كتاب البرهان على تحريم التناكح بين الإنس والجان
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد:
فإن الزواج من أعظم مسائل الحياة التي تقوم عليه ديناً ودنيا، ولهذا اعتنى به الإسلام أيما عناية، وفصَّل مسائله أيما تفصيل وما يرتبط به من أحكام كثيرة وعظيمة، يُعلم هذا من الآيات والأحاديث الواردة في ذلك فما على المسلمين إلا أن يتفقهوا في أمر النكاح قبل أن يقدموا عليه حتى يسلموا من الغوائل التي تؤدي إلى تنغيص دينهم ودنياهم، ومن أعظم مسائل الزواج المختصة بالإنس أن الله جعله مقصوراً على ذرية آدم من بعضهم بعضاً فقط.
وقد ابتلي بعض المسلمين بالانخداع بالزواج من الجن جهلاً منهم بأضرار هذا الزواج
فمن خلال قيامي بالرقى على المصابين بالمس الشيطاني والتعرف على أحوال المصابين بذلك، بان لي بأن المبتلون بهذا النكاح عدد كثير، واتضح لي أن هذا الزواج مليء بالأضرار التي تؤدي إلى إفساد دين المسلم ودنياه، فرجعت إلى الأدلة المانعة من هذا الزواج فوجدتها كثيرة، ونظرت في كلام أهل العلم في هذا الزواج المشؤوم، فوجدت جمهورهم ما بين مصرح بتحريمه ومصرح بكراهيته، ولا يخفى على من عنده شيء من الإلمام بالنكاح المذكور أنه ليس مسألة فقهية فرعية فحسب، بل هو مسألة عظيمة لها ارتباط بالولاء والبراء والتعاون على الإثم والعدوان، ومما زاد الطين بلة أن قام بعض الكتَّاب بتأليف رسائل تدعوا إلى هذا الزواج، ولم يسلكوا مسلك أهل العلم في البحث والتمحيص والتحري للصواب، فجاءوا بالعجائب والمصائب، فرأيت أن أطرق المسألة بشيء من البحث والتمحيص والإيضاح لأهميتها في نظري.
وقد اعتمدت طريقة أهل العلم تضعيفاً وتصحيحاً وترجيحاً فدونك هذه الرسالة التي سميتها ( البرهان على تحريم التناكح بين الإنس والجان ) والله أسأل أن يجعلها مقبولة عند عباده ونافعة لي بين يديه.
الفصل الأول(1/1)
تعريف النكاح
يطلق ( النكاح ) في اللغة على: الجمع، والضم، والتداخل، ولزوم الشيء للشيء مستعلياً عليه.
وذكر بعض المفسرين أن النكاح في القرآن على عدة أوجه منها: العقد، الوطء، العقد والوطء. انظر "نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر" لابن الجوزي ص(591)
وأما في الشرع فكثيراً ما يراد بالنكاح: عقد الزواج، وهو قول أكثر أهل العلم.
وعرفه بعضهم بقوله: هو أن يعقد على امرأة بقصد الاستمتاع بها وحصول الولد، وغير ذلك من مصالح النكاح.
وعلى هذا التعريف لا يكون الزواج من جنية متحققاً منه ذلك، كما سيأتي بيان هذا في ثنايا هذه الرسالة.
والتعريف اللغوي والشرعي للنكاح لا تفاوت بينهما.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان الدليل على بطلان التحليل" ص(501): "النكاح في اللغة: الجمع والضم على أتم الوجوه، فإن كان اجتماعاً بالأبدان فهو الإيلاج الذي ليس بعده غاية في اجتماع البدنين، وإن كان اجتماعاً بالعقود فهو الجمع بينهما على وجه الدوام واللزوم".
بداية ظهور التناكح بين الجن والإنس في أوساط المسلمين
لقد كان المسلمون في عافية من حصول التناكح بين الجن والإنس سواء في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو في عهد الخلفاء الراشدين ومن جاء من بعدهم، ثم ظهر ذلك النكاح في غير عصر السلف الصالح، وأما القصص التي نسبت إلى مالك والأعمش أو زيد العمي فيما يتعلق بهذه المسألة، فغير صحيحة كما سيأتي هذا في الإجابة عن الشبه، ومما يقوي هذا أنها لو كانت في عصر التابعين لحصل الرد على المجيزين هذا النكاح ولو من بعض السلف، فيستفاد من هذا: أن ظهور التناكح بين الجن والإنس كان بعد عصر السلف، والله أعلم.
ولا زال أمر هذا النكاح يزيد ويكثر حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى" (19/39): "وقد يتناكح الإنس والجن ويولد بينهما ولد، وهذا كثير معروف، وقد ذكر العلماء ذلك وتكلموا عليه"
الاختلاف في وقوع الزواج بين الجن والإنس(1/2)
لما كان وقوع التناكح بين الجن والإنس غريباً مريباً حصل الاختلاف بين الكثير في وقوعه وعدمه، واشتهر هذا حتى إن كثيراً من الكتَّاب في هذه المسألة يتطرقون في مؤلفاتهم لعقد فصل لمناقشة هذا الأمر وقوعه من عدمه.
وقد حصل هذا الخلاف قديماً وحديثاً، والذي ظهر لي من خلال بحث هذه المسألة وقوعه، وهو قول كثير من أهل العلم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " وقد يتناكح الإنس والجن... وهذا كثير معروف" مجموع الفتاوى (19/39).
وقال صاحب "تفسير حدائق الروح والريحان" (15/302): "ومن هنا أخذ بعض العلماء أن يمتنع أن يتزوج المرء امرأة من الجن، إذ لا مجانسة بينهما فلا مناكحة، وأكثرهم على إمكانه"
وهذا الزواج يقل تارة ويكثر تارة، أما كثرته فتكون بسبب كثرة انتشار السحرة والكهان والمنجمين، خصوصاً السحرة المدعين الصلاح والتدين، كسحرة الصوفية، فإن من الصوفية يتعاطى الأعمال السحرية للدجل على المسلمين بأنهم أصحاب كرامات، حتى إن بعض الصوفية يفتخر بهذا الزواج، وهذا من المآخذ على الصوفية.
كيف توصَّل الإنسي إلى نكاح الجنية
من خلال المناقشة لمن تزوج بجنية تأكد لدي أن التوصل المذكور بين الجنسين يحصل بظهور الجنية على الإنسي، فيحصل للإنسي عند ظهور الجنية عليه خوف شديد وانزعاج كبير، ولكنها تغرر به حينما تتمثل له على هيئة امرأة جميلة من الإنس، ويكون معها نفر من الجن يدَّعون أنهم من أقاربها ومعهم عاقد منهم وما هي إلا لحظات قصيرة وقد تزوج الإنسي بالجنية، وهكذا يتعامل الجن مع الإنسية التي يريدون نكاحها، فإن رفض الإنسي أو الإنسية هذا الزواج فقد يتركونه وقد يؤذونه، والغالب المؤاذاة. فعلى من ابتلي بهذا أن يتجه إلى أمرين:
الأول: التضرع إلى الله والعبادة له بالصدق والإخلاص والخشية والمراقبة.(1/3)
الثاني: المحاججة للجن بالقرآن والسنة، يخاطبهم بقوله: هل أنتم مسلمون أم كفار؟ فإن قالوا: كفار بين لهم أن الإسلام حرم مناكحة الكفار من الإنس إلا أهل الكتاب، فمن باب أولى أن يحرم مناكحتكم. وإن قالوا: نحن مسلمون، بين لهم أن المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله، ومن ظلمكم للمسلم الإنسي واعتداؤكم عليه ظهوركم عليه ودعوتكم إياه إلى ما منع منه الإسلام من المطالبة بالنكاح منكم، فمن صدقكم في إسلامكم وخوفكم من ربكم أن تبتعدوا عن هذا الظلم والاعتداء علينا فنطلب منكم أن تنصرفوا عنا راشدين، فإن كانوا مسلمين عندهم جهل مع حب الحق فسيقبلون النصيحة وينصرفون ولن يعودوا بإذن الله، وإن كانوا زنادقة أو ضلالاً أو كفاراً فالغالب أنهم يعاندون، فعلى المسلم الالتجاء إلى الله.
نفرة الفطرة البشرية عن زواج الإنسي بجنية
من شؤم الزواج بين الجن والإنس نفور الفطرة البشرية عنه، ومما يدل على ذلك الآتي:
1- بنو آدم ذكورهم وإناثهم لا يجدون أنفسهم تتطلع إلى هذا الزواج ولا ترغب فيه، بل لا يكاد يخطر ببال كثير منهم، بخلاف النكاح بين الإنس من بعضهم بعضاً، فهو غريزة فطروا عليها كغريزة الأكل والشرب، لا يجدون الاستغناء عنه.
2- يحصل من بعض من لم يتيسر له الزواج الإتجاه إلى الجرائم من زنا ولواط وغير ذلك، لكن لا تجده يبحث عن الزواج من الجن مع حالته هذه، فعلى ماذا يدل هذا؟
3- لا ترى الناس عند أن يعلموا بأن فلاناً تزوج بجنية لا تراهم فرحين مسرورين بذلك، ويُسمع من بعضهم كلاما يدل على نذفرة فطرهم عن هذا الزواج كقولهم: ما وجد فلان إلا جنية يتزوجها وبعضهم يقول: لو انعدمت النساء ما تزوجت جنية وهذا منهم بدافع الفطرة، فالدليل الفطري المذكور دليل مهم عظيم ينبغي اعتباره دليلا في هذه المسألة حتى لا تعاند الفطرة.
العقل السليم يستنكر الزواج من الجن(1/4)
لما كان الزواج من الجن غريباً مريباً استنكرته العقول السليمة، قال القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (13/141): قال الماوردي: والقول بأن أم بلقيس جنية مستنكر من العقول لتباين الجنسين واختلاف الطبعين وتفارق الحسَّين"
وقال الآلوسي في "روح المعاني" (19/189): ثم ليت شعري إذا حملت الجنية من الإنسي هل تبقى على لطافتها، فلا تُرى، والحمل على كثافة قيُرى أو يكون الحمل لطيفا مثلها قلا يُرَيان، فإذا تم أمره تكثف وظهر كسائر بني آدم أو تكون متشكلة بشكل نساء بني آدم ما دام الحمل في بطنها وهو فيه يتغذى وينمو بما يصل إليه من غذائها وكل من الشقوق لا يخلو عن استبعاد كما لا يخفى"
وقال الألباني رحمه الله وهو يتحدث عن هذا النكاح: نعم العقل لا يحيله، ولكنه أيضا لا يدركه، بل إنه يستبعده كما تقدم، فالإيمان به يتطلب نصا صحيحا صريحا" السلسلة الضعيفة (12/610)
قلت: والعقل يستنكر هذا الزواج أيضاً لأنه اعتداء على الإنسي، فكيف يسعد المسلم بمعاملة من اعتدى عليه، فكيف بمن استمر في معاداته. ألا ترى أن الإنسي يفاجأ بجنية تطالبه بالزواج بها ليس له أي معرفة مسبقة بها.
وكيف يعقل صلاح هذا الزواج والمرأة الجنية ليست تحت تصرف زوجها الإنسي؟
وأيضا لو اعتدت على الإنسي بضرب أو قتل أو غيره فمن يأخذ حق زوجها منها؟
أمور ما لها إلا البعد عن هذا الزواج.
الأدلة الشرعية على عدم جواز التناكح بين الجن والإنس
إن المتأمل في الآيات والأحاديث التي فيها الدعوة إلى النكاح بين الإنس والإمتنان بذلك يرى أن دلالتها تفيد الحصر على هذا النكاح، ولم تشر لا من بعيد ولا من قريب ولا بالسياق ولا بالسباق إلى الدعوة إلى التناكح من الجن، وهاك الأدلة على ذلك:(1/5)
الدليل الأول: قوله تعالى: { وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } (21) الروم: 21]
وقال تعالى: { فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } [الشورى: 11]
وقوله تعالى: { وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } [الشعراء: 166]
ووجه الاستدلال بهذه الآيات من وجوه وهي كالآتي:
أ قوله { خَلَقَ لَكُمْ } و { جَعَلَ لَكُم } المفسرون على أن معنى لكم) أي: من أجلكم.
فالحكمة الإلهية هنا أن الله أراد بخلق إناث البشر انتفاع ذكور البشر بهن انتفاعا لا يتحقق لهم بغيرهن، فأين مثل هذه الحكمة في خلق الجنيات للإنس، ويفهم من الآيتين أن الإنسيات لم يخلقن للجن وأن الجنيات لم يخلقن للإنس.
ب قوله: { مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } أكثر المفسرين على أن معناها: من جنسكم في البشرية والإنسانية. وقيل: المراد حواء.
وقد نص غير واحد من العلماء عند آية النحل { وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } النحل72] ومنهم عند آية الروم الآنفة الذكر على تعذر نكاح الإنس من غيرهم، قال الحافظ ابن كثير في تفسيره عند آية الروم { وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } (21) الروم: 21] (11/20) : "ولو أنه جعل بني آدم كلهم ذكورا وجعل إناثهم من جنس آخر إما من جان أو حيوان لما حصل هذا الإئتلاف بينهم وبين الأزواج بل كانت تحصل نفرة لو كانت الأزواج من غير الجنس ثم من تمام رحمته ببني آدم أن جعل أزواجهم من جنسهم"
جـ- قوله: { أَزْوَاجاً } نكرة في سياق الامتنان، وهي عند بعض الأصوليين تفيد العموم.(1/6)
وقال القرطبي في "جامع أحكام القرآن" (10/93-94) عند آية النحل: المعنى: جعل لكم من أنفسكم أي: من جنسكم ونوعكم وعلى خلقكم... وفي هذا رد على العرب التي كانت تعتقد أنها كانت تتزوج الجن وتباضعها..."
فانظر أيها المسلم إلى هذه الآية العظمى وهي خلق المرأة من جنسنا الإنساني ونوعنا الآدمي وهيئتنا وشكلنا وتركيبنا مما لا يوجد مثله، فهل يتأتى هذا في الجنيات فهل هذا الامتنان الإلهي علينا إلا لجعل الزواج من جنسنا كما قال تعالى: { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } [التوبة: 128] وقال: { لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ } [آل عمران: 164] فلو كان الرسول إلينا من الجن أو الملائكة أو غيرهما لما حصل المقصود من البعثة النبوية، وهكذا لو كانت إناث الجن زوجات للإنس لما حصل المقصود من النكاح الشرعي.
د- قوله تعالى: { لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا } وقوله تعالى في آدم: { لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } [الأعراف: 189] فسر العلماء السكون في هذه الآية بتفاسير متقاربة، قالوا: علل الله خلق الأزواج بالسكون إليها، وهو الألف والميل، قال الشوكاني في "فتح القدير" (4/219): أي: تألفوها وتميلوا إليها، فإن الجنسين المختلفين لا يسكن أحدهما إلى الآخر ولا يميل قلبه إليه"
وقال العلامة ابن القيم في "الجواب الكافي" ص(447): فجعل المرأة سكنا للرجل يسكن قلبه إليها"
وجميع المفسرين على أن السكون المذكور في الآية لا يتحقق بجنس آخر، بل صرح بعضهم أن السكون لا يتحقق عن طريق نكاح الجنية، قال صاحب "تفسير حدائق الروح والريحان" (22/102): وليس السكون إلى الجنية كالسكون إلى الإنسية وإن كانت متمثلة في صورة الإنس"
فاتضح من هذا أن حكمة الله في جعل زواج الإنسي بالإنسية دون غيرها ليتحقق السكون بين الزوج وزوجته، ومقتضى هذه الحكمة الإلهية أنه لا يشرع للإنسي أن ينكح غير إنسية.(1/7)
هـ- قوله تعالى: { وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً } [الروم: 21]
قال كثير من المفسرين: المودة: هي المحبة. بل قال البغوي في تفسره (6/266) وهو يتحدث عن المودة المعنية في هذه الآية: وما شيء أحب إلى أحدهما من الآخر من غير رحم بينهما"
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: "وجعل بينهما خالص الحب..." "الجواب الكافي" ص(447) وقد صرح غير واحد من المفسرين على أن هذا الود لا يتأتى عن طريق نكاح الجنية كما سيأتي نقل شيء من أقوالهم في كلام أهل العلم على هذه المسألة.
فأبانت الآية الكريمة أن من آيات الله الدالة على كمال قدرته وعظيم حكمته أنه سبحانه ألقى الود والحب في قلوب الزوجين من الإنس، ولا يخفى على عقلاء الناس أن هذا الود هو أعظم سبب لدوام الحياة الزوجية بين الإنس. ولا أعلم أن ناكحاً جنية وجد شيئاً من هذه المودة فيما بينهما، وإنما تقهره الجنية قهراً كما سيأتي إيضاحه.
و_ قوله سبحانه: { وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } الروم21
والرحمة هنا فسرها بعض المفسرين بأنها الشفقة، وفسرها بعضهم بأن الزوج يرحم امرأته حتى لا يصيبها بسوء، أي: بسبب رحمته إياها لا يرضى بإهانتها بجوع أو عطش أو مرض أو ضرب أو غير ذلك وفسرها بعضهم بحصول الولد ولا شك أن من أسباب قوة الرحمة بين الزوجين وجود الأولاد كما هو محسوس ومشاهد.
ولا تتحقق هذه الرحمة بين المتزوج بجنية لأنها تعيش على غير عيشته فلا تأكل من أكله ولا تتعالج بعلاجه ولا تحمل منه ولا تلد له، ولا تقوم بخدمته، إلى غير ذلك مما يفقد الرحمة بينهما، بل تؤذيه إيذاء شديداً كما سيأتي إيضاحه.
وإذا افتقدت الحياة الزوجية بالجنية السكون بين الزوجين والحب والرحمة فما أتعسها من حياة، اللهم سلم سلم.
الدليل الثاني: قوله تعالى: { وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً } [النحل: 72](1/8)
وجه الاستدلال: أن الله امتن على بني آدم بأن جعل الزواج من جنسهم وسيلة إلى الحصول على الأولاد والحفدة، وهذا الامتنان عام، والحفدة: هم الأنصار والأعوان والخدم، كما صح عن مجاهد. وبعضهم يقول ـ وهم الأكثر ـ أن الحفدة: هم أولاد الأولاد.
وقال ابن عطية في تفسيره (8/468-469): ويحتمل عندي أن قوله { مِّنْ أَزْوَاجِكُم } إنما هو على العموم والاشتراك، أي: أن من أزواج البشر جعل الله لهم البنين، ومنهم جعل الخدمة، فمن لم يكن له زوجة فقد جعل الله له حفدة وحصل تلك النعمة وأولئك الحفدة هم من الأزواج، وهكذا تترتب النعمة التي تشمل جميع العالم"
وتتجلى عظمة التناكح هذا بأن النوع البشري لا بقاء له إلا بالنكاح من جنسه، لأن التناكح بين الجن والإنس لا يحصل عن طريقه الأولاد، فالإنسي لا يتأتى له أولاد من نكاحه الجنية، والجني لا يتأتى له أولاد من نكاحه الإنسية، فالتناكح بين الجن والإنس يهدم هذا المقصد العظيم، وقد جعل بعض العلماء التوالد بين الإنس والجن شبه مستحيل، قال الماوردي: "والقول بأن أم بلقيس جنية مستنكر من العقول؛ لتباين الجنسين واختلاف الطبعين وتفارق الحسَّين..." نقلاً من تفسير القرطبي (13/141)
وقال الآلوسي في "روح المعاني" (19/189): ثم ليت شعري إذا حملت الجنية من الإنسي هل تبقى على لطافتها فلا ترى والحمل على كثافته فيرى، أو يكون الحمل لطيفا مثلها فلا يريان فإذا تم أمره تكثف وظهر كسائر بني آدم أو تكون متشكلة بشكل نساء بني آدم مادام الحمل في بطنها وهو فيه يتغذى وينمو بما يصل إليه من غذائها وكل من الشقوق لا يخلو عن استبعاد كما لا يخفى"
وسيأتي إيضاح مسألة: أنه لا حصول للأولاد عن طريق التناكح بين الجن والإنس.
الدليل الثالث: قوله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً } [الفرقان: 54](1/9)
هذه الآية فيها امتنان الله على عباده بما صيرهم إليه من أنساب وأصهار يقوم بذلك أصل نظام البشر، فجميع المفسرين على أن (البشر) المذكور في الآية الإنسان دون غيره، وعلى أن النسب فيها ما كان من جهة الأبوة والبنوة والأخوة لأولئك وبنوة لتلك الأخوة، وأن الصهارة ما كان من جهة المرأة وسميت مصاهرة من انصهار شيء في آخر، أي: اختلاطه به، وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن الرضاعة من جملة النسب، ولما كانت الصهارة بالغة هذه الأهمية الكبيرة؛ جعلت من جنس البشر فخرج من دونهم، فكيف يجوز التناكح مع الجن والصهارة منعدمة في هذا الزواج، فالمسلم إذا تزوج بجنية لا يتحقق له معرفة أصهاره من الجن، فهذا الزواج يتنافى مع هذه الأحكام الشرعية العظيمة.
الدليل الرابع: قوله تعالى: { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء } النساء3
وجه الاستدلال بهذه الآية: أنها نصت على إباحة نكاح النساء، وهذا اللفظ خاص ببنات آدم لا يدخل فيه إناث الجن، ومن قال بخلاف هذا فعليه الدليل، لأن عموم المسلمين لم يفهموا قط أن الآية المذكورة تشمل نكاح إناث الجن، ولو فهموا هذا لصرحوا به في أحاديثهم ولنقل ذلك عنهم، ولم يفهم هذا أهل الاختصاص وهم علماء التفسير فتفاسيرهم التي ملئت بالدنيا لا تجد فيها تعميم الآية في إناث الجن، فهذا الاستنباط في غاية القوة، فكيف إذا انضم إليه من الأدلة ما يفوق الحصر؟!
الدليل الخامس: قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء } [النساء: 1]
المفسرون مجمعون على أن المراد بالنفس في هذه الآية: آدم، وعلى أن المراد بزوجها حواء، والجمهور على أن قوله (منهما) عائد على النفس، وهي آدم. وقال بعض العلماء: أي: من جنسها.(1/10)
وقول الجمهور أرجح لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن المرأة خلقت من ضلع..." رواه البخاري رقم (5184) ومسلم (1468) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، ولا خلاف بين أهل العلم أن المراد بالمرأة هنا: حواء وأنها خلقت من ضلع آدم، أما بناتها فقد خلقن عن طريق التوالد وأيضا قال أبو حيان في تفسيره (3/494-495): إذ لو كانت حواء مخلوقة ابتداء لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفس واحدة"
ووجه الاستدلال بهذه الآية على منع التناكح بين الجن والإنس من وجوه:
1- خلق حواء من ضلع آدم يدل على مدى اتصال الإنسية بالإنسي حيث أنه أصلها لأنها منه وهذا لا وجود لشيء منه في إناث الجن.
2- جعل حواء زوجة لأبينا آدم مع أنها منه مع وجود إناث الجن آنذاك لأن الجن خلقوا قبل خلق آدم عليه السلام دليل على عدم شرعية وزاج الإنسي بالجنية مهما بلغت الحاجة إلى ذلك وأين تقع حاجة ذرية آدم إلى نكاح الجنيات مع وجود الإنسيات بين أظهرهم بجانب حاجة آدم إلى النكاح من الجن لعدم وجود إنسية، ومع هذا لم يشرع له عليه السلام في نكاح إناث الجن، بل خلقت له زوجة من ضلعه.
3- قوله تعالى: { وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء } أجمع المفسرون على أن قوله (منهما) أي: آدم وحواء فدلت الآية دلالة واضحة على أن كل فرد من أفراد ذرية آدم وحواء جاء من التوالد بين ذكور الإنس وإناثهم، ويفهم من الآية الكريمة أن النكاح بين الجن والإنس لم يشرع قط في زمن من الأزمنة، فالآية فيها التصريح المذكور بأن انتشار ذرية آدم جاء عن آدم وحواء ابتداء وأصلا، وعن التوالد بين ذريتهما تبعا، وقد نص غير واحد من المفسرين على أن هذه الآية تفيد الحصر، أي: حصر البشرية المبثوثة من آدم وحواء وذريتهما فقط.
4- يستفاد من الآية المذكورة أن النكاح بين الجن والإنس لا يأتي عن طريقه الأولاد، إذ لو حصل الأولاد عن طريق هذا التناكح ما حصرت الآية بث البشرية من ذرية آدم فقط.(1/11)
الدليل السادس: قوله تعالى: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ } المائدة27
كثير من المفسرين أن سبب هذا القربان أن حواء عليها السلام كانت في كل بطن تحمل ذكراً وأنثى فكان الذكر بزوج أنثى البطن الآخر، قال المفسر الكبير ابن عطية في كتابه "المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز" (4/410): وروت جماعة من المفسرين منهم ابن مسعود أن سبب هذا التقريب أن حواء كانت تلد في كل بطن ذكرا وأنثى، فكان الذكر يزوج أنثى البطن الآخر ولا تحل له أخته توأمته، فولدت مع قابيل أخت جميلة، ومع هابيل أخت ليست كذلك، فلما أراد آدم تزويجها قال قابيل: أنا أحق بأختي، فأمره آدم فلم يأتمر فاتفقوا على التقريب"
وقال القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (3/135): وأن القول ما ذكرناه من أنه كان يزوج غلام هذا البطن لجارية تلك البطن والدليل على هذا من الكتاب قوله تعالى : { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء } [ النساء : 1 ] وهذا كالنص ثم نسخ ذلك حسبما تقدم بيانه في سورة البقرة"
ومرادنا من بيان سبب القربان أن يتضح للقارئ أن العلماء حينما تكلموا على تزويج الذكور من أولاد آدم من صلبه نصوا على أنهم زوجوا بأخواتهم، ومعلوم أن إناث الجن موجودات في ذلك الزمان قطعا، ومع عدم وجود إنسيات من غير أخواتهم يتزوجون بهن لم يشرع لهم الزواج من الجنيات، فهذا يدل على عدم الالتفات أصلا إلى نكاح الإنس الجنيات، وأيضا لا نجد علماء التفسير يشيرون أدنى إشارة إلى أنه في هذه الحال يرخص للإنسي أن ينكح جنية، أفلا يدل هذا على أن التناكح بين الإنس والجن عند علماء التفسير قديما وحديثا لا يلتفت إليه.(1/12)
الدليل السابع: قوله تعالى: { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } [النساء: 34]
دلت هذه الآية وما كان في معناها من الأدلة على أمور، ومنها:
1- أن النكاح بين ذكور الإنس من إناثهم لا من غيرهم، بدليل قوله: { عَلَى النِّسَاء } لأن لفظ (النساء) لا يدخل فيه إناث الجن كما سبق بيانه.
2- أن قوامة الإنسي على الجنية لا تتحقق إذ لا يقدر على منعها من أي شيء تريده لأنها تقدر على أن تعود إلى خلقتها فلا يقدر بعد ذلك على رؤيتها فضلاً عن ضبطها، وأيضا تقدر على أن تتحول إلى مخلوق آخر كأن تطير في الهواء فلا يقدر على إمساكها، وأيضاً تقدر على ضربه وهي على صورة إنسية لأنها أقوى منه.
وعلى كل سبب عدم القوامة عليها لأن كل واحد منهما ليس مؤهلاً للحياة مع الآخر، وكون هذه القوامة لا يقدر عليهاالإنسي دليل على عدم التكليف بها شرعا، وعدم التكليف بها يستلزم عدم شرعية الزواج بإناث الجن، ألا ترى أن الإسلام حينما شرع الزواج بالإنسيات أوجب على الرجال القوامة عليهن، لأن الزواج في مقدورهم، فكذلك القوامة في مقدورهم، وعلى هذا فالقوامة تابعة لشرعية الزواج.
الدليل الثامن: قوله تعالى إخباراً عن تسخيره الجن لسليمان: { وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ } سبأ12
وأمثالها من الآيات الدالة على تسخير الله الجن لسليمان.
ووجه الاستدلال بهذه الآية: أننا لم نجد فيها وأمثالها من الآيات المتحدثة عن تسخير الله الجن لسليمان ولا بالإشارة إلى أن التناكح بين الجن والإنس حصل في عهد سليمان عليه السلام باعتبار أن جن سليمان قد صاروا مسخرين لسليمان مقهورين له لا يقدرون على التمرد عليه.(1/13)
وقد رجعت إلى كتب التفاسير المتعلقة بهذه الآية وأمثالها فلم أجد أن النكاح المذكور حصل في عهد سليمان، وإذا كان لم يحصل مع تسخير الجن له فمن باب أولى أن لا يشرع في عهد غيره لعدم تسخير الجن لغيره عليه السلام.
بل إن التناكح المذكور لم يكن مقبولا عند بني إسرائيل؛ ففي الإصحاح التاسع عشر ذكر وصايا وتشريعات، ومنها: بر الوالدين وتحريم عبادة الأوثان... وتحريم الزنا والاتصال بالجان. نقلاً من كتاب "مواقف القرآن من التوراة" ص(192).
الدليل التاسع: قوله تعالى: { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } الإسراء70
وقال تعالى: { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } التين4
وقال تعالى: { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } غافر64
أفادت هذه الآيات الآتي:
أ تكريم الله وتفضيله آدم وذريته على مخلوقات وأمم كثيرة، ومن هذه الأمم التي فضل بنو آدم عليها أمة الجن والشياطين، صرح بذلك أهل العلم كالقرطبي وابن عطية وأبي حيان وغيرهم، وأيضاً عدم وجود معارض لهذا التنصيص فيما أعلم، وهو دليل على التسليم بدخول الجن ضمن المفضل عليهم.
ب من فروع هذا التفضيل: تفضيل الإنس على الجن في الصورة كما قال الله مخاطبا الإنس: { فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } وأما صور الشياطين فهي صور قبيحة، قال تعالى: { طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ } الصافات65، فظاهر الآية أن صور الجن التي هم عليها خلقا لا يطيق رؤيتها الإنس.(1/14)
ت ومن فروع هذا التفضيل أيضاً قوله تعالى: { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } التين4 فالجن ليست هيئتهم جميلة فضلا عن أن تكون أحسن من هيئة الإنس، فهذا التفضيل للإنس على الجن في الخلق والتركيب والهيئة والصورة من أسباب عدم صلاحية زواج الإنسي بجنية لعدم وجود التناسب والتجانس والتآلف والتشاكل، فكم يخاف الإنسي عندما تظهر له الجنية بصورة إنسية، فكيف لو اطلع على خلقتها وصورتها الحقيقية.
الدليل العاشر: قوله تعالى: { وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } النور32
استدل بهذه الآية غير واحد من العلماء على أن المسلم لا يجوز له أن يتزوج من غير المسلمين، قال الإمام الشنقيطي في "أضواء البيان" (6/215): في هذه الآية (منكم) أي: من المسلمين، ويفهم من دليل الخطاب أي مفهوم المخالفة في قوله (منكم) أن الأيامى من غيركم أي من غير المسلمين وهم الكفار ليسوا كذلك"
قلت: يفهم من قوله تعالى ( منكم ) أي: (من غير المسلمين) الجن، فإن كانت الجنية التي سينكحها المسلم كافرة فهي داخلة في الآيات التي تحرم مناكحة الكفار ولابد، وإن كانت مسلمة على حسب دعواها فهي من غيرنا لأنها من أمة أخرى، وأيضا لا تأتي تعرض نفسها على الإنسي إلا وهي معتدية عليه، فأمرها محتمل للكفر وعدمه، وفي هذه الحالة لا يجوز للمسلم القدوم على نكاحها.
الدليل الحادي عشر: قوله تعالى واصفا عباده المؤمنين: { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ { 5 } إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ { 6 } فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ { 7 } [المؤمنون: 5-7]
فقوله: { إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ } يفهم منها على أن زوجات الإنس منهم لأنها أضيفت إليهم، وهذه الإضافة تفيد العموم كما سطره الأصوليون.(1/15)
الدليل الثاني عشر: قوله تعالى: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء } آل عمران14
قال ابن عطية وغيره في التزين المذكور: معناه: بالإيجاد والتهيئة للانتفاع وإنشاء الجبلة على الميل إلى هذه الأشياء"
وقال العلامة ابن القيم في "عدة الصابرين" ص (167): فأخبر سبحانه أن هذا الذي زين به الدنيا من ملاذها وشهواتها وما هو غاية أمانى طلابها ومؤثريها على الآخرة وهو سبعة أشياء النساء اللاتي هن أعظم زينتها وشهواتها وأعظمها فتنة"
قلت: هذا التزيين الإلهي في ذكور بني آدم وإناثهم هو الغريزة والجبلة التي فطرهم الله عليها، ولا وجود لشيء من هذا التزيين الذي في ذكور بني آدم وإناثهم للجن، فلا تجد الإنسية قط اشتهائها الجني ولا يجد الإنسي الاشتهاء لإناث الجن، ولما كان الأمر كذلك سعى الشياطين في تزيين إناث الجن وذكورهم للإنس عن طريق دفعهم إلى الظهور على أفراد من بني آدم بصورة الإنس والإنسيات لكي يقبلوا عند الآدميين.
فانظر كم الفارق بين الدواعي الشرعية لنكاح الإنسيات وعدمه في نكاح الجنيات، فكما أن الشيطان هو الداعي إلى الزنا وغيره من الرذائل فكذلك هو الداعي إلى التناكح بين الجن والإنس.
فائدة: قال البقاعي في تفسيره (4/270): قال الحرالي: وأخفى فتنة النساء بالرجال سترا لهن كما أخفى أمر حواء في ذكر المعصية لآدم، حيث قال: { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ } طه: 121] فأخفاهن لما في ستر الحرم من الكرم، والله سبحانه وتعالى حيي كريم"(1/16)
الدليل الثالث عشر: قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : "فاظفر بذات الدين تربت يداك" رواه البخاري رقم (5090) ومسلم رقم (1466) من حديث أبي هريرة وفي حديث جابر "فعليك بذات الدين" قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (9/169) عند هذا الحديث: "فأمره النبي بتحصيل صاحبة الدين هو غاية البغية" قلت: هذا الشرط يدخل فيه النكاح من الجن، ولننظر هل يتحقق ذلك إذا تزوج الإنسي بجنية؟ من المعلوم أن أكذب الخلق الجن كما أوضحنا ذلك في رسالتنا ( إنقاذ المسلمين ) وهم يقدرون على التشكل بصور الإنس رجالهم وإناثهم والصالح منهم والصالحات وهم على كفرهم وشركهم بالله فأنى للمسلم الإنسي أن يعرف تدينها وما عنده أي دليل على ذلك لا سابق ولا لاحق وليس معه إلا كلامها، قد يقول قائل: ما ظهرت إلا وهي صالحة. والجواب: هذا الكلام يحتاج إلى إثبات ولا إثبات، بل الإثبات أنها لو كانت صالحة ما ظهرت على الإنس لتخيفهم وتلعب عليهم وتمكر بهم لأن صالحي الجن يعلمون أن هذا الظهور منع منه الإسلام، قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : "إن بالمدينة جنا قد أسلموا فإن بدا لكم منهم فأنذروه ثلاثا فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه" رواه مسلم، ومن هنا يعلم يقينا عدم تحقق نكاح الجنية من المسلمين (اظفر بذات الدين)
وبعد هذا الإيضاح فالغالب على الجن ذكورهم وإناثهم الذي يظهرون على الإنس من أجل الزواج منهم أنهم كفار أو زنادقة، أو جهال أو ضلال.
الدليل الرابع عشر: قوله تعالى: { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ } النور3](1/17)
والآية شاملة للخباثة في الأقوال والأفعال ولطيابة الأقوال والأفعال، قال العلامة ابن القيم في "زاد المعاد" (1/67) في هذه الآية: وهي تعم ذلك وغيره فالكلمات والأعمال والنساء الطيبات لمناسبها من الطيبين والكلمات والأعمال والنساء الخبيثة لمناسبها من الخبيثين فالله سبحانه وتعالى جعل الطيب بحذافيره في الجنة وجعل الخبيث بحذافيره في النار"
وجه الاستدلال بهذه الآية الكريمة على حرمة نكاح الجن: أن الله يجمع بين الطيبين من الذكور والإناث ولا يكون هذا إلا بالاتصاف بالعفاف والصلاح ويصعب تحقق هذا في ذكور الجن وإناثهم لأمور ومنها:
1- كثرة الفواحش فيهم وكيف لا تكثر فيهم وأبوهم إبليس وأتباعه من الجن دعاة إلى ذلك قال تعالى: النَّارِ { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ { 168 } إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء { 169 } البقرة168-170] فإذا كان هذا فعلهم في بني آدم فسيكون الفساد فيما بينهم أكثر وأكثر.
2- كثرة الكذب في الجن، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن الشياطين وإن كانوا يخبرون الإنسان بقضية أو قصة فيها صدق فإنهم يكذبون أضعاف ذلك" مجموع الفتاوى" (35/166)
فالمسلم إذا أراد أن ينكح جنية ليس عنده ما يثبت عفافها من الزنا إلا كلامها، وكلامها ليس تزكية لها، وعلى هذا لا تتحقق فيها الطيابة، فكيف يتزوجها المسلم؟!
الدليل الخامس عشر: قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : "إن بالمدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان" رواه مسلم رقم (2236) عن أبي سعيد.(1/18)
هذا حديث عظيم في مسألة التعامل مع الجن عند ظهورهم على المسلم، فقد دعي المسلم عند ظهور الجن عليه - ذكورهم وإناثهم - إلى إنذارهم والاستعاذة بالله منهم وهذا يفيد أن الإسلام لم يرخص لهم في هذا الظهور بل اعتبروا معتدين على الإنس، فلهذا أنذورا واستعيذ بالله منهم، فإن أبوا الانصراف فقد أذن الإسلام للمسلم بمقاومتهم كما خنق الرسول - صلى الله عليه وسلم - الجني الذي اعترضه في صلاته بعد أن استعاذ بالله منه، أو بقتلهم عملاً بهذا الحديث. وفي الحديث المذكور سد للذرائع الموصلة إلى اقتراب الجن من الإنس، فكيف يجوز للمسلم أن يتعامل مع الجن حتى يتناكح منهم.
الدليل السادس عشر: قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : "لا نكاح إلا بولي" روه أبو داود برقم (2085) وغيره عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - .
والأدلة كثيرة على اعتبار أن الولاية في النكاح واجبة، فالجنية إما أن تطالب الإنسي أن يعقد بها للإنسي أو يعقد بها وليها من الجن كما تدعي، فإن كان الأول فلم تتحقق صحة انتقال الولاية إلى الإنسي، وإن كان الثاني فما عندنا ما يثبت صدقها وصدقه لكثرة كذبهم كما سبق ذكره ولتلاعب الجن بأمور الإنس ومكرهم بهم واحتيالهم عليهم فظل الأمر مستبهماً لا يجوز القدوم عليه والحال هذه.
الدليل السابع عشر: قوله عليه الصلاة والسلام: "ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن قالوا وإياك ؟ يا رسول الله قال وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير" رواه مسلم رقم (2814) عن ابن مسعود.
ومرادنا من هذا الحديث أمور:
الأول: أن اقتراب الجن من الإنس هو من باب تسليط الجن على الإنس، فاقتراب جنية من فلان الإنسي بدعوى الزواج هو من هذا الباب.
الثاني: يستطيع الجني قرين المسلم أن يتشكل له بصورة إنسية جميلة لأنه يقدر على ذلك ويدعي أنه من إناث الجن، ومعلوم أن هذا القرين كافر يسعى لإفساد المسلم والمسلمة بكل ما أوتي.(1/19)
الثالث: لا يستبعد أن القرين من الجن يستدعي عاهرة من عاهرات الجن، بل كافرة وتتزين للمسلم بدعوى أنها تريد النكاح الحلال خصوصاً أن القرين يعرف من حال المسلم أشياء كثيرة فيفعل هذا مكرا بالمسلمين، فاجعل هذا منك على بال.
الدليل الثامن عشر: قوله تعالى: { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً } الجن6
ومعنى (زادوهم رهقاً) أي: خوفاً وإرهاقاً وذعراً.
ومرادنا في الاستدلال بهذه الآية الاستدلال بها على أمر خطير ألا وهو تطاول الجن على الإنس إذا تمكنوا منهم، وهذا واضح من قوله تعالى: { فَزَادُوهُمْ رَهَقاً } ونكاح الإنسي الجنية من أعظم أسباب إرهاقها له ديناً ودنيا فلا أعلم أني وجدت رجلاً مسلما متزوجاً بجنية بقي على ما كان عليه من صلاة وغيرها، ولا بقي على ما كان عليه من صحة وعافية، ولا على ما كان عليه من حسن معاملة مع الناس، بل يصير محبوساً بسبب تسلطها عليه، فصدق الله القائل: { فَزَادُوهُمْ رَهَقاً } فالحذر الحذر من قبول النكاح المذكور. وسيأتي مزيد بيان لمؤاذاة الجنيات لمن نكحهن من الإنس.
الدليل التاسع عشر: لم يعلم أن أحدا من الصحابة تزوج بجنية اعتمادا منهم على إقبال الجن على الإسلام، ولم يعلم أيضا أن جنيا تزوج مسلمة باعتبار أنهم إخواننا في الإسلام، فعدم حصول شيء من هذا الزواج يدل على انعدامه بين الجن والإنس في عصر النبوة الذي هو عصر التشريع.
الدليل العشرون: جميع الأدلة الواردة في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة الداعية إلى التناكح بين الإنس لا يفهم منها لا بالسياق ولا بالسباق ولا بالإشارة جواز التناكح بين الإنس والجن مع أنه لو كان هذا مباحا لدلت عليه هذه الأدلة، لأن المقام يقتضيها، فيستفاد من هذا خروج نكاح الإنس من الجن عن عموم الأدلة الشرعية الواردة في النكاح(1/20)
الدليل الحادي والعشرون: من المعلوم أن الإنسي لا يستطيع أن ينكح جنية إلا إذا تشكلت له بصورة إنسية، وهذا التشكل مع أنه ممنوع في شرع الله كما سق، وغير حقيقي أيضاً؛ فهي جنية وليست إنسية، ولما كان غير حقيقي فتستطيع الجنية في وقت الجماع أن تختفي عن زوجها وأن تتحول إلى حيوان وتستطيع أن تتحول إلى صورة رجل وتقدر على أن تظهر على الإنسي بصور مخيفة كأن تظهر عليه بعين واحدة أو بأجزاء مختلفة، فهذا المذكورات وما شابهها تدل على فساد هذا الزواج وتحريمه.
الدليل الثاني والعشرون: لقد دعي المسلمون إلى الاستعاذة من الجن والشياطين كافة في أحوال كثيرة، ولم يستثن فيها جني ولا جنية قال تعالى: { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } النحل98] وقال تعالى: { وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ { 97 } وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ { 98 } [المؤمنون: 97-98]
وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء قال: "اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث" رواه البخاري رقم (142) ومسلم رقم (375) وفي حديث زيد بن أرقم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن هذه الحشوش محتضرة، فإذا أتى أحدكم الخلاء فليقل: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث" رواه أبو داود رقم (6) وابن ماجة رقم (296) وأحمد (4/369) واللفظ له.
والحشوش: هي أماكن قضاء الحاجة.
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "إذا فزع أحدكم من النوم فليقل: أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون، فإنها لن تضره" رواه الترمذي برقم (3528) عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
وجاء من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في أذكار الصباح والمساء: "... أعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان وشركه..." رواه أحمد (1/9) وأبو داود برقم (5067) والترمذي برقم (3392).(1/21)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أما لو أن أحدهم يقول حين يأتي أهله: بسم الله، اللهم جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، ثم قدر بينهما في ذلك أو قضي ولد لم يضره شيطان أبداً" رواه البخاري رقم (5165)
فهذه الأدلة تدعو المسلم والمسلمة إلى التحرز من الجن والشياطين في كل وقت وعلى كل حال، وهذا في الغالب وهم غير مرئيين لنا، فمن باب أولى أن يستعاذ بالله منهم حين ظهورهم علينا، فكيف يتعامل معهم إلى حد النكاح؟! وقد يقول معترض: أنت استدللت بهذه الأدلة وأكثرها فيها الاستعاذة من الشياطين، ومعلوم أن هناك فرقا بين الشياطين والجن فالشياطين بالنسبة للجن هم كفارهم، وأما الجن فهو شامل لمؤمنهم وكافرهم والنكاح من المؤمنين.
أقول: التفريق صحيح لا غبار عليه، ولكن الجني يدعي الإسلام وهو كاذب، ويدعي الصلاح وهو مفسد، فيصعب معرفة حقيقته، بل نجزم أنه لا يظهر على المسلم من ذكور الجن وإناثهم مطالباً بالزواج منهم إلا من كان غير صالح لأن الصالح يجتنب هذا، لأنه محرم في الإسلام، وسيأتي زيادة إيضاح للآية في فصل ( الرد على الشبه ).
الدليل الثالث والعشرون: قوله تعالى: { وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ } الأنعام128
هذه الآية الكريمة يخبر الله فيها عن حال الجن والإنس العصاة يوم القيامة ويوبخ سبحانه الجن على إضلالهم الإنس ويخبر سبحانه أن الجن أُفحموا فلم يأت منهم جواب وأن أوليائهم من الإنس وهم الطائعون لهم يقولون: { رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ } [الأنعام128] فهذا التصريح منهم باستمتاع كل فريق بالآخر هو إظهار لهذه الحقيقة التي خفيت في الدنيا على كثير من الناس ووجه استدلالنا بالآية على المنع من مناكحة الجن بالآتي:(1/22)
1- قرر غير واحد من العلماء أن الآية عامة في استمتاع الجن بالإنس فيدخل في ذلك التناكح بين الفريقين، فيكون داخلاً في الاستمتاع المذموم في الآية.
2- البادئ بالدعوة إلى النكاح المذكور الجن كما هو معلوم فهم داخلون في قوله تعالى: { قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ } [الأنعام128] والناكحون من الجن داخلون في الآية لأنهم مستكثر بهم.
وكلام أهل العلم على الآية المذكورة يدل على ما قلت، قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى" (13/81) وهو يشرح الآية المذكورة: "الاستمتاع بالشيء هو أن يتمتع به فينال به ما يطلبه ويريده ويهواه ويدخل في ذلك استمتاع الرجال بالنساء بعضهم ببعض كما قال { فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً } النساء24 ومن ذلك الفواحش كاستمتاع الذكور بالذكور والإناث بالإناث ويدخل في هذا الاستمتاع بالاستخدام وأئمة الرياسة كما يتمتع الملوك والسادة بجنودهم ومماليكهم ويدخل في ذلك الاستمتاع بالأموال كاللباس ومنه قوله { وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ } البقرة236] وكان من السلف من يمتع المرأة بخادم فهي تستمتع بخدمته ومنهم من يمتع بكسوة أو نفقة ولهذا قال الفقهاء أعلى المتعة خادم وأدناها كسوة تجزى فيها الصلاة
وفى الجملة استمتاع الإنس بالجن والجن بالإنس يشبه استمتاع الإنس بالإنس"
وقال ابن عاشور في تفسيره (8/69): "واستمتاع الإنس بالجن هو انتفاعهم في العاجل بتيسير شهواتهم وفتح أبواب اللذات والأهواء لهم وسلامتهم من بطشهم واستمتاع الجن بالإنس هو انتفاع الجن بتكثير أتباعهم من أهل الضلالة وإعانتهم على إضلال الناس والوقوف في وجه دعاة الخير وقطع سبيل الصلاح فكل من الفريقين أعان الآخر على تحقيق ما في نفسه مما فيه ملائم طبعه وارتياحه لقضاء وطره".
أقوال أهل العلم الدالة على تحريم نكاح الإنس من الجن(1/23)
أقوال العلماء في تحريم هذا النكاح وكراهيته كثيرة وإليك بعضاً منها:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى" (19/39-40): وكره أكثر العلماء مناكحة الجن"
وقال مشهور حسن آل سلمان في كتابه "فتح المنان في جمع كلام شيخ الإسلام على الجان" (1/425): وقد نقل جماهير الفقهاء حرمة نكاح الجنية"
وقال ابن القيم في "تهذيب السنن" (10/14): وقد تكلم في نكاح الجن للإنس الإمام أحمد وغيره، والكلام فيه في أمرين: في وقوعه وحكمه.
فأما حكمه فمنع منه أحمد، ذكره القاضي أبو يعلى"
وقال الدميري في كتابه "حياة الحيوان الكبرى" (1/194) وهو يذكر العلماء الذين منعوا النكاح بين الجن والإنس: ونص على منعه جماعة من أئمة الحنابلة"
وقال ابن العربي في "أحكام القرآن" (3/1160) والقرطبي في تفسيره عند هذه الآية: في هذا رد على العرب التي كانت تعتقد أنها تزوج الجن ووتباضعها"
وبمثل هذا القول قال الشنقيطي في "أضواء البيان" (3/383) وقال السيوطي بعد أن ذكر فتاوى بعض العلماء على تحريمه في كتابه "الأشباه والنظائر" ص(256-257): فإن قلت: ما عندك من ذلك؟ قلت: الذي أعتقده التحريم لوجوه، منها: ما تقدم من الآيتين.
ومنها: ما روى حرب الكرماني في مسائله عن أحمد وإسحاق قال حدثنا محمد بن يحيى القطيعي قال حدثنا بشر بن عمر حدثنا ابن لهيعة عن يونس بن يزيد عن الزهري قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نكاح الجن" والحديث وإن كان مرسلاً فقد اعتضد بأقوال العلماء، فروي المنع منه عن الحسن البصري وقتادة والحكم بن عيينة وإسحاق بن راهويه وعقبة الأصم"(1/24)
وقال صاحب كتاب "فتح الحق المبين في علاج الصرع والسحر والعين" ص(31) وهو يتحدث عن التناكح بين الإنس والجن: هذه مسألة شائكة، وللعلماء كلام كثير فيها، منهم من قال بوقوع ذلك، ومنهم من منعه، والذي نراه أن هذه المسألة نادرة الوقوع إن لم تكن ممتنعة، وحتى لو وقعت فقد تكون بغير اختيار، وإلا لو فتح الباب لترتب عليه مفاسد عظيمة لا يعلم مداها إلا الله، فسد الباب من باب سد الذرائع وحسم باب الشر والفتنة والله المستعان"
وقال صاحب الكتاب المذكور في الحاشية: علق سماحة العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز قائلا: "هذا هو الصواب ولا يجوز غيره لأسباب كثيرة"
وقال العلامة الألباني رحمه الله في السلسلة الضعيفة (12/608): ولكن أين الدليل الشرعي والعقلي على التوالد أولا، وعلى التزاوج الشرعي ثانياً؟ هيهات هيهات.
تنبيه: نقل بعض المؤلفين أن القول بالجواز هو قول جمهور أهل العلم، وهذا خطأ بل العكس هو الصواب، كما سبق ذكره قريباً.
اعتبارات عند أهل العلم تقوي عدم جواز التناكح بين الجن والإنس
قال السيوطي في "الأشباه والنظائر" ص (257) وهو يتحدث عن موانع النكاح بين الجن والإنس: ومنها: أنه قد منع من نكاح الحر للأمة لما يحصل للولد من الضرر بالارقاق ولا شك أن الضرر بكونه من جنية وفيه شائبة من الجن خلقاً وخلقاً وله بهم اتصال ومخالطة أشد من ضرر الإرقاق الذي هو مرجو الزوال بكثير، فإذا منع من نكاح الأمة مع الاتحاد في الجنس للاختلاف في النوع فلأن يمنع من نكاح ما ليس من الجنس من باب أولى، وهذا تخريج قوي لم أر من تنبه له"(1/25)
واستدل السيوطي أيضاً على منع التناكح بين الجن والإنس بحديث: "نهى رسول الله عن إنزاء الحمر على الخيل" وهو حديث صحيح عن علي وغيره قال السيوطي: ويقويه أيضا أنه نهى عن إنزاء الحمر على الخيل، وعلة ذلك اختلاف الجنس، وكون المتولد منها يخرج عن جنس الخيل، فيلزم منه قلتها... وإذا تقرر المنع فالمنع من نكاح الجني الإنسية أولى وأحرى" الأشباه والنظائر ص(257)
وقال ابن قدامة في "المغني": إن الوصية لا تصح بجني، لأنه لا يملك بالتمليك كالهبة فيتوجه من انتفاء التمليك منه الوطء لأنه في مقابله"
الأحكام الشرعية المترتبة على النكاح بين الجن والإنس لا يستطيع الإنسي أن يقوم بها على وجهها ولا ينال ماله منها على وجهها
الأحكام المتعلقة بالنكاح قبله ومعه وبعده كثيرة، ومنها المهر و الصداق، فكيف تمهر الجنية من زوجها الإنسي لأن أكل الجن غير أكلنا وشربهم غير شربنا وكسوتهم غير كسوتنا وعلاجهم غير علاجنا.
ومنها إلزام الزوج الإنسي زوجه الجنية بعدم الذهاب من بيته إلا بإذنه، لا يتحقق له هذا، لأنها غير منقادة له كما يريد ولهذا تظهر عليه وتختفي وتذهب وتأتي كما تريد.
ومنها جماعه لها يعتبر خسارة لأنه لا يجد عوضاً منها كما يجد من جماع الإنسية. وأيضا لا ينال منها أولاد له لأنها لا تحمل منه، وإذا طلقها لا تتحقق العدة التي هي حق للزوج، ولا عدة الحداد إذا مات ولا يقدر الشهود من الإنس أن يشهدوا للإنسي أنه نكح الجنية لعدم إدراكهم لحقيقة أمرها وغير هذه من الأحكام الكثيرة.
التناكح بين الجن والإنس ينافي مقاصد الشريعة ويضادها
لقد أوضحت الشريعة الإسلامية مقاصد النكاح ومن هذه المقاصد الآتي:
1- الحصول على الأولاد.
2- تحقق المودة والألفة والرحمة.
3- المحافظة على المجتمع من الفساد والرذائل.(1/26)
4- زوال الفقر الذي وعد الله بإزالته بقوله تعالى: { وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } النور32]
5- حصول كفاية المرأة.
6- حصول الأجر والثواب من عند الله.
7- قوامة الرجل على المرأة.
دوام النكاح، فافتقاد هذه المقاصد بسبب التناكح بين الإنس والجن يدل على شؤم التناكح المذكور، ألا ترى أيها المسلم أن الإسلام حرم أنكحة بين الإنس لافتقادها بعض هذه المقاصد كنكاح المتعة والتحليل والشغار، ألا يكون النكاح المذكور أولى بالرد والابتعاد عنه والتحذير منه.
نكاح الإنس من الجن مخالف للقواعد الشرعية العامة والخاصة المتعلقة بالنكاح
القواعد الشرعية على قسمين: عامة وخاصة، ومن القواعد العامة قاعدة: أن الشريعة الإسلامية مبنية على جلب المصالح ودفع المفاسد، فهذه القاعدة العظيمة تندرج تحتها مسائل كثيرة، ومن هذه المسائل المندرجة تحتها مسألتنا هذه، فإن الزواج من الجنيات لا تتحقق به المصالح ولا تدفع به المفاسد كما أوضحنا هذا في باب (التناكح يبن الجن والإنس ينافي مقاصد الشريعة ويضادها).
وأما القواعد الخاصة فمنها قاعدة: الأصل في الفروج التحريم، فمن المعلوم أن الإسلام قد صان أعراض المسلمين من أي خدش، فالتناكح المزعوم حقيقته أن الجن ذكورهم أو إناثهم يهجمون على الآدميين الأبرياء من الإنس ويدفعونهم إلى ما يغضب الله، وأيضا هذا النكاح مخالف للقاعدة العظيمة: سد باب الذرائع المفضية إلى ما حرم الله، قال العلامة ابن القيم في هذه القاعدة في "إعلام الموقعين" (3/159): فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين.(1/27)
ففتح باب التناكح بين الإنس والجن فيه مفاسد كثيرة الواجب سدها، ومن أخطرها انتشار الزنا بين الإنس والجن باسم النكاح بين الفريقين ومنها تسلط الجن والشياطين على الإنس وهذا التسلط فيه مفاسد عظيمة ومن تأمل ما قد أوضحناه من أضرار في النكاح المذكورة ظهرت له مفاسده المتنوعة
الفصل الثاني:
لقد استدل المجيزون التناكح بين الجن والإنس بأدلة ومجملها راجع إلى أمرين اثنين:
أحدهما: أدلة صحيحة ولكن ليس فيها دليل لهم على حد قولهم.
ثانيها: أدلة ضعيفة لا تقوم بهاحجة والأدلة الضعيفة هي المعتمدة عند القائلين بجوازه، لأن الأدلة الصحيحة لا تساعدهم على ذلك وإنما الاستدلال بها من باب التكلف.
الآيات التي استدل بها المجيزون التناكح بين الجن والإنس
استدلوا على جواز التناكح بين الجن والإنس بقوله تعالى: { وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ } الإسراء64]
ووجه استدلالهم: أنه جاء عن مجاهد بن جبر أنه قال: الرجل إذا لم يسم عند الجماع انطوى على إحليله الشيطان وجامع معه.
قلت: هذا أحد الأقوال في تفسير الآية.
وخلاصة أقوال المفسرين فيها الآتي:
1- حمل الجن الإنس على تسمية أولادهم كعبد الحارث وعبد شمس.
2- حمل الجن الإنس على أن يرغّبوا أبناءهم في الأديان الباطلة.
3- تزيين الجن للإنس أن يقتلوا أولادهم خشية الإملاق أو العار.
4- حملهم الإنس على تعليم أبنائهم الأشعار التي تدعو إلى الفحش.
5- هم أولاد الزنا.
ولا شك أن كل هذا حاصل من الجن ضد الإنس وأن الآية تعني كل هذه التسلطات على الإنس.
وعامة المفسرين على القول بعموم الآية ولم يجعلوا مشاركة الجن لمن لم يذكر اسم الله عند الجماع دليلا على جواز التناكح المذكور بل صرح بعضهم قائلا : وما أدخل النقاش من وطء الجن وأنه بحبل المراة من الإنس فضعيف كله. انظر تفسير ابن عطية (9/138)(1/28)
وأما قول مجاهد المذكور آنفاً فلا يصح إليه، لأن في إسناده سهل بن عامر وهو منكر الحديث. وفيه أيضاً يحيى بن يعلى الأسلمي ضعيف. وللمزيد حول هذا الأثر انظر "الضعيفة" للألباني (12/603)
وأيضا ليس فيه دليل على التناكح المذكور لأن غاية ما فيه أن الشيطان يشارك المجامع في جماع امرأته لأنه لم يسم الله عند الجماع، وهذه المشاركة الشيطانية تعد اعتداء من الجن وتسليط على الإنس، فكيف يستدل بها على جواز التناكح بين الجن والإنس، ولا يوجد فيه شي من مقومات النكاح بينهما.
ومن هنا نقول: التناكح بين الجن والإنس شيء، ومشاركة الجن في إفساد أولاد الإنس شيء آخر، فسعي الجن لإفساد أولاد الإنس أمر معلوم لكثرة الأدلة الواردة في ذلك.
ومما استدلوا به أيضا على جواز التناكح بين الجن والإنس قوله تعالى: { فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ } الرحمن56
قال المستدلون بالآية: هي تدل على أن الجن يغشون النساء كما يغشاهن الإنس.
قلت: هذا استدلال بمجرد الاحتمال المرجوح وإلا فالآية تتحدث عن الحور العين، ومعلوم أن الحور العين لسن من نساء الدنيا، قال العلامة ابن القيم في "حادي الأرواح" ص(289) وهو يرجح ما دلت عليه الآية المذكورة: ظاهر القرآن أن هؤلاء النسوة لسن من نساء الدنيا وإنما هن من الحور العين، و أما نساء الدنيا فقد طمثهن الإنس ونساء الجن قد طمثهن الجن والآية تدل على ذلك"
ومن استدلالهم أيضا على جواز التناكح بين الجن والإنس قوله تعالى: { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً } الجن6
وجه استدلالهم: أن الله سمى الجن رجالاً، وإذا سماهم بذلك دل هذا على أننا نتعامل معهم كما نتعامل مع الإنس من تزويج لهم ومنهم.(1/29)
أقول: للمفسرين قولان في إطلاق لفظ (رجال) على الجن، فالجمهور يرون إطلاق (رجال) على الجن، صرح بهذا غير واحد من المفسرين، وغير الجمهور على عدم إطلاقه وقالوا: إنما ذكر لفظ (رجال) على الجن في الآية المذكورة من باب المشاكلة والمقابلة.
قلت: ليست حقيقة النزاع في مسألتنا هذه على إطلاق لفظ (رجال) على الجن وعدمه، وإنما النزاع: هل الجن مثل الإنس في الحد والحقيقة أم لا؟
قال ابن مفلح في "الفروع" (1/604): قال شيخنا (يعني: ابن تيمية): ليس الجن كالإنس في الحد والحقيقة... فلا يكون ما أمروا به ونهوا عنه مساويا لما عليه الإنس في الحد، ولكنهم مشاركون الإنس في جنس التكليف بالأمر والنهي والتحليل والتحريم، وهذا ما لم أعلم فيه نزاعاً بين المسلمين"
قلت: من المعلوم قطعاً أن الجن يطيرون في الهواء حتى يصلوا إلى السماء، وهذا ليس في مقدور الإنس، وأعطاهم الله القدرة على التشكل بصورة الإنس والحيوانات وغير ذلك ولا قدرة للإنس على هذا، ولا نقدر على رؤيتهم إلا إذا تشكلوا، أما إذا كانوا على أصل خلقتهم فلا نقدر غالبا على رؤيتهم وهم يقدرون على رؤيتنا في كل أحوالهم فهذه الحقائق التي يخالفون الإنس لها صلة بمسألة التناكح معهم، وعلى سبيل المثال: إنسي تزوج جنية، فالجنية تتصور له تارة بصورة إنسية جميلة وتارة بصورة إنسية قبيحة وتارة تظهر له وما معها إلا عين واحدة وتارة تختفي من بين يديه ولو كان يجامعها فكيف يطيق الإنسي الحياة معها على هذه الحال.
فلا علاقة للفظ (رجال) المذكور في الآية بقضية نكاح الجن سواء قلنا بقول الجمهور أو بقول غير الجمهور مع أن القول بعدم إطلاق لفظ (رجال) على الجن أرجح لعدم إطلاقه عليهم في القرآن ولا في السنة.
كذلك استدلوا على جواز التناكح بين الجن والإنس بقوله تعالى: { الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ { 5 } مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ { 6 } [الناس: 5-6](1/30)
وجه الاستدلال أن قوله { مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ } أن الله سمى الجن ناسا.
قلت: النزاع بين العلماء حاصل في تسمية الجن (ناساً) فمن قائل يسمون بذلك، ومن قائل لا يسمون بذلك، والراجح عدم تسميتهم بذلك لأن الله ذكرهم كثيرا مقابل خطابه للإنس كقوله تعالى: { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ } [الأنعام130] فهذا يدل على أنهم لا يدخلون في خطاب الإنس.
وأما استدلال القائلين بإطلاق لفظ ( الناس ) عليهم بقوله: { مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ } فلا دليل فيها لأن المراد بالناس فيها شرار الإنس لا الجن، لأن شرار الإنس شياطين لتمردهم قال تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ } الأنعام112] فيستعاذ من شر شياطين الإنس كما يستعاذ من شر شياطين الجن، قال العلامة ابن القيم: "وحينئذ فالآية أبين حجة عليهم في أن الجن لا يدخلون في لفظ الناس لأنه قابل بين الجنة والناس فعلم أن أحدهما لا يدخل في الآخر، فالصواب القول الثاني وهو أن قوله { مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ } بيان للذي يوسوس، وأنهما نوعان: إنس وجن، فالجني يوسوس في صدور الإنس، والإنسي أيضا يوسوس إلى الإنسي" "بدائع الفوائد" (2/808)(1/31)
وعلى التسليم بأن الجن يقال لهم ناس لا يستفاد من إثبات هذا الاسم لهم جواز التناكح بينهم وبين الإنس لا من قريب ولا من بعيد، لأن النكاح مسألة لها أحكامها التي تخصها ألا ترى أن الإسلام منع المسلمين من بعض صور النكاح كالشغار والمتعة والتحليل وهم من جنس واحد وعلى ملة واحدة، فهذا يدل على أن مسائل النكاح محكومة حسب دليلها الخاص بها، وعلى هذا؛ فلأن يمنع المسلمون من التناكح من الجن من باب أولى لأن الجن جنس آخر، ويلزم المستدلين بالآية على جواز التناكح بين الجن والإنس أن يقولوا إن تسمية الجن بالناس ملغية لجميع الفوارق بين بني آدم وبين ذرية إبليس وهذا لا قائل به وبهذا يسقط الاستدلال بالآية على أن لفظ (الناس) يستفاد منه جواز التناكح مع الجن.
الأحاديث التي استدل بها القائلون بجواز التناكح بين الجن و الإنس
استدلوا بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : "هل رأى فيكم المغربون قلت وما المغربون ؟ " قال " الذين يشترك فيهم الجن"
وشاهدهم من الحديث: الذين يشترك فيهم الجن" والحديث ضعيف؛ أخرجه أبو داود في سننه رقم (5107) وفي سنده عبد العزيز بن جريج والد عبد الملك، وعبد العزيز هذا ضعيف. وفي سنده أم حميد لا يعرف حالها، وقد ضعف هذا الحديث غير واحد من العلماء كالمنذري في مختصر سنن أبي داود، والألباني في تعليقه على "مشكاة المصابيح" رقم (4546) وغيرهما.
وعلى فرض صحة الحديث فلا دليل فيه على التناكح بين الجن والإنس لأن الاشتراك المذكور لا يفيد إلا أن الجني يسعى لإفساد نطفة ا لإنسي وإفساده النطفة شيء، وهذا يحصل بدون شيء اسمه نكاح كما تقدم.(1/32)
استدلالهم بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : "كان أحد أبوي بلقيس جنيا" والحديث أخرجه أبو الشيخ في "العظمة" رقم (1096) وابن عدي في "الكامل" (3/1209) عن أبي هريرة، والحديث ضعيف لأن في إسناده سعيد بن بشير، وقد جُعل هذا الحديث من جملة منكراته كما في "الميزان" للذهبي، وضعفه الشيخ الألباني في "السلسلة الضعيفة" رقم (1818)
وقال الآلوسي في "روح المعاني" (19/189) في كلامه على هذا الحديث: والذي ينبغي أن يعول عليه عدم صحة هذا الخبر"
قلت: المطلع على أصل قصة ملكة سبأ حول النكاح من الجن يرى فيها أقاويل ظاهرها البطلان والاختلاف، حتى قال أبوحيان في تفسيره (7/67) وهو يتحدث عن ملكة سبأ: وقد طولوا في قصصها بما لم يثبت في القرآن ولا في الحديث الصحيح"
وقال الألباني في السلسلة (12/609): الغالب على هذا وأمثاله مما يتعلق ببلقيس أنه من الإسرائيليات"
استدلالهم بحديث: " لا تذهب الدنيا حتى يكثر فيكم أولاد الجن" والحديث ذكره ابن حجر في "لسان الميزان" (3/366) من طريق عبد الله بن عبد الملك بن كرز القرشي، وهو منكر الحديث، قاله العقيلي. وقال ابن حبان: لا يشبه حديثه حديث الثقات. وقد حكم العلامة الألباني في السلسلة الضعيفة رقم (5776) على الحديث بقوله: منكر جداً. وبقوله: هذا إسناد ضعيف، ومتن منكر. ولفظه: لا تقوم الساعة حتى تكثر فيكم أولاد الجن من نسائكم ويكثر نسبهم فيكم
استدلالهم بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : "إنما المؤنثين أولاد الجن" قيل لابن عباس: كيف ذاك؟ قال: نهى الله أن يأتي الرجل حائضا فإذا أتاها سبقه الشيطان فحملت منه فأتت التونث" والحديث أخرجه ابن عدي (7/2672) وهو حديث منكر؛ فيه أحمد بن عبد الرحمن بن أبي أخي عبد الله بن وهب المصري، قال ابن عدي: رأيت شيوخ مصر مجمعين على ضعفه والغرباء لا يمتنعون من الأخذ عنه أبو زرعة وأبو حاتم فمن دونهما.(1/33)
وقال أيضا: في هذا الحديث وحديث آخر: هذان الحديثان... غير محفوظين، فأما حديث المؤنثين فلا أعلمه، رواه غير ابن أخي ابن وهب عن عمه.
استدلالهم بأن الجن المؤمنين صاروا إخواننا فيزوجون من هذا الباب.
فأقول: لا خلاف فيما أعلم بأن من آمن من الجن صار أخا للمؤمنين من الإنس ولكن ليست أخوتنا لهم كالأخوة بين الإنس؛ لاختلافهم في الحد والحقيقة، فهذا الاختلاف مانع من التعامل معهم في أمور كثيرة، ومنها أمور النكاح، وأيضا إثبات الأخوة بيننا وبين من آمن منهم هذا من باب الجملة، وإلا فمن ظهر علينا منهم وادعى أنه مؤمن كان أمره محتملا للإيمان وعدمه، لكثرة الكذب في الجن، ولأن ظهورهم علينا مخالف لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من منعهم من ذلك فنحاججهم عند ظهورهم على الإنس أن هذا منهم معصية، فإن كانوا مؤمنين فليقفوا عند حدود الله، وليتركوا الظهور على الإنس والمؤاذاة لهم، ومن هنا يعلم أن الأخوة شيء والتعامل معهم بما منعوا منه في حقنا شيء آخر.
القصص التي استدل بها القائلون بجواز التناكح بين الجن والإنس
ومما حدا بالقائلين بجواز التناكح بين الجن والإنس وجود قصص متعلقة بهذا الزواج فرأيت ذكرها ونقدها وكشف ما احتوت عليه من مجازفات لكي يتضح للمسلم زيفها.
القصة الأولى ذكر الشبلي صاحب كتاب "آكام المرجان في أحكام الجان" ص (67) قصة عن عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب" إتباع السنن والأخبار" قال: حدثنا محمد بن حميد الرازي حدثنا أبو الأزهر حدثنا الأعمش حدثني شيخ من بجيل قال: علق من الجن جارية لنا ثم خطبها إلينا وقال: إني أكره أن أنال منها محرما فزوجناها منه قال: فظهر معنا يحدثنا...
والقصة ضعيفة، فمحمد بن حميد هو الرازي ضعفه الأئمة من أهل بلده وغيرهم منهم أبو حاتم وأبو زرعة ومحمد بن مسلم بن وارة الرازيون وهم أعرف به من غيرهم ولم يحسن فيه الرأي إلا ابن معين.(1/34)
وأما أبو الأزهر فلم أعرفه، ولعله أبو زهير، لكنه تحرف، لأن أبا زهير يروي عن الأعمش ويكثر عنه، وروى عنه محمد بن حميد الرازي وهو رازي أيضاً، وهو مختلف فيه، وروايته عن الأعمش خاصة ضعيفة، وفي القصة أيضاً جهالة شيخ بجيل.
وللقصة طريق أخرى: قال الشبلي في كتابه المذكور آنفا: وقال أحمد بن سليمان النجاد في "أماليه" حدثنا علي بن الحسن بن سليمان أبو الشعثاء الحضرمي أحد شيوخ مسلم حدثنا أبو معاوية قال سمعت الأعمش يقول: تزوج إلينا جني، فقلت له: ما أحب الطعام إليكم؟ قال: الأرز... القصة.
قال الشبلي: قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي تغمده الله برحمته: هذا إسناد صحيح إلى الأعمش.
قلت: النجاد ترجم له الذهبي في الميزان (1/101) فقال: هو صدوق. ونقل عن الدار قطني قوله: حدث من كتاب غيره بما لم يكن في أصوله. وقال الخطيب: كان قد عمي في الآخر، فلعل بعض الطلبة قرأ عليه ذلك.
فالنجاد وإن كان صدوقا إلا أنه يخشى أن تكون القصة من جملة ما أدخل عليه.
وبقية السند صحيح إلى الأعمش، وكون سندها صحيحا إلى الأعمش لا يعني أنها صحيحة لما سيأتي قريبا.
وللقصة أيضاً سند آخر: ذكره الشبلي كما في "آكام المرجان" ص(68) فقال: وقال أبو بكر الخرائطي: ثنا أبو بكر أحمد بن منصور الرمادي حدثنا داود الصفدي حدثنا أبو معاوية الضرير عن الأعمش قال: شهدت نكاحا للجن بكوني(1) قال: وتزوج رجل منهم إلى الجن... القصة.
وهذه القصة فيها الصفدي لم أعثر عليه.
ولهذا القصة طريق أخرى: قال الشبلي في كتابه المذكور أنفا: ورواه أيضا أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي شيبة في كتابه "القلائد" له فقال حدثنا أمية قال سمعت أبا سليمان الجوزجاني حدثنا أبو معاوية عن الأعمش بنحوه.
وفيه جهالة أمية المذكور لا أدري من هو.
وإلى جانب ما سبق من كلام على هذه القصة أذكر ما فيها من تناقض ظاهر:
__________
(1) - الصواب: بكوثى، وهي أرض ببابل كما في معجم البلدان.(1/35)
فقول الأعمش: شهدت نكاحا لجني بكوثي. وقوله: تزوج إلينا جني. وقوله: حدثني شيخ من بجيل.
أقوال فيها تناقض واضح لأنها قصة واحدة فكيف سيكون تزوج منهم، وشهد هذا النكاح ببابل، فهذا مما يزيد في توهين القصة.
ومما يدل على ضعف هذه القصة ما في ألفاظها من مخالفات؛ ففي بعضها أن الجني علق بالجارية، يعني: عشقها، ثم بعد ذلك جاء يخطبها، فقُبلت خطبته وزوج إياها. ومما جاء في القصة ادعاء الجني أنه مرجئ، ومع هذا زوجوه، ولم ينصحوا له ويحذروه من الاعتداء ومن الإرجاء، فهذا ينافي ما عليه الإمام سليمان بن مهران الأعمش من علم ومعرفة بأن المرجئة من شر خلق الله، فكيف وافق على تزويجه إياها مباشرة. أيضا ظاهر القصة عدم البحث عن دينه وصلاحه، وهذا ينافي ما عليه المسلمون من تحري في تزويج الإنسي وهو معروف فكيف يزوج الجني بدون ذلك.
فالحاصل أن قصة نكاح الجني الإنسية المذكورة لا تصح من جهة سندها ولا من جهة متنها، أما سندها فالطريق الأولى والثالثة والرابعة الضعف ظاهر عليها، وبقيت الطريق الثانية التي ظاهرها الصحة، لكن يخشى أن تكون من جملة ما أدخل على النجاد.
وأما من جهة متنها ففيها ألفاظ من الباطل تنافي ما كان عليه الأعمش من أنه محدث كبير يحارب البدع والضلالات، فعلى القصة رائحة تصرفات أهل البدع فيها.
فالراجح عندي ضعف القصة المذكورة، وعلى فرض صحتها فليست دليلا شرعيا، لأن غاية ما فيها أن الأعمش اجتهد في المسألة فأخطأ غفر الله لنا وله.
القصة الثانية: قال الشبلي في كتابه "آكام المرجان" ص (65-66) وقد سئل الإمام مالك بن أنس - رضي الله عنه - فقيل: أن ها هنا رجلا من الجن يخطب إلينا جارية يزعم أنه يريد الحلال، فقال: ما أرى بذلك بأساً في الدين، ولكن أكره إذا وجدت امرأة حامل قيل لها من زوجك؟ قالت: من الجن، فيكثر الفساد في الإسلام بذلك.(1/36)
قال الشبلي بعد ذكره فتوى مالك: وهذا الذي ذكرناه عن الإمام مالك - رضي الله عنه - أورده أبو عثمان سعيد بن العباس الرازي في كتاب "الإلهام والوسوسة" في باب ( نكاح الجن ) فقال: حدثنا مقاتل حدثني سعد بن داود الزبيدي قال: كتب قوم إلى مالك بن أنس يسألونه عن نكاح الجن...) القصة.
والكلام على هذه الفتوى من جهتين: من جهة سندها، ومن جهة متنها.
أما من جهة سندها فقد بحثت عن مقاتل فلم أجده، وأما سعد بن داود الزبيدي فالصواب أنه سعيد الزنبري، ذكره الحافظ ابن حجر في "التهذيب" وذكر تضعيف علماء الحديث له، كابن المديني وابن معين وأبي زرعة الرازي العقيلي وأبي نعيم الأصبهاني والحاكم وابن حبان، بل كذبه بعضهم في دعواه روايته عن مالك، ونص أبو زرعة والحاكم وابن حبان وأبو نعيم والخطيب وغيرهم على أن روايته عن مالك منكره، فاتضح من هذا أن القصة لا تصح عن مالك رحمه الله.
وأما متنها: فيبدو لي أن فيها تنافراً في مبناها ومعناها، فقول مالك: ما أرى بذلك بأسا في الدين، ثم قال في آخرها: فيكثر الفساد في الإسلام بذلك، فأول الفتوى يناقض آخرها، فأولها أن مالكاً لا يرى بأساً بالزواج المذكور، وفي آخرها: إن حصل ذلك كثر الفساد في الإسلام، فينزه الإمام مالك عن هذا التناقض، إذ كيف يليق به أن يقول في أول الفتوى: لا بأس بذلك، فهذا هو التجويز بلا محذور يخشى، ثم يقول في آخرها: فيكثر الفساد في الإسلام، ومعلوم أن الفساد لا يكثر إلا بارتكاب محظور عظيم.
وعلى هذا فالقصة ضعيفة سندا ومتنا، وإذا أردت التوسع في معرفة ضعف هذه القصة فارجع إلى السلسلة الضعيفة للعلامة الألباني (12/606-607)(1/37)
القصة الثالثة: قال الشبلي في "آكام المرجان" ص (72-73) وقد روي عن زيد العمي أنه قال: اللهم ارزقني جنية أتزوجها، قيل له يا أبا الحواري: وما تصنع بها؟ قال: تصحبني في أسفاري حيث كنت كانت معي. رواه حرب عن إسحاق أخبرني محرز شيخ من أهل مرو ثقة قال: سمعت زيد العمي يقول فذكره.
وهذه القصة فيها ثلاثة لا يدرى منهم، وهم: حرب وإسحاق ومحرز.
وأما زيد العمي فهو ضعيف كما في التقريب ولقب بالعمي لأنه كان إذا سئل عن شيء قال: أسأل عمي، فهذا يدل على أنه غير فقيه، ثم إن قوله: اللهم ارزقني... دعاء غير مشروع، لأن المطلوب شرعا من المسلمين أن يستغيذوا بالله من الجن والشياطين ذكورهم وإناثهم ليبقوا منصرفين مدحورين، فإن بدا أحدهم لنا طلب منا أن ننذره ثلاثة أيام ، فهذه القصص الثلاث المشهورة في النكاح المذكور هن عمدة بعض العلماء المجيزين التناكح بين الجن والإنس، وقد رأيت ضعفها فلا مجال لصحة الثلاث بمجموعهن فضلا عن صحة كل واحدة بمفردها، فكيف إذا خالفن ما جاء في القرآن والسنة من جعل التناكح بين الإنس بعضهم من بعض فقط.
وعلى كل: لم يأت المجيزون التناكح بين الجن والإنس بدليل واحد ناهض للاستدلال به على جواز هذا النكاح.
الفصل الثالث:
نكاح الجني الإنسية أعظم فساداً من نكاح الإنسي جنية
اعلم أيها القارئ أنه فساد عظيم أن تزوج المسلمة بجني لأمور ومنها:
1- ضعف الإنسية وعتو الجني وشدة مكرهم وعظيم كيدهم ولهذا يهجم عليها متى شاء ويفزعها إفزاعا شديداً ويهينها إيما إهانة.
2- قد يأتيها جني آخر وآخر بالصورة التي يأتيها زوجها الجني المزعوم، لأن الجن يقدرون على التشكل بتلك الصورة التي يأتيها الجني المتزوج بها زعما وهي تظن أنه زوجها الجني.(1/38)
3- يحصل أن كثيرا من الجن المتزوجين بإنسيات يستخدمونهن لتعاطي السحر وفي هذا أضرار ومفاسد جسيمة تأتي على دين الناس ودنياهم، فلو لم يكن من المفاسد إلا أن الجني أخرج المرأة المسلمة من الإسلام إلى الكفر والشرك بسبب تعاطي السحر.
4- هذا الزواج فيه فتح باب لتسابق الجن والشياطين على بنات المسلمين فيا لها من رزايا كفى الله المسلمين شرها.
ورحم الله العلامة ابن نجيم فقد قال كما في "الأشباه والنظائر" ص(257) بعد أن أكثر من نقل علماء الحنفية على تحريم التناكح بين الجن والإنس: فإذا تقرر المنع؛ فالمنع من نكاح الجني الإنسية أولى وأحرى"
بعض المفاسد الخفية في النكاح المذكور
الأول: التعاون على الإثم والعدوان.
إن زواج الإنس من الجن تعاون معهم على الإثم والعدوان لأن الجن ذكورهم وإناثهم المطالبون بالزواج من الإنس معتدون على ا لإنس كما سبق إيضاحه فلا شك في هذا الاعتداء فالخضوع لهم والقبول لما يريدونه تعاون معهم على هذا الاعتداء وهو منهي عنه قال تعالى : { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } المائدة2] فكيف إذا جرهم الزواج إلى مخالفات كثيرة.
الثانية: الموالاة للجن
لقد فرض الله على المسلمين عداوة كفار الجن كما هو معلوم بالضرورة من دين الإسلام قال تعالى: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً } الكهف50] وقال تعالى: { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } فاطر6] والزواج من الجن لا يتحقق فيه إيمان الجن غالباً، فيكون منافياً لعداوتهم والبراءة منهم.(1/39)
الثالثة: تعاطي السحر والتنجيم
يسلط بعض ذكور الجن وإناثهم على من تناكح منهم حتى يستخدموه في تعاطي السحر والتنجيم وإذا حصل التعاطي للسحر والكهانة فلا تسأل عن أنواع الإجرام والفجور الناتج عن ذلك، اللهم سلم سلم.
اعتداءات الجنيات على أزواجهن من الإنس
هنا مسألة مهمة جداً ينبغي للمسلم أن يفهمها وهي: أن الجن إذا تمكنوا من الإنس تطاولوا عليهم وأذاقوهم الهوان ومن ذلك اعتداءات الجنيات على أزواجهن من الإنس، ومن هذه الاعتداءات ما ذكره بعض من تزوج بجنية:
قال السيوطي في "لقط المرجان" ص(65-66): كان أبو بكر بن عربي ينكر تزوج الإنس بالجن ويقول: الجن روح لطيف والإنس جسم كثيف لا يجتمعان، ثم زعم أنه تزوج امرأة من الجن، وأقامت معه مدة، ثم ضربته بعظم جمل فشجته، وأرانا شجة بوجهه وهربت"
وقال أبو يوسف السروجي: جاءت امرأة إلى رجل من المدينة فقالت: إنا نزلنا قريبا منكم فتزوجني، فتزوجها فكانت تأتيه بالليل في هيئة امرأة، ثم جاءت إليه فقالت: قد حان رحيلنا فطلقني فطلقها وبينما هو في بعض طرق المدينة إذ رآها تلتقط حبا مما يسقط من بائعي الحب فقال لها: أفتبيعينه؟ فرفعت عينها إليه فقالت له: بأي عين رأيتني؟ قال: بهذه، قال: فأومأت بإصبعها فسالت عينه" انظر "لقط المرجان" ص(64)
وذكر الذهبي في "الميزان" (3/659) قائلا: ونقل رفيقنا أبو الفتح اليعمري وكان متثبثاً قال سمعت الإمام تقي الدين ابن دقيق العيد يقول: سمعت شيخنا أبا محمد بن عبد السلام السلمي يقول: وجرى ذكر أبي عبد الله بن العربي الطائي فقال: هو شيعي سوء كذاب، فقلت له: وكذاب أيضا؟ قال: نعم تذاكرنا بدمشق التزويج بالجن فقال: هذا محال لأن الإنس جسم كثيف والجن روح لطيف، ولن يعلق الجسم الكثيف الروح اللطيف، ثم بعد قليل رأيته وبه شجة فقال: تزوجت جنية فرزقت منها ثلاثة أولاد فاتفق يوما أن أغضبتها فضربتني بعظم حصلت منه هذه الشجة وانصرفت فلم أرها بعد هذا، أو معناه.(1/40)
والقصص من مثل هذه كثيرة ولقد جاءني عشرات من المسلمين الذين تسلطت عليهم جنيات باسم النكاح ولم أر أحدا منهم سعيدا محافظا على دينه ودنياه بل ترى أن الجنية قد تسلطت عليه فصار كالعبد لها فلا يصلي لأنها لا تسمح له بذلك ولا يخرج بين الناس ولا يعمل أعمالا دنيوية بل يسير حبيس البيت قد نحل جسمه وصار مسلوب العقل والأولاد ولا حول ولا قوة إلا بالله.
طريقة خبيثة تستخدمها إناث الجن مع أزواجهن من الإنس
اعلم أيها المسلم أن زواج المسلم بجنية يعد تسلطا رهيبا عليه من قبلها فهي تحول بينه وبين الزواج من إنسية وحتى لو كان متزوجا قبل زواجه بالجنية بإنسية تمنعه من جماع الإنسية، وكم قهرت إناث الجن من تزوج منهن، فتجعله كثير الخوف منها وسريع الاستجابة لها حتى إن بعضهم يستجيب لها فيقتل أولاده من الإنسية، فالحذر ثم الحذر من الاستجابة لمناكحة الجن، وحذار من استسهال هذا وبعض المدعوين إلى هذا النكاح يسهل لنفسه أنه سيقضي مع الجنية مدة قصيرة ثم يتركها ويتزوج بإنسية وما أكثر ما يمنع من قبل الجنية فلا يقدر بعد ذلك على الخلاص منها إلا أن يشاء الله.
ماذا يصنع من دعته الجن إلى الزواج منها؟(1/41)
يفاجأ المسلم بدعوة الجن إلى الزواج منهم وتفاجأ المسلمة بمطالبة الجن الزواج منها فمن لم يكن عنده معرفة بمواجهتهم يخشى عليه أن يسقط ضحية بين أيديهم، بل ربما خسر الدنيا والآخرة بسبب ذلك، فالمواجهة لهم تكون بالدعاء أن ينصره الله عليهم وبالإقبال على الله توكلاً وتضرعاً وعبادة وتحصناً بالأذكار الشرعية قال تعالى: { أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ } النمل62] وقال تعالى: { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } البقرة152] وقال تعالى: { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ } الطلاق3] وإليك قصة تدل على ما ذكرنا: قال السيوطي في "لقط المرجان" ص(64-65): وحدثنا قاضي القضاة جلال الدين أحمد بن قاضي القضاة حسام الدين الرازي الحنفي قال: سفرني والدي لإحضار أهله من المشرق فلما جزت البيرة إلى أن نمنا في مغارة وكنت في جماعة، فبينا أنا نائم إذا بشيء يوقظني فانتبهت فإذا بامرأة وسط من النساء لها عين واحدة مشقوقة بالطول فارتعبت فقالت: ما عليك فإنما أتيتك لتتزوج ابنة كالقمر فقلت لخوفي منها: على خيرة الله ثم نظرت فإذا برجال قد أقبلوا فإذا هم كهيئة المرأة عيونهم مشقوقة بالطول في هيئة قاض وشهود فتخطى القاضي وعقد فقبلت ثم نهضوا وعادت المرأة ومعها جارية حسناء إلا أن عينها مثل عين أمها، وتركتها عندي وانصرفت، فزاد خوفي واستيحاشي وبقيت أرمي من كان عندي بالحجارة حتى يستيقظوا فما انتبه منهم أحد، فأقبلت على الدعاء والتضرع، ثم آن الرحيل فرحلنا وتلك الشابة لا تفارقني، فذهب على هذا ثلاثة أيام فلما كان اليوم الرابع أتتني المرأة التي جاءتني أولا وقالت: كأن هذه الشابة ما أعجبتك وكأنك تحب فراقها. فقلت: أي والله قالت: فطلقها فانصرفت ثم لم أرها بعد.(1/42)
وقال ابن جبرين كما في "الفتاوى الذهبية" ص(196): إن بعض الجن يتصور للإنسي في صورة امرأة ثم يجامعها الإنسي، وكذا يتصور الجني بصورة رجل ويجامع المرأة من الإنس تجامع الرجل للمرأة وعلاج ذلك التحفظ منهم ذكوراً وإناثاً بالأدعية والأوراد المأثورة وقراءة الآيات التي تشتمل على الحفظ والحراسة منهم بإذن الله"
وقد ذكر ابن القيم قاعدة نافعة فيما يعتصم به العبد من الشيطان ويستدفع به شره وهي عبارة عن القيام بعشرة أسباب، انظرها في "بدائع التفسير" (5/464-466)
تعامل المسلمين مع من تزوج بامرأة من الجن
إذا ابتلي المسلم بهذا الزواج فقد وقع في منكر عظيم يستدعي نصره بإنقاذه من هذا التسلط عليه والمكر به، والنصر له يكون من قبل المسلمين القادرين على ذلك وطريقة التعامل معه كالآتي:
1- القيام بالبيان له بمكر الجن به ويبين له حال من ابتلوا بهذه المصيبة ومخالفتها للأحكام الشرعية.
2- دعوة من لهم صلة بهذا المتزوج من أقاربه وأصدقائه إلى السعي في إنقاذه وتحذير الناس من قبول دعوة الجن إلى هذا الشر والانحراف.
3- هجره والتحذير من سلوك طريقه وهذا إذا جاهر بذلك وكيف لا يهجر وهو فاتح باب شر عظيم، قال ابن حجر في "لسان الميزان" (6/407): وقال الطحاوي حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال: قدم علينا يغنم بن سالم بمصر فجئته فسمعته يقول: تزوجت امرأة من الجن فلم أرجع إليه.
قلت: يغنم هذا ضعفه أبو حاتم الرازي، وقال ابن عدي: عامة أحاديثه غير محفوظة. وكذبه غير واحد.
فعلى الخطباء والوعاظ أن يحذروا المسلمين من التساهل في هذا الأمر.
أكثر من تتسلط عليهم إناث الجن الشباب الغافلين عن ذكر الله
أكثر ما تتسلط إناث الجن على الشباب الغافل عن ذكر الله، إذ الغالب على أكثرهم الغفلة عن ذكر الله من قراءة القرآن وصلاة ودعاء وأذكار صباحية ومسائية وعند النوم واليقظة وغير ذلك.(1/43)
وأيضا غفلتهم عن مراقبة الله وخشيته أضف إلى ذلك حب بعضهم المنكرات ومسايرتهم لأهل الأهواء والشهوات.
ولما كان بعض الشباب على ما ذكرنا قد تأتيه الجنية فتدعوه إلى الزنا فإن أظهر التعفف دعته إلى الزواج بها وربما هددته إن لم يبادر إلى هذا .
اعتداءات من الجن على بعض المسلمات
اعتداءات الجن على بعض المسلمات كثيرة، وكثيرا ما يكون اعتداؤهم على الإنسيات لغرض الزنا بهن ويستخدم الجن وسائل لتحقيق ذلك، ومن هذه الوسائل:
1- يأتي الجني ويجامع الإنسية بدون أن ترى شخصا، وقد تحس بشيء ثقيل فوقها وتحس بإدخال شيء في فرجها.(1/44)
2- يأتي الجني على صورة زوج المرأة إن كانت ذات زوج أو على صورة عشيقها إن كانت تعشق(1) خصوصاً إذا كان زوج المرأة غائبا فيأتي الجني مستغلا فرصة الغياب الزوج، فيرتكب معها الفاحشة، ومن ذلك ما ذكره بعضهم عن نفسه قال: كنت أسير في طريق ذات مساء بإحدى المدن حديثة الفتح الإسلامي وقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله فسمعني رجل من تلك المدينة وقال لي: ما سمعت هذا الكلام منذ أن سمعته من السماء، فقلت له فكيف ذلك؟ قال: إني رجل أعمل بإيصال الرسائل إلى الملوك والحكام فأفد على كسرى وقيصر وغيرهما من حكام وأمراء المدن، وذات يوم ذهب قاصدا بلاد فارس فخلفني الشيطان في أهلي يكون على صورتي فلما قدمت من سفري لم يبد على زوجتي أي اهتمام مما يكون للمسافر وعندما استفسرت عن ذلك قالت: إنك لم تسافر، قلت: كيف ذلك وعندنا ظهر ذلك الشيطان فقال لي: اختر لك يوما منها، واجعل لي يوما، فأتاني ذات ليلة فقال: أنا ممن يسترق السمع وإن استراق السمع بين الشياطين نوبات وأنه مكلف به تلك الليلة وطلب مني أن آتي معه فوافقت فحملني على ظهره فإذا له معرفة كشعر الدواب فقال لي: استمسك فإنك ترى أمورا وأهوالا فلا تفارقني فتهلك ثم عرج حتى لحق بالسماء فسمعت قائلا يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فلح به فوقع من وراء العمران في غياض وشجر فحفظت الكلمات ولم أزل أكررها حتى انقطع عن زوجتي.
3- عند أن يجامع الرجل زوجته فإذا لم يسم الله فإن الشيطان يجامع معه، وهذا هو المشهور عن بعض السلف كما يذكره المفسرون عند قوله تعالى: { وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ } الإسراء64] فكما أن الشيطان يأكل ويشرب ويبيت مع من لم يذكر اسم الله إذا لم نطرده بالأذكار الشرعية فكذلك يشارك في الجماع.
__________
(1) - لا يخفاك أن العشق محرم دلت على ذلك أدلة كثيرة.(1/45)
فهذه الاعتداءات تدعو المسلم إلى الحذر من التقارب مع الجن باسم النكاح وغيره، لأنه لا يأمن على نفسه من الفتك به من قبلهم.
مسألة: هل يحصل التوالد بين المتناكحين من الجن والإنس؟
هذه المسألة من المسائل المختلف فيها وأشهر أقوال العلماء فيها ثلاثة أقوال:
القول الأول: حصول التوالد بين الجن والإنس، قال شيخ الإسلام بن تيمية كما في "مجموع الرسائل المنيرية" ص (125): وقد يتناكح الإنس والجن ويولد بينهما ولد، وهذا كثير معروف" وأصحاب هذا القول لا أعلم لهم دليلا نقلياً ولا عقليا يدل على هذا، وإنما يستدلون بقصص وحكايات يتداولها الناس، قلما يصح منها شيء وأيضا لو صحت القصة بإفادة التوالد بين الإنس والجن يبقى صعوبة إثبات التوالد المذكور كما سيأتي.
القول الثاني: عدم حصول التوالد بينهما، قال الماوردي: القول بأن أم بلقيس جنية مستنكر من العقول لتباين الجنسين واختلاف الطبعين وتفارق الحسين، لأن الآدمي جسماني والجن روحاني وخلق الله الآدمي من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار، ويمتنع الامتزاج مع هذا التباين ويستحيل التناسل مع هذه الاختلاف" حكاه القرطبي في تفسيره (13/213) وذكر الذهبي في الميزان قصة وفيها أن ابن عربي الطائي تزوج جنية ورزق منها ثلاثة أولاد، فأنكر عليه ذلك أبو محمد عبد السلام السلمي والذهبي.
وقال ابن عطية في تفسيره (9/138): وما أدخل النقاش من وطء الجن وأنه يحبل المرأة من الإنس فضعيف كله.
وقال الآلوسي في "روح المعاني" (19/189): ثم ليت شعري إذا حملت الجنية من الإنسي هل تبقى على لطافتها فلا ترى والحمل على كثافته فيرى أو يكون الحمل لطيفا مثلها فلا يريان، فإذا تم أمره تكثف وظهر كسائر بني آدم أو تكون متشكلة بشكل نساء بني آدم ما دام الحمل في بطنها وهو فيه يتغذى وينمو بما يصل إليه من غذائها وكل من الشقوق لا يخلو عن استبعاد كما لا يخفى.(1/46)
وقال الألباني في السلسلة الضعيفة (12/608): أين الدليل الشرعي والعقلي على التوالد أولا وعلى التزاوج الشرعي ثانياً"
قلت: ومما يقوي هذا القول قوله سبحانه: { وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء } النساء1] فأفادت الآية أن بث البشرية يثبت عن طريق التوالد بينها دون شريك لها من غيرها، وقد يشكل على القراء قوله تعالى: { وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ } الإسراء64] وقد أوضحنا معنى المشاركة بعموم أفرادها في فصل (الرد على الشبه) ومنها أن الشيطان يسعى لإفساد النطفة بالنفخ فيها، وما أشبه ذلك عند الجماع لا أنه يجامع كما يجامع الرجل لأنه لا يقدر على هذا إلا إذا تشكل بصورة الإنسي وسلطه الله على المرأة.
القول الثالث: التفصيل، فمنهم من قال: يقع التوالد إذا نكح الإنسي جنية، ولا يقع إذا نكح الجني إنسية، ومنهم من فصل تفصيلا آخر ألا وهو: إن كانت الجنية ثقيلة تستطيع أن تحمل من الإنسي، وإن كانت خفيفة فلا تستطيع أن تحمل منه، وقالوا: إن نكح الجني إنسية فنطفته عبارة عن ريح، وشغب بعض الكتاب فقال: ولا أحد يرى إبن الإنسي من الجنية إلا أبوه.(1/47)
قلت: الأحاديث الواردة في التناسل بين المتناكحين من الجن ظاهرها أن التوالد حاصل من كلا الجهتين كحديث "إن أبا بلقيس كان جنياً" وفي رواية: أن أمها كانت جنية، وحديث : "لا تقوم الساعة حتى يكثر فيكم أولاد الجن من نسائكم" إلا أنها أحاديث منكرة لا يجوز الاعتماد عليها بحال، والذي أراه وأرجحه أن الإنسي إذا نكح جنية لا يتأتى له منها أولاد لأنها تتشكل له بصورة إنسية حتى يقضي غرضه منها ثم تعود إلى أصل خلقتها، فهذا مانع من أن تحمل منه، وإذا قال فلان الإنسي: نكحت جنية وصار لي منها أولاد فهذا على حسب ما تخبره هي وتصور له ذلك، فإن كان معها أولاد كما تدعي فهم من الجن يتشكلون كأولاد الإنس وهي تكذب عليه أنهم أولاده، وتستطيع أن تظهر له أولاداً يتشكلون بصورته وهيئته حتى يظن أنهم منه وهم من الجن وقد تكون كاذبة فلا يكون معها أولاد أو تظهر له أولاداً لجن آخرين تدعي أنهم منه.
وإذا نكح الجني إنسية فلا تحمل منه لأنه يجامعها على غير خلقته التي يتوالدون منها، فإنه في حال الجماع يتصور بصورة الإنسي و الطبيعة مختلفة.
مسألة أخرى: هل على المرأة غسل إذا جامعها الجني؟
هذه المسألة كثر كلام العلماء فيها، وهم ما بين قائل بوجوب الغسل وقائل بعدم وجوبه، هذا هو المشهور، وبعضهم فصل بتفصيل حسن، وهو إذا تشكل الجني بصورة الإنسي وجامع الإنسية فهنا يجب عليها الغسل، وإذا لم يتشكل وإنما أحست بشيء يتحرك في فرجها كمن يجامعها فهنا إن أنزلت اغتسلت لأن حكمها حكم النائم المحتلم، يجب عليه الغسل إذا حصل الإنزال لا بمجرد الظن أنه احتلم. وهذا القول هو الراجح.
وبقيت صورة ثالثة لم أر من تنبه لها وهي إذا أحست المرأة بالجني فوقها يجامعها كالرجل ولكنها لا ترى شخصه فالراجح أنها تغتسل لأن هذه الصورة تلحق في الحكم بالصورة الأولى التي هي أن الجني يجامع الإنسية وترى شخصه كزوجها أو غيره والله أعلم.
تلاعب الجن بظهورهم على الصوفية(1/48)
هذا الباب له ارتباط بموضوعنا، لأن التناكح من الجن لا يتأتى إلا عن طريق ظهور الجن على الإنس ودعوتهم الإنس إلى ذلك، وقد ابتليت الصوفية منذ قديم بالافتخار بظهور الجن عليها ومخاطبتها لهم وتلقيها عنهم، ومزيدا لإيضاح هذه المسألة ننقل ما تيسر نقله:
ففي كتاب "مناقب الشيخ عبد القادر الكيلاني" أنه جاءه بعض أهل بغداد وذكر أن له بنتاً اختطفت من سطح داره وهي بكر، فقال له الشيخ: اذهب هذه الليلة إلى خراب الكرخ واجلس عند التل الخامس، وخط عليك دائرة في الأرض وقل وأنت تخطها: بسم الله على نية عبد القادر. فإذا كان فحمة العشاء مرت بك طوائف من الجن على صور شتى فلا يروعك منظرهم فإذا كان السحر مر بك ملكهم في محفل منهم فيسألك عن حاجتك فقل: قد بعثني إليك عبد القادر واذكر له شأن ابنتك. قال: فذهبت وفعلت ما أمرني به الشيخ فمر بي صور مزعجة المنظر ولم يقدر أحد منهم على الدنو من الدائرة التي أنا فيها، وما زالوا يمرون زمراً زمرا إلى أن جاء ملكهم راكبا فرسا وبين يديه أمم منهم، فوقف بإزاء الدائرة وقال: يا إنسي ما حاجتك؟ قال: قلت: قد بعثني إليك الشيخ عبد القادر. فنزل عن فرسه وقبل الأرض وجلس خارج الدائرة وجلس من معه ثم قال لي: ما شأنك؟ فذكرت له قصة ابنتي فقال لمن حوله: عليّ بمن فعل هذا. فأتي بمارد ومعه ابنتي فقيل له: إن هذا مارد من مردة الصين، فقال له: ما حملك على أن اختطفت من تحت ركاب القطب. فقال: إنها وقعت في نفسي فأمر به فضربت عنقه وأعطاني ابنتي فقلت: ما رأيت كالليلة في امتثالك أمر الشيخ عبد القادر. قال: نعم، إنه لينظر من داره إلى مردة الجن وهم بأقصى الأرض فينفرون من هيبته وأن الله إذا أقام قطباً مكنة من الجن والإنس. نقلا من كتاب "حياة الحيوان الكبرى" (1/194-195)(1/49)
وروي عن أبي القاسم الجنيد أنه قال: سمعت سريا السقطي رحمه الله يقول: كنت يوما مارا في البادية فآواني الليل إلى جبل لا أنيس فيه، فبينا أنا في جوف الليل ناداني مناد فقال: لا تدور القلوب في الغيوب حتى تذوب النفوس من مخافة فوت المحبوب، فأجبت فقلت: أجني ينادي أم إنس؟ فقال: بل جني مؤمن بالله سبحانه ومعي إخواني، فقلت: وهل عندهم عندك ؟ قال: نعم وزيادة, قال: فناداني الثاني منهم فقال: لا تذهب من البدن الفترة إلا بدواة الفكرة. قال: قلت في نفسي: ما أنفع كلام هؤلاء. فناداني الثالث فقال: من أنس به في الظلام نشرت له غدا الأعلام. قال فصعقت، فلما أفقت إذا أنا بنرجسة على صدري فشممتها فذهب عني ما كان بي من الوحشة واعتراني من الأنس، فقلت: وصية رحمكم الله. فقالوا: أبى الله أن يحيي بذكره ويأنس به إلا لقلوب المتقين فمن طمع في غير ذلك فقد طمع في غير مطمع وفقنا الله وإياك، ثم ودعوني ومضوا وقد أتى علي حين وأنا أرى برد كلامهم في خاطري. نقلا من كتاب "حياة الحيوان الكبرى" (1/195)
وفي "كفاية المعتقد ونكاية المنتقد" لشيخنا اليافعي عن السري أيضا أنه قال: كنت أطلب رجلا صديقاً مدة من الأوقات، فمررت يوما في بعض الجبال فإذا أنا بجماعة زمنى وعميان ومرضى فسألت عن حالهم فقالوا : ها هنا رجل يخرج في السنة مرة فيدعوا لهم فيجدون الشفاء، قال: فمكثت حتى خرج ودعا لهم فوجدوا الشفاء، فقفوت أثره فأدركته وتعلقت به، وقلت له: بي علة باطنة فما دواؤها؟ فقال: يا سري خلي عني فإنه غيور، وإياك أن يراك تأنس إلى غيره فتسقط من عينه ثم تركني وذهب. نقلا من المصدر السابق.
وذكر الغماري في كتابه "الحاوي في فتاوى الغماري" ص(70) قائلا: وكان من علماء المغرب يعلمون الجن القرآن ويلقنهم في الطريق.(1/50)
وكم لعب شياطين الجن بالصوفية، فتارة يظهرون عليهم بأنهم الله جل جلاله، وتارة بأنهم ملائكة، وتارة بأنهم أنبياء وصالحون، وغير ذلك حتى قال أبو أحمد الشيرازي: كان الصوفية يسخرون من الشيطان، والآن الشيطان يسخر منهم. نقلا من "إغاثة اللهفان" (1/125)
وفي المصدر السابق أيضا (1/195-196) ما نصه:
روينا عن الإمام أبي الحسن علي بن الحسن ين الحسن بن محمد الخلعي نسبة إلى بيع الخلع وهو من أصحاب الشافعي وقبره معروف بالقرافة والدعاء عند مستجاب وكان يقال له: قاضي الجن: أنه أخبر أنهم كانوا يأتون إليه ويقرأون عليه وأنهم أبطأوا عنه جمعة ثم أتوه فسألهم عن ذلك فقالوا: كان في بيتك شيء من الأترج وإنا لا ندخل بيتا هو فيه.
وقال مشهور حسن آل سلمان في كتابه "فتح المنان" (1/212): وللشعراني الصوفي كتاب اسمه "كشف الران عن أسئلة الجان" ذكر في مقدمته أن الجن جاؤوه وسألوه عن النحو ثمانين مسألة من مسائل التوحيد وطلبوا منه أن يجيبهم عليها، فألف هذا الكتاب تحقيقاً لرغبتهم، والكتاب مطبوع بمصر.
وعلى كلٍ: الكلام حول تلاعب الشياطين بالصوفية كثير، و الأمثلة على ذلك عديدة، فكم جنت الصوفية على الإسلام وأهله بسبب قبولها لهذا المكر بها من شياطين الجن، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وبانتهاء هذا الباب أختتم رسالتي هذه: سبحانك الله وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.(1/51)