانت من أعظم الأسباب في ذلك ثم لما أقام الله ملوك المسلمين المجاهدين في سبيل الله كنور الدين الشهيد وصلاح الدين وأتباعهما وفتحوا السواحل من النصارى وممن كان بها منهم وفتحوا أيضًا أرض مصر فإنهم كانوا مستولين عليها نحو مائتي سنة واتفقوا هم والنصاري فجاهدهم المسلمون حتي فتحوا البلاد ومن ذلك التاريخ انتشرت دعوة الإسلام بالبلاد المصرية والشامية ثم إن التتار إنما دخلوا ديار الإسلام وقتلوا خليفة بغداد وغيره من ملوك المسلمين بمعاونتهم ومؤازرتهم فإن منجم هلاوون الذي كان وزيره النصير الطوسي كان وزيرًا لهم وهو الذي أمره بقتل الخليفة وبولاية هؤلاء ولهم ألقاب معروفة عند المسلمين تارة يسمون الملاحدة وتارة يسمون القرامطة وتارة يسمون الباطنية وتارة يسمون الإسماعيلية وتارة يسمون النصيرية وتارة يسمون الحرمية وتارة يسمون المحمرة وهذه الأسماء منها ما يعمهم ومنها ما يخص بعض أصنافهم كما أن اسم الإيمان والإسلام يعمّ المسلمين ولبعضهم اسم يخصهم إما لسبب وإما لمذهب وإما لبلد وإما لغير ذلك وشرح مقاصدهم يطول كما قال العلماء فهم ظاهر مذهبهم الرفض وباطنه الكفر المحض وحقيقة أمرهم أنهم لا يؤمنون بشيء
__________
(1) تم إضافة (الواو) لاستقامة المعنى وهي غير موجودة بالأصل.(2/203)
من الأنبياء والمرسلين لا بنوح ولا بإبراهيم ولا بموسى ولا عيسى ولا بشيء من كتب الله المنزلة لا التوراة ولا الإنجيل ولا القرآن ولايقرون أن للعالم خالقًا خلقه ولا بأن له دينًا أمر به ولا بأن له دارًا يجزي الناس فيها على أعمالهم غير هذه الدار وهم تارة يبنون قولهم على مذهب المتفلسفة الطبيعيين وتارة يبنونها على قول المجوس الذين يعبدون النور ويصبون إلى ذلك الرفض ويحتجون لذلك من كلام النبوات إما بلفظ مكذوب ينقلونه كما ينقلون عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال أول ما خلق الله العقل والحديث موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث ولفظه أول ما خلق الله العقل فقال اقبل فأقبل فقال له أدبر فأدبر فيصححون لفظه ويقولون أول ما خلق الله العقل ليوافق قول المتفلسفة أتباع أرسطو في قوله أول الصادرات عن واجب الوجود هو العقل وإما بلفظ ثابت عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيحرفونه عن مواضعه كما يفعل أصحاب رسائل إخوان الصفا ونحوهم فإنهم من أئمتهم وقد دخل كثير من باطلهم على كثير من المسلمين وراج عليهم حتي صار في كتب طوائف من المنتسبين إلى العلم والدين وإن كانوا لا يوافقونهم على أصل كفرهم فإن هؤلاء لهم في إظهار دعوتهم الملعونة التي يسمونها الدعوة الهادية درجات متعددة ويسمون النهاية البلاغ الأكبر والناموس الأعظم ومضمون البلاغ الأكبر جحد الخالق والاستهزاء به وبمن يُقر به حتي يكتب أحدهم اسم الله في أسفل رجله وفيه أيضًا جحد شرائعه ودينه وجحد ما جاء به الأنبياء ودعوي أنهم كانوا من جنسهم طالبين الرئاسة فمنهم من أحسن في طلبها ومنهم من أساء في طلبها حتي قتل ويجعلون محمدًا وموسي من القسم الأول ويجعلون المسيح من القسم الثاني وفيها من الاستهزاء بالصلاة والزكاة والصوم والحج ومن تحليل نكاح ذوات المحارم وسائر الفواحش ما يطول وضعه ولهم إشارات ومخاطبات يعرف بها بعضهم بعضًا وهم إذا كانوا في بلاد المسلمين التي يكثر فيها(2/204)
أهل الإيمان فقد يخفون على من لا يعرفهم وأما إذا كثروا فإنه يعرفهم عامة الناس فضلاً عن خاصتهم وقد اتفق علماء المسلمين على أن مثل هؤلاء لا تجوز مناكحتهم ولا يجوز أن يُنكح موليته منهم ولا يتزوج منهم امرأة ولا تباح ذبائحهم وأما الجبن المعمول بأنفحتهم ففيه قولان مشهوران للعلماء كسائر أنفحة الميتة وكأنفحة ذبيحة المجوس الذين يقال عنهم أنهم يذكون فمذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدي الروايتين أنه يحل هذا الجبن لأن أنفحة الميتة على هذا القول لا تموت بموت البهيمة وملاقاة الوعاء النجس في الباطن لا تنجس ومذهب مالك والشافعي وأحمد في الرواية الأخري أن الجبن نجس لأن الأنفحة عند هؤلاء نجسة لأن لبن الميتة وأنفحتها عندهم نجس ومن لا تؤكل ذبيحته فذبيحته كالميتة وكل من أصحاب القولين يحتج بآثار ينقلها عن الصحابة فأصحاب القول الأول نقلوا أنهم أكلوا جبن المجوس وأصحاب القول الثاني نقلوا أنهم إنما أكلوا ما كانوا يظنونه من جبن النصاري فهذه مسألة اجتهاد للمقلد أن يقلد من يفتي بأحد القولين وأما أوانيهم وملابسهم فكأواني المجوس على ما عرف من مذاهب الأئمة ولا يجوز دفنهم في مقابر المسلمين ولا يصلي عليهم فإن الله نهي عن الصلاة على المنافقين كعبد الله ابن أبيّ بن سلول ونحوه وكانوا يتظاهرون بالصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد مع المسلمين لا يظهرون مقالة تخالف دين الإسلام لكن يسرون ذلك فقال تعالي: { وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُون } (1) فكيف بهؤلاء الذين هم مع الزندقة والنفاق لا يظهرون إلا الكفر والإلحاد. وأما استخدام مثل هؤلاء في ثغور المسلمين وحصونهم أو جنودهم فهو من الكبائر بمنزلة من يستخدم الذئاب لرعي الغنم فإنهم من أغش الناس للمسلمين ولولاة الأمور وأحرص الناس على فساد الملة
__________
(1) التوبة، آية: 84.(2/205)
والدولة وهم شرٌّ من المخامر الذي يكون في العسكر فإن المخامر قد يكون له غرض إما مع أمير العسكر وإما مع العدو وهؤلاء غرضهم مع الملة ونبيها ودينها وملوكها وعلمائها وعامتها وخاصتها وهم أحرص الناس على تسليم الحصون إلى عدو المسلمين وعلي إفساد الجند على وليّ الأمر وإخراجهم عن طاعتهم والواجب على ولاة الأمور قطعهم عن دواوين المقاتلة ولا يستخدمهم في ثغر ولا في غير ثغر وضررهم في الثغر أشد وأن يستخدموا بدلهم من يحتاج إلى استخدامه من الرجال المأمونين على دين الإسلام وعلي النصح لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم بل إذا كان وليُّ الأمر لا يستخدم من يغشه وإن كان مسلمًا فكيف يستخدم من يغش المسلمين ولا يجوز له تأخير هذا الواجب مع القدرة عليه بل أي وقت قدر على الاستبدال بهم وجب عليه ذلك لأنهم عوقدوا على ذلك فإن كان العقد صحيحًا وجب المسمي وإن كان فاسدًا وجبت أجرة المثل وإن لم يكن استخدامهم من جنس الإجارة اللازمة فهو من جنس الجعالة الجائزة لكن هؤلاء لا يجوز استخدامهم فالعقد عقد فاسد لا يستحقون إلا قيمة عملهم فإن لم يكونوا عملوا عملاً فلا شيء لهم لكن دماؤهم وأموالهم مباحة وإذا أظهروا التوبة ففي قبولها منهم نزاع بين العلماء فمن قبل توبتهم إذا التزموا شريعة الإسلام أقرَّ أموالهم إليهم ولم تنقل إلى ورثتهم من جنسهم فإن مالهم فيء لبيت المال لكن هؤلاء إذا أخذوا فإنهم يظهرون التوبة إذ أصل مذهبهم الاتقاء وكتمان أمرهم وفيهم من يعرف وفيهم من لا يعرف فالطريقة أن يحتاط في أمرهم فلا يتركون مجتمعين ولا يمكنون من حمل السلاح وأن لا يكونوا من المقاتلة ويلزمون شرائع الإسلام من الصلوات الخمس وقراءة القرآن ويترك بينهم من يعلمهم دين الإسلام ويحال بينهم وبين معلميهم فإن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - هو وسائر الصحابة لما ظهروا على أهل الردة وجاءوا إليه قال لهم الصديق اختاروا مني إمَّا الحرب الملجئة وإما السلم(2/206)
المخزية قالوا يا خليفة رسول الله هذه الحرب الملجئة قد عرفناها فما السلم المخزية قال تدون قتلانا ولا ندي قتلاكم وتشهدون أن قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار ونغنم ما أصبنا من أموالكم وتردون ما أصبتم من أموالنا وننزع منكم الحلقة والسلاح وتمنعون من ركوب الخيل وتتركون ترتعون أذناب الإبل حتي يُري الله خليفة رسول الله والمؤمنين أمرًا يعذرونكم به فوافقه الصحابة على ذلك إلا في تضمين قتلي المسلمين فإن عمر قال له: هؤلاء قتلوا في سبيل الله وأجورهم على الله يعني هم استشهدوا فلا دية لهم فاتفقوا على قول عمر في ذلك فهذا الذي اتفق عليه الصحابة هو مذهب أئمة العلماء والذي تنازعوا فيه تنازع فيه العلماء فمذهب أكثرهم أن من قتله المرتدون الممتنعون المحاربون لا يضمن كما اتفق عليه العلماء وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدي الروايتين ومذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخري هو القول الأول فهذا الذي فعله الصحابة بأولئك المرتدين بعد عودهم إلى الإسلام يفعل بمن أظهر الإسلام والتهمة ظاهرة فيه فيمنع من ركوب الخيل والسلاح والدروع التي تلبسها المقاتلة ولا يترك في الجند يهودي ولا نصراني ويلزمون شرائع الإسلام حتي يظهر ما يفعلونه من خير وشرٍّ ومن كان من أئمة ضلالهم وأظهر التوبة أخرج عنهم وسيِّر إلى بلاد المسلمين التي ليس لهم فيها ظهور فإما أن يهديه الله أو يموت على نفاقه من غير مضرة للمسلمين ولا ريب أن جهاد هؤلاء وإقامة الحدود عليهم من أعظم الطاعات وأكثر الواجبات وهو أفضل من جهاد من يقاتل المسلمين من المشركين وأهل الكتاب فإن جهاد هؤلاء حفظ لما فتح من بلاد الإسلام ولما دخل فيه من الخوارج. وجهاد من يقاتلنا من المشركين وأهل الكتاب من زيادة إظهار الدين. وحفظ الأصل مقدم على الفرع وأيضًا فضرر هؤلاء على المسلمين أعظم من ضرر أولئك بل ضرر هؤلاء في الدين على كثير من الناس أشد من ضرر المحاربين من المشركين وأهل الكتاب. ويجب(2/207)
على كل مسلم أن يقوم في ذلك بحسب ما يقدر عليه من الواجب فلا يحل لأحد أن يكتم ما يعرفه من أخبارهم بل يفشيها ويظهرها ليعرف المسلمون حقيقة حالهم ولا يحل لأحد أن يعاونهم على بقائهم في الجند المستخدمين ولا يحل لأحد السكوت عن القيام عليهم بما أمر الله به ورسوله فإن هذا من أعظم أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله وقد قال تعالي لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } (1) وهؤلاء لا يخرجون عن الكفار والمنافقين والمعاون على كفِّ شرهم وعلي هدايتهم بحسب الإمكان له من الأجر والثواب ما لا يعلمه إلا الله فإن المقصود هدايتهم كما قال تعالي: { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } (2)، قال أبو هريرة: «كنتم خيرَ الناسِ للنَّاسِ فيأتون بهم في السلاسل والقيود حتي يدخلونهم الإسلام». فالمقصود بالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هداية العباد لمصالح المعاش والمعاد بحسب الإمكان فمن هداه الله سعد في الدنيا والآخرة ومن لم يهتد كفَّ الله ضرره عن غيره ومعلوم أن الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أفضل الأعمال كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله» وفي الصحيحين عنه أنه قال: «إن في الجنة لمائة درجة ما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض أعدَّها اللهُ للمجاهدين في سبيله» وقال - صلى الله عليه وسلم -: «رباطُ يومٍ وليلة خيرٌ من صيام شهر وقيامه ومن مات مرابطًا مجاهدًا أجرى عليه عمله وأجرى عليه رزقه من الجنة وأمِنَ الفتن» والجهاد أفضلَ من الحجِّ والعمرة كما قال تعالي: { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
__________
(1) التوبة، آية: 73.
(2) آل عمران، آية: 110.(2/208)
وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ - الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ - يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ - خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } (1)». أهـ.
حكم المتأولين من الباطنية:
... يقول(2): «في المعز معد بن تميم الذي بنى القاهرة والقصرين هل كان شريفًا فاطميًا وهل كان هو وأولاده معصومين وأنهم أصحاب العلم الباطني وإن كانوا ليسوا أشرافًا فما الحجة على القول بذلك وإن كانوا على خلاف الشريعة فهل هم بغاة أم لا وما حكم من نقل ذلك عنهم من العلماء المعتمدين الذين يحتج بقولهم ولتبسطوا القول في ذلك.
الجواب:
__________
(1) التوبة، آيات: 19-23.
(2) الفتاوي الكبري، ج4، ص 283، مسألة (411)(2/209)
... الحمد لله أما القول بأنه هو أو أحد من أولاده أو نحوهم كانوا معصومين من الذنوب والخطأ كما يدعيه الرافضة في الاثنى عشر فهذا القول شرٌّ من قول الرافضة بكثير فإن الرافضة ادعت ذلك فيمن لا شك في إيمانه وتقواه بل فيمن لا يشك أنه من أهل الجنة كعلىّ والحسن والحسين - رضي الله عنهم - ومع هذا فقد اتفق أهل العلم والإيمان على أن هذا القول من أفسد الأقوال وأنه من أقوال أهل الإفك والبهتان فإن العصمة في ذلك ليست لغير الأنبياء عليهم السلام بل كل من سوي الأنبياء يؤخذ من قوله ويترك ولا تجب طاعة من سوى الأنبياء والرسل في كل ما يقول ولا يجب على الخلق اتباعه والإيمان به في كل ما يأمر به ويخبر به ولا تكون مخالفته في ذلك كفرًا بخلاف الأنبياء بل إذا خالفه غيره من نظرائه وجب على المجتهد النظر في قولهما وأيهما كان أشبه بالكتاب والسنة تابعه كما قال الله تعالي: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } (1).
__________
(1) النساء، آية: 59.(2/210)
فأمر عند التنازع بالرد إلى الله وإلى الرسول إذ المعصوم لا يقول إلا حقًا ومن علم أنه قال الحق في موارد النزاع وجب اتباعه كما لو ذكر ذاكر آيةً من كتاب الله تعالى أو حديثًا ثابتًا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقصد به قطع النزاع أما وجوب اتباع القائل في كل ما يقوله من غير ذكر دليل يدل على صحة ما يقوله فليس بصحيح بل هذه المرتبة هي مرتبة الرسول التي لا تصلح إلا له كما قال تعالي: { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا } (1)، وقال تعالي: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا } (2)، وقال تعالي: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ } (3)، وقال تعالي: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } (4)، وقال تعالي: { إِنَّمَا كانَ قَوْلَ المُؤْمِنينَ إذَا دُعُوا إلى اللّه وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وأطَعْنا وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ } (5)، وقال - عز وجل -: { وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } (6)، وقال تعالي: { تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ
__________
(1) النساء، آية: 65.
(2) النساء، آية: 64.
(3) آل عمران، آية: 31.
(4) الأحزاب، آية: 36.
(5) النور، آية: 51.
(6) النساء، آية: 69.(2/211)
اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ - وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } (1)، وقال تعالي: { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل } (2)، وقال تعالي: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } (3)، وقال تعالي: { لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا لأكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } (4). وأمثال هذه في القرآن كثير بين فيه سعادة مَنْ آمن بالرسل واتبعهم وأطاعهم وشقاية مَنْ لم يؤمن بهم ولم يتبعهم بل عصاهم فلو كان غير الرسول معصومًا فيما يأمر به وينهي عنه لكان حكمه في ذلك حكم الرسول والنبيّ المبعوث إلى الخلق رسولاً إليهم بخلاف مَنْ لم يبعث إليهم فمن كان آمرًا ناهيًا للخلق من إمام وعالم وشيخ ووليّ أمر غير هؤلاء من أهل البيت أو غيرهم وكان معصومًا كان بمنزلة الرسول في ذلك وكان من أطاعه وجبت له الجنة ومن عصاه وجبت له النار كما يقوله القائلون بعصمة علىّ أو غيره من الأئمة بل من أطاعه يكون مؤمنًا ومن عصاه يكون كافرًا وكان هؤلاء كأنبياء بني إسرائيل فلا يصح حينئذ قول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا نبيَّ بعدي» وفي السنن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «العلماءُ ورثة الأنبياءِ إنَّ الأنبياء لم يورثوا درهمًا ولا دينارًا وإنَّما ورثوا العلم فمن أخذه فقد أخذ بحظٍ وافرٍ» فغاية العلماء من الأئمة وغيرهم من هذه الأمة أن يكونوا ورثة الأنبياء لا أن يكونوا
__________
(1) النساء، الآيتان: 13-14.
(2) النساء، آية: 165.
(3) الإسراء، آية: 15.
(4) المائدة، آية: 12.(2/212)
أنبياء وأيضًا قد ثبت بالنصوص الصحيحة والإجماع أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال للصديق في تأويل رؤيا عبَّرها «أصبت بعضًا وأخطأت بعضًا» وقال الصديق: ”أطيعوني ما أطعتُ الله فإذا عصيتُ الله فلا طاعة لي عليكم“ وغضب مرة على رجل فقال له أبو بردة دعني أضرب عنقه فقال له أكنت فاعلاً قال نعم فقال ما كانت لأحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولهذا اتفق الأئمة على أن من سبَّ نبيًا قتل ومن سبَّ غير النبيّ لا يقتل بكل سبٍّ سبَّه بل يفصَّل في ذلك فإن من قذفَ أمّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قتل مسلمًا كان أو كافرًا لأنه قدحَ في نسبه ولو قذف غير أم النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ممن لم يعلم براءتها لم يقتل. وكذلك عمر ابن الخطاب كان يقر على نفسه في مواضع بمثل هذه فيرجع عن أقوال كثيرة إذا تبين له الحق في خلاف ما كان ويسأل الصحابة عن بعض السنة حتي يستفيدها منهم ويقول في مواضع واللهِ ما يدري عمر أصاب الحقَّ أو أخطأه ويقول امرأة أصابت ورجلٌ أخطأ. ومع هذا فقد ثبت في الصحيحين عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحدٌ فعمر». وفي الترمذي «لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر» وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله ضرب الحقَّ على لسان عمر وقلبه» فإن كان المحدث الملهم الذي ضرب الله الحقَّ على لسانه وقلبه بهذه المنزلة يشهد على نفسه بأنه ليس بمعصوم فكيف بغيره من الصحابة وغيرهم الذين لم يبلغوا منزلته فإن أهل العلم متفقون على أن أبا بكر وعمر أعلم من سائر الصحابة وأعظم طاعة لله ورسوله من سائرهم وأولي بمعرفة الحق واتباعه منهم وقد ثبت بالنقل المتواتر الصحيح عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «خير هذه الأمة بعد نبيِّها أبو بكر ثم عمر» روى ذلك عنه من نحو ثمانين وجهًا وقال علىٌّ - رضي الله عنه - لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد(2/213)
المفترى. والأقوال المأثورة عن عثمان وعلىٍّ وغيرهما من الصحابة بل أبو بكر الصديق لا نحفظ له فتيا أفتى فيها بخلاف نص النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وقد وجد لعليٍّ وغيره من الصحابة من ذلك أكثر مما وجد لعمر وكان الشافعي - رضي الله عنه - يناظر بعض فقهاء الكوفة في مسائل الفقه فيحتجون عليه بقول عليّ فصنف كتاب اختلاف على وعبد الله بن مسعود وبين فيه مسائل كثيرة تركت من قولهما لمجئ السنة بخلافها وصنَّف بعده محمد بن نصر الثوري كتابًا أكبر من ذلك كما ترك من قول علىّ - رضي الله عنه - أن المعتدة المتوفي عنها إذا كانت حاملاً فإنها تعتد أبعد الأجلين ويروي ذلك عن ابن عباس أيضًا واتفقت أئمة الفتيا على قول عثمان وابن مسعود وغيرهما في ذلك وهو أنها إذا وضعت حملها حلَّت لما ثبت عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أن سبيعة الأسلمية كانت قد وضعت بعد زوجها بليال فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك فقال ما أنت بناكح حتي تمرَّ عليك أربعة أشهر وعشرًا فسألت النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال كذب أبو السنابل حللت فانكحي فكذَّب النبيّ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ قال بهذه الفتيا وكذلك المفوضة التي تزوجها ومات عنها ولم يفرض لها مهر، قال فيها علىٌّ وابن عباس أنها لا مهر لها وأفتي فيها ابن مسعود وغيره أن لها مهر المثل فقام رجل من أشجع فقال نشهد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى في بروع بنت واشق بمثل ما قضيت به في هذه ومثل هذا كثير وقد كان علىٌّ وأبناؤه وغيرهم يخالف بعضهم بعضًا في العلم والفتيا كما يخالف سائر أهل العلم بعضهم بعضًا ولو كانوا معصومين لكان مخالفة المعصوم للمعصوم ممتنعة وقد كان الحسن في أمر القتال يخالف أباه ويكره كثيرًا مما يفعله ويرجع علىّ - رضي الله عنه - في آخر الأمر إلى رأيه وكان يقول:
لئن عجزت عجزة لا أعتذر سوف أكيس بعدها واستمر
وأخبر الرأي النسيب المنتشر(2/214)
وتبين له في آخر عمره أن لو فعل غير الذي كان فعله لكان هو الأصوب وله فتاوي رجع ببعضها عن بعض كقوله في أمهات الأولاد فإن له فيها قولين أحدهما المنع من بيعهن والثاني إباحة ذلك والمعصوم لا يكون له قولان متناقضان إلا أن يكون أحدهما ناسخًا للآخر كما في قول النبيّ - صلى الله عليه وسلم - السنة استقرت فلا يرد عليها بعده نسخ إذ لا نبيٌّ بعده وقد وصَّى الحسن أخاه الحسين بأن لا يطيع أهل العراق ولا يطلب هذا الأمر وأشار عليه بذلك ابن عمر وابن عباس وغيرهما ممن يتولاه ويحبه ورأوا أن مصلحته ومصلحة المسلمين أن لا يذهب إليهم ولا يجيبهم إلى ما قالوه من المجئ إليهم والقتال معهم وإن كان هذا هو المصلحة له وللمسلمين ولكنه - رضي الله عنه - فعل ما رآه مصلحة والرأي يصيب ويخطئ والمعصوم ليس لأحد أن يخالفه وليس له أن يخالف معصومًا آخر إلا أن يكونا على شريعتين كالرسولين ومعلوم أن شريعتيهما واحدة وهذا باب واسع مبسوط في غير هذا الموضع والمقصود أن من ادعى عصمة هؤلاء السادة المشهود لهم بالإيمان والتقوى والجنة هو في غاية الضلال والجهالة ولم يقل هذا القول من له في الأمة لسان صدق بل ولا من له عقل محمود فكيف تكون العصمة في ذرية عبد الله بن ميمون القداح مع شهرة النفاق والكذب والضلال وهب أن الأمر ليس كذلك فلا ريب أن سيرتهم من سيرة الملوك وأكثرها ظلمًا وانتهاكًا للمحرمات وأبعدها عن إقامة الأمور والواجبات وأعظمهم إظهارًا للبدع المخالفة للكتاب والسنة وإعانة لأهل النفاق والبدعة وقد اتفق أهل العلم على أن دولة بني أمية وبني العباس أقرب إلى الله ورسوله من دولتهم وأعظم علمًا وإيمانًا من دولتهم وأقل بدعًا وفجورًا من بدعتهم وإن خليفة الدولتين أطوع لله ورسوله من خلفاء دولتهم ولم يكن في خلفاء الدولتين من يجوز أن يقال فيه أنه معصوم فكيف يدعي العصمة من ظهرت عنه الفواحش والمنكرات والظلم والبغي والعدوان والعداوة لأهل البر(2/215)
والتقوى من الأمة والاطمئنان لأهل الكفر والنفاق فهم من أفسق الناس ومن أكفر الناس وما يدعي العصمة في النفاق والفسوق إلا جاهل مبسوط الجهل أو زنديق يقول بلا علم ومن المعلوم الذي لا ريب فيه أن من شهد لهم بالإيمان والتقوي أو بصحة النسب فقد شهد لهم بما لا يعلم وقد قال الله تعالي: { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } (1)، وقال تعالى: { إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } (2)، وقال عن أخوة يوسف: { وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا } (3) وليس أحد من الناس يعلم صحة نسبهم ولا ثبوت إيمانهم وتقواهم فإن غاية ما يزعمه أنهم كانوا يظهرون الإسلام والتزام شرائعه وليس كل من أظهر الإسلام يكون مؤمنًا في الباطن إذ قد عرف في المظهرين للإسلام المؤمن والمنافق قال الله تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } (4)، وقال تعالى: { إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } (5)، وقال تعالى: { قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } (6). وهؤلاء القوم يشهد عليهم علماء الأمة وأئمتها وجماهيرها أنهم كانوا منافقين زنادقة يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر فإذا قدر أن بعض الناس خالفهم في ذلك صار في إيمانهم نزاع مشهور فالشاهد لهم بالإيمان شاهد لهم بما لا يعلمه إذ ليس معه شيء يدل على إيمانهم مثل ما مع منازعيه ما يدلّ على نفاقهم وزندقتهم وكذلك النسب قد علم أن جمهور الأمة تطعن في نسبهم ويذكرون أنهم من
__________
(1) الإسراء، آية: 36.
(2) الزخرف، آية: 86.
(3) يوسف، آية: 81.
(4) البقرة، آية: 8.
(5) المنافقون، آية: 1.
(6) الحجرات، آية: 14.(2/216)
أولاد المجوس أو اليهود هذا مشهور من شهادة علماء الطوائف من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وأهل الحديث وأهل الكلام وعلماء النسب والعامة وغيرهم. وهذا أمر قد ذكره عامة المصنفين لأخبار الناس وأيامهم حتي بعض مَنْ قد يتوقف في أمرهم كابن الأثير الموصلي في تاريخه ونحوه فإنه ذكر ما كتبه علماء المسلمين بخطوطهم من القدح في نسبهم وأما جمهور المصنِّفين من المتقدمين والمتأخرين حتى القاضي ابن خلكان في تاريخه فإنهم ذكروا نسبهم... وذكر من مذاهبهم ما بَيَّنَ فيه أن مذاهبهم شرٌّ من مذاهب اليهود والنصارى بل ومن مذاهب الغالية الذين يدعون إلهية علىّ أو نبوته فهم أكفر من هؤلاء وكذلك ذكر القاضي أبو يعلي في كتابه ”المعتمد“ فصلاً طويلاً في شرح زندقتهم وكفرهم وكذلك أبو حامد الغزالي في كتابه الذي سمَّاه ”فضائل المستظهرية وفضائح الباطنية“ قال ظاهر مذهبهم الرفض وباطنه الكفر المحض وكذلك القاضي عبد الجبار ابن أحمد وأمثاله من المعتزلة المتشيعة الذين لا يفضلون على علىٍّ غيره بل يفسِّقُونَ من قاتله ولم يتب من قتاله يجعلون هؤلاء من أكابر المنافقين الزنادقة فهذه مقالة المعتزلة في حقهم فكيف تكون مقالة أهل السنة والجماعة بل والرافضة الإمامية مع أنهم من أجهل الخلق وأنهم ليس لهم عقل ولا نقل ولا دين صحيح ولا دنيا منصورة. نعم يعلمون أن مقالة هؤلاء مقالة الزنادقة المنافقين ويعلمون أن مقالة هؤلاء الباطنية شرٌّ من مقالة الغالية الذين يعتقدون إلهية علىٍّ - رضي الله عنه - وأما القدح في نسبهم فهو مأثور عن جماهير علماء الأمة من علماء الطوائف وقد تولي الخلافة غيرهم طوائف وكان في بعضهم من البدعة والظلم ما فيه فلم يقدح الناس في نسب أحد من أولئك كما قدحوا في نسب هؤلاء ولا نسبوهم إلى الزندقة والنفاق كما نسبوا هؤلاء وقد قام من ولد علىّ طوائف من ولد الحسن وولد الحسين كمحمد بن عبد الله بن حسن وأخيه إبراهيم بن عبد الله بن(2/217)
حسن وأمثالهما ولم يطعن أحد لا من أعدائهم ولا من غير أعدائهم لا في نسبهم ولا في إسلامهم وكذلك الداعي القائم بطبرستان وغيره من العلويين وكذلك بنو دحمود الذين تغلبوا بالأندلس مدة وأمثال هؤلاء لم يقدح أحد في نسبهم ولا في إسلامهم وقد قتل جماعة من الطالبيين من على الخلافة لاسيما في الدولة العباسية وحبس طائفة كموسي بن جعفر وغيره ولم يقدح أعداؤهم في نسبهم ولا دينهم وسبب ذلك أن الأنساب المشهورة أمرها ظاهر متدارك مثل الشمس لا يقدر العدو أن يطفئه وكذلك إسلام الرجل وصحة إيمانه بالله والرسول أمرٌ لا يخفى وصاحب النسب والدين لو أراد عدوه أن يبطل نسبه ودينه وله هذه الشهرة لم يمكنه ذلك فإن هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله ولا يجوز أن تتفق على ذلك أقوال العلماء وهؤلاء بني عبيد القداح مازالت علماء الأمة المأمونون علمًا ودينًا يقدحون في نسبهم ودينهم لا يذمونهم بالرفض والتشيع فإن لهم في هذا شركاء كثيرين بل يجعلونهم من القرامطة الباطنية الذين منهم الإسماعيلية والنصيرية ومن جنسهم الحرمية المحمرة وأمثالهم من الكفار والمنافقين الذين كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر ولا ريب أن اتباع هؤلاء باطل وقد وصف العلماء أئمة هذا القول بأنهم الذين ابتدعوه ووضعوه وذكروا مابنوا عليه مذاهبهم وأنهم أخذوا بعض قول المجوس وبعض قول الفلاسفة فوضعوا لهم السابق والتالي والأساس والحجج والدعاوي وأمثال ذلك من المراتب وترتيب الدعوة سبع درجات آخرها البلاغ الأكبر والناموس الأعظم مما ليس هذا موضع تفصيل ذلك وإذا كان كذلك فمن شهد لهم بصحة نسب أو إيمان فأقل ما في شهادته أنه شاهد بلا علم قافٍ ما ليس له به علم وذلك حرامٌ باتفاق الأمة بل ما ظهر عنهم من الزندقة والنفاق ومعاداة ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - دليل على بطلان نسبهم الفاطمي فإن من يكون من أقارب النبي - صلى الله عليه وسلم - القائمين بالخلافة في أمته لا تكون(2/218)
معاداته لدينه كمعاداة هؤلاء فلم يعرف في بني هاشم ولا ولد أبي طالب بل ولا بني أمية من كان خليفة وهو معاد لدين الإسلام فضلاً عن أن يكون معاديًا له كمعاداة هؤلاء بل أولاد الملوك الذين لا دين لهم فيكون فيهم نوع حمية لدين آبائهم وأسلافهم فمن كان من ولد سيد ولد آدم الذي بعثه الله بالهدى ودين الحقِّ كيف يعادى دينه هذه المعاداة ولهذا نجد جميع المأمونين على دين الإسلام باطنًا وظاهرًا معادين لهؤلاء إلا من هو زنديق عدو لله ورسوله أو جاهل لا يعرف ما بعث به رسوله وهذا مما يدل على كفرهم وكذبهم في نسبهم. وأما سؤال القائل أنهم أصحاب العلم الباطن فدعواهم التي ادعوها من العلم الباطن هو أعظم حجة ودليل على أنهم زنادقة منافقون لا يؤمنون بالله ولا برسوله ولا باليوم الآخر فإن هذا العلم الباطن الذي ادعوه هو كفر باتفاق المسلمين واليهود والنصارى بل أكثر المشركين على أنه كفر فإن مضمونه أن للكتب الإلهية بواطن تخالف المعلوم عند المؤمنين في الأوامر والنواهي والأخبار أما الأوامر فإن الناس يعلمون بالاضطرار من دين الإسلام أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بالصلوات المكتوبة والزكاة المفروضة وصيام شهر رمضان وحجّ البيت العتيق وأما النواهي فإن الله تعالي حرَّم عليهم الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن يشركوا بالله ما لم ينزِّل به سلطانًا وأن يقولوا على الله ما لا يعلمون كما حرَّم الخمر ونكاح ذوات المحارم والربا والميسر وغير ذلك فزعم هؤلاء أنه ليس المراد بهذا ما يعرفه المسلمون ولكن لهذا باطن يعلمه هؤلاء الأئمة الإسماعيلية الذين انتسبوا إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر الذين يقولون إنهم معصومون وأنهم أصحاب العلم الباطن كقولهم الصلاة معرفة أسرارنا لا هذه الصلوات ذات الركوع والسجود والقراءة والصيام كتمان أسرارنا ليس هو الإمساك عن الأكل والشراب والنكاح والحج زيارة شيوخنا المقدسين وأمثال ذلك(2/219)
وهؤلاء المدعون للباطن لا يوجبون هذه العبادات ولا يحرمون هذه المحرمات بل يستحلون الفواحش ما ظهر منها وما بطن ونكاح الأمهات والبنات وغير ذلك من المنكرات ومعلوم أن هؤلاء أكفر من اليهود والنصارى فمن يكون هكذا كيف يكون معصومًا وأما الأخبار فإنهم لا يقرون بقيام الناس من قبورهم لربِّ العالمين ولا بما وعد الله به عباده من الثواب والعقاب بل ولا بما أخبرت به الرسل عن الملائكة بل ولا بما ذكرته من أسماء الله وصفاته بل أخبارهم التي يتبعونها اتباع المتفلسفة المشائين التابعين لأرسطو ويريدون أن يجمعوا بين ما أخبر به الرسل وما يقوله هؤلاء كما فعل أصحاب رسائل إخوان الصفا وهم على طريقة هؤلاء العبيدين وذرية عبيد الله بن ميمون بن القداح فهل ينكر أحد ممن يعرف دين المسلمين أو اليهود أو النصارى أن ما يقوله أصحاب رسائل إخوان الصفا مخالف للملل الثلاث وإن كان في ذلك من العلوم الرياضية والطبيعية وبعض المنطقية والإلهية وعلوم الأخلاق والسياسة والمنزل ما لا ينكر فإن في ذلك من مخالفة الرسل فيما أخبرت به وأمرت به والتكذيب بكثير مما جاءت به وتبديل شرائع الرسل كلهم بما لا يخفى على عارف بملة من الملل فهؤلاء خارجون عن الملل الثلاث ومن أكاذيبهم وزعمهم أن هذه الرسائل من كلام جعفر بن محمد الصادق والعلماء يعلمون أنها إنما وضعت بعد المائة الثالثة زمان بناء القاهرة وقد ذكر واضعوها فيها ما حدث في الإسلام من استيلاء النصارى على سواحل الشام ونحو ذلك من الحوادث التي حدثت بعد المائة الثالثة وجعفر بن محمد - رضي الله عنه - توفى سنة ثمان وأربعين ومائة قبل بناء القاهرة بأكثر من مئتي سنة إذ القاهرة بنيت حوالي الستين وثلاثمائة كما في تاريخ الجامع الأزهر ويقال إن ابتداء بنائها سنة ثمان وخمسين وأنه في سنة اثنتين وستين قدم معد بن تميم من المغرب واستوطنها ومما يبين هذا أن المتفلسفة الذين يعلم خروجهم من دين الإسلام كانوا من أتباع(2/220)
مفسر بن قابل أحد أمرائهم وأبي على بن الهيثم اللذين كانا في دولة الحاكم نازلين قريبًا من الجامع الأزهر وابن سينا وابنه وأخوه كانوا من أتباعهما. قال ابن سينا وقرأت من الفلسفة وكنت أسمع أبي وأخي يذكران العقل والنفس وكان وجوده على عهد الحاكم وقد علم الناس من سيرة الحاكم ما علموه وما فعله هشكين الدرزي مولاه بأمره من دعوة الناس إلى عبادته ومقاتلته أهل مصر على ذلك ثم ذهابه إلى الشام حتى أضلَّ وادي التيم بن ثعلبة والزندقة والنفاق فيهم إلى اليوم وعندهم كتب الحاكم وقد أخذتها منهم وقرأت ما فيها من عبادتهم الحاكم واسقاطه عنهم الصلاة والزكاة والصيام والحج وتسمية المسلمين الموجبين لهذه الواجبات المحرمين لما حرَّم الله ورسوله بالحشوية إلى أمثال ذلك من أنواع النفاق التي لا تكاد تحصى وبالجملة فعلم الباطن الذي يدعو مضمونه الكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر بل هو جامع لكل كفر لكنهم فيه على درجات فليسوا مستوين في الكفر إذ هو عندهم سبع طبقات كل طبقة يخاطبون بها طائفة من الناس بحسب بعدهم من الدين وقربهم منه ولهم ألقاب وترتيبات ركبوها من مذهب المجوس والفلاسفة والرافضة مثل قولهم السابق والتالي جعلوهما بإزاء العقل والنفس كالذي يذكره الفلاسفة وبإزاء النور والظلمة كالذي يذكره المجوس وهم ينتمون إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر ويدعون أنه هو السابع ويتكلمون في الباطن والأساس والحجة والباب وغير ذلك مما يطول وصفهم ومن وصاياهم في الناموس الأكبر والبلاغ الأعظم أنهم يدخلون على المسلمين من باب التشيع وذلك لعلمهم بأن الشيعة من أجهل الطوائف وأضعفها عقلاً وعلمًا وأبعدها عن دين الإسلام علمًا وعملاً ولهذا دخلت الزنادقة على الإسلام من باب المتشيعة قديمًا وحديثًا كما دخل الكفار المحاربون مدائن الإسلام بغداد بمعاونة الشيعة كما جرى لهم في دولة الترك الكفار ببغداد وحلب وغيرها بل كما جرى بتغير المسلمين مع(2/221)
النصارى وغيرهم فهم يظهرون التشيع لمن يدعونه وإذا استجاب لهم نقلوه إلى الرفض والقدح في الصحابة فإن رأوه قابلاً نقلوه إلى الطعن في علىٍّ وغيره. ثم نقلوه إلى القدح في نبينا وسائر الأنبياء وقالوا إن الأنبياء لهم بواطن وأسرار تخالف ما عليه أمتهم وكانوا قومًا أذكياء فضلاء قالوا بأغراضهم الدنيوية بما وضعوه من النواميس الشرعية ثم قدحوا في المسيح ونسبوه إلى يوسف النجار وجعلوه ضعيف الرأي حيث تمكن عدوه منه حتى صلبه فيوافقون اليهود في القدح في المسيح لكن هم شرٌّ من اليهود فإنهم يقدحون في الأنبياء وأما موسى ومحمد فيعظمون أمرهما لتمكنهما وقهر عدوهما ويدعون أنهما أظهرا ما أظهرا من الكتاب لذب العامة وإن لذلك أسرارًا باطنة من عرفها صار من الكمل البالغين ويقولون إن الله أحل كل ما نشتهيه من الفواحش والمنكرات وأخذ أموال الناس بكل طريق ولم يجب علينا شيء مما يجب على العامة من صلاة وزكاة وصيام وغير ذلك إذ البالغ عندهم قد عرف أنه لا جنة ولا نار ولا ثواب ولا عقاب وهم في إثبات واجب الوجود المبدع للعالم على قولين لأئمتهم تنكره وتزعم أن المشائين من الفلاسفة في نزاع إلا في واجب الوجود ويستهينون بذكر الله واسمه حتى يكتب أحدهم اسم الله واسم رسوله في أسفله وأمثال ذلك من كفرهم كثير وذو الدعوة التي كانت مشهورة والإسماعيلية الذين كانوا على هذا المذهب بقلاع الألموت وغيرها في بلاد خراسان وبأرض اليمن وجبال الشام وغير ذلك كانوا على مذهب العبيديين المسئول عنهم وابن الصباح الذي كان رأس الإسماعيلية وكان الغزالي يناظر أصحابه لما كان قدم إلى مصر في دولة المستنصر وكان أطولهم مدة وتلَّقي عنه أسرارهم وفي دولة المستنصر كانت فتنة الساسري في المائة الخامسة سنة خمسين وأربعمائة لما جاهد الساسري خارجًا عن طاعة الخليفة القائم بأمر الله العباسي واتفق مع المستنصر العبدي وذهب يحشر إلى العراق وأظهروا في بلاد الشام والعراق شعار(2/222)
الرافضة كما كانوا قد أظهروه بأرض مصر وقتلوا طوائف من علماء المسلمين وشيوخهم كما كان سلفهم قتلوا قبل ذلك بالمغرب طوائف وأذنوا على المنابر حي على خير العمل حتى جاء الترك السلاجقة الذين كانوا ملوك المسلمين فهزموهم وطردوهم إلى مصر وكان من أواخرهم الشهيد نور الدين محمود الذي فتح أكثر الشام واستنقذه من أيدي النصاري ثم بعث عسكره إلى مصر لما استنجدوه على الإفرنج وتكرر دخول العسكر إليها مع صلاح الدين الذي فتح مصر فأزال عنها دعوة العبيديين من القرامطة الباطنية وأظهر فيها شرائع الإسلام حتى سكنها من حينئذ من أظهر بها دين الإسلام وكان في أثناء دولتهم يخاف الساكن بمصر أن يروي حديثًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقتل كما حكي ذلك إبراهيم بن سعد الحبال صاحب عبد الغني بن سعيد وامتنع من رواية الحديث خوفًا أن يقتلوه وكانوا ينادون بين القصرين من لعن وسبَّ فله دينار وأردب وكان بالجامع الأزهر عدة مقاصير يلعن فيها الصحابة بل يتكلم فيها بالكفر الصريح وكان لهم مدرسة بقرب المشهد الذي بنوه ونسبوه إلى الحسين وليس فيه الحسين ولا شيء منه باتفاق العلماء وكانوا لا يدرسون في دولتهم علوم المسلمين بل المنطق والطبيعة والإلهي ونحو ذلك من مقالات الفلاسفة وبنوا أرصادًا على الجبال وغير الجبال يرصدون فيها الكواكب يعبدونها ويسبحونها ويستنزلون روحانياتها التي هي شياطين تنزل على المشركين الكفار كشياطين الأصنام ونحو ذلك والمعز بن تميم بن معد أول من دخل القاهرة منهم في ذلك فصنَّف كلامًا معروفًا عند أتباعه وليس هذا المعز بن باديس فإن ذاك كان مسلمًا من أهل السنة وكان رجلاً من ملوك المغرب وهذا بعد ذاك بمدة ولأجل ما كانوا عليه من الزندقة والبدعة بقيت البلاد المصرية مدة دولتهم نحوي مئتي سنة قد انطفأ نور الإسلام والإيمان حتى قالت فيها العلماء أنها كانت دار ردة ونفاق كدار مسيلمة الكذاب والقرامطة الخارجين بأرض العراق(2/223)
الذين كانوا سلفًا لهؤلاء القرامطة ذهبوا من العراق إلى المغرب ثم جاءؤا من المغرب إلى مصر فإن كفر هؤلاء وردتهم من أعظم الكفر والردة وهم أعظم كفرًا وردّة من كفر أتباع مسيلمة الكذاب ونحوه من الكذابين فإن أولئك لم يقولوا في الإلهية والربوبية والشرائع ما قاله أئمة هؤلاء. ولهذا يميز بين قبورهم وقبور المسلمين كما يميز بين قبور المسلمين والكفار. فإن قبورهم موجهة إلى غير القبلة. إلى أن يقول: ومن علم حوادث الإسلام وما جرى فيه بين أوليائه وأعدائه الكفار والمنافقين علم أن عداوة هؤلاء المعتدين للإسلام الذي بعث الله به رسوله أعظم من عداوة التتار وإن علم الباطن الذي كانوا يدَّعون حقيقته هو إبطال الرسالة التي بعث الله بها محمدًا بل إبطال جميع المرسلين وأنهم لا يقرون بما جاء به الرسول عن الله لا من خبره ولا من أمره وإن لهم قصدًا مؤكدًا في إبطال دعوته وإفساد ملته وقتل خاصته وأتباع عترته وأنهم في معاداة الإسلام بل وسائر الملل أعظم من اليهود والنصارى فإن اليهود والنصارى يقرون بأصل الجمل التي جاءت بها الرسل كإثبات الصانع والرسل والشرائع واليوم الآخر ولكن يكذبون بعض الكتب والرسل كما قال سبحانه: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً - أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا } (1). وأمَّا هؤلاء القرامطة فإنهم في الباطن كافرون بجميع الكتب والرسل يخفون ذلك ويكتمونه عن غير من يثقون به لا يظهرونه كما يظهر أهل الكتاب دينهم لأنهم لو أظهروه لنفر عنهم جماهير أهل الأرض من المسلمين وغيرهم وهم يفرقون بين مقالتهم ومقالة الجمهور بل الرافضة الذين ليسوا زنادقة كفارًا
__________
(1) النساء، الآيتان: 150-151.(2/224)
يفرقون بين مقالتها ومقالة الجمهور ويرون كتمان مذهبهم واستعمال التقية وقد لا يكون من الرافضة من له نسب صحيح مسلمًا في الباطن ولا يكون زنديقًا لكن يكون جاهلاً مبتدعًا وإذا كان هؤلاء مع صحة نسبهم وإسلامهم يكتمون ما هم عليه من البدعة والهوى لكن جمهور الناس يخالفونهم فكيف بالقرامطة الباطنية الذين يكفرهم أهل الملل كلها من المسلمين واليهود والنصارى وإنما يقرب منهم الفلاسفة المشاءوون أصحاب أرسطو فإن بينهم وبين القرامطة مقاربة كبيرة ولهذا يوجد فضلاء القرامطة في الباطن متفلسفة كسنان الذي كان بالشام والطوسي الذي كان وزيرًا لهم بالألموت ثم صار منجمًا لهؤلاء وملك الكفار وصنَّف شرح الإشارات لابن سينا وهو الذي أشار على ملك الكفار بقتل الخليفة وصار عند الكفار الترك هو المقدم على الذين يسمونهم الداسميدية فهؤلاء وأمثالهم يعلمون أن ما يظهره القرامطة من الدين والكرامات ونحو ذلك أنه باطل لكن يكون أحدهم متفلسفًا ويدخل معهم لموافقتهم له على ما هو فيه من الإقرار بالرسل والشرائع في الظاهر وتأويل ذلك بأمور يعلم بالاضطرار أنها مخالفة لما جاءت به الرسل فإن المتفلسفة متأولون ما أخبرت به الرسل من أمور الإيمان بالله واليوم الآخر بالنفي والتعطيل الذي يوافق مذهبهم وأما الشرائع العملية فلا ينفونها كما ينفيها القرامطة بل يوجبونها على العامة ويوجبون بعضها على الخاصة أو لا يوجبون ذلك ويقولون أن الرسل فيما أخبروا به وأمروا به لم يأتوا بحقائق الأمور ولكن أتوا بأمر فيه صلاح العامة وإن كان هو كذبًا في الحقيقة ولهذا اختار كل مبطل أن يأتي بمخاريق لقصد صلاح العامة كما فعل ابن التومرت الملقب بالمهدي ومذهبه في الصفات مذهب الفلاسفة لأنه كان مثلها في الجملة ولم يكن منافقًا مكذبًا للرسل معطلاً للشرائع ولا يجعل للشريعة العملية باطنًا يخالف ظاهرها بل كان فيه نوع من رأي الجهمية الموافق لرأي الفلاسفة ونوع من رأي الخوارج(2/225)
الذين يرون السيف ويكفرون بالذنب فهؤلاء القرامطة هم في الباطن والحقيقة أكفر من اليهود والنصاري وأما في الظاهر فيدعون الإسلام بل وإيصال النسب إلى العترة النبوية وعلم الباطن الذي لا يوجد عند الأنبياء والأولياء وأن إمامهم معصوم فهم في الظاهر من أعظم الناس دعوي بحقائق الإيمان وفي الباطن من أكفر الناس بالرحمن بمنزلة من ادعي النبوة من الكذابين قال تعالي: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ } (1) وهؤلاء قد يدعون هذا وهذا فإن الذي يضاهي الرسول الصادق لا يخلو إما أن يدعي مثل دعوته فيقول أن الله أرسلني وأنزل علىّ وكذب على الله أو يدعي أنه يوحي إليه ولا يسمي موحيه كما يقول قيل لي ونوديت وخوطبت ونحو ذلك ويكون كاذبًا فيكون هذا قد حذف الفاعل أو لا يدعي واحدًا من الأمر لكنه يدعي أنه يمكنه أن يأتي بما أتى به الرسول ووجه القسم أن ما يدعيه في مضاهاة الرسول إما أن يضيفه إلى الله أو إلى نفسه أو لا يضيفه إلى أحد فهؤلاء في دعواهم مثل الرسول هم أكفر من اليهود والنصارى فكيف بالقرامطة الذين يكذبون على الله أعظم مما فعل مسيلمة وألحدوا في أسماء الله وآياته أعظم مما فعل مسيلمة وحاربوا الله ورسوله أعظم مما فعل مسيلمة وبسط حالهم يطول ولكن هذه الأوراق لا تسع أكثر من هذا وهذا الذي ذكرته حال أئمتهم وقادتهم العالمين بحقيقة قولهم ولا ريب أنه قد انضم إليهم من الشيعة والرافضة من لا يكون في الباطن عالمًا بحقيقة باطنهم ولا موافقًا لهم على ذلك فيكون من أتباع الزنادقة المرتدين الموالي لهم الناصر لهم بمنزلة أتباع الاتحادية الذين يوالونهم ويعظمونهم وينصرونهم ولا يعرفون حقيقة قولهم في وحدة الوجود وأن الخالق هو المخلوق فمن كان مسلمًا في الباطن وهو جاهل معظم لقول ابن عربي
__________
(1) الأنعام، آية: 93.(2/226)
وابن سبعين وابن الفارض وأمثالهم من أهل الإتحاد فهو منهم وكذا إن من كان معظمًا للقائلين بمذهب الحلول والإتحاد فإن نسبة هؤلاء إلى الجهمية كنسبة أولئك إلى الرافضة والجهمية ولكن القرامطة أكثر من الإتحادية بكثير ولهذا كان أحسن حال عوامهم أن يكونوا رافضة جهمية أما الإتحادية ففي عوامهم من ليس برافض ولا جهمي صريح ولكن لا يفهم كلامهم ويعتقد أن كلامهم كلام الأولياء المحققين وبسط هذا الجواب له مواضع غير هذا والله أعلم». أهـ.
الفقه المستفاد من حروب الردة في زمن الصديق - رضي الله عنه -:
جاء في ”مختصر سيرة الرسول“ للإمام محمد بن عبد الوهاب(1): «في الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: لما توفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أبو بكر، وكفر من كفر من العرب. قال عمر: لأبي بكر كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» فقال أبو بكر: فإن الزكاة من حقها والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة واللهِ لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها، قال عمر: فما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق. قال عمر: واللهِ لرجح إيمان أبي بكر بإيمان هذه الأمة جميعًا في قتال أهل الردة» وذكر يعقوب بن سعيد بن عبيد ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن جماعة قالوا: كان أبو بكر أمير الشاكرين الذين ثبتوا على دينهم وأمير الصابرين الذين صبروا على جهاد عدوهم وهم أهل الردة وذلك أن العرب افترقت في ردتها فقالت فرقة لو كان نبيًا ما مات وقالت فرقة: انقضت النبوة بموته فلا نطيع أحدًا بعده وفي ذلك يقول قائلهم:
أطعنا رسول الله ما كان بيننا فيا لعباد الله ما لأبي بكر؟
__________
(1) مختصر سيرة الرسول، ص 210.(2/227)
أيورثها بكرًا إذا مات بعده فتلك لعمر الله قاصمة الظهر
وقالت فرقة نؤمن بالله وقال بعضهم نؤمن بالله ونشهد أن محمدًا رسول الله ولكن لا نعطيكم أموالنا ـ فجادل ـ الصحابة أبا بكر - رضي الله عنهم - وقالوا: احبس جيش أسامة فيكون أمانًا بالمدينة وارفق بالعرب حتى ينفرج هذا الأمر فلو أن طائفة ارتدت قلنا قاتل بمن معك من ارتد وقد أصفقت العرب على الارتداد وقدم على أبي بكر عيينة بن حصن والأقرع بن حابس في رجال من أشراف العرب فدخلوا على رجال من المهاجرين فقالوا أنه قد ارتد عامة من وراءنا عن الإسلام وليس في أنفسهم أن يؤدوا إليكم ما كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن تجعلوا لنا جُعلاً كفيناكم فدخل الصحابة على أبي بكر فعرضوا عليه ذلك وقالوا نري أن نطعم الأقرع وعيينة طعمة يرضيان بها ويكفيانك من وراءهما حتى يرجع إلينا أسامة وجيشه ويشتد أمرك فإنَّا اليوم قليل في كثير فقال أبو بكر فهل ترون غير ذلك؟ قالوا: لا. قال قد علمتم أن من عهد نبيكم إليكم المشورة فيما لم يمض فيه أمر من نبيكم ولا نزل به الكتاب عليكم وأنا رجل منكم تنظرون فيما أشير به عليكم وإن الله لن يجمعكم على ضلالة فتجتمعون على الرشد في ذلك فأما أنا فأري أن ننبذ إلى عدونا { فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُر } (1) وألا ترشون على الإسلام فنجاهد عدوه كما جاهدهم والله لو منعوني عقالاً لرأيت أن أجاهدهم عليه حتى آخذه وأما قدوم عيينة وأصحابه فهذا أمر لم يغب عنه عينيه وهو راضيه ثم جاء له ولو رأوا ذباب السيف لعادوا إلى ما خرجوا منه أو أفناهم السيف فإلي النار قتلناهم على حق منعوه وكفر اتبعوه فبان للنَّاس أمرهم فقالوا له أنت أفضلنا رأيًا ورأينا لرأيك تبعٌ فأمر أبو بكر - رضي الله عنه - الناس بالتجهز وأجمع على المسير بنفسه. وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما صدر من الحج سنة عشر وقدم المدينة
__________
(1) الكهف، آية: 29.(2/228)
أقام حتى رأي هلال المحرم سنة إحدي عشر فبعث المصدقين في العرب فلما بلغهم وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اختلفوا فمنهم من رجع ومنهم من أدي إلى أبي بكر منهم عدي بن حاتم كانت عنده إبل عظيمة من صدقات قومه فلما ارتد من ارتد وارتدت بنو أسد ـ وهم جيرانهم ـ اجتمعت طيء إلى عديّ فقالوا: إنَّ هذا الرجل قد مات وقد انتقض الناس بعده وقنص كل قوم ما كان في أيديهم من صدقات فنحن أحق بأموالنا من شذاذ الناس فقال ألم تعطوا العهد طائعين غير مكرهين قالوا بلي ولكن حدث ما ترى وقد ترى ما صنع الناس فقال والذي نفس عدي بيده لا أخيس بها أبدًا فإن أبيتم فوالله لأقاتلنكم فليكونن أول قتيل يقتل على وفاء ذمته عدي بن حاتم أو يسلمها فلا تطمعوا أن يُسبَّ حاتم في قبره وعدي ابنه من بعده فلا يدعونكم غدر غادر إلى أن تغدروا فإن للشيطان قادة عند موت كل نبيّ يستخف بها أهل الجهل حتى يحملهم على قلائص الفتنة وإنما هي عجاجة لا ثبات لها ولا ثبات فيها وأن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خليفة من بعده يلي هذا الأمر وإن لدين الله أقوامًا سينهضون به ويقومون بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذؤابته في السماء ولئن فعلتم ليقارعنَّكم عن أموالكم ونسائكم بعد قتل عدي وغدركم فأي قوم أنتم عند ذلك فلما رأوا منه الجد كفوا عنه وأسلموا له». أهـ.(2/229)
وجاء في كتاب ”أبي بكر للعرب“(1): «وأنه قد بلغني رجوع من رجع منكم عن دينه بعد أن أقرَّ بالإسلام وعمل به اغترارًا بالله وجهلاً بأمر الله وطاعة للشيطان قال الله تعالي: { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } (2) وإني قد بعثتُ إليكم خالدًا في المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان وأمرته ألا يقاتل أحدًا حتى يدعوه إلى داعية الله فمن دخل في دين الله وعمل صالحًا قبل ذلك منه ومن أبي فلا يُبقي على أحد ويحرقهم بالنار ويسبي الذراري والنساء. إلى أن يقول: ولما سار خالد إلى بُزاخَة كان عدي بن حاتم معه وقد انضم إليه من طئ ألف فنزلوا بُزاخة وكانت جديلة معرضة عن الإسلام وهي بطن من طئ ـ وكان عدي بن حاتم - رضي الله عنه - من الغوث ـ وقد همت جديلة أن ترتد فجاءهم مكنف بن زيد الخيل فقال أتريدون أن تصيروا سبَّة على قومكم ولم يرجع رجل واحد من طئ وهذا عدي معه ألف رجل من طئ فكسرهم فلما نزل خالد بزاخة قال لعدي ألا تسير إلى جديلة؟ قال: يا أبا سليمان أقاتل معك بيدين أحب إليك أم بيد واحدة فقال بل بيدين قال: فإن جديلة إحدى يدي فكفَّ عنهم فكفَّ عنهم فجاءهم عديٌّ فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا فحمد الله وسار بهم إلى خالد فلما رآهم صاح في أصحابه السلاح فلما جاءوا خلوا ناحية فجاءهم خالد ورحَّب بهم فاعتذروا إليه وقالوا: نحن لك حيث شئت فجزاهم خيرًا فلم يرتد من طئ رجلٌ واحد فسار خالد على تعبئة وطلب إليه عدي أن يجعل قومه مقدمة أصحابه فقال: أخاف أن أقدمهم فإذا ألجمهم القتال انكشفوا فانكشف من معنا ولكن دعني أقدم قومًا صبرًا لهم سوابق فقال عدي الرأي ما رأيت فقدم المهاجرين والأنصار ولم يزل يقدم الطلائع منذ خرج من بقعاء حتى قدم اليمامة وأمر عيونه أن يختبروا كل من مروا بهم عند مواقيت
__________
(1) مختصر سيرة الرسول، ص 199.
(2) فاطر، آية: 6.(2/230)
الصلاة بالأذان لها فيكون ذلك دليلاً على إسلامهم فلما انتهوا إلى طليحة الأسدي وجدوه وقد ضربت له قبة وأصحابه حوله فضرب خالد خيام عسكره على ميل أو نحوه وخرج يسير على فرس معه نفر من الصحابة فوقف قريبًا من العسكر ودعا بطليحة فخرج إليه فقال إن من عهد خليفتنا إلينا أن ندعوك إلى الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله وأن تعود إلى ما خرجت منه فأبي طليحة وكان عيينة ابن حصن قد قال له لا أبا لك هل أنت مرينا؟ ـ يعني نبوتك ـ فقد رأيت ورأينا ما كان يأتي محمدًا قال نعم فبعث عيونًا له لما أقبل خالد إليهم قبل أن يسمع الناس بإقباله فقال: إن بعثتم فارسين على فرسين أتمرين محجلين من بني نصر بن قعين أتوكم من القوم بعين فبعثوا كذلك فلقيا عينًا لخالد فأتوا به فزادهم فتنة فلما أبي طليحة أن يجيب خالدًا انصرف خالد إلى معسكره فاستعمل تلك الليلة على حرسه مكنف بن زيد الخيل وعدي بن حاتم فلما كان من السحر نهض فعبأ أصحابه ووضع ألويته مواضعها ودفع اللواء الأعظم إلى زيد بن الخطاب فتقدم به وتقدم ثابت بن قيس بن شماس بلواء الأنصار وطلبت طيء لواء فعقد لهم خالد لواء ورفعه إلى عديّ فلما سمع طليحة الحركة عبأ أصحابه حتى إذا استوت الصفوف فزحف بهم خالد حتى دنا من طليحة فأخرج طليحة أربعين غلامًا جلدًا فأقامهم في الميمنة وقال اضربوا حتى تأتوا الميسرة فتضعضع الناس ولم يقتل أحد حتى أقامهم في الميسرة ففعلوا مثل ذلك وانهزم المسلمون فقال خالد يا معشر المسلمين الله الله واقتحم وسط القوم وكرَّ معه أصحابه فاختلطت الصفوف ونادي يومئذ مناد من طئ عندما حمل أولئك الأربعون يا خالد عليك بسلمي وأجا ـ جبلي طئ ـ فقال بل إلى الله الملتجأ ثم حمل فما رجع حتى لم يبق من الأربعين رجل واحد وترادَّ الناس بعد الهزيمة واشتد القتال وأسر حبال بن أبي حبال فأرادوا أن يبعثوا به إلى أبي بكر فقال اضربوا عنقي ولا تروني محمديكم هذا فضربوا عنقه ولما(2/231)