البكاء
عند قراءة القرآن
إعداد وترتيب
عبدالله بن إبراهيم اللحيدان
بسم الله الرحمن الرحيم
{الم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ومانزل من الحق}
{لوأنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله}
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن
لا اله الا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن لكتاب الله الكريم منزلة عظمى عند كل مسلم فهو النور المبين الذي يهتدي به وهو الروح الذي يحيا به وهو الصراط المستقيم تكفل الله -تعالى-بحفظه وأخبر أن لو أنزل على الجبال الرواسي لتصدعت قال-تعالى-:(لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله)"سورة الحشر آية:21" وعاتب الله المؤمنين إبان نزول الوحي بقوله:(ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق )."سورة الحديد آية 17".
وإن رقة القلب ودمعة العين عند قراءة القرآن سمة من سمات السلف-رضوان الله عليهم-وفي هذه الصفحات تذكير بحالهم ورصد لبعض أخبارهم عسى الله أن ينفع بها وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم.
كتبه: عبدالله بن إبراهيم اللحيدان
28/7/1412هـ
فضل البكاء عند قراءة القرآن
البكاء عند التلاوة والذكر صفة العارفين وشعار عباد الله الصالحين قال الله تعالى :"إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا".}سورة الإسراء , الآيات : 107-109{.(1/1)
قال القرطبي -رحمه الله -:" قوله تعالى:"ويخرون للأذقان يبكون"هذه مبالغة في وصفهم ومدح لهم وحق لكل من توسم بالعلم وحصل منه شيئا أن يجري الى هذه المرتبة فيخشع عند استماع القرآن ويخضع ويذل قال وفي الآية دليل على جواز البكاء في الصلاة من خوف الله تعالى أو على معصيته في دين الله وأن ذلك لا يقطعها ولا يضرها ".1
كان عبد الأعلى التيمي يقول :"من أوتي من العلم مالا يبكيه لخليق ألا يكون أوتي علما ينفعه لأن الله تعالى نعت العلماء فقال:" إن الذين أوتوا العلم... الى قوله يبكون ويزيدهم خشوعا".2
"وإن مايحصل عند الإستماع لآيات الله والذكر المشروع من وجل القلب ودمع العين وإقشعرار الجسوم فهذا أفضل الأحوال التي نطق بها الكتاب والسنة ". 3
قال تعالى:"الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم الى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء"}سورة الزمر, الآية: 23 {وقال تعالى:"إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا"}سورة مريم , الآية:58{.قال القرطبي رحمه الله :"في هذه الآية دلالة على أن لآيات الرحمن تأثير في القلوب".4
معنى البكاء وأنواعه
قال الراغب:بكى يبكي بكاء فالبكاء بالمد : سيلان الدمع عن حزن وعويل.
* أنواع البكاء:
قال ابن القيم -رحمه الله- البكاء أنواع:
الأول: بكاء الرحمة والرقة.
الثاني: بكاء الخوف والخشية .
الثالث:بكاء المحبة والشوق.
الرابع:بكاء الفرح والسرور.
الخامس:بكاء الجزع من ورود المؤلم وعدم إحتماله.
السادس:بكاء الحزن0
والفرق بين بكاء الحزن وبين بكاء الخوف :أن بكاء الحزن يكون على ما مضى وبكاء الخوف يكون لما يتوقع في المستقبل والفرق بين بكاء الفرح وبكاء الحزن:
أن دمعة السرور باردة والقلب فرحان ودمعة الحزن حارة والقلب حزين.
السابع:بكاء الخوف والضعف.(1/2)
الثامن:بكاء النفاق وهو أن تدمع العين والقلب قاس فيظهر صاحبه الخشوع وهو من أقسى الناس قلبا.
التاسع:البكاء المستعار والمستأجر عليه كبكاء النائحة بالأجرة.
العاشر:بكاء الموافقة وهو أن يرى الرجل الناس يبكون لأمر ورد عليهم فيبكي معهم ولا يدري لأي شيء يبكون ولكن يراهم يبكون فيبكي.
* أنواع التباكي:
قال:وما كان منه مستدعى متكلفا فهو التباكي وهو نوعان:
1-تباكي محمود.
2-تباكي مذموم.
فالمحمود: أن يستجلب لرقة القلبو لخشية الله لا للرياء والسمعة قال عمر( للنبي ( وقد رآه يبكي هو وأبو بكر في شأن أسرى بدر: أخبرني ما يبكيك يا رسول الله؟ لإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد تباكيت لبكائكما ولم ينكر عليه النبي ( وقد قال بعض السلف:" ابكوا من خشية الله فإن لم تبكوا فتباكوا".
وأما المذموم: فهو أن يجتلب لأجل الخلق .5
وكم نرى ونسمع من يتباكى لأجل مصلحة مادية أو لأجل الرياء والسمعة.
هديه (في البكاء
*بكاؤه:(
كان بكاؤه( من جنس ضحكه لم يكن بشهيق ورفع صوت كما لم يكن ضحكه بقهقهة ولكن كانت تدمع عيناه حتى تهملا ويسمع لصدره أزيز وكان بكاؤه تارة رحمة للميت وتارة خوفا على أمته وشفقة عليها وتارة من خشية الله وتارة عند سماع القرآن وهو بكاء إشتياق ومحبة وإجلال مصاحب للخوف والخشية.6
قال ابن مسعود (:قال رسول الله ":( إقرأ علي :فقلت يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال نعم إني أحب أن أسمعه من غيري.فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية"فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا" فقال حسبك الآن فإذا عيناه تذرفان "7 .
وبكى (لما شاهد إحدى بناته ونفسها تفيض ولما مات إبنه إبراهيم دمعت عيناه وبكى رحمة له وبكى لما مات عثمان بن مظعون وبكى لما كسفت الشمس وصلى صلاة الكسوف وجعل يبكي في صلاته وكان يبكي أحيانا في صلاة الليل8.(1/3)
وعن ثابت البناني عن مطرف عن أبيه قال أتيت النبي ( وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل - يعني يبكي" 9.
الأزيز: حنين من الجوف وهو صوت البكاء.
والمرجل: بكسر الميم الإناء الذي يغلي فيه الماء سواء كان من حديد أو صفر أو حجارة10.
قال في الفتح الرباني :والمعنى أنه يجيش جوفه ويغلي من البكاء من خشية الله تعالى.11
وثبت عنه ( أنه قال :"شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت"12.
وكانت قراءته ( تصدع القلوب وفي الصحيحين عن جبير بن مطعم قال:سمعت رسول الله ( يقرأ في المغرب بالطور فما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه وفي بعض ألفاظه فلما سمعته قرأ"أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون"} سورة الطور الآية :35{ كاد قلبي أن يطير قال ابن كثير-رحمه الله- وكان جبير لما سمع هذا لم يزل مشركا على دين قومه وإنما كان قوم في نداء الأسارى بعد بدر وناهيك عن تؤثر قراءته في المشرك المصر على الكفر فكان هذا سبب هدايته ولهذا كان أحسن القراءات ما كان عن خشوع من القلب وعن طاووس قال :"أحسن الناس صوتا بالقرآن أخشاهم لله"13.
البكاءون من السلف الصالح
أولا :الصحابة ( :
وصف حالهم :
صلى علي ( صلاة الفجر فلما سلم إنفتل عن يمينه ثم مكث كأن عليه كآبة حتى إذا كانت الشمس على حائط المسجد قيد رمح قلب يده فقال:لقد رأيت أثرا من أصحاب رسول الله ( فما أرى أحدا يشبههم والله إن كانوا ليصبحون شعثا غبرا صفرا .بين أعينهم أمثال ركب المعزى قد باتوا يتلون كتاب الله يراوحون بين أقدامهم وجباههم إذا ذكر الله مادوا كما تميد الشجرة في يوم ريح فأنهملت أعينهم حتى تبل والله ثيابهم والله لكأن القوم باتوا غافلين14.
وعن عروة بن الزبير قال قلت لجدتي أسماء كيف كان أصحاب رسول الله ( إذا سمعوا القرآن ؟
قالت :"تدمع عيونهم وتقشعر جلودهم كما نعتهم الله"15.(1/4)
هذا هو حال الصحابة - رضوان الله عليهم - لم يكن هم أحدهم آخر السورة ولم يكن همه عدد ما يختم من القرآن.
* أبو بكر الصديق (:
روى البخاري بسنده عن عائشة -رضي الله عنها- قالت :إن رسول الله ( قال في مرضه : مروا أبا بكر يصلي بالناس قالت عائشة :قلت إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء فمر عمر يصلي بالناس فقالت عائشة :فقلت لحفصة قولي له إن أبا بكر في مقامك لم يسمع الناس من البكاء فمر عمر فليصل بالناس ففعلت حفصة فقال رسول الله( :مه إنكن لأنتن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصل بالناس فقالت حفصة لعائشة ماكنت لأصيب منك خيرا"16.
وفي رواية قالت عائشة إنه رجل رقيق إذا قرأ غلبه البكاء وفي رواية فقيل له أي للنبي( إن أبا بكر رجل أسيف إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس.
قال الحافظ ابن حجر قوله رقيق أي رقيق القلب وقوله أسيف بوزن فعيل وهو بمعنى فاعل من الأسف وهو شدة الحزن والمراد أنه رقيق القلب17.
وروى البيهقي في الشعب بسنده أن أبا بكر ابتنى مسجدا بفناء داره -بمكة- وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيقف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يتعجبون منه وينظرون إليه وكان أبو بكر رجلا بكاءا لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن.
* عمر بن الخطاب ( :
كان للقرآن موقع عظيم في حياة عمر فقد أسلم ( عندما سمع آيات من سورة طه فكان إسلامه عزا للإسلام والمسلمين وكم سمعنا بأخبار قوته وشدته في دين الله وغيرته على حرمات الله وعن زهده وورعه وعن عدله وتواضعه .
أما عن حاله مع القرآن فلا تسأل عنها فقد كان ( وقافا عند آياته بكاءا عند تلاوته سريعا في إستحضارها معظما لشأنها وإليك شيئا مما أثر عنه ( .
عن عبدالله بن شداد قال:سمعت نشيج عمر وأنا في آخر الصفوف في صلاة الصبح وهو يقرأ سورة يوسف حتى بلغ "إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله"}سورة يوسف,الآية:86{وبكى حتى سالت دموعه على ترقوته18.(1/5)
قال النووي -رحمه- وفي رواية أنه كان في صلاة العشاء فتدل على تكريره منه19.
وعن هشام ابن الحسين قال: كان عمر بن الخطاب يمر بالآية في ورده فتخيفه(في بعض الروايات فتخنقه)فيبكي حتى يسقط ويلزم بيته اليوم واليومين حتى يعاد ويحسبونه مريضا20.
وعن أبي معمر أن عمر قرأ سورة مريم فسجد ثم قال هذا السجود فأين البكاء 21 يعني عند قوله تعالى:"خروا سجدا وبكيا".
وكان ( يعيش القرآن في كل حركاته وسكناته .مر( بدير راهب فناداه يا راهب فأشرف فجعل عمر ينظر إليه ويبكي فقيل له ياأمير المؤمنين ما يبكيك من هذا؟ قال ذكرت قول الله -عز وجل- في كتابه"عاملة ناصبة تصلى نارا حامية"}سورة الغاشية,الآيتان: 3, 4{فذاك الذي أبكاني22 .
وكان ( يذكر بالقرآن ويعظ بآياته ويدرك أثرها إذا صدرت بصدق من قائلها ونسوق شاهدا على ذلك هذه القصة التي ساقها ابن كثير في تفسير أول سورة غافر قال -رحمه الله-:
كان رجل من أهل الشام ذو بأس وكان يفد إلى عمر بن الخطاب ( ففقده عمر فقال: ما فعل فلان؟ فقالوا يا أمير المؤمنين تتابع في هذا الشراب قال فدعا عمر كاتبه فقال اكتب: من عمر بن الخطاب الى فلان بن فلان سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير ثم قال لأصحابه ادعوا الله لأخيكم أن يقبل بقلبه ويتوب الله عليه فلما بلغ الرجل كتاب عمر ( جعله يقرأه ويردده ويقول "غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب "}سورة غافر آية : 3{ قد حذرني عقوبته ووعدني أن يغفر لي فلم يزل يرددها على نفسه ثم بكى ثم نزع فأحسن النزع فلما بلغ عمر خبره قال: هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخا لكم زل زلة فسددوه وادعوا الله أن يتوب عليه ولا تكونوا أعوان الشيطان عليه.
* عائشة -رضي الله عنها-:(1/6)
عن القاسم قال :كنت إذا غدوت أبدأ ببيت عائشة -رضي الله عنها- فأسلم عليها فغدوت يوما فإذا هي قائمة تسبح وتقرأ:"فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم"}سورة الطور,آية 27{وتدعوا وتبكي وترددها فقمت حتى مللت القيام فذهبت إلى السوق لحاجتي ثم رجعت فإذا هي قائمة كما هي تصلي وتبكي-رضي الله عنها-.
والقاسم هو ابن أخيها محمد بن أبي بكر -رضي الله عنهم-.
* عبدالله بن عباس :
قال ابن أبي مليكة قرأ ابن عباس"وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد"}سورة ق ,آية:19{فجعل يرتل ويكثر في ذلكم النشيج23.
* عبدالله بن عمر :
وعن نافع قال ما قرأ ابن عمر هاتين الآيتين قط من آخر سورة البقرة إلا بكى "وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"}سورة البقرة,آية:28424 {.
وذكر نافع أيضا أن ابن عمر إذا قرأ:"ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله" بكى حتى يغلبه البكاء 25.
وقرأ عبدالله بن عمر ويل للمطففين حتى بلغ :"يوم يقوم الناس لرب العالمين "فبكى حتى خر وامتنع عن قراءة مابعدها 26.
وعن سمير الرياحي عن أبيه قال شرب عبدالله بن عمر ماءا مبردا فبكى فاشتد بكاؤه فقيل ما يبكيك؟ فقال ذكرت آية في كتاب الله -عز وجل-:"وحيل بينهم وبين ما يشتهون"}سورة سبأ,آية:54{فعرفت أن أهل النار لا يشتهون شيئا وإن شهوتهم الماء وقد قال الله -عز وجل-:"أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله " 27 }سورة الأعراف,آية : 50{.
وكان ابن عمر يصلي بالليل فيمر بالآية فيها ذكر الجنة فيقف فيسأل الله الجنة ويدعوا وربما بكى ويمر بالآية فيها ذكر النار فيقف ويتعوذ بالله من النار ويدعوا وربما بكى 28.
* أبو موسى الأشعري :
وكان أبو موسى الأشعري ( إذا قرأ "ياأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم "}سورة الانفطار,آية:6{قال يعني الجهل ويبكي وإذا قرأ " أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو " بكى 29.
* عبدالرحمن بن عوف :(1/7)
أما عبد الرحمن بن عوف ( فيحدث عنه ابن عباس -رضي الله عنهما-قال :لم أر رجلا يجد من القشعريرة مايجد عبد الرحمن عند القراءة 30.
وعن أبي هريرة ( :قال :لما نزلت :"أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون "}سورة النجم,آية:59{بكى أهل الصفة حتى جرت دموعهم على خدودهم 31.
مواقف بعض الصحابة عند تلاوة كتاب الله:
وكان من هدي الصحابة ( التأسي برسول الله ( في ترديد آيات الله فقد روى الإمام أحمد بسنده عن أبي ذر ( قال:صلى النبي ( ذات ليلة فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها:"إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم "}سورة المائدة ,آية :18{
فلما أصبح قلت يا رسول الله مازلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت تركع بها وتسجد بها؟ قال إني سألت ربي ( الشفاعة لأمتي فأعطانيها وهي نائلة إن شاء الله لمن لا يشرك بالله شيئا. رواه النسائي وابن ماجة.
وقد مر بنا أن عائشة -رضي الله عنها- كانت تردد قوله تعالى:"فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم"}سورة الطور آية 27{.
وقام أبو الدرداء ( ليلة بآية حتى أصبح وهي "أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا محياهم ومماتهم" } سورة الجاثية ,آية 21 {.
وردد ابن مسعود ( "رب زدني علما"32 }سورة طه,آية:114{.
وعن صفوان بن سليم قال :قام تميم الداري في المسجد بعد أن صلى العشاء فمر بهذه الآية :"تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون " }سورة المؤمنون,آية:104{فما خرج منها حتى سمع آذان الصبح 33 .
وأتى تميم الداري المقام فاستفتح الجاثية فلما بلغ "أم حسب الذين إجترحوا السيئات " الآية.}سورة الجاثية, آية:21{جعل يرددها حتى أصبح 34 .
وقام عمرو بن عتبة بن فرقد ليلة فاستفتح حم فأتى على هذه الآية" وأنذرهم يوم الآزفة"}غافر,آية:18{فما جاوزها حتى أصبح 35 .
استحباب ترديد الآيات(1/8)
وفي كتاب التبيان عقد النووي -رحمه الله- فصلا في استحباب ترديد الآية للتدبر قال:وقد بات جماعة من السلف يتلون آية واحدة يتدبرونها ويرددونها الى الصباح 36.
ولا يقتصر الأمر في الترديد على القرآن فقط بل والدعاء أيضا فقد كان أكثر دعاء النبي( :"يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " 37.وكان أكثر دعاء النبي ( أيضا :"اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار".متفق عليه وقال ( :"ألظوا بياذ الجلال والإكرام" أي إلزموا هذه الدعوة وأكثروا منها 38 .
وبات أبو الدرداء ليلة يردد في سجوده :"اللهم كما حسنت خَلقِي فحسن خُلُقِي" 39.
وورد أن عبد الرحمن بن عوف كان يقول في طوافه:"رب قني شح نفسي" لا يزيد على ذلك 40.
ثانيا: أحوال التابعين وأتباعهم :
وللتابعين نصيب من التأثر بالقرآن وكان حالهم معه عجيب جد عجيب وقد ذكرت كتب التفسير والتراجم شيئا من أحوالهم وكانوا يحرصون على البحث عما يجلب لهم الخشوع والتأثر بالقرآن فكان معاوية بن مرة يقول:"من يدلني على رجل بكاء بالليل بسام بالنهار" 41 .
ونذكر نماذج مماورد عنهم في البكاء ثم نتبعه بما ورد عنهم في ترديد آيات القرآن.
* عمر بن عبد العزيز(الخليفة الزاهد):
قالت فاطمة بنت عبد الملك زوج عمر بن عبد العزيز عن زوجها إنها رأته ذات ليلة قائما يصلي فأتى على هذه الآية"يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش"}سورة القارعة,آية :5{فصاح واسوء صباحاه ثم وثب فسقط فجعل يخور مني فظننت أن نفسه ستخرج ثم إنه هدأ فظننت أنه قضى ثم أفاق إفاقة فنادى واسوء صباحاه ثم وثب فجعل يجول في الدار ويقول:ويلي من يوم يكون فيه الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش قالت فلم يزل كذلك حتى طلع الفجر ثم سقط كأنه ميت حتى أتاه الآذان للصلاة فو الله ما ذكرت ليلته تلك إلا غلبتني عيناي فلم أملك رد عبرتي 42.(1/9)
وقرأ -رحمه الله - ليلة في صلاته سورة الليل فلما بلغ قوله تعالى:"فأنذرتكم نارا تلظى"}سورة الليل,آية : 15{بكى فلم يستطع أن يتجاوزها مرتين أو ثلاثا ثم قرأ سورة أخرى غيرها 43.
وقرأ عنده رجل "وإذا القوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا"}الفرقان ,آية:13{ فبكى عمر حتى غلبه البكاء وعلا نشيجه فقام من مجلسه فدخل بيته وتفرق الناس 44.
وعن مقاتل بن حبان قال صليت خلف عمر بن عبد العزيز فقرأ "وقفوهم إنهم مسؤولون" }الصافات,آية :24{فجعل يكررها لا يستطيع أن يجاوزها -يعني من البكاء- 45.
وقال -يرحمه الله- يوما لابنه إقرأ قال:ما أقرأ ؟ قال: إقرأ سورة ق فقرأ حتى إذا بلغ"وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد"}ق ,آية:19{بكى ثم قال: إقرأ إقرأ يا بني قال: ما أقرأ؟ قال :إقرأ سورة ق فقرأ حتى إذا بلغ ذكر الموت بكى أيضا بكاءا شديدا يفعل ذلك مرارا 46.
* الفضيل بن عياض وابنه علي:
وكان من توبته -رحمه الله-انه سمع ذات ليلة قارئا يقرأ قوله تعالى:"ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله"}سورة الحديد ,آية :17{فقال بلى وتاب وصار جبلا في العبادة .
أما عن قراءته للقرآن .
فعن إسحاق بن إبراهيم قال:كانت قراءة الفضيل حزينة شهية بطيئة مترسلة كأنه يخاطب إنسانا وكان إذا مر بآية فيها ذكر الجنة يرددها 47.
وعن سعد بن زنبور قال:كنا على باب الفضيل بن عياض فاستأذنا عليه فلم يؤّذن لنا فقيل لنا انه لا يخرج إليكم حتى يسمع القرآن وكان معنا رجل مؤذن وكان صيتا فقلنا له اقرأ" ألهاكم التكاثر" }التكاثر,آية:1{ورفع بها صوته فأشرف علينا الفضيل وقد بكى حتى بل لحيته بالدموع ومعه خرقة ينشف بها الدموع من عينه وأنشأ يقول:
بلغت الثمانين أو حزتها فماذا أؤمل أو أنتظر
أتى لي ثمانون من مولدي وبعد الثمانين ما ينتظر
قال ثم خنقته العبرة وكان معنا علي بن خشرم فأتمه لنا:
علتني السنون فأبلينني فرقت عظامي وكل البصر
وعن محمد بن ناجية قال:(1/10)
صليت خلف الفضيل فقرأ"الحاقة" في الصبح فلما بلغ قوله تعالى :"خذوه فغلوه"غلبه البكاء فسقط ابنه علي مغشيا عليه 48.
وقال بكر بن عياش :صليت خلف فضيل بن عياض المغرب وابنه علي إلى جانبي فقرأ ألهاكم التكاثر فلما قال " لترون الجحيم "سقط على وجهه مغشيا عليه 49.
وقال أبو سليمان الداراني كان علي بن الفضيل لا يستطيع أن يقرأ القارعة ولا تقرأ عليه.
وروى البيهقي في الشعب قال:كان علي بن الفضيل لا يقدر على قراءة القرآن فقال لأبيه يا أبه ادع الله لعلي أستطيع أن أختم القرآن مرة واحدة وكان سبب وفاته ما حدث به ابراهيم بن بشار قال الآية التي مات فيها علي بن الفضيل في سورة الأنعام "ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد"}سورة الأنعام , آية: 27{قال مع هذا الموضع مات وكنت فيمن صلى عليه -رحمه الله- 50.
* ثابت البناني :
قال حماد بن سلمة : قرأ ثابت البناني قوله -تعالى-:"أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا"}سورة الكهف, آية: 37{ وهو يصلي صلاة الليل ينتحب ويرددها 51.
وكان ثابت -رحمه الله-قد اشتكى عينه فقال له الطبيب:اضمن لي خصلة تبرأ عينك لا تبكي قال ثابت وما خير في عين لا تبكي 52 .
* محمد بن المنكدر:
عن يحي بن الفضل قال :سمعت بعض من يذكر عن محمد بن المنكدر أنه بينما هو ذات ليلة قائم يصلي إذ إستبكى فكثر بكاؤه حتى فزع أهله فسألوه ما الذي ابكاك ؟فاستعجم عليهم فتمادى في البكاء فارسلوا إلى أبي حازم وأخبروه بأمره فجاء أبو حازم فإذا هو يبكي فقال يا أخي ما الذي أبكاك قد روعت أهلك؟فقال إني مرت بي آية من كتاب الله-عز وجل-قال وما هي؟قال قول الله -عز وجل-:"وبدا لهم من الله مالم يكونوا يحتسبون"}سورة الزمر ,آية: 47{قال فبكى أبو حازم معه واشتد بكاؤهما قال:فقال بعض أهله لأبي حازم جئنا بك لتفرج عنه فزدته 53.
* أبو حصين الأسدي:(1/11)
قال أبو بكر بن عياش :دخلت على أبي حصين الأسدي في مرضه الذي مات فيه فأغمي عليه ثم أفاق فجعل يقول :"وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين"}سورة الزخرف,آية: 86{ثم أغمي عليه ثم أفاق فجعل يرددها فلم يزل على ذلك 54 .
* الربيع بن أبي راشد:
عن خلف بن حوشب قال :قال الربيع بن أبي راشد اقرأ علي :"يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث"}سورة الحج,آية: 5{فقرأتها عليه فبكى ثم قال:والله لولا أن تكون بدعة لسمت أو قال لهمت في الجبال 55.
* زرارة بن أبي أوفى:
عن بهز بن حكيم قال :صلى بنا زرارة بن أبي أوفى في مسجد بني قشير فقرأ:"فإذا نقر في الناقور"}سورة المدثر , آية: 8{ فخر ميتا فحمل إلى داره فكنت فيمن حمله إلى داره 56.
* مالك بن دينار :
عن الحارث بن سعيد قال كنا عند مالك بن دينار وعندنا قارئ يقرأ:"إذا زلزلت الأرض زلزالها"}سورة الزلزلة , آية:1 {فجعل مالك ينتفض وأهل المجلس يبكون حتى إنتهى إلى هذه الآية"فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره" فجعل مالك والله يبكي ويشهق حتى غشي عليه فحمل بين القوم صريعا 57 .
* عبد الواحد بن يزيد:
وقرأ مضر القارئ -قوله تعالى :"هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون"}سورة الجاثية , آية: 29 { فبكى عبد الواحد بن يزيد حتى غشي عليه .
* يحي بن سعيد القطان:(1/12)
قال الذهبي :قال عبد الرحمن بن عمر :سمعت علي بن عبد الله يقول:كنا عند يحي بن سعيد القطان فلما خرج من المسجد خرجنا معه فلما صار بباب داره وقف ووقفنا معه فانتهى إليه الروبي فقال يحي لما رآه:ادخلوا فدخلنا فقال للروبي اقرأ فلما أخذ في القراءة نظرت إلى يحي لم يتغير حتى بلغ "إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين"}سورة الدخان , آية: 40{صعق يحي وغشي عليه وارتفع صوته وكان باب قريب منه فانقلب فأصاب الباب فقار ظهره وسال الدم فصرخ النساء وخرجنا فوقفنا بالباب حتى أفاق بعد كذا وكذا ثم دخلنا عليه فإذا هو نائم على فراشه وهو يقول "إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين" فمازالت فيه تلك القرحة حتى مات.
قال الإمام أحمد قريء القرآن على يحي بن سعيد القطان فغشي عليه ولو قدر أحد أن يدفع هذا عن نفسه لدفعه يحي بن سعيد فما رأيت أعقل منه.
أحوال بعض السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين
ونختم الحديث بما كان عليه السلف من كثرة الترديد لآيات القرآن.
قال القاسم بن معين :قام أبو حنيفة ليلة بهذه الآية "بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر"}سورة القمر , آية: 46 {يرددها ويبكي ويتضرع.
وظل رحمه الله -في قيامه بعد العشاء- يردد قوله تعالى:"فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم" }سورة الطور , آية: 27 { إلى الصبح.
وقال أبو سليمان الداراني ما رأيت أحدا الخوف أظهر على وجهه والخشوع من الحسن بن صالح قام ليلة فقرأ "عم يتساءلون " فغشي عليه فلم يختمها حتى طلع الفجر 58.
وعن محمد بن أبي الفتح الحنبلي قال:كنت ليلة في أواخر الليل بجامع دمشق والشيخ-يعني النووي- واقف الى سارية في ظلمة ويردد قوله تعالى: "وقفوهم إنهم مسئولون"} سورة الصافات , آية : 24 {مرارا بخوف وخشوع حتى حصل عندي من ذلك أمر عظيم -قال الذهبي نقل السمعاني أن فقيها سمع أسعد الميهني يلطم وجهه ويقول :يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وبكى وردد الآية 59.(1/13)
وكان هارون بن رياب الأسيدي يقوم من الليل للتهجد فربما ردد هذه الآية حتى يصبح"فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين "}سورة الأنعام , آية : 27 {ويبكي حتى يصبح 60.
وعن معمر قال صلى إلى جنبي سليمان التميمي بعد العشاء الآخرة وسمعته يقرأ:" تبارك الذي بيده الملك "}سورة الملك , آية :1{ قال فلما أتى على هذه الآية "فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا "فجعل يرددها حتى خف أهل المسجد فانصرفوا قال فخرجت وتركته قال وغدوت لآذان الفجر فنظرت فإذا هو في مقامه قال :فسمعته فإذا هو فيها لم يجزها وهو يقول " فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا " 61.
وكان محمد بن كعب القرظي يقول لأن أقرأ في ليلة حتى أصبح "إذا زلزلت الأرض زلزالها"}الزلزلة , آية: 1 {والقارعة لا أزيد عليها ولا أتردد فيها و اتفكر أحب إلي من هَذ القرآن هذا ً أو نثره نثرا ً 62.
وكان سعيد بن جبير - رحمه الله - يكثر من ترديد آيات القرآن في قيامه قال يحي بن عبد الرحمن سمعت سعيد بن جبير يردد هذه الآية "وامتازوا اليوم أيها المجرمون "} سورة يس ,آية : 59{ حتى يصبح 63.
وقام ليلة يصلي فقرأ" واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله" }سورة البقرة , آية :281{ فرددها بضعا وعشرين مرة وردد أيضا وهو يؤمهم في رمضان "فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون "} سورة غافر , آية : 71{ رددها مرارا وردد أيضا "ما غرك بربك الكريم" }سورة غافر , آية : 71 {64.
وكان الضحاك إذا تلا قوله تعالى :"لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل "} سورة الزمر , آية : 16 {رددها إلى السحر 65.
وردد الحسن ليلة "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " } سورة إبراهيم , آية : 34{حتى أصبح فقيل له في ذلك أن فيها معتبرا ما نرفع طرفا ولا نرده إلا وقع على نعمة ومالا نعلمه من نعم الله أكثر 66.(1/14)
وعن نسير قال :بت عند الربيع بن خثيم ذات ليلة فقام يصلي فمر بهذه الآية"أم حسب الذين إجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء"} سورة الجاثية , آية : 21{ فمكث ليلة حتى أصبح ما يجاوز هذه الآية الى غيرها ببكاء شديد 67 .
وكان جعفر بن حرب يتقلد كبار الأعمال للسلطان وكانت وظيفته تقارب وظيفة الوزارة فاجتاز يوما راكبا في موكب له عظيم فسمع رجلا يقرأ "ألأم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق" } سورة الحديد , آية : 17 {فصاح اللهم بلى يكررها ثم بكى ثم تاب ورد المظالم التي كانت عليه وانقطع الى العلم والعبادة حتى مات 68.
وكان علماء السلف يدركون أثر القرآن ولذلك يعظون ويذكرون بآياته ويكون لها موقع عظيم في نفوس الخلق وقد تقدمت قصة عمر وصاحب الشراب قال الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله-من لم يتعظ بالقرآن فلا اتعظ.
قال الذهبي :بلغنا أن فخر الرازي وعظ مرة عند أبي المظفر محمد بن سام فقال يا سلطان العالم لا سلطانك يبقى ولا تلبيس الرازي يبقى وان مردنا الى الله وان المسرفين هم أصحاب النار قال فانتحب السلطان بالبكاء 69 .
وكان للمنذر بن سعيد الأندلسي 70 نصيب من هذا فلقد قحط الناس في آخر مدة الناصر فأمر القاضي منذر بن سعيد بالبروز الى الاستسقاء بالناس فصام أياما وتأهب واجتمع الخلق في مصلى الربض وصعد الناصر في أعلى القصر ليشاهد الجمع فأبطأ منذر ثم خرج راجلا متخشعا وقام ليخطب فلما رأى الحال بكى ونشج وافتتح خطبته بأن قال سلام عليكم ثم سكت شبه الحسير ولم يكن من عادته فنظر الناس بعضهم الى بعض لا يدرون ما عراه ثم اندفع فقال :"فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة "} سورة الأنعام , آية : 54{ الآية استغفروا ربكم وتوبوا إليه وتقربوا بالأعمال الصالحة لديه فضج الناس بالبكاء وجأروا بالدعاء والتضرع وخطب فأبلغ فلم ينفض القوم حتى نزل غيث عظيم .(1/15)
واستسقى مرة فقال يهتف بالخلق "يا أيها الناس أنتم الفقراء الى الله "} سورة فاطر, آية : 15 {
الآيتين فهيج الخلق على البكاء 71.
وللنساء دور
وأخيرا فإن للنساء نصيبا من البكاء عند تلاوة القرآن ومن ترديد آياته وتدبرها.
فمن ذلك ما ورد عن أم عمار بنت مليك قالت :بت ليلة عند منيفة ابنة أبي طارق فما زادت على هذه الآية ترددها وتبكي "وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي الى صراط مستقيم" } سورة آل عمران , آية : 101 { 72 .
الغشي والصيحات عند سماع الآيات
أنكر بعض العلماء ما يحدث من الصعق والصياح والغشي عند سماع الآيات وذكر القرطبي عند تفسير قوله تعالى :"الله أنزل أحسن الحديث كتابا متشابها" } سورة الزمر , آية : 23 {أن ابن عمر مر برجل من أهل القرآن ساقطا فقال ما بال هذا ؟ قالوا:إنه قرئ عليه القرآن وسمع ذكر الله سقط فقال ابن عمر إنا لنخشى الله وما نسقط ثم قال :إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم ما كان هذا صنيع أصحاب رسول الله ( 73.
وقال النووي : كان أحمد بن أبي الحواري وهو ريحانة الشام كما قال أبو القاسم بن جنيد -رحمه الله- إذا قرئ عليه القرآن يصيح ويصعق قال ابن أبي داود وكان القاسم بن عثمان الجوني -رحمه- ينكر على ابن الحواري ....قال وكذلك أنكره أبو الجوزاء وقيس بن جبير وغيرهم قلت -أي النووي- والصواب عدم الإنكار إلا من عرف أنه يفعله تصنعا والله أعلم 74.
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:وما يحصل عند السماع والذكر المشروع من وجل القلب ودمع العين واقشعرار الجسوم فهذا أفضل الأحوال التي نطق بها الكتاب والسنة أما الإضطراب الشديد والغشي والموت والصيحات فهذا إن كان صاحبه مغلوبا عليه لم يلم عليه كما قد يكون في التابعين ومن بعدهم فإن منشأه قوة الوارد على القلب مع ضعف القلب والقوة والتمكن أفضل كما هو حال النبي (وأصحابه 75.(1/16)
وقال أيضا والذي عليه جمهور العلماء أن الواحد من هؤلاء إن كان مغلوبا عليه لم ينكر عليه وإن كان حال الثابت أكمل ولهذا لما سئل الامام أحمد عن هذا قال:قرئ القرآن على يحي بن سعيد القطان فغشي عليه ولو قدر أحد أن يدفع هذا عن نفسه لدفعه يحي بن سعيد فما رأيت أعقل منه ونحو هذا.
وقال فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله-:
"والأصوات التي تسمع أحيانا من بعض الناس هي بغير إختيارهم فيما يظهر وقد قال العلماء -رحمهم الله-:إن الانسان إذا بكى من خشية الله فإن صلاته لا تبطل ولو بان من ذلك حرفان فأكثر لأن هذا أمر لا يمكن لإنسان أن يتحكم فيه ولا يمكن أن نقول للناس لا تخشعوا في الصلاة ولا تبكوا" 76 .
الخاتمة
وأخيرا أخي المسلم تذكر حالك وأنت تقرأ القرآن أو تستمع إليه واعرض نفسك على حال سلفنا الصالح وكيف كانوا يعيشون مع القرآن وتذكر أن "هذا القرآن يعطيك بمقدار ما تعطيه ويتفتح عليك في كل مرة بإشعاعات و إشراقات و إيحاءات بقدر ما تفتح له نفسك" 77 .
قال الإمام الغزالي :البكاء مستحب مع قراءة القرآن وعندها وطريقه في تحصيله أن يحضر قلبه بأن يتأمل ما فيه من التهديد والوعيد الشديد والمواثيق والعهود ثم يتأمل تقصيره في ذلك فإن لم يحضره حزن وبكاء فليبك على فقد ذلك فإنه من أعظم المصائب.
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..
الفهرس
الموضوع الصفحة
المقدمة...........................................................................4
فضل البكاء عند قراءة القرآن.....................................................5
معنى البكاء وأنواعه................................................................6
البكاءون من السلف الصالح.......................................................9
أولا: الصحابة.....................................................................9(1/17)
أحوال التابعين وأتباعهم...........................................................15
وللنساء دور.....................................................................23
الغشي والصيحات عند سماع الآيات...............................................23
تم بحمد الله ومنته
قام بنسخه(نقله) من المطبوع الى الإلكتروني
"المحتسب "
1 أحكام القرآن للقرطبي ج10ص341
2 المرجع السابق وانظر زاد المسير لابن الجوزي ج5 / 98.
3 الفتاوى لابن تيمية 22 /522.
4 أحكام القرآن 11 / 120.
5 زاد المعاد ج1 ص184.
6 زاد المعاد لابن القيم 1 / 183
7 رواه البخاري ومسلم.
8 المرجع السابق 1/ 183 - 184
9 رواه أحمد والنسائي وأبو داود. والبيهقي في الشعب وصححه الألباني.
10 سنن النسائي شرح الحافظ السيوطي 3 / 13.
11 الفتح الرباني 4 / 111
12 صحيح الجامع رقم 3723
13 تفسير ابن كثير ج7 ص482
14 التبصرة لابن الجوزي
15 شعب الإيمان للبيهقي2 / 365
16 فتح الباري 2 / 164
17 فتح الباري 2 / 151, 153 , 165
18 شعب الإيمان 2 / 364
19 التبيان في آداب حملة القرآن ص47
20 شعب الإيمان 2 / 364
21 شعب الإيمان 2 / 364
22 تفسير ابن كثير 7 / 275
23 حلية الأولياء 1 / 327
24 رواه أحمد انظر صفوة الصفوة لابن الجوزي 1 / 294 وشعب الإيمان 2 / 365
25 صفوة الصفوة 1 / 294
26 صفوة الصفوة 1 / 294
27 صفوة الصفوة 1 / 295
28 مختصر قيام الليل ص 61
29 شعب الإيمان 2 / 365
30 مختصر قيام الليل 62
31 رواه البيهقي
32 التبيان للنووي
33 صفوة الصفوة 1 / 375
34 مختصر قيام الليل 65
35 صفة الصفوة 2 / 93
36 التبيان ص 45,46
37 رواه الترمذي وصححه الألباني(صحيح الجامع)
38 رياض الصالحين للنووي ص583
39 شعب الإيمان6 / 365
40 تفسير ابن كثير 6 / 608
41 مختصر قيام الليل ص63
42 مناقب عمر بن عبد العزيز بن الجوزي.
43 المرجع السابق
44 سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي
45 المصدر السابق(1/18)
46 المصدر السابق
47 صفة الصفوة 2 / 159
48 سير أعلام النبلاء 8 / 444
49 نفس المصدر السابق
50 سير أعلام النبلاء8 /446
51 سير أعلام النبلاء5 / 225 والبيهقي في الشعب 2 /366
52 مختصر قيام الليل ص63
53 صفة الصفوة 2 / 303,سير أعلام النبلاء 5 / 355
54 سير أعلام النبلاء 5 / 416
55 صفة الصفوة 3 / 71
56 المرجع السابق 3 / 153
57 المرجع السابق 3 / 188
58 حلية الأولياء 7 / 328 , مختصر قيام الليل 65
59 سير أعلام النبلاء 16 / 643
60 مختصر قيام الليل ص 64
61 حلية الأولياء 3 / 29 صفة الصفوة 3 / 201
62 حلية الأولياء 3 / 214 صفة الصفوة 2 / 93
63 صفة الصفوة 3 / 50
64 مختصر قيام الليل ص 64 , صفة الصفوة 3 / 94
65 التبيان في آداب حملة القرآن 46 - 47
66 مختصر قيام الليل 64
67 صفة الصفوة 3 / 39
68 المرجع السابق 2 / 302
69 سير أعلام النبلاء 21 / 322
70 قال الذهبي كاان فقيها محققا وخطيبا بليغا مفوها .
71 سير أعلام النبلاء 16 / 176
72 صفة الصفوة 4 / 57
73 أحكام القرآن للقرطبي
74 التبيان في آداب حملة القرآن 46
75 الفتاوى 22 / 522
76 دروس وفتاوى الحرم المكي ص72
77 في ظلال القرآن ص 2039
??
??
??
??
************************** البكاء عند قراءة القرآن ************************* *
10(1/19)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (1)
البُكَاء
من خشية الله (
( فضل البكاء من خشية الله( - السبب في جفاف العين عن البكاء - السبل الميسرة للبكاء من خشية الله - من أحوال البكّائين)
جمع وترتيب:
أبو الفرج المصري
abou_elfarag@yahoo.com
مراقب القسم الإسلامي
بموقع منتدى البراحة
www.albraha.com
براحة الدورات الشرعية والبحوث العلمية
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله(، وبعد..
فإن الطاعة توجب القرب من الله سبحانه وتعالى..
وكلما ازداد القرب من الله قوي الأنس به..
والعكس صحيح.. فالمعصية توجب البعد عن الله سبحانه وتعالى..
وكلما ازداد البعد عن الله قويت الوحشة..
هذه الكلمات هي مجمل الإجابة على أسئلة الكثيرين:
لماذا نشعر بقسوة ووحشة في قلوبنا؟
لماذا نشعر أننا بعيدين عن الله(؟
لماذا لا نستشعر حلاوة الإيمان؟
لماذا جفت أعيننا عن البكاء من خشية الله؟
لماذا تمر علينا العبر والعظات وعيوننا جامدة كأننا جمادات وأحجار؟
هذه الكلمات هي مجمل الإجابة..
والإجمال يحتاج إلى تفصيل..
فنقف معاً على عجالة في هذه الرسالة على تفصيلٍ حول عبادة من أجلِّ العبادات..
عبادة حُرم منها الكثيرون.. وغفل عنها الكثيرون إلا من رحم الله..
عبادة.. لو علم الخلق فضلها لما كان حالهم كما ترى..
إنها عبادة البكاء من خشية الله(.. وما أعظمها من عبادة!
نقف وقفات مع هذه العبادة العظيمة..
وقفة.. نعلم فيها فضل البكاء من خشية الله وثمراته..
ووقفة أخرى.. نعلم فيها السبب في جفاف أعيننا عن البكاء من خشية الله..
ووقفة ثالثة هي لُبُّ الموضوع.. نعلم فيها السبل الميسرة للبكاء من خشية الله(..
ثم وقفتنا الأخيرة.. نتأمل فيها أحوال البكَّائين وعلى رأسهم سيد المرسلين محمد(.. لعلنا نقتدي بهم ونتأسى بهديهم..(2/1)
هذا.. ونسأل الله أن يجعلنا من الطائعين، وألا يحرمنا لذة الطاعة، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وألا يجعلنا ممن يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم.. نعوذ بالله من الخذلان.
ربيع الآخر 1425هـ/ يونيه 2004م
(
الوقفة الأولى: فضل البكاء من خشية الله وثمراته
1. الباكون من خشية الله يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله:
قال رسول الله(: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله..)، وذكر منهم: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه).
فيوم يشتد الكرب على الخلق، وتدنو الشمس من الرءوس، ويغرق الناس في عرقهم، يكون الباكون من خشية الله ضمن سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
2. الباكون من خشية الله لا يدخلون النار، بل ولا تمسهم:
قال رسول الله(: (لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضّرْع).
فكما أن رجوع اللبن في الضرع بعد حلبه أمر يستحيل وقوعه فكذلك دخول الباكين من خشية الله النار أمر يستحيل وقوعه.
وقال رسول الله(: (عينان لا تمسهما النار..)، وذكر منهما: (عين بكت من خشية الله).
3. الباكون من خشية الله يفوزون بحب الله تعالى لهم:
قال رسول الله(: (ليس شيء أحب إلى الله تعالى من قطرتين وأثرين..)، وذكر من القطرتين: (قطرة دموع من خشية الله تعالى).
فاللهم ارزقنا حبك ولا تحرمنا فنكون من الخاسرين.
4. الباكون من خشية الله يفوزون بشجرة طوبى في الجنة:
قال رسول الله(: (طوبى لمن ملك لسانه، ووسعه بيته، وبكى على خطيئته).
وقد وصف النبي( شجرة طوبى فقال: (طوبى شجرة في الجنة مسيرة مائة عام، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها).
5. الباكون من خشية الله يفوزون بكونهم طائعين للنبي( في أمره بالبكاء:
سأل أحد الصحابة رسول الله( فقال: يا رسول الله ما النجاة؟، قال(: (أملك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك).
فمن امتثل هذا الأمر فاز بشرف طاعة النبي(.(2/2)
6. الباكون من خشية الله يحظون بالاقتداء بالنبي( وصحبه:
وأنعم به من شرف فقد كان من هدي النبي( والصحابة من بعده البكاء من خشية الله كما سنعلم في الوقفة الرابعة بإذن الله تعالى.
7. الباكون من خشية الله يحظون بالاقتداء بالأنبياء الذين أنعم الله عليهم:
قال تعالى: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا( [(58) سورة مريم].
تُتلَى عليهم آيات الله، فتَلقى الآيات قلوبَ أفضل البشر..
تخر القلوب ساجدة..
ثم تهوى الأبدان..
تلامس الهامات الثرى..
و.. تسيل دموع الشوق والمحبة والإجلال.. ودموع الخوف والخشية..
فاللهم (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ( [(6، 7) سورة الفاتحة].
8. الباكون من خشية الله يزيدهم الله إيماناً:
فمعتقد أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والبكاء من خشية الله من أشرف الطاعات وأحبها إلى الله ولها أثرها البين في زيادة الإيمان.
9. الباكون من خشية الله يرزقهم الله من حيث لا يحتسبون ويجعل لهم المخرج من كل ضيق:
قال تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ(
[(2-3) سورة الطلاق].
10. الباكون من خشية الله يجعل الله لهم من أمرهم يسراً:
قال تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا( [(4) سورة الطلاق].
11. الباكون من خشية الله يتذكرون بكاءهم في الدنيا وخوفهم من ربهم( بعد دخولهم الجنة:(2/3)
فما أعظمها من لذة وما أجمله من موقف ذلك الذي حكاه الله عنهم، قال تعالى: (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ، قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ، إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ(
[(25-28) سورة الطور].
الوقفة الثانية: السبب في جفاف العين عن البكاء
بعد أن وقفنا على فضل البكاء من خشية الله، لماذا نجد أن عيوننا ما زالت جامدة وكأن الموعظة لم تؤثر فيها إلا من رحم الله؟
إنه الداء العضال عباد الله.. الداء الذي يستحق المصاب به أن يعاقبه الله في الدنيا والآخرة..
إنه داء المعصية..
فالمعصية حائل بين العين وبين البكاء، فمن آثار المعاصي والذنوب:
1. الوحشة التي يجدها العاصي في قلبه..
يجد وحشة بينه وبين الله..
وكلما كثرت الذنوب اشتدت الوحشة..
والله إنها لوحشة لو اجتمعت لها لذات الدنيا بأسرها ما حرَّكت منها شيئاً..
نسأل الله العافية..
2. الظلمة التي يجدها العاصي في قلبه..
وهذه الظلمة ليست مجازاً أو تشبيهاً..
إنها ظلمة حقيقية يحس بها العاصي كما يحس بظلمة الليل البهيم إذا ادلهم..
فإن الطاعة نور والمعصية ظلمة..
وتقوى هذه الظلمة في القلب حتى تظهر على العين..
فإذا ظهرت على العين جف الدمع، وقست العين..
ثم تقوى هذه الظلمة حتى تعلو الوجه وتصير سواداً يراه الناس..
فما أقبح المعاصي وأدنسها!
قال ابن عباس(: (إن للحسنة ضياءً في الوجه، ونوراً في القلب، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمة في القلب، ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق).
3. توهن القلب وتمرضه..
فيصير القلب مريضاً ضعيفاً..
ولكن المعصية لا تتوقف.. توهن القلب أكثر وأكثر، وتمرضه أكثر وأكثر حتى..
حتى يموت القلب..(2/4)
فيصبح القلب ميتاً أسودَ مربادّاً.. نعوذ بالله من ذلك.
4. تطبع على قلب صاحبها حتى يصير من الغافلين، فقد قال تعالى: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ( [(14) سورة المطففين].
فالقلب يصدأ من المعصية كما يصدأ الحديد..
فإذا زادت المعصية غلب الصدأ..
ويزيد الصدأ ويزيد حتى يصير راناً..
ثم يغلب حتى يصير قفلاً على القلب..
قال تعالى: (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا( [(24) سورة محمد]..
فيصير القلب في غشاوة، فيتولاه الشيطان ويسوقه حيث أراد..
وللمعاصي آثار أخرى في الدنيا والآخرة ينبغي لطالب النجاة أن يقف عليها ويتأملها حتى يكون على حذر، ومن أفضل ما كتب في ذلك كتاب [الداء والدواء أو الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي] للإمام ابن القيم، و[تحذير الداني والقاصي من آثار الذنوب والمعاصي] للشيخ أحمد فريد حفظه الله، فمن أراد الاستزادة فليراجعهما.
الوقفة الثالثة:
السبل الميسرة للبكاء من خشية الله(
ما أشد قسوة قلوبنا..
ما أضعفنا في طريق السالكين إلا من رحم الله..
لقد كان السلف( يبكون من خشية الله، وتفيض أعينهم من الدمع، شوقاً له وحباً دون أن يحصوا الأسباب الميسرة للبكاء من خشية الله، أو يرقموها، ويحفظوها..
كانت أنهار الدموع المخلصة لا تتوقف من مآقيهم..
استشعروا حلاوة الإيمان، وذاقوها، واستمتعوا بالبكاء من خشية الله دون أن يحصوا سبله، ولكنهم طهرت قلوبهم فتفضل المنان عليهم وفتح عليهم من أبواب بركته وفضله، نسال الله أن يفتح علينا..
استمع إلى أحد السلف وهو يقول: (مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا لذيذ العيش فيها وما ذاقوا أطيب ما فيها) يقصد حلاوة الإيمان..
واستمع إلى آخر وهو يقول: (لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف)..
ولكن حال المرضى أمثالنا -إلا من رحم الله- أن يبحثوا عن الأسباب المعينة والجالبة للبكاء من خشية الله..(2/5)
يبحثوا عن الدواء بعد أن ملأ الداء القلب واستشرى في البدن..
ولا يكفي علم هذه السبل دون العمل بها، فعلمها دون العمل بها قد يستوي فيه البر والفاجر، والمؤمن والكافر..
فلا تقرأ هذه السبل إن كنت تنوي غير العمل بها، فقد كان سفيان الثوري يقول: (قالت لي والدتي: يا بني، لا تتعلم العلم إلا إذا نويت العمل به، وإلا فهو وبال عليك يوم القيامة).
فهيا.. واستعن بالله تعالى..
1. الإخلاص لله( في البكاء، بل وفي الرغبة في البكاء:
قال تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء( [(5) سورة البينة].
وقال رسول الله(: (ومن عمل منهم بعمل الآخرة للدنيا فليس له في الآخرة من نصيب).
فاسأل نفسك عبد الله لماذا تبكي؟ ولماذا تريد أن تبكي؟
هل تقصد بذلك وجه الله تعالى؟ أم من أجل أن يقول الناس باكٍ.. تقيّ.. خاشع؟
هل تريد بذلك ثواب الله أم ثواب الناس؟
اعلم أن البكاء من خشية الله عبادة من العبادات، فإن خلصت فيه النية قُبل، وزكا، ونمت بركته..
وإن قصد به غير وجه الله تعالى حبط، وضاع، وخسرت صفقته..
ولا يخدعنك الشيطان فتظن أنك كامل الإخلاص كبعض الجهال من أهل زماننا إذا سمع أحدهم مَن يتحدث عن الرياء والعجب ظن أنه بمنأى عن ذلك..
لا تكن كذلك فتكون كالمريض الذي يُخدِّر موضع الألم حتى إذا ضاع الشعور به ظن أنه قد شفي وأن المرض انتهي ولا يشعر أن المرض يقرض جسده قرضاً..
واعلم -أخي- أن الإخلاص عزيز..
قال أحد السلف: (أعز شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي وكأنه ينبت فيه على لون آخر).
وكان من دعاء بعض السلف: (اللهم إني أستغفرك مما زعمت أني أردت به وجهك فخالط قلبي منه ما قد علمت).
فاحذر أن تكون منافقاً وأنت لا تشعر، مرائياً من حيث لا تعلم.(2/6)
هذا هو الحسن البصري التابعي العالم العابد يقول لنفسه التي بين جنبيه: (تتكلمين بكلام الصالحين القانتين العابدين، وتفعلين فعل الفاسقين المنافقين المرائين، والله ما هذه صفات المخلصين)، وهو مَن هو!
وهذا يوسف بن أسباط يقول: (ما حاسبت نفسي قط إلا وظهر لي أنني مراءٍ خالص).
وإليك قول من لُقِّب بعابد الحرمين.. الفضيل بن عياض.. كان يقول عن قول الله تعالى (لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ( [(8) سورة الأحزاب]: (إذا كان يسأل الصادقين عن صدقهم مثل إسماعيل وعيسى عليهما السلام، فكيف بالكاذبين أمثالنا؟) فبماذا ننعت أنفسنا؟
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب(: (من خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين بما ليس فيه شانه الله).
فما علامات الإخلاص في البكاء من خشية الله؟
أولاً: ألا تجد في نفسك محبةَ أن يمدحك الناس لبكائك أو يُثنوا عليك.
فإن أصابك هذا المرض ووجدت في نفسك حب مدح الناس لك والثناء عليك، فالعلاج أن تجيب على الأسئلة التالية، ثم تبلع الإجابات بماء الإخلاص:
س: هل سينفعك العباد بشيء يوم القيامة؟
س: هل سيقف معك أثناء العرض على الله من مدحك ليمدحك أمام الله ويدافع عنك؟
س: ثم هل تعلم أن الممدوح عند الناس قد يكون من شر الناس عند الله؟، فمدح الناس لك ليس مقياساً لقبول طاعاتك.
فلا تنشغل بمدح الناس أو ثنائهم فتتعب نفسك وتضر دينك ويحبط عملك كله.
ثانياً: ألا تجد في قلبك عجباً بطاعتك:
فقد يبتعد الباكي عن أعين الناس، أو يداريه عنهم طلباً للإخلاص ولكن يتسرب العجب بالعمل إلى نفسه ويرى أنه قد عمل شيئاً عظيماً.
فإن أصابك هذا المرض -وهو العجب بالطاعة- فالعلاج أن تجيب على الأسئلة التالية أيضاً، وتفعل بها كسابقتها:
س: من صاحب الفضل عليك في هذا الأمر؟
س: من الذي رزقك شرف البكاء من خشيته؟(2/7)
س: هل المعقول فيمن يُعطى شيئاً لم يخترعه أو يصنعه أن يعجب به أم يبادر بشكر المعطي على تفضله وإنعامه؟
س: ثم هل تضمن حالك غداً؟
س: هل تضمن أنك ستستمر على الطاعة؟
س: هل تعلم أيختم لك بالخير أم بالشر؟
س: فهل يعقل أن تعجب بعمل أنت في شك من دوامه؟
نسأل الله الثبات.
ثالثاً: ألا تجد في قلبك استصغاراً للآخرين أو احتقاراً لهم لأنك صاحب طاعة لم ينالوا شرفها.
فإن أصابك هذا المرض -وهو احتقار الآخرين- فالعلاج أن تجيب على الأسئلة التالية ثم تلحقها بسابقتها:
س: هل تعلم أن من تزدريه قد يكون أتقى لله منك وأطهر قلباً وأخلص نية وأزكى عملاً؟
س: هل تضمن أن الله قد قبل منك طاعة البكاء من خشيته؟
س: هل تعلم أن الله لعله قبل من هذا الرجل عملاً فأدخله به الجنة، وأنت قد تكون لم يقبل منك صرفاً ولا عدلاً؟
فإن أجبت على هذه الأسئلة وتخلصت من أمراض الإخلاص المذكورة فلا تظن أنك قد حققت الإخلاص، فتكون كالمريض الذي أخذ الدواء فظن أنه قد شفي.
اتهم نفسك دائماً.. واحذر أن تكون مرائياً من حيث لا تعلم.
واعلم أن من ادعى أنه حقق الإخلاص فهو رأس المرائين نعوذ بالله من ذلك.
2. الدعاء:
قال تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ( [(60) سورة غافر].
وقال النبي(: (الدعاء هو العبادة).
وكان من هدي النبي( أن يدعو الله( أن يعينه على الطاعة، فقد كان من ذكره دبر كل صلاة: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك).
فادع الله( أن يلين قلبك، وأن يرزقك نعمة البكاء من خشيته، واغتنم أوقات الاستجابة وأحوالها: كوقت السحر، وساعة الجمعة وهي آخر ساعة بعد العصر قبل صلاة المغرب، وبين الأذان والإقامة، وفي السجود، وفي السفر، وأثناء الصيام، ووقت الإفطار، وغيرها من أوقات وأحوال الاستجابة.
3. السعي لتحصيل حلاوة الإيمان:(2/8)
فإن من ثمرات حلاوة الإيمان البكاء من خشية الله (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه).
وقد ذكر النبي( أحوال تحصيل حلاوة الإيمان فقال: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار).
فحب الله( يجلب حلاوة الإيمان، فكيف نحب الله(؟
نحب الله بمطالعة أسمائه وصفاته، وآثار فضله وإنعامه على خلقه، ورحمته بهم، ونحبه بقراءة كلامه -وهو القرآن- بتدبر، والتقرب إلى الله بالنوافل، ودوام الذكر بالقلب واللسان، ونحبه بالخلوة به وقت النزول الإلهي في الثلث الأخير من الليل لمناجاته وتلاوة كلامه، ونحبه بطاعته فيما أمر به والابتعاد عما نهى عنه.
وحب النبي( يجلب حلاوة الإيمان، فكيف نحب النبي(؟
نحبه بمطالعة سيرته، ومعرفة شمائله وأخلاقه، والتشبه به في الظاهر والباطن، وطاعته فيما أمر به، والابتعاد عما نهى عنه.
وكذلك حب عباد الله الصالحين حباً مجرداً من أغراض الدنيا (لا يحبه إلا لله) يجلب حلاوة الإيمان.
وبغض الكفر بمعرفة مظاهره، وصور الشرك، وعواقب الكفر للحذر منه، ومعاداة الكفار والبراء منهم.. كل ذلك يجلب حلاوة الإيمان.
فاحرص على ذلك تكن من الراشدين بإذن الله.
4. تعلُّم العلم الشرعي، وخصوصاً علم العقيدة:
قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء( [(28) سورة فاطر].
وقال تعالى: (قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا، وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً، وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا( [(107- 109) سورة الإسراء].(2/9)
وقال أحد السلف في تفسير هذه الآية: (من أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق ألا يكون أوتي علماً ينفع، لأن الله نعت العلماء فقال: (قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ.. (الآية).
فالعلم الشرعي يورث في القلب خشية ورهبة..
وعلم العقيدة والتوحيد خصوصاً يزيد الإيمان ويورث في القلب ما لا يورثه غيره من العلوم.
فاحرص على تعلم علم العقيدة، وأنصحك بأن تقرأ كتابي [منة الرحمن] و[العبودية] للشيخ ياسر برهامي، وكتاب [عقيدة المؤمن] للشيخ أبي بكر الجزائري، وكتاب [العقيدة في ضوء الكتاب والسنة] للشيخ عمر سليمان الأشقر.
5. ذكر الموت، وما بعده من أهوال:
قال رسول الله(: (أكثروا ذكر هاذم اللذات: الموت، فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه، ولا ذكره في سعة إلا ضيَّقها عليه).
ويقود التفكر بالموت إلى التفكر فيما بعده من أهوال القبور والبرزخ وأهوال يوم القيامة وأهوال النار نعوذ بالله منها.
قال النبي( عندما سمع هو وصحابته صوتاً مرتفعاً: (هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفاً فهو يهوي في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها).
وقال رسول الله(: (يرسل البكاء على أهل النار فيبكون حتى تنقطع الدموع، ثم يبكون الدم حتى يصير في وجوههم كهيئة الأخدود لو أُرسلت فيها السفن لجرت).
وقال رسول الله(: (يأيها الناس ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا فإن أهل النار يبكون في النار حتى تسيل دموعهم في خدودهم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع فيسيل -أي الدم- فيُقرح العيون).(2/10)
وقال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (إن أهل النار يدعون مالكاً فلا يجيبهم أربعين عاماً، ثم يقول: "إنكم ماكثون"، ثم يدعون ربهم فيقولون: "ربنا أخرجنا منها فإن عُدنا فإنا ظالمون" فلا يجيبهم مثل الدنيا، ثم يقول: (اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ( [(108) سورة المؤمنون]، ثم ييأس القوم، فما هو إلا الزفير والشهيق، تشبه أصواتهم أصوات الحمير أولها شهيق وآخرها زفير).
وقال الحسن البصري: (يحق لمن يعلم أن الموت مورده، وأن الساعة موعده، وأن القيام بين يدي الله تعالى مشهده أن يطول حزنه).
وقال إبراهيم التيمي: (ينبغي لمن لم يحزن أن يخاف أن يكون من أهل النار، لأن أهل الجنة قالوا: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ( [(34) سورة فاطر]، وينبغي لمن لم يُشفق أن يخاف أن لا يكون من أهل الجنة لأنهم قالوا: (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ( [(26) سورة الطور]).
6. زيارة القبور، واتباع الجنائز:
قال رسول الله(: (إني نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإن فيها عبرة) وفي رواية: (فإنها تُرق القلب وتُدمع العين وتُذكر الآخرة).
فالقبور هي الواعظ الصامت، فأكثر من زيارة القبور يرق قلبك وتدمع عينك من خشية الله تعالى.
قال الأعمش: (إن كنا لنشهد الجنازة فلا ندري من نعزِّي من القوم) أي لأن كل من يسير في الجنازة يبكي، فلا تستطيع تمييز أهل الميت من غيرهم.
7. قراءة القرآن بتدبر، والإكثار من الذكر:
قال تعالى: (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ( [(21) سورة الحشر].
وقال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا( [(24) سورة محمد].
وقراءة القرآن لها أثر كبير في طرد الشيطان، ورقة القلب، وبكاء العين..(2/11)
لم لا، والقرآن كلام الله تبارك وتعالى؟
فاقرأ القرآن وكأنه عليك أنزل، واهتم بتفسيره قدر المستطاع، واعلم أن القلوب الميتة تحيا بالذكر -خاصة القرآن- كما تحيا الأرض الميتة بنزول المطر.
8. سماع القراءة الخاشعة للقرآن الكريم:
عن طريق الشرائط المسجلة، فاستمع -إن شئت- إلى تلاوة محمد صديق المنشاوي يجوب بك بحار الخشية..
واستمع -إن شئت- إلى تلاوة أحمد العجمي، وابك ولا تمنع دموعك..
واستمع -إن شئت- إلى مشاري راشد أو أبي بكر الشاطري أو غيرهم من أصحاب التلاوة الخاشعة فستجد لذلك -بإذن الله- أثره العظيم في لين القلب ورقته.
9. الإكثار من قراءة كتب الرقائق، وسماع المواعظ عن طريق الدروس أو الشرائط المسجلة:
فأما كتب الرقائق: فاحرص على أن تكون لأهل السنة المستدلين بالكتاب والسنة وأقوال السلف، وإياك ثم إياك وكتب الصوفية وأهل البدع، فهي تزيدك بعداً ووحشة أضعاف ما تفيدك.
فاحرص على قراءة النسخ المحققة من كتب الإمام ابن القيم [مدارج السالكين]، و[الفوائد]، و[مفتاح دار السعادة]، و[الداء والدواء أو الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي] وغيرها.
وكذلك كتب الشيخ أحمد فريد ومن أروعها: [البحر الرائق في الزهد والرقائق]، و[التقوى الغاية المنشودة والدرة المفقودة]، و[تذكير النفوس المؤمنة بأسباب حسن الخاتمة وسوء الخاتمة]، وغيرها.
واحرص على حضور مجالس الوعظ لمن عرف بموافقة السنة واستدلاله بالصحيح من الأحاديث، فالمواعظ سياط تضرب بها القلوب فتؤثِّر في القلوب كتأثير السياط في البدن.
كان الحسن البصري إذا خرج إلى الناس فكأنه رجل عاين الآخرة، ثم جاء يُخبر عنها، وكانوا إذا خرجوا من عنده خرجوا وهم لا يعدون الدنيا شيئاً..
وكان سفيان الثوري يتعزَّى بمجالسه عن الدنيا..
وكان أحمد لا تُذكر الدنيا في مجالسه، ولا تُذكر عنده..(2/12)
فإن عجزت أن تجد مجالس للوعظ فإن الله رزقنا نعمة لم يعطها لسلفنا وهي نعمة الشرائط المسجلة، فاحرص على سماع شرائط المواعظ للمشايخ: محمد حسين يعقوب، ومحمد حسان، ونبيل العوضي، وإبراهيم الدويش، وعلي القرني، ومحمد العريفي، وخالد الراشد، وغيرهم ممن عرف بموافقته لأهل السنة والاستدلال بالصحيح من الأحاديث وحسن الأسلوب والصدق في التعبير.
10. محاسبة النفس:
أمر الله( عباده أن يحاسبوا أنفسهم فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ( [(18) سورة الحشر].
وأقسم تعالى بالنفس اللوامة فقال: (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ( [(1، 2) سورة القيامة].
وقال رسول الله(: (إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن وادٍ، فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم، وإنَّ محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تُهلكه).
وقال ابن مسعود(: (إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرَّ على أنفه فقال به هكذا).
وقال عمر بن الخطاب(: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا وزنوا قبل أن توزنوا).
وقال ميمون بن مهران: (لا يكون العبد من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه).
فطوبى لمن حاسب نفسه فعلم ذنوبه وتقصيره ففاضت عيناه من خشية الله، وخوفاً من تقصيره، وقد قال النبي(: (وابك على خطيئتك).
11. الخشوع في الصلاة:
قال رسول الله(: (إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودع).
فما أجملها من صلاة يستشعر صاحبها أن هذه الصلاة هي آخر عهده بالدنيا..
أناشدك بالله أن تصلي ركعتين وتخيل أنك ستموت بعدهما مباشرة.. استشعر هذا جيداً.. كيف تكون هذه الصلاة؟ ما تأثيرها في نفسك؟ هل شعرت بتغيير بعدها؟
تخيل أن كل صلواتك بهذه الصورة.. هل يلين قلبك إن صلى كل صلواته صلاة مودع؟(2/13)
لو كان القلب صخراً للان بفضل الله وإنعامه..
فما أجملها من نصيحة من خير البشر وحبيب رب العالمين(: (إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودع)!
12. الخوف من عدم قبول الأعمال:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (قلت: يا رسول الله (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ( [(60) سورة المؤمنون]، أهو الذي يزني ويسرق ويشرب الخمر؟، قال: (لا يا بنت أبي بكر، ولكنه الرجل يصوم ويتصدق ويصلي وهو يخاف أن لا يتقبل منه).
فكن على خوف ألا يتقبل منك.
13. عدم الإكثار من الضحك:
قال رسول الله(: (لا تكثروا الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب).
وموت القلب يمنع دمع العين.
14. الزهد في الدنيا:
فإن حب الدنيا سبب في قسوة القلب، والصد عن سبيل الله..
والزهد فيها سبب في لين القلوب وخشوعها، وبكاء العيون ودموعها..
وهيا نقف وقفة سريعة نعلم فيها كيف كان عيش النبي( وكيف كان طعامه وكيف كان شرابه ولباسه وأثاثه..
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما شبع آل محمد( من خبز شعير يومين متتابعين حتى قُبض رسول الله().
وقالت أيضاً: (إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقد في أبيات رسول الله( نار).
ولما سُئلت عن طعام رسول الله( قالت: (الأسودان: التمر والماء).
وعن أنس( قال: (ما أعلم النبي( رأى رغيفاً مرققاً -أي واسع رقيق- حتى لحق بالله).
وقال النعمان بن بشير(: (لقد رأيت نبيكم( وما يجد من الدَّقل -أي التمر الرديء- يملأ به بطنه).
وقالت عائشة رضي الله عنها: (كان فراش رسول الله( من أُدم -أي جلد- حشوه ليف).
وعن أبي بردة قال: (أخرجت إلينا عائشة كساءً وإزاراً غليظاً فقالت: قُبض روح النبي( في هذين).
وقال سيد الزاهدين محمد(: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل).
وكان ابن عمر( يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك).(2/14)
فإن جمدت عيناك بعد كل هذا فعليك بـ..
15. التباكي:
والتباكي دون البكاء في المنزلة والمرتبة ولكنه سبيل البكاء لأن المتباكي ممن يجاهد نفسه ويحاسبها، وممن يسعون لتحقيق مرضاة الله(، والله( يقول: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا( [(69) سورة العنكبوت].
فمن جاهد نفسه في التباكي وأخلص في ذلك فهو على الطريق بإذن الله.
قال رسول الله(: (يأيها الناس ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا).
وقال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (ابكوا، فإن لم تجدوا بكاء فتباكوا، لو تعلموا العلم لصلى أحدكم حتى ينكسر ظهره ولبكى حتى ينقطع صوته).
16. مطالعة أحوال البكائين:
فإنها تدفع باغي الفلاح للتشبه بهم..
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالرجال فلاح
وهذه هي وقفتنا الرابعة والأخيرة بإذن الله.
( ( (
الوقفة الرابعة: من أحوال البكائين
الأخبار في أحوال البكائين من خشية الله كثيرة.. ولكننا نقف على بعضها فليس هذا موضع استقصائها.
1. سيد البكائين والناس أجمعين حبيبنا محمد (:
لم يكن بكاؤه بشهيق ورفع صوت، ولكن كانت عيناه تدمعان حتى تسيل الدموع، ويسمع لصدره أزيز.
وكان رسول الله( يبكي عند سماع القرآن:
قال عبد الله بن مسعود(: (قال لي النبي(: "اقرأ علي"، فقرأت عليه بسورة النساء حتى إذا بلغت (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا( [(41) سورة النساء]، فنظرت إليه فإذا عيناه تدمعان).
وكان رسول الله( يبكي في الصلاة:
قال علي بن أبي طالب(: (لقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله( تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح).
وعن عبد الله بن الشِّخِّير( قال: (رأيت رسول الله( يصلي بنا وفي صدره أزيز -أي صوت البكاء- كأزيز المرجل -وهو القدر إذا غلت- من البكاء).(2/15)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (لما كان ليلة من الليالي قال -أي النبي(-: "يا عائشة ذريني أتعبد الليلة لربي"، قلت: "والله إني أحب قربك، وأحب ما يسرك"، قالت: فقام فتطهر، ثم قام يصلي، قالت: فلم يزل يبكي حتى بلَّ حجره، قالت: وكان جالساً فلم يزل يبكي( حتى بلَّ لحيته، قالت: ثم بكى حتى بلَّ الأرض، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة فلما رآه يبكي قال: "يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟" قال: "أفلا أكون عبداً شكوراً؟")
وكان يبكي عند القبور:
قال البراء بن عازب(: (بينما نحن مع رسول الله( إذ بصر بجماعة فقال: "علام اجتمع عليه هؤلاء؟"، قيل: "على قبر يحفرونه"، قال: ففزع رسول الله(، فبدر بين يدي أصحابه مسرعاً حتى انتهى إلى القبر فجثا عليه، قال: فاستقبلته من بين يديه لأنظر ما يصنع، فبكى حتى بلَّ الثرى من دموعه، ثم أقبل علينا، قال: (أي إخواني لمثل هذا فأعدوا).
2. صحابة النبي( جملة:
كان الصحابة( بكائين من خشية الله، وقد تعلموا هذا الهدي من النبي(.
وعظهم رسول الله ذات يوم قائلاً: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً) فغطوا وجوههم يبكون ولهم خنين.
3. أبو بكر الصديق(:
اشتهر عنه البكاء في الصلاة حتى أن السيدة عائشة لما قال النبي(: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) قالت: (إن أبا بكر رجل أسيف إذا قام في مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس).
4.عمر بن الخطاب(:
كان بكاؤه يسمع من آخر الصفوف، فقد قال عبد الله بن شداد: (سمعت نشيج عمر وأنا في آخر الصفوف يقرأ (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ( [(86) سورة يوسف]).
5.عثمان بن عفان(:
كان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته، فقيل له: (تذكر الجنة والنار ولا تبكي، وتبكي من هذا؟) قال: (إن رسول الله( قال: "إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج فما بعده أشد منه").
6. عبد الرحمن بن عوف(:(2/16)
يُقدم له طعام فيقول: (أُعطينا ما أُعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا عُجِّلَت لنا) ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام.
7. سلمان الفارسي(:
يقول: (أبكاني ثلاث: فراق الأحبة محمد وحزبه، وهول المطلع عند غمرات الموت، والوقوف بين يدي رب العالمين حين لا أدري إلى النار انصرافي أم إلى الجنة).
8. أم أيمن رضي الله عنها حاضنة رسول الله(:
يزورها أبو بكر وعمر بعد وفاة النبي( فتبكي.. يسألانها: (ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسول الله()، فتقول: (ما أبكي أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله(، ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها).
9. الحسن البصري:
يؤتى بكوز من ماء ليُفطر عليه.. يدنيه من فيه.. ثم يبكي ويقول: (ذكرتُ أمنية أهل النار قولهم: (أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ( [(50) سورة الأعراف]، وذكرت ما أجيبوا (إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ( [(50) سورة الأعراف].
10. إبراهيم النخعي:
يبكي في مرضه فيسألوه عن سبب بكائه فيقول: (وكيف لا أبكي وأنا أنتظر رسولاً من ربي يبشرني إما بهذه وإما بهذه؟).
( ( (
خاتمة
ها قد انتهي لقاؤنا أخي الحبيب، أو كاد أن ينتهي..
فهل دمعت عينك؟ هل ارتجف قلبك؟
إن كانت الإجابة بالنفي فدعني أسألك..
هل ضمنت الجنة أخي؟
هل ضمنت النجاة من النار؟
فما بالي أراك وكأنك أمنت هذا المشهد..
قال رسول الله(: (يرسل البكاء على أهل النار فيبكون حتى تنقطع الدموع، ثم يبكون الدم حتى يصير في وجوههم كهيئة الأخدود لو أُرسلت فيها السفن لجرت).
وقال رسول الله(: (يأيها الناس ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا فإن أهل النار يبكون في النار حتى تسيل دموعهم في خدودهم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع فيسيل -أي الدم- فيُقرح العيون).
دموع في الخدود.. غزيرة متتابعة.. والوجه الجميل قد امتلأ بالأخاديد..
يبكون حتى تنتهي دموعهم..(2/17)
ولكن الألم مستمر والخطب عظيم.. فيبكون الدم..
أخي.. قف أمام المرآة، وتخيل وجهك وقد شوهته الأخاديد والدم يسيل من عينيك..
تخيل نفسك.. واسألها..
يا نفس.. متى تبكين؟
أتبكين الدموع اليوم فتثابين.. أم تبكين الدم غداً حيث لا ثواب ولا أجر على البكاء؟
يا نفس.. أنت أمام خيارين.. فاختاري ما يسرُّك..
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..
( ( (
مصادر استفدت منها:
1. زاد المعاد في هدي خير العباد للإمام ابن القيم.
2. الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي للإمام ابن القيم.
3. البكاء من خشية الله للشيخ حسين بن عودة العوايشة.
4. منطلقات طالب العلم للشيخ محمد حسين يعقوب.
5. حياة الصحابة للشيخ الكاندهلوي.
6. فضل الغني الحميد للشيخ ياسر برهامي.
7. مختصر النصيحة للشيخ محمد إسماعيل.
8. أوقف الشمس للشيخ مصطفى دياب.
??
??
??
??
البكاء من خشية الله(
17(2/18)