البرهان المنير
في دحض شبهات
أهل التكفير والتفجير
إعداد
عبدالعزيز بن ريس الريس
المشرف على موقع الإسلام العتيق
www.islamancient.net
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته............... أما بعد،،،
فإن للتكفيريين والتفجيريين والمتأثرين بأفكارهم شبهات يرددونها في كتب يؤلفونها ومواقع في الشبكات العنكبوتية يبثونها، فأدخلوا في نفوس كثير من ذوي الحماسة الدينية المفرطة شكاً وريباً، فأحببت الزلفى إلى الله بكشف أشهر شبهاتهم الأحد عشر بما يسر سبحانه من أدلة شرعية ونقول علمية عن أهل العلم من أرباب الدعوة السلفية. علماً أني سأخص دولة التوحيد (السعودية)-حرسها الله- بمزيد دفاع ونفاح لأنها تميزت من بين دول العالم برفع راية التوحيد والسنة ولأنها أرض الحرمين ومهبط الوحي .
ومما يجدر التنبيه إليه أن المذموم هو التكفير بغير حق، أما التكفير بحق على أصول أهل السنة السلفيين فليس مذموماً. وحذار أن يظن ظان أن من منهج أهل السنة السلفيين عدم تكفير المعينين كما رأيت بعضهم فاه بهذه الفرية، بل هم – عليهم رحمة الله ورضوانه – حذرون من التعجل والغلو في التكفير، لكن من توافرت في حقه الشروط وانتفت عنه الموانع كفروه لأنه بهذا يكون مكفراً بالأدلة الشرعية.
ومن أوضح الأدلة على هذا تكفير رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي استحل فرج امرأة أبيه فتزوجها بأن خمس ماله – وسيأتي -، وتكفير أبي بكر الصديق –رضي الله عنه- والصحابة للممتنعين عن دفع الزكاة وسموهم مرتدين , وتهديد عمر بن الخطاب الذين استحلوا شرب الخمر متأولين بأنهم إن لم يرجعوا كفروا، وكان منهم قدامة بن مظغون البدري.
وقد سميت هذا الكتاب
" البرهان المنير في دحض شبهات أهل التكفير والتفجير ".
أسأل الله أن يكفي المسلمين شر الإفراط والتفريط في الدين وأن يحمينا وإياهم من شرور هؤلاء التكفيريين والمفجرين إنه بالإجابة جدير.(1/1)
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الشبهة الأولى
كفر الحكام لأنهم لا يحكمون بما أنزل الله
الجواب على هذه الشبهة بجوابين مجمل ومفصل.
أما الجواب المجمل : أن التكفير بمسألة الحكم بغير ما أنزل الله من المسائل المختلف فيها ، فقد ذهب الإمامان ابن باز والألباني – رحمهما الله- إلى أنه كفر أصغر لا أكبر.
فنشرت جريدة الشرق الأوسط في عددها (6156 ) بتاريخ (12/5/1416هـ ) لسماحة المفتي عبد العزيز بن باز مقالاً قال فيه :" اطلعت على الجواب المفيد القيم الذي تفضل به صاحب الفضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني –وفقه الله- المنشور في جريدة الشرق الأوسط وصحيفة المسلمون الذي أجاب به فضيلته من سأله عن تكفير من حكم بغير ما أنزل الله من غير تفصيل، فألفيتها كلمة قيمة قد أصاب فيها الحق،وسلك فيها سبيل المؤمنين، وأوضح – وفقه الله- أنه لا يجوز لأحد من الناس أن يكفر من حكم بغير ما أنزل الله بمجرد الفعل من دون أن يعلم أنه استحل ذلك بقلبه، واحتج بما جاء في ذلك عن ابن عباس –رضي الله عنهما – وغيره من سلف الأمة. ولا شك أن ما ذكره في جوابه في تفسير قوله تعالى { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } ، { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } ، { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } هو الصواب، وقد أوضح –وفقه الله – أن الكفر كفران أكبر وأصغر،كما أن الظلم ظلمان، وهكذا الفسق فسقان أكبر وأصغر، فمن استحل الحكم بغير ما أنزل الله أو الزنا أو الربا أو غيرهما من المحرمات المجمع على تحريمها فقد كفر كفراً أكبر، ومن فعلها بدون استحلال كان كفره كفراً أصغر وظلمه ظلماً أصغر، وهكذا فسقه ا.هـ(1/2)
وهذا ما عليه اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة الشيخ ابن باز ، فقد أجابت في فتوى رقم (5741) على سؤال،أورد إليك نصه وجوابه :
س: من لم يحكم بما أنزل الله هل هو مسلم أم كافر كفراً أكبر وتقبل منه أعماله ؟
ج: قال تعالى { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } وقال تعالى { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } وقال تعالى { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } لكن إن استحل ذلك واعتقده جائزاً فهو كفر أكبر، وظلم أكبر، وفسق أكبر يخرج من الملة، أما إن فعل ذلك من أجل الرشوة أو مقصد آخر وهو يعتقد تحريم ذلك ؛ فإنه آثم يعتبر كافراً كفراً أصغر، وفاسقاً فسقاً أصغر لا يخرجه من الملّة ؛كما أوضح ذلك أهل العلم في تفسير الآيات المذكورة.(1)
وقال سماحة شيخنا عبدالعزيز بن باز – رحمه الله -: من حكم بغير ما أنزل الله فلا يخرج عن أربعة أمور:
1- من قال: أنا أحكم بهذا – يعني القانون الوضعي – لأنه أفضل من الشريعة الإسلامية فهو كافر كفراً أكبر.
2- ومن قال: أنا أحكم بهذا؛ لأنه مثل الشريعة الإسلامية، فالحكم بهذا جائز وبالشريعة جائز، فهو كافر كفراً أكبر.
3- ومن قال: أنا أحكم بهذا، والحكم بالشريعة الإسلامية أفضل، لكن الحكم بغير ما أنزل الله جائز، فهو كافر كفراً أكبر .
__________
(1) اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو : عبد الله بن غديان نائب رئيس اللجنة :عبد الرزاق عفيفي الرئيس : عبد العزيز بن عبد الله بن باز وانظر للاستزادة مجموع فتاوى ومقالات ابن باز(3/990-992 ) وما نقلته مجلة الفرقان عن الشيخ ابن باز العدد (82، 94).(1/3)
4- ومن قال: أنا أحكم بهذا، وهو يعتقد أن الحكم بغير ما أنزل الله لا يجوز، ويقول: الحكم بالشريعة أفضل، ولا يجوز الحكم بغيرها، ولكنه متساهل، أو يفعل هذا لأمر صادر من حكامه فهو كافر كفراً أصغر لا يخرج من الملة، ويعتبر من أكبر الكبائر. ا.هـ(1)
فإذا تقرر أنها مسألة اجتهادية فإن التكفير للأعيان لا يكون في المسائل المتنازع فيها بين أهل السنة أنفسهم ، وإن الخلاف مانع من تكفير المعينين.
قال الإمام محمد بن عبدالوهاب: أركان الإسلام خمسة، أولها الشهادتان، ثم الأركان الأربعة، فالأربعة إذا أقر بها وتركها تهاوناً، فنحن وإن قاتلناه على فعلها، فلا نكفره بتركها، والعلماء: اختلفوا في كفر التارك لها كسلاً من غير جحود، ولا نكفر إلا ما أجمع عليه العلماء كلهم، وهو الشهادتان ا.هـ(2)
وقال النووي في كتابه " رياض الصالحين "في تفسير ( بواحاً ) أي ظاهراً لا يحتمل تأويلاً.
وتنازعُ أهل العلم تأويلٌ يمنع التكفير ؛ لأن للمكفر أن يأخذ قول العلماء الآخرين بما أن الخلاف سائغ بين أهل السنة وهم من أهل السنة.
__________
(1) قضية التكفير بين أهل السنة وفرق الضلال ص72 – 73
(2) الدرر السنية (1/102).(1/4)
وقد نص –أيضاً- على أن التكفير لا يكون في المتنازع فيه الشيخ محمد بن صالح العثيمين في مواضع من اللقاء المفتوح. بل و قال - رحمه الله- في " شرح القواعد المثلى": وكثير من الناس- اليوم- ممن ينتسبون إلى الدين وإلى الغيرة في دين الله- عز وجل- تجدهم يكفّرون من لم يكفّره الله- عز وجل- ورسوله ، بل- مع الأسف - إن بعض الناس صاروا يناقشون في ولاة أمورهم، ويحاولون أن يطلقوا عليهم الكفر، لمجرد أنهم فعلوا شيئا يعتقد هؤلاء أنه حرام، وقد يكون من المسائل الخلافية، وقد يكون هذا الحاكم معذوراً بجهله، لأن الحاكم يجالسه صاحب الخير وصاحب الشر، ولكل حاكم بطانتان، إما بطانة خير، وإما بطانة شر، فبعض الحكام- مثلا- يأتيه بعض أهل الخير ويقولون: هذا حرام، ولا يجوز أن تفعله، ويأتيه آخرون، ويقولون: هذا حلال ولك أن تفعله! ولنضرب مثلا في البنوك، الآن نحن لا نشك بأن البنوك واقعة في الربا الذي لعن النبي- صلى الله عليه وسلم- آكله، وموكله، وشاهديه، وكاتبه، وأنه يجب إغلاقها واستبدال هذه المعاملات بالمعاملات الحلال، حتى يقوم- أولاً- ديننا ثم اقتصادنا- ثانياً-... فالتعجيل في تكفير الحكام المسلمين في مثل هذه الأمور خطأ عظيم، ولا بد أن نصبر فقد يمكن أن يكون الحاكم معذورا!
فإذا قامت عليه الحجة وقال: نعم هذا هو الشرع، وأن هذا الربا حرام، لكن أرى أنه لا يصلح هذه الأمة في الوقت الحاضر إلا هذا الربا ! حينئذ يكون كافراً لأنه اعتقد أن دين الله في هذا الوقت غير صالح للعصر، أما أن يشبّه عليه ويقال:- هذا حلال - يعنى: الفقهاء قالوا كذا! ولأن الله قال- كذا-!! فهذا قد يكون معذوراً، لأن كثيراً من الحكام المسلمين الآن يجهلون الأحكام الشرعية- أو كثيراً من الأحكام الشرعية - فأنا ضربت هذا المثل حتى يتبين أن الأمر خطير،وأن التكفير يجب أن يعرف الإنسان شروطه قبل كل شيء ا.هـ(1/5)
ومثله التفسيق لا يكون فيما تنازع فيه علماء السنة، فمن رأى أن علة جريان الربا في الأصناف الأربعة هي الطعم مع الكيل أو الوزن، فليس له أن يفسق العامي المقلد لعالم معتبر يرى أن علة الربا في الأصناف الأربعة هي الادخار زيادة على الطعم مع الكيل أو الوزن إذا تبادل على وجه الزيادة فيما ليس مما يدخر .
ومما يؤكد هذا أن الحدود تدرأ بالشبهات، فالتكفير من باب أولى يدرأ عن المعين بشبهة الخلاف، والله أعلم.
أما الجواب المفصل:
إن ترك الحكم بما أنزل الله على شناعته وسوئه ليس كفراً أكبر، وإنما هو أصغر كما صرح بذلك سادات الأمة من علماء السنة – كما سيأتي -، وكونه أصغر لا أكبر ليس معناه التساهل به؛ لأنه لو لم يكن من قبحه إلا وصف الشريعة له بأنه كفر لكفى، فإليك الأدلة وأقوال علماء الأمة ومنهم الإمامان عبدالعزيز ابن باز ومحمد ناصر الدين الألباني – رحمهما الله - في تقرير كونه كفراً أصغر لا أكبر.
اتفق العلماء على أن مِنْ الحكم بغير ما أنزل الله كفراً مخرجاً من الملة كأن يكون جحوداً أو استحلالاً - على ما سيأتي تفصيله – ومنه ما ليس كفراً كأن يظلم الأبُ أحدَ ابنيه ولا يعدل بينهما فإنه بهذا يكون قد حكم بينهما بغير ما أنزل الله إذ الحكم بين الأبناء من جملة الحكم فإن كان عدلاً فهو بما أنزل الله وإن كان ظلماً فهو بغير ما أنزل الله.
قال ابن تيمية :"وكل من حكم بين اثنين فهو قاضٍ سواءً كان صاحب حربٍ أو متولي ديوان أو منتصباً للاحتساب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى الذي يحكم بين الصبيان في الخطوط فإن الصحابة كانوا يعدُّونه من الحكام ... ا. هـ(1)
__________
(1) مجموع الفتاوى ( 18/170 ).(1/6)
والحكم بغير ما أنزل الله حالاتٌ، لكن هناك حالةٌ كثُر الكلام فيها وهي إذا حكم الحاكم بغير ما أنزل الله هوىً وشهوةً بأن يضع قوانين من نفسه أو يتبنى قوانين وُضعت قَبله وهو مع هذه الحالة معترفٌ بالعصيان والخطيئة فهل مثلُ هذا يُعد كفراً مخرجاً من الملَّة أم لا ؟
وقبل ذكر أدلة كل طائفة أحرِّر محل النزاع وهو يتلخص فيما يلي:
1-أن يجحد الحاكمُ حكمَ الله سبحانه وتعالى ومعنى الجحود أنه يكذِّب وينكر أن هذا حكم الله عز وجل وهذا كفرٌ بالاتفاق قال تعالى { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ... } وقال سبحانه { فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ... } وكفرُ الجحود نوعان : كفرٌ مطلقٌ عامٌّ وكفرٌ مقيَّدٌ خاص. والخاص المقيَّد :أن يجحد فرضاً من فروض الإسلام أو تحريم محرم من محرماته ... ا. هـ(1)
والفرق بين التكذيب والجحود من وجهين :
أ/ أن كفر الجحود تكذيب اللسان مع علم القلب.
ب / أن كفر الجحود مصحوب بالعناد.(2)
2- أن يجوِّز الحاكم الحكم بغير ما أنزل الله سبحانه وتعالى :- وهذا هو الاستحلال وهو كفرٌ بالاتفاق، قال ابن تيمية : والإنسان متى حلَّل الحرام - المجمع عليه أو حرَّم الحلال المجمع عليه أو بدل الشرع المجمع عليه كان كافراً مرتداً باتفاق الفقهاء وفي مثل هذا نزل قوله تعالى على أحد القولين { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } أي هو المستحلُّ للحكم بغير ما أنزل الله. ا.هـ(3)
وقال: وبيان هذا أن من فعل المحارم مستحلاً لها فهو كافرٌ بالاتفاق فإنه ما آمن بالقرآن مَنْ استحلَّ محارمه ـ ا.هـ(4).
__________
(1) أفاده ابن القيم في المدارج (1/367 ).
(2) راجع المدارج ( 1/366 ) ونوا قض الإيمان الإعتقادية (2/60 ).
(3) مجموع الفتاوى (3/267).
(4) الصارم المسلول (2/971 ).(1/7)
وقال : ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافرٌ فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه عدلاً من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافرٌ ... ا. هـ(1)
ومما يدل على أن الاستحلال كفرٌ أيضاً ما يلي:
أ- قوله تعالى { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ ... } قال ابن حزم : وبحكم اللغة التي نزل بها القرآن أن الزيادة في الشيء لا تكون البتة إلا منه لا من غيره فصحَّ أن النسيء كفرٌ وهو عمل من الأعمال وهو تحليل ما حرم الله تعالى فمن أحلّ ما حرم الله تعالى وهو عالمٌ بأن الله تعالى حرمه فهو كافرٌ بذلك الفعل نفسِهِ ... ا. هـ(2).
ب- قوله تعالى { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن : كيف حكم على أن من أطاع أولياء الشيطان في تحليل ما حرم الله أنه مشرك وأكد ذلك بإنّ المؤكدة ... ا.هـ(3).
ج- قوله تعالى { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ... } قال ابن كثير : إنهم لا يتبعون ما شرع الله لك من الدين القويم، بل يتبعون ما شرع لهم شياطينهم من الجن والإنس من تحريم ما حرموا عليهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وتحليل الميتة والدم والقمار ... إلى قوله: من التحليل والتحريم والعبادات الباطلة والأقوال الفاسدة ا. هـ(4)
__________
(1) منهاج السنة ( 5/130 ).
(2) الفِصَل (3/204 ).
(3) الرسائل والمسائل النجدية (3/46 ). وبنحو هذا فسَّره ابن كثير في تفسيره ( 3/329 ).
(4) التفسير ( 7/198 ).(1/8)
وقال ابن جرير: يقول تعالى ذكره أم لهؤلاء المشركين بالله شركاء في شركهم وضلالتهم شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله يقول ابتدعوا لهم من الدين ما لم يُبحِ الله لهم ابتداعه. ا. هـ(1)لذا درج جماعةٌ من العلماء(2)على ذكر الآية من الأدلة على تحريم البدع – التي هي تشريع أمور جديدة يزعم صاحبها أنها من الدين ليُتعبد الله بها - ومن هذا يتبين خطأ المستدلين بالآية على تكفير من شرع أحكاماً غير حكم الله ووجه خطأ استدلالهم أن الآية كفرت من جمع بين وصف التشريع والزعم أنه من الدين وهذا هو المسمى بالتبديل - كما سيأتي- أما التشريع وحده دون زعم أنه من الدين فلم تحكِ الآية كفره فتنبه .
3-أن يسوِّي الحاكم حكم غير الله بحكم الله جل جلاله : وهذا كفرٌ مخرجٌ من الملّة كما قال تعالى { فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ } وقال { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء ٌ } وقال { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } وقال { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً } .
4-أن يفضِّل حكم غير الله على حكم الله سبحانه وتعالى : وهذا كفرٌ مخرجٌ من الملَّة إذ هو أولى من الذي قبله فهو تكذيبٌ لكتاب الله سبحانه وتعالى قال الله تعالى { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } .
5- أن يحكم بغير ما أنزل الله على أنه حكم لله، وهذا كفر أكبر بالإجماع قال تعالى { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } فجمعوا بين التشريع وزعمه من الدين فهذا يسمى تبديلاً.
__________
(1) التفسير ( 25/14 ).
(2) كما فعله ابن تيمية في مواضع منها في أوائل كتاب الاستقامة (1/5) والاقتضاء (2/582).(1/9)
وبعد تحرير ما أظنُّه مورد النزاع انتقل إلى ما كثُر فيه الخلاف وهو إذا حكم الحاكم بغير ما أنزل الله هوىً وشهوةً بأن يضع قوانين من نفسه أو يتبنَّى قوانين وضعت قبله مع اعترافه بالعصيان ومخالفة أمر الرحمن سبحانه فهل مثل هذا الحاكم يصير كافراً مرتداً عن الدين ؟ سأورد المسألة على وجه المناظرة ليسهل تصورها من حيث الدليل ومن لا يكفر في هذه المسألة أصفه ( بالمفسِّق ) ومن يكفِّر أصفه ( بالمكفِّر ).
قال المفسِّق : إن الأصل في المعاصي والذنوب عدم الكفر إلا بدليل شرعي خاص، فإن ذكرت دليلاً يدل على التكفير ولم أستطع الإجابة عليه، فليس لي إلا المصير إلى قولك ويكفيك في إثبات الكفر دليلٌ واحدٌ صحيحٌ من جهة الثبوت والدلالة ، وإن لم تصح أدلتك إما من جهة الثبوت أو من جهة الدلالة ، فإنه يلزمك الرجوع إلى الأصل وهو عدم التكفير مع اتفاقنا أنه واقعٌ في ذنبٍ خطير؛ حسب هذا الذنب خطورة تسمية الشريعة صاحبه كافراً تنازع الناس في إخراجه من الملة .
قال المكفِّر : عندي أدلةٌ كثيرة متنوعةٌ من الكتاب والسنة والإجماع والعقل دالةٌ على أن الكفر أكبر ولكن لتكن طريقتنا في المباحثة دراسة كلِّ دليلٍ وحده ، فإن سلَّمتَ بصحة دلالة دليلٍ واحدٍ من حيث الثبوت والدلالة فليتوقف البحث لأن المقصود قد حصل . وقد ذكرتَ أن دليلاً واحداً يكفي لإثبات ما أريد .
قال المفسِّق : هات الأدلة مستعيناً بالله .
قال المكفِّر: الدليل الأول قوله تعالى { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ }(1/10)
وجه الدلالة: أن الله حكم على الذي لم يحكم بما أنزل الله بأنه الكافر فرتَّب وصفه بالكافر على مجرد الحكم بغير ما أنزل الله دون نظرٍ لاعتقاد فدلَّ على أن علَّة هذا الحكم كونه لم يحكم بما أنزل فحسب ولا يصحُّ لك أن تحمل وصف الكافر هنا على الكفر الأصغر لأن الحافظ الإمام ابن تيمية حكى بعد الاستقراء لنصوص الشريعة أن الكفر المعرَّف لا ينصرف إلا إلى الأكبر(1)، ثم ذكر هو وغيره أن الأصل في الكفر إذا أطلق انصرف إلى الأكبر إلا بدليل إذ الأصل في اللفظ إذا أُطلق في الكتاب والسنة انصرف إلى مسماه المطلق وحقيقته المطلقة وكماله(2).
قال المفسِّق : لقد ذكرت في ثنايا كلامك حججاً ثلاثاً :
1- أن الشارع علَّق الحكم بمجرد التحكيم دون النظر للاعتقاد .
2- أن اللفظ إذا أُطلق في الشريعة انصرف إلى كماله إلا بدليل .
3- أن ابن تيمية استقرأ لفظ الكفر في الشريعة وتبين له أنها لا تنصرف إلا إلى الأكبر دون الأصغر .
والجواب على الحجة الأولى يكون بما يلي :
أ لا أخالفك أن الشارع علّق الحكم بوصف( الكافر ) على مجرد التحكيم بغير ما أنزل الله لكنني أقول بأن الكفر هنا أصغر لا أكبر للأدلة التالية:
__________
(1) انظر الاقتضاء ( 1/211 ) وشرح العمدة قسم الصلاة (82) .
(2) انظر مجموع الفتاوى (7/668 ) والرسائل والمسائل النجدية ( 3/7) وشرح العمدة قسم الصلاة لابن تيمية ص 82 .(1/11)
1- أن الأخذ بعموم الآية يلزم منه تكفير المسلمين في أي حادثةٍ لم يعدلوا فيها بين اثنين حتى الأب مع أبنائه بل والرجل في نفسه إذا عصى ربه ؛ لأن واقعه أنه لما عصى ربه لم يحكم بما أنزل الله في نفسه(1)ووجه هذا اللازم أن لفظة ( مَنْ ) عامةٌ تشمل كل عالم(2)( وما ) عامة تشمل كل ما ليس بعالم ومن لم يعدل بين بنيه داخلٌ في عموم (من) ومسألته التي لم يعدل فيها داخلةٌ في عموم ( ما) .
فالنصوص الدالة على عدم كفر مثل هذا وكل عاصٍ تكون صارفةً للآية من الأكبر إلى الأصغر لأجل هذا أجمع العلماء على عدم الأخذ بعموم هذه الآية، إذ الخوارج هم المتمسكون بعمومها في تكفير أهل المعاصي والذنوب ولم يلتفتوا إلى الصوارف من الأدلة الأخرى .
قال ابن عبد البر : وقد ضلَّت جماعة من أهل البدع من الخوارج والمعتزلة في هذا الباب فاحتجوا بآيات من كتاب الله ليست على ظاهرها مثل قوله تعالى { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } . ا . هـ(3).
__________
(1) قال ابن حزم في الفصل ( 3/ 234): فإن الله عز وجل قال : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ، ومن لم يحكم بما أنز الله فأولئك هم الفاسقون ، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون . فليلزم المعتزلة أن يصرحوا بكفر كل عاص وظالم وفاسق لأن كل عامل بالمعصية فلم يحكم بما أنزل الله ا.هـ
(2) درج كثير من العلماء أن يعبر بكلمة (عاقل ) بدل (عالم) لكن عالم أدق لأن (مَنْ ) أطلقت على الله ، فالله يوصف بالعلم ولا يوصف بالعقل .قال الخطابي في كتاب شأن الدعاء ص113 :وفي أسمائه العليم ومن صفته العلم ، فلا يجوز قياساً عليه أن يسمى عارفاً لما تقتضيه المعرفة من تقديم الأسباب التي بها يتوصل إلى علم الشيء وكذلك لا يوصف بالعاقل ..ا.هـ .
(3) التمهيد (17/16) .(1/12)
وقال: أجمع العلماء على أن الجور في الحكم من الكبائر لمن تعمَّد ذلك عالماً به ... ا.هـ(1)
وقال محمد رشيد رضا :" أما ظاهر الآية لم يقل به أحدٌ من أئمة الفقه المشهورين . بل لم يقل به أحدٌ قط " ا . هـ(2)فلعلَّه لا يرى الخوارج أيضاً متمسكين بظاهر الآية لكونهم لا يكفِّرون بالصغائر وظاهر الآية تشمل حتى الصغائر .
وقال الآجري: ومما يتبع الحرورية من المتشابه قول الله عز وجل { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } ويقرءون معها { ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } فإذا رأوا الإمام الحاكم يحكم بغير الحق قالوا: قد كفر ، ومن كفر عدل بربه فقد أشرك، فهؤلاء الأئمة مشركون ، فيخرجون فيفعلون ما رأيت ؛ لأنهم يتأولون هذه الآية ا.هـ(3).
وقال الجصاص :" وقد تأولت الخوارج هذه الآية على تكفير من ترك الحكم بما أنزل الله من غير جحود . ا هـ(4)
وقال أبو حيان :" واحتجت الخوارج بهذه الآية على أن كل من عصى الله تعالى فهو كافرٌ وقالوا هي نص في كل من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر ا.هـ(5)
انظر – يا رعاك الله – توارد كلمات علماء الأمة في ذم الأخذ بعموم الآية وأنه مذهب الخوارج ، فكن حذراً.
2- أنه ثبت عن ترجمان القرآن تفسير الآية بالكفر الأصغر دون الأكبر وليس لنا أن نخالفه
قال المكفِّر : لا أسلِّم لك صحة الاستدلال بأثر ابن عباس لا من حيث السند ولا المتن .
__________
(1) التمهيد (5/74-75 ) .
(2) تفسير المنار (6/406) .
(3) الشريعة ص27.
(4) أحكام القرآن ( 2/534 ) .
(5) البحر المحيط ( 3/493 ) .(1/13)
أما من حيث السَّند فإن ما جاء عن ابن عباس صريحاً في إرادة الكفر الأصغر لا يثبت كقوله " كفرٌ لا ينقل عن الملة " فإن هذا الأثر رواه ابن نصر(1)من طريق عبد الرزاق عن سفيان عن رجلٍ عن طاووس عن ابن عباس به ، وفي إسناده رجل مُبهمٌ فهو من أنواع المجهول ورواية المجهول ضعيفةٌ لا يُحتجُ بها وكقوله – رضي الله عنهما –" ليس بالكفر الذي تذهبون إليه " فقد رواه ابن نصر(2)من طريق ابن عيينة عن هشام بن حجير عن طاووس عن ابن عباسٍ به وهشام بن حجير قد ضعفه يحيى القطان وابن معين وغيرهما . فعلى هذا يكون الأثر ضعيفاً وكقوله – رضي الله عنهما – " كفرٌ دون كفرٍ " فقد أخرجه الحاكم من طريق ابن عيينة عن هشام بن حجير عن طاووس عن ابن عباس به وهذا الأثر ضعيفٌ لضعف هشام بن حجير .
وأما ما ثبت عن ابن عباس في تفسير الآية كقوله " هي به كفرٌ " كما رواه عبد الرزاق(3)عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس به فليس صريحاً في الأصغر ، إذ قد يُحمل على الأكبر ومثل هذا ما أخرجه الطبري في تفسيره من طريق سفيان عن معمر بن راشد عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس قوله " هي به كفرٌ وليس كفراً بالله وملائكته وكتبه ورسله ".
قال المفسِّق : ما ذكرته من البحث الإسنادي أنا مسلِّمٌ به ولم يكن اعتمادي على هذه الآثار الضعيفة في تثبيت هذا القول عن ابن عباس وإنما مُعتَمدي ما يلي : أن هذين الأثرين الصحيحين عن ابن عباس محتملان للكفر الأصغر أو الأكبر ، فرجحت احتمال إرادة الأصغر لثلاثة أمور:
__________
(1) تعظيم قدر الصلاة رقم ( 573 ) .
(2) رقم ( 569 ) .
(3) التفسير ( 1/186) رقم (713) .(1/14)
أ - أن أصحاب ابن عباس كطاووس صرَّحوا بأن المراد بالآية كفر لا ينقل عن الملة بإسناد صحيح رواه ابن نصر(1)وابن جرير في تفسيره . فهذا يغلِّب جانب احتمال إرادة الكفر الأصغر فيصير من باب الظن الغالب وهو كافٍ للاستدلال فإن أقوال أصحاب الرجل توضِّح قوله بل قد يُعلُّ ويُضعَّف قول الرجل إذا كان أصحابه على خلاف قوله كما فعل يحيى بن سعيد في تضعيف قولٍ لابن مسعود لأن أصحابه على خلافه(2).
ب - أنني لا أعرف أحداً من العلماء الماضين جعل قولا آخر لابن عباس بناءً على هذه الرواية وإنما من جعل منهم لابن عباس قولا آخر اعتمد على ما روي عنه من أنه فسر الآية بالجحود وإسناده ضعيفٌ ثم أيضاً مما يقوِّي عدم إرادة ابن عباس الكفر الأكبر أن فتنة الخوارج في زمانه وكانوا متمسكين بهذه الآية في التكفير وكانت له معهم مناظراتٌ فتفسير الآية بالكفر الأكبر لا فائدة منه في الرد عليهم فتنبه هُديت الرُّشد .
__________
(1) كتاب تعظيم قدر الصلاة رقم (574) .
(2) انظر الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام ص 22 .(1/15)
ج- أن الرواية الضعيفة التي فيها التصريح بأنه كفر دون كفر ليس ضعفها شديداً ، فإنه قد وثق بعض أهل العلم هشام بن حجير فيعتضد بها في بيان معنى الآثار الصحيحة وأن المراد بها كفر أصغر .(1)
__________
(1) قال الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله – في تعليقه على كلام الشيخ الألباني: احتج الألباني بهذا الأثر عن ابن عباس رضي الله عنهما وكذلك غيره من العلماء الذين تلقوه بالقبول لصدق حقيقته على كثير من النصوص ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:" سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " ومع ذلك فإن قتاله لا يخرج الإنسان من الملة لقوله تعالى { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } إلى أن قال { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } لكن لما كان هذا لا يرضي هؤلاء المفتونين بالتكفير صاروا يقولون: هذا الأثر غير مقبول ، ولا يصح عن ابن عباس ، فيقال لهم: كيف لا يصح ؟ وقد تلقاه من هو أكبر منكم وأفضل وأعلم بالحديث وتقولون لا يقبل ؟!
فيكفينا أن علماء كشيخ ا؟لإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهما وغيرهما تلقوه بالقبول ، ويتكلمون به وينقلونه ، فالأثر صحيح ، ثم هب أن الأمر كما قلتم أنه لا يصح عن ابن عباس فلدينا نصوص أخرى تدل على أن الكفر قد يطلق ولا يراد به الكفر المخرج عن الملة كما في الآية المذكورة ، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم:" اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب ، والنياحة على الميت " وهذه لا تخرج عن الملة بلا إشكال ، لكن كما قال الشيخ الألباني – وفقه الله – في أول كلامه : قلة البضاعة من العلم ، وقلة فهم القواعد الشرعية العامة هي التي توجب هذا الضلال ، ثم شيء آخر نضيفه إلى ذلك وهو سوء الإرادة التي تستلزم سوء الفهم ؛ لأن الإنسان إذا كان يريد شيئاً لزم من ذلك أن ينتقل فهمه إلى ما يريده ثم يحرف النصوص على ذلك ، وكان من القواعد المعروفة عند العلماء أنهم يقولون : استدل ثم اعتقد ، ولا تعتقد ثم تستدل فتضل ، فالمهم أن الأسباب ثلاثة :
الأولى: قلة البضاعة من العلم الشرعي .
الثانية: قلة الفقه في القواعد الشرعية العامة .
الثالثة: سوء الفهم المبني على سوء الإرادة ا.هـ انظر تعليق الشيخ ابن عثيمين في كتاب " فتنة التكفير للشيخ الألباني " ص24 – 25 .(1/16)
قال المكفِّر : لقد أجبت على الحجة الأولى فما جوابك على الحجة الثانية ؟
قال المفسِّق : إنك تجعل الأصل في الكفر أنه للأكبر إلا بدليل يصرفه عن ذلك ، وقد ذكرتُ لك الدليل الصارف من الأكبر إلى الأصغر وهو فهم الصحابي أولاً .
وثانياً كل دليل يدل على عدم كفر من ظلم بين اثنين ولم يعدل بل ومن ظلم مطلقاً غيره وأيضاً ما ذكر ابن عبد البر من الإجماع على أن الجور في الحكم ليس كفراً بل كبيرةً من كبائر الذنوب .
قال المكفِّر : ما جوابك على الحجة الثالثة ؟
قال المفسِّق : الجواب من وجهين :
أ – أن استقراء ابن تيمية كان على لفظة ( الكفر ) وهي مصدرٌ والذي ورد في الآية ليس مصدراً وإنما اسم فاعل وفرق بينهما إذ المصدر يدل على الحدث وحده أما اسم الفاعل فهو يدل على الحدث والفاعل(1)أفاده بمعناه العلَّامة محمد بن صالح العثيمين(2).
ومما يدل على أن استقراءه راجع إلى المصدر دون اسم الفاعل أنه هو نفسه جعل الآية من الكفر الأصغر قال – رحمه الله -:" وإذا كان من قول السلف :إن الإنسان يكون فيه إيمان ونفاق ، فكذلك في قولهم : إنه يكون فيه إيمان وكفر ، ليس هو الكفر الذي ينقل عن الملّة ، كما قال ابن عباس وأصحابه في قوله تعالى { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } قالوا : كفروا كفراً لا ينقل عن الملة ، وقد أتبعهم على ذلك أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة ا.هـ(3).
__________
(2) قال: وأما القول الصحيح عن شيخ الإسلام فهو تفريقه – رحمه الله – بين الكفر المعرفة ب ( ال ) وبين " كفر " منكراً ، فأما الوصف فيصلح أن نقول فيه " هؤلاء كافرون " أو هؤلاء الكافرون " ، بناء على ما اتصفوا به من الكفر الذي لا يخرج من الملة ، ففرق بين أن يوصف الفعل ، وأن يوصف الفاعل ا.هـ ( فتاوى الأئمة في النوازل المدلهمة ص227 .
(3) مجموع الفتاوى (7/312 ) وانظر فتح الباري لابن رجب (1/ 126)(1/17)
ب - على فرض أن استقراء ابن تيمية يشمل اسم الفاعل فسُيقال إن استقراء ابن تيمية قاصر ناقص ليس تاماً لكون هذه الآية جاءت معرَّفةً وأريدَ بها الكفر الأصغر دون الأكبر لما سبق من الأدلة .
وبعد الإجابة على حججك الثلاث وإثبات أن الآية محمولةٌ على الكفر الأصغر ألفت نظرك – يا صاحبي – إلى أن الآية قد يُراد بها الكفر الأكبر وذلك في حق من بدل حكم الله بحكم غيره وبعض الناس لا يعرف معنى كلمة بدل فيظنها تشمل كل من حكم بغير حكم الله و كلمة بدَّل في كلام أهل العلم هو أن يضع حكماً غير حكم الله زاعماً انه حكم الله أما من وضع حكماً غير حكم الله ولم يزعم أنه حكم الله فليس مبدلاً .
قال ابن العربي :" وهذا يختلف: إن حكم بما عنده على أنه من عند الله فهو تبديل له يوجب الكفر ... ا .هـ(1)
وبمثله قال القرطبي(2)وإليه أشار الإمام ابن تيمية فقال: ولفظ الشرع يقال في عرف الناس على ثلاثة معان: " الشرع المنزل " وهو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهذا يجب اتباعه ، ومن خالفه وجبت عقوبته . والثاني " الشرع المؤول" وهو آراء العلماء المجتهدين فيها كمذهب مالك ونحوه . فهذا يسوغ اتباعه ولا يجب ولا يحرم ، وليس لأحد أن يلزم عموم الناس به ، ولا يمنع عموم الناس منه . والثالث " الشرع المبدل " وهو الكذب على الله ورسوله أو على الناس بشهادات الزور ونحوها ، والظلم البين فمن قال إن هذا من شرع الله فقد كفر بلا نزاع . كمن قال : إن الدم والميتة حلال – ولو قال هذا مذهبي – ونحو ذلك ا.هـ(3)
فلاحظ أنه جعل الشرع المبدل الكذب على الله بزعم أنه من شرع الله لا تغيير الحكم مطلقاً .
__________
(1) أحكام القرآن ( 2/624 ) .
(2) التفسير ( 6/191 ) .
(3) 3/268)(1/18)
وما رواه مسلم سبباً لنزول هذه الآية من حديث البراء بن عازب هو تبديلٌ إذ زعم اليهود أنهم يجدون حد الزنى في كتابهم التحميم والواقع أن حد الزنى في كتابهم الرجم لكنهم غيروه إلى التحميم مدعين أن التحميم حكم الله المنزل فالآية إما أن تحمل على الأصغر كما سبق أو على الأكبر في حق المبدل .
قال ابن تيمية :" والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه أو حرم الحلال المجمع عليه، أو بدّل الشرع المجمع عليه كان كافراً مرتداً باتفاق الفقهاء ، وفي مثل هذا نزل قوله على أحد القولين { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } أي هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله ا.هـ(1).
فائدة / كثيراً ما يذكر أهل العلم في كلامهم لا سيما الإمام أحمد بن تيمية – رحمه الله – أن من لم يلتزم هذا فهو كافر . فظن بعضهم أنه يريد المداومة على ترك الواجب أو المداومة على فعل الحرام ، ويسمون هذا غير ملتزم، وهذا الظن خاطئ ، وخطوة من خطوات الشيطان ليجعلهم على فكر الخوارج في مرتكب الكبيرة ، ورد هذا الظن من أوجه:
1/ بيان معنى ( عدم الالتزام ) من كلام أهل العلم لا سيما الإمام أحمد بن تيمية – رحمه الله - ، وأنه لا يرادف الترك المستمر كما يتصوره بعضهم قال – رحمه الله -: وتكفير تارك الصلاة هو المشهور المأثور عن جمهور السلف من الصحابة والتابعين . ومورد النزاع هو فيمن أقر بوجوبها والتزم فعلها ولم يفعلها ا.هـ(2)
__________
(1) مجموع الفتاوى ( 3/ 267) وانظر (7/70-71).
(2) الفتاوى (20/97) .(1/19)
لاحظ قوله " التزم فعلها ولم يفعلها " يفيد أن معنى الالتزام غير معنى المداومة على الفعل فقد يكون الرجل ملتزماً لها لكنه لا يفعلها ، فالالتزام الذي ينبني على تركه الكفر أمر عقدي قلبي لا فعلي ؛ لذا لما أراد ابن تيميه التعبير بالالتزام الفعلي قيده بوصف (الفعلي ) ثم لم يجعله مكفراً لذاته بل لأمر آخر عقدي فقال – بعد النقل المتقدم -: أن لا يجحد وجوبها ، لكنه ممتنع من التزام فعلها كبراً أو حسداً أو بغضاً لله ورسوله ، فيقول: اعلم أن الله أوجبها على المسلمين ، والرسول صادق في تبليغ القرآن ، ولكنه ممتنع عن التزام الفعل استكباراً أو حسداً للرسول ، أو عصبية لدينه ، أو بغضاً لما جاء به الرسول ، فهذا أيضاً كفر بالاتفاق ، فإن إبليس لما ترك السجود المأمور به لم يكن جاحداً للإيجاب ، فإن الله تعالى باشره بالخطاب ، وإنما أبى واستكبر وكان من الكافرين ا.هـ
فلاحظ أنه لم يجعل ترك الالتزام الفعلي مكفراً لذاته ، بل لما احتف به اعتقاد كفري، وهو الكبر والحسد أو بغض الله ورسوله .
فبهذا يتبين بجلاء أن ترك الالتزام ليس تركاً للفعل ولو على وجه الإصرار بل ترك للاعتقاد ، فإن قيل: ما معنى ( عدم الالتزام ) ؟(1/20)
فيقال : معناه ترك المأمور لدافع عقدي كفري كالإباء والاستكبار وهكذا...مع اعتقاد وجوبه على نفسه وعلى المسلمين كما في كلام ابن تيمية المتقدم - قريباً – : لكنه ممتنع من التزام فعلها كبراً أو حسداً أو بغضاً لله ورسوله. ثم ذكر إبليس مثالاً لغير الملتزم وهو موجب طاعة الله على نفسه لكنه ترك إباء واستكباراً(1)
__________
(1) إذا عرفت معنى الالتزام بما تقدم بيانه عرفت معنى كلام الإمام سفيان بن عيينة فقد روى عبد الله بن أحمد رحمه الله في كتابه السنة348) ) قال : حدثنا سويد بن سعيد قال سألن سفيان بن عيينة عن الأرجاء فقال : يقولون الإيمان قول ، ونحن نقول الإيمان قول وعمل والمرجئة أوجبوا الجنة لمن شهد أن لا إله إلا الله مصراً بقلبه على ترك الفرائض وسموا ترك الفرائض ذنباً بمنزلة ركوب المحارب وليس بسواء لأن ركوب المحارم من غير استحلال معصية وترك الفرائض متعمداً من غير جهل ولا عذر هو كفر ، وبيان ذلك في أمر آدم صلوات الله عليه وإبليس وعلماء اليهود أما آدم فنهاه الله عز وجل عن أكل الشجرة وحرمها عليه فأكل منها متعمداً ليكون ملكاً أو يكون من الخالدين فسمي عاصياً من غير كفر وأما إبليس لعنه الله فإنه فرض عليه سجدة واحدة فجحدها متعمداً فسمي كافراً
وأما علماء اليهود فعرفوا نعت النبي صلى الله عليه وسلم وأنه نبي رسول كما يعرفون أبناءهم وأقروا به باللسان ولم يتبعوا شريعته فسماهم الله عز وجل كفاراً.
فركوب المحارم مثل ذنب آدم عليه السلام وغيره من الأنبياء وأما ترك الفرائض جحوداً فهو كفر مثل كفر إبليس لعنه الله وتركها على معرفة من غير جحود فهو كفر مثل كفر علماء اليهود ((1/21)
2/ يلزم على قولهم أن من المكفرات عند أهل السنة الإصرار على المعصية تركاً لواجب أو فعلاً لمحرم فأين هو من كلامهم ؟ بل إن كلامهم المسطور في كتب المعتقد أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله(1)، وذلك رد على الخوارج المكفرين بارتكاب الكبائر .
3/ يلزم على قولهم أن المصر على المعصية بفعل المحرم أو ترك الواجب كافر. وهذا مخالف لما ثبت عن ابن عباس أنه قال: لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار . أخرجه ابن أبي حاتم وابن جرير في تفسيرهما لسورة النساء. ويدخل في كلامه ترك المأمور وفعل المحضور
4/ أنه لا دليل من الكتاب والسنة على التكفير بمجرد الإصرار على الذنب، والتكفير حق لله ورسوله صلى الله عليه وسلم لا مدخل للعواطف ولا للحماسات فيه ، بل النصوص دلت على عدم تكفير المصر كحديث صاحب البطاقة وغيره .
لذا المرجو التنبه لخطوة الشيطان هذه وألا ينساق وراءها .
__________
(1) فمعنى الجحود في كلامه هو عدم الالتزام وهو ترك المأمور لدافع كفري كالإباء والاستكبار ويؤكد ذلك أنه هو كفر إبليس كما أخبرنا الله في كتابه واستعمال الجحود عند العلماء بهذا المعنى معروف قال ابن تيمية(20/98): ومن اطلق من الفقهاء أنه لا يكفر إلا من يجحد وجوبها فيكون الجحد عنده متناولا للتكذيب بالايجاب ومتناولا للامتناع عن الاقرار والالتزام كما قال تعالى
( فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ) وقال تعالى ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ) والا فمتى لم يقر ويلتزم فعلها قتل وكفر بالاتفاق ا.هـ وأثر الإمام سفيان وإن كان في إسناده ضعف إلا أن معناه صحيح قطعاً وإلا لما نقله أئمة السنة في كتب الاعتقاد من غير نكير(1/22)
قال المكفر: إن هناك أثراً ثابتاً عن علقمة ومسروق أنهما سألا عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – عن الرشوة ، فقال: من السحت . قال: فقالا: أفي الحكم؟ قال: ذاك الكفر . ثم تلا هذه الآية { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } أخرجه الطبري في تفسيره . فهذا يفيد التكفير بمجرد الحكم بغير ما أنزل الله .
قال المفسق: إنك لو تأملت أثر ابن مسعود ولو قليلاً لعلمت أنه لا يدل على ما تريد ولا ممسك لك به ، وذلك لوجهين:
1- أن الأخذ بظاهره على ما تظن يقتضي الكفر الأكبر لمن أخذ الرشوة ليحكم بغير ما أنزل الله في مسألة واحدة . وهذا الظاهر لا تقول به ، وقطعاً غير مراد للإجماعات التي سبق نقلها عن ابن عبدالبر وغيره من أن هذا قول الخوارج دون غيرهم .
2- أن ابن مسعود لم يبين أي الكفر المراد : الأكبر أو الأصغر . أما أثر ابن عباس فصريح في إرادة الأصغر دون الأكبر فلا يصح جعل الخلاف بين الصحابة بما هو مظنون ، فإن الأصل عدم خلافهم لقلته بينهم .
قال المكفِّر : إنّك – يا أخي – أوردت كلام العلماء من الصحابة ومن بعدهم على أنّ هذا كفر أصغر وهؤلاء العلماء يتكلمون في واقع غير واقعنا إذ تنحية شرع الله كلية لم يوجد إلا مؤخراً فلا يصح تنزيل كلامهم على واقعنا فتنبه .
قال المفسق : إذا كنت - يا أخي – لا ترى الاستدلال بالآية وكلام السلف على مسألتنا المطروحة لكونها حادثة ، فكذلك لا يصح تمسكك بالآية { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون َ } دليلاً على تكفير من وقع في هذه الأزمان المتأخرة من الحكم بغير ما أنزل الله بجعل قانون وضعي وهو الذي نبحثه فكن يقظاً ، لأن هذه الآية بفهم الصحابة والتابعين حتى على قولك محمولة على من خالف في بعض الوقائع فهي لا تخرج عن الكفر الأصغر.(1/23)
قال المكفِّر : عندي دليل ثانٍ وهو قوله تعالى { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ... }
وجه الدلالة / أن الأصل في النفي هنا أن ينصرف إلى أصل الإيمان فمن ثم يكون الحاكم بغير ما أنزل الله بمجرد تحكيمه كافراً كفراً أكبر لأن الإيمان قد نفي عنه . إلا أن يكون هناك دليل يدل على أن المنفي كمال الإيمان الواجب كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين " متفق عليه من حديث أنس واللفظ لمسلم وأنا لا أعلم دليلاً يصرفه إلى كماله الواجب .
قال المفسِّق : جزاك الله خيراً على هذا التأصيل القويم وعندي أكثر من دليل يدل على أن الإيمان المنفي هنا كماله الواجب لا أصله من ذلك :-
1/ سبب نزول الآية وهو ما رواه الشيخان عن عبد الله بن الزبير أن رجلاً من الأنصار خاصم الزبير عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة ... إلخ ، وفيه أن الأنصاري لم يرض بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب ثم قال إن كان ابن عمتك ... إلخ ، فقال ابن الزبير : والله إني لأحسب هذه الآية ما نزلت إلا في ذلك { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ... }(1/24)
وجه الدلالة / أنه وجد في نفس الأنصاري البدري حرج ولم يسلم تسليماً لحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومع ذلك لم يكفر ويؤكد عدم كفره أن الرجل بدري والبدريون مغفورة لهم ذنوبهم كما في حديث علي في قصة حاطب لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال :اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم "(1)والكفر الأكبر لا يغفر ، فدل هذا على أن البدريين معصومون من أن يكونوا كفاراً ، نص عليه ابن تيمية(2). ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطالبه بالإسلام .
2/ ما رواه الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري قال بعث على بن أبي طالب وهو باليمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهيبة فقسمها بين أربعة فقال رجل يا رسول الله: اتق الله فقال " ويلك ألست أحق أهل الأرض أن يتقي الله ثم ولى الرجل فقال خالد بن الوليد يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا لعلَّه أن يكون يصلي "، قال خالد: وكم من مصلٍ يقول بلسانه ما ليس في قلبه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم "الحديث.
وجه الدلالة: أن هذا الرجل اعترض على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرض به ويسلِّم ، ووجد في نفسه حَرَجاً ولم يكفِّره الرسول صلى الله عليه وسلم ، وامتنع عن قتله خشية أن يكون مصلياً ولو كان واقعاً في أمرٍ كفريٍّ لم تنفعه صلاته لأن الشرك والكفر الأكبرين يحبطان الأعمال ، فلا تنفع الصلاة معهما .
__________
(1) رواه الستة إلا ابن ماجه قال ابن تيمية في المنهاج (4/ 331 ) : وهذه القصة مما اتفق أهل العلم على صحتها ،وهي متواترة عندهم ، معروفة عند علماء التفسير ، وعلماء الحديث ، وعلماء المغازي والسير والتواريخ ،وعلماء الفقه وغير هؤلاء ا.هـ .
(2) مجموع الفتاوى (7/ 490) .(1/25)
وأيضاً مما يدل على أن الرجل لم يقع في أمر كفري عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أن خالداً أراد أن يحيله على أمر كفري خفي في القلب فلم يرتض هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان قوله كفراً لتمسك به خالد بن الوليد ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس .. " لأن هذا القول –المدعى أنه مكفر – قد ظهر منه ، ومما يوضح أن هذه الكلمة ليست كفراً أنه ثبت في الصحيحين عن عائشة أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم جئنه يناشدنه العدل في بنت أبي قحافة ، ولم يكن هذا منهن كفراً.
3/ ما روى الشيخان عن أنس بن مالك أن ناساً من الأنصار قالوا يوم حنين حين أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي رجالاً من قريش المائة من الإبل فقالوا يغفر الله لرسول الله يعطي قريشاً وسيوفنا تقطر من دمائهم " وفي رواية لما فُتحت مكة قسم الغنائم في قريش فقالت الأنصار إن هذا لهو العجب إن سيوفنا تقطر من دمائهم ... "
وجه الدلالة / أن هؤلاء استنكروا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجدوا في أنفسهم حرجاً ولم يكفِّرهم صلى الله عليه وسلم .
لذا قال ابن تيمية: والمقصود هنا أن كل ما نفاه الله ورسوله من مسمى أسماء الأمور الواجبة كاسم الإيمان والإسلام والدين والصلاة والصيام والطهارة والحج وغير ذلك فإنما يكون لترك واجبٍ من ذلك المسمى ومن هذا قوله تعالى { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } فلما نفى الإيمان حتى توجد هذه الغاية دل على أن هذه الغاية فرض على الناس، فمن تركها كان من أهل الوعيد ... ا. هـ(1).
__________
(1) مجموع الفتاوى ( 7/37 ) وانظر (22/ 530) والقواعد النورانية ص61 .(1/26)
وقال ابن تيمية : فمن لم يلتزم تحكيم الله ورسوله فيما شجر بينهم فقد أقسم الله بنفسه أنه لا يؤمن ، وأما من كان ملتزماً لحكم الله ورسوله باطناً وظاهراً ، لكن عصى واتبع هواه ، فهذا بمنزلة أمثاله من العصاة . وهذه الآية { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ... } مما يحتج بها الخوارج على تكفير ولاة الأمر الذين لا يحكمون بما أنزل الله ، ثم يزعمون أن اعتقادهم هو حكم الله. وقد تكلم الناس بما يطول ذكره هنا ، وما ذكرته يدل عليه سياق الآية .ا.هـ(1)
قال المكفِّر : دع عنك الاستدلال بهذا الدليل فإن عندي دليلاً ثالثاً ألا وهو قوله تعالى { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً }
وجه الدلالة: أنهم صاروا منافقين لكونهم يريدون التَّحاكم إلى الطاغوت وجعل إيمانهم مزعوماً.
قال ابن الجوزي :" والزَّعم والزُّعم لغتان وأكثر ما يُستعمل في قول ما لا تتحقق صحته. ا.هـ(2).
قال المفسِّق : إن هذه الآية عاريةُ الدلالة عن تكفير الواقعِ في الحكم بغير ما أنزل الله، وذلك يتضح من أوجه :
الوجه الأول : أن الآية محتملةٌ لأمرين :
1- أن إيمانهم صار مزعوماً لكونهم أرادوا الحكم بالطاغوت وهذا ما تمسكت به .
__________
(1) المنهاج (5/131) .
(2) زاد المسير (2/120 ) .(1/27)
2-أن من صفات أهل الإيمان المزعوم – المنافقين – كونهم يريدون التحاكم للطاغوت ومشابهة المنافقين في صفةٍ من صفاتهم لا توجب الكفر(1)، فعلى هذا من حكم بغير ما أنزل الله فقد شابه المنافقين في صفةٍ من صفاتهم وهذا لا يوجب الكفر إلا بدليل آخر كمن شابه المنافقين في الكذب لم يكن كافراً فمن ثمَّ إذا توارد الاحتمال في أمرٍ بين كونه مكفِّراً أو غير مكفِّر لم يكفر بهذا الأمر لكون الأصل هو الإسلام فالنتيجة أنه لا يصح تمسكك بالآية في التكفير لكونها من المحتمل .
الوجه الثاني : أن هؤلاء يريدون الحكم بالطاغوت وليست إرادتهم هذه إرادةً مطلقةً بل هي إرادةٌ تنافي الكفر به الكفر الاعتقادي ، ومن لم يعتقد وجوب الكفر بالطاغوت فلا شك في كفره الكفر الأكبر قال تعالى { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى }
قال ابن جرير :" يريدون أن يتحاكموا في خصومتهم إلى الطاغوت يعني إلى من يعظمونه ويصدرون عن قوله ويرضون بحكمه من دون حكم الله وقد أمروا أن يكفروا به يقول وقد أمرهم أن يكذبوا بما جاءهم به الطاغوت الذي يتحاكمون إليه فتركوا أمر الله واتبعوا أمر الشيطان" ا. هـ(2)
فإن أبيت إلا أن تحملها على مطلق الإرادة فيُقال إن الإرادة هنا محتملةٌ لما قلتَ وقلتُ والكفر لا يكون في الأمور المحتملة - كما سبق -
قال المكفِّر : إليك الدليل الرابع قال تعالى { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ }
وجه الدلالة: أن طاعة غير الله في الأحكام الوضعية شرك .
__________
(1) انظر جامع البيان في تفسير القرآن ( 5/99) .
(2) 5/96 ) .(1/28)
قال المفسِّق : لماذا أراك – يا أخي – نسيت ؟ قد سبق بيان أن هذه الآية راجعةٌ إلى التحليل والتحريم ثم إياك أن تنسى مرةً ثانيةً فتستدلَّ بقوله تعالى { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) } فقد سبق الكلام عنها وأن المراد بها من جمع بين التشريع وزعم أن هذا من الدين الذي مؤداه إلى التحليل والتحريم وهو المسمى بالتبديل .
قال المكفِّر : الدليل الخامس قوله تعالى { وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً }
قال المفسِّق : انتظر - يا أخي – هل هؤلاء الذين يحكمون بغير ما أنزل الله يقولون هذا حكم الله حتى يكونوا مشاركين له في وضع حكمه سبحانه وتعالى ؟ إن كانوا كذلك فقد سبق أن هذا كفرٌ لا شك فيه وإن لم يكونوا كذلك فلا يصح الاستدلال عليهم بالآية . فتأمل!
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي:" هذا يشمل الحكم الكوني القدري والحكم الشرعي الديني فإنه الحاكم في خلقه قضاءً وقدراً وخلقاً وتدبيراً والحاكم فيهم بأمره ونهيه وثوابه وعقابه ... ا. هـ(1).
فحكم الله الكوني واقع سواءً كان الله سبحانه محباً له أو غير محبٍ كالإرادة الكونية وهذا بلا شك لا أحد يشاركه فيه ومن اعتقد أن أحداً يشارك الله في هذا فقد وقع في الشرك الأكبر إذ إنه سوى غير الله بالله في أمرٍ خاصٍ بالله وهو شرك في الربوبيَّة أما الحكم الشرعي ، فإن أريد به التحليل والتحريم فهذا لاشك كفرٌ كما سبق ، وإن أريد مخالفة أمر الله مع الاعتراف بالخطأ فهذا لاشك أنه ليس كفراً كما هو الحال في باقي الذنوب ، وإلا كنا كالخوراج مكفرين بالذنوب فلأجل هذا – يا صاحبي – لا يصح لك الاستدلال بهذه الآية .
__________
(1) كتاب تيسير الكريم الرحمن .(1/29)
قال المكفِّر : الدليل السادس قوله تعالى { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } وجه الدلالة: أن هؤلاء الذين وضعوا أحكاماً وضعية نازعوا الله في أمر خاصٍ به سبحانه فيكون شركاً أكبر .
قال المفسِّق : القول في هذا الدليل هو القول نفسه في الدليل الذي قبله إذ الحكم هنا يشمل الكوني القدري والشرعي الديني قال ابن تيمية :" وقد يجمع الحكمين – أي الكوني والشرعي – مثل ما في قوله تعالى { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ } ا. هـ(1)
وقال الشاطبي :" ويمكن أن يكون من خفيِّ هذا الباب مذهب الخوارج في زعمهم أن لا تحكيم استدلالاً بقوله تعالى { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ } فإنه مبنيٌّ على أن اللفظ ورد بصيغة العموم فلا يلحقه تخصيصٌ فلذلك أعرضوا عن قوله تعالى { فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا } وقوله { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ... } وإلا فلو علموا تحقيقاً قاعدة العرب في أن العموم يُراد به الخصوص لم يسرعوا إلى الإنكار ولقالوا في أنفسهم : لعلَّ هذا العام مخصوصٌ فيتأولون ... ا. هـ(2).
قال المكفِّر: الدليل السابع قوله تعالى { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ }
وجه الدلالة : أن أهل الكتاب لما أطاعوا علماءهم وعبَّادهم وصفهم الله بأنهم اتخذوهم أرباباً من دون الله .
قال المفسِّق : أن طاعة هؤلاء لا تخرج عن حالتين:
الأولى : طاعتهم في معصية الله بدون تحليل ولا تحريم وهذا ليس كفراً قطعاً وإلا للزم منه تكفير أهل الذنوب والمعاصي لأنهم أطاعوا هواهم في معصية الله سبحانه وتعالى .
الثانية : طاعتهم في التحليل والتحريم وهذا لاشك أنه كفر مخرجٌ من الملة كما سبق ذكره في تحرير محل النزاع(3).
__________
(1) مجموع الفتاوى ( 2/413 ) .
(2) الاعتصام (1/303) .
(3) هذا ملخص ما قرره أبو العباس ابن تيمية ( 7/70 ) مجموع الفتاوى .(1/30)
قال المكفِّر : الدليل الثامن قوله تعالى { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ }
وجه الدلالة: أن هؤلاء تحاكموا لغير الله سبحانه وتعالى فخالفوا ما أمر الله جل وعلا به .
قال المفسِّق : لست أختلف معك ولو بقيد أنملة أن هؤلاء الحاكمين بغير ما أنزل الله آثمون وواقعون في ذنبٍ عظيمٍ وأنهم من أسباب هزيمة أمتنا وضعفها لكن ليس لي أن أحكم عليهم بكفرٍ إلا بدليلٍ ؛ لأن التكفير حقٌ لله سبحانه – كما هو متقرِّرٌ - وغاية ما في هذا الدليل أنه يجب عليهم الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس فيه الحكم بكفرهم مطلقاً عند ترك ذلك .
قال المكفِّر: لا تظن – يا أخي – أن البحث انتهى فلا زالت عندي أدلةٌ من السنة والإجماع والعقل.
الدليل التاسع: سبب نزول قوله تعالى { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ } قال الشعبي: كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة فقال اليهودي نتحاكم إلى محمد – صلى الله عليه وسلم – لأنه عرف أنه لا يأخذ الرشوة وقال المنافق نتحاكم إلى اليهود لعلَّمه أنهم يأخذون الرشوة ، فاتفقا أن يأتيا كاهناً في جهينة فيتحاكما إليه فنزلت الآية { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ... }(1).
قال المفسِّق : إن هذا الأثر لا يصح الاستدلال به لا من جهة الإسناد ولا المتن ولعلَّي أكتفي ببيان ضعف السند وهو واضحٌ فإن الشعبي تابعي فمن ثم يكون الأثر منقطعاً وهو من أنواع الضعيف .
__________
(1) أخرجه الطبري ( 5/97 ) .(1/31)
قال المكفِّر : هناك سبب نزول آخر وهو أن رجلين اختصما فقال أحدهما: نترافع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال الآخر إلى كعب بن الأشرف ثم ترافعا إلى عمر فذكر له أحدهما القصة فقال للذي لم يرض برسول الله صلى الله عليه وسلَّم أكذلك قال نعم فضربه بالسيف فقتله "
قال المفسِّق : إن هذا الأثر لا يصح أيضاً بل هو أشد ضعفاً من الذي قبله إذ هو من طريق الكلبي عن أبي صالح باذام عن ابن عباس به(1)فقد جمع هذا السند بين كذاب ومتروك وانقطاع .
قال المكفِّر : هناك سبب نزول(2)عن ابن عباس قال كان أبو بردة الأسلمي كاهناً يقضي بين اليهود فيما يتنافرون إليه فتنافر إليه أناسٌ من المسلمين فأنزل الله تعالى { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ } الآية .
قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح(3).
وقال الحافظ : إسناده جيد(4).
وقال الشيخ مقبل الوادعي(5): شيخ الطبراني ما وجدت ترجمته لكنه قد تابعه إبراهيم بن سعيد الجوهري عند الواحدي ا . هـ
فبهذا يتبين صحة إسناده فما قولك فيه ؟
قال المفسِّق : قد سلمت بصحة هذا الأثر لكن لم أسلِّم بدلالته على ما نحن فيه وذلك لما يلي:
1/ أن هؤلاء الذين أتوا أبا بردة منافقون كما يدل عليه سياق الآيات فمن ثم تكون الآية ذاكرة صفة من صفاتهم وليس تحاكمهم هو السَّبب في كونهم يزعمون بل هم يزعمون الإيمان من قبل التحاكم فعليه من شابه المنافقين في صفةٍ لم يكن منافقاً إلا بإثبات أن هذه الصفة مكفرةٌ بنص خارجيٍّ آخر فأين هو ؟
__________
(1) كما علقه الواحدي في أسباب النزول ص 107 – 108 ، والبغوي في معالم التنزيل (2/242 ) .
(2) رواه الطبراني في الكبير ( 124/5 ) والواحدي في أسباب النزول ص106- 107 .
(3) مجمع الزوائد ( 7/6 ) .
(4) الإصابة ( 7/18 ) .
(5) بعد أن أورده في الصحيح من أسباب النزول ص 69 .(1/32)
2/ أن هؤلاء النفر يريدون التحاكم إلى غير ما أنزل الله وإرادتهم هذه ليست مطلقةً بل إرادةٌ تنافي الكفر بالطاغوت الذي يعد الكفر به ركناً من أركان الإيمان ، ولا شك أن من لم يَرَ وجوب الكفر بالطاغوت فهو كافر – كما سبق- .
3/ أن استدلالك بهذا الأثر يلزم منه لازمٌ لا تقول به أنت وهو أن تكفِّر من لم يحكم بما أنزل الله ولو في مسالةٍ واحدةٍ .
قال المكفر : الدليل العاشر: ما رواه الخمسة وغيرهم عن البراء بن عازب ولفظه عند أبي داود والنسائي قال:" لقيت – وعند النسائي أصبت – عمي ومعه راية ، فقلت له أين تريد؟ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل نكح امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله " وعند الترمذي وابن ماجه ورواية للنسائي أنه " خاله " ، وأخرجه النسائي والطحاوي من حديث معاوية بن قرة عن أبيه وفيه " وأصفى ماله " ففي هذا الحديث ما يفيد صراحة بأن الرجل قتل كافراً لأنه أخذ ماله وهذا بمجرد عمل عمله، فكيف بمن يحكم بغير ما أنزل الله ، ويضع له محاكم ، ويلزم الناس بالرجوع إليها ؟ أو بمن يضع الربا ويحميه ؟ وهكذا...
قال المفسق : إن هذا الحديث من رواية معاوية بن قرة عن أبيه عن جده صحيح ، صححه الإمام يحيى بن معين(1)- وكفى به من إمام – لكن ثبوت الحديث لا يكفي لثبوت الدعوى بل لابد من ثبوت الدلالة –أيضاً- والدعوى التي ادعيتها – يا أخي – لا يدل عليها الحديث ألبته ، وذلك أن الحديث في حق من استحل محرماً ، فإن هذا الرجل المتزوج بامرأة أبيه قد استحل فرجها بعقد الزواج ، وفرق بين الزنى بامرأة الأب وتزوجها، فإن الزنى بها حرام وليس كفراً أما التزوج بها فهو كفر من جهة استحلال فرج محرم ؛ لأن الزواج معناه جعل فرجها حلالاً وهذا بخلاف الزنى.
__________
(1) زاد المعاد (5/15) واحتج بالحديث الإمام أحمد كما نقله ابن القيم في روضة المحبين (1/374) وصححه ابن القيم في الإعلام ( 2/346) .(1/33)
قال أبو جعفر الطحاوي: وهو أن ذلك المتزوج ، فعل ما فعل ذلك ، على الاستحلال، كما كانوا يفعلون في الجاهلية ، فصار بذلك مرتداً ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل به ما يفعل بالمرتد ا.هـ(1)
قال المكفِّر : الدليل الحادي عشر: هو إجماع العلماء على كفر من حكم بغير ما أنزل الله وجعله قانوناً
وقد حكى الإجماع الحافظ ابن كثير فقال: وفي ذلك كله مخالفةٌ لشرائع الله المنزلة على عباده الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه ؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين ا. هـ(2)
قال المفسِّق : إن معرفتنا بحال التتر وواقع الياسق معين على فهم هذا الإجماع المحكي وذلك أنهم وقعوا في التبديل الذي هو التحليل والتحريم
قال ابن تيمية : إنهم يجعلون دين الإسلام كدين اليهود والنصارى وأن هذه كلها طرق إلى الله بمنزلة المذاهب الأربعة عند المسلمين ثم منهم من يرجح دين اليهود أو دين النصارى ومنهم من يرجح دين المسلمين ا.هـ(3)
وقد بين ابن تيمية كيف أنهم يعظمون جنكز خان ويقرنونه بالرسول صلى الله عليه وسلم - ثم قال - :" ومعلوم بالاضطرار من دين الإسلام باتفاق جميع المسلمين أن من سوغ (أي جوز ) اتباع غير دين الإسلام فهو كافر وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض الكتاب ا.هـ
__________
(1) شرح معاني الآثار ( 3/149) وانظر الاختيارات الفقهية ص360 .
(2) كتاب البداية والنهاية ( 13/128 ) .
(3) مجموع الفتاوى ( 28/523) . وانظر ما يوضح حالهم لك أكثر (28 / 520- 527) .(1/34)
ومما يدل على أن الإجماع الذي حكاه ابن كثير راجعٌ إلى التحليل والتحريم ما قاله ابن كثير نفسه : ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر وعَدَلَ إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن مَلِكِهِمْ جنكيز خان الذي وضع لهم الياسق وهو عبارةٌ عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها وفيه كثير من الأحكام أخذه من مجرد نظره وهواه فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونه على الحكم فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير . ا .هـ(1)
وقال أحمد بن علي الفزاري القلقشندي : ثم الذي كان عليه جنكيز خان في التدين وجرى عليه أعقابه بعد ه الجري على منهاج ياسة التي قررها ، وهي قوانين ضمنها من عقله وقررها من ذهنه ، رتب فيها أحكاماً وحدد فيها حدوداً ربما وافق القليل منها الشريعة المحمدية وأكثره مخالف لذلك سماها الياسة الكبرى ... .ا.هـ(2).
فمن كلام ابن كثير وشيخه أبي العباس ابن تيمية وغيرهما يتضح أن الإجماع المحكيَّ فيمن وقع في التحليل والتحريم أي تجويز حكم غير حكم الله إذ جعلوا الياسق كدين الإسلام موصلاً إلى الله ومسألتنا المطروحة فيمن حكم بغير ما أنزل الله مع الاعتراف بالعصيان لا مع القول بأنه جائز لا محظور فيه أو بأنه طريق للرضوان .
__________
(1) التفسير ( 3/131) .
(2) الخطط (4/ 310 -311) ، وهذا القلقشندي من أعيان القرن الثامن . وتنبه –أيها القارئ – كيف أنه وصفه بأنه دين عندهم وما كان كذلك فهو خارج محل النزاع لأن مثل هذا كفر بالإجماع وهو التبديل .(1/35)
ثم تنبه – أيها القارئ – إلى قول ابن كثير : فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه ا.هـ هؤلاء جمعوا بين التحاكم إلى الياسق وتقديمه على شرع الله، فليس ذنبهم مجرد التحكيم الذي هو عمل بل قارنه الاعتقاد وهو التقديم .
قال المكفِّر : قد تذكرت دليلاً من كتاب الله وهو قوله تعالى { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } .
قال المفسِّق : إضافةُ الشيء إلى الجاهلية أو وصفه به لا يدل على الكفر فمن ثم لا يكون كفراً إلا بدليلٍ خارجي دالٍ على الكفر ويوضح ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلَّم لأبي ذر " إنك امرؤٌ فيك جاهلية " متفق عليه وقال في حديث أبي مالك الأشعري عند مسلم " أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن ... "
قال أبو عبيد القاسم بن سلام " ألا تسمع قوله { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } تأويله عند أهل التفسير أن من حكم بغير ما أنزل الله وهو على ملة الإسلام كان بذلك الحكم كأهل الجاهلية ، وإنما هو أن أهل الجاهلية كذلك كانوا يحكمون ا . هـ(1).
قال المكفِّر : سلَّمت لك بما ذكرتَ ولكن بحكم العقل هذا الرجل الذي ينحِّي الشرع ويحكم بأحكام الإفرنج ألا يكون كافراً لكونه وقع في كفر الإعراض وفعله هذا يدل على استحلاله؟ وإلا لماذا يترك أحكام رب الأرباب ؟
__________
(1) الإيمان ص 45 .(1/36)
قال المفسِّق : إنك تريد تكفير هذا المسلم لكونك تصف فعله بأنه كفرُ إعراض . وأرجو قبل وصفك فعله بأنه كفر إعراض أن تكون مستحضراً لضابط كفر الإعراض الذي هو الإعراض بالكلية عن أصل الدين أو ترك جنس العمل(1).
وعلى هذا من ترك الحكم بما أنزل الله لم يقع في كفر الإعراض لأنه لم يترك جنس العمل أما إلزامك لمن ترك الحكم بما أنزل الله بأنه مستحلٌ لذلك فهذا إلزامٌ غير صحيح وإن كان محتملاً ولا يدفع الدين اليقيني بالكفر المحتمل لأن من دخل الدين بيقين لم يخرج إلا بيقينٍ مثله فأين هو ؟ ثم هذا يفتح باباً في تكفير أهل المعاصي . فكل من يستعظم معصية يحكم على صاحبها بأنه كافر لأنه مستحل لهذه المعصية إذ فعل هذه المعصية عظيم لا تكون عند ه إلا من مستحل لها .
قال المكفر : ألا ترى أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كفروا العرب الذين امتنعوا عن الزكاة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلوهم مرتدين وذلك لكونهم جماعة امتنعوا عن شريعة من شرائع الدين ومثل هذا يقال في الجماعة التاركين للحكم بشريعة الله سبحانه .
__________
(1) راجع التسعينية لابن تيمية (2/ 674 ) ومدارج السالكين (1/366) ومنهاج أهل الحق لابن سحمان ص64-65 . وكون ترك جنس العمل كفراً قد حكى الإجماع عليه خمسة من علماء الدين ، والكتاب والسنة دالان على ذلك ، وهؤلاء الخمسة هم : الآجري في كتاب الشريعة (2/611) والحميدي والشافعي كما نقله ابن تيمية عنهما في الفتاوى (7/209) وأبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الإيمان ص18-19 وابن تيمية نفسه في مجموع الفتاوى (14/ 120) وانظر كتابي الإمام الألباني وموقفه على الإرجاء .
فائدة/ قد صرح بلفظة جنس العمل الإمام ابن تيمية(7/ 616)(1/37)
قال المفسق : قد اختلف العلماء في حكم هؤلاء هل هم كفار أم غير كفار على قولين هما روايتان عن أحمد –رحمه الله – ، وإن كنت أوافقك أنهم كفار ، وهذا ترجيح ابن تيمية لكن ليس كفرهم لأجل كونهم جماعة إذ القتال جماعة وقع من الخوارج ولم يكفروا باتفاق الصحابة، ووقع من خيار الأمة في الفتن ولم يكفروا والله يقول { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } فأثبت الإيمان مع وجود القتال جماعة . وليس الكفر أيضاً من أجل الترك المجرد لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكفر أبا جميل الذي لم يدفعها بخلاً وإنما الكفر لأجل عدم التزام هذا الحكم الذي سببه عدم الإقرار بوجوبه، إذ من الممتنع أن يقر أحد بوجوب حكم ثم يتركه ويصر على تركه حتى تحت التهديد بالقتل فمثل هذا لا يكون إلا من غير مقر بوجوبها – كما سيأتي من كلام ابن تيمية – فبهذا يكون القتل دليلاً على عدم إقراره بهذا الحكم لا أنه السبب في تكفيره فتأمل .
وتنبه أن هذا مطرد في كل حكم شرعي . قال ابن تيمية : ولا يتصور في العادة أن رجلاً يكون مؤمناً بقلبه ، مقراً بأن الله أوجب عليه الصلاة، ملتزماً لشريعة النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به ، يأمره ولي الأمر بالصلاة فيمتنع ، حتى يقتل، ويكون مع ذلك مؤمناً في الباطن قط لا يكون إلا كافراً، ولو قال أنا مقر بوجوبها غير أني لا أفعلها كان هذا القول مع هذه الحال كذباً منه ا.هـ(1)
__________
(1) مجموع الفتاوى (7/ 615) .(1/38)
وقال – رحمه الله - : فإن كان مقراً بالصلاة في الباطن، معتقداً لوجوبها يمتنع أن يصر على تركها حتى يقتل ولا يصلي، هذا لا يعرف من بني آدم وعادتهم ولهذا لم يقع هذا قط في الإسلام ، ولا يعرف أن أحداً يعتقد وجوبها ويقال له : إن لم تصل وإلا قتلناك وهو يصر على تركها مع إقراره بالوجوب ، فهذا لم يقع قط في الإسلام . ومتى امتنع الرجل من الصلاة حتى يقتل: إن لم يكن في الباطن مقراً بوجوبها ، ولا ملتزماً بفعلها، فهذا كافر باتفاق المسلمين ا.هـ(1).
فإذا تبين أن تهديد المصر على ترك الطاعة بالقتل وإصراره بعد ذلك على عدم فعل الطاعة دليل على عدم إقراره ، فيقال: لو أن أحداً قوتل على فعل طاعة ولم يفعلها لا لأجل ذات الطاعة وإنما من أجل خوفه ممن هو أقوى منه فهذا لا يكفر لأن القتال هنا ليس دليلاً على عدم إقراره بوجوبها إذ هو مقر لكنه خائف من غيره الذي هو أقوى منه وهذا مغاير لمن ترك لذات الطاعة نفسها وليس هناك سبب آخر إذ هذا الصنف كافر لأنه دليل على عدم إقراره بوجوبها . ومثل هذا يقال فيمن ترك الحكم بما أنزل الله وقوتل على ذلك فهم صنفان:
الأول/ تارك لذات الحكم وهو مصر على الترك مع مقاتلته على الحكم بما أنزل الله فهذا كافر –ولا كرامة – لأنه دليل على عدم إقراره بوجوبها .
الثاني / تارك الحكم بما أنزل الله خوفاً من غيره إذ هو وإن كان حاكماً إلا أنه محكوم من جهة من هو أقوى منه فمثل هذا لا يدل قتاله على أنه غير مقر بالوجوب . والله أعلم.
__________
(1) مجموع الفتاوى (22/ 48) .وانظر كتاب الصلاة لابن القيم ص63 .(1/39)
قال المكفر : لكن –يا أخي – قد سمعت غير واحد ، بل وقرأت لبعضهم كسفر الحوالي في كتابه ظاهرة الإرجاء(1)،
__________
(1) 2/ 695-696) . ونص كلامه : جاء المرجئة المعاصرون فقالوا: إن من كان لا يحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يقيم من شريعة الله إلا جزءاً قد يقل أو يكثر ، لا يقيمه لأنه من أمر الله وامتثالاً له وإيماناً بدينه – ثم قال – وما لم نطلع على ذلك فكل أعماله هي على سبيل المعصية – ثم قال – كل ذلك معاص لا تخرجه من الإسلام ما لم نطلع على ما في قلبه فنعلم أنه يفضل شرعاً وحكماً غير شرع الله وحكمه على شرع الله وحكمه ، أو يصرح بلسانه أنه يقصد الكفر ويعتقده ، وأنه مستحل للحكم بغير ما أنزل الله !! فمرجئة عصرنا أكثر غلواً من جهة أنهم لم يحكموا له بشيء من أحكام الكفر لا ظاهراً ولا باطناً ... ا.هـ فلاحظ جعلهم أشد غلواً من المرجئة الأوائل فابن باز والألباني – رحمهما الله – أشد غلواً من المرجئة الأوائل ، وإن في هذا الكتاب عدة شنائع عقدية أذكر بعضها تنبيهاً على غيرها :
أ/ أجمع أهل السنة السلفيون على أن الإيمان يزول بزوال عمل القلب ولو بقي تصديق القلب ، ولم يخالف في ذلك إلا جهم بن صفوان ، ومن شذ من أهل البدع ، قال ابن تيمية (7/550): فليس مجرد التصديق بالباطن هو الإيمان عند عامة المسلمين إلا من شذ من اتباع جهم والصالحي ، وفي قولهم من السفسطة العقلية والمخالفة في الأحكام الدينية أعظم مما في قول ابن كرام إلا من شذ من أتباع ابن كرام ، وكذلك تصديق القلب الذي ليس معه حب لله ولا تعظيم، بل فيه بغض وعداوة لله ورسله ليس إيماناً باتفاق المسلمين ا.هـ قال ابن القيم في كتاب الصلاة ص 54: فأهل السنة مجمعون على زوال الإيمان ، وأنه لا ينفع التصديق ، مع انتفاء عمل القلب ومحبته وانقياده ا.هـ ، ومع كون هذا مجمعاً عليه عند أهل السنة السلفيين إلا أن سفراً الحوالي خالف فيه وقال (2/527): فمن ارتكب هذه الفاحشة بجوارحه فإن عمل قلبه مفقود بلا شك ، خاصة حين الفعل ؛ لأن الإرادة الجازمة على الترك يستحيل معها وقوع الفعل ، فمن هنا نفى الشارع عنه الإيمان تلك اللحظة " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " ، لكن وجود قول القلب عنده منع من الحكم بخروجه من الإيمان كله ا.هـ فيرى أن الزاني ليس عنده شيء من أعمال القلوب ، ومع ذلك لا يزال مسلماً ، فهو بهذا يوافق الجهم بن صفوان والصالحي ونحوهما من غلاة المرجئة . فسبحان الله المنتقم لأوليائه كابن باز والألباني ، فأظهر الإرجاء الغالي فيمن رماهم زوراً بالإرجاء!!
ب/ جعل الإصرار على عدم الفعل(أي على الترك) جحوداً للالتزام (2/632) : ولما احتيج للاستدلال على كفرهم إلى قياس ولا غيره ، إنما جحدوا الالتزام بها ، أي أصروا على ألا يدفعوها، مع الإقرار بأنها من الدين ا.هـ وهذه لوثة خارجية لأنه كفر بكبيرة الإصرار على عدم الفعل ، وجعله جحوداً وردة ، وتقدم رد هذا وبيان معنى الالتزام فليراجع . وإن بهذا الكتاب عدة أخطاء وشنائع بين جملة منها الإمام الألباني كما في كتاب " الدرر المتلألئة بنقض الإمام العلامة محمد بن ناصر الدين الألباني فرية موافقة المرجئة " .(1/40)
يقول بأن من قال بأن الحكم بغير ما أنزل الله كفر أصغر لا أكبر إلا إذا استحل فهو مرجئ .
قال المفسق : إن التنابز بالألقاب ووصف الآخرين بأوصاف أهل البدع سهل يستطيعه كل أحد وإنما الأمر العسر وهو الذي عليه المعول إبانة البرهان على هذه الدعاوى إذ كيف يقال ذلك وقد فسر الآية بالكفر الأصغر ابن عباس وأصحابه والأئمة كأحمد وغيره ؟
ثم مما يزيدك يقيناً على وهاء هذا الوصف الخاطئ أن أكبر إمامين من أئمة أهل السنة في هذا العصر على هذا القول كما تقدم نقله عنهما(1)
قال المكفِّر: – سابقاً والمفسِّق حاضراً – جزاك الله خيراً فقد اتضح لي الحق وأنا راجع عن قولي السابق ، فقد قال الله تعالى { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ }
وبعد هذه المناظرة التي أردت منها بيان حكم المسألة بالدليل الصحيح ثبوتاً ودلالةً أسأل الله أن يقرَّ أعيننا برجوع حكام المسلمين إلى الشرع المطهَّر المحكم فإن به عزهم دنيا وأخرى قال تعالى { وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً } .
الشبهة الثانية
التكفير بالتحاكم إلى هيئة الأمم
الرد على هذه الشبهة من أوجه:
__________
(1) وقبيل إرسال الكتاب إلى الدار لطباعته –بعد المراجعة النهائية- طالعت لمعالي الشيخ العلامة محمد بن حسن آل الشيخ-وفقه الله-(أحد أعضاء لجنة الإفتاء في السعودية وأحد كبار العلماء فيها) مقدمة على كتاب (الحكم بغير ما أنزل الله)لأخينا الشيخ بندر بن نايف العتيبي-وفقه الله- وقد ونصرالمؤلف في الكتاب ما قرره الإمامان ابن باز والألباني-رحمهما الله- وكان مما كتب في المقدمة :وقد أجاد فيه وأفاد وبين موقف أهل السنة والجماعة ممن حكم بغير ما أنزل الله مدعماً ما ذكره بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة وأقوال وقتاوى الأئمة المعتبريين من علماء هذه الأمة.....ا.هـ(1/41)
أ/ تصور حال هيئة الأمم المتحدة، فإن الحكم على الشيء فرع عن تصوره: فهي هيئة ذات أنظمة وقرارات وعهود ومواثيق انضمت إليها أكثر دول العالم، ومنها الدولة السعودية – حرسها الله ورعاها -، وقد نشأت إبان الحرب العالمية الثانية، والهدف الرئيس من إنشائها تقريب وجهات النظر بين الأمم، وتضييق الثغرات التي قد تنشأ بين الدول، والتي من شأنها إن استمرت أن تشكل خطراً على السلم والأمن الدوليين إلى جانب تحقيق السلام، ومنع اللجوء إلى استخدام القوة كحل للمشكلات العالمية.
وقد جاء نص مقاصد هيئة الأمم المتحدة في الميثاق، وذلك على النحو الآتي:
حفظ السلم والأمن الدولي: ورد هذا الهدف في أجزاء متفرقة من الميثاق. فقد بدأت الفقرة الأولى من الديباجة " نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا : أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحروب التي في خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزاناً يعجز عنها الوصف " وذكرت الديباجة " وأن نضم قوانا كي نحافظ على السلم والأمن الدوليين "
وفي الميثاق نصت الفقرة الأولى من المادة الأولى على هذا الهدف، إذ نصت على الآتي " حفظ السلم والأمن الدوليين، وتحقيقاً لهذه الغاية تتخذ الهيئة التدابير المشتركة الفعالة لمنع الأسباب التي تهدد السلم والعمل على إزالتها، وتقمع أعمال العدوان وغيرها من وجوه الإخلال بالسلم، وتتذرع بالوسائل السلمية وفقاً لمبادئ العدل والقانون الدولي لحل المنازعات الدولية التي قد تؤدي إلى الإخلال بالسلم وتسويتها ا.هـ(1)
__________
(1) كتاب هيئة الأمم المتحدة منذ النشأة حتى اليوم ص43-44، تأليف طلال محمد نور عطار.(1/42)
وقد نص الملك فيصل – رحمه الله – في كلمته التي ألقاها في هيئة الأمم المتحدة على هذا الهدف فكان مما قال: اليوم يتجه مؤتمرنا التاريخي هذا الذي اشتركت فيه دول عديدة نحو تأسيس ودعم السلام العالمي. لقد شهد هذا اليوم إكمال ما يمكن أن يسمى بميثاق العدل والسلام بعد عمل شاق ومناقشات طويلة ومداولات. الهدف هو خلق منظمة ذات فعالية قصوى للمحافظة على السلام والعدل في عالم المستقبل. هذا الميثاق لا يمثل الكمال الذي تتوق إليه الدول الصغرى، لكنه بلا شك أفضل ما يمكن أن تتفق عليه خمسون دولة ا.هـ(1)
__________
(1) مجلة الفيصل العدد (106) ربيع الآخر 1406هـ السنة التاسعة وكان مما قال: إن الحكومة العربية السعودية تنضم إلى الأمم المتحدة في تصريحها القائل بأن مبادئ السلم والعدالة والحق يجب أن تسود أنحاء العالم، وأن العلاقات الدولية يجب أن تقوم على هذه المبادئ وإن من دواعي اغتباطي العظيم، أن أقول: إن هذه المبادئ تطابق تعاليم الدين الإسلامي الذي يعتنقه 400 مليون مسلم في العالم، وهي التعاليم التي اتخذت الحكومة السعودية منها دستوراً تسير على هديه ا.هـ ( كتاب المملكة العربية السعودية والسعودية والمنظمات الدولية ص42-43 ) وقال الملك فهد – وفقه الله لهداه - : ونحن – أيها الأخوة المواطنون – نعمل في المحيط الدولي الشامل داخل دائرة هيئة الأمم المتحدة وفروعها ومنظماتها نلتزم بميثاقها وندعم جهودها ونحارب أي تصرف شاذ يسعى لإضعافها وتقليص قوة القانون الدولي لتحل محله قوة السلاح ولغة الإرهاب ا.هـ وأضاف خادم الحرمين الشريفين: ولقد كانت تصرفاتنا وستبقى تعكس إحساسنا بالانتماء إلى المجموعة الدولية كأسرة واحدة مهما اختلفت مصالحها، وتصور إيماننا بمبادئ السلام المبني على الحق والعدل، ونعتقد أن الأمن الدولي، والاستقرار السياسي مرتبطان بالعدالة الاقتصادية ومنبعثان منها ا.هـ المملكة العربية السعودية والمنظمات الدولية ص48.(1/43)
وقد نص على هذا – أيضاً – صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز – وفقه الله لهداه - في كلمة ألقاها في الجمعية العامة للأمم المتحدة بمناسبة مرور أربعين عاماً على تأسيس الأمم المتحدة فقال: فإن المملكة العربية السعودية وهي تدين بالدين الإسلامي تضطلع بدور دولي متميز لأن سياستها الخارجية تسير على أساس أن المبادئ الأساسية التي ارتكزت عليها هذه المنظمة والأهداف النبيلة التي من أجلها وضع ميثاقها فيها تأكيد لما تقرره الشريعة الإسلامية من تنظيم للعلاقات بين الدول. – ثم قال – إذا كان الهدف الرئيسي للأمم المتحدة والذي قامت فلسفة الميثاق على أساس تحقيقه هو إقرار السلام والأمن الدوليين ا.هـ(1).
وبما أن الغلبة في هذه الهيئة للكفار فإن بها أنظمة لا توافق الشرع ؛ فلذا عارضت السعودية بعض الأنظمة، ولم توافق على كل ما فيها.
وإليك جملة من العهود والمواثيق التي لم تقبلها الدولة السعودية – حرسها الله – :
1- لم توافق المملكة العربية السعودية على الاتفاقية التي تنص على القضاء على جميع أشكال التميز ضد المرأة. قال طلال محمد نور عطا: تحفظت المملكة العربية السعودية على هذه الاتفاقية، ولا تلزم نفسها بما يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية ا.هـ(2)
__________
(1) المرجع السابق.
(2) حاشية كتابه المملكة العربية السعودية والمنظمات الدولية ص181.(1/44)
2- لم توافق المملكة العربية السعودية على المادة السادسة عشرة في حقوق الإنسان القائلة " للرجل والمرأة متى بلغا سن الزواج الحق بالتزوج بدون قيد بسبب الدين " فقالت دولة التوحيد في مذكرة أرسلتها إلى الأمم المتحدة : إن زواج المسلم من امرأة وثنية وغير مؤمنة بوجود الله أمر حرمه الإسلام، وأيضاً زواج المسلم من كتابية يهودية أم مسيحية أباحه الإسلام، أما زواج غير المسلم بمسلمة فغير مباح.(1)
3- لم توافق دولة التوحيد على المادة العاشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي أعطت كل شخص حرية تغيير دينه.(2)
4- أن المملكة العربية السعودية لم تنظم إلى المعاهدتين الدوليتين: الأولى الخاصة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. والثانية المتعلقة بالحقوق السياسية والمدنية، بسبب احتواء كل من هاتين المعاهدتين على مواد لا تساير تعاليم الشريعة الإسلامية السمحة.(3)
__________
(1) مذكرة الحكومة السعودية إلى منظمة الأمم المتحدة حول تطبيق حقوق الإنسان في المملكة عملاً بالشريعة الإسلامية. نشر في العدد الأول من المجلة العربية ص182، وانظر كتاب موقف المملكة العربية السعودية من القضايا العالمية في هيئة الأمم المتحدة ص98.
(2) المرجع السابق.
(3) موقف المملكة العربية السعودية من القضايا العالمية في هيئة الأمم المتحدة ص98.(1/45)
فإذا كانت هذه حال الدولة السعودية مع هيئة الأمم المتحدة، من أنها لا تقبل الأنظمة التي تخالف الشريعة الإسلامية باعتراف قادات هذه الدولة – وفقهم الله لما فيه هداه -، وبتطبيقهم لها عملياً، وذلك بأن يتحفظوا على الأنظمة والقرارات المخالفة للشريعة الإسلامية، إذا كان هكذا حال الدولة مع هيئة الأمم المتحدة فلماذا – يا منصفون - يُشنع عليها وتُكفر ؟! أليس من حقها أن تشكر بدل أن تكفر، من أجل امتناعها عن القرارات المخالفة للشريعة ؟ أليس من حقها أن تؤازر وتساند على اعتزازها وحدها من بين جميع الدول الإسلامية بشريعة الإسلام وتحفظها على كل ما يخالفه؟
ب/ أن المصلحة تقتضي انضمام الدولة السعودية لهذه الهيئة حماية لنفسها من أعدائها الكفار،
بل وبعض الدول الإسلامية المخالفة للمعتقد السلفي، فإنهم يتربصون بدولة التوحيد الدوائر لدوافع متعددة معلومة، ومن أوضح البراهين حرب الخليج الأولى، فدولة تهجم وأخرى عن أنيابها تكشر .
ومن المتقرر شرعاً أن للضعف أحكاماً مغايرة لحالة القوة، وبنود صلح الحديبية خير شاهد ودليل على هذا.(1/46)
وقد ذكر الشيخ المؤرخ إبراهيم بن عبيد آل عبدالمحسن في كتابه التاريخي" تذكرة أولي النهى والعرفان بأيام الله الواحد الديان " كتب معاهدات مع بريطانيا ظاهرها الرضا بالضيم فقال: سادساً : يتعهد ابن سعود كما تعهد آباؤه من قبل أن يتحاشى الاعتداء على أقطار الكويت والبحرين ومشائخ قطر وسواحل عمان التي هي تحت حماية الحكومة البريطانية، ولها صلات عهدية مع الحكومة المذكورة، وأن لا يتدخل في شؤونها وتخوم الأقطار الخاصة بهؤلاء ستعين فيما بعد. وجرى توقيعها في 18 صفر من هذه السنة الموافق 26 ديسمبر 1915، ولا ريب أن هذه الاتفاقية جائرة... وقد انتقدها الكتاب فقال عنها الضليع فؤاد حمزة لما أشرف عليها إنّها معاهدة جائرة. وقال عنها الماهر الذكي حافظ وهبة المشهور بحرية الفكر ورجاحة العقل واستقلال الرأي ما نصه: تجلى قصر نظر مستشاري ابن سعود بما يجري في العالم والاستفادة من الفرص ولكن يقال عنها إنّ الظروف والأحوال ذلك الوقت دعت إلى توقيعها. ولما خلى ابن سعود وصحبه الذين فيهم الشرف والدين والقوة غير أنهم لا يعرفون لغة السياسة وأساليب الاستعمار ولا يصدقون بالظفر لغير الصارم البتار واستشارهم كعادته أجابوه بأننا في حال ضعف وخصمنا قوي جبار، فنراها تنفعنا بإذن الله في الحال ولا تضرنا إذا كنا في حالة منعة وقوة، ويمكن تعديلها فيما بعد، فالعبرة بالقوة في كل وقت وحال، فقم وتوكل على الله ووقعها، كما أنه أدرك بأنه لا يبيع ولا يتخلى ولا يرهن من نيته حسن الجوار، وتسهيل طرق الحجاج. فما أحسن نتائج هذه الآراء والأفكار، ولنا أسوة في صلح الحديبية، أضف إلى ذلك أنها ألغيت بعد سبع سنوات وعدلت فيما بعد ذلك لما فتح الله له الحجاز واعترفت له بريطانيا بالاستقلال التام يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. ا.هـ(1)
__________
(1) 2/198).(1/47)
ج/ أنه لو قدر جدلاً أن الانضمام إلى هيئة الأمم المتحدة من الحكم بغير ما أنزل الله لما كفرت الدولة السعودية بفعلها ؛ لأنه تقدم بيان أن الحكم بغير ما أنزل الله على شناعته وكونه سبباً للضعف وتسلط الأعداء، إلا أنه لا يخرج من الملة، وبهذا كان يفتي شيخنا عبدالعزيز بن باز والشيخ الألباني – رحمهما الله – كما تقدم.
تنبيه/ لو كان الانضمام إلى هيئة الأمم المتحدة من الحكم بغير ما أنزل الله لرأيت علماءنا كالشيخ محمد بن إبراهيم والشيخ سعد ابن عتيق والشيخ عبدالعزيز ابن باز والشيخ محمد العثيمين – رحمهم الله – أنكروه وبينوا حرمته، بل نص على جوازه بعضهم فقد سئل الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين: بعض الناس يقول إن الانضمام إلى الأمم المتحدة تحاكم أيضاً إلى غير الله سبحانه وتعالى، فهل هذا صحيح ؟
فأجاب: هذا ليس بصحيح، فكل يحكم في بلده بما يقتضيه النظام عنده، فأهل الإسلام يحتكمون إلى الكتاب والسنة، وغيرهم إلى قوانينهم، ولا تجبر الأمم المتحدة أحداً أن يحكم بغير ما يحكم به في بلاده، وليس الانضمام إليها إلا من باب المعاهدات التي تقع بين المسلمين والكفار ا.هـ(1)، بل واستمر هؤلاء العلماء الأجلاء يرددون أن الدولة السعودية – حرسها الله – تحكم بما أنزل الله، وزكوها بهذا .
الشبهة الثالثة
إن هؤلاء الحكام قد كفروا لإعانتهم الكفار على المسلمين في عدة وقائع
والجواب على هذا من أوجه:
1/ أن التكفير ليس أمراً هيناً، ولا تقبل فيه الإشاعات التي لا زمام لها ولا خطام لاسيما وولاة الأمر خاصة في هذا البلد ينفون عن أنفسهم إعانة الكفار على المسلمين، بل وصرحت بذلك بعض الصحف الغربية الكافرة، والحق ما شهدت به الأعداء.
__________
(1) مجلة الدعوة – العدد 1608 – 10 جمادى الأولى 1418هـ - 11 سبتمبر 1997م.(1/48)
2/ أنه لو قدر حصوله فلا يتعجل في التكفير به ؛ لأن للإكراه مساغاً لا سيما والغلبة للدول الكافرة، فالإكراه يكون مانعاً من التكفير كما قال تعالى { إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ } فإن قلت: إن الإكراه لا يقبل بالإجماع في إزهاق أنفس الآخرين لاستبقاء نفسه ؟ فيقال: هذا صحيح، لكن غاية ما في هذا الإجماع إثبات أن الإكراه لإبقاء النفس مقابل إزهاق أنفس الآخرين غير معتبر، وأن صاحبه آثم، لكن ليس معنى هذا أنه لا يكون عذراً في منع الحاق الكفر به، ففرق بين التأثيم والتكفير، فالإكراه – في هذا – ليس مانعاً من التأثيم لكنه مانع من التكفير.
3/ إن التكفير بمطلق الإعانة لا يسلم به لأنه مسألة نزاعية – كما سبق بيانه -.
4/ إن أصح أقوال أهل العلم – فيما يظهر – أن التكفير بالإعانة ليس كفراً لذات الإعانة، وإليك تأصيل المسألة وبحثها :
إن التعامل مع الكفار ليس كفراً مطلقاً بل على درجات ثلاث :
الدرجة الأولى : معاملة كفرية وهي توليهم : قال تعالى { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } قال ابن حزم: صح أن قوله تعالى { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } إنما هو على ظاهره بأنه كافر من جملة الكفار، وهذا حق لا يختلف فيه اثنان من المسلمين ا.هـ(1)
وضابط الولاء الكفري ( التولي ) : محبة الكفار لأجل دينهم أو نصرتهم لأجله والرضا به، فإن وجدت نصرة بدون هذا الدافع وإنما لحظ دنيوي فهو محرم وليس كفراً.
__________
(1) المحلى (11/138)(1/49)
والدليل على هذا الضابط ما رواه الستة إلا ابن ماجه من حديث على بن أبي طالبٍ رضي الله عنه في قصة حاطب بن أبي بلتعة إذ أرسل الرسالة إلى قريش يخبرهم بقدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يا حاطب ما هذا " قال لا تعجل عليِّ إني كنت امرأً ملصقاً في قريش ولم أكن من أنفسهم وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم بمكة فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن اتخذ فيهم يداً يحمون بها قرابتي وما فعلت ذلك كفراً ولا ارتداداً عن دينٍ ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إنه صدقكم " فكلام حاطب مع إقرار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صريح في أن مجرَّد فعل حاطب ليس كفراً لذا قال لم أفعله كفراً ولا ردةً عن الدين ولو كان مجرد فعل حاطب كفراً لما احتاج إلى قوله لم أفعله كفراً لأن مجرد الفعل كفرٌ كما أنه لا يصح لمستهزئ بالله أن يقول لم أقله كفراً لأن مجرد الاستهزاء كفرٌ.(1/50)
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن : فدخل حاطب في المخاطبة باسم الإيمان ووصفه به، وتناوله النهي بعمومه وله خصوص السبب الدال على إرادته مع أن في الآية الكريمة ما يشعر أن فعل حاطب نوع موالاة وأنه أبلغ إليهم بالمودة، فإن فاعل ذلك قد ضل سواء السبيل لكن قوله " صدقكم خلوا سبيله " ظاهر في أنه لا يكفر بذلك إذا كان مؤمناً بالله ورسوله غير شاك ولا مرتاب، وإنما فعل ذلك لغرض دنيوي ولو كفر لما قيل " خلوا سبيله " لا يقال قوله صلى الله عليه وسلم لعمر " وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " هو المانع من تكفيره لأنا نقول لو كفر لما بقي من حسناته ما يمنعه من لحاق الكفر وأحكامه، فإن الكفر يهدم ما قبله لقوله تعالى { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } وقوله تعالى { وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } والكفر محبط للحسنات والإيمان بالإجماع فلا يظن هذا، وأما قوله { ) وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } وقوله { لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... } وقوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } فقد فسَّرته السنَّة وقيَّدته وخصته بالموالاة المطلقة العامة، وأصل الموالاة هو الحبُّ والنُّصرة والصداقة ودون ذلك مراتب متعددةٌ ولكل ذنبٍ حظه وقسطه من الوعيد والذم، وهذا عند السلف الراسخين في العلم من الصحابة والتابعين معروفٌ في هذا الباب وغيره ... ا.هـ(1).
__________
(1) الرسائل والمسائل النجدية (3/9-10). وانظر الدرر السنية ( 1/474 ).(1/51)
ثم في كلام حاطب بن أبي بلتعة إبانةٌ للضابط الكفري إذ قال " ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام ".
فإن قيل: حكى بعض العلماء الإجماع على أن مطلق الإعانة كفر .
فيقال: هذا الإجماع المحكي ما بين حالتين :
الأولى / أن يكون خارج محل النزاع مثل قول ابن حزم - في المحلى - : صح أن قوله تعالى { ) وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } إنما هو على ظاهره بأنه كافر من جملة الكفار، وهذا حق لا يختلف فيه اثنان من المسلمين ا.هـ، وذلك أننا لا نختلف في كفر المتولي لكن ما التولي ؟ ومن المتولي ؟ هذا محل البحث وفيه التنازع، وكلام ابن حزم لا يفيد شيئاً في بيان معنى التولي، وإنما أفاد كفر فاعله، وهذا واضح لا إشكال فيه ولا نزاع، ثم على افتراض أن ابن حزم حكى إجماعاً فإنه يقال فيه ما يقال في الحالة الثانية الآتية.
الثانية / أن الذين حكوا إجماعاً جعلوا المظاهرة الكفرية كل إعانة للكفار حتى القولية، وهذا الإجماع مخروم بيقين ولا يعول عليه منصفٌ عالم بخرمه .
وبرهان خرم الإجماع المحكي ما يلي:
1) أن الإمام الشافعي – رحمه الله – صرح بأن حاطباً لم يكفر مع أن فعله إعانة قوية للكفار أمام جيش الإسلام الذي يتقدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم
قيل للشافعي: أرأيت المسلم يكتب إلى المشركين من أهل الحرب بأن المسلمين يريدون غزوهم أو بالعورة من عوراتهم هل يحل ذلك دمه ويكون في ذلك دلالة على ممالأة المشركين؟(1/52)
قال الشافعي - رحمه الله تعالى- : لا يحل دم من ثبتت له حرمة الإسلام إلا أن يقتل أو يزني بعد إحصان أو يكفر كفراً بيناً بعد إيمان ثم يثبت على الكفر وليس الدلالة على عورة مسلم ولا تأييد كافر بأن يحذر أن المسلمين يريدون منه غرة ليحذرها أو يتقدم في نكاية المسلمين بكفر بين، فقلت للشافعي : أقلت هذا خبراً أم قياساً ؟ قال : قلته بما لا يسع مسلماً علمه عندي أن يخالفه بالسنة المنصوصة بعد الاستدلال بالكتاب فقيل للشافعي فاذكر السنة فيه – ثم ساق خبر حاطب ثم قال –
قال الشافعي رحمه الله تعالى : في هذا الحديث مع ما وصفنا لك طرح الحكم باستعمال الظنون لأنه لما كان الكتاب يحتمل أن يكون ما قال حاطب كما قال من أنه لم يفعله شاكاً في الإسلام، وأنه فعله ليمنع أهله، ويحتمل أن يكون زلة لا رغبة عن الإسلام، واحتمل المعنى الأقبح، كان القول قوله فيما احتمل فعله، وحكم رسول الله فيه بأن لم يقتله ولم يستعمل عليه الأغلب ولا أحد أتى في مثل هذا أعظم في الظاهر من هذا لأن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مباين في عظمته لجميع الآدميين بعده فإذا كان من خابر المشركين بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غرتهم فصدقه ما عاب عليه الأغلب مما يقع في النفوس فيكون لذلك مقبولاً كان من بعده في أقل من حاله وأولى أن يقبل منه مثل ما قبل منه.(1/53)
قيل للشافعي : أفرأيت إن قال قائل إن رسول الله صلى الله عليه قال قد صدق إنما تركه لمعرفته بصدقه لا بأن فعله كان يحتمل الصدق وغيره فيقال له قد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المنافقين كاذبون وحقن دماءهم بالظاهر فلو كان حكم النبي صلى الله عليه وسلم في حاطب بالعلم بصدقه كان حكمه على المنافقين القتل بالعلم بكذبهم ولكنه إنما حكم في كل بالظاهر وتولى الله عز وجل منهم السرائر ولئلا يكون لحاكم بعده أن يدع حكماً له مثل ما وصفت من علل أهل الجاهلية وكل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو عام حتى يأتي عنه دلالة على أنه أراد به خاصاً أو عن جماعة المسلمين الذين لا يمكن فيهم أن يجهلوا له سنة أو يكون ذلك موجوداً في كتاب الله عز وجل ا.هـ(1)فكيف يقال بعد ذلك : بأن أي إعانة تولي وهي كفر بالإجماع؟
وهذا الشافعي ينقض الإجماع – رحمه الله – بصراحة ووضوح.
2) أن الإمام القرطبي صرح بوضوح أن من كثر إطلاعه الكفار على عورات المسلمين لا يكفر إذا كان اعتقاده سليماً ودافعه أمراً دنيوياً مع أن هذه إعانة قوية للكفار قال – رحمه الله– : من كثر تطلعه على عورات المسلمين وينبه عليهم ويعرف عدوهم بأخبارهم لم يكن بذلك كافراً: إذا كان فعله لغرض دنيوي واعتقاده على ذلك سليم ؛ كما فعل حاطب حين قصد بذلك اتخاذ اليد ولم ينو الردة عن الدين ا.هـ(2)
أفليس هذا صريحاً في خرم الإجماع الذي ينص على أن أدنى إعانة قولية أو فعلية تولٍ كفري؟ .
3) قال ابن الجوزي : قوله تعالى { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } فيه قولان : أحدهما : من يتولهم في الدين، فإنه منهم في الكفر. والثاني : من يتولهم في العهد فإنه منهم في مخالفة العهد ا.هـ(3)
__________
(1) كتاب الأم (4/249-250).
(2) التفسير (18/52).
(3) زاد المسير (2/378 ).(1/54)
فلاحظ – أيها القارئ الكريم – أن ابن الجوزي بقوله هذا لم يخرم الإجماع المزعوم فحسب بل لم يحك القول الذي يدعي عليه الإجماع وهو : أن التولي الكفري يكون بأدنى الإعانة ولو قولية – لم يحكه ابن الجوزي من الأقوال في المسألة، مع محاولة ابن الجوزي – المعروف بسعة الاطلاع – استقصاء أقوال المفسرين في تفسيره : (زاد المسير)، كما كتب لابنه ناصحاً ومبيناً له عظم تفسيره : وما ترك المغني، وزاد المسير حاجة إلى شيء من التفاسير ا.هـ(1).
4) قال أبو الفضل محمود الألوسي: وقيل : المراد { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } كافر مثلهم حقيقة، وحكي عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – ولعل ذلك إذا كان توليهم من حيث كونهم يهوداً أو نصارى.. ا.هـ(2)
5) أن أئمة المذاهب الأربعة أبا حنيفة ومالكاً والشافعي وأحمد – رحمهم الله – لا يرون كفر الجاسوس الذي يفشي سر المسلمين إلى الكفار، وهذا ما اختاره ابن تيمية – وسيأتي نقل مهم عنه في آخر البحث يتعلق بآية التولي – وابن القيم
__________
(1) رسالة لفتة الكبد ص66.
(2) روح المعاني (3/157).(1/55)
قال ابن القيم – رحمه الله – : ثبت أن حاطب بن أبي بلتعة لما جس عليه، سأله عمر رضي الله عنه ضرب عنقه فلم يمكنه وقال :" ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " وقد تقدم حكم المسألة مستوفى. واختلف الفقهاء في ذلك، فقال سحنون : إذا كاتب المسلم أهل الحرب قتل ولم يستتب وماله لورثته وقال غيره من أصحاب مالك رحمه الله : يجلد جلداً وجيعاً ويطال حبسه وينفى من موضع يقرب من الكفار. وقال ابن القاسم : يقتل ولا يعرف لهذا توبة وهو كالزنديق. وقال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد رحمهم الله : لا يقتل، والفريقان احتجوا بقصة حاطب وقد تقدم ذكر وجه احتجاجهم ووافق ابن عقيل من أصحاب أحمد مالكاً وأصحابه ا.هـ(1)
6) الشيخ المحقق عبد الرحمن السعدي، في تفسيره سورة المائدة آية { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } حيث قال : لأن التولي التام يوجب الانتقال إلى دينهم، والتولي القليل يدعو إلى الكثير ثم يتدرج شيئاً فشيئاً حتى يكون العبد منهم ا.هـ، فهذا صريح في أن الكفر لا يكون إلا بالتولي التام وما عداه ليس كفراً، والتولي التام راجع للأديان وهي أمور اعتقادية.
7) العلامة الأصولي والمفسر الشيخ محمد الأمين الشنقيطي حيث قال في تفسيره، عند قوله سبحانه : { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } قال : ويفهم من ظواهر الآيات أن من تولى الكفار عامداً اختياراً، رغبة فيهم أنه كافر مثلهم. ا.هـ(2)، فلم يجعل – رحمه الله – التكفير مطلقاً، بل قرنه بأمر قلبي أو اعتقادي وهو : أن يتولى الكفار رغبة فيهم.
__________
(1) زاد المعاد (5/64). وانظر زاد المعاد (3/422-424) والبدائع (4/ 939- 941) والصارم المسلول (2/372).
(2) أضواء البيان (2/111 ).(1/56)
8) الشيخ المحقق محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله – في تفسيره سورة المائدة آية { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } ذكر أن نصرتهم من كبائر الذنوب كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "من غشنا فليس منا " ثم قال : المهم على كل حال من هنا تعرف أن كلمة الموالاة التي نهى الله عنها هي موالاتهم بالمناصرة والمعاونة مما يعود عليهم بالنفع فهذا حرام لكن قلت لكم : إلا إذا عاونهم وناصرهم على من هو أشد إيذاء للمسلمين منهم فهذا لا بأس به ا.هـ(1)، فلم يحكم – رحمه الله - على النصرة بأنها كفر.
أيها القراء / أليس هذا الإجماع مخروماً بأن هؤلاء الأئمة الكبار لم يكفروا الجاسوس الذي يفشي سر المسلمين إلى الكافرين الذي قد يكون مؤداه قتل عشرات بل مئات من المسلمين .
فبهذا يظهر لك جلياً أن الإجماع المزعوم مخروم لا يصح التعويل عليه عند أهل الإنصاف العالمين بخرمه.
ومحاولة بعضهم جعل مسألة الجاسوس مسألة خاصة لا يخرم بها الإجماع محاولة فاشلة لوجوه :
1- أن الذين حكوا الإجماع أكدوا كل صورة حتى الصور القولية ولم يستثن أحد منهم ولو مرة صورة الجاسوس، ولو كانت هذه مستثناة – عندهم - لأبانوها وما تركوها، ويؤكد هذا الوجه الذي يليه.
2- أن مما يتمايز به دليل الإجماع أنه قطعي الدلالة فليس هو من الأدلة المجملة حتى يحتاج إلى بيان.
3- أن الذين نقلوا الإجماع علماء متأخرون، ولو كان في المسألة إجماعٌ لما أغفله الأولون من المفسرين والفقهاء مع كثرتهم ودقتهم.
__________
(1) المائدة (شريط رقم (51)الوجه الثاني) .(1/57)
4- أن في كلام العلماء الأوائل والمتأخرين من علق التكفير بالاعتقاد – كما سبق – لا على العمل، فهؤلاء إذا ذكروا مسألة الجاسوس ذكروها تمثيلاً - قطعاً - لا تخصيصاً لأنهم لا يكفرون بمجرد العمل.(1)
يردد بعضهم شبهة وهي أن حاطباً كان متأولاً ولولاه لكفر، وتفنيد هذه الشبهة من أوجه :
أ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأل حاطباً عن عذره، لم يعتذر حاطب بأنه تأول دليلاً شرعياً بل ذكر أنه فعل ما فعل لحظ دنيوي.
ب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفهم أن حاطباً كان متأولاً لذلك لم يكشف شبهة كان حاطب متمسكاً بها، ودواء الشبه كشفها.
ج- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر بأنه عاص، لكنه مغفور له لكونه من أهل بدر لا لأجل التأويل.
بيان ذلك أن المتأولين غير آثمين، وعليه فهم غير محتاجين إلى حسنات – كحضور بدر – تغفر بها سيئاتهم، وقد حكى ابن حزم الإجماع على ذلك ( الفصل (3/ 270)، وانظر كلام ابن تيميه في الاستقامة ( 2/ 143) مجموع الفتاوى (1/113)(3/284 ) (12/180) والرد على البكري ص(259، 329 ) والأصفهانية (144- 145 ).
الثانية / الموالاة المحرمة : وهذا يختلف باختلاف أصناف الكفار – كما تقدم – إلا أن جميعهم يعادي ويبغض بغضاً دينياً، ويعتقد بطلان دينهم وأن مصيرهم النار، وهناك مسائل فقهية اختلف فيها أهل العلم خلافاً معتبراً كحكم تعزية الكافر وحدود جزيرة العرب، فمثل هذه المسائل من اعتقد حرمتها فلا يفعلها، لكن لا يشنع به على المخالف، وإن كان له حق أن يبين قوله ويدعو إليه لأن قوله أيضاً في حيز المسائل التي يسوغ المخالفة فيها، ولهذا ضوابط مذكورة في مضانها من كتب وكلام أهل العلم.
__________
(1) قد استفدت من رسالة ( الوقفات على شيء مما في كتاب التبيان من المغالطات ) الرد الأول والثاني لمؤلفه أبي عبد الله اليمني – جزاه الله خيراً– .(1/58)
الثالثة / جائزة : وهي المعاملة الحسنة لغير الحربيين والأصل في هذا الباب، قوله تعالى { لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين َ } ، ومنه الزواج من الكتابيات دون العكس، وأكل ذبائح أهل الكتاب، ومنه وهو أمر مستحب إن لم يجب دعوتهم إلى الإسلام وترك ما هم عليه من دين منسوخ محرف وهكذا...
تنبيه / إن كثيراً من الأحكام في هذا الباب تختلف بحسب المصلحة، فحالة القوة لها أحكام مغايرة لحالة الضعف، كما تقدم ذكر هذا.
الشبهة الرابعة
إلغاء شرعية الجهاد
ومن تأكيد الأسس وتثبيتها أن جهاد الدفع أو الطلب أمران مشروعان من أنكر شرعيتهما ارتد وخرج من الملة ، لأنه أنكر شيئاً مقرراً في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، لكن من المهم أن يعرف أن لهذا الجهاد وقتاً وشروطاً ومقاصد من أجلها شرع ، أنبه على هذه التمهيدات فيما يلي :
التمهيد الأول : أن جهاد الأعداء وقتالهم في الشريعة مشروع لغيره لا لذاته، وهو إقامة دين الله في الأرض ، كما قال تعالى { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ }
قال ابن جرير الطبري: فقاتلوهم حتى لا يكون شرك ، ولا يعبد إلا الله وحده لا شريك له ، فيرتفع البلاء عن عباد الله من الأرض وهو الفتنة، ويكون الدين كله لله، يقول: وحتى تكون الطاعة والعبادة كلها لله خالصة دون غيره، وبنحو الذي قلنا قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك ، ثم ساقه بإسناده عن ابن عباس، والحسن، وقتادة، والسدي، وابن جريج، وغيرهم – رحمهم الله – ا.هـ(1)
__________
(1) التفسير (9/ 162) .(1/59)
وقال أبو عبد الله القرطبي: فدلت الآية والحديث على أن سبب القتال هو الكفر؛ لأنه قال { حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ } أي كفر، فجعل الغاية عدم الكفر وهذا ظاهر ا.هـ(1)
وقال ابن دقيق العيد: لأن الجهاد وسيلة إلى إعلان الدين ونشره وإخماد الكفر ودحضه ففضيلته بحسب فضيلة ذلك ا.هـ(2)
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره: ثم ذكر تعالى المقصود من القتال في سبيله، وأنه ليس المقصود به سفك دماء الكفار وأخذ أموالهم، ولكن المقصود به أن يكون الدين لله تعالى فيظهر دين الله تعالى، على سائر الأديان، ويدفع كل ما يعارضه من الشرك وغيره، وهو المراد بالفتنة، فإذا حصل هذا المقصود فلا قتل ولا قتال ا.هـ
وفي حديث أبي موسى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" متفق عليه . قال ابن تيمية: فالعقوبة على ترك الواجبات وفعل المحرمات هي مقصود الجهاد في سبيل الله ا.هـ(3)
__________
(1) التفسير( 2/354) .
(2) فتح الباري ( كتاب الجهاد باب فضل الجهاد) .
(3) مجموع الفتاوى ( 28/ 308 ) .(1/60)
وقال ابن القيم: ولأجلها – أي التوحيد- جردت سيوف الجهاد ا.هـ(1). ولو كان الجهاد مقصوداً لذاته لما سقط بأخذ الجزية كما قال تعالى { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } وفي حديث بريدة في صحيح مسلم: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً ثم قال:" اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فذكر الإسلام، فإن لم يستجيبوا فالجزية، فإن لم يعطوا فالقتال " .
التمهيد الثاني : إذا تبين أن الجهاد مشروع لغيره، وهو إقامة دين الله في الأرض فقبل الدعوة إليه لا بد من الفقه الشرعي الدقيق والنظر المتعمق الطويل هل الدعوة بهذه الوسيلة تحقق الغاية المقصودة وهي إقامة دين الله أم لا؟
ومن الأمور المعينة على إدراك واقع المسلمين أنهم إذا كانوا في ضعف من جهة العدة والعتاد بالنسبة لعدوهم فلا يصح لهم أن يسلكوا مسلك جهاد العدو وقتاله لكونهم ضعفاء، ويوضح ذلك أن الله لم يأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة بقتال الكفار لما كانوا في مكة، لضعفهم من جهة العدة والعتاد بالنسبة لعدوهم.
__________
(1) زاد المعاد(1/34) وأعلام الموقعين (1/ 4) .(1/61)
قال ابن تيمية: وكان مأموراً بالكف عن قتالهم لعجزه وعجز المسلمين عن ذلك، ثم لما هاجر إلى المدينة وصار له بها أعوان أذن له في الجهاد، ثم لما قووا كتب عليهم القتال ولم يكتب عليهم قتال من سالمهم؛ لأنهم لم يكونوا يطيقون قتال جميع الكفار . فلما فتح الله مكة وانقطع قتال قريش وملوك العرب، ووفدت إليه وفود العرب بالإسلام أمره الله – تعالى – بقتال الكفار كلهم إلا من كان له عهد مؤقت، وأمره بنبذ العهود المطلقة، فكان الذي رفعه ونسخه ترك القتال ا.هـ(1)
وقال: وسبب ذلك أن المخالفة لهم لا تكون إلا مع ظهور الدين وعلوه كالجهاد، وإلزامهم بالجزية والصغار، فلما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء لم تشرع المخالفة لهم، فلما كمل الدين وظهر وعلا، شرع ذلك ا.هـ(2)
وقال: فكان ذلك عاقبة الصبر والتقوى اللذين أمر الله بهما في أول الأمر، وكان إذ ذاك لا يؤخذ من أحد من اليهود الذين بالمدينة ولا غيرهم جزية، وصارت تلك الآيات في حق كل مؤمن مستضعف لا يمكنه نصر الله ورسوله بيده ولا بلسانه، فينتصر بما يقدر عليه من القلب ونحوه، وصارت آية الصغار على المعاهدين في حق كل مؤمن قوي يقدر على نصر الله ورسوله بيده أو لسانه، وبهذه الآية ونحوها كان المسلمون يعملون آخر عُمُر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى عهد خلفائه الراشدين، وكذلك هو إلى قيام الساعة، لا تزال طائفة من هذه الأمة قائمين على الحق ينصرون الله ورسوله النصر التام، فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ا.هـ(3)
__________
(1) الجواب الصحيح (1/ 237) .
(2) اقتضاء الصراط المستقيم ( 1/ 420) .
(3) الصارم المسلول ( 2/ 413 ) .(1/62)
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: هذه الآيات تتضمن الأمر بالقتال في سبيل الله، وهذا كان بعد الهجرة إلى المدينة، لما قوي المسلمون للقتال أمرهم الله به، بعدما كانوا مأمورين بكف أيديهم ا.هـ(1)
وقال- رحمه الله -: ومنها: أنه لو فرض عليهم القتال – مع قلة عددهم وعددهم، وكثرة أعدائهم- لأدى ذلك إلى اضمحلال الإسلام، فروعي جانب المصلحة العظمى على ما دونها، ولغير ذلك من الحكم. وكان بعض المؤمنين يودون أن لو فرض عليهم القتال في تلك الحال غير اللائق فيها ذلك، وإنما اللائق فيها القيام بما أمروا به في ذلك الوقت من التوحيد والصلاة والزكاة ونحو ذلك، كما قال تعالى { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً } فلما هاجروا إلى المدينة ، وقوي الإسلام ، كتب عليهم القتال في وقته المناسب لذلك ا.هـ(2)
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين :" لابد فيه من شرط وهو أن يكون عند المسلمين قدرة وقوة يستطيعون بها القتال، فإن لم يكن لديهم قدرة فإن إقحام أنفسهم في القتال إلقاء بأنفسهم إلى التهلكة ، ولهذا لم يوجب الله سبحانه وتعالى على المسلمين القتال وهم في مكة ، لأنهم عاجزون ضعفاء فلما هاجروا إلى المدينة وكونوا الدولة الإسلامية وصار لهم شوكة أمروا بالقتال، وعلى هذا فلابد من هذا الشرط ، وإلا سقط عنهم كسائر الواجبات لأن جميع الواجبات يشترط فيها القدرة لقوله تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وقوله: { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا } ا.هـ(3)
__________
(1) التفسير ص 89 .
(2) التفسير ص 188 .
(3) الشرح الممتع (8/9)(1/63)
وقال رداً على سؤال يتعلق بحاجة المجتمع الإسلامي للجهاد في سبيل الله بعد بيانه – رحمه الله – فضل الجهاد ومنزلته العظيمة في الشرع الإسلامي ليكون الدين كله لله، وأضاف هل يجب القتال أو يجوز مع عدم الاستعداد له؟، فالجواب: لا يجب ولا يجوز ونحن غير مستعدين له، والله لم يفرض على نبيه وهو في مكة أن يقاتل المشركين ، وأن الله أذن لنبيه في صلح الحديبية أن يعاهد المشركين ذلك العهد الذي إذا تلاه الإنسان ظن أن فيه خذلاناً للمسلمين . كثير منكم يعرف كيف كان صلح الحديبية حتى قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟. قال: بلى. قال: فلم نعطي الدنية في ديننا ؟، فظن أن هذا خذلان، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم ما في شك أنه أفقه من عمر، وأن الله تعالى أذن له في ذلك وقال: إني رسول الله ولست عاصيه وهو ناصري ... وإن كان ظاهر الصلح خذلاناً للمسلمين ، وهذا يدلنا يا إخواني على مسألة مهمة وهو قوة ثقة المؤمن بربه .. المهم أنه يجب على المسلمين الجهاد حتى تكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله، لكن الآن ليس بأيدي المسلمين ما يستطيعون به جهاد الكفار حتى ولو جهاد مدافعة وجهاد المهاجمة ما في شك الآن غير ممكن حتى يأتي الله بأمة واعية تستعد إيمانياً ونفسياً ، ثم عسكرياً ، أما نحن على هذا الوضع فلا يمكن أن نجاهد ا.هـ(1).
__________
(1) لقاء الخميس الثالث والثلاثين في شهر صفر / 1414هـ .(1/64)
ومما يزيد أن القوة شرط لإقامة جهاد الطلب ابتداء أن الله اشترط في العدد للوجوب أن يكون الرجل المسلم مقابل اثنين، كما قال تعالى { الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } فلو كان الكفار ثلاثة أضعاف المسلمين لما وجب عليهم القتال، ولصح لهم الفرار، كما فعل الصحابة في مؤتة. فهذا يؤكد أن القوة شرط، ومن هذا – أيضاً – ما أخرج مسلم عن النواس بن سمعان في قصة قتل عيسى عليه السلام للدجال قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فبينما هو كذلك، إذ أوحى الله إلى عيسى: إني قد أخرجت عباداً لي لا يدان (أي لا قدرة) لأحد بقتالهم، فحرز عبادي إلى الطور (أي ضمهم إلى جبل الطور ) ويبعث الله يأجوج ومأجوج ... "
قال النووي: قال العلماء معناه لا قدرة ولا طاقة – ثم قال – لعجزه عن دفعه، ومعنى حرزهم إلى الطور أي ضمهم واجعل لهم حرزاً ا.هـ(1)
ففي هذا الحديث أنه لما كانت قوة عيسى عليه السلام ضعيفة بالنسبة ليأجوج ومأجوج أمره الله ألا يقاتلهم ويجاهدهم، فدل هذا على أن القدرة شرط.
التمهيد الثالث: بالإضافة إلى قوة العدة والعتاد، فلابد من قوة الإيمان والإسلام عند المسلمين، وإلا فإذا كانت ذنوب المسلمين ظاهرة شاهرة متكاثرة، وكان قيامهم بالدين ضعيفاً لا سيما في أمر التوحيد والسنة بأن يكون الشرك والبدع وعموم المعاصي شائعاً عند المسلمين مألوفاً، ويكون أهلها غالبين، فإذا كان حال المسلمين كذلك، فإنهم عن نصر الله محجوبون إلا أن يشاء الله بفضله ورحمته . قال تعالى { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ }
__________
(1) شرح مسلم (18/ 68) .(1/65)
قال ابن جرير: { قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا } يعني قلتم لما أصابتكم مصيبتكم بأحد { )أَنَّى هَذَا ) } من أي وجه هذا ومن أين أصابنا هذا الذي أصابنا ونحن مسلمون وهم مشركون وفينا نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يأتيه الوحي من السماء وعدونا أهل كفر بالله وشرك قل يا محمد للمؤمنين بك من أصحابك { هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } يقول: قل لهم: أصابكم هذا الذي أصابكم من عند أنفسكم بخلافكم أمري وترككم طاعتي لا من عند غيركم ولا من قبل أحد سواكم ا.هـ(1)
ونقله عن جماعة من السلف كعكرمة والحسن وابن جريج والسدي . وقال أبودرداء :إنما تقاتلون بأعمالكم(2).
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: قلتم أنى هذا أي من أين أصابنا ما أصابنا وهزمنا؟ قل هو من عند أنفسكم حين تنازعتم وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون، فعودوا على أنفسكم باللوم واحذروا من الأسباب المرديةا. هـ(3)
وقال ابن تيمية: وحيث ظهر الكفار، فإنما ذاك لذنوب المسلمين التي أوجبت نقص إيمانهم، ثم إذا تابوا بتكميل إيمانهم نصرهم الله، كما قال – تعالى - { وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } وقال { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } ا.هـ(4)
__________
(1) جامع البيان في تفسير القرآن ( 4/ 108) .
(2) علقه البخاري (كتاب الجهاد ، باب عمل صالح قبل القتال ) .
(3) التفسير ص 156 .
(4) الجواب الصحيح (6/ 450) .(1/66)
وقال: وأما الغلبة فإن الله تعالى قد يديل الكافرين على المؤمنين تارة، كما يديل المؤمنين على الكافرين، كما كان يكون لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مع عدوهم، لكن العاقبة للمتقين فإن الله يقول { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } وإذا كان في المسلمين ضعفٌ ، وكان عدوهم مستظهراً عليهم كان ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم؛ إما لتفريطهم في أداء الواجبات باطناً وظاهراً، وإما لعدوانهم بتعدي الحدود باطناً وظاهراً، قال الله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا } وقال تعالى { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } وقال تعالى { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } ا.هـ(1)
وقال ابن القيم : فلو رجع العبد إلى السبب والموجب لكان اشتغاله بدفعه أجدى عليه، وأنفع له من خصومة من جرى على يديه ، فإنه – وإن كان ظالماً – فهو الذي سلطه على نفسه بظلمه . قال الله تعالى { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } فأخبر أن أذى عدوهم لهم، وغلبتهم لهم: إنما هو بسبب ظلمهم . وقال الله تعالى { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } ا.هـ(2)
__________
(1) مجموع الفتاوى ( 11/ 645 ) وانظر (8/ 239) (14/ 424 ) .
(2) مدارج السالكين (2/ 240) .(1/67)
وقال: وكذلك النصر والتأييد الكامل، إنما هو لأهل الإيمان الكامل، قال تعالى { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } وقال { فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ } فمن نقص إيمانه نقص نصيبه من النصر، والتأييد، ولهذا إذا أصيب العبد بمصيبة في نفسه أو ماله، أو بإدالة عدوه عليه، فإنما هي بذنوبه، إما بترك واجب، أو فعل محرم. وهو من نقص إيمانه.
وبهذا يزول الإشكال الذي يورده كثير من الناس على قوله تعالى { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } ويجيب عنه كثير منهم بأنه لن يجعل لهم عليهم سبيلاً في الآخرة، ويجيب آخرون بأنه لن يجعل لهم عليهم سبيلاً في الحجة .
والتحقيق: أنها مثل هذه الآيات، وأن انتفاء السبيل عن أهل الإيمان الكامل، فإذا ضعف الإيمان صار لعدوهم عليهم من السبيل بحسب ما نقص من إيمانهم، فهم جعلوا لهم عليهم السبيل بما تركوا من طاعة الله تعالى. فالمؤمن عزيز غالب مؤيد منصور، مكفي، مدفوع عنه بالذات أينما كان، ولو اجتمع عليه من بأقطارها، إذا قام بحقيقة الإيمان وواجباته، ظاهراً وباطناً. وقد قال تعالى للمؤمنين { وَلا تَهنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } وقال تعالى { فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } فهذا الضمان إنما هو بإيمانهم وأعمالهم، التي هي جند من جنود الله، يحفظهم بها، ولا يفردها عنهم ويقتطعها عنهم، كما يَتِرُ الكافرين والمنافقين أعمالهم، إذ كانت لغيره، ولم تكن موافقة لأمره ا.هـ(1).
__________
(1) إغاثة اللهفان (2/ 182) .(1/68)
وإن المسلمين إذا رجعوا إلى دينهم الحق القائم على الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، فإن الله ينصرهم، ويجعل لهم العزة والتمكين كما قال تعالى { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً } قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: هذا من أوعاده الصادقة، التي شوهد تأويلها ومخبرها، فإنه وعد من قام بالإيمان والعمل الصالح من هذه الأمة، أن يستخلفهم في الأرض، يكونون هم الخلفاء فيها، المتصرفين في تدبيرها، وأنه يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وهو دين الإسلام، الذي فاق الأديان كلها، ارتضاه لهذه الأمة، لفضلها وشرفها ونعمته عليها، بأن يتمكنوا من إقامته، وإقامة شرائعه الظاهرة والباطنة، في أنفسهم وفي غيرهم، لكون غيرهم من أهل الأديان وسائر الكفار مغلوبين ذليلين، وأنه يبدلهم من بعد خوفهم الذي كان الواحد منهم لا يتمكن من إظهار دينه، وما هو عليه إلا بأذى كثير من الكفار، وكون جماعة المسلمين قليلين جداً بالنسبة إلى غيرهم، وقد رماهم أهل الأرض عن قوس واحدة، وبغوا لهم الغوائل.(1/69)
فوعدهم الله هذه الأمور وقت نزول الآية، وهي لم تشاهد الاستخلاف في الأرض والتمكين فيها، والتمكين من إقامة الدين الإسلامي، والأمن التام، بحيث يعبدون الله ولا يشركون به شيئاً، ولا يخافون أحداً إلا الله، فقام صدر هذه الأمة، من الإيمان والعمل الصالح بما يفوقون على غيرهم، فمكنهم من البلاد والعباد، وفتحت مشارق الأرض ومغاربها، وحصل الأمن التام والتمكين التام، فهذا من آيات الله العجيبة الباهرة، ولا يزال الأمر إلى قيام الساعة، مهما قاموا بالإيمان والعمل الصالح، فلا بد أن يوجد ما وعدهم الله، وإنما يسلط عليهم الكفار والمنافقين، ويديلهم في بعض الأحيان، بسبب إخلال المسلمين بالإيمان والعمل الصالح ا.هـ.
أيها المسلمون الصادقون والمؤمنون الموقنون هذا سبيل عز الإسلام والمسلمين، وتمكينه في الأرض، فاسلكوه واجتهدوا في تكثير سالكيه، ولا يغرنكم الشيطان، ويخذلنكم بأن هذا الطريق بعيد منتهاه تفنى الأعمار دونه، كما لبس على كثيرين؛ لأننا لم نؤمر من ربنا إلا بإبلاغ ما يحبه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والسير على الطريق النبوي، ولم نطالب بالنتائج، وقطف الثمار قال تعالى { إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ } ولنكن على علم أن الله لو أراد هداية المدعوين، وعز الإسلام والمسلمين لفعل كما قال تعالى { وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ } ، وكن على ذكر من أن من تعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه.(1/70)
تنبيه / إن من لديه معرفة ولو قليلة بحال الأمة الإسلامية اليوم وكان ناصحاً أميناً ليرى أن ما يقوم به بعضهم من دعوة الأمة لجهاد الكفار جهاد الطلب هو من إهلاكها والتردي بها في الهاوية لأن أمتنا – وإلى الله المشتكى – تفقد في هذه الأزمان قوتها الدينية، فرايات الشرك من دعاء الأولياء والتقرب إليهم مرفوعة، وأطناب التصوف والبدع مضروبة، ناهيك عن الإلحاد والتحريف لأسماء الله وصفاته من جهة الأشاعرة والمعتزلة والجهمية، فهو الشيء المقرر في أكثر جامعاتها ومعاهدها المسماة إسلامية .
أما في الدعوة إلى الله فتحزب وجماعات جاهلية توالي وتعادي على الحزب، يميلون مع الأهواء حيث مالت: جماعة هدفها الحكم فحسب فسعت لتكثير الناس ولو على غير الدين باسم المصلحة؛ ليقفوا معها لنيل الهدف المنشود كجماعة الإخوان المسلمين، وجماعة هدفها هداية المدعوين ولو على غير السبيل والطريق المستقيم(1)؛ لذا تراهم لا يتورعون عن الوقوع في الحرام لهداية غيرهم فترى كثيراً من أتباعها جهالاً لا علم لهم كجماعة التبليغ . ومن عجيب أمر هاتين الجماعتين أنهما لا يدعوان إلى التوحيد ونبذ الشرك كي لا يفرقوا الناس عنهم .
أما الفساد الأخلاقي والتتبع لسنن الغرب الكافر فهو هدي الكثير لاسيما الشباب والشابات، فإذا كانت هذه حال أكثر أمتنا – اليوم – فهي أمة ظالمة لا يولى عليها إلا أمثالها من الظلمة كما قال تعالى { وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } فكما تكونوا يولى عليكم، بل وهم عن نصر الله بعيدون؛ لأنهم لم ينصروا الله كما قال تعالى { إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ } إلا أن يتفضل الله بفضله ورحمته الواسعة .(1/71)
ثم من جهة العدة والعتاد فنحن – كما لا يخفى – ضعفاء بالنسبة لعدونا الكافر فهو المصنع للأسلحة والمحتكر، ونحن المستهلكون لرديء ما صنع؛ لذا الوسيلة الناجعة الناجحة لعز الأمة وتمكينها الرجوع إلى الله والدعوة بالكلمة رويداً رويداً، فإن أغلق باب ولج الداعية من باب آخر وهكذا { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً } .
والذين يدعون الأمة – الآن – لجهاد العدو الكافر هم في الحقيقة يسعون لهلاكها من حيث لا يدرون .
قال الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين ولهذا لو قال لنا قائل : الآن لماذا لا نحارب أمريكا وروسيا وفرنسا وانجلترا ؟؟!!!! لماذا؟؟ لعدم القدرة الأسلحة التي قد ذهب عصرها عندهم هي التي في أيدينا وهي عند أسلحتهم بمنزلة سكاكين الموقد عند الصواريخ ما تفيد شيئاً فكيف يمكن أن نقاتل هؤلاء ؟ ولهذا أقول: إنه من الحمق أن يقول قائل :أنه يجب علينا أن نقاتل أمريكا وفرنسا وانجلترا وروسيا كيف نقاتل هذا تأباه حكمة الله عز وجل ويأباه شرعه لكن الواجب علينا أن نفعل ما أمر الله به عز وجل { َأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ } ، هذا الواجب علينا أن نعد لهم ما استطعنا من قوة، وأهم قوة نعدها هو الإيمان والتقوى ... ا.هـ(1).
بل حتى إحياء روح الجهاد في أرض مسلمين تمكنت منها الكفار لا يصح إذا كان يترتب عليه مفاسد أعظم من إهلاك المسلمين وزيادة تسليط للكافرين كما نراه من حولنا .
__________
(1) شرح بلوغ المرام من كتاب الجهاد الشريط الأول الوجه (أ).(1/72)
فائدة/ اعترض بعضهم على القول بعدم مشروعية الجهاد- الآن- لأننا نعيش حالة ضعف بما روى الشيخان عن معاوية بن أبي سفيان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:" ولا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة" وفي صحيح مسلم قال عبد الله بن عمرو بن العاص: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، هم شر من أهل الجاهلية، لا يدعون الله بشيء إلا رده عليهم. فبينما هم على ذلك أقبل عقبة بن عامر فقال له مسلمة: يا عقبة! اسمع ما يقول عبد الله، فقال عقبة: هو أعلم وأما أنا فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:" لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله، قاهرين لعدوهم، لا يضرهم من خالفهم، حتى تأتيهم الساعة، وهم على ذلك" فقال عبد الله: أجل ثم يبعث الله ريحاً كريح المسك مسها مس الحرير، فلا تترك نفساً في قلبه مثقال حبة من الإيمان إلا قبضته، ثم يبقى شرار الناس عليهم تقوم الساعة"، فقال المعترض: في هذين الحديثين وما في معناهما تأكيد استمرار الجهاد في كل زمان، وأن المسلمين لا ينقطعون عنه إلى أن تهب هذه الريح الطيبة .
وما فهمه هذا المعارض من استمرار الجهاد مردود من ثلاثة أوجه:
1/ أن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العملية أكبر شاهد، وأظهر دليل على أن قتاله لم يكن دائماً مستمراً ، بل كان ينقطع ما بين غزوة وأخرى ، وهذا رد واضح على المستدلين بظاهر هذه النصوص .
2/ "أن عيسى عليه السلام إذا نزل فسيقاتل اليهود وغيرهم، فإذا أخرج الله يأجوج ومأجوج أوحى إليه ألا تقاتلهم وخذ من معك إلى جبل الطور؛ لأنه لا قوة لك عليهم" أخرجه مسلم عن النواس بن سمعان –وقد تقدم – فها هو عيسى عليه السلام لا يستمر مقاتلاً إلى أن يبعث الله الريح الطيبة .(1/73)
3/ أن السنة يفسر بعضها بعضاً فلا يصح لأحد أن يأخذ بعضاً من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويبني عليه دون النظر في كلامه الآخر الذي يفسره ، فقد تقدم من الدلائل على أن جهاد الطلب لا يصح في حالة الضعف، وجهاد الدفع يسقط بعد تمكن العدو .
فإن قيل: فما معنى هذين الحديثين؟
فيقال: معناهما أنه لا تزال عصابة قائمة بأمر الله ومنه الجهاد إذا جاء وقته وهو وجود القوة الإيمانية والعسكرية وكانت مصلحة الإسلام والمسلمين في إقامته .
واعترض بعضهم بجهاد المسلمين للتتار وانتصارهم عليهم.
فيقال: الرد على هذا من أوجه وأكتفي بوجهين:
أولاً/ إن جهاد المسلمين للتتار من جنس جهاد الدفع لا الطلب .
ثانياً / هذا حدث تاريخي واقعي منقول، فعلى فرض التعارض فالأدلة الشرعية لا ترد بالأحداث التاريخية .
إذا تقررت هذه التمهيدات واتضحت فإن من المعلوم عند أهل السنة أن ترك الطاعة الواجبة إثم ولا يلزم منه إنكار شرعيته، فمن ترك صلة الأرحام أو بر الوالدين وغيرها فإنه يكون آثماً لا كافراً لأنه ليس لازم الترك إنكار الشرعية إلا عند الخوارج والمعتزلة والمتأثرين بهم. وقد تقدمت الإشارة إلى هذه المسألة عند الكلام على ترك الحكم بما أنزل الله.
هذا كله إذا كان الترك مع القدرة على الجهاد والمصلحة ترجّح القيام به، فكيف وأنه لا قدرة على الجهاد والمصلحة تدعو إلى تركه في مثل هذه الحالة كما تقدم بيانه.
الشبهة الخامسة
محاربة الدين بسجن الدعاة والمجاهدين وهذا كفر
والرد على هذه الشبهة من أوجه :
1/ أن أكثر الذين ذهبوا إلى الجهاد وعادوا لم يسجنوا ولم يمسوا بسوء، وخير برهان هو الواقع المشاهد الذي نعايشه، وهو أوضح من أن يمثل عليه، فلو كان هذا هو سبب السجن لما ترك هؤلاء.(1/74)
2/ أن علماء السنة الكبار كالإمام ابن باز وابن عثيمين – رحمهما الله – كانوا يدعون ويحثون على الجهاد الأفغاني الأول، ولو كان السبب ما تزعم لكانوا أولى بالسجن هم وطلابهم السائرون على طرقتهم.
3/ أن الدولة السعودية – حماها الله – وقفت مع الجهاد الأفغاني الأول وقفة مشرفة وصدعت بالتأييد حتى في هيئة الأمم المتحدة.
وإليك مقتطفات من كلمة صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز في هيئة الأمم المتحدة التي ألقاها نيابة عن خادم الحرمين الشريفين بتاريخ 17/1/1406هـ في الجمعية العامة للأمم المتحدة: إننا من على هذا المنبر نعرب عن ارتياحنا لموقف الولايات المتحدة الأمريكية المؤيد للشعب الأفغاني في حقه في تقرير مصيره.. كما نعرب عن ارتياحنا لموقف الاتحاد السوفيتي المؤيد للشعب الفلسطيني في حقه في تقرير مصيره، إلا أن مؤازرة الاتحاد السوفيتي للقضية العربية وتأييده للحق العربي في فلسطين لا يبرر إطلاق يده في أفغانستان واحتلالها عسكرياً وسلب الشعب الأفغاني استقلاله وكرامته.. كما أن معارضة الولايات المتحدة للاحتلال السوفيتي لأفغانستان ومطالبتها بمنح حق تقرير المصير للشعب الأفغاني لا يبرر دعمها غير المحدود وغير المشروط لإسرائيل وعدم تأييدها لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره بنفسه وإقامة دولته على أرضه، ويجب على الولايات المتحدة تأييد الحق والعدل والشرعية الدولية.(1/75)
– ثم قال – إن مصداقية هذه المنظمة معرضة للاهتزاز إذا هي استمرت بالاكتفاء بإصدار القرارات والتوصيات، لقد حثت الأمم المتحدة وأدانت بما فيه الكفاية ومع ذلك لم تتحقق التسوية الشاملة والعادلة لهذه القضية ( قضية فلسطين )، ونتساءل بعد ذلك هل بقي أمام الأمم المتحدة سوى دفع هذا الإجماع من مستوى الإدانة إلى مستوى الإجراء الملموس للوصول إلى تلك التسوية. إن هذه المنظمة لم يعد أمامها من خيار سوى استرجاع مصداقيتها والتأكيد عليها بإعطاء قراراتها صفة الجدية ولا جدية دون تنفيذ.
– ثم قال – إن ما حدث في أفغانستان لهو مؤشر خطير لما يمكن أن يحدث في العالم، والعالم الثالث بصفة خاصة، إذا استمر هذا التوجه دون وقفة حاسمة من المجتمع الدولي. فمن يدافع عن شعوب دول العالم الثالث إزاء احتلال مباشر مماثل لما تعرضت له الشقيقة أفغانستان. لقد دخل التواجد السوفيتي في أفغانستان عامه السادس وما زال المجاهدون الأفغان يخوضون حرباًَ ضارية دفاعاً عن دينهم وبلادهم وحقوقهم. ولقد بذلت منظمة المؤتمر الإسلامي جهوداً مكثفة لإزالة مظاهر القهر والاحتلال التي تعرض لها الشعب الأفغاني ليتمكن من تحرير إرادته وتأمين حقه في الحرية والاستقلال، كما بذلت منظمة الأمم المتحدة جهوداً مشكورة لإيجاد حل لهذه القضية. إن المملكة العربية السعودية إذ تؤيد تلك المساعي، فإنها تلفت النظر إلى أن أية جهود تبذل في هذا الإطار لابد وأن تأخذ بعين الاعتبار حقوق المجاهدين الأفغان ومطالبهم، وهي إذ تحيي أولئك المجاهدين، فإنها تؤيد تأييداً كاملاً مطالب الشعب الأفغاني بالجلاء عن أراضيه وإقامة حكم يرتضيه لنفسه يحافظ به على حياده ويحفظ عقيدته ا.هـ(1)
__________
(1) مجلة الفيصل العدد (106) ربيع الآخر 1406هـ ص20.(1/76)
فبالله عليكم – أهل الإنصاف – هل يقال لمن هذا موقفهم إنهم يسجنون المجاهدين، ولأنهم مجاهدون يقولون: ربنا الله !!؟ إذاً بقي أن نتساءل: لماذا سجنت دولة التوحيد – حماها الله – بعض الدعاة والقادمين من الجهاد الأفغاني ؟
السبب هو أن كثيراً من الشباب الموحد لما جاء إلى أرض أفغانستان للجهاد والدفاع عن أرض المسلمين تلقفتهم أيدٍ تكفيرية مفسدة تسعى إلى إفساد أفكارهم والتلبيس عليهم تجاه علمائهم وولاتهم، فتحاول إقناعهم بفساد علمائهم وكفر حكامهم، والبعض يحاول إقناعهم حتى بكفر علمائهم، وليس هذا تقولاً وافتراء بل هو ما دلت عليه الوقائع وأقر به القائمون بالتفجيرات في بلاد التوحيد بدءاً بتفجير العليا عام 1417ه مروراً بتفجير شرق الرياض ثم مجمع المحيا .
إذا عرفت حال بعض الشباب المشاركين في الجهاد بعد ذهابهم إلى أرض أفغانستان عرفت سبب سجن بلاد التوحيد لهم. وكما قيل: إذا عرف السبب بطل العجب.
وبهذا تعرف أن اتهام بلاد الحرمين بأنها تسجن المجاهدين والدعاة وهي في الواقع إنما تسجن أصحاب الأفكار الفاسدة الشاذة عرفت أن هذا الإطلاق من جنس إطلاق اللفظ المجمل ليتم لبس الحق بالباطل، كما هو صنيع أهل البدع في كل زمان وحين ؛ لذا إذا سمع هذه المقولة من لا دراية له استقر في نفسه أن بلاد الحرمين عدوة للإسلام والمسلمين – قاتل الله الظالمين -.
قال شيخنا محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله – : والدروس في المساجد قائمة إلا من حصل منه مخالفة، أو خشي منه فتنة، فهنا لابد أن يمنع الشر أو ما هو من أسباب الشر ا.هـ(1)
الشبهة السادسة
التكفير لهذه الدولة باستحلال الربا فإن تحريم الربا معلوم من الدين بالضرورة فمن استحله فقد كفر
__________
(1) شريط أهداف الحملات الإعلامية ضد حكام وعلماء بلاد الحرمين . وانظر كلاماً مفيداً للشيخ عبد العزيز ابن باز في مجموع فتاواه (8/403).(1/77)
وجواب هذه الشبهة أن يقال: لاشك أن الربا حرام ومن كبائر الذنوب، وسبب عظيم من أسباب تدهور الاقتصاد وذهاب البركة وتسلط الأعداء من الداخل والخارج قال تعالى { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } .
ولا يكون كفراً مخرجاً من الملة بمجرد التعامل به، وهذا مما لا يخالف فيه حتى هؤلاء التكفيريين إلا أنهم جعلوه كفراً إذا أذن وصرح له وحمي – كما سيأتي -، وهذا تكفير بما لم يكفر الله به ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، والتكفير – كما تقدم – حق لله، فأين من كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أن هذا كفر؟
والحماسة والاندفاع والعويل والتهويل ليست مبرراً شرعياً للتكفير بما ليس مكفراً ؛ لذا لما استعظم الفاروق أبو حفص عمر بن الخطاب – رضي الله عنه وأرضاه – فعل حاطب وكفره به لم يوافقه على ذلك النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم – كما تقدم في حديث حاطب -، وإنه لو فتح الباب للحماسة والعاطفة لكفرت خلقاً كثيراً ممن لم يكفرهم الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، ولعله لو ذكر لمتحمس عاطفي أن رجلاً ينفق على المباحات والحرام من الخمور والزنا الملايين، ولو طلبت منه صدقة ريال واحد لما تصدق به، لعل مثل هذا لو ذكر له لكفره بحجة أن هذا الرجل معاند مستكبر وهكذا...(1/78)
والقول بأن حماية المحرم كفر مفتقر إلى دليل، وهذه دونكم مصنفات أهل العلم فأين الدليل على أن مثل هذا كفر؟! بل دلت الأدلة على أن المحرمات ليست كفراً إلا إذا كانت على وجه كفري كالإباء والاستكبار والإعراض والجحود، وهذه ألفاظ شرعية بينتها الشريعة ووضحها أهل العلم، ولم يجعلوا للحماسات فيها مدخلاً، فالمكفر لأجل الاستكبار أو الإعراض آثم إلا إذا كان عارفاً بمدلول هذه الألفاظ شرعاً على طريقة أهل العلم الراسخين، وإلا صار متكلماً في العلم بجهل، والمتكلم في العلم بجهل لا يضر إلا نفسه.
وما أكثر الخائضين في هذه المسائل بجهل، ومن أمثلة ذلك عبثهم بمدلول لفظ (الالتزام) كما تقدم بيانه. ولو سألت أحدهم عن رجل شراب للخمر كثير الزنا قد جعل حرساً يدافعون عنه إذا جاءه رجال الحسبة، فهل مثل هذا يكفر لأجل أنه حمى الحرام ؟! فما هم قائلون ؟ ألم يقرأوا في كتب الاعتقاد السلفية للأئمة السلف الماضين أن أهل السنة لا يكفرون أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله، رداً منهم على الخوارج والمتأثرين بهم؟
فليتق الله هؤلاء من صنيعهم واعتقادهم، وليعلموا أن الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة، ولعلي أشير إشارة خفية يفهمها أولو الألباب دون غيرهم في موضوع الربا، وهي علة أصناف الربا الستة في حديث عبادة وغيره.
سئل سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز – رحمه الله - : هل وجود بعض المعاصي من الكبائر في هذه البلاد كالبنوك الربوية يجوز الخروج على ولاة الأمر وعدم طاعتهم ؟(1/79)
فأجاب: وجود المعاصي لا يجوز الخروج، وجود المعاصي من الوالي ومن الرعية لا يجوز الخروج على ولاة الأمور، ولكن يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى ولاة الأمور أن يجتهدوا في إزالة المنكر، وأن يتقوا الله وأن يجتهدوا في إزالة المنكر بالطرق الشرعية، وعلى العلماء المناصحة وعلى أفراد الرعية تقوى الله والاستقامة والحذر من المنكر والتواصي بترك المنكر، والتواصي بالأمر بالمعروف كما قال عز وجل { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } ، أما شق العصا أو الخروج على ولاة الأمور بسبب المعصية الربا وغيره، فهذا من دين الخوارج من أعمال الخوارج..ا.هـ(1)
سئل فضيلة الشيخ صالح الفوزان: فضيلة الشيخ – وفقكم الله – هناك من يدعو الشباب وبخاصة في الانترنت إلى خلع البيعة لولي أمر هذه البلاد، وسبب ذلك لوجود البنوك الربوية وكثرة المنكرات الظاهرة في هذه البلاد. فما توجيهكم حفظكم الله.
فأجاب: توجيهنا أن هذا كلام باطل ولا يقبل، وهذا يدعو إلى الضلال، ويدعو إلى تفريق الكلمة، وهذا يجب الإنكار عليه، ويجب رفض كلامه وعدم الالتفات إليه لأنه يدعو إلى باطل يدعو إلى منكر ويدعو إلى شر وفتنة. ا.هـ(2)
الشبهة السابعة
أنه لا عهد ولا أمان لهؤلاء الكفار
وذلك لأمرين :
الأول : أن هؤلاء الحكام كفار ولا يعتد بأمانهم.
الثاني: أن الكفار قتلوا المسلمين في عدة أماكن فيكونون بهذا نقضوا العهد.
وجواب الأول من أوجه :
__________
(1) شريط أهداف الحملات الإعلامية ضد حكام وعلماء بلاد الحرمين.
(2) المرجع السابق.(1/80)
1- أنه تقدم عدم صحة التكفير لحكام هذه البلاد، وأن غاية ما كفروهم به – لو ثبت -هي أمور مختلف في التكفير بها، والمسائل المختلف فيها لا يكفر بها الأعيان - كما تقدم -، فعليه يكون التزام أمانهم واجباً، وقد أخرج البخاري عن علي :" ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل ".
2- لو قدر أن الأمر كفر في ذاته بلا خلاف، فإن تنزيله على المعين محتاج إلى توافر الشروط وانتفاء الموانع، قال ابن تيمية: ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين نفوا أن الله تعالى فوق العرش لما وقعت محنتهم: أنا لو وافقتكم كنت كافراً لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال، وكان هذا خطاباً لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم ا.هـ(1)
وقال: هذا مع أني دائماً ومن جالسني يعلم ذلك مني : إني من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية ؛ إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة وفاسقاً أخرى وعاصياً أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها : وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية ا.هـ(2)
وقال الشيخ محمد بن عبدالوهاب: وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على عبدالقادر، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهما ؛ لأجل جهلهم، وعدم من ينبههم، فكيف نكفر من لم يشرك بالله ؟! إذا لم يهاجر إلينا ، أو لم يكفر ويقاتل { سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } ا.هـ(3)
3- أن الكافر إذا دخل بلاد المسلمين سيعطيه الأمان آخرون غير ولي الأمر كالعاملين في الجوازات وغيرهم، وأمان هؤلاء صحيح بالإجماع.
__________
(1) الرد على البكري ص 260.
(2) مجموع الفتاوى (3/229).
(3) الدرر السنية (1/104).(1/81)
4- أن شبهة الأمان وهو ظنهم الأمان كالأمان الحقيقي قال ابن تيمية: ومعلوم أن شبهة الأمان كحقيقته في حقن الدم ا.هـ(1)
وقال: هذا الكلام الذي كلموه به صار مستأمناً، وأدنى أحواله أن يكون له شبهة أمان، ومثل ذلك لا يجوز قتله بمجرد الكفر، فإن الأمان يعصم دم الحربي ويصير مستأمناً بأقل من هذا كما هو معروف في مواضعه ا.هـ(2)
وقال الشافعي في الأم في باب الأمان: وإذا أمن من دون البالغين والمعتوه قاتلوا أم لم يقاتلوا لم نجز أمانهم، وكذلك إن أمن ذمي قاتل أم لم يقاتل لم نجز أمانه، وإن أمن واحد من هؤلاء فخرجوا إلينا فعلينا ردهم إلى مأمنهم ولا نعرض لهم في مال ولا نفس من قبل أنهم ليسوا يفرقون بين من في عسكرنا ممن يجوز أمانه ولا يجوز وننبذ إليهم فنقاتلهم ا.هـ(3)
بل قال الأوزاعي في أهل الذمة : إن غزا الذمي مع المسلمين فأمن أحداً فإن شاء الإمام أمضاه وإلا فليرده إلى مأمنه.(4)قارن هذا بفعال هؤلاء المبطلين في الاستهانة بالذمم والأمان !! ... ... ...
5- أنه لو قدر أنه لا أمان لهم فإن قتلهم يجر على الإسلام والمسلمين الأضرار الجسيمة من منع الدعوة إلى الله وإيذاء المسلمين المتغربين في بلاد الكفر، بل ويكون سبباً لتسلط الكفار الأقوياء على المسلمين الضعفاء، وما خبر حرب دولتين من دول الإسلام (أفغانستان والعراق ) على إثر وجراء تفجير البرجين في نيويورك عنا ببعيد.
وإليك بعض المسائل الشرعية المتعلقة بالأمان ليدرى قدر تشديد الشرع فيه :
المسألة الأولى / أمان المرأة:
__________
(1) الصارم المسلول (2/522).
(2) الصارم المسلول (2/182).
(3) وانظر للفائدة كتاب " كشف الشبهات في مسائل العهد والجهاد " لأخينا الشيخ فيصل بن قزاز، فإنه مفيد ومنه استفدت فجزاه الله خيراً.
(4) نقله الحافظ (7/776).(1/82)
بعد إجماعهم على أمان الرجل العاقل البالغ، فقد ذكر خلاف في المرأة، قال الحافظ: قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على جواز أمان المرأة، إلا شيئاً ذكره عبدالملك – يعني ابن الماجشون صاحب مالك – لا أحفظ ذلك عن غيره قال: إن أمر الأمان إلى الإمام، وتأول ما ورد مما يخالف ذلك على قضايا خاصة، قال ابن المنذر: وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم:" يسعى بذمتهم أدناهم " دلالة على إغفال هذا القائل انتهى. وجاء عن سحنون مثل قول ابن الماجشون فقال: هو إلى الإمام، إن أجازه جاز وإن رده رد ا.ه(1)ـ
وبوب البخاري : باب أمان النساء وجوارهنّ. ثم روى حديث أم هانئ:" قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ "
وقال ابن عبدالبر: وكان ابن الماجشون وسحنون يقولان: أمان المرأة موقوف على إجازة الإمام له، فإن أجازه له جاز، فهو قول شاذ لا أعلم أحدا قال به غيرهما من أئمة الفتوى ا.هـ(2).
وقال ابن قدامة: وبالمرأة، فإن أمانها يصح في قولهم جميعاً. قالت عائشة: إن كانت المرأة لتجير على المسلمين فيجوز. وعن أم هانئ أنها قالت: يا رسول الله إني أجرت أحمائي، وأغلقت عليهم، وإن ابن أمي أراد قتلهم. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:" قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ، إنما يجير على المسلمين أدناهم " رواهما سعيد. وأجارت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا العاص بن الربيع فأمضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ا.هـ(3)
وهذا هو الصواب لعموم حديث :" ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم " ولحديث أم هانئ.
المسألة الثانية / أمان العبد:
__________
(1) الفتح (7/775)
(2) الاستذكار (14/88) وانظر الاستذكار (6/140).
(3) المغني (13/76).(1/83)
قال ابن عبدالبر : واختلف العلماء أيضاً في أمان العبد: فقال مالك والشافعي وأصحابهما والثوري والأوزاعي والليث وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود بن علي: أمانه جائز قاتل أو لم يقاتل. وهو قول محمد بن الحسن. وقال أبو حنيفة: أمانه غير جائز إلا أن يقاتل، وهو قول أبي يوسف، وروي عن عمر معناه ا.هـ(1)
وقال: أما أمان العبد فكان أبو حنيفة لا يجيزه إلا أن يقاتل. واختلف على أبي يوسف في ذلك. وقال محمد بن الحسن: يجوز أمانه وإن لم يقاتل. وهو قول مالك والثوري والأوزاعي والليث والشافعي. وعن عمر من طرق أنه أجاز أمان العبد، ولا خلاف في ذلك بين السلف إلا ما خرج مخرج الشذوذ ا.هـ(2)
وقال الحافظ : وأما العبد فأجاز الجمهور أمانه قاتل أو لم يقاتل، وقال أبو حنيفة: إن قاتل جاز أمانه وإلا فلا. وقال سحنون: إذا أذن له سيده في القتال صح أمانه وإلا فلا ا.هـ(3)
والصواب صحة أمانه لعموم حديث " يسعى بها أدناهم ".
المسألة الثالثة/ الصبي المميز :
قال ابن قدامة: فأما الصبي المميز فقال ابن حامد: فيه روايتان: إحداهما لا يصح أمانه. وهو قول أبي حنيفة والشافعي لأنه غير مكلف، ولا يلزمه بقوله حكم فلا يلزم غيره كالمجنون. والرواية الثانية: يصح أمانه. وهو قول مالك. وقال أبو بكر: يصح أمانه رواية واحدة. وحمل رواية المنع على غير المميز، واحتج بعموم الحديث، ولأنه مسلم مميز فصح أمانه، كالبالغ وفارق المجنون، فإنه لا قول له أصلاً ا.هـ(4)قال الحافظ: وأما الصبي فقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم أن أمان الصبي غير جائز. قلت: وكلام غيره يشعر بالتفرقة بين المراهق وغيره، وكلام المميز الذي يعقل. والخلاف عن المالكية والحنابلة ا.هـ(5)والصواب صحة أمان المميز لعموم حديث " يسعى بها أدناهم " فإن الشريعة توسع باب الأمان.
المسألة الرابعة/ الأسير:
__________
(1) التمهيد (21/188).
(2) الاستذكار (14/88).
(3) فتح الباري (7/776).
(4) المغني (13/77).
(5) الفتح (7/776).(1/84)
قال ابن قدامة : ويصح أمان الأسير إذا عقده غير مكره لدخوله في عموم الخبر ولأنه مسلم مكلف مختار فأشبه غير الأسير. وكذلك أمان الأجير والتاجر في دار الحرب. وبهذا قال الشافعي. وقال الثوري: لا يصح أمان أحد منهم. ولنا عموم الحديث والقياس على غيرهم ا.هـ(1)
وقال الحافظ (7/776): وحكى ابن المنذر عن الثوري أنه استثنى من الرجال الأحرار الأسير في أرض الحرب فقال: لا ينفذ أمانه، وكذلك الأجير ا.هـ(2)
والصواب صحة أمانه لعموم حديث علي ولأن الشرع يوسع الأمان.
المسألة الخامسة / المجنون:
قال ابن قدامة: ولا يصح أمان مجنون ولا طفل لأنه كلامه غير معتبر، ولا يثبت به حكم. ولا يصح أمان زائل العقل بنوم أو سكر أو إغماء لذلك، ولأنه لا يعرف المصلحة من غيرها فأشبه المجنون. ولا يصح من مكره لأنه قول أكره عليه بغير حق، فلم يصح كالإقرار ا.هـ(3)قال الحافظ: وأما المجنون فلا يصح أمانه بلا خلاف كالكافر ا.هـ(4)
المسألة السادسة/ الكافر:
قال ابن قدامة: ولا يصح أمان كافر وإن كان ذمياً لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم " فجعل الذمة للمسلمين، فلا تحصل لغيرهم ولأنه متهم على الإسلام وأهله، فأشبه الحربي ا.هـ(5)وتقدم عن الحافظ ابن حجر أنه نفى الخلاف في المسألة.
المسألة السابعة/ بأي شيء يكون الأمان :
قال ابن عبدالبر: ولا خلاف علمته بين العلماء في أن من أمن حربياً بأي كلام لهم به الأمان، فقد تم له الأمان. وأكثرهم يجعلون الإشارة الأمان إذا كانت مفهومة بمنزلة الكلام ا.هـ(6)
وجواب الثاني ( أن الكفار قتلوا المسلمين في عدة أماكن فيكونون بهذا نقضوا العهد ):
1- تقدم في هذا الكتاب بيان بالدليل الشرعي لا العاطفي الحماسي أن كل دولة لها حاكم هي مستقلة بحكمها.
__________
(1) المغني (13/77).
(2) الفتح (7/776).
(3) المغني (13/77).
(4) الفتح (7/776).
(5) المغني (13/77).
(6) الاستذكار (14/87).(1/85)
2- أن هناك فرقاً بين حال القوة والضعف ففي حال الضعف يصبر على كثير من الضيم دون حال القوة كما تقدم الكلام عن صلح الحديبية.
3- أن في نقض العهد بين المسلمين والكفار مطلقاً إضراراً بالمسلمين في شرق الأرض وغربها.
4- أن الذي يحدد نقض العهد وبقاءه ولي الأمر لا عامة الناس، وإلا صار الأمر فوضى، والفوضى محرمة وما لا يتم ترك المحرم إلا به فهو واجب.
الشبهة الثامنة
يجوز نقض العهد الذي التزمناه عند دخول بلاد الكفار حين ختم الجواز
بدليل أنه روى جابر وأبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" الحرب خدعة " متفق عليه
الجواب من وجهين :
أ فرق كبير في الشرع بين نقض العهد ( الخيانة ) والخدعة، فالأول محرم بالإجماع. أما الثاني: جائز في الحرب بالإجماع فإن الخدعة ليس فيها نقض للعهد، وإنما إبداء أمر وفعل خلافه مخادعة للمحاربين، ومن سوى بينهما فقد سوى بين ما فرقت الشريعة بينها فقياسه فاسد لكونه خطأ من حيث الأصل ولمخالفته الشرع من جهة أخرى، فالآيات القرآنية والأحاديث النبوية متواترة في الإيفاء بالعهد قال تعالى { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً } وقال { أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } بل وجاء النهي عن الغدر في الحرب بأدلة خاصة منها ما خرج مسلم عن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:" اغزوا باسم الله، قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا"،
ومن أبلغ ما نحن بصدده الحديث الذي خرج مسلم عن حذيفة قال : ما منعني أن أشهد بدراً إلا أني خرجت أنا وأبي حسيل قال: فأخذنا كفار قريش قالوا: إنكم تريدون محمداً ؟ فقلنا: ما نريده، ما نريد إلا المدينة. فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه. فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر. فقال:" انصرفا، نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم " وفي لفظ " تفيا لهم بعهدهم "(1/86)
أرأيتم كيف الإيفاء بالعهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قارن واقع هؤلاء المبطلين بهذه النصوص !!
ب أن هذه الفعال لو جازت جدلاً – وهذا من المحال شرعاً - لحرم فعله لما يترتب عليه من المفاسد العظيمة كما تقدم بيانه، ودين الله قائم على جلب المصالح ودرء المفاسد.
الشبهة التاسعة
يجوز في الشرع قتل الكفار وتدمير دورهم، ولو قتل في ذلك بعض المسلمين
كما جوز العلماء التترس بإجماع، قال القرطبي: قد يجوز قتل الترس وذلك إذا كانت المصلحة ضروريَّة كلية ولا يتأتى لعاقل أن يقول لا يقتل الترس في هذه الصورة بوجه , لأنه يلزم منه ذهاب الترس والإسلام والمسلمين ا.هـ(1)
قال ابن تيمية: ولهذا اتفق الفقهاء على أنه متى لم يمكن دفع الضرر عن المسلمين إلا بما يفضي إلى قتل أولئك المتترس بهم جاز ذلك ا.هـ(2)
الجواب من أوجه :
الأول: أن قتل المسلمين الذين تترس بهم جائز بالاتفاق الذي نقله ابن تيمية، أما تدمير دور الكفار وقتل أنفسهم فهو محرم إذا كانوا في بلادنا معاهدين أو بدخولنا بلادهم، وقد أخذوا العهود والمواثيق على من دخل عليهم بالتزام الأمن وذلك بتختيم جواز الدخول - كما تقدم بيانه – فعلى هذا لا يصح قياس ما حرم الله بما أجاز.
الثاني: أن حالة التترس اضطرارية، وذلك بأن تترس الكفار بمسلمين لقتل مسلمين أكثر أو إفساد مفسدة أكبر ؛ لذا جازت من درء المفسدة الكبرى بما هو أخف، وواقع هؤلاء المفجرين العكس تماماً، فإنهم في غير حالة الاضطرار، وأيضاً يفسدون أكثر مما يصلحون إن كانوا يصلحون شيئاً.
الشبهة العاشرة
ثبت في البخاري ومسلم عن ابن عباس عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" أخرجوا المشركين من جزيرة العرب " فبقاؤهم منكر يجب إزالته.
والجواب من أوجه /
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن (16/287).
(2) مجموع الفتاوى (20/52)(1/87)
1- أن غاية ما يفيد الحديث وجوب إخراجهم لا قتلهم، والمنكر لا يزال بمنكر أكبر منه وهو قتل المعاهد، فقد أخرج البخاري عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة "
2- أن قتلهم يجر على المسلمين مفاسد عظمى على مستوى الأفراد والجماعات والدول، وما ترتب عليه مفسدة أكبر حرم فعله كما تقدم بيانه.
3- أن العلماء اختلفوا في حدود جزيرة العرب التي يحرم على المشركين دخولها على أقوال:
قال ابن عبدالبر: أما قوله: أرض العرب وجزيرة العرب، في هذا الحديث، فذكر ابن وهب عن مالك قال: أرض العرب مكة والمدينة واليمن، وذكر أبو عبيد القاسم بن سلام عن الأصمعي قال: جزيرة العرب من أقصى عدن إلى أبين إلى ريف العراق في الطول، وأما في العرض فمن جدة وما والاها من سائر البحر إلى إطرار الشام.
قال أبو عبيد، وقال أبو عبيدة: جزيرة العرب ما بين حفر أبي موسى إلى أقصى اليمن في الطول، وأما في العرض فمن بير يبرين إلى منقطع السماوة – ثم قال – قال مالك بن أنس: جزيرة العرب المدينة ومكة واليمامة واليمن. قال: وقال المغيرة بن عبدالرحمن: جزيرة العرب المدينة ومكة واليمن وقرياتها.
وذكر الواقدي عن معاذ بن محمد الأنصاري أنه حدثه عن أبي وجزة يزيد بن عبيد السعدي أنه سمعه يقول: القرى العربية الفرع وينبع والمروة ووادي القرى والجار وخيبر. قال الواقدي: وكان أبو وجزة السعدي عالماً بذلك. قال أبو وجزة وإنما سميت قرى عربية لأنها من بلاد العرب. وقال أحمد بن المعذل: حدثني بشر بن عمر قال: قلت لمالك: إننا لنرجو أن تكون من جزيرة العرب يريد البصرة لأنه لا يحول بيننا وبينكم نهر، فقال: ذلك أن كان قومك تبؤوا الدار والإيمان.(1/88)
قال أبو عمر رضي الله عنه : قال بعض أهل العلم: إنما سمي الحجاز حجازاً لأنه حجز بين تهامة ونجد، وإنما قيل لبيلاد العرب جزيرة لإحاطة البحر والأنهار بها من أقطارهالا وإطرارها فصاروا فيها مثل جزيرة من جزائر البحر ا.هـ(1)
قال ابن قدامة: ولا يجوز لأحد منهم سكنى الحجاز. وبهذا قال مالك والشافعي إلا أن مالكاً قال: أرى أن يجلوا من أرض العرب كلها لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لا يجتمع دينان في جزيرة العرب " – ثم قال – وجزيرة العرب ما بين الوادي إلى أقصى اليمن. قاله سعيد بن عبدالعزيز. وقال الأصمعي وأبو عبيد: هي من ريف العراق إلى عدن طولاً، ومن تهامة وما وراءها إلى أطراف الشام عرضاً. وقال أبو عبيدة: هي من حفر أبي موسى إلى اليمن طولاً، ومن رمل يبرين إلى منقطع السماوة عرضاً. قال الخليل: إنما قيل لها جزيرة لأن بحر الحبش وبحر فارس والفرات قد أحاطت بها، ونسبت إلى العرب لأنها أرضها ومسكنها ومعدنها. وقال أحمد: جزيرة العرب المدينة وما والاها. يعني أن الممنوع من سكنى الكفار به المدينة وما والاها، وهو مكة واليمامة وخيبر والينبع وفدك ومخاليفها وما والاها. وهذا قول الشافعي لأنهم لم يجلوا من تيماء ولا من اليمن.
وقد روي عن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال: إن آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم أن قال:" أخرجوا اليهود من الحجاز " فأما إخراج أهل نجران منه فلأن النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم على ترك الربا، فنقضوا عهده. فكأن جزيرة العرب في تلك الأحاديث أريد بها الحجاز، وإنما سمي حجازاً لأنه حجز بين تهامة ونجد. ولا يمنعون أيضاً من أطراف الحجاز، كتيماء وفيد ونحوهما لأن عمر لم يمنعهم ا.هـ(2)
__________
(1) التمهيد (1/172).
(2) المغني (13/242).(1/89)
وقال القرطبي في تفسيره: وأما جزيرة العرب وهي مكة والمدينة واليمامة واليمن ومخاليفها. فقال مالك: يخرج من هذه المواضع كل من كان غير الإسلام، ولا يمنعون من التردد بها مسافرين. وكذلك قال الشافعي – رحمه الله – غير أنه استثنى من ذلك اليمن. ويضرب لهم أجل ثلاثة أيام كما ضربه لهم عمر – رضي الله عنه – حين أجلاهم. ولا يدفنون فيها ويلجئون إلى الحل ا.هـ(1)
قال الحافظ: لكن الذي يمنع المشركون من سكناه منها الحجاز خاصة وهو مكة والمدينة واليمامة، وما والاها، لا فيما سوى ذلك مما يطلق عليه اسم جزيرة العرب لاتفاق الجميع على أن اليمن لا يمنعون منها مع أنها من جملة جزيرة العرب، هذا مذهب الجمهور، وعن الحنفية يجوز مطلقاً إلا المسجد، وعن مالك يجوز دخولهم الحرم للتجارة، وقال الشافعي: لا يدخلون الحرم أصلاً إلا بإذن الإمام لمصلحة المسلمين خاصة ا.هـ(2)
قال ابن مفلح : ويمنعون الإقامة بالحجاز قيل: هو ما بين اليمامة والعروض، وبين اليمن ونجد، وسمي به لأنه حجز بين تهامة ونجد كالمدينة، وقيل: نصفها تهامي ونصفها حجازي، واليمامة وسمي العروض، وكان اسمها حجراً، فسميت اليمامة باسم امرأة. وقال ابن الأثير: اليمامة: الصقع المعروف شرقي الحجاز. وهذا يقتضي أن لا يكون من الحجاز، وفيه تكلف، وخيبر شرقي المدينة لما روى أبو عبيدة بن الجراح أن آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم قال:" أخرجوا اليهود من الحجاز " رواه أحمد. وقال عمر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:" لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب فلا أترك فيها إلا مسلماً " رواه الترمذي. وقال: حسن صحيح.
والمراد الحجاز بدليل أنه ليس أحد من الخلفاء أخرج أحداً من اليمن وتيماء قال أحمد: جزيرة العرب المدينة وما والاها، وكذا الينبع وفدك، ومخاليفها معروف باليمن، تسمى بها القرى المجتمعة كالرستاق في غيرها.
__________
(1) 8/104).
(2) فتح الباري (7/616).(1/90)
وقال الشيخ تقي الدين: تبوك ونحوها وما دون المنحنى وهو عقبة الصوان من الشام كمعان، ولهم دخوله، والأصح بإذن إمام لتجارة. فإن دخلوا لتجارة لم يقيموا في موضع واحد أكثر من أربعة أيام، قاله القاضي لأن الزائد على الأربعة حد يتم به المسافر فصار كالمقيم، والمذهب أنهم لا يقيمون فوق ثلاثة أيام لأن عمر أذن لمن دخل تاجراً إقامة ثلاثة أيام فدل على المنع في الزائد ا.هـ(1)
قال ابن القيم: ثم اختلف الفقهاء بعد ذلك فقال مالك: أرى أن يجلوا من أرض العرب كلها لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لا يجتمع دينان في جزيرة العرب " وفي صحيح مسلم من حديث عمر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب، حتى لا أدع فيها إلا مسلماً " وقال الشافعي: يمنعون من الحجاز، وهو مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها وهي قراها. أما غير الحرم منه فيمنع الكتابي وغيره من الاستيطان والإقامة به، وله الدخول بإذن الإمام لمصلحة كأداء رسالة أو حمل متاع يحتاج إليه المسلمون، وغن(و من ) دخل لتجارة ليس فيها كثير حاجة لم يأذن له إلا بشرط أن يأخذ من تجارته شيئاً، ولا يمكن من الإقامة أكثر من ثلاث. وقد أدخل بعض أصحاب الشافعي اليمن في جزيرة العرب، ومنعهم من الإقامة فيها، وهذا وهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً قبل موته إلى اليمن وأمره أن يأخذ من كل حالم ديناراً، وأقرهم فيها وأقرهم أبو بكر بعده وأقرهم عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، ولم يجلوهم من اليمن مع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، فلم يعرف عن إمام أنه أجلاهم من اليمن.
__________
(1) المبدع (3/381).(1/91)
وإنما قال الشافعي وأحمد: يخرجون من مكة والمدينة واليمامة وخيبر وينبع ومخاليفها، ولم يذكرا اليمن، ولم يجلوا من تيماء أيضاً، وكيف يكون اليمن من جزيرة العرب وهي وراء البحر، فالبحر بينها وبين الجزيرة ؟ فهذا القول غلط محض. حكم دخول أهل الذمة الحرم : وأما الحرم فإن كان حرم مكة فإنهم يمنعون من دخوله بالكلية، فلو قدم رسول لم يجز أن يأذن له الإمام في دخوله ويخرج الوالي أو من يثق به إليه، ولا يختص المنع بخطة مكة بل الحرم كله. وأما حرم المدينة فلا يمنع من دخولهم لرسالة أو تجارة أو حمل متاع.
فصل/ فهذا تفصيل مذهب أحمد – رحمه الله تعالى – فعنده: يجوز لهم دخول الحجاز للتجارة لأن النصارى كانوا يتجرون إلى المدينة في زمن عمر – رضي الله عنه – كما تقدم. وحكى أبو عبدالله بن حمدان عنه رواية: أن حرم المدينة كحرم مكة في امتناع دخوله. والظاهر أنها غلط على أحمد، فإنه لم يخف عليه دخولهم بالتجارة في زمن عمر رضي الله عنه وبعده وتمكينهم من ذلك. ولا يأذن لهم في الإقامة أكثر من ثلاثة أيام. وقال القاضي: أربعة، وهي حد ما يتم المسافر للصلاة – ثم قال –(1/92)
فصل/ وأما تفصيل مذهب مالك – رحمه الله تعالى – فإنهم يقرون عنده في جميع البلاد إلا جزيرة العرب : وهي مكة والمدينة وما والاهما. وروى عيسى بن دينار عنه دخول اليمن فيها. وروى ابن حبيب أنها من أقصى عدن وما والاها من أرض اليمن كلها إلى ريف العراق في الطول، وأما في العرض فمن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام، مصر في المغرب والمشرق، وما بين المدينة إلى منقطع السماوة، ولا يمنعون من الاجتياز بها مسافرين، ولكن لا يقيمون. فصل/ وأما أبو حنيفة – رحمه الله تعالى – فعنده: لهم دخول الحرم كله حتى الكعبة نفسها، ولكن لا يستوطنون به. وأما الحجاز فلهم الدخول إليه والتصرف فيه والإقامة بقدر قضاء حوائجهم، وكأن أبا حنيفة – رحمه الله تعالى – قاس دخولهم مكة على دخولهم مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يصح هذا القياس، فإن لحرم مكة أحكاماً يخالف بها المدينة، على أنها ليست عنده حرماً ا.هـ(1)
قال النووي: وفي هذا دليل على أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب إخراجهم من بعضها وهو الحجاز خاصة لأن تيماء من جزيرة العرب لكنها ليست من الحجاز ا.هـ(2)والذي يظهر أن جزيرة العرب هي الحجاز وحدها لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاءه لم يخرجوهم من اليمن، ولأن عمر لم يخرج إلا يهود خيبر إلى تيماء، فقد أخرج البخاري عن عمر أنه أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز، وذكر يهود خيبر إلى أن قال: أجلاهم عمر إلى تيماء وأريحاء. فإن قيل: ألم يخرج الإمام أحمد عن أبي عبيدة بن الجراح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب "؟ فيقال: لعله عند من يصححه يحمل على أن إخراجهم لأمر خارجي لا لكونهم كفار بدلالة أنه لم يخرج غيرهم من الكفار في بقية جزيرة العرب كاليمن مثلاً.
__________
(1) أحكام أهل الذمة (1/392).
(2) شرح مسلم (10/212-213).(1/93)
هذا ما رجحه أبو عبيد في كتاب الأموال فقال: وإنما نرى عمر استجاز إخراج أهل نجران – وهم أهل صلح – لحديث يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم فيهم خاصة. يحدثونه عن إبراهيم بن ميمون مولى آل سمرة عن ابن سمرة عن أبي عبيدة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان آخر ما تكلم به أن قال:" أخرجوا اليهود من الحجاز، وأخرجوا أهل نجران من جزيرة العرب " قال أبو عبيد: وإنما نراه قال ذلك صلى الله عليه وسلم لنكث كان منهم، أو لأمر أحدثوه بعد الصلح، وذلك بين في كتاب كتبه عمر إليهم قبل إجلائه إياهم منها ا.هـ(1)
فإذا كانت المسألة اجتهادية فلا يجوز لأحد أن يلزم غيره بقوله بالإجماع كما حكاه ابن تيمية فقال: وإما إلزام السلطان في مسائل النزاع التزام قولٍ بلا حجة من الكتاب والسنة، فهذا لا يجوز باتفاق المسلمين ولا يفيد حكم حاكم بصحة قول دون قول في مثل ذلك إلا إذا كان معه حجة يجب الرجوع إليها فيكون كلامه قبل الولاية وبعدها سواء، وهذا بمنزلة الكتب التي يصنفها في العلم. نعم الولاية تمكنه من قول حق ونشر علمٍ قد كان يعجز عنه بدونها، وباب القدرة والعجز غير باب الاستحقاق وعدمه. نعم للحاكم إثبات ما قال زيد وعمرو ثم بعد ذلك إن كان ذلك القول مختصاً به كان مما يحكم فيه الحكام، وإن كان من الأقوال العامة كان من باب مذاهب الناس... ا.هـ(2)
4- أن المراد بالحديث الاستيطان لا الإقامة لحاجة أو غير دائمة بدلالة أن كفاراً كانوا موجودين في المدينة، فمن هو أبو لؤلؤة المجوسي القاتل لعمر ؟ وتقدم ما يدل على هذا من كلام أهل العلم.
الشبهة الحادية عشرة
أن بعض حكام المسلمين يحمي صروح الشرك من أضرحة وأوثان تعبد من دون الله
وهذا فعل شنيع وإثم وجرم كبير سبب لذهاب الدنيا والدين وتغلب الكفرة الكافرين على المسلمين، لكن التأثيم الشديد شيء غير التكفير، ومن كفر بمثل هذا فالرد عليه من أوجه:
__________
(1) كتاب " الأموال " ص100.
(2) مجموع الفتاوى (3/240):(1/94)
1- أن هناك فرقاًَ بين تكفير النوع والعين فلا يلزم من تكفير الفعل تكفير الفاعل، وهذا ما عليه محققون مبرزون كالأئمة أبي العباس ابن تيمية إذ قال: : فإنا بعد معرفة ما جاء الرسول نعلم بالضرورة أنه لم يشرع لأمته أن تدعو أحداً من الأموات لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها ولا بلفظ الاستعاذة ولا بغيرها كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا لغير ميت ونحو ذلك، بل إنه نهى عن كل هذه الأمور وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله تعالى لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يكن تكفيرهم بذلك حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مما يخالفه ا.هـ(1)
2- أن من حمى الكفر لذاته فهو كافر لأن لازمه رضاه وإقراره له، أما إذا حماه لدافع آخر فهذا مع كونه إثماً وجرماً كبيراً لكنه ليس كفراً إذ ليس لازمه الرضا ثم لا دليل يدل على التكفير بحماية الكفر لغير ذاته،كما تبقى الكنائس شرعاً في الأرض التي فتحها المسلمون صلحاً(2)كما يدل على هذا فعل الخلفاء الراشدين وهم بذلك لا يسمحون لأحد أن يعتدي عليها ولو كان هذا محرماً لما فعله الخلفاء الراشدون فضلاً عن أن يكون كفراً فيتجلى لنا بهذا أنه لايلزم من حماية الشرك كفر الحاكم بل لابد من النظر إلى الدوافع لذا لم يلزم من حماية الكنيسة التي يزاول فيها الشرك الأكبر كفر الحاكم فإذا وجدت كنيسة في أرض مسلمين فحماها السلطان لدوافع غير الرضا، فإن فعله لا يوصف بالكفر فضلاً عن أن يكفر لأنه لم يحمها لذاتها وإنما لأمر آخر.
تم المقصود والحمد لله
21 / 5 / 1425هـ وراجعته المراجعة الأخيرة مع بعض الزيادات والإضافات 3/3/1427هـ
الفهارس
التكفير بحق ليس مذموماً .
الشبهة الأولى / التكفير بالحكم بغير ما أنزل الله وجوابها من وجهين .
__________
(1) الرد على البكري ص377.
(2) أحكام أهل الذمة للإمام ابن القيم(3/1202)(1/95)
لا تكفير للأعيان في المسائل المتنازع فيها .
تحرير محل النزاع في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله .
إيراد المسألة على وجه مناظرة .
الشبهة الثانية / التكفير بالتحاكم إلى هيئة الأمم وجوابها .
تصور حال هيئة الأمم .
العهود والمواثيق التي تحفظت منها الدولة السعودية .
المصلحة تقتضي انضمام الدولة السعودية إلى هيئة الأمم .
لم يحكم علماء السنة المعاصرون على كفر الانضمام إلى هيئة الأمم .
فتوى الشيخ محمد بن عثيمين في جواز الانضمام إلى هيئة الأمم .
الشبهة الثالثة / التكفير بإعانة الكفار وجوابها .
التعامل مع الكفار درجات .
الرد على من زعم أن حاطباً كان متأولاً .
الشبهة الرابعة / إلغاء شرعية الجهاد وجوابها .
تمهيدات تتعلق بالجهاد .
كلام نفيس للشيخ العثيمين - رحمه الله - .
حديث (( لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق )) .
الشبهة الخامسة / حرب الدين بسجن الدعاة والمعاهدين وجوابها .
الشبهة السادسة / التكفير باستحلال الربا وجوابها .
الشبهة السابعة / لا عهد ولا أمان لهؤلاء الكفار وجوابها .
بيان أن أمان الولاة للكفار نافذ و صحيح من أوجه .
صحة أمان المرأة .
صحة أمان العبد .
صحة أمان المميز .
صحة أمان الأسير .
عدم صحة أمان المجنون .
عدم صحة أمان الكافر .
بأي شيء يكون الأمان .
الرد على قول: أنه لا أمان للكفار لأن آخرين قتلوا المسلمين في عدة أماكن
الشبهة الثامنة / جواز نقض العهد بشبهة الحرب خدعة وجوابها .
الشبهة التاسعة / جواز قتل بعض المسلمين في سبيل قتل الكفار كالتترس وجوابها .
الشبهة العاشرة / وجوب إخراج المشركين من جزيرة العرب وجوابها .
الشبهة الحادية عشر/ سماح بعض حكام المسلمين بصروح الشرك في دولته وجوابها .(1/96)