الوسطية في القرآن الكريم
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}
الدكتور علي محمد الصلابي(/)
هذا الكتاب
هذا الكتاب في الأصل رسالة علمية نال بها صاحبها درجة الماجستير في جامعة أم درمان الإسلامية في السودان، ولقد أشرف عليها فضيلة الدكتور: مبارك محمد أحمد رحمة ونالت الرسالة إعجاب لجنة المناقشة المكونة من:
1 - د. الزبير الحاج أبو علامة.
2 - د. أحمد بدوي.
وأوصت اللجنة بالطباعة بعد إصلاح الأخطاء الإملائية وذكروا بأن الجهد الذي بذل في هذه الرسالة يعادل مجهود رسالة دكتوراه.(1/3)
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70 - 71].
أما بعد:
فإن من نعمة الله على هذه الأمة وتشريفه لها أن جعلها أمة وسطا خيارا عدولا فقال: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) [البقرة:143].
فهي خير الأمم التي أخرجت للناس وقد وصفها المولي عز وجل وشهد لها بذلك فقال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [آل عمران: 110].
ثم اصطفى الله سبحانه وتعالى لها رسولا من خيارها وأوسطها نسبا ومكانة فبعثه فيها نبيا رسولا: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنَفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتِّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [التوبة: 128].
وأنزل عليها أشرف كتبه وجعله مهيمنا على الكتب قبله شاملا لخير ما جاءت به: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) [المائدة: 48].(1/5)
بهذا الرسول الكريم، وهذا القرآن العظيم، شرفت هذه الأمة، وبمتابعتهم والاهتداء بهديهما كانت خير الأمم وأوسطها وأعدلها.
وكان أسعد هذه الأمة باتباعهما وأحرصهم على هديهما قولا وعملا واعتقادا أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم تابعوهم، ثم التابعون لهم بإحسان من القرون الثلاثة المفضلة التي شهد لها النبي -صلى الله عليه وسلم- بالخيرة في قوله:
" خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم".
فهؤلاء هم خيار الأمة ثم يلحق بهم كل من كان على مثل ما كانوا عليه من الهدى والتمسك بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- في كل زمان ومكان فهؤلاء جميعا خيار هذه الأمة وأوسطها وأعدلها.
فإنه بعد انتقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى جوار ربه، ومضي عصر الخلافة الراشدة بدأ في عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ظهور التفرق والاختلاف، فخرجت الخوارج ببدعها، وظهرت الشيعة بغلوها وفتنها، ثم توالي ظهور البدع وتكونت الفرق، وتوارثت الأجيال كثيرا من الانحرافات العقدية والسلوكية وغيرها، وابتعدت عن منهج الاعتدال والتوسط الذي رسمه القرآن الكريم ومارسه في الحياة سيد المرسلين فإن المتدبر في الواقع الذي تعيشه الأمة اليوم يري فرقا شاسعا في أهدافها واختلافا في منطلقاتها وغاياتها وفي مشاربها، يرى الإفراط والتفريط والغلو والجفاء والإسراف والتقتير في عموم الأمة، فإذا انتقلنا إلى حال الدعاة والمصلحين الذين أقض مضاجعهم هذا الواقع المؤلم لأمتهم، فشرعوا في البحث عن طرق العلاج ومعرفة أسباب النجاة والتمسك بها لإخراج البشرية من الظلمات إلى النور، ومن الضلالة إلى الهدى، نجد تأثير واقع الأمة على وضعهم، فمنهم المشرق، ومنهم المغرب، ترى المفرط والمفرط، نرى بين هؤلاء الدعاة والمصلحين من غلا وأفرط في الغلو، وعادت أفكار الخوارج القديمة، وهناك من فرط وجفا، وأضاع معالم الدين وأصول العقيدة، حرصًا على جمع الناس دون(1/6)
تزكيتهم وتعليمهم الكتاب والسنة فانتشر الإرجاء وضاعت معالم التوحيد وحقيقة العبادة.
وبين هؤلاء وأولئك وقفت فئة تقتفي الآثر، وتصحح المنهج وتقود الناس إلى الصراط المستقيم على منهج أهل السنة والجماعة وسلف الأمة، ينفون عن هذا الدين غلو الغالين وانتحال المبطلين وتفريط الكسالى والمرجئين ودعاوى المرجفين الزائغين، ووسط هذا الواقع المؤلم والاضطراب المهلك تشتد الحاجة إلى إرشاد الأمة إلى الصراط المستقيم والمنهج الوسط القويم لإنقاذها من كبوتها وإيقاظها من رقدتها، وتذكير الدعاة والمصلحين بالمنهج الحق والطريق البين الواضح:
(وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) [الأنعام: 153].
ولقد تأملت طويلا عند قضية الغلو والجفاء، والإفراط والتفريط؛ وأيقنت أن الأمة بأمس الحاجة إلى منهج الوسطية منقذا لها من هذا الانحراف الذي جلب عليها الرزايا والمصائب والنكبات.
وجدت أن القرآن الكريم، قد رسم لنا هذا المنهج في جميع جوانبه أصولا وفروعا وعقيدة وعبادة وخلقا وسلوكا وتصورا وعملا.
ولقد جاء منهج الوسطية من خلال القرآن الكريم في أساليب عدة تصريحا وإيماء، مفصلا، مجملا، خبرًا وإنشاء وأمرًا ونهيا.
واقتناعا مني بأهمية هذا الموضوع ومسيس الحاجة إليه فقد رأيت أن أقدم بحث الماجستير في موضوع يتعلق بالوسطية من خلال البحث في آيات القرآن الكريم متأملا لآيات الذكر الحكيم، متفكرا في دلالاته محاولا أن استوعب ما كتبه المفسرون حول تقرير القرآن لمنهج الوسطية وسميته (الوسطية في القرآن) وقد شجعني على ذلك مشايخي وأساتذتي(1/7)
حفظهم الله للغوص في هذا الموضوع وأخص بالذكر الدكتور مبارك رحمة -حفظه الله- الذي شجعني ورغبني في هذا الاختيار فجزاه الله خيرًا.
علي محمد محمد الصلابي(1/8)
القسم الأول
ملامح الوسطية في القرآن(1/9)
الباب الأول: في تعريف الوسطية في اللغة والاصطلاح وأسسها:
ويشتمل على فصلين:
الفصل الأول: في تعريف الوسطية في اللغة والاصطلاح:
ويشتمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: معني الوسطية في اللغة.
المبحث الثاني: الوسطية في استعمال الشارع.
المبحث الثالث: تحرير معنى الوسطية.
الفصل الثاني: في أسس الوسطية.
ويشتمل على أربعة مباحث:
المبحث الأول: الغلو والإفراط.
المبحث الثاني: التفريط والجفاء.
المبحث الثالث: الصراط المستقيم.
المبحث الرابع: الصلة بين الوسطية والصراط المستقيم.
الباب الثاني: في ملامح الوسطية
ويشتمل على ستة فصول:
الفصل الأول: في الخيرية.
ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: أقوال المفسرين في آية الخيرية.
المبحث الثاني: أبرز أوجه خيرية هذه الأمة.
الفصل الثاني: في العدل
ويشتمل على أربعة مباحث:
المبحث الأول: أقوال المفسرين في "أمة وسطا".
المبحث الثاني: وجوب العدل على هذه الأمة.
المبحث الثالث: اعتراف أعداء هذه الأمة بعدالتها.(1/11)
المبحث الرابع: العدل عند أهل الكتاب.
الفصل الثالث: في اليسر ورفع الحرج:
ويشتمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: تعريف اليسر والوسع في اللغة والاصطلاح.
المبحث الثاني: رفع الحرج.
المبحث الثالث: أدلة التيسير ورفع الحرج.
الفصل الرابع: في الحكمة.
ويشتمل على أربعة مباحث:
المبحث الأول: الحكمة في اللغة والاصطلاح.
المبحث الثاني: العلامة بين التعريف اللغوي والشرعي.
المبحث الثالث: أنواع الحكمة.
المبحث الرابع: أركان الحكمة.
الفصل الخامس: في الاستقامة
ويشتمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: أدلة القرآن.
المبحث الثاني: أدلة السنة.
المبحث الثالث: أقوال العلماء في الاستقامة.
الفصل السادس: في البينية.
ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: أقوال العلماء في البينية.
المبحث الثاني: دليل تطبيقي لملامح الوسطية.
الخاتمة: وفيها عرض موجز لما وصلت إليه من نتائج مهمة ي هذا البحث، ثم فهرسا للموضوعات.
وأسأل الله -عز وجل- أن يجعل هذا العمل المتواضع خالصا لوجهه الكريم، وأن يغفر لي أي خطأ أو زلل وقع فيه، إنه سميع قريب.(1/12)
الباب الأول
الوسطية في اللغة والاصطلاح وأسسها
الفصل الأول:
الوسطية في اللغة والاصطلاح
المبحث الأول معني الوسطية في اللغة
مادة (وسط):
تدل على معان متقاربة كما يقول ابن فارس (1):
(الواو والسين والطاء بناء صحيح يدل على: العدل، والنصف وأعدل الشيء أوسطه ووسطه ... ) (2).
الأول: (وسط) بسكون السين، فتكون ظرفا بمعني (بين) قال في لسان العرب (3): (وأما الوسط بسكون السين فهو ظرف لا اسم، جاء على وزن نظيره في المعني وهو (بين) نقول: جلست وسط القوم أي بينهم ... ).
ومنه قول سوار بن المضرب:
إني كأني أرى من لا حياء له ... ولا أمانة، وسط الناس عريانا (4)
الثاني: (وسط) بفتح السين.
وتأتي لمعان متعددة متقاربة، فتكون:
_________
(1) هو العلامة اللغوي المحدث أبو الحسن أحمد بن فارس بن زكريا بن محمد بن حبيب القزويني المعروف بالرازي المالكي ولد بقزوين وأقام بالري ودفن بها عام خمس وتسعين وثلاثة مائة:
انظر: سير أعلام النبلاء (17/ 103).
(2) معجم مقاييس اللغة: كتاب الواو، باب (الواو والسين): (6/ 108).
(3) صاحب لسان العرب: هو محمد بن مكرم بن علي بن أحمد الأنصاري الإفريقي ثم المصري جمال الدين أبو الفضل كان ينسب إلى رويفع بن ثابت الأنصاري ولد سنة 630 هـ وتوفى 711هـ. انظر ترجمته في مقدمة لسان العرب.
(4) لسان العرب، فصل الواو، باب وسط، (7/ 427).(1/13)
1 - اسما لما بين طرفي الشيء وهو منه فنقول: قبضت وسط الحبل، وكسرت وسط القوس، وجلست وسط الدار (1).
2 - تأتي صفة بمعني (خيار) وأفضل، وأجود، فأوسط الشيء أفضله وخياره كوسط المرعي خير من طرفيه، ومرعى وسط أي: خيار، منه:
إن لها فوارسا وفرطًا ... ونضرة الحي ومرعى وسطا (2)
وواسطة القلادة: الجوهر الذي وسطها وهو أجودها (3)، ورجل وسط ووسيط: حسن (4).
3 - وتأتي وسط: بمعنى (عدل) كما تقدم قول ابن فارس: إنه يدل على العدل .. وأن أعدل الشيء أوسطه.
وفي لسان العرب: (ووسط الشيء وأوسطه أعدله) (5).
وفي القاموس (6): (الوسط: محركة من كل شيء أعدله) (7)، وكذلك قال الجوهري (8) في الصحاح (9).
4 - وتأتي وسط: بمعني: الشيء بين الجيد والرديء قال الجوهري: (ويقال أيضًا شيء وسط: أي بين الجيد والرديء) (10).
_________
(1) لسان العرب (7/ 427).
(2) نفس المصدر: (7/ 427، 430).
(3) انظر الصحاح: (3/ 1167).
(4) انظر: لسان العرب، فصل الواو، باب (وسط): (7/ 430).
(5) نفس المصدر السابق: (7/ 430).
(6) صاحب القاموس هو الإمام الشهير أبو الطاهر محمد بن يعقوب بن إبراهيم أو ابن يعقوب بن إبراهيم الشيرازي يرجع نسبه إلى أبي بكر الصديق وولد بفارس عام 729هـ، وتوفى باليمن عام 817 هـ، انظر: مقدمة القاموس المحيط.
(7) القاموس المحيط باب الطاء، فصل الواو: (893).
(8) هو إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي إمام العربية كان من أعاجيب الزمان ذكاء وفطنة وعلما له مصنفات أشهرها كتاب الصحاح في اللغة واعترته في آخر حياته وسوسة فصعد إلى سطح جامع نيسابور وعمل لنفسه جناحين وحاول الطيران فسقط ميتا، وقد كانت وفاته سنة (98هـ). انظر: ياقوت معجم الأدباء (6/ 151).
(9) انظر الصحاح: (3/ 1167).
(10) نفس المصدر: (3/ 1167).(1/14)
وقال صاحب المصباح المنير: (الوسط بالتحريك، المعتدل يقال شيء وسط أي: بين الجيد والرديء ... ) (1).
وكيفما تصرفت هذه اللفظة، تجدها لا تخرج في معناها عن معاني العدل والفضل والخيرية، والنصف والبينية والمتوسط بين الطرفين فتقول:
(وسوطا) بمعنى: المتوسط المعتدل ومنه قول الأعرابي: (علمني دينا وسطا لا ذاهبا فروطا ولا ساقطا سقوطا، فإن الوسوط ههنا المتوسط بين الغالي والتالي (2).
و (وسيطا): أي حسيبا شريفا، قال الجوهري: وفلان وسيط في قومه إذا كان أوسطهم نسبا وأرفعهم محلا قال العرجي:
كأني لم أكن فيهم وسيطا ... ولم تك نسبتي في آل عمرو (3)
و (الوسيط) أي المتوسط بين المتخاصمين (4).
و (التوسط): بين الناس من الوساطة (5).
و (التوسيط): أي تجعل الشيء في الوسط (6).
و (التوسيط) قطع الشيء نصفين.
و (وسوط الشمس): توسطها السماء (7).
و (واسطة القلادة): الجوهري الذي هو في وسطها وهو أجودها (8).
_________
(1) انظر: المصباح المنير: (252).
(2) انظر: لسان العرب: فصل الواو، باب (وسط): (7/ 430).
(3) انظر الصحاح: (3/ 1167).
(4) القاموس المحيط باب الطاء، فصل الواو: (894).
(5) انظر الصحاح (3/ 1167).
(6) انظر الصحاح: (3/ 1167).
(7) لسان العرب فصل الواو، باب وسط: (7/ 429).
(8) انظر الصحاح: (3/ 1167).(1/15)
وقال فريد عبد القادر (1): استقر عند العرب أنهم إذا أطلقوا كلمة (وسط) أرادوا معاني الخير، والعدل، والجودة، والرفع، والمكانة العلية.
والعرب تصف فاضل النسب بأنه وسط في قومه، وفلان من واسطة قومه، أي: من أعيانهم، وهو من أوسط قومه، أي: من خيارهم وأشرافهم (2).
ومن خلال ما سبق اتضح لنا المعني اللغوي لكلمة (وسط) وما تصرف منها، وأنها تؤول إلى معان متقاربة، ولله الحمد.
_________
(1) طالب علم في جامعة الإمام محمد بن سعود تقدم ببحث في الوسطية في الإسلام ونال به درجة الماجستير.
(2) الوسطية في الإسلام (10).(1/16)
المبحث الثاني الوسطية في استعمال الشارع
وردت مادة (وسط) في القرآن الكريم في عدة مواضع، وذلك بتصاريفها المتعددة، حيث وردت بلفظ: (وسطا) و (الوسطي) و (أوسط) و (أوسطهم) و (وسطن).
وسنين معني كل كلمة على وفق ورودا في القرآن الكريم مسترشدين بأقوال المفسرين ببعض أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- في توضيح معاني تصاريف كلمة الوسط.
أولا: كلمة وسطا:
وردت في قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) [البقرة: 143]، وقد ورد تفسير هذه الكلمة في السنة النبوية، كما ذكر لها المفسرون عدة معان وتفصيل ذلك كما يلي:
1 - وقد ورد تفسير هذه الكلمة عن أبي سعيد الخدري (1) -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يدعي نوح يقوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته فيشهدون أنه قد بلغ"، (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (2)، فذلك قوله - جل ذكره-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) والوسط: العدل.
وروى الطبري (3) بإسناده عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) قال: عدولا (4).
_________
(1) هو سعد بن مالك بن سنان، يتصل نسبه بخدرة بن عوف بن الحارث بن الخزرج استشهد أبوه مالك بن سنان في وقعة أحد، وأبو سعيد الخدري هو سابع المكثرين من الرواية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولقد توفى الزاهد العابد، والعالم العامل عام 74هـ، انظر: تهذيب التهذيب: 3/ 479، وحلية الأولياء: (1/ 369)، وصفة الصفوة: (1/ 299).
(2) صحيح البخاري كتاب التفسير، باب (وكذلك جعلناكم ... ): (5/ 176)، رقم (4487).
(3) هو الإمام المؤرخ المفسر الفقيه الحافظ محمد بن جرير بن يزيد الطبري، ولد في آمل طبرستان واستوطن بغداد حتى توفى بها عام (310هـ). سير أعلام النبلاء (14/ 267)، وفيات الأعيان (4/ 191).
(4) انظر: تفسير الطبري: (2/ 7).(1/17)
وقد ساق الطبري عددًا من الروايات في هذا المعنى: ثم ذكر تفسير هذه الآية منسوبا إلى بعض الصحابة والتابعين، كأبي سعيد، ومجاهد (1) وغيرهما، حيث فسروها بـ (عدولا) (2).
2 - قال الإمام الطبري:
وأما الوسط فإنه من كلام العرب: الخيار، يقال منه: فلان وسط الحسب في قومه، أي متوسط الحسب، إذا أرادوا بذلك الرفعة في حسبه.
وهو وسط في قومه وواسط، قال زهير بن أبي سلمي (3) في الوسط:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم ... إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم
قال: وأنا أرى أن الوسط في هذا الموضوع هو الوسط الذي بمعنى الجزء، الذي هو بين الطرفين، مثل وسط الدار، وأرى أن الله - تعالى ذكره- إنما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلو فيه، كغلو النصارى الذين غلوا بالترهب، وقولهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه، كتقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله، وقتلوا أنبيائهم، وكذبوا على ربهم وكفروا به، ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها.
وأما التأويل فإنه جاء أن الوسط العدل -كما سبق- وذلك معنى الخيار؛ لأن الخيار من الناس عدولهم (4).
_________
(1) هو الإمام الحافظ مجاهد بن جبر المكي أبو الحجاج، لازم ابن عباس كثيرا، وأخذ عنه التفسير، وأجمعت الأمة على إمامته والاحتجاج به، ومن أقواله: (الفقيه من يخاف الله، وإن قل علمه، والجاهل من عصى الله وإن كثر علمه) توفى سنة اثنين أو ثلاثة ومائة من الهجرة رحمه الله، انظر ترجمته في تذكرة الحفاظ: (1/ 92 - 93).
(2) انظر: تفسير الطبري: 2/ 7).
(3) هو زهير بن ربيعة بن رياح بن قرة بن الحارث بن مازن المقري من شعر الجاهلية، وهو أحد الثلاثة المقدمين على سائر الشعراء باتفاق، وهم امرؤ القيس، وزهير، والنابغة الذبياني، وهو من أصحاب المعلقات السبعة: انظر: ترجمته في شرح المعلقات السبع للقاضي أحمد الزوزني (147).
(4) انظر: تفسير الطبري: (2/ 6).(1/18)
3 - قال محمد رشيد رضا (1) في تفسيره: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) [البقرة: 143]، هو تصريح بما فهم من قوله: (وَاللهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ) [البقرة: 213].
أي على هذا النحو من الهداية جعلناكم أمة وسطا.
قالوا: إن الوسط هو العدل والخيار، وذلك إن الزيادة على المطلوب في الأمر إفراط، والنقص عنه تقصير وتفريط، وكل من الإفراط والتفريط ميل عن الجادة القويمة، فهو شر ومذموم، فالخيار هو الوسط بين طرفي الأمر، أي المتوسط بينهما.
4 - وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي (2) -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) أي: عدلا خيارا، وما عدا الوسط فأطراف داخلة تحت الخطر، فجعل الله هذه الأمة وسطا في كل أمور الدين، وسطا في الأنبياء بين من غلا فيهم كالنصارى، وبين من جفا منهم كاليهود، فأن آمنوا بهم كلهم على الوجه اللائق بذلك.
ووسطا في الشريعة، لا تشديدات اليهود وآصارهم، ولا تهاون النصارى، وفي باب الطهارة والمطاعم، لا كاليهود الذين لا تصح لهم صلاة إلا في بيعهم وكنائسهم، ولا يطهرهم الماء من النجاسات، وقد حرمت عليهم طيبات عقوبة لهم.
ولا كالنصارى الذين لا ينجسون شيئا ولا يحرمون شيئا؛ بل أباحوا ما دب ودرج، بل طهارتهم -أي هذه الأمة- أكمل طهارة وأتمها، وأباح لهم الطيبات من المطاعم، والمشارب، والملابس، والمناكح، وحرم عليهم الخبائث من ذلك.
فلهذه الأمة من الدين أكمله، ومن الأخلاق أجلها، ومن الأعمال أفضلها
_________
(1) هو محمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين بن منلا علي القلموني البغدادي الأصل، الحسيني النسب، صاحب مجلة (المنار) وداعية التجديد والإصلاح وله تفسير اسمه: تفسير القرآن الحكيم، ومشهور باسم (تفسير المنار) وهو غير كامل انتهي مؤلفه إلى الآية (101) من سورة يوسف، ولد سنة 1282هـ توفى 1353هـ (انظر ترجمته في القول المختصر المبين في مناهج المفسرين لمحمد النجدي: 59)، وانظر: الأعلام للزركلي (6/ 126).
(2) هو الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله آل سعدي التميمي الحنبلي ولد -رحمه الله- بعنيزة بالقصيم السعودية سنة 1307 هـ وكان عالما محررا نبغ في علو عديدة منها العقيدة، والفقه، توفى -رحمه الله- سنة 1367هـ، انظر ترجمته في مشاهير علماء نجد: (392).(1/19)
ووهبهم من العلم الحلم والعدل والإحسان ما لم يهبه لأمة سواهم، فلذلك كانوا (أُمَّةً وَسَطًا) كاملين معتدلين ليكونوا (شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) بسبب عدالتهم وحكمهم بالقسط، يحكمون على الناس من سائر الأديان، ولا يحكم عليهم غيرهم (1).
5 - ويقول سيد قط (2) - رحمه الله- في تفسيره لهذه الآية: (وإنها للأمة الوسط بكل معاني الوسط، سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد، أو الوسط بمعناه المادي والحسي، أمة وسطا في التصور والاعتقاد، أمة وسطا في التفكير والشعور، أمة وسطا في التنظيم والتنسيق، أمة وسطا في الارتباطات والعلاقات، أمة وسطا في الزمان، أمة وسطا في المكان (3).
هذه أهم أقوال المفسرين في تفسير هذه الآية، ومن خلال هذا التفسير تبينت معان لها أهميتها عند الحديث عن منهج القرآن في تقرير الوسطية في مباحث قادمة.
ثانيا: كلمة (الوسطي):
وقد وردت هذه الكلمة في قوله في سورة البقرة: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ) [البقرة: 238].
ومن أقوال المفسرين في هذه الآية نجد أن لها علاقة بمعنى الوسط حيث سنبين سبب تسميتها بذلك، هل لأنها متوسطة بين الصلوات أو لأنها أفضل الصلوات أو لكليهما معًا؟ دون الوقوف عند أي الصلوات هي، وما سيرد في هذه المسألة فهو لإيضاح المعني فقط.
_________
(1) انظر تفسير السعدي (1/ 157).
(2) هو سيد قطب إبراهيم حسين شاذلي، ولد في قرية موشة، إحدى قري محافظة أسيوط في صعيد مصر، وكانت ولادته عا 1906م، تخرج في دار العلوم من القاهرة عام 1933م، وفي بداية شبابه كانت اهتماماته أدبية نقدية، ونظراته فلسفية عميقة وله مقالات انتقادية حادة، وكان تلميذا أدبيا للعقاد، درس القرآن دراسة أدبية وخرج بكتابه (التصوير الفني في القرآن) وانتظم للإخوان المسلمين بمصر بعد وفاة مؤسسها، وأعدمه جمال عبد الناصر في مساء يوم الأحد 28/ 8/1966م لكونه من الساعين لتحكيم شرع الله وترك خلفه مؤلفات ومن أشهرها ظلال القرآن، انظر ترجمته (سيد قطب الشهيد الحي لصلاح الخالدي: 51: مجلة المسلمون عدد 11 تاريخ 13 ربيع الأول 1402هـ، وموافق 18/ 1/1982م ص 12).
(3) انظر في ظلال القرآن (1/ 131).(1/20)
1 - ذكر الإمام الطبري أقوال العلماء في الصلاة الوسطى، وأطال في ذكر أدلة من قال: إن الصلاة الوسطي هي العصر، ثم قال بعد أن رجح أن الصلاة الوسطي هي العصر: وإنما قيل لها الوسطي: لتوسطها الصلوات المكتوبة الخمس، وذلك أن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين، وهي بين ذلك وسطاهن والوسطي: الفعلي من قول القائل: وسطت القوم أوسطهم (وسطة) ووسوطا، إذا دخلت وسطهم، ويقال للذكر فيه: هو أوسطنا، وللأنثى: هي وسطانا (1).
وعندما ذكر من قال: إن الوسطي هي صلاة المغرب، عقب الطبري على هذا القول وقال: إن أصحابه وجهواقوله: (الوسطى) إلى معنى التوسط، الذي يكون صفة للشيء يكون عدلا بين الأمرين، كالرجل المعتدل القامة، الذي لا يكون مفرطا طوله، ولا قصيرة قامته، ولذلك قال: ألا ترى أنها ليست بأقلها ولا أكثرها، والذين ذهبوا إلى أن الصلاة الوسطي هي المغرب، قالوا: ألا ترى أنها ليست بأقلها ولا أكثرها، ولا تقتصر في السفر وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يؤخرها عن وقتها ولم يعجلها (2).
2 - وجه ابن الجوزي (3) أقوال العلماء في المراد بالصلاة الوسطي قائلا: وفي المراد بالوسطي ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها أوسط الصلوات محلا.
والثاني: أوسطها مقدارا.
والثالث: أفضلها.
ووسط الشيء خيره وأعدله، ومنه قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) [البقرة: 143].
_________
(1) انظر: تفسير الطبري: (2/ 567).
(2) نفس المصدر (2/ 564).
(3) هو العلامة أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي القرشي البغدادي الحنبلي صاحب المصنفات الكبار، التي تبلغ نحو ثلاث مائة مصنف في الحديث والوعظ والتفسير والتاريخ وغيرها، توفى رحمه الله سنة 597هـ، (انظر: البداية والنهاية 13/ 28 - 30، ومقدمة كتابه الموضوعات 1/ 21).(1/21)
فإن قلنا إن الوسطي بمعنى الفضلي، جاز أن يدعي هذا كل ذي مذهب فيها، وإن قلنا: إنها أوسطها مقدارا، فهي المغرب، لأن أقل المفروضات ركعتان، وأكثرها أربعا، وإن قلنا: إنها أوسطها محلا، فللقائلين: إنها العصر أن يقولوا: قبلها صلاتان في النهار، وبعدها صلاتان في الليل، فهي الوسطي.
ومن قال هي الفجر، قال عكرمة (1): هي وسط بين الليل والنهار، ومن قال هي الظهر، قال: هي وسط النهار فأما من قال: هي المغرب، فاحتج بأن أول صلاة فرضت الظهر، فصارت المغرب وسطى ومن قال: هي العشاء، فإنه قال: هي بين صلاتين لا تقصران (2)، ومن خلال ما ذكرنا يتأكد ارتباط كل قول بمعنى الوسط في ضوء المعاني التي سبق بيانها.
3 - وقال القاسمي (3) في تفسيره: (الصلاة الوسطي: أي الوسطي بين الصلوات، بمعنى المتوسطة، أو الفضلى منها، من قولهم للأفضل: الأوسط.
فعلى الأولى يكون الأمر لصلاة متوسطة بين صلاتين، وهل هي: الصبح، أو الظهر، أو العصر، أو المغرب، أو العشاء، أقوال مأثورة عن الصحابة والتابعين.
وعلى الثاني: فهي صلاة الفطر أو الأضحى أو الجماعة أو صلاة الخوف أو الجمعة أو المتوسطة بين الطول والقصر، أقوال أيضًا عن كثير من الأعلام.
ثم قال: سنح لي -عرض لي- وقوي بعد تمعن احتمال قوله تعالى: (وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى) بعد قوله: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ) لأن يكون إرشادًا وأمرًا بالمحافظة على أداء الصلاة أداء متوسطًا، لا طويلا، ولا مملا، ولا قصيرًا مخلا،
_________
(1) هو الإمام التابعي مولى ابن عباس عكرمة بن عبد الله أبو عبد الله البربري ثم المدني، أحد الأعلام المفسرين الكبير، كان كثير التنقل في الأقاليم، وكانت الأمراء تكرمه وتصله توفى سنة 107هـ، وقيل: 106هـ، انظر: ترجمته في العبر (1/ 100) والبداية والنهاية: (9/ 244 - 250).
(2) انظر: زاد المسير لابن الجوزي (1/ 283).
(3) هو محمد جمال الدين أبو الفرج بن محمد سعيد بن قاسم بن صالح بن إسماعيل بن أبي بكر، المعروف بالقاسمي، الفقيه الأصولي المفسر المحدث، الأديب المتقن، من أعلام الشام ولد عام ثلاث وثمانين ومائتين وألف، وتوفى في سنة 1332هـ، انظر ترجمته في مقدمة كتابه قواعد التحديث: (11).(1/22)
أي: والصلاة المتوسطة بين الطول والقصر، ويؤيده الأحاديث المروية عنه -صلى الله عليه وسلم- في ذلك قولا وفعلا.
ثم مر بي في القاموس حكاية هذا قولا، حيث ساق في مادة (وسط) الأقوال في الآية، ومنها قوله: أو المتوسطة بين الطول والقصر، قال شارحه الزبيدي (1)، وهذا القول رده أبو حيان (2) في البحر المحيط، ثم سنح لي احتمال وجه آخر، وهو أن يكون قوله: (وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى) أريد بها وصف الصلاة المأمور بالمحافظة عليها بأنها فضلى، أي ذات فضل عظيم عند الله، فالوسطي بمعني الفضلى من قوله للأفضل الأوسط (3).
4 - أما محمد رشيد رضا -رحمه الله- فقال: (والصلاة الوسطي هي إحدى الخمس، والوسطي مؤنث الأوسط ويستعمل بمعنى التوسط بين شيئين أو أشياء لها طرفان متساويان، وبمعني الأفضل، وبكل من المعنيين قال قائلون، ولذلك اختلفوا في أي الصلوات أفضل، وأيتها المتوسطة) (4).
5 - وأما ابن عاشور (5) -رحمه الله- قال: (فأما الذين تعلقوا بالاستدلال بوصف الوسطي فمنهم من حاول جعل الوصف من الوسطي بمعنى الخيار والفضل، فرجع إلى تتبع ما ورد في تفضيل بعض الصلوات على بعض، ومنهم من حاول جعل الوصف من الوسط، وهو الواقع بين جانبين متساويين من العدد، فذهب يتطلب الصلاة التي هي بين صلاتين من كل جانب وبهذا التفسير لمعنى (الوسطى) من أقوال
_________
(1) هو محمد بن محمد بن مرتضي، لغوي محدث كثير التصانيف من أجودها، تاج العروس شرح القاموس، توفى سنة 1205هـ، انظر: الأعلام (8/ 70).
(2) هو أبو عبد الله محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان الأندلسي الغرناطي لغوي ومفسر له في التفسير (البحر المحيط) ولد سنة 654هـ، مات 745هـ. انظر ترجمته في القول المختصر المبين في مناهج المفسرين: (37).
(3) انظر: تفسير القاسمي: (3/ 622 - 326).
(4) انظر تفسير المنار: (2/ 437).
(5) هو محمد بن الطاهر بن عاشور ولد بتونس سنة 1879م، وكان من كبار علماء الزيتونة له مؤلفات كثير من أشهرها التحرير والتنوير في التفسير وله تلاميذ كثيرون من أشهرهم العلامة عبد الحميد بن باديس الجزائري، توفى سنة 1973م، انظر (عبد الحميد بن باديس العالم الرباني والزعيم السياسي: 32).(1/23)
المفسرين المتقدم نلاحظ: الارتباط بين هذه الكلمة وموضوع الوسطية الذي هو مدار هذا البحث، سواء أكانت بمعنى التوسط بين شيئين أم بمعنى الخيار الأفضل، وسيأتي مزيد بيان لهذه القضية إن شاء الله - بعد عرض جميع الآيات.
ثالثاً: كلمة (أوسط):
وقد وردت هذه الكلمة في آيتين: الأولى في قوله تعالى: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) [المائدة: 89]، والثانية في سورة القلم في قوله تعالى: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ) [القلم: 28].
وقد ذكر المفسرون معنى كل كلمة في مواضعها، فمنهم من جعل معناهما واحدًا، ومنهم من فرق بين مدلوليهما، وإليك تفصيل ذلك:
الأولى: آية سورة المائدة:
1 - قال الطبري: يعني تعالى ذكره بقوله: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) أعدله، قال عطاء (1) -رحمه الله- أوسطه: أعدله.
وقال بعضهم: معناه: من أوسط ما يطعم من أجناس الطعام الذي يقتاته أهل بلد المكفر أهليهم، ومن ذلك قول ابن عمر (2) من أوسط ما يطعم أهله الخبز والتمر، والخبز والسمن، والخبز والزيت، ومن أفضل ما يطعمهم: الخبز واللحم.
وقال آخرون: من أوسط ما يطعم المفكر أهله، قال إن كان ممن يشبع أهله أشبع المساكين العشرة، وإن كان ممن لا يشبعهم لعجزه عن ذلك أطعم المساكين على قدر
_________
(1) هو الفقيه الكبير والتابعي الجليل عطاء بن أبي رباح، أسلم القرشي أبو محمد مولى قريش فقيه أهل الحجاز، من أفضل زمانه، ومن أحسن الناس صلاة وأدومهم ذكرا، روى عن ابن عباس، وعبد الله بن عمرو، وكان ثقة كثير الحديث، توفى سنة 114هـ، انظر: العبرى (1/ 108) سير أعلام النبلاء: (5/ 78) تهذيب التهذيب (7/ 199).
(2) هو عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي القرشي ثاني المكثرين ي الرواية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو ابن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، وشقيق السيدة حفصة أم المؤمنين وأحد العبادلة الأربعة المشهورين بالإفتاء وكان الزهري لا يعدل برأيه أحدًا، توفى رحمه الله عام 73هـ، انظر: الإصابة رقم (4825).(1/24)
ما يفعل من ذلك في عسر ويسره، ثم عقب الطبري على ذلك بقوله: (وأولى الأقوال عندنا قول من قال: من أوسط ما تطعمون أهليكم في القلة والكثرة) (1).
2 - وقال ابن الجوزي:
في قوله: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) قولان:
أحدهما: من أوسطه في القدر، قاله عمر (2)، وعلي (3).
الثاني: من أوسط أجناس الطعام، قاله ابن عمر، وعبيدة (4)، والحسن (5)، وابن سيرين (6)، رحمهم الله جميعًا.
3 - وقال القرطبي (7) -رحمه الله-:
تقدم في سورة البقرة أن الوسط بمعنى الأعلى والخيار، وهو هنا بمنزلة بين المنزلتين، ونصفا بين طرفين.
وعن ابن عباس (8)، قال: كان الرجل يقوت أهله قوتا فيه سعة، وكان
_________
(1) انظر: تفسير الطبري (7/ 16 - 22).
(2) هو عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزي بن رباح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عبدي بن كعب بن لؤي بن غالب، كان إسلامه فتحا، وهجرته نصرًا، وإمارته رحمة، توفى سنة 23هـ (أنظر: الطبقات الكبرى 3/ 265).
(3) هو علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هشام بن عبد مناف القرشي ابن عم النبي -صلى الله عليه وسلم- وزوج ابنته فاطمة ورابع الخلفاء الراشدين، توفى سنة 40 هـ، (انظر: الاستيعاب على حاشية الأصحاب 3/ 26 - 67).
(4) هو عبيدة السلماني المرادي الكوفي الفقيه المفتي، أسلم في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولقي عليا وابن مسعود، قال فيه الشعبي: كان يوازي شريحا في القضاء، (انظر: ترجمته في شذرات الذهب: 1/ 78 - 79).
(5) هو الحسن بن أبي الحسن البصري نشأ بالمدينة، وحفظ القرآن، وسمع عثمان يخطب مرارًا ولازم الجهاد والعلم والعمل وكان من الشجعان الموصوفين، ومن العباد المشهورين، توفى سنة 110 عن ثمان وثمانين سنة: انظر ترجمته (تذكرة الحفاظ للذهبي: 1/ 71).
(6) هو الإمام الرباني محمد بن سيرين مولى أنس بن مالك ولد في خلافة عثمان بن عفان وسمع جمعا من الصحابة، كان فقيها إماما غزير العلم ثقة ثبتا علامة في التعبير - أي تعبير الرؤيا- رأسا في الورع، كان وفاته بعد وفاة الحسن البصري بوقت يسير في سنة 110هـ، انظر ترجمته في تذكرة الحفاظ، للذهبي (1/ 77).
(7) هو الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر الأنصاري القرطبي، تفقه على مذهب مالك، واعتنى بتفسير القرآن الكريم، توفى -رحمه الله- بمصر في سنة 671هـ، وله مصنفات منها الجامع لأحكام القرآن، والتذكار في أفضل الأذكار، والتذكرة، انظر ترجمته في الديباج المذهب لابن فرحون (317 - 318).
(8) هو الصحابي الجليل عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي -صلى الله عليه وسلم-، حبر الأمة، وترجمان القرآن، ولد بشعب أبي طالب قبل الهجرة بثلاث سنوات، وقيل: بخمس، ويعد من علماء الصحابة ومفتيهم -رضي الله عنهم- أجمعين، توفى بالطائف سنة 68 من الهجرة، الاستيعاب لابن عبد البر (3/ 933 - 939).(1/25)
يقوت أهله قوتا فيه شدة، فنزلت: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) [المائدة: 89]، وهذا يدل على أن الوسط ما ذكرناه، وهو ما كان بين شيئين (1).
4 - وقال الزمخشري (2) -رحمه الله-: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) من أقصده، لأن منهم من يسرف في إطعام أهله، ومنهم من يقتر (3).
5 - وقال سيد قطب -رحمه الله- في ظلال القرآن: (وأوسط تحتمل من أحسن، أو من متوسط، فكلاهما من معاني اللفظ، وكان الجمع بينهما لا يخرج عن القصد، لأن المتوسط هو الأحسن، فالوسط هو الأحسن في ميزان الإسلام (4).
الثانية: آية سورة القلم:
1 - قال الطبري -رحمه الله-: وقوله: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ) [القلم: 28]، يعني أعدلهم وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، قال ابن عباس: أوسطهم: أعدلهم، وبمثل ذلك قال مجاهد، وسعيد بن المسيب (5)، رحمهم الله تعالى.
وقال قتادة (6) -رحمه الله-: (أي أعدلهم قولا، وكان أسرع القوم فزعًا، وأحسنهم رجعة (7).
2 - وقال اقرطبي: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ) أي: أمثلهم وأعدلهم وأعقلهم) (8).
_________
(1) انظر: تفسير القرطبي: (6/ 276).
(2) هو أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد الخوارزمي الحنفي المعتزلي الملقب بجار الله، حجة في البلاغة، ومن أئمة اللغة له تفسير يسمي: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، ولد عام 467هـ، وتوفى عام 538هـ، انظر ترجمته في الميزان: 4/ 78، تذكرة الحفاظ (4/ 1283).
(3) انظر: الكشاف للزمخشري (1/ 640).
(4) انظر: في ظلال القرآن (2/ 971).
(5) هو إمام التابعين أبو محمد سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب المخزومي القرشي سيد التابعين وأعلمهم، كان من العباد والزهاد، لا يخالط السلاطين ولا يداخلهم، وقصته مع آل مروان مشهورة، كان من أحفظ الناس لأحكام عمر وأقضيته، حتى سمي رواية عمر، توفى في المدينة سنة 94 هـ. العبر: (1/ 82)، وسير أعلام النبلاء (4/ 117).
(6) هو الحافظ المفسير قتادة بن دعامة بن عكابة السدوسي حافظ عصره قدوة المفسرين والمحدثين كان من أوعية العلم، ومن يضرب به المثل في الحفظ، وروى عن أنس وابن المسيب والحسن، وابن سيرين وخلق، توفى سنة 128 هـ (سير أعلام النبلاء 5/ 269، والعبر 1/ 112).
(7) انظر: تفسير الطبري (29/ 34).
(8) انظر: القرطبي: (18/ 244).(1/26)
3 - وقال ابن كثير (1): (قَالَ أَوْسَطُهُمْ)، قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير (2) وعكرمة وقتادة: أعدلهم وخيرهم (3).
4 - وقال ابن الجوزي: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ) أي أعدلهم وأفضلهم (4).
5 - وقال القاسمي: (أي: أعدلهم وخيرهم رأيا) (5).
مما سبق ذكره من أقوال المفسرين اتضح أن كلمة (أوسط) في آية المائدة فسرت على عدة أوجه وبعدة معاني، منها: الأفضل، وبين القليل والكثير، وبين الجيد والرديء، أو الشدة والسعة، أما آية القلم فاتفق المفسرون على تفسيرها بمعنى الأفضل والخيار وهو الأعدل.
رابعًا: كلمة (فوسطن):
وردت في قوله تعالى: (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا) [العاديات: 5].
وقد ذكر المفسرون أن معناها من التوسط في المكان، وهذه جملة من أقوالهم:
1 - قال الطبري -رحمه الله-: (يقول تعالى ذكره: فوسطن بركبانهن جمع القوم، يقال: وسطت القوم - بالتخفيف-، ووسطته بالتشديد، وتوسطته بمعنى واحد (6).
_________
(1) هو عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي الشافعي الإمام الحافظ المؤرخ صاحب تفسير القرآن العظيم، الذي حاز المرتبة الثانية في التفسير بالمأثور بعد تفسير الطبري، ولد عام 701 هـ، توفى عام 774هـ، انظر ترجمته طبقات المفسرين للداروردي: (1/ 111 - 113).
(2) هو الفقيه، المقرئ الناسك، سعيد بن جبير الأسدي الكوفي، ويكني أبا عبد الله، كان سفيان الثوري يقدمه على إبراهيم النخعي ويقول: خذوا التفسير عن أربعة: عن سعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك، قتله الحجاج سنة 95 هـ لخروجه مع ابن الأشعث وقال ميمون بن مهران: مات سعيد بن جبير وما على ظهر الأرض رجل إلا محتاج إلى علمه، انظر ترجمته في طبقات ابن سعد: (6/ 178)، وتهذيب التهذيب (4/ 11).
(3) انظر: تفسير ابن كثير (4/ 406).
(4) انظر: زاد المسير (8/ 338).
(5) انظر: تفسير القاسمي (16/ 590).
(6) انظر: تفسير الطبري (3/ 286).(1/27)
2 - وقال ابن الجوزي -رحمه الله-: (وقال ابن مسعود: (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا)، يعني مزدلفة) (1).
3 - وقال القرطبي -رحمه الله-: (جمعا) مفعول به (فوسطن) أي فوسطن بركبانهم العدو يقال: وسطت القوم أوسطهم وسطا وسطه أي -صرت وسطهم يقال: وسطت القوم - بالتشديد والتخفيف - وتوسطتهم بمعنى واحد، وقيل: معنى التشديد: جعلها الجمع قسمين، والتخفيف: صرن وسط الجمع (2).
4 - وقال القاسمي -رحمه الله-: (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا) أي فتوسطن ودخلن في وسط جمع الأعداء ففقرته وشتته، يقال: وسطت القوم -بالتخفيف- ووسطته بالتشديد وتوسطته بمعنى واحد (3).
5 - قال سيد قطب -رحمه الله-: (وهي تتوسط صفوف الأعداء على غرة، فتوقع بينهم الفوضى والاضطراب (4).
ومما سبق ذكره اتضح أن معناها التوسط والوسط، ومن المفيد أن أذكر أحاديث نبوية في بيان معنى الوسط، ذلك لأن السنة النبوية شارحة للقرآن الكريم ومبينة له، ومن ثم نبين علاقة ذلك بالوسطية التي هي موضوع بحثنا وذلك يعطينا فهما دقيقا على مدلول مصطلح الوسطية.
1 - عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يدعي نوح يوم القيامة، فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فقال لأمته: هل بلغكم؟ فيشهدون ما أتانا من نذير: فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيشهدون أنه قد بلغ". (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا).
_________
(1) انظر: زاد المسير (6/ 209).
(2) انظر: تفسير القرطبي (20/ 160).
(3) انظر: تفسير القاسمي (17/ 6237).
(4) انظر: في ظلال القرآن (6/ 3958).(1/28)
فذلك قوله - جل ذكره-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) والوسط العدل (1).
والمراد بهذا الحديث واضح، وهو أن الوسط فسر هنا بالعدل، وهو المقابل للظلم، حيث إن أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، شهدوا بما علموا، (وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا) [يوسف: 81] وهو الحق، فلم تكن شهادتهم لهوى مع نوح -عليه السلام- وحاشاهم من ذلك- ولم يشهدوا مع قوم نوح بالباطل، وأني لهم ذلك، وهذا هو العدل؛ لأن الظلم له طرفان والعدل وسط بينهما، فالشهادة مع أحد الخصمين بدون حق ظلم والشهادة بالحق دون النظر لصاحبه عدل، فأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- ممن قال الله فيهم (وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [الأعراف: 181].
2 - روى الترمذي (2) -رحمه الله-: (قال لما نزل قوله تعالى: (الم * غُلِبَتِ الرُّومُ
* فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ *فِي بِضْعِ سِنِينَ) [الروم: 1 - 4]، خرج أبو بكر الصديق (3) يصيح في نواحي مكة: (الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ *فِي بِضْعِ سِنِينَ) قال ناس من قريش لأبي بكر: فذلك بيننا وبينك، زعم صاحبك أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين، أفلا نراهنك على ذلك؟! قال: بلى وذلك قبل تحريم الرهان - فارتهن أبو بكر -رضي الله عنه- والمشركون، وتواضع الرهان، وقالوا لأبي بكر: كم تجعل البضع ثلاث سنين إلى تسع سنين، فسم بيننا وبينك وسطا تنتهي إليه، فسموا بينهم ست سنين) (4)، والست هنا هي الوسط بين ثلاث وتسع، فقبلها وبعدها ثلاث.
_________
(1) صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب (وكذلك ... ) (5/ 186 رقم 4487).
(2) أبو عيسي محمد بن عيسي بن سورة السلمي الترمذي، ولد بترمذ سنة 209، وهو مؤلف كتاب في الحديث من الكتب الستة اسمه الجامع على أبواب الفقه واشتمل على الصحيح والحسن والضعيف وشرحه كثير من العلماء، توفى عام 279 هـ، انظر ترجمته في الميزان (1/ 117).
(3) هو عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم، يلقب بالعتيق، ويكني بأبي بكر ويعرف بالصديق وأعماله مشهورة، وغني عن التعريف، توفى عام 11 هـ، انظر ترجمته في الطبقات الكبرى لابن سعد (3/ 169).
(4) أخرجه الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب 31، (5/ 321 رقم 321).(1/29)
3 - عن عبد الله بن معاوية الغاضري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاث من فعلهن فقد طعم طعم الإيمان، من عبد الله وحده، وعلم أنه لا إله إلا الله، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه، رافدة عليه كل عام، ولم يعط الهرمة، ولا الدرنة، ولا المريضة ولا الشرط اللئيمة، ولكن من وسط أموالكم، فإن الله لم يسألكم خيره، ولم يأمركم بشره" (1).
والوسط هنا ما بين أجود الغنم وبين السيئ والمعيب، وهو مثل قوله تعالى: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) [المائدة: 89].
4 - عن جابر بن عبد الله (2) -رضي الله عنه- قال: (كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فخط خطا، وخط خطين عن يمينه، ثم تلا هذه الآية: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) [الأنعام: 153].
والوسط هنا: هو الشيء بين الشيئين، متوسط بينهما ونجد بيان هذا الصراط في الحديث الآتي: عن النواس بن النعمان (3) -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعلى كنفي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى الصراط داع يدعو يقول: يا أيها الناس اسلكوا الصراط جميعا، ولا تعرجوا، وداع يدعو على الصراط، فإذا أراد أحدكم فتح شيء من تلك الأبواب قال: ويلك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه، فالصراط الإسلام والستور حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، والداعي الذي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوقه واعظ الله يذكر في قلب كل مسلم" (4).
_________
(1) سلسلة الأحاديث الصحيحة للشي الألباني -رحمه الله- (3/ 38 رقم 1046).
(2) هو جابر بن عبد الله بن عمرو الأنصاري السلمي، من أهل بيعة الرضوان، شهد مع النبي -صلى الله عليه وسلم- تسع عشرة غزوة، وحمل علما كثيرا، مات -رضي الله عنه- سنة ثمان وسبعين، وقيل غير ذلك، انظر: الاستيعاب (2/ 109 - 110).
(3) هو الصحابي النواس بن سمعان بن خالد بن عمرو بن قرط بن عبد الله العامري الكلابي الأنصاري، له ولأبيه صحبة، وتزوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أخته، فلما دخل بها تعوذت منه فتركها، سكن -رضي الله عنه- الشام، الإصابة (3/ 549) وتهذيب التهذيب (1/ 480 - 481).
(4) أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب الإيمان (1/ 145) رقم (245) وقال: صيح على شرط مسلم، ولا أعرف له علة، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.(1/30)
5 - وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة أو أعلى الجنة" (1).
قال الحافظ بن حجر (2) -رحمه الله-: (أوسط الجنة أو أعلى الجنة، والمراد بالأوسط هنا: الأعدل والأفضل، كقوله تعالى: (كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) (3).
6 - وقال -صلى الله عليه وسلم-: "البركة تنزل في وسط الطعام، فكلوا من حافتيه ولا تأكلوا من وسطه" (4).
والوسط هنا: أشبه ما يكون بمركز الدائرة ومنتصفها أي: هي نقطة الالتقاء بين أطراف متساوية.
7 - وعن عبد الله بن مسعود (5) -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خط خطًا مربعا، وخط وسط الخط المربع، وخطوطا إلى جانب الخط الذي وسط الخط المربع، وخطا خارجا من الخط المربع، فقال: أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "هذا الإنسان الخط الأوسط، وهذه الخطوط إلى انبه الأعراض تنهشه" (6).
والوسط هنا: هو ما كان بين عدة أطراف والمسافة بينه وبين كل طرف متساوية.
8 - وقال -صلى الله عليه وسلم-: "وسطوا الإمام وسدوا الخلل" (7). أي اجعلوه وسط الصف - في منتصفه - من أمامه، بحيث يكون طرفا الصف متساويين بالنسبة لموقف الإمام.
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب درجات المجاهدين (3/ 266)، رقم الحديث (279).
(2) هو أحمد بن علي بن محمد الكناني العسقلاني أبو الفضل شهاب الدين، من أئمة العلم ومن أشهر العلماء أصله من عسقلان بفلسطين وولد في القاهرة عام 773هـ، وأقبل على الحديث ورحل في طلب العلم حتى أصبح حافظ الإسلام في عصره، ولي القضاء في مصر، ثم اعتزل. توفى بالقاهرة سنة 852هـ، انظر الأعلام (1/ 78 - 179) والضوء اللامع (1/ 36).
(3) فتح الباري، كتاب الجهاد والسير، باب درجات المجاهدين (6/ 16).
(4) رواه الترمذي، كتاب الأطعمة، باب ما جاء في كراهية الأكل في وسط (4/ 229 رقم 1805).
(5) هو عبد الله بن مسعود أبو عبد الرحمن، أسلما قديما، وهاجر الهجرتين وشهد بدرًا والمشاهد كلها، مات -رضي الله عنه- سنة اثنتين وثلاثين: انظر الحلية (1/ 124) صفة الصفوة (1/ 395).
(6) أخرجه ابن ماجه، كتاب الزهد، باب الأمل والأجل (2/ 4231 رقم 4231).
(7) سنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب مقام الإمام من الصف (1/ 182، رقم 681) وضعفه الشيخ الألباني.(1/31)
9 - وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لعن الله من جلس وسط الحلقة" (1) وهو الذي يجلس في وسط الحلقة، ولو لم يكن في منتصفها تماما وأن من جلس في داخلها بعيدا عن أطرافها فهو في وسطها.
10 - وقال -صلى الله عليه وسلم-: "أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان محقا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه" (2). والوسط هنا ما كان بين الربض والأعلى.
11 - وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لأن أمشي على جمرة أو سيف أو أخصف نعلي برجلي أحب إلي من أن أمشي على قبر مسلم، وما أبالي أوسط القبر قضيت حاجتي أو وسط السوق" (3)، والمراد بالوسط هنا الوسط المكاني.
12 - وقال -صلى الله عليه وسلم-: " ليس للنساء وسط الطريق" (4) ومعنى الوسط كما في الحديث الذي سبقه من الوسط المكاني، وهو ما كان بين الشيئين وهو منه، لأن المشروع في حق المرأة أن تكون بجانب الطريق لا في وسطه، لما يحدث من فتنة بسبب بروزها وتعرضها للرجال.
هذه بعض الأحاديث التي وردت وفيها لفظ (الوسط)، ومعناه، ومنها ما يدل على معني الوسطية، ومنها ما ليس كذلك، إذ لا تلازم بين الوسط والوسطية، فكل وسطية هي وسط، ولا يلزم من كل وسط أن يكون دليلا على الوسطية، فقد يكون من الوسط المكاني أو الزماني ونحوه، كما سيأتي بيانه - إن شاء الله-.
_________
(1) أخرجه الترمذي كتاب الأدب، باب ما جاء في كراهية القعود في وسط الحلقة (5/ 84 رقم 2753).
(2) أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في حسن الخلق (4/ 253 رقم 4800).
(3) أخرجه ابن ماجه، كتاب الجنائز، باب النهي على المشي على القبور (4/ 499، رقم 1567)، إرواء الغليل، رقم (63).
(4) سلسلة الأحاديث الصحيحة للشيخ الألباني (2/ 536 رقم 856).(1/32)
المبحث الثالث تحرير معني الوسطية
من خلال ما سبق اتضح لنا أن كلمة (وسط) تستعمل في معان عدة أهمها:
1 - بمعنى الخيار والأفضل والعدل.
2 - قد ترد لما بين شيئين فاضلين.
3 - وتستعمل لما كان بين شيئين وهو خير.
4 - وتستعمل لما كان بين الجيد والرديء، والخير والشر.
5 - وقد تطلق على ما كان بين شيئين حسا، كوسط الطريق، ووسط العصا، وقد تأتي لمعان أخرى قريبة من هذه المعاني والمهم -هنا- متى يطلق لفظ (الوسطية) بل على ماذا يطلق هذا المصطلح؟ فهناك من جعل مصطلح الوسطية مرادفا للفظ الخيرية، ولو لم يكن بين شيئين حسا أو معنى.
قال فريد عبد القادر: ومن جملة ما سبق بيانه نستطيع أن نستخلص تعريفا خاصا محدد للوسطية، فنقول: بأن الوسطية هي: مؤهل الأمة الإسلامية من العدالة، والخيرية للقيام بالشهادة على العالمين، وإقامة الحجة عليهم ثم قال: أما ما شاع عند الناس وانتشر من الوقوف عند أصل دلالتها اللغوية، أي التوسط بين طرفين، مهما كان موضوع هذا الوسط -الذي تم اختياره- من صراط الله المستقيم، التزاما وانحرافا، فليس بمفهوم صحيح وفق ما تبينه الآيات والأحاديث (1).
ويؤكد هذا المعني في محل آخر فيقول: ولا يلزم لكل ما يعتبر وسطا في الاصطلاح أن يكون له طرفان، فالعدل وسط ولا يقابله إلا الظلم، والصدق وسط ولا يقابله إلا الكذب (2).
_________
(1) انظر الوسطية في الإسلام (29).
(2) نفس المصدر (33).(1/33)
وهناك من جعل (الوسطية) من التوسط بين الشيئين دون النظر إلى معنى الخيرية التي دل عليها الشرع.
قال الأستاذ فريد عبد القادر: (وقد شاع كذلك عند كثير من الناس استعمال هذا الاصطلاح الرباني، استعمالا فضفاضا يلبس أي وضع أو عرف أو مسلك أرادوه، حتى أصبحت الوسطية في مفهومهم تعني التساهل والتنازل.
وما ذكره الأستاذ فريد في تعريفه للوسطية، وكذلك ما نقله عن غيره ففيه نظر، ويتضح ذلك فيما سيأتي: لأن المتأمل في ما ورد في القرآن والسنة والمأثور من كلام العرب فيما أطلق وأريد به مصطلح الوسطية يتضح له أن هذا المصطلح لا يصح إطلاقه إلا إذا توفرت فيه صفتان:
1 - الخيرية: أو ما يدل عليها كالأفضل والأعدل أو العدل.
2 - البينية: سواء أكانت حسية أو معنوية.
فإذا جاء أحد الوصفين دون الآخر فلا يكون داخلا في مصطلح الوسطية، والقول بأن الوسطية ملازمة للخيرية -أي أن كل أمر يوصف بالخيرية فهو (وسط) - فيه نظر، والعكس هو الصحيح، فكل وسطية تلازمها الخيرية، فلا وسطية بدون خيرية، ولا عكس فلا بد مع الخيرية من البينة حتى تكون وسطا.
وكذلك البينية - أيضًا- فليس كل شيئين أو أشياء يعتبر وسيطا وإن كان وسطا، فقد يكون التوسط حسيا أو معنويا، ولا يلزم بالوسطية كوسط الزمان أو المكان أو الهيئية ونحو ذلك؛ ولكن كل أمر يوصف بالوسطية فلابد أن يكون بينيا حسا أو معنى.
ومن هنا نخلص إلى أن أي أمر اتصف بالخيرية والبينية جميعا فهو الذي يصح أن نطلق عليه وصف: الوسطية، وما عدا ذلك فلا، وإلى هذا الرأي ذهب الدكتور ناصر بن سليمان العمر في كتابه الوسطية في ضوء القرآن (1).
_________
(1) انظر الوسطية في ضوء القرآن (41 - 42).(1/34)
وإليك بعض الأمثلة توضح ما ذهبت إليه:
1 - جاء وصف هذه الأمة بالوسطية في قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) [البقرة: 143]، وصح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه فسر الوسط بالعدل (1).
وفي رواية: عدولا (2) والمعنى واحد.
2 - وإذا نظرنا في تفسيرها بمعني العدل وجدناه يتضمن معنى الخيرية، والعدل كذلك يقابله الظلم، والظلم له طرفان، فإذا مال الحاكم إلى أحد الخصمين فقد ظلم، والعدل وسط بينهما، دون حيف إلى أي منهما (3).
3 - وما رواه أبو داود (4) قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاث من فعلهن فقد طعم طعم الإيمان، من عبد الله وحده، وعلم أنه لا إله إلا الله، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه، رافدة عليه كل عام، ولم يعط الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة، ولا الشرط اللئيمة ولكن من وسط أموالكم، فإن الله لم يسألكم خيره، ولم يأمركم بشره" (5).
وهنا نجد أن الوسطية واضحة في هذا الحديث النبوي، فالبينية صريحة في الحديث، أما الخيرية فهي ظاهرة بالتأمل من خلال ما يلي:
1 - أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بذلك دليل على هذه الخيرية فلا يأمر -صلى الله عليه وسلم- إلا بخير: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) [الأعراف: 29]، وهل أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلا شرع من الله يوحي إليه.
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب: وكذلك جعلناكم أمة وسطا، (5/ 176، رقم 4487).
(2) انظر: تفسير الطبري (2/ 7).
(3) أخرجه الترمذي كتاب تفسير القرآن، باب (3) من سورة البقرة (5/ 190، 2961).
(4) هو سليمان بن الأشعث بن إسحاق الأسدي السجستاني ولد سنة 202، قال فيه الحاكم أبو عبد الله: كان أبو داود إمام أهل الحديث في عصره بلا مدافعة، وكانت وفاته بالبصرة عام 275، وهو من أصحاب الكتب الستة، وقد شرحت سنن أبو داود، ومن أشهرها عون المعبود، انظر: السنة ومكانتها في التشريع (451).
(5) أخرجه أبو داود، كتاب الزكاة، باب زكاة السائمة (2/ 103)، رقم الحديث (1982)، صححه الألباني -رحمه الله- في السلسلة الصحيحة (1046).(1/35)
2 - أننا عندما نريد أن ن ستخرج معنى الخيرية في السمينة السليمة الأفضل مما هو من أجود الأغنام وأغلاها.
وإذا نظرنا إلى خيرية الغني - في الدنيا- قلنا إن الأسهل عليه أن يخرج الضعيفة الهزيلة ونحوها. ولكن الخيرية الكاملة أن ننظر إلى مصلحة الفقير ومصلحة الغني - صاحب المال- جميعا، دون ترجيح لإحدى المصلحتين على الأخرى، وهذه هي الوسطية، وذلك باستخراج ما بين أفضلها وأضعفها - هي الوسط- وذلك مثل قوله تعالى: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) [المائدة: 89] هنا اتضح التلازم بين الخيرية والبينية في تحقيق معني الوسطية.
روى الإمام البخاري (1) في صحيحه أن أبا بكر -رضي الله عنه- خطب يوم السقيفة، وكان مما قال يخاطب الأنصار: "ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبا ودارًا" (2) والوسطية المرادة هنا يظهر فيها معني الخيرية جليا لا لبس فيه، فأين البينية؟
فالبينية تتضح إذا علمنا ما امتازت به قريش من صفات أهلتها لأن تكون خير العرب، وهذه الصفات من الشجاعة والكرم وسائر الصفات الحميدة، هي في حقيقتها صفات اتصفوا بأفضلها، دون إفراط أو تفريط، أو غلو أو جفاء، ولذلك فقد نالوا هذه المنزلة الرفيعة من كون العرب لا تدين إلا لهم وما ذلك إلا لثقتهم في عدلهم من قبائل وأطراف متنافرة في أخلاقها، متباينة في طباعها، وذلك لخصيصة الوسطية فيهم، ويصدق فيهم قول زهير.
هم وسط يرضي الأنام بحكمهم ... إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم (3)
_________
(1) هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي مولاهم إمام المحدثين وشيخ حفاظ زمانه على الإطلاق، ولد ببخاري يوم الجمعة 13 شوال 194 هـ، وهو صاحب الكتاب العظيم في الحديث النبوي صحيح البخاري الذي اعتني به علماء الإسلام اعتناء عظيما حيث بلغ شروحه اثنين وثمانين شرحا، وله مؤلفات كثيرة في علم الجرح والتعديل، انظر ترجمته في مقدمة فتح الباري، والسنة ومكانتها في التشريع للسباعي (445).
(2) انظر: تفسير الطبري (2/ 6).
(3) انظر: الوسطية في ضوء القرآن (45/ 4 - 47).(1/36)
والعدل هو سبب قبول حكمهم، والعدل فيه صفة البينية بين نوعي الظلم، ولذلك كان وسطيا، فكذلك سائر صفاتهم وبهذا يتضح أن الخيرية والبينية -المعنية- هي التي أهلته لأن يكونوا وسطًا نسبا ودارًا.
وتأمل معني ما قاله الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله-: (قالوا إن الوسط هو العدل والخيار، وذلك أن الزيادة على المطلوب في الأمر إفراط، والنقص عنه تفريط وتقصير، فالخيار هو الوسط بين طرفي أي: المتوسط بينهما) (1).
وذهب الدكتور زيد عبد الكريم الزيد (2) في كتابة الوسطية في الإسلام إلى ما ذكرته وقررته، حيث قال:
الوسط من كل شيء أعدله، فالوسط إذن ليس مجرد كونه نقطة بين طرفين، أو وسطية جزئية، كما يقال فلان وسط في كرمه، أو وسط في دراسته ويراد أنه وسط بين الجيد والرديء، فهذا المفهوم وإن درج عند كثير من الناس، فهو فهم ناقص مجتزأ، أدى إلى إساءة فهم معنى الوسطية المقصودة.
وعلى هذا فالوسط المراد والمقصود هنا هو العدل الخيار والأفضل إلى أن قال: وبالتالي لم يبق معنى الوسطية مجرد التجاوز بين الشيئين فقط، بل أصبح ذا مدلول أعظم، ألا وهو البحث عن الحقيقة، وتحصيلها والاستفادة منها.
ثم يقول: وهو معنى يتسع ليشمل كل خصلة محمودة لها طرفان مذمومان، فإن السخاء وسط بين البخل والتبذير، والشجاعة وسط يبن الجبن والتهور، والإنسان مأمور أن يتجنب كل وصف مذموم، وكلا الطرفين هنا وصف مذموم ويبقى الخير والفضل للوسط (3).
_________
(1) انظر: تفسير المنار (2/ 4).
(2) هو زيد بن عبد الكريم الزيد من مواليد (1375هـ) بالمملكة العربية السعودية تخرج في كلية الشريعة من الرياض عام 1398 هـ، وتحصل على الماجستير من المعهد العالي للقضاء 1405هـ، وشهادة الدكتوراه عام 1407هـ، وعمل في الدعوة خارج السعودية أكثر من أربع سنوات، وتولى مناصب في الجامعة بالرياض آخرها عميد لكلية الدعوة والإعلام 1411 هـ، انظر ترجمته في كتابة الوسطية في الإسلام على آخر الغلاف.
(3) انظر: الوسطية في الإسلام (18) وما بعدها.(1/37)
ومن خلال الأمثلة السابقة اتضح لنا التلازم بين الخيرية والبينية - حسية أو معنوية- في إطلاق مصطلح (الوسطية) ولهذا فعندما استخدم هذا المصطلح في بحثي هذا فإنني أقصد به ما ينطبق عليه هذا الفهم دون سواه.(1/38)
الفصل الثاني
في أسس الوسطية
مما سبق اتضح لنا أن الوسطية لابد لها من توافر أمرين وهما: الخيرية والبينية، وإذا أردنا أن نعرف الوسطية على الوجه الدقيق، هناك أسس لا بد من بيانها، ليحدد معنى الوسطية.
وهذه الأسس هي:
1 - الغلو أو الإفراط.
2 - الجفاء أو التفريط.
3 - الصراط المستقيم.
فالصراط المستقيم، وهو وسط بين الغلو والجفاء، أو الإفراط والتفريط، كما يمثل الخيرية ويحقق معناها وبذلك يتحقق في الصراط المستقيم أمران من لوازم الوسطية، وفي هذا المبحث سأبدأ في بيان هذه الأسس مبتدئا بالغلو والإفراط، ثم الجفاء والتفرتيط، ثم أوضح معنى وحقيقة الصراط المستقيم، وبضدها تتبين الأشياء، وسأركز على تحديد معنى هذه الأسس من خلال القرآن الكريم والسنة المبينة لذلك، ثم كلام المفسرين وغيرهم من العلماء، ومن الله أستمد السداد والإعانة والتوفيق.(1/41)
المبحث الأول الغلو والإفراط
أولا: الغلو: أما الغلو فقد عرفه أهل اللغة بأنه مجاوزة الحد، فقال ابن فارس: غلو: الغين واللام والحرف المعتل أصل صحيح يدل على ارتفاع ومجاوزة قدر، يقال: غلا السعر يغلو غلاء، وذلك ارتفاعه، وغلا الرجل في الأمر غلوا، إذا جاوز حده، وغلا بسهمه غلوا إذا رمي به سهما أقصى غايته (1).
وقال الجوهري: وغلا في الأمر يغلو غلوا، أي جاوز فيه الحد (2) وقال صاحب لسان العرب: وغلا في الدين والأمر، والأمر يغلو: جاوز حده، وفي التنزيل: (لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) [النساء: 171] (3).
وقال بعضهم: غلوت في الأمر غلوًا وغلانية وغلانيا إذا جاوزت فيه الحد وأفرطت فيه وفي الحديث: "إياكم والغلو في الدين .. " (4) أي التشدد فيه ومجاوزة الحد، كالحديث الآخر: "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق".
وغلا السهم نفسه: ارتفع في ذهابه وجاوز المدى، وكله من الارتفاع والتجاوز. ويقال للشيء إذا ارتفع: قد غلا، وغلا النبت: ارتفع وعظم (5)، هذا معنى الغلو في اللغة: وقد جاءت آيتان في القرآن الكريم فيهما النهي عن الغلو بلفظه الصريح، قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ) [النساء: 171].
قال الإمام الطبري -رحمه الله-:
(لا تجاوزوا الحق في دينكم فتفرطوا فيه، وأصل الغلو في كل شيء مجاوزة حده الذي هو حده، يقال منه في الدين غلا فهو يغلو غلوا) (6).
_________
(1) مقاييس اللغة، كتاب الغبن، باب الغين واللام (4/ 387).
(2) انظر: الصحاح مادة (غلا) (6/ 2448).
(3) لسان العرب، فصل الغين، باب غلا (15/ 132).
(4) أخرجه ابن ماجه، كتاب المناسك، باب قدر حصى الرمي (2/ 1008، رقم 2029).
(5) لسان العرب، فصل الغين، باب غلا (15/ 131).
(6) انظر: تفسير الطبري (6/ 43).(1/42)
وقال ابن الجوزي -رحمه الله- في تفسير هذه الآية، والغلو: الإفراط ومجاوزة الحد ومنه غلا السعر، وقال: الغلو: مجاوزة القدر في الظلم.
وغلو النصارى في عيسى قول بعضهم: هو الله، وقول بعضهم: هو ابن الله، وقول بعضهم هو ثالث ثلاثة، وعلى قول الحسن: غلو اليهود فيه قولهم إنه لغير رشدة، وقال بعض العلماء لا تغلو في دينكم بالزيادة في التشدد فيه (1).
وقال ابن كثير: ينهي تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء وهذا كثير في النصارى، فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاها الله إياه، نقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلها من دون الله يعبدونه كما يعبدونه، بل غلوا في أتباعه وأشياعه ممن زعم أنه على دينه، فادعوا فيهم العصمة واتبعوهم في كل ما قالوه، سواء كان حقا أو باطلا أو ضلالا أو رشادًا، أو صحيحا أو كذبا ولهذا قال تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ) [التوبة: 31] (2).
أما الآية الثانية فجاءت في سورة المائدة: قال تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ) [المائدة: 77].
قال الطبري -رحمه الله-: (لا تفرطوا في القول فيما تدينون به من أمر المسيح فتجاوزوا فيه الحق إلى الباطل، فتقولوا فيه: هو الله، أو هو ابنه، ولكن قولوا هو عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه) (3).
قال ابن تيمية (4) -رحمه الله-: والنصارى أكثر غلوا في الاعتقادات والأعمال من سائر الطوائف، وإياهم نهى الله عن الغلو في القرآن (5).
_________
(1) انظر: زاد المسير (2/ 260).
(2) انظر: تفسير ابن كثير (1/ 589).
(3) انظر: تفسير الطبري (6/ 316).
(4) هو شيخ الإسلام وحافظ الدين المجتهد في الأحكام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن الخضر بن محمد بن تيمية الحراني الحنبلي، ولد بحران يوم الاثنين (10/ 3/661هـ)، وتوفى -رحمه الله- ليلية الاثنين 20 من ذي القعدة 728هـ. انظر: الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية (14).
(5) اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 289).(1/43)
ومن غلو النصارى ما ذكره الله في سورة الحديد: (ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) [الحديد: 27].
قال ابن كثير -رحمه الله-: في تفسير آية المائدة: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ) [المائدة: 77]،أي لا تجاوزوا الحد في اتباع الحق، ولا تطروا من أمرتم بتعظيمه فتبالغوا فيه حتى تخرجوه من حيز النبوة إلى مقام الإلهية، كما صنعتم في المسيح، وهو نبي من الأنبياء فجعلتموه إلها من دون الله (1).
وقد وردت بعض الأحاديث التي تنهي عن الغلو، وذكر بعضها يساعد على فهم معناه وحده:
1 - عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غداة جمع: "هلم القط لي الحصى" فلقطت له حصيات من حصى الخذف، فلما وضعهن في يده قال: "نعم بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين" (2).
قال ابن تيمية -رحمه الله-: وهذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال، وسبب هذا اللفظ العام رمي الجمار، وهو داخل فيه، مثل الرمي بالحجارة الكبار بناء على أنها أبلغ من الصغار، ثم علله بما يقتضي مجانبة هديهم، أي هدي من كان قبلنا إبعادًا عن الوقوع فيما هلكوا به، وأن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه من الهلاك (3).
2 - عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "هلك المتنطعون" قالها ثلاثًا (4).
_________
(1) انظر: تفسير ابن كثير (2/ 82).
(2) أخرجه ابن ماجه، كتاب المناسك، باب قدر حصى الرمي (2/ 1008 رقم 3029) وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- في السلسلة الصحيحة رقم (1283).
(3) انظر: تيسير العزيز الحميد (275).
(4) أخرجه مسلم، كتاب العلم، باب هلك المتنطعون (4/ 2055 رقم 2670).(1/44)
قال النووي (1): هلك المتنطعون: أي المتعمقون المغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم (2).
3 - عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقول: "لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديار" (وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) [الحديد: 27] (3).
4 - وعن أبي هريرة (4) -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة" (5).
قال ابن حجر -رحمه الله-: والمعنى لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب (6).
قال ابن رجب (7) -رحمه الله-: والتسديد العمل بالسداد، وهو القصد والتوسط في العبادة، فلا يقصر فيما أمر به، ولا يتحمل منها ما لا يطيقه (8).
_________
(1) هو الإمام محيي الدين أبو زكريا يحيي بن شرف بن مري الحوراني الشافعي، ولد -رحمه الله- في سنة 631 هـ، بنوي، عاش حياته مجدًا في طلب العلم وتعليمه، وتصنيف الكتب والمؤلفات الجليلة النافعة، وكان -رحمه الله- مثالا في الصلاح والورع، وله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مواقف محمودة، توفى عام 676هـ، انظر ترجمته في طبقات الشافعية لابن هداية الله (89).
(2) مسلم مع شرح النووي، كتاب العلم، باب النهي عن اتباع متشابه القرآن (16/ 220).
(3) أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، في الحسد (4/ 277 رقم 4904) ضعفه الشيخ الألباني في ضعيفه رقم (6232).
(4) هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي أبو هريرة -رضي الله عنه-، صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونقييب أهل الصفة، حمل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علا كثيرا حدث عنه خلق كثير من الصحابة والتابعين، توفى -رضي الله عنه- سنة 59 هـ، وقيل غير ذلك، انظر: الطبقات الكبرى (2/ 362) والحلية (1/ 376).
(5) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب الدين يسر (1/ 18 رقم 30).
(6) البخاري مع فتح الباري، كتاب الإيمان، باب الدين يسر، (1/ 116).
(7) هو زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين ابن أحمد بن رجب الحنبلي البغدادي، من علماء القر، الثامن الهجري، له مؤلفات من أشهرها لطائف المعارف، وجامع العلوم والحكم، ولد عام 736 هـ، ببغداد، ونشأ وتوفى في دمشق سنة 795هـ شذرات الذهب، (6/ 329) والأعلام (3/ 295).
(8) انظر: المحجة في سير الدلجة لابن رجب (51).(1/45)
5 - وروى الإمام أحمد (1) -رحمه الله- في مسنده أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اقرؤوا القرآن ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به، ولا تجفوا عنه، ولا تغلو فيه" (2).
6 - وروي عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغاليين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين" (3).
والأحاديث السابقة ترشدنا إلى أن الغلو خروج عن المنهج وتعدي للحد، وعمل ما لم يأذن به الله ولا رسوله -صلى الله عليه وسلم- والأحاديث التي تنهي عن الغلو كثيرة وليس هدفي في هذا البحث حصرها، وإنما اكتفيت ببعض الأحاديث التي لها دلالة على ما نحن بصدده، وهو تحديد معنى الغلو ومفهومه وحكمه، ومن ثم علاقته بالوسطية، ولعلماء المسلمين تعريفات كثيرة لمعنى الغلو، واخترت منها في بحثي هذا تعريفين:
أولا: تعريف ابن تيمية -رحمه الله-: الغلو مجاوزة الحد: مجاوزة بأن يزاد في الشيء في حمده أو ذمه على ما يستحق ونحو ذلك (4).
ثانيا: تعريف ابن حجر -رحمه الله-: إذ يقول: الغلو: المبالغة في الشيء والتشديد فيه بتجاوز الحد (5).
وضابط الغلو هو التعدي ما أمر الله به، وهو الطغيان الذي نهي عنه (6) في قوله تعالى: (وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي) [طه: 81]، ومما سبق من التعريف اللغوي وما ورد فيه من آيات وأحاديث وكذلك من تعريف العلماء يتضح لنا أن الغلو هو: مجاوزة الحد في الأمر المشروع، وذلك بالزيادة فيه أو المبالغة إلى الحد الذي يخرجه عن الوصف الذي أراده وقصده الشارع العليم الخبير الحكيم.
_________
(1) هو أبو عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني، ولد في بغداتد سنة 162 هـ، وبها نشأ وترعرع وهو إمام أهل السنة في عصره، له موقف مشهود ثبت أمام المأمون من محنة خلق القرآن، ورفع الله به السنة توفى (241هـ).
(2) أخرجه أحمد في المسند (3/ 428، 444) صححه الألباني في صحيح الجامع رقم (1168).
(3) قال الشيخ الألباني -رحمه الله- في تعليقه على أحاديث المشكاة، رقم (248) إن الحديث مرسل.
(4) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 289).
(5) انظر: فتح الباري (13/ 256).
(6) انظر: تيسير العزيز الحميد (256).(1/46)
وقد أفاد وأجاد الشيخ عبد الرحمن بن معلا اللويحق في إيضاح حقيقة الغلو وكشف حدوده ومعالمه في رسالته العلمية: الغلو في الدين.
وقسم الغلو إلى أقسام:
أولا: أن منشأ الغلو بحسب متعلقة ينقسم إلى ما يلي (1):
أ- إلزام النفس أو الآخرين بما لم يوجبه الله -عز وجل- عبادة وترهبا، ومقياس ذلك الطاقة الذاتية حيث إن تجاوز الطاقة في أمر مشروع يعتبر غلوا، والأدلة على ذلك كثيرة منها:
ما رواه أنس بن مالك (2) -رضي الله عنه- قال: دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- المسجد فإذا حبل ممدود بين ساريتين فقال: "ما هذا الحبل؟ " فقالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت به، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "حلوه ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد" (3).
قال ابن حجر -رحمه الله- في شرحه لهذا الحديث: وفيه الحث على الاقتصاد في العبادة، والنهي عن التعمق فيها (4).
ب- تحريم الطيبات التي أباحها الله على وجه التعبد، أو ترك الضرورات أو بعضها ومن أدلة ذلك قصة النفر الثلاثة، حيث روى أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادته فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: أين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدًا، قال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا.
_________
(1) الغلو في الدين (83).
(2) هو أنس بن مالك الأنصاري، ثالث الرواة المكثرين من الصحابة، فقد روى (2286) حديثا وهو خادم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأمه أم سليم الأنصارية، قال فيه أبو هريرة -رضي الله عنه- ما رأيت أحدًا أشبه صلاة برسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ابن أم سليم، وقال فيه ابن سيرين: أحسن الناس صلاة في الحضر والسفر. توفى عام (93هـ): انظر: طبقات ابن سعد (7/ 10) تهذيب ابن عساكر (3/ 139).
(3) رواه البخاري: كتاب التهجد، باب ما يكره من التشدد في العبادة (2/ 61 رقم 1150).
(4) فتح الباري، كتاب التهجد، باب ما يكره من التشدد في العبادة (3/ 7).(1/47)
فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" (1).
وكذلك لو اضطر مسلم إلى شيء محرم، كأكل حيوان محرم أو ميتة، وترك ذلك يؤدي به إلى الهلكة، فإن ذلك من التشدد، وبيان ذلك: أن الله هو الذي حرم هذا الشيء في حالة اليسر، وهو سبحانه الذي أباح أكله في حالة الاضطرار، قال سبحانه: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [لبقرة: 173].
3 - أن يكون الغلو متعلقا بالحكم على الآخرين، حيث يقف من بعض الناس موقف المادح الغالي، ويقف من آخرين موقف الذام الجافي، ويصفهم بما لا يلزمهم شرعا كالفسق أو المروق من الدين ونحو ذلك، وفي كلا الحالين يترتب على ذلك أعمال هي من الغلو، كالحب والبغض، والولاء والهجر، وغير ذلك.
ثانيا: أن الغلو في حقيقته حركة في اتجاه الأحكام الشرعية والأوامر الإلهية، ولكنها حركة تتجاوز في مداها الحدود التي حدها الشارع، فهو مبالغة في الالتزام بالدين، وليس مروقا عنه في الحقيقة، بل هو نابع من القصد في الالتزام به (2).
ثالثا: أن الغلو ليس هو الفعل فقط؛ بل قد يكون تركا (3) فترك الحلال كالنوم والأكل ونحوه من أنواع الغلو، إذا كان هذا الترك على سبيل العبادة والتقرب إلى الله كما يفعل بعض الصوفية والنباتيين (4).
رابعًا: الغلو على نوعين: اعتقادي وعملي.
الاعتقادي على قسمين:
اعتقادي كلي، واعتقادي فقط.
_________
(1) رواه مسلم، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح، (3/ 1020 رقم 1402).
(2) انظر: الغلو في الدين (84).
(3) مع الترك قد يكون فعلا.
(4) المصدر السابق (84).(1/48)
والمراد بالغلو الكلي الاعتقادي ما كان متعلقا بكليات الشريعة وأمهات مسائلها.
أما الاعتقادي فقط فهو ما كان متعلقا بباب العقائد دون غيرها كالغلو في الأئمة وادعاء العصمة لهم، أو الغلو في البراءة من المجتمع العاصي أو تكفير أفراده واعتزالهم.
ويدخل في الغلو الكلي الاعتقادي الغلو في فروع كثيرة إذ أن المعارضة الحاصلة به للشرع مماثلة لتلك المعارضة الحاصلة بالغلو في أمر كلي (1).
أما الغلو الجزئي العملي، فهو ما كان غلوًا في جزئية من جزئيات الشريعة ومتعلقا بباب الأعمال دون الاعتقاد، فهو محصور في جانب الفعل سواء أكان قولا باللسان أم عملا بالجوارح (2).
والغلو الكلي الاعتقادي أشد خطرًا، وأعظم ضررًا من الغلو العملي إذ أن الغلو الكلي الاعتقادي هو المؤدي إلى الشقاق والانشقاق، وهو المظهر للفرق والجماعات الخارجة عن الصراط المستقيم، وذلك كغلو الخوارج (3) والشيعة (4).
خامسًا: أنه ليس من الغلو طلب الأكمل في كمية العبادة، بل يدخل في تحديد الأكمل أمور عدة تتعلق بالعمل، وبمن قام بالعمل، وكذلك من له صلة بهذا العمل.
_________
(1) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 289) والغلو في الدين (70).
(2) انظر: الغلو في الدين (77).
(3) سموا بذلك لخروجهم على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بجمعهم إكفار علي، وعثمان، والحكمين وأصحاب الجمل، والخروج على السلطان الجائر، وتكفير صاحب الكبيرة، وتخليده في النار، خلافا للنجدات منهم (نجدة بن عامر) وتفرقوا إلى أكثر من عشرين فرقة: انظر مقامات الإسلاميين للأشعري (1/ 86) والملل والنحل للشهرستاني (1/ 114) واعتقادات فرق المسلمين للفخر الرازي (46) وما بعدها.
(4) سموا بذلك لمشايعتهم علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وقولهم بإمامته، نصا ووصية: إما حليا، وإما خفيا، وأن الإمامة لا تخرج من ولده إلا بظلم من غيره أو تقية منه، والإمامة عندهم من أصول الدين وقالوا بوجوب العصمة للأنبياء عن الكبائر والصغائر، وا لتولي والتبري قولا وفعلا وعقدا، إلا في حالة التقية، وقد يطلق اسم الرافضة على الشيعة وهذا كثير، وقد يراد بالرافضة الفرقة التي في مقابل الزيدية وذلك لرفضهم زيد بن علي في قتاله هشام ابن عبد الملك، انظر: الملل والنحل (1/ 146 - 147).(1/49)
فالصدقة -مثلا- يراعي فيها: المتصدق والمتصدق عليه، والمال المتصدق به، ولا يسمى كمالا كليا بالنظر للكمال الجزئي، وذكر ابن حجر -رحمه الله- ما يؤيده هذا المعنى ونسبه إلى ابن المنير فقال: وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة، فإنه من الأمور المحمودة، بل منع الإفراط المؤدي إلى الملل أو المبالغة في التطوع المفضى إلى ترك الأفضل (1).
سادسًا: أن الحكم على العمل بأنه غلو، أو أن هذا المرء من الغلاة، باب خطير لا يقدر عليه إلا العلماء الذين يدركون حدود هذا العمل، وتبحروا في علوم العقائد وفروعها، لأن الحكم على الشيء فرع من تصوره، فقد يكون الأمر مشروعا ويوصف صاحبه بالغلو، وها نحن نرى اليوم أن الملتزمين بشرع الله، المتمسكين بالكتاب والسنة يوصفون بالغلو والتطرف والتزمت ونحوها، ولذلك فإن المعيار في الحكم على الأعمال والأفراد والجماعات هو الكتاب والسنة وليست الأهواء والتقاليد والأعراف والعقول، وما تعارف عليه الناس، وقد ضل في هذا الباب أمم وأفراد وجماعات.
وبعد أن اتضح لنا معنى (الغلو) لغة وشرعا، وما يتعلق به من معان وأقسام، أوضح معنى (الإفراط) بإيجاز، حيث ستتضح صلته بالغلو.
ثانيا: الإفراط:
لغة هو: التقدم ومجاوزة الحد.
قال ابن فارس: يقال: أفرط: إذا تجاوز الحد في الأمر، ويقولون: إياك والفرط، أي لا تجاوز القدر، وهذا هو القياس، لأنه إذا جاوز القدر فقد أزال الشيء عن وجهته (2).
وقال الجوهري: وأفرط في الأمر: أي جاوز في الحد (3).
_________
(1) انظر: فتح الباري (1/ 94)، والغلو في الدين (85).
(2) مقاييس اللغة، كتاب الفاء والراء (4/ 490).
(3) انظر: الصحاح مادة (فرط) (3/ 1148).(1/50)
والفرطة - بالضم- اسم للخروج والتقدم، ومنه قول أم سلمة (1) لعائشة (2) -رضي الله عنهما-: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهاك عن الفرطة في البلاد"، وفي رواية نهاك عن الفرطة في الدين، يعني السبق والتقدم ومجاوزة الحد.
والإفراط: الإعجال والتقدم وأفرط في الأمر: أسرف وتقدم وكل شيء جاوز قدره فهو مفرط (3).
قال تعالى: (إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى) [طه: 45].
قال الطبري -رحمه الله-: وأما الإفراط فهو الإسراف والإشطاط والتعدي، يقال منه: أفرطت في قولك، إذا أسرف فيه وتعدى، وأما التفريط فهو التواني، يقال منه فرطت في هذا الأمر حتى فات، إذا تواني فيه (4).
ونخلص مما سبق أن معنى الإفراط: تجاوز الحد، والتقدم عن القدر المطلوب وهو عكس التفريط سيأتي:
وقد تبين مما سبق من تعريفي الغلو والإفراط أن كلا منهما يصدق عليه تجاوز الحد، وقد فسر الغلو بالإفراط كما سبق وإن كل واحد منهما يحمل م عنى أبلغ من الثاني في بعض ما يستعمل فيه، فالذي يشدد على نفسه بتحريم بعض الطيبات، أو بحرمان نفسه منها وصف الغلو ألصق به من الإفراط، والذي يعاقب من اعتدى عليه عقوبة يتعد بها حدود مثل تلك العقوبة وهكذا.
والذي يهمنا في هذا المبحث أن كلا من الغلو والإفراط خروج عن الوسطية، فكل أمر يستحق وصف الغلو أو الإفراط فليس من الوسطية في شيء.
_________
(1) هي هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة، المخزومية من أمهات المؤمنين دخل بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سنة أربع من الهجرة بعد وفاة أبي سلمة -رضي الله عنه- وكانت آخر أمهات المؤمنين، عاشت نحوًا من تسعين سنة، وتوفيت سنة (61 هـ). انظر ترجمتها في سير أعلاء النبلاء (2/ 210).
(2) هي عائشة بنت الإمام الصديق الأكبر أبي بكر -رضي الله عنه- التيمية القرشية أم المؤمنين، زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أفقه نساء الأمة على الإطلاق، توفيت عام (57هـ) وقيل: (58هـ) انظر: سير أعلاء النبلاء (2/ 135).
(3) لسان العرب: فصل الفاء، باب فرط (7/ 369).
(4) انظر: تفسير الطبر (16/ 170).(1/51)
المبحث الثاني التفريض والجفاء
أولا التفريط: وبعد أن اتضح لنا معنى الغلو والإفراط، وما يدل عليه كل منهما، نقف الآن مع ما يقابلهما، وهو التفريط والجفاء، والتفريط في اللغة هو التضييع كما في لسان العرب.
وفي حديث علي -رضي الله عنه-: (لا يرى الجاهل إلا مفرطا أو مفرطا) وهو بالتخفيف المسرف في العمل، وبالتشديد المقصر فيه، وفرط في الأمر يفرط فرطا أي: قصر فيه وضيعة حتى فات، وكذلك التفريط (1).
ومنه قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "أما إنه ليس في النوم تفريط" (2) وإذن فالتفريط هو التقصير والتضييع والترك.
قال ابن فارس -رحمه الله-: وكذلك التفريط، وهو التقصير، لأنه إذا قصر فيه فقد قعد عن رتبته التي هي له (3).
وقال الجوهري -رحمه الله-: فرط في الأمر فرطًا، أي قصر فيه وضيعه حتى فات، وكذلك التفريط (4).
وقد ورطت مادة (فرط) في القرآن في عدة مواضع.
قال تعالى: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا) [الأنعام: 31].
قال الطبري -رحمه الله-: يا ندامتنا على ما ضيعنا فيها (5).
_________
(1) لسان العرب، فصل الفاء، باب فرط (7/ 369).
(2) صحيح مسلم، كتاب المساجد، باب قضاء الصلاة (1/ 473، رقم 681).
(3) معجم مقاييس اللغة، كتاب الفاء، باب الفاء والراء (4/ 490).
(4) انظر: الصحاح مادة فرط (3/ 1148).
(5) انظر: الطبري في تفسيره (7/ 178).(1/52)
وقال القرطبي -رحمه الله-: وفرطنا معناه ضيعنا، وأصله التقدم، فقولهم: فرطنا، أي قدمنا العجز.
وقيل: (فرطنا) أي جعلنا غير الفارط السابق لنا إلى طاعة الله وتخلفنا (1).
وقال تعالى: (مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ) [الأنعام: 38].
قال الطبري -رحمه الله-: ما ضيعنا إثبات شيء منه (2).
وقال ابن عباس -رضي الله عنه-: ما تركنا شيئا إلا قد كتبناه في أم الكتاب (3).
وقال تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ) [الأنعام: 61] (4).
قال الطبري -رحمه الله-: قد بينا أن معنى التفريط: التضييع فيما مضى قبل، وكذلك أوله المتأولون في هذا الموضع، قال ابن عباس -رضي الله عنه- (لاَ يُفَرِّطُونَ): لا يضيعون (5).
وفي سورة يوسف: (وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ) [يوسف: 80].
قال الطبري -رحمه الله-: ومن قبل فعلتكم هذه تفريطكم في يوسف، يقول: أو لم تعلموا من قبل هذا تفريطكم في يوسف (6).
قال القاسمي -رحمه الله-: (فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ) [قصرتم في شأنه (7).
وقال تعالى: (وَيَجْعَلُونَ للهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ) [النحل: 62].
_________
(1) انظر: تفسير الطبري (6/ 413).
(2) انظر: تفسير الطبري (7/ 188).
(3) انظر: تفسير الطبري (7/ 188).
(4) انظر: تفسير الطبري (7/ 218).
(5) انظر: تفسير الطبري (13/ 35).
(6) انظر: تفسير الطبري (13/ 35).
(7) انظر: تفسير القاسمي (9/ 3579).(1/53)
قال سعيد بن جبير -رحمه الله-: (وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ) منسيون مضيعون، وقال قتادة -رحمه الله- (مضاعون).
وقال آخرون: إنهم معجلون إلى النار مقدمون إليها، وذهبوا في ذلك إلى قول العرب: أفرطنا فلانا في طلب الماء إذا قدموه لإصلاح الدلاء، وقيل غير ذلك، ورجح الطبري -رحمه الله- أن معنى (مفرطون) مخلفون متروكون في النار، منسيون فيها (1).
وقال تعالى في سورة الكهف: (وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف:28] روى عن مجاهد -رحمه الله-: (وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) ضائعا وروى عنه: ضياعا.
قال الطبري -رحمه الله-: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: معناه: ضياعا وهلاكا، ومن قولهم: أفرط فلان في هذا الأمر إفراطًا، إذا أسرف فيه وتجاوز قدره، وكذلك قوله: (وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) معناه: وكان أمر هذا الذي أغفلنا قلبه عن ذكرنا الرياء والكبر، واحتقار أهل الإيمان، سرفًا قد تجاوز حده فضيع بذلك الحق وهلك (2).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-: في الآية أربعة أقوال أحدها: أنه أفرط في قوله.
والثاني: ضياعا، والثالث: ندما، والرابع: كان أمره التفريط، والتفريط: تقديم العجز (3).
وفي سورة الزمر (أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِن كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) [الزمر: 56].
_________
(1) انظر: تفسير الطبري (14/ 177).
(2) انظر: المرجع السابق (15/ 236).
(3) انظر: زاد المسير (5/ 133).(1/54)
قال الطبري -رحمه الله-: يقول: على ما ضيعت من العمل بما أمرني الله به، وقصرت في الدنيا في طاعة الله (1).
وقال القاسمي -رحمه الله-: (يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطَتُ) أي قصرت (فِي جَنْبِ اللهِ) أي في جانب أمره ونهيه (2).
هذا تفسير الآيات التي ورد فيها ما يدل على التفريط، ومن خلال أقوال المفسرين تبين أنها تدل على الترك والتهاون والتقصير والتضييع مع اختلاف بسيط بين مدلول هذه المعاني وكلها في مقابل الإفراط والغلو.
ثانيا: الجفاء:
فقال ابن فارس -رحمه الله-: الجيم والفاء والحرف المعتل يدل على أصل واحد: نبو الشيء عن الشيء، من ذلك: جفوت الرجل، جفوة، وهو ظاهر الجفوة، أي الجفاء، وجفاء السرج عن ظهر الفرس، وأجفيته أنا. وكذلك كل شيء إذا لم يلزم شيئا، يقال: جفا عنه يجفو.
والجفاء: خلاف البر، والجفاء: ما نفاه السيل، ومنه اشتقاق الجفاء (3).
وقال ابن منظور (4): جفا الشيء يجفو جفاء وتجافي: لم يلزم مكانه، كالسرج يجفو عن الظهر وكالجنب يجفو عن الفراش، وفي التنزيل: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) [السجدة:16] وفي الحديث: "اقرؤوا القرآن ولا تجافوا عنه" (5) أي تعاهدوه ولا تبتعدوا عن تلاوته.
وفي الحديث عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار" (6).
_________
(1) انظر: تفسير الطبري (24/ 19).
(2) تفسير القاسمي: (14/ 5146).
(3) انظر: مقاييس اللغة، كتاب الجيم، باب الجيم والفاء، مادة جفو (1/ 465).
(4) انظر: لسان العرب، فصل الجيم، باب جفا (1/ 49).
(5) أخرجه أحمد في المسند (3/ 428، 444) وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع رقم (1168).
(6) أخرجه الترمذي كتاب الصلة والبر، باب ما جاء في الحياء (4/ 320 رقم 2009).(1/55)
وفي الحديث أيضًا: "من بدا جفاء" (1)، بدا: بالدال المهلة، خرج إلى البادية، والجفاء غلظ الطبع، وفي صفته -صلى الله عليه وسلم- ليس بالجافي المهين أي: ليس بالغليظ الخلقة ولا الطبع (2).
وقال تعالى: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً) [الرعد:17].
قال الطبري -رحمه الله-: زعم بعض أهل العربية من أهل البصرة أن معنى قوله: (فَيَذْهَبُ جُفَاءً) تنشفه الأرض، وقال: يقال: جفا الوادي وأجفى،: في معني نشف (3).
وقال تعالى: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) [السجدة: 16]، قال الطبري -رحمه الله-: تتنحى جنوب هؤلاء الذين يؤمنون بآيات الله الذين وصفت صفتهم، وترفع عن مضاجعهم التي يضجعون لمنامهم، ولا ينامون.
تتجافى: تتفاعل من الجفاء، والجفاء النبو، وإنما وصفهم - تعالى ذكره- بالتجافي في جنوبهم عن المضاجع لتركهم الاضطجاع للنوم شغلا بالصلاة.
ثم قال: إن الله وصف هؤلاء القوم بأن جنوبهم تنبو عن مضاجعهم شغلا منهم بدعاء ربهم وعبادته خوفا وطمعا، وذلك نبو جنوبهم عن المضاجع ليلا .. إلخ (4).
وبذلك يتضح أن الجفاء هو النبو والترك، والبعد، وهو غالبا ما يحدث خلاف الأصل والعادة، وأكثر ما تستعمل كلمة جفاء لما هو محرم منهي عنه كالجفاء بما يقابله الصلة والبر، والجفاء الذي هو من الشدة والغلظة وهذه أمثلة يتضح فيها معنى التفريط والجفاء.
1 - عقوق الوالدين: جفاء.
2 - تأخير عمل اليوم إلى الغد - دون سبب-: تفريط.
_________
(1) أخرجه أحمد (2/ 371، 440) وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة رقم (1273).
(2) انظر: لسان العرب، فصل الجيم، باب جفا (1/ 49).
(3) انظر: تفسير الطبري (13/ 137).
(4) انظر: تفسير الطبري (21/ 99 - 102).(1/56)
3 - إهمال تربية الأولاد: تفريط.
4 - ترك الأخذ بالأسباب: تفريط.
5 - رؤية المنكرات وعدم إنكارها مع القدرة على ذلك: تفريط.
6 - الغلظة في المعاملة: جفاء.
7 - تأخير الصلاة عن وقتها: تفريط.
8 - السلبية مع واقع المسلمين وشؤونهم وشجونهم: جفاء وتفريط.
9 - عدم القيام بحقوق العلماء وضعف الصلة بهم: جفاء وتفريط.
10 - قطع الأرحام وعدم صلتهم: جفاء وتفريط.
وبهذا يتبين معنى التفريط والجفاء، وأن بينهما عموما وخصوصا وهما يقابلان معنى الغلو والإفراط.
وعند التأمل في استعمال العرب لهما يلاحظ.
أن الجفاء يستعمل -غالبا- فيما فيه قصد الأمر من الترك والبعد وسوء الخلق. أما التفريط فمنشؤه -غالبا- التساهل والتهاون.
أن كل أمر اتصف بالتفريط أو بالجفاء فإنه يخالف الوسطية، وبمقدار اتصافه بأي من هذين الوصفين يكون بعده عن الوسطية وتجافيه عنها.(1/57)
المبحث الثالث الصراط المستقيم
إننا بدون فهم معنى (الصراط المستقيم)، وتحديد مدلوله، لا نستطيع فهم الوسطية على معناها الصحيح، وقد ورد لفظ الصراط المستقيم، في القرآن الكريم عشرات المرات، وجاء أيضًا بلفظ (صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا) [الفتح: 2]، و (صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) [الأعراف: 16]، (صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) [الأنعام: 153] ونحو ذلك.
ففي سورة الفاتحة نجد قوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة: 5]. ثم يفسره بأنه (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) [الفاتحة: 7].
وفي البقرة جاء قوله تعالى: (يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [البقرة: 142] وجاء بعد هذه الآية مباشرة (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) [البقرة: 143]، وسيأتي بيان العلاقة بين هاتين الآيتين، وعيسى -عليه السلام-، في سورة آل عمران يقول لقومه: (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ) [آل عمران: 51].
ونجد أن سورة الأنعام من أكثر السور التي ورد فيها الحديث عن الصراط المستقيم (مَن يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [الأنعام: 39]، (وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [الأنعام: 87]، (وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا) [الأنعام: 126]، (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ) [الأنعام: 153]، (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [الأنعام: 161].
وفي سورة إبراهيم سماه صراط العزيز الحميد: (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [إبراهيم: 1]، وفي سورة طه، وصفه بالسوي فقال: (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى) [طه: 135].
وفي سورة الحج أضافه للحميد فقال: (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ) [الحج: 24] وفي سورة المؤمنون عرفه دون وصف أو إضافة: (وَإِنَّ(1/58)
الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ) [المؤمنون: 74]، وفي مريم يقول إبراهيم -عليه السلام- لأبيه: (فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا) [مريم: 43].
وقول الله في سورة الأنعام: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) [الأنعام: 153].
هذه بعض الآيات التي وردت في (الصِّرَاطِ) فما معناه؟
قال الطبري -رحمه الله-: في قوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة:5].
أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعا على أن الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، وذلك في لغة جميع العرب، ومن قول الشاعر:
أمير المؤمنين على صراط ... إذا اعوج الموارد مستقيم (1)
وقال ابن عباس: قال جبريل لمحمد -صلى الله عليه وسلم-: اهدنا الصراط المستقيم: يقول ألهمنا الطريق الهادي، وهو دين الله الذي لا عوج له (2).
قال الطبري -رحمه الله-:
وإنما وصفه الله بالاستقامة، لأنه صواب لا خطأ فيه (3).
وقال: وكل حائد عن قصد السبيل، وسالك غير المنهج القويم فضال عند العرب، لإضلاله وجه الطريق (4).
وقال ابن كثير -رحمه الله-:
واختلفت عبارات المفسرين من السلف والخلف في تفسير الصراط، وإن كان يرجع حاصلها إلى شيء واحد، وهو المتابعة لله ورسوله (5).
_________
(1) انظر: تفسير الطبري (1/ 73).
(2) انظر: تفسير الطبري (1/ 74).
(3) انظر: المصدر السابق (1/ 75).
(4) انظر: المصدر السابق (1/ 84).
(5) انظر: تفسير ابن كثير (1/ 27).(1/59)
وإليك أقوال المفسرين في الصراط المستقيم:
فقد روى الطبري عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ذكر القرآن فقال: "هو الصراط المستقيم" (1).
وقال علي: الصراط المستقيم، كتاب الله تعالى.
وبمثل ذلك فسره عبد الله بن م سعود -رضي الله عنه- وقال جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-: اهدنا الصراط المستقيم الإسلام، قال: هو أوسع مما بين السماء والأرض، وقال ابن عباس: ذلك الإسلام، وقال ابن عباس -رضي الله عنه- هو الطريق (2).
وقال القاسمي -رحمه الله-: أشار شيخ الإسلام ابن تيمية في مبحث له مهم ننشره عنه هنا لما فيه من الفوائد الجلية، قال -رحمه الله-: ينبغي أن يعلم أن الاختلاف الواقع من المفسرين وغيرهم على وجهين: أحدهما ليس فيه تضاد وتناقض، بل يمكن أن يكون كل منهما حقا، وإنما هو اختلاف تنوع، أو اختلاف في الصفات أو العبادات وعامة الاختلاف الثابت بين مفسري السلف من الصحابة والتابعين هو من هذا الباب، فالله -سبحانه وتعالى- إذا ذكر القرآن اسما مثل قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة: 5]، فكل من المفسرين يعبر عن الصراط المستقيم بعبارة يدل بها على بعض صفاته، وكل ذلك حق، بمنزلة ما يسمى الله ورسوله، وكتابته بأسماء كل اسم منها يدل على صفة من صفاته.
فيقول بعضهم: الصراط المستقيم: كتاب الله أو اتباع كتاب الله.
ويقول الآخر: الصراط المستقيم هو الإسلام أو دين الإسلام.
ويقول الآخر: الصراط المستقيم: هو السنة والجماعة.
ويقول الآخر: الصراط المستقيم: طريق العبودية، أو طريق الخوف والرضا
_________
(1) أخرجه الترمذي كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء في فضل القرآن، (5/ 158 رقم 2906)، وإسناده مجهول، وفي الحارث مقال، وأخرجه أيضًا الدارمي (2/ 527 رقم 3332)، وأخرجه أحمد مختصرًا (1/ 91) قال الحافظ ابن كثير في فضائل القرآن (11 - 12) وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين -رضي الله عنه- وقد وهم بعضهم في رفعه، وهو كلام حسن صحيح.
(2) انظر: تفسير ابن كثير (1/ 27).(1/60)
والحب، وامتثال المأمور واجتناب المحظور، أو متابعة الكتاب والسنة، أو العمل بطاعة الله، ونحو هذه العبارات والأسماء، ومعلوم أن المسمي هو واحد، وإن تنوعت صفاته وتعددت أسماؤه (1).
ثم قال في موضع آخر: فإن الصراط المستقيم أن تفعل في كل وقت ما أمرت به في ذلك الوقت من علم وعمل، ولا تفعل ما نهيت عنه، وهذا يحتاج في وقت إلى أن تعلم ما أمر به في ذلك الوقت، وما نهي عنه، وإلى أن يحصل لك إرادة جازمة لفعل المأمور، وكراهة لترك المحظور، والصراط المستقيم قد فسر بالقرآن أو الإسلام، وطريق العبودية، وكل هذا حق، فهو موصوف بهذا وبغيره (2).
قال القاسمي -رحمه الله-: الصراط المستقيم أصله الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف، ويستعار لكل قول أو عمل يبلغ به صاحبه الغاية الحميدة، فالطريق الواضح للحس، كالحق للعقل، في أنه إذا سير بهما أبلغنا السالك النهاية الحسنى (3).
وقال ابن عاشور -رحمه الله-: والصراط في هذه الآية (آية الفاتحة) مستعار -لمعنى الحق الذي يبلغ به مدركه إلى الفوز برضى الله، لأن ذلك الفوز هو الذي جاء الإسلام بطلبه، والمستقيم: اسم فاعل من استقام، مطاوع قومته فاستقام، والمستقيم: الذي لا اعوجاج فيه ولا تعاريج، وأحسن الطرق الذي يكون مستقيما، وهو الجادة لأنه باستقامته يكون أقرب إلى المكان المقصود من غيره، فلا يضل فيه سالكه، ولا يتردد ولا يتحير، والمستقيم هنا مستعار للحق البين الذي لا تخالطه شبهة باطل، فهو كالطريق الذي لا تتخلله بنيات، ثم قال: والأظهر عندي أن المراد بالصراط المستقيم: المعارف الصالحات كلها من اعتقاد وعمل (4).
هذه بعض أقوال المفسرين في معنى الصراط المستقيم، كما ورد في سورة الفاتحة وحيث وردت آيات كثيرة ذكر فيها الصراط المستقيم سبق ذكر بعضها فإن
_________
(1) انظر: تفسير القاسمي (1/ 20).
(2) انظر: المرجع السابق (1/ 22).
(3) انظر: تفسير القاسمي (1/ 19).
(4) انظر: تفسير التحرير والتنوير (1/ 1/190).(1/61)
معناها من هذا المعنى الذي سبق تقريره، ولإيضاح ذلك أذكر تفسير بعض هذه الآيات باختصار:
قال تعالى: (وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [الأنعام:87].
قال مجاهد -رحمه الله-: وسددناهم فأرشدناهم إلى طريق غير معوج وذلك دين الله الذي لا عوج فيه، وهو الإسلام الذي ارتضاه ربنا لأنبيائه، وأمر به عباده (1).
وفي قوله تعالى: (وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا) [الأنعام: 126].
قال الطبري -رحمه الله-: هو صراط ربك، يقول: طريق ربك، ودينه الذي ارتضاه لعباده (مُسْتَقِيمًا) يعني قويما لا اعوجاج به عن الحق (2).
وفي قوله تعالى: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [الأنعام: 161].
قال الطبري -رحمه الله-: يقول: قل لهم إنني أرشدني ربي إلى الطريق القويم، وهو دين الله الذي ابتعثه به، وذلك الحنيفية المسلمة، فوفقني له (3).
وفي سورة الأعراف: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيم) [الأعراف: 16]، قال الطبري -رحمه الله-: يقول لأجلسن لبني آدم صراطك المستقيم، يعني طريقك القويم، وذلك دين الله الحق، وهو الإسلام وشرائعه (4).
وفي قوله تعالى: (فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا) [مريم: 43]، قال الطبري -رحمه الله-: يقول أبصرك هدى الطريق المستوى الذي لا تضل فيه إن لزمته، وهو دين الله الذي لا اعوجاج فيه (5).
وفي قوله تعالى: (وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ) [المؤمنون: 74] قال الطبري -رحمه الله-: يقول عن محجة الطريق، وقصد السبيل، وذلك دين الله الذي ارتضاه لعباده العادلين (6).
وبهذا يتضح أن معنى الصراط في جميع هذه الآيات معنى واحد، وإن اختلفت العبرة والسياق.
_________
(1) انظر: تفسير الطبري (7/ 262)
(2) انظر: المرجع السابق (8/ 32).
(3) انظر: تفسير الطبري (8/ 111).
(4) انظر: تفسير الطبري (8/ 134).
(5) انظر: المرجع السابق (16/ 90).
(6) انظر: المرجع السابق (18/ 44).(1/62)
المبحث الرابع الصلة بين الوسطية والصراط المستقيم
مما تقدم يتضح أن معنى الصراط المستقيم يدل على الوسطية في مفهومها الشرعي الاصطلاحي الذي سبق تقريره، وبخاصة أن ما جعلته لازما لمفهوم الوسطية وإطلاقها قد تحقق في معنى الصراط المستقيم، فالخيرية والبينية ظاهرتان في هذا الأمر، فنجد في سورة الفاتحة لما قال تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة: 5] عرفه فقال: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة: 6] ثم حدده فقال: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) [الفاتحة: 7] فجعل الصراط المستقيم طريق الأخيار، وهم الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وهو بين طريقي المغضوب عليهم والضالين.
وكذلك في سورة البقرة قال تعالى: (يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [البقرة: 142] فقال بعدها مباشرة: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) [البقرة: 143]، وقد تحدث المفسرون عن الكاف في هذه الآية، وذكر غير واحد (الكاف) للربط بين جعلهم أمة وسطا وهدايتهم للصراط المستقيم (1).
وهذه بعض الأحاديث التي تزيد الأمر وضوحا:
فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: "كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فخط خطا وخط خطين عن يمينه، وخط خطين عن يساره، ثم وضع يده على الخط الأوسط، فقال: هذا سبيل الله، ثم تلا هذه الآية: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) (2).
وذكر القرطبي -رحمه الله- في تفسيره: أن رجلا قال لابن مسعود -رضي الله عنه-: ما
_________
(1) انظر: تفسير التحرير والتنوير (2/ 1/15) والطبري (2/ 6).
(2) أخرجه ابن ماجه في المقدمة باب اتباع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (1/ 6 رقم 11) وله شواهد، وحسنه الشيخ الألباني ... -رحمه الله- في المشكاة رقم (166) ونقل عن الحاكم تصحيحه.(1/63)
الصراط المستقيم؟ قال: تركنا محمد -صلى الله عليه وسلم- في أداه وطرفه في الجنة، وعن يمينه جواد، وعن يساره جواد، وثم رجال يبدعون من مر بهم، فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النار، ومن أخذ عن الصراط انتهى به إلى الجنة، ثم قرأ ابن مسعود: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) [الأنعام: 153] (1).
وبالتأمل فيما سبق يتضح لنا ما يلي:
1 - أن الصراط المستقيم: يمثل قمة الوسطية وذروة سنامها وأعلى درجاتها، وآيتا الفاتحة والبقرة حجة قاطعة في ذلك.
2 - أن الوسطية تعني الخيرية، سواء أكانت خير الخيرين أو خيرًا بين شرين، أو خيرًا بين أمرين متفاوتين، وقد سبق تفصيل ذلك.
3 - أن المقياس لتحديد الخيرية هو الشرع، وليس هوى الناس أو ما تعارفوا عليه أو ألفوه، فإن مفهوم الوسطية عند كثير من الناس تعني التنازل أو التساهل؛ بل والمداهنة أحيانا، حيث يختارون الأمر بين الخير والشر وهو إلى الشر أقرب في حقيقته ومآله، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
4 - أن هناك عوامل كثيرة، وأصولا معتبرة (2)، تجب مراعاتها عند ضبط مفهوم الوسطية وتطبيقها على أمر من الأمور، حيث إن قصر النظر على أمر دون آخر يؤدي إلى خلاف ذلك ومجانبته.
_________
(1) يختلف ذلك باختلاف الأحوال والقضايا، ولكل حالة ما يناسبها ضمن الضوابط الشرعية.
(2) انظر: الوسطية في ضوء القرآن (79، 80، 81).(1/64)
الباب الثاني
ملامح الوسطية(1/65)
الباب الثاني
ملامح الوسطية
تمهيد:
للوسطية ملامح وسمات تحف بها، وتميزها عن غيرها، بمجموع تلك الملامح لا بأفرادها، وقد طالعت ما ورد في وسطية هذه الأمة بين الأمم، وكذلك ما كتبه بعض الذين بحثوا في الوسطية، ومن خلال استقراء القرآن الكريم توصلت إلى تحديد سمات وملامح الوسطية.
وتحديد هذه الملامح مهمة أساسية في مثل هذا البحث، حتى لا تكون الوسطية مجالا لأرباب الشهوات وأصحاب الأهواء، ذلك أن الوسطية مرتبة عزيزة المنال، غالية الثمن، كيف لا وهي سمة هذه الأمة، ومحور تميزها بين الأمم؟! جعلها الله خاصية من خصائصها، تكرما منه وفضلا: (ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الجمعة: 4].
إن من أهم سمات الوسطية ما يلي:
- السمة الأولى: الخيرية.
- السمة الثانية: العدل.
- السمة الثالثة: اليسر ورفع الحرج.
- السمة الرابعة: الحكمة.
- السمة الخامسة: الاستقامة.
- السمة السادسة: البينية.
وكل سمة من هذه السمات يدخل تحتها عدد من أفرادها، وسأبين لكل سمة بما يلائم المقام، ويفي بالغرض، والله الهادي إلى سواء السبيل، وأظن أن هذه الملامح بمجموعها تصلح ضابطًا لتحديد الوسطية ومعرفتها، بما يرد على السؤال الذي لا بد أن يرد في أذهان الكثيرين أين ضابط الوسطية وكيف نميزها عن غيرها؟(1/67)
الباب الثاني
ملامح الوسطية
الفصل الأول الخيرية
قال الله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) وقال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران: 110] وقد بينت أن من معاني الوسطية الخيرية.
المبحث الأول
أقوال المفسرين في آية الخيرية
قال ابن كثير -رحمه الله-: والوسط هنا: الخيار والأجود، كما يقال لقريش أوسط العرب نسبا ودارًا، أي خيرها (1). وفي تفسيره لقوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) قال: يعني الناس للناس، والمعنى: أنهم خير الأمم وأنفع الناس للناس، إلى أن قال: كما في الآية الأخرى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) [البقرة: 143] أي خيارًا (2).
وقال الطبري -رحمه الله-: مقررًا خيرية هذه الأمة (الأمة الوسط): فإن سأل سائل فقال: وكيف قيل: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ)؟ وقد زعمت أن تأويل هذه الآية هذه الأمة خير الأمم التي مضت، وإنما يقال: كنتم خير أمة لقوم كانوا خيارًا فتغيروا عما كانوا عليه؟! قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما ذهبت إليه، وإنما معناه أنتم خير أمة، كما قيل: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ) [الأنفال: 26]، وقد قال في موضوع آخر: (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ) [الأعراف: 86]، فإدخال (كان) في مثل هذا وإسقاطها بمعنى واحد، لأن الكلام معروف معناه، ولو قال أيضًا في ذلك قائل: (كنتم) بمعنى التمام، كان تأويله خلقتم خير أمة، أو وجدتم خير أمة، كان معنى صحيحا (3)، وفي تفسيره
_________
(1) انظر: تفسير ابن كثير (1/ 190).
(2) انظر: المرجع السابق (1/ 391).
(3) انظر: تفسير الطبري (4/ 45).(1/68)
لقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) [البقرة: 143]، قال: وأما التأويل فإنه جاء بأن الوسط العدل، وذلك معنى الخيار، لأن الخيار من الناس عدولهم (1).
ومما سبق يتضح أن الخيرية مما فسر به معنى الوسطية التي ذكرها الله من خصائص هذه الأمة، فما هي هذه الخيرية التي نعرف بها وسطية هذه الأمة؟
قال الطبري -رحمه الله-: معنى ذلك: كنتم خير أمة أخرجت للناس، إذا كنتم بهذه الشروط التي وصفهم -جل ثناؤه- بها، فكان تأويل ذلك عندهم: كنتم خير أمة تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله، أخرجوا للناس في زمانكم (2).
قال أبو مسعود (3) -رحمه الله-: (تؤمنون بالله) أي إيمانا متعلقا بكل ما يجب أن يؤمن به من رسول وكتاب وحساب وجزاء، وإنما لم يصرح به تفصيلا لظهور أنه الذي يؤمن به المؤمنون، وللإيذان بأنه هو الإيمان بالله تعالى حقيقة (4)، وقال القاسمي -رحمه الله-: ثم بين وجه الخيرية بما لم يحصل مجموعه لغيرهم بقوله: (تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [آل عمران: 110]، فبهذه الصفات فضلوا على غيرهم ممن قال تعالى فيهم: (كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المائدة: 79]، (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) [النساء: 150].
وقال محمد رشيد -رحمه الله-: والحق أقول: إن هذه الأمة ما فتئت خير أمة أخرجت للناس، حتى تركت الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ثم قال: وقد بين الفخر الرازي كون وصف الأمة هنا بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإيمان علة لكونها خير أمة أخرجت للناس، فقال: واعلم أن هذا الكلام مستأنف والمقصود
_________
(1) انظر: المرجع السابق (2/ 7).
(2) انظر: المرجع السابق (4/ 44).
(3) هو محمد بن محمد بن مصطفي العمادي الفقيه الحنفي المفسر الأصولي الشاعر صاحب تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، ولد سنة 893هـ، وتوفى عام 982هـ. انظر ترجمته في بدر الطالع، (1/ 261) والشذرات (8/ 398)، ومعجم المفسرين (2/ 625 - 626).
(4) انظر: تفسير القاسمي (4/ 936).(1/69)
منه بيان علة تلك الخيرية، كما تقول: زيد كريم، يطعم الناس ويكسوهم، ويقوم بما يصلحهم.
وتحقيق الكلام أنه ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم مقرونا بالوصف المناسب له يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف، ههنا حكم تعالى بثبوت وصف الخيرية لهذه الأمة، ثم ذكر عقيبه هذا الحكم وهذه الطاعات، أعنى الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإيمان، فوجب كون تلك الخيرية معللة بهذه العبادات (1).
وقد وردت بعض الأحاديث التي تدل على خيرية هذه الأمة منها:
1 - روى الترمذي في تفسيره لهذه الآية أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله" (2).
2 - وقال -صلى الله عليه وسلم-: "أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء"، فقلنا: يا رسول الله ما هو؟ فقال: "نصرت بالرعب، وأعطيت مفاتيح الأرض، وسميت أحمد، وجعل التراب لي طهورا، وجعلت أمتي خير الأمم" (3).
فهذه الأحاديث مع آية آل عمران تبين خيرية هذه الأمة، التي جعلها الله أمة وسطا، وقد جمع المفسرون بين معنيي الخيرية والوسطية، حتى جاء أحدهما تفسيرًا للآخر، كما مر معنا، ولأهمية بيان معنى الخيرية، سأذكر أبرز أوجه هذه الخيرية ليتضح لنا معنى الوسطية.
_________
(1) انظر: تسير المنار (4/ 60).
(2) أخرجه الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب سورة آل عمران (5/ 211 رقم 3001) قال الترمذي: هذا حديث حسن، ووافقه الشيخ الألباني -رحمه الله- كما في المشكاة رقم (6285).
(3) أخرجه أحمد (1/ 98، 158) قال الهيثمي في مجمع الزوائد: (1/ 265 - 266) وفيه عبد الله بن محمد بن عقيل، وهو سيئ الحفظ، قال الترمذي: صدق، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه، وسمعت محمد بن إسماعيل - يعني البخري-يقول: كان أحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم، والحميدي يحتجون بحديث ابن عقيل: قلت: فالحديث حسن، والله اعلم.(1/70)
المبحث الثاني
أبرز أوجه هذه الأمة (1)
لم تنل هذه الأمة هذه المكانة السامقة بين الأمم، مصادفة، ولا جزافا ولا محاباة، فالله سبحانه وتعالى منزه عن أن يكون في ملكه شيء من ذلك، فكل شيء عنده بمقدار، وهو يخلق ما يشاء ويختار، وهو سحانه عندما أخبر أن هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، بين وجه ذلك وعلته في نفس الآية فقال: (تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بالله) [آل عمران: 110]، فبهذه الأمور الثلاثة العظيمة القدر كانت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، على أن هذه الأمور ليست هي كل ما كانت به هذه الأمة خير أمة، إذ هناك أمور وخلال كثيرة أهلت هذه الأمة لهذه الخيرية، ولكن هذه الثلاثة أهمها وأعظمها، إذ لا تدوم ولا تستمر هذه الخيرية ولا تحفظ إلا بإقامتها وأدائها، فإن فقدت هذه الأمور في جيل من أجيال هذه الأمة لم يكن حريا بهذه الخيرية التي حظيت بها هذه الأمة.
وسأعرض فيما يأتي لأهم أوجه هذه الخيرية، محاولا الإيجاز وعدم الإطالة، فأقول وبالله التوفيق:
الوجه الأول: إيمانها بالله -عز وجل-:
إن إيمان هذه الأمة يتميز عن إيمان سائر الأمم بأنه إيمان عام وشامل، يشمل جميع الرسل التي أرسلت، والكتب التي أنزلت على جميع الأمم التي خلت: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [البقرة: 285].
وقال -صلى الله عليه وسلم- في حديث جبريل المشهور في بيان حد الإيمان الواجب على هذه الأمة: "أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسوله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره
_________
(1) انظر: وسطية أهل السنة بين الفرق (210).(1/71)
وشره" (1). فحصل لهذه الأمة المحمدية من الإيمان بجميع الرسل، وجميع الكتب ما لم يحصل لغيرها باعتبار ما يأتي:
1 - أن هذه الأمة هي آخر الأمم، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "نحن الآخرون السابقون .. " (2)، وقال في حديث آخر: "نكمل اليوم سبعين أمة نحن آخرها وخيرها" (3). وفي حديث آخر: "نحن آخر الأمم وأول من يحاسب" (4)، فآمنت بجميع الرسل والكتب التي قبلها، مع إيمانها برسولها الخاتم، وكتابها المهيمن على جميع الكتب، ولم يقع ذلك إلا لها، فحق لها أن تكون خير الأمم، لأنها جمعت خير ما عندهم من الإيمان بالكتب والرسل.
2 - أن كثيرًا من الأمم التي قبلها، لم تؤمن بمن كان قبلها من الرسل والكتب، بل كذبوا وكفروا بهم، وهذا الوجه وإن جاء في الآية تقديم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمعنى اختلف المفسرون في تحديده (5)، إلا أنه باتفاق الجميع هو الأساس التي يبني عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإذا لم يكن ثمة إيمان على أساسه يتصور المعروف فيؤمر به، والمنكر فينهى عنه، فليس هناك أمر بمعروف ولا نهي عن منكر بالمعنى الشرعي.
_________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام (1/ 36).
(2) أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب فرض الجمعة، (2/ 354)، رقم الحديث (876).
(3) أخرجه بن ماجه: كتاب الزهد، باب صفة أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- (2/ 1433) حديث رقم (4287) وقال الشيخ الألباني: حسن، صحيح ابن ماجه (2/ 426).
(4) أخرجه ابن ماجه، كتاب الزهد، باب صفة محمد -صلى الله عليه وسلم- (2/ 1434، 4290) وقال البوصيري: إسناده صحيح، ورجاله ثقات، وقال الشيخ الألباني: صحيح، صحيح ابن ماجه (2/ 427).
(5) قيل: إنه آخر الإيمان عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع تقدمه عليهما وجودًا ورتبة؛ لأن دلالتهما على خيرتهم أ؟ هر من دلالتها عليها، وقيل: للتعريض بأهل الكتاب الذين كانوا يدعون الإيمان، ولا يقدرون على ادعاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأنهم كانوا في مجموعهم لا يتناهون عن منكر فعلوه هما من خصائص هذه الأمة المميزة لها، وقيل: ولأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سياج الإيمان بهما يستر نقاؤه وصفاؤه وتوهجه، بل واستمراره، وكلما ضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ضعف الإيمان، ودخلت عليه البدع والمعاصي التي تحول دون نمائه وقوته، انظر: تفسير أبي السعود (2/ 71) وتفسير المنار (4/ 64) بتصرف.(1/72)
الوجه الثاني: أنها أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر:
وهذا من أعظم ما كانت به هذه الأمة خير أمة أخرجت الناس، فهو من أظهر خصائصها، وأبرز ما تتميز به عن سائر الأمم، ولذلك قدمهما الله -عز وجل- في الذكر على الإيمان به تعالى، مع كونه -أي الإيمان- متقدما عليهما في الوجود والرتبة، فقال: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [آل عمران: 110]، وقد أمر الله هذه الأمة بأن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وأن يكون فيها من يقوم بذلك فقال -عز وجل-: (وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران: 104]، كما أوجب النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك على أمته على حسب الاستطاعة وهي مراتب فقال: "من رأي منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" (1).
قال الإمام النووي -رحمه الله-: وأما قوله -صلى الله عليه وسلم- "فليغره" فهو أمر إيجاب بإجماع الأمة، وقد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وهو أيضًا من النصيحة التي هي الدين، ولم يخالف في ذلك إلا بعض الرافضة، ولا يعتد بخلافهم .. ثم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية إذا قام هـ بعض الناس سقط الحرج عن الباقين، وإذا تركه الجميع أثم كل من تمكن منه بلا عذر ولا خوف (2).
ولما كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بهذه المثابة، عدهما كثير من السلف شرطا في استحقاق الخيرية المشار إليها في الآية مع الإيمان بالله -عز وجل-، كما روى ابن جرير -رحمه الله-: بسنده عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، أنه في حجة حجها قرأ هذه الآية: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) الآية، ثم قال: يا أيها الناس من سره أن يكون من تلك الأمة ليؤد شرط الله منها (3)، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
_________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب النهي عن المنكر (1/ 69، رقم 49).
(2) شرح النووي مع مسلم كتاب الإيمان، باب وجوب الأمر بالمعروف (2/ 22 - 23).
(3) انظر: تفسير الطبري (7/ 102).(1/73)
وأخرج عن مجاهد -رحمه الله-: في قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)، يقول: على هذا الشرط: أن تأمروا بالمعروف، وتنهوا عن المنكر وتؤمنوا بالله (1).
ولقد كانت هذه الأمة أكثر الأمم قياما بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل لم يكن في أمة من الأمم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مثل ما في هذه الأمة، إذ كانت أعظم الأمم التي قبلنا وهم بنو إسرائيل مفرطين فيهما غير قائمين بهما، كما قص الله -عز وجل- علينا خبرهم في قوله تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ *كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المائدة: 78 - 79].
فلما قامت هذه الأمة بهذا الأمر مع تقصير غيرها من الأمم وتفريطها فيه، كانت جديرة بما أثبته الله ورسوله لها من الخيرية، إذ خير الناس آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر، كما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الإمام أحمد في مسنده عن درة (2) بنت أبي لهب قالت: "قام رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو على المنبر فقال: يا رسول الله، أي الناس خير؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "خير الناس أقرؤهم وأتقاهم، وآمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأوصلهم للرحم" (3).
الوجه الثالث: كونها خير الأمم للناس وأنفعهم لهم:
وذلك أن هذه الأمة لما قامت بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان من أعظم المعروف الذي تأمر به الإيمان بالله -عز وجل- وعبادته وحده، ومن أنكر المنكر الذي تنهي عنه وتحذر الناس منه: الإشراك بالله وعبادة غيره من دونه، كما قال عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: "تأمرونهم بالمعروف، أن يشهدوا أن لا إله إلا الله،
_________
(1) المصدر السابق (7/ 102).
(2) وهي: درة بنت أبي لهب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف الهاشمية، ابنة عم النبي -صلى الله عليه وسلم- أسلمت وهاجرت، انظر: ابن حجر: الإصابة (4/ 297).
(3) أخرجه أحمد في مسنده (6/ 432).(1/74)
والإقرار بما أنزل الله، وتقاتلوهم عليهن ولا إله إلا الله هو أعظم المعروف، وتنهونهم عن المنكر، والمنكر هو التكذيب، وهو أنكر المنكر" (1).
إنما كانت في الواقع تدعو الناس إلى ما فيه نفعهم ونجاتهم، وتنهاهم عما فيه هلاكهم، باذلة في سبيل ذلك النفس والنفيس، ليس لها هدف إلا القيام بما أوجبه الله عليها من هداية الخلق إلى طريق النجاة، وإخراجهم من ظلمات الجهل والشك، والوثنية، إلى نور التوحيد والإيمان، وتحريرهم من عبودية العباد إلى عبودية الخالق جل وعلا، كما قال ربعي بن عامر (2) -رضي الله عنه- لرستم (3) قائد الفرس لما سأله: ما جاء بكم؟ قال: الله ابتعثنا، والله جاء بنا، لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل منا ذلك قبلنا ذلك منه ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبي قاتلناه حتى تفضي إلى موعود الله، قال: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبي، والظفر لمن بقي (4) ...
لقد كان هذا الصحابي الجليل خير سفير لهذه الأمة إلى رستم وقومه، بين له مهمة هذه الأمة، وهدفها، وهو أنها لم تخرج لطلب ملك، أو مال أو دنيا وسلطان، وإنما أخرجها الله وابتعثها، كما قال -عز وجل: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران: 110] بالبناء للمجهول للدلالة على أنها لم تخرج بنفسها لهوى أو مصلحة ذاتية، وغنما أخرجت للناس، والله هو الذي أخرجها، لتدعو الخلق إلى عبادة الخالق دون المخلوق، ليس لها هدف سوى ذلك، فإن هو تحقق كان ذلك غاية ما تطمح إليه وتسعد به (فمن قبل منا ذلك، قبلنا ذلك منه ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه يليها دوننا) (5).
_________
(1) انظر: تفسير الطبري (7/ 105).
(2) هو: ربيعي بن عامر بن خالد، أمد به عمر المثني بن حارثة، وكان من أشراف العرب، وكان على مجنية جيش أبي عبيدة إلى العراق، وله ذكر في غزوة نهاوند، وولاء الأحنف بن قيس لما فتح خراسان على صخارستان، قال ابن حجر: وقد تقدم غير مرة أنهم كانوا لا يؤمرون إلا الصحابة انظر الإصابة (1/ 503).
(3) انظر: رستم بن الفرخزاد الأرمني، قائد الفرس في القادسية، انظر ابن كثير، البداية والنهاية (7/ 38).
(4) انظر: تاريخ الأمم والملوك للطبري (3/ 520)، وانظر: البداية والنهاية (7/ 40).
(5) انظر: وسطية أهل السنة بين الفرق (211).(1/75)
من أجل ذلك كانت هذه الأمة خير الأمم للناس، لأنها تدعوهم إلى الخير، ولا ترجو منهم ثمنا له، بل تجاهد من يحول بينها وبين تبليغ عباد الله دين الله، حتى يخلي بينهم وبينه، ثم بعد ذلك من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، إذا تبين للناس الرشد من الغي كما قال تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) [البقرة: 256]، (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا) [الكهف: 29].
لكن هذه الأمة بما أوتيت من حب الخير للغير، تكره للناس أن ينتهوا إلى هذا المصير الرهيب، وتجهد نفسها - في غير من ولا أذى- في سبيل أن تحول بينهم وبينه، إن أمة تحمل للبشرية كل هذا الخير، غير مبالية بما يلقى من عنت وتعب ونصب، بما في ذلك القتل والقتال، وفراق المال والعيال، لهي بحق خليقة بأن تكون: (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) لأنها تسعى لنفعهم وهدايتهم وإنقاذهم من العذاب والعقاب الذي ينتظرهم.
يقول الصحابي الجليل أبو هريرة -رضي الله عنه- في هذا المعني: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) قال: خير الناس للناس، تأتون بهم السلاسل في أعناقهم حتى يدخلون في الإسلام (1)، وكذا قال غير واحد من السلف كابن عباس (2) ومجاهد، وعكرمة وغيرهم (3).
الوجه الرابع: كونهم أكثر الناس استجابة للأنبياء:
أشار إلى هذا الوجه الإمام ابن جرير -رحمه الله-: بقوله: (وقال آخرون إنما قيل: () لأنهم أكثرهم الأمم استجابة للإسلام، ثم روى
_________
(1) أخرجه البخاري: كتاب تفسير، باب (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (8/ 22)، رقم الحديث (4557) موقوفا.
(2) انظر: الدر المنثور، للسيوطي، (4/ 294).
(3) انظر: تفسير ابن كثير (2/ 77).(1/76)
عن الربيع (1) أنه قال في الآية: لم تكن أمة أكثر استجابة في الإسلام من هذه الأمة فمن ثم قال: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (2).
يدلل على ذلك ما جاء في الحديث الصحيح من كونه -صلى الله عليه وسلم- أكثر الأنبياء تبعا، كما في حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنا أول شفيع في الجنة لم يصدق نبي من الأنبياء ما صدقت، وإن من الأنبياء نبيا ما يصدقه من أمته إلا رجل واحد" (3).
وعنه أيضًا قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أنا أكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة وأنا أول من يقرع باب الجنة" (4).
يوضح النبي -صلى الله عليه وسلم- مبلغ هذه الكثرة فيقول في الحديث الذي رواه ابن عباس -رضي الله عنهما-: "عرضت علي الأمم، فجعل النبي والنبيان يمرون معهم الرهط (5)، والنبي ليس معه أحد، حتى رفع لي سواد عظيم، قلت: ما هذا؟ أمتي هذه؟ قيل: بل هذا موسى وقومه، قيل: انظر إلى الأفق، فإذا سواد يملأ الأفق، ثم قيل لي: انظر هاهنا، وهاهنا - في آفاق السماء- فإذا سواد قد ملأ الأفق، وقيل: هذه أمتك، ويدخل الجنة من هؤلاء سبعون ألف بغير حساب" (6).
وهذه النصوص صريحة في بيان أن المؤمنين المتبعين للنبي -صلى الله عليه وسلم- من هذه الأمة، أكثر من المتبعين لأي نبي من الأنبياء من الأمم السابقة، فهذه الأمة أقرب الأمم إلى الحق واعتناقه، وهذه علامة الخير والرشد، وبذلك كانت (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) لكون المؤمنين والمهتدين منها أكثر منهم في الأمم قبلها.
_________
(1) هو: الربيع بن أنس البكري البصري، ثم الخراساني روى عن أنس بن مالك وأبي العالية، قال العجلي: "صدوق" وقال أبو حاتم: "صدوق" وهو أحب إلي من أبي العالية، وقال النسائي: ليس به بأس، توفى سنة 139، وقيل: (140هـ)، انظر: تهذيب التهذيب (3/ 238).
(2) انظر: تفسير الطبري (7/ 103).
(3) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة (1/ 188)، رقم الحديث (332).
(4) نفس المصدر والجزء والصفحة، رقم الحديث (331).
(5) الرهط: عدد يجمع من ثلاثة إلى عشرة، انظر: لسان العرب (7/ 305) مادة (رهط).
(6) أخرجه البخاري: كتاب الطب، باب من اكتوى، أو كوي غيره، وفضل من لم يكتو (10/ 155) رقم الحديث (5705).(1/77)
الوجه الخامس: كونها لا تجتمع على ضلالة:
وذلك أنها أمة ورثت الرسل في القيام بهداية البشر ودعوتها إلى ما دعا إليه سائر الرسل من الإيمان بالله وعبادته وحده، فهي ذات رسالة تبلغها، وتستمر في إبلاغها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولذلك ما كان لهذه الأمة أن تضل عن مهمتها ورسالتها مهما طال عليها الأمد، وامتد بها الأجل لأنها إن ضلت هي فلن يهتدي أحد، لانقطاع الوحي والرسالة.
وقد يضل بعض أفرادها وطوائفها عن الحق، بل قد يكفر ويلحد وينافق طوائف منها ولكنها لا تجمع ولا تجتمع على ذلك أبدًا، بذلك أخبرنا الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-، فقال فيما رواه أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "إن الله قد أجار أمتي أن تجتمع على ضلالة" (1).
بخلاف من قبلها من الأمم، فإنه كان الحق يغلب فيهم حتى لا تقوم به طائفة منهم، فهؤلاء أهل الكتاب، اليهود منهم والنصارى، اندثر الحق والدين الصحيح بينهم وانقرضت الفرقة التي كانت على الحق أو انحرفت، وأصبحت فرقهم كلها على ضلال وكفر وشك، فهاهم بسائر فرقهم وطوائفهم قد أجمعوا على الضلالة والكفر وأعرضوا عما جاء به الإسلام من الحق فليس منهم رجل رشيد.
أما هذه الأمة فإنها والحمد لله لا تجتمع على ضلالة أبدًا، بل لا بد أن تبقى طائفة منها على الدين الصحيح ظاهرة قائمة به، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون" (2). وفي رواية أخرى: "لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة" (3).
_________
(1) ابن أبي عاصم: السنة (1/ 41) وحسنه الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (3/ 319 - 320) رقم الحديث (1331).
(2) صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالسنة، باب لا تزال طائفة (7/ 189)، الحديث رقم (7311). أخرجه ابن ماجة: المقدمة، باب اتباع سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (1/ 6 رقم الحديث 10).
(3) المرجع السابق.(1/78)
فأمة تثبت على الهدى والتوحيد، ولا يذهب فيها نور النبوة والقرآن؛ بل لا يزال مشتعلا مضيئا في يدها تحمله جيلا بعد جيل إلى أن تلقى الله به آخر طائفة منها، لا شك أنها خير الأمم التي عرفتها البشرية، بما لم توغل كما أوغل الكثير من الأمم قبلها في الكفر والضلالة، وبما يبقى فيها من الخير والهدى ما لم يبق في غيرها من الأمم (1).
الوجه السادس: كون الكتاب الذي أنزل عليها خير الكتب السماوية، وذلك من وجوه:
1 - إنه الكتاب الذي وصفه الله بأنه أحسن الحديث الذي أنزله.
فقال تعالى: (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَّشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [الزمر: 23].
قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: (هذا مدح من الله عز وجل لكتابه القرآن العظيم المنزل على رسول الكريم) (2). وهو نص في أن القرآن الكريم أفضل وأحسن من غيره من الكتب السماوية التي أنزلها الله -عز وجل- قبله.
2 - إنه الكتاب السماوي الوحيد الذي تكفل الله بحفظه وصيانته من الزيادة والنقصان ومن التحريف والتبديل.
فقال جل وعلا: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9]. فالمراد بالذكر: القرآن، والضمير في قوله: (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) راجع إليه على الصحيح.
قال فضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (3) -رحمه الله-: ( ... وهذا هو
_________
(1) انظر: وسطية أهل السنة بين الفرق (219).
(2) انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (7/ 84).
(3) هو الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي العلامة الأصولي المفسر اللغوي الحافظ، المالكي مذهبا صاحب التصانيف، ومنها أضواء البيان في تفسير القرآن، آداب البحث والمناظرة، توفى بمكة عام 1393هـ، انظر: الأعلام (6/ 45).(1/79)
الصحيح في معنى هذه الآية، أن الضمير في قوله تعالى: (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) راجع إلى الذكر الذي هو القرآن، وقيل الضمير راجع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- كقوله: (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة:67]، والأول هو الحق كما يتبادر من ظاهر السياق) (1).
وأخبر جل وعلا: أن الباطل لا يتطرق بحال، فقال: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت: 41 - 42]، فكتاب هذه الأمة محفوظ بحفظ الله له، وقد مضى علىنزوله الآن أربعة عشر قرنا من الزمان ولا يزال كما أنزله الله على عبده ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- لم يستطع أحد أن يزيد فيه حرفا، أو ينقص منه حرفا، أو يبدل فيه حرفا مكان آخر، فهو محفوظ في السطور والصدور، يحفظه عشرات الآلاف من المسلمين، ولو أراد أحد أن يزيد فيه حرفا أو ينقصه منه لرد عليه صغار أبناء المسلمين قبل كبارهم وذلك من حفظ الله له (2).
وهذه حقيقة ملموسة يعترف بها أعداء الإسلام فضلا عن أبنائه، يقول وليم ميمور في كتابه (حياة محمد) -وهو معروف بتحامله على الإسلام ونبيه -صلى الله عليه وسلم-: (لم يمض على وفاة محمد -صلى الله عليه وسلم- ربع قرن حتى نشأت منازعات عنيفة، وقامت طوائف وقد ذهب عثمان -رضي الله عنه- ضحية هذه الفتن ولا تزال هذه الخلافات قائمة، ولكن القرآن ظل كتاب هذه الطوائف الوحيد، إن اعتماد هذه الطوائف جميعا على هذا الكتاب تلاوة، برهان ساطع على أن الكتاب الذي بين أيدينا اليوم هو الصحيفة التي أمر الخليفة المظلوم بجمعها وكتابتها، فلعله هو الكتاب الوحيد في الدنيا الذي بقي نصا محفوظا من التحريف طيلة ألف ومائتين سنة) (3).
ويقول وهيري في تفسيره للقرآن، (إن القرآن أبعد الصحف القديمة بالإطلاق عن الخلط والإلحاق، وأكثر صحة وأصالة) (4).
_________
(1) انظر: أضواء البيان (3/ 107).
(2) انظر: وسطية أهل السنة بين الفرق (221).
(3) حياة محمد (22 - 23) اقتبسه الشيخ أبو الحسن علي بن الحسن الندوي في كتابه النبوة والأنبياء في ضوء القرآن (212).
(4) نفس المصدر السابق اقتبسه الشيخ أبو الحسن الندوي.(1/80)
ويقول المستشرق (1) لين بول (1832 - 1895): (إن أكبر ما يمتاز به القرآن أنه لم يتطرق شك إلى أصالته، إن كل حرف نقرؤه اليوم نستطيع أن نثق بأنه لم يقبل أي تغيير منذ ثلاثة عشر قرنا) (2).
وذلك بخلاف الكتب السماوية السابقة، التي طرأ عليها الكثير من التحريف والتبديل، والزيادة والنقصان، بل والضياع أيضًا، وكان من ذلك ما أراد إليه الحق تبارك وتعالى في غير ما آية من كتاب العزيز كقوله تعالى: (أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة: 75]، وقوله: (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ) [البقرة: 79].
وقوله -عز وجل-: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران: 78]، وذلك لأن الله -عز وجل- لم يتكل بحفظها، وإنما وكل ذلك إلى أهلها فضيعوا وحرفوا وبدلوا، قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ) [المائدة: 44].
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-: (فإن قيل: ما الفرق بين التوراة والقرآن، فإن كلا منهما كلام الله أنزله على رسول من رسله صلوات الله عليهم، والتوراة حرفت، وبدلت .. والقرآن محفوظ من التبديل والتحريف، ولو حرف منه أحد حرفا واحدًا فأبدله بغيره أو زاد فيه حرفا أو نقص منه آخر لرد عليه آلاف الأطفال من صغار المسلمين فضلا عن كبارهم.
_________
(1) عالم في الآثار المصرية، له عدة مؤلفات: انظر: المستشرقون لنجيب العقيقي (2/ 164) والمستشرقون قوم من الغرب تفرغوا لدراسة اللغة وتراث المسلمين للطعن في الإسلام، وتركوا أوطانهم وعاشوا في الشرق ومنهم من تأثر بالإسلام ودخل فيه.
(2) عن كتاب "النبوة والأنبياء" لأبي الحسن الندوي (213).(1/81)
قال: فالجواب: أن الله استحفظهم التوراة، واستودعهم إياها، فخانوا الأمانة ولم يحفظوها، بل ضيوعها عمدا، والقرآن العظيم لم يكل الله حفظه إلى أحد حتى يمكنه تضييعه، بل تولى حفظه جل وعلا بنفسه الكريمة المقدسة كما أوضحه بقوله: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) وقوله: (لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ) [فصلت: 42] إلى غير ذلك من الآيات) (1).
3 - إنه الكتاب المهيمن على الكتب قبله:
لما كان القرآن الكريم هو آخر الكتب السماوية المنزلة، وهو الكتاب الذي يحمل الصورة الأخيرة لدين الله، وهو المرجع الأخير في هذا الشأن، المرجع الأخير في عقائد الناس، وشرائعهم ونظام حياتهم (2)، فقد جعله الله الكتاب المهيمن على الكتب المنزلة قبله، فقال جلا وعلا: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ)، أي: هو الشهيد والأمين والمؤتمن والرقيب والحاكم على كل كتاب قبله كما أثر ذلك عن ابن عباس وغيره (3).
يقول العلامة ابن كثير -رحمه الله-: (وهذه الأقوال كلها متقاربة في المعنى، فإن اسم المهيمن يتضمن هذا كله، فهو أمين، وشاهد، وحاكم على كل كتاب قبله، جعل الله هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها، وشملها وأعظمها وأحكمها، حيث جمع فيه محاسن ما قبله، وزاده من الكمالات ما ليس في غيره، فلهذا جعله شاهدًا وأمينا عليها كلها وتكفل تعالى بحفظه بنفسه الكريمة قال: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9] (4).
4 - إنه الكتاب الوحيد الذي تحدى الله البشر أن يأتوا بسورة من مثله:
القرآن الكريم معجزة الله الخالدة التي آتاها نبيه -صلى الله عليه وسلم- للدلالة على صدقه
_________
(1) انظر: أضواء البيان (2/ 89 - 90).
(2) انظر: سيد قطب في ظلال القرآن (2/ 747).
(3) انظر: تفسير الطبري (10/ 377 - 378).
(4) انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/ 119)(1/82)
ونبوته، فتحدى به الجن والإنس أن يأتوا بمثله فقال: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) [الإسراء: 88]، وقال تعالى: (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ) [الطور: 34]، ثم تحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله، فقال: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [هود. 13].
فلما لم يستطيعوا تحداهم أن يأتوا بسورة فقال: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [يونس: 38] وهذا التحدي من خصائص هذا الكتاب العزيز، ولم يقع لكتاب قبله، لأن الله لم يجعلها معجزة لأنبيائه، وإنما اختص كل نبي منهم بمعجزة رئيسية من جنس ما برع فيه قومه، فكانت معجزة موسى -عليه السلام- إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص لبروز قومه في الطب، ثم جعل معجزة نبينا -صلى الله عليه وسلم- هذا الكتاب الكريم المعجز بنظمه ومعناه فتحدى به العرب مع فصاحتهم وبلاغتهم التي عرفوا بها.
يقول -صلى الله عليه وسلم-: "ما من الأنبياء نبي إلا أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله، فأرجو أن أكون أكثر تبعا يوم القيامة" (1).
قال الإمام ابن كثير في معنى قوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث: "إنما كان الذي أوتيته وحيا" أي الذي اختصصت به من بينهم هذا القرآن المعجز للبشر أن يعارضوه بخلاف غيره من الكتب الإلهية، فإنها ليست معجزة والله أعلم (2).
وبعد: فهذا غيض من فيض من فضائل هذا الكتاب العظيم، الذي أنزل على هذه الأمة، فهو الكتاب الوحيد الذي وصفه الله بأنه أحسن الحديث، والكتاب الوحيد الذي تكفل الله بحفظه وصيانته من بين سائر كتبه، وهو الكتاب الذي جعله الله مهيمنا وشاهدًا على ما قبله من الكتب، حاويا لأفضل وأحسن ما جاء فيها
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزول الوحي (9/ 3)، رقم الحديث (4981).
(2) تفسير ابن كثير (1/ 89).(1/83)
وزائدًا عليها بفضائل كثيرة وهو الكتاب الوحيد الذي تحدى الله الجن والإنس أن يأتوا بمثله أو بمثل سورة من سوره.
وإن اختيار الله -عز وجل- لكتاب بهذه العظمة وهذا الفضل ليكون الكتاب الذي ينزل على هذه الأمة ليدل على فضل هذه الأمة وخيريتها، وقال الحافظ ابن حجر مبينا مناسبة إيراد الإمام البخاري لحديث ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم، كما بين صلاة والعصر ومغرب الشمس، ومثلكم ومثل اليهود والنصارى، كمثل رجل استعمل عمالا، فقال: من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط؟ فعملت اليهود، فقال: من يعمل لي من نصف النهار إلى العصر؟ فعملت النصارى، ثم أنتم تعملون من العصر إلى المغرب بقيراطين قيراطين، قالوا: نحن أكثر عملا وأقل عطاء، قال: هل ظلمتكم من حقكم؟ فقالو: لا، قال: فذاك فضلي أوتيه من شئت" (1). ومناسبة الحديث؛ من باب من جهة ثبوت فضل هذه الأمة على غيرها من الأمة على غيرها من الأمم وثبوت الفضل لها بما ثبت من فضل كتابها الذي أمر بالعمل به (2).
الوجه السابع: كون نبيها أفضل الأنبياء والرسل عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام:
لقد بين -عز وجل- في كتابه الكريم أنه فضل بعض الرسل والأنبياء على بعض فقال: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) [البقرة: 253]، وقال في آية أخرى: (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا) [الإسراء: 55].
قال الإمام ابن كثير -رحمه الله-: ( ... ولا خلاف أن الرسل أفضل من بقية الأنبياء وأن أولى العزم منهم أفضلهم، وهم الخمسة المذكورون نصا في آيتين من
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب فضل القرآن على سائر الكلام (9/ 66، رقم الحديث 5021).
(2) فتح الباري (9/ 67).(1/84)
القرآن في سورة الأحزاب: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) [الأحزاب: 7]، وفي الشورى: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشورى: 13] ولا خلاف أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أفضلهم ثم بعده إبراهيم ثم موسى على المشهور) (1).
فنبينا -صلى الله عليه وسلم- أفضل الخلق قاطبة، وهو سيد البشر، كما أخب عن ذلك -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون بم ذاك؟ " (2) ثم بين -صلى الله عليه وسلم- أنه يشفع للخلق يوم القيامة حين لا يشفع هذه الشفاعة العظمى غيره من الأنبياء والرسول عليهم أفضل الصلاة والسلام، قال -صلى الله عليه وسلم- في حديث آخر: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشف عنه القبر، وأول من شافع وأول مشفع" (3)، وهو -صلى الله عليه وسلم- حين يقول ذلك ويخبر به لا يقوله من باب التفاخر والتعالى، فقد صرح بنفي الفخر في رواية أخرى، فقال: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر" (4). وإنما قاله لوجهين.
أحدهما: امتثال قوله تعالى: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى: 11].
والثاني: أنه من البيان الذي يجب عليه تبليغه إلى أمته ليعرفوه ويعتقدوه ويعملوا بمقتضاه ويوقروه -صلى الله عليه وسلم- بما تقتضي مرتبته، كما أمرهم الله تعالى (5).
ولأنه لا يمكننا معرفة ذلك إلا بخبره -صلى الله عليه وسلم- إذ لا نبي بعده يخبرنا بعظيم قدره عند الله (6)، ولا يشكل على تفضيله -صلى الله عليه وسلم- على غيره من الأنبياء والمرسلين، ما ورد من قوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي هريرة: "لا تخيروني على موسى فإن الناس يصعقون
_________
(1) تفسير القرآن العظيم (5/ 85).
(2) أخرجه مسلم كتاب الإيمان، باب أدني الجنة منزلة (1/ 84، رقم الحديث 327).
(3) أخرجه مسلم، كتاب الفضائل، باب تفضيل نبينا محمد على جميع الخلائق (4/ 1782، رقم 2278).
(4) أخرجه ابن ماجه كتاب الزهد، باب ذكر الشفاعة، (2/ 1440) رقم الحديث 4308، وصححه الشيخ الألباني. انظر: صحيح ابن ماجه (2/ 430).
(5) النووي: شرح صحيح مسلم (15/ 37).
(6) انظر: ابن أبي العز، شرح الطحاوية (174).(1/85)
فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي أو كان ممن استثني الله" (1).
وقوله -صلى الله عليه وسلم- في رواية أخرى: "لا تفضلوا بين الأنبياء" (2).
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا ينبغي لعبد أن يقول إني خير من يونس بن متى" (3). فإن المراد بالنهي: التفضل المؤدي إلى تنقص المفضول من الأنبياء وهذا غير لازم لتفضيل النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنهم أفاضل وهو أفضلهم من غير نقص أو تنقص لمكانتهم صلوات الله وسلامه عليهم.
وقال بعض أهل العلم: (المراد بالنهي: التفضيل المؤدي إلى الخصومة والتنازع وقال بعضهم إنه -صلى الله عليه وسلم- نهى عن تفضيله على موسى أو غيرهم من الأنبياء تواضعا وتأدبا وإلا فهو أفضلهم) (4).
عموم رسالته:
وإن من أعظم ما به فضل نبي هذه الأمة صلوات الله وسلامه عليه، ما خصه الله به، من عموم البعثة، وشمول الرسالة لجميع الأمم، وليس ذلك لأحد قبله من إخوانه الرسل والأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام وفي بيان عموم رسالته يقول المولى تبارك وتعالى: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) [الأعراف: 58].
قال الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره -رحمه الله-: (يقول -تعالى ذكره-لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- قا يا محمد للناس كلهم: (نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) لا إلى بعضكم دون بعض، فمن كان منهم أرسل كذلك، فإن رسالتي ليست إلى بعضكم دون بعض، ولكنها إليكم جميعكم) (5).
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الأنبياء، باب وفاة موسى، (6/ 441) رقم الحديث (3408).
(2) انظر: الفتح (6/ 444)، وتخريج الألباني لشرح الطحاوية (171).
(3) أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله تعالى: (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (6/ 450)
(4) انظر: فتح الباري (6/ 446).
(5) انظر: تفسير الطبري (13/ 170).(1/86)
وقال الإمام ابن كثير -رحمه الله-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) [البقرة:21] وهذا خطاب للأحمر والأسود، والعربي والعجمي، (إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) [الأعراف:158]، أي جميعكم وهذا من شرفه وعظمته أنه خاتم النبيين، وأنه مبعوث إلى الناس كافة، ثم ذكر بعض الآيات الدالة على ذلك وقال: والآيات في هذا كثيرة، كما أن الأحاديث في هذا أكثر من أن تحصر، وهو معلوم من دين الإسلام ضرورة أنه صلوات الله وسلامه عليه رسول إلى الناس كلهم) (1).
ومن الآيات الدالة على عموم رسالته -صلى الله عليه وسلم- قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) [سبأ: 28]، ( ... وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107].
ومن الأحاديث الواردة في ذلك ما جاء في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة" (2).
وكل الأنبياء والرسل قبله صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، كانوا يبعثون إلى أقوامهم خاصة دون غيرهم كما أخبر الله -عز وجل-، فقال عن نوح: (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) [نوح: 1]. وقال: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) [الأعراف: 59]، وقال عن هود -عليه السلام-: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا) [الأعراف: 65].
وقال عن صالح -عليه السلام-: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا) [الأعراف: 73]، وقال عن لوط -عليه السلام-: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ) [الأعراف: 80]، وقال عن شعيب -عليه السلام-: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا) [الأعراف 85]، وقال عن موسى -عليه السلام-:
_________
(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/ 488).
(2) أخرجه البخاري: كتاب التيمم (1/ 435 - 436) رقم الحديث (335).(1/87)
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ) [هود: 96 - 97]، وقال عن عيسي -عليه السلام-: (وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ) [آل عمران: 49].
وقال في حق محمد -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ) [سبأ: 28]، لجميع الناس، بل والجن أيضًا فقد ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- مرسل إليهم أيضًا، وقد بلغهم -صلى الله عليه وسلم- كما أخبر المولى بذلك في قوله: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنْذِرِينَ* قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الأحقاف: 29 - 31].
وقال الإمام ابن كثير في تفسيره -رحمه الله-: (فيه دلالة على أنه تعالى أرسل محمدًا صلوات الله وسلامه عليه إلى الثقلين الإنس والجن حيث دعاهم إلى الله وقرأ عليهم السورة التي فيها خطاب الفريقين وتكليفهم ووعدهم ووعيدهم، وهي سورة الرحمن ولهذا قال: (أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ) (1).
ومما يدل على مبلغ فضله -صلى الله عليه وسلم- وعلو مقامه، أن الله ختم به النبوات وبرسالته تمت الرسالات، فلا تحتاج البشرية بعده إلى نبي، ولا بعد رسالته ودينه الكامل الشامل إلى رسالة أو دين يقول -عز وجل-: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رَّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) [الأحزاب: 40].
وفي الصحيح من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين" (2).
_________
(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (7/ 286).
(2) أخرجه البخاري، كتاب المناقب باب خاتم النبيين (4/ 196 رقم الحديث 3535).(1/88)
وبعد: فإن هذه الأمة إنما حازت قصب السبق إلى الخيرات بنبيها محمد -صلى الله عليه وسلم- فإنه أشرف خلق الله وأكرم الرسل على الله، بعثه الله بشرع كامل عظيم، لم يعطه نبيا قبله ولا رسولا من الرسل، فالعمل على منهجه وسبيله، يقوم القليل منه ما لا يقوم العمل الكثير من أعمال غيرهم مقامه (1).
ولأمة يختار الله أفضل رسله، وأعلاهم مكانة ومنزلة عنده وأحبهم إليه فيبعثه فيها هاديا ونبيا ورسولا لهي أمة حرية بأن تكون خير أمة، لأنها أمة خير الخلق والرسل منه تعلمت وعلى يديه تربت وبه فاقت الأمم (2).
الوجه الثامن: تقديمها على الأمم في الحشر والحساب يوم القيامة ودخول الجنة مع كونها آخر الأمم:
إن مما يدل على فضل هذه الأمة، كونها خير الأمم ما خصها الله به من التكريم والتشريف وتقديمها على سائر الأمم يوم القيامة في الحشر والحساب، كما قال -صلى الله عليه وسلم- "نحن آخر الأمم، وأول من يحاسب يقال: أين الأمة الأمية ونبيها؟ فنحن الآخرون والأولون" (3).
وفي الصحيح أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدًا، والنصارى بعد غدًا" (4).
يقول الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: أي: نحن الآخرون زمانا السابقون منزلة، قال: والمراد أن هذه الأمة وإن تأخر وجودها في الدنيا عن الأمم الماضية، فهي سابقة لهم في الآخرة بأنهم أول من يحشر وأول من يحاسب وأول من يقضي بينهم، وأول من يدخل الجنة.
_________
(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/ 78).
(2) انظر: وسطية أهل السنة بين الفرق (232).
(3) أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب فرض الجمعة (2/ 354) رقم الحديث (876).
(4) نفس المصدر السابق.(1/89)
وقيل: المراد بالسبق: إحراز فضيلة اليوم السابق بالفضل وهو يوم الجمعة، ويوم الجمعة وإن كان مسبوقا بسبت قبله أو أحد لكن لا يتصور اجتماع الأيام الثلاثة متوالية إلا ويكون يوم الجمعة سابقا) (1).
وظاهر الحديث يشمل الأمرين، فقد نص على سبقها يوم القيامة، كما هو نص في سبقها في الاهتداء لأفضل الأيام الذي هو يوم الجمعة مع تأخرها عن اليهود والنصارى في الزمان والله تعالى أعلم، وهي كذلك أول الأمم دخولا الجنة، مع كونها آخر الأمم زمانا، وذلك من تكريم الله لها، وتفضيله إياها، يقول -صلى الله عليه وسلم- في ذلك: "نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة" (2).
الوجه التاسع: كونها أكثر أهل الجنة:
لما كانت هذه الأمة أكثر الأمم استجابة للرسل صلوات الله وسلامه عليهم، حتى كان -صلى الله عليه وسلم- أكثر الأنبياء تابعا، امتازت بأنها أكثر من يدخل الجنة من الأمم، وفي ذلك دلالة جلية على فضلها وخيريتها.
يقول -صلى الله عليه وسلم-: "أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة"؟ قلنا: نعم. قال: "أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة"؟ قلنا: نعم. قال: "أترضون أن تكونوا شطر أهل الجنة؟ " قلنا: نعم. قال: "والذي نفس محمد بيده، إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة، وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر" (3)، وبذلك اتضحت لنا أوجه الخيرية لهذه الأمة، وبينا معنى من معاني الوسطية ألا وهو الخيرية.
_________
(1) انظر: فتح الباري (2/ 354).
(2) أخرجه مسلم، كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة، (2/ 585) رقم (855).
(3) أخرجه البخاري: كتاب الرقاق، باب كيف الحشر (11/ 378) رقم الحديث (6528).(1/90)
الفصل الثاني العدل
المبحث الأول
أقوال المفسرين في (أمة وسطا)
أما العدل فقد صح فيه الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث فسر قوله تعالى: (أُمَّةً وَسَطًا) [البقرة: 143]، بقوله: عدولا، وذلك في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري، حيث قال -رضي الله عنه-: "الوسط العدل" (1)، وفي رواية الطبري: قال: (أُمَّةً وَسَطًا) عدولا (2).
وقال القرطبي -رحمه الله-:: الوسط: العدل، وأصل هذا أن أحمد الأشياء أوسطها، ثم قال: قال علماؤنا: أنبأنا ربنا تبارك وتعالى في كتابه بما أنعم علينا من تفضيله لنا باسم العدالة، وتولية الشهادة على جميع خلقه فجعلنا أولا مكانا، وكنا آخرًا زمانا كما قال -عليه السلام-: "نحن الآخرون والأولون" (3)، وهذا دليل على أنه لا يشهد إلا العدول، ولا ينفذ قول الغير على الغير إلا أن يكون عدلا" (4).
ومما يدل على أن العدل من ملامح الوسطية قول الطبري -رحمه الله-: وأما التأويل فإنه جاء بأن الوسط العدل، وذلك معنى الخيار، لأن الخيار من الناس عدولهم (5) ثم ساق الأدلة من السنة وأقوال السلف في ذلك.
_________
(1) رواه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) (5/ 177) رقم (4487).
(2) تفسير الطبري (2/ 6).
(3) مسلم كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة (2/ 585 رقم الحديث 855).
(4) انظر: تفسير القرطبي (2/ 155).
(5) انظر: تسير الطبري (2/ 7).(1/91)
المبحث الثاني
وجوب العدل على هذه الأمة وصور من قيامها به
العدل من الأسس والقيم التي جاءت بها جميع الشرائع السماوية، فأنزل الله به كتبه، وأرسل به رسله، (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [الحديد: 25]، أي العدل، فما من كتاب أنزل ولا رسول إلا أمر أمته بالعدل، وأوجبه عليها، والأمم بين طائع آخذ منه بنصيب، وحائد مائل عن العدل والقسط بجهل أو هوى، والرسل ما تزال تجدد ما نسيته الأجيال، وتذكر الناس بما نسوا إلى أن ختمت الرسالات بخاتم الأنبياء محمد -صلى الله عليه وسلم-. ولما كانت هذه الرسالة المحمدية خاتمة الرسالات، والنبي -صلى الله عليه وسلم- خاتم الأنبياء والرسل، وهذه الأمة خاتمة الأمم، والأمة التي جعلها الله شاهدة على الناس وقيمة على البشرية، تبلغها دين الله، وتشهد لها بالإيمان أو عليها بالكفر والعصيان: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) فقد كان العدل من أهم ما يجب على هذه الأمة، بل هـ ومن أعظم ما يميزها عن الأمم، ولم يكتف الحق تبارك وتعالى بإيجاب العدل على هذه الأمة، بل أراد منها أن تجعله خلقا من أخلاقها، وصفة من صفاتها، وصبغة تصطبغ بها من دون الناس، فأمرها أن تكون قائمة بالعدل، بل قوامة به بين الناس لله -عز وجل- لا لأي شيء آخر فلا تحابي فيه قريبا لقرابته ولا تضار عدوا لعداوته: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة: 8].
قال الإمام ابن جرير في تفسير هذه الآية: (يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا بالله، وبرسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام لله شهداء بالعدل، في أوليائكم وأعدائكم، ولا تجوروا في أحكامكم وأفعالكم فتجاوزوا ما حددت لكم في أعدائكم لعداوتهم ولا تقصروا فيما حددت لكم من أحكامي،(1/92)
وحدودي في أوليائكم لولايته من لكم، ولكن انتهوا في جميعهم إلى حدي واعملوا فيه بأمري) (1).
وقال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: (أي: كونوا قائمين بالحق لله -عز وجل- لا لأجل الناس والسمعة، وكونوا شهداء بالقسط، أي بالعدل لا بالجور (لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) أي لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل فيهم، بل استعملوا العدل في كل أحد، صديقا كان أو عدوا) (2) وقال في موضع آخر: (أي: لا يحملنكم بغض أقوام على ترك العدل، فإن العدل واجب على كل أحد في كل أحد في كل حال) (3).
فالعدل الذي أمرت به هذه الأمة، حق عام لكل أحد من الناس، لا يحجبه عن مستحقه شنآن ولا عداوة، ولا يحول دونه اختلاف لون لا جنس ولا دين: (إِنَّ اللهَ يَأمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) [النساء: 58].
فالعدل حق لكل الناس وجميع الناس، لا عدلا بين المسلمين بعضهم وبعض فحسب، ولا عدلا مع أهل الكتاب دون سائر الناس، وإنما هو لكل إنسان بوصفه (إنسان) فهذه الصفة - صفة الناس- هي التي يترتب عليها حق العدل في المنهج الرباني، وهذه الصفة التي يلتقي عليها البشر جميعا، مؤمنين وكفارا، أصدقاء وأعداء، سودًا وبيضا، عربا وعجما، والأمة المسلمة قيمة على الحكم بين الناس بالعدل - متى حكمت في أمرهم- (4).
العدل واجب على هذه الأمة ولو كان فيه مراغمة لعواطف البغض والعداوة: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) وهو كذلك واجب
_________
(1) تفسير الطبري (10/ 95).
(2) تفسير القرآن العظيم (3/ 58).
(3) انظر: نفس المصدر.
(4) انظر: في ظلال القرآن (2/ 414).(1/93)
لو كان فيه مراغمة لكافة عواطف الحب والمودة والقرابة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ) [النساء: 135]. والأمة مأمورة بأن تقوم بالعدل والقسط والشهادة لله وليس لأحد سواه، وأن يكون ذلك منهم بدافع التقوى والخوف من الله -عز وجل- حتى يصبح الجميع أمام العدل سواء بدون اعتبار لدوافع الحب والولاء والقرابة، أو البغضاء والشنآن والعداوة، لأنها إنما تقوم بالعدل والقسط بين الناس وبأمر الله، والعدل بهذه الصورة الشاملة، لم تعرفه البشرية قط إلا على يد هذه الأمة، ولم تنعم به البشرية قط إلا تحت حكم الأمة المسلمة.
ثانيا: قيام هذه الأمة بالعدل:
لم يكن العدل في حياة هذه الأمة المحمدية الخاتمة مجرد مثل عليا، أو وصايا تفخر بها دون ممارسة أو تطبيق، ولكنه كان واقعا عاشته هذه الأمة ومارسته، وطبقته في واقع حياتها، على مر تاريخها الطويل، على تفاوت في ذلك التطبيق بين زمان وزمان، ودولة ودولة، وحسب اشتعال جذوة الإيمان في قلوب الحاكمين وخبوئها، غير أن ما يقطع به أنه لم يخل زمان ممن يقيم الحق والعدل، ويقوم بالقسط ويحكم به من هذه الأمة.
وحسبنا أن نذكر فيما يلي صورًا من عدل هذه الأمة فيما بينها، ومع أعدائها وخصومها، وأهل ذمتها وسنختار هذه الصور من واقع الأمة من خلال تاريخها الطويل، ليعلم أن هذه الأمة لم تزل قائمة بالقسط بين الناس شاهدة به على الناس لله، وأنها جديرة بأن تكون الأمة الوسط الشاهدة على البشرية، وأولى هذه الصور نعيشها مع سيد الخلق وإمام العالمين نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- إمام هذه الأمة ومعلمها الخير، وهو يضرب أروع الأمثلة ويلقن أمته أبلغ دروس العدل والإنصاف والمساواة (1).
_________
(1) انظر: وسطية أهل السنة بين الفرق (168).(1/94)
فها هو -صلى الله عليه وسلم- يقيد أصحابه من نفسه في طعنة طعنها إياه بالقدح في بطنه أثناء تسويته الصف للقتال، روى ابن إسحاق (1) أنه -صلى الله عليه وسلم-: (عدل صفوف أصحابه يوم بدر وفي يده قدح (2) يعدل به القوم، فمر بسواد بن غزية (3) وهو مستنتل من الصف، قال ابن هشام (4): ويقال: مستنصل (5) من الصف- فطعنه في بطنه بالقدح - وقال: استو يا سواد، فقال: يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك بالحق والعدل فأقدني، فكشف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بطنه: وقال: "استقد". قال: فاعتنقه فقبل بطنه، فقال: "ما حملك على هذا يا سواد؟ " قال: يا رسول الله، حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك فدعا له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخير" (6).
وجاء يهودي يشتكي إليه أحد أصحابه قائلا: (يا محمد: إن لي على هذا أربعة دراهم وقد غلبني عليها، قال: "أعطه حقه"، قال: والذي نفسي بيده، ما أقدر عليها، قد أخبرته أنك تبعثنا إلى خيبر فأرجو أن تغنمنا شيئا فأجع فأقضيه، قال: "أعطه حقه". وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قال ثلاثًا لم يراجع ... ) (7).
وكان -صلى الله عليه وسلم- يقيم حدود الله على من وجب عليه ذلك في عدل وإنصاف لا تأخذه في ذلك لومة لائم ولا قرابة قريب ولا مكانة شريف، فها هو -صلى الله عليه وسلم- وهو
_________
(1) هو العلامة الإخباري أبو بكر القرشي الكلبي مولاهم المدني صاحب السيرة لانبوية ولد عام (80 هـ) وتوفى عام (151هـ) وقال عنه الذهبي: هو أول من دون العلم في المدينة قبل مالك وذويه وكان في العلم بحرًا عجاجا ولكنه ليس بالمجود كما ينبغي. انظر: سير أعلام النبلاء (7/ 35).
(2) القداح: (بكسر القاف وسكون الدال السهم) لسان العرب (2/ 556).
(3) هو: سواد بن غزية الأنصاري من بني عدي بن النجار، شهد بدرًا وأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- على خيبر. انظر: ابن حجر، الإصابة (2/ 95).
(4) هو أبو محمد عبد الملك بن هشام أيوب الذهلي، وقيل الحميري، وهو الذي قام بتهذيب سيرة ابن إسحاق، وهو من أئمة اللغة والنحو، كان مقيما بمصر، واجتمع بالشافعي توفى عام 218هـ). انظر سير أعلام النبلاء (10/ 429).
(5) مستنصل: أي خارج، من نصل، بمعنى: خرج: لسان العرب (11/ 662).
(6) سيرة ابن هشام (1/ 626) بتحقيق مصطفي السقا وزملائه.
(7) أخرجه أحمد (2/ 423).(1/95)
الصادق المصدوق البار في قسمه يقول: لو أن ابنته سرقت لأقام عليها الحد، لا يدفعه عنها كونها ابنة محمد -صلى الله عليه وسلم-.
وأخرج الإمام البخاري عن عائشة -رضي الله عنها-: (أن قريشا أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم رسول الله ومن يجترئ عليها إلا أسامة فقال: "أتشفع في حد من حدود الله؟ " ثم قام: فخطب فقال: "يا أيها الناس إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها" (1).
فإن قيل: هذا محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وليس غريبا منه هذا العدل، ومن يعدل إن لم يعدل هو؟
قلنا: وهذا رجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يهتدي بهدى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقيم العدل والقسط بين الناس يحكم بالحق لرجل يهودي على مسلم، ولم يحمله كفر اليهودي على ظلمه والحيف عليه، أخرج الإمام مالك (2) من طريق سعيد بن المسيب: (أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- اختصم إليه مسلم ويهودي، فرأى عمر أن الحق لليهودي فقضى له، فقال له اليهودي: والله لقد قضيت بالحق ... ) (3).
وكان -رضي الله عنه- يأمر عماله أن يوافوه بالمواسم، فإذا اجتمعوا قال: أيها الناس إني لم أبعث عمالي عليكم ليصيبوا من أبشاركم، ولا من أموالكم، إنما بعثتهم ليحجزوا بينكم، وليقسموا فيئكم بينكم، فمن فعل به غير ذلك فليقم، فما قام أحد إلا رجل واحد قام فقال: يا أمير المؤمنين إن عاملك فلانا ضربني مائة سوط، قال: فيم ضربته؟ قم فاقتضي منه، فقام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين إنك إن فعلت
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الحدود، باب كراهية الشفاعة إذا رفع إلى السلطان (12/ 87)، رقم الحديث (6788).
(2) هو الإمام مالك بن أنس بن أبي عامر بن عمرو، إمام دار الهجرة، ولد عام (93هـ) عام موت أنس بن مالك بن النضر، خادم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وطلب العلم بصدق وإخلاص، فكان أحد الأئمة الأربعة فنفع الله به المسلمين وتوفى 179هـ، انظر: سير أعلام النبلاء (8/ 49 - 135).
(3) الموطأ: كتاب الأقضية، باب الترغيب في القضاء بالحق، (719) رقم الحديث (2).(1/96)
هذا يكثر عليك ويكون سنة يأخذ بها من بعدك، فقال: أنا لا أقيد، وقد رأيت رسول الله يقيد من نفسه، قال: فدعنا فلنرضه، قال: دونكم فارضوه، فافتدي منه بمائتي دينار كل سوط بدينارين (1). وإن لم يرضوه لأقاده (2) -رضي الله عنه-.
وجاء رجل من أهل مصر يشكو ابن عمرو بن العاص واليه على مصر قائلا: (يا أمير المؤمنين عائذ بك من الظلم، قال: عذت معاذًا قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني بالسوط ويقول: أتسبقني وأنا ابن الأكرمين؟
فكتب عمر إلى عمرو -رضي الله عنه- يأمره القدوم ويقدم بابنه معه، فقدم فقال عمر: أين المصري؟ خذ السوط فجعل يضربه بالسوط ويقول عمر: اضرب ابن الأكرمين، قال أنس: فضرب، فوالله، لقد ضربه ونحن نحب ضربه، فما رفع عنه حتى تمنينا أن يرفع عنه، ثم قال عمر للمصري: اصنع على صلعة عمرو، فقال: يا أمير المؤمنين إنما ابنه الذي ضربني وقد اشتفيت منه، فقال عمر لعمرو: منذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟! قال: يا أمير المؤمنين لم أعلم ولم يأتني (3).
فانظر إلى هذه المواقف الرائعة لعدالة هذه الأمة، رجل من عامة لاناس وفي رواية أنه ذمي من أقباط مصر، يتظلم فيعطى حقه ويقاد من ابن الأمير يجاء به وبأبيه ليعطي الرجل حقه وينصف، ثم انظر إلى الحاضرين من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كيف أحبوا ذلك وأيدوه (فوالله، لقد ضربه ونحن نحب ضربه) لا تشفيا منه ولا شماتة بعمرو وابنه، فالقوم فوق ذلك وأبعد ما يكونون عن التشفي والشماتة، ولكنهم جيل أحب العدل وعاشه وتربى عليه على يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لذلك فهو يبغض الجور ولا يحب رؤيته في الأمة ولو كان رجلا مخالفا لها في عقيدتها ودينها وشرعها، ويفرح أشد الفرح لرؤية العدالة ترمي بجذورها في أعماق الأمة ليؤخذ حق ضعفائها وأتباعها من أقويائها (4).
_________
(1) الطبقات الكبرى، لابن سعد (3/ 293 - 294).
(2) أقاده: اقتص منه.
(3) فتوح مصر والمغرب لابن عبد الحكم (225 - 226).
(4) انظر: وسطية أهل السنة بين الفرق (170).(1/97)
فإن قيل: هذا الخليفة الثاني أمير المؤمنين عمر الفاروق ومثله خليق بإقامة العدل في رعيته!
فإليك صورة أخرى بطلها ليس بخليفة ولا أمير، ولكنه رجل من عامة أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو الصحابي الجليل عبد الله بن رواحة (1)، يكل إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- خرص مزارع خيبر التي تركها -صلى الله عليه وسلم- بيد اليهود، فيحاول اليهود رشوته ليخفف عليهم في الخرص، فيشتد غضبه -رضي الله عنه- أن ساوموه على أمانته وعدالته ويقول مخاطبًا إخوان القردة والخنازير: (يا معشر اليهود: أنتم أبغض الخلق إلي، قتلتم أنبياء الله -عز وجل-، وكذبتم على الله، وليس يحملني بغضي إياكم على أن أحيف عليكم وقد خرصت عشرين ألف وسق من تمر، فإن شئتم وإن أبيتم فلي، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض قد أخذنا فاخرج عنا) (2).
وأقر اليهود بعدم ظلمه واعترفوا بعدله وإنصافه، فإن قيل هذا صحابي جليل تربى على يد الرسول -صلى الله عليه وسلم- فليس ببدع أن يعدل ويحكم بالقسط إذا وكل إليه الحكم في أمر من الأمور.
قلنا: لندع جيل الصحابة رضوان الله عليهم، فإنهم جيل فريد الأصل فيهم الخير والعدالة، ولنتجاوزهم إلى غيرهم ممن جاء بعدهم: فهذا شريح القاضي (3) -رحمه الله-: يتحاكم إليه أمير المؤمنين وخليفة المسلمين ورجل ذمي فيحكم شريح يرحمه الله للذمي على أمير المؤمنين، فقد أخرج البيهقي (4) بسنده عن الشعبي (5)
_________
(1) هو عبد الله بن رواحة بن ثعلبة لأنصاري الخزرجي الشاعر المشهور، أحد النقباء ليلة العقبة، شهد بدرًا، وما بعدها، إلى أن استشهد بمؤتة، ابن حجر، الإصابة (2/ 306).
(2) أخرجه أحمد في مسنده (3/ 367) قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجاله رجال الصحيح (4/ 22).
(3) هو شريح بن الحارث بن قيس الكندي، قاضي الكوفة كان يكني أبا أمية، توفى سنة ثمان أو تسع وسبعين وقد عاش مائة وثماني سنين، ترجمته في طبقات ابن سعد (6/ 131)، والحلية لأبي نعيم (4/ 132) وسير أعلام النبلاء (4/ 100).
(4) هو الإمام العلم أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي الشافعي، الحافظ، صاحب التصانيف الكثيرة السائرة، لزم الحاكم مدة، وأخذ عنه، وعن غيره، توفى عام (458هـ) انظر: سير أعلام النبلاء (18/ 163).
(5) هو التابعي عامر بن شرحبيل الشعبي الحميري أبو عمرو، ولد سنة (19هـ) بالكوفة عد من أذكياءالعالم، توفى سنة 103هـ، انظر تهذيب التهذيب (5/ 65).(1/98)
قال: خرج علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- إلى السوق فإذا هو بنصراني يبيع درعا قال: فعرف علي -رضي الله عنه- الدرع، فقال: هذه درعي، بيني وبينك قاضي المسلمين، قال: وكان قاضي المسلمين شريح، كان علي -رضي الله عنه- استقضاه، قال: فلما رأي شريح أمير المؤمنين قام من مجلس القضاء وأجلس عليا -رضي الله عنه- في مجلسه، وجلس شريح قدامه إلى جانب النصراني، فقال له علي -رضي الله عنه- يا شريح لو كان خصمي مسلما لقعدت معه مقعد الخصم، ولكني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (لا تصافحوهم ولا تبدؤهم بالسلام، ولا تعودوا مرضاهم، ولا تصلوا عليهم، ولجوهم إلى مضايق الطريق، وصغروهم كما صغرهم الله" (1).
اقض بيني وبينه يا شريح فقال شريح: ما تقول يا أمير المؤمنين؟ قال: ف قال علي -رضي الله عنه- هذه درعي ذهبت مني منذ زمان قال: فقال شريح: ما تقول يا نصراني؟ (2).
قال: فقال: ما أكذب يا أمير المؤمنين الدرع هو درعي، فقال شريح: ما أرى أن تخرج من يده فهل من بينة؟ فقال علي -رضي الله عنه- صدق شريح. قال: فقال النصراني: أما أنا أشهد أن هذه أحكام الأنبياء أمير المؤمنين يجيء إلى قاضيه، وقاضيه يقضي عليه، هي والله يا أمير المؤمنين درعك، اتبعتك من الجيش وقد زالت عن جملك الأورق، فأخذتها، فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، قال: فقال علي -رضي الله عنه- أما إذا أسلمت فهي لك، وحمله على فرس عتيق، قال فقال الشعبي: لقد رأيته يقاتل المشركين) (3).
ويبين لنا هذا النص كيف كان قضاة المسلمين يصدرون أحكامهم العادلة فيما يعرض عليهم من قضايا في حرية تامة ولا تأخذهم في إقامة العدل لومة لائم، القوى والضعيف، الحكم والمحكوم، المسلم والذمي، الراعي والمرعي، الأمير والحقير كل أمام القضاء سواء. لذا حكم القاضي شريح على أمير المؤمنين -رضي الله عنه- للنصراني
_________
(1) السنن الكبرى، كتاب آداب القاضي (10/ 136).
(2) وفي رواية أن خصم علي -رضي الله عنه- يهودي: انظر: الحلية لأبي نعيم (4/ 139).
(3) السنن الكبرى، كتاب آداب القاضي، باب إنصاف الخصمين (10/ 136).(1/99)
بما رأه حقا، وأمير المؤمنين -رضي الله عنه- يرضى بالحكم ويصدق شريحا على صحة ما قضى به، لأنه حكم بمقتضى قواعد الشرع، فكان ذلك كله سببا في إسلام نصراني واهتدائه لما رأي من قيام هذه الأمة في رعاياها وأهل ذمتها بالعدل والقسط الذي هو من أحكام الأنبياء (1).
_________
(1) انظر: وسطية أهل السنن بين الفرق (174).(1/100)
المبحث الثالث
اعتراف أعداء هذه الأمة بعدالتها
بلغت عدالة هذه الأمة يوم أن كانت في أوج قوتها ونفوذ سلطانها، وقدرتها على البطش والظلم -إن أرادت- حدًا أذهل الأعداء والخصوم، وجعلهم مشدوهين أمام عظمة هذه الأمة، والدين الذي تدين به وتدعو الأمم إليه، ومما جعلهم - على ما في قلوبهم من غل وحقد وحسد- يشيدون بعدالة هذه الأمة وسماحتها وقيامها بالقسد مع صومها ومن يعيش في كنفها من أهل الديانات الأخرى قبل أبنائها ومواطنيها فنطقت ألسنتهم بما رأوا ولمسوا من العدل والإنصاف والسماحة التي عاشوها وعوملوا بها في رحاب هذه الأمة وتحت سلطانها، وحين تأتي الشهادة لهذه الأمة من الأعداء والخصوم، فهي شهادة غير متهم ولا محاب، بل هي شهادة عدو، وخصم أنطقه واقع العدل الذي نعم به في جوار هذه الأمة والرحمة التي مسته مما لم يجد لها مثيلا حتى من بني قومه وعقيدته.
وقديما قيل: والفضل ما شهدت به الأعداء.
وهذه مجموعة من اعترافات وشهادات الأمم وأهل الأديان الأخرى بعدالة هذه الأمة وإنصافها لمن عاش تحت شريعتها منهم.
1 - روى البلاذري (1) من طريق سعيد بن عبد العزيز (2)
قال: بلغني أنه لما جمع هرقل (3) للمسلمين الجموع وبلغ المسلمون إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك، ردوا على أهل حمص (4) ما كانوا أخذوا منهم من الخراج، وقالوا: قد شغلنا عن
_________
(1) هو أبو جعفر أحمد بن يحيي بن جابر بن داود البلاذري ولد في أواخر القرن الثاني الهجري ببغداد ورحل في طلب العلم، وترجم كتاب من الفارسية إلى العربية كان عالما فاضلا شاعرا راوية نسابة، وله مؤلفات أشهرها أنساب الأشراف، توفى عام 279 هـ، انظر: معجم الأدباء (5/ 92)، النجوم الزاهرة (2/ 82).
(2) هو: سعيد بن عبد العزيز التنوخي الدمشقي مفتى الشام، أحد الأئمة ثقة حجة مات عام 167هـ.
انظر: الذهبي ميزان الاعتدال (2/ 149).
(3) هرقل: ملك الروم.
(4) قال الحموي: بلد مشهور قديم بين دمشق وحلب. انظر: معجم البلدان (2/ 203).(1/101)
نصرتكم، والدفع عنكم، فأنتم على أمركم، فقال أهل حمص: لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم (1) ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم ... ) (2).
وكان أهل حمص نصارى، صالحهم المسلمون على أن يدفعوا الجزية والخراج ويتكفل ولي أمر المسلمين بحمايتهم، ودفع الأعداء عنهم، وقد كانوا قبل حكم المسلمين تحت حكم الروم وهم على دينهم.
فلما رأى المسلمون أنهم غير قادرين على الوفاء لهم بشرط الحماية ردوا عليهم ما أخذوا منهم، فأكبر ذلك أهل حمص، لأنهم لم يعهدوا مثله في أمة غير المسلمين وأشادوا بعدل المسلمين وحسن ولايتهم عليهم، وأنهم أحب إليهم من الروم مع كونهم على دينهم. وهذه شهادة صريحة بعدالة هذه الأمة التي مارست منهم القرآن في حياتها.
وهذا اعتراف آخر وشهادة أخرى من أهل وادي الأردن: لقد كتبوا إلى قائد المسلمين آنذاك وهو أبو عبيدة عامر بن الجراح (3) -رضي الله عنه- معربين عن تمنيهم لحكم المسلمين لما لمسوا من عدالتهم ووفائهم ورأفتهم بهم وأنهم يفضلونهم على الروم وإن كانوا على دينهم، قائلين: (يا معشر المسلمين أنتم أحب إلينا من الروم، وإن كانوا على ديننا، أنتم أوفى لنا وأرأف بنا، وأكف عن ظلمنا وأحسن ولاية علينا ولكنهم غلبونا على أمرنا وعلى منازلنا) (4).
2 - شهادة المستشرق توماس و. آرنولد (5): يقول في كتابه: (الدعوة إلى
_________
(1) الغشم: الظلم والعصب. انظر لسان العرب (12/ 437) مادة غشم.
(2) فتوح البلدان (143).
(3) هو أبو عبيدة بن عبد الله بن الجراح، أحد العشرة المبشرين بالجنة، أسلم قديما وشهد بدرًا، مات شهيدًا بطاعون عمواس سنة ثماني عشرة، وله ثمان وخمسون سنة، ابن حجر التقريب، (1/ 388).
(4) فتوح الشام (97).
(5) تومس ووكر آرنولد (1280 - 1349هـ) مستشرق إنكليزي، تعلم في كمبردج، واشتغل بالتدريس في عدة جامعات بالهند وباكستان، ثم عاد إلى لندن ودرس في جامعتها، وعين مديرًا لمعهد الدراسات الشرقية، له عدة كتب بالإنجليزية عن العلوم الإسلامية، الأعلام للزركلي (2/ 76 - 77).
انظر: نجيب العقيقي، المستشرقون (2/ 84).(1/102)
الإسلام) وهو يتحدث عن اضطهاد الفرس للمسيحيين، موازنا بين سلوكهم وسلوك المسلمين: ولكن مبادئ التسامح الإسلامي حرمت مثل هذه الأعمال - التي كان يمارسها الفرس على رعاياهم من المسيحيين التي تنطوي على الظلم - بل كان المسلمون على خلاف غيرهم، إذ يظهر لنا أنهم لم يألوا جهدًا في أن يعاملوا كل رعاياهم من المسيحيين بالعدل والقسطاس) (1).
وقال عن إيثار أهل القدس وفلسطين لحكم المسلمين واغتباطهم به: (ومن المؤكد أن المسيحيين من أهل هذه البلاد، أي: القدس قد آثروا حكم المسلمين على حكم الصليبيين) (2).
3 - شهادة واعتراف المستشرق الأمريكي وول ديورانت: وهذا مستشرق يهودي صهيوني حاقد وضع في كتابه (قصة الحضارة) السم في الدسم، وطعن في الإسلام ونبيه -صلى الله عليه وسلم- وتعرض للمسيح -عليه السلام- بالطعن كثيرا، مما يجعلني أن أحذر من هذا الكتاب وأذكر من أراد أن يطلع عليه أن يتوخى الحذر ويتنبه لتلك السموم التي نشرها في كتابه هذا، ومع هذا أراد الله أن يظهر الحق على لسان هذا العدو اللدود.
يقول ديورانت مبينا أوضاع حال أهل الذمة الذين يعيشون في ظل الدولة الإسلامية: ولقد كان أهل الذمة المسيحيون، والزرادشتيون (3) واليهود، والصابئون (4) يتمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح لا نجد لها نظيرًا في البلاد المسيحية في هذه الأيام، فلقد كانوا أحرارًا في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم، ولم يفرض عليهم أكثر من ارتداء زي ذي لون خاص، وضريبة
_________
(1) ترجمة حسن إبراهيم وزملائه (88).
(2) الدعوة إلى الإسلام (116).
(3) الزرادشتيون: اتباع زرادشت بن بورشب وهو رجل ظهر في أذربيجان في زمان الملك كشتاسب بن الهراست، وزعم أنه نبي، وله كتاب يسمى (زنداوستا) زعم أنه أنزل عليه، وكان يدعو إلى عبادة الله، والكفر بالشيطان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم دخل التحريف الزرادشتية وآلت إلى أن أصبحت ديانة ثنوية مجوسية، انظر: الشهرستاني، الملل (2/ 41).
(4) الصابئة: نوعان حنفاء موحدون، وصابئة مشركون يعبدون الكواكب، انظر: ابن تيمية، الرد على المنطقيين (288).(1/103)
عن كل شخص، تختلف باختلاف دخله ... ولم تكن هذه الضريبة (1) تفرض إلا على غير المسلمين القادرين على حمل السلاح، ويعفى منها الرهبان، والنساء، والذكور الذين هم دون البلوغ والأرقام والشيوخ، والعجزة، والعمى، والفقر الشديد. وكان الذميون يعفون في نظير هذه الضريبة من الخدمة العسكرية ... ولا تفرض عليهم الزكاة ... وكان لهم على الحكومة أن تحميهم) (2).
وهذا الشاهد التاريخي من مستشرق يهودي صهيوني يثبت أن المسلمين في الأندلس عاملوا أهل ذمتهم وفق القواعد التي وضعها وحددها الإسلام، وهي قواعد توفر لأهل الذمة الحماية وعدم الظلم وتسبغ الرحمة والعطف على الفقراء وذوي الأعذار، وتوفر لهم حرية ممارسة دينهم، وحرية الاكتساب، وهذا غاية العدل؛ بل هو إلى الفضل أقرب.
4 - اعتراف المستشرق ستانلي لين بول:
نقل عنه صاحب (قصة الحضارة) العبارة التالية: لم تنعم الأندلس طول تاريخها بحكم رحيم، عادل، كما نعمت به في أيام الفاتحين) (3).
ثم عقب المستشرق اليهودي -بقوله-: (ذلك حكم يصدره مستشرق مسيحي عظيم) ثم علب عليه حسده وخبثه وحقده وأراد أن يقلل من شأن هذه الشهادة والإشادة مع اعترافه بصحة حكم إستانلي، قائلا: (قد يتطلب تحمسه شيئا من التقليل من ثنائه، لكن هذا الحكم بعد أن نقص منه ما عساه أن يكون فيه من التحمس يظل مع ذلك قائما صحيحا) (4).
_________
(1) ليست ضريبة، إنما هي الجزية تؤخذ مقابل توفير المسلمين لهم الحماية والأمان حتى من أعدائهم الخارجين.
(2) قصة الحضارة (13/ 130 - 131).
(3) إن عبارة الفاتحين العرب دس من المستشرقين وخصوصا أن طلائع الفتح الأولى كانت بقيادة طارق بن زياد، وهو من أصل بربري، والصحيح أن هذه البلدان فتحها المجاهدون المسلمون لنشر دين الله في الأرض.
(4) قصة الحضارة (13/ 292).(1/104)
المبحث الرابع
العدل عند أهل الكتاب
إذا تكلمنا عن العدل عند أهل الكتاب، وبينا ما وصلوا إليه من ظلم وجور، وجنوح عن الإنصاف والقسط، وهم أهل كتاب أنزل الله عليهم الكتب، وأرسل إليهم الرسل تترى، ومع ذلك حادوا عن الحق وحرفوا وظلموا وطغوا واستبدوا فكيف بغيرهم من الأمم التي لم تحظ بما حظوا به من توالي الرسالات وكثرة لأنبياء ولذلك نكتفي بالعدل عند أهل الكتاب خشية الإطالة.
وسأبين العدل عند اليهود أولا فيما بينهم، ثم يما بينهم وبين غيرهم من الناس، ثم عن العدل عند النصارى كذلك فيما بينهم، ثم فيما بينهم وبين الأمم الأخرى.
أولا: مبدأ العدل عن اليهود:
أ- العدل فيما بينهم:
لقد أمرهم أنبياؤهم أن يقوموا بالعدل والقسط، وأن لا يتظالموا ولا يظلموا أحدًا، وأنزل الله عليهم التوراة فيها هدى ونور، وفصل لهم فيها الحدود والأحكام والقصاص العادل، كما أخبر الله بذلك في القرآن الكريم، حيث يقول تبارك وتعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [المائدة: 44 - 45].
وبقي بين أيدي اليهودي من أسفار التوراة -مع تحريفهم وتبديلهم لها- أثر مما(1/105)
ورد ذكره في القرآن الكريم، وسأورد فيما يلي بعض نصوص أسفار التوراة، التي توجب على اليهود الحكم بالعدل والقسط، وتحذرهم من الظلم والجور في القضاء والكيل والوزن، ففي (سفر اللويين) أن الرب كلم موسى -عليه السلام- قائلا: (لا ترتكبوا جورا في القضاء، ولا تأخذوا بوجه مسكين ولا تحترم وجه كبير، بالعدل تحكم لقريبك) (1).
وفيه أيضًا: (وإذا نزل عندكم غريب في أرضكم فلا تظلموه، كالوطني منكم يكون لكم الغريب النازل عندكم وتحبه كنفسك، لأنكم كنتم غرباء في أرض مصر، أنا الرب إلهكم لا ترتكبوا جورًا في القضاء لا في القياس ولا في الوزن ولا في الكيل، ميزان حق ووزنات حق وإيفة حق وهبن حق تكون لكم أنا الرب إلهكم الذي أخرجكم من أرض مصر فتحفظون كل فرائضي وكل أحكامي وتعملونها أنا الرب) (2).
وفيه أيضًا ما يدل على القصاص وأن النفس بالنفس: (وإذا أمات أحد إنسانا فإنه يقتل) (3)، ومن قتل بهيمة يعوض عنها ومن قتل إنسانًا يقتل، حكم واحد يكون لكم، الغريب يكون كالوطني إني أنا الرب إلهكم) (4).
وفي (سفر الخروج): (من ضرب إنسانا فمات يقتل قتلا) (5)، فقد دل إذن القرآن الكريم، وأسفار التوراة التي بقيت بأيديهم على وجوب العدل عليهم والقصاص الحق عندهم، وتحريم الظلم والجور، فماذا فعل اليهود؟ لقد تلاعبوا بالنصوص وبدلوها وحرفوها، ولم يقوموا فيها بينهم بالعدل والقسط، وفرقوا بين القوى والضعيف، والحاكم والمحكوم والغني والفقير والشريف والوضيع، ولم يعدلوا بين الخلق في إقامة القصاص والحدود، كما أخبرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنهم في حديث المخزومية التي سرقت فقطع يدها وغضب ممن جاء يشفع فيها وقام فيهم خطيبا قائلا: "أيها
_________
(1) إصحاح (19) فقرة (15).
(2) إصحاح (19) فقرة (33 - 37).
(3) لاوبين: إصحاح (24) فقرة (17).
(4) لاوبين: إصحاح (24) فقرة (21 - 22).
(5) إصحاح (21) فقرة (12).(1/106)
الناس إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد ... " (1).
ومن الأدلة على هذه المسلك المشين ليهود ما أخرجه أبو داود وغيره عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان قريظة والنظير، وكان النضير أشرف من قريظة، فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به، وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فودى بمائة وسق من تمر، فلما بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- تل رجل من النضير رجلا من قريظة فقالوا: ادفعوه لنا نقتله، ف قالوا: بيننا وبينكم النبي -صلى الله عليه وسلم- فأتوه فنزلت على الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) [المائدة: 42]، والقسط النفس بالنفس، ثم نزلت: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة: 50] (2).
فانظروا كيف مالوا عن حكم الله -عز وجل- وتلاعبوا بحدوده، فأقاموا الحد، والقصاص على الضعيف فيهم، وصرفوه عن ذي المكانة والقوة والمنعة، والعجب لا ينقضي من تمالئهم على ذلك واتفاقهم عليه، وهذا شاهد آخر على اختلاف ميزان العدل عند اليهود، ومبلغ ظلمهم وجورهم، وتعطيلهم لحدود الله -عز وجل-: أخرج الإمام البخاري -رحمه الله-: عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: "إن اليهود جاؤوا إلى رسول الله فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ " فقالوا: نفضحهم، ويجلدون، قال عبد الله بن سلام (3): كذبتهم إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده، فإذا فيها آية الرجم، قالوا: صدق يا محمد فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرجما، فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة" (4).
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الحدود، باب كراهية الشافعة في الحد إذا رفع إلى السلطان (12/ 87)، رقم الحديث (6788).
(2) أخرجه أبو داود، كتاب الديات، باب النفس بالنفس، (4/ 634)، رقم الحديث (4494).
(3) هو عبد الله بن سلام بن الحارث الإسرائيلي حليف بني ع وف بن الخزرج اسلم عند قدوم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة، وشهد له الرسول بالجنة، وشهد مع عمر فتح بيت المقدس، والجابية، وتوفى عام (43هـ) انظر ترجمته في تهذيب التهذيب (5/ 249).
(4) أخرجه البخاري: كتاب الحدود، باب أحكام أهل الذمة وإحصانهم إذا زنوا، ورفعوا للإمام: (12/ 166 رقم الحديث 6841).(1/107)
وفي رواية مسلم (1): "أن اليهود حمموا وجه الزاني وجلدوه ولما سألهم النبي -صلى الله عليه وسلم- قائلا: أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم قالوا: نعم، فدعا رجلا من علمائهم فقال: "أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ " قال: لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك نجده الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، قلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف، والوضيع فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم .. " (2).
وفي سفر التثنية من التوراة جاء في شأن حد الزاني النص الآتي: (ولكن كان هذا الأمر صحيحا لم توجد عذرة الفتاة، يخرجون الفتاة إلى باب بيت أبيها ويرجمها رجال مدينتها بالحجارة حتى تموت، لأنها عملت قباحة في بني إسرائيل بزناها في بيت أبيها، فتنزع الشر من وسطك.
وإذا وجد رجل مضطجعا مع امرأة زوجة بعل يقتل الاثنان الرجل المضطجع مع المرأة والمرأة، فتنزع الشر من إسرائيل.
إذا كانت فتاة عذراء مخطوبة لرجل فوجدها رجل في المدينة فاضطجع معها فأخرجوهما كليهما إلى باب تلك المدينة وارجموها بالحجارة حتى يموتا، الفتاة من أجل أنها لم تصرخ في المدينة، والرجل من أجل أنه أذل امرأة صاحبه، فتنزع الشر من وسطك" (3).
ب- العدل عند اليهود مع غيرهم من الأمم:
إن نظرة اليهود إلى غيرهم من الأمم والشعوب نظرة تعال وازدراء، فهم يرون أنهم شعب الله المختار، وأنهم أبناء الله وأحباؤه كما أخبر الله عن مقالتهم هذه
_________
(1) هو مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري أحد أئمة الحديث ومشاهيره، ولد عام (204) وتوفى عام (261هـ) وصحيح مسلم يحتل المرتبة الثانية بعد صحيح البخاري، انظر: تهذيب الأسماء للنووي (2/ 89).
(2) أخرجه مسلم: كتاب الحدود، باب رجم اليهود، أهل الذمة في الزنى، (3/ 1327) رقم الحديث (1700).
(3) تثنية: إصحاح (22) فقرة (20 - 25).(1/108)
وكذبهم فيها، فقال جل وعلا: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَّشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [المائدة: 18].
وكانوا يرون أن غيرهم من الأمم لا حق لهم في عدل ولا نصف، بل ويستحلون منهم الدماء والأنفس والأموال بحجة أن غير اليهود كفار مشركون لا حرمة لهم، وقد نبأنا الله خبرهم وقولهم هذا وعدهم كذبة مفترين في ذلك فقال -عز وجل-: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران: 75].
ومرادهم بالأميين العرب والمشركين وكل ما ليس بيهودي، روى ابن جرير عن قتادة -رحمه الله-: في قوله: (لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) قال: ليس علينا في المشركين سبيل، يعنون من ليس من أهل الكتاب (1).
وفي أسفار التوراة المحرفة ما يشي بهذا المسك الذي انتهجه يهود تجاه الأمم الأخرى: ففي (سفر الخروج) ضمن الوصايا العشر التي يزعمون أن موسى -عليه السلام- تلقاها من ربه: (لا تشهد على قريب شهادة زور، ولا تشته بيت قريبك لا تشته امرأة قريبك، ولا أمته ولا ثوره، ولا حماره، ولا شيئا مما لقريبك) (2). فمفهوم قوله (قريبك) في هذا النص، أن غير القريب يجوز لهم اشتهاء امرأته وبيته و ... وقد فهم اليهود هذا الفهم، ونص (التلمود) (3) على ذلك كما سيأتي ذكر نصوص منه.
وفي (سفر التثنية) إباحة التعامل بالربا مع غير اليهود، وتحريمه على اليهودي:
_________
(1) تفسير الطبري مع التصرف (6/ 522).
(2) سفر الخروج: إصحاح (2)، فقرة (16 - 17).
(3) التلمود: وهو الكتاب الذي يحتوى على التعاليم اليهودية والتشريعات، يزعم اليهود أن موسى -عليه السلام- عندما تلقى التوراة مكتوبا تلقى معه التلمود مشافهة وهو تفسير للتوراة وهو ندهم أقدس منها (أي، بي، برانيتس، فضح التلمود: 21).(1/109)
(للأجنبي تقرض بربا ولكن لأخيك لا تقرض بربا) (1) بل يمنع التلمود إقراض غير اليهودي إلا بربا: (غير مصرح لليهودي أن يقرض الأجنبي إلا بالربا) (2) ولقد أخبرنا الحق تبارك وتعالى أنه نهاهم عن أكل الربا وأكل أموال الناس بالباطل وأنهم لما خالفوا وظلموا وأكلوا الربا حرم عليهم بعض الطيبات التي كانت حلالا عقوبة لهم في الدنيا، قال تعالى: (فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا *وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) [النساء: 160 - 161].
وهذه بعض النصوص من التلمود التي تسمح لليهود أن تعتدي على أموال الأميين بل ودمائهم وأعراضهم، نسوق منها أمثلة ليتضح مدى ظلم اليهود وجورهم.
1 - إباحة دماء غير اليهود:
يقول التلمود: (أقتل الصالح من غير الإسرائيليين، ومحرم على اليهودي أن ينجي أحدًا من باقي الأمم من هلاك، أو يخرجه من حفرة يقع فيها، لأنه بذلك يكون حفظ حياة أحد الوثنيين) (3).
(ومن العدل أن يقتل اليهودي بيد كل كافر، لأن من يسفك دم الكافر يقرب قربانا لله) (4)، وكل من ليس بيهودي فهو كافر عندهم.
2 - إباحة عرضه:
يقول التلمود: (لا يخطئ اليهودي إذا تعدى على عرض الأجنبي، لأن كل عقد نكاح عند الأجانب فاسد، لأن المرأة التي لم تكن من بني إسرائيل كبهيمة والعقد لا يوجد مع البهائم وما شاكلها) (5).
_________
(1) خروج: إصحاح (20) فقرة (16 - 17).
(2) الكنز المرصود في قواعد التلمود: ترجمة د. يوسف نصر (90).
(3) الكنز المرصود في قواعد التلمود (90).
(4) الكنز المرصود في قواعد التلمود (91).
(5) المرجع السابق: (95).(1/110)
قال ميموند اليهودي: (إن لليهود الحق في اغتصاب النساء الغير مؤمنات، أي الغير يهوديات) (1).
3 - إباحة ماله:
يقول التلمود: (إن الله حلل أموال باقي الأمم لبني إسرائيل لما رآهم قد خالفوا السبع الوصايا المختصة بعبادة الأوثان، والزنى والقتل والسرقة، وأكل لحم الحيوانات الغير مذبوحة، وخصاء الإنسان وإيلاد الحيوان من غير جنسه) (2).
وفي شأن رد الأموال المفقودة لغير اليهود يقول التلموذ: (إن الله لا يغفر ذنبا ليهودي يرد للأمي ماله المفقود، وغير جائز رد الأشياء المفقودة من الأجانب) (3).
وبهذا يتضح أن اليهود أهل ظلم وجور وفساد يظلمون الناس ويستحلون دماءهم وأعراضهم وأموالهم ويعدون ذلك دينًا، قاتلهم الله أني يؤفكون.
ثانيا: العدل عند النصارى:
أ- العدل فيما بينهم:
النصارى يتبعون التوراة في الأحكام والتشريعات، وما أمر به اليهود من العدل في الأحكام والحدود، وإيفاء الكيل والوزن وخلاف ذلك فإنه يسري على أمة النصارى كذلك.
لكن لما بغى اليهود وقست قلوبهم، وأحلوا ما حرم الله، وأكلوا أموال الناس بالباطل، جاء المسيح ليردهم إلى الجادة فلم يأمرهم بالعدل فحسب بل تجاوزه إلى الفضل والعفو، وأمرهم ألا يقابلوا الإساءة بمثلها، وأن لا يعتدوا على من اعتدى عليهم؛ بل قال لهم كما جاء في إنجيل (متى) الذين يزعمون أنه مما أنزل على عيسى -عليه السلام- (قد سمعتم أنه قيل: العين بالعين، والسن بالسن، أما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشرير؛ بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر، ومن أراد
_________
(1) المرجع السابق: (152).
(2) الكنز المرصود في قواعد التلمود (78 - 79).
(3) المرجع السابق (83).(1/111)
أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فخل له رداءك أيضًا، ومن سخرك ميلا فامش معه اثنين، ومن سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا تمنعه، وقد سمعتهم أنه قيل: أحبب قريبك وابغض عدوك، أما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم وأحسنوا إلى من يبغضكم، وصلوا لأجل من يعنتكم ويضطهدكم) (1).
لكن أمة النصارى لم تهتد، بل حرفت وبدلت فضلت عن سواء السبيل، ولئن كان اليهود مغضوب عليهم فإن النصارى ضالون، كما ثبت عن المصطفي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في تفسير قوله تعالى: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) [الفاتحة:7]، قال: "إن المغضوب عليهم اليهود وإن الضالين النصارى" (2).
وأول ضلالهم وعظم جورهم وبغيهم أن عدلوا بربهم غيره، وجعلوا له شركاء، إذ جعلوه ثالث ثلاثة، وتارة جعلوا المسيح -عليه السلام- هو الإله، وأخرى ابن الإله، قال تعالى عن كفرهم وضلالهم: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) [المائدة: 17]، وقال في آية أخرى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) [المائدة: 72].
وقال -عز وجل- في آية أخرى: (اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [المائدة: 73]، وقال سبحانه: (وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) [التوبة: 30].
والشرك بالله، واتخاذ غيره معه، من أعظم الظلم كما أخبر الحق تبارك وتعالى على لسان العبد الصالح لقمان: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13].
ولما نزل قوله -عز وجل-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ
_________
(1) إنجيل متى: الإصحاح السادس، فقرة (38 - 44).
(2) أخرجه أحمد (4/ 378) من حديث عدي بن حاتم.(1/112)
وَهُم مُّهْتَدُونَ) [الأنعام: 82]، شق ذلك على الصحابة وقالوا: وأينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا قول العبد الصالح: (يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [إنما هو الشرك" (1).
وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره قوله -عز وجل-: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)،أي هو أعظم الظلم (2).
فإذا كان القوم قد ارتكبوا أعظم الظلم والجور وظلموا أنفسهم بجعلهم الله أندادًا ومعه شركاء فماذا نتوقع منهم -وقد ضلوا وظلموا- غير الظلم والجور في جل حياتهم، لأنه بنوا دينهم عليه، فلم يكونوا قائمين بالعدل والقسط فيما بينهم، وقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- في قصة المخزومية التي سرقت: "إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد" (3)، يشملهم وإن كان هو في اليهود أظهر، وهؤلاء رهبانهم الذين هم عبادهم وعلماؤهم، وهم الصفوة فيهم والقدوة، والذين يفترض أن يكونوا أقرب القوم إلى العدل وعدم الظلم فإذا هم ظلمة جائرين معتدين على أموال الناس بالباطل كما أخبرنا الله بذلك عنهم، وكما يدل عليه واقع الكنائس وسيرتها يقول الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ) [التوبة: 34].
يقول الحافظ ابن كثير: (ذلك أنهم يأكلون الدنيا بالدين ومناصبهم ورياستهم في الناس، ويأكلون أموالهم بذلك) (4).
ولعل من أبرز مظاهر ذلك ما تمارسه الكنيسة من إصدار ما عرف بـ (صكوك الغفران) (5)، وهي صكوك يصدرها أهل السلطة في الكنيسة من البانوات والمطارنة
_________
(1) أخرجه أحمد (1/ 378).
(2) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (6/ 338).
(3) أخرجه البخاري: كتاب الحدود، باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان (12/ 87 رقم 6788).
(4) تفسير القرآن العظيم (4/ 80).
(5) للاطلاع على صورة وفحو هذه الصكوك، راجع كتاب محاضرات في النصرانية لأبي زهرة (172)، والمسيحية للدكتور أحمد شلبي (254).(1/113)
والبطارقة، والقساوسة، باسم الكنيسة، يغفر بمقتضاها لحاملها ما اقترفه من الآثام والخطايا في حياته، مقابل أن يدفع مبالغ للكنيسة وهذا إلى جانب كونه أكلا لأموال الناس بالباطل فهو أيضًا قول على الله بلا علم وافتراء عليه، وتعد على ألوهيته -عز وجل- إذ لا يملك غفران الذنوب والعفو عنها إلا هو سبحانه ولكن القوم ضلوا ضلالا بعيدًا.
ومن صور جور هذه الأمة وعدم عدلها، أن كل فرقة وطائفة منها إذا تسلطت على الفرق الأخرى أذاقتها ألوانا من الظلم والبطش والاضطهاد، ولم ترقب فيهم إلا ولا ذمة، يقول د. أحمد شلبي: (تكرر في تاريخ المسيحية حدث عظيم لم يختلف، وهو التجاء الجانب القوى إلى أعنف وأقسى وسائل الاضطهادات والتعذيب، والتنكيل والحرق، والإفناء يسلطها على الجانب الضعيف .. والعجيب أن المسيحيين اضطهدوا من اليهود والرومان، ونزلت بهم الويلات في القرون الثلاثة الأولى، فلما بدأ جانبهم يشتد رأيناهم ينزلون نفس الويلات بمخالفيهم من أبناء دينهم، ومن أتباع الأديان الأخرى، ومن هنا فنيت مذاهب مسيحية كثيرة كان بعضها في وقت ما له الغلبة في العدد، ولكن تنقصه القوة والسلطان، وكان فناء هذه المذاهب بسبب قوة اليهود والرومان أحيانا، وأحيانا بسبب قسوة فرق مسيحية أخرى قويت واشتدت بالأباطرة وذوي النفوذ) (1).
وهذا مصداق قوله تعالى وتعالى: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [المائدة: 14].
قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: ( ... أي فألقينا بينهم العداوة والتباغض لبعضهم بعضا، ولا يزالون كذلك إلى قيام الساعة، وكذلك طوائف النصارى على اختلاف أجناسهم لا يزالون متباغضين متعادين، يكفر بعضهم بعضا، ويلعن بعضهم
_________
(1) المسيحية (237).(1/114)
بعضا، فكل فرقة تحرم الأخرى ولا تدعها تلج معبدها، فالملكية (1) تكفر اليعقوبية (2) وكذلك الآخرون، وكذلك النسطورية (3) والآريوسية (4) كل طائفة تكفر الأخرى ... ) (5).
وكمثال على ما ذكر من ظلم أمة النصارى وجور بعضهم على بعض، ما لاقاه أقباط مصر - وهم من الطائفة اليعقوبية- من ظلم واضطهاد على يد أبناء دينهم البيزنطيين الذين كانوا يحكمونهم قبل الفتح الإسلامي لمصر.
يقول المستشرق توماس آرنولد: ( ... فإن اليعاقبة -وهم الأقباط- الذين كانوا يكونون السواد الأعظم من السكان المسيحيين، قد عوملوا معاملة مجحفة من أتباع المذهب الأرثوذكسي (6) التابعين للبلاط، الذين ألقوا في قلوبهم بذور السخط والحنق اللذين لم ينسهما أعقابهم حتى اليوم، كان بعضهم يعذب ثم يلقى بهم في اليم، وتبع كثير منهم بطريقهم إلى المنفى لينجوا من أيدي مضطهديهم، وأخفى عدد كبير منهم عقائدهم الحقيقية، وتظاهر بقبول قرار خلقدونية (7).
وقد جلب الفتح الإسلامي إلى هؤلاء القبط - ذلك اللفظ الذي يطلق على المسيحيين من اليعاقبة في مصر - حياة تقوم على الحرية الدينية التي لم ينعموا بها قبل ذلك بقرن من الزمان) (8).
_________
(1) الملكية: أو الملكانية: أصحاب ملكان الذي ظهر في أرض الروم، ومعظم الروم ملكانية، صرحوا بإثبات التثليث، وقالوا: إن الكلمة اتحدت بجسد المسيح، وتدرعت بناسوته، انظر: الشهرستاني، الملل والنحل، (2/ 27).
(2) اليعقوبية: نسبة إلى يعقوب البرذعي، مصري ظهر في منتصف القرن السادس الميلادي يقول: إن المسيح ذو طبيعة واحدة امتزج فيه عنصر الإله بعنصر الإنسان، وتكون من الاتحاد طبيعة واحدة جامعة بين اللاهوت والناسوت، انظر محاضرات في النصرانية (140 - 159).
(3) النسطورية: نسبة إلى نسطور الحكيم الذي ظهر في زمان المأمون، يرى العذراء لم تلد إلها، انظر: الشهرستاني، الملل (2/ 29).
(4) الآسيوية: أصحاب آريوس، وكان قسيسا بالإسكندرية، ومن قوله: التوحيد المجرد وأن عيسي مخلوق وأنه كلمة الله انظر: ابن حزم الفصل: (1/ 28).
(5) هم اتباع الكنيسة الشرقية: انظر: المسيحية (238).
(6) انظر محاضرات في النصرانية: لأبي زهرة (137).
(7) نفس المصدر السابق، ص (137).
(8) الدعوة إلى الإسلام (133).(1/115)
وكثيرا ما كان الفتح الإسلامي مخلصا لكثير من طوائف النصاري من حقد واضطهاد وظلم، وبجانب عامل العدل والتسامح الذي عرف به الفاتحون المسلمون كان هذا من العوامل التي جعلت الكثير من المسيحيين يفضلون الحكم الإسلامي على حكم أبناء دينهم من أتباع الطوائف الأخرى (1).
ثالثا: العدل فيما بينهم وبين غيرهم من الأمم:
وإذا فتحنا ملفات التاريخ وجدنا النصارى قد بلغو منتهى الظلم والاضطهاد لمن يقع تحت حكمهم وسلطانهم من أهل الأديان الأخرى من قتلهم وترحيلهم واضطهادهم، وكانت أعمالهم الانتقامية سياسية ثابتة تستهدف إفناء الخصوم ومحو آثارهم، فقد ارتكبوا الكثير من المذابح التي دبرت ونفذت بوحشية بالغة ارتكبوا فظائع وجرائم يندي لها جبين الإنسانية ومن الشواهد التاريخية في ذلك ما فعلوه بسكان بيت المقدس إبان استيلائهم عليها، عندما تخاذل العبيديون للدفاع عنها، إذ اكتفى واليهم آنذاك -افتخار الدولة- بتأمين نجاته مع حرسه الخاص، وترك المدينة للصليبيين يعيثون فيها فسادًا، بعد أن دافع عنها دفاعا هزيلا، ذرا للرماد في العيون (2).
وإليك ما قاله (القس ريمند) وهو شاهد عيان من النصارى: (وشاهدنا أشياء عجيبة، إذ قطعت رؤوس عدد كبير من المسلمين، وقتل غيرهم رميا بالسهام، أو أرغموا على أن يلقوا بأنفسهم من فوق الأبراج، وظل بعضهم يعذب عدة أيام، ثم أحرق في النار، وكنت ترى في الشوارع أكوام الرؤوس والأيدي والأرجل والأقدام، وكان الإنسان أينما سار فوق جواده يسير بين جثث الرجال والخيال) (3).
ويقول المستشرق ستيفن ونسيمان في وصف ذلك: (على أنه لم ينج من المسلمين بحياتهم إلا هذه الفئة القليلة - وهم افتخار الدولة والي العبيدين على القدس وحرسه الخاص - إذ أن الصليبيين وقد زاد في جنونهم ما أحرزوه من نصر كبير بع شقاء وعناء شديد، انطلقوا في شوارع المدينة، وإلى الدور والمساجد يقتلون كل من
_________
(1) انظر: وسطية أهل السنة بين الفرق (198).
(2) أنظر: وسطية أهل السنة بين الفرق (199).
(3) انظر: وول ديورانت، قصة الحضارة، (15/ 25).(1/116)
يصادفهم من الرجال والنساء والأطفال، دون تمييز، استمرت المذبحة طوال مساء ذلك اليوم وطوال الليل ولم يكن علم تانكرد (1) عاصما للاجئين إلى المسجد الأقصى من القتل، ففي الصباح الباكر من اليوم الثاني دخلت باب المسجد ثلة من الصليبيين فأجهزت على جميع اللاجئين وحينما توجه ريموند آجيل في الضحى لزيرة ساحة المعبد أخذ يتلمس طريقه بين الجثث والدماء التي بلغت ركبتيه. وفر يهود بيت المقدس جميعا إلى معبدهم الكبير، غير أنه تقرر إلقاء القبض عليهم بحجة أنهم ساعدوا المسلمين فلم تأخذهم الرحمة والرأفة، فأشعلوا النار في المعبد، ولقي اليهود بداخله مصرعهم محترقين. يقول: (وتركت مذبحة بيت المقدس أثرًا عميقا في جميع العالم، ليس معروفا بالضبط عدد ضحاياها (2) غير أنها أدت إلى خلو المدينة من سكانها المسلمين واليهود) (3).
فانظر الفرق الشاسع بين دخول الصليبيين هذه المدينة المقدسة لدى المسلمين والمسيحيين واليهود، وبين دخول القائد المسلم صلاح الدين، وفي الأندلس عندما استولى النصارى الحاقدين ألحقوا بالمسلمين ضروبا من الأذى والظلم والجور والعدوان، يصور ذلك الدكتور توفيق الطويل في إيجاز فيقول:
(وقد استنفدت الكنيسة جهدها في إقناع المسلمين المقيمين في إسبانيا، لكي يرتدوا عن دينهم ويعتنقوا المسيحية دينا، وعلى غير جدوى ما بذلت من جهود، فاستجمعت محكمة التفتيش كل قواها، واعتصمت بالجرأة والتعصب، وصبت عذابها على المسلمين في غير رفق ولا عدالة حتى اعتنق النصرانية من خر في ميدان الكفاح، وهاجر من خار بين التمسك بعقيدته، واحتمال آلام العذاب، وفي عام 1609 و1910 تم إجلاء ألوف المسلمين عن إسبانيا بعد أن أغرقوا بدمهم أرضها، وكتبوا في المقاومة أنصع الصفحات في تاريخ الجهاد في سبيل الله) (4).
_________
(1) أحد قواد الصليبيين، لما رآه المسلمون استسلموا ورفعوا علمه على المسجد.
(2) ذكر ابن الأثير انهم يزيدون على سبعين ألفا (8/ 189).
(3) انظر: تاريخ الحروب الصليبية (1/ 404 - 405).
(4) انظر: قصة الاضطهاد الديني في المسيحية والإسلام (71 - 72).(1/117)
وأما في العصر الحاضر فأقرب الشواهد إلى الذاكرة على ظلم النصارى ومبلغ حقدهم واضطهادهم، ما فعله نصارى لبنان الموارنة ضد المسلمين الفلسطينيين في مخيمي (صبرا وشاتيلا) من مجازر ومذابح أودت بأرواح الآلاف من قاطني المخيمين مع ما صاحب ذلك من النهب والتدمير الشامل لمحتويات المخيمين وذلك عقب اجتياح الجيش اليهودي الصهيوني لمدينة بيروت وغيرها من المدن اللبنانية عام 1982م، 1402هـ.
يقول أحد شهود العيان: ( ... دفنت في يوم واحد عددًا إجماليا مائة وثلاثة جثث .. وعندما دخلت المخيم رأيت اللحم ملزقا على الحيطان وتستطيع أن تقول كل أساليب القتل قد استخدمت: الساطور، البارود، الرصاص، العصى، كاتم الصوت ... وكان بين الضحايا من كان عمره تسعين سنة ... ومن بين الذين دفناهم أطفال أعمارهم بين 6 - 7 سنوات ونساء من مختلف الأعمار، كانوا أي: النصارى -يقتلون كل شيء يتحرك أمامهم) (1).
فقد أصبحت معلومة لكل إنسان على وجه المعمورة من اغتصاب وقتل وذبح وتشريد. إن النصارى ما كانوا في عدائهم عدولا، ولا رحماء بمخالفيهم، كما هو شأن الإسلام، فقد كانت أعمالهم بخصومهم تفوق كل وصف، ولولا ما نقله شهود العيان مما أنزلوه بغيرهم من الظلم والعدوان لما استطاع المرء أن يصدق هذه الأعمال الموغلة في الوحشية والشناعة، من قوم لا دين لهم، فضلا عن قوم يدعون انهم أتباع المسيح -عليه السلام-، وبهذه اتضح ملمح من ملامح الوسطية وكيف مارسته أمة الإسلام مقارنا مع غيرها من أهل الكتابين واتضح لنا أنهم حادوا عن العدل إلى الظلم.
_________
(1) وجاء دور المجوس (2/ 58 - 59).(1/118)
الفصل الثالث
اليسر ورفع الحرج
تمهيد:
إن من أول ما يتبادر إلى أذهاننا عندما نطلق كلمة (الوسطية) هو معنى اليسر والتيسير، ورفع الحرج، وهذا الفهم صحيح فإن من أبرز سمات الوسطية: التيسير ورفع الحرج.
وقد تقرر فيما مضى أن هذا الدين هو دين (الوسط) فلا غلو ولا جفاء، ولا إفراط ولا تفريط. واليسر ورفع الحرج مرتبة عالية بين الإفراط والتفريط، وبين التشدد والتنطع وبين الإهمال والتضييع.
يقول الدكتور صالح بن حميد: (إن رفع الحرج والسماحة والسهولة راجع إلى الاعتدال والوسط، فلا إفراط ولا تفريط، فالتنطع والتشدد حرج من جانب عسر التكليف، والإفراط والتقصير حرج فيما يؤدي إليه من تعطيل المصالح وعدم تحقيق مصالح الشرع) (1).
وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) [البقرة: 143]، فالتوسط هو منبع الكمالات، والتخفيف والسماحة ورفع الحرج على الحقيقة هو في سلوك طريق الوسط والعدل) (2).
ولأهمية بيان عناية الإسلام بهذا الجانب وتأكيده عليه، فسأذكر بعض ما ورد في ذلك من الكتاب والسنة، وأئمة السلف من الصحابة وغيرهم مع ذكر أقوال بعض المفسرين حول آيات التيسير ورفع الحرج وقبل أن أبدأ في ذكر الأدلة من الكتاب والسنة أذكر تعريفا موجزًا للتيسير ورفع الحرج فأقول:
_________
(1) رفع الحرج في الشريعة الإسلامية (13).
(2) المرجع السابق (13).(1/119)
المبحث الأول
تعريف اليسر والوسع في اللغة والاصطلاح
أ- اليسر والوسع في اللغة:
قال ابن منظور في تعريف اليسر: (اليسر: اللين والانقياد، والميسرة: السعة والغني وتيسر الشيء واستيسر: تسهل، واليسر: ضد العسر) (1).
ب- في الاصطلاح (عند المفسرين والعلماء):
وذكر الزمخشري -رحمه الله-: في تعريف اليسر والوسع: (إن الوسع هو ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه، ولا يحرج فيه، فالله لا يكلف النفس إلا ما يتسع فيه طوقها، وتيسير عليها دون مدى غاية الطاقة والمجهود، فقد كان في طاقة الإنسان أن يصلي أكثر من الخمس، ويصوم أكثر من شهر ويحج أكثر من حجة) (2).
وذكر القاسمي في تفسيره أن اليسر: (عمل لا يجهد النفس ولا يثقل الجسم) (3).وقال الدكتور صالح بن حميد: (إن اليسر والوسع: ما يقدم عليه الإنسان من غير أن يلحقه مشقة زائدة، ومن غير أن يحتاج لبذل كل ما لديه من طاقة ومجهود) (4).
_________
(1) لسان العرب (5) كتاب (رز) باب يسر: (259).
(2) الكشاف (1/ 408).
(3) القاسمي (3/ 427).
(4) رفع الحرج في الشريعة (46).(1/120)
المبحث الثاني
رفع الحرج
أ- في اللغة: الحرج: (أضيق الضيق، وحرج فلان على فلان: إذا ضيق عليه) (1).
ب- في الاصطلاح: (كل ما أدى إلى مشقة زائدة في البدن أو النفس أو المال حالا أو مآلا) (2).
قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله:
(وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج: 78].
(توسعة الإسلام، ما جعل الله من التوبة والكفارات) (3).
وقال الضحاك (4) في تفسير الآية: (جعل الدين واسعا ولم يجعله ضيقا). وقال مقاتل بن حيان (5): (لم يضيق الدين عليكم ولكن جعله واسعا لمن دخله، وذلك أنه ليس مما فرض عليهم فيه إلا وقد ساق إليهم عند الاضطرار فيه رخصة).
وبعد هذا التعريف للحرج يكون رفع الحرج هو:
(إزالة ما يؤدي إلى هذا المشاق الموضحة في التعريف، ويتوجه الرفع والإزالة إلى حقوق الله -سبحانه وتعالى-؛ لأنها مبنية على المسامحة، ويكون ذلك إما بارتفاع
_________
(1) لسان العرب (2) كتاب (ج، ح) باب (حرج) (233).
(2) رفع الحرج في الشريعة الإسلامية (47).
(3) تفسير الطبري (17/ 206).
(4) هو المفسر الثقة الضحاك بن مزاحم الهلاك أبو القاسم، ويقال: أبو محمد الخراساني، روى عن طائفة من الصحابة، ولم يثبت له سماع من أحد من الصحابة، وثقة الإمام أحمد، والدراقطني، وغيرهما. كان جليل القدر والعلم في التفسير، أخذ منه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، توفى سنة 102هـ، العبر (1/ 94) تهذيب التهذيب (4/ 453) سير أعلام النبلاء (4/ 449).
(5) أصله من بلخ، ويقال له الخراساني المروزي، وهو أزدي بالولاء، انتقل إلى البصرة وعاش بها يروي على ضعفه وسقوطه عن بعض العلماء عن أئمة، كابن سيرين وعمرو بن شعيب والزهري اتهمه أكثر الأئمة بالكذب والضعف في الرواية والنكارة في الحديث، والجسارة على الكذب، وغير ذلك من الأوصاف الجارحة، توفى سنة (150هـ) انظر: ترجمته المجروحين لابن حبان (3/ 14).(1/121)
الإثم عند الفعل، وإما بارتفاع الطلب للفعل، وحينا يرتفع كل ذلك ترتفع حالة الضيق التي يعانيها المكلف حينما يستشعر أنه يقدم على ما لا يرضي الله، وهذا هو الحرج النفسي والخوف من العقاب الأخروى.
كما يرفع الحرج الحسي حينما يكون التكليف شاقا فيأتي العفو من الله -سبحانه وتعالى- إما بالكف عن الفعل الموقع في الحرج، وإما بإباحة الفعل عند الحاجة إليه) (1).
_________
(1) رفع الحرج في الشريعة الإسلامية (48).(1/122)
المبحث الثالث
أدلة التيسير والوسع ورفع الحرج
من الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة والتابعين
أولاً: الأدلة من القرآن الكريم:
وردت آيات كثيرة جدًا تبين أن هذا الدين دين يسر، وأن الله قد رفع الحرج عن هذه الأمة فيما يشاق عليها، حيث لم يكلفها إلا وسعها، وسأبين أدلة التيسير، ثم أدلة رفع لاحرج، ثم أدلة عدم التكليف بغير الوسع والطاقة.
1 - أدلة التيسير والتخفيف:
قال تعالى: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185]، وقال سبحانه: (يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا) [النساء: 28]، وقال -عز وجل-: (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى) وقال في سورة الشرح: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا* إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) [الشرح: 5 - 6] وفي سورة الطلاق: (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) [الطلاق: 7].
هذه بعض الآيات التي تفيد التيسير على هذه الأمة، قال القاسمي في تفسير آية البقرة قال الشعبي: (إذا اختلف عليك أمران، فإن أيسرهما أقربهما إلى الحق لهذه الأمة) (1).
وقد ذكر المفسرون في تفسيرهم لهذه الآيات أن الله أراد لهذه الأمة اليسر ولم يرد لها العسر (2).
2 - أدلة رفع الحرج:
من أقوى الأدلة في الدلالة على رفع الحرج قوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج: 78].
_________
(1) تفسير القاسمي: (3/ 427).
(2) انظر: تفسير الطبري (2/ 156) وتفسير ابن كثير (1/ 217).(1/123)
قال الطبري في تفسير هذه الآية: (جعل الدين واسعًا ولم يجعله ضيقا). قال ابن كثير: (أي: ما كلفكم ما لا تطيقون وما ألزمكم بشيء يشق عليكم إلا جعل الله لكم فرجا ومخرجا) (1).
وقال سبحانه: (مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [المائدة: 6]، وفي سورة التوبة: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ) [التوبة: 91].
وقال في سورة الأحزاب: (مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللهُ) [الأحزاب: 38]. وفي سورة النور: (لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ) [النور: 61].
وفي هذه الآيات دلالة ظاهرة على رفع الحرج عن هذه الأمة، وأن الله لم يجعل في التشريع حرجا، وبعض هذه الآيات وإن كانت خاصة في أحكام معينة، ولكننا نجد التعليل عاما، فكأن التخفيف ورفع الحرج في هذه الأحكام والفروض بإعادة الشيء إلى أصله وهو رفع الحرج عن هذه الأمة، فكل شيء يؤدي إلى الحرج لسبب خاص أو عام فهو معفو عنه، رجوعا إلى الأصل والقاعدة (2).
3 - أدلة عدم التكليف بما يضاد الوسع والطاقة:
قال سبحانه في سورة البقرة: (لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) وقال الله تعالى كما في الحديث الصحيح: "قد فعلت" (3)، وكذلك قوله: (رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا) [البقرة: 286].
قال الدكتور صالح بن حميد: (والوسع ما يسع الإنسان فلا يعجز عنه ولا يضيق عليه ولا يحرج فيه، فقوله تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) أي: لا
_________
(1) تفسير الطبري (17/ 207).
(2) انظر: الوسطية في ضوء القرآن (106 - 107).
(3) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب لا يكلف الله إلا ما يطاق (1/ 116) رقم (126).(1/124)
يحملها إلا ما ت سعه وتطيقه ولا تعجز عنه أو يحرجها دون مدى غاية الطاقة، فلا يكلفها بما يتوقف حصوله على تمام صرف القدوة، فإن عامة أحكام الإسلام تقع في هذه الحدود، ففي طاقة الإنسان وقدرته الإتيان بأكثر من خمس صلوات وصيام أكثر من شهر، ولكن الله جلت قدرته ووسعت رحمته أراد بهذه الأمة اليسر ولم يرد بها العسر) (1).
ومن الأدلة على أن التكليف بحدود الوسع والطاقة قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [الأعراف: 42] ويقول سبحانه في سورة المؤمنون: (لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا).
قال القاسمي: (فسة الله جارية على أنه لا يكلف النفوس إلا وسعها) (2)، وجاء التأكيد على هذه القاعدة عند ذكر بعض الأحكام الفرعية فقال سبحانه: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا) [البقرة: 233].
وكذلك في سورة الطلاق: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا) [الطلاق:7]، وكذلك أيضًا في سورة الأنعام: (وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) [الأنعام: 152].
هذه هي الآيات التي وردت مبينة أن التكليف بحسب الوسع والطاقة، لا شك أن الأحكام الشرعية إذا كانت مطلوبة في حدود الوسع والاستطاعة دون بلوغ الطاقة، ففي ذلك الدلالة الظاهرة على أن الحرج مرفوع، وأن اليسر سمة هذا الدين، والتوسعة على العباد خاصة من خصائصها، فهي الحنيفية السمحة والوسطية التي لا عنت فيها ولا مشقة (3).
_________
(1) رفع الحرج في الشريعة الإسلامية (69).
(2) انظر: تفسير القاسمي (12/ 4405).
(3) انظر: رفع الحرج (73).(1/125)
ثانيا: الأدلة من السنة النبوية:
نعت الله نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- بأنه رحيم بأمته يعز عليه كل ما فيه مشقة عليهم قال تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنَفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتِّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [التوبة: 128]، وظهرت شفقته ورحمته بأمته في السنة النبوية في أقواله عليه الصلاة والسلام وأفعاله وجميع سيرته، بل كان عليه الصلاة والسلام يخشى أن يكون قد أمر أمته أو سلك فيهم طريقا فيه مشقة أو إعنات، كما كان عليه أفضل الصلاة والسلام ينهي أصحابه عن سلوك طريق التعمق والتشدد، وسأبين أحاديث وردت في يسر هذا الدين وسماحته ورفع الحرج عنه، وأحاديث توضح لنا خشية النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يكون قد شق على أمته، وأحاديث في أمر الصحابة بالتخفيف عن التعمق والتشديد وإنكار ذلك عليهم.
وما سأذكره من أحاديث يبين أن الدين كله يسر لا عسر فيه ولا حرج، وفيه ما يتعرض لقضايا جزئية كبعض أحكام الصلاة ونوافل العبادات، ولا شك أن كل ذلك يدل بمجموعة دلالة قاطعة على رفع الحرج عن هذا الدين وبعده عن العسر والمشقة.
أ- أحاديث في بيان يسر هذا الدين وسماحته ورفع الحرج عنه:
1 - أخرج البخاري في صحيحه تعليقا: "قيل يا رسول الله: أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: "الحنيفية السمحة" (1).
2 - أخرج البخاري في صحيحه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما أرسل معاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري -رضي الله عنهما- قال لهما: "يسرًا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفر" (2).
3 - وأخرج البخاري في صحيحه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا" (3).
_________
(1) البخاري، فتح الباري، كتاب الإيمان، باب الدين يسر (1/ 116).
(2) البخاري، فتح الباري، كتاب الآداب، باب يسروا ولا تعسروا (1/ 541).
(3) البخاري، فتح الباري، كتاب الإيمان، باب يسر الدين (1/ 116).(1/126)
4 - روت عائشة -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا، ولكن بعثني معلما ميسرا" (1).
5 - وفي مسند الإمام أحمد، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره" (2) ,
وأهل الكتاب يعلمون أنه -صلى الله عليه وسلم- قد بعث بالتخفيف واليسر ولهذا لما زني رجل منهم في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- قال بعضهم لبعض اذهبوا بنا إلى هذا النبي فإنه بعث بالتخفيف إلى آخر القصة التي أنكروا فيها الرجم في شريعتهم (3).
ب- أحاديث تدل على خشيته -صلى الله عليه وسلم- أن يكون قد شق أمته:
ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- جملة أحاديث تدل على شفقته التامة على أمته، وخشيته أن يكون قد جلب عليها ما يعنتها أو يشق عليها وتجنبه كل طريق يؤدي إلى ذلك وإليك بعض منها:
1 - صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التراويح ليلة فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم، فلما أصبح قال: "قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم، -وفي الرواية الأخرى- فتعجزوا عنها" (4).
2 - قال -صلى الله عليه وسلم-: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك" (5)، بل أنه عليه الصلاة والسلام يخفف الصلاة ويتجوز فيها - وهي قرة عينه وفيها الراحة التي ينشدها - رفقا بحال المؤمنين ومراعاة لضعفهم وانشغال بالهم ودفعا لكل ما يدخل المشقة عليهم.
_________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الطلاق، باب تخبير طلاق امرأته لا يكون إلا بالنية (2/ 1104) رقم (478).
(2) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 18)، رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح.
(3) انظر: جامع الأصول لابن الأثير: (3/ 545).
(4) صحيح مسلم مع النووي: كتاب الصلاة، باب صلاة التراويح (6/ 41 - 42).
(5) صحيح مسلم مع النووي، كتاب الطهارة، باب السواك (3/ 143).(1/127)
3 - قال -صلى الله عليه وسلم-: "إني لأقوم إلى الصلاة وأنا أريد أو أطول فيها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز كراهية أن أشق على أمه" (1).
والأحاديث في هذا الشأن من باب المثال لا من باب الحصر.
ج- في أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بالتخفيف ونهيهم عن التعمق والتشديد وإنكار ذلك عليهم:
بل كان -صلى الله عليه وسلم- يتتبع أحوال بعض الصحابة الذين ينسب إليهم ذلك فينكر عليهم ويوجههم إلى طريق اليسر والاعتدال، وهذه مجموعة من الأحاديث التي توضح هذا وتبينه:
1 - كان معاذ بن جبل (2) -رضي الله عنه- يصلي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم يأتي فيؤم قومه، فصلي ليلة مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم أتى قومه فأمهم فافتتح بسورة البقرة فانحرف رجل فسلم ثم صلى وحده وانصرف، فقالوا له: أنافقت يا فلان؟ قال: لا والله، ولآتين رسول الله فلأخبرنه، فأتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله: إنا أصحاب نواضح - وهي الإبل التي يستقي عليها -نعمل بالنهار، وإن معاذا صل معك العشاء ثم أتى فافتتح بسورة البقرة، فأقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على معاذ فقال: "يا معاذ أفتان أنت؟ اقرأ بكذا" وفي الرواية الأخرى: "سبح اسم ربك الأعلى، والليل إذا يغشى والضحى" (3).
2 - جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان مما يطيل بنا، يقول راوي الحديث - وهو أبو مسعود الأنصاري (4) - فما
_________
(1) سنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب تخفيف الصلاة (1/ 209، رقم 789).
(2) هو معاذ بن جبل بن عمرو أبو عبد الرحمن الأنصاري، شهد المشاهد كلها، أعملهم بالحلال والحرام، مات -رضي الله عنه- في طاعون عمواس سنة ثمان عشر. انظر: الاستيعاب (10/ 104 - 105)، الإصابة (9/ 219).
(3) صحيح مسلم مع النووي: كتاب الصلاة، باب تخفيف الأئمة، (4/ 181 - 182).
(4) هو الصحابي الأنصاري أبو مسعود عقبة بن عمرو بن عمرو بن ثعلبة الخزرجي -رضي الله عنه- المشهور بكنيته شهد العقبة، واختلف في شهوده بدرا، وقد شهد أحدا وما بعدها، ونزل الكوفة، وكان من أصحاب علي واستخلفه مرة على الكوفة، مات بعد سنة أربعين للهجرة، الإصابة (2/ 284).(1/128)
رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ، فقال: "أيها الناس إن منكم منفرين، فأيكم أم الناس فليوجز فإن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجة" (1).
بل قد بلغ الحال ببعض الصحابة رضوان الله عليهم، أن أرادوا الأخذ بعزائم الأمور ومخالفة الرسول في بعض ما كان يترخص به - ظنا منهم أنه طريق التقوى والخشية- وأن ترخصات النبي -صلى الله عليه وسلم- خاصة به لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
وكأن هؤلاء القوم فهموا أن الأخذ بالأشد هو الأتقى وهو الأقرب إلى الله -سبحانه وتعالى-، لكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أوضح لهم أن الطريق الصحيح هو في الاتباع والاقتداء، وأن اتباع اليسر والسهولة والأخذ برخص الله هو منهج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو أعلم الناس بشرعة وأشدهم له خشية (2).
3 - يوضح ذلك: ما روته عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أمرهم من الأعمال بما يطيقون قالوا: "إنا لسنا كهيئتك يا رسول الله، إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فيغضب حتى يعرف الغضب في وجهه ثم يقول: "إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا" (3).
فهو -صلى الله عليه وسلم- الجامع للقوتين العلمية وعمله ومنهجه هو المنهج المستقيم، وفي هذا الحديث بيان أن الطريق الصحيح والمنهج السليم هو الوقوف عند ما حدده الشرع من عزيمة أو رخصة، واعتقاد أن الأخذ بالأرفق الموافق للشرع أولى من الأشق المخالف له، كما أعلمهم -صلى الله عليه وسلم- أنه وإن كان الله قد غفر له، لكنه مع ذلك أخشى الناس لله وأتقاهم فما فعله -صلى الله عليه وسلم- من عزيمة أو رخصة فهو في غاية التقوى والخشية، ومن هنا ندرك غضبه -صلى الله عليه وسلم- على هؤلاء الذين حاولوا سلوك
_________
(1) صحيح مسلم مع النووي، كتاب الصلاة -باب تخفيف الأئمة- (4/ 184).
(2) انظر: رفع الحرج في الشريعة (83).
(3) صحيح الباري، فتح الباري، كتاب الإيمان، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: أنا أعلمكم بالله، (1/ 88 - 89 رقم الحديث 20).(1/129)
منهج التعمق والتشدد ظنا منهم أن ذلك طريق النجاة، وإذا فلا غرابة أن رأيناه -صلى الله عليه وسلم- يتعقب الذين يلتزمون التشديد والأخذ بالأشق (1).
4 - ودخل -صلى الله عليه وسلم- مرة المسجد فإذا حبل ممدود بين ساريتين فقال: ما هذا الحبل؟ فقالوا: حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت به، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "حلوه ليصل أحكم نشاطه فإذا فتر فليرقد" (2).
5 - وفي السنن عن عقبة بن عامر (3) أن أخته نذرت أن تمشي إلى البيت فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا فلتركب" وفي رواية: "إن الله لغني عن مشيها مروها فلتركب" (4).
هذه هي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وطريقته: سلوك الطريق الوسط وأتباع اليسير، وسلوك غير ذلك رغبة في سنة رسول الله - فيه الخطر الشديد والوعيد العظيم المؤدي إلى منهج التنطع والإفراط، بل لقد ثبت نهيه -صلى الله عليه وسلم- لبعض أصحابه عن التشديد والتكلف ممن التزموا هذا الجانب ما يؤدي بهم إلى الانقطاع وعدم التمكن من المواصلة وإهمال حقوق وواجبات للنفس والأهل وكل من له به تعلق.
6 - فهذا عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- (5) يقول: "قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا عبد الله ألم أخبر أنك تصوم تصوم النهار وتقوم الليل؟ " فقلت: بلي يا رسول الله، قال: "فلا تفعل، صم وأفطر وثم ونم فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا وإن لزوجك عليك حقًا، وإن لزورك عليك حقا، وإن بحسبك أن تصوم كل
_________
(1) انظر: رفع الحرج في الشريعة (83).
(2) أخرجه البخاري: كتاب الصلاة، باب ما يكره من التشدد في العبادة (2/ 60) رقم (1150).
(3) هو عقبة بن عامر بن عيسي الجهني، روى عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كثيرا وروى عنه جماعة من الصحابة والتابعين، كان من أهل الصفة، وكان قارئا عالما بالفرائض والفقه، فصيح اللسان، شاعرا وهو أحد من جمع القرآن، وشهد فتوح الشام، مات في خلافة معاوية -رضي الله عنه-.انظر: حلية الأولياء (1/ 8) أسد الغابة (3/ 55).
(4) جامع الأصول (11/ 544 - 546).
(5) هو عبد الله بن عمرو بن العاص السهمي القرشي أحد العبادلة الفقهاء، وقد أسلم قبل أبيه، ثم هاجر قبل الفتح، كان عابدًا زاهدا من رواة الحديث، توفى عام (43هـ) انظر الإصابة، رقم (4838). وانظر حلية الأولياء (1/ 283).(1/130)
شهر ثلاثة أيام فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها فإن ذلك صيام الدهر كله"، فشددت فشدد علي، قلت: يا رسول الله إني أجد قوة، قال: "فصم صيام نبي الله داود -عليه السلام- ولا تزد عليه"، قلت: وما كان صيام نبي الله داود -عليه السلام-؟ قال: "نصف الدهر"، فكان عبد الله يقول بعد ما كبر: يا ليتني قبلت رخصة النبي -صلى الله عليه وسلم- (1).
7 - وحينما نهي عليه الصلاة والسلام عن الوصال في الصيام: فقال له رجل من المسلمين: فإنك تواصل يا رسول الله؟ قال: "وأيكم مثلي، إني أبيت يطعمني ربي ويسقين"، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما ثم رأوا الهلال فقال: لو تأخر لزدتكم، كالتنكيل لهم حين أبوا أن ينتهوا، وفي الرواية الأخرى قيل: إنك تواصل؟ قال: "إني أبيت يطعمني ربي ويسقين، فاكلفوا من العمل ما تطيقون" (2).
وتوجيهات رسول الله في هذا مما يجل عن الحصر في مثل هذا المقام فالسهولة والرفق والأخذ بالأيسر ومراعاة الأحوال ديدنة -صلى الله عليه وسلم-.
ثالثا: فهم الصحابة والتابعين لرفع الحرج في الشريعة:
أ- الصحابة:
صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هم الفئة الذين اختارهم الله ليشاهدوا تنزل الوحي، ويسمعوا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقواله، ويشاهدوا أفعاله ويأتمروا بأوامره مباشرة، ويسترشدوا بتوجيهاته ويقتدوا بتطبيقاته، فهم الذين عاشوا عصر النبوة، كما عاشوا الإسلام خالصا نقيا لذا فإن أفعالهم وأقوالهم نماذج عملية لإرادة تطبيق الإسلام النقي الصافي، وفي هذا المقام سأورد بعضا مما أثر عنهم مما يوضح جوانب عملية في التطبيق والفتوى في العصر الإسلامي الأول بكل ما يتمتع به من سهولة ويسر.
1 - يقول عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- في وصف منهج إخوانه من الصحابة والاقتداء بهم: "من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة"، "أولئك أصحاب محمد كانوا أفضل هذه الأمة وأبرها قلوبا وأعمقها علما
_________
(1) رواه البخاري فتح الباري - كتاب الصيام - باب حق الجسم في الصوم (4/ 260) رقم الحديث (1975).
(2) البخاري، فتح الباري، كتاب الصيام، باب الوصال، (4/ 238 حديث رقم 1965).(1/131)
وأقلها تكلفا، اختارهم الله لصحبة نبيه ولإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم على أثرهم وسيرتهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم" (1).
ويقول أيضًا: "إياكم والتنطع وإياكم والتعمق وعليكم بالعتيق" (2).
هؤلاء هم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهذا هو منهجهم رسوخ في العلم وبعد عن التكلف وصلاح في القلوب ومقاومة للتنطع والتشدد لقد كانوا على الهدى المستقيم والطريق الواضح.
2 - عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: (كنا عند عمر -رضي الله عنه- فسمعته يقول: "نهينا عن التكلف" (3).
قال الدكتور صالح بن حميد: (هذه الصيغة وإن كان لها حكم المرفوع، غير أنها تدل على أن البعد عن التكلف هو منهج عمر وغيره من الصحابة) (4)، وقد مر عمر -رضي الله عنه- في طريق فسقط عليه شيء من ميزاب، فقال رجل مع عمر: (يا صاحب الميزاب، ماؤك طاهر أو نجس؟ فقال عمر -رضي الله عنه-: يا صاحب الميزاب لا تخبرنا، ومضى) (5).
ب- التابعين:
نهج التابعون -رضي الله عنه- نهج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام علما وعملا وتوجيها وإرشادًا واقتداء، ولقد كان من طريقهم البعد عن الشدة والتكلف والأخذ باليسير من الأمر وإليك أمثلة من أقوالهم.
1 - قال الإمام الشعبي -رحمه الله-: (إذا اختلف عليك أمران فإن أيسرهما أقربهما إلى الحق (6) لقوله تعالى:
(يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185] (7).
_________
(1) منهاج السنة لابن تيمية (1/ 166).
(2) انظر: جامع علوم الحكم، (270)، ورفع الحرج (87).
(3) انظر: إغاثة اللهفان (1/ 159)، ورفع الحرج (88).
(4) انظر: رفع الحرج (88).
(5) انظر: إغاثة اللهفان (1/ 154)، ورفع الحرج (89).
(6) انظر: تفسير القاسمي (3/ 427).
(7) القاسمي (3/ 427).(1/132)
2 - وقال معمر (1)
وسفيان الثورى (2): (إنما العلم أن تسمع بالرخصة من ثقة فأما التشديد فيحسنه كل أحد) (3).
3 - وقال إبراهيم النخعي (4): (إذا تخالجك أمران فظن أن أحبها إلى الله أيسرهما) (5) فإن المتأمل لهذه الآثار من الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة يلحظ أن هذا المعنى غائب عن واقع وفهم كثير من المسلمين، وقليل منهم من يدرك هذه الحقيقة ويتعامل معها، حيث إنه يوجد هناك من لو سئل عن هذا الأمر لأجاب الإجابة الصحيحة، ولكن عند التأمل في واقعه وتعامله والتزامه ومنهجه لا نجد إلا الإفراط أو التفريط.
والعجب أن بعض هؤلاء كأنه أغير على دين الله من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بل من الله جل وعلا الذي يقول: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج: 78]، ويقول تعالى: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185]، ويقول: (يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا) [النساء:28].
وهذا لا يعني -أيضًا- التفريط والتساهل والتهاون بحجة أن هذا الدين يسر، والتوسعة إلى الشارع لا إلى أهواء الناس ورغباتهم وما ألفوه ودرجوا عليه، فلا إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا جفاء (كلا طرفي قصد الأمور ذميم) ثم إن قضية التيسير والتوسعة قضية منهج متكامل وليست تتعلق بجزئية أو جزئيات كما يتصور بعض الناس.
_________
(1) هو معمر بن راشد أبو عمرو البصري، نزل اليمن، سمع قتادة والزهري، وغيرهما وروى عنه عبد الرازق الصنعاني وغيره، ثقة، ثبت فاضل، مات -رحمه الله-: سنة ثلاث وخمسين ومائة.
انظر: التاريخ الكبير (7/ 378)، وميزان الاعتدال (4/ 154).
(2) هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، شيخ الإسلام، إمام الحفاظ، سيد العلماء في زمانه، مات -رحمه الله-: سنة إحدى وستين ومائة، انظر: الجرح والتعديل (1/ 55)، وتاريخ بغداد (7/ 151).
(3) رفع الحرج (92) انظر: جامع بيان العلم وفضله (285).
(4) هو الإمام التابعي إبراهيم بن يزي بن قيس بن الأسود، أبو عمران النخعي من أكابر التابعين صلاحا وصدقا، ورواية وحفظا للحديث، عاش بالكوفة، وكان إماما مجتهدا له مذهب خاص توفى سنة (96هـ) تهذيب التهذيب (1/ 177)، وحلية الأولياء (4/ 219).
(5) انظر: رفع الحرج (92) والآثار لأبي يوسف (196).(1/133)
وبهذا التعريف والشمول ندرك أن هذا الأمر يندرج في منهج الوسطية، التي هي سمة من سمات هذه الأمة، وخاصية من خصائصها، فلن نستطيع أن ندرك حقيقة الوسطية إلا إذا فهمنا سمة اليسر والتوسعة ورفع الحرج، وألا تصبح الوسطية معنى مفرغا من حقيقته، وقولا نظريا لا وجود له في الواقع، وبذلك يفقد هذا الدين خاصة لها أثرها في حياة الناس ومآلهم (1).
_________
(1) انظر: الوسطية في ضوء القرآن الكريم (116).(1/134)
الفصل الرابع
الحكمة
تمهيد:
إن الحكمة ملمح من ملامح الوسطية، وبيان هذا: أن التوسط هو توسط معنوي، وتحديد هذا التوسط يكون بمراعاة جميع الأطراف، تحقيقا للمصالح، ودرءا للمفاسد، وهذه هي الحكمة الشرعية وبعبارة أخرى: فإن الوسطية أمر نسبي، يخضع تحديده لعوامل عدة لابد من مراعاتها، ولا يتحقق ذلك إلا بإتقان الحكمة. ومن أجل إلقاء مزيد من الضوء على هذه الحقيقة سأبين الحكمة في اللغة وفي الاصطلاح الشرعي وعند المفسرين وأنواعها ودرجاتها وبعض الأمثلة في تطبيقها.
المبحث الأول
الحكمة في اللغة والاصطلاح
أ- في اللغة: جاءت الحكمة في اللغة بعدة معان، منها:
1 - تستعمل بمعنى: العدل، والعلم، والحلم، والنبوة، والقرآن، والإنجيل، وأحكم الأمر: أتقنه فاستحكم ومنعه عن الفساد (1).
2 - والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، ويقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويتقنها حكيم (2).
3 - والحكيم: المتقن للأمور، يقال للرجل إذا كان حكيما: قد أحكمته التجارب (3).
4 - والحكم والحكيم هما بمعنى: الحاكم والقاضي، والحكيم فعيل بمعنى فاعل، أو هو الذي يحكم الأشياء ويتقنها، فهو فعيل بمعنى: مفعل (4).
_________
(1) القاموس المحي، باب الميم، فصل الحاء، (1415).
(2) لسان العرب، باب الميم، فصل الحاء، (12/ 143).
(3) النهاية في غريب الحديث والأثر، باب الحاء مع الكاف، مادة حكم (1/ 119) انظر: لسان العرب، باب الميم فصل الحاء، (12/ 140).
(4) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الحاء مع الكاف، مادة: حكم: (1/ 419).(1/135)
5 - والحكمة: إصابة الحق بالعلم والعقل (1).
6 - والحكيم: المانع من الفساد، ومنه سميت حكمة اللجام، لأنها تمنع الفرس من الجري والذهاب في غير قصد، والسورة المحكمة: الممنوعة من التغيير وكل التبديل، وأن يلحق بها ما يخرج عنها ويزاد عليها ما ليس منها.
والحكمة من هذا، لأنها تمنع صاحبها من الجهل، ويقال: أحكم الشيء إذا أتقنه ومنعه من الخروج عما يريد، فهو محكمة وحكيم عن التكثير (2).
7 - والحكمة: ما أحاط بحنكي الفرس، سميت بذلك، لأنها تمنعه من الجري الشديد، وتذلل الدابة لراكبها، حتى تمنعها من الجماح ومن كثير من الجهل، ومنه اشتقاق الحكمة، لأنها تمنع صاحبها من أخلاق الأراذل (3).
8 - والحكم: هو المنع من الظلم، وسميت حكمة الدابة، لأنها تمنعها، يقال: حكمت الدابة وأحكمتها، ويقال: حكمت السفيه وأحكمته إذا أخذت على يديه والحكمة هذا قياسها؛ لأنها تمنع من الجهل، وتقول: حكمت فلانا تحكيما: منعته عما يريد (4).
استعملت في عدة معان تتضمن معنى المنع:
فالعدل: يمنع صاحبه من الوقوع في الظلم.
والحلم: يمنع صاحبه من الوقوع في الغضب.
والعلم: يمنع صاحبه من الوقوع في الجهل.
والنبوة والقرآن، والإنجيل: فالنبي إنما بعث لمنع من بعث إليهم من عبادة غير الله، ومن الوقوع في المعاصي والآثام، والقرآن والإنجيل وجميع الكتب السماوية التي أنزلها الله تتضمن ما يمنع الناس من الوقوع في الشرك وكل منكر وقبيح.
_________
(1) المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصبهاني، كتاب الحاء، مادة: حكم (127).
(2) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (1/ 288) مع التصرف.
(3) انظر: المصباح المنير، مادة حكم (1/ 145).
(4) مقاييس اللغة (2/ 91) باب الحاء والكاف مادة حكم.(1/136)
ومن فسر الحكمة بالمعرفة فهو مبني على أن المعرفة الصحيحة فيها معنى المنع، والتحديد، والفصل بين الأشياء، وكذلك الإتقان، فيه منع للشيء المتقن من تطرق الخلل والفساد إليه، وفي هذا المعنى قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (الإحكام هو الفصل والتمييز والفرق والتحديد الذي به يتحقق الشيء ويحصل إتقانه، ولهذا دخل فيه معنى المنع كما دخل في الحد بالمنع جزء معناه لا جميع معناه) (1).
ب- تعريف الحكمة في الاصطلاح الشرعي:
ذكر العلماء مفهوم الحكمة في القرآن الكريم والسنة النبوية (2)، واختلفوا على أقوال كثيرة، فقيل: الحكمة هي النبوة وقيل: القرآن، والفقه به: ناسخة ومنسوخة، ومحكمة ومتشابهة، ومقدمه ومؤخره، وحلال وحرامه وأمثاله.
وقيل: الإصابة في القول والفعل: وقيل: معرفة لاحق والعمل به، وقيل: العلم النافع والعمل الصالح، وقيل: الخشية لله، وقيل: السنة، وقيل: الورع في دين الله، وقيل: العلم والعمل به، ولا يسمى الرجل حكيما إلا إذا جمع بينهما، وقيل: وضع كل شيء في موضعه، وقيل: سرعة الجواب مع الإصابة (3)، وقد ذكر بعضهم تسعة وعشرين قولا في تعريف الحكمة (4).
(وهذه الأقوال كلها قريب بعضها من بعض؛ لأن الحكمة مصدر من الأحكام، وهو الإتقان في قول أو فعل، فكل ما ذكر فهو نوع من الحكمة التي هي الجنس، فكتاب الله حكمة، وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- حكمة، وكل ما ذكر من التفضيل فهو حكمة، وأصل الحكمة ما يمتنع به من السفه، فقيل للعلم حكمة؛ لأنه يمتنع به من السفه، وبه بعلم الامتناع من السفه الذي هو كل فعل قبيح ... ) (5).
_________
(1) مجموعة الرسائل الكبرى، لابن تيمية (2/ 7).
(2) انظر: البخاري مع الفتح، كتاب العلم، باب الاغتباط في العلم والحكمة (1/ 165).
(3) تفسير القرآن لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري (1/ 436، 3/ 60 - 61) تفسير البغوي (1/ 256، 1/ 116)، زاد المسير (1/ 324) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/ 131)، (3/ 60 - 61).
(4) انظر: تفسير البحر المحيط (2/ 320).
(5) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (3/ 330).(1/137)
وعند التأمل والنظر نجد أن التعريف الشامل الذي يجمع ويضم جميع هذه الأقوال في تعريف الحكمة هو: (الإصابة في الأقوال والأفعال، ووضع كل شيء في موضعه) (1).
فجميع الأقوال تدخل في هذا التعريف، لأن الحكمة مأخوذة من الحكم وفصل القضاء الذي هو بمعنى الفصل بين الحق والباطل: يقال: إن فلانا لحكيم بين الحكمة، يعني: أنه بين الإصابة في القول والفعل، فجميع التعاريف داخلة في هذا القول، لأن الإصابة في الأمور إنما تكون عن فهم بها، وعلم، ومعرفة، والمصيب عن فهم منه بمواضع الصواب يكون في جميع أموره: فهما، خاشيا لله، فقيها عالما، عاملا بعلمه، ورعا في دينه ... والحكمة أعم من النبوة، والنبوة بعض معانيها وأعلى أقسامها، لأن الأنبياء عليه الصلاة والسلام مسددون، مفهمون، وموفقون لإصابة الصواب في الأقوال، والأفعال، والاعتقادات، وفي جميع الأمور (2).
والحكمة في كتاب الله نوعان (3): مفردة ومقرونة بالكتاب فالمفردة كقوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل: 125]، وقوله تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) [البقرة: 269]، وقوله سبحانه: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ للهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) [لقمان: 12].
وهذه الحكمة فسرت بما تقدم من أقوال العلماء في تعريف الحكمة، وهذا النوع كثير في كتاب الله. أما الحكمة المقرونة بالكتاب، فهي السنة من أقوال النبي -صلى الله عليه وسلم- وأفعاله، وتقريراته، وسيرته، كقوله تعالى: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ) [البقرة: 129].
_________
(1) الحكمة في الدعوة إلى الله (27).
(2) انظر: تفسير الطبري (1/ 436، 3/ 61).
(3) انظر: مدارج السالكين لابن القيم (2/ 478)، والتفسير القيم لابن القيم (227).(1/138)
المبحث الثاني
العلاقة بين التعريف اللغوي والشرعي
عند التأمل والنظر نجد علاقة قوية بين المعنى اللغوي والشرعي فكلاهما يجعل العلم النافع، والعمل الصالح الصواب المحكم المتقن أصلا من أصول الحكمة، وعلى هذا فيكون التعريف الجامع المانع للحكمة هو: (الإصابة في القول والعمل والاعتقاد ووضع كل شيء في موضعه بإحكام وإتقان) (1). والله أعلم.
وبهذا التعريف يتبين ويتضح أن الحكمة لا تقتصر على الكلام اللين أو الترغيب، أو الحلم، أو الرفق، أو العفو ... بل هي إتقان الأمور وإحكامها بأن تنزل جميع الأمور منازلها، فيوضع القول الحكيم والتعليم والتربية في مواضعها، وتوضع الموعظة في موضعها، والمجادلة بالتي هي أحسن في موضعها، ومجادلة الظالم المعاند في موضعها كما قال -عز وجل-: (وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [العنكبوت: 46]، ويوضع الزجر، والقوة، والغلظة، والشدة والسيف في مواضعها، وهذا هو عين الحكمة، وقد قال أحكم الحاكمين لسيد الحكماء والناس أجمعين: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [التوبة:73] كل ذلك بإحكام وإتقان ومراعاة لأحوال المدعوين، والأزمان، والأماكن في مختلف العصور والبلدان، وبإحسان القصد والرغبة فيما عند الكريم المنان (2). ومن أراد البرهان العملي على ذلك فعليه أن ينظر إلى ما كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعاملته لأصناف الناس، وهو الذي أعطاه الله من الحكمة ما لم يعط أحدًا من العالمين (3).
ومن أفضل التعريفات للحكمة التي يعرف بها علاقتها بالوسطية تعريفي الشيخ عبد الرحمن السعدي، والأستاذ سيد قطب رحمهم الله.
_________
(1) انظر: الحكمة في الدعوة إلى الله، لسعيد القحطاني (30).
(2) انظر: فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (19/ 164)، مفتاح دار السعادة لابن القيم (1/ 194) التفسير القيم (344).
(3) انظر: التفسير لابن القيم (344).(1/139)
قال عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله-: (الحكمة: هي العلوم النافعة، والمعارف الصائبة، والعقول المسددة، والألباب الرزينة، وإصابة الصواب في الأقوال والأفعال، ثم قال: وجميع الأمور لا تصح إلا بالحكمة التي هي وضع الأشياء في مواضعها، وتنزيل الأمور منازلها، والإقدام في محل الإقدام، والإحجام في موضع الإحجام) (1).
وقال سيد قطب -رحمه الله-: (القصد والاعتدال وإدراك العلل والغايات، والبصيرة المستنيرة التي تهديه للصالح الصائب من الحركات والأعمال) (2).
وكلامهما في غاية الدلالة على صلة الحكمة بالوسطية.
وقال ابن القيم -رحمه الله-: (وأحسن ما قيل في الحكمة قول مجاهد ومالك: أنها معرفة الحق والعمل به، والإصابة في القول والعمل، وهذا لا يكون إلا بفهم القرآن، والفقه في شرائع الإسلام، وحقائق الإيمان) (3). وقال في موضع آخر: (هي: فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي) (4).
وقوله: (على الوجه الذي ينبغي)، من أقوى دلالات الوسطية، وقال في موضع آخر: (الحكمة أن تعطي كل شيء حقه، ولا تعديه حده، ولا تعجله عن وقته، ولا تؤخره عنه) (5).
ونخلص مما سبق: أن الحكمة لابد من اعتبارها عند تحديد معنى الوسطية؛ بل إن الالتزام بالوسطية وعدم الجنوح إلى الإفراط أو التفريط هو عين الحكمة وجوهرها، وذلك أن الخروج عن الوسطية له آثاره السلبية، إما عاجلا، أو آجلا، وهذا يخالف الحكمة وينافيها.
_________
(1) انظر: تفسير السعدي (1/ 332).
(2) انظر: في ظلال القرن (1/ 312).
(3) انظر: التفسير القيم (226).
(4) انظر: مدارج السالكين (2/ 479).
(5) انظر: مدارج السالكين (2/ 478).(1/140)
ومن الأمثلة التي توضح ذلك:
أمر الابن بالصلاة لسبع سنين، وضربه عليها ضربا غير مبرح بعد بلوغ العاشرة، فإننا نجد التوسط في هذه القضية ظاهرا بين الإفراط والتفريط، وهذه هي الحكمة، حيث فرق بين من لم يبلغ السابعة، وبين من بلغها، وكذلك من بلغ العاشرة يختلف أمره، ثم من أدرك الحلم يختلف عما سبق .. وهكذا، فقد نزل الأمور منازلها، ووضع الأشياء مواضعها، وصدق الله العظيم (وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) [البقرة: 269].(1/141)
المبحث الثالث
أنواع الحكمة
النوع الأول: حكمة علمية نظرية، وهي الإطلاع على بواطن الأشياء، ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبباتها خلقا وأمرًا، قدرًا وشرعًا.
النوع الثاني: حكمة عملية، وهي وضع الشيء في موضعه (1).
فالحكمة النظرية مرجعها إلى العلم والإدراك، والحكمة العملية مرجعها إلى فعل العدل والصواب، ولا يمكن خروج الحكمة عن هذين المعنيين؛ لأن كمال الإنسان في أمرين: أن يعرف الحق لذاته، وأن يعمل به، وهذا هو العلم النافع والعمل الصالح.
وقد أعطى الله -عز وجل- أنبياءه ورسله ومن شاء من عباده الصالحين هذين النوعين، قال تعالى عن إبراهيم -عليه السلام- (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا) وهو الحكمة النظرية، (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [الشعراء: 83)، وهو الحكمة العملية.
وقال تعالى لموسى -عليه السلام- (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا) [طه: 14]، وهو الحكمة النظرية (فَاعْبُدْنِي) وهو الحكمة العملية.
وقال عن عيسى -عليه السلام- (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) وهي الحكمة النظرية، (وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا) [مريم: 30 - 31]، وهو الحكمة العملية.
وقال في شأن محمد -صلى الله عليه وسلم-: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) وهو الحكمة النظرية، (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ) [محمد: 19]، وهو الحكمة العملية (2).
الحكمة العملية لها ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: (أن تعطي كل شيء حقه، ولا تعديه حده، ولا تعجله عن
_________
(1) انظر: مدارج السالكين (2/ 478).
(2) انظر: التفسير الكبير، للفخر الرازي، (7/ 68).(1/142)
وقته، ولا تؤخره عنه) لما كانت الأشياء لها مراتب وحقوق تقتضيها، ولها حدود ونهايات تصل إليها ولا تتعداها، ولها أوقات لا تتقدم ولا تتأخر، كانت الحكمة مراعاة هذه الجهات الثلاث بأن تعطي كل مرتبة حقها الذي أحقه الله لها بشرعة وقدره، ولا تتعدى بها حدها فتكون متعديا مخالفا للحكمة، ولا تطلب تعجيلها عن وقتها فتخالف الحكمة، ولا تؤخرها عن فتفوتها، وهذا حكم عام لجميع الأسباب مع الأسباب مع مسبباتها شرعا وقدرا، فإضاعتها تعطيل للحكمة بمنزلة إضاعة البذر وسقى الأرض، وتعدى الحق كسقيها فوق حاجتها، بحيث يغرق البذر والزرع ويفسد، وتعجيلها قبل وقتها كحصاده قبل إدراكه وكماله، وهذا يكون فعل ما ينبغي على الوجه الأكمل في الوقت المناسب (1).
الدرجة الثانية: معرفة عدل الله في وعيده، وإحسانه في وعده، وعدله في أحكامه الشرعية والكونية الجارية على الخلائق، فإنه لا ظلم فيها ولا جور.
قال تعالى: (إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:40]، وكذلك معرفة بره في منعه، فإنه سبحانه هو الجواد الذي لا ينقص خزائنه الإنفاق، ولا يغيض ما في يمينه سعة عطائه، فهو سبحانه لا يضع بره وفضله إلا في موضعه ووقته بقدر ما تقتضيه حكمته، فما أعطى إلا بحكمته ولا منع إلا بحكمته، ولا أضل إلا بحكمته.
الدرجة الثالثة: البصيرة، وهي قوة الإدراك والفطنة والعلم والخبرة (2) والبصيرة هي أعلى درجات العلم التي تكون نسبة العلم فيها إلى القلب كنسبة المرئي إلى البصر، وهذه الخصيصة التي اختص بها الصحابة عن سائر الأمة ثم المخلصين من أتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي أعلى درجات العلماء (3) قال تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [يوسف: 108]، فقد أمر الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يخبر الناس أن هذه طريقته ومسلكه وسنته وهي الدعوة
_________
(1) انظر: مدارج السالكين (2/ 479).
(2) المعجم الوسيط: مادة: بصر، (1/ 59).
(3) انظر: مدارج السالكين (2/ 482).(1/143)
إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يدعو إلى الله على بصيرة من ذلك ويقين وبرهان، وعلم وكل من اتبعه يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على بصيرة ويقين وبرهان عقلي وشرعي (1).
والبصيرة في الدعوة إلى الله تنقسم إلى ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أن يدعو الداعية على بصيرة فيما يدعو إليه بأن يكون عالما بالحكم الشرعي فيما يدعو إليه، لأنه قد يدعو إلى شيء يظنه واجبا وهو في شرع الله غير واجب فيلزم عباد الله بما لم يلزمهم الله به، وقد يدعو إلى ترك شيء يظنه محرما وهو في دين الله غير محرم، فيحرم على عباد الله ما أحله الله لهم.
الأمر الثاني: أن يكون على بصيرة في حال المدعو، فلا بد من معرفة حال المدعو: الدينية، والاجتماعية، والاعتقادية والنفسية والعلمية، والاقتصادية حتى يقدم له ما يناسبه.
الأمر الثالث: أن يكون على بصيرة في كيفية الدعوة (2) وقد رسم الله طرق الدعوة ومسالكها في آيات كثيرة منها: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ) [يوسف: 108]، وهذه قاعدة قوية متينة في الدعوة إلى الله تعالى ثم تكون هذه القاعدة متفرعة إلى ثلاثة أبواب: وهي الدعوة إلى الله: بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن (3). قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل: 125].
أما الباب الرابع: في الدعوة إلى الله باستخدام القوة عند الحاجة إليها كما قال تعالى: (وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [العنكبوت: 46]، ولا شك أن أحسن الطرق في دعوة الناس طريق القرآن، ومخاطبته لهم، ومجادلتهم (4).
_________
(1) انظر: تفسير ابن كثير (2/ 496) وتفسير السعدي (4/ 63).
(2) انظر: زاد الداعية إلى الله للشيخ محمد بن صالح العثيمين (7).
(3) هذا التقسيم الجيد للقاعدة والثلاثة أبواب، للشيخ عبد القادر شيبة الحمد في محاضرة بالرياض عنوانها: طريق الدعوة إلى الله، سنة 1408هـ.
(4) انظر: الفتاوى لابن تيمية (19/ 158 - 173).(1/144)
المبحث الرابع
أركان الحكمة
توطئة: الحكمة أركان ودعائم تقوم عليها وأركانها التي تقوم عليها، ثلاثة هي: العلم، والحلم، والأناة، وآفاتها وأضدادها ومعاول هدمها: الجهل، والطيش، والعجلة، ولا حكمة لجاهل ولا طائش، ولا عجول (1).
أولا: العلم:
العلم من أعظم أركان الحكمة، ولهذا أمر الله به وأوجبه قبل القول والعمل، فقال تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) [محمد: 19]، وقد بوب الإمام البخاري -رحمه الله-: لهذه الآية بقوله (باب: العلم قبل القول والعمل) (2).
وذلك أن الله أمر نبيه بأمرين: بالعلم، ثم العمل، والمبدوء به العلم في قوله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) ثم أعقبه بالعمل في قوله: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ) فدل ذلك على أن مرتبة العلم مقدمة على مرتبة العمل، وأن العلم شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبران إلا به، فهو مقدم عليهما؛ لأنه مصحح للنية المصححة للعمل (3) والعلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقد يكون علم من غير الرسول، ولكن في أمور دنيوية، مثل الطب والحساب، والفلاحة والتجارة (4) ولا شك أنه لا ينهي عن العلم إلا قطاع الطريق، ونواب إبليس وشرطه (5).
وقد قسم الإمام ابن تيمية -رحمه الله-: العلم النافع -الذي هو أحد دعائم الحكمة وأسسها - إلى ثلاثة أقسام، فقال -رحمه الله-: (والعلم الممدوح الذي دل عليه
_________
(1) انظر: مدارج السالكين لابن القيم (2/ 480).
(2) البخاري مع الفتح، كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعمل (1/ 159).
(3) انظر: فتح الباري، كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعمل (1/ 160).
(4) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (13/ 136، 6/ 388).
(5) انظر: مدارج السالكين، لابن القيم (2/ 464).(1/145)
الكتاب والسنة هو العلم الذي ورثه الأنبياء كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارًا، وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر" (1).
وهذا العلم ثلاثة أقسام:
القسم الأول: علم بالله وأسمائه وصفاته وما يتبع ذلك، وفي مثله أنزل الله سورة الإخلاص وآية الكرسي ونحوهما.
القسم الثاني: علم بما أخبر الله به مما كان من الأمور الماضية، وما يكون من الأمور المستقبلة، وهو كائن من الأمور الحاضرة، وفي مثل هذا أنزل الله آيات القصص والوعد والوعيد وصفة الجنة والنار، ونحو ذلك.
القسم الثالث: العلم بما أمر الله به من العلوم المتعلقة بالقلوب والجوارح من الإيمان بالله من معارف القلوب وأحوالها، وأقوال الجوارح وأعمالنا، وهذا يندرج فيه: العلم بأصول الإيمان وقواعد الإسلام ويندرج فيه العلم بالأقوال، والأفعال الظاهرة، ويندرج فيه ما وجد من كتب الفقهاء من العلم بأحكام الأفعال فإن ذلك جزء من جزء من علم الدين.
والناس إنما يغلطون في هذه المسائل؛ لأنهم يفهمون مسميات الأسماء الواردة في الكتاب والسنة، ولا يعرفون حقائق الأمور الموجودة، فرب رجل يحفظ حروف العلم التي أعظمها حفظ حروف القرآن ولا يكون له من الفهم ولا من الإيمان ما يتميز به على من أتى القرآن ولم يؤت حفظ حروف العلم قال -صلى الله عليه وسلم- "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب، وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر) (2).
_________
(1) سنن أبي داود، كتاب العلم، باب الحث على طلب العلم (3/ 317).
(2) البخاري مع الفتح، كتاب الأطعمة، باب ذكر الطعام، (9/ 555).(1/146)
فقد كان الرجل حافظا لحروف القرآن وسوره، ولا يكون مؤمنا؛ بل يكون منافقا، فالمؤمن الذي لا يحفظ حروفه وسوره خير منه، وإن كان ذلك المنافق ينتفع به الغير كما ينتفع بالريحان، وأما الذي أوتى العلم والإيمان، فهو مؤمن حكيم عليهم، وهو أفضل من المؤمن الذي ليس مثله في العلم مع اشتراكهما في الإيمان فهذا اصل يجب معرفته (1).
والعلم النافع هو أعظم أركان الحكمة التي من أوتيها فقد أوتى خيرًا كثيرًا وهو ما كان مقرونا بالعمل، أما العلم بلا عمل، فهو حجة على صاحبه يوم القيامة، ولهذا حذر الله المؤمنين من أن يقولوا ما لا يفعلون، رحمة بهم، وفضلا منه وإحسانا فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ) [الصف: 2 - 3].
وحذرهم من كتمان العلم، وأمرهم بتبليغه للبشرية على حسب الطاقة والجهد، وعلى حسب العلم الذي أعطاهم الله -عز وجل- لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ) [البقرة: 159].
وهذه الآية وإن كانت نازلة في أهل الكتاب وما كتموه من شأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصفاته، فإن حكمها عام لكل من اتصف بكتمان ما أنزل الله من البينات الدالة على الحق، المظهرة له، والعلم الذي تحصل به الهداية إلى الصراط المستقيم، ويتبين به طريق أهل النعيم من طريق أهل الجحيم، ومن نبذ ذلك، وجمع بين المفسدتين: كتم ما أنزل الله، والغش لعباد الله، لعنه الله ولعنه جميع الخليقة؛ لسعيهم في غش الخلق وفساد دينهم، وإبعادهم عن رحمة الله، فجوزوا من جنس عملهم، كما أن معلم الناس الخير يستغفر له كل شيء حتى الحوت في الماء والطير في الهواء لسعيه في مصلحة الخلق وإصلاح دينهم؛ ولأنه قربهم من رحمة الله، فجوزي من جنس عمله (2).
_________
(1) انظر: فتاوى ابن تيمية بتصرف، (11/ 396).
(2) انظر: تفسير عبد الرحمن بن ناصر السعدي (1/ 186).(1/147)
وقد بين -صلى الله عليه وسلم- أن: "من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألحم يوم القيامة بلجام من نار" (1)، فتبين بذلك وغيره أن العلم النافع الذي هو أحد أركان الحكمة لا يكون إلا مع العمل به، ولهذا قال سفيان (2) في العمل بالعلم والحرص عليه: (أجهل الناس من ترك ما يعلم، وأعلم الناس من عمل بما يعلم، وأفضل الناس أخشعهم لله) (3)، وقال -رحمه الله-: (يراد للعلم: الحفظ، والعمل، والاستماع، والإنصات، والنشر) (4).
وقال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: (تعلموا، تعلموا فإذا علمتم فاعملوا) (5).
وقال -رضي الله عنه-: (إن الناس أحسنوا القول كلهم، فمن وافق فعله قوله فذلك الذي أصاب حظه، ومن خالف قوله فعله فإنما يوبخ نفسه) (6).
وقال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: (يا حملة العلم اعملوا به، فإنما العالم من علم ثم عمل، ووافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، تخالف سريرتهم علانيتهم، ويخالف عملهم علمهم، يقعدون حلقا فيضاهي بعضهم بعضا، حتى أن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله -عز وجل-) (7).
وقال أبو الدرداء (8) -رضي الله عنه-: (لا تكون تقيا حتى تكون عالما، ولا تكون بالعلم جميلا حتى تكون به عاملا) (9).
_________
(1) الترمذي: كتاب العلم، باب ما جاء في كتمان العلم (5/ 29).
(2) سفيان بن عيينة بن أبي عمران، الإمام الكبير شيخ الإسلام، ولد سنة (107هـ) عاش 91 سنة.
انظر: سير أعلام النبلاء (8/ 454 - 474). نفس المصدر السابق (1/ 81).
(3) أخرجه الدرامي في سننه، في المقدمة، باب فضل العلم والعمل، (1/ 81).
(4) نفس المصدر السابق (1/ 81).
(5) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/ 195).
(6) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 6).
(7) أخرجه ابن عبد البر في جامع العلم وفضله (2/ 7).
(8) هو الصحابي الجليل عويمر بن عامر، وقيل: مالك أو ثعلبة بن قيس بن أمية الخزرجي الأنصارى، أسلم يوم بدر، وشهد أحدًا وما بعدها، وهو حكيم هذه الأمية، توفى لسنتين بقيتا من خلافة عثمان -رضي الله عنه- وقيل بعد صفين، الإصابة (3/ 46).
(9) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 7).(1/148)
قال الشاعر:
إذا العلم لم تعمل به كان حجة ... عليك ولم تعذر بما أنت جاهله
فإن كنت قد أوتيت علما فإنما ... يصدق قول المرء ما هو فاعله (1)
وبهذا يتضح أن العلم لا يكون من دعائم الحكمة -التي هي من ملامح الوسطية- إلا باقترانه بالعمل، وقد كان علم السلف الصالح -وعلى رأسهم أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- - مقرونا بالعمل، ولهذا كانت أقوالهم وأفعالهم، وسائر تصرفاتهم تزخر بالحكمة، ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها" (2).
وقد دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- بالحكمة والفقه في الدين، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم علمه الحكمة"، وفي لفظ "اللهم علمه الكتاب" وفي لفظ "اللهم فقهه في الدين" (3).
فكان -رضي الله عنه- حبرًا للأمة في علم الكتاب والسنة والعمل بهما استجابة لدعوة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
أسباب وطرق تحصيل العلم:
والعلم النافع له أسباب ينال بها وطرق تسلك في تحصيله وحفظه من أهمها:
1 - أن يسأل العبد ربه العلم النافع، ويستعين به تعالى، ويفتقر إليه وقد أمر الله نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بسؤاله أن يزيده علما إلى علمه (4).
فقال تعالى: (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) [طه: 114]، وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وزدني علما" (5).
_________
(1) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 7).
(2) البخاري مع الفتح، في كتاب العلم، باب الاغتباط في العلم والحكمة (1/ 165).
(3) البخاري مع الفتح، في كتاب فضائل الصحابة، باب ذكر ابن عباس (7/ 100).
(4) انظر: تفسير الإمام الطبري (3/ 233) وتفسير العلامة السعدي (5/ 194).
(5) الترمذي: كتاب الدعوات، باب العفو والعافية (5/ 578).(1/149)
2 - ومنها الاجتهاد في طلب العلم، والشوق إليه، والرغبة الصادقة فيه ابتغاء مرضاة الله تعالى، وبذل جميع الأسباب في طلب الكتاب والسنة (1)، وقد جاء رجل إلى أبي هريرة -رضي الله عنه- فقال: (إني أريد أن أتعلم العلم وأخاف أن أضيعه، فقال أبو هريرة -رضي الله عنه- كفي بتركك له تضيعا) (2). ولهذا قال بعض الحكماء عندما سئل: ما يجتمع، (علم علمك من يجهل، وتعلم ممن يعمل، فإنك إن فعلت ذلك علمت ما جهلت، وحفظت ما علمت) (3).
ولهذا قال الإمام الشافعي -رحمه الله-:
أخي لن تنال العلم إلا بستة ... سأنبئك عن تفصيلها ببيان
ذكا وحرص، واجتهاد وبلغه ... وصحبة أستاذ وطول زمان (4)
3 - ومنها: اجتناب جميع المعاصي بتقوى الله تعالى فإن ذلك من أعظم الوسائل إلى حصول العلم، كما قال تعالى: (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة: 282]، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ) [الأنفال: 29]، وهذا واضح بين أن من اتقى الله جعل له علما يفرق به بين الحق والباطل (5)، ولهذا قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: (إني لأحسب أن الرجل ينسى العلم قد علمه بالذنب يعلمه) (6).
وقال عمر بن عبد العزيز (7) -رحمه الله-: (خمس إذا أخطأ القاضي منهن خطأ (8)
_________
(1) انظر: تفسير السعدي (5/ 194).
(2) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (1/ 104).
(3) المرجع السابق (1/ 102 - 103).
(4) ديوان الشافعي (116).
(5) انظر: تفسير ابن كثير (1/ 338)، وتفسير السعدي (1/ 349).
(6) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (1/ 196).
(7) هو الإمام العلامة، المجتهد الزاهد العابد، الراشد السيد أمير المؤمنين، كان من أئمة الجهاد والاجتهاد، ومن الخلفاء الراشدين، سيرته العطرة محل عبرة وقدوة، توفى عليه رحمه الله عام (101هـ) سير أعلام النبلاء (5/ 114)، تهذيب التهذيب (3/ 88)، حلية الأولياء (5/ 253).
(8) خطة: خصلة. انظر: فتح الباري (13/ 146).(1/150)
كانت فيه وصمة (1) أن يكون: فهما، حليما، عفيفا، صليبا (2) عالما سؤولا عن العلم (3).
وقال الإمام الشافعي -رحمه الله-:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن علم الله نور ... ونور الله لا يهدي لعاصي (4)
وقال الإمام مالك للإمام الشافعي رحمهما الله تعالى: (إني أرى الله قد جعل في قلبك نورا فلا تطفئه بظلمة المعصية) (5).
4 - ومنها: عدم الكبر والحياء عن طلب العلم، ولهذا قالت عائشة -رضي الله عنهما- (نعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين) (6).
وقال مجاهد: (لا يتعلم العلم مستحي ولا مستكبر).
5 - ومنها: بل أعظمها وليها: الإخلاص في طلب العلم، قال -صلى الله عليه وسلم- "من تعلم علما مما يبتغي به وجه الله -عز وجل-: لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة" (7)، يعني ريحها.
6 - العمل بالعلم: ومما تقدم يتضح أن العلم لا يكون ركنا من أركان الحكمة ودعائمها إلا بالعمل، والإخلاص، والمتابعة، وبذلك تدخل هذه الأمور في ملامح الوسطية.
_________
(1) وصمة: عيبا. انظر: فتح الباري (13/ 146).
(2) قويا شديدا، يقف عند الحق ولا يميل مع الهوى، انظر الفتح (13/ 146).
(3) البخاري مع الفتح، كتاب الأحكام، باب متى يستوجب الرجل القضاء؟ (13/ 146).
(4) وكيع بن الجراح بن مليح، الإمام الحافظ، محدث العراق، ولد سنة (129هـ) ومات سنة (196هـ) انظر: سير أعلام النبلاء (9/ 140)، وتهذيب التهذيب (11/ 109).
(5) ديوان الشافعي (88)، وانظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم (104).
(6) البخاري مع الفتح، كتاب العلم، باب الحياء مع العلم (1/ 228).
(7) أبو داود، كتاب العلم، باب في طلب العلم لغيره الله، (3/ 323).(1/151)
ثانيا: الحلم:
الحلم: بالكسر: العقل (1)، وحلم حلما: تأني وسكن عند غضب أو مكروه مع قدرة، وصفح، وعقل (2) ومن أسماء الله تعالى: (الحليم) وهو الذي لا يستخفه شيء من عصيان العباد، ولا يستفزه الغضب عليهم، ولكنه جعل لكل شيء مقدارا فهو منته إليه (3) والحلم: ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب (4).
والحلم: هو حالة متوسطة بين رذيلتين: الغضب، والبلادة فإذا استجاب المرء لغضبه بلا تعقل ولا تبصر كان على رذيلة، وإن تبلد، وضيع حقه ورضى بالهضم والظلم كان على رذيلة، وإن تحلى بالحلم مع القدرة، وكان حلمه مع من يستحقه كان على فضيلة.
وهناك ارتباط بين الحلم وكظم الغيظ، وهو أن ابتداء التخلق بفضيلة الحلم يكون بالتحلم: وهو كظم الغيظ، وهذا يحتاج إلى مجاهدة شديدة، لما في كظم الغيظ من كتمان ومقاومة واحتمال، فإذا أصبح ذلك هيئة راسخة في النفس، وأصبح طبعا من طبائعها كان ذلك هو الحلم، والله أعلم (5).
وقد وصف الله نفسه بصفة الحلم في عدة مواضع من القرآن الكريم كقوله تعالى: (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) [آل عمران: 155]، ونلاحظ أن الآيات التي وصفت الله بصفة الحلم قد قرنت صفة الحلم في الغالب بعد إشارة سابقة إلى خطأ واقع، أو تفريط في أمر محمود، وهذا أمر يتفق مع الحلم؛ لأنه تأخير عقوبة: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى) [فاطر: 45].
_________
(1) القاموس المحيط، باب الميم، فصل الحاء، (1416).
(2) المعجم الوسيط، مادة: حلم (1/ 194).
(3) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير حرف الحاء مع اللام (1/ 434).
(4) المفردات في غريب القرآن، للراغب الاصفهاني، مادة: حلم (129).
(5) انظر: مفردات غريب القرآن (129)، أخلاق القرآن للشرباصي (1/ 182) الأخلاق الإسلامية عبد الرحمن الميداني (2/ 326).(1/152)
ونجد أيضًا أن عددًا من الآيات التي وصفت الله بالحلم قد قرن فيها ذكر الحلم بالعلم، كقوله تعالى: (وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ) [الحج: 59]، وهذا يفيد -والله أعلم بمراده- أن كمال الحلم يكون مع كمال العلم، وهذا من أعظم أركان الحكمة (1) التي هي من أهم ملامح الوسطية.
ومما يؤكد أن الحلم من أعظم أركان الحكمة -التي ينبغي للداعية أن يدعو بها إلى الله -مدح النبي -صلى الله عليه وسلم- للحلم وتعظيمه لأمره وأنه من الخصال التي يحبها الله، قوله للأشج (2): "إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة" (3).
وفي رواية الأشج: يا رسول الله، أنا تخلقت بهما أم الله جبلني عليهما؟ قال: "بل الله جبلك عليهما" قال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله (4).
وسبب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك للأشج ما جاء في حديث الوفد أنهم لما وصلوا المدينة بادروا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأقام الأشج عند رحالهم فجمعها وعقل ناقته، ولبس أحسن ثيابه، ثم أقبل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقربه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأجلسه إلى جانبه، ثم قال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تبايعون على أنفسكم وقومكم؟ فقال القوم: نعم، فقال الأشج: يا رسول الله، إنك لم تزاول الرجل على شيء أشد عليه من دينه، نبايعك على أنفسنا، ونرسل من يدعوهم، فمن اتبعنا كان منا، ومن أبي قاتلناه، قال: "صدقت، إن فيك خصلتين .. " (5).
فالأناة: تربصه حتى نظر في مصالحه، ولم يعجل، والحلم: هذا القول الذي قاله، الدال على صحة عقله، وجودة نظره للعواقب ... (6)، ومما يؤكد أن الحلم من
_________
(1) أخلاق القرآن للشرباصي (1/ 185).
(2) المنذر بن عائذ بن المنذر العصري، أشجع عبد القيس، كان سيد قومه، رجع بعد إسلامه إلى البحرين مع قومه، ثم نزل البصرة، بعد ذلك ومات بها -رضي الله عنه- انظر: تهذيب التهذيب (10/ 267).
(3) مسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله ورسوله (1/ 48).
(4) أبو داود، كتاب الأدب، باب في قبلة الجسد (4/ 357)، وأحمد (4/ 206، 3/ 23).
(5) مسلم وشرح النووي، كتاب الإيمانن باب مبايعة النبي -صلى الله عليه وسلم- لوفد عيد قيس (1/ 189).
(6) شرح النووي، كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله ورسوله (1/ 189).(1/153)
أعظم أركان الحكمة ودعائمها العظام أنه خلق عظيم من أخلاق النبوة والرسالة، فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم عظماء البشر، وقدوة أتباعهم من الدعاة إلى الله والصالحين في الأخلاق المحمودة كافة.
وقد واجه كل واحد منهم من قومه ما يثير الغضب، ويغضب منه عظماء الرجال ولكن حملوا عليهم، ورفقوا بهم حتى جاءهم نصر الله، وعلى رأسهم إمامهم وسيدهم، وخاتمهم -صلى الله عليه وسلم- ولم يكن غريبا أن يوجهه الله تعالى إلى قمة هذه السيادة حين يقول له: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأعراف: 199 - 200].
(وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصلت: 34]، وقوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران: 159].
وقد بلغ -صلى الله عليه وسلم- في حلمه، وعفوه في دعوته إلى الله تعالى الغاية المثالية، والدلائل على ذلك كثيرة جدًا منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
1 - عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "كنت أمشى مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة حتى نظرت صفحة عاتق النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد، مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فضحك، ثم أمر له بعطاء" (1).
وهذا من روائع حلمه -صلى الله عليه وسلم- وكماله وحسن خلقه وصفحة الجميل وصبره على الأذى في النفس والمال والتجاوز عن جفاء من يريد تألفه على الإسلام، وليتأس به الدعاة إلى الله، والولاة بعده في حلمه وخلقه الجميل من الصفح، والإغضاء، والعفو، والدفع بالتي هي أحسن (2).
_________
(1) البخاري مع الفتح، كتاب فرض الخمس، باب ما كان يعطي النبي -صلى الله عليه وسلم- المؤلفة قلوبهم وغيرهم أن الخمس (6/ 251).
(2) انظر: شرح النووي مع مسلم كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة ومن يخاف على إيمانه: (7/ 147).(1/154)
2 - وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- "أنه غزا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل نجد، فلما قفل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قفل معه، فأدركتهم القافلة في واد كثير العضاه، فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحت شجرة، وعلق بها سيفه، ونمنا نومة، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعونا، وإذا عنده أعرابي، فقال: "إن هذا اخترط علي سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلته" فقال: من يمنعك مني؟ فقلت: "الله" ثلاثا ولم يعاقبه وجلس" (1).
وفي هذا دلالة واضحة على قوة يقينه بالله، وصبره على الأذى، وحلمه على الجهال، وشدة رغبته في استئلاف الكفار ليدخلوا في الإسلام، ولهذا ذكر أن هذا الأعرابي رجع إلى قومه وأسلم، واهتدى به خلق كثير (2). وهذا مما يؤكد أن الحلم من أعظم أركان الحكمة ودعائمها.
3 - ومن عظيم حلمه عدم دعائه على من آذاه من قومه، وقد كان باستطاعته أن يدعو عليهم فيهلكهم الله ويدمرهم، ولكنه -صلى الله عليه وسلم- حليم حكيم يهدف إلى الغاية العظمى، وهي رجاء إسلامهم أو إسلام ذريتهم، ولهذا قال ابن مسعود -رضي الله عنه- كأني أنظر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحكي نبيا من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" (3).
ومما يدل على أن الحلم ركن من أركان الحكمة ملازمة صفة الحلم للأنبياء قبل النبي -صلى الله عليه وسلم- في دعوتهم إلى الله تعالى.
فهذا إبراهيم أبو الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام، قد بلغ من الحلم مبلغا عظيما حتى وصفه الله بقوله: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ) [التوبة: 114].
_________
(1) البخاري مع الفتح، كتاب الجهاد والسير، باب من علق سيفه (6/ 113).
(2) البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع (7/ 493).
(3) مسلم مع شرح النووي: كتاب الجهاد والسير، باب غزوة أحد (12/ 150).(1/155)
فقد كان إبراهيم كثير الدعاء، حليما عمن ظلمه وأناله مكروها، ولهذا استغفر لأبيه مع شدة أذاه له في قوله: (قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا* قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا *وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا) [مريم: 46 - 48].
فحلم عنه مع أذاه له، ودعا له، واستغفر (1) ولهذا قال تعالى: () [التوبة: 114]، وهكذا جميع الأنبياء والمرسلين، كانوا من أعظم الناس حلما مع أقوامهم في دعواتهم إلى الله تعالى (2).
ومن وراء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، يأتي الدعاة إلى الله والصالحون من أتباعهم، إذا كان الله -عز وجل- قد جعل محمدًا -صلى الله عليه وسلم- مثلا عاليا في الحلم، فقد أراد لأتباعه أن يسيروا على نهجه وسنته، ولذلك يقول تعالى عن الأخيار من هؤلاء: (فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا) [الفرقان:36]، فمن صفاتهم أنهم أصحاب حلم، فإذا سفه عليهم الجهال بالقول السيئ لم يقابلوهم عليه بمثله، بل يعفون ويصفحون، ولا يقولون إلا خيرًا كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما.
وينبغي أن يعلم أن الغضب لله يكون محمودًا، ولا يدخل في الغضب المذموم، فالغضب المحمود يكون من أجل الله عندما ترتكب حرمات الله، أو تترك أوامره ويستهان بها، وهذا من علامات قوة الإيمان ولكن بشرط أن لا يخرج هذا الغضب عن حدود الحلم والحكمة، وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يغضب لله إذا انتهكت محارمه، وكان لا ينتقم لنفسه، ولكن إذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء، ولم يضرب بيده خادمًا، ولا امرأة إلا أن يجاهد في سبيل الله، وقد خدمه أنس بن مالك -رضي الله عنه- عشر سنوات، فما قال له أف قط، ولا قال له لشيء فعله: لم فعلت كذا؟، ولا لشيء لم يفعله ألا فعلت كذا (3).
_________
(1) انظر: تفسير ابن كثير (2/ 396)، والبغوي (2/ 332).
(2) انظر: موسوعة الأخلاق للشرباصي (1/ 185).
(3) البخاري مع الفتح: كتاب الأدب، باب ما يجوز من الغضب لأمر الله (10/ 533).(1/156)
وهذا لا ينافي الحلم والحكمة، بل الغضب لله في حدود الحكمة من صميم الحلم والحكمة وقوله: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة: 231]، وقوله: (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ) [آل عمران:164]، (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ) [الجمعة: 2]. وغير ذلك من الآيات.
وممن فسر الحكمة المقرونة بالكتاب والسنة: الإمام الشافعي (1) والإمام ابن القيم (2)، وغيرهما من الأئمة (3).
ثالثا: الأناة
الأناة في اللغة: التثبت وعدم العجلة، يقال: تأني في الأمر: مكث ولم يعجل، والاسم منه: أناة (4) ويقال: تأنى في الأمر: ترفق، وتنظر، وتمهل، واستأنى به: انتظر به وأمهله (5)، وتأنى الأناة بمعنى التبين والتثبت في الأمور، يقال: تبين في الأمر والرأي: تثبت، وتأنى فيه ولم يعجل (6).
_________
(1) هو الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي ينتهي نسبه إلى عبد المناف جد النبي -صلى الله عليه وسلم- ولد -رحمه الله-: بغزة سنة (150هـ) وتلقي العلم بمكة والمدينة، هو إمام المذهب الشافعي، وتتلمذ على يديه علماء أجلاء منهم الإمام أحمد بن حنبل، وأبو ثور، وإبراهيم بن خالد الكلبي، وغيرهم، وكانت له مآثر جليلة ومناقب عظيمة، توفى -رحمه الله-: بمصر في رجب من سنة (204هـ) من مؤلفاته (الأم، الرسالة)، انظر: البداية والنهاية لابن كثير (10/ 251) وطبقات الشافعية (11/ 14).
(2) هو الإمام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزرعي المعروف بابن قيم الجوزية، ولد -رحمه الله-: بدمشق سنة 691هـ، وتوفى في رجب سنة 751هـ تتلمذ على شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: ولازمه، ويعتبر من المجتهدين، وله مصنفات كثيرة جدًا في مختلف العلوم والفنون منها: إعلام الموقعين، وزاد المعاد في هدى خير العباد، الطرق الحكمية، ذيل طبقة الحنابلة لابن رجب، (2/ 447)، وابن القيم حياته وآثاره. د. بكر عبد الله أبو زيد (7).
(3) انظر: مدارج السالكين لابن القيم (2/ 478)، والتفسير القيم (227).
(4) المصباح المنير: مادة: أني (1/ 28).
(5) انظر: مختار الصحاح، مادة: أني: 13 المعجم الوسيط (1/ 31).
(6) انظر: المعجم الوسيط، مادة أبان (1/ 80)، ومادة ثبت (1/ 93).(1/157)
ويأتي التبين بمعنى: التبصر: التعرف والتأمل، يقال: تبصر الشيء، وتأمل في رأيه تبين ما يأتيه من خير أو شر (1) وعلى ضوء ما تقدم تكون الأناة هي: التصرف الحكيم بين العجلة والتباطؤ (2).
والأناة مظهر من منظاهر خلق الصبر، وهي من صفات أصحاب العقل والرزانة، بخلاف العجلة فإنها من صفات الرعونة والطيش، وهي تدل على أن صاحبها لا يملك الإرادة القوية القادرة على ضبط نفسه تجاه انفعالاته العجولة، وبخلاف التباطؤ والتواني فهما من صفات أصحاب الكسل والتهاون بالأمور، ويدلان على أن صاحبهما لا يملك القدرة على دفع همته للقيام بالأعمال التي تحقق له ما يرجوه، أو ليس لديه همة عالية تنشد الكمال، فهو يرضى بالدنيات، وإيثار الراحة، والكسل عن القيام بالواجب.
والأناة تسمح للمسلم بأن يحكم أموره، ويضع الأشياء في مواضعها، فهى ركن من أركان الحكمة. وقد ذك الإسلام الاستعجال ونهى عنه، كما ذم التباطؤ والكسل ونهى عنه، ومدح الأناة وأمر بها وعمل على تربية المسلمين على الأناة والتثبت الحكيم في القيام بالأعمال وتصريف الأمور (3) قال تعالى للنبي -صلى الله عليه وسلم- تربية له وتعليما: (لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ *ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) [القيامة: 16 - 19].
فأمر سبحانه نبيه بعدم العجلة ومسابقة الملك في قراءته، وتكفل الله له أن يجمعه في صدره وأن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه، وأن يبينه له ويفسره (4).
وقال تعالى: (وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) [طه: 114]. وأمر سبحانه عباده المؤمنين والدعاة إلى الله تعالى بالتأني في الأمور
_________
(1) انظر: القاموس المحيط، باب الراء، فصل الباء (448).
(2) انظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها لعبد الرحمن الميداني (2/ 352).
(3) الأخلاق الإسلامية وأسسها (2/ 353 - 354) بتصرف.
(4) انظر: تفسير ابن كثير (4/ 450).(1/158)
والتثبت فيها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات:6]، قرأ الجمهور: (فَتَبَيَّنُوا). من التبين، وهو التأمل، وهناك من قرأ: (فَتَثبتُّوا) والمراد من التبين التعرف والتفحص، ومن التثبت: الأناة وعدم العجلة، والتبصر في الأمر الواقع والخبر الوارد حتى يتضح ويظهر (1).
ولعظم أمر الأناة والتبين أمر الله بها حتى في جهاد الكفار في سبيل الله الذي هو من أعظم وسائل الدعوة إلى الله تعالى، فقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [النساء: 94].
ومن المعلوم أن الأمور قسمان: أمور واضحة، وأمور غير واضحة.
فالواضحة البينة لا تحتاج إلى تثبت وتبين، لأن ذلك تحصيل حاصل.
وأما الأمور المشكلة غير الواضحة فإن الداعية خاصة والمسلمين عامة بحاجة إلى التثبت فيها والتبين، فإن ذلك يحصل فيه من الفوائد الكثيرة، والكف عن شرور عظيمة ما يجعل المسلم في سلامة عن الزلل، وبذلك يعرف دين العبد وعقله ورزانته (2).
ومما يزيد الآية السابقة وضوحا ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: (وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا) قال: كان رجل في غنيمة له فلحقه المسلمون، فقال السلام عليكم فقتلوه، وأخذوا غنيمته، فأنزل الله في ذلك قوله: (تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أي: تلك الغنيمة، وقرأ ابن عباس السلام (3).
_________
(1) انظر: فتح القدير، للإمام الشوكاني (4/ 60).
(2) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي (2/ 132).
(3) البخاري مع الفتح: كتاب التفسير، سورة النساء، باب: ولا تقولوا (8/ 107).(1/159)
وعن أسامة بن زيد (1) -رضي الله عنهما- قال: "بعثنا رسول الله إلى الحرقة من جهينة، قال: فصبحنا القوم فهزمناهم، قال ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، قال فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، قال فكف عنه الأنصاري فطعنته برمحي حتى قتلته، قال: فلما قدمنا بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: فقال لي: "يا أسامة، أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله"، قال: قلت يا رسول الله، إنما كان متعوذا، قال: فقال: "أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله"، قال فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم" (2).
وفي رواية قال: قلت يا رسول الله: إنما قالها خوفا من السلاح قال: "أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟ " فما زال يكررها حتى تمنيت اني أسلمت يومئذ (3). ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أعظم الناس أناة وتثبتا، فكان لا يقاتل أحدًا من الكفار إلا بعد التأكد بأنهم لا يقيمون شعائر الإسلام، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا غزا بنا قوما لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر، فإن سمع أذانا كف عنهم، وإن لم يسمع أذانا أغار عليهم ... " (4).
وكان -صلى الله عليه وسلم- يعلم ويربي أصحابه على الأناة والتثبت في دعوتهم إلى الله تعالى ومن ذلك أنه كان يأمر أمير سيرته أن يدعو عدوه قبل القتال إلى إحدى ثلاث خصال:
1 - الإسلام والهجرة، أو إلى الإسلام دون الهجرة، ويكونون كأعراب المسلمين.
2 - فإن أبوا الإسلام دعاهم إلى بذل الجزية.
3 - فإن امتنعوا عن ذلك كله استعان بالله وقاتلهم (5).
ومن تربيته لأصحابه -صلى الله عليه وسلم- على الأناة وعدم العجلة قوله: "إذا أقيمت الصلاة
_________
(1) هو حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وابن حبه أسامة بن زيد بن حارثة بن شرحبيل الكلبي أبو محمد مولي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استعمله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على جيش فيه أبو بكر وعمر، فلم ينفد إلا في خلافة أبي بكر بعثه إلى الشام، ثم انتقل إلى المدينة فمات بها سنة (54هـ) الإصابة: (1/ 46) سير أعلام النبلاء (2/ 496).
(2) البخاري مع الفتح: كتاب المغازي باب بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- أسامة (7/ 5891).
(3) مسلم مع شرح النووي: كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله (2/ 98).
(4) البخاري مع الفتح: بلفظه مطولا، في كتاب الأذان، اب ما يحقن من الأذان من الدماء (2/ 107).
(5) مسلم مع النووي: كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها (12/ 37).(1/160)
فلا تأتوها تسعون، واتوها تمشون، وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا" (1).
والرسل عليهم الصلاة والسلام هم صفوة الخلق وقدوتهم، وهم أكمل الناس أناة وحلما، وأعظمهم في ذلك وأوفرهم حظا محمد -صلى الله عليه وسلم- ومن أمثلة ذلك قصة سليمان مع الهدهد وتثبته وعدم عجلته، قال سبحانه عن ذلك: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ* لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ) [النمل: 20 - 21]، نجد نبي الله سليمان النبي الملك الحازم يتهدد الجندي الغائب المخالف، ولكن سليمان ليس ملكا جبارا في الأرض، ولا متسرعا عجولا، وهم لم يسمع بعد حجة الهدهد الغائب، فلا ينبغي أن يترك الأناة والتثبت ويقضي في شأنه قضاء نهائيا قبل أن يسمع منه ويتبين عذره، ومن ثم تبرز سمة النبي العادل المتثبت (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ) أي حجة قوية واضحة توضح عذره وتنفي المؤاخذة عنه (2).
والداعية إلى الله -عز وجل-: إذا تثبت، وتأمل في جميع أموره اكتسب ركنا من أركان الحكمة، ينبغي ألا تقتصر في منهجه المتكامل على التأني والتثبت في الأفعال والأقوال فحسب، بل عليه أن يجري ذلك على القلب في خواطره وتصوراته، وفي مشاعره وأحكامه: (لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) [الإسراء: 36]، فلا يقول اللسان كلمة، ولا يرو حادثة ولا يحكم العقل حكما، ولا يبرم الداعية أمرًا إلا وقد تثبت من ك ل جزئية ومن كل ملابسة ومن كل نتيجة، حتى لا يبقى هنالك شك ولا شبهة في صحتها، وحينئذ يصل الداعية المسلم المتمسك بهذه الضوابط إلى أعلى درجات الأناة والحكمة والسداد بإذن الله تعالى (3).
أما العجلة فهي مذمومة، قال سبحانه عن فرعون: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ) [الزخرف: 54] استخفهم وحملهم على الضلالة والجهل، واستخف عقولهم، يقال: استخفه عن رأيه إذا حمله على الجهل وأزاله عما كان عليه من الصواب (4).
_________
(1) البخاري مع الفتح، كتاب الجمعة، باب المشي إلى الجمعة (2/ 453).
(2) انظر: في ظلال القرآن لسيد قطب (5/ 2638).
(3) المرجع السابق (4/ 2227).
(4) تفسير ابن كثير (4/ 130)، وشرح السنة للبغوي (13/ 175).(1/161)
وقال سبحانه: (وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ) [الروم: 60]، ولا شك أن الإنسان قد خلق من عجل: (خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ) [الأنبياء: 37]، ولكنه بحمد الله إذا امتثل أمر الله وترك نهيه حسنت أخلاقه وطبائعه.
والعجلة لها أسباب ينبغي اجتنابها، منها: عدم النظر في العواقب وسنن الله في الكون، ومنها: الشيطان عدو الإنسان، وأساس العجلة من الشيطان، لأنه الحامل عليها بوسوسته، فيمنع من التثبت والنظر في العواقب، فيقع المستعجل في المعاطب والفشل (1)، ولذلك قيل:
يا صاحبي تلوما لا تعجلا ... إن النجاح رهين أن لا تعجلا
وقال عمرو بن العاص -رضي الله عنه-: (لا يزال الرجل يجني من ثمرة العجلة الندامة) (2).
وينبغي أن يعلم أن العجلة المذمومة ما كانت في غير طاعة، ومع عدم التثبت وعدم خوف الفوت، ولهذا قيل لبعض السلف: لا تعجلن فالعجلة من الشيطان، فقال: لو كان كذلك لما قال موسى: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) [طه: 84].
والخلاصة: أنه يستثني من العجلة ما لا شبهة في خيرته، قال تعالى: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) [الأنبياء: 90]، وعن سعد بن أبي وقاص (3) -رضي الله عنه- قال الأعمش (4): ولا أعلمه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- "التؤدة (5) في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة" (6).
وبهذا يعلم أن الأناة في كل شيء محمودة وخير إلا ما كان من أمر الآخرة بشرط مراعاة الضوابط التي شرعها الله حتى تكون المسارعة مما يحبه الله تعالى. وبهذا ينتهي الركن الثالث من أركان الحكمة التي هي من أهم ملامح الوسطية.
_________
(1) شرح السنة للبغوي (13/ 176).
(2) تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي، أبواب البري والصلة، باب ما جاء في التأني والعجلة (6/ 129).
(3) هو أبو إسحاق سعد بن مالك بن أهيب ويقال له: ابن وهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب القرشي الزهري، شهد بدًا وما بعدها، وهو أول من رمي بسهم في سبيل الله، كان آخر العشرة المبشرين بالجنة وفاة، توفى بالعقيق سنة إحدى وخمسين، وقيل: ست، وقيل: ثمان والثاني أشهر. انظر: الإصابة (3/ 31)، البداية والنهاية (8/ 78).
(4) هو سليمان بن مهران الأسدي الكاهلي، أبو محمد الكوفي الأعمش، ثقة حافظ عارف بالقراءات ورع، لكنه يدلس، مات سنة سبع وأربعين ومائتين، انظر: تقريب التهذيب (254) لابن حجر.
(5) التؤدة: التأني انظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود كتاب الأدب، باب الرفق (3/ 15).
(6) أبو داود: كتاب الأدب، باب الرفق، (4/ 255)، صحيح الألباني، انظر: صحيح سنن أبي داود (3/ 913).(1/162)
الفصل الخامس
الاستقامة
تمهيد:
الوسطية استقامة، ولو لم تكن على نهج الاستقامة لكانت انحرافا، والانحراف إما إفراطا أو تفريط، كما سبق بيان ذلك، وهناك شعور لدى بعض الناس أن الوسطية تعني التنازل -ولو قليلا- عن حقيقة الأمر والنهي، ولقد عبر أحد الباحثين عن هذا الشعور الذي يختلج في صدور بعض الناس، حيث طرح سؤالا ورد عليه، ومما قاله: هل المقصود بالوسطية مرونة الأمة، بحيث لا تصطدم بالأفكار والمبادئ الأخرى عند الالتقاء بها، بل قابليتها للأخذ والعطاء والتنازل عن جزء مما عندها، من أجل تنازل الطرف الآخر، والالتقاء عند نقطة وسط ترضي جميع الأطراف؟
ثم رد على هذا المسلك وبين مخالفته لحقيقة الوسطية (1) ومن هنا فإن من ملامح الوسطية بل وضوابطها: الاستقامة، ولذلك فمن ادعى الوسطية مع خروجه عن الاستقامة، فهذه ليست الوسطية الشرعية في شيء؛ بل هي وسطية نسبية غير التي نتحدث عنها.
_________
(1) انظر: الوسطية في الإسلام لفريد عبد القادر: (14).(1/163)
المبحث الأول
أدلة القرآن
ولذا فإن من المناسب -ونحن نتحدث عن ملامح الوسطية- أن أبين معنى الاستقامة وحدودها ليتضح المراد: فقد وردت آيات كثيرة تأمر بالاستقامة وتحث عليها، فالله جل علا يقول لرسوله -صلى الله عليه وسلم- (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا) [هود:112]، وفي سورة الشورى: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) [الشورى: 15]، وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [فصلت: 30]، وفي سورة الجن: (وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا) [الجن: 16]، وفي سورة فصلت: (أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ) [فصلت: 6]، ف هذه الآيات وغيرها تبين منزلة الاستقامة ومكانتها، وبما أن لزوم الصراط المستقيم استقامة على دين الله وشرعه، وهذا عين الوسطية وجوهرها، ولذلك لا بد من إيضاح الاستقامة.
تعريف الاستقامة:
قال الراغب: استقامة الإنسان لزومه للمنهج المستقيم نحو: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) [فصلت: 30].
وقال ابن القيم: الاستقامة ضد الطغيان، وهو مجاوزة الحدود في كل شيء (1).
وقال القرطبي: الاستقامة: الاستمرار في جهة واحدة من غير أخذ في جهة اليمين والشمال (2). وسئل صديق الأمة وأعظمها استقامة - أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- عن الاستقامة؟ فقال: (أن لا تشرك بالله شيئا) (3) يريد الاستقامة على محض التوحيد، فإن من استقام على محض التوحيد الصادق الذي يدين به الصديق واستقام له توحيده على العلم الصادق بأسماء الله وصفاته وآثارها في الأنفس، والآفاق، استقام في كل شأنه على الصراط المستقيم، فاستقام له كل عمل وكل حال (4).
_________
(1) انظر: مدارج السالكين (2/ 104).
(2) انظر: تفسير القرطبي (9/ 107).
(3) تهذيب مدارج السالكين (2/ 527).
(4) المرجع السابق (2/ 528).(1/164)
المبحث الثاني
أدلة السنة
في صحيح مسلم، عن سفيان بن عبد الله (1) -رضي الله عنه- قال: قلت يا رسول الله: قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدًا غيرك؟ قال: "قل آمنت بالله، ثم استقم" (2).
وعن ثوبان (3) -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن" (4).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "سددوا وقاربوا، واعلموا أنه لن ينجو أحكم منكم بعمله"، قالوا: ولا أنت لا يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل" (5).
وفي مسند الإمام أحمد عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه" (6).
وفي رواية الترمذي عن أبي سعيد مرفوعا وموقوفا: "إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان، فتقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا" (7).
وروى الترمذي عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قرأ: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) قال: قد قالها الناس، ثم كفر أكثرهم، فمن مات عليها فهو ممن استقام" (8).
_________
(1) هو سفيان بن عبد الله بن ربيعة بن الحارث الثقفي الطائفي له صحبة، وكان عامل عمر على الطائف، الإصابة (2/ 53).
(2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب جامع أوصاف الإسلام (1/ 65).
(3) هو مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سبي من أرض الحجاز، فاشتراه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأعتقه، فلزم النبي -صلى الله عليه وسلم- وحفظ عنه كثيرا من العلم، وطال عمره، واشتهر ذكره، ومات بحمص سنة 54 هـ، انظر: تهذيب التهذيب: 2/ 31.
(4) سنن ابن ماجه، كتاب الطهارة، وسننها: باب المحافظة على الوضوء: (2/ 101، 102) صححه الشيخ الألباني -رحمه الله-: في الأرواء رقم (412).
(5) مسلم، كتاب صفات المنافقين، باب لن يدخل أحد الجنة (4/ 2816).
(6) أخرجه أحمد (3/ 198).
(7) أخرجه الترمذي، كتاب الزهد، باب حفظ اللسان، (4/ 5232، رقم 2407).
(8) أخرجه الترمذي، كتاب التفسير، باب سورة حم السجدة، (5/ 351، رقم 3250) وضعفه الألباني -رحمه الله- في ضعيف الجامع (4079).(1/165)
المبحث الثالث
أقوال العلماء في الاستقامة
وقال عمر -رضي الله عنه-: (الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تروغ روغان الثعالب) (1).
وقال عثمان بن عفان -رضي الله عنه-: (استقاموا: أخلصوا العمل لله) (2).
وقال علي بن أبي طالب، وابن عباس -رضي الله عنهما-: (استقاموا: أدوا الفرائض) (3) وقال الحسن: (استقاموا على أمر الله، فعملوا بطاعته، واجتنبوا معصيته). وقال مجاهد: (استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى لحقوا بالله) (4).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-: (استقاموا على محبته وعبوديته، فلم يلتفتوا عنه يمنة ولا يسرة) (5).
وقال ابن القيم: (فالاستقامة كلمة جامعة، آخذة بمجامع الدين، وهي القيامة بين يدي الله على حقيقة الصدق، والوفاء، والاستقامة تتعلق بالأقوال، والأفعال، والأحوال والنيات، فالاستقامة فيها وقوعها لله، وبالله وعلى أمر الله، ثم قال: سمعت شيخ الإسلام -رحمه الله-: يقول: أعظم الكرامة لزوم الاستقامة) (6).
وهذه المعاني متقاربة، ويفسر بعضها بعضا.
وأختم الكلام عن الاستقامة بما قاله ابن القيم في مدارج السالكين مما يتضح معه
_________
(1) تهذيب مدارج السالكين (2/ 528).
(2) تهذيب مدارج السالكين (2/ 528).
(3) تهذيب مدارج السالكين (2/ 528).
(4) المرجع السابق (2/ 529).
(5) المرجع السابق (2/ 529).
(6) انظر: تهذيب مدارج السالكين.(1/166)
علاقة الاستقامة بالوسطية، وأنه لا استقامة بلا وسطية، ولا وسطية بدون استقامة قال: (وهي - أي الاستقامة - على ثلاث درجات الدرجة الأولى: الاستقامة على الاجتهاد في الاقتصاد، ولا عاديا رسم العلم، ولا متجاوزًا حد الإخلاص، ولا مخالفا نهج السنة (1).
قال ابن القيم شارحا قول الهروي (2):
(هذه درجة تتضمن ستة أمور: عملا واجتهادًا فيه، وهو بذل المجهود، واقتصادًا، وهو السلوك بين طرفي الإفراط -وهو الجور على النفس- والتفريط بالإضاعة، ووقوفا مع ما يرسمه العلم، ولا وقوفا مع ما يرسمه العلم، لا وقوفا مع داعي الحال، وإفراد المعبود بالإرادة وهو الإخلاص ووقوع الأعمال على الأمر، وهو متابعة السنة، فبهذه الأمور الستة تتم لأهل هذه الدرجة استقامتهم، وبالخروج عن واحد منهم يخرجون عن الاستقامة، إما خروجا كليا، إما خروجا جزئيا.
والسلف يذكرون هذين الأصلين كثيرًا، وهما: الاقتصاد في الأعمال والاعتصام بالسنة، فإن الشيطان يشم قلب العبد ويختبره، فإن رأي فيه داعية للبدعة، وإعراضًا عن كمال الانقياد للسنة، أخرجه عن الاعتصام بها، وإن رأي فيه حصرًا على السنة، وشدة طلب لها: لم يظفر به من باب اقتطاعه عنها، فأمره بالاجتهاد، والجور على النفس، ومجاوزة حد الاقتصاد فيها، قائلا له: إن هذا خير وطاعة، والزيادة والاجتهاد يها أكمل، فلا تفتر أهل الفتور، ولا تنم مع أهل النوم، فلا يزال يحثه ويحرضه، حتى يخرجه عن الاقتصاد فيها، فيخرج عن حدها، كما أن الأول خارج عن هذا الحد، فكذلك هذا الآخر خارج عن الحد الآخر) (3).
وهذا حال الخوارج الذين يحقر أهل الاستقامة صلاتهم مع صلاتهم، وصيامهم
_________
(1) انظر: المرجع السابق (2/ 105).
(2) هو أبو إسماعيل عبد\ الله بن محمد بن علي الأنصاري الهروي الحنبلي الصوفي المتوفى سنة 481هـ، من شيوخ الإمام ابن القيم: انظر: مقدمة تهذيب مدارج السالكين (1/ 7).
(3) تهذيب مدارج السالكين (1/ 7)، تأمل هذا الكلام تجد علاقته بالوسطية متينة.(1/167)
مع صيامهم وقراءتهم مع قراءتهم، وكلا الأمرين خروج عن السنة إلى البدعة، لكن هذا إلى بدعة التفريط والإضاعة، والآخر إلى بدعة المجاوزة والإسراف، وقال بعض السلف: (ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان، إما إلى تفريط، وإما إلى مجاوزة، وهي الإفراط ولا يبالي بأيهما ظفر، زيادة أو نقصان) (1). وهذا الكلام عن الاستقامة هو عين الوسطية وجوهرها.
_________
(1) تهذيب مدارج السالكين (2/ 107).(1/168)
الفصل السادس
البينية
تمهيد:
إن البينة من لوازم وصفات الوسطية، وحيث ذكرت ذلك مختصرا فإني أزيده هنا وضوحا وبيانا، فأقول: إن إطلاق لفظ البينية يدل على وقوع شيء بين شيئين أو أشياء، وقد يكون ذلك حسا ومعنى.
وعندما نقول: إن الوسطية لابد أن تتصف بالبينية، فإننا لا نعني مجرد البينية الظرفية، بل الأمر أعمق من ذلك، حيث إن هذه الكلمة تعطي مدلولا عمليا على أن هذا الأمر فيه اعتدال وتوازن وبعد عن الغلو والتطرف أو الإفراط والتفريط. وبهذا تكون البينية صفة مدح، لا مجرد ظرف عابر ومن هذا التفسير جاءت علاقة البينية بالوسطية، وقد رأيت جمهورا من العلماء ربطوا بين الوسطية والبينية ولا غرابة في ذلك، فإن لهذا أصلا في اللغة والاشتقاق، كما سبق بيان ذلك، وهو المتبادر إلى الأذهان عند إطلاق هذه الكلمة.(1/169)
المبحث الأول
أقوال العلماء في البينية
ولأهمية هذه القضية سأذكر بعض أقوال العلماء، ومن قال بذلك منهم في القديم والحديث (1).
1 - الإمام الطبري، حيث قال في تفسيره: (وأنا أرى أن الوسط في هذا الموضع هو الوسط الذي بمعنى الجزء، الذي هو بين طرفين، مثل وسط الدار. وأرى أن الله تعالى ذكره - إنما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلو فيه، غلو النصارى الذي غلوا بالترهب، وقولهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله، وقتلوا أنبياءهم وكذبوا على ربهم وكفروا به، ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها) (2).
2 - قال شيخ الإسلام: (فإن الفرقة الناحية أهل السنة والجماعة (3) يؤمنون بذلك، كما يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل هم الوسط في فرق الأمة، كما أن الأمة هي الوسط في الأمم فهم وسط في باب صفات الله تعالى بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة. وهم وسط في باب أفعال الله بين الجبرية (4) والقدرية (5) وغيرهم، وفي باب
_________
(1) انظر: الوسطية في ضوء القرآن.
(2) انظر: تفسير الطبري (2/ 6).
(3) هم أهل الحق ومن عداهم فأهل البدعة فإنهم: الصحابة -رضي الله عنهما- ومن سلك نهجهم من خيار التابعين رحمة الله عليهم، ثم أصحاب الحديث ومن تبعهم من الفقهاء جيلا فجيلا إلى يومنا هذا، ومن اقتدى بهم من العوام في شرق الأرض وغربها رحمة الله عليهم) انظر: الفصل في الملل والنحل (2/ 113).
(4) سموا بذلك نسبة إلى الجبر، وهو جبر العبد وحمله على فعله، فهو كالريشة في مهب الريح، لا أثر له على فعله، فالفعل لله تعالى والعبد محله، وهم صنفان: خالصة، وهي التي لا تثبت للعبد فعلا ولا قدرة على الفعل أصلا، ومتوسطة: وهي التي تثبت للعبد قدرة غير مؤثر أصلا، والجهمية من فرق الجبرية: انظر: الملل والنحل. (1/ 85).
(5) هم الذين يحتجون بالقدر ويقولون لو كان الله كارها فعلنا لأنكره علينا بالعقوبة، ولما مكننا منه وظهر الكلام في القدر في عصر عبد الملك بن مروان وكان هذا في آخر عهد الصحابة، وأول من تكلم في القدر معبد الجهني الذي أخذه عن سوسن النصراني، ثم أخذ من معبد غيلان الثققي لعنهم الله تهذيب التهذيب (10/ 226).(1/170)
وعيد الله بين المرجئة (1)
والوعيدية من القدرية وغيرهم، وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية (2) والمعتزلة (3) وفي أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين الرافضة والخوارج) (4).
3 - وقال الشيخ رشيد رضا: (إن الوسط هو العدل والخيار، وذلك أن الزيادة على المطلوب في الأمر إفراط، والنقص عنه تفريط وتقصير، وكل من الإفراط والتفريط مثل عن الجادة القويمة، فهو شر ومذموم، فالخيار هو الوسط بين طرفي الأمر، أي المتوسط بينهما) (5).
4 - وقال الدكتور يوسف القرضاوي (6): (ونعني بها- أي الوسطية- التوسط أو التعادل بين طرفين متقابلين أو متفاوتين، بحيث لا ينفرد أحدهما بالتأثير، ويطرد المقابل، وبحيث لا يأخذ أحد الطرفين أكثر من حقه، ويطعن على مقابله، ويحيف عليه، ثم ذكر بعض الأمثلة في ذلك) (7).
5 - وقال الأستاذ سيد قطب (8) في كتابه (منهج التربية الإسلامية): إن الوسطية هي التوازن، والتوازن هو العدل، حيث قال في قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) [البقرة: 143]، وسطا في كل شيء، متوازين في كل ما تقومون به من
_________
(1) الإرجاء على معنيين: أحدهما التأخير، والمرجئة قد أخروا الأعمال عن مسمى الإيمان، والثاني إعطاء الرجاء، والمرجئة قالوا: لا تضر مع الإيمان معصية، والمرجئة أربعة أصناف: مرجئة الخوارج، ومرجئة الجبرية، ومرجئة القدرية، والمرجئة الخالصة، انظر: الملل والنحل. (1/ 139) ..
(2) فرقة من فرق الخوارج.
(3) سموا بذلك لاعتزال واصل بن عطاء حلقة الحسن البصري وهم يقولون بخلق القرآن وبخلود مرتكب الكبيرة في النار، وأنه بمنزلة بين المنزلتين ونفي القدر، ويقولون العباد خالقون لأفعالهم، ووجوب إنفاذ الوعد والوعيد، وهو عندهم العدل، ومنه وجوب فعل الصلاح والأصلح على الله، وجوب التقبيح والتحسين العقليين. انظر: الملل والنحل (1/ 43).
(4) شرح العقيدة الوسطية (124).
(5) انظر: تفسير المنار (2/ 4).
(6) هو الشيخ الداعية الفقيه الدكتور يوسف القرضاوي من علماء الأزهر جهود مشكورة في مجال الدعوة والعلم وهو الآن مقيم في قطر.
(7) انظر: الخصائص العامة للإسلام (127).
(8) محمد قطب من كبار مفكري العلماء الإسلاميين المعاصرين وهو الآن مقيم في مكة مدرسا في الدراسات العليا في جامعة أم القرى.(1/171)
نشاط، ثم بين أن الوسطية تعني التوفيق بين أشياء كثيرة، كالتوفيق بين مطالب الفرد الواحد، وبين مطالب الجموع، والتوفيق بين العمل للعاجلة والآجلة وهكذا (1).
6 - وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي: (وبالجملة فإن الله العليم الحكيم أمر بالتوسط في كل شيء بين خلقين ذميمين، تفريط وإفراط) (2).
7 - وقال الدكتور عمر الأشقر (3): (من المعضلات التي لم ينجح المشرعون من البشر في حلها التطرف في التشريع، فبعض القوانين تجنح إلى أقصى اليسار، وبعض آخر يجنح إلى أقصى اليمين، وقلما يوفق واضعو القوانين إلى التوسط والاعتدال) (4).
وقال في موضع آخر: (إذا نظرت إلى الشريعة الإسلامية وجدتها وسطا في كل أحكامها، فأحكامها بين الغالي والجافي) (5).
8 - قال عمر بهاء الدين الأميري: (وقد كان من تدبير الله الحكيم العليم في هذه الأمة أن جعل وسطيتها في كل مجال: فهي موطن الرسالة الأولى، وفي ساحتها الحضارية المشعة المترامية الأطراف - من بعد- في مناخ محتمل، جو مسعف، لا في مناطق بركانية زلزالية، ولا لاظية استوائية، ولا متجمدة قطبية، حيث تقعد قساوة الطبيعة بالإنسان عن الحركة والنشاط والإعمار الحضاري.
وهي وسط في موقعها الجغرافي المهم، حيث كانت مهابط الوحي، أرض الإسلام ومهد الأمة الإسلامية الأولى فهي الوسط بين الشمال والجنوب، والشرق والغرب، وهي مركز الوصل بين أفريقيا وآسيا وطرف ممتد من أوروبا، وهي الرباط البري بين الطرق المائية) (6).
_________
(1) انظر: منهج التربية الإسلامية (1/ 28).
(2) انظر: القواعد الحسان (90).
(3) هو عمر الأشقر من خريجي جامعة المدينة، ومن علماء فلسطين كان أستاذًا محاضرًا في جامعة الكويت ثم انتقل إلى جامعة الأردن له سلسلة ممتازة في العقائد.
(4) خصائص الشريعة الإسلامية (86 - 87).
(5) خصائص الشريعة الإسلامية (86 - 87).
(6) انظر: وسطية الإسلام وأمته في ضوء الفقه الحضاري (58).(1/172)
ومن خلال ما سبق يتضح لنا أن وصفة البينية أمر أساس في تحديد الوسطية، وأن هؤلاء العلماء والكتاب اعتبروا هذا الأمر قضية مسلمة في تحديدهم وتعريفهم للوسطية وهذه البينية ليست مجرد الظرفية، وإنما هي التي تعطي الدلالة على التوازن والاستقامة والعدل، ومن ثم الخيرية فهذه هي الوسطية الحقة، وهذا الذي قرره علماؤنا العظام من السابقين واللاحقين كما بينت وفصلت.(1/173)
المبحث الثاني
دليل تطبيقي لملامح الوسطية
وبعد أن اتضحت ملامح الوسطية سأذكر دليلا علميا تبرز فيه جميع هذه الملامح، حيث يمثل أعلى درجات الوسطية: عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادته، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: أين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي ف ليس مني" (1).
وسأذكر ملامح الوسطية من هذا الحديث:
أولا: الخيرية
وهذا يتضح من قوله -صلى الله عليه وسلم- "إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له" ثم يبين أنه يأخذ بالوسطية: فيصوم ويفطر، ويصلي وينام، ويتزوج النساء، فلولا أن هذا العمل لا يعارض الخشية والتقوى، بل يطرد معهما لم يذكرها في هذا المقام، واستخدم أفعل التفضيل "أخشاكم وأتقاكم" وهي أعلى درجات الخيرية.
فاتضح أن هذه الوسطية التي يرشدنا إليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تمثل الخشية والتقوى وهذه هي الخيرية في أفضل صورها.
ثانيا: الاستقامة
وتظهر هذه الحقيقة في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "فمن رغب عن سنتي فليس مني" إذن فالاستقامة هي بأن يصوم ويفطر، وينام ويرقد، ويتزوج النساء، والخروج عنها
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب الترغيب في النكاح، حديث رقم (5063).(1/174)
انحراف عن الاستقامة، فهذا العمل الذي يمثل الوسطية، لا نقول إنه لا يعارض الاستقامة، بل هو الاستقامة بعينها، حيث جعله الرسول -صلى الله عليه وسلم- من سنته وهل الاستقامة إلا الالتزام بسنته والأخذ بها.
ثالثا: اليسر ورفع الحرج
وهذا أمر جلي وبين، فنحن بين عملين وردا في هذا الحديث، تبتل وامتناع عن النساء والزواج مع ما في ذلك من مشقة وحرج ويقابله تزوج النساء مع ما في ذلك من قضاء الوطر، والمودة والرحمة وإنجاب الأولاد.
الأول يمثل الانحراف عن سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- مع ما فيه من مشقة وعسر، والثاني يمثل الوسطية مع ما فيه من تخفيف وتيسير ورحمة، ودفع الحرج، وقل مثل ذلك في الصيام والقيام.
إذن فالوسطية في اليسر ورفع الحرج، وليس في التكليف والمشقة والعنت.
رابعًا: الحكمة
فإنه بالنظر إلى قدرة النفس ومدى تحملها وغفلة هؤلاء القوم عن قدرتهم في فورة الحماس والاندفاع، جاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- يضع الأمور في مواضعها، ويجعلها في مسارها الطبيعي، فإن أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه، ولو التزم هؤلاء الرجال بما قالوا لتعبوا عاجلا أو آجر، ثم إن هذا الفعل نفسه مخالفة لصريح الحكمة وحقيقتها وذلك أن الحكمة هي وضع الشيء في موضعه، والإصابة في القول والعمل، وهذا هو عين ما وجه إليه -صلى الله عليه وسلم-.
خامسًا: العدل
وتبرز صفة العدل بالنظر إلى مطالب النفس وواجبات العبادة، فقد جعل لكل منها نصيبا، فعدل بين حق الرب وحق النفس، ولم يكن في ذلك حيف وشطط، وحاشاه من ذلك.(1/175)
سادسًا: البينية
والأمثلة تبرهن على ذلك:
1 - امتناع عن الزواج مطلقا - إفراط، ويقابله التفريط وهو اتباع الشهوات دون وازع أو قيد وبينهما قضاء الشهوة والوطر، ولكن ضمن الضوابط الشرعية، ويتمثل في الزواج وهذا هو الوسط، وهو المشروع.
2 - صيام دائم - إفراط.
إفطار دائم- تفريط.
الصيام أحيانًا - والفطر أحيانا وسط بين الأمرين وهو المشروع في ضوابطه الشرعية.
3 - القيام مطلقا - إفراط.
النوم مطلقا - تفريط.
القيام والنوم حسب الطاقة ودون تكلف - وسط وهذا هو المشروع (1).
ومن خلال هذا التطبيق العملي لملامح الوسطية في ضوء هذا الحديث، يتضح المراد، مما يساعد على فهم الوسطية.
_________
(1) الوسطية في ضوء القرآن (126 - 127).(1/176)
خلاصة القسم الأول
يتضح للقارئ الكريم من خلال الكتاب المتوضع في مجهوده عدة أمور منها:
1 - أن المعنى اللغوي لكلمة (وسط) تدل على معاني الخير، والعدل، والجودة والرفعة والمكانة العلية وما تصرف منها يؤول إلى معاني متقاربة.
2 - من خلال أقوال المفسرين اتضح لي لا التزام بين الوسط والوسطية فكل وسطية فهي وسط، ولا يلزم من كل وسط أن يكون دليلا على الوسطية، فقد يكون من الوسط المكاني أو الزمان ونحوه.
3 - ومن خلال ما ذكره علماء التفسير يتبين لنا أن كلمة الوسط، تستعمل في معان عدة أهمها:
أ- بمعنى الخيار والأفضل العدل.
ب- قد ترد لما بين شيئين فاضلين.
ج- تستعمل لما كان بين الجيد والرديء، والخير والشر.
4 - وتبين لي أن الوسطية تطلق على الأمر الذي فيه خيرية وبينية وأن أي أمر اتصف بالخيرية والبينية فهو الذي يصح أن يطلق عليه وصف الوسطية حيث اتضح لي تلازم بين الخيرية والبينية في إطلاق مصطلح الوسطية.
5 - لا نستطيع فهم الوسطية حتى نفهم أسسها وهي الغلو أو الإفراط والجفاء أو التفريط والصراط المستقيم.
6 - كل أمر فيه غلو أو إفراط فهو خروج عن الوسطية.
7 - كل أمر اتصف بالتفريط أو الجفاء فإنه يخالف الوسطية وبمقدار اتصافه بأي من هذين الوصفين يكون بعده عن لوسطية وتجافيه عنها.
8 - إن الصراط المستقيم يمثل قمة الوسطية وذروة سنامها وأعلى درجاتها.
9 - إن المقياس المعتبر في فهم الوسطية هو الشرع، وليس ما تعارف عليه الناس من مداهنة وتنازل وتساهل.(1/177)
10 - إن هناك عوامل كثيرة، وأصولا معتبرة تجب مراعاتها عند ضبط مفهوم الوسطية وتطبيقها على أمر من الأمور، حيث إن قصر النظر عن أمر دون آخر يؤدي إلى الانحراف عن مفهوم الوسطية.
11 - للوسطية سمات وملامح تحف بها وتميزها عن غيرها، ومن أهم هذه الملامح سمة الخيرية، وسمة العدل، وسمة اليسر ورفع الحرج، وسمة الحكمة، وسمة البينية، وسمة الاستقامة.
12 - إن خيرية هذه الأمة تتحقق بأمور أهمها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله.
13 - إذا قارنت بين اليهودية والنصرانية والإسلام في دنيا الناس اتضحت وسطية الإسلام.
14 - إن سمة اليسر والتوسعة ورفع الحرج قضية منهج متكامل وليست تتعلق بجزئية أو جزئيات كما يتصور بعض الناس، وأن هذا ملمح من ملامح الوسطية، ولا نستطيع فهم الوسطية إلا إذا فهمنا هذه السمة البارزة في ديننا.
15 - إن الحكمة هي وضع الشيء في محله وهي سمة مهمة من سمات الوسطية؛ بل من أهم سماتها.
16 - إن الاستقامة على منهج الله هي عين الوسطية وجوهرها الأصيل.
17 - إن صفة البينية أمر مهم في تحديد الوسطية وهذه البينية ليست مجرد الظرفية، وإنما هي التي تعطي الدلالة على التوازن والاستقامة والعدل، ومن ثم الخيرية فهذه هي الوسطية الحقة، وهذا ما قرره العلماء الكرام من السابقين واللاحقين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين(1/178)
القسم الثاني
وسطية القرآن في العقائد(1/179)
خطة الجزء الثاني
وسطية القرآن الكريم في العقائد
قمت بتقسيم هذا الجزء إلى سبعة فصول:
الفصل الأول: القرآن يقرر منهج الوسطية
ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: التعريف بالقرآن.
المبحث الثاني: وسطية القرآن في العقيدة.
الفصل الثاني: وسطية القرآن في باب توحيد الله وأسمائه وصفاته
ويشتمل على أربعة مباحث:
المبحث الأول: موقف أمة اليهود.
المبحث الثاني: موقف النصارى.
المبحث الثالث: موقف المسلمين.
المبحث الرابع: مفهوم الإيمان كما جاء في القرآن.
الفصل الثالث: الملائكة
ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: صفات الملائكة الخلقية.
المبحث الثاني: علاقتهم مع الله والإنسان والكون وعددهم.
الفصل الرابع: في الكتب السماوية
ويشتمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: تحريف اليهود وتزويرهم.
المبحث الثاني: تحريف النصارى للإنجيل.
المبحث الثالث: وسطية القرآن بين الكتب السماوية.
الفصل الخامس: وسطية القرآن في أنبياء الله ورسله.
ويشتمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: موقف اليهود من أنبياء الله ورسله.(1/181)
المبحث الثاني: موقف النصارى.
المبحث الثالث: موقف المسلمين من أنبياء الله ورسله.
الفصل السادس: وسطية القرآن في اليوم الآخر:
ويشتمل على ستة مباحث:
المبحث الأول: أنواع المكذبين بالبعث.
المبحث الثاني: نظرة في نصوص اليوم الآخر عند أهل الكتاب.
المبحث الثالث: أدلة البعث والنشور.
المبحث الرابع: طعام أهل النار وشرابهم ولباسهم.
المبحث الخامس: صور من عذاب أهل النار.
المبحث السادس: صفة الجنة.
الفصل السابع: وسطية القرآن في القضاء والقدر.
ويشتمل على عشرة مباحث:
المبحث الأول: تعريف القضاء والقدر، والعلاقة بينهما.
المبحث الثاني: الإفراط والتفريط.
المبحث الثالث: ظهور بدعتي نفي القدر والقول بالجبر.
المبحث الرابع: مجمل اعتقاد أهل السنة والجماعة في باب القدر.
المبحث الخامس: الأدلة من الكتاب والسنة في باب القدر.
المبحث السادس: مراتب القدر وأركانه.
المبحث السابع: وسطية أهل السنة في مسألة أفعال العباد.
المبحث الثامن: وسطية أهل السنة في معنى إرادة الله ومشيئته.
المبحث التاسع: أقسام التقدير التي جاءت في القرآن الكريم والسنة.
المبحث العاشر: ثمرات الإيمان بالقدر.
الخلاصة: ودونت فيها أهم النتائج التي وصلت إليها في هذا الجزء، واسأل الله العلي العظيم أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم.
وأسأل الله -عز وجل-: أن يجعل هذا العمل المتواضع خالصا لوجهه الكريم، وأن يغفر لي أي خطأ أو زلل وقعت فيه، إن سميع قريب.(1/182)
الفصل الأول
القرآن يقرر منهج الوسطية
تمهيد:
نزل القرآن الكريم هداية للناس ونورا، يخرج به الله من شاء من الظلمات إلى النور، ولزوم منهج الوسطية عين الاستقامة والهداية والصراط المستقيم، ولذلك فقد جاءت الآيات مستفيضة ترسم منهج الوسطية وتدل عليه. والوسطية منهج متكامل شامل غير محصور في ركن من الأركان، لا في جزئية من الجزئيات ولا في حكم من الأحكام، ولا في أصل من الأصول، فالإسلام كله وسط، وهذه الأمة هي أمة الوسط (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) [البقرة: 143].
ولذلك جاء القرآن مقررًا لمنهج الوسطية في أبواب الاعتماد والعبادات والحكم والتحاكم، وفي باب الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغيرها من الأبواب والمجالات وبيانا لهذه الحقيقة وتجلية لها، سنعيش مع كتاب الله متأملين بعض ما ورد فيه، تأكيدًا لهذه الحقيقة وتأصيلا لها، وقبل أن أشرع في الهدف المطلوب، ومعنى المنهج في اللغة وفي الاصطلاح، سأقف مع فاتحة الكتاب حيث إنها من أولها إلى آخرها تقرر هذه الحقيقة وتؤكدها.(1/183)
المبحث الأول
التعريف بالقرآن الكريم
أولا: معنى القرآن في اللغة:
القرآن من مادة قرأ، ومنه قرأت الشيء فهو قرآن: أي جمعته، وضممت بعضه إلى بعض، فمعناه: الجمع والضم. ومنه قولهم: ما قرأت هذه الناقة سلي قط، وما قرأت جنينا، أي لم تضم رحمها على ولد (1).
قال أبو عبيدة (2): -رحمه الله-: ( ... وإنما سمى قرآنا لأنه يجمع السور يضمها، وتفسير ذلك في آية القرآن، قال الله تعالى: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) [القيامة: 17]، مجازة: تأليف بعضه إلى بعض ... )، ثم قال: وفي آية أخرى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) [النحل: 98] مجازه: إذا تلوت بعضه في إثر بعض، حتى يجتمع وينضم بعضه إلى بعض، ومعناه: يصير إلى معنى التأليف والجمع، ثم استشهد على هذا المعنى، بقول عمرو بن كلثوم (3).
ذراعي حرة أدماء بكر ... هجان اللون لم يقرأ جنينا (4)
أي لم تضم في رحمها ولدا قط فسمي القرآن قرآنا، لأنه جمع القصص، والأمر والنهي، والوعد والوعيد، والآيات والسور بعضها إلى بعض (5).
ويوذكر أبو بكر الباقلاني (6): أن القرآن يكون مصدرا واسما: مصدرًا كما في
_________
(1) انظر: الصحاح للجوهري، مادة قرأ: (1/ 65).
(2) هو معمر بن المثني التيمي مولاهم البصري، النحوي، صاحب التصانيف، ولد سنة (110هـ)، ومات سنة (209هـ) وقيل: (210هـ). انظر سير أعلام النبلاء (9/ 445).
(3) هو عمرو بن كلثوم التغلبي من أصحاب المعلقات السبع، ومن كبار شعراء الجاهلية، انظر: شرح المعلقات السبع (180).
(4) انظر: شرح القصائد السبع الطوال، لأبي بكر محمد بن القاسم الأنباري (380).
(5) مجاز القرآن لأبي عبيدة معمرة التيمي (1/ 1 - 3).
(6) انظر: لسان العرب، كتاب (أ-ب) فصل الهمزة، باب قرأ: (1/ 128).
ويروى عن الشافعي -رحمه الله-: أن القرآن اسم على لكتاب الله، غير مشتق: كالتوراة، والإنجيل(1/184)
قوله تعالى: {إن علينا جمعه وقرآنه} [القيامة: 17] واسمًا كما في قوله تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء: 45].
ويروى عن الشافعي رحمه الله: أن القرآن اسم علم لكتاب الله، غير مشتق: كالتوراة، والإنجيل (1).
قال القرطبي رحمه الله: (والصحيح الاشتقاق في الجميع) (2). أي في القرآن والتوراة والإنجيل.
معنى القرآن في الاصطلاح:
القرآن الكريم هو اسم لكلام الله تعالى، المنزل على عبده ورسوله: محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو اسم لكتاب الله خاصة، ولا يسمى به شيء غيره من سائر الكتب (3)، وإضافة الكلام إلى الله تعالى إضافة حقيقية، من باب إضافة الكلام إلى قائله.
ولما ظهر الخوض في صفات الله تعالى، وفي كلام الله خاصة، من قبل الزنادقة، وفرق المبتدعة، احتاج أهل السنة إلى تعريف القرآن تعريفًا يظهرون فيه معتقدهم في صفات الله تعالى عامة، وفي صفات الكلام خاصة، ومنه القرآن، مخالفين بذلك أهل البدع من الجهمية والمعتزلة وغيرهم.
فقال أبو جعفر الطحاوي (4) رحمه الله: (وإن القرآن كلام الله، منه بدا بلا كيفية قولاً، وأنزله على رسوله وحْيًا، وصدقه المؤمنون على ذلك حقًّا وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه، فزعم أنه كلام البشر فقد كفر) (5).
__________
(1) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/ 298).
(2) نفس المرجع السابق (2/ 298).
(3) المرجع السابق: (2/ 298).
(4) هو الحافظ الفقيه أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي الأزدي المصري، شيخ الحنفية في عصره في مصر، ونسبته إلى طحا، قرية بصعيد مصر توفي عام (321 هـ) بمصر. انظر: البداية والنهاية (11/ 174).
(5) شرح الطحاوية (121 - 122).(1/185)
ثانيًا: التعريف بالمنهج في اللغة والاصطلاح:
أ- معنى المنهج في اللغة: (1)
المنهج من مادة نهج، ينهج نهجًا، وهو الطريق البين الواضح، ويطلق على الطريق المستقيم، والمنهج، والمنهاج والنهج: بمعنى واحد. وفي التنزيل قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: سبيلاً وسنة (2) وهو مروي عن مجاهد، وعكرمة والحسن البصري، وغيرهم وروي عن ابن عباس سنة وسبيلاً، ورجح ابن كثير رحمه الله التفسير الأول، لظهوره في المعنى ومناسبته (3). وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (والمنهاج: السبيل، أي الطريق الواضح) (4) وتفسير ابن عباس الأول هو المختار.
ب- معنى المنهج في الاصطلاح:
المنهج هو الطريق المؤدي إلى التعريف على الحقيقية في العلوم، بواسطة طائفة من القواعد العامة، والتي تهيمن على سير العقل، وتحدد عملياته حتى يصل إلى نتيجة معلومة (5) وبعبارة أوجز: هو القانون أو القاعدة التي تحكم أي محاولة للدراسة العلمية، وفي أي مجال (6)، ومن ثم تختلف المناهج باختلاف العلوم التي تبحث فيها، فلكل علم منهج يناسبه، ومع وجود حد مشترك بين المناهج المختلفة، وقد تتعاون -وهو الغالب- مجموعة من المناهج لخدمة ومعالجة فن واحد. (7)
سورة الفاتحة تقرر منهج الوسطية:
إن أمّ الكتاب تقرر منهج الوسطية من أولها إلى آخرها وأظهر آية فيها شاهدة بذلك هي قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] وما بعدها.
__________
(1) انظر: لسان العرب، باب الجيم، فصل النون، (2/ 383).
(2) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الإيمان، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - بني الإسلام على خمس (1/ 60).
(3) انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/ 120).
(4) انظر: فتح الباري، كتاب الإيمان، باب بني الإسلام، (1/ 64).
(5) انظر: العلم والبحث العلمي، لحسين رشوان، (143 - 145).
(6) انظر: منهج البحث العلمي عند العرب، لجلال موسى (271).
(7) انظر: منهج البحث العلمي عند العرب، لجلال موسى (271).(1/186)
وهذه الآية صريحة في تحديد المنهج الوسط، ذلك أنها بينت أن هذا الصراط هو صراط الذين أنعم الله عليهم. قال الطبري رحمه الله: (أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعًا على أن الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، وكذلك في لغة جميع العرب، فمن ذلك قول الشاعر.
أميرُ المؤمنين على صِراطٍ ... إذا اعوجَّ الموارِدُ مستقيم
قال ابن عباس رحمه الله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} يقول ألهمنا الطريق الهادي، وهو دين الله الذي لا عوج له (1) ثم قال: وكل حائد عن قصد السبيل وسالك غير المنهج القويم فضال عند العرب، لإضلاله وجه الطريق (2).
وقد بين الله لنا أن الصراط المستقيم هو منهج الوسط، حيث قال واصفًا الصراط المستقيم {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] ومنهج المغضوب عليهم يمثل التفريط، بينما يمثل منهج الضالين الإفراط، فهما منهجان دائران بين الغلو والجفاء.
قال ابن كثير رحمه الله: (غير صراط المغضوب عليهم، وهم الذين فسدت إرادتهم، فعلموا الحق وعدلوا عنه، ولا صراط الضالين، وهم الذين فقدوا العلم، فهم هائمون في الضلالة لا يهتدون إلى الحق) (3)
وبهذا يتبين لنا أن هناك ثلاثة طرق طريق الذين أنعم الله عليهم، وطريق المغضوب عليهم، وطريق الضالين، والله أمرنا بالالتزام بسبيل الذين أنعم الله عليهم, لأنه هو الصراط المستقيم، وهو منهج وسط بين سبيلين منحرفين، وهما سبيلا اليهود والنصارى، وكل طريق منحرف عن منهج الصراط المستقيم فله حظ من أحد هذين السبيلين. ولأن الاستقامة تعني الوسطية كما تبينها آية الفاتحة، وكما وضحت ذلك في ملامح الوسطية جاءت الآيات متعددة تدعو إلى الاستقامة بأسأليب متعددة وألفاظ متقاربة وهي تدور بين الخبر والإنشاء. ومن هذا المنطلق،
__________
(1) انظر: تفسير الطبري (1/ 73، 74).
(2) المرجع السابق (1/ 84).
(3) انظر: تفسير ابن كثير (1/ 29).(1/187)
وبعد أن تقرر أن طريق الاستقامة هو طريق الأمة الوسط, فإن كل آية وردت في الاستقامة فهي آية في تحقيق الوسطية والدعوة إليها والآيات في هذا الباب كثيرة جدًّا أذكر بعضًا منها دلالة على المراد، وبيانًا لهذا المنهج.
قال سبحانه: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا} [هود: 112] وقال {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [الشورى: 15] فقوله تعالى: {وَلَا تَطْغَوْا} بعد أن أمر بالاستقامة، والطغيان وهو مجاوزة الحد (1) وهو خروج عن منهج الوسطية إلى الانحراف عن السبيل.
وفي الآية الثانية: قال سبحانه: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} واتباع الهوى خروج عن الاستقامة، وانحراف عن منهج الوسط وتواصل الآيات في هذا الشأن، ففي سورة البقرة {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142] وفي آل عمران {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وفي الأنعام {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153] وفيها {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [الأنعام: 161] وفي النحل {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 76].
وفي سورة الزخرف {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف: 43] وفي سورة الملك {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك: 22] إلى غير ذلك من الآيات، حيث إن كل واحدة منها دالة على أن الصراط المستقيم هو الطريق الذي أمرنا باتباعه واجتناب ما عداه؛ لأنه هو طريق الحق والعدل والوسط، وما عداه طريق الضلال والغواية والانحراف عن الصراط المستقيم، وها هو الشيطان يعلن هذه الحقيقة قائلاً كما ذكر الله في سورة الأعراف: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف: 16] وصدق الله العظيم إذ يقول: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39].
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي (9/ 107).(1/188)
وفي سورة التكوير {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 26 - 28] وهذه الآية نص في أن القرآن كله دعوة للاستقامة والسير على المنهج الحق، قال القرطبي (إن هو) يعني القرآن {إِلاَّ ذِكرٌ لِلْعَالَمِينَ} أي موعظة وزجر: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} أي يتبع الحق ويقيم عليه (1).
ومما سبق يتضح لنا أن سورة الفاتحة وضعت القاعدة والمنطلق ورسمت المنهج وحددت معالمه ثم جاءت الآيات بعد ذلك مقررة لذلك وداعية له.
...
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي (19/ 343).(1/189)
المبحث الثاني وسطية القرآن في العقيدة
أولاً: التعريف بالعقيدة:
أ- العقيدة لغة (من العقد، وهو الربط والشدة بقوة، منه الإحكام والإبرام، والتماسك والمراصة والإثبات والتوثق) (1).
ب- العقيدة في الاصطلاح: كلمة العقيدة لم تكن موجودة في الكتاب والسنة، ولا في أمهات المعاجم، وإن أول من تم الوقوف على ذكره لجمعها (عقائد) هو القشيري (2) سنة 437 هـ في كتاب الرسالة وهي كلمة مولدة لم تكن في الصدر الأول (3).
وقد عرفها الدكتور ناصر العقل (4) فقال: (الإيمان الجازم بالله وما يجب له في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره، وشره، وبكل ما جاءت به النصوص الصحيحة في أصول الدين وأمور الغيب وأخباره وما أجمع عليه السلف الصالح والتسليم لله تعالى في الحكم والأمر والقدر والشرع ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - بالطاعة والتحكيم والاتباع) (5).
يشمل التوحيد، والإيمان، والإسلام، والغيبيات، والنبوات، والقدر، والأخبار، وأصوله الأحكام القطعية، وسائر أصول الدين، والاعتقاد، ويتبعه الرد على أهل الأهواء والبدع وسائر الملل والنحل والمذاهب الضالة، والموقف منهم ومن مسميات هذا العلم، العقيدة، والتوحيد، والسنة، وأصول الدين.
__________
(1) انظر: لسان العرب، مادة عقد، فصل العين المهملة (3/ 295).
(2) هو أبو القاسم عبد الكريم بن هوارن بن عبد الملك القشيري صاحب الرسالة والتفسير وغيرهما، صحب أبا علي الدقاق وغيره، أخذ الفقه فأتقنه، وأخذ الأصول على ابن فورك، والأستاذ أبي إسحاق، ولد سنة 377 هـ، وتوفي سنة 465 هـ. انظر: تاريخ بغداد (11/ 83)، ترجمته رقم (5763).
(3) انظر: معجم المناهي اللفظية للشيخ بكر أبو زيد (242).
(4) هو ناصر عبد الكريم العقل من علماء العقائد بنجد تحصل على درجة الدكتوراه وأشرف على رسائل علمية في كلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود.
(5) مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة (9).(1/190)
والعقيدة في الإسلام تقابل الشريعة, إذ الإسلام عقيدة وشريعة تعني التكاليف العملية التي جاءت في القرآن والسنة النبوية في العبادات والمعاملات. والعقيدة هي أمور علمية يجب على المسلم أن يؤمن بها: لأن الله أخبرنا بها بطريق كتابه، أو بطريق وحيه إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأصول العقائد التي أمرنا الله باعتقادها هي التي حددها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حديث جبريل المشهور بقوله: "الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره من الله تعالى" (1) فالعقيدة في ديننا هي التي تدور حول قضايا معينه، هي التي أخبرنا بها الله ورسوله، وليست اعتقاد أي شيء وحتى تصبح هذه عقيدة لا بد أن تصدق بها تصديقًا جازمًا لا ريب فيه, فإن كان فيها ريب أو شك كانت ظنًّا لا عقيدة (2) والدليل على ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات: 15] وقوله تعالى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ} [البقرة: 1 - 2] وقال: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ} [آل عمران: 9] وذم المشركين المرتابين {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة: 45] والمسائل التي يجب اعتقادها أمور غيبية، ليست مشاهدة منظورة، وهي التي عناها الله بقوله عندما مدح المؤمنين: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] فالله غيب وكذلك الملائكة واليوم الآخر، أما الكتب والرسل فقد يتبادر أنها تشاهد وتنظر، ولكن المراد هو الإيمان بنسبتها إلى الله أي كون الرسل مبعوثين من عند الله، وأن الكتب منزلة من عند الله، وهذا أمر غيبي.
ثانيًا: العقيدة الصحيحة والعقيدة الفاسدة: العقيدة ليست مختصة بالإسلام، بل كل ديانة أو مذهب لا بد لأصحابه من عقيدة يقيمون عليها نظام حياتهم، وهذا ينطبق على الجماعات والأفراد والأمم والشعوب، والعقائد منذ بدء الخليقة إلى اليوم، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهي قسمان:
__________
(1) مسلم، كتاب الإيمان، باب الإيمان بالقدر (1/ 38)، رقم (8).
(2) انظر: العقيدة في الله لعمر الأشقر، (9 - 10).(1/191)
الأول: يمثل العقيدة الصحيحة، وهي تلك العقائد التي جاءت بها الرسل الكرام في أي زمان ومكان، وهي عقيدة واحدة, لأنها منزلة من العليم الخبير الحكيم العزيز.
والقسم الثاني: يشمل العقائد الفاسدة على كثرتها وتعددها، وفسادها ناشئ من كونها نتاج أفكار البشر ومن وضع مفكريهم وعقلائهم، وعلمهم محدودًا ومقيدًا بقيود بشرية متمثلة في عادات وتقاليد وأفكار.
وأحيانًا يأتي فساد العقيدة من تحريفها، وتغييرها وتبديلها، كما هو الحال بالنسبة للعقيدة اليهودية والنصرانية في الوقت الحاضر, فإنهما حرفتا منذ عهد بعيد، ففسادهما كان من هذا التحريف، وإن كانت عقيدتها سليمة الأصل (1).
ثالثًا: أين العقيدة الصحيحة اليوم؟
العقيدة الصحيحة لا توجد إلا في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - , لأنهما محفوظتان لحفظ الله لهما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] والعقائد في غير الإسلام وإن كان في بعضها قليل من الحق, فإنها لا تمثل الحق ولا تجليه.
فالعقيدة الصحيحة السليمة لا توجد في اليهودية ولا في النصرانية، ولا في كلام الفلاسفة ... وإنما توجد في الإسلام في أصليه: الكتاب والسنة ندية طرية صافية مشرقة، تملأ الفؤاد إيمانًا ونورًا وحياة ويقينًا، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ} [الشورى: 52] وتقنع العقل بالحجة والبرهان: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4] وتنسجم مع الفطرة: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30].
رابعًا: ماذا تعني العقيدة؟
العقيدة الإسلامية ضرورية للإنسان؛ لأنه بدونها تائه ضائع يفقد ذاته ووجوده،
__________
(1) انظر: العقيدة في الله، ص (11).(1/192)
والعقيدة الإسلامية وحدها التي تجيب على التساؤلات التي شغلت ولا تزال تشغل الفكر الإنساني، بل وتحيره من أين جئت؟ ومن أين جاء هذا الكون؟ من الْمُوجِد؟ ما صفاته ما أسماؤه؟ لماذا أوجدنا وأوجد الكون؟ وما دورنا في هذا الكون وَما علاقتنا بالخالق الذي خلقنا؟ وهل هناك عوامل غير منظورة وراء هذا العالم المشهور؟ وهل هناك مخلوقات عاقلة مفكرة غير هذا الإنسان؟ وهل بعد هذه الحياة من حياة أخرى نصير إليها؟ وكيف تكون تلك الحياة إن كان الجواب بالإيجاب؟ لا توجد عقيدة سوى العقيدة الإسلامية اليوم تجيب على هذه الأسئلة إجابة صادقة مقنعة (1) وكل من لم يعرف هذه العقيدة، أو لم يعتنقها فإن حاله لن يختلف عن حال ذلك الشاعر البائس (2) الذي لا يدري شيئًا:
جئت، لا أعلم من أين، ولكني أتيت
ولقد أبصرت، قدامي طريقًا فمشيت
وسأبقى سائرًا إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟
لست أدري
أجديد أم قديم أنا في هذا الوجود
هل أنا حر طليق أم أسير في قيود
هل أنا قائد نفسي في حياتي أم مقود
أتمنى أنني أدري ولكني
لست أدري
وطريقي ما طريقي؟ أطويل أم قصير
__________
(1) انظر: العقيدة في الله، ص (12).
(2) هو إيليا أبو ماضي من قصيدة له طويلة بعنوان (الطلاسم) من ديوانه (الجداول) (106).(1/193)
هل أنا أصعد أم أنا أهبط فيه وأغور
أأنا السائر في الدرب أم الدرب تسير؟
أم كلانا واقف والدهر يجري
لست أدري
ليت شعري وأنا في عالم الغيب الأمين
أتراني كنت أدري أنني فيه دفين
وبأني سوف أبدو وبأني سأكون
أم تراني كنت لا أدرك شيئًا؟
لست أدري
أتراني قبلما أصبحت إنسانًا سويًّا
كنت محوًا أو محالاً أم تراني كنت شيئًا
ألهذا اللغز حل؟ أم سيبقى أبديًّا
لست أدري ... ولماذا لست أدري
لست أدري (1)
وهذا الشاعر الملحد فَقَدَ معرفة الحقائق الكبرى فأصبح في هذه الحيرة والقلق والشك والأمراض النفسية، وأين هو من المسلم الذي يدري ويعرف معرفة مستيقنة كل هذه الحقائق فإذا به يجد برد اليقين، وهدوء البال، وإذا به يسير في طريق مستقيم إلى غاية مرسومة يعرف معالمها، ويدري غايتها.
قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الروم: 40] وقال تعالى: {وَمَا
__________
(1) هو إيليا أبو ماضي من قصيدة له طويلة بعنوان (الطلاسم) من ديوانه (الجداول) (106).(1/194)
خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] واستمع إلى الشاعر البائس يتحدث عن الموت والمصير:
إن يك الموت قصاصًا أي ذنب للطهارة؟
وإن كان ثوبًا، أي فضل للدعارة
وإذا كان وما فيه جزاء أو خسارة
فلم الأسماء إثم وصلاح
لست أدري
إن يك الموت رقادًا بعده صحو طويل
فلماذا ليس يبقى صحونا هذا الجميل
ولماذا المرء لا يدري متى وقت الرحيل
ومتى ينكشف الستر فيدري؟
لست أدري
إن يك الموت هجوعًا يملأ النفس سلامًا
وانعتاقًا لا اعتقالاً وابتداء لا ختامًا
فلماذا لا أعشق النوم ولا أهوى الحماما؟
ولماذا تجزع الأرواح منه
لست أدري
أوراء القبر بعد الموت بعث ونشور؟
فحياة، فخلود، أم فناء فدثور؟
أكلام الناس أُصَدِّق أم كلام الناس زور؟(1/195)
أصحيح أن بعض الناس يدري
لست أدري
إن أكن أبعث بعد الموت جثمانًا وعقلاً
أترى أبعث بعضًا أم ترى أبعث كلاً
أترى أبعث طفلاً أم ترى أبعث كهلاً؟
ثم هل أعرف بعد الموت ذاتي؟
لست أدري (1)
(لست أدري) تلك هي الإجابة عن التساؤلات الخالدة وليست هي قولة شاعر فحسب (فسقراط) الفيلسوف الذي يعد من عمالقة الفلاسفة، يقول بصريح العبارة (الشيء الذي لا أزال أجهله جيدًا أنني لست أدري) (2) بل أن اللا أدرية) مذهب فلسفي قديم.
إنه الضلال: الضلال عن الحقيقة إنه الشقاء، شقاء القلب وتعاسة النفس وضياع الضمير المثقل المكدود، وكم في الحياة من أمثال هذا الشاعر البائس الضال بعضهم يستطيع أن يفصح عن شقوته، وحيرته، وبعضهم يحس ويعاني وتبقى أفكاره حبيسة نفسه الشقية (3).
بالإسلام وحده يصبح الإنسان يدري، يدري من أين جاء، وإلىِ أين المصير، يدري لماذا هو موجود وما دوره في هذه الحياة. قال تعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك: 22] إن البشرية تخبطت في دياجير الظلام، وانتكست في مهاوي الشرك وضلت عن سواء السبيل، انحرفت عن منهج التوحيد، الذي جاءت به الأنبياء والرسل، فأصيبت البشرية في عقلها وفكرها
__________
(1) هو إيليا أبو ماضي من قصيدة له طويلة بعنوان (الطلاسم) من ديوانه (الجداول) (107).
(2) الدين لدرار: (69).
(3) انظر: العقيدة في الله ص (15).(1/196)
وقلبها بالشرك وما ينبثق عنه من ضياع في المنهج والفكر والعقيدة والأخلاق، فانحرفت اليهودية عن التوحيد الذي جاء به موسى عليه السلام، على دراية من أحبارهم وعلمائهم ولذلك غضب الله عليهم، وأضاعت النصارى الحق الذي جاء به عيسى عليه السلام فضلوا سواء السبيل.
فأصبحت البشرية في ظلمة شديدة قبل نزول القرآن وبزوغ فجر الإسلام كانت البشرية قبل نزول القرآن تعج بركام العقائد والتصورات المنحرفة في ذات الله وفي الكون وفي الحياة وفي الإنسان وفي الموت وفي الجزاء وفي الحساب وفي الكتب السماوية وفي رسل الله وفي أقدار الله وقضائه وأصبحت البشرية بين إفراط وتفريط بعيدة عن الصراط المستقيم حادت عن الوسطية والاعتدال، والاستقامة فبعض البشر زعم أن الملائكة بنات الله، ثم عبدوا الملائكة كما فعل مشركو العرب، وبعضهم قالوا عزير ابن الله كما فعلت اليهود، ووصف المولى عز وجل بصفات لا تليق به من صفات النقص وشبه بمخلوقاته، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.
وشاعت بين البشرية عبادة الأصنام، إما بوصفها تماثيل للملائكة، وإما بوصفها تماثيل للأجداد، وإما لذاتها، وكانت الكعبة التي بنيت لعبادة الله وحده، تعج بالأصنام, إذ كانت تحتوى على ثلاثمائة وستين صنمًا. غير الأصنام الكبرى في جهات متفرقة.
ومما يدل على أن اللات والعزى ومناة كانت تماثيل للملائكة ما جاء في القرآن الكريم في سورة النجم {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 19 - 28](1/197)
وانتشرت بين الناس عبادة الكواكب، وكانت قبيلة حمير تعبد الشمس وكنانة القمر، ولخم وجذام المشترى، وطي سهيلاً، وقيس العبور، وأسد عطارد.
وقد جاء عن هذا في سورة فصلت: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] وجاءت في سورة النجم: {وَأَنَّه هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} [النجم: 49] وكثرت الإشارات إلى خلق النجوم وربوبية الله سبحانه لها كبقية خلائقه، وذلك لنفي ألوهية الكواكب وعبادتها، لقد سادت الصورة الشائهة للتصورات في الجزيرة العربية حيث بلاد الشام والرومان حيث النصرانية المحرفة، واليهودية المغضوب عليها وأصبحت البشرية شرقًا وغربًا، وجنوبًا وشمالاً تعج بركام من بقايا العقائد السماوية المحرفة، ويجثم على ضمير البشرية في كل مكان، والذي كانت تنبثق منه أنظمتهم وأوضاعهم وآدابهم وأخلاقهم (1).
من ثم كانت عناية الإسلام الكبرى موجهة إلى تحرير أمر العقيدة وتحديد الصورة الصحيحة التي يستقر عليها الضمير البشري في حقيقة الألوهية، وعلاقتها بالخالق، وعلاقة الخالق بها .. فتستقر عليها نظمهم وأوضاعهم وعلاقتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وآدابهم وأخلاقهم كذلك، فلا يمكن أن تستقر هذه الأمور كلها، إلا أن تستقر الألوهية وتتبين خصائصها واختصاصاتها.
وعنى الإسلام (في أصليه الكتاب والسنة) بإيضاح طبيعة الخصائص والصفات الإلهية المتعلقة بالخلق والإرادة والهيمنة والتدبير ... ثم بحقيقة الصلة بين الله والإنسان ... فلقد كان معظم الركام في ذلك التيه الذي تخبط فيه العقائد والفلسفات، مما يتعلق بهذا الأمر الخطير الأثر في الضمير البشري وفي الحياة الإنسانية كلها.
فالذي يعرف الجاهلية هو الذي يدرك قيمة الإسلام، ويعرف كيف يحرص على رحمة الله المتمثلة فيه، ونعمة الله المتحققة به، إن جمال هذه العقيدة وكمالها
__________
(1) انظر: خصائص التصور الإسلامي ومقوماته (42).(1/198)
وتناسقها وبساطة الحقيقة الكبيرة التي تمثلها ... إن هذا كله لا يتجلى للقلب والعقل، كما يتجلى من مراجعة ركام الجاهلية -السابقة للإسلام واللاحقة- عندئذ تبدو هذه العقيدة رحمة ... رحمة حقيقية ... رحمة للقلب والعقل. ورحمة بالحياة والأحياء. رحمة بما فيها من جمال وبساطة، ووضوح وتناسق، وقرب وأنس، وتجاوب مع الفطرة مباشر عميق (1).
خامسًا: هل تطورت العقيدة عبر الزمان؟
يرى كثير من الباحثين الغربيين أن الإنسان لم يعرف العقيدة على ما يعرفها عليه اليوم مرة واحدة، ولكنها ترقت وتطورت في فترات وقرون متعاقبة، ولا عجب أن يقول بهذا الإفك من لم يمنحهم الله كتابه الذي بيَّن فيه تاريخ العقيدة بوضوح لا لبس فيه إلا أن الغريب أن يسلك هذا المذهب رجال يعدون أنفسهم ويعدهم غيرهم باحثين مسلمين.
ومن أمثال أولئك عباس محمود العقاد الذي يرى في كتابه (الله) وهو كتاب يبحث في نشاة العقيدة الإلهية: أن الإنسان ترقى في العقائد، ويرى أن ترقي الإنسان في العقائد موافق تمامًا لترقيه في العلوم.
يقول: (كانت عقائد الإنسان الأولى مساوية لحياته الأولى، وكذلك كانت علومه وصناعاته، فليست أوائل العلم والصناعة بأرقى من أوائل الأديان والعبادات، وليست عناصر الحقيقة في واحدة منها بأوفر من عناصر الحقيقة في الأخرى) (2).
بل يرى أن تطور العقيدة لدى الإنسان كان أشق من تطور العلوم والصناعات ويقول: وينبغي أن تكون محاولات الإنسان في سبيل الدين أشق وأطول من محاولاته في سبيل العلوم والصناعات, لأن حقيقة الكون الكبرى أشق مطلبًا وأطول طريقًا من حقيقة هذه الأشياء المتفرقة التي يعالجها العلم تارة والصناعة تارة أخرى.
__________
(1) انظر: المرجع السابق، (46).
(2) العقيدة في الله ص (243) نقلاً عن كتاب الله (للعقاد).(1/199)
ويرى أن الحقيقة الإلهية لم تتجل للناس مرة واحدة يقول: (فالرجوع إلى أصول الأديان في عصور الجاهلية الأولى لا يدل على بطلان التدين، ولا على أنها تبحث عن محال، كل ما يدل عليه أن الحقيقة الكبرى أكبر من أن تتجلى للناس كاملة في عصر واحد) (1).
ثم أخذ يستعرض آراء الباحثين في تاريخ العقيدة، فمنهم من يرى أن السبب في نشأة العقيدة هو ضعف الإنسان بين مظاهر الكون وأعدائه من قوى الطبيعة والأحياء بعضهم يرى أن العقيدة الدينية عبادة (الطوطم)، كأن تتخذ بعض القبائل حيوانًا (طوطميًّا) تزعمه أبًّا لها، وقد يكون شجرًا أو حجرًا يقدسونه، إلى آخر تلك الفروض التي قامت في أذهان الباحثين الغربيين.
ومع الأسف فقد سرت هذه النظرية إلى بعض الكتاب مثل مصطفى محمود في كتابه (الله) واعتنقها جملة من الدارسين والذي أوقع هؤلاء في هذا الخطأ أمور:
الأول: أنهم ظنوا أن الإنسان اهتدى إلى العقيدة بدون معلم يعلمه ومرشد يوضح له: فما دام الأمر كذلك فلا بد أن يترقي في معرفته بالله كما ترقى في العلوم والصناعات.
ثانيًا: أنهم قدَّروا أن الإنسان الأول خلق خلقًا ناقصًا غير مؤهل لأن يتلقى الحقائق العظمى كاملة، بل إن تصوراتهم عن الإنسان الأول تجعله أقرب إلى الحيوان منه إلى الإنسان.
الثالث: أنهم عندما بحثوا في الأديان ليتبينوا تاريخها لم يجدوا أمامهم إلا تلك الأديان المحرفة أو الضالة فجعلوها ميدان بحثهم، فأخضعوها للدراسة والتمحيص، وأنى لهم أن يعرفوا الحقيقة من تلك الأديان التي تمثل انحراف الإنسان في فهم العقيدة (2).
__________
(1) المرجع السابق (244).
(2) المرجع السابق (244 - 245).(1/200)
سادسًا: القرآن وحده يوضح تاريخ العقيدة.
ليس هناك كتاب في الأرض يوضح تاريخ العقيدة بصدق إلا كتاب الله سبحانه وتعالى ففيه علم غزير في هذه الموضوع، وعلم البشر لا يمكن أن يدرك هذا الجانب إدراكًا وافيًا لأسباب:
الأول: أن ما نعرفه عن التاريخ الإنساني قبل خمسة آلاف عام قليل، أما ما نعرفه قبل عشرة آلاف عام فيعتبر أقل من القليل، وما قبل ذلك يعتبر مجاهيل لا يدري علم التاريخ من شأنها شيئًا، لذا فإن كثيرًا من الحقيقة ضاع بضياع التاريخ الإنساني.
الثاني: أن الحقائق التي ورثها الإنسان اختلطت بباطل كثير، بل قد ضاعت في أمواج متلاطمة في محيطات واسعة من الزيف والدجل والتحريف، ومما يدل على ذلك كتابة تاريخ حقيقي لشخصية أو جماعة ما في العصر الحديث تعتبر من أشق الأمور، فكيف بتاريخ يمتد إلى فجر البشرية؟
الثالث: أن قسمًا من التاريخ المتلبس بالعقيدة لم يقع في الأرض، بل في السماء (1) لذا كان الذي يستطيع أن يمدنا بتاريخ حقيقي لا لبس فيه هو الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [آل عمران: 5].
تاريخ العقيدة كما يرويه القرآن الكريم:
أعلمنا الله سبحانه أنه خلق آدم خلقًا مستقلاً سويًّا متكاملاً، ثم نفخ فيه من روحه، وأسكنه جنته، وأباح له أن يأكل هو وزوجه منها كيف يشاء إلا شجرة واحدة، فأغراه عدوه إبليس بالأكل من الشجرة، فأطاع عدوه، وعصى ربه فأهبطه الله من الجنة إلى الأرض، وقبل الهبوط وعده الله سبحانه بأن ينزل عليه وعلى ذريته هداه كي يعرف الإنسان بربه ومنهجه وتشريعه ووعد المستجيبين بالهداية في الدنيا والسعادة في الآخرة، وتوعد الله المستكبرين بالمعيشة الضنكة في الدنيا وبالشقاء في الآخرة {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
__________
(1) المرجع السابق (245).(1/201)
وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 38 - 39]. وفي سوِرة طه يقول سبحانه: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 123 - 126].
سابعًا: الجيل الأول كان على التوحيد.
هبط آدم إلى الأرض، وأنشأ الله من ذريته أمة كانت على التوحيد الخالص كما قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي على التوحيد والدين الحق، فاختلفوا {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213].
وفي حديث أبي أمامة أن رجلاً سَأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: " يا رسول الله أنبي كان آدم؟ قال: نعم، مكلم، قال: فكم بينه وبين نوح؟ قال: عشرة قرون ". وذكر ابن عباس - رضي الله عنه -: إن كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام (1).
ومقدار القرن مائة سنة وعلى ذلك يكون بين آدم ونوح ألف سنة وقد تكون المدة أكثر من ذلك إذ قيد ابن عباس هذه القرون العشرة بأنها كانت على الإسلام، فلا ينفي أن يكون بينهما قرون أخرى على غير الإسلام. وقد يكون المراد بالقرن الجيل من الناس قال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ} [الإسراء: 17] وقوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [المؤمنون: 31].
...
__________
(1) تفسير الطبري (2/ 335 - 336).(1/202)
الفصل الثاني وسطية القرآن في باب توحيد الله وأسمائه وصفاته
تمهيد: إن المتأمل في كتاب الله تبارك وتعالى وما جاء فيه عن دعوات الرسل وما أنزل عليهم من الكتب ليخرج بحقيقة واحدة، أطبق عليها جميع الرسل، وأنزلت بها جميع الكتب السماوية، هذه الحقيقة هي: الدعوة إلى توحيد الله وعبادته دون سواه، فهي أسس الرسالات وعمودها الفقري، وهي القاسم المشترك بينها، وإن اختلفت بعد ذلك الشرائع والمناهج فما من نبي أرسل ولا كتاب أنزل إلا وكان أول ما يدعو إليه هو توحيد الله تبارك وتعالى.
يقول الله عز وجل في تقرير هذه الحقيقة:
{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل: 36] وفي آية آخرى يقول سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].
وإذا استعرضنا القرآن الكريم في حديثه عن رسل الله عليهم الصلاة والسلام نجد أن كل رسول قال لقومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون: 23، والأعراف: 65، 73، 85]. ابتداء من أولهم نوح عليه السلام، وانتهاء بخاتمهم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -.
فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام دينهم واحد، وهو الإسلام وشرائعهم مختلفة كما قال المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: " أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد " (1).
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب {واذكر في الكتاب مريم} (6/ 478).(1/203)
قال الحافظ ابن حجر: (ومعنى الحديث: أن أصل دينهم واحد وهو التوحيد وإن اختلفت فروع الشرائع، وقيل: المراد أن أزمنتهم مختلفة) (1).
وقال الحافظ ابن كثير في معنى الحديث: (أي: القدر المشترك بينهم وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وإن اختلفت شرائعهم ومنهاجهم) (2).
لقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48].
وكل الأنبياء أخبروا بأنهم مسلمون ودعوا قومهم للإسلام؛ لأنه الدين الحق الذي لا يقبل الله غيره:
{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران: 19] {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].
وهذا يدل على أن دين جميع الأنبياء واحد وهو الإسلام ودعوتهم واحدة وهي الدعوة لتوحيد الله عز وجل وإفراده بالعبادة، على هذا مضى رسل الله والمسلمون من أممهم، ولكن قومهم غيروا وبدلوا بعدهم وحرفوا وأدخلوا في دين الله ما لم يأذن به الله، وشمل التحريف والتبديل أساس دعوة الرسل، وهو التوحيد. وما يتعلق بذات الله عزَّ وجلَّ من الأسماء والصفات فتفرقت الأمم في ذلك ما بين مُفْرِط، وَمُفَرِّط، وغال ومقصر لإعراضهم عن هدي المرسلين واتباعهم غير سبيل المؤمنين.
ومن أعظم الأمم اختلافًا وضلالاً في هذا الباب، أمتا اليهود والنصارى، فاليهود غلب عليهم التقصير والتفريط والجفاء، وإن كان لديهم غلو وإفراط، والنصارى غلب عليهم الغلو والإفراط وإن كان وقع منهم تفريط وتقصير في جوانب.
والمسلمون اتبعوا الرسل، فهدوا لأقوم السبل، فكان قولهم هدى بين ضلالتين، وحقًّا بين باطلين، فهو كلبن سائغ يخرج من بين فرث ودم. وإليك البيان في ما ذهبت إليه كل من هذه الأمم الثلاث في هذا الباب (3).
__________
(1) فتح الباري (6/ 489).
(2) تفسير ابن كثير (7/ 183).
(3) وسطية أهل السنة بين الفرق (242 - 243).(1/204)
المبحث الأول موقف أمة اليهود
عرفنا مما تقدم أن أمة يهود، أمة غلب عليها طابع التفريط والتقصير في هذا الباب، بل هو الغالب عليهم في أكثر الأبواب:
ولعل من أبرز مظاهر تفريطهم وتقصيرهم في هذا الباب أمرين:
الأول: اتخاذهم الأنداد لله عز وجل، وعبادة الأصنام.
والثاني: إغراقهم في تشبيه الخالق بالمخلوق، ووصف الله عز وجل بالنقائص التي لا تليق إلا بالمخلوق.
فأما الأمر الأول: وهو اتخاذهم الأنداد وعبادة الأصنام, فإن القوم لما أنقذهم الله من عدوهم فرعون وجنوده، وجاوز بهم البحر مع موسى عليه السلام، وأغرق عدوهم على مشهد منهم، ومروا على قوم يعكفون على أصنام لهم، مالت نفوسهم إلى الوثنية وطالبوا موسى عليه السلام أن يجعل لهم مثلها: يقول الله جل وعلا في ذلك: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138] ثم بَيَّن لهم موسى عليه السلام ضلال أولئك وبطلان عملهم، وأن الإله الحق هو الله الذي فضلهم على العالمين فقال: {إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 139 - 140].
1 - اتخاذهم العجل في زمن موسى:
لم يلق نصح موسى عليه السلام وتذكيره ووعظه من القوم قلبًا واعيًا أو أذنًا صاغية، فما أن تركهم عليه السلام وذهب إلى ربه يناجيه، حتى اتخذوا العجل من بعده إلهًا من دون الله قال تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} [الأعراف: 148](1/205)
{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة: 51] ثم بين تعالى من تولى كبر إضلالهم وصناعة العجل لهم، فقال: {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه: 85 - 88].
فبين تعالى أن الذي عمل لهم العجل هو السامري، ومن العجيب أن كتاب العهد القديم ينسب هذا العمل الشنيع إلى هارون عليه السلام كما جاء في (سفر الخروج) (1).
ولقد تكرر من القوم، اتخاذ الأصنام وعبادتها بعد موسى عليه السلام. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (وأهل الكتاب معترفون بأن اليهود عبدوا الأصنام مرات ... ) (2).
وفي كتاب العهد القديم، إشارات كثيرة لعبادتهم الأوثان والأصنام، من ذلك.
1 - ما جاء في (سفر الملوك الثاني) عن عودتهم لعبادة العجل في عهد رحبعام (3) يقول السفر: ( .... وعمل عجلي ذهب وقال لهم: كثير عليكم أن تصعدوا إلى أورشليم هو ذا آلهتك يا إسرائيل الذين أصعدوك من أرض مصر ووضع واحدًا في بيت أبل، وجعل الآخر في دان) (4).
2 - عبادتهم الأفعى وبعض التماثيل:
يذكر (سفر الملوك الثاني) عن الملك حزقيال أنه: (أزال المرتفعات وكسر التماثيل
__________
(1) انظر: العهد القديم، سفر الخروج من إصحاح (32) فقرة (1 - 6).
(2) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (3/ 247).
(3) هو رحبعام بن سليمان عليه السلام ملك بعد أبيه.
(4) سفر الملوك الأول، إصحاح (12)، فقرة (28 - 29).(1/206)
وقطع السواري وسحق حية النحاس التي عملها موسى؛ لأن بني إسرائيل كانوا إلى تلك الأيام يوقدون لها ... ) (1).
على أن موسى عليه السلام لم يعمل تمثالاً نحاسيًّا لحية، وإنما كانت عصاه تنقلب إلى حية تسعى معجزة له، ثم تعود سيرتها الأولى بعد ذلك عصًا يتوكأ عليها ويهُشُّ بها على غنمه، لكن لعل بني إسرائيل عملوا ذلك ونسبوه إلى موسى عليه السلام لتروج عند الناس ويعظموها ويعبدوها.
وأما الأمر الثاني: وهو قولهم بالتشبيه ووصف الخالق بصفات المخلوق:
وهذا أمر مشهور عنهم، حتى عده الشهرستاني (2) من طباعهم الملازمة لهم؛ فإن القوم أسرفوا في تشبيه الله عز وجل بالمخلوق ووصفوه جل وعلا بالنقائض التي تختص بالمخلوق.
ولقد سجل عليهم القرآن الكريم صورًا من ذلك، وكتابهم الذي بين أيديهم ينضح بالكثير من ذلك، ونحن نذكر فيما يلي نماذج من أقوالهم التي شبهوا فيها الخالق عز وجل بخلقه.
1 - فمن ذلك: (وصفهم الله بالفقر).
وهي صفة لا تليق بخالق البشر، ولكن القوم لا عقول لهم ولا حياء عندهم، يقول عز وجل في ذلك: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران: 181].
2 - ومن ذلك: (وصفهم له بأن يده مغلولة).
قال عز وجل ذاكرًا قولهم هذا: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64].
__________
(1) إصحاح (18)، فقرة (4).
(2) انظر: الملل والنحل (1/ 106)، هو أبو الفتح عبد الكريم توفي (548 هـ).(1/207)
3 - وصفوه بأنه: (يحزن، ويندم على أفعاله) تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
يصفه (سفر التكوين) بذلك فيقول: (ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم فحزن الرب أنه عمل الإنسان الذي خلقه، الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء, لأني حزنت أني علمتهم) (1).
4 - ووصفوه: (بالتعب والاستراحة) تعالى عن ذلك.
جاء في (سفر الخروج): (أذكر يوم السبت لنقدسه، ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك، لا تصنع عملاً أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك، وتريلك الذي داخل أبوابك؛ لأن في ستة أيام صنع الرب الأرض والسماء والبحر وكل ما فيها واستراح في اليوم السابع لذلك بارك الرب اليوم السابع وقدسه) (2) وفي سفر (التكوين): (فأكملت السموات والأرض وكل جندها وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل واستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل) (3).
5 - وقالوا: (بأنه إنسان وصارع يعقوب عليه السلام إلى الفجر).
ففي (سفر التكوين): (فبقي يعقوب وحده وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر، ولما رأى أنه لا يقدر عليه ضرب فخذه فانخلع حق فخذ يعقوب في مصارعته معه، وقال: أطلقني لأنه قد طلع الفجر، فقال: لا أطلقك إن لم تباركني فقال له: ما اسمك؟ فقال يعقوب، فقال: لا يدعى اسمك في ما بعد يعقوب بل إسرائيل؛ لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت ... فدعا يعقوب اسم المكان فينئيل قائلاً: لأني نظرت الله وجهًا لوجه ونجيت نفسي) (4).
__________
(1) إصحاح (6)، فقرة (5 - 8).
(2) إصحاح (20)، فقرة (1 - 17).
(3) إصحاح (2)، فقرة (1 - 2).
(4) إصحاح (32)، فقرة (24 - 30).(1/208)
6 - وصفوه بما يفيد أنه " (لا يعلم الغيب ويحتاج علامات يميز بها بني إسرائيل من غيرهم، فوضع الدم علامة على بيوت بني إسرائيل ليميزها عن بيوت المصريين حتى لا يهلكهم). ففي (سفر الخروج): (أن الرب كلم موسى عليه السلام وقال له فيما قال: فإني أجتاز في أرض مصر هذه الليلة وأضرب كل بكر في أرض مصر من الناس والبهائم، وأصنع أحكامًا بكل آلهة المصريين أنا الرب، ويكون لكم الدم علامة على البيوت التي أنتم فيها فأرى الدم وأعبر عنكم فلا يكون عليكم ضربة للهلاك حين أضرب أرض مصر) (1).
7 - أنهم: جعلوا له أبناء كما أن للمخلوق أبناء.
جاء في (سفر التكوين): (وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون على الأرض وولد لهم بنات أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا) (2). وحكى الله عز وجل عنهم أنهم جعلوا له ابنًا فقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30].
...
__________
(1) سفر الخروج، إصحاح (12)، فقرة (12 - 13).
(2) إصحاح (6)، فقرة (1 - 2).(1/209)
المبحث الثاني موقف النصارى
لقد ضلت أمة النصارى في هذا الباب ضلالاً بعيدًا، ولعل أمة من الأمم لم تضل في دينها وربها وإلهها كما ضل الذين قالوا إنا نصارى. ولا عجب فالضلالة صفتهم المميزة لهم، كما أخبر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: " اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضلال " (1). قال ذلك في تفسير قول الله عز وجل: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] ولعل من أعظم ضلالهم في باب توحيد الله وصفاته أنهم:
1 - شبهوا المخلوق بالخالق:
وأضفوا عليه من الصفات والخصائص ما لا يليق إلا بالله عز وجل ولا يصلح إلا له سبحانه فوصفوا المخلوق بصفات الخالق المختصة به، فقالوا: (إنه يخلق، ويرزق، ويغفر، ويرحم، ويتوب على الخالق ويثيب ويعاقب) (2) وهذه الصفات من خصائص الربوبية، وصفات الألوهية التي لا تكون إلا لله سبحانه.
وذلك أن هذه الأمة الضالة، جعلت المسيح عليه السلام هو الله، كما ذكر الله عز وجل قولهم هذا وكفرهم به فقال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17] وتاره جعلوه ابنًا لله سبحانه وتعالي عما يقول المبطلون، وعن قولهم هذا يقول الحق تبارك وتعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30].
وقالوا تارة أخرى إنه شريك لله وجزء من ثلاثة يتكون منها الإله كما ذكر الله قولهم هذا وكفرهم به أيضًا فقال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ
__________
(1) الترمذي: كتاب التفسير، باب من سورة الفاتحة (5/ 204).
(2) الوصية الكبرى، لابن تيمية، (4).(1/210)
إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 73]
فألهوا المسيح عليه السلام وجعلوه شريكًا لله، وعبدوه من دونه، بل وصفوه بأخص صفات الألوهية والربوبية من الخلق والرزق والإحياء، والإماتة؛ وبذلك فاقوا عباد الأصنام والأوثان الذين قالوا في معبوداتهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] ولم يضيفوا إليها شيئًا من خصائص الربوبية كالخلق والرزق ونحو ذلك، بل أقروا بكل ذلك لله وحده كما قال عز وجل: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس: 31] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت: 61] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 63] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [لقمان: 25].
أما هؤلاء فلئن سألتهم عن شيء من ذلك ليقولن المسيح، فهو عندهم الإله الخالق المحي المميت، باعث الرسل، ومنزل الكتب، حكى الإمام ابن القيم عنهم أنهم قالوا (وليس المسيح عند طوائفنا الثلاثة هكذا). بنبي ولا عبد صالح، بل هو رب الأنبياء وخالقهم وباعثهم ومرسلهم وناصرهم، ومؤيدهم ورب الملائكة) (1).
وفي قرارهم الذي قرروه في (مجمع نيقية) (2) الذي عقدوه سنة 325 م وسموه بـ (الأمانة) ونصوا فيه على ألوهية المسيح عليه السلام، وصرحوا بأنه هو الذي سينزل للقضاء بين الناس يوم القيامة ومحاسبتهم ومجازاتهم فقالوا: (وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الناس يوم القيامة ومحاسبتهم ومجازاتهم) وقالوا: (وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء) (3).
__________
(1) هداية الحيارى (269).
(2) سمي بذلك؛ نسبة إلى مدينة نيقية من أعمال إسطنبول التي اجتمع بها عدد من علماء النصارى، وكان من قراراتهم القول بإلهية المسيح.
(3) انظر: الشهرستاني، الملل والنحل، (2/ 28).(1/211)
يقول أحد قساوستهم في رسالة إلى أبي عبيدة الخزرجي (1)، مصرحًا بألوهية المسيح وأنه خالق السموات والأرض: (أما بعد حمد الله الذي هدانا لدينه، وأيدنا بيمينه، وخصنا بابنه ومحبوبه، ومد علينا رحمته بصلبه المسيح إلهنا، الذي خلق السموات والأرض وما بينهن، والذي أمدنا بدمه المقدس ومن عذاب جهنم وقانا ... ) (2).
وقال مخاطبًا أبا عبيدة داعيًا إياه للإيمان بألوهية المسيح الخالق: (وما عقائدكم كلها إلا حسنة، وكان عندكم عدل كثير في أصل دينكم، وخير شامل، فلو آمنتم بالمسيح وقلتم: إنه هو الله خالق السموات والأرض لكمل إيمانكم) (3).
وهكذا نرى النصارى يصفون المسيح عليه السلام بصفات الربوبية المختصة برب العالمين عز وجل، وهذا أمر انفردوا به من بين العالمين، ولم يقتصر الأمر على المسيح عليه السلام، بل جعلوا لغيره من الخلق بعض صفات الله تبارك وتعالى، فجعلوا مريم عليها السلام آلهة؛ لأنها أم الله بزعمهم، ووصفوها بالجلوس على العرش مع الله عز وجل، وسألوها ما لا يسأل إلا من الله عز وجل.
يقول الإمام ابن القيم: (وأما قولهم في مريم: فإنهم يقولون إنها أم المسيح ابن الله ووالدته في الحقيقة ... وأنها على العرش جالسة عن يسار الرب تبارك وتعالى والد ابنها، وابنها عن يمينه، قال: والنصارى يدعونها، ويسألونها سعة الرزق وصحة البدن وطول العمر ومغفرة الذنوب) (4).
وهذه الأمور لا يملكها إلا الله عز وجل ولا يسألها إلا هو سبحانه، ولقد أشار القرآن الكريم إلى قول النصارى بألوهية مريم في قوله تبارك وتعالى مخاطبًا عيسى عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ
__________
(1) هو أبو جعفر أحمد بن عبد الصمد بن أبي عبيدة الخزرجي الساعدي كان مشهورًا بالذكاء والنبل، مات بفاس
بالمغرب عام 582 هـ.
(2) أبو عبيدة الخزرجي، بين المسيحية والإسلام، ص (72).
(3) نفس المصدر (87).
(4) هداية الحيارى (261).(1/212)
دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 116].
بل خصوا كنائسهم وبابواتهم ومطارنتهم ببعض خصائص الله عز وجل كمغفرة الذنوب ودخول الجنة والحرمان منها ففي المجمع الثاني عشر من مجامعهم المعقود في سنة 1215 م قرروا: (أن الكنيسة البابوية تملك الغفران وتمنحه لمن تشاء) (1) وبناء على هذا القرار قامت الكنيسة بإصدار ما يسمى بـ (صكوك الغفران).
يقول أحد قسسهم في هذا: (وقد جعل الله في أيدى المطارين ما لم يجعله في يد أحد، وذلك أن كل ما يفعلون في الأرض يفعله الله في السماء، فإذا أذنبنا فهم الذين يقبلون التوبات ويعفون عن السيئات بأيديهم صلاح الأحياء والأموات) (2) ماذا أبقوا لله عز وجل؟!!
2 - ومن ضلالهم في هذا الباب أيضًا أنهم سبوا الخالق عز وجل وتنقصوه وذلك من وجهين:
الأول: قولهم إنه اتخذ ولدًا، حيث قالوا: إن المسيح ابن الله، كما قال تعالى:
{وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30] وقد نزه الله عز وجل نفسه عن اتخاذ الصاحبة والولد فقال: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة: 116] وقال سبحانه: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 88 - 93]، فأنكر قولهم، ونزه نفسه عن أن يكون له ولد.
وَبَيَّن سبحانه في آية أخرى أن الولد لا يكون إلا من صاحبة، وهو سبحانه لا
__________
(1) أبو زهرة، النصرانية (148).
(2) أبو عبيدة الخزرجي، بين المسيحية والإسلام، ص (91).(1/213)
صاحبه له، فقال عز وجل: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 101].
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (أي: كيف يكون له ولد، ولم تكن له صاحبه؟ أي: الولد إنما يكون متولدًا عن شيئين متناسبين، والله لا يناسبه ولا يشابهه شيء من خلقه, لأنه خالق كل شيء فلا صاحبة ولا ولد ... ) (1).
وقد بين سبحانه في الحديث القدسي، أن من نسب إليه اتخاذ الولد فقد شتمه وسبه بقوله ذلك، ففي الصحيح عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " قال الله: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي، فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله: لي ولد فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدًا " (2).
الثاني: زعمهم أن الله سبحانه وتعالى عن قولهم علوًا كبيرًا (نزل من السماء وتجسد من روح القدس وصار إنسانًا وحبل به وولد من مريم البتول وقتل وصلب) (3).
وقال القس القوطي في رسالته إلى أبي عبيدة الخزرجي يشرح فيها مذهبه:
( ... فهبط بذاته من السماء والتحم في بطن مريم العذراء البتول أم النور فاتخذ لنفسه منها حجابًا كما سبق في حكمته ... ) (4).
يقول الإمام ابن القيم: ( ... إن هذه الأمة- أي: النصارى ارتكبت محذورين عظيمين، لا يرضى بهما ذو عقل ولا معرفة، أحدهما: الغلو في المخلوق، حتى جعلوه شريك الخالق وجزءًا منه، وإلهًا آخر معه، ونفوا أن يكون عبدًا له.
والثاني: تنقص الخالق وسبه ورميه بالعظائم، حيث زعموا أنه سبحانه وتعالى عن قولهم علوًّا كبيرًا - نزل من العرش عن كرسي عظمته، ودخل في فرج امرأة
__________
(1) تفسير ابن كثير (3/ 302).
(2) البخاري، كتاب التفسير، باب {وقالوا اتخذ الله ولدًا ... } (8/ 168، رقم 4482).
(3) انظر: الشهرستاني، الملل والنحل، (2/ 28).
(4) أبو عببدة الخزرجي، بين المسيحية والإسلام، ص (83 - 84).(1/214)
وأقام تسعة أشهر يتخبط بين البول والدم والنجو (1) وقد علته أطباق المشيمة والرحم والبطن، ثم خرج من حيث دخل، رضيعًا صغيرًا يمص الثدي ... ثم صار إلى أن لطمت اليهود خديه، وربطوا يديه، وبصقوا في وجهه وصفعوا قفاه، وصلبوه جهرًا بين لصين، وألبسوه إكليلاً من الشوك وسمروا يديه ورجليه، وجرعوه أعظم الآلام، هذا هو الإله الحق الذي بيده أتقنت العوالم وهو المعبود المسجود له، ولعمر الله إن هذه مسبة لله سبحانه ما سبه بها أحد من البشر قبلهم ولا بعدهم .... ).
وذكر عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -؛ أنه قال فيهم: (أهينوهم ولا تظلموهم، فلقد سبوا الله عز وجل مسبة ما سبه إياها أحد من البشر) (2).
وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية من قول معاذ بن جبل - رضي الله عنه - (3).
...
__________
(1) النجو: ما يخرج من البطن من ريح وغائط. انظر: لسان العرب (15/ 306).
(2) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (2/ 278).
(3) الجواب الصحيح (2/ 52).(1/215)
المبحث الثالث موقف المسلمين
أما هذه الأمة المسلمة فقولها في هذا الباب هو ما جاء به المرسلون من توحيد الله وإفراده بالعبادة، فآمنت بأنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا إله غيره، ولا رب سواه، هو رب العالمين، وخالق الكون، ومدبره: {لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54] ونزهوه سبحانه عن الأنداد، واتخاذ الصاحبة والأولاد، تصديقًا لقوله تعالى عن نفسه: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91]، وقالوا كما قال مؤمنو الجن: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا} [الجن: 3] وقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص].
ووصفوه سبحانه بصفات الكمال والجلال، ونزهوه عن جميع صفات النقص، كما نزهوه عن أن يماثله شيء من المخلوقات في شيء من الصفات ... ) (1) ولم يصفوه إلا بما وصف به نفسه سبحانه، أو وصفته به رسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، من غير تعطيل ولا تمثيل فلم يشبهوه بشيء من خلقه لا في ذاته ولا في صفاته -كما فعل اليهود- بل قالوا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]. ولم يشبهوا شيئًا من خلقه به، لا في ذاته ولا في شيء من صفاته، ولم يجعلوا له نظيرًا أو ندًّا أو مثيلاً أو شريكًا في شيء من خصائص ألوهيته وربوبيته -كما صنع النصارى- بل نزهوه سبحانه عن الشبيه والنظير والكفء والند والمثيل (2).
وإذا تأملت سورة الإخلاص وجدت بها صفات الكمال لله سبحانه وتعالى وهو
__________
(1) منهاج السنة لابن تيمية (5/ 169).
(2) وسطية أهل السنة بين الفرق (258).(1/216)
أنه المنفرد بها وحده دون ما سواه قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص] ففي هذه السورة وصف الله سبحانه نفسه بأنه أحد صمد، فهذان الوصفان يدلان على اتصاف الله بغاية الكمال المطلق (1).
وذكر أبو هريرة في معنى الصمد: (أنه المستغني عن كل أحد والمحتاج إليه كل أحد) (2).
ومن خلال قول أبي هريرة في معنى الصمد يدل على الإثبات والتنزيه، فالإثبات بوصفه سبحانه بأنه هو الذي يصمد إليه أي: يرجع إليه في كل أمر، وذلك لأنه هو المتصف بجميع صفات الكمال، فهو القادر على كل شيء، والفعال لما يريد، والذي بيده الخلق والأمر والجزاء، وما من قوة لغيره تعالى إلا بهيمنة منه, إذا شاء أبقاها ومتى شاء سلبها فالمرجع والمرد إليه سبحانه (3).
وأما التنزيه، فبوصفه تعالى بأنه غني عن كل شيء فلا افتقار فيه بوجه من الوجوه، لا في وجوده فإنه الأول الذي ليس قبله شيء وهو الذي لم يلد ولم يولد، ولا في بقائه فإنه الذي يُطعِم، ولا في أفعاله فلا شريك ولا ظهير (4).
كما أن وصفه سبحانه بأنه أحد صمد يدل على اتصافه بالكمال المطلق وكذلك يدلان على معنى آخر وهو نفي الولادة والتولد عن الله سبحانه, فإن الصمد جاء في بعض الأقوال بأنه لا جوف له ولا أحشاء، فلا يدخل فيه شيء فلا يأكل ولا يشرب سبحانه وتعالى كما قال تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 14] وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ
__________
(1) علو الله في خلقه. بتصرف (28).
(2) تفسير القرطبي (2/ 245).
(3) علو الله على خلقه، بتصرف (28 - 29).
(4) المرجع السابق (28 - 29).(1/217)
أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 - 58] فإن الأحد هو الذي لا كفؤ له ولا نظير فيمتنع أن تكون له صاحبة.
والتولد إنما يكون من شيئين قال تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 101] وفي قوله تعالى: {ولَمْ يَكُن لهُ كُفُوًا أَحَد} [الإخلاص: 4] وفي هذا سلب عن المخلوق مكافأته ومماثلته للخالق ومثل ذلك قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] أي يعدلون به غيره فيجعلون له من خلقه عدلاً.
ومثال هذا قوله تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] أي لا شيئًا يساميه ولا ندًّا ولا عدلاً ولا نظيرًا له يساويه، فأنكر التشبيه والتمثيل وبهذا يتبين لنا أن تنزيهه سبحانه عن العيوب والنقائص واجب لذاته، كما دلت على ذلك سورة الإخلاص (1).
...
__________
(1) المرجع السابق، (28 - 34) للدويش.(1/218)
المبحث الرابع مفهوم الإيمان كما جاء في القرآن
لا ريب أن مفهوم الإيمان عندما نصل إليه من خلال القرآن وتوضيح سيد الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام هي الوسطية بعينها في هذا الباب، وهي الاستقامة والاعتدال، لذلك حرصت على إيضاح مفهوم الإيمان كما جاء في القرآن والسنة خصوصًا وأن الناس قد وقعوا في الإفراط والتفريط لبعدهم عن الوحيين الكتاب والسنة.
أولاً: في حد الإيمان وتفسيره:
إن معرفة حدود الأشياء وتفسيرها الذي يوضحها، يجب أن تتقدم أحكامها:
فإن الحكم على الأشياء فرع عن تصورها، فمن حكم على أمر من الأمور -قبل أن يحيط علمه بتفسيره، ويتصوره تصورًا يميزه عن غيره- أخطأ خطأ فاحشًا.
أما حد الإيمان وتفسيره، فهو: (التصديق الجازم، والاعتراف التام بجميع ما أمر الله ورسوله بالإيمان به، والانقياد ظاهرًا وباطنًا، فهو تصديق القلب واعتقاده المتضمن لأعمال القلوب وأعمال البدن، وذلك شامل للقيام بالدين كله (1).
ولهذا كان الأئمة والسلف يقولون: الإيمان قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح وهو: قول وعمل واعتقاد يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية. فهو يشمل عقائد الإيمان، وأخلاقه، وأعماله، فالإقرار والاعتراف بما لله تعالى: من الأسماء الحسنى، والصفات الكاملة العليا، والأفعال الناشئة عن أسمائه وصفاته، وهو من أعظم أصول الإيمان، وكذلك الاعتراف بما لله من الحقوق الخاصة - وهو-: التأله والتعبد لله ظاهرًا وباطنًا- من أصول الإيمان والاعتراف بما أخبر الله به عن ملائكته وجنوده، والموجودات السابقة واللاحقة؛ والإخبار باليوم الآخر، كل هذا من أصول الإيمان (2).
__________
(1) التوضيح والبيان لشجرة الإيمان، للسعدي (9).
(2) انظر المرجع السابق (10).(1/219)
وكذلك الإيمان بجميع الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- وما وصفوا به
في الكتاب والسنة من الأوصاف الحميدة، كل هذا من أصول الإيمان. كما أن أعظم
أصول الإيمان: الاعتراف بانفراد الله بالوحدانية والألوهية، وعبادة الله وحده لا شريك له، وإخلاص الدين لله، والقيام بشرائع الإسلام الظاهرة، وحقائقه الباطنة كل هذا من أصول الإيمان ولهذا رتب الله على الإيمان دخول الجنة والنجاة من النار، ورتب عليه رضوانه والفلاح والسعادة. ولا يكون ذلك إلا بما ذكرنا: من شموله للعقائد وأعمال القلوب، وأعمال الجوارح, لأنه متى فات شيء من ذلك، حصل من النقص وفوات الثواب، وحصول العقاب - بحسبه.
بل أخبر الله تعالى: أن الإيمان المطلق تنال به أرفع المقامات في الدنيا، وأعلى المنازل في الآخرة، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الحديد: 19].
والصديقون هم أعلى الخلق درجة بعد درجة الأنبياء في الدنيا، وفي منازل الآخرة، وأخبر في هذه الآية، أن من حقق الإيمان به وبرسله، نال هذه الدرجة ويفسر ذلك ويوضحه ما ثبت في الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن أهل الجنة ليتراءون الغرف في الجنة، كما تراءَوْن الكوكب الشرقي أو الغربي في الأفق؛ لتفاضل ما بينهم؛ فقالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، قال: بلى والذي نفسي بيده؛ رجال آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين " (1).
وإيمانهم بالله وتصديقهم للمرسلين: في ظاهرهم وباطنهم، في عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم، وفي كمال طاعتهم لله ولرسله، فقيامهم بهذه الأمور، به يتحقق إيمانهم بالله وتصديقهم للمرسلين، وقد أمر الله في كتابه بهذا الإيمان العام الشامل، وما يتبعه: من الانقياد والاستسلام؛ وأثنى على من قام به، فقال في أعظم آيات الإيمان: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، رقم (6556)، ومسلم كتاب الجنة، باب ترائي أهل الجنة أهل الغرف رقم (2830).(1/220)
وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136].
فأمر الله عباده بالإيمان بجميع هذه الأصول العظيمة والإيمان الشامل بكل كتاب أنزله الله، وبكل رسول أرسله الله؛ والإخلاص والاستسلام والانقياد له وحده بقوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} كما أثنى على المؤمنين في آخر السورة بالقيام بذلك، فقال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285].
فأخبر: أن الرسول ومن معه من المؤمنين، آمنوا بهذه الأصول ولم يفرقوا بين أحد من الأنبياء؛ بل آمنوا بهم جميعًا، وبما أوتوه من عند الله؛ وأنهم التزموا طاعة الله، فقالوا: سمعنا وأطعنا؛ وطلبوا من ربهم: أن يحقق لهم ذلك وأن يعفو عن تقصيرهم ببعض حقوق الإيمان، وأن مرجع الخلائق كلهم ومصيرهم إلى الله يجازيهم بما قاموا به من حقوق الإيمان، وما ضيعوه منها كما قال تعالى عن أتباع الأنبياء عيسى وغيره أنهم قالوا: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 53] فآمنوا بقلوبهم، والتزموا بقلوبهم، وانقادوا بجوارحهم؛ وسألوا الله أن يكتبهم مع الشاهدين له بالتوحيد وأن يحقق لهم القيام به: قولاً وعملاً واعتقادًا.
وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 2 - 4].
الصلاة فرضها ونفلها: يقيمونها ظاهرًا وباطنًا، ويؤتون الزكاة، وينفقون النفقات الواجبة والمستحبة، ومن كان على هذا الوصف فلم يبق من الخير مطلبًا، ولا من الشر مهربًا.
ولهذا قال: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}، الذين يستحقون هذا الوصف على الحقيقة، ويحققون القيام به ظاهرًا وباطنًا، ثم ذكر ثوابهم الجزيل -المغفرة المتضمنة(1/221)
لزوال كل شر ومحذور ورفعة الدرجات عند ربهم، والرزق الكريم المتضمن من النعم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 1 إلى 11].
ففسر الله الإيمان في هذه الآيات بجميع هذه الخصال فإنه أخبر بفلاح المؤمنين، ثم وصفهم بقوله: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} إلى آخر الآيات المذكورة- فمن استكمل هذه الأوصاف فهو المؤمن حقًّا، ومضمونها: القيام بالواجبات الظاهرة والباطنة، واجتناب المحرمات والمكروهات، وبتكميلهم للإيمان استحقوا أن يكونوا ورثة جنات الفردوس التي هي أعلى الجنات؛ كما أنهم قاموا بأعلى الكمالات.
وهذه صريحة في أن الإيمان يشمل عقائد الدين، وأخلاقه، وأعماله الظاهرة والباطنة، ويترتب على ذلك: أنه يزيد بزيادة هذه الأوصاف والتحقق بها، وينقص بنقصها؛ وأن الناس في الإيمان درجات متفاوته بحسب تفاوت هذه الأوصاف (1).
ولهذا كانوا ثلاث درجات: سابقون مقربون، وهم الذين قاموا بالواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات، وفضول المباحات، ومقتصدون، وهم: الذين قاموا بالواجبات، وتركوا المحرمات، وظالمون لأنفسهم، وهم: الذين تركوا بعض واجبات الإيمان، وفعلوا بعض المحرمات، كما ذكرهم الله بقوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32] وقد يعطف الله على الإيمان، الأعمال الصالحة أو التقوى أو الصبر، للحاجة إلى ذكر المعطوف، لئلا يظن الظان أن الإيمان
__________
(1) انظر: التوضيح والبيان، ص (16).(1/222)
يكتفى فيه بما في القلب فكما في القرآن من قوله: {إِنَّ الَذِينَ آمَنوا وَعَمِلوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة: 277] ثم يذكر خيرًا عنهم، والأعمال الصالحات من الإيمان فمن ادعى أنه مؤمن: وهو لم يعمل بما أمر الله به ورسوله من الواجبات، وترك المحرمات فليس بصادق في إيمانه وهذا من وسطية القرآن واستقامته واعتداله وحكمته في هذا الباب.
كما يقرن بين الإيمان والتقوى، في مثل قوله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62 - 63] فذكر الإيمان الشامل لما في القلوب من العقائد والإرادات الطيبة، والأعمال الصالحة، ولا يتم للمؤمن ذلك حتى يتقي ما يسخط الله من الكفر والفسوق والعصيان، ولهذا حقق ذلك بقوله: {وَكَانُوا يَتَّقُونَ} كما وصف الله بذلك خيار خلقه، بقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات: 7 - 8] فهذه أكبر المنن؛ أن يحبب الله الإيمان للعبد، ويزينه في قلبه، ويذيقه حلاوته، وتنقاد جوارحه للعمل بشرائع الإسلام، ويبغض الله إليه أصناف المحرمات والله عليم بمن يستحق أن يتفضل عليه بهذا الفضل، حكيم في وضعه في محله اللائق به.
كما ثبت في الصحيح من حديث أنس - رضي الله عنه - أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: " ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يرجع عن دينه، كما يكره أن يقذف في النار " (1) فذكر أصل الإيمان الذي هو محبة الله ورسوله؛ ولا يكتفي بمطلق المحبة، بل لا بد أن تكون محبة لله مقدمة على جميع المحاب، وذكر تفريعها: بأن يحب لله، ويبغض لله فيحب الأنبياء والصديقين، والشهداء والصالحين؛ لأنهم قاموا
__________
(1) رواه مسلم، شرح النووي، كتاب الإيمان، باب الحياء، شعبة الإيمان (2/ 6).(1/223)
بمحاب الله واختصهم من بين خلقه، وذكر دفع ما يناقضه، وأنه يكره أن يرجع عن دينه أعظم كراهة، تقدر أعظم من كراهة إلقائه في النار.
وأخبر في هذا الحديث أن للإيمان حلاوة في القلب, إذا وجدها العبد سلته عن المحبوبات الدنيوية، وعن الأعراض النفسية، وأوجبت له الحياة الطيبة, فإن من أحب الله ورسوله لهج بذكر الله طبعًا -فإن من أحب شيئًا أكثر من ذكره- واجتهد في متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقدم متابعته على كل قول، وعلى إرادة النفوس وأغراضها، من كان كذلك فنفسه مطمئنة مستحلية للطاعات، قد انشرح صدر صاحبها للإسلام، فهو على نور من ربه، وكثير من المؤمنين لا يصل إلى هذه المرتبة العالية: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ ممَّا عَمِلُوا} [الأنعام: 132].
وكذلك في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " الإيمان بضع وسبعون شعبة؛ أعلاها قول: لا إله إلا الله؛ وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان ". وهذا صريح أن الإيمان يشمل أقوال اللسان، وأعمال الجوارح، والاعتقادات والأخلاق، والقيام بحق الله، والإحسان إلى خلقه، فجمع في هذا الحديث بين أعلاه وأصله وقاعدته وهو قول: لا إله إلا الله؛ اعتقادًا وتألها، وإخلاصها لله بين أدناه، وهو إماطة العظم والشوكه وكل ما يؤذي، عن الطريق فكيف بما فوق ذلك: من الإحسان وذكر الحياء، والله أعلم: لأن الحياء به حياة الإيمان، وبه يدع العبد كل فعل قبيح كما به يتحقق كل خلق حسن، وهذه الشعب -المذكورة في هذا الحديث- هي جميع شرائع الدين الظاهرة والباطنة. وهذا -أيضًا- صريح في أن الإيمان يزيد وينقص بحسب زيادة هذه الشرائع والشعب واتصاف العبد بها أو عدمه، ومن المعلوم أن الناس يتفاوتون فيها تفاوتًا كبيرًا، فمن زعم: أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص فقد خالف الحس مع مخالفته لنصوص الشارع كما ترى (1).
__________
(1) انظر: التوضيح والبيان (23).(1/224)
والانقياد لحكم الله ورسوله من علامات الإيمان قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] فأقسم تعالى أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا رسوله، ولا يبقى في قلوبهم حرج وضيق من حكمه وينقادوا له انقيادًا، وينشرحوا لحكمه، وهذا شامل في تحكيمه في أصول الدين، وفي فروعه، وفي الأحكام الكلية، والأحكام الجزئية (1). وفي صحيح البخاري عن أنس مرفوعًا: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه " (2) وذلك يقتضي أن يقوم بحقوق إخوانه المسلمين الخاصة والعامة, فإنه من الإيمان ومن لم يقم بذلك ويحب لهم ما يحب لنفسه, فإنه لم يؤمن الإيمان الواجب؛ بل نقص إيمانه بقدر ما نقص من الحقوق الواجبة عليه (3).
وفي صحيح مسلم من حديث العباس بن عبد المطلب (4) - رضي الله عنه - قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: " ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا " (5).
والرضا بذلك يقتضي الفرح بذلك، والسرور بربوبية الله له، وحسن تدبيره وأفضليته عليه، وأن يرضى بالإسلام دينًا، ويفرح به، ويحمد الله على هذه النعمة التي هي أكبر المنن، حيث رضي الله له الإسلام ووفقه له، واصطفاه له ويرضى بمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيًّا, إذ هو أكمل الخلق، وأعلاهم في كل صفة كمال، وأمته وأتباعه أكمل الأمم وأعلاهم، وأرفعهم درجة في الدنيا والآخرة.
فالرضا بنبوة الرسول ورسالته، واتباعه من أعظم ما يثمر الإيمان، ويذوق به العبد حلاوته، قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]
__________
(1) انظر: التوضيح والبيان (23).
(2) رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب من الأيمان أن يحب لأخيه (1/ 11).
(3) انظر: التوضيح والبيان، (24).
(4) هو العباس بن عبد المطلب بن هشام بن عبد مناف بن قصي القرشي أبو الفضل عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، أسلم قبل عام الفتح، وقدمه عمر في صلاة الاستسقاء، وتوفي عام (32 هـ).
(5) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب من رضي بالله وبالإسلام، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - (1/ 62).(1/225)
قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].
فكيف لا يرضى المؤمن بهذا الرسول الكريم الرءوف الرحيم؛ الذي أقسم الله أنه لعلى خلق عظيم، وأشرف مقام للعبد انتسابه لعبودية الله، واقتداؤه برسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومحبته واتباعه؛ وهذا علامة محبة الله؛ وباتباعه تتحق المحبة والإيمان. قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31].
وفي صحيح مسلم من حديث سفيان بن عبد الله الثقفي قال قلت: " يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً، لا أسأل عنه أحدًا بعدك، قال: قل: آمنت بالله، ثم استقم " (1).
فبين - صلى الله عليه وسلم - بهذه الوصية الجامعة أن العبد إذا اعترف بالإيمان ظاهرًا وباطنًا، ثم استقام عليه قولاً وعملاً وفعلاً وتركًا، فقد كمل أمره، واستقام على الصراط المستقيم، ورجي له فلاح الدارين. وبعد هذا العرض الموجز لمفهوم الإيمان كما جاء في القرآن ووضحته أحاديث سيد ولد عدنان عليه أفضل الصلاة والسلام يتضح لنا مفهوم الإيمان بعيدًا على من أنكره جملة كالملاحدة أو انحرف في فهم حقيقته كالفلاسفة أو حرفوه عن أصله كاليهود أو ضلوا عن تصور معانيه والوقوف على ماهيته كالنصارى وبذلك يتضح لنا مفهوم الإيمان ووسطية واستقامة واعتدال القرآن في عرضه.
وابتعدت عن أقوال من وقع في البدع في حقيقة هذا الجانب من المعتزلة والخوارج والمرجئة والجهمية واكتفيت بقول واعتقاد أهل السنة والجماعة الذين هم الصحابة - رضي الله عنهم -، وكل من سلك نهجهم من خيار التابعين رحمة الله عليهم، ثم أصحاب الحديث ومن تبعهم من الفقهاء جيلاً فجيلاً إلى يومنا هذا ومن اقتدى بهم من العوام في شرق الأرض وغربها رحمة الله عليهم (2).
__________
(1) مسلم، كتاب الإيمان، باب جامع أوصاف الإسلام (1/ 65).
(2) انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل (2/ 113).(1/226)
وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النجاة لا تكون إلا لمن كان على ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ومن تابعهم إلى يوم الدين قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ... وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا واحدة قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي " (1)
ثانيًا: منهج القرآن في الأمور التي يستمد منها الإيمان:
بما أن الإيمان أعظم المطالب وأهمها وأعمها؛ لذلك جعل الله له مواد كبيرة تجلبه وتقويه، كما أنه له أسباب تضعفه وتوهيه.
والمواد التي تجلبه وتقويه أمران: مجمل ومفصل أما المجمل فهو: التدبر لآيات الله المتلوة: من الكتاب والسنة؛ والمتأمل لآياته الكونية على اختلاف أنواعها، والحرص على معرفة الحق الذي خلق له العبد، والعمل بالحق؛ فجميع الأسباب مرجعها إلى هذا الأصل العظيم.
وأما التفصيل: فالإيمان يحصل ويقوى بأمور كثيرة: منها بل أعظمها:
أولاً: معرفة أسماء الله الحسنى الواردة في الكتاب والسنة، والحرص على فهم معانيها، والتعبد لله فيها، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180] فالتأمل في أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى من منهج الوسطية والإلحاد في أسمائه وصفاته خروج عن منهج الوسطية الذي رسمه القرآن: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110] والذين يصفون الله بغير ما وصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، يلحدون في آيات الله، وهذا انحراف عن الصراط المستقيم: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} [فصلت: 40] ولذلك فإن الحرص على معرفة أسماء الله الحسنى وفهم معانيها يزيد الإيمان.
فقد ثبت في الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إن لله تسعة وتسعين اسمًا -مائة
__________
(1) رواه الترمذي: كتاب الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة (5/ 26) رقم الحديث (2641) وحسنه.(1/227)
إلا واحدًا- من أحصاها، دخل الجنة " (1) أي من حفظها، وفهم معانيها، واعتقدها، وتعبد الله بها دخل الجنة، والجنة لا يدخلها إلا المؤمنون فاعلم: أن ذلك أعظم ينبوع ومادة لحصول الإيمان وقوته وثباته؛ معرفة الأسماء الحسنى هي أصل الإيمان، والإيمان يرجع إليها.
ومعرفتها تتضمن أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وهذه الأنواع هي روح الإيمان وروحه، وأصله وغايته.
فكلما ازداد العبد معرفة بأسماء الله وصفاته، ازداد إيمانه وقوي يقينه، فينبغي للمؤمن: أن يبذل مقدوره ومستطاعه في معرفة الأسماء والصفات، وتكون معرفته سالمة من داء التعطيل، ومن داء التمثيل اللذين ابتلي بهما كثير من أهل البدع المخالفة لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - بل تكون المعرفة متلقاة من الكتاب والسنة، وما روي عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان فهذه المعرفة النافعة التي لا يزال صاحبها في زيادة في إيمانه وقوة يقينه، وطمأنينة في أحواله (2).
ويعجبني في هذا المقام كلام نفيس للعلامة ابن القيم رحمه الله حيث يقول: (ومشهد الأسماء والصفات من أجَلَّ المشاهد والمطلع على هذا المشهد يعرف أن الوجود متعلق خلقًا وأمرًا بالأسماء الحسنى والصفات العلى، ومرتبط بها وإن كل ما في العالم بما فيه من بعض آثارها ومقتضياتها فاسمه الحميد، المجيد، يمنع ترك الإنسان سدى مهملاً معطلاً، لا يؤمر ولا ينهى، ولا يثاب ولا يعاقب، وكذلك اسمه (الحكيم) يأبى ذلك، وهكذا فكل اسم من أسمائه له موجبات وله صفات لا ينبغي تعطيلها عن كمالها ومقتضياتها والرب تعالى يحب ذاته وأوصافه وأسماؤه، فهو عفو يحب العفو، ويحب المغفرة، ويحب التوبة، ويفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه أعظم فرح يخطر بالبال.
وكان تقدير ما يغفره ويعفو عن فاعله، ويحلم عنه، ويتوب عليه ويسامحه
__________
(1) البخاري مع الفتح، كتاب الدعوات، باب لله مائة اسم (11/ 218)، رقم الحديث (6410).
(2) انظر: التوضيح والبيان (41).(1/228)
بموجب أسمائه وصفاته، وحصول ما يحبه ويرضاه من ذلك، وما يحمد به نفسه ويحمد به أهل سمواته وأهل أرضه، وما هو من موجبات كماله ومقتضى حمده وهو سبحانه الحميد المجيد، وحمده ومجده يقتضيان آثارهما ومن آثارهما: مغفرة الزلات وإقالة العثرات، والعفو عن السيئات أو المسامحة عن الجنايات مع كمال القدرة على استيفاء الحق، والعلم منه سبحانه بالجناية ومقدار عقوبتهما فحلمه بعد علمه، وعفوه بعد قدرته، ومغفرته عن كمال عزته وحكمته كما قال عيسى عليه السلام في القرآن: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] أي فمغفرتك عن كمال قدرتك وحكمتك لست كمن يغفر عجزًا، ويسامح جهلاً بقدر الحق؛ بل أنت عليم بحقك، قادر على استيفائه حكيم في الأخذ به، فمن تأمل سريان آثار الأسماء والصفات في العالم، وفي الأمر يتبين له أن مصدر قضاء هذه الجنايات من العبيد، وتقديرها هو في كمال الأسماء والصفات والأفعال وغايتها أيضًا مقتضى حمده ومجده، كما هو مقتضى ربوبيته وإلهيته، فلله في كل ما قضاه وقدره الحكمة البالغة، والآيات الباهرة.
والله سبحانه دعا عباده إلى معرفته بأسمائه وصفاته وأمرهم بشكره ومحبته وذكره وتعبدهم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى لأن كل اسم له تعبد مختص به، علمًا ومعرفة وحالاً، وأكمل الناس عبودية: المتعبد بجميع الأسماء والصفات التي يطلع عليها البشر فلا يحجبه اسم عن اسم آخر، كما لا يحجبه التعبد باسمه (القدير) عن التعبد باسمه (الحليم الرحيم) أو يحجبه عبودية اسمه (المعطي) عن عبودية اسمه (المانع) أو عبودية اسمه (الرحيم، العفو، والغفور) عن اسم المنتقم أو التعبد بأسماء (البر، والإحسان، واللطف) عن أسماء العدل والجبروت، والعظمة والكبرياء وهذه طريقة الكمال من السائرين إلى الله، وهي طريقة مشتقة من قلب القرآن قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] والدعاء بها يتناول دعاء المسألة ودعاء الثناء ودعاء التعبد (1) وهو سبحانه يدعو عباده إلى أن يعرفوه بأسمائه وصفاته ويثنو عليه بها، ويأخذوا بحظهم من عبوديتها.
__________
(1) انظر: مدارج السالكين (2/ 417 - 418 - 419).(1/229)
فالله تعالى يحب موجب أسمائه وصفاته، فهو عليم يحب كل عليم وهو (جواد) يحب كل جواد، (وتر) يحب الوتر (جميل يحب الجمال) عفو يحب العفو وأهله (حيي) يحب الحياة وأهله (بر) يحب الأبرار (شكور) يحب الشاكرين (صبور) يحب الصابرين (حليم) يحب أهل الحلم، فلمحبته سبحانه للتوبة والمغفرة، والعفو والصفح خلق من يغفر لهم ويتوب عليهم ويعفو عنهم، وقدر عليهم ما يقتضي وقوع المكروه المبغوض له، ليترتب عليه المحبوب له المرضي له (1).
وظهور أسماء الله وصفاته في هذه الحياة وفي النفس البشرية وفي الكون كله واضح، لا يحتاج إلى دليل، إلا أن الاهتداء إلى تلك الآثار أو الانتباه لها يتوقف على توفيق الله تعالى، بل إن التوفيق نفسه من آثار رحمته التي وسعت كل شيء فلو فكر الإنسان في هذا الكون الفسيح وفي نفسه لرجع من هذه الجولة الفكرية، بعجائب واستفاد منها فوائد ما كان يحلم بها ولو تأملنا هذه الآية الكريمة لرأينا أمورًا تعجز عن التعبير عنها قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 115 - 116] ومما يدلل ويؤكد أهمية هذا التوحيد هو ما تثمره أسماء الله وصفاته في قلب المؤمن من زيادة الإيمان ورسوخ في اليقين، وما تجلبه له من النور والبصيرة التي تحفظه من الشبهات المضلله والشهوات المحرمة (2).
فهذا العلم إذا رسخ في القلب أوجب خشية الله لا محالة، فلكل اسم من أسماء الله تأثير معين في القلب والسلوك، فإذا أدرك القلب معنى الاسم وما تضمنه واستشعر ذلك، تجاوب مع هذه المعاني وانعكست هذه المعرفة على تفكيره وسلوكه ولكل صفة عبودية خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها فالأسماء الحسنى والصفات العلى مقتضية لآثارها من العبودية، وهذا مطرد في جميع أنواع العبودية التي على القلب والجوارح فمثلاً: عِلْمُ العبد بتفرد الرب تعالى بالضر والنفع والعطاء والمنع
__________
(1) انظر: مدارج السالكين (2/ 420).
(2) انظر: دراسات في مباحث توحيد الأسماء والصفات، للتميمي (14 - 15).(1/230)
والخلق والرزق والإحياء والإماته يثمر له عبودية التوكل عليه باطنًا، ولوازم التوكل وثمراته ظاهرًا، وعلمه بسمعه تعالى وبصره وعلمه وأنه لا يخفى عليه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وأنه يعلم السر وأخفى ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور يثمر له حفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه عن كل ما لا يرضي الله، وأن يجعل تعلق هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه فيثمر له ذلك الحياء باطنًا، ويثمر له الحياء اجتناب المحرمات والقبائح، ومعرفته بغناه وجوده وكرمه وبره وإحسانه ورحمته توجب له سعة الرجاء ويثمر له ذلك من أنواع العبودية الظاهرة والباطنة بحسب معرفته وعلمه (1).
وكذلك معرفته بجلال الله وعزه تثمر له الخضوع والاستكانة والمحبة، وتثمر له تلك الأحوال الباطنة أنواعًا من العبودية الظاهرة هي موجباتها، وكذلك علمه بكماله وجماله وصفاته العلى وجب له محبة خاصة بمنزلة أنواع العبودية فرجعت العبودية إلى مقتضى الأسماء والصفات وارتبطت بها (2).
وهذه الأحوال التي تتصف بها القلوب: هي أكمل الأحوال وأجل وصف يتصف به القلب وينصبغ به، ولا يزال العبد يمرن نفسه عليها حتى تنجذب نفسه وروحه بدواعيه منقادة راغبة وبهذه الأعمال القلبية تكمل الأعمال البدنية فنسأل الله أن يملأ قلوبنا من معرفته ومحبته والإنابة إليه, فإنه أكرم الأكرمين، وأجود الأجودين (3).
لكل صفة من صفة الله أثر في قلب المؤمن.
وقد يظن بعض الذين يدعون العلم، وممن لا حظ لهم من علوم الشريعة، أن معرفة أسماء الله وصفاته لا تؤثر في الإيمان بالله من حيث الزيادة والنقصان ولا تؤثر في القلوب، ولذلك لا فائدة من معرفتها أو جهلها أو إثباتها أو إنكارها، وقد توسع في هذا الجانب الفلاسفة الذين وصفوا الله تعالى بصفات من عند أنفسهم
__________
(1) انظر: مفتاح دار السعادة، لابن القيم (2/ 90).
(2) انظر: مفتاح دار السعادة، لابن القيم (2/ 90).
(3) انظر: القواعد الحسان، للسعدي، (130).(1/231)
وأنكروا وجحدوا ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - فانحرفوا عن منهج الوسطية ووقعوا في الإفراط والتفريط وابتعدوا عن الصراط المستقيم ومنهج الاعتدال الذي بينه القرآن الكريم.
ومما لا ريب فيه أنه ليست هناك صفة لله في القرآن أو في السنة إلا وقد ساقها الله تعالى لحكمة ومنفعة وغاية ولولا ذلك لما ساقها ولما ذكرها لأن كلامه وكلام رسوله ينزه عن العبث واللغو والحشو. ومن ظن أن الله يحشو كلامه بما لا فائدة في ذكره أو لا غاية من ورائه أو لا أهمية له فقد اتهم الله بالنقص واللغو.
ولبيان أن لكل صفة من صفات الله أثرًا في قلب المؤمن سنبين ذلك ببعض التفاصيل من حيث إن لكل صفة في القلب أثرًا يتضح ذلك ويخرج في السلوك البشري، فلا توجد صفة من صفات الله إلا ولها أثر وفائدة، وإنما الذي ينكر الأثر هم الجهلة والجاحدين أما علماء أهل السنة والجماعة فبينوا ذلك الأمر بيانًا أوضح من الشمس في رابعة النهار.
أثر صفة العظمة:
وهذه الصفة مشتقة من اسمه تعالى العظيم، والعظمة صفة من صفاته لا يقوم لها خلق، والمقصود أن عظمة الله سبحانه لا يمكن أن يتصف بها أحد من خلقه والله خلق بين الخلق عظمة يعظم بها بعضهم بعضًا، فمن الناس من يعظم لمال، ومنهم من يعظم لفضل، ومنهم من يعظم لعلم، ومنهم من يعظم لسلطان، ومنهم من يعظم لجاه، وكل واحد من الخلق إنما يعظم لمعنى دون معنى، والله عز وجل يعظم في الأحوال كلها، فينبغي لمن عرف حق عظمته سبحانه أن لا يتكلم بكلمة يكرهها الله، ولا يرتكب معصية لا يرضاها الله.
فإذا شعر العبد بعظمة الله خاف مولاه واتقاه ورغب في مرضاته سبحانه وتعالى، والحديث الدال على صفة العظمة قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يقول تبارك وتعالى: العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني واحدًا منهما قذفته في النار " (1).
__________
(1) أخرجه ابن ماجه، كتاب الزهد، باب البراءة من الكبر (2/ 1397)، رقم الحديث (4175)، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله.(1/232)
أثر صفة يد الله:
ومن الصفات التي جحدتها قلوب النفاة وأنكرها الزنادقة قديمًا، وصف الله نفسه سبحانه بأن له يَدَيْن، وهذا ما قد مدح الله به نفسه في آيات كثيرة من كتابه، وقد مدحه بها النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرة وهي تدخل في صفات الله الذاتية، وقد بين سبحانه في الآيات والأحاديث عظمة عطائه وسعة فضله وأن يده الكريمة جل وعلا دائمة العطاء والإنفاق، وفي مجال قوته وجبروته وبطشه وكمال قدرته وبيان عظمته أن السموات والأرض يوم القيامة تكون بيمينه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67].
ولا شك أن أثر الإيمان بهذه الصفة في قلب المؤمن عظيم؛ لأنه يورث القلب المهابة لله والخوف منه وتعظيم أمره، وشأنه وأنه الملك الذي قهر الملوك، وأنه لا مفر من قبضته، ولا ملجأ منه إلا إليه.
أثر اسم الله الحميد:
وهذا الاسم يتضمن لصفة الحمد بكل أنواعه، فهي صفة ذاتية لله عز وجل لا تنفك عنه وتظهر آثارها باستمرار في كل لحظة، ومعناها أنه سبحانه مستحق لكل أنواع الحمد, لأنه المحمود في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وليس ذلك لأحد سواه سبحانه، كما يبدو لي أن العبد لا بد أن يسلك في حياته سلوكًا يحمد عليه, لأن أعماله جميعًا يجب أن تكون خالصة للحميد، ولو أن كل فرد تحرى أن يكون عمله حميدًا لصلح أمر الناس في الدنيا والآخرة، ولاختفت المنازعات فيما بينهم والخصومات ولعاشوا جميعًا إخوة في الله متحابين (1).
أثر اسم الله المهيمن:
ومن آثار هيمنته سبحانه أنه يملك أن يتصرف في خلقه كيف يشاء؛ لأنه ملكهم
__________
(1) انظر: مفهوم الأسماء والصفات، مقال في مجلة الجامعة الإسلامية العدد (59): 70 - 79.(1/233)
والمالك من حقه أن يتصرف في ملكه بكافة أنواع التصرف من نماذج هذه التصرفات ما ذكره الله تنبيهًا وتذكيرًا باستمرار وشمول هيمنته على خلقه سبحانه وتعالى (1) قال تعالى:
{قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 63 - 65] وإذا شعر القلب بهيمنة ربه عليه لجأ إليه وطلب العون منه لدفع ضر أو جلب نفع، والآيات في هذا الباب كثيرة، وكذلك أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
أثر صفة العلو في قلب العبد:
إذا أيقن العبد أن الله تعالى فوق السماء، عال على عرشه بلا حصر، ولا كيفية، وأنه الآن في صفاته كما كان في قدمه، كان لقلبه في صلاته وتوجهه، ودعائه.
ومن لا يعرف ربه بأنه فوق السماء على عرشه, فإنه يبقى ضائعًا لا يعرف وجهة معبوده، ولكن ربما عرفه بسمعه، وبصره وقدمه وتلك بلا هذا معرفة ناقصة، بخلاف من عرف أن إلهه الذي يعبده فوق الأشياء، فإذا دخل في الصلاة وكبر وتوجه قلبه إلى جهة العرش منزهًا له تعالى، مفردًا له كما أفرده في قِدَمِه وألوهيته واعتقد أنه في علوه قريب من خلقه، وهو معهم بعلمه وسمعه وبصره وإحاطته وقدرته ومشيئته، وذاته، فوق الأشياء، فوق العرش، ومتى شعر قلبه بذلك في الصلاة أشرق قلبه، واستنار، وأضاء بأنوار المعرفة والإيمان وعكفت أشعة العظمة على قلبه وروحه، ونفسه، فانشرح لذلك صدره، وقوي إيمانه، ونزه ربه عن صفات خلقه، من الحصر والحلول، وذاق حينئذ شيئًا من أذواق السابقين المقربين (2).
__________
(1) المرجع السابق (70 - 79).
(2) انظر: النصيحة في صفة الرب جل وعلا للواسطي (50).(1/234)
أثر صفة السمع:
قال تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1].
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (الحمد لله وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلمه وأنا في ناحية البيت، ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عز وجل {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا ... } (1).
أقول: لو أن دارس الأسماء والصفات ومدرسيها تأملوا ما دلت عليه هذه الصفات وأشعر المرء نفسه أنه مراقب في جميع أحواله وأن ما ينطق به لسانه يسمعه خالقه من فوق سبع سموات في حينه وأنه سيجازيه على ذلك لانعكس على سلوكه وأخلاقه وأعماله وسيرته في مجتمعه، ولظهرت الأخلاق الربانية وأصبح الشخص لله وليًّا يمشي على وجه الأرض، ولشعرنا أن الأخلاق الرفيعة ثمرة من ثمرات التوحيد، وبقدر ما يملك العبد من الإيمان والتوحيد ينعكس ذلك ويظهر على أخلاقه.
ولا بد أن نراعي قواعد السلف عند تأملنا وتفكرنا في أسماء الله وصفاته التي تزيدنا إيمانًا بالله العلي العظيم، ويعجبني في هذا المقام أن أكتب ما كان يقوله ويكرره شيخي الفاضل عبد المحسن العباد في دروسه بالمدينة النبوية (المذهب الحق وسط بين الطرفين في قضية الإثبات، فلا نفي ولا تأويل، وفيه التنزية فلا تشبيه ولا تمثيل، وكل من المشبهة والنفاة جمعوا بين إساءة وإحسان).
فالمشبهة: أحسنوا إذ أثبتوا فلم ينفوا الصفات، وأساءوا إذ شبهوا ومثلوا، وأهل السنة والجماعة جمعوا بين الحسنيين وسلموا من الإساءتين، فالإحسان الذي عند الطرفين عندهم، وليس عندهم ما عند كل من الإساءة وذلك أنهم أثبتوا ما أثبت في الكتاب والسنة من الصفات، ونزهوا الله عن مشابهة خلقه، وكما قال تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشوري: 11] فأول الآية تنزيه وآخرها إثبات، فمثل
__________
(1) البخاري مع الفتح، كتاب التوحيد، باب وكان الله سميعًا بصيرًا، (13/ 384).(1/235)
هذا المذهب الحق بالنسبة إلى الطرفين المتقابلين كاللبن السائغ للشاربين الذي يخرج من بين فرث ودم (1).
ثانيًا: تدبر القرآن على وجه العموم:
فإن المتدبر لا يزال يستفيد من علوم القرآن ومعارفه، ما يزداد به إيمانًا، كما قال تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2] وكذلك إذا نظرنا إلى انتظامه، وإحكامه؛ وأنه يصدق بعضه بعضًا، ويوافق بعضه بعضًا، ليس فيه تناقض ولا اختلاف: تيقن أنه تنزيل من حكيم حميد: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42] وأنه لو كان من عند غير الله، لوجد فيه -من التناقض والاختلاف- أمور كثيرة، قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] وهذا من أعظم مقويات الإيمان، ويقويه من وجوه كثيرة: فالمؤمن بمجرد ما يتلو آيات الله، ويعرف ما فيها من الأخبار الصادقة، والأحكام الحسنة - يحصل له من أمور الإيمان، خير كبير فكيف إذا أحسن تأمله، وفهم مقاصده وأسراره؟! ولهذا كان المؤمنون الكمل يقولون: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} [آل عمران: 193].
ثالثًا: معرفة أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وما تدعو إليه من علوم الإيمان وأعماله:
كلها من محصلات الإيمان ومقوياته، فكلما ازداد العبد معرفة بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ازداد إيمانه ويقينه، وقد يصل في علمه وإيمانه إلى مرتبة اليقين، فقد وصف الله الراسخين في العلم، الذين حصل لهم العلم التام القوي الذي يدفع الشبهات والريب، ويوجب اليقين التام، ولهذا كانوا سادة المؤمنين الذين استشهد الله بهمِ واحتج بهم على غيرهم من المرتابين والجاحدين، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7].
__________
(1) عشرون حديثًا من صحيح مسلم، لعبد المحسن العباد (177 - 178).(1/236)
فالراسخون زال عنهم الجهل والريب وأنواع الشبهات، وردوا المتشابه من الآيات إلى المحكم منها، وقالوا: آمنا بالجميع، فكلها من عند الله؛ وما منه، وما تكلم به وحكم به كله صدق وحق. وقال تعالى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [النساء: 162].
وقال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18] ولعلمهم بالقرآن العلم التام، وإيمانهم الصحيح استشهد بهم في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الروم: 56] وأخبر تعالى في عدة آيات، أن القرآن آيات للمؤمنين وآيات للموقنين, لأنه يحصل لهم بتلاوته وتدبره -من العلم واليقين والإيمان- بحسب ما فتح الله عليهم منه، فلا يزالون يزدادون علمًا وإيمانًا ويقينًا (1).
رابعًا: ومن طرق موجبات الإيمان وأسبابه -معرفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعرفة ما هو عليه من الأخلاق العالية، والأوصاف الكاملة, فإن من عرفه حق المعرفة لم يرتب في صدقه وصدق ما جاء به من الكتاب والسنة والدين الحق كما قال تعالى: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} [المؤمنون: 69].
فمعرفته - صلى الله عليه وسلم - توجب للعبد المبادرة إلى الإيمان بما لم يؤمن به، وزيادة الإيمان بما آمن به. وقال تعالى حاثًّا لهم على تدبر أحوال الرسول الداعية للإيمان: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46].
وأقسم تعالى بكمال هذا الرسول وعظمة أخلاقه، وأنه أكمل مخلوق بقوله: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 1 - 4] فهو - صلى الله عليه وسلم - أكبر داعٍ للإيمان في أوصافه الحميدة،
__________
(1) انظر: التوضيح والبيان (42 - 43).(1/237)
وشمائله الجميلة، وأقواله الصادقة النافعة، وأفعاله الرشيدة فهو الإمام الأعظم، والقدوة الأكمل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7].
وقد ذكر الله عن أولي الألباب الذين هم خواص الخلق أنهم قالوا: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا} وهو هذا الرسول الكريم {يُنَادِي لِلإيمَان} بقوله وخلقه وعمله ودينه، وجميع أحواله {أَنْ آمِنُوا بِرَبكُمْ فَآمَنَّا} [آل عمران: 192] أي: إيمانًا لا يدخله ريب.
ولما كان هذا الإيمان من أعظم ما يقرب العبد إلى الله، ومن أعظم الوسائل التي يحبها الله - توسلوا بإيمانهم أن يكفر عنهم السيئات وينيلهم المطالب العاليات، فقالوا: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران: 193].
ولهذا كان الرجل المنصف -الذي ليس له إرادة إلا اتباع الحق مجرد ما يراه ويسمع كلامه- يبادر إلى الإيمان به - صلى الله عليه وسلم -، ولا يرتاب في رسالته بل كثير منهم - مجرد ما يرى وجهه الكريم- يعرف أنه ليس بوجه كذاب وقيل لبعضهم: (لِمَ بادرت إلى الإيمان بمحمد قبل أن تعرف رسالته؟ فقال: ما أمر بشيء، فقال العقل، ليته نهى عنه ولا نهى عن شيء فقال العقل ليته أمر به) (1).
فاستدل هذا العاقل الموفق -بحسن شريعته، وموافقتها للعقول الصحيحة- على رسالته؛ فبادر إلى الإيمان به (2) ولهذا استدل ملك الروم هرقل -لما وصف له ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما كان يأمر به، وما ينهى عنه- استدل بذلك أنه من أعظم الرسل؛ واعترف بذلك اعترافًا جليًّا ولكن منعته الرئاسة وخشية زوال ملكه من اتباعه؛ كما منعت كثيرًا ممن اتضح لهم أنه رسول الله حقًّا، وهذا من أكبر موانع الإيمان في حق أمثال هؤلاء، وأما أهل البصائر والعقول الصحيحة, فإنهم يرون هذه الموانع والرئاسات والشبهات والشهوات، ولا يرون لها قيمة: حتى يعارض بها الحق
__________
(1) المرجع السابق (49).
(2) المرجع السابق (49).(1/238)
الصحيح النافع، المثمر للسعادة عاجلاً وآجلاً. ولهذا السبب الأعظم كان المعتنون بالقرآن حفظًا ومعرفة، والمعتنون بالأحاديث الصحيحة أعظم إيمانًا ويقينًا من غيرهم، وأحسن عملاً في الغالب (1).
خامسًا: ومن أسباب الإيمان ودواعيه التي بينها القرآن التفكر في الكون، في خلق السموات والأرض وما فيهن من المخلوقات المتنوعة، والنظر في نفس الإنسان، وما هو عليه من الصفات المتنوعة قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190] وقال تعالى: {وَفِي أَنفسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُون} [الذاريات: 21].
فإن التأمل والتفكر في الكون والنفس وآيات الله المنظورة داع قوي للإيمان، لما في هذه الموجدات من عظمة الخلق الدالة على قدرة خالقها وعظمته؛ وما فيها: من الحسن والانتظام، والإحكام الذي يحير الألباب، الدال على سعة علم الله، وشمول حكمته؛ وما فيها من أصناف المنافع والنعم الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى، الدالة على سعة رحمة الله، وجوده وبره، وذلك كله يدعو إلى تعظيم مبدعها وبارئها وشكره، واللهج بذكره؛ وإخلاص الدين له وهذا هو روح الإيمان وسره (2) وإذا تأملنا في مخلوقات الله كلها، نجدها مضطرة ومحتاجه إلى ربها من كل الوجوه، وأنها لا تستغني عنه طرفه عين خصوصًا ما تشاهده في نفسك من أدلة الافتقار وقوة الاضطرار، وذلك يوجب للعبد كمال الخضوع، وكثرة الدعاء والتضرع إلى الله: في جلب ما يحتاجه من منافع دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ويوجب له قوة التوكل على ربه، وكمال الثقة بوعده، وشدة الطمع في بره وإحسانه، وبهذا يتحقق الإيمان، ويقوى التعبد فإن الدعاء مخ العبادة وأصلها (3) قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15] كذلك التفكر في كثرة نعم الله وآلائه العامة والخاصة التي لا يخلو منها مخلوق طرفة عين فإن هذا يدعو إلى الإيمان.
__________
(1) شجرة الإيمان، للسعدي، (49).
(2) التوضيح والبيان (51).
(3) التوضيح والبيان (51).(1/239)
ولهذا دعى الله الرسل والمؤمنين إلى شكره، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172] فالإيمان يدعو إلى الشكر والشكر ينمو به الإيمان فكل منهما ملازم وملزوم للآخر.
سادسًا: ومن أسباب دواعي الإيمان التي بينها القرآن الإكثار من ذكر الله في كل وقت، ومن الدعاء الذي هو مخ العبادة, فإن الذكر لله يغرس شجرة الإيمان في القلب ويغذيها وينميها، وكلما ازداد العبد ذكرًا لله قوي إيمانه؛ كما أن الإيمان يدعو إلى كثرة الذكر، فمن أحب الله أكثر من ذكره، ومحبة الله هي: الإيمان، بل هي روحه. قال تعالى: {يَا أَيّهَا الَذِينَ آمَنوا اذْكُروا اللَّهَ ذِكْرًا كثِيرًا} [الأحزاب: 41] وقال تبارك وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
سابعًا: ومن الأسباب الجالبة للإيمان التي بينها القرآن السعي والاجتهاد في تحقيق مقام الإحسان في عبادة الله والإحسان إلى خلقه قال تعالى: {ومَن يُسْلِمْ وجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [لقمان: 22] وقال تعالى: {وَقولُوا للنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83].
فعلى العبد: أن يعبد الله كأنه يشاهده, فإن لم يقوَ على هذا استحضر أن الله يشاهده ويراه؛ فيجتهد في إكمال العمل وإتقانه ولا يزال يجاهد نفسه ليتحقق بهذا المقام العالي، حتى يقوى إيمانه ويقينه ويصل في ذلك إلى حق اليقين وطريق المحسنين كما جاء في القرآن بيان صفاتهم، قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 15 - 19]
وقال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134].
وبذلك يتضح لنا صفات المحسنين ويكون الإحسان إلى الخلق بالقول والفعل والمال والجاه وأنواع المنافع هو من الإيمان ومن دواعي زيادته، والجزاء من جنس(1/240)
العمل، فكما أحسن إلى عباد الله، وأوصل إليهم من بره ما يقدر عليه، أحسن الله إليه أنواعًا من الإحسان ومن أفضلها: أن يقوى إيمانه ورغبته في فعل الخير، والتقرب إلى ربه، وإخلاص العمل له (1).
ثامنًا: ومن الأمور التي تقوي الإيمان وتزيده ما ذكره الله تعالى في سورة المؤمنين من قوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} إلى قوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} [المؤمنون: 1 - 11] فهذه الصفات الثمان، كل واحدة منها تثمر الإيمان وتنميه؛ كما أنها من صفات الإيمان وداخلة في تفسيره كما تقدم، فحضور القلب في الصلاة، وكون المصلي يجاهد نفسه على استحضار ما يقوله ويفعله: من القراءة والذكر والدعاء فيها، ومن القيام والقعود، والركوع والسجود من أسباب زيادة الإيمان ونموه (2).
وقد سمى الله تعالى الصلاة إيمانًا بقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] فحشاء ومنكر ينافي الإيمان، كما أنها تحتوي على ذكر الله الذي يغذي الإيمان وينميه؛ لقوله: {وَلَذِكْرُ اللهِ أَكبَرُ} [العنكبوت: 45] والزكاة كذلك تنمي الإيمان وتزيده فرضها ونفلها وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - كونها برهان على إيمان صاحبها فهي تغذي الإيمان وتنميه، والإعراض عن اللغو الذي هو كلام لا خير فيه، وكل فعل لا خير فيه -بل يقولون الخير ويفعلونه، ويتركون الشر قولاً وفعلاً- لا شك أنه من الإيمان ويزداد به الإيمان ويثمر.
ولهذا كان الصحابة - رضي الله عنهم - ومن بعدهم, إذا وجدوا غفلة أو تشعث إيمانهم، يقول بعضهم لبعض "اجلس بنا نؤمن ساعة" فيذكرون الله، ويذكرون نعمه الدينية والدنيوية، فيتجدد بذلك إيمانهم، وكذلك العفة عن الفواحش خصوصًا فاحشة الزنى، ولا ريب أن هذا من أكبر علامات الإيمان ومنمياته.
فالمؤمن لخوفه مقامه بين يدي ربه، {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] إجابة
__________
(1) التوضيح والبيان (54).
(2) التوضيح والبيان (54).(1/241)
لداعي الإيمان، وتغذية لما معه من الإيمان، ورعاية العهود والأمانات وحفظها من علامات الإيمان، وإذا أردت أن تعرف إيمان العبد ودينه فانظر حاله: هل يرعى الأمانات كلها مالية أو قولية، أو أمانات الحقوق؟ وهل يرعى الحقوق والعهود والعقود التي بينه وبين الله، والتي بينه وبين العباد؟ إذ لم يكن كذلك نقص من دينه وإيمانه بمقدار ما انتقص من ذلك. وحتمًا بالمحافظة على الصلوات على حدودها، وحقوقها، وأوقاتها - لأن المحافظة على ذلك بمنزلة الماء الذي يجري في بستان الإيمان فيسقيه وينميه ويؤتي أكله كل حين.
تاسعًا: ومن دواعي زيادة الإيمان وأسبابه الدعوة إلى الله وإلى دينه والتواصي بالحق والتواصي بالصبر؛ والدعوة إلى أصل الدين، والدعوة إلى التزام شرائعه بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. وبذلك يكمل العبد بنفسه، ويكمل غيره كما أقسم تعالى بالعصر؛ أن جنس الإنسان لفي خسر إلا من اتصف بصفات أربع: الإيمان والعمل الصالح اللذين بهما تكمل النفس، والتواصي بالحق -الذي هو العلم النافع والعمل الصالح والدين الحق- وبالصبر على ذلك كله؛ يكمل غيره.
وذلك: أن نفس الدعوة إلى الله والنصيحة لعباده، من أكبر مقومات الإيمان وصاحب الدعوة لا بد أن يسعى بنصر هذه الدعوة، ويقيم الأدلة والبراهين على تحقيقها، ويأتي الأمور من أبوابها، ويتوصل إلى الأموِر من طرقها، وهذه الأمور من طرق الإيمان وأبوابه (1) قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 33 - 36] ومن حرص على نصح الناس ودعوتهم إلى دين الله لا بد أن يجازيه الله ويؤيده بنور منه، وروح وإيمان وقوة توكل، فإن الإيمان وقوة التوكل على الله، يحصل بهما
__________
(1) التوضيح والبيان (58).(1/242)
النصر على الأعداء من شياطين الإنس وشياطين الجن (1) قال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 99] والمتصدي لنصرة الحق، لا بد أن يفتح عليه فيه من الفتوحات العلمية والإيمانية بمقدار صدقه وإخلاصه.
عاشرًا: ومن أهم مواد الإيمان ومقوماته توطين النفس على مقاومة ما ينافي الإيمان من شعب الكفر والنفاق والفسوق والعصيان. فقد ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه الأسباب المقوية المنمية للإيمان ووضحها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كذلك بين المولى عز وجل الموانع والعوائق وأرشد إلى دفعها؛ وهي الإقلاع عن المعاصي، والتوبة مما يقع منها، وحفظ الجوارح كلها عن المحرمات، ومقاومة فتن الشبهات القادحة في علوم الإيمان، المضعفة له، والشهوات المضعفة لإرادات الإيمان، فإن الإرادات التي أصلها الرغبة في الخير ومحبته والسعي فيه، لا تتم إلا بترك إرادات ما ينافيها من رغبة النفس في الشر، ومقاومة النفس الأمارة بالسوء. فمتى حفظ العبد من الوقوع في فتن الشبهات، وفن الشهوات تم إيمانه وقوى يقينه (2).
فالعبد المؤمن الموفق لا يزال يسعى في أمرين: أحدهما: تحقيق أصول الإيمان وفروعه والتحقق بها علمًا وعملاً وحالاً. والثاني: السعي في دفع ما ينافيها وينقصها أو ينقضها من الفتن الظاهرة والباطنة؛ ويداوي ما قصر فيه من الأول، وما تجرأ عليه من الثاني بالتوبة النصوح، وتدارك الأمر قبل فواته (3). قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201] أي مبصرون الخلل الذي وقعوا فيه، والنقص الذي أصابهم من طائف الشيطان، الذي هو أعدى الأعداء للإنسان؛ فإذا أبصروا تداركوا هذا الخلل بسده، وهذا الفتق برتقه، فردوا إلى حالهم الكاملة، وعاد عدوهم حسيرًا ذليلاً، وإخوان الشياطين: {يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} [الأعراف: 202].
الشياطين لا تقصر عن إغوائهم وإيقاعهم في أشراك الهلاك، والمستجيبون لهم لا
__________
(1) التوضيح والبيان (58).
(2) المرجع السابق (61).
(3) المرجع السابق (61).(1/243)
يقصرون عن طاعة أعدائهم والاستجابة لدعوتهم حتى يقعوا في الهلاك؛ ويحق عليهم الخسار، وبعد هذا العرض الموجز لمفهوم الإيمان تبين أن ما جاء به القرآن ووضحه سيد الأنام - صلى الله عليه وسلم - هو الصراط المستقيم والاستقامة والاعتدال بعيدًا عن ما وقع فيه الملاحدة من الزور والبهتان، ووقع فيه الفلاسفة من تصورات خاطئة مريضة في أسماء الله وصفاته وأفعاله وذاته.
ولقد وقع الناس بين إفراط وتفريط وإنكسار وغلو، فأكرم الله البشرية بهذا الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ففي جانب الإيمان بالله تعالى جاء القرآن بالمنهج الوسط الذي تجسدت فيه ملامح الوسطية من حكمة واستقامة واعتدال وعدل وبينية.
وقبل الانتهاء من مبحث الإيمان وأسباب زيادته رأيت من باب الفائدة والحث على استيعاب وفهم هذا الموضوع المهم في حياة الناس أن أتطرق إلى فوائد الإيمان وثمراته كما جاءت في القرآن موضحًا الآثار والفوائد والثمرات العاجلة والآجلة في القلب والبدن والراحة والحياة الطيبة في الدنيا والآخرة، وذكر القرآن الكريم لهذه الفوائد والثمار يرسم لنا الصورة اليانعة الحية في وسطية القرآن في قضية الإيمان.
ثالثًا: فوائد الإيمان وثمراته.
إن من حكمة الله الربانية أن جعل قلوب عباده المؤمنين تحس وتتذوق وتشعر بثمرات الإيمان لتندفع نحو مرضاته والتوكل عليه سبحانه وتعالى, فإن شجرة الإيمان إذا ثبتت وقويت أصولها وتفرعت فروعها، وزهت أغصانها، وأينعت أفنانها عادت على صاحبها وعلى غيره، بكل خير عاجل وآجل في الدنيا والآخرة وثمار الإيمان وثمراته وفوائده كثيرة، قد بينها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم فمن أعظم هذه الفوائد والثمار.
أولاً: الاغتباط بولاية الله الخاصة، التي هي أعظم ما تنافس فيه المتنافسون، وتسابق فيه المتسابقون وأعظم ما حصل عليه المؤمنون، قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ(1/244)
لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} ثم وصفهم بقوله: {الَذِينَ آمَنُوا وَكانوا يَتَقونَ} [يونس: 62 - 63] فكل مؤمن تقي، فهو لله ولي ولاية خاصة، من ثمراتها ما قاله الله عنهم: {اللَّهُ وَلِيُّ الَذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257] أي يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ومن ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن ظلمات المعاصي إلى نور الطاعة ومن ظلمات الغفلة إلى نور اليقظة والذكر، وحاصل ذلك أنه يخرجهم من ظلمات الشرور المتنوعة إلى ما يرفعها من أنوار الخير العاجل والآجل. وإنما حازوا هذا العطاء الجزيل، بإيمانهم الصحيح، وتحقيقهم هذا الإيمان بالتقوى فإن التقوى من تمام الإيمان.
ثانيًا: الفوز برضا الله ودار كرامته قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 71 - 72] فنالوا رضا ربهم ورحمته، والفوز بهذه المساكن الطيبة بإيمانهم الذي كملوا به أنفسهم، وكملوا غيرهم بقيامهم بطاعة الله وطاعة رسوله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فاستولوا على أجل الوسائل، وأفضل الغايات وذلك فضل الله.
ثالثًا: ومن ثمرات الإيمان أن الله يدفع عن المؤمنين جميع المردة، وينجيهم من الشدائد كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج: 38] أي يدافع عنهم كل مكروه، يدافع عنهم شر شياطين الإنس وشياطين الجن، ويدافع عنهم الأعداء، ويدافع عنهم المكاره قبل نزولها ويرفعها أو يخفضها بعد نزولها، ولما ذكر تعالى ما وقع فيه يونس عليه السلام وأنه: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} قال: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 87 - 88] إذا وقعوا في الشدائد؛ كما أنجينا يونس، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " دعوة أخي(1/245)
يونس ما دعا بها مكروب إلا فرج الله عنه كربته لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4].
فالمؤمن المتقي ييسر الله له أموره وييسره لليسرى، ويجنبه العسرى، ويسهل عليه الصعاب ويجعل له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا؛ ويرزقه من حيث لا يحتسب، وشواهد هذا كثيرة من الكتاب والسنة (1).
رابعًا: ومنها أن الإيمان والعمل الصالح الذي هو فرعه يثمر الحياة الطيبة في هذه الدار، وفي دار القرار قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
ذلك أن من خصائص الإيمان، أنه يثمر طمأنينة القلب وراحته وقناعته بما رزق الله، وعدم تعلقه بغيره، وهذه هي الحياة الطيبة فإن أصل الحياة الطيبة راحة القلب وطمأنينته، وعدم تشوشه مما يتشوش منه الفاقد للإيمان الصحيح.
خامسًا: ومنها: أن جميع الأعمال والأقوال إنما تصح وتكمل بحسب ما يقوم بقلب صاحبها من الإيمان والإخلاص ولهذا يذكر الله هذا الشرط الذي هو أساس كل عمل، مثل قوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء: 94] أي لا يجحد سعيه ولا يضيع عمله؛ بل يضاعف بحسب قوة إيمانه وقال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19] والسعي للآخرة هو العمل بكل ما يقرب إليها، ويدني منها، من الأعمال التي شرعها الله على لسان نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - فإذا تأسست على الإيمان، ونبتت عليه كان السعي مشكورًا مقبولاً مضاعفًا، لا يضيع منه مثقال ذرة. وأما إذا فقد العمل الإيمان، فلو استغرق العامل ليله ونهاره فإنه غير مقبول قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23] وذلك لأنها أسست على غير الإيمان بالله ورسوله الذي روحه الإخلاص للمعبود والمتابعة للرسول - صلى الله عليه وسلم -. قال تعالى:
__________
(1) التوضيح والبيان (67).(1/246)
{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 103 - 105] فهم لما فقدوا الإيمان، وحل محله الكفر بالله وآياته حبطت أعمالهم، قال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَملُكَ} [الزمر: 65] {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كانُوا يَعْمَلونَ} [الأنعام: 88].
ولهذا كانت الردة عن الإيمان تحبط جميع الأعمال الصالحة، كما أن الدخول في الإسلام والإيمان يَجُبُّ ما قبله، من السيئات وإن عظمت، والتوبة من الذنوب المنافية للإيمان، والقادحة فيه والمنفقة له تجب ما قبلها (1).
سادسًا: ومن ثمرات الإيمان أن صاحب الإيمان يهديه الله إلى الصراط المستقيم ويهديه إلى علم الحق، وإلى العمل به، وإلى تلقي المحاب بالشكر، وتلقي المكاره والمصائب بالرضا والصبر قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس: 9] وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11].
ذكر الشوكاني (2) رحمه الله في تفسير هذه الآية: (هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم. ولو لم يكن من ثمرات الإيمان، إلا أنه يسلي صاحبه عن المصائب والمكاره التي كل أحد عرضة لها في كل وقت، ومصاحبة الإيمان واليقين أعظم مسل عنها، ومهون لها وذلك لقوة إيمانه وقوة توكله، ولقوة رجائه بثواب ربه، وطمعه في فضله فحلاوة الأجر تخفف مرارة الصبر، قال تعالى: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} [النساء: 104] (3).
__________
(1) المرجع السابق (75).
(2) هو الإمام محمد بن علي الشوكاني، ثم الصنعاني القاضي، محدث وفقيه وأصولي، ومفسر، واسم تفسيره فتح القدير، توفي (1250 هـ)، انظر: مناهج المفسرين (50).
(3) فتح القدير للشوكاني (5/ 231).(1/247)
سابعًا: ومن ثمرات الإيمان ولوازمه وفوائده وخيراته من الأعمال الصالحة ما ذكره الله بقوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96] أي بسبب إيمانهم وأعمال الإيمان يحبهم الله ويجعل لهم المحبة في قلوب المؤمنين، ومن أحبه الله وأحبه المؤمنون من عباده حصلت له السعادة والفلاح والفوائد الكثيرة من محبة المؤمنين من الثناء والدعاء له حيًّا وميتًّا، والاقتداء به، وحصول الإمامة في الدين (1).
وهذه أيضًا من أجل ثمرات الإيمان: أن يجعل الله للمؤمنين الذين كملوا إِيمانهم بالعلم والعمل لسان صدق ويجعلهم أئمة يهتدون بأمره كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] فبالصبر واليقين اللذين هما رأس الإيمان وكماله نالوا الإمامة في الدين (2).
ثامنًا: ومنها قوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] فهم أعلى الخلق درجة عند الله وعند عباده في الدنيا والآخرة وإنما نالوا هذه الرفعة، بإيمانهم الصحيح وعلمهم ويقينهم، والعلم واليقين من أصول الإيمان. تاسعًا: ومن ثمرات الإيمان حصول البشارة بكرامة الله، والأمن التام من جميع الوجوه، كما قال تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 223] فأطلقها ليعم الخير العاجل والآجل، وقيدها في مثل قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة: 25] فلهم البشارة المطلقة والمقيدة، ولهم الأمن المطلق في مثل قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] ولهم الأمن المقيد في مثل قوله تعالى: {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يحْزَنُونَ} [الأنعام: 48] فنفى عنهم الخوف لما يستقبلونه، والحزن مما مضى عليهم، وبذلك يتم لهم الأمن.
فالمؤمن له الأمن التام في الدنيا والآخرة: أمن من سخط الله وعقابه، وأمن من
__________
(1) التوضيح والبيان (76).
(2) التوضيح والبيان (76).(1/248)
جميع المكاره والشرور وله البشارة الكاملة بكل خير، كما قال تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس: 64].
ويوضح هذه البشارة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت: 30 - 32].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد: 28] فرتب على الإيمان حصول الثواب المضاعف، وكمال النور الذي يمشي به العبد في حياته، ويمشي به يوم القيامة: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [الحديد: 12].
فالمؤمن من يمشي في الدنيا بنور علمه وإيمانه وإذا طفئت الأنوار يوم القيامة مشى بنوره على الصراط حتى يجوز به إلى دار الكرامة والنعيم، وكذلك رتب المغفرة على الإيمان، ومن غفرت سيئاته سلم من العقاب، ونال أعظم الثواب (1).
عاشرًا: ومن ثمرات الإيمان حصول الفلاح الذي هو إدراك غاية الغايات, فإنه إدراك كل مطلوب، والسلامة من كل مرهوب والهدى الذي هو أشرف الوسائل، كما قال تعالى بعد ذكره المؤمنين بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - وما أنزل على من قبله، والإيمان بالغيب، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة اللتين هما من أعظم آثار الإيمان قال تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5].
فهذا هو الهدى التام والفلاح الكامل، فلا سبيل إلى الهدي والفلاح اللذين لا صلاح ولا سعادة إلا بهما إلا بالإيمان التام بكل كتاب أنزله الله، وبكل رسول أرسله الله، فالهدى أجل الوسائل، والفلاح أكمل الغايات (2).
__________
(1) المرجع السابق (79 - 80).
(2) المرجع السابق (79 - 80).(1/249)
الحادي عشر: ومن ثمرات الإيمان: الانتفاع بالمواعظ والتذكير بالآيات:
قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55].
وقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 77].
وهذا لأن الإيمان يحمل صاحبه على التزام الحق واتباعه، علمًا وعملاً وكذلك معه الآلة العظيمة والاستعداد لتلقي المواعظ النافعة والآيات الدالة على الحق، وليس عنده مانع يمنعه من قبول الحق، ولا من العمل به.
وأيضًا: فالإيمان يوجب سلامة الفطرة، وحسن القصد، ومن كان كذلك انتفع بالآيات، ومن لم يكن كذلك فلا يستغرب عدم قبولهم للحق واتباعه له، ولهذا يذكر الله -في سياق تمنع الكافرين من تصديق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقبولهم الحق الذي جاء به- السبب الذي أوجب لهم ذلك وهو الكفر الذي في قلوبهم، يعني لأن الحق واضح وآياته بينه واضحة والكفر أعظم مانع يمنع من اتباعه، أي فلا تستغربوا هذه الحالة, فإنها لم تزل دأب كل كافر (1).
الثاني عشر: ومنها أن الإيمان يقطع الشكوك التي تعرض لكثير من الناس فتضر بدينهم، قال تعالى:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات: 15] أي دفع الإيمان الصحيح الذي معه الريب والشك الموجود، وإزالته بالكلية، وقاوم الشكوك التي تلقيها شياطين الإنس والجن، والنفوس الأمارة بالسوء فليس لهذه العلل المهلكة دواء إلا تحقيق الإيمان. ولهذا ثبت في الحديث الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يزال الناس يسألون حتى يقال: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد ذلك فليقل آمنت بالله " (2). وفي رواية " فليستعذ بالله ولينته " (3).
__________
(1) انظر: التوضيح والبيان (81).
(2) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان، (1/ 119).
(3) المرجع السابق (1/ 120).(1/250)
وبهذا بين - صلى الله عليه وسلم - الدواء النافع لهذا الداء المهلك وهو ثلاثة أشياء: الانتهاء عن هذه الوساوس الشيطانية، والاستعاذة من شر من ألقاها وشبه بها: ليضل بها العباد، والاعتصام بعصمة الإيمان الصحيح الذي من اعتصم به كان من الآمنين. وذلك لأن الباطل يتضح بطلانه بأمور كثيرة أعظمها العلم أنه منافي للحق، وكل ما نقض الحق فهو باطل {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضلالُ} [يونس: 32].
الثالث عشر: ومنها أن الإيمان ملجأ المؤمنين في كل ما يلم بهم، من سرور وحزن وخوف وأمن، وطاعة ومعصية، وغير ذلك من الأمور التي لا بد لكل أحد منها؛ فيلجئون إلى الإيمان عند الخوف فيطمئنون إليه ويزيدهم إيمانًا وثباتًا، وقوة وشجاعة ويضمحل الخوف الذي أصابهم كما قال تعالى عن خيار الخلق: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} [آل عمران: 173 - 174].
لقد اضمحل الخوف من قلوب هؤلاء الأخيار، وخلفه قوة الإيمان وحلاوته وقوة التوكل على الله، والثقة بوعده، ويلجئون إلى الإيمان عند الطاعة والتوفيق للأعمال الصالحة، فيعترفون بنعمة الله عليهم بها؛ وأن نعمته عليهم فيها أعظم من نعم العافية والرزق، وكذلك يحرصون على تكميلها، وعمل كل سبب لقبولها وعدم ردها أو نقصها، ويسألون الذي نفضل عليهم بالتوفيق لها، أن يتم عليهم نعمته بقبولها، والذي تفضل عليهم بحصول أصلها، أن يتم لهم منها ما انتقصوه منها: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61] ويلجئون إلى الإيمان إذا ابتلوا بشيء من المعاصي بالمبادرة إلى التوبة منها، وعمل ما يقدرون عليه من الحسنات لجبر نقصها قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201].
فالمؤمنون في جميع تقلباتهم وتصرفاتهم ملجؤهم إلى الإيمان ومفزعهم إلى تحقيقه ودفع ما ينافيه ويضاده، وذلك من فضل الله عليهم ومنه (1) وخوفًا من
__________
(1) التوضيح والبيان (85).(1/251)
الإطالة نقتصر على هذه الثمرات العظيمة التي بينها المولى عز وجل، وبذلك نستيقين أن كتاب الله جاء تبيانًا لكل شيء، وعرض قضية الإيمان من جوانبها المتعددة النافعة للناس وبين وسائل زيادة الإيمان، ورغبنا فيه بذكر فوائده وثماره بحكمة بالغة تليق بالحكيم العليم جل وعلا.
وبين المولى عز وجل في كتابه حقيقة الإيمان بأنه اعتقاد بالجنان ونطق باللسان، وعمل بالأركان ووضعنا على الصراط المستقيم وسلمت عقول المسلمين وقلوبهم من أمراض التعطيل والتشبيه، والإفراط والتفريط، ووقع أهل البدع في الانحراف عن جادة الصواب وطريق أهل الاستقامة؛ لأنهم ابتعدوا عن كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وفهم الصحابة والتابعين لهم بإحسان من علماء وفقهاء ومحدثين.
***(1/252)
الفصل الثالث الملائكة
تمهيد: إن الإيمان بالملائكة أصل من أصول الاعتقاد، لا يتم الإيمان إلا به، والملائكة من عوالم الغيب التي امتدح الله المؤمنين بها، تصديقًا لخبر الله سبحانه وإخبار رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وقد بين الله سبحانه وتعالى في كتابه وسنة نبيه هذا الموضوع بحيث أصبح -عند من اطلع على هذه النصوص- الإيمان بها واضحًا، وليس فكرة غامضة، وهذا ما يعمق الإيمان ويرسخه, فإن المعرفة التفصيلية أقوى وأثبت من المعرفة الإجمالية.
وبين الله سبحانه وتعالى الانحراف الذي وقع فيه الناس في اعتقادهم في الملائكة منذ القديم فهناك من عبدهم، وهناك من ظن أنهم بنات الله، وأما الفلاسفة فإنهم يرون أن الملائكة هم الأفلاك التي نراها في الفضاء وبعضهم أنكر وجودها، وأما اليهود فعادوا بعضهم ووصفوا الملائكة بأنهم يشربون ويأكلون (1).
كما ذكرت التوراة المحرفة في سفر التكوين وبعض أسفارهم أن الملائكة لا تأكل ولا تشرب واضطرب أمرهم في هذا الشأن، واستزلهم الشيطان وتصور التوراة جبريل عليه السلام بأنه شيطان -لعنة الله على اليهود- يصنع الغواية، يغوي الأنبياء؟
قالت التوراة المحرفة: (قد رأيت الرب جالسًا على كرسيه، وكل جند السماء وقوف لديه، عن يمينه وعن يساره فقال الرب: من يغوي آخاب فيصعد ويسقط في رامون جلعاد، فقال: هذا هكذا وقال: ذاك هكذا، ثم خرج الروح -يعني- جبريل ووقف أمام الرب وقال: أنا أغويه، وقال له الرب بماذا؟ فقال: أخرج وأكون روح كذب في أفواه جميع أنبيائه فقال: إنك تغوية وتقتدر؟ فاخرج وافعل هكذا) (2).
__________
(1) الإسلام في مواجهة الاستشراق، عبد العظيم المطعني، (195).
(2) سفر التكوين: الإصحاح (18) الفقرات (1 - 8).(1/253)
يا سبحان الله يجعلون جبريل روح كذب في أفواه جميع أنبياء أخاب والرب يشجعه على ذلك!! وبذلك اتضحت مسالك الناس في اعتقادهم في الملائكة بين منكر لها وهم الملاحدة، وبين متصور لها بأفلاك وأوهام وهم الفلاسفة، وبين زاعم بأنها بنات الله وعبدوها من دون الله وهم مشركو العرب.
وجاء القرآن ليبين منهج الوسطية في هذا الركن من العقائد بما ينفع الناس ويدلهم على الصراط المستقيم الذي هو الوسطية في هذا الدين وجاء القرآن الكريم موضحًا ما ينفع الناس ويصحح تصوراتهم وأفكارهم ومعتقدهم في قضايا الاعتقاد وغيرها. إن المسلم يعتقد اعتقادًا جازمًا بأن لله ملائكة موجودين مخلوقين من نور، وأنهم: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم: 6] وأنهم قائمون بوظائفهم التي أمرهم الله بالقيام بها. ولا يصلح إيمان عبد حتى يؤمن بوجودهم، وبما ورد في حقهم من صفات وأعمال في كتاب الله سبحانه، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير زيادة ولا نقصان، ولا تحريف (1).
قال تعالى:
{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285]
وفي الحديث الصحيح عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عندما سأل جبريل عليه السلام عن الإيمان قال - صلى الله عليه وسلم -: " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره " (2).
فوجود الملائكة ثابت بالدليل القطعي الذي لا يمكن أن يلحقه أدنى شك، ومن هنا كان إنكار وجودهم كفرًا بنص القرآن العظيم، فقد قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 136].
__________
(1) انظر: الإيمان لمحمد نعيم ياسين (48).
(2) انظر: البخاري مع الفتح، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل (1/ 140).(1/254)
والذي يجمع الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، التي تكلمت عن الملائكة، وأوصافهم وأعمالهم وأحوالهم، يلاحظ: أنها تناولت في الغالب ما بين علاقتهم بالخالق سبحانه وبالكون، والإنسان، فعرفنا سبحانه من ذلك على ما ينفعنا في تطهير عقيدتنا، وتزكية قلوبنا وتصحيح أعمالنا.
وأما حقيقة الملائكة، وكيف خلقهم، وتفصيلات أحوالهم، فقد استأثر سبحانه بها، وهذا من وسطية القرآن وحكمة الرحمن حيث سبحانه وتعالى يعرف الناس في حدود ما يحتاجون إليه، ويصلح أحوالهم في المعاش والمعاد، وما تطيقه عقولهم فالله سبحانه وتعالى لم يطلعنا على جميع المغيبات، سواء منها ما تعلق بجلاله وصفاته وأسمائه وما تعلق بمخلوقاته الغيبية، والمؤمن الصادق يقر بكل ما أخبر به الخالق مجملاً أو مفصلاً، ولا يزيد على ذلك، ولا ينقص منه، ولا يتكلف البحث عن ما لا ينفعه ولا يخوض فيه (1).
...
__________
(1) الإيمان: لمحمد نعيم ياسين (47).(1/255)
المبحث الأول صفات الملائكة الخلقية
إن الخالق عز وجل لم يخبرنا من صفاتهم الخلقية إلا النزر القليل، فأخبرنا سبحانه أنهم خلقوا قبل آدم, إذ ورد في القرآن أن الله أخبرهم بأنه سيخلق الإنسان، ويجعله في الأرض. قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30].
وأما المادة التي خلقوا منها، فقد أخبرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن الله خلقهم من نور، فقد أخرج مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم " (1) وتدل النصوص في مجموعها على أن الملائكة مخلوقات نورانية ليس لها جسم مادي يدرك بالحواس الإنسانية، وأنهم ليسو كالبشر فلا يأكلون، ولا يشربون، ولا ينامون، ولا يتزاوجون، مطهرون من الشهوات الحيوانية، ومنزهون عن الآثام والخطايا، ولا يتصفون بشيء من الصفات المادية، التي يتصف بها ابن آدم (2).
أ- لهم القدرة على التشكل:
غير أن لهم القدرة على أن يتمثلوا بصور البشر، بإذن الله تعالى كما أخبر الله عز وجل عن جبريل عليه السلام أنه جاء مريم في صورة بشرية، فقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 16 - 17].
وفي حديث جبريل المشهور، حين جاء يعلم الصحابة معنى الإسلام، والإيمان، والإحسان، وأشراط الساعة، ذكر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، أنه جاء على هيئة رجل
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب أحاديث متفرقة (4/ 2294).
(2) شرح ملا علي القاري على الفقه الأكبر (11).(1/256)
شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، وأنه جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه ثم شرع في السؤال (1).
ب- لهم أجنحة:
ومن صفاتهم الخلقية التي أخبرنا الله بها أنه جعل لهم أجنحة يتفاوتوِن في أعدادها، فقال سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فاطر: 1]
هذا ما أخبرنا به الله عز وجل عن الملائكة من حيث خلقتها، ونؤمن به كما جاء، ولا نسأل عن غيره ولو كان في التفصيل نفع لعباد الله لما حجب عنهم معرفته، فهو اللطيف الرحيم بهم، يعلمهم الحق والخير، وهذا من حكمة القرآن وهدايته إلى الصراط المستقيم ووسطيته في الأمور.
...
__________
(1) انظر: البخاري مع الفتح، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل، (2/ 14).(1/257)
المبحث الثاني علاقتهم مع الله والإنسان، والكون، وعددهم
أ- علاقتهم مع الله:
فهي علاقة العبودية الخالصة، والطاعة والامتثال، والخضوع المطلق لأوامره عز وجل، لا ينتسبون إليه سبحانه إلا بهذه النسبة، فهم ليسوا آلهة من دونه سبحانه، ولا ذرية له، ولا بنات كما قال المشركون من قبل، قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 26 - 28] وقال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50] وقال تعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].
فهم خلق من مخلوقات الله الكثيرة، يطيعونه سبحانه ولا يقدرون على شيء من تلقاء أنفسهم، وهم لا يستطيعون أن يقترحوا على الله شيئًا بفضل قوتهم، وهم منقطعون دائمًا لعبادة الله وطاعة أمره. قال تعالى: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصافات: 164 - 166].
وإذا كانت هذه حقيقة أمرهم فقد انحرف عن الصراط المستقيم ووقع في الشرك بالله من عبد أو استعان بالملائكة أو اعتقد أن لهم من الأمر شيء.
قال تعالى: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 80].
ب- علاقة الملائكة بالكون والإنسان:
دل الكتاب والسنة على أصناف الملائكة، وأنها موكلة بأصناف المخلوقات، وأنه سبحانه، وكَّل بالشمس والقمر ملائكة، وبالأفلاك ملائكة، وبالجبال ملائكة، وبالسحاب ملائكة، وبالمطر ملائكة، وبالرحم ملائكة تدبر أمر النطفة حتى يتم(1/258)
خلقها، وبالموت ملائكة ووكل بكل عبد ملائكة يحفظونه ووكل بكل مخلوق، وبكل حوادث الكون وظواهره ملائكة (1).
وهذا لا ينافي ما يلاحظ في الكون من قوانين وأسباب يرتبط بعضها ببعض؛ لأن هذه القوانين والأسباب إنما هي مخلوقات من مخلوقات الله، والملائكة موكلة بها أيضًا، وموكلة برعايتها، كما ترعى المخلوقات الأخرى، ولولا إرادة الله في حفظ هذه الأسباب والقوانين، ولولا قدرته في تسخير الملائكة للحفاظ عليها, فإن العقل لا يستلزم أبدًا بقاءها على هذه الآماد الطويلة في انتظامها وتناسقها (2).
وأما الإنسان فيدخل بحياته الفطرية في تلك الرعاية التي وكل الله سبحانه الملائكة بها؛ لأنه مخلوق من مخلوقات الله في الكون بل هو المخلوق الذي سخر الله له ما في الكون كله، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [لقمان: 20].
وفوق هذا فإن للملائكة أعمالاً أخرى في حياة الإنسان الإرادية هدفها -كما حده الله لهم- هداية البشر، وإسعادهم، ومساعدتهم على عبادة الله، وعونهم على اختيار الهدى والصلاح، واجتناب الشر والفساد والضلال.
فهم الذين اختارهم رب العالمين لإيصال هداه إلى أهل الأرض عن طريق رسله الكرام والملك المختار لهذه المهمة هو جبريل عليه السلام.
قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [الشعراء: 192 - 194].
كما أخبرنا عز وجل أنه سخرهم للدعاء للمؤمنين والاستغفار لهِم، فقال سبحانه: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ
__________
(1) الإيمان: لمحمد نعيم ياسين (55).
(2) الإيمان: لمحمد نعيم ياسين (55).(1/259)
لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر: 7 - 9].
وهم يشجعون العبد على طاعة ربه، وعبادته ويحثونه بالذكر والقرآن، ويحثونه على العلم والخير، ويحضرون صلاته وقراءته وفي ذلك كله أحاديث صحيحة.
وهم أيضًا يثبِّتون العبد على العمل الصالح، وخاصة الجهاد في سبيل الله تعالى، كما قال تعالى:
{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12].
ومن أعمالهم التي أخبرنا عنها رب العالمين مما له أثر عظيم في تقويم حياة العباد وحفظهم من المعصية والشر، ما وكل إليهم من مراقبة أعمال العباد وكتابتها بعد إحصائها. فقال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [سورة ق: 16 - 18] وقال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار: 10، 11] وقال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80].
وقد وجدت كلامًا نفسيًا جامعًا لابن القيم في كتابة (إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان) عن علاقة الملائكة بالإنسان. فقال: (والملائكة الموكلة بالإنسان من حين كونه نطفة إلى آخر أمره، لهم وله شأن آخر: فإنهم موكلون بتخليقه ونقله من طور إلى طور، وتصويره وحفظه في أطباق الظلمات الثلاث، وكتابة رزقه وعمله، وأجله وشقاوته، وسعادته وملازمته في جميع أحواله، وإحصاء أقواله وأفعاله وحفظه في حياته، وقبض روحه عند وفاته، وعرضها على خالقه وفاطره، وهم الموكلون بعذابه(1/260)
ونعيمه في البرزخ، وبعد البعث، وهم الموكلون بعمل آلات النعيم والعذاب، وهم المثبتون للعبد المؤمن بإذن الله والمعلمون له ما ينفعه، والمقاتلون الذابون عنه، وهم أولياؤه في الدنيا والآخرة، وهم الذين يعدونه بالخير ويدعونه إليه، وينهونه عن الشر، يحذرونه منه فهم أولياؤه وأنصاره، وحفظته ومعلموه، وناصحوه، والداعون له، والمستغفرون له، وهم الذين يصلون عليه ما دام في طاعة ربه، ويصلون عليه ما دام يعلم الناس الخير، ويبشرونه بكرامة الله في منامه وعند موته ويوم بعثه، وهم الذين يزهدونه في الدنيا ويرغبونه في الآخرة، وهم الذين يذكرونه إذا نسي وينشطونه إذا كسل، ويثبتونه إذا جزع، وهم الذين يسعون في مصالح دنياه وآخرته، فهم رسل الله في خلقه وأمره، وسفراؤه بينه وبين عباده تتنزل بالأمر من عنده في أقطار العالم وتصعد إليه بالأمر). (1)
وكل الذي قال ابن القيم رحمه الله استنبطه من كتاب الله وما صح من الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ج- عدد الملائكة:
وهم كثير، لا يحصي عددهم إلا الله قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر: 31].
وهكذا منهج القرآن في بيان حقيقة الملائكة، فيه ملامح الوسطية بعيدًا عن الغلو والإفراط والتفريط والمطلوب من المؤمن أن يؤمن بالملائكة إيمانًا تفصيليًّا وإجماليًا، فيجب عليه الإيمان بالملائكة التي وردت أسماؤهم في الكتاب أو السنة بالتفصيل ومن هؤلاء رؤساؤهم الثلاثة: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل (2).
__________
(1) انظر: إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، (2/ 125).
(2) الكواشف الجلية عن معاني الوسطية (36).(1/261)
وجبريل هو الملك الموكل بالوحي الذي به حياة القلوب والأرواح وقد ورد ذكره هو وميكائيل في القرآن الكريم، قال تعالِى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 97 - 98].
وجبريل عليه السلام عادته اليهود ظلمًا وعدوانًا وانتكاسًا وبُعدًا عن الصراط المستقيم، أما الفلاسفة فأنكروا الملائكة جملة. وقد أثنى الله سبحانه عليه في القرآن أحسن الثناء ووصفه بأجمل الصفات، قال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 15 - 21] وقال تعالى في وصفه: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم: 5 - 6].
وأما ميكائيل فهو الملك الموكل بالقطر الذي به حياة الأرض والنبات والحيوان (1) وأما إسرافيل فهو: الملك الموكل بالنفخ في الصور الذي به حياة الخلق بعد مماتهم (2) ومن الملائكة الذين ورد ذكرهم في القرآن مالك، خازن النار، قال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77] فهؤلاء وغيرهم من ورد ذكر أسمائهم في أحاديث ثبتت صحتها يجب الإيمان بهم، وبما نيط بهم من الوظائف والأعمال، وأما الملائكة الذين لم يرد ذكرهم، فيجب أن نؤمن بهم بصورة إجمالية، ونؤمن بما ذكر من أصنافهم، وأفعالهم في القرآن والسنة فنؤمن بالكرام الكاتبين الذين جعلهم الله علينا حافظين، كما قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10 - 12].
كما قال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11] وذكرت بعض كتب التفسير أنهم اثنان عن اليمين وعن الشمال يكتبان الأعمال، صاحب اليمين يكتب الحسنات، وصاحب الشمال يكتب السيئات، وملكان آخران يحفظانه ويحرسانه واحد من أمامه وواحد من ورائه، فهو بين أربعة ملائكة.
__________
(1) انظر: أصول الإيمان لمحمد بن عبد الوهاب.
(2) إغاثة اللهفان (2/ 122).(1/262)
وروى الإمام مسلم عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وإياي، لكن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير " (1).
ونومن بملك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين قال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة: 11] ولم يصرح القرآن باسمه، والأحاديث الصحيحة، وجاء في بعض الآثار تسميته بعزرائيل (2) فالله أعلم.
ونؤمن بحملة العرش، الذين أخبر عنهم الله في القرآن فقال سبحانه: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17].
ونؤمن كذلك بالملائكة الموكلين بالنار، أعاذنا الله منها، وهم الزبانية، ومقدموهم تسعة عشر قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} [غافر: 49] قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] وقال تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً} [المدثر: 30 - 31].
ونؤمن أيضًا بالملائكة الموكلين بالجنان الذين يهيئون الضيافة لساكنيها، من ملابس ومآكل ومشارب ومصنوعات وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وإذا أردت أن تعرف ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الملائكة فيمكنك أن ترجع إلى صحيح البخاري.
وبذلك يكون القرآن الكريم قد رسم لنا منهج الوسطية في إيماننا بالملائكة، وهذا يبعدنا عن الوقوع في الخرافات والأوهام التي وقع فيها من لا يؤمنون بالغيب، ولا يتلقون معارفهم عن الوحي الإلهي.
__________
(1) مسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب تحريش الشيطان (4/ 2617).
(2) أصول الإيمان لمحمد بن عبد الوهاب (14).(1/263)
وبهذا المعتقد يكون المسلم على منهج الاستقامة الذي أمر الله به وعلى الصراط المستقيم, فإن من يستشعر بقلبه وجود الملائكة جنود الرحمن، ويؤمن برقابتهم لأعماله وأقواله، وشهادتهم على كل ما يصدر عنه، يستحي من الله ومن جنوده، فلا يخالفه ولا يعصيه، لا في العلانية، ولا في السر, إذ كيف له ذلك وهو يعلم أن كل شيء محسوب ومكتوب ومشهود عليه.
وإيمانه بالملائكة الكرام يكسبه الصبر على مواصلة الجهاد في سبيل الله وعدم اليأس، والشعور بالأنس والطمأنينة التي هي من لوازم الإيمان بالملائكة وما أخبر الله من أفعالها وأحوالها وبهذا يتضح لنا أن من نعم الله علينا خلقه للملائكة وإخباره لنا عما ينفعنا في معتقدنا في هذه المخلوقات الطائعة العابدة لله عز وجل.
وأسأل الله تعالى أن تكون صورة الاعتقاد في الملائكة قد اتضحت ملامحها من استقامة على الطريق وسلامة في التصور وعمق في المنهج وحكمة في خلقها واعتدال في وضعها وعدل في حقيقتها بعيدة عن الغلو والإفراط والتفريط والإنكار.
***(1/264)
الفصل الرابع الكتب السماوية
تمهيد: إن من أركان الإيمان الاعتقاد بالكتب السماوية، وأنها من عند الله سبحانه وتعالى، إلا أن هناك من البشر من أنكر الكتب السماوية جملة وهم الملاحدة، وهناك من حرف الكتب السماوية وأضاف إليها ما لم ينزل الله به من سلطان، وهم اليهود والنصارى وقعوا في الغلو وفي الإفراط وابتعدوا عن الصراط المستقيم، وقد اتضح ذلك عندما تكلمنا عن منهج الوسطية في توحيد الله وأسمائه وصفاته، حيث رأينا ما وقع فيه اليهود من التحريف، وما وقعت فيه النصارى كذلك، وقد وضَّح الله سبحانه وتعالى ما وقع فيه أهل الكتاب من التحريف والتبديل.
المبحت الأول تحريف اليهود وتزويرهم
أما اليهود فقد تفننوا في التزوير، وأضافوا في كتابهم المقدس وحذفوا منه واتبعوا كافة الأساليب الشيطانية وقد بين الله في كتابه العزيز أنواعًا من تحريف اليهود للتوراة:
أولاً: إلباس الحق بالباطل:
كان بنو إسرائيل يخلطون الحق بالباطل، بحيث لا يتميز الحق من الباطل، وقد سجل القرآن الكريم هذا الجرم عليهم، قال سبحانه: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 40 - 42] وقال سبحانه: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} [آل عمران: 71].
ومن أبلغ الصور وأقبحها في إلباس الحق ادعاء الكهنة والأحبار -في التوراة(1/265)
التي بأيديهم- أن هارون عليه السلام هو الذي جمع الذهب من بني إسرائيل واشترك معهم في صناعة العجل الذهبي، ووافقهم على عبادته من دون الله، وفي الوقت نفسه يبرِّئون السامري، فهارون الذي تحمل المشاق عليه الصلاة والسلام في سبيل إقناع فرعون بالتوحيد جعلوه داعية الشرك والكفر، ولكن القرآن الكريم كان لهذه الدعوى بالمرصاد، فكذبهم، وبين حقيقة الأمر (1).
قال تعالى: {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} إلى قوله تعالى: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه: 87 - 91].
فهذا هو الصدق حقًّا إنما عمل لهم العجل السامري، أما هارون فنهاهم ولكنهم عصوه وكادوا يقتلونه.
النوع الثاني: من التحريف كتمان الحق:
لا شك أن الله حق، ولا يقول إلا حقًا، والتوراة التي أنزلت على موسى كلها حق؛ لأنها كلام الله تعالى؛ ولكن بني إسرائيل كانوا يكتمون الحق قاصدين بذلك إخضاع كتاب الله لأهوائهم وشهواتهم، فالآيات التي يرون فيها منفعة لهم عاجلة أو تكون في جانب حجتهم يقرونها، وأما الآيات التي يرون أن فيها دليلاً عليهم فيكتمونها، ولهذا سجل الله عليهم هذا الكتم في كتابه فقال سبحانه: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 71].
ومن أعظم ما كتمه أهل الكتاب هو ما وجدوه في كتبهم من صفات محمد - صلى الله عليه وسلم - واختيار الله له رسولاً إلى الناس أجمعين وقد كانوا يعرفونه في كتبهم كما يعرفون أبناءهم ولكنهم إذا سُئلوا عن ذلك كتموا (2).
__________
(1) انظر: الفصل، لابن حزم (1/ 256).
(2) انظر: تفسير البغوي (1/ 67، 162، 315).(1/266)
قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146]، {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 20].
وقد بين عز وجلِ صفاته - صلى الله عليه وسلم - الكاملة في التوراة والإنجيل فقال عز وجل: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 156 - 157] ومع هذه الأوصاف العظيمة التي كانوا يعرفونها مكتوبة عندهم أنكروا نبوته - صلى الله عليه وسلم - وكتموا ما علموه.
النوع الثالث: إخفاء الحق:
وقد كان أهل الكتاب يخفون من أحكام التوراة الشيء الكثير، قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15] ومن الأحكام التي أخفاها اليهود حكم رجم الزاني والمحصن، فقد جاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل منهم وامرأة قد زنيا، فقال لهم: " كيف تفعلون بمن زنى منكم؟ قالوا: نحممهما ونضربهما. فقال: لا تجدون في التوراة الرجم؟ فقالوا: لا نجد فيها شيئًا. فقال لهم عبد الله بن سلام كذبتم، فائتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين، فوضع مدارسها الذي يدرسها منهم كفه على آية الرجم، فطفق يقرأ ما دون يده وما وراءها، ولا يقرأ آية الرجم، فنزع يده عن آية الرجم، فقال ما هذه؟ فلما رأوا ذلك قالوا: هي آية الرجم، فأمر بهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجما ... الحديث " (1).
ولهذا قال سبحانه: {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} إلى
__________
(1) البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة آل عمران، باب: (قل فأتوا بالتوراة) (8/ 244).(1/267)
قوله: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [المائدة: 41 - 43]. وقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [آل عمران: 23].
فأنكر سبحانه على أهل الكتاب المتمسكين فيما يزعمون بكتابيهم التوراة والإنجيل، وإذا دعوا إلى التحاكم إلى ما فيهما من طاعة الله فيما أمرهم به فيهما من أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - تولوا وهم معرضون عنهما وهذا في غاية ما يكون من ذمهم (1).
النوع الرابع: ليُّ اللسان:
من أنواع تحريف اليهود للتوراة: لي اللسان، فهم يلوون ألسنتهم ويعطفونها بالتحريف، ليلبسوا على السامع اللفظ المنزل بغيره، ويفتلون ألسنتهم حين يقرءون كلام الله تعالى لإمالته عما أنزله الله عليهم إلى اللفظ الذي يريدونه.
قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78].
ومن التحريف بلي اللسان ما كان يفعله اليهود مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقولهم:
{وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَع} [النساء: 46] ويقصدون معنى اسمع لا سمعت، أي: يدعون على
النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد كان المسلمون يقولون للنبي - صلى الله عليه وسلم - راعنا، من المراعاة والمعنى: فَارْعَ
سمعك لكل منا، فلما سمع اليهود هذه اللفظة اغتنموا الفرصة في التحريف؛ لأن معناها عندهم السب والطعن بمعنى يا أحمق (2) ولكن الله عز وجل كشف سترهم فقال: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 46].
__________
(1) انظر: تفسير ابن كثير (1/ 356).
(2) انظر: تفسير البغوي: (1/ 102، 438).(1/268)
ونهى الله المؤمنين عن صفات اليهود فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 104].
النوع الخامس: تحريف الكلام عن مواضعه:
أثبت الله عز وجل على أهل الكتاب هذا النوع من التحريف فقال عز وجل:
{مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء: 46] {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 13].
وقال عز وجل: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 41] وهذا النوع من التحريف له أربع صور كالتالي:
1 - تحريف التبديل: وهو وضع كلمة مكان كلمة، أو جملة مكان جملة.
2 - تحريف بالزيادة: ويكون بزيادة كلمة أو جملة.
3 - تحريف بالنقص: وهو إسقاط كلمة أو جملة من الكلام المنزل على موسى عليه السلام.
4 - تحريف المعنى: تبقى الكلمة أو الجملة كما هي ولكنهم يجعلونها محتملة لمعنين، ثم يختارون المعنى الذي يتفق مع أهوائهم وأغراضهم (1).
وهذه الصورة لها أمثلة كثيرة من التوراة لا يتسع المقام لذكرها (2).
ومن رحمة الله تعالى وكرمه أنه عندما ذكر ما فعلوه من العظائم دعاهم إلى التوبة، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [النساء: 47] فلو آمنوا بالله وملائكته وجميع كتبه ورسله لكفَّر عنهم سيئاتهم وأدخلهم الجنة (3).
__________
(1) التوراة دراسة وتحليل للدكتور محمد شلبي شتيوي (83).
(2) انظر: إغاثة اللهفان (2/ 342 - 344).
(3) انظر: تفسير السعدي (319).(1/269)
قال تعالى:
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 65 - 66].
وقال تعالى: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110].
***(1/270)
المبحث الثاني تحربف النصارى للإنجيل
وأما النصارى فقد حرفوا الإنجيل وبذلك ابتعدوا عن الصراط المستقيم وإليك ما يثبت التحريف في الأناجيل:
أولاً: النتيجة التي لا مفر من التسليم بها أن الأناجيل القانونية الموجودة الآن ما هي إلا كتب مؤلفة، وهي تبعًا لذلك معرضة للخطأ والصواب، ولا يمكن الادعاء ولو لحظة أنها كتبت بإلهام؛ فلقد كتبها أناس مجهولون، في أماكن غير معلومة، وفي تواريخ غير مؤكدة، والشيء المؤكد أن هذه الأناجيل مختلفة غير متآلفة، بل إنها متناقضة مع نفسها، ومع حقائق العالم الخارجي, لأنها فشلت في تنبؤات كثيرة، كالقول بنهاية العالم، وهذا القول قد يضايق النصراني العادي، بل قد يصدمه؛ ولكن بالنسبة للعالم النصراني فقد أصبح ذلك عنده حقيقة مسلم بها (1) لما أجراه من أبحاث، ولما علم من واقع الإنجيل.
ثانيًا: الشواهد على التحريف من الأناجيل:
أ- جاء في إنجيل مرقس: أن المسيح قال لتلاميذه: (اذهبوا إلى العالم أجمع واكروزا بالإنجيل للخليقة كلها، من آمن واعتمد خلص، ومن لم يؤمن يدان، وهذه الآيات تتبع المؤمنين يخرجون الشياطين باسمي، ويتكلمون بألسنة جديدة، يحملون حيات، وإن شربوا شيئًا مميتًا لا يضرهم، ويضعون أيديهم على المرضى فيبرءون) (2).
ففي هذا النص حجة على النصارى من وجهين:
الوجه الأول: قولهم عن عيسى إنه أمرهم أن يبشروا بالإنجيل فدل ذلك على أن إنجيلاً أتاهم به وليس هو عندهم الآن، وإنما عندهم أربعة أناجيل متغايرة، وليس
__________
(1) انظر: المناظرة بين الإسلام والنصرانية (35 - 50).
(2) انظر: الفصل لابن حزم، (2/ 139) وعزاه المحقق إلى إنجيل مرقس، والإصحاح (16/ 15 - 18).(1/271)
منها إنجيل ألف إلا بعد رفع عيسى عليه السلام بأعوام كثيرة، فصح أن ذلك الإنجيل الذي أخبر المسيح أنه أتاهم به وأمرهم بالتبشير به ذهب عنهم؛ لأنهم لا يعرفون له أصلاً، وهذا ما لا يمكن سواه.
الوجه الثاني: قولهم إنه وعد كل من آمن بدعوة التلاميذ أنهم يتكلمون بلغات لا يعرفونها، وينفون الجن عن المجانين، ويضعون أيديهم على المرضى فيبرءون ويحملون الحيات، وإن شربوا شربة قتالة لا تضرهم، وهذا وعد ظاهر الكذب؛ فإن ما من النصارى أحد يتكلم بلغة لم يتعلمها، ولا منهم أحد ينفي جنيًّا، ولا من يحمل حية فلا تضره، ولا من يضع يده على مريض فيشفى، ولا منهم أحد يسقى السم فلا يضره، وهم معترفون بأن يوحنا -صاحب الإنجيل- قتل بالسم وحاشا لله أن يأتي نبي بمواعيد كاذبة، وهذا دليل على تحريف النصارى وتناقضهم وتكذيبهم أنفسهم) (1).
ب- ومن ذلك ما جاء في إنجيل متى أن عيسى عليه السلام دعا على شجرة تين خضراء فيبست التينة في الحال، فتعجب التلاميذ من ذلك، فقال لهم عيسى: (الحق أقول لكم إن كان لكم إيمان، ولا تشكو أمر التينة فقط، بل إن قلتم أيضًا لهذا الجبل انتقل وانطرح في البحر فيكون) (2).
وهذا فيه حجة على النصارى، وذلك أن الأمر لا يخلو من أن يكون النصارى مؤمنين بالمسيح عليه السلام، أو غير مؤمنين, فإن كانوا مؤمنين، فقد كذبوا المسيح فيما نسبوه إليه في هذه المقالة -وحشا له من الكذب- فليس منهم أحد قدر على أن يأمر حبة من خردل بالانتقال فتنتقل، فكيف على قلع جبل وإلقائه في البحر.
وإن كانوا غير مؤمنين به فهم بإقرارهم هذا كفار، ولا يجوز أن يصدق كافر (3).
وبهذا يتبين أن الأناجيل وقع فيها تحريف عظيم، ولا يعتمد عليها، ولا مخرج
__________
(1) انظر: الفصل لابن حزم (2/ 139).
(2) انظر: الفصل لابن حزم، (2/ 139).
(3) المرجع السابق (2/ 98).(1/272)
من هذا التيه إلا بالدخول في الإسلام وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه ما اقترفه النصارى وما أدخلوه على حقيقة النبوة، من تأليه جماعة منهم لعيسى ابن مريمِ، وقول بعضهم بالتثليث، قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 72] وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 73] فجاء القرآن الكريم، وبين هذا التحريف، وبين العقيدة السليمة في عيسى وأمه، فقال تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة: 75] والحق الذي لا يماري فيه منصف أنه لا يوجد اليوم على ظهر الأرض كتاب تصلح نسبته إلى الخالق تبارك وتعالى سوى القرآن الكريم، ومن وسطية القرآن في ركن الكتب السماوية بيانه ما وقع فيها من الانحراف والابتعاد عن الصراط المستقيم وأعطانا القول الفصل في هذا المجال ولم يترك ما يفيدنا وينفعنا فيما يتعلق بهذا الشأن وغيره.
فبين سبحانه وتعالى أن التوراة أصلها من عند الله وحدث فيها التحريف بسبب أحبارهم ورهبانهم قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44].
وبين سبحانه وتعالى أن الإنجيل أصله من عند الله إلا أن علماءهم حرفوه قال تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 14 - 15].
وأخبر سبحانه وتعالى أن الزبور أنزلها على داود عليه السلام فقال تعالى:(1/273)
{وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} [الإسراء: 55] وأخبرنا سبحانه عن الصحف التي أنزلها على إبراهيم وموسى التي أخبر الله عنها بقوله: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 36 - 42].
قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 14 - 19].
وأما الكتب الأخرى التي نزلت على سائر الرسل، فلم يخبرنا الله تعالى عن أسمائها، وإنما أخبرنا سبحانه أن لكل نبي أرسله الله، رسالة بلغة قومه، فقال: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213].
فمن حكمة الله أنه بين لنا ما يفيدنا في دنيانا وآخرتنا فيجب علينا أن نؤمن بهذه الكتب التي لم تُسمَّ إجمالاً، ولا يجوز لنا أن ننسب كتابًا إلى الله تعالى سوى ما نسبه إلى نفسه مما أخبرنا عنه في القرآن الكريم.
***(1/274)
المبحث الثالث وسطية القرآن بين الكتب السماوية
ومن وسطية القرآن في باب الإيمان بالكتب السماوية بيانه أن هذه الكتب نزلت بالحق والنور والهدى وتوحيد الله سبحانه في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأن ما نسب إليها مما يخالف ذلك إنما هو من تحريف البشر وصنعهم.
ومن وسطية القرآن ما ميزه الله وخصه به عن سائر الكتب المقدسة التي سبقت نزوله من الكتب المنزلة من أهمها:
أنه تضمن خلاصة التعاليم الإلهية، وجاء مؤيدًا ومصدقًا لما جاء في الكتب السابقة من توحيد الله، وعبادته، ووجوب طاعته، وجمع كل ما كان متفرقًا في تلك الكتب من الحسنات والفضائل، وجاء مهيمنًا ورقيبًا عليها، يقر ما فيها منِ حق، ويبين ما دخل عليها من تحريف وتغيير (1) قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 48].
ومن وسطية القرآن أنه جاء بشريعة عامة للبشر فيها كل ما يلزمهم لسعادتهم في الدارين، نسخ بها جميع الشرائع العملية الخاصة بالأقوام السابقة وأثبت فيها الأحكام النهائية الخالدة الصالحة لكل زمان. إن القرآن الكريم هو الكتاب الرباني الوحيد الذي تعهد الله بحفظه فقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41 - 42].
__________
(1) انظر: الإيمان لمحمد ياسين (100).(1/275)
والقرآن الكريم أنزله على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - للناس كافة وليس خاصًّا بقوم معينين، كما كانت تنزل الكتب السابقة فكان حفظه من التحريف، وصيانته من عبث الناس، ليبقى ما فيه حجة الله على الناس، قائمة حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
بعكس الكتب الأخرى، فقد وجه الكلام في كل واحد منها إلى أمة خاصة دون سائر الأمم، وهي وإن اتفقت في أصل الدين إلا أن ما نزل فيها من الشرائع والأحكام كان خاصًّا بأزمنة معينة وأقوام معينين قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48].
لذلك لم يتعهد الله سبحانه بحفظ أي منها على مدى الدهور والأيام والأزمان كما هو الحال بالنسبة للقرآن، وقد تكلَّمْتُ عن أوجه الخيرية للقرآن الكريم في باب ملامح الوسطية.
وبهذا أرجو من الله العلي العظيم أن أكون قد وفقت في بيان وسطية القرآن بالسنة للكتب السماوية.
***(1/276)
الفصل الخامس وسطية القرآن في أنبياء الله ورسله
تمهيد: لقد كان من أعظم نعم الله عز وجل على عباده أن بعث فيهم رسلاً منهم يعرفون نسبهم وأخلاقهم، اختارهم من خيارهم واصطفاهم من أوسطهم مكانة ونسبًا، يدعون قومهم إلى خير ينفعهم في دنياهم وأخراهم وينهونهم عن كل ما فيه هلاكهم وضررهم في دنياهم وأخراهم، يدعونهم إلى عبادة الله وحده واتباع أوامره واجتناب نواهيه ويحذرونهم من الشرك بالله ومعصيته، ومخالفة أوامره وارتكاب نواهيه - فما من أمة إلا خلا فيها نذير، وبعث إليها رسلاً أو رسولاً، وذلك رحمة من الله بعباده، ولئلا يقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير، يقول في ذلك تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} [النحل: 36].
ويقول الله عز وجل: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 163 - 165].
فبين سبحانه أنه أرسل رسله إلى عباده مبشرين ومنذرين، فمن عصاهم فله أليم العذاب والعقوبة، لئلا يحتج من كفر بالله وعبد الأنداد أو ضَلَّ عن سبيله بأن يقول إن الله أراد عقابه:
{لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134].
ولقد بلغ الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، ما أرسلوا به، ونصحوا لأممهم غاية النصح، وبينوا لهم أوضح بيان وأجلاه، ما يجب عليهم في دينهم ودنياهم،(1/277)
وما أعد الله لأهل طاعته من ثواب، وأهل معصيته من عذاب، وسلكوا في تبليغ قومهم رسالات ربهم كل مسلك فدعوهم ليلاً ونهارًا، وسرًّا وجهارًا ولم يسألوهم على ذلك أجرًا، بل تحملوا في سبيل نصحهم وهدايتهم ألوان الشدائد وضروب المتاعب والأذى (1).
ولقد تباينت مواقف الأمم تجاه أنبيائهم ورسلهم، ما بين مؤمن بهم متبع لهم، وبين كافر بهم مؤذٍ لهم، وبين غال فيهم منزل لهم فوق المنزلة التي أنزلهم الله إياها، وفي هذا المبحث سنعرض لموقف اليهود والنصارى والمسلمين في أنبياء الله ورسله.
وإنما اخترنا هذه الأمم من بين سائر الأمم، لكونها أكثر الأمم أنبياء ورسلاً، ولكونهم أهل كتب سماوية نزلت إليهم، ولكونهم آخر ثلاث أمم أرسل إليها رسل أدرك بعضها بعضًا.
...
__________
(1) انظر: وسطية أهل السنة بين الفرق (256).(1/278)
المبحث الأول موقف اليهود من أنبياء الله ورسله
لقد كان ليهود من أنبياء الله ورسله مواقف شائنة مخزية تنبئ عن خبث في الطوية، وفساد في السيرة والسريرة، واتباع للنفس والهوى، وإعراض عن الحق والهدى. وإذا نحن أجلنا النظر في كتاب الله عز وجل، تحصل لنا أن مواقف اليهود من رسل الله تتلخص في الأمور التالية:
الأمر الأول: أنهم فرقوا بين رسل الله ولم يؤمنوا بهم جميعًا؛ بل آمنوا ببعض وكفروا بالبعض الآخر (بمجرد التشهي والعادة، لا عن دليل قادهم إلى ذلك, فإنه لا سبيل لهم إلى ذلك بل بمجرد الهوى والعصبية) (1).
ومن أعظم الرسل الذين كفروا بهم وكذبوا برسالتهم، عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، على أنهم كذبوا وكفروا بأنبياء آخرين غيرهما بدليل قتلهم لكثير من أنبيائهم كما سيأتي وقد عد الله من يؤمن ببعض الرسل ويكفر بالبعض الآخر كافرًا، بل هو الكافر حقًّا فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 150 - 151].
قال الإمام ابن جرير في تفسير هذه الآية: {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} يعني أنهم يقولون نصدق بهذا ونكذب بهذا، كما فعلت اليهود في تكذيبهم عيسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم - وتصديقهم بموسى وسائر الأنبياء قبله بزعمهم وكما فعلت النصارى من تكذيبهم محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وتصديقهم عيسى وسائر الأنبياء قبله بزعمهم (2).
الأمر الثاني: أنهم خذلوا أنبياءهم ولم يقوموا بنصرهم، وقد أخذ الله عليهم ميثاقهم لينصرهم فقال: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا
__________
(1) تفسير ابن كثير (2/ 396).
(2) جامع البيان (9/ 351).(1/279)
وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [المائدة: 12].
قال الحافظ ابن كثير: (أي: نصرتموهم وآزرتموهم على الحق) (1). فلم يفوا بميثاقهم، وما لبثوا أن قالوا لموسى عليه السلام لما قال لهم: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 21] {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة: 22].
ثم ما لبثوا أن أعلنوا خذلانه، وعدم القتال معه، وخلوا بينه وبين عدوه فـ: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] فكان جزاؤهم التيه في الأرض أربعين سنة: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 26].
الأمر الثالث: أنهم تنقصوا بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ورموهم بارتكاب كبائر الذنوب، وألصقوا بهم كل رذيلة ومن ذلك.
1 - ما نسبوه إلى هارون عليه السلام من أنه صنع لهم العجل، الذي عبدوه من دون الله جاء في (سفر الخروج).
(ولما رأى الشعب أن موسى أبطأ في النزول من الجبل، اجتمع الشعب على هارون وقالوا له: قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا؛ لأن هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ماذا أصابه، فقال لهم هارون: انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وآتوني بها، فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي في آذانهم وأتوا بها إلى هارون فأخذ ذلك من أيديهم وصوره بالأزميل وصنعه
__________
(1) تفسير القرآن العظيم (3/ 62).(1/280)
عجلاً مسبوكًا، فقالوا هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر، فلما نظر هارون بني مذبحًا أمامه ونادى هارون وقال: غدًا عيد للرب فبكروا في الغيد وأصعدوا محرقات وقدموا ذبائح سلامة وجلس الشعب للأكل والشرب ثم قاموا للعب) (1).
هكذا يصور هذا السفر نبيًا عظيمًا من أنبياء الله بعثه ليدعو الناس إلى توحيد الله- في صورة صانع للأصنام، مغر لقومه بعبادته من دون الله عز وجل. ونحن نقطع بأن هذا النص مما كتبه اليهود بأيديهم، وقالوا هو من عند الله وما هو من عند الله، وإنه (ليدل على أن محرري هذه الأسفار لا يرعون لأنبيائهم حرمة ولا يرجون لهم وقارًا ولا يتورعون عن أن ينسبوا إليهم أية نقيصة حتى خيانة الرسالة نفسها التي بعثوا من أجلها ودفع قومهم إلى الشرك بالله) (2).
ولقد ذكر الله في القرآن الكريم قصة عبادة اليهود للعجل، وبين أن الذي صنع العجل وأغراهم بعبادته هو السامري وليس هارون عليه السلام؛ بل أخبر عز وجل أن هارون عليه السلام حذر قومه من ذلك ولكن القوم لم يلتفتوا إلى تحذيره وعصوه، وخالفوه إلى ما نهاهم عنه فقال عز وجل: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه: 83 - 91].
__________
(1) الكتاب المقدس، العهد القديم سفر الخروج، الإصحاح (32)، فقرة (1 - 6).
(2) انظر: الأسفار المقدسة في الأديان السابقة للإسلام، للدكتور علي عبد الواحد، (46).(1/281)
فهذه الآيات تنطق في وضوح ببراءة هارون عليه السلام مما نسبه إليه اليهود، وتشهد بافترائهم وكذبهم وتقولهم على الله عز وجل ورسله ألا بئس ما يزرون.
ورموا نبي الله الأواب سليمان عليه السلام بأنه في أواخر أيامه مال إلى ممالأة نسائه على عبادة الأوثان وبنى لآلهتهن المعابد وأن قلبه مال معهن إلى هذه الآلهة ولم يكن ذلك مخلصًا في إيمانه بربه عز وجل وتجد ذلك في (سفر الملوك الأول) من كتبهم المقدسة (1).
فهذا سليمان النبي الكريم الذي لم يقر ملكة سبأ وقومها على عبادة الشمس والقمر من دون الله، وبذل ما في وسعه لهدايتهم إلى عبادة الله رب العالمين، فأظهر لها من آيات الله التي آتاه ما حدا بها إلى الهداية والإسلام فقالت: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44] ومع ذلك ينسب إليه اليهود الميل إلى عبادة الأصنام والإذعان لرغبة نسائه في ذلك، سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم.
2 - نسبتهم لبعض الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام شرب الخمر وارتكاب فاحشة الزنى والقتل فنسبوا إلى أبي الأنبياء نوح عليه السلام أنه شرب الخمر حتى سكر وثمل وانكشفت سوءته ذكر ذلك في (سفر التكوين) (2) هكذا يصور كتاب اليهود المقدس نوحًا عليه السلام الذي مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعوهم إلى الله ليلاً ونهارًا وسرًّا وجهارًا، في صورة فاسق لا يفيق من السكر، قاتلهم الله أنى يؤفكون.
ونسبوا إلى نبي الله لوط عليه السلام الزنى بابنتيه، فقالوا: إن ابنتيه تآمرتا عليه وأسقتاه خمرًا حتى ثمل وزنى بهما وحملتا منه، ذكر ذلك في سفر التكوين (3).
وهذا نبي الله الملك الصالح داود عليه السلام تنسب إليه التوراة المزعومة الزنى بإحدى زوجات قائد من قواد جنوده فخشى افتضاح أمره فاحتال بقتله، وتزوج
__________
(1) انظر: سفر الملوك الأول، إصحاح (11) فقرة (4 - 10).
(2) وسطية أهل السنة بين الفرق (266).
(3) انظر: سفر التكوين، الإصحاح (19)، فقرة (30 - 37).(1/282)
امرأته من بعده ثم ذكروا أن داود طلب عودة أوريا زوج المرأة المزعومة من المعركة ليقيم مع زوجته.
في محاولة من داود لإخفاء جريمته ونسبة الحمل لأوريا، ولكن أوريا لم يدخل على أهله، ولما يئس منه داود كتب إلى قائده يأمره بأن يجعل أوريا في مقدمة الجيش والتراجع عنه عند اشتداد الخطر ليهلك، ذكر ذلك في (سفر صموئيل الثاني) (1).
فانظر رحمك الله كيف صوروا نبيًّا كريمًا بهذه الصورة المزرية، فلم يكفهم نسبة الزنى إليه، حتى جعلوه متآمرًا على القتل، بل آمرًا به (2).
الأمر الرابع: أنهم قتلوا بعض أنبيائهم:
لقد سجل الله عليهم في القرآن الكريم هذا الموقف المشين من أنبيائهم في غير ما آية، مقرعًا لهم وموبخًا على هذا الصنيع القبيح، والجرم العظيم الذي ارتكبوه بحق من أرسل لهدايتهم وبعث لإرشادهم إلى صراط الله المستقيم، من أنبياء الله ورسله قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87].
وقال عز وجل: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} [المائدة: 70] فاستجلبوا بهذا الموقِف المخزي غضب الله عز وجل ومقته وسخطه واستوجبوا عذابه ونقمته: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61] {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21].
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: (كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلاثمائة نبي،
__________
(1) سفر صموئيل الثاني: إصحاح (11) فقرة (14 - 16).
(2) انظر: وسطية أهل السنة، (268).(1/283)
ثم يقيمون سوقًا بقتلهم في آخر الزمان) (1). ومن أعظم الأنبياء الذين قتلوهم زكريا وابنه يحيى عليهما السلام، فقد أخرج الحاكم (2) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله عز وجل: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران: 21].
بعث عيسى ابن مريم في اثني عشر رجلاً من الحواريين يعلمون الناس فكان ينهاهم عن نكاح ابنة الأخ وكان ملك له ابنة أخ تعجبه فأرادها وجعل يقضي لها كل يوم حاجة فقالت لها أمها: إذا سألك عن حاجتك فقولي له: أن تقتل يحيى بن زكريا، فقال لها الملك: ما حاجتك؟ فقالت: حاجتي أن تقتل يحيى بن زكريا فقال: سلي غير ذلك فقالت: لا أسأل غير هذا، فلما أتى أمر به فذبح ... ).
وذكر الإمام ابن جرير (3) وغيره قتل بني إسرائيل زكريا عليه السلام كما قتلوا ابنه يحيى، وقد أجمعوا على قتل المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، ولكن الله حفظه من كيدهم، ورفعه إليه، وألقى شبهه على غيره فقتلوه وصلبوه وهم يعتقدون أنهم قتلوا المسيح عليه السلام، كما ذكر ذلك عنهم الحق تبارك وتعالى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 157 - 158].
ويبدو أن هذا الخلق ظل ملازمًا لهم تجاه أنبياء الله ورسله، ولم يكن ذلك منهم مع أنبيائهم فقط، فقد حاولوا قتل نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فدسوا له السم صلوات الله عليه وسلامه بغية قتله، وحاول بنو النضير اغتياله بإلقاء الصخرة عليه (4) جريا على عادتهم في الخبث والكيد لرسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، كما ثبت في الصحيحين من حديث أنس - رضي الله عنه -: " إن امرأة يهودية أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشاة مسمومة، فأكل منها فجيء بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألها عن ذلك؟ فقالت: أردت لأقتلك قال: ما كان الله ليسلطك على ذاك -قال- أو قال: عليّ قال: قالوا:
__________
(1) انظر: ابن كثير في تفسيره (1/ 146).
(2) هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري توفي سنة (405 هـ) من أكبر علماء الحديث.
(3) انظر: جامع البيان، (6/ 284).
(4) انظر: ابن هشام، السيرة (2/ 190).(1/284)
ألا تقتلها؟ قال: لا قال: فما زلت أعرفها في لهوات (1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2).
وتشير بعض الروايات إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مات وهو يجد أثر سم اليهود له، ففي حديث عائشة - رضي الله عنها - " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في مرضه الذي مات فيه: يا عائشة: ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان انقطاع أبهري من ذلك السم " (3).
وبعد: فهذا هو موقف يهود من رسل الله وأنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم؛ إيمانًا ببعض وكفر ببعض، وتنقص منهم وإيذاء، وسب، وشتم، وقذف بارتكاب جرائم السكر والعربدة، والزنى والقتل، ثم تشريد ومطاردة وقتل لبعضهم وهي مواقف تدل على مبلغ تفريط القوم وبعدهم عن الوسطية وعن الصراط المستقيم وعن العدل والاستقامة في حق أنبياء الله ورسله، وعظم تقصيرهم وشدة جفائهم وعداوتهم وبما غلوا وأفرطوا في حق بعض أنبيائهم، وأنزلوهم فوق مكانة النبوة والرسالة، كما وقع منهم في حق العزير عليه السلام إذ قالوا إنه ابن الله كما ذكر الله عز وجل ذلك في قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30].
ومن مظاهر غلوهم اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد، كما أخبر المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بذلك ولعنهم لأجله فقال: " لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " (4) وفي حديث آخر قال - صلى الله عليه وسلم -: " قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " (5).
فالقوم كان لديهم غلو في بعض أنبيائهم، لكن لما كان الغالب عليهم الجفاء والتفريط في هذا الجانب ظن بعض الناس أنه لم يقع منهم غلو، لكثرة ما ورد في القرآن من نسبة قتل الأنبياء وتكذيبهم إليهم، بل ربما لهوى في نفوس البعض، حاول التشكيك في الأحاديث التي أشرنا إليها وأوهم أنها تعارض ما جاء في القرآن من ذكر جفائهم للأنبياء، وغفل أو تغافل عن أن القرآن الكريم كما جاء فيه نسبة التفريط إليهم، جاء فيه أيضًا نسبة الإفراط والغلو إليهم كما تقدم في شأن العزير عليه السلام.
__________
(1) لهوات: جمع لهاة وهي اللحمة في سقف أقصى الفم.
(2) البخاري: كتاب الهدية، باب قبول الهدية من المشركين، (5/ 320) رقم الحديث (2617).
(3) البخاري، كتاب المغاري، باب مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - (9/ 131).
(4) البخاري: كتاب الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور، (1/ 532).
(5) البخاري: كتاب الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور، (1/ 532).(1/285)
المبحث الثاني موقف النصارى
إذا كان اليهود غلب عليهم التفريط والتقصير والجفاء في حق أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين مع غلوهم في بعضهم كالعزير عليه السلام فإن النصارى قد ذهبوا إلى أقصى الطرف المعاكس فغلب عليهم الغلو والإفراط ولا سيما في نبي الله عيسى عليه السلام، على أنهم فرطوا وقصروا أيضًا في حق الله؛ بل وفي حق عيسى عليه السلام أيضًا، ويمكن إجمال مواقفهم في هذا الباب في الأمور التالية:
الأمر الأول: أنهم لم يؤمنوا بجميع الرسل والأنبياء، بل فرقوا بينهم فآمنوا ببعض وكفروا ببعض وغلوا في بعض، وهم معنيون أيضًا بقوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 150 - 151] وقدمنا إيراد هذه الآية في الكلام على موقف اليهود، وذكرنا ما قاله الإمام ابن جرير في تفسيرها، وفيه أن النصارى ممن آمن ببعض الأنبياء وكفر ببعض، حيث آمنوا بعيسى وموسى بزعمهم وكفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -.
الأمر الثاني: أنهم غلوا وأفرطوا في نبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام، ورفعوه فوق المكانة التي جعله الله فيها، وأنزلوه فوق المنزلة التي أنزله الله إياها.
فلم يؤمنوا به عبدًا لله ورسولاً نبيًّا، وإنما جعلوه هو الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة يشكلون منها الإله، وعبدوه من دون الله عز وجل وأضافوا إليه من الأفعال والأعمال ما لا يصح إضافته ونسبته إلا إلى الله عز وجل، فكانت عقيدتهم فيه التي أجمعوا عليها بعد (مجمع نيقية) (1). وسموها بـ (الإمامة) على النحو التالي:
الإيمان:
__________
(1) سمي بذلك نسبة إلى مدينة نيقية من أعمال إسطنبول التي اجتمع بها عدد من علماء النصارى، وكان من أهم قراراته القول بإلهية المسيح عليه السلام. انظر: النصرانية لأبي زهرة (124)، وانظر: ابن القيم، هداية الحيارى (323).(1/286)
1 - بإله واحد، أب، ضابط الكل، خالق السماء والأرض صانع ما يرى وما لا يرى.
2 - وبرب واحد يسوع، الابن الوحيد المولود من الأب قبل الدهور من نور الله إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، مساو للأب في الجوهر الذي به كان كل شيء الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خطايانا نزل من السماء وتجسد في روح القدس ومن مريم العذراء، وصلب حيًّا على عهد بيلاطس وتألم وقبر، وقام من الأموات في اليوم الثالث على ما في الكتب وصعد إلى السماء وجلس على يمين الرب وسيأتي ليدين الأحياء والأموات، ولا فناء لملكه ... ) (1).
لقد ذكر القرآن الكريم غلوهم في عيسى عليه السلام، وقولهم بألوهيته وبنوته لله عز وجل، وكفرهم بذلك، فقال جل وعلا: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 72] {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 73].
وقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30].
وورد في بعض الأناجيل بعض النصوص التي اعتمد عليها النصارى في تأليه المسيح ونبوته، ومن ذلك ما جاء في إنجيل (يوحنا) كقولها: (في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة لله هذا كان في البدء عند الله، كل به كون وبغيره لم يكون شيء مما كون) (2).
فجعل المسيح هو الكلمة، وجعل الكلمة هي الله، فالمسيح هو الله، تعالى الله عن قولهم.
وفيه أيضًا أن المسيح عليه السلام أبرأ أعمى فرده بصيرًا، وأن اليهود لما سألوه من
__________
(1) انظر: الأسفار المقدسة (111)، الملل والنحل (2/ 28) للشهرستاني.
(2) إنجيل يوحنا، الإصحاح الأول، فقرة (1 - 4).(1/287)
رد إليك بصرك أخبرهم بذلك ووعظهم فطردوه، وسمع يسوع أنهم طردوه خارجًا فلقيه وقال له أتؤمن أنت بابن الله، فأجاب وقال: ومن هو يا سيدي لأؤمن به، فقال له يسوع قد رأيته وهو الذي يكلمك فقال له: قد آمنت يا رب وسجد له) (1).
على أن في هذا الإنجيل وغيره من الأناجيل من التناقضات في هذا الباب الكثير، بل فيه ما يدل على بشريه المسيح وعبوديته وأنه نبي وليس بإله وليس من غرضنا هنا ذكر ذلك، وإنما القصد الإشارة إلى قولهم بألوهية المسيح وبنوته لله عز وجل (2).
الأمر الثالث: خذلانهم لنبيهم وعدم نصرته، إن من الواجب على اتباع الرسل وخاصة أصحابهم وحوارييهم، أن ينصروهم ويعزروهم ويفدوهم بأنفسهم وأموالهم كما تقدم ذكر أخذ الله ميثاق بني إسرائيل على نصر الرسل ومؤازرتهم. ولكن قوم عيسى عليه السلام، وتلاميذه خذلوه ولم ينصروه عندما أراد أعداؤه اليهود أخذه وقتله، بل أسلمه بعضهم ودل عدوه عليه لولا أن الله رفعه وألقى شبهه على بعض تلاميذه.
وقد أثبت النصارى أن تلاميذ المسيح وأصحابه أسلموه لليهود وخلوا بينهم وبينه وقبض بعضهم ثمنًا لذلك، وهذا غاية الخذلان ذكر ذلك في إنجيل متى (3).
...
__________
(1) إنجيل يوحنا، الإصحاح التاسع، فقرة (35 - 37).
(2) متى، الإصحاح السادس والعشرون، فقرة (14 - 57).
(3) متى، الإصحاح السادس والعشرون، فقرة (14 - 57).(1/288)
المبحث الثالث موقف المسلمين من أنبياء الله ورسله
ينبع موقف المسلمين في هذا الباب من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - منهما تستقي هذه الأمة مواقفها واعتقادها وسائر أمور دينها وعنهما تصدر، لذلك جاء موقفهما من أنبياء الله ورسله موقفًا معتدلاً وسطًا، لا غلو فيه ولا إفراط ولا تفريط أو تقصير فيها، ولم تضل فيه كما ضلت أمم قبلها؛ لأنها لم تقل فيه بمجرد الرأي والهوى، ولم تبتدع فيه ما لم يأذن به الله ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
الأمر الأول: أن هذه الأمة آمنت بجميع الأنبياء والمرسلين ولم تفرق بين أحد منهم فتؤمن ببعض وتكفر ببعض كما فعل اليهود والنصارى ذلك أن الله عز وجل أمرها في كتابه الكريم بقوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136].
قال الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: (أرشد الله تعالى عباده المؤمنين إلى الإيمان بما أنزل إليهم بواسطة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - مفصلاً، وبما أنزل على الأنبياء المتقدمين مجملاً، ونص على أعيان من الرسل، وأجمل ذكر بقية الأنبياء، وأن لا يفرقوا بين أحد منهم، بل يؤمنوا بهم كلهم ... ) (1).
وقال قتادة: (أمر الله المؤمنين أن يؤمنوا ويصدقوا بأنبيائه ورسله كلهم ولا يفرقوا بين أحد منهم) (2).
وَعَدَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - الإيمان بالرسل أحد أركان الإيمان الستة التي لا يكون المرء مؤمنًا إلا إذا استكملها فقال - صلى الله عليه وسلم - في حديث جبريل المشهور: " الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره " (3).
__________
(1) تفسير القرآن الكريم (1/ 271).
(2) انظر: ابن جرير في تفسير (3/ 111).
(3) مسلم، كتاب الإيمان، باب الإيمان والإسلام، (1/ 36 - 37).(1/289)
فرسم القرآن الكريم لهذه الأمة طريقة الاستقامة فاستجابت لأمر الله ورسوله وآمنت برسل الله جميعًا، وشهد الله لها بهذا الإيمان في محكم كتابه فقال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285].
وبلغ من عمق إيمانها برسل الله وتصديقها لهم، أنها تشهد لهم على أممهم بالبلاغ، كما تقدم في حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يدعى نوح يوم القيامة، فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيقال لأمته، هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول محمد وأمته، فيشهدون أنه قد بلغ، ويكون الرسول عليهم شهيدًا، فذلك قوله جل ذكره، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] (1).
الأمر الثاني: أنها لم تتنقص أحدًا منهم، كما فعل غيرها من الأمم، بل وقَّرتهم وعزرتهم ونصرتهم، ونفت عنهم كل ما يقدح في أشخاصهم أو نبوتهم ورسالتهم، وأثبتت عصمتهم من الكفر، وارتكاب الكبائر قبل الرسالة وبعدها، وفي الصغائر خلاف، والجمهور على عصمتهم من تعمدها (2).
لأنهم صفوة الله من خلقه، كما أخبر الله في غير ما آية من كتابه فقال: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33].
وقال عن موسى عليه السلام: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39] وقال عن عدد من رسله: {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} [ص: 47] وقال عن جميع رسله: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75].
فهذه الأمة تؤمن وتعتقد أن رسل الله وأنبيائه أفضل الخلق وأطهرهم وأزكاهم،
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب {وكذلك جعلناكم أمة} (8/ 171 رقم الحديث (4487).
(2) انظر: لوامع الأنوار، للسفاريني، (2/ 303 - 305).(1/290)
وأنهم منزهون عن الدنايا مبرؤون من كل سوء صادقون في أقوالهم، قدوة وأسوة في أفعالهم وأعمالهم، لا يأتون منكرًا ولا يقولون زورًا، ولا يستحقون ذمًّا ولا يستوجبون عقابًا، أمرنا الله بالاقتداء بهم واتباع هديهم فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 89 - 90].
وترى محبتهم واجبة، ونصرتهم لازمة؛ لذلك كان نبيها ورسولها محمد - صلى الله عليه وسلم -، أحب إليها من النفس والمال، والولد والوالد، كما جاء في الحديث الصحيح عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين " (1).
ولما أخذ رسول الله بيد عمر بن الخطاب وقال له عمر يا رسول الله: " لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - الآن يا عمر " (2).
ولقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يفدون النبي - صلى الله عليه وسلم - بأموالهم وأنفسهم، فكان منهم من يقيه بجسده وقع السهام والنبال كما صنع أبو دجانة (3) - رضي الله عنه - في غزوة أحد (4). ولم يخذلوه قط أو يتخلفوا عن نصره والقتال بين يديه، حتى قال قائلهم يوم بدر وهو المقداد بن عمرو - رضي الله عنه - (5): " يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما
__________
(1) البخاري، كتاب الإيمان، باب حب الرسول - صلى الله عليه وسلم - (1/ 58).
(2) البخاري، الأيمان والنذور، باب كيف كانت يمين النبي - صلى الله عليه وسلم - (11/ 523)، رقم (6632).
(3) أبو دجانة هو: سماك بن خرشة، متفق على شهوده بدرًا، وكان ممن ذب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد، استشهد باليمامة، انظر: الإصابة، (4/ 58).
(4) انظر: سيرة ابن هشام (2/ 82).
(5) هو المقداد بن عمرو الكندي، شهد بدرًا والمشاهد بعدها، وكان فارسًا يوم بدر، مات سنة (33 هـ)، في خلافة
عثمان. انظر: ابن حجر، الإصابة (3/ 454).(1/291)
مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق؛ لو سرت بنا إلى برك الغماد (1) لجالدنا معك من دونه حتى نبلغه ... " (2)
يرى الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - هذا الموقف العظيم من المقداد - رضي الله عنه - مشيدًا به متمنيًا أن يكون هو صاحبه فيقول (شهدت من المقداد بن الأسود مشهدًا؛ لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عدل به (3) أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يدعو على المشركين فقال: لا نقول كما قال قوم موسى {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا} ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أشرق وجهه وسره، يعني قوله) (4).
ْوقال سعد بن معاذ (5) - رضي الله عنه - في هذا المقام: ( ... فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء لعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله، فسر رسول الله بقول سعد ونَشَّطَه ذلك ... ) (6).
فتأمل موقف هذه الأمة من نبيها، وانظر أي بون بينه وبين موقف قوم موسى عليه السلام في قولهم: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] أو موقف النصارى الذي أسلموا نبيهم لأعدائهم ليقتلوه ويصلبوه بزعمهم، وتآمر بعض تلاميذه وحوارييه عليه، كما تقدم بيان ذلك في فعل القوم من أنبيائهم.
الأمر الثالث: أنهم لم يغلوا فيهم أو يفرطوا في مدحهم بالباطل: وإنما قدروهم
__________
(1) هو موضع وراء مكة بخمس ليال مما يلي البحر، وقيل: بلد باليمن، وقيل: موضع في أقصى أرض هجر، وقيل: أقصى حجر باليمن، الحموي، معجم البلدان (1/ 399 - 400).
(2) ابن هشام، السيرة، (1/ 615).
(3) عدل به: أي وزن به، والمراد المبالغة في عظمة ذلك المشهد، انظر: فتح الباري (1/ 287).
(4) البخاري: كتاب المغازي، باب قوله: {إذ تستغيثون ربكم} (7/ 287).
(5) هو سعد بن معاذ بن النعمان سيد الأوس، شهد بدرًا، ورمي بسهم يوم الخندق فعاش بعد ذلك شهرًا حتى حكم في بني قريظة، ثم انتقض حرجه فمات، وذلك سنة خمس. انظر: ابن حجر، الإصابة، (2/ 37).
(6) ابن هشام، سيرة، (1/ 615).(1/292)
حق قدرهم، وعزروهم ونصروهم، وأحبوهم، وعظموهم وأجلُّوهم غاية التعظيم والإجلال، ولم يفرطوا في مدحهم ولم يبالغوا في إطرائهم والثناء عليهم ولم يجاوزوا الحد في ذلك، ولم ينزلوهم فوق المنزلة التي أنزلهم الله إياها، ولم يرفعوهم فوق المقام الذي لهم، فلم يجاوزوا بهم منزلة الرسالة والنبوة ومقام العبودية لله، وهما المقام والمنزلة التي أنزلهم الله إياها وأقامهم فيها وخاطبهم وذكرهم بها في كتابه العزيز (1) فقال عن نوح: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3]. وقال عن داود عليه السلام: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 17].
وقال عن سليمان عليه السلام: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30] وقال عن أيوب عليه السلام: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41] وقال في إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45] ثم قال عن عيسى عليه السلام: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172].
وقال عن خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ... } [الإسراء: 1] وقال: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10].
فمقام الرسالة والعبودية هو المقام الذي شرف به عباده المرسلين ومَنَّ عليهم به، وهم صلوات الله وسلامه عليهم يأبون أن يرفعوا فوق ذلك، وينهون أممهم به ويحذرونهم من مجاوزة هذا المقام، ويقول في هذا المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله " (2).
فالأنبياء والمرسلين بشر يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، ويتزوجون النساء،
__________
(1) وسطية أهل السنة بين الفرق (282 - 283).
(2) البخاري: أحاديث الأنبياء، باب قول الله عز وجل: {واذكر في الكتاب مريم} (6/ 478).(1/293)
ولكثير منهم بنون وحفدة وليسوا بآلهة ولا أبناء الله، كما ضل النصارى في عيسى عليه السلام، يقول الحق تبارك وتعالى على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - مقررًا هذه الحقيقة: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف: 110] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38] {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 20].
فهذه منزلة الرسل والأنبياء كما جاءت في القرآن لا إفراط ولا تفريط ولا غلو ولا تقصير فآمنت بها أمة الإسلام، فرسل الله عبيد لا يعبدون، ورسل لا يكذبون؛ بل يطاعون ويتبعون.
***(1/294)
الفصل السادس وسطية القرآن في اليوم الآخر
المبحث الأول أنواع المكذبين بالبعث
كذب كثير من الناس قديمًا وحديثًا بالبعث والنشور، وبعض الذين قالوا بإثباته صوروه على غير الصورة التي أخبرت بها الرسل، وقد بين الله سبحانه وتعالى قول المكذبين وذمهم وكفرهم وتهددهم وتوعدهم، قال تعالى: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الرعد: 5] {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنعام: 29 - 30] وقال تعالى: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء: 49 - 51].
وقد تعرض شيخ الإسلام ابن تيمية لبيان أنواع المكذبين بالبعث والنشور من اليهود والنصارى والصابئة والفلاسفة ومنافقي هذه الأمة فقال: (وإنما المخالف في ذلك أحد رجلين إما كافر، وإما منافق:
أما الكافر فإن اليهود والنصارى ينكرون الأكل والشرب والنكاح في الجنة، يزعمون أن أهل الجنة إنما يتمتعون بالأصوات المطربة والأرواح الطيبة مع نعيم الأروح، وهم يقرون مع ذلك بحشر الأجساد مع الأرواح ونعيمهما وعذابهما، وأما طوائف من الكفار وغيرهم من الصابئة والفلاسفة ومن وافقهم فيقرون بحشر الأرواح فقط، وأن النعيم والعذاب للأرواح فقط.
وطوائف من الكفار والمشركين وغيرهم ينكرون المعاد بالكلية، فلا يقرون لا بمعاد(1/295)
الأرواح، ولا الأجساد، وقد بين الله تعالى في كتابه على لسان رسوله أمر معاد الأرواح والأجساد ورد على الكافرين والمنكرين لشيء من ذلك، بيانًا تامًّا غاية التمام والكمال.
وأما المنافقون من هذه الأمة الذين لا يقرون بألفاظ القرآن والسنة المشهورة فإنهم يحرفون الكلام عن مواضعه، ويقولون هذه أمثال ضربت لنفهم المعاد الروحاني، وهؤلاء مثل القرامطة الباطنية الذين قولهم مؤلف من قول المجوس والصابئة، ومثل المتفلسفة الصابئة المنتسبين إلى الإسلام وطائفة ممن ضاهوهم: من كاتب أو متطبب، أو متكلم، أو متصوف، كأصحاب رسائل (إخوان الصفا) وغيرهم، أو منافق وهؤلاء كلهم كفار يجب قتلهم باتفاق أهل الإيمان) (1).
وذكر رحمه الله تعالى في موضع في الآخرة بأمثال مضروبة لتفهيم ما يقوم بالنفس بعد الموت من اللذة والألم، لا بإثبات حقائق منفصلة يتنعم بها، ويتألم بها) (2).
وحقيقة قول هؤلاء أن الله لم يكن صادقًا في إخباره عن حقائق ما في المعاد، وكذلك رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولذلك سمى شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الصنف من المتفلسفة المخالف لما عليه المسلمون في أمر المعاد (بأهل التخييل) وقال فيهم: (فأهل التخييل هم المتفلسفة ومن سلك سبيلهم، ومن متكلم ومتصوف، ومتفقه, فإنهم يقولون إن ما ذكره الرسول من أمر الإيمان بالله والآخرة إنما هو تخييل للحقائق لينتفع به الجمهور، لا أنه بين به الحق، ولا هدى الخلق، ولا أوضح الحقائق) (3).
وقد صنف الدكتور عمر الأشقر المكذبين بالبعث والنشور إلى ثلاثة أصناف: (4)
الأول: الملاحدة الذين أنكروا وجود الخالق، ومن هؤلاء كثير من الفلاسفة الدهرية الطبائعية، ومنهم الشيوعيون في عصرنا، وهؤلاء ينكرون صدور الخلق عن
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية (4/ 313).
(2) المرجع السابق (13/ 238).
(3) مجموع الفتاوى (5/ 31).
(4) اليوم الآخر، القيامة الكبرى، لعمر الأشقر، (72).(1/296)
خالق، فهم منكرون للنشأة الأولى والثانية، ومنكرون لوجود الخالق أصلاً. ولا يحسن مناقشة هؤلاء في أمر المعاد، بل يناقشون في وجود الخالق وواحدانيته أولاً ثم يأتي إثبات المعاد بعد ذلك, لأن الإيمان بالمعاد فرع عن الإيمان بالله.
الثاني: الذين يعترفون بوجود الخالق، ولكنهم يكذبون بالبعث والنشور، ومن هؤلاء العرب الذين قال الله فيهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25].
وهم القائلون فيما حكاه الله عنهم: {أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [النمل: 67 - 68].
وهؤلاء يدعون أنهم يؤمنون بالله، ولكنهم يدعون أن قدرة الله عاجزة عن إحيائهم بعد إماتتهم، وهؤلاء هم الذين ضرب الله لهم الأمثال، وساق لهم الحجج والبراهين لبيان قدرته على البعث والنشور، وأنه لا يعجزه شيء ومن هؤلاء طائفة من اليهود يسمون بالصادقيين، يزعمون أنهم لا يؤمنون إلا بتوراة موسى، وهم يكذبون بالبعث والنشور والجنة والنار.
الثالث: الذين يؤمنون بالمعاد على غير الصفة التي جاءت بها الشرائع (1).
...
__________
(1) نفس المصدر السابق، ص (72).(1/297)
المبحث الثاني نظرة في نصوص اليوم الآخر عند أهل الكتاب
لا شك أن الكتب السماوية التي أنزلها الحق تبارك وتعالى كانت تزخر نصوصها بذكر اليوم الآخر، والتخويف منه، والتبشير بما أعده الله للمؤمنين به في جنات النعيم، والتحذير من النار وأهوال القيامة، إلا أن هذه الكتب طرأ عليها تحريف كثير، وذهب كثير من نصوصها التي تتعرض لليوم الآخر (1).
ففي التوراة التي تنسب إلى موسى لا نجد إلا نصًّا واحدًا يصرح بيوم القيامة، وهو في التوراة السامرية صريح للغاية، ولكنه في التوراة العبرية يحتمل معنيين.
ففي التوراة السامرية (أليس هو مجموعًا عندي مختومًا في خزائني إلى يوم الانتقام والمكافأة وقت تزل أقدامهم) (2).
وفي التوراة العبرانية هكذا: (أليس ذلك مكنوزًا عندي مختومًا عليه في خزائني، لي النقمة والجزاء في وقت تزل أقدامهم) (3).
فنص السامرية يدل على أن الفصل إنما يكون في يوم القيامة الذي سماه يوم الانتقام والمكافاة، أما نص العبرانية فإنه يجيز أن يكون الانتقام في الدنيا، ويجيز أن يكون في الآخرة، ولذلك فإن الصادقين من اليهود الذين لا يؤمنون إلا بتوراة موسى العبرية لا يؤمنون بالبعث والنشور، لعدم وجود دلالة تدل على البعث والنشور. أما أسفار الأنبياء الأخرى في التوراة ففيها بعض النصوص التي تصرح بالبعث والنشور، وكذلك الأناجيل.
1 - ففي سفر دانيال: (كثيرون من الراقدين تحت التراب يستيقظون، هؤلاء إلى الحياة الأبدية، وهؤلاء إلى العار، والازدراء الأبدي) (4).
__________
(1) المرجع السابق، ص (92).
(2) سفر التثنية الاشتراع، الإصحاح (32)، ص (34 - 35) من التوراة السامرية.
(3) التوراة العبرانية نقلاً عن اليوم الآخر، القيامة الكبرى، (92).
(4) سفر دانيال، الإصحاح (12).(1/298)
2 - وفي سفر المزامير يذكر الحشر إلى النار فيقول: (مثل الغنم إلى النار يساقون، الموت يرعاهم، ويسودهم المستقيمون غداة، وصورتهم تبلى، والهاوية مسكن لهم) (1).
3 - وفي إنجيل لوقا إشارة إلى عذاب القبر، فقد جاء فيه: (ومات الغني ودفن، فرفع عينيه في الهاوية وهو في العذاب) (2).
فالمقبور من أهل الفجور يكون في العذاب ويرى مقعده من النار، والهاوية هي النار.
4 - وفي إنجيل متى: (فإن أعثرتك يدك أو رجلك فاقطعها وألقها عنك خير لك أن تدخل الحياة أعرج أو أقطع من أن تلقى في النار الأبدية ولك يدان أو رجلان) (3).
5 - ومن أكثر الكتب التي تحدثت عن الجنة والنار إنجيل برنابا، فقد تحدث عن أهل الجنة، وأنهم يأكلون ويشربون، ولكنهم لا يتبولون، ولا يتغوطون, لأن طعامهم وشرابهم ليس فيه خبث ولا فساد، ولكن النصارى يكذبون بهذا الإنجيل الذي ظهر أخيرًا في عصرنا هذا. النصارى يعتقدون أن الذي ينعم أو يعذب في القيامة هو الروح فحسب، وقال بقولهم بعض الذين ينتسبون إلى الإسلام من الفلاسفة والفرق الباطنية الضالة (4).
...
__________
(1) سفر المزامير، الخامس والخمسين، الفقرة (5).
(2) إنجيل لوقا، الإصحاح السادس عشر، الفقرة (22).
(3) إنجيل متى، الإصحاح الثامن عشر، الفقرة (8).
(4) اليوم الآخر، القيامة الكبرى، (94).(1/299)
المبحث الثالث أدلة البعث والنشور
الإيمان بالمعاد دل عليه القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، والقرآن كله من فاتحته إلى خاتمته مملوء بذكر أحوال اليوم الآخر وتفاصيل ما فيه، وتقرير ذلك بالأخبار الصادقة والأمثال المضروبة للاعتبار والإرشاد، وكما ذكر القرآن الأدلة عليه، ورد على منكريه، وبين كذبهم وافتراءهم.
والفطرة السليمة تدل عليه وتهدي إليه، ولا صحة لما يزعمه الضالون من أن العقول تنفي وقوع البعث والنشور, فإن العقول لا تمنع وقوعه، والأنبياء لا يأتون بما تحيل العقول وقوعه، وإن جاءوا بما يحير العقول (1) ومن وسطية القرآن، وحكمته واستقامته على الصراط المستقيم جاءت الأدلة التي تكلمت على البعض بأساليب متنوعة ومتعددة تخاطب الفطرة، والعقل السليم، وتؤثر في أعماق القلوب فإذا تأملت وتفكرت في كتاب الله اتضح لك أدلة كثيرة منها:
أولاً: إخبار العليم الخبير بوقوع القيامة:
ومن أعظم الأدلة الدالة على وقوع المعاد إخبار الحق تبارك وتعالى بذلك، فمن آمن بالله وصدق برسوله الذي أرسل، وكتابه الذي أنزل فلا مناص له من الإيمان بما أخبرنا به من البعث والنشور والجزاء والحساب والجنة والنار، وقد نوع الحق تبارك وتعالى أساليب الإخبار ليكون أوقع في النفوس وآكد في القلوب:
1 - ففي بعض المواضع يخبرنا بوقوع ذلك اليوم إخبارًا مؤكدًا (بإن) أو (بإن واللام) كقوله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه: 15].
وقوله: {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: 85] وقوله: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ} [الأنعام: 134] وقوله: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} [المرسلات: 7].
__________
(1) اليوم الآخر، ص (73).(1/300)
2 - وفي موضع آخر يقسم الله تعالى على وقوعه ومجيئه كقوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ} [النساء: 87].
ويقسم على تحقيق ذلك بما شاء من مخلوقاته كقوله: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذاريات: 1 - 6] وقوله: {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور: 1 - 8].
3 - وفي بعض المواقع يأمر رسله بالإقسام على وقوع البعث وتحقيقه، وذلك في معرض الرد على المكذبين به المنكرين له، كقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3] وقوله: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53] وقوله: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} [التغابن: 7].
4 - وفي مواضع أخرى يذم المكذبين بالمعاد كقوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [يونس: 45].
وقوله: {أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} [الشورى: 18] وقوله: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل: 66].
5 - وأحيانًا يمدح المؤمنين بالمعاد: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 7 - 8].
6 - وأحيانًا يخبر أنه وعد صادق، وخبر لازم، وأجل لا شك فيه: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ} [هود: 103] وقوله: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} [الذاريات: 5].(1/301)
7 - وفي بعض الأحيان يخبر عن مجيئه واقترابه كقوله: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج: 6 - 7] وقوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1].
8 - وفي مواضع أخرى يمدح نفسه تبارك وتعالى بإعادة الخلق بعد موتهم، ويذم الآلهة التي يعبدها المشركون بعدم قدرتها على الخلق وإعادته كقوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} [الفرقان: 3].
9 - وبين في مواضع أخرى أن هذا الخلق وذاك البعث وبعثكم {إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28] وقال: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة: 3 - 4].
ثانيًا: ومن وسطية القرآن في إقناع الناس بالإيمان باليوم الآخر الاستدلال على النشأة الأخرى بالنشأة الأولى:
استدل القرآن على الخلق الثاني بالخلق الأول، فنحن نشاهد في كل يوم حياة جديدة تخلق أطفال يولدون، وطيور تخرج من بيضها، وحيوانات تلدها أمهاتها، وأسمك تملأ البحر والنهر، يرى الإنسان ذلك كله بأم عينيه، ثم ينكر أن يقع مثل ذلك مرة أخرى بعد أن يبيد الله هذه الحياة.
إن الذين يطلبون دليلاً على البعث بعد الموت يغفلون عن أن خلقهم على هذا النحو أعظم دليل، فالقادر على خلقه، قادر على إعادة خلقهم، وقد أكثر القرآن من الاستدلال على النشأة الآخرة بالنشأة الأولى، وتذكير العباد المستبعدين لذلك بهذه الحقيقة: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [مريم: 66 - 67].
ويذكرنا القرآن في موضع آخر بالخلق الأول للإنسان، فأبونا آدم خلقه الله من تراب، فالقادر على جعل التراب بشرًا سويًّا، لا يعجزه أن يعيده بشرًا سويًّا مرة أخرى بعد موته، ويذكرنا أيضًا بخلقنا نحن -ذرية آدم- فإنه خلقنا من سلالة من(1/302)
ماء مهين، تحول هذا الماء فأصبح نطفة، ثم صارت النطفة علقة، ثم تحولت إلى مضغة .. إلى أن نفخ فيها الروح، وجعلها إنسانًا سويًّا. فالقادر على هذا الخلق المشاهد المعلوم، قادر على إحياء الخلق وإحياء الموتى (1).
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج: 5 - 7].
وقد أمر الله عباده بالسير في الأرض، والنظر في كيفية بدء الخلق ليستدلوا بذلك على قدرته على الإعادة: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت: 19 - 20].
ثالثًا: ومن الأدلة التي ذكرت في القرآن في الاستدلال على البعث: القادر على خلق الأعظم قادر على خلق ما دونه قبيح في نظر البشر أن يرمى بالعجز عن حمل الشيء الحقير من يستطيع حمل العظيم، ومثله إذا غلب إنسان رجلاً شديد البأس قويًّا لا يقال له: إنك لا تستطيع أن تصرع هذا الهزيل الضعيف، ومن استطاع أن يبني قصرًا لا يعجزه بناء بيت صغير. ولله المثل الأعلى, فإن جملة خلقه ما هو أعظم من خلق الناس، فكيف يقال للذي خلق السموات والأرض أنت لا تستطيع أن تخلق ما دونها (2).
قال تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى
__________
(1) اليوم الآخر، ص (77).
(2) المرجع السابق: (78).(1/303)
وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس: 81] وقال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر: 57].
قال ابن تيمية رحمه الله: (فإنه من المعلوم ببداهة العقول أن خلق السموات والأرض أعظم من خلق أمثال بني آدم، والقدرة عليه أبلغ وأن هذا الأيسر أولى بالإمكان والقدرة من ذلك) (1).
وقال شارح الطحاوية: (أخبر تعالى أن الذي أبدع السموات والأرض على جلالتهما، يُحيي عظامًا قد صارت رميمًا، فيردها إلى حالتها الأولى) (2).
رابعًا: قدرته تبارك وتعالى على تحويل الخلق من حال إلى حال: الذين يكذبون بالبعث يرون هلاك العباد، ثم فناءهم في التراب، فيظنون أن إعادتهم بعد ذلك مستحيلة: {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة: 10].
والمراد بالضلال في الأرض تحلل أجسادهم، ثم اختلاطها بتراب الأرض، تقول: ضل السمن في الطعام, إذا ذاب وانماع (3) فيه.
وقد بين الحق تبارك وتعالى في أكثر من موضع أن من تمام ألوهيته وربوبيته قدرته على تحويل الخلق من حال إلى حال، ولذا فإنه يميت ويحيي ويخلق ويفني، ويخرج الحي من الميت، والميت من الحي قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام: 95 - 96].
ومن الحبة الجامدة الصماء يخرج نبتة غضة خضراء تزهر وتثمر ثم تعطي هذه النبتة الحية حبوبًا جامدة ميتة، ومن الطيور الحية يخرج البيض الميت، ومن البيض الميت تخرج الطيور المتحركة المغردة التي تنطلق في أجواء الفضاء.
__________
(1) مجموع الفتاوى، لابن تيمية (3/ 299).
(2) اليوم الآخر، ص (79).
(3) اليوم الآخر، ص (79).(1/304)
إن تقليب العباد، موت فحياة، ثم موت فحياة، دليل عظيم على قدرة الله التي تجعل النفوس تخضع لعظمته وسلطانه: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28].
وقد ذكرت الأدلة التي ذكرتها في الاحتجاج على البعث من الاستدلال على النشأة الأخرى بالنشأة الأولى، ومن كون القادر على خلق الأعظم قادر على خلق ما دونه، وتحويل الخلق من حال إلى حال في سورة يس في موضع واحد من كتاب الله، وهذا يدل على وسطية القرآن واستقامته على الصراط المستقيم واعتداله وقوة حجته في إقناع الناس بإقامة الحجج والبراهين.
قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 78 - 83].
ونزلت هذه الآيات في أبي بن خلف حيث أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعظم ثم قال يا محمد من يحيى هذا وهو رميم، قال: الله يحيه ثم يميته ثم يدخلك النار، فقتله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أُحُد، وقيل: نزلت في العاص بن وائل (1).
ولو كان صاحب المقولة المذكورة في أسباب النزول لبيبًا عاقلاً لم يسأل هذا السؤال, لأن وجوده وخلقه في هذه الحياة يجيب على السؤال، وقد وضح النص هذا المعنى الذي أجمله في البداية فقال: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 79] فاحتج بالإبداء على الإعادة، وبالنشأة الأولى على النشأة الأخرى, إذ كل عاقل يعلم ضروريًّا أن من قدر على هذه قدر على هذه، وأنه لو كان عاجزًا عن الثانية لكان عن الأولى أعجز وأعجز.
__________
(1) انظر: جامع البيان، لتفسير الطبري، (12/ 30).(1/305)
ولما كان الخلق يستلزم قدرة الخالق على المخلوق، وعلمه بتفاصيل خلقه أتبع ذلك بقوله: {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 79] فهو عليم بتفاصيل الخلق الأول وجزئياته، مواده وصورته، فكذلك الثاني، فإذا كان تام العلم، كامل القدرة كيف يتعذر عليه أن يحيي العظام وهي رميم؟ (1).
2 - ثم أكد الأمر بحجة قاهرة وبرهان ظاهر، يتضمن جوابًا عن سؤال ملحد آخر يقول: العظام إذا صارت رميمًا عادت طبيعتها باردة يابسة، والحياة لا بد أن تكون مادتها وحاملها طبيعة حارة رطبة بما يدل على أمر البعث، ففيه الدليل والجواب معًا، فقال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس: 80] فأخبر سبحانه بإخراج هذا العنصر، الذي هو في غاية الحرارة واليبوسة من الشجر الأخضر الممتلئ بالرطوبة والبرودة، فالذي يخرج الشيء من ضده، تنقاد له مواد المخلوقات وعناصرها ولا يستعصي عليه، هو الذي يفعل ما أنكره الملحد ودفعه من إحياء العظام وهي رميم (2).
3 - ثم أكد هذا بأخذ الدلالة من الشيء الأجل الأعظم، على الأيسر الأصغر فإن كل عاقل يعلم أن من قدر على العظيم الجليل فهو قادر على ما دونه بكثير قال تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس: 81].
فأخبر أن الذي أبدع السموات والأرض على جلالتهما، وعظم شأنهما، وكبر أجسامهما، وسعتهما، وعجيب خلقهما، أقدر عليه أن يحيي عظامًا قد صارت رميمًا، فيردها إلى حالتها الأولى (3).
4 - ثم أكد تبارك وتعالى ذلك وبينه ببيان آخر، وهو أن فعله ليس بمنزلة غيره، الذي يفعل بالآلات والكلفة، والنصب والمشقة، ولا يمكنه الاستقلال بالفعل، بل
__________
(1) شرح العقيدة الطحاوية: (46).
(2) اليوم الآخر، القيامة الكبرى، (82).
(3) شرح العقيدة الطحاوية، (460).(1/306)
لا بد معه من إله ومعين؛ بل يكفي في خلقه لما يريد أن يخلقه ويكونه نفس إرادته وقوله للمكون {كُن} فإذا هو كائن كما شاء وأراده {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] ثم ختم هذه الحجة بإخباره أن ملكوت كل شيء بيده، فيفرق فيه بفعله وقوله: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 83].
خامسًا: ومن أدلة البعث التي جاءت في القرآن الكريم ما ذكر الله في كتابه من إحياء بعض الأموات في هذه الحياة.
ومن ذلك ما أخبر الله تعالى عن قوم موسى قال تعالى: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55] فأخذتهِم الصاعقة وهم ينظرون، ثم بعثهم بعد موتهم {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 55 - 56] وقتيل بني إسرائيل الذي اختلفوا في قاتله فأمرهم نبيهم أن يذبحوا بقرة ويضربوا القتيل بجزء منها، فأحياه الله وأخبر عمن قتله: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 73].
وأخبر المولى عز وجل عن الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف خشية الموت، فأماتهم الله ثم أحياهم قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [البقرة: 243] وأخبرنا المولى عز وجل عن قصة الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها فتعجب من إحياء الله لها بعد موتها، فأماته الله مائة عام ثم بعثه حتى يوقن أن الله على كل شيء قدير قال تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 259].
وإبراهيم عليه السلام دعا ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، فكان هذا المشهد الذي(1/307)
حدثنا الحق تبارك وتعالى عنه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260].
أمره الله أن يأخذ أربعة من الطيور فيذبحها، ثم يفرق أجزاءها على عدة جبال، ثم ناداها آمرًا إياها بالاجتماع، فكان كل عضو يأتي ويقع في مكانه، فلما تكامل اجتماعها نفخ الله فيها الروح وانطلقت محلقة في الفضاء.
وعيسى عليه السلام كان يصنع من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله، وكان يحيي الموتى بإذن الله، فقد قال لقومه:
{وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 49].
وأصحاب الكهف ضرب الله على آذانهم في الكهف ثلاثمائة وتسع سنين ثم قاموا من رقدتهم بعد تلك الأزمان المتطاولة: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} [الكهف: 12] {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} [الكهف: 19] {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف: 25].
وكانت آية موسى الكبرى عصا جامدة يلقيها على الأرض فتتحول بقدرة الله إلى ثعبان مبين: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [الشعراء: 32]، وعندما ألقى السحرة حبالهم وعصيهم ألقى موسى عصاه فإذا هي تبتلع تلك العِصِي والحبال على كثرتها: {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الشعراء: 45].
سادسًا: ومن أدلة القرآن على إثبات البعث، ضربه المثل بإحياء الأرض بالنبات، وقد ضرب الله المثل لإعادة الحياة إلى الجثث الهامدة والعظام البالية بإحيائه الأرض بعد موتها بالنبات: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ(1/308)
لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم: 50] وقال: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} [فاطر: 9].
سابعًا: والدليل السابع الذي ذكر في القرآن الاستدلال بحكمة الله حيث إن حكمته تقتضي بعث العباد للجزاء والحساب، فإن الله خلق الخلق لعبادته وأرسل الرسل وأنزل الكتب لبيان الطريق الذي يعبدونه ويطيعونه ويتبعون أمره ويجتنبون نهيه، فمن العباد من استقام على طاعة الله، وبذل نفسه وماله في سبيل ذلك، ومنهم من رفض الاستقامة على طاعة الله، وطغى وبغى، أفليس بعد ذلك أن يموت الصالح والطالح ولا بد أن يجزي الله المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ} [القلم: 35 - 37].
إن الملاحدة الذين ظلموا أنفسهم هم الذين يظنون الكون خلق عبثًا وباطلاً لا لحكمة، وأنه لا فرق بين مصير المؤمن المصلح والكافر الفسد، ولا بين التقي والفاجر، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 27 - 28].
فهذه أساليب القرآن في إقناع الناس بالبعث اعتمدت على خطاب العقل والانسجام مع الفطرة والتجاوب مع القلوب، ونجد في القرآن الكريم وصفًا لأهوال يوم القيامة، ويصور القرآن الكريم بعض معالم أهوال يوم القيامة، من قبض الأرض وطي السماء، ودك الأرض ونسف الجبال وتفجير البحار وتسجيرها، وموران السماء وانفطارها، وتكوير الشمس وخسوف القمر وتناثر النجوم، ويصور لنا القرآن الكريم حال الكفار وذلتهم وهوانهم وحسرتهم ويأسهم وإحباط أعمالهم، وتخاصم العابدين والمعبودين وتخاصم الأتباع وقادة الضلالة، وتخاصم الضعفاء والسادة وتخاصم الكافر وقرينه الشيطان، ومخاصمة الكافر أعضاءَه وتخاصم الروح والجسد، وتكلم(1/309)
القرآن عن الشفاعة وَبَيَّن شروطها والمقبول منها، والمرفوض، والمراد بالحساب والجزاء، وعن مشهد الحساب، وهل يسأل الكفار؟ ولماذا يسألون؟ وحدثنا القرآن الكريم عن اقتصاص المظالم بين الخلق، وكيف يكون الاقتصاص في يوم القيامة، وبَيَّن المولى عز وجل في القرآن عظم شأن الدماء، وبين أن هناك يوم القيامة توضع الموازين التي توزن بها الأعمال، وأخبرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحوض ومن الذين يردون على الحوض والذين يذادون عنه.
وصور القرآن الكريم حشر الكفار إلى النار، ومرور المؤمنين على الصراط، وخلاص المؤمنين من المنافقين، وهذا الذي ذكرنا كله من وسطية القرآن في باب الإيمان باليوم الآخر، وحكمته البالغة في إخباره بما ينفع الناس وترغيبهم وترهيبهم منه، حتى يستعدوا لذلك اليوم بالأعمال الصالحة ويبتعدوا عن الأعمال المحرمة.
***(1/310)
المبحث الرابع طعام أهل النار وشرابهم ولباسهم
تكلم القرآن الكريم عن طعام أهل النار وبين أنه الضريع والزقوم، وأن شرابهم الحميم والغسلين، والغساق قال تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية: 6 - 7] والضريع شوك بأرض الحجاز يقال له الشبرق.
وعن ابن عباس: الشبرق (نبت ذو شوك لا طيءٌ بالأرض، فإذا هاج سمي ضريعًا) (1). وقال قتادة: (من أضرع الطعام وأبشعه) (2).
وهذا الطعام أكلهم له نوع من أنواع العذاب، لا يتلذذون به ولا تنتفع به أجسادهم. أما الزقوم فقال تعالى فيه: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان: 43 - 46]، وقد وصف الله شجرة الزقوم في آية أخرى فقال: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} [الصافات: 62 - 68].
وقال في موضع آخر: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} [الواقعة: 51 - 56].
ويؤخذ من هذه الآيات أن هذه الشجرة خبيثة، جذورها تضرب في قعر النار، وفروعها تمتد في أرجائها، وثمر هذه الشجرة قبيح المنظر لذلك شبهت برءوس الشياطين، وقد استقر في النفوس قبح رءوسهم وإن كانوا لا يرونهم، ومع خبث
__________
(1) التخويف من النار، لابن رجب (115).
(2) التخويف من النار، لابن رجب (115).(1/311)
هذه الشجرة وخبث طلعها، إلا أن أهل النار يلقى عليهم الجوع بحيث لا يجدون مفرًّا من الأكل منها إلى درجة ملء البطون، فإذا امتلأت بطونهم أخذت تغلي في أجوافهم كما يغلي دردي الزيت، فيجدون لذلك آلامًا مبرحة، فإذا بلغت الحال بهم هذا المبلغ اندفعوا إلى الحميم وهو الماء الحار الذي تناهى حره، فشربوا منه كشرب الإبل التي تشرب، وتشرب ولا تروى لمرض أصابها، وعند ذلك يقطع الحميم أمعاءهم {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد: 15] هذه هي ضيافتهم في ذلك اليوم العظيم (1).
وإذا أكل أهل النار هذا الطعام الخبيث من الضريع والزقوم غصوا به لقبحه وخبثه وفساده:
{إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل: 12 - 13].
ومن طعام أهل النار الغسلين، قال تعالى: {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة: 35 - 37] وقال تعالى: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} [ص: 57 - 58].
والغسلين والغساق بمعنى واحد، وهو ما سال من جلود أهل النار من القيح والصديد، وقيل ما يسيل من فروج النساء الزواني ومن نتن لحوم الكفرة وجلودهم، وقال القرطبي: (هو عصارة أهل النار) (2).
أما شرابهم فهو الحميم قال تعالى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد: 15] وقال: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 29] وقال: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ} [إبراهيم: 16 - 17] وقال: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} [ص: 57] وقد ذكرت هذه الآيات أربعة أنواع من شراب أهل النار:
__________
(1) اليوم الآخر، الجنة والنار، لعمر الأشقر، (88).
(2) يقظة أولي الاعتبار، مما ورد في ذكر الجنة والنار، صديق حسن، (86).(1/312)
الأول: الحميم، وهو الماء الحار الذي تناهى حره.
الثاني: الغساق، وقد مضى الحديث عنه, فإنه يذكر في مأكول أهل النار ومشروبهم.
الثالث: الصديد، وهو ما يسيل من لحم الكافر وجلده.
الرابع: المهل وهو كعكر الزيت، فإذا قرب وجهه سقطت فروة وجهه فيه (1).
أكلهم النار:
ومن أصحاب الذنوب من يطعمه الله جمر جهنم جزاء وفاقًا.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10].
وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} [البقرة: 174].
لباس أهل النار:
أما لباس أهل النار فقد أخبرنا تبارك وتعالى أنه يفصَّل لأهل النار حلل من النار، كما قال تعالى: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} [الحج: 19] وكان إبراهيم التيمي إذ تلا هذه الآية يقول: (سبحان من خلق من النار ثيابًا) (2).
وقال تعالى: {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم: 49] والقطران: هو النحاس المذاب.
...
__________
(1) اليوم الآخر، الجنة والنار، (90).
(2) التخويف من النار، لابن الجوزي، (116).(1/313)
المبحث الخامس صور من عذاب أهل النار
أولاً: تفاوت عذاب أهل النار.
إن الآيات القرآنية قد بينت تفاوت أصحاب النار في العذاب كقوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145] وقوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46] وقوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل: 88].
وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك في قوله: " إن منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه إلى حجزته، ومنهم من تأخذه إلى ترقوته ". وفي رواية إلى " عنقه " (1). وفي صحيح البخاري: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أخف الناس عذابًا فقال: " إن أهون أهل النار عذابًا يوم القيامة لرجل توضع في أخمص قدميه جمرة تغلي منها دماغة " (2).
وعن تفاوت أصحاب النار في العذاب يقول القرطبي: (هذا الباب يدلك على أن كفر من كفر فقط، ليس ككفر من طغى وكفر وتمرد وعصى، ولا شك أن الكفار في عذاب جهنم متفاوتون، كما قد علم من الكتاب والسنة، ولأنا نعلم على القطع والثبات أنه ليس عذاب من قتل الأنبياء والمسلمين وفتك وأفسد في الأرض وكفر مساويًا لعذاب من كفر فقط، وأحسن للأنبياء والمسلمين، ألا ترى أبا طالب كيف أخرجه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ضحضاح لنصرته إياه وذبه عنه وإحسانه إليه) (3).
وقال ابن رجب: (واعلم أن تفاوت أهل النار في العذاب هو بحسب تفاوت أعمالهم التي أدخلوا بها النار) إلى أن قال: (وكذلك تفاوت عذاب عصاة الموحدين
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب شدة حر النار، (4/ 2185).
(2) البخاري مع الفتح كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، (11/ 424).
(3) التذكرة للقرطبي (409).(1/314)
في النار بحسب أعمالهم، فليس عقوبة أهل الكبائر كعقوبة أصحاب الصغائر، وقد يخفف عن بعضهم بحسنات أخرت له أو بما شاء الله من الأسباب، ولهذا يموت بعضهم في النار) (1).
ثانيًا: إنضاج الجلود:
إن نار الله يوم القيامة تحرق جلود أهل النار، والجلد موضع الإحساس بألم الاحتراق، ولذلك فإن الله يبدل لهم جلودًا أخرى غير تلك التي احترقت لتحترق من جديد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 56].
ثالثًا: الصهر:
من ألوان العذاب التي ذكرت في القرآن صب الحميم فوق رءوسهم، والحميم هو ذلك الماء الذي انتهى حره، فلشدة حره تذوب أمعاؤهم وما حوته بطبونهم: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} [الحج: 19 - 20].
أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الحميم ليصب على رءوسهم فينفذ حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه، حتى يمرق من قدميه، وهو الصهر، ثم يعود كما كان ". وقال: حسن غريب صحيح (2).
رابعًا: اللفح:
ومن إهانة الله لأهل النار أنهم يحشرون في يوم القيامة على وجوههم عميًا وصمًّا وبكمًا. قال تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء: 97] ويلقون في النار على وجوههم: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 90].
__________
(1) التخويف من النار: (142 - 143).
(2) جامع الأصول لابن الأثير (10/ 540) والترمذي كتاب صفة جهنم، باب ما جاء في شراب أهل النار، رقم (258)، (5/ 607).(1/315)
ثم إن النار تلفح وجوههم وتغشاها أبدًا لا يجدون حائلاً يحول بينهم وبينها:
قال تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [الأنبياء: 39] {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون: 104] {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم: 50] {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 24].
وانظر إلى هذا المنظر الذي تقشعر لهوله الأبدان: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} [الأحزاب: 66].
خامسًا: السحب:
ومن أنواع العذاب الأليم سحب الكفار في النار على وجوههم: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر: 47 - 48]
ويزيد مِن آلامهم حال سحبهم في النار أنهم مقيدون بالقيود والأغلال والسلاسل: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر: 70 - 72].
سادسًا: تسويد الوجوه:
يسود الله في الدار الآخرة وجوه أهل النار:
{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [آل عمران: 106] وهو سواد شديد، كأنما حلت ظلمة الليل في وجوههم: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس: 27].
سابعًا: إحاطة النار بالكفار:
قال تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا(1/316)
خَالِدُونَ} [البقرة: 81] ولا يكون المرء كذلك إلا إذا كان كافرًا مشركًا، يقول صديق حسن خان (1): (المراد بالسيئة هنا الجنس، ولا بد أن يكون سببها محيطًا به من جميع جوانبه، فلا تبقى له حسنة، وسدت عليه مسالك النجاة، والخلود في النار هو للكفار والمشركين، فيتعين تفسير السيئة والخطيئة في هذه الآية بالكفر والشرك وبهذا يبطل تشبث المعتزلة والخوارج، لما ثبت في السنة متواترًا من خروج عصاة الموحدين من النار) (2).
ولما كانت الخطايا والذنوب تحيط بالكافر إحاطة السوار بالمعصم, فإن الجزاء من جنس العمل، ولذا فإن النار تحيط بالكفار من كل جهة، كما قال تعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41] والمهاد ما يكون من تحتهم، والغواش جمع غاشية وهي التي تغشاهم من فوقهم، والمراد أن النيران تحيط بهم من فوقهم ومن تحتهم، قال تعالى: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [العنكبوت: 55] وقال في موضع آخر: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر: 16] وقد صرح بالإحاطة في موضع آخر: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة: 49] وقد فسر بعض السلف المهاد بالفراش، والغواش باللحف (3).
وتأتي الإحاطة من ناحية أخرى، وذلك أن للنار سُورًا يحيط بالكفار، فلا يستطيع الكفار مغادرتها أو الخروج منها، كما قال تعالى:
{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 29] وسرادق النار سورها وحائطها الذي يحيط بها (4).
__________
(1) أحد علماء الهند المجددين والسالكين سبيل السلف الصالح، محمد صديق خان بن حسن بن علي بن لطف الله الحسيني البخاري القنوجي أبو الطيب، ولد ونشأ في قنوج بالهند، وتزوج بملكة بهوبال، وأخذ عليه مداراته للإنجليز، وتولى بعض الأمور لهم، توفي سنة 1307 هـ. انظر الأعلام: (6/ 167).
(2) يقظة أولي الاعتبار (67).
(3) تفسير ابن كثير (3/ 168).
(4) اليوم الآخر الجنة والنار (102).(1/317)
ثامنًا: اطلاع النار على الأفئدة:
قال تعالى: {كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} [الهمزة: 4 - 7] قال محمد بن كعب (1) القرظي: (تأكله النار إلى فؤاده، فإذا بلغت فؤاده أنشئ خلقه، وعن ثابت البناني (2) أنه قرأ هذه الآية، ثم قال: (تحرقهم النار إلى الأفئدة وهم أحياء لقد بلغ منهم العذاب، ثم يبكي) (3).
تاسعًا: قيود أهل النار وأكلالهم وسلاسلهم ومطارقهم:
أعد الله لأهل النار سلاسلاً وأغلالاً وقيودًا ومطارقًا: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا} [الإنسان: 4] {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل: 12 - 13] والأغلال توضع في الأعناق: {وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سبأ: 33] {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ} [غافر: 71].
والأنكال: القيود سميت أنكالاً؛ لأنه يعذبهم ويُنكل بهم بها {لَدَيْنَا أَنْكَالًا} [المزمل: 12] والسلاسل نوع آخر من ألوان العذاب التي يقيد بها المجرمون في الدنيا، وانظر إلى هذه الصورة التي أخبرنا بها الكتاب الكريم: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة: 30 - 32] وأعد الله لأهل النار مقامع من حديد وهي المطارق التي تهوي على المجرمين وهم يحاولون الخروج من النار، فإذا بها تطوح بهم مرة أخرى إلى سواء الجحيم: {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج: 21 - 22].
__________
(1) هو محمد بن كعب بن سليم القرظي المدني من حلفاء الأوس، كان أبوه من سبي بني قريظة إمام علامة صادق، توفي 108 هـ، سير أعلام النبلاء (5/ 65) شذرات الذهب، (1/ 136)، وتهذيب التهذيب (9/ 420).
(2) هو الإمام الزاهد التابعي الفاضل، ثابت بن أسلم البناني أبو محمد أنس بن مالك، وهو أثبت الناس في أنس، وهو من الثقات الأثبات، توفي سنة 127 هـ، وقيل 123 هـ، انظر: تهذيب التهذيب (2/ 2).
(3) التخويف من النار، لابن رجب (146).(1/318)
عاشرًا: قرن معبوداتهم وشياطينهم في النار:
قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأنبياء: 98 - 99] يقول ابن رجب: (لما عبد الكفار الآلهة من دون الله، واعتقدوا أنها تشفع لهم عند الله، وتقربهم إليه، عوقبوا بأن جُعِلتْ معهم في النار إهانة لهم وإذلالاً، ونكاية لهم وإبلاغًا في حسرتهم وندامتهم, فإن الإنسان إذا قرن في العذاب بمن كان سبب عذابه كان أشد في ألمه وحسرته) (1).
قال القرطبي: (وإنما يجمعان في جهنم؛ لأنهما قد عبدا من دون الله، لا تكون النار عذابًا لهما؛ لأنهما جماد، وإن يفعل ذلك بهما زيادة في تبكيت الكافرين وحسرتهم، وهكذا قال بعض أهل العلم) (2).
ولهذا المعنى يقرن الكفار بشياطينهم ليكون أشد لعذابهم {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف: 36 - 39].
الحادى عشر: حسرتهم وندمهم ودعاؤهم:
عندما يرى الكفار النار يندمون أشد الندم، ولات ساعة مندم: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [يونس: 54] وعندما يطلع الكافر على صحيفة أعماله، فيرى كفره وشركه الذي يؤهله للخلود في النارِ, فإنه يدعو بالثبور والهلاك، {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا} [الانشقاق: 10 - 12]. ويتكرر دعاؤهم بالويل والهلاك عندما يلقون في النار، ويصلون حرها: {وَإِذَا
__________
(1) التخويف من النار، لابن رجب (105).
(2) التذكرة للقرطبي (392).(1/319)
{أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [الفرقان: 13 - 14] وهناك يعلو صراخهم ويشتد عويلهم، ويدعون ربهم آملين أن يخرجهم من النار: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر: 37] وهم يعترفون في ذلك الوقت بضلالهم وكفرهم وقله عقولهم: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10 - 11] ولكن طلبهِم يرفض بشدة، ويجابون بما يستحق أن تجاب به الأنعام: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 106 - 108].
لقد حق عليهم القول، وصاروا إلى المصير الذي لا ينفع معه دعاء ولا يقبل فيه رجاء: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [السجدة: 12 - 14].
ويتوجه أهل النار بعد ذلك النداء إلى خزنة النار، يطلبون منهم أن يشفعوا لهم كي يخفف الله عنهم شيئًا مما يعانونه: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [غافر: 49 - 50] وعند ذلك يسألون الشفاعة كي يهلكهم ربهم: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77].
لقد خسر هؤلاء الظالمون أنفسهم وأهليهم عندما استحبوا الكفر على الإيمان، واستمع إلى عويلهم وهم يرددون حال العذاب: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} [الأحزاب: 66] {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 106 - 107].(1/320)
قال الليث (1) رحمه الله: (الزفير أن يملأ الرجل صدره حال كونه في الغم الشديد من النفس ويخرجه، والشهيق أن يخرج ذلك النفس) (2).
وما ذكرت من صور العذاب في القرآن الكريم يدل على أن العذاب حسي ومعنوي، وفيه من الوضوح والبيان ما يجعل الإنسان صاحب الفطرة السوية من أن يستجيب لأوامر الله ويجتنب نواهيه، وهذه الصور الحية لا توجد في التوراة ولا في الإنجيل ولا في غيرها من الكتب المقدسة، وهذا يدل على وسطية القرآن وحكمته في عرض اليوم الآخر بمشاهده الحية في الترهيب بدون إفراط أو تفريط أو زيادة أو نقصان، وبإذن الله سنتكلم في الصفحات القادمة عن جانب الترغيب والله الهادي إلى سواء السبيل.
...
__________
(1) الليث بن سعد هو شيخ الديار المصرية الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي، ويكنى أبا الحارث، ولد سنة (94 هـ) بقرقشند، وكان غنيًّا سخيًّا، يزيد دخله عن عشرين ألف دينار سنويًا، مع ذلك لم تجب الزكاة في ماله، لأنه من شدة سخائه ما كان يبقي عنده نصاب الزكاة، قال الشافعي فيه: الليث أفقه من مالك، إلا أنه ضيعه أصحابه. توفي عام (175 هـ) انظر ترجمته في تاريخ بغداد (13/ 3)، تذكرة الحفاظ (1/ 307).
(2) يقظة أولي الاعتبار، لصديق حسن خان، (72).(1/321)
المبحث السادس صفة الجنة
أولاً: الجنة لا مثل لها.
إن نعيم الجنة شيء أعده الله لعباده المتقين نابع من كرم الله وجوده وفضله، ووصف لنا المولى عز وجل شيئاً من نعيمها إلا أنه ما أخفاه الله عنا من نعيم شيء عظيم لا تدركه العقول، ولا تصل إلى كنهه الأفكار. قال تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17].
وقد جاء في الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " قال الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فاقرءوا إن شئتم {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} " (1).
وقد بين الله سبحانه وتعالى سبب هذا الجزاء بما وفقهم إليه من أعمال عظيمة من قيام ليل، وإنفاق في سبيله قال تعالى:
{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16 - 17].
ثانيًا: أبواب الجنة:
وصف الله سبحانه وتعالى في كتابه الجنَّة بأن لها أبوابًا يدخل منها المؤمنون كما تدخل منها الملائكة قال تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} [ص: 50]
وقال تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 23 - 24].
وأخبر الحق تبارك وتعالى أن هذه الأبواب تفتح عندما يصل المؤمنون إليها،
__________
(1) البخاري مع الفتح، كتاب بدء الخلق، باب صفة الجنة (6/ 366) رقم (3244).(1/322)
وتستقبلهم الملائكة محيية بسلامة الوصول: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73].
وعدد أبواب الجنة ثمانية، وأحد هذه الأبواب يسمى الريان وهو خاص بالصائمين كما في حديث البخاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " في الجنة ثمانية أبواب فيها باب يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون " (1).
وقد بين العلماء أن هناك بابًا للمكثرين من الصلاة، وبابًا للمتصدقين وبابًا للمجاهدين، فمن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة وهكذا (2).
ثالثًا: درجات الجنة:
إن أهل الجنة متفاوتون فيما بينهم على حساب أعمالهم وتوفيق الله لهم وكذلك درجاتهم في الآخرة، بعضها فوق بعض قال تعالى: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} [طه: 75] وأولياء الله المؤمنون المتقون في تلك الدرجات بحسب إيمانهم وتقواهم قال تعالى:
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء: 18 - 21].
فبين سبحانه أن أهل الآخرة يتفاضلون فيها أكثر ما يتفاضل الناس في الدنيا وأن درجات الآخرة أكبر من درجات الدنيا. قال تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10].
__________
(1) البخاري مع الفتح، كتاب بدء الخلق، باب صفة أبواب الجنة (6/ 366) رقم (3244).
(2) انظر: فتح الباري (6/ 378).(1/323)
وقال تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 95 - 96].
وقد روى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من آمن بالله وبرسوله وأقام الصلاة وصام رمضان كان حقًّا على الله أن يدخله الجنة، جاهد في سبيل الله، أو جلس في أرضه التي ولد فيها، فقالوا يا رسول الله: أفلا نبشر الناس؟! قال: إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله، فاسألوه الفردوس, فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، أراه قال: وفوقه عرش الرحمن منه تفجر أنهار الجنة " (1).
رابعًا: أنهار الجنة:
ذكر القرآن الكريم أنهار الجنة في آيات عديدة قال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة: 25]
قال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد: 15].
ومن الأنهار التي ذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديثه في الجنة ما رواه البخاري عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " رفعت لي السدرة، فإذا أربعة أنهار نهران ظاهران، ونهران باطنان، فأما الظاهران فالنيل والفرات، وأما الباطنان: فنهران في الجنة " (2).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة " (3).
__________
(1) البخاري مع الفتح، كتاب الجهاد، باب درجات المجاهدين، (6/ 14).
(2) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الأشربة، باب شرب اللبن، (10/ 73).
(3) صحيح مسلم، كتاب الجنة، باب ما في الدنيا من أنهار الجنة (4/ 2183).(1/324)
ومن أنهار الجنة الكوثر الذي أعطاه الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، ففي صحيح البخاري عن أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " بينما أنا أسير في الجنة, إذ أنا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف، قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك، فإذا طيبة أو صينه مسك أذفر " شك الرواي (هدبة) (1).
وقد فسر ابن عباس الكوثر بالخير الكثير الذي أعطاه الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وبين سعيد بن جبير أن النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه (2).
خامسًا: عيون الجنة:
في الجنة عيون كثيرة مختلفة الطعوم والمشارب قال تعالى: {إِنَّ الْمتَّقِينَ فِي جَنَّات وَعُيُون} [الحجر: 45] {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلال وَعُيون} [المرسلات: 41] وقال في وصف الجنتين اللتين أعدهما لمن خاف ربه {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} [الرحمن: 50] وقال في وصف الجنتين اللتين دونهما {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} [الرحمن: 66].
وفي الجنة عينان يشرب المقربون ماءهما صرفًا غير مخلوط، ويشرب منهما الأبرار الشراب مخلوطًا ممزوجًا بغيره، العين الأولى: عين الكافور قال تعالى:
{إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 5 - 6] فقد أخبر أن الأبرار يشربون -شرابهم ممزوجًا من عين الكافور- بينما عباد الله يشربونها خالصًا.
العين الثانية: عين التسنيم، قال تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين: 22 - 28] ومن عيون الجنة عين تسمى السلسبيل، قال تعالى: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلً} [الإنسان: 17 - 18].
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الرقاق، باب في الحوض (11/ 472).
(2) صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب في الحوض، فتح الباري، (11/ 475).(1/325)
سادسًا: قصور الجنة وخيامها:
يبني الله لأهل الجنة مساكن طيبة حسنة كما قال تعالى: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} [التوبة: 72] وقال تعالىِ: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمنُونَ} [سبأ: 37] وقال في جزاء عباد الرحمن: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا} [الفرقان: 75] وقال تعالى واصفًا هذه الغرفات: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} [الزمر: 20].
وقد أخبرنا المولى عز وجل أن في الجنة خيامًا قال تعالى: {حُورٌ مقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن: 72] وهذه الخيام عجيبة، فهي من لؤلؤ؛ بل هي من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها في السماء ستون ميلاً وفي بعض الروايات عرضها ستون ميلاً ففي صحيح البخاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " الخيمة درة مجوفة طولها في السماء ثلاثون ميلاً، في كل زاوية منها للمؤمن أهل لا يراهم الآخرون " (1).
سابعًا: نور الجنة:
قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} [مريم: 62 - 63] أي في وقت البكرات ووقت العشيات، لا أن هناك ليلاً ونهارًا، ولكنهم في أوقات تتعاقب يعرفون مضيها بأضواء وأنوار) (2).
ويقول ابن تيمية في هذا الموضوع: (والجنة ليس فيها شمس ولا قمر ولا ليل، ولا نهار، لكن تعرف البكرة والعشية بنور يظهر من قبل العرش) (3).
ثامنًا: وصف بعض شجر الجنة:
سدرة المنتهى: وهذه الشجرة ذكرها المولى عز وجل في كتابه العزيز وأخبر
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب بدء الخلق، باب صفة الجنة، (6/ 366).
(2) تفسير ابن كثير (4/ 471).
(3) مجموع فتاوى ابن تيمية (4/ 312).(1/326)
سبحانه أن رسولنا - صلى الله عليه وسلم - رأى جبريل على صورته التي خلقه الله عليها عندها، وأن هذه الشجرة عند جنة المأوى التي غشيها ما غشيها مما لا يعلمه إلا الله عندما رآها الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 14 - 17].
شجرة طوبى: وهذه شجرة عظيمة كبيرة تصنع ثياب أهل الجنة عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " طوبى شجرة في الجنة مسيرة مائة عام، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها " (1).
الشجرة التي يسير الراكب في ظلها مائة عام: هذه شجرة هائلة لا يقدر قدرها إلا الذي خلقها، وقد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - عظم هذه الشجرة بأن أخبر أن الراكب لفرس من الخيل التي تعد للسباق يحتاج إلى مائة عام حتى يقطعها إذا سار بأقصى ما يمكنه. ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة، واقرءوا إن شئتم: {وَظِلٍّ ممْدودٍ} [الواقعة: 30] " (2).
وهذا يدل عن خلق بديع وقدرة الصانع البديع سبحانه وتعالى.
تاسعًا: نعيم أهل الجنة:
لقد مدح القرآن الكريم نعيم الآخرة وذم الدنيا الفانية ورغب في ما عند الله على متاع الدنيا القريب العاجل في مواضع كثيرة، كقوله تعالى: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} [آل عمران: 198].
وقوله: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131] وقوله: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ
__________
(1) سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني، (4/ 639، رقم الحديث 1985).
(2) البخاري مع الفتح، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة (6/ 366).(1/327)
رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 15] والآيات في هذا الباب كثيرة.
عاشرًا: طعام أهل الجنة وشرابهم:
ذكر الله سبحانه وتعالى أن في الجنة ما تشتهيه الأنفس من المآكل والمشارب: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة: 20] {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزخرف: 71].
وقد أباح الله لهم أن يتناولوا من خيراتها وألوان طعامها وشرابها ما يشتهون: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24].
الحادى عشر: خمر أهل الجنة:
من الشراب الذي يتفضل الله به على أهل الجنة الخمر، وخمر الجنة خالٍ من العيوب والآفات التي تتصف بها خمر الدنيا، فخمر الدنيا تذهب العقول، وتصدع الرءوس، وتوجع البطون، وتمرض الأبدان، وتجلب الأسقام، وقد تكون معيبة في صنعها أو لونها أو غير ذلك، أما خمر الجنة فإنها خالية من ذلك كله، وجميلة صافية رائعة (1). قال تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} [الصافات: 45 - 47] فقد وصف الله جمال لونها (بيضاء) ثم بين أنها تلذ شاربها لا يمل من شربها {وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} [الصافات: 47] وقال في موضع آخر يصف خمر الجنة: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ} [الواقعة: 17 - 19].
قال ابن كثير في تفسير هذه الآيات: (لا تصدع رءوسهم، ولا تنزف عقولهم، بل هي ثابتة مع الشدة المطربة واللذة الحاصلة، وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال: في الخمر أربع خصال: السكر، والصداع، والقيء والبول، فذكر الله خمر الجنة، ونزهها عن هذه الخصال) (2).
__________
(1) انظر: اليوم الآخر، الجنة والنار، د. عمر الأشقر (230).
(2) تفسير ابن كثير (6/ 514).(1/328)
وقال تعالى في موضع آخر: {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ} [المطففين: 25 - 26] والرحيق الخمر، ووصف هذا الخمر بوصفين: الأول أنه مختوم أي موضوع عليه خاتم الأمر الثاني: أنهم إذا شربوه وجدوه في ختام شرابهم له رائحة المسك (1).
الثاني عشر: طعام أهل الجنة وشرابهم لا دنس معه:
الجنة دار خالصة من الأذى، وأهلها مطهرون من أوساخ أهل الدنيا، ففي البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها، ولا يمتخطون، ولا يتغوَّطون " (2).
وليس هذا خاص بأول زمرة تدخل الجنة، وإنما هو عام في كل ما يدخل الجنة، ففي رواية عند مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أول زمرة تدخل الجنة من أمتي على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد نجم في السماء إضاءة ثم هم بعد ذلك منازل، لا يتغوطون، ولا يتبولون، ولا يمتخطون، ولا يبزقون " (3).
فالذي يتفاوت فيه أهل الجنة مما نص عليه في الحديث قوة نور كل منهم، أما خلوصهم من الأذى فإنهم يشتركون فيه جميعًا، فهم لا يتغوطون ولا يتبولون، ولا يتفلون، ولا يبزقون، ولا يمتخطون. وفضلات الطعام والشراب تتحول إلى رشح كرشح المسك يفيض من أجسادهم، كما يتحول بعض منه إلى جشاء ولكنه جشاء تنبعث منه روائح طيبة عبقة عطرة.
ففي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله، قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، ولا يتفلون، ولا يتبولون ولا يتغوطون، ولا يمتخطون. قالوا: فما بال الطعام؟ قال: جشاء كجشاء المسك " (4).
__________
(1) المرجع السابق (230).
(2) رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة، (6/ 367).
(3) رواه مسلم، كتاب الجنة، باب أول زمرة تدخل الجنة، (4/ 2188)، رقم الحديث (2834).
(4) المرجع السابق (4/ 2180)، رقم الحديث (2835).(1/329)
الثالث عشر: آنية طعام أهل الجنة وشرابهم:
آنية طعام أهل الجنة، التي يأكلون ويشربون بها من الذهب والفضة قال تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} [الزخرف: 71] أي وأكواب من ذهب.
وقال: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا} [الإنسان: 15] أي اجتمع فيها صفاء القوراير وبياض الفضة.
ومن الآنية التي يشربون بها الأكواب والأباريق والكئوس: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الواقعة: 17 - 18] والكوب ما لا أذن له ولا عروة ولا خرطوم، والأباريق: ذوات الآذان والعرى، والكأس: القدح الذي فيه الشراب.
الرابع عشر: لباس أهل الجنة وحليهم ومباخرهم:
أهل الجنة يلبسون فيها الفاخر من اللباس، ويتزينون فيها بأنواع الحلي من الذهب والفضة واللؤلؤ، فمن لباسهم الحرير، ومن حلالهم أساور الذهب والفضة واللؤلؤ قال تعالى:
{يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [فاطر: 33]
{وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21] وملابسهم ذات ألوان، ومن ألوان الثياب التي يلبسون الخضر من السندس والاستبرق:
{يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 31].
ولباسهم أرقى من أي ثياب صنعها الإنسان، فقد روى البخاري في صحيحه عن البراء بن عازب (1) - رضي الله عنه - قال: " أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثوب من حرير، فجعلوا
__________
(1) هو البراء بن عازب بن الحارث الأنصاري الأوسي، أبو عمارة، وقيل: أبو عمرو هو وأبوه صحابيان، شهد أحد وما بعدها، واستصغر يوم بدر، وشهد مع علي - رضي الله عنه - الجمل وصفين، وحرب الخوارج، مات سنة اثنتين وسبعين من الهجرة. انظر الإصابة (1/ 146 - 147).(1/330)
يعجبون من حسنه ولينه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لمناديل سعد بن معاذ (1) في الجنة أفضل من هذا " (2).
وقد أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن لأهل الجنة أمشاطًا من الذهب والفضة، وأنهم يتبخرون بعود الطيب، مع أن روح المسك تفوح من أبدانهم الزاكية، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في صفة الذين يدخلون الجنة: " آنيتهم الذهب والفضة، وأمشاطهم الذهب، ووقود مجامرهم الألوة -عود الطيب- ورشحهم المسك " (3).
وثياب أهل الجنة وحليهم لا تبلى ولا تفنى، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من يدخل الجنة ينعم لا يبأس، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه " (4).
الخامس عشر: فرش أهل الجنة:
فرش أهل الجنة عظيمة القدر، بطائنها من الإستبرق، فما بالك بظاهرها، وهناك ترى النمارق مصفوفة على نحو يسر الخاطر ويبهج النفس والزرابي مبثوثة على شكل منسق متكامل قال تعالى: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الغاشية: 13 - 16] {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرحمن: 54].
{مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} [الرحمن: 76] والمراد بالنمارق: المخادّ والوسائد والمساند، والزرابي: البسط، والعبقري: البسط الجياد، والرفرف، رياض الجنة وقيل نوع من الثياب، والأرائك: السرر.
__________
(1) هو أبو عمر سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس بن ريد بن عبد الأشهل الأوسي الأنصاري سيد الأوس رمي يوم الخندق بسهم فعاش بعد ذلك شهر حتى حكم في بني قريظة حكمه المشهور الذي وافق فيه حكم الله من فوق سبع سموات وبعد ذلك مات بسبب انتقاض جرحه وذلك سنة خمس للهجرة. انظر: الإصابة (2/ 35).
(2) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة (6/ 367) رقم الحديث (3248).
(3) صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، باب في صفة الجنة، رقم (3246).
(4) صحيح مسلم كتاب الجنة، باب في دوام نعيم الجنة (4/ 2181)، رقم الحديث (2836).(1/331)
السادس عشر: خدم أهل الجنة:
يخدم أهل الجنة ولدان ينشئهم الله لخدمتهم، يكونون في غاية الجمال والكمال، كما قال تعالى:
{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الواقعة: 17 - 18]
قال ابن كثير رحمه الله: (يطوف على أهل الجنة للخدمة ولدان من ولدان أهل الجنة (مخلدون) أي: على حالة واحدة مخلدون عليها، لا يتغيرون عنها لا تزيد أعمارهم عن تلك السن، ومن فسرهم بأنهم مخرصون، في آذانهم الأقرطة, فإنما عبر عن المعنى, لأن الصغير هو الذي يليق له ذلك دون الكبير وقوله تعالى: {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤلؤًا مَّنثُورًا} [الإنسان: 19].
أي إذا رأيتهم في انتشارهم في قضاء حوائج السادة وكثرتهم وصباحة وجوههم وحسن ألوانهم وثيابهم وحليهم، حسبتهم لؤلؤًا منثورًا، ولا يكون في التشبيه أحسن من هذا، ولا في المنظر أحسن من اللؤلؤ المنثور على المكان الحسن) (1).
السابع عشر: اجتماع أهل الجنة وأحاديثهم:
أهل الجنة يزور بعضهم بعضًا، ويجتمعون في مجالس طيبة يتحدثون ويذكرون ما كان منهم في الدنيا، وما مَنَّ الله به عليهم من دخول الجنان، قال تعالى في وصف اجتماع أهل الجنة:
{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47].
وحدثنا القرآن عن أصناف الأحاديث التي يتكلمون بها في مجتمعاتهم: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: 25 - 28]
ومن ذلك تذكرهم أهل الشر الذين كانوا يشككون أهل الإيمان ويدعونهم إلى
__________
(1) تفسير ابن كثير (7/ 184).(1/332)
الكفران: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات: 50 - 61].
الثامن عشر: نساء أهل الجنة:
زوجة المؤمن في الدنيا زوجته في الآخرة إذا كانت مؤمنة قال تعالى:
{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} [الرعد: 23]
وهم في الجنات منعمون مع الأزواج، يتكئون في ظلال الجنة مسرورين فرحين: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} [يس: 56].
{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف: 70].
التاسع عشر: الحور العين:
قال تعالى: {كذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهم بِحورٍ عِينٍ} [الدخان: 54] والحور: جمع حوراء، وهي التي يكون بياض عينها شديد البياض، وسواده شديد السواد، والعين: جمع عيناء، والعيناء هي واسعة العين. وقد وصف الله في القرآن الحور العين بأنهن كواعب أتراب قال تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا} [النبأ: 31 - 33] والكاعب: المرأة الجميلة التي برز ثديها، والأتراب المتقاربات في السن، والحور العين من خلق الله في الجنة، أنشأهن الله إنشاء فجعلهن أبكارًا، عربًا أترابًا: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة: 35 - 37]
وكونهم أبكارًا يقضي أنه لم ينكحهن قبلهم أحد، كما قال تعالى: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 56].
وقد حدثنا القرآن عن جمال نساء الجنة فقال: {وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [الواقعة: 22 - 23] والمراد بالمكنون: الخفي المصان، الذي لم يغير صفاء لونه(1/333)
ضوء الشمس، ولا عبث الأيدي، وشبههن في موضع آخر بالياقوت والمرجان: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 56 - 58].
والياقوت والمرجان حجران كريمان فيهما جمال، ولهما منظر حسن بديع، وقد وصف الحور بأنهن قاصرات الطرف: وهن اللواتي قصرن بصرهن على أزواجهن، فلم تطمح أنظارهن لغير أزواجهن، وقد شهد الله لحور العين بالحسن والجمال، وحسبك أن شهد الله بهذا ليكون قد بلغ غاية الحسن والجمال: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 70 - 71]. ونساء الجنة لسن كنساء الدنيا, فإنهن مطهرات من الحيض والنفاس، والبصاق والمخاط والبول والغائط، وهذا مقتضى قوله تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 25].
وقد حدثنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن جمال نساء أهل الجنة، ففي الحديث الذي يرويه البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: " أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون ولا يمتخطون، ولا يتغوطون، وآنيتهم فيها الذهب، وأمشاطهم من الذهب والفضة، ومجامرهم الألوه، ورشحهم من وراء اللحم من الحسن " (1).
وانظر إلى هذا الجمال الذي يحدث عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - هل تجد له نظيرًا مما تعرف؟ " ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأته ريحًا، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها " (2).
العشرون: أفضل ما يعطاه أهل الجنة: (النظر إلى وجهه الكريم رضوان الله).
قال الطحاوي: (الرؤية حق لأهل الجنة، بغير إحاطة ولا كيفية، كما نطق به
__________
(1) رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، صفة الجنة، فتح الباري، (6/ 367).
(2) البخاري مع الفتح كتاب الجهاد، باب وزوجناهم بحور عين، (6/ 19).(1/334)
كتاب ربنا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23] وتفسيره على ما أراد الله تعالى وعلمه، وكل ما جاء في ذلك الحديث الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو كما قال، ومعناه على أنه أراد أن لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا, فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه) (1).
وقد صرح الحق تبارك وتعالى برؤية العباد لربهم في جنات النعيم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23].
والكفار والمشركون يحرمون من هذا النعيم العظيم، والتكرمة الباهرة: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15].
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا دخل أهل الجنة الجنة، يقول تبارك وتعالى: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة، وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم تبارك وتعالى " زاد في رواية: " ثم تلا هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] ".
وأما عن رضوان الله الذي يعطي لأهل الجنة، فعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله تعالى يقول يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربَّنا وسعديك، والخير كله في يديك، فيقول هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك؟ فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا " (2).
الحادى والعشرون: آخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين:
يمر المؤمنون في الموقف العظيم بأهوال عظام، ثم يمرون على الصراط فيشاهدون
__________
(1) الطحاوية (203).
(2) مشكاة المصابيح للبغوي (3/ 88).(1/335)
هولاً ورعبًا، ثم يدخلهم الله جنات النعيم بعد أن أذهب عنهم الحزن، فيرون ما أعد الله لهم فيها من خيرات عظام، فترتفع ألسنتهم تسبح ربهم وتقدسه، فقد أذهب عنهم الحزن، وصدقهم وعده وأورثهم الجنة: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر: 34 - 35].
وآخر دعواهم في جنات النعيم الحمد لله رب العالمين: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].
وإلى هنا أرجو أن أكون قد بينت قضية الإيمان باليوم الآخر من خلال القرآن الكريم وهدي سيد الرسلين - صلى الله عليه وسلم -، وقد لمست من خلال بحثي ملامح الوسطية من حكمة قرآنية واستقامة ربانية واعتدال وعدل في الأحكام ووضع طالب الحقيقة على صراط مستقم.
***(1/336)
الفصل السابع وسطية القرآن في القضاء والقدر
تمهيد:
هذه مباحث في باب القضاء والقدر، ذلك الباب العظيم، الذي لا شك في أنه من أعظم أبواب العقيدة وأهمها، فهو أحد أركان الإيمان الستة التي وردت في حديث جبريل -عليه السلام- ولا يؤمن إنسان على الحقيقة حتى يؤمن به، فالإيمان به تمام التوحيد، كما قال ابن عباس - رضي الله عنه -: (القدر نظام التوحيد، فمن وحد الله وآمن بالقدر تم توحيده، ومن وحد الله وكذب بالقدر نقض توحيده) (1).
(والقدر هو قدرة الله، كما قال الإمام أحمد -رحمه الله-) (2).
فالذي يكذب به مكذب لقدرة الله عز وجل - ومما يدل على أهميته ما يترتب على الإيمان به من عظيم الثمرات على الأفراد والمجتمعات في الدنيا وفي الآخرة، ومما يدل على أهميته أن كتب العقيدة اهتمت به أيما اهتمام، وأطالت في ذكره، والحديث عنه كالإبانة لابن بطة، والشريعة للآجرى، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي، والحجة في بيان المحجة للأصبهاني وغيرها.
ففهم هذا الباب على الوجه الصحيح والإلمام به -ولو على سبيل الإجمال- من الأهمية بمكان، وقد جاء هذا الباب في القرآن الكريم واضحًا وشرحه النبي - صلى الله عليه وسلم - أتم الشرح، وتلقاه الصحابة عنه فكانوا رضوان الله عليهم أعظم الناس فهمًا لحقيقة الإيمان بالقدر، فأثر ذلك فيهم أيما تأثير، فكانوا أشجع الناس، وأكرمهم، وأتقاهم، ثم دب في هذه الأمة داء الأمم، وقد ركبت سنن من كان قبلها، فدخلت الفلسفات اليونانية والهندية وعقائد اليهود المحرفة والنصارى الزائغة إلى بلاد المسلمين، وظهرت بدعة القدرية في البصرة ودمشق، فوقع أول شرك في الأمة وهو
__________
(1) مجموع الفتاوى لابن تيمية (3/ 113).
(2) المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد (1/ 135).(1/337)
نفي القدر، فتصدى علماء السنة لتلك البدعة وبينوا عوارها ودحضوا باطلها وأظهروا الحق ونشروه.
ومما لا شك فيه أن باب القدر -أعوص أبواب العقيدة، فلقد حار النظار والعقلاء قديمًا وحديثًا- في شأنه وفي فهم حقيقته، فلم يصلوا إلى اليقين والصواب، ذلك لأنهم التمسوا الهدى في غير مظانه، فحاروا وحيروا، وتعبوا وأتعبوا. وقد وفق الله سبحانه وتعالى أهل السنة والجماعة لفهم هذا الباب، وذلك لاتباع ما جاء في الكتاب والسنة وآثار السلف الصالح, إذ لا يمكن لأحد أن يفهم هذا الباب على وجه التفصيل فهمًا صحيحًا -إلا كما فهمه أهل السنة والجماعة- سلف هذه الأمة الصالح، وإذا نظرت إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - انتظم العقد في هذا الباب وظهرت ملامح الوسطية فيه وسلمت من الإفراط والتفريط والغلو والجفا والبعد عن الصراط المستقيم. وتجد القرآن الكريم والسنة المطهرة ترشدنا إلى أبواب يستطيع العقل البشري أن يجول فيها في هذا الباب وتنهانا عن أمور يستحيل العقل أن يصل إليها.
فالأمور التي يستطيع العقل البشري أن يجول فيها ويفهمها من منطق النصوص، كالبحث في مراتب القدر وأقسام التقدير، وخلق أفعال العباد إلى غير ذلك من مباحث القدر.
والأمور التي نهانا الشرع عن الخوض فيها مثل: الخوض في القدر بالباطل وبلا علم ولا دليل، والاعتماد في معرفة القدر على العقل البشري القاصر بعيدًا عن هدي الكتاب والسنة؛ لأن العقل البشري لا يستقل بمعرفة ذلك على وجه التفصيل، وكذلك البحث عن الجانب الخفي في القدر الذي هو سر الله في خلقه، وكذلك التنازع في القدر الذي يؤدي إلى اختلاف الناس فيه وافتراقهم، فهذا مما نهينا عنه.
وبذلك يتضح للباحث منهج الوسطية في هذا الباب إذا ألَمَّ بأطراف الموضوع، معتمدًا على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.(1/338)
المبحث الأولى تعريف القضاء والقدر والعلاقة بينهما
أولاً: القدر في اللغة: (مصدر قدر يقدر قدرًا وقد تسكن داله) (1).
قال ابن فارس: (قدر: القاف والدال والراء أصل صحيح يدل على مبلغ الشيء وكنهه ونهايته؛ فالقدر مبلغ كل شيء، يقال: قدره كذا أي مبلغه، وكذلك القدر، وقدرت الشيء أقدره وأقدر من التقدير) (2).
والقدر: محركة: القضاء والحكم، وهو ما يقدره -عز وجل- من القضاء، ويحكم به من الأمور.
والتقدير: التروية والتفكير في تسوية أمر، والقدر كالقدر، وجميعها جمعها أقدار (3).
والقدر في الاصطلاح: (تقدير الله للكائنات حسبما سبق به علمه، واقتضته حكمته) (4).
أو هو: (ما سبق به العلم وجرى به القلم، مما هو كائن وأنه -عز وجل- قدر مقادير الخلائق، وما يكون من الأشياء قبل أن تكون في الأزل، وعلم -سبحانه وتعالى- أنها ستقع في أوقات معلومة عنده -تعالى- وعلى صفات مخصوصة، فهي تقع على حسب ما قدرها) (5).
ثانيًا: القضاء في اللغة:
أ- القضاء في اللغة: (هو الحكم والصنع، والختم، والبيان، وأصله القطع، والفصل، وقضاء الشيء، وإحكامه، وإمضاؤه، والفراغ منه فيكون بمعنى الخلق) (6).
__________
(1) النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، (4/ 22).
(2) معجم مقاييس اللغة، كتاب القاف، باب القاف والدال، (5/ 62).
(3) القاموس المحيط فصل القاف، مادة قدر (591).
(4) رسائل في العقيدة للشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- (37).
(5) لوامع الأنوار البهية للسفاريني، (1/ 348).
(6) انظر: معجم مقاييس اللغة، كتاب القاف، باب القاف والضاد، (5/ 99).(1/339)
ب- العلاقة بين القضاء والقدر:
1 - قيل: (المراد بالقدر التقدير، وبالقضاء الخلق، كقوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [فصلت: 12] أي خلقهن، فالقضاء والقدر أمران متلازمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر, لأن أحدهما بمنزلة الأساس وهو القدر، والآخر بمنزلة البناء وهو القضاء، فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه) (1).
2 - وقيل العكس: (فالقضاء هو العلم السابق الذي حكم الله به في الأزل، والقدر هو وقوع الخلق على وزن الأمر المقضي السابق) (2).
قال ابن حجر العسقلاني: (وقالوا أي العلماء: القضاء هو الحكم الكلي الإجمالي في الأزل، والقدر جزئيات ذلك الحكم وتفاصيله) (3).
3 - قيل: إذا اجتمعا افترقا بحيث يصبح لكل واحد منهما مدلول بحسب ما مر في القولين السابقين، وإذا افترقا اجتمعا، بحيث إذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر (4).
قوله تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة: 47].
وقوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28] وروى البخاري في صحيحه عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أبناء المشركين، فقال: " الله أعلم بما كانوا عاملين " (5).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: " ما منكم من نفس إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار " (6).
...
__________
(1) النهاية في غريب الحديث (4/ 78).
(2) البخاري مع الفتح، كتاب القدر، (11/ 486).
(3) انظر: الدرر السنية في الأجوبة النجدية (1/ 512 - 513).
(4) البخاري مع الفتح، كتاب القدر، باب الله أعلم بما كانوا عاملين (11/ 502) رقم الحديث (6597).
(5) أخرجه مسلم، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي، (4/ 2037)، رقم الحديث (2647).
(6) مسلم، كتاب القدر، باب حجاج آدم موسى، (4/ 244، رقم 2653).(1/340)
المبحث الثاني الإفراط والتفريط في باب القدر
قد ضل في باب القدر فرق شتى من الناس، ومنشأ ضلالهم اتباعهم للهوى ونظرهم إلى النصوص بعين عوراء فيأخذون ما وافق أهواءهم، ويعمون، أو يتعامون عن غيره، ومن أشهر الفرق التي ضلت في هذا الباب ما يلي:
1 - الفلاسفة:
الذين أنكروا (علمه تعالى بالجزئيات، وقالوا إنه يعلم الأشياء على وجه كلي ثابت، وحقيقة قولهم أنه لا يعلم شيئاً, فإن كل ما في الخارج هو جزئي) (1).
وقد تأثر اليهود والنصارى بالفلسفة القديمة وتجد في كتبهم المحرفة ما يفيد إنكار علم الله تعالى كما في سفر التكوين (2) حيث زعم اليهود أن الله تعالى: (لا يعلم الغيب ويحتاج علامات يميز بها بني إسرائيل من غيرهم، فوضع الدم علامة على بيوت بني إسرائيل ليميزها عن بيوت المصريين حتى لا يهلكهم) (3).
وأما النصارى فقد جعلوا المخلوق إلهًا ونفوا عن إلههم أن تكون له إرادة ومشيئة وعلم بما يحصل له أو لمخلوقاته، تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا (4) وهذا بسبب بُعْدهم عن الكتب المقدسة الصحيحة وتأثيرهم بالفلسفات الباطلة، ويكفى في الرد عليهم قوله تعالى:
{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59].
2 - من يعتقدون تأثير الكواكب والأسماء والأبراج:
كحال الذين ينظرون في النجوم والأسماء، ليستطلعوا من خلالها أسرار القدر،
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل (9/ 397).
(2) سفر التكوين، إصحاح (12)، فقرة (12 - 13).
(3) وسطية أهل السنة بين الفرق (249).
(4) الحكمة في الدعوة إلى الله (444).(1/341)
فتجدهم يقولون: إذا ولد فلان في البرج الفلاني أو كان يحمل الاسم الفلاني فسيصيبه كذا وكذا في يوم كذا وكذا، ومما يقولون -أيضًا- من اسمك تعرف حظك، ومن شهر ميلادك تعرف حظك، ونحو ذلك من هذا الهذيان والتخرص والرجم بالغيب، فهذا ضلال في باب القدر, لأن القدر غيب والغيب لا يعلمه إلا الله عز وجل.
3 - غلاة الصوفية:
الذين غلو في الجبر: (ممن يزعمون الترقي في مقام الشهود للحقيقة الكونية، والربوبية الشاملة، فيرون كل ما يصدر من العبد من ظلم، وكفر، وفسوق هو طاعة محضة لأنها تجري وفق ما قضاه الله وقدره وكل ما قضاه وقدره فهو محبوب لديه، مرضي عنده، فإذا كان قد خالف أمر الشارع بارتكابه هذه المحظورات - فقد أطاع إرادة الله، ونفذ مشيئته، فمن أطاع الله في قضائه وقدره هو كمن أطاعه في أمره ونهيه كلاهما قد قام بحق العبودية لله) (1).
(ومن ثم فلا لوم، ولا تثريب، بل الكل مطيع بفعله لإرادة ربه، فصححوا بذلك إيمان فرعون وعبدة العجل، واليهود والنصارى والمجوس) (2).
كما صرح بذلك ابن عربي (3) الصوفي بقوله:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي ... إذا لم يكن ديني إلى دينه دانِ
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة ... فمرعى لغزلان ودير لرهبان
أدين بدين الحب أنَّى توجهت .... وألواح توراة ومصحف قرآن
وبيت لأوثان وكعبة طائف ... ركائبه فالحب ديني وإيمان (4)
__________
(1) شرح نونية ابن القيم، للهراس (1/ 372).
(2) المعتزلة بين القديم والحديث، لمحمد عبده، طارق عبد الحكيم، (58).
(3) هو أبو بكر محمد بن علي بن محمد العربي الحاتمي الطائي المعروف بمحيي الدين بن عربي، شيعي سوء، كذاب، من أهل وحدة الوجود، قال أشياء منكرة عدها المحققون مروقًا ورندقة، مات سنة 638 هـ، انظر: ميزان الاعتدال (3/ 659)، رقم ترجمته (660).
(4) رسائل وفتاوى في ذم ابن عربي الصوفي، د. موسى الدويش، (74).(1/342)
وكقول عبد الكريم الجيلي (1)، وهو من أهل وحدة الوجود:
وأسلمت نفسي حيث أسلمني الهوى ... وما لي عن حكم الحبيب تنازع
فطورًا تراني في المساجد راكعًا ... وإني طورًا في الكنائس راتع
إذا كنت في حكم الشريعة عاصيًا ... فإني علم الحقيقة طائع (2)
وكما قال أحدهم:
أصبحت منفصلاً بما يختاره ... مني ففعلي كله طاعات
وهذا المذهب من أخبث المذاهب، ولا يشك بكفر أصحابه؛ بل هو من أقبح أنواع الكفر قال ابن تيمية رحمه الله: (فإن من احتج بالقدر وشهود الربوبية العامة لجميع المخلوقات، ولم يفرق بين المأمور، والمحظور، والمؤمنين والكفار، وأهل الطاعة، وأهل المعصية، لم يؤمن بأحد من الرسل، ولا بشيء من الكتب، وكان عنده إبليس وآدم سواء، ونوح وقومه سواء، وفرعون وموسى سواء، والسابقون الأولون وكفار مكة سواء) (3). فلا يشك عاقل في كفره.
4 - الجبرية:
(وهم الذين غلو في إثبات القدر حتى أنكروا أن يكون للعبد فعل - حقيقة لا بل هو في زعمهم لا حرية له ولا فعل، كالريشة في مهب الريح، وإنما تسند إليه الأفعال مجازًا، فيقال: صلى وصام، وقتل، وسرق، كما يقال طلعت الشمس، وجرت الريح، ونزل المطر، فاتهموا ربهم بالظلم، وتكليف العباد بما لا قدرة لهم عليه ومجاراتهم على ما ليس من فعلهم، واتهموه بالعبث في تكليف العباد، وأبطلوا الحكمة في الأمر والنهي ألا ساء ما يحكمون) (4).
__________
(1) هو عبد الكريم بن إبراهيم بن عبد الكريم الجيلي، ابن سبط عبد القادر الجيلاني، من علماء المتصوفة له كتب كثيرة، منها الإنسان الكامل، والمناظرة الإلهية، توفي عام 832 هـ. انظر: الأعلام للزركلي (4/ 175 - 176).
(2) هذه هي الصوفية، عبد الرحمن الوكيل، (96).
(3) مجموع الفتاوى (8/ 100).
(4) انظر: شرح نونية ابن القيم للهراس (1/ 372).(1/343)
وهؤلاء في الحقيقة يزعمون أن الله هو الفاعل الحقيقي لأفعالهم، بخلاف ما عليه أهل السنة، الذين يقولون إن الله هو الخالق والعبد هو الفاعل، ولذا ترتب على فعله الثواب والعقاب، وهؤلاء -الجبرية- يسمون بالقدرية المشركية, لأنهم شابهوا المشركين في قولهم: {لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكنَا وَلا آبَاؤنَا} [الأنعام: 148] وهذا كلام ظاهر البطلان.
5 - القدرية:
وهم أتباع معبد الجهني (1) وغيلان الدمشقي (2)، وأتباع واصل بن عطاء (3)، وعمرو بن عبيد (4) من المعتزلة، ومن وافقهم، هؤلاء هم القدرية، وقولهم في القدر: إن العبد مستقل بعمله في الإرادة والقدرة، وليس لمشيئة الله تعالى، وقدرته في ذلك أثر، ويقولون: إن أفعال العباد ليست مخلوقة لله، وإنما العباد هم الخالقون لها ويقولون: (إن الذنوب الواقعة ليست واقعة بمشيئته الشاملة، وغلاتهم ينكرون أن يكون الله قد علمها، فيجحدون بمشيئته الشاملة، وقدرته النافذة، ولهذا سموا مجوس هذه الأمة, لأنهم شابهوا المجوس الذين قالوا: إن للكون إلهين: إله النور: وهو خالق الخير، وإله الظلمة: وهو خالق الشر.
والقدرية جعلوا لله شريكًا في خلقه فزعموا أن العباد يخلقون أفعالهم،
__________
(1) هو المبتدع القدري معبد بن عبد الله بن علي الجهني البصري أول من قال بالقدر وكان ممن سمع الحديث عن ابن عباس وعمران بن حصين وانتقل إلى المدينة، ونشر مذهبه فيها وكان قد تلقاه من رجل نصراني يسمى سوسن، وأخذ عن معبد غيلان الدمشقي، قتله عبد الملك بن مروان وصلبه، سنة 80 هـ، الكامل لابن الأثير: (4/ 75).
(2) هو غيلان بن مسلم الدمشقي أبو مروان من البلغاء الذين أضلوا الناس، ثاني من تكلم في القدر ودعا إليه، وإليه تنتسب فرقة الغيلانية من القدرية، أفتى الإمام الأوزاعي بقتله فصلب على باب كيسان بدمشق بعد سنة (105هـ).
البداية والنهاية (9/ 34 - 35).
(3) واصل بن عطاء البصري، الغزال المتكلم البليغ المتشدق، الذي كان يلثغ بالراء فلبلاغته هجر الراء وتجنبها في خطابه، قال عنه أبو الفتح الأزدي: رجل سوء كافر، كان من أجلاء المعتزلة مات (131 هـ) انظر: ميزان الاعتدال (4/ 329).
(4) عمرو بن عبيد بن باب، أبو عثمان البصري المعتزلي القدري، اعتزل مجلس الحسن هو وجماعة معه، سموا المعتزلة، وكان يشتم الصحابة ويكذب في الحديث وهمًا لا تعمدًا، مات سنة 143 هـ. انظر ميزان الاعتدال (3/ 273).(1/344)
واستدلوا استدلالاً أعورًا ببعض الآيات، كما في قوله -تعالى-: {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 28].
وقوله: {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29].
وأوّلوا ما عدا ذلك مما يخالف مذهبهم كما في قوله -تعالى-: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29] ومنشأ ضلال هؤلاء في البداية أنهم أرادوا تنزيه الله -عز وجل- عن الشر فوقعوا في نفي القدر، ويكفي في الرد عليهم قوله - تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ومَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96].
***(1/345)
المبحث الثالث ظهور بدعتي نفي القدر والقول بالجبر
في أواخر عصرِ الصحابة رضوان الله عليهم، كانت البداية الحقيقية لنشأة الاختلاف والكلام في القدر إذ نبغ في وقتهم معبد الجهني الذي قال بنفي القدر، كما روى الإمام مسلم عن يحيى بن معمر (1).
قال: (كان أول من قال في القدر بالبصره معبد الجهني، ثم ذكر يحيى أنه لقي عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - فقال يا أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم (2) ... وإنهم يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أنف (3).
فقال ابن عمر منكرًا عليهم ذلك: فإذا لقيت ذلك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبًا فأنفقه، ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر (4).
ومعبد إنما تلقى هذه المقالة عن رجل نصراني كان قد أسلم ثم تنصر مرة أخرى، فكان معبد أول من نشر ذلك ونادى به وأظهره ولا سيما بالبصرة قال الإمام الأوزاعي (5) رحمه الله: (أول ممن نطق في القدر رجل تنصر، فأخذ عنه معبد الجهني وأخذ غيلان عن معبد) (6).
فهؤلاء هم أقطاب القدرية الأوائل، وكان مذهبهم في القدر يدور على أمرين:
__________
(1) يحيى بن يعمر البصري نزيل مرو وقاضيها ثقة فصيح، وكان يرسل، مات قبل المائة. انظر: ابن حجر في التقريب: (2/ 361).
(2) يطلبونه ويتبعونه.
(3) أنف: أي مستأنف، لم يسبق به قدر ولا علم من الله، وإنما يعلمه بعد وقوعه. انظر: صحيح مسلم شرح النووي
(1/ 156).
(4) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإسلام والإيمان، (1/ 36).
(5) هو الإمام العابد الحجة الثقة عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي الفقيه روى عن كثير من التابعين، وكان رأسًا في العلم والعمل والاتباع، بارعًا في الكتابة، كان يكثر من الصلاة والعبادة، وقيام الليل. توفي في بيروت سنة 158 هـ.
انظر تهذيب التهذيب (6/ 238)، شذرات الذهب (4/ 341).
(6) الآجري، الشريعة، (3343)، اللالكائي (1/ 341).(1/346)
أحدهما: نفي علم الله سبحانه بالأشياء قبل وقوعها. والثاني: نفي خلقه لأفعال العباد، وأنها ليست واقعة بقدره، وهؤلاء هم غلاة القدرية الأوائل، وقد انقرض مذهبهم والمتأخرون منهم يثبتون علم الله سبحانه بالأشياء قبل وقوعها ونفوا خلقه لأفعال العباد.
قال القرطبي رحمه الله: (قد انقرض هذا المذهب، أي مذهب غلاة القدرية - ولا نعرف أحدًا ينسب إليه من المتأخرين قال: والقدرية اليوم مطبقون على أن الله عالم بأفعال العباد قبل وقوعها وإنما خالفوا السلف في زعمهم بأن أفعال العباد مقدورة لهم واقعة منهم على جهة الاستقلال وهو مع كونه مذهب باطل أخف من الأول) (1).
وهذا المذهب هو الذي تبنته المعتزلة وجعلته أصلاً من أصولها التي قام عليها كيان الاعتزال، وبسبب قولهم به عرفوا بالقدرية لنفيهم القدر، وفي مقابل القول بنفي القدر، ظهر قول مضاد ومعاكس له وهو القول بالجبر، ومضمونه أن الإنسان مجبور على أفعاله، وأنه لا يقدر منها على شيء، فهو كالريشة في مهب الريح.
وأول من عرف عنه القول بذلك في الإسلام الجهم بن صفون (2). الذي قال من مقالته: (أنه لا حد في الحقيقة إلا لله وحده، وأنه هو الفاعل وأن الناس إنما تنسب إليهم أفعالهم على المجاز كما يقال: تحركت الشجرة ودار الفلك، وزالت الشمس وإنما فعل ذلك بالشجرة والفلك والشمس الله - سبحانه ... ).
ومن خلال مقالتي الطائفتين، يتبين لنا أن القدرية النفاة مفرطون في هذا الباب، مقتصرون فيه بما سلبوا الله قدرته وقولهم: إن العباد هم الخالقون لأفعالهم، كما يتضح لنا مدى غلو الجهمية الجبرية في إثبات القدر حتى سلبوا الإنسان مشيئته وإرادته وعَدُّوه بمنزلة الجماد، وأنه لا فعل له في الحقيقة، وأنه مجبور على أفعاله غير مختار فيها، وكلا الفريقين من الإفراط والتفريط على شفا جرف هار، والطريق
__________
(1) وسطية أهل السنة بين الفرق (371).
(2) جهم بن صفوان السمرقندي أبو محرز من موالي بني راسب، رأس الجهمية الضال المبتدع، هلك في زمن صغار التابعين، وقد زرع شرًّا عظيمًا. انظر: ميزان الاعتدال (1/ 446).(1/347)
المستقيم القصد. فكل منهما قد أخطأ، وضل في هذا الباب، وإن كان هذا لا يمنع أن يكون مع كل منهما بعض الحق والصواب، لكن الحق المحض والصواب المحض ليس هو في قول واحد منهما، وإنما هو في قول خارج عن قولهما جمع ما عند كل من الفريقين من حق وصواب وخلا مما وقع فيه الفريقان من خطأ وضلال، ذلك هو قول أهل السنة والجماعة في هذا الباب، الذي هو حق بين الباطلين، وهدى بين الضلالتين، به كانوا وسطًا بين إفراط وتفريط الفريقين في هذا الباب، كما سنوضح ذلك في الصفحات القادمة.
***(1/348)
المبحث الرابع مجمل اعتقاد أهل السنة والجماعة في باب القدر
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- سؤالاً عن القدر فأجاب عنه إجابة مطولة ضمنها مجمل اعتقاد أهل السنة والجماعة في هذا الباب ومما قاله: (مذهب أهل السنة والجماعة في هذا الباب وغيره ما دل عليه الكتاب والسنة، وكان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وهو أن الله خالق كل شيء، وربه ومليكه، وقد دخل في ذلك جميع الأعيان القائمة بها، من أفعال العباد، وغير أفعال العباد.
وأنه -سبحانه- ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في الوجود شيء إلا بمشيئته، وقدرته، لا يمتنع عليه شيء شاءه، بل هو قادر على كل شيء ولا يشاء شيئًا إلا وهو قادر عليه، وأنه -سبحانه- يعلم ما كان، وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون.
وقد دخل في ذلك أفعال العباد، وغيرها وقدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم، وَقَدَّر آجالهم، وأرزاقهم، وأعمالهم، وكتب ذلك، وكتب ما يصيرون إليه من سعادة، وشقاوة، فهم يؤمنون بخلقه لكل شيء، وقدرته على كل شيء، ومشيئته لكل ما كان، وعلمه بالأشياء قبل أن تكون، وتقديره لها، وكتابته إياها قبل أن تكون) (1).
إلى أن قال: (وسلف الأمة وأئمتها متفقون أيضًا على أن العباد مأمورون بما أمرهم الله به منتهيون عما نهاهم عنه، ومتفقون على الإيمان بوعده، ووعيده الذي نطق به الكتاب والسنة، ومتفقون على أنه لا حجة لأحد على الله في واجب تركه، ولا محرم فعله، بل لله الحجة البالغة على عباده) (2).
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية (8/ 449 - 450).
(2) المرجع السابق (8/ 452).(1/349)
وقال: (ومما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها -مع إيمانهم بالقضاء والقدر، وأن الله خالق كل شيء، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه يضل من يشاء، ويهدي من يشاء- أن العباد لهم مشيئة وقدرة، يفعلون بمشيئتهم، وقدرتهم ما أقدرهم الله عليه، مع قولهم: إن العباد لا يشاءون إلا أن يشاء الله) (1).
كما قال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر: 54 - 56].
...
__________
(1) المرجع السابق (8/ 459).(1/350)
المبحث الخامس الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع والفطرة والعقل في باب القدر
دل على هذا الركن العظيم من أركان الإيمان الكتاب، والسنة والإجماع، والفطرة، والعقل، والحس.
أولاً من القرآن: أما الأدلة من القرآن العظيم: فكثيرة جدًا منها قوله تعالى: {وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرَا مَّقْدُورًا} [الأحزاب: 38] وقال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2].
ثانيًا السنة: أما الأدلة من السنة: فكما قال عليه الصلاة والسلام، كما في حديث جبرائيل عليه السلام: " وتؤمن بالقدر خيره وشره " (1).
وروى مسلم في الصحيح عن طاوس (2) قال: (أدركت ناسًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون: كل شيء بقدر، قال وسمعت عبد الله بن عمر يقول: كل شيء بقدر حتى العجز والكيس أو الكيس والعجز) (3).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: " وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا؛ ولكن قل: قَدَّرَ اللهُ وما شاء فعل " (4).
ثالثًا الإجماع: أما الإجماع: (فقد أجمع المسلمون على وجوب الإيمان بالقدر خيره وشره من الله) (5).
رابعًا الفطرة: أما الفطرة: فإن الإيمان بالقدر أمر معلوم بالفطرة قديمًا وحديثًا ولم ينكره إلا الشواذ من الأمم، ولم يقع الخطأ في نفي القدر وإنكاره، وإنما وقع في
__________
(1) مسلم، كتاب الإيمان، باب ما جاء في القدر (1/ 38 رقم 8).
(2) هو الإمام التابعي طاوس بن كيسان اليماني، أبو عبد الرحمن الجندي، أحد الأعلام علمًا وأدبًا وعملاً، أخذ عن جماعة من الصحابة، وأخذ عنه جماعة. توفي سنة 106 هـ. العبر (1/ 99). انظر: تهذيب التهذيب (5/ 8).
(3) مسلم، كتاب القدر، باب كل شيء بقدر، (4/ 2045 رقم 2655).
(4) مسلم، كتاب القدر، باب الأمر بالقوة وترك العجز، (4/ 2052 رقم 2664).
(5) انظر: الإيمان بالقضاء والقدر، لمحمد إبراهيم الحمد (36).(1/351)
فهمه على الوجه الصحيح، ولهذا قال سبحانه عن المشركين: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148].
فهم أثبتوا المشيئة لله لكنهم احتجوا بها على الشرك، ثم بين سبحانه أن هذا هو شأن من كان قبلهم، كما في قوله: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَذِين مِن قَبْلِهِمْ} [الأنعام: 148] وكانت العرب في الجاهلية تعرف القدر ولا تنكره، ولم يكن هناك من يرى أن الأمر مستأنف، وهذا ما نجده مثبوتًا في أشعارهم، كما في قول عنترة (1):
يا عبل أين من النية مهربي ... إن كان ربي في السماء قضاها؟! (2)
وكما في قول طرفة (3):
فلو شاء ربي كنت قيس بن خالد (4) ... ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد (5)
وقول لبيد (6):
صادفن منها غرة فأصبنها ... إن المنايا لا تطيش سهامها (7)
خامسًا العقل: أما دلالة العقل فهي: أن العقل الصحيح يقطع أن الله هو خالق هذا الكون، ومدبره، ومالكه، ولا يمكن أن يوجد على هذا النظام البديع والتناسق المتآلف، والارتباط الملتحم بين الأسباب والمسببات هكذا صدفه, إذ الموجود صدفه ليس له نظام في أصل وجوده، فكيف يكون منتظمًا حال بقائه وتطوره؟ فإذا تقرر عقلاً أن الله هو الخالق لزم ألا يقع شيء في ملكه إلا وقد شاءه وقدره.
__________
(1) هو عنترة بن شداد العبسي، من شعراء الجاهلية من أصحاب المعلقات، اشتهر بشجاعة فائقة وأشعار نادرة. انظر: شرح المعلقات للزورني (118).
(2) ديوان عنترة (74).
(3) هو طرفة بن العبد بن سفيان، من شعراء الجاهلية، ومن أصحاب المعلقات، قتل وهو ابن عشرين عامًا. انظر: شرح المعلقات (78).
(4) سيد من سادات العرب، شريف النسب، عظيم الحسب، كثير الآل والأولاد.
(5) سيد من سادات العرب، اشتهر بكثرة المال ونجابة الأولاد، وشرف النسب.
(6) هو لبيد بن ربيعة بن مالك العامري مخضرم من المعمرين. ومات في خلافة معاوية وله معلقة مشهورة. انظر شرح المعلقات (226).
(7) ديوان لبيد بن ربيعة العامري (171).(1/352)
المبحث السادس مراتب القدر وأركانه
ومن وسطية القرآن الكريم وحكمته وإرشاده إلى الصراط المستقيم بيانه مراتب القدر والتي تسمى عند العلماء أحيانًا بأركانه، وضبطها وفهمها يعين المسلم على فهم باب القدر، ولا يتم الإيمان بالقدر إلا بتحقيقها كلها, لأن بعضها مرتبط ببعض فمن أقر بها جميعًا اكتمل إيمانه بالقدر، ومن انتقص واحدًا منها أو أكثر اختل إيمانه بالقدر وهذه الأركان هي:
1 - العلم 2 - الكتابة 3 - المشيئة 4 - الخلق.
المرتبة الأولى:
وهو الإيمان بأن الله عالم بكل شيء جملة وتفصيلاً، أزلاً، وأبدًا سواء كان ذلك مما يتعلق بأفعاله، أو بأفعال عباده، فعلمه محيط بما كان، وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون عن علمه الموجود، والمعدوم، والممكن، والمستحيل، ولا يعزب عن عمله مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، وقد علم جميع خلقه قبل أن يخلقهم، فعلهم وأرزاقهم، وآجالهم وأقوالهم، وأعمالهم، وجميع حركاتهم، وسكناتهم، وأهل الجنة.
وهذه المرتبة -وهي العلم السابق- اتفق عليها الرسل من أولهم إلى آخرهم، واتفق عليها جميع الصحابة، ومن تبعهم من هذه الأمة، وخالقهم مجوس هذه الأمة -القدرية الغلاة- والأدلة على هذه المرتبة كثيرة جدًا منها:
قوله تعالى: {هوَ اللَّه الذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الحشر: 22].
وقوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [البقرة: 255].
وقوله: {عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ: 3].(1/353)
المرتبة الثانية الكتابة:
وهي الإيمان بأن الله كتب ما سبق علمه من مقادير الخلائق إلى يوم القيامة في اللوح المحفوظ، وقد أجمع الصحابة، والتابعون، وجميع أهل السنة والحديث على أن كل ما هو كائن إلى يوم القيامة فهو مكتوب في أم الكتاب التي هي اللوح المحفوظ، والذكر، والإمام المبين، والكتاب المبين، والأدلة على هذه المرتبة كثيرة من الكتاب والسنة، منها قوله تعالى:
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70]. وقوله: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: 51].
وقال عن محاجة موسى عليه السلام لفرعون: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 51 - 52].
وروى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء " وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة أو النار، إلا وقد كتبت شقية أو سعيدة " (1).
المرتبة الثالثة: المشيئة:
وهذه المرتبة تقتضى الإيمان بمشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا حركة، ولا سكون، ولا هداية، ولا إضلال إلا بمشيئته، وهذه المرتبة قد دل عليها إجماع الرسل من أولهم إلى آخرهم، وجميع الكتب المنزلة من عند الله، والفطرة التي فطر الله الناس عليها، وأدلة العقل، والنصوص الدالة على هذا الأصل كثيرة جدًا، من الكتاب والسنة، منها قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَار} [القصص: 68] وقوله: {وَلا تَقولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله} [الكهف: 23 - 24].
__________
(1) مسلم، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي، (4/ 2038، رقم 2646).(1/354)
وقال - صلى الله عليه وسلم -: " إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء "، ومشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة يجتمعان فيما كان، وسيكون يفترقان فيما لم يكن، ولا هو كائن، فما شاء الله كونه فهو كائن بقدرته لا محالة، وما لم يشأ كونه فإنه لا يكن لعدم مشيئته، لا لعدم قدرته عليه، وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253] فعدم اقتتالهم ليس لعدم قدرة الله، ولكن لعدم مشيئته ذلك ومثاله قوله تعالى: {وَلُوْ شَاءَ اللَّه لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام: 35] وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّه مَا أَشْرَكوا} [الأنعام: 107].
مرتبة الخلق:
وهذه المرتبة تقتضي الإيمان بأن جميع الكائنات مخلوقة لله بذواتها، وصفاتها، وحركاتها، وبأن كل من سوى الله مخلوق موجد من العدم، كائن بعد أن لم يكن، وهذه المرتبة دلت عليها الكتب السماوية، وأجمع عليها الرسل عليهم الصلاة والسلام، واتفقت عليها الفطر، والعقول السليمة، والأدلة على هذه المرتبة كثيرة منها قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء} [الزمر: 62] وقوله: [الَذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيّكمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [تبارك: 2].
وأخرج البخاري في خلق أفعال العباد عن حذيفة (1) - رضي الله عنه - قال قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله يصنع كل صانع وصنعته " (2).
هذه هي مراتب القدر الأربع التي لا يتم الإيمان بالقدر إلا بها.
وأفعال العباد داخله في عموم خلقه تعالى، ولا يخرجها شيء من عموم قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شيْءٍ} فالأفعال هي من الله خلقًا وإيجادًا وتقديرًا، وهي من العباد فعلاً وكسبًا، فالله هو الخالق لأفعالهم، وهم الفاعلون لها، فنؤمن بجميع
__________
(1) هو حذيفة بن اليمان العبسي من نجباء الصحابة وهو صاحب سر النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنافقين كان يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الشر لتجنبه، شهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد وشهد فتوح العراق، وتوفي بالمدائن (36 هـ). انظر: أسد الغابة (1/ 468)، سير أعلام النبلاء (2/ 361).
(2) أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد والرد على الجهمية وأهل التعطيل: 25، باب أفعال العباد.(1/355)
نصوص الكتاب والسنة الدالة على شمول خلق الله، وقدرته لكل شيء من الأعمال والأوصاف، كما نؤمن بنصوص الكتاب والسنة الدالة على أن العباد هم الفاعلون حقيقة للخير والشر، وعلى هذا اتفق أهل السنة والجماعة " (1).
ومن الأدلة الصريحة على ذلك قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] قال المفسرون في معنى (ما) في الآية وجهان:
أحدهما: أن تكون بمعنى المصدر، فيكون المعنى والله خلقكم وعملكم.
والثاني: بمعنى الذي، فيكون المعنى، والله خلقكم وخلق الذي تعملونه بأيديكم من الأصنام، وفي هذه الآية دليل على أن أفعال العباد مخلوقة لله) (2).
...
__________
(1) انظر: المسائل والرسائل، للإمام أحمد (1/ 147 إلى 150).
(2) زاد المسير لابن الجوزي (7/ 70) وانظر: جامع البيان للطبري (12/ 75) وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/ 15).(1/356)
المبحث السابع وسطية أهل السنة في مسألة أفعال العباد
هذه المسألة من أخطر مسائل القدر، ولقد زلت فيها أقدام، وحارت فيها عقول وأفهام، فقد اختلف الناس هل الأفعال والأعمال الصادرة عن العباد مخلوقة لله عز وجل مقدورة له، أم لا؟ وافترقوا في ذلك إلى طرفين وواسطة.
الطرف الأول (الجبرية): سموا بذلك نسبة إلى الجبر لقولهم به في باب القدر.
والجبر هو: إسناد فعل العبد إلى الله (1) أو نفي الفعل حقيقة عن العبد وإضافته إلى الرب تعالى (2).
الطرف الثاني القدرية: وقولهم في أفعال العباد أنها غير مخلوقة لله عز وجل، وأنهم هم المحدثون لها دونه، وهذا أصل من أصول مذهب المعتزلة (3).
الواسطة بين الطرفين (وهم أهل السنة):
قولهم في أفعال العباد هو:
1 - أنها مخلوقة لله عز وجل على الحقيقة.
2 - وهي فعل للعباد على الحقيقة.
3 - وأنهم قادرون على أفعالهم بقدرة حقيقية مؤثرة في وقوع الفعل منهم، والله هو الذي أقدرهم على ذلك، هذا هو مجمل قول أهل السنة في هذه المسألة، والذي عليه سلف الأمة وأئمتهم، قال محرر مذهب أهل السنة وضابط أصوله وقواعده بحق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وأما جمهور أهل السنة المتبعون للسلف والأئمة فيقولون: إن فعل العبد فعل له حقيقة، ولكنه مخلوق لله مفعول لله، لا يقولون هو نفس فعل الله، ويفرقون بين الخلق والمخلوق والفعل والمفعول) (4).
__________
(1) التعريفات للجرجاني (74).
(2) انظر: الملل والنحل (1/ 85).
(3) انظر: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار (772).
(4) انظر: منهاج السنة (2/ 298).(1/357)
إن الجبرية محقون في قولهم: إن الله خالق أفعال العباد ومخطئون في قولهم: إن العبد ليس بفاعل لأفعاله في الحقيقة وإنما الفاعل هو الله.
والقدرية: محقون في إثباتهم قدرة العبد على أفعاله، وفعله لها ومسئوليته عنها ومخطئون في قولهم: إن العبد خالق أفعاله، وإن الله ليس بخالق لأفعال العبيد، فأثبتوا خالقين مع الله (1).
وأهل السنة: قالوا: بما مع الطائفتين من حق فقالوا: الله خالق أفعال العباد على الحقيقة؛ لأن العباد خلق له وأفعال المخلوقين مخلوقة، لقوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكمْ وَما تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله يصنع كل صانع وصنعته " (2).
وقالوا: العبد فاعل لفعله حقيقة، وقادر عليه بإقدار الله له عليه، والله أثبت للعبيد فعلاً فقال: {وَمَا تَفْعَلوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّه} [البقرة: 197] وقال: {فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كاَنُوا يَفْعَلُونَ} [هود: 36] ونحو ذلك فلم ينفوا فعل العبد أصلاً كما قالت الجبرية، ولم يجعلوا العباد خالقين لأفعالهم من دون الله عز وجل كما قالت القدرية.
فهدى الله أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، وعملوا بجميع النصوص الواردة في الباب، ولم يضربوا بعضها ببعض, فإن الجبرية عملوا بالنصوص الدالة على أنه خالق كل شيء وأن كل شيء بقدر الله وقضائه ومشيئته، وأغفلوا ما دل منها على أن للعبد فعلاً وقدرة وإرادة.
والقدرية أخذوا بالنصوص الدالة على أن العبد هو الفاعل لفعله على الحقيقة وأن له قدرة وإرادة ومشيئة، واختيارًا، وأهملوا ما دل منها على خلق الله لأفعال عبيده، وعموم قدرته عليها، ومشيئته لها، والحق هو إعمال جميع النصوص كل فيما دل عليه، وهو ما هُدِي له أهل السنة، فليس في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) وسطية أهل السنة بين الفرق (381).
(2) الإمام البخاري، خلق أفعال العباد، (25).(1/358)
تضارب أو تناقض، والجمع بين ما في ظاهره شيء من ذلك ممكن عند أهل العلم والحق (1).
وهذا ما فعله أهل السنة، فكانوا بذلك وسطًا بين الطائفتين، وجاء قولهم هدى بين الضلالتين، ضلالة الجبر المفضي إلى تعطيل الأمر والنهي، وإبطال الثواب والعقاب، وضلالة نفي القدر الذي حاصله وجود خالقين من دون الله وتجويز أن يكون في ملكه ما لا يقدر عليه ولا يريده (2).
...
__________
(1) انظر: وسطية أهل السنة بين الفرق (382).
(2) انظر: المرجع السابق (383).(1/359)
المبحث الثامن وسطية أهل السنة في معنى إرادة الله ومشيئته ومحبته ورضاه
تباينت مواقف الفرق، واختلفت أقوالها في باب إرادة الله ومشيئته، فضل في ذلك طوائف، وهدى الله المعتصمين بكتابه، وسنة نبيه لما اختلفوا فيه من الحق.
1 - فقالت المعتزله: كل ما أراده الله وشاءه فقد أحبه ورضيه، فسووا بين إرادته ومشيئته وبين محبته وجعلوهما بابًا واحدًا ثم قالوا: الكفر والفسوق والعصيان لا يحبها ولا يرضاها، فلا يريدها ولا يشاؤها فأخرجوها من محيط إرادته وعموم مشيئته (1).
2 - وقالت الجبرية: الكون كله بقضاء الله وقدره، والله هو الخالق الفاعل في الحقيقة، وإن الإنسان مجبور على أفعاله لا قدرة له ولا إرادة، فكل ما وقع في الكون يكون محبوبًا مرضيًّا له (2)، سواء في ذلك الإيمان والكفر والطاعات والمعاصي, إذ كل ذلك وقع بإرادته ومشيئته فسووا بين الإرادة والمحبة والرضى (3).
لذلك احتجوا بالقدر على المعاصي، وقال قائلهم: {لَوْ شَاءَ اللَّه ما أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤنَا} [الأنعام: 148].
3 - وقال أهل السنة: ليس معنى إرادة الله ومشيئته هو معنى محبته ورضاه؛ بل بينهما فرق لا بد من التنبه له, فإن الإرادة في كتاب الله نوعان:
أ- إرادة شرعية دينية: وهي تتضمن معنى المحبة والرضى، كقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيسْرَ وَلا يرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وقوله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 27 - 28].
__________
(1) انظر: شرح الأصول الخمسة (464).
(2) انظر: شرح الطحاوية (279).
(3) نفس المصدر: (279).(1/360)
ب- إرادة قدرية كونية خلقية: وهي التي بمعنى المشيئة الشاملة لجميع الموجودات وذلك مثل الإرادة في قوله تعالى: {وَلَكنَّ اللَّهَ يَفْعَل مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253] وقوله: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34] وقالوا: وإن كان يريد المعاصي إرادة كونية قدرية فهو لا يحبها ولا يرضاها ولا يأمر بها، بل يبغضها ويسخطها، ويكرهها وينهى عنها، هذا قول السلف والأئمة قاطبة فيفرقون بين إرادته التي تتضمن محبته ورضاه وبين إرادته ومشيئته الكونية القدرية التي لا يلزم منها المحبة والرضى (1).
وبهذا التمييز بين الإرادتين يمتاز قول أهل السنة عن قول كل من فريقي القدرية والمعتزلة، والجبرية، الذين سووا بين الإرادة والمشيئة وبين المحبة والرضى، فضل المعتزلة إذ ذهبوا إلى القول بأنه يقع في ملك الله ما لا يريد ولا يشاء، وهلك أهل الجبر بقولهم: إن الكفر والشرك والعصيان محبوبة لله مرضية عنده، ومنشأ ضلال الفريقين إنما هو تسويتهم بين الإرادة والمشيئة وبين المحبة والرضى وجعلهم معنى إرادته هو معنى محبته ورضاه.
وهدى الله أهل السنة لأحسن القول فميزوا وفرقوا بين الأمرين، وخلصوا بالحق من بين الضلالتين، وهذا عنوان وسطيتهم المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وآية اعتدالهم واتزانهم (2).
...
__________
(1) وسطية أهل السنة بين الفرق (387).
(2) المرجع السابق.(1/361)
المبحث التاسع أقسام التقدير التي جاءت في القرآن الكريم وسنة سيد المرسلين
1 - التقدير العام: وهو تقدير الرب لجميع الكائنات، بمعنى علمه بها، وكتابته لها ومشيئته، وخلقه لها، ويدل على هذا النوع أدلة كثيرة منها قوله تعالى:
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70].
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء " (1).
2 - التقدير البشري: وهو التقدير الذي أخذ الله فيه الميثاق على جميع البشر بأنه ربهم وأشهدهم على أنفسهم بذلك، والذي قدر الله فيه أهل السعادة وأهل الشقاوة.
قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172].
3 - وعن هشام بن حكيم (2) أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أتبتدأ الأعمال أم قضى القضاء؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله أخذ ذرية آدم من ظهورهم ثم أشهدهم على أنفسهم ثم أفاض بهم في كفيه فقال هؤلاء في الجنة، وهؤلاء في النار، فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار " (3).
__________
(1) رواه مسلم، كتاب القدر، باب حِجَاج آدم وموسى، (4/ 2044) رقم الحديث (2653).
(2) هو هشام بن حكيم بن حزام بن خويلد الأسدي، له صحبة ورواية، وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فكان
عمر إذا رأى منكرًا قال: أما ما عشت أنا وهشام بن حكيم فلا يكون هذا. توفي في أول خلافة معاوية، انظر:
سير أعلام النبلاء (3/ 52).
(3) أخرجه ابن أبي عاصم في كتاب السنة بتحقيق الشيخ الألباني رحمه الله (1/ 73)، قال الشيخ الألباني: إسناده صحيح ورجاله كلهم ثقات.(1/362)
4 - التقدير العمري: وهو تقدير كل ما يجري على العبد في حياته إلى نهاية أجله، وكتابه شقاوته، أو سعادته، وقد دل على ذلك حديث الصادق المصدوق في الصحيحين عن ابن مسعود مرفوعًا: " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقه مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك، فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات، يكتب رزقه، وأجله وشقي أو سعيد " (1).
5 - التقدير السنوي: وذلك في ليلة القدر في كل سنة ويدل عليه قوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كلُّ أَمْرٍ حَكِيم} [الدخان: 4] وقوله: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 4 - 5] يكتب فيها -أي هذه الليلة- ما يحدث في السنة من موت وحياة، وعز وذل، ورزق ومطر، حتى الحجاج يقال: يحج فلان، يحج فلان، روى هذا عن ابن عمر، وابن عباس، وكذا الحسن وسعيد ابن جبير (2).
6 - التقدير اليومي: ويدل عليه قوله تعالى: {كلَّ يَوْمٍ هوَ فِي شَأنٍ} [الرحمن: 29] قيل في تفسيرها: (شأنه أن يعز ويذل، ويرفع ويخفض، ويعطي ويمنع، ويغني ويفقر، ويضحك ويبكي، ويميت ويحيي (3) إلى غير ذلك).
...
__________
(1) البخاري، كتاب القدر، باب (1)، (7/ 267 رقم الحديث: 6594).
(2) الإيمان بالقضاء والقدر (55).
(3) المرجع السابق (29).(1/363)
المبحث العاشر ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر
نسأل الله تعالى أن نكون قد وفقنا لإظهار ملامح الوسطية في قضية الإيمان بالقضاء والقدر من خلال القرآن والسنة النبوية وأقوال العلماء حتى يكون المؤمن قد وضع نفسه على الصراط المستقيم والاستقامة على شرع الله في كل مسائله وأموره الدينية والدنيوية. ولا شك أن الفهم الصحيح والاعتقاد الراسخ بمفهوم أهل السنة والجماعة في قضية القضاء والقدر ليترتب عليه ثمار نافعة ومفيدة تعود على الأفراد والمجتمعات في الدنيا والآخرة، فمن تلك الثمرات ما يلي:
1 - أداء عبادة الله عز وجل: فالقدر مما تعبدنا الله سبحانه وتعالى بالإيمان به.
2 - الإيمان بالقدر طريق الخلاص من الشرك: فالمجوس زعموا أن النور خالق الخير، والظلمة خالقة الشر، والقدرية قالوا: إن الله لم يخلق أفعال العباد، فهم أثبتوا خالقين مع الله جل وعلا وهذا شرك، والإيمان بالقدر على الوجه الصحيح توحيد الله.
3 - الشجاعة والإقدام: فالذي يؤمن بالقدر يعلم أنه لن يموت إلا إذا جاء أجله، ولا يناله إلا ما كتب له، فيقدم غير هياب ولا مبالٍ بما يناله من الأذى والمصائب في سبيل الله. كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.
أي يومي من الموت ... أفر يوم لا يقدر أو يوم قدر
يوم ما قدر لا أرهبه ... وإذ قدر لا ينجي الحذر (1)
4 - قوة الإيمان: فالذي يؤمن بالقدر يقوى إيمانه، فلا يتخلى عنه ولا يتزعزع أو يتضعضع مهما ناله في ذلك السبيل.
5 - الصبر والاحتساب ومواجهة الصعاب: فالذين لا يؤمنون بالقدر ربما يؤدي
__________
(1) ديوان الإمام علي (79 - 80).(1/364)
الجزع ببعضهم إلى أن يكفروا بالله، وبعضهم يجن، وبعضهم يصبح موسوسًا، وبعضهم يلجأ إلى المخدرات، وبعضهم يقتل نفسه، ولذلك يكثر الانتحار في البلاد التي لا يؤمن أهلها بالقدر كأمريكا، والسويد، والنرويج؛ بل إن الأمر وصل بالسويد إلى أن يفتحوا مستشفيات للانتحار، وأسباب ذلك ترجع لأمور تافهة، فبعضهم ينتحر بسبب تخلي خطيبته عنه، وبعضهم بسبب رسوبه في الامتحان وبعضهم بسبب وفاة المطرب الذي يحبه، وقد يكون الانتحار جماعيًّا.
والعجيب في الأمر أن غالبية المنتحرين ليسوا من الفقراء، بل هم من الطبقة الغنية، بل ويقع الانتحار في الأطباء النفسيين الذين يظن أنهم يجلبون السعادة للناس (1).
6 - الهداية كما قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11].
7 - الكرم: فالذي يؤمن بالقدر، وأن الفقر والغنى بيد الله، وأنه لا يفتقر إلا إذا قدر الله له ذلك - فإنه ينفق ولا يبالي.
8 - الإخلاص: فالذي يؤمن بالقدر لا يعمل لأجل الناس، لعلمه أنهم لن ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له.
9 - إحسان الظن بالله وقوة الرجاء: فالمؤمن بالقدر حسن الظن بالله، قوي الرجاء به في كل أحواله.
10 - الخوف والحذر من الله: فالمؤمن بالقدر على حذر من الله, إذ لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، فلا يغتر بعمله مهما كان كثيرًا, فإن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها حيث يشاء والخواتيم علمها عند الله -عز وجل-.
11 - الإيمان بالقدر يقضي على كثير من الأمراض التي تفتك بالمجتمعات، وتزرع الأحقاد بينهما، وذلك مثل رذيلة الحسد، فالمؤمن لا يحسد الناس على ما
__________
(1) الإيمان بالقضاء والقدر، لمحمد إبراهيم الحمد (25).(1/365)
آتاهم الله من فضله؛ لإيمان منه بأن الله هو الذي رزقهم وقدر لهم ذلك، فأعطى من شاء ومنع من شاء ابتلاءً وامتحانًا منه -عز وجل- وأنه حين يحسد غيره، إنما يعترض على القدر (1).
12 - التوكل واليقين والاستسلام لله والاعتماد عليه كما قال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: 51].
13 - عدم الاعتماد على الكهان والمنجمين والمشعوذين والتمسح بأتربة القبور، ودعاء غير الله، وصرف شيء من أنواع العبادة لغير الله؛ لأنها لا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًّا.
14 - التواضع: فالمؤمن بالقدر إذا رزقه الله بمال، أو جاه، أو علم، أو غير ذلك تواضع لله، لعلمه أن هذا من الله، ولو شاء الله لانتزعه منه، وإنه على كل شيء قدير.
15 - ومن ثمرات الإيمان بالقدر: السلامة من الاعتراض على أحكام الله الشرعية، وأقداره الكونية والتسليم لله في ذلك كله.
16 - ومن ثمراته: الجد والحزم في الأمور، والحرص على كل خير ديني أو دنيوي كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " احرص على ما ينفعك واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل " (2).
17 - الشكر: فالمؤمن بالقدر يعلم أن ما به من نعمة فمن الله وحده، وأن الله هو الدافع لكل مكروه ونقمة، فينبعث بسبب ذلك شكر الله إذ هو المنعم المتفضل الذي قدر له ذلك، وهو المستحق للشكر وهذا لا يعني ألا يشكر الناس.
18 - الرضا: فيرضى بالله ربًّا مدبرًا مشرعًا، فتمتلئ نفسه بالرضا عن ربه فإذا
__________
(1) انظر: مجلة البحوث الإسلامية عدد (34): 250 مبحث وسطية أهل السنة في القدر.
(2) صحيح مسلم، كتاب القدر، باب الأمر بالقوة وترك العجز (2052 رقم 2664).(1/366)
رضي بالله أرضاه الله -عز وجل- " فالرضا باب الله الأعظم وجنة الدنيا، ومستراح العابدين " (1).
19 - يفرح المؤمن بالقدر بذلك الإيمان الذي حرم منه أمم كثيرة: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].
20 - الاستقامة على المنهج سواء في السراء والضراء: فالعباد فيهم قصور، ونقص وضعف لا يستقيمون على منهج سواء إلا من آمن بالقدر, فإن النعمة لا تبطره والمصيبة لا تقنطه.
21 - عدم اليأس من انتصار الحق: فالمؤمن بالقدر يعلم علم اليقين أن العاقبة للمتقين وإن قدر الله في ذلك نافذ لا محالة، فلا يدب اليأس إلى قلبه، ولا يعرف إليه طريقًا مهما احلولكت ظلمة الباطل.
22 - علو الهمة، وعدم الرضا بالدون، وعدم الرضا بالواقع الأليم: فالمؤمن بالقدر تجده عالي الهمة لا يرضى بالدون ولا بالواقع الأليم المر، ولا يستسلم له محتجًّا بالقدر, إذ أن هذا ليس مجال الاحتجاج بالقدر؛ لأنه من المصائب، والاحتجاج بالقدر إنما يسوغ عند المصائب دون المعائب؛ بل إن إيمانه بالقدر يحتم عليه أن يسعى سعيًا حثيثًا لتغيير هذا الواقع حسب قدرته واستطاعته (2).
23 - الإيمان بالقدر على وجه الحقيقة يكشف للإنسان حكمة الله -عز وجل- فيما يقدره من خير أو شر قال تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]
وما أجمل قول الشاعر:
كم نعمة لا تستقل بشكرها ... لله في طي المكاره كامنه (3)
__________
(1) جامع العلوم والحكم لابن رجب (2/ 476).
(2) الإيمان بالقضاء والقدر (29).
(3) انظر: جنة الرضا في التسليم لما قدر الله وقضى للغرناطي (3/ 52).(1/367)
وقول الآخر:
تجرى الأمور على حكم القضاء وفي ... طي الحوادث محبوب ومكروه
وربما سرني ما كنت أحذره ... وربما ساءني ما كنت أرجوه (1)
24 - ومن ثمراته عزة النفس والقناعة والتحرر من رق المخلوقين:
فالمؤمن بالقدر يعلم أن رزقه مكتوب، وأنه لن يموت حتى يستوفي رزقه، ويدرك أن الله كافيه وحسبه ورازقه، وأن العباد مهما حاولوا إيصال الرزق له، أو منعه عنه فلن يستطيعوا إلا بشيء قد كتبه الله، فينبعث بذلك إلى القناعة وعزة النفس، والإجمال في الطلب وترك التكالب على الدنيا والتحرر من رق المخلوقين، وقطع الطمع مما في أيديهم، والتوجه بالقلب إلى رب العالمين، وهذا أسس فلاحه ورأس نجاحه، ومن جميل ما يذكر في هذا المعنى ما ينسب لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قوله:
أفادتني القناعة كل عز ... وهل عز أعز من القناعة
فصيرها لنفسك رأس مال ... وصير بعدها التقوى بضاعة
تحز ربحًا وتغنى عن بخيل ... وتنعم في الجنان بصبر ساعة (2)
25 - سكون القلب وطمأنينة النفس وراحة البال: فهذه الأمور من ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر، وهي هدف منشود، فكل من على وجه البسيطة يبتغيها ويبحث عنها، وإنك لتجد عند خواص المسلمين من العلماء العاملين، والعباد القانتين المتبعين، من سكون القلب، وطمأنينة النفس ما لا يخطر على بال، ولا يدور حول ما يشبهه خيال، فلهم في ذلك الشأن القدح المعلى والنصيب الأوفى فهذا أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - يقول: (أصبحت ومالي سرور إلا في مواضع القضاء والقدر) (3).
__________
(1) انظر: جنة الرضا في التسليم لما قدر الله وقضى للغرناطي (3/ 52).
(2) ديوان الإمام علي (121 - 122).
(3) جامع العلوم والحكم (1/ 287)، سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم (97).(1/368)
وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: (إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة) (1).
ويقول مقولته المشهورة التي قالها عندما اقتيد إلى السجن: (ما يصنع أعدائي بي، أنا جنتي وبستاني في صدري، أينما رحلت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة) (2).
بل إنك تجد عند عوام المسلمين من سكون القلب وراحة البال، وبرد اليقين ما لا تجده عند كبار الكتاب والمفكرين والأطباء من غير المسلمين فكم من الأطباء غير المسلمين على سبيل المثال من يعجب، ويذهب به العجب كل مذهب، وذلك إذا كان لديه مريض مسلم واكتشف أنه مصاب بداء خطير -كالسرطان مثلاً- فترى هذا الطبيب يحتار في كيفية إخبار هذا المريض، ومصارحته بعلته، فتجده يقدم رجلاً ويؤخر الأخرى، وتجده يمهد الطريق، ويضع المقدمات، كل ذلك خشية من ردة فعل المريض إزاء هذا الخبر، وما أن يُعْلمه بمرضه، ويخبره بعلته - إلا ويفاجأ بأن هذا المريض يستقبل هذا الخبر بنفس راضية، وصدر رحب، وسكينة وهدوء. لقد أدهش كثيرًا من هؤلاء إيمان المسلمين بالقضاء والقدر فكتبوا في هذا الشأن، معبرين عن دهشتهم، مسجلين شهادتهم بقوة عزائم المسلمين، وارتفاع معنوياتهم، وحسن استقبالهم لصعوبات الحياة (3).
فهذه شهادة حق من قوم حرموا الإيمان بالله وبقضائه وقدره:
ومليحة شهدت لها ضرتها ... والفضل ما شهدت به الأعداء
ومن هؤلاء الكتاب الذين كتبوا في ذلك - الكاتب المشهور (ر. ن. س بودلي) مؤلف كتابي (رياح على الصحراء) و (الرسول) وأربعة عشر كتابًا أخرى، والذي أورد رأيه (ديل كارينجي) في كتابه (دع القلق وابدأ الحياة) في مقالة بعنوان (عشت
__________
(1) الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية لمرعي الحنبلي (34).
(2) شيخ الإسلام ابن تيمية، جهاده، ودعوته، عقيدته، أحمد القطان، محمد الزين (101).
(3) انظر: الإيمان بالقضاء والقدر (32).(1/369)
في جنة الله) يقول بودلي: (في عام 1918 م وليت ظهري العالم الذي عرفته طيلة حياتي، ويممت شطر أفريقيا الشمالية الغربية، حيث عشت بين الأعراب في الصحراء، وقضيت هنالك سبعة أعوام، وأتقنت خلالها لغة البدو، وكنت أرتدي زيهم، وآكل من طعامهم، واتخذ مظاهرهم في الحياة، وغدوت مثلهم أمتلك أغنام، وأنام كما ينامون في الخيام، وقد تعمقت في دراسة الإسلام، حتى إنني ألفت كتابًا عن محمد - صلى الله عليه وسلم - عنوانه (الرسول)، وكانت تلك الأعوام السبعة التي قضيتها مع هؤلاء البدو الرحل من أمتع سني حياتي، وأحفلها بالسلام، والاطمئنان، والرضا بالحياة، وقد تعلمت من عرب الصحراء كيف أتغلب على القلق، فهم بوصفهم مسلمين- يؤمنون بالقضاء والقدر، وقد ساعدهم هذا الإيمان على العيش في أمان، وأخذ الحياة مأخذًا سهلاً هينًا، فهم لا يتعجلون أمرًا، ولا يلقون بأنفسهم بين براثين الهم قلقًا على أمر، إنهم يؤمنون بأن (ما قدر يكون) وأن الفرد منهم (لن يصيبه إلا ما كتب الله له) وليس معنى هذا أنهم يتواكلون أو يقفون في وجه الكارثة مكتوفي الأيادي كلا) (1).
ثم أردف قائلاً: (ودعني أضرب لك مثلاً لما أعنيه (هبت ذات يوم عاصفة عاتية حملت رمال وادي (الرون) في فرنسا، وكانت العاصفة حارة شديدة الحرارة، ولكن العرب لم يشكو إطلاقًا، فقد هزوا أكتافهم، قالوا كلمتهم المأثورة (قضاء مكتوب) لكنهم ما أن مرت العاصفة حتى اندفعوا إلى العمل بنشاط كبير فذبحوا صغار الخراف قبل أن يودي القيظ بحياتهم، ثم ساقوا الماشية إلى الجنوب نحو الماء فعلوا هذا كله في صمت وهدوء، دون أن تبدو من أحدهم شكوى، قال رئيس القبيلة الشيخ: لم نفقد الشيء الكثير، فقد كنا خليقين بأن نفقد كل شيء ولكن حمدًا لله وشكرًا, فإن لدينا نحو أربعين في المائة من ماشيتنا، وفي استطاعتنا أن نبدأ بها عملنا من جديد) (2).
__________
(1) انظر: الإيمان بالقضاء والقدر (32).
(2) دع القلق وابدأ الحياة، ديل كارنيجي (290، 291).(1/370)
وثمة حادثة أخرى، فقد كنا نقطع الصحراء بالسيارة يومًا، فانفجرت إحدى الإطارات، وكان السائق قد نسى استحضار إطار احتياطي، وتولاني الغضب، وانتابني القلق والهم، وسألت صاحبي من الأعراب: ماذا وعسى أن نفعل؟ فذكرني بأن الاندفاع إلى الغضب لن يجدي فتيلاً، بل هو خليق أن يدفع الإنسان إلى الطيش والحمق، ومن ثم درجت بنا السيارة وهي تجري على ثلاث إطارات ليس إلا، لكنها ما لبثت أن كفت عن السير، وعلمت أن البنزين قد نفذ، وهنالك أيضًا لم تثر ثائرة أحد من رفاقي الأعراب، ولا فارقهم هدوؤهم، بل مضوا يقطعون الطريق سيرًا على الأقدام (1).
وبعد أن استعرض بودلي تجربته مع عرب الصحراء علق بقوله: (قد أقنعتني الأعوام السبعة التي قضيتها في الصحراء بين الأعراب الرحل -أن مرضى النفوس، والسكرين الذين تحفل بهم أمريكا وأوربا- ما هم إلا ضحايا المدنية التي تتخذ السرعة أساسًا لها، إنني لم أعان شيئًا من القلق قط وأنا أعيش في الصحراء، بل هنالك في جنة الله وجدت السكينة، والقناعة، والرضا (2).
وأخيرًا اختتم كلامه بقوله: (وخلاصة القول أنني بعد انقضاء سبعة عشر عامًا على مغادرتي الصحراء- ما زلت أتخذ موقف العرب حيال قضاء الله، فأقبل الحوادث التي لا حيلة لي فيها بالهدوء والامتثال والسكينة، ولقد أفلحت هذه الطباع التي اكتسبتها من العرب في تهدئت أعصابي أكثر مما تفلح آلاف المسكنات والعقاقير (3).
وبهذا نكون قد أوضحنا ملامح وسطية القرآن في باب الاعتقاد والله الهادي إلى سواء السبيل.
ونرجو من القاريء الكريم أن لا ينسى العبد الفقير إلى الله كاتب هذه الأسطر بالدعاء في ظهر الغيب بالمغفرة والرحمة والشهادة في سبيل الله تعالى وأن يكرمه بالصدقة الجارية بعد وفاته إنه ولي ذلك والقادر عليه.
__________
(1) نفس المصدر السابق (290 - 291).
(2) نفس المصدر السابق (291 - 295).
(3) نفس المصدر السابق (291 - 295).(1/371)
خلاصة الجزء الثاني
1 - إن القرآن الكريم كلام الله، منه بدأ بلا كيفية قولاً، وأنزله على رسله وحيًا، وصدقه المؤمنون على ذلك حقًّا وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية.
2 - إن سورة الفاتحة تقرر منهج الوسطية من أولها إلى آخرها ووضعت القاعدة والمنطلق ورسمت منهج الوسطية وحددت معالمه ثم جاءت الآيات بعد ذلك مقررة لذلك وداعية له.
3 - إن كلمة العقيدة في الاصطلاح: لم تكن موجودة في الكتاب والسنة، ولا في أمهات المعاجم وأن أول من تم الوقوف على ذكره لجمعها (عقائد) هو القشيري سنة 437 هـ.
4 - ومصطلح العقيدة يشمل التوحيد، والإيمان، والإسلام، والغيبيات، والنبوات، والقدر والأخبار، وأصوله الأحكام القطعية، وسائر أصول الدين، والاعتقاد، ويتبعه الرد على أهل الأهواء والبدع وسائر الملل والنحل والمذاهب الضالة ومن مسميات علم العقائد التوحيد، والسنة، وأصول الدين.
5 - إن العقيدة الصحيحة لا توجد إلا في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنهما محفوظتان لحفظ الله لهما.
6 - إن معرفة حقيقة أسماء الله وصفاته وأفعاله من أهم العلوم التي يجب أن يحرص على معرفتها العبد؛ لأن هذا العلم إذا رسخ في القلب أوجب خشية الله لا محالة.
7 - إن القرآن الكريم أشار إلى أسباب الإيمان وثمراته في كتاب الله تعالى حتى تتطلع القلوب وتشتاق النفوس إلى الأخذ بأسباب الإيمان وتحرص على ثمراته.(1/372)
8 - إن الإيمان بالملائكة أصل من أصول الاعتقاد، لا يتم الإيمان إلا به، والملائكة من عوالم الغيب التي امتدح الله الؤمنين بها، تصديقًا لخبر الله سبحانه وإخبار رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
9 - إن من أركان الإيمان الاعتقاد بالكتب السماوية وأنها من عند الله سبحانه وتعالى، إلا أن البشر هناك من أنكر الكتب السماوية جملة وهم الملاحدة، وهناك من حرَّف الكتب السماوية وأضاف إليها ما لم ينزل به من سلطان وهم اليهود والنصارى وقعوا في الغلو وفي الإفراط وابتعدوا عن الصراط المستقيم.
10 - إن القرآن الكريم رسم لهذه الأمة الاستقامة فاستجابت لأمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وآمنت برسل الله جميعًا وشهد الله لها بهذا الإيمان في محكم كتابه.
11 - إن القرآن الكريم والسنة النبوية مملوءة بذكر أحوال اليوم الآخر وتفاصيل ما فيه وتقرير ذلك بالأخبار الصادقة والأمثال المضروبة للاعتبار والإرشاد.
12 - من وسطية القرآن الكريم وحكمته وإرشاده إلى الصراط المستقيم بيانه مراتب القدر والتي تسمى عند العلماء بأركانه.
13 - إن منهج أهل السنة في باب القدر وسط بين الإفراط والتفريط ويظهر ذلك في مسألة أفعال العباد وأنها مخلوقة لله عز وجل على الحقيقة، وهي فعل للعباد على الحقيقة وأنهم قادرون على أفعالهم بقدرة حقيقية مؤثرة في وقوع الفعل منهم، والله هو الذي أقدرهم على ذلك.
14 - إن مفهوم الإرادة في كتاب الله نوعان:
أ- إرادة شرعية دينية.
ب- إرادة قدرية كونية خلقية وفهمهما له أهمية عظيمة في استيعاب القضاء والقدر.(1/373)
15 - إن الفهم الصحيح والاعتقاد الراسخ بمفهوم أهل السنة والجماعة في قضية القضاء والقدر ليترتب عليه ثمار نافعة ومفيدة تعود على الأفراد والمجتمعات في الدنيا والآخرة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
***(1/374)
القسم الثالث
وسطية القرآن الكريم
في العبادة والأخلاق والتشريع(1/375)
الفصل الأول
وسطية القرآن في العبادة
تمهيد:
منذ أن خلق الله الإنسان أوجد فيه القلب والعقل، والعاطفة والفكر، ووهبه القدرة والإرادة، وأمره وزوجه أن يسكنا الجنة، ونهاهما عن أكل الشجرة، وكان أمره -سبحنه- ونهيه لمقتضى ألوهيته وربوبيته على من كانت مقتضيات بشريته وآدميته محلا صالحا للعبودية التامة، ومن أول نظرة نجد أن هذه الحقيقة التي تثبتها عقيدة الرسل الكرام -عليهم السلام- ابتداء، تقول لنا: إن هذا بيان حاسم للتفريق بين ألوهية الباري -سبحانه وتعالى- المقتضية للخلق والأمر، كما يشاء وفق علمه وحكمته، وبين عبودية الخلق المقتضية للسمع، والانقياد، وفق التركيب الرباني الموجود في الإنسان المتجلي في الإرادة والقدرة، ومن هنا لا بد من وجود قاعدة الجد والقصد، والوسط والاعتدال، والعدل والحق في بناء هذا الكون بالتميز بين حقيقة الألوهية بحقوقها ولوازمها، وبين حقيقة العبودية بحدودها وضوابطها، وما ينتج من هاتين الحقيقتين من سمات وصفات ونتائج وهذه هي الانطلاقة الأولى لقضية التوحيد بالنسبة للإنسانية على وجه المعمورة، بدأت من آدم -عليه السلام- أبي البشر مرورًا بالأنبياء والمرسلين -عليهم السلام- حتى قيام الساعة، انفتحت وظيفة الإنسان في هذه الحياة، وتحددت بها مهمته في هذا الوجود (1).
يقول ابن تيمية -رحمه الله-: (فالإنسان وكل مخلق فقير إلى الله بالذات، وفقره من لوازم ذاته، يمتنع أن يكون إلا فقيرا إلى خالقه، وليس أحد غنيا بنفسه إلا الله وحده، فهو الصمد الغني عما سواه، وكل ما سواه فقير إليه فالعبد فقير إلى الله من جهة ربوبيته ومن جهة ألوهيته) (2).
ذلك (أن الله خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته والإنابة إليه، ومحبته، والإخلاص له ... وحاجتهم إليه في عبادتهم إياه، وتألهم كحاجتهم وأعظم في
_________
(1) انظر حقيقة البدعة وأحكامها (1/ 15).
(2) مجموع الفتاوى (1/ 42).(1/377)
خلقه لهم وربوبيته إياهم، فإن ذلك هو الغاية المقصودة لهم، وبذلك يصيرون عاملين متحركين، ولا صلاح لهم ولا فلاح، ولا نعيم، ولا لذة بدون ذلك بحال، بل من أعرض عن ذكر ربه فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى) (1).
وهذه الوظيفة، وهذه المهمة للإنسان في الحياة الدنيا، هي التي من أجلها أنزل
الله الكتب وأرسل الرسل: فالرسل إنما دعوا إلى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]
فإنهم كلهم دعوا إلى توحيد الله وإخلاص عبادته من أولهم إلى آخرهم فقال نوح:
{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] وكذلك قال هود وصالح وشعيب
وإبراهيم، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا
الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا
إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] (2)
وبذلك يتضح للقارئ الكريم أن العبادة هي الوظيفة الأولى والأساسية للإنسان
في هذه الحياة.
__________
(1) مجموع الفتاوى (1/ 23).
(2) مدارج السالكين (1/ 101).(1/378)
المبحث الأول
معنى العبادة في اللغة والشرع
أولاً في اللغة: العبادة والعبدية والعبودية: الطاعة (1)
وفي لسان العرب: أصل العبودية: الخضوع والتذلل.
والتعبد: التنسك، والعبادة: الطاعة.
والتعبد: التذلل، والتعبيد: التذليل.
بعير معبد مذلل، وطريق معبد، مسلوك مذلل (2).
ويرى أبو الأعلى المودودي في معنى العبادة استنادًا إلى الاستعمال اللغوي لمادة (ع. ب. د) أن أصل معنى العبادة هو الإذعان الكلي، والخضوع الكامل، والطاعة المطلقة (1).
ثانيا: العبادة في الشرع: خضوع وحب (2) والعبادة المأمور بها العبد تتضمن معنى الذل والخضوع لله ومعنى الحب، فهي تتضمن غاية الذل لله بغاية المحبة له (3).
قال ابن تيمية -رحمه الله-: (والإله هو المعبود الذي يستحق غاية الحب والعبودية والإجلال والإكرام والخوف والرجاء ... ) (4).
وينص ابن القيم -رحمه الله-: على أن (العبادة تجمع أصلين غاية الحب بغاية الذل والخضوع) (5)، ودعائم هذه العبادة التي تنظم أعمال الإنسان كلها القلبية، والعلمية الفردية والجماعية: المحبة والخوف والرجاء. وقد جعل ابن القيم هذه
_________
(1) القاموس المحيط، كتاب (الدال)، فصل (العين) (378).
(2) لسان العرب، كتاب الدال، فصل العين المهملة (3/ 271).
(3) المصطلحات الأربعة في القرآن، للمودودي (97).
(4) العبادة في الإسلام، للشيخ القرضاوي حفظه الله (31).
(5) انظر: مجموع الفتاوى (1/ 207).
(6) مجموع الفتاوى (28/ 35).
(7) مدارج السالكين (1/ 74).(1/379)
الثلاث في قلب المؤمن: (بمنزلة الطائر، فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومتى فقد الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر (1). وبهذا يتضح مفهوم العبادة في الشرع.
_________
(1) المصدر السابق (1/ 517).(1/380)
المبحث الثاني
التفريط والإفراط في العبادة
وقبل أن ألج في بيان منهج القرآن في العبادة، وبيان ملامح الوسطية في ذلك، أرى من المناسب ذكر المناهج السائدة فيما يتعلق بالعبادة تفريطا وإفراطًا، فأقول وبالله التوفيق.
المنهج الأول: ويمثله اليهود في تفريطهم وجفائهم، فلو تأملنا في التوراة -بعد تحريفها- لوجدنا تقديس المادة غلب على بنودها، فلا تقرأ في أسفار التوراة ذكرا للآخرة، حتى ما ورد فيها من وعد ووعيد فإنما هو متعلق بالدنيا فقط، فلا يعمل الشخص إلا لتحقيق كسب عاجل، أو خوفا من عقوبة عاجلة، بل بلغوا وطبقوا ماديتهم حتى في معرفة الله، فقالوا: (أَرِنَا اللهِ جَهْرَةً) [النساء: 153]، وقالوا: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) [البقرة: 55].
ووفقا لهذا التصور المادي الدنيوي أغرق هؤلاء في تقديس المحسوسات، واتخذوها للرقي، وأصبحت القيم المادية محور الحياة، وتحول الإنسان في نظر هؤلاء إلى آله تتحرك، ومعدة تهضم، وكائن يلهو وقد وصفهم القرآن الكريم، وبين مدى تعلقهم بالحياة الدنيا وحرصهم عليها فقال تعالى: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ) [البقرة: 96]، أي حياة، حتى لو كانت حياة البهائم ونحوها وذلك لأنهم يخشون الموت (وَلَن يَّتَمَنَّوْهُ أَبَدًا) [البقرة: 95]، لأنهم ربطوا غايتهم بالدنيا، فعلمهم للدنيا وعبادتهم لمآرب دنيوية! فإذا انتهت الدنيا فقد فاته كل شيء فهم بهذا أغرقوا في الشهوات، وعبدوا أنفسهم للماديات، فهم كمشركي قريش الذين قالوا: (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ) [الجاثية: 24]، وهذا المنهج يمثل التفريط في أسوأ صوره وحالاته، ولذلك أمرنا الله أن نستعيذ منه من كل صلاة، ونسأله أن يجنبنا إياه: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) [الفاتحة: 7].
أما المنهج الثاني: وهو المنهج القائم على الروحانيات، وذلك بإعلائها وتمجيدها،(1/381)
والإغراق في مفهوم العبادة والرهبنة، ويمثل هذا المنهج النصارى، وهو منهج الإفراط والغلو وابتدع النصارى رهبانية قاسية على النفس، تحرم الزواج، وتكبت الغرائز، وتمنع كل أنواع الزينة وطيبات الرزق، وترى ذلك رجسا من عمل الشيطان وبالغوا في العبادة، وأخرجوها عن كيفيتها، وعن المراد منها، وأصبحت رهبانية غالية مشوهة، مغذية للأجساد، ابتدعوها من أنفسهم، بلا حجة ولا برهان: (وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا) [الحديد: 27].
ولذلك كانت حالهم ومآلهم: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ* عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً) [الغاشية: 1 - 4]، وهذا المنهج يمثل الإفراط والغلو، وهو الوجه الثاني من وجوه الانحراف عن الصراط المستقيم، ولذلك أمرنا بأن نسأل الله أن يجنبنا إياه: (وَلاَ الضَّالِّينَ) [الفاتحة: 7].(1/382)
المبحث الثالث
الغلو في العصر النبوي
لقد عاش رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الكرام -رضي الله عنهم- عاملين بمنهج الوحي على أفضل وجه وأعدله، وقدموا لنا صورة مثالية فريدة في تنفيذ منهج الله بتوازنه واعتداله ووسطيته، وشموله وواقعيته وكماله.
وبذلك نالوا شرف خيرية هذه الأمة قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "خير أمتى قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" (1). إلا أنه قد وقعت بعض المواقف الفردية المعدودة من بعض الصحابة تشير إلى الاتجاه إلى سبيل الغلو، والتشدد في الدين عن حرص صادق للازدياد من الخير، ولكن الرسول الكريم والمربي العظيم -صلى الله عليه وسلم- كان له بالمرصاد، فردهم عن هذا السبيل، وقوم هذا العوج، وصحح نظريتهم، وأرشدهم إلى سبيل الاعتدال والخير القويم، فاستجابوا وأطاعوا، كل ذلك كان بأسلوب حكيم (2).
النموذج الأول: الثلاثة الرهط:
عن أنس -رضي الله عنه- قال: "جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادة النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال أحدهم: أما أنا فأنا أقوم الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا اعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ ... أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" (3).
فهذا موقف من مواقف الغلو يجلي لنا سبب هذه النزعة: وهي الرغبة الصادقة
_________
(1) صحيح البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- باب فضل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- (4/ 22) رقم (2600).
(2) انظر: ظاهرة الغلو في الدين، محمد عبد الحكيم (81).
(3) صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، (6/ 142، رقم 5063).(1/383)
في التزود من الخير دفعتهم للسؤال عن أسلوب النبي -صلى الله عليه وسلم- في عبادته، فلما علموا، رأوا أن ذلك قليل فقالوا ما قالوا.
ولكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يقر هذا الاتجاه فبادر بعلاجه، وصحح نظرتهم لتحصيل خشية الله وتقواه؛ فبين أنها ليست بالتضلع من أعمال والتفريط في أخرى، ولكنها تحصل بالموازنة بين جميع مطالب الله، وهذا هو عين الوسطية والحكمة والاستقامة والاعتدال والعدل (1).
نموذج آخر: عبد الله بن عمرو بن العاص:
قال عبد الله بن عمرو: قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-" ألم أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار؟ "، قلت: إني أفعل ذلك، قال: "فإنك إذا فعلت ذلك هجمت عينك، ونفهت نفسك، وإن لنفسك حقا ولأهلك حقا فصم وأفطر، وقم ونم" (2).
هذا موقف لشاب صالح تقي، أشرب قلبه حب الله وذاق حلاوة الوقوف بين يديه، فأسهر ليله، وأظمأ نهاره، وزهد في الدنيا، ولذاتها وبالغ في ذلك، وكان السبب في ذلك إرادة الخير، ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانت عينه ساهرة اهتماما بشؤون أمته فلم يقره على هذا المسلك برمته؛ بل هذب هذه النزعة حتى تؤتي ثمارها، كل ذلك بأسلوب حكيم، فبين له -صلى الله عليه وسلم- أن الفطرة الإنسانية والطبيعة البشرية لا تتحمل ذلك دوما، نعم قد تتحمله فترة ولكن تحدث بعد ذلك انتكاسة، ولنا في تاريخ الرهبان عبرة وفي هذه القصة أيضًا، وبين -صلى الله عليه وسلم- أن المبالغة في العبادة يصحبها غالبا تقصير في حقوق أخرى كثيرة (3).
نموذج آخر: أبو إسرائيل (4):
عن ابن عباس قال: بينما النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب إذا هو برجل قائم فسأل عنه
_________
(1) انظر: ظاهرة الغلو في الدين (85).
(2) صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب ما يكره من ترك قيام الليل (2 رقم 1153).
(3) ظاهرة الغلو في الدين (85).
(4) صحابي مختلف في اسمه فقيل: يسير، وقيل: قير، وقيل: قيصر، ومختلف في نسبه، فقيل: أنصارى، وقيل: قريشي، وقيل: عامر، وليس في الصحابة من يشاركه في اسمه أو كنيته، وليس له ذكر إلا في هذا الحديث، انظر الإصابة (4/ 67) تجريد أسماء الصحابة (2/ 147).(1/384)
فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه" (1).
فهذا يدل على سماحة ويسر الشريعة.
نموذج آخر: أبو الدرداء:
آخر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين سلمان (2) وبين أبي الدرداء، "فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة (3) فقال: ما شأنك متبذلة؟ قالت: إن أخاك أبا الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، قال: فلما جاء أبو الدرداء قرب إليه طعاما فقال: كل فإني صائم قال: ما أنا بآكل حتى تآكل، قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء ليقوم، فقال له: سلمان: نم فنام، ثم ذهب يقوم فقال له: نم فنام، فلما كان عند الصبح قال له سلمان: قم الآن فقاما فصليا، فقال: إن لنفسك عليك حقا، ولربك عليك حقا، ولضيفك عليك حقا، وإن لأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتيا النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر ذلك، فقال له: "صدق سلمان" (4).
فهذه ثمرة من ثمرات الأخوة الصادقة التي غرسها الرسول -صلى الله عليه وسلم- في نفوس أصحابه، وهذه الأخوة عليها معول كبير في تقويم مسلك الغلو، إذ هي تنشيء التفاهم والثقة وهما عنصران ضروريان في العلاج، وكان علاج سلمان فيه حزم وحكمة: فأبي أن يأكل إلا إذا أكل معه أبو الدرداء، ولما أرخى الليل سدوله، سلك طريقة عملية متدرجة في علاج الجموح وضبطه، فأمره بالنوم في أوله، ثم قام معه في آخره وصليا جميعا، وهكذا نجح العلاج عند توفر: الأخوة، والحزم، والحكمة ولين الطرف الآخر (5).
_________
(1) صحيح البخاري، كتاب الإيمان والنذور، باب النذر فيما لا يملك (7/ 297، رقم الحديث: 6704).
(2) هو الصحابي المعمر أبو عبد الله سلمان الفارسي، ويقال له: سلمان ابن الإسلام، وسلمان الخير، سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- فأسلم، وكان رفيقا، أول مشاهدة الخندق، ثم بقية المشاهد، وفتوح العراق، وولي المدائن، اتفق على أنه عاش مائتين وخمسين سنة توفى سنة (36هت)، انظر: الإصابة (2/ 60). وسير أعلام النبلاء (1/ 55).
(3) التبذل: ترك التزين والتهيؤ بالهيئة الجميلة. النهاية (1/ 111) وكان موقف سلمان من أم الدرداء قبل أن ينزل الأمر بالحجاب.
(4) صحيح البخاري: كتاب الأدب، باب صنع الطعام والتكلف للضيف (7/ 136) رقم (6137).
(5) انظر: ظاهرة الغلو في الدين (89).(1/385)
نموذج آخر:
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: دخل علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعندي امرأة فقال: "من هذه؟ "، فقلت: فلانة لا تنام من الليل، تذكر من صلاتها قال: (عليكم من العمل ما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا"، وكان أحب الدين إليه ما دوام عليه صاحبه" (1)، وهذا توجيه نبوي كريم نحو الاعتدال والتوسط.
نموذج آخر:
عن أنس -رضي الله عنه- قال: دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسجد وحبل ممدود بين ساريتين. فقال: "ما هذا؟ " قالوا: لزينب (2) تصلي، فإذا كسلت أو فترت أمسكت به فقال: "حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا كسل أو فتر فليقعد" (3).
فهذا الحديث يدل على أن النساء لم يكن أقل حرصا من الرجال على التزود من الخير، والتنافس في أعمال البر، وقد تجلى ذلك في هذه النزعة الجامحة نحو العبادة، ولكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يقر هذا الجموح الضار، فعمد إلى الزجر عنه، وأمر بالوسط النافع ولنستمع الآن إلى تعليق الإمام النووي النافع حول هذين الحديثين فيقول: "فيه دليل على الحث على الاقتصاد في العبادة واجتناب التعمق، وليس الحديث مختصا بالصلاة؛ بل هو عام في جميع البر، وفي الحديث كمال شفقته -صلى الله عليه وسلم- ورأفته بأمته؛ لأنه أرشدهم إلى ما يصلحهم، وهو ما يمكنهم الدوام عليه بلا مشقة ولا ضرر فتكون النفس أنشط، والقلب منشرحا فتتم العبادة، بخلاف من تعاطي من العبادة ما يشق عليه فإنه بصدد أن يتركه أو بعضه أو يفعله بكفلة وبغير انشراح القلب فيفوته خير عظيم.
وقد ذم الله -سبحانه وتعالى- من اعتاد عبادة ثم فرط فقال تعالى: (وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) [الحديد: 27]، وقد
_________
(1) صحيح البخاري، كتاب التهجد، باب ما يكره من التشديد في العبادة (2/ 16 رقم 1151).
(2) هي زينب بنت النبي -صلى الله عليه وسلم-.
(3) صحيح البخاري، كتاب التهجد، باب ما يكره من التشديد في العبادة (2/ 16 رقم 1150).(1/386)
ندم عبد الله بن عمرو بن العاص على تركه قبول رخصة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تخفيف العبادة ومجانية التشديد) (1).
نموذج آخر: الزهد الغالي:
وقد ظهرت عند بعض الصحابة نزعة شديدة إلى العبادة والغلو فيها والانقطاع لها وحرموا على أنفسهم طيبات أحلت لهم فأنزل الله آيات تنكر عليهم هذا السبيل وتردهم إلى طريق الوسطية والاعتدال، ذكر الإمام الطبري (إن مجموعة من الصحابة منهم عثمان بن مظعون (2) وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود: تبتلوا فجلسوا في البيوت، واعتزلوا النساء، ولبسوا المسوح، وحرموا طيبات الطعام واللباس إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل، وهموا بالخصاء، وأجمعوا لقيام الليل، وصيام النهار، فنزلت هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [المائدة: 87].
يقول: لا تستنوا بغير سنة المسلمين، يريد ما حرموا من النساء والطعام واللباس، وما أجمعوا له من قيام الليل وصيام النهار، وما هموا به من الخصاء، فلما نزلت فيهم بعث إليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إن لأنفسكم حقا، وإن لأعينكم حقا، صوموا وأفطروا، وصلوا وناموا فليس منا من ترك سنتنا"، فقالوا: اللهم أسلمنا واتبعنا ما أنزلت (3).
وقد ذكر هذه القصة بعض التابعين مرسلة ولها شاهد في صحيح البخاري من حديث سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- وقال: رد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له ختصينا) (4).
_________
(1) مسلم شرح النووي، كتاب صلاة المسافر، باب فضيلة العمل الدائم (6/ 71).
(2) هو عثمان بن مظعون بن حبيب وهب الحمي أبو السائب من سادة ومن أولياء الله المتقين الذين فازوا بوفاتهم في حياة نبيهم فصلى عليهم وكان أول من دفن بالبقيع، انظر: سير أعلام النبلاء (1/ 153).
(3) تفسير الطبري (7/ 11).
(4) صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب ما يكره من التبتل (6/ 145 رقم 5073).(1/387)
إن أعمال النبي -صلى الله عليه وسلم- وأقواله، وتوجيهاته، ترجمة حية القرآن الكريم، ونلاحظ: من هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في علاجه لمسلك الغلو بدأ علاجه -صلى الله عليه وسلم- في بداية أمر الغلو قبل أن يستفحل خطره، حتى قضى عليه، كل ذلك بحكمة رائعة مبنية على معالجة الأمر بروح الشفقة والرحمة والأخوة، والتدريج في العلاج، وتقديم الحلول النافعة، وبيان محاذير وعيوب الغلو من التقصير في حقوق أخرى وإن الفطرة البشرية لا تطيق الاستمرار على هذا الغلو، وستر الغلاة وعدم التشنيع بهم، مع الحوار الهادئ معهم، وتصحيح المفاهيم، وبيان السبيل القويم، فالخشية والتقوى تحصل بالتوازن، لا بالمبالغة في أمر وإهمال أمور (1).
إن الأحاديث والتوجيهات النبوية التي ذكرتها صريحة في رسم منهج الوسطية في العبادة، والحث على الاقتصاد، والاعتدال فيها والنهي عن التعمق والتشدد، والاقتصاد على ما يطاق من العبادة، والابتعاد عن تكلف ما لا يطاق.
_________
(1) ظاهر الغلو في الدين (93).(1/388)
المبحث الرابع
تقرير القرآن لمنهج الوسطية في العباد
نجد أن القرآن الكريم قرر منهج الوسطية في العبادة في آيات كثيرة، تنظم بها يلي:
أولا: الآيات التي تبين انحراف أولئك الذين صرفوا العبادة عن وجهها الصحيح، وذلك مثل:
قوله تعالى: (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ) [الزمر: 64].
وقوله: (وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ) [النمل: 43].
وقوله: (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا) [المائدة: 76].
وقوله: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [الزمر: 3].
ومثل ذلك قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [الحج: 11].
فهذه الآيات وأمثالها ترسم منهج الوسطية في العبادة ببيان انحراف طريق هؤلاء الذين قلبوا العبادة عن وجهها الصحيح.
قال ابن كثير في قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ) قال مجاهد وقتادة وغيرهما: (على حرف) على شك وقال غيرهم: على طرف، ومنه حرف الحبل، أي: طرفه، أي: دخل في الدين على طرف، فإن وجد ما يحبه استقر وإلا انشمر) (1).
وانظر: إلى قول القرطبي، حيث إن كلامه نص في محل الشاهد قال: (على حرف) على شك، قاله مجاهد وغيره، وحقيقته أنه على ضعف في عبادته، كضعف
_________
(1) انظر: تفسير ابن كثير (3/ 209).(1/389)
القائم على حرف مضطرب فيه، وحرف كل شيء: طرفه وشفيره وحده، ومنه حرف الجبل، وهو أعلاه المحدد وقيل: (على حرف) أي على وجه واحد، وهو أن يعبده على السراء دون الضراء، ولو عبدوا الله على الشكر في السراء والصبر على الضراء لما عبدوا الله على حرف، وقيل: (على حرف) على شرط (1).
وقال ابن كثير في قوله تعالى: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى) [الزمر: 3]، أي ليشفعوا لنا ويقربونا عنده منزلة، ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم إذا حجوا في جاهليتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك، وهذه الشبهة هي التي اعتمدها المشركون في قديم الدهر وحديثه، جاءتهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، بردها والنهي عنها، والدعوة إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له، وأن هذا شيء اخترعه المشركون من عند أنفسهم لم يأذن الله فيه، ولا رضي به، بل أبغضه ونهي عنه (2).
ثانيا: الآيات التي جاءت تأمر بعبادة الله وحده، وتصف عبادته بالاستقامة، وبان عبادته هي الكلمة السواء، وغير ذلك مما يدل على أن عبادته هي الطريق الوسط السالم من الانحراف والضلال: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا) [آل عمران: 64] (3).
وقال في أكثر من موضع: (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ) [آل عمران: 51]، وقال: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 99].
والآيات التي جاءت تأمر بعبادة الله وحده كثيرة جدًا، فما من نبي إلا قال لقومه: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا) [الأعراف:59].
قال الطبري في قوله تعالى: (تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ) [آل عمران: 64]، يعني بذلك -جل ثناؤه- قل يا محمد لأهل الكتاب، وهم أهل التوراة والإنجيل تعالوا هلموا
_________
(1) انظر: تفسير القرطبي (12/ 17).
(2) انظر: تفسير ابن كثير (4/ 54).
(3) انظر: تفسير الطبري (3/ 301).(1/390)
إلى كلمة سواء يعني إلى كلمة عدل بيننا وبينكم والكلمة العدل: وهي أن نوحد الله فلا نعبد غيره، ونبرأ من كل معبود سواه، (وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا) [آل عمران: 64].
وقال ابن كثير في الآية نفسها: (سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) أي عدل ونصف نستوى نحن وأنتم فيها، ثم فسرها بقوله: (آل عمران: 64]، لا وثنا ولا صليبا ولا صنما ولا طاغوتا ولا نارا ولا شيء، بل نفرد العبادة لله (تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) [النحل: 36].
دعوة الأنبياء، وهو سواء بين الفريقين، أي عدل ووسط لا يرجح فيه طرف آخر، وقد فسره بقوله: (أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ) (1) الآية.
وبهذا يتضح لنا أن هذه الآية نص في الوسطية في العبادة، وهي عبادة لله وحده.
أما قوله تعالى: (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ) [آل عمران: 51]، فقد قال الطبري في معناها ذلك هو الطريق القويم، والهدى المتين الذي لا اعوجاج (2).
وقال في آية مريم: (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ) [مريم: 36]،
يقول: هذا الذي أوصيتكم به، وأخبرتكم أن الله أمرني به هو الطريق المستقيم، الذي من سلكه نجا، ومن ركبه اهتدى؛ لأنه دين الله الذي أمر به أنبياءه (3).
وقال القاسمي: في قوله تعالى: (فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ) [مريم: 36]: (أي قويم، من تبعه رشد وهدى، ومن خالفه ضل وغوي) (4).
_________
(1) انظر: تفسير المنار (3/ 325).
(2) انظر: تفسير الطبري (3/ 283).
(3) انظر: تفسير الطبري (16/ 85).
(4) انظر: تفسير القاسمي (11/ 4137).(1/391)
وقد سبق أن أوضحت أن الوسطية تعني الاستقامة، وأن قوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة: 6]، من أقوى الأدلة على منهج الوسطية، كما يقرره القرآن الكريم.
ثالثا: الآيات التي جاءت في بعض أنواع العبادة كالصلاة، والدعاء وغيرهما، حيث نجد فيها أمرًا بالتزام منهج الوسط، ونهيا عن الإضاعة أو الرهينة، وهو ما يمثل الإفراط والتفريط.
وسأذكر بعض الآيات التي وردت في ذلك، مقتصرا على ما يبين المراد، مع بيان دلالة الآية على الوسطية:
1 - ذم الله الإفراط في العبادة والغلو فيها، حيث قال في حق بني إسرائيل من النصارى: (وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد: 27].
قال القاسمي: (الرهبانية هي المبالغة في العبادة، والرياضة والانقطاع عن الناس، وإيثار العزلة والتبتل) (1).
وقال ابن كثير: (وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا) أي: ابتدعتها أمة النصارى ما كتبناها عليهم. أي: ما شرعناها لهم، وإنما هم التزموها من تلقاء أنفسهم: (فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا)، أي: فما بما التزموه حق القيام، وهذا ذم لهممن وجهين:
أحدهما: الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله.
الثاني: في عدم قيامهم بما التزموه، مما زعموا أنه قربة تقربهم إلى الله -عز وجل- (2).
وهذه الرهبانية التي ابتدعها النصارى لم يشرعها الله، وهي غلو في العبادة، ولذلك كانت النتيجة عدم قدرتهم على المحافظة عليها لمشقتها وصعوبتها.
_________
(1) انظر: تفسير القاسمي (16/ 8).
(2) انظر: ابن كثير (4/ 315).(1/392)
وقول الله تعالى: (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) دليل على أن الله لا يشرع ولا يكلف بما فيه غلو ومشقة، كما سبق بيانه ولقد اعترف عدد من متأخرى النصارى بخطأ هذا الغلو والرهبنة التي ابتدعها أسلافهم، وأنها ليست من دين الله، ونحن لسنا بحاجة إلى ذلك؛ لأن الله قد بين هذا الأمر في كتابه، ولكن هذا الاعتراف له دلالاته التي لا تخفي.
وقد ذكر القاسمي بعض هذه الاعترافات تفصيلا، أذكر موجزًا منها (1):
قال صاحب ريحانة النفوس - وهي نصراني: (إن الرهبنة قد نشأت من التوهم بأن الانفراد عن معاشرة الناس، واستعمال التقشفات والتأملات الدينية، وهي ذات شأن عظيم، ولكن لا يوجد سند لهذا الوهم في الكتب المقدسة؛ لأن مثال المسيح، ومثال رسله يضادانه باستقامة، ثم قال، ونحن نقول بكل جرأة: إنه لا يوجد في جميع الكتب المقدسة مثال، ونحن نقول للرهبنة، ولا يوجد أمر من أوامره يلزم بها، بل العكس) (2).
وذكر القاسمي نقلا عن النصارى من كتاب البراهين الإنجيلية ضد الأباطيل البابوية: إن ذم الزيجة خطأ، لأنها عمل الأفضل، لأن الرسول أخبر بأن الزواج خير من التوقد بنار الشهوة، ثم قال: ومن المعلوم أن الطبيعة البشرية تغضب الإنسان على استيفاء حقها، ومن العدل أن نستوفيها، إلى أن قال: ولذلك نرى كثيرا من القساوسة والشمامسة، لا بل من البابوات المدعين بالعصمة، قد تكردسوا في هوة الزنى، لعدم تحصنهم بالزواج الشرعي.
ثم قال: فالطريقة الرهبانية هي اختراع شيطاني قبيح، لم يكن له رسم في الكتب المقدسة، ولا في أجيال الكنيسة الأولى وختم كلامه الطويل -بقوله: ولا تتسع الصحف لشرح جميع الأضرار التي وقعت على العالم بسبب الرهبنات. ثم عقب القاسمي على ذلك: وهو حجة عليهم منهم (3).
_________
(1) انظر: تفسير القاسمي (16/ 5698).
(2) انظر: تفسير القاسمي (16/ 5700).
(3) انظر: تفسير ابن كثير (3/ 137).(1/393)
هذه نتيجة الرهبنة والإفراط والغلو الذي ذمه الله، فقال: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) [النساء: 171]، وقال: (وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) [الحديد:27].
وكما ذم الله الغلو والرهبنة فقد ذم التفريط، والتضييع والإهمال، فقال سبحانه: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم: 59].
وقال ابن كثير مبينا دلالة هذه الآية على الخروج عن منهج الوسطية.
لما ذكر الله تعالى حزب السعداء، وهم الأنبياء -عليه السلام-، ومن اتبعهم من القائمين بحدود الله، وأوامره، المؤدين فرائض الله، التاركين لزواجره، وذكر أنه (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) أي قرون أخرى: (أَضَاعُوا الصَّلاَةَ) وإذا أضاعوها فهم لما سواها من الواجبات أضيع؛ لأنها عماد الدين وقوامه وخير أعمال العباد، وأقبلوا على شهوات الدنيا وملاذها، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، فهؤلاء سيلقون غيا، أي خسارة يوم القيامة (1).
وقال الشنقيطي في تفسير الآية: (فخلف من بعد أولئك النبيين خلف، أي: أولاد سوء. ثم قال: إن هذه الخلف السيء الذي خلف من بعد أولئك النبيين الكرام كان من صفاتهم القبيحة أنهم أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات ثم قال: فإذا عرفت الكلام في الآية الكريمة، وأن الله توعد فيها من أضاع الصلاة واتبع الشهوات بالغي، الذي هو الشر العظيم، والعذاب الأليم، فاعلم أنه أشار إلى هذا المعني في مواضع أخرى، كقوله في ذم الذين يضيعن الصلاة ولا يحافظون عليها وتهديدهم: (4. ... فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ) [الماعون: 4 - 6]، وأشار مواضع كثيرة إلى ذم الذين يتبعون الشهوات، وتهديدهم، وكقوله تعالى: (ذَرْهُمْ يَأكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الحجر:3].
ويفهم من مفهوم مخالفة الآية الكريمة أن الخلف الطيبين لا يضيعون الصلاة، ولا يتبعون الشهوات، وقد أشار إلى هذا في مواضع كثيرة من كتابه، كما في سورة
_________
(1) انظر: تفسير أن كثير (3/ 137).(1/394)
المؤمنين في وصف المؤمنين وكقوله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات: 40 - 41] (1).
2 - وبعد أن ذكر الآيات التي تدل على النهي عن الغلو والإفراط أو التفريط والتضييع ذكر بعض الآيات التي تأمر بالتزام الوسط بين الإفراط والتفريط، قال تعالى: (وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) [الإسراء: 110]، نزلت هذه الآية ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- متوار بمكة: (وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا) كان -صلى الله عليه وسلم- إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فلما سمع ذلك المشركون سبوا القرآن، وسبوا من أنزله، ومن جاء به، قال: فقال الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ) أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن: (وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا) عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) (2).
قال القرطبي: روى مسلم عن عائشة في قوله تعالى: (وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا) قالت: أنزل هذا في الدعاء (3).
والشاهد أن هذه الآية تأمر بالتوسط بين أمرين منهي عنهما وهما الجهر الشديد، والمخافتة والإسرار: (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً).
وقال تعالى: (وَاذْكُر رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآَصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ) [الأعراف: 205].
قال القرطبي: (وَدُونَ الْجَهْرِ) أي دون الرفع في القول، أي: اسمع نفسك كما قال: (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) [الإسراء: 110]، أي: بين الجهر والمخافتة (4).
وقال ابن كثير: (تَضَرُّعًا وَخِيفَةً) أي: ذكر ربك في نفسك رغبة ورهبة، وبالقول لا جهرًا، ولهذا قال: (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) [وهكذا يستحب أن يكون الذكر، لا يكون نداء ولا جهرًا بليغًا (5).
_________
(1) انظر: أضواء البيان، للشيخ الشنقيطي (4/ 307).
(2) انظر: تفسير ابن كثير (3/ 68).
(3) صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب خروج النساء إلى المساجد (1/ 326 رقم 447).
(4) انظر: تفسير القرطبي (7/ 355).
(5) انظر: تفسير ابن كثير (2/ 281).(1/395)
وقال تعالى: (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن: 16]، قال ابن كثير: أي جهدكم وطاقتكم وهذه الآية ناسخة لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، لأنه لما نزلت هذه الآية اشتد على القوم العمل فقاموا حتى ورمت عراقيبهم، وتقرحت جباههم فأنزل الله تعالى هذه الآية تخفيفا للمسلمين: (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن:16]، فنسخت الآية المذكورة، ودلالة الوسطية على هذا القول واضحة جلية.
ونقف أمام قوله تعالى في سورة المزمل: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً *نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً *أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) [المزمل: 1 - 4]، ثم قال في آخر السورة: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَلَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) [المزمل: 20].
قال ابن كثير في تفسير لهذه الآية: (فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) أي: من غير تحديد بوقت، أي: ولكن قوموا من الليل ما تيسر، وعبر عن الصلاة بالقراءة، كما قال في سورة الإسراء: (وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ) [الإسراء: 110]. أي بقراءتك (1).
وقال القرطبي: قوله: (فَتَابَ عَلَيْكُمْ) قيل: (أي: فتاب عليكم من فرض القيام إذ عجزتم، وأصل التوبة الرجوع، فالمعنى: رجع لكم من تثقيل إلى تخفيف، ومن عسر إلى يسر) (2).
وفي الآيات السابقة دلالة واضحة على منهج الوسطية في قيام الليل.
_________
(1) انظر: المرجع السابق (4/ 438).
(2) انظر: تفسير القرطبي (19/ 53).(1/396)
المبحث الخامس
حقيقة العبادة في القرآن الكريم والسنة النبوية
ساد بين الناس مفاهيم خاطئة للعبادة، وصرفت عقولهم وقوبهم وأعمالهم عن هذه الوظيفة التشريفية التي خلق الله الإنسان من أجلها، وسخر له كل شيء في نفسه وفي الكون من حوله؛ ليقوم بها وفق أمر خالقه، وعند تأمل القرآن الكريم والسنة النبوية وما تحويه من أخبار وأوامر ونواهي ووعد ووعيد، نجد كلها تدور حول تقرير ألوهية الله -سبحانه وتعالى- وعبودية الإنسان له.
فإذا كان خلق الإنسان وتسخير الكون له، وإيجاد العقل والقلب والإرادة فيه، وإرسال الرسل وإنزال الكتب وخلق الجنة والنار، وقبل ذلك وبعده، ما تقتضيه صفات الباري - جل وعلا- من كونه في ذاته وأفعاله -سبحانه وتعالى- حكيما عليما، خلق كل شيء فقدره تقديرًا، ولم يخلق شيئا عبثا ولم يوجد شيئا لغيره حكمة وإذا كان القرآن المجيد، وما فيه من أخبار وأوامر ووعد ووعيد جاء لأجل هذه المهمة العظيمة، ألا وهي تعبيد الخلق كلهم لله سبحانه فكيف يصح حينئذ أن يتصور أن العبادة هي النية النقية وحسب، أو أنها الشعائر التعبدية فقط، أو أنها لبعض نشاطات الإنسان دون بعض، أو لبعض أفعاله وأحواله دون بعض.
بل إن دائرة العبادة التي خلق الله لها الإنسان، وجعلها غايته في الحياة، ومهمته في الأرض، دائرة رحبة واسعة: إنها تشمل شؤون الإنسان كلها، وتستوعب حياته جميعا، وتستغرق كافة مناشطه وأعماله (1).
وبهذا المعني الشامل، فهم السلف الصالح عبادة الإنسان فردًا كان أو جماعة، وقد لخص هذا المعنى الشامل للعبادة وحدد ماهيتها شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- حين قال: (العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه: من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصلاة والزكاة، والصيام، والحج، وصدق
_________
(1) انظر: العبادة في الإسلام (53).(1/397)
الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة، وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له، والصبر لحمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف لعذابه، وأمثال ذلك هي من العبادة لله ... ) (1).
وبهذا التعريف الجامع لا يمكن أن يخرج أي شيء من نشاطات الإنسان وأعماله، سواء كان ذلك في العبادات المحضة، أو في المعاملات المشروعة، أو في العادات التي طبع الإنسان على فعلها.
أما في العبادات والمعاملات المشروعة فإنها مما يحبه الله ويرضاه، وهذا أمره الشرعي الدائر بين الأحكام الخمسة التي اصطلح عليها الفقهاء وهي: (الواجب والمحرم، والمستحب، والمكروه، والمباح) أما في العادات فالذي لم يوجد منها بأوامر الشرع، ولم يقيد بأحكامه على وجه الخصوص فإنه لا يخرج عن كونه داخلا تحت عمومات الشرع باعتبار عبودية الإنسان في كل أحواله لله سبحانه، وباعتبار أن: (العادات لها تأثير عظيم فيما يحبه الله، أو فيما يكرهه، فلهذا أيضًا جاءت الشريعة بلزوم عادات السابقين الأولين في أقوالهم وأعمالهم وكراهة الخروج عنها إلى غيرها من غير حاجة) (2).
وإن كان ينبغي لنا هنا الإشارة إلى أن الأصل في العبادات المحضة المنع حتى يرد ما يدل على مشروعيتها، وأن أصل العادات العفو حتى يرد ما يدل على منعها، وذلك مبني على (أن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينه، وعادات يحتاجون إليها في دنياهم، فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله، أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع.
_________
(1) مجموع الفتاوى (10/ 150).
(2) اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 399).(1/398)
وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم، مما يحتاجون إليه، والأصل فيه عدم الحظر، فلا يحظر منه إلا أن يكون مأمورا بها، فما لم يثبت أنه مأمور به، كيف يحكم عليه بأنه عبادة؟!
وما لم يثبت في العبادات أنه منهي عنه، كيف يحكم عليه أنه محظور؟ والعادات الأصل فيها العفو، فلا يحظر منها إلا ما حرم) (1).
وهذا التقسيم في الحظر والإباحة لا يخرج شيئا من أفعال الإنسان العادية من دائرة العبادة لله، ولكن ذلك يختلف من درجته ما بين عبادة محضة وعادة مشوبة بالعبادة، وعادة تتحول بالنية والقصد إلى عبادة، لأن المباحات يؤجر عليها بالنية والقصد الحسن إذا صارت وسائل للمقاصد الواجبة، أو المندوبة أو تكميلا لشيء منهما (2).
وقال النووي في شرحه لحديث: "وفي بضع أحدكم صدقة" (3): (وفي هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنية الصادقة) (4).
ومن ذلك يتضح: (أن الدين كله داخل في العبادة، والدين منهج الله جاء ليسع الحياة كلها، وينظم جميع أمورها من أدب الأكل والشرب وقضاء الحاجة، إلى بناء الدولة، وسياسة المال، وشؤون المعاملات والعقوبات، وأصول العلاقات الدولية في السلم والحرب.
إن الشعائر التعبدية من صلاة، وصوم، وزكاة لها أهميتها ومكانتها؛ ولكنها ليست العبادة كلها، بل هي جزء من العبادة التي يريدها الله تعالى.
إن مقتضى العبادة المطالب بها الإنسان، أن يجعل المسلم أقواله وأفعاله وتصرفاته
_________
(1) مجموع الفتاوى (29/ 116 - 117).
(2) انظر: حقيقة البدعة وأحكامها للغامدي (1/ 19).
(3) رواه مسلم، كتاب الزكاة، باب أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف (1/ 697).
(4) شرح النووي مع مسلم، كتاب الزكاة، باب كل نوع من المعروف صدقة (7/ 92).(1/399)
وسلوكه وعلاقاته مع الناس وفق المناهج والأوضاع التي جاءت بها الشريعة الإسلامية، يفعل ذلك طاعة لله واستسلاما لأمره ... ) (1).
والدليل على المفهوم الشامل للعبادة من الكتاب والسنة وفعل الصحابة رضوان الله عليهم: فأما من القرآن الكريم فقوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56]، (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [التوبة: 31]، (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام: 162 - 163]، (5. ... وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ) [البينة: 5].
ومن السنة أحاديث كثيرة بعضها في عموم العادات بدون تخصيص، وبعضها الآخر في أفراد السلوك العادي، وفي هذا الأخير دليل وتنبيه على المعنى العام المقصود إثباته هنا فمن ذلك:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقه، وهو يحتسبها كانت له صدقة" (2).
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "كل ما صنعت إلى أهلك فهو صدقة عليهم" (3). وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك" (4).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "كل سلامي من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل على دابة فيحمل عليها، أو ترفع له متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة، ودل الطريق صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة" (5).
_________
(1) مقاصد المكلفين للدكتور عمر الأشقر (46 - 47).
(2) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب ما جاء أن الأعمال بالنية (1/ 24 رقم 55).
(3) سلسلة الأحاديث الصحيحة للشيخ الألباني -رحمه الله-: (3/ 22).
(4) رواه مسلم، كتاب الزكاة، باب النفقة على العيال والمملوك (1/ 191).
(5) أخرجه البخاري، كتاب الصلح، باب فضل الإصلاح بين الناس (3/ 227)، رقم (2707).(1/400)
وقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "دخلت امرأة النار في هرة، ربطتها فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت" (1).
وأما الاستدلال على عموم العبادة وشمولها لحياة الإنسان بفعل السلف وفهمهم ففيما رواه البخاري في صحيحه عن أبي بردة (2)
في قصة بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن، وفي آخره قال أبو موسى لمعاذ: فكيف تقرأ أنت يا معاذ؟ قال: أنام أول الليل فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم، فأقرأ ما كتب الله لي، فأحتسب نومتي كما احتسب قومتي (3).
وفي كلام معاذ -رضي الله عنه- دليل أن المباحات يؤجر عليها بالقصد والنية.
_________
(1) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب خمس من الدواب فواسق، الحديث رقم (3318).
(2) هو التابعي الثقة أبو بردة حارث، وقيل: عامر بن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري، ثقة، كثير الحديث، تولى قضاء الكوفة للحجاج، ثم عزله بأخيه أبي بكر، ثم طلبه يزيد بن المهلب على بعض أمور الولاية، فامتنع وأصر حتى أعفاه منها، اختلف في وفاته، فقيل سنة (103 هـ وقيل: 107هـ).
انظر: سير أعلام النبلاء (4/ 343).
(3) أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن (5/ 156 رقم 4342).(1/401)
المبحث السادس
شروط قبول العبادة في القرآن الكريم
من وسطية القرآن الكريم بيانه لشروط قبول الأعمال وجاءت الآيات والأحاديث النبوية التي رسمت هذه الشروط وأصلتها، وجعلتها في شرطين اثنين هما: أولا: الإخلاص، وثانيا: المتابعة. وبينت الآيات والأحاديث ضرورة توفر الشرطين في قبول أي عمل.
الشروط الأول: الإخلاص:
وهذا الشرط متعلق بالإرادة، والقصد، والنية والمقصود به: (إفراد الحق -سبحانه وتعالى- بالقصد والطاعة) (1).
والنية تقع في كلام العلماء بمعنيين كما قرر ذلك ابن رجب فقال: (أحدها: تميز العبادات بعضها عن بعض، كتمييز صلاة الظهر عن العصر مثلا .. إلى أن قال: والمعني الثاني: بمعنى تمييز المقصود بالعمل وهل هو لله وحده لا شريك له، أم لله وغيره، وهذه هي النية التي يتكلم فيها العارفون في كتبهم في كلامهم على الإخلاص وتوابعه وهي التي توجد كثيرا في كلام السلف المتقدمين ... ) (2).
والأدلة على هذا الأصل في القرآن والسنة وكلام السلف ومن سار على نهجهم كثيرة. فمن القرآن قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ *أَلاَ للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ) [الزمر: 2 - 3].
قال ابن كثير: (أي لا يقبل الله من العمل، إلا ما أخلص فيه العامل لله وحده لا شريك له) (3).
وقوله -عز وجل-: (وَأُمِرْتُ لأنْ
_________
(1) مدارج السالكين (2/ 91).
(2) جامع العلوم والحكم (8).
(3) انظر: تفسير ابن كثير (6/ 78).(1/402)
أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ* قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي) [الزمر: 11 - 14]، وقوله تعالى: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) [الأعراف: 29].
قال ابن كثير: (أي أمركم بالاستقامة في عبادته في محلها، وهي متابعة المرسلين المؤيدين بالمعجزات فيما أخبروا به عن الله، وجاؤوا به من الشرائع وبالإخلاص له في عبادته، فإنه تعالى لا يتقبل العمل حتى يجمع هذين الركنين أن يكون صوابا موافقا للشريعة، وأن يكون خالصا من الشرك) (1).
وقوله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) [النساء: 125]، قال ابن القيم: (فإسلام الوجه: إخلاص القصد، والعمل لله ... ) (2).
ومن الأحاديث النبوية:
1 - قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه" (3).
قال ابن رجب -رحمه الله- في شرحه لهذا الحديث: ( ... فهذا يأتي على كل أمر من الأمور ... وهو أن حظ العامل من عمله نيته ... وأنه لا يحصل له من عمله إلا ما نواه به، فإن نوى خيرا حصل له خير، وإن نوى شرا حصل له شر .. وهاتان كلمتان جامعتان وقاعدتان كليتان لا يخرج عنهما شيء ... ) (4).
وقال الشوكاني (5) -رحمه الله- في مقدمة أدب الطالب عند ذكره لهذا الحديث:
_________
(1) تفسير ابن كثير (3/ 158).
(2) مدارج السالكين (2/ 90).
(3) رواه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي (1/ 2).
(4) جامع العلوم والحكم (7 - 11).
(5) هو العلامة المجتهد محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليماني، فقيه مفسر، ترك المذهب الزيدي، ونصر السنة ولي قضاء صنعاء، ودرس بجامعها وأفتى، له مؤلفات كثيرة تدل على سعة علمه وجودة فهمه بلغت 114 مؤلفا، وكان يري حرمة التقليد، توفى (1250هـ)، انظر: الأعلام للزركلي (6/ 298).(1/403)
( ... حصول الأعمال وثبوتها لا يكون إلا بنية، فلا حصول أو لا ثبوت لما ليس كذلك، فكل طاعة من الطاعات، وعبادة من العبادات إذا لم تصدر عن إخلاص نية وحسن طوية، لا اعتداد بها ولا التفات إليها؛ بل هي إن لم تكن معصية فأقل الأحوال أن تكون من أعمال العبث واللعب ... " (1).
2 - وفي الحديث الصحيح من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاث لا يغل عليهم قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم ... " (2).
قال ابن القيم: (أي لا يبقي فيه غل، ولا يحمل الغل مع هذه الثلاثة، بل تنفي عنه غله وتنقيه منه، وتخرجه عنه، فإن القلب يغل على الشرك أعظم غل، وكذلك يغل على الغش، وعلى خروجه عن جماعة المسلمين بالبدعة والضلالة، فهذه الثلاثة تلمؤه غلا ودغلا، ودواء هذا الغل واستخراج أخلاطه بتجريد الإخلاص والنصح ومتابعة السنة) (3).
وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: "أنا أغني الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه غيري، فهو للذي أشرك فيه وأنا منه برئ" (4).
وعن أبي أمامة (5) قال: (جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر ما له؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا شيء"، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله لا يقبل إلا ما كان خالصا وابتغي به وجهه" (6).
وعن معاذ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "الغزو غزوان، فأما من غزا ابتغاء
_________
(1) أدب الطالب المسمي طلب العلم وطبقات المتعلمين (5).
(2) أخرجه ابن ماجه في المقدمة، باب من بلغ علما (1/ 84).
(3) مدارج السالكين (2/ 90).
(4) رواه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في علمه غير الله (6/ 2289).
(5) هو صدي بن عجلان بن وهب، أبو أمامة الباهلي، صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مختلف في سنة وفاته، قيل: (86هـ)، وقيل: (81هـ)، تهذيب التهذيب (4/ 420).
(6) أخرجه النسائي، كتاب الجهاد، باب من غزا يلتمس الأجر والذكر (6/ 25).(1/404)
وجه الله تعالى وأطاع الإمام، وأنفق الكريمة وياسر الشريك، واجتنب الفساد في الأرض، فإن نومه ونبهه أجر كله، وأما من غزا فخرا ورياء وسمعة، وعصى الإمام، وأفسد في الأرض، فإنه لن يرجع بالكفاف" (1).
وعنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من طلب العلم ليماري به السفهاء أو يجاري به العلماء أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله في النار" (2).
وفي حديث أبي هريرة قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن أول الناس يقضي يوم القيامة عليه، رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمته فعرفها قال: فما علمت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت: قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جرئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتى به، فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما علمت؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيه القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقى في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال: جواد، وقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، حتى ألقى في النار" (3).
وأما ما ورد عن السلف في الإخلاص: فهو كثير وفير، إليك قليل من أقوالهم:
1 - عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود -رضي الله عنهما- قالا: (لا ينفع قول إلا بعمل، ولا عمل إلا بقول، ولا قول وعمل إلا بنية، ولا نية إلا بموافقة السنة) (4).
_________
(1) أخرجه النسائي، كتاب الجهاد، باب فضل التفقة في سبيل الله (6/ 48).
(2) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة (2/ 1513).
(3) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة، (2/ 1513).
(4) الشريعة للآجري (131).(1/405)
2 - وعن أبي العالية (1) قال: (كنا نحدث منذ خمسين سنة، أن الأعمال تعرض على الله تعالى ما كان له منها قال: هذا لي وأنا أجزي به وما كان لغيره قال: اطلبوا ثواب هذا ممن عملتم له) (2).
3 - وعن مطرف بن عبد الله (3) أنه قال: (صلاح القلب، بصلاح العمل، وصلاح العمل، بصحة النية) (4).
4 - وعن يحيي بن أبي كثير (5) أنه قال: (تعلموا النية فإنها أبلغ من العمل) (6).
5 - ومما روى عن الفضيل بن عياض (7) أنه تلا قوله تعالى: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [تبارك: 2]، فقال: (أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إذا كان العمل خالصا ولم يكن صوابا، لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا، لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا، والخالص إذا كان لله -عز وجل- والصواب إذا كان على السنة) (8).
الشرط الثاني في قبول العبادة:
الموافقة للشرع، وهذا الشرط تعلق بالعمل سواء كان عمل القلب، وهو ما يسمى بالاعتقاد، أو عمل الجوارح، وهذان هما مدار العبادة، ومحل الإيمان الذي هو اعتقاد بالجنان، ونطق باللسان وعمل الأركان، فلا بد من متابعة الشرع والانقياد
_________
(1) هو رفيع بن مهران الإمام المقرئ الحافظ المجود أبو العالية الرياحي، أدرك زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو شاب وأسلم في خلافة أبي بكر، ودخل عليه توفى عام (90هـ) تهذيب التهذيب: (4/ 284 - 286).
(2) كتاب الزهاد لهناد بن السري (2/ 436).
(3) هو مطرف بن عبد اله بن الشخير الحرشي العامري، أبو عبد الله زاهد من كبار التابعين توفي (87هـ) انظر: الأعلام (7/ 250).
(4) حلية الأولياء (2/ 199).
(5) هو يحيي بن صالح الطائي بالولاء اليماني، أبو نصر ابن أبي كثير، عالم أهل اليمامة في عصره، توفى (129هـ)، انظر: تهذيب التهذيب (11/ 2268).
(6) حلية الأولياء (3/ 70).
(7) هو أبو علي الفضيل بن عياض بن مسعود الطلقاني الأصل، الزاهد العابد الثقة، كان أول أمره يقطع الطريق، ثم تاب وسمع الحديث، وانتقل إلى مكة، ومات بها سنة (187هـ) حلية الأولياء (8/ 84).
(8) مدارج السالكين (2/ 89).(1/406)
له في أعمال القلوب كالحب والبغض، وفي أعمال الجوارح، التي يتعبد بها الإنسان، وسوف أذكر بعض الأدلة على هذا الأصل من الكتاب والسنة، وكلام السلف.
أما الأدلة من القرآن فكثيرة منها:
1 - قوله تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام: 153].
2 - وقوله سبحانه: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا) [المائدة: 3].
3 - وقول تعال: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) [النساء: 125].
ومن السنة:
1 - قوله -صلى الله عليه وسلم-: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله" (1).
2 - قوله -صلى الله عليه وسلم-: "أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" (2).
3 - قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه، فهو رد" (3).
4 - وعن العرياض بن سارية (4) قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ بعدي عنها إلا هالك" (5).
_________
(1) رواه مالك في الموطأ بلاغا، في كتاب القدر، باب النهي عن قول القدر (2/ 898).
(2) رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالسنة، باب الاقتداء بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (8/ 139).
(3) رواه مسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة (2/ 1343 - 1344).
(4) هو العرياض بن سارية السلمي، كان من أهل الصفة، نزل حمص ومات زمن فتنة ابن الزبير، قيل توفى (75هـ) بالشام: أنظر: الإصابة (2/ 266).
(5) أخرجه ابن ماجه في المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين (1/ 14).(1/407)
من كلام السلف عليهم رضوان الله:
1 - عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: (إنا نقتدي ولا نبتدي، ونتبع ولا نبتدع، ولن نضل ما تمسكنا بالأمر) (1).
2 - وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: (إنا ناسا يجادلونكم بشبه القرآن، فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله -عز وجل-) (2).
3 - وعن مطرف بن عبد الله يقول: سمعت مالك بن أنس إذا ذكر عنده الزائغين في الدين يقول: قال عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه-: "سن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وولاة الأمر بعده سننا، الأخذ بها اتباع لكتاب الله -عز وجل- واستكمال لطاعة الله -عز وجل- وقوة على دين الله تبارك وتعالى، ليس لأحد من الخلق تغييرها، ولا تبديلها، ولا النظر في شيء خالفها، من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين، ولاه الله تعالى ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا) (3).
وقد ورد عن السلف من هذا القبيل كثير، وفي هذا القليل الذي ذكرناه ما يسد حاجة الاستدلال هنا.
وبعد ذكر شرطي العبادة المقبولة عند الله -سبحانه تعالى- يتبين أن ( ... دين الإسلام مبني على أصلين: أن نعبد الله وحده لا شريك له، وأن نعبد بما شرعه من الدين، وهو ما أمرت به الرسل ... ) (4).
وهذان الأصلان هما من حقيقة كلمة التوحيد، والركن الأول من هذا الدين، كما قرر ذلك شيخ الإسلام حين قال: (ودين الإسلام مبنى على أصلين وهما تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأول ذلك أن لا تجعل مع الله إلها آخر ... ).
_________
(1) شرح أصول الاعتقاد، أهل السنة والجماعة، للالكائي (1/ 86).
(2) الشريعة للآجري (48).
(3) المرجع السابق (65) وأورده اللالكائي بسنده (1/ 94).
(4) مجموع الفتاوى (1/ 189).(1/408)
الأصل الثاني: (أن نعبده بما شرع على ألسن رسله ... ) (1).
(وبالجملة، فمعناه أصلان عظيمان، أحدهما: ألا نعبد إلا الله، والثاني: أن لا نعبده إلا بما شرع، ولا نعد بعبادة مبتدعة) (2).
إن الغاية من خلق الإنسان وكتابة الموت والحياة عليه واضح في قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [تبارك: 2]، والأحسن عملا يتضمن أمرين، كما فسر ذلك الفضيل بن عياض -رحمه الله-: عندما قال: (أحسنه أي أخلصه وأصوبه) (3)، فأخلصه هو (لا إله إلا الله)، وأصوبه هو (محمد رسول الله) وهو الذي أشارت إليه سورة الفاتحة، أم القرآن الكريم (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) [الفاتحة: 6 - 7].
والذين أنعم الله عليهم هم الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحابته - رضوان الله تعالى عليهم- والذين ساروا على هذا (الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، أي الصواب الموصل للغاية وهذا الطريق وسط بين طريقين (4).
وبهذا يتضح فساد طريق العباد الروحانيين من نصرانية محرفة أو شعوذة، أو صوفية باطلة، أساسها الجهل فزاغت عن الطريق وتجنبت الإصابة المنشودة، وإن صلحت نياتهم ومقاصدهم، وخلوصهم من كل شابة شرك لأحد آخر، إلا إنهم ابتعدوا عن المنهج الرباني المرسوم في قبول العبادة.
وكذلك يتضح فساد طريق علماء السوء، الذين أخطئوا الغاية من العلم، فما صلحت غايتهم، وإن كانوا على بينة من الطريق، لكن أعينهم تنظر إلى غاية أخرى يتلموسها على جنبات الطريق، فقدوا التثمير والإخلاص المقصود والمنشود، فسقطوا دون الغاية الكبرى، المتعبدين بالسير نحوها ويذكر عادة كمثال لهؤلاء السالكين اليهود، الذين غضب الله عليهم، لتنكبهم الصراط المستقيم عن علم (5).
أما الوسط فهو الصراط المستقيم الذين هو عين الوسطية، وبذلك يتضح أن شرطي قبول العبادة دليل على وسطية القرآن في باب العبادة.
_________
(1) مجموع الفتاوى (1/ 311).
(2) مجموع الفتاوى (1/ 333).
(3) البغوي - معالم التنزيل، تفسير البغوي (4/ 269).
(4) انظر: ابن القيم، إغاثة اللهفان (1/ 24).
(5) أنظر: الوسطية في الإسلام (29).(1/409)
المبحث السابع
أقسام العبودية في القرآن الكريم
تنقسم العبودية في القرآن الكريم إلى أقسام:
أولا: عامة، وهي عبودية الربوبية، وهي لكل الخلق قال تعالى: (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا) [مريم: 93]. ويدخل في ذلك الكفار.
ثانيًا: عبودية خاصة، وهي عبودية الطاعة قال تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا) [الفرقان: 63].
وهذه تعم كل من تعبد لله بشرعه.
ثالثا: خاصة الخاصة، وهي عبودية الرسل عليهم الصلاة والسلام قال تعالى عن نوح: (إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) [الإسراء: 3]، وقال عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) [البقرة:23].
وقال في آخرين من الرسل: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأيْدِي وَالأَبْصَارِ) [ص: 45]، فهذه العبودية المضافة إلى الرسل خاصة، لأنه لا يباري أحد هؤلاء الرسل في العبودية (1).
ومن أجل تركيز معنى العبودية كان خطاب الله تعالى للخلق، ووصفه لهم، ودعائه إياهم بهذا العنوان المتكرر: (عبادي)، أو ما ماثله من الألفاظ وقد وصف الله به الكفار: (أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) [الفرقان: 17].
ووصف به المؤمنين: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) [العنكبوت: 56].
والمذنبين منهم: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر: 53]، وهو وصف الله تعالى للملائكة: (بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ) [الأنبياء: 26].
_________
(1) انظر: القول المفيد على كتاب التوحيد لابن عثيمين (29).(1/410)
والرسل: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ) [الصافات: 171].
والمسيح ابن مريم منها خاصة؛ لأنه اتخذ إلها من دون الله -عز وجل-: قال تعالى: (إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ) [الزخرف: 59]، (لَن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا للهِ وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) [النساء: 172].
ومن وسطية القرآن وحكمته بيانه أن العبودية والعبادة لغير الله هي أعتى أباطيل الجاهليات، وهي ذلك ومهانة للإنسان، لأنها خضوع لغير من يستحق ذلك، وانقياد للمشارك في الوصف: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [الأعراف: 194]، (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ) [النحل: 20]، والدعاء في الآيتين بمعنى العبادة.
لذلك كانت العبودية لله تعالى وحده حقا بموجب الخلق، والرزق، وشمول قدرته وسائر ما تفرد به من صفات الكمال والجلال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى:11].
فعبادة الله تعالى بهذا الوجه هي الكرامة، والعزة؛ لأنها خضوع في موضعه للمتفرد باستحقاقه، رب الكون ومليكه، وصاحب العظمة والكبرياء، والمتفضل بالعطاء والنعماء.
ولذلك كان هذا الوصف أجل أوصاف التشريف، وقد اختاره الله تعالى لأكرم رسله، في أعظم مواقف تكريمهم، فيقول الله تعالى عن خاتم رسله في مشهد الإسراء: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى) [الإسراء: 1]، وفي مشهد العروج حيث بلغ التكريم أقضاه: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) [النجم: 8 - 10].
ومن أجل تحقيق العبودية لله وحده ندد الوحي الإلهي أشد تنديد بعبادة غير الله تعالى، وقرع العابدين والمعبودين -إن رضوا بذلك- وتوعدهم جميعا بخزي الدنيا والآخرة، ومن ذلك:(1/411)
أ. تنديد بعبادة أكرم خلقه من الملائكة، والرسل، وسؤالهم على رؤوسهم الأشهاد يوم القيامة: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ * فَالْيَوْمَ لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعًا وَلاَ ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ) [سبأ: 40 - 42].
والآية تنديد أيضًا بعبادة الجن، وتبرئته للملائكة من وصمة الرضا بما زعمه الزاعمون من مشركي الجاهليات:
(وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة: 116 - 118].
ب- ومن أبلغ ألوان التنديد القرآني وأشدها زجرا واستنكارا، ما جاء في شأن الطواغيت الأحياء من سادات الأمم، ورؤسائها وكبرائها، الذين عبدوا من دون الله، سواء عبادة تأليهية، أو عادة طاعة واتباع في الحلال والحرام، على خلاف أوامر الله تعالى مع اعتقاد ذلك.
فمن الأول ما جاء في شأن فرعون، وتقديس قومه له، واعتقادهم فيه ما ادعاه من الألوهية: (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي) [القصص: 38]، والربوبية: (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى) [النازعات: 24]، من أجل ذلك استحقوا التنديد، والعذاب، (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ * فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلاً لِّلآَخِرِينَ) [الزخرف: 54 - 56].
ومن الثاني قوله تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [التوبة: 31]، والقرآن الكريم بعد ذلك غاص بتبكيت الذين عبدوا الأحجار، والشمس، والقمر، والعجول وغيرها من خلق الله -عز وجل-، وهو يحدد في غاية الوضوح أن كل عبادة لا يعتد بها إلا إذا كانت خالصة لله -عز وجل- وحدهن لا يخالطها دنس الشرك أو الرياء: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) [الكهف:110].(1/412)
المبحث الثامن
أهمية الجانب العبادي في حياة الإنسان
إن مهمة الجانب العبادي للإنسان تعتبر ركنا أصيلا في المنهاج الإلهي، الذي شرعه الله تعالى على غاية العلم والحكمة، وجعله بناء محكما يشد بعضه بعضا، ويؤدي كل جانب فيه عمله الخاص أو العام على غاية التفرد، والتفوق والامتياز، ويظن بعض الناس أن العبادات في المنهاج الإلهي هي ضروب من الطقوس، أو المراسيم الشكلية فرضت على العباد فرضا لغاية دينية محضة، هي إظهار الذل والخضوع لله تعالى فقط، وليس لها وظائف عظمي تابعة.
والحق أن العبادات التي سنها الله لنا ذات تأثير شمولي مشرق، ولها اخطر المهمات في تمكين الحقائق العليا للرسالات الإلهية، وتحقيق الفطرة الإنسانية على وجهها الصحيح المستقيم، طالما تمثلت فيها عناصر الحب والذل، والرجاء والخوف، ونحوها. ومعلوم لدى العلماء أن للعبادة مقصدًا أصليا، وهو التوجه إلى الواحد الصمد، وإفراده بالعبادة في كل حال، طلبا لرضى الله، والفوز بالدرجات العلي، وهناك مقاصد تابعة للعباد مثل صلاح النفس واكتساب الفضيلة (1).
فالصلاة مثلا أصل مشروعيتها الخضوع لله تعالى، وإخلاص التوجه إليه، والانتصاب على قدم الذلة والصغار بين يديه، وتذكير النفس بذكره، قال تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي) [طه: 14]، وقال: (إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) [العنكبوت: 45]، يعني أن اشتمال الصلاة على التذكير بالله هو المقصود الأصلي، ثم إن لها مقاصد تابعة كالاستراحة إليها من أنكاد الدنيا وإنجاح الحاات كصلاة الاستخارة وصلاة الحاجة، وكذلك سائر العبادات لها فوائد أخروية وهي العامة، وفوائد دنيوية وهي كلها تابعة للفائدة الأصلية وهي الانقياد والخضوع لله (2).
_________
(1) انظر: المنهاج القرآني في التشريع (455).
(2) انظر: العبادة في الإسلام للشيخ القرضاوي (48 - 49).(1/413)
وإذا تأملنا في مهمة العبادة يمكننا أن نستخلص الآتي:
أولا: تثبيت الاعتقاد:
إن روح العبادة هو إشراب القلب حب الله تعالى، وهيبته، وخشيته، والشعور الغامر بأنه رب الكون ومليكه، والتوجه دائما بما شرع من شعائر ونسك، باعتبارها مظهرا عمليا دائما لصدق الإنسان في دعوى الإيمان، وتذكيرا مستمرا بسلطان الإله الأعلى، وإلهابا متجددًا لجذوة اليقين في الله، ورجاء فضله وثوابه.
ولنأخذ مثالا عباديا لتثبيت معنى التوحيد، وإجلال الله تعالى، وهو (الأذان) وقد شرع بدخول أوقات الصلاة المفروضة، فهو يتكرر في اليوم والليلة خمس مرات، وينادي به منادي المسلمين صوتا في كل مكان يوجد به تجمع إسلامي، ولو كان أدنى الجمع من المسلمين، بل شرع مع ذلك للمسافر، والمنفرد، ولو كان في بادية لما يمثله من معان عظيمة ليس مجرد الإعلام بدخول الوقت.
إن المؤذن حين ينادي بصوته الأعلى: (الله أكبر الله أكبر)، ثم يكررها، يطلب شرعا أن يرده معه كل مسلم ومسلمة حين يسمعون هذا القول الأجل، لينسكب في مشاعر الجميع وفي أوقات متكررة متقاربة معنى الكبرياء المطلق لله رب العالمين، وأنه تعالى فوق كل شيء وأكبر من كل شيء فينبغي أن يعتز به وحده، ويلوذ بحماه وكنفه، ويستعلي فوق أعناق الطواغيت والجبارين بهذا النداء الجهير، الذي أراد الله -عز وجل- أن يتوطأ عليه المجتمع كله، وأن يظل حتى المنفرد على صلة دائمة به.
فإذا تقرر هذا المعنى عاد النداء لأجل ليملأ الآفاق: (اشهد أن لا إله إلا الله) وهو تذكير يومي بالعهد والميثاق الذي أعطاه العبد لربه بأن لا يعبد ولا يطيع إلا ربه الأكبر، المتفرد بالكبرياء في السماوات والأرض.
ثم يأتي الشق الثاني من الشهادة: (أشهد أن محمدًا رسول الله) وهو كما علمت إقرار متكرر أيضًا بالطريق الذي تؤخذ عنه العبادة المشروعة، والتي لا تصح إلا بالتلقي عن الوحي الإلهي الذي جاء به المعصوم -صلى الله عليه وسلم-.(1/414)
ثم يأتي رابعًا: الدعوة إلى الصلاة نفسها في جملتين فقط: (حي على الصلاة، حي على الصلاة)، لأن الآذان كما قلنا أبعد مدى، وأشمل آثارًا، ثم يأتي (خامسا) الدعوة العامة إلى الفلاح المطلق .. المتمثل في الاستجابة لهذا الدين الإلهي الأغر، ومثله وتعاليمه، وفي مقدمتها الصلاة بداهة. ولذلك يعود الشارع بالمؤذن إلى نقطة البد ليكبر في الختام للتأكيد على تفرده تعالى بالكبرياء، وإعلان التوحيد بصيغة الإقرار والإثبات بعد صيغة الشهادة السابقة: (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله)، معنى هذا أن الآذان وحده يجري على ألسنة المؤمنين، ويسكب في ضمائرهم، ويغرس في حياتهم ووجدانهم إفراد الله تعالى بالكبرياء (ثلاثين) مرة يوميا، وإفراده تعالى بصفة الألوهية الذي تفرده بالعبادة والطاعة (خمس عشر) مرة، وهو نداء لا يتقيد بحدود معبد، أو مسجد، وإنما ينطلق ليدخل كل بيت، ويصافح كل سمع، ويطرق كل قلب يريد الهدى.
وإذا كان هذا هدف الوسيلة في تقرير الأصول العليا فإن القصد الذي تؤدي إليه (وهي الصلاة) أعظم شأنا، وأتم مظهرا، فقد فرضها الله على كل بالغ من الذكور والإناث خمس مرات في اليوم والليلة، وهي تبدأ بالتكبير ويطلب المصلي بتكرر هذه الجملة (الله أكبر)، في صلوات الفرض فقط (أربعة وتسعين مرة)، عدا ما يقرع سمعه بعددها من صلوات إمامه إذا صلى جماعة، فضلا عن السنن الراتبة والنوافل المطلقة وهي أضعاف ذلك.
ثم إن العبد يتلو كتاب ربه في صلاته، ويحني له ظهره راكعا، ويخر بجبهته ساجدًا، ويناجي مولاه معظما، ومسبحا، وحامدًا، وداعيا، وليس هناك في الوجود أسمى وأجل من هذه الشعيرة في ربط العبد بهذا السلطان الإلهي، وإلهاب نفسه بمعاني عظمته وسموه (1).
إن الصلاة عندما تؤخذ على وجهها الصحيح - واحة وراحة يسكن إلى ظلها
_________
(1) انظر: المنهاج القرآني في التشريع (458).(1/415)
المؤمن كلما مسه تعب الحياة ولغوبها، وهذا مصداق قول الله تعالى: (إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا* إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلاَّ الْمُصَلِّينَ *الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ) [المعارج: 19 - 23].
ثانيا: تأسيس وتثبيت القيم الأخلاقية:
فقد جاء المنهاج الرباني في العبادة ليتمم مكارم الأخلاق، ويدعو الناس إلى المثل العليا، والفضائل الكريمة كالصبر، والمثابرة، والسماحة، والسخاء، والصدق، والتراحم، والمواساة، والأمانة، وغيرها من القيم التي تقوم عليها قيمة الفرد والمجتمع، والتي تحقق للإنسان سعادته في الدنيا فضلا عن الآخرة، وللعبادات بأنواعها مهمة عظيمة في تثبيت هذه الأخلاق، وتدعيمها، وغرسها في نفس المؤمن ووجدانه، (فالصلاة) مثلا تعود المؤمن الصبر، والدأب، والإخلاص والنظام، حتى تصبح جميعا خلقا راسخا في النفس، فالمسلم النائم حين يقوم من لذة الذكرى على نداء المؤذن (الصلاة خير من النوم)، وكذلك حين ينسحب من ضجيج الأسواق والبيع والشراء ملبيا لنداء (حي على الصلاة)، ثم لا يزال دأبه هكذا عبر الساعات، والأيام، والأعوام، فهذا وأمثاله لا بد أن تتربى فيهم هذه المعاني الخلقية العلية.
(والزكاة) التي أخذت من معنى الزيادة، والنماء، والتطهير، لها -هي الأخرى- أكبر الأثر في تنقية الخلق من زخم الشح والبخل والإمساك، وفي طبعه بطبائع البذل، والعطاء، والسخاء، كذلك تستل سخيمة صدور المحتاجين، وتبدل به شيئا من خلق الحب والمودة، أو على الأقل سلامة الصدر، فتشيع في المجتمع تبعا لذلك كل علائق التداني والتقارب، وتتداخل صلاة الناس بمشاعر الألفة، وإلى مثل هذا يشير قوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ) [التوبة: 103].
(والصوم) له عمله الأساسي في تربية الإرادة الإنسانية والضمير الحي اليقظ الذي يتعامل على أساس من رقابة الله تعالى له، وإطلاعه عليه، فضلا عن غرس(1/416)
خليقة الصبر، والضبط النفسي بالإمساك الطويل عن شهوتي البطن والفرج، وبالكف عن اللغو، والصخب، والقدرة على تغيير عاداته حتى لا يتعود الجمود، أو تسعبده عاداته وتقاليده (1).
ثالثا: إصلاح الجانب الاجتماعي:
ويظهر ذلك في الصلاة ودورها في إيجاد العلاقات الاجتماعية.
وذلك واضح في الحكمة من صلاة الجماعة، لأن اجتماع المسلمين راغبين في الله، راجين، راهبين، مسلمين وجوههم إليه خاصة عجيبة في نزول البركات، وتدلي الرحمة فيحدث التعاون، والتعارف، والوحدة والاجتماع على فعل الخير.
ثم تأتي صلاة الجمعة: فتجمع أهل الحي على هيئة جامعة أكثر من ذلك في كل يوم جمعة، حيث شرع الله لنا خطبتها تذكيرا وتعليما للمسلمين بما يصلح دينهم ودنياهم، كحد أدنى للتثقيف العام في أمور الدين، ثم تأتي صلاة العيد. فتجمع أهل المدينة كلهم مرتين في السنة في عيد الفطر والأضحى، يخرجن الأبكار والعوائق (2)، بل والحيض يشهدان الخير ودعوة للمسلمين، ويعتزلن المصلى كما جاء في الحديث الصحيح الذي ترويه أم عطية (3) -رضي الله عنها- قالت: (أمرنا أن نخرج العواتق وذوات الخدور (4)) (5).
هذا عدا ما شرعه تعالى لنا من صلوات جامعة في مناسبات شتى، كالاستسقاء، والخسوف، والكسوف، والجنائز، والتروايح في رمضان، إن الصلاة -لو وعي المسلمون حقيقتها-لهي توجيه وتنظيم اجتماعي كامل، يتمثل فيه المجتمعا لكبير، بقدر ما يحسن المسلمون هذه الصلاة، وما تعنيه من معان وتوجيهات، بقدر
_________
(1) انظر: المنهاج القرآني في التشريع (460).
(2) العواتق: جمع عواتق وهي التي عتقت من الخدمة أو من قهر أبويها.
(3) هي نسيبة بنت الحارث، وقيل: نسيبة بنت كعب، من فقهاء الصابئة، توفيت (70هـ)، انظر: سير أعلام النبلاء (2/ 318*.
(4) ذوت الخدور: الستور.
(5) رواه البخاري، كتاب العيدين، باب خروج النساء والحيض إلى المصلى (2/ 9).(1/417)
ما يرجى لهم إحسان الحياة في اجتماعاتهم، ولا فرق في هذا المنهاج بين المسجد والمجتمع، فكلاهما تجمع يجب أن يخضع لدين الله وتعاليمه (1).
أما الزكاة: هي في حقيقتها واجب مالي يؤخذ من الأغنياء ليرد على الفقراء وذوي الحاجة من الغارمين، والأرقاء وغيرهم، وهي بذلك تمثل الحد الأدنى المفروض فرضا للتعاون الاجتماعي، والتكافل الاقتصادي بين أبناء الأمة الواحدة، لذلك جعل الله تعالى معظم مصارفها اجتماعية بحتة، بأوسع المدلولات الاجتماعية في القديم أو الحديث على السواء، وكما جاءت صلاة العيد لتوسع دائرة الاجتماع في الصلاة، تأتي هنا أيضًا (زكاة الفطر) لتوسع قاعدة التكافل، والتعاون إلى أقصى حد.
أما الأثر الاجتماعي لفريضة (الحج) فواسع شامل، ولا زالت آثاره تظهر كل يوم بجديد من حكمة الله تعالى في تشريعه، وقد أشار القرآن الكريم إلى كثير من ذلك، قال تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) [البقرة: 198].
روى البخاري بسنده عن ابن عباس قال: (كانت عكاظ، ومجنة، وذو المجاز أسواقا في الجاهلية، فتأثموا أن يتاجروا في موسم الحج، فسألوا رسول الله فنزلت الآية: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ) [البقرة: 198] (2).
وقال تعالى: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) [الحج: 27 - 28].
والمنافع المشهودة كلمة جامعة، تشمل المنافع الروحية، والمادية والاجتماعية، والسياسية والثقافية، والاقتصادية وسائر ما يطلق عليه اسم (المنفعة)، وقد جعلت غاية من غايات الحج وتقديمها على ذكر الله تعالى إيذان يبالغ أهميتها في مراتب المنافع والحكم الشرعية، وإن من أعظم هذه الفوائد جمع أطراف الأمة المسلمة كل
_________
(1) انظر: المنهاج القرآني في التشريع (462).
(2) رواه البخاري: كتاب التفسير، باب ليس عليكم جناح (5/ 186 رقم 4519).(1/418)
عام، وما يحققه من استنفار جزء من كل إقليم سنويا ليركبوا الأخطار والأسفار، ويقطعوا السهول والقفار، أو يمتطوا الأجواء والبحار، ويتركوا الأولاد والأهل والديار فيجتمع المسلمون من أطراف الأرض، ويلتقي الشرقي بالمغربي، والمصري بالهندي، في مؤتمر جامع، ورحلة مباركة، وليحققوا عمليا دعوة القرآن بالسيرة في الأرض، والسياحة في الآفاق، ومطالعة والمشاهد المقدسة، ومنازل الوحي، وآثار النبوة منذ أبي الأنبياء إبراهيم إلى خاتمهم محمد صلى عليهم جميعا وسلم، ثم مدارج الصحابة رضوان الله عليهم، التي تهب المسلمين منها روح الإخلاص، والبذل، والعطاء، والانقياد المطلق لأمر الله -عز وجل- (1).
ومن ناحية أخرى فالحج نظام: يوجب على الجميع زيا واحدًا، وحركة واحدة، وكلمة واحدة، وطاعة واحدة وبتثبيت الاعتقاد، والأخلاق، وإصلاح الاجتماع تأخذ العبادات الإسلامية دورها العظيم في بناء الحياة الإنسانية على ارفع القواعد، وأنبل الغايات، وأكرمها وأطهرها، وتأخذ بالإنسان إلى أفق أرفع من التراب والطين، ومتاع الحياة الفانية، حيث تربطه بالحي الباقي، وبالنعيم الخالد، فهي غسيل مستمر لأدران المادة، وتهذيب لطغيانها ... وعبادات الإسلام تقوم في أساسها على مراعاة الرقابة الإلهية، وابتغاء الآخرة، دون واسطة بين العبد وربه في العبادات كلها، وحرر الإنسان من عبودية الكهانة، وطقوسها ورسومها (2)، ومنهج القرآن في العبادة مبنى على الحكمة والاعتدال والاستقامة التي هي أبرز ملامح الوسطية.
_________
(1) انظر: المنهاج القرآني في التشريع (465).
(2) انظر: المنهاج القرآني في التشريع (468).(1/419)
المبحث التاسع
التوجيهات القرآنية في مجال العبادة
تمهيد: إن الجاهلية أفسدت العقائد والأفكار، وأفسدت العبادات والشعائر، وأفسدت الأخلاق والآداب، وأفسدت النظم والتقاليد، وأفسدت الحياة كلها، وأصابت الأديان كلها فانحرفت عن الصراط المستقيم.
وعندما أراد الله أن يبعث سيد المرسلين بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، كانت الدنيا مليئة بالعبادات والشعائر بعضهما بقايا أديان سماوية، وبعضهما إضافات بشرية، وابتداعات شيطانية، ففقد معنى التعبد وروحه ومعنى الإخلاص لرب العالمين. وأصبحت البشرية ضائعة بين أديان تشتت وتعنتت وتزمتت، وأخرى ترخصت وغلت في الترخيص، وأصبح الديانة كأنها لهو ولعب، وأصبح بعض البشر لا دين لهم وجاء الإسلام، فلم يحاب الغالين، ولم يوافق المنحرفين، بل شرعه الله (دِينًا قِيَمًا) لا عوج فيه، ولا غلو ولا تقصير؛ بل كان كما قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام: 161 - 164].
إن في القرآن الكريم عدة توجيهات ومبادئ إصلاحية كانت ولا تزال هي حجارة الأساس، التي يقوم عليها صرح العبادة الشعائرية في الإسلام (1).
وهذه الإصلاحات، والتوجيهات، والمبادئ العظيمة تدل بكل وضوح على وسطية القرآن في مجال العبادة. ومن هذه التوجيهات في مجال العبادة.
أولا: لا يعبد إلا الله:
في الفترات التي طال فيها الأمد على دعوة الرسل فنسيت أو حرفت، ضل
_________
(1) انظر: العباد في الإسلام (130).(1/420)
الناس وعبدوا أنواعا من الآلهة لا يكاد العقل يصدقها. فهناك قوم عبدوا الشمس، كما حكي القرآن عن ملكة سبأ وقومها على لسان هدهد سليمان: (وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ) [النمل: 24]، وهناك طائفة عبدت الجن كما قال تعالى: (بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ) [سبأ: 41].
وهناك من عبد الأصنام والأوثان واشتهر بذلك مشركو العرب، ولما فتح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة وجد حول البيت ثلاثمائة وستين صنما، فجعل يطعن بسيفه في وجوهها وعيونها ويقول: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) [الإسراء: 81]، وهي تتساقط على رؤوسها، ثم أمر بها فأخرجت من المسجد وحرقت.
وضل اليهود والنصارى عن طريق التوحيد، وزحفت عليهم الوثنيات فأفسدت عليهم دينهم، ونسب اليهود إلى الله ما لا يجوز أن ينس من صفات النقص والندم والتعب، ومر بنا ذلك بالتفصيل وأصبحت النصرانية مزيجا من الخرافات اليونانية والوثنية الرومية والأفلاطونية المصرية، والمهم أن القوم عبدوا المسيح الذي كان من أشد الناس عبادة لله، واعترافا بعبوديته لربه: واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، ذلك هو الشرك الذي انتشر في الآفاق قبل نزول القرآن، وتلك هي الوثنية الجاهلية التي سيطرت على عقول الناس وأفكارهم وتصوراتهم وعقائدهم.
وجاء الإسلام يدعو إلى عبادة الله وحده، ونبذ عبادة كل ما سواه ومن سواه من الآلهة المزعومين، والأرباب المزيفين، سواء كانوا من البشر أم من الجن أم أي عالم من عوامل المخلوقات العلوية والسلفية إن القرآن الكريم بين التوحيد بأنواعه، توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، الذي هو إفراد الله بالعبادة. إن سر الإسلام - على سعة تعاليمه- يتجلى في دستور الخالد: القرآن الكريم، وسر هذا الدستور يتركز في الفاتحة: أم القرآن والسبع المثاني، وسر هذه الفاتحة يتلخص في هذه الآية الكريمة: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة: 5].(1/421)
إن أول وصية في القرآن، وأول مبدأ يبايع عليه الرسول كل من اعتنق دينه هو: (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) [النساء: 36].
وأول ما دعا إليه رسول الإسلام ملوك الأرض وأمراءها هو هذه القضية الكبرى: أن يعبد الله وحده لا شريك له وأن تطرح الآلهة والأرباب التي أخذها الناس من دون الله، فأذلوا أنفسهم لمن لا يستحق الذل والخضوع، ومن هنا كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يختم رسائله إلى قيصر والنجاشي، وغيرهما من أصحاب الملك والإمارة بهذه الآية الكريمة من سورة آل عمران: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 64].
بل عد القرآن أن هذه الدعوة هي دعوة الرسل جميعا، فكلهم دعا قومه إلى عبادة الله وحده، واجتناب عبادة الطاغوت، وكل ما عبد من دون الله فهو طاغوت، فهما معبودان لا ثالث لهما: إما الله وإما الطاغوت، ومن استكبر عن عبادة الله سقط -حتما- في عبادة الطاغوت.
قال تعالى:
(وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل: 36].
وقال سبحانه مخاطبا خاتم رسله محمدًا -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء: 25].
شدد الإسلام حملته على الشرك، وقعد له كل مرصد، وحاربه بكل سلاح، وقرر أنه الإثم العظيم، والضلال والبعيد، والجرم الأكبر، والذنب الذي لا يغفر قال تعالى: (إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَّشَاءُ وَمَن يُّشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا) [النساء:48]، وقال تعالى: (إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَّشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا) [النساء:116].
وبين القرآن الكريم أنه ليس في العالم المخلوق شيء يستحق أن يسجد له(1/422)
الإنسان أو يتضرع إليه أو يرجوه أو يخشاه، فالملائكة عباد الله خاشعون خاضعون (لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ *يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ) [الأنبياء: 19 - 20]، (لاَّ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم: 6]، (لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) [الأنبياء: 27 - 28].
والبشر وإن علا سلطانهم، أو عظم قدرهم، أنبياء كانوا أو سلاطين، هم أيضًا عباد الله، لا يملكون لأنفسهم، فضلا عن غيرهم، ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، والعبودية هي الوصف اللازم لهم جميعا: (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) [مريم: 93 - 95].
والشمس والقمر والنجوم إن هي إلا كواكب مسخرات بأمره تعالى، لا يجوز أن يحني صلب من أجلها راكعا، أو يخر وجه من أجلها ساجدًا: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا للهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [فصلت: 37].
وكل ما يدعي من دون الله في الأرض أو السماء هو مخلوق عاجز لا قدرة له، محتاج لا قيام له بذاته، ضعيف لا يقوى على حياة نفسه قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) [الحج: 73]، وقال تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا) [الإسراء: 56 - 57]، وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [الأعراف: 194].(1/423)
ثانيًا: تحرير العبادة من رق الكهنوت:
إن رجال الدين جعلوا من أنفسهم في الديانات النصرانية واليهودية وسطاء بين الناس وبين الله.
ومن ثم قيدوا العبادات بمكان معين، يدخل في سلطتهم لا تجوز إلا فيه وقيدوها بوسيط معين، يقوم بعملية السرقة من أموال الناس باسم الدين، وجعلوا لذلك مراسيم وطقوس كهنوتية خاصة لا تقبل بدونها.
وقد بالغ رجال الدين المسيحي في العصور الوسطي في فرض هذه المظاهر الكهنوتية فعلقوا في معابدهم رسوما وتماثيل للعذراء والمسيح، وعدتها الكنيسة شعائر تعبدية واجبة التقديس.
وكان من أعجب ما صنعوه أنهم اتخذوا من الجنة مصدرًا للثروة يبيعون منها قراريط وأسهما لمن يدفع الثمن المعلوم، وعلى قدر المدفوع يكون عدد الأسهم.
ومن الطرائف اللاذعة ما حكوا أن أحد الأثرياء اليهود أراد أن يقابل هذه السخريات العجيبة بسخرية أمر وأعجب، فقد ذهب إلى أحد البابوات ولم يشتر منه الجنة، كما كان يفعل المسيحيون، ولكنه اشترى منه صفقة أخرى هي: جهنم! فباعها له بثمن بخس؛ لأنها سلعة لا يرغب فيها أحد؛ ولكن اليهودي الماكر أعلن للمسيحيين جميعا: ألا يبالوا بشراء الجنة بعد اليوم، لأنه هو قد اشترى من البابا جهنم، ولن يدخل أحد فيها قالوا: فعاد البابا واشتراها بأضعاف ما باعها به!! (1).
والرؤساء والروحانيون في المسيحية يزعمون أن لهم سلطة المنح والمنع والغفران والحرمان، والإدخال في رحمة الله، والطرد منها، لأن المسيح قال لبعض تلاميذه على حد زعمهم: سأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات، فكل ما ربطته على الأرض يكون مربوطا في السماوات، وكل ما حللته على الأرض يكون محلولا في السماوات (2).
_________
(1) انظر: العبادة في الإسلام (149).
(2) انظر: إنجيل متى (16، 19).(1/424)
حرر القرآن الكريم العبادة من القيود المكانية المتزمتة، ولم يشترط المكان الخاص في عباداته إلا في الحج، لما فيه من فوائد تفوق فائدة التحرر من المكان، من التجمع العالمي للمسلمين حول أول بيت وضع للناس (1).
ومع اشتراط المكان لعبادة الحج، فليس فيه أي شائبة لتأثير الكهنوت وليس فيه أي ثغرة لتدخل الوسطاء والكهان بين المسلم وبين الله، وشأنه في ذلك شأنه في سائر عبادات الإسلام.
إن العبادات في القرآن الكريم لا تتوقف على توسيط هيكل أو تقريب كهانة، إن المسلم يصلي حيث أدركه موعد الصلاة، وأينما تكونوا فثم وجه الله، ويصوم ويفطر في داره أو في موطن عمله. ويحج ليذهب إلى بيت لا سلطان فيه لأصحاب سدانة، ولا حق عنده لأحد في قربانه، غير حق المساكينن والمعوزين ويذهب إلى صلاة الجماعة، فلا تتقيد صلاته الجامعة بمراسم كهانة أو إتارة حراب، ويؤمه في هذه الصلاة الجامعة من هو أهل للإمامة بين الحاضرين باختيارهم لساعتهم إن لم يكن معروفا عنده قبل ذلك (2).
إن عقيدة المسلم في الله لا تتيح مكانا لأولئك الوسطاء الذين يتحكمون في ضمائر عباد الله، فاعتقاد المسلم في الله يقوم على حقيقتين:
أولاهما: أنه تعالى فوق عباده، علو قهر، ومكانة، وذات سلطان وتصرفه لا يشبهه شيء، ولا يحكم عليه شيء، ولا يقع في ملكه إلا ما يريد (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) [الأنعام: 18]، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى:11]، (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) [الإخلاص: 1 - 4].
أما المسلم فقد عرف من كتاب الله العزيز أن الأرض كلها محراب كبير، فحيثما
_________
(1) انظر: العبادة في الإسلام (151).
(2) انظر: حقائق الإسلام، للعقاد (112).(1/425)
توجه يستطيع أن يتجه بعبادته لله. وفي هذا يقول تعالى: (وَللهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [البقرة: 115].
ويقول الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- "وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورا، فأيما رجل من أمتى أدركته الصلاة فليصل" (1).
وقد كانت هذه الخصيصة للعبادة الإسلامية موضع الإعجاب العظيم والتأثير البالغ من كثيرين من غير المسلمين، حتى من رجال الأديان أنفسهم حتى إن الأسقف (لوفروا) قال: لا يستطيع أحد يكون خالط المسلمين لأول مرة، ألا يدهش بمظهر عقيدتهم، فإنك حيثما كنت سواء أوجدت في شارع مطروق أم في محطة سكة حديدية أم في حقل، كان أكثر ما تألف عيناك مشاهدته أن ترى رجلا ليس عليه أدنى مسحة للرياء، ولا أقل شائبة من حب الظهور، يذر عمله الذي يشغله كائنا ما كان، وينطلق في سكون وتواضع لأداء صلاته في وقتها المعين (2).
ولقد كان هذا المشهد العجيب في الأديان أحد العوامل التي أثرت في وجدان المحامي الكبير الأستاذ زكي عريبي عميد الطائفة اليهودية في مصر والذي اهتدى إلى الإسلام في عام 1960، ومما جاء في محاضراته (لماذا أسلمت؟) قوله: (وما سمعت المؤذن يؤذن في الفجر أو في الظهر أو في أي وقت آخر إلا شعرت بأنه صوت الله، الذي يفصل بين الحق والباطل والحلال والحرام ويهدي الإنسان إلى الطريق المستقيم، وأركب السيارة في السفر وعلى الطريق بين الحقول وبين الفضاء تقع عيني على رجل متواضع يقف بين يدي الله في ثياب رثة مهلهلة، يقف على مصلي صغير، مفروش بالرقيق من الحصير على شاطئ ترعة متواضعة يصلي لله في خشوع وابتهال، فكانت نفسي تهفو إلى أن أصلي مثل صلاته، كنت أعتقد أن هذه نفحات الله في الأرض يلقيها في نفوس عبادة الصالحين) (3).
_________
(1) رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورا (1/ 129 رقم 438).
(2) انظر: العبادة في الإسلام (150).
(3) انظر: العبادة في الإسلام (151).(1/426)
والحقيقة الثانية:
أنه تعالى -مع عظمته وعلو شأنه- قريب من خلقه، بل هو معهم أينما كانوا، في جلوتهم وفي خلوتهم، يسمع ويري، ويرعى ويهدي، ويعطي من سأله، ويجيب من دعاه، فهو تعالى قريب في علوه، علي في دنوه، وقد جمع تعالي بين العظمة والعلو، وبين القرب والدنو، في آية واحدة، فقال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الحديد: 4].
وقد عبر القرآن على لسان إبراهيم -أبي الأنبياء- عن العلاقة بين الإنسان والله فقال: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَّغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) [الشعراء: 78 - 82]، وقال الله سبحانه: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق:16]، وقال تعالى: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِن لاَ تُبْصِرُونَ) [الواقعة: 85]، وقال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) [البقرة: 186].
ومن اللطائف في هذه الآية: أن سؤال الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن بعض الأمور قد وقع في القرآن بضع عشرة مرة، وكان كل جواب عن تلك الأسئلة مقترنا بكلمة (قل) مثل: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ) [البقرة: 189].
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) [البقرة: 219]، وكان مقتضى تلك الآيات أن يقال في هذه: وإذا سألك عبادي عني فقل: إني قريب، ولكن أسلوب الآية خالف المعتاد ولم يأمر الله رسوله أن يقول للناس ذلك، وقال سبحانه مباشرة (فإني قريب) ولهذا الأسلوب البياني دلالته وإيحاؤه في الأنفس والعقول، إذ لم يجعل الله واسطة بينه وبين عباده، وهذا من وسطية القرآن الكريم في جانب العبادة حيث حرر العبادة من رق الكهنوت، إن القرآن الكريم رد على من زعم أن له منزلة خاصة من الله:(1/427)
(وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَّشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [المائدة: 18].
وحكي عن المسيح أنه يقوم لربه يوم القيامة في شأن من ادعوا الانتساب إلى دينه: (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة: 118]، وبين القرآن الكريم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعا إلا ما شاء الله، قال تعالى: (قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُّؤْمِنُونَ) [الأعراف: 188].
هذه وسطية القرآن في العبادة حرصت على تحرير الإنسان من رق الكهنوت، ومن الوسطاء بين العبد وخالقه.
فالمسلم تعلم من القرآن الكريم أن يكلم ربه بلا ترجمان، وأن يناجيه بما شاء حيث شاء ومتى شاء، وأن يقف بين يديه بلا حجاب ولا واسطة إلا العمل الصالح.
قال تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) [النساء: 123 - 124].
أو الدعاء بالأسماء الحسنى:
قال تعالى: (وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأعراف: 180].
أو الدعاء في ظهر الغيب من أهل الصلاح لإخوانهم:
قال تعالى: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [الحشر: 10].(1/428)
ثالثا: التوازن بين الروحية والمادية:
التوازن والاعتدال بين الروحية والمادية، أو بين الدين والدنيا، هو توجيه قرآني، دعى إليه المولى -عز وجل- في كتابه العزيز ليصلح ما أفسده محرفو الأديان في مجال العبادة.
غلو اليهودية في أمر الدنيا:
لا تكاد تجد في أسفار التوراة الخمسة الحالية للروحانية أثرًا، ولا للآخرة مكانا، حتى الوعد والوعيد في هذه الأفكار للمطيعين والعصاة، إنما يتعلقان بأمور دنيوية، وسيطرت عليها النزعة المادية الخالصة، فالخصب والصحة والثراء وطول العمر، والنصر على الأعداء ونحوها من المكاسب الدنيوية الزائلة، هي المثوبات التي تبشر بها التوراة، وأضداد هذه الأمور من الجدب والمرض والموت والوباء والفقر والهزيمة ونحوها للذين يعرضون عن الشريعة، فليس للأجزية الروحية ولا الأخروية مكان في التوراة (1).
إهمال المسيحية لأمر الدنيا:
أما في الإنجيل فالدعوة فيه قوية إلى إلغاء قيمة هذه الدنيا، واعتبار هذه الأرض بمثابة منفى الإنسان، وطلب النجاة والسعادة هناك، في العالم الآخر، حيث تقوم مملكة السماء، فمن أراد ملكوت السماء فليعرض عن هذه الأرض، ومن أراد العالم الآخر، فليرفض هذا العالم أو هذه الدنيا، وهكذا لا تحس في الإنجيل أن لك في الدنيا نصيب، وأن لك في طيبات الحياة حظًا، ولا تشعر أن لبدنك عليك حقا، وإن لك في عمار الأرض دورا، ولم تقف الدعوة إلى التقشف والتزهد وإهمال الحياة الأرضية، عند الحد الذي جاء به الإنجيل؛ بل ابتدع النصارى نظام الرهبانية، بما فيه من قسوة على النفس، وتحريم للزواج، وكبت للغرائز، ومصادرة للنزوع إلى الزينة والطيبات من الرزق، وانتشر هذا النظام العاتي، وكثر أتباعه، وأصبح ما يتعبدون به
_________
(1) انظر: العبادة في الإسلام (175).(1/429)
الله ويتقربون به إليه: البعد عن النظافة والتجمل، واعتبار العناية بالجسم ونظافته ونوازعه رجسا من عمل الشيطان (1).
وقد ذكر أبو الحسن الندوي (2) في كتابه صورا للجماعة الرهبانية وغلوها، ما تقشعر منها الجلود، وتفزع القلوب، وتدهش العقول، وهذه الصور -كما يقول الأستاذ الندوي- قليل من كثير جدًا: (وكان بعض الرهبان لا يكتسبون دائما، وإنما يتسترون بشعرهم الطويل ويمشون على أيديهم وأرجلهم كالأنعام: وكان أكثرهم يسكنون في مغارات السباع والآبار النازحة والمقابر، ويأكل كثير منهم الكلأ والحشيش، وكانوا يعدون طهارة الجسم منافية لنقاء الروح ويتأثمون من غسل الأعضاء، وأزهد الناس عندهم وأتقاهم أبعدهم عن الطهارة، وأوغلهم في النجاسات والدنس، وكانوا يفرون من ظل النساء ويتأثمون من قربهن والاجتماع بهن، وكانوا يعتقدون أن مصادفتهن في الطريق والتحدث إليهن -ولو كن أمهات أو أزواجا أو شقيقات- تحبط أعمالهم وجهودهم الروحية).وذكر من هذه المضحكات المبكيات شيئا كثيرا) (3).
ثالثا: التوازن سمة القرآن والسنة النبوية:
وهكذا كانت اليهودية في إغفالها للآخرة وللروح، وهكذا كانت المسيحية في تحقيرها للدنيا والجسد.
فلما جاء الإسلام كانت سمة التوازن والاعتدال في كل الآفاق والنواحي، الاعتدال الذي يليق برسالة عامة خالدة، جاءت لتسع أقطار الأرض، وأطوار الزمان، وتشرع لشتى الأجناس والطبقات والأفراد في مختلف شؤون الحياة، الاعتدال بين أشواق الروح وحقوق الجسد، بين بواعث الدين، ومطالب الدنيا، الاعتدال بين العمل لهذه الحياة والعمل ما بعد الحياة.
_________
(1) انظر: العبادة في الإسلام (176).
(2) هو العلامة الأستاذ الأديب أبو الحسن الندوي الحسني من علماء الهند ورئيس رابطة علمائها وأدبائها له جهود مشكورة في مجال الدعوة والتأليف وخصوصا في الهند وهو من المعاصرين.
(3) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ (158 - 160).(1/430)
وبين القرآن الكريم أن على المسلم ألا يشغله حق الجسد عن حق الروح وألا تشغله رغائب الدنيا العاجلة عن حقائق الآخرة الباقية، عليه ألا ينسى الله فينسى حقيقة نفسه، وماهية وجوده، وفي هذا يقول القرآن: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [الحشر: 18 - 19].
إن مهمة العبادة في الإسلام الأخذ بيد الإنسان حتى لا تغرقه أعمال الدنيا في لجة النسيان، حيث ينسى الله، فينسيه الله نفسه، ومهمة العبادة أن تقوم بالتنبيه والتذكير لمن نسى مولاه، أو غفل عن أخراه، ثم تدع الإنسان يعود بعد أدائها إلى دنياه يلقاها ساعيا حثيث الخطى، وثيق العرا.
إن القرآن الكريم وضع المسلم في وضعه الرشيد بين الدين والدنيا:
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الجمعة: 9 - 10].
وهذا هو شأن المسلم: عمل وبيع قبل الصلاة: ثم صلاة وسعى إلى ذكر الله ثم - بعد انقضاء الصلاة- انتشار في الأرض وابتغاء من فضل الله، وفضل الله هنا هو الرزق والكسب.
ورواد المساجد في الإسلام ليسوا شيئا متعطلا، ولا رهبانا متطلبين، وإنما هم كما وصفهم القرآن: (رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ) [النور: 37].
فهم أناس لهم دنياهم وأعمالهم من تجارة وبيع، وما أشد ما تشغل التجارة والبيع، ولكن ذلك لم يلههم عن حق الله.
وفي سياق الحج برسم القرآن الكريم لنا صورة واضحة لصنفين من الناس الذين(1/431)
يدعون الله ويسألونه في تلك المنازل، قال تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ* وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [البقرة: 200 - 202].
هكذا قسم القرآن الناس في الموقف الذي تسمو فيه الأرواح وتدنوا القلوب من ربها، وتهب عليهم نسمات الذكريات المحمدية من قريب، والذكريات الإبراهيمية من بعيد.
قسمان فقط ذكرهما القرآن: طلاب دنيا وما لهم في الآخرة من خلاق، وهم ذلك الصنف الذي توعده الله في آية أخرى: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاَهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا) [الإسراء: 18]، وطلاب دنيا وآخرة يطلبون الحسنة في الحياتين، والسعادة في الدارين، دعاؤهم: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ حَسَنَةً) والحسنة في الدنيا ذهب العلماء إلى أقوال متعددة فيها: العافية، والمرأة الصالحة، الأولاد الأبرار، أو العلم النافع، أو الرزق الواسع، أو المحبة بين الناس، أو نحو ذلك، فكل هذا مما يحقق حسنة الدنيا (1).
ولم يذكر القرآن الكريم القسم الثالث من الناس -بحسب التقسيم العقلي- وهو من لا يطلب إلا حسنة الآخرة، وما له في الدنيا من أرب، وكأنه يعلمنا أن هذا الصنف لا يكاد يوجد في الناس، فالحياة بمتاعبها الجمة وحقوقها المتنوعة، تفرض على طالب الآخرة أن يدعو ربه لييسر له سبيل دنياه ويعينه على أداء حقوقها، ويخفف عنه متاعبها ثم هو يشعرنا أن إهمال الدنيا، وإهدار شأنها في حساب طالب الآخرة إنما هو أمر مذموم خارج عن سنة الفطرة، وصراط الدين معًا.
ولهذا لم يقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكرة الانقطاع عن الدنيا من أجل الرغبة في الآخرة، والاعتزال المطلق لعبادة الله، وكلما رمق في بعض أصحابه نزعة إلى هذا اللون من
_________
(1) انظر: العبادة في الإسلام (82).(1/432)
السلوك الذي عرف في بعض الأديان الأخرى، ثوم عوج أفكارهم، وهداهم للتي هي أقوم (1).
إن وسطية القرآن الكريم في العبادة، جعلت العبادة لا تنعزل عن الدنيا، والدنيا لا تحيف على العبادة؛ بل جمعت بين الأمور بدون إفراط أو تفريط أو غلو أو حفاء.
رابعًا: الرخص والتخفيفات في العبادة دليل على وسطية القرآن:
قد علمنا أن من ملامح الوسطية رفع الحرج في الشريعة، واليسر في الأحكام، وعدم التكليف بما لا يطاق ويظهر رفع الحرج في باب العبادة واضحا في الرخص والتخفيفات التي تدل على اليسر ورفع الحرج في عباداته وتكاليفه في عامة الأحوال، فإن القرآن الكريم، والسنة النبوية شرعت ألوانا من الاستثناءات والإعفاءات والتسهيلات في أحوال خاصة، وهي تلك التي توجد للإنسان نوعا من المشقة يؤوده ويثقل ظهره، ويقعد به عن مواصلة السير، فالسفر مثلا تقتضيه مطالب الحياة التي جاء الدين بإقرارها، بل بتمجيدها والدعوة إليها.
كالسفر في طلب الرزق (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ) [الملك: 15].
والسفر للحج إلى بيت الله (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ) [الحج: 27].
والسفر لطلب العلم، وغير ذلك من الأغراض الدينية والدنيوية والمرض مثلا من ضرورات الحياة وبلائها الذي لا يكاد يسلم منه إنسان بمقتضى النشأة الإنسانية، والتركيب البشري (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) [البلد: 4].
والجهاد من مطالب الحياة وضروراتها معا، إذ الإسلام لم يشرعه إلا دفاعا عن النفس، وتأمينا للدعوة، ودرءا للفتنة، وإنقاذًا للمستضعفين وتأديبا للناكثين.
وفي هذه الأمور الثلاثة - السفر والمرض والجهاد- قرر الإسلام تيسرت شتى:
_________
(1) المرجع السابق.(1/433)
من رخص الصلاة:
فجعل للمسافر في الصلاة القصر: يصلي الرباعية - كالظهر والعصر والعشاء- ركعتين فقط، وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- في ذلك: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" (1).
ورخص له في الجمع بين الصلاتين - الظهر مع العصر، والمغرب مع العشاء - فأجاز جمعها في وقت إحداهما تقديما أو تأخيرًا كما رخص للمريض أن يصلي قاعدًا أو مضطجعا على جنبه، أو مستلقيا على ظهره، حسب استطاعته، وليس على المريض حرج، وفي (الطهارة) -التي هي شرط لصحة الصلاة- رخص لمن يتعذر عليه استعمال الماء من مريض أو مسافرا أو نحوهما أن يترك الوضوء إلى التيمم بالصعيد الطيب من رمل أو تراب أو حجر أو نحوه، تيسيرًا من الله ورحمة بعبادة.
قال تعالى: (وَإِن كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِن كُنْتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنْكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [المائدة: 6].
وقد ذكر القرآن هذا الحكم أيضًا:
في سورة النساء قائلا: (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيِكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا) [النساء: 43].
وفي هذه الآيات يتبين للمسلم أن هذه الرخص في العبادات مظهر يتجلى الله فيه بأسمائه: (العفو الغفور، الكريم الرحيم، الذي يريد أن يطهر عباده ويتم عليهم النعمة) (2).
وهذا دليل على وسطية القرآن في العبادات.
_________
(1) رواه مسلم مع شرح النووي، كتاب الصلاة، (5/ 196).
(2) انظر: العبادة في الإسلام (197).(1/434)
من رخص الجهاد:
وفي الجهاد شرع الله صلاة الحرب أو الخوف، وجعلها في الرباعية (ركعة واحدة) تيسيرا، وإعانة لهم على عدوهم وعند التحام الصفوف قبل الله منهم الصلاة كيف استطاعوا (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا) [البقرة: 239].
فلا يشترط فيها ركوع ولا سجود ولا استقبال قبلة.
ولم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يفرقون بين الصلاة والجهاد، فتلك عمود الإسلام، وهذا ذروة سنامه، وقد فرض الله على المجاهدين أن يحملوا أسلحتهم ويأخذوا حذرهم وهم بين يديه خاشعون، ولربهم مبتهلون مناجون: (وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً) [النساء: 102].
رخص الصيام:
وفي صيام رمضان رخص المولى -عز وجل- للمسافر في الإفطار، بل لأجبه عليه إذا كان في صومه مشقة ظاهرة عليه، ففي الصحيح عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر فرأى زحاما ورجلا قد ظل عليه، فقال: ما هذا؟ فقالوا: صائم، فقال: ليس من البر الصوم في السفر" (1).
وبذلك أثبت النبي -صلى الله عليه وسلم- بكل صراحة: أن الصيام إذا أتعب صاحبة وأجهده لا يجوز له صيام.
وكذلك رخص المريض بالفطر في رمضان، ويقضي هو والمسافر عدة أيام آخر، قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185].
_________
(1) رواه البخاري كتاب الصوم، باب ليس من البر الصوم في السفر (2/ 292 رقم 1946).(1/435)
ورخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للمجاهدين بالفطر في الصيام عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج إلى مكة في رمضان فصام، حتى بلغ الكديد (1) أفطر، فأفطر الناس" (2).
ومبدأ التخفيف والتيسير في العبادة من أجل المرض والسفر والجهاد مبدأ نزل به القرآن منذ مطلع فجر الإسلام في مكة ففي سورة المزمل قال تعالى: (عَلِمَ أَلَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [المزمل: 20].
وبهذا يتضح للقارئ الكريم عظمة المنهج الرباني ووسطيته في كافة المجالات التشريعية من عقائد، وأخلاق، وعبادة، وحرصه على رفع الحرج وتيسير الأمور وتسهيلها على الناس والله هو الهادي إلى سواء السبيل.
_________
(1) الكديد: منطقة ما بين عسفان وقديد في طريق مكة.
(2) رواه البخاري، كتاب الصوم، باب إذا صام أياما من رمضان ثم سافر (2/ 292 رقم 1944).(1/436)
الفصل الثاني
وسطية القرآن في الأخلاق
تمهيد:
معني الأخلاق: يعني بأخلاق القوى والسجايا النفسية الراسخة، التي تصدر عنها أنماط السلوك الإنساني الخارجي، من خلال إرادة حرة، وهي تمثل الصورة الباطنية للإنسان، كما أن الخلق يمثل الصورة الظاهرة، وكلاهما يكون حسنا أو قبيحا، والأصل في الخلق أن يكون اختياريا يكسب بالتخليق والجهد والمثابرة على التزام جانب التسامي، ولذلك يمدح به الإنسان أو يذم، ويثاب عليه أو يعاقب، بخلاف الخلق فهو فطرة مقسومة محدودة، لا مدخل لأحد فيها ولا اختيار، ولا يتعلق بها لذاتها مدح أو ذم، ولا يترتب عليها ثواب أو عقاب (1).
ومعلوم لدى أصحاب الفطرة السليمة أن الله تعالى فطر الإنسان على الخير، وركز في فطرته أصول الأخلاق والفضائل السامية، وركب فيه حب موافقتها، بغض إليه مخالفتها إلا من انتكست فطرته تحت وطأة البيئة، وضلال التربية، وإغواء النفس والشيطان والاختيار (الخلق) حينئذ يكون في اتجاه الإنسان مع أصول فطرته، ومقاومة عوامل التدني والتضليل المذكورة، وإلى ذلك يشير قوله تعالى: ( ... وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا *وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) [الشمس: 7 - 10].
والإلهام: إلقاء الشيء في النفس، والمعنى: أفهم النفس الأمرين، أو عرفها حالهما، وما يؤدي إليه كل منهما، ومكنها من اختيار أيهما شاء، فيفوز من تطهر من الدنايا، ويخيب من طمس فطرته، ومعنى دساها: أخفاها بالفجور والمعاصي.
والآيات الكريمة تجمع بين الإلهام الإلهي للإنسان بمقتضى فطرته، والجهد الاختياري له في التزكية، أو التدسية.
_________
(1) انظر: المنهاج القرآني في التشريع (408).(1/437)
وواضح أن الله تعالى يدعو إلى طريق الخير بما وصفه بالتقوى، وفلاح صاحبه، ويكره الطريق الآخر بما وصفه بالفجور، وخيبة صاحبه، ولو شاء منعه قهرا، ولكن حكمته اقتضت الاختيار والأخلاق لذلك تمثل جانبا خطيرا في الحياة الإنسانية؛ بل هي إحدى الميزات العظيمة التي تميز الإنسان (1).
إن الأخلاق كان لها في المنهج الرباني أهمية كبرى، فصاغها على وفق اتجاهه في الاعتقاد، وبناها على أساس الحقيقة الكبرى للكون والحياة، وغاية الجنس البشرية ومآله ومهمة وجوده من حيث هو خليفة في الأرض، يقيم فيها شريعة الله ومنهاجه.
ويبين القرآن الكريم مهمة الأخلاق الخطيرة مع الإنسان منذ النشأة الأولى، حين ذكر توبة أبينا آدم، وأنه ثاب إلى خلق رضي من أخلاق الإيمان وهو الاعتذار عن الخطأ، والاعتراف به، والافتقار إلى مولاه فقال هو وزوجه: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23].
ويقارن القرآن الكريم هذا الخلق بخلق مضاد له وه الاستكبار والإباء عن أمر الله -عز وجل- الذي أهلك إبليس، وطرده من رحمة الله عن سعتها (2).
تحديد الأخلاق:
من فضل الله علينا أنه تعبدنا بخلق محدد على ألسنة الرسل، ولم يتركنا لأحاسيس الفطرة وحدها التي قد تخطئ أو تضل أو تضلل، ولا لنظرات العقول، واجتهاد الأفكار البعيدة عن المنهج الرباني ولذلك تتضارب وتتباعد ويحث الغلو والجفاء، ويندر في هذا الباب المنهج الوسط، ولذلك فقد عنى القرآن به عناية خاصة، وجاءت الآيات تترى توضح هذا المنهج وتدعو إليه، وتربي الأمة عليه، وتحذر مما يضاده غلوا أو جفاء، إفراطا أو تفريطًا.
_________
(1) انظر: المنهاج القرآني في التشريع (409).
(2) انظر: المرجع السابق (410).(1/438)
إننا نحن المسلمون لدينا مرجع تفصيل واف بصحيح الأخلاق وفاسدها، وما يحمد منها وما يذم، وقد اتفقت على ذلك كلمة الرسل جميعا، لأن الأخلاق أحد الأصول المشتركة التي لا تتغير في دين الله -عز وجل- (1).
ولقد جاءت الأخلاق في هذا المنهاج على أسمى درجات السمو والارتقاء، لأن الله -سبحانه وتعالى- جعل نفسه (المثل الأعلى) لأخلاق المؤمنين، وطلب منهم أن يتخلقوا على نمط ما أعلمهم عن نفسه جل شأنه من رحمة، وود، وحلم، وعفون وسخاء، وإتقان، وإحسان، وشكر، وصبر، ومغفرة، وصدق، وعدل، ووفاء بالعهد، بل وبطش بأعداء الحق بعد المطاولة والإعذار، مع ملاحظة الفارق التام بين صفات الخالق والمخلوق في كل شيء. قال تعالى: (لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَللهِ الْمَثَلُ الأعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [النحل: 60].
ولقد نصب لهم من أنفسهم رسله الأكرمين فمعصمهم، وطهرهم، وكملهم، وجعلهم (المثل البشري الأعلى)، في التخلق بما أمر ورسم جل شأنه، وجعلهم خير قدوة، وأحسن أسوة لقومهم، وللناس أجمعين.
ومن الواضح أنه لا سبيل إلى مقارنة الخلق بالخالق، ففي جانبه تعالى الكمال مطلق، وهو وصف ثابت له، وفي جانبهم الكمال نسبي إضافي، ثم هو لهم غاية تطلب ويسعى إليها، فالرسل يتابعون الترقي نحوها، وعامة البشر يقاومون التدلي، ثم يبذلون الجهد ليبلغوا أقصى طاقتهم من الكمال الممكن لهم. وبذلك أتيح للأخلاق أعلى قدر من السمو والثبات، وإن حسن الخلق بالنسبة للمسلم هدف سامي يحرص عليه قربة لله تعالى لأن هدفه من ذلك رضا الله وطلب ثوابه، والخوف من سخطه وعقابه وبذلك اكتسب هذا المطلب قدسية دينية جعلت مزاولته من أعلى درجات الإيمان قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن من أكمل المؤمنين إيمان أحسنهم خلقا وخياركم خياكم لنسائهم" (2).
_________
(1) انظر: المنهاج القرآني في التشريع (410).
(2) أخرجه الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في استكمال الإيمان (5/ 11 رقم 2612).(1/439)
وصار الحرص على حسن الخلق عبادة يستحق بها صاحبها ثواب العابدين لما وراءها من دافع تعبدي يتطلب مرضاة الله، ويجتنب سخطه، وبذلك أصبحت الأخلاق الإسلامية نمطًا فريدًا لا يقاربه ولا يدانيه شيء من حكم الحكماء، أو نظر الفلاسفة، أو شرائع المشرعين، أو عادات الأمم وآدابها، إلا أن تكون بقية من الوحي الرباني بقيت بين الناس، أو أثرًا من سلامة الفطرة التي فطر الله عليها الناس (1).
_________
(1) انظر: المنهاج القرآني في التشريع (411).(1/440)
المبحث الأول
أثر العقيدة الفاسدة في انحراف الأخلاق
اختلفت الجاهليات طرائق قددًا في حياتهم العملية، كما اختلفت في عقائدها، فجاءت قيمها وأخلاقها العملية، وشرائعها وعاداتها، صورا منكرة ناكبة عن الحق، تسحق الإنسان وتشقيه، ونحتاج إلى كتب لو أردنا إعطاء صورة وافية عنها في هذا الباب، ولكننا نختصر الحديث في النواحي الآتية:
أ- الشهوانية المادية:
هذا أول الأشكال التي تغطي بها الجاهلية الحياة العملية نتيجة لتولى الإنسان وضع القوانين والأحكام، وصياغة القيم والأخلاق لنفسه بعيدًا عن الضوابط الإلهية الهادية، إن الدستور الرباني قد راعي بحكمة عالية قوي الإنسان الروحية والمادية، فأحل له الطيبات، وحرم عليه الخبائث، ومنحه أو منعه على علم شامل بفطرة الإنسان وخصائصه.
والإنسان حين استخلفه الله في الأرض ركب فيه غرائز وقوى لا تصلح حياته إلا بها، ووازنها في نفس الوقت بتعاليمه الهادية حتى لا تخرج بالإنسان عن المجرى السليم فتدمره، وبذلك يتعدل (الشرع) مع (الطبع) ليحققا للإنسان أطيب حياة على الأرض، وليقوداه إلى سعادة الآخرة.
ولكن الإنسان لما أعرض عن أمر ربه أبقى الطبع، وأضاع الشرع واستبدل به شرائع وضعية قاصرة وناقصة، فانهارت الموازنة الفذة، لعجز هذه الشرائع عن معادلة الطبع الإنساني، أو التعامل معه على أسس سليمة، وهذا ما حدث هنا:
فحين وجد الإنسان نفسه تتأجج برغبات هائلة من حب التملك، والسيطرة والاستعلاء والاستمتاع بضروب اللذائذ من طعام وشراب، ورياش، ونساء، إلخ مضى بكل قوته ليحقق رغباته، وقام حينئذ المنهاج الإلهي بأصوله وفروعه ليكون دليله الهادي، وميزانه القيم فاعتدل الميزان.(1/441)
ثم حين أعطته مناهج الجاهلية بدائلها المظلمة تلاشت روابط الطبع، وسلامة الفطرة فلم يعد يؤمن في ظلال الجاهلية بالخالق الأعلى، ولا الجزاء الأخروي، ولا مسؤوليته التكليفية السامية .. إلى آخره.
بذلك ضعفت ونقصت بواعث الخير والفضائل في نفس الإنسان، وانطلقت كل قوى الشر لا تلوى على شيء تثير الغرائز، وتفجر الشهوات الجامحة، وتكتسح كل عائق في طريقها، وتجعلها خادما لها، ليحقق للشهوات أقصى غايتها بأقل قدر من التصادم بين الرغبات المتلاطمة، التي لا تمل في طلب المزيد والتجديد، حتى تصبح الحياة الإنسانية صورة مشينة موغلة في بهيمة شهوانية، تنخرط بالإنسان في سلك القردة والخنازير؛ بل من المؤكد من الحيوانات من يترفع بفطرته عن مسالك كثير من المجتمعات في ظل الجاهليات النكداء، التي تطبعها بخصائصها.
وقد أجاد الأستاذ أبو الأعلى المودودي (1) -رحمه الله- في وصفها فقال: (إن المجتمع الذي يتكون من هؤلاء يكون من خصائصه اللازمة.
1 - أن ينهض بنيان السياسة على قواعد (الحاكمية البشرية) سواء كانت حاكمية فرد أو أسرة أو طبقة، أو حاكمية الجمهور .. والوقانين كلها توضع وتغير حسب الرغبات والمصالح، وكذلك الخطط السياسية، فلا يعلو شأن في المملكة إلا لكل من بلغ الغاية في الدهاء والمكر واختلاف الأكاذيب .. إلى آخره.
2 - أن يقوم نظام العمران والحياة الاجتماعية بجملته على أساس حب الذات، وتعبد الشهوات، وتقام المقاييس الخلقية من جديد بحيث لا تحول دون التمتع باللذات.
3 - كذلك تتأثر الآداب والفنون بهذه العقلية، وتصطبغ بصبغتها وتزداد فيها عناصر الفحشاء والخلاعة كل يوم) (2).
_________
(1) هو العلامة أبو الأعلى المودودي سيد أحمد حسن مودد مؤسس الجماعة الإسلامية في باكستان أصوله عربية، يرجع نسبه إلى الفاتحين لبلاد الهند، ولد سنة 1903م، وتوفى سنة 1979م، بعد حياة حافلة بالعلم والدعوة والتأليف.
انظر: كتاب أبو الأعلى المودودي فكره ودعوته (8 - 9).
(2) الإسلام والجاهلية (20) وما بعدها باختصار.(1/442)
وعلى هذه النظرة؛ وهذه القواعد قامت مجتمعات الجاهلية في كل مكان، كاليونان والرومان، وقديما، كالحضارة الأوروبية المعاصرة التي تمثلها أصدق تمثيل، وتزيد عليها بما اخترعته من أساليب في تأصيل مناهجها الضالة.
ونكتفي بضرب مثال واحد وهو نتيجة حتمية لكل الجاهليات في التاريخ (1)، وخلاصته أن برلمان ألمانيا الغربية بتاريخ (9/ 6/1973م) وافق بأغلبية 254 صوتا ضد 203 على شروع قانون الحكومة بإجراء تعديلات خطيرة في القوانين المتعلقة بالجنس وفي مقدمتها:
1 - رفع الحظر عن تبادل الزوجات.
2 - إباحة ممارسة الشذوذ الجنسي بين الرجال بموافقة الطرفين من سن 21 سنة.
3 - السماح ببيع مطبوعات الجنس الفاضحة لأي مواطن جاوز 18 سنة (2).
وهذه مرحلة لن تقف عندها الحيوانية المادية؛ بل لا بد أن تطلب مزيدا من الانحلال، ثم تلتمس له -بحجة الأمر الواقع- حماية التشريعات والحكومات؛ وقد حدث هذا بالفعل في كثير من المجتمعات الغربية حتى أصبح إلفا وعرفا يستغني بشيوعه عن تشريعه، بل أصبح مذهبا في الحياة، ومنهجا للقيم تصنف على أساسه المجتمعات ويوصم بالجمود والرجعية من لم يعتنقه فكرا وعملا؛ بل أدهى من ذلك أن أساقفة الكنيسة الإنجليزية كانوا على رأس مؤيدي القوانين التي تبيح الشذوذ الجنسي بين الرجال (اللواط)؛ مخالفين دينهم بل كل خلق إنساني شريف (3).
ب- الرهبانية السلبية:
وهي الوجه الآخر المضاد للخط السابق، قادت الجاهليات فيه أفواجا من البشر إلى العدم والسلبية، وصادمت الفطرة السليمة التي وقعت دائما بين امتداد فاحش مدمر، أو تقلص متلف مهلك.
_________
(1) انظر: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ للندوي (48)، في جاهلية الهند.
(2) انظر: المنهاج القرآني في التشريع (164).
(3) انظر: المرجع السابق (165).(1/443)
(والرهبانية):
كسابقتها جاءت نتيجة فهم قاصر للكيان الإنساني، ولطريقة التعامل معه، ومن أسباب نشأتها أن فريقا من البشر نظروا إلى الحياة فوجدوها مليئة بالآلام والمتاعب، فأرجعوا ذلك إلى كثر الانهماك في الملذات والشهوات، ورأوا أن خير وسيلة تستطيع الروح أن تنحو بها هي التخلص من مطالب الجسد المادية، وتخفيف ذلك، والتخلص من الرغبات، والمنع بالمجاهدات العنيفة، والفرار من الحياة إلى الكهوف، والمغارات والمفاوز، واعتزال الناس قدر المستطاع، وإتعاب الجسد، وإحكام الطوق حول النفس حتى لا تنال شهوة أو متعة تطيل شقاءها في هذه الأرض، وبذلك نشأت هذه الرهبانية المذلة المهلكة كرد فعل للشهوانية المتهاكلة والرهبانية غير الزهادة، والتعفف المعتدل، والمجاهدة التي تقوم على بناء محكم لتصمد في وجه المغريات، وهي تشق طيقها في الحياة، كما هو الحال في المنهاج الإلهي الحكيم في كل عصر، وإنما هي فلسفة حياة تقوم على الهرب من الحياة، وإطراح تكاليفها، ومما كان له أفدح الآثار على أمم وأجيال ولا يزال وأنكد الرهبانيات جميعا ما اتخذ سمة العقائد والأديان، وانعكست بذلك سلوك وأخلاق ما أنزل الله بها من سلطان وإذا أردت الاستزادة، فانظر إلى عقيدة الهندوس التي انبثقت منها الرهبانية الهندية التي دستورها مبني على عقائد شركية وعبادة منحرفة، وأخلاق بعيدة عن الصراط المستقيم وتزكيتهم لأنفسهم بنيت على الزهادة المفرطة بالصوم، وأرق الليل وتعذيب النفس، حتى يصير أسير الحرمان، ويحمل نفسه ألوانا من البلاء، ويبدو دائما كثير الأحزان والهموم، والخوف والتشاؤم (1).
وعندهم يف (شرائع منو) القرن الثالث قبل الميلاد: (أن طالب العلم يتجنب الحلوي، واللحوم والروائح الطيبة، والنساء، ولا يكتحل، ولا يلبس حذاء ولا يتظلل بالشمسية، وعليه ألا يهتم يرزقه بل يحصله بالتسول).
_________
(1) انظر: المنهاج القرآني في التشريع (168).(1/444)
ومن تعاليمهم أيضًا: (عندما تدخل الشيخوخة عليك بالتخلي عن الحياة الأهلية وبالإقامة في الغابة، وإذا أقمت فيها فليس لك أن تقص شعرك ولحيتك، وشواربك ولا أن تقلم أظافرك).
(عود نفسك على تقلبات المواسم فاجلس تحت الشمس المحرقة وعش أيام المطر تحت السماء، وارتد الرداء المبلل في الشتاء).
(لا تفكر في الراحة البدنية، اجتنب سائر الملذات، ولا تقترب من زوجتك، نم على الأرض، ولا تأنس بالمكان الذي أنت فيه) (1).
وبذلك ظهرت الذلة والمسكنة، والمهانة، والتشاؤم وكثير من الأخلاقيات التي لا تليق بالإنسان بسبب هذا المعتقد الخبيث المنحرف عن هدى الله القويم، إن الله -سبحان وتعالى- يقول في كتابه العزيز: (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) البقرة: 143]، ويقول أيضًا: (وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا * يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا) [النساء: 27 - 28].
والآتيان الكريمتان تقرير من رب العالمين بأن دينه العظيم هو المنجي من مذاهب الانهماك المادي، أو الانهماك البدني، وأنه الطريق الوحيدة لإنقاذ البشرية من طواغيت المادية الشهوانية التي مالوا بالفطرة ميلا جائرا حتى طمسوها ومن طواغيت الرهبانية الذين أثقلوها بالأغلال والآصار وحجروا عليها واسعا من فضل الله العظيم حتى فصموها (2).
إن القرآن الكريم وسط في باب الأخلاق بين أغلاة المثالين الذين تخيلوا الإنسان ملاكا أو شبه ملاك، فوضعوا له من القيم والآداب ما لا يمكن له، وبين غلاة الواقعين، الذين حسبوه حيوانا أو كالحيوان، فأرادوا له من السلوك ما لا يليق فاعتبروها خيرا محضا، وهؤلاء أساءوا بها الظن، فعدوها شرا خالصا، وكانت نظرة القرآن وسطا بين أولئك وهؤلاء.
_________
(1) انظر مقارنة الأديان (أديان الهند الكبرى) لأحمد شلبي بتصرف (60 - 70).
(2) انظر: المنهاج القرآني في التشريع (169).(1/445)
فالإنسان كما صورة القرآن مخلوق مركب فيه العقل، وفيه الشهوة، فيه غريزة الحيوان، وروحانية الملاك، قد هدى للنجدين، وتهيأ بفطرته لسلوك السلبين، وإما شاكرا وإما كفورا، فيه استعداد للفجور استعداده للتقوى، ومهمته جهاد نفسه ورياضيتها حتى تتزكي: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا *وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) [الشمس: 7 - 10].
والقرآن وسط في نظرته إلى حقيقة الإنسان بين النحل والمذاهب التي تقوم على اعتباره روحا علويا سجن في جسد أرضى، ولا يصفوا هذا الروح ولا يسمو إلا بتعذيب الإنسان جسدًا محضا، وكيانا ماديا صرفا لا يسكنه روح علوي، ولا يختص بأي نغمة سماوية.
أما الإنسان في القرآن فهو روح ومادة، لأن الله خلق الإنسان من تراب أو طين أو صلصال وكلها تشير إلى الأصل المادي لبدن الإنسان، ثم أودع الله في هذه الآية شيئا آخر، هو سر تميز الإنسان، ومنبع كرامته.
قال تعالى: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) [الحجر: 29].
والقرآن وسط في النظرة إلى الحياة بين الذين أنكروا الآخرة واعتبروا هذه الحياة الدنيا هي كل شيء، هي البداية والنهاية: (وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) [الأنعام: 29].
وبهذا غرقوا في الشهوات وعبدوا أنفسهم للماديات، ولم يعرفوا غرضا يسعون له غير المنافع الفردية الدنيوية الفانية، وهذا شأن الماديين في كل مكان وزمان، وبين الذين رفضوا هذه الحياة، وألغوا اعتبارها من وجودهم واعتبروها شرا يجب محاربته والتخلص منه، فحرموا على أنفسهم طيباتها؛ وزينتها، وفرضوا عليها الابتعاد عن أهلها، والانقطاع عن عمارتها والإنتاج لها.
فالقرآن اعتبر الحياتين، وجمع بين الحسنيين، وجعل الدنيا مزرعة للآخرة، والعمل في عمارتها عبادة لله، وأداء لرسالة الإنسان، وينكر على غلاة(1/446)
المتدينين تحريم الزينة والطيبات، كما ينكر على الآخرين انهماكهم في الترف والشهوات (1).
يقول الله في كتابه: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ) [محمد: 12]، ويقول تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْ) [الأعراف: 31 - 32].
ويذكر القرآن أن السعادة والحياة الطيبة في الدنيا من مثوبة الله لعباده المؤمنين فيقول:
(فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآَخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 148].
ويعلم المؤمنين هذا الدعاء الجامع لحسنتي الدارين: (وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].
_________
(1) انظر: الخصائص العامة في الإسلام (139).(1/447)
المبحث الثاني
القرآن الكريم والسنة النبوية مصدر الأخلاق الإسلامية
والأخلاق الإسلامية آداب ربانية: بمعنى أن الوحي الإلهي هو الذي وضع أصولها، وحدد أساسياتها، التي لا بد منها لبيان سمات الشخصية الإسلامية؛ حتى تظهر متكاملة متماسكة متميزة في مخبرها ومظهرها، عالمة بوجهتها وطريقها، وإذا التبست على غيرها المسالك واختلطت الدروب.
ولا غرو أن وجدنا القرآن الكريم ذاته يعتني ويهتم بتوضيح السمات الأساسية لخلق المسلم، من الإحسان بالوالدين، وخاصة إذا بلغا الكبر أو أحدهما، والإحسان بذوي القربي، ورعاية اليتيم، وإكرام الجار ذي القربي، والجار الجنب، والصاحب بالجنب، وابن السبيل والخدم، والعناية بالفقراء والمسالكين، وتحرير الرقاب، والصدق في القول، والإخلاص في العمل، وغض الأبصار، وحفظ الفروج، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، والتواصي بالرحمة، والدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأداء الأمانات إلى أهلها، واجتناب الموبقات من الشرك، والسحر، والقتل، والزنى، والسكر، والربا، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات المؤمنات، والتولي يوم الزحف، وغيرها من كبائر الإثم وفواحشه إلى غير ذلك من الأخلاق الإيجابية والسلبية والفردية والاجتماعية (1).
حتى أننا نجد القرآن يعلم المسلمين أدب المشى إذا مشوا: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) [لقمان: 19]، (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ) [الفرقان: 63]، (وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) [الإسراء: 37]، وأدب التزاور إذا تزاوروا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمُ وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [النور: 27 - 28].
_________
(1) انظر: الخصائص العامة في الإسلام (43).(1/448)
وأدب الجلوس إذا تجالسوا: (إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [المجادلة: 11].
فضلا عما زخرت به السنة من آداب تتعلق بالأكل والشرب، والباس والتجمل، والنوم واليقظة، والدخول والخروج، والسفر والعودة والتحية والاستئذان، حتى العطاس والتثاؤب وقضاء الحاجة أو قضاء الشهوة.
ثم إن المصدر الأساسي للإلزام الخلقي في الإسلام، ليسهو اللذة والمنفعة، ولا العقل ولا الضمير، ولا العرف ولا المجتمع ولا التصور ولا غير ذلك مما ذهبت إليه مدارس الفلسفة الخلقية، مثالية وواقعية، وإنما مصدر الإلزام، ومقياس الحكم الخلقي -في الأساس- هو الوحي الإلهي.
فالخير ما أمر الله به، والشر ما نهى الله عه، وبعبارة أخرى: الحسن ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبحه الشرع، وليس معنى هذا أن الشرع يأتي بتحسين ما قبحه العقل، أو تقبيح ما يحسنه، فلم يعرف ذلك في الأخلاق الإسلامية، ولا في الشريعة الإسلامية كلها فهي شريعة ملائمة للفطرة السليمة، وموافقة للعقل الرشيد.
ولا غرو أن أطلق القرآن على أصحاب الأخلاق الفاضلة (يَا أُولِي الألْبَابِ) كما عقب على بعض أوامره ونواهيه بمثل قوله: (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الأنعام: 151].
ولذلك تجد أن الأخلاق في الإسلام، لا تعتمد على مجرد الأمر الصارم، والتكليف التعبدي، بل تعتمد على مخاطبة العقول، واستثارة الضمائر، في أخلاق مفهومة معللة بالحكم، والمصالح المترتبة عليها في الدنيا والآخرة.
من مثل قوله تعالى في وصية لقمان لابنه:
(يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ(1/449)
عَزْمِ الأُمُورِ * وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) [لقمان: 17 - 19].
ومثل ذلك في الإسراء: (وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) [الإسراء: 37].(1/450)
المبحث الثالث
من وسطية القرآن في الأخلاق الشمولية
إن الأخلاق في القرآن الكريم لم تدع جانبا من جوانب الحياة الإنسانية: روحية، أو جسمية، دينية، أو دنيوية، عقلية أو عاطفية، فردية أو اجتماعية، إلا رسمت له المنهج الأمثل، للسلوك الرفيع، يختلف عما رسمه الناس في مجال الأخلاق باسم الدين وباسم الفلسفة، وباسم العرف أو المجتمع، حيث إن القرآن الكريم والسنة النبوية رسمت منهجا متكاملا شاملا واقعيا في مجال الأخلاق منسجما، متناسقا مع طبيعة الإنسان وإليك التفصيل كما جاء في الكتاب المبين.
1 - الأخلاق التي تتعلق بالفرد في كافة نواحيه:
أ- جسما له ضروراته وحاجاته.
قال تعالى: (وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف: 31].
ب- عقلا له مواهبه وآفاقه:
قال تعالى: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) [يونس: 101].
ج- ونفسا لها مشاعرها ودوافعها وأشواقها: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا *وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) [الشمس: 9 - 10].
2 - ومن أخلاق القرآن ما يتعلق بالأسرة:
أ- كالعلاقة بين الزوجين: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) [النساء: 119].
ب- وكالعلاقة بين الأبوين والأولاد:
(وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا) [الأحقاف: 15]، (وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا) و [الإسراء: 31].(1/451)
ج- كالعلاقة بين الأقارب والأرحام: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى) [النحل: 90]، (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) [الإسراء: 26].
3 - ومن أخلاق القرآن ما يتعلق بالمجتمع:
أ- في آدابه ومجاملاته، مثل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النور: 27].
ب- وفي اقتصاده ومعاملاته: (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) [المطففين: 1 - 3]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ) [البقرة: 282].
ج- وفي سياسته وحكمه: (إِنَّ اللهَ يَأمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) [النساء: 58].
4 - ومن أخلاق القرآن ما يتعلق بالكون الكبير:
من حيث إنه مجال التأمل والاعتبار والنظر والتفكر والاستدلال بما فيه من إبداع، وإتقان، على وجود مبدعه وقدرته، وعلى علمه وحكمته كما قال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُولِي الألْبَابِ
191.الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران: 190 - 191].
5 - وقبل ذلك كله وفوق ذلك كله ما يتعلق بحق الخالق العظيم -سبحانه وتعالى-: الذي منه كل النعم وله كل الحمد:
(الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ *إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ *اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة: 2 - 6].(1/452)
فهو وحده الحقيق بأن يحمد الحمد كله، وأن ترجي رحمته الواسعة، وأن يخشى عقابه العادل يوم الجزاء، وهو وحده الذي يستحق أن يعبد، ويستعان، وأن تطلب منه الهداية إلى الصراط المستقيم (1).
إن القرآن الكريم تنزيل من حكيم حميد عليم لذلك نظرته شاملة جامعة محيطة مستوعبة في كافة الأمور الأخلاقية وغيرها لأنه وحي من أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددًا.
_________
(1) انظر: الخصائص العامة في الإسلام (120).(1/453)
المبحث الرابع
ومن وسطية القرآن في الأخلاق الواقعية
إن منهج القرآن في الأخلاق واقعي، يراعي الطاقة المتوسطة المقدورة لجماهير الناس فاعترف بالضعف البشري، وبالدوافع البشرية، وبالحاجات الإنسانية؛ نفسية أو مادية لم يوجب القرآن الكريم ولا السنة النبوية على من يريد الدخول في الإسلام أن يتخلى عن ثروته وأمور معيشته، كما يحكي الإنجيل عن المسيح أنه قال لمن أراد اتباعه: بع مالك واتبعني، ولا قال القرآن ما قال الإنجيل: (إن الغني لا يدخل ملكوت السماوات حتى يدخل الجمل في سم الخياط).
1 - بل راعي الإسلام حاجة الفرد والمجتمع إلى المال، فاعتبره قواما للحياة، وأمر بتنميته والمحافظة عليه، وامتن القرآن بنعمة الغني والمال في غير موضوع، وقال الله لرسوله: (8. ... وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى) [الضحى: 8].
2 - ولم يجئ في القرآن ولا في السنة ما جاء في الإنجيل في قول المسيح: (أحبوا أعداءكم من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر .. ومن سرق قميصك فأعطه إزارك)، فقد يجوز هذا في مرحلة محدودة، ولعلاج ظرف خاص، ولكنه لا يصلح توجيها عاما خالدًا، لكل الناس في كل عصر، وفي كل بيئة، وفي كل حال، فإن مطالبة الإنسان العادي بمحبة عدوه، قد يكون شيئا فوق ما يحتمله، ولهذا اكتفى الإسلام بمطالبته بالعدل مع عدوه: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [المائدة: 8].
كما إن إدارة الخد الأيسر لمن ضرب الخد الأيمن، أمر يشق على النفوس، بل يتعذر على الناس أن يفعلوه، وربما جرأ الفجرة الأشرار على الصالحين الأخيار، وقد يتعين في بعض الأحوال ومع بعض الناس، أن يعاقبوا بمثل ما اعتدوا، ولا يعفى عنهم فيتبجحوا ويزدادوا بغيا وطغيانا.
ولهذا تجلت واقعية الإسلام حين شرع مقابله السيئة بمثلها بلا حيف ولا عدوان،(1/454)
فأقر بذلك مرتبة لعدل، ودرء العدوان ولكنه حث على العفو والصبر والمغفرة للمسيء على أن يكون مكرمة يرغب فيها، لا فريضة يلزم بها (1).
هذا واضح في مثل قوله تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [الشورى: 40].
وقوله تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ) [النحل: 126].
ومن وسطية القرآن في الأخلاق: أنها أقرت التفاوت الفطري والعملي بين الناس، فليس كل الناس في درجة واحدة من حيث قوة الإيمان، والالتزام بما أمر الله به من أوامر، والانتهاء عما نهى عنه من نواه والتقيد بالمثل العليا.
فهناك مرتبة الإسلام، ومرتبة الإيمان، ومرتبة الإحسان وهي أعلاهن، كما أشار إلى ذلك حديث جبريل المشهور، ولكل مرتبة أهلها. وهناك الظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق بالخيرات، كما أرشد إلى ذلك القرآن الكريم.
فالظالم لنفسه هو: المقصر، التارك لبعض الواجبات، المرتكب لبعض المحرمات.
والمقتصد هو: المقتصر على فعل الواجبات، وإن ترك المندوبات وعلى ترك المحرمات، وإن فعل المكروهات.
والسابق هو: الذي يزيد على فعل الواجبات، أداء السنن والمستحبات، وعلى ترك المحرمات وترك الشبهات، والمكروهات؛ بل ربما ترك بعض الحلال خشية الوقوع فيما يحرم أو يكره، وإلى هؤلاء يشير قوله تعالى في سورة فاطر: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) [فاطر: 32]، فالآية الكريمة تجعل هؤلاء الأصناف الثلاثة -على تفاوت مراتبهم- من الأمة التي اصطفاها الله من عباده، وأورثها الكتاب.
ومن وسطية الأخلاق في القرآن لم تتصور في أهل التقوى أن يكونوا سالمين من
_________
(1) الخصائص العامة في الإسلام (166).(1/455)
كل عيب، بعيدين عن كل ذنب، كأنهم هم ملائكة أطهار، بل قدرت حقيقة الإنسان وطبيعته البشرية، المركبة من الروح والطين، فإذا كانت الروح تعلو به مرة، فإن الطين يهبط به تارة، وفضل المتقين على غيرهم إنما في التوبة والرجوع إلى الله عند ارتكاب الذنوب.
قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران: 135].
ومن واقعية الأخلاق القرآنية التي تدل على وسطيته: أنها راعت الظروف الاستثنائية كالحرب، فأباحت من أجلها ما لا يباح في ظروف السلم كهدم المباني، وتحريف الأشجار ونحوها (1).
ومن وسطية القرآن في الجانب الأخلاقي جعل المولى -عز وجل- أمهات الأخلاق والفضائل واضحة في أذهان المسلمين، أمهات الفضائل التي أمر الشارع بها، وحث عليها معروفة غير منكورة، وأمهات الرذائل التي حذر الشرع منها، ونهى عنها، معلومة غير مجهولة.
فلا يجهل مسلم أن الله يأمر بالعدل والإحسان بالوالدين، وبذى القرى واليتامى، والمساكين، والجار ذي القربى، والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل. ولا يجهل مسلم أن الإسلام يبارك فضائل الصدق والأمانة، والوفاء، والصبر، والعفاف، والحياء، والسخاء، والشجاعة، والحلم، والإيثار، والتعاون على البر والتقوى.
ولا يجهل مسلم أن الله ينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، ولا يحب الفساد، ولا يحب الخائنين، وأن آية المنافق إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان، وأن من الكبائر الموبقات: أكل الربا، وأكل مال اليتيم.
ولا يجهل مسلم شناعة الجرائم التي فرض الله الحدود عقوبة عليها، مثل قتل(1/456)
النفس عمدًا، والسعي في الأرض فسادًا بقطع الطريق وترويع الآمنين، والسرقة والزنى، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وشرب الخمر.
وقبل ذلك كله لا يجهل مسلم قيمة العنصر الأخلاقي في الحياة، ومنزلته في الإسلام، حتى إن العبادات الإسلامية تهدف إلى ثمرات أخلاقية، فالصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر، والزكاة التي تؤخذ من الأغنياء تطهرهم وتزكيهم، والصوم تربية للإرادة، وتعليم للصبر، والحج تدريب على التحمل والبذل (1).(1/457)
المبحث الخامس
علاقة الأخلاق بالعقيدة والعبادة
إن المنهج الرباني الحكيم، يعرض الأخلاق ممزوجة بالعقائد والعبادات والأعمال الطيبة جميعها في سلك واحد ينتظم منه عقد جميل، يوضح لنا صفات المؤمن التقى البار الطيب، ونجد ما ذكرته في آيات سور شتى، ومن الأمثلة في القرآن الكريم على ما قلت قوله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة: 177].
وجمعت الآيات أمور العقيدة متمثلة في الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، وأمور في العبادة متمثلة في إيتاء المال على حبه وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وبين الأخلاق التي تتجلى في الوفاء والصبر.
المثال الثاني: قوله تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا * وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا * وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا *إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا * وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتابًا * وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا *وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا * أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَمًا) [الفرقان: 63 - 75].(1/458)
وقد جمعت الآيات السابقة الأخلاق والعبادة والاعتقاد.
إن علاقة الأخلاق بالعقيدة واضحة في كتاب الله، وقد بين -سبحانه وتعالى- الأخلاقيات الإيمانية التي ينبغي أن يكون عليها المؤمنون بلا إله إلا الله والأخلاقيات الجاهلية التي ينبغي أن ينبذها المؤمنون، والحقيقة أن التنديد (بأخلاقيات) الجاهلية قد بدأ من اللحظة الأولى، مع التنديد بفساد تصوراتهم الاعتقادية، واستمر معه حتى النهاية.
إن الأخلاق ليست شيئا ثانويا في هذا الدين، وليست محصورة في نطاق معين من نطاقات السلوك البشري، إنما هي ركيزة من ركائه، كما أنه شاملة للسلوك البشري كله كما أن المظاهر السلوكية كلها، ذات الصبغة الخلقية الواضحة، هي الترجمة العملية للاعتقاد والإيمان الصحيح، لأن الإيمان ليس مشاعر مكنونة في داخل الضمير فحسب ...
إنما هو عمل سلوكي ظاهر كذلك، بحيث يحق لنا حين لا نرى ذلك السلوك العملي أو حين نرى عكسه، أن نتساءل أين الإيمان إذن؟ وما قيمته إذا لم يتحول إلى سلوك؟ (1).
فمن وسطية القرآن في باب الأخلاق ربط الأخلاق بالعقيدة قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ *الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [المؤمنون: 1 - 11].
فالسورة تبدأ بتقرير الفلاح للمؤمنين بهذا التوكيد: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) ثم تصف هؤلاء المؤمنين ذلك الوصف المطول المفصل الذي يعني بإبراز الجانب الخلقي
_________
(1) انظر: دراسات قرآنية، لمحمد قطب (130).(1/459)
لأولئك المؤمنين، موحيا إيحاء واضحا أن هذه الأخلاقيات من جهة هي ثمرة الإيمان، وأن الإيمان -من جهة أخرى- هو سلوك ملموس يترجم عن العقيدة المكنونة.
إنهم بادئ ذي بدء خاشعون في صلاتهم، فذلك أول مظهر للمؤمن الصادق: أن تكون صلاته -وهي اللحظة التي يقف فيها متعبدا لربه، ذاكرا له في قلبه، متصلا به بروحه -تكون صلاته هذه خاشعة بما ينبئ عن صدق الصلة بالله، التي يرتفع نبضها وحرارتها في أثناء الصلاة ثم تثني الصورة بصفة سلوكية أخرى ذات دلالة، هي أنهم عن اللغو معرضون، فاللغو لا ينبئ عن نفس جادة. والإيمان الصحيح يورث النفس الجد، بما يشعرها من ثقل التكليف وجديته والجد ليس تقطيبا دائما ولا عبوسا، ولكن اللغو من جانب آخر لا يستقيم مع جدية الشعور بعظم الأمانة التي يحملها الإنسان أمام خالقه ثم إن هؤلاء المؤمنين لابد أن تكون في قلوبهم الحساسية لحق الله في أموالهم، وهو الزكاة.
ولابد أن يكونوا ملتزمين بأوامر الله في علاقات الجنس فلا يتعدون حدود الله وملتزمين بأوامره في علاقتهم (الاجتماعية) فيحفظون الأمانة ويرعون العهد. وبهذا يتضح أن الأخلاق ثمرة طبيعية للعقيدة الصحيحة، وكذلك العبادة الحية الخاشعة لله من ثمار العقيدة الصحيحة.
واتضح لنا أيضًا: أن القرآن يرسم لنا صورة تفصيلية للشخصية المؤمنة، فنجد العبادة أول معلم واضح فيها، فانظر كيف جعل الله في أوصاف المؤمنين، وأول وصف لهم الخشوع في الصلاة وآخر أوصافهم المحافظة عليها، ووصفهم بفعل الزكاة وهي عبادة، مع الفضائل الخلقية الأخرى.
ومن وسطية القرآن الكريم إبراز جانب العبادة أحيانا، وجانب الأخلاق أحيانا أخرى لمناسبات واعتبارات توجب هذا الإبراز ففي سورة الذاريات نجد العناية بالعبادة في وصف المتقين: (إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِّن اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) [الذاريات: 16 - 19].(1/460)
وفي سورة الرعد نجد العناية بالجانب الأخلاقي في وصف أصحاب العقول: (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلاَ يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد: 19 - 22].
ومع أن معظم الأوصاف هنا أخلاقية -لمناسبة أولى الألباب- مثل الوفاء والصلة والصبر والإنفاق ... لكن الملحوظ فيها أنها ليست مجرد أخلاق (مدنية) وإنما هي أخلاق ربانية أخلاق فيها معنى العبادة والتقوى، فهم إنما يوفون (بعهد الله) وإنما يصلون ما أمر الله به أن يوصل، وهم إنما يفعلون ويتركون لأنهم (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ) [وهم إنما يصبرون (ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) فهم في كل أخلاقهم وسلوكهم يرجون الله، ويرجون اليوم الآخر (1).
وخلاصة ما نقوله هنا:
أن العبادة عند المؤمن نوع من الأخلاق؛ لأنها من باب الوفاء لله، والشكر للنعمة، والاعتراف بالجميل، والتوفير لمن هو أهل التوقير والتعظيم، وكلها من مكارم الأخلاق عند الفضلاء من الناس.
من أجل ذلك نجد القرآن يعقب على أوصاف المؤمنين القانتين المطيعين لله بمثل هذه الآيات: (أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة: 177]، (أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [الحجرات: 15].
والصدق فضيلة خالصة، وإنما استحقوها -بل جعلت مقصورة عليهم- لأن أعلى مراتب الصدق، وأثبتها وأبقاها هو الصدق مع الله رب العالمين، وإذا كانت العبادة عند المؤمن لونا من الأخلاق المحمودة، فالأخلاق عنده لون من العبادة المفروضة.
_________
(1) انظر: العبادة في الإسلام، للشيخ القرضاوي حفظه الله ص (123).(1/461)
فهي - كما ذكرنا- أخلاق ربانية، باعثها الإيمان بالله، وحاديها الرجاء في الآخرة وغرضها رضوان الله ومثوبته، فهو يصدق الحديث، ويؤدي الأمانة، ويفي بالعهد، ويصبر في البأساء والضراء وحين البأس، ويغيث الملهف، ويعين الضعيف، ويرحم الصغير، ويوقر الكبير، ويرعى الفضيلة في سلوكه، كل ذلك ابتغاء وجه ربه، وطلبا لما عنده تعالى، وقد ذكرنا في ذلك آيات القرآن، وإليك ما وصف الله به الأبرار من عباده من البذل والرحمة والإيثار، إذ قال: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) [الإنسان: 8]، ثم يكشف القرآن عن حقيقة بواعثهم، وطوايا نفوسهم، فيقول معبرا عن لسانهم: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا) [الإنسان: 9 - 10].
ثم إن أخلاق المؤمن عبادة من ناحية أخرى، لأن مقياسه في الفضيلة والرذيلة، ومرجعه فيما يأخذ وما يدع هو أمر الله ونهيه فالضمير وحده ليس بمعصوم، وكم من أفراد وجماعات رضيت ضمائرهم بقبائح الأعمال (1).
والعقل وحده ليس بمأمون، لأنه محدود بالبيئة والظروف، ومتأثر بالأهواء والنزاعات، وفي الاختلاف الشاسع للفلاسفة الأخلاقيين في مقياس الحكم الخلقي دليل واضح على ذلك. والعرف لا ثبات له ولا عموم، لأنه يتغير من جيل إلى جيل، وفي الجيل الواحد من بلد إلى بلد، وفي البلد الواحد من إقليم إلى إقليم؛ ولذلك التجأ المؤمن إلى المصدر المعصوم المأمون الذي لا يضل ولا ينسى، ولا يتأثر ولا يجور، وذلك هو حكم الله: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة: 50].
إن الأخلاق في المفهوم القرآني شيء شامل يعم كل تصرفات الإنسان وكل أحاسيسه ومشاعره وتفكيره .. حتى الهاجس الذي يهجس داخل الضمير فهي ليست محدودة بمساحة معينة ولا بعمل معين .. ولا يوجد في الإسلام عمل واحد يمكن أن يخرج عن دائرة الأخلاق، فالصلاة - كما رأينا- لها أخلاق هي الخشوع، والكلام له أخلاق هي الإعراض عن اللغو، والجنس له أخلاق هي الالتزام
_________
(1) انظر: الإيمان والحياة، للقرضاوي (256).(1/462)
بحدود الله وحرماته، والتعامل مع الآخرين له أخلاق هي الوفاء بالأمانة ورعاية العهد، والإنفاق له أخلاق هي التوسط بين التقتير والإسراف، والحياة الجماعية لها أخلاق هي أن يكون الأمر شورى بين الناس، والغضب له أخلاق هي العفو والصفح، ووقوع العدوان من الأعداء يستتبعه أخلاق هي الانتصار أي رد العدوان ... وهكذا لا يوجد شيء واحد في حياة المسلم ليست له أخلاق تكيفه ولا شيء واحد ليست له دلالة أخلاقية مصاحبة.
هذا أمر .. والآمر الآخر -وهو الأهم- أن الأخلاق في المفهوم القرآني هي لله وليست للبشر، ولا لأحد غير الله: فالصدق لله، والوفاء بالعهد لله، واتقاء المحرمات في علاقات الجنس لله، والعفو والصفح لله، والانتصار من الظلم لله، وإتقان العمل لله كلها عبادة لله، تقدم لله وحده خشية وتقوى، وتطلعا إلى رضاه، إنها ليست صفقة بشرية للكسب والخسارة، إنما هي صفقة تعقد مع الله (1).
قال تعالى: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُم مِّنْ إِمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام: 151 - 153].
ذلك هو الميثاق الأخلاقي الشامل الذي يلتزم به المؤمن اتباعا لصراط الله المستقيم، فهو إذن جزء من العقيدة، مرتبط بها ارتباطا أساسيا لا ينفصل عنها بحال.
إن الصراط المستقيم هو عين الوسطية إن الأعمال الخلقية تدخل في جميع
_________
(1) انظر: دراسات قرآنية، لمحمد قطب (139).(1/463)
الجوانب، ويرتقي بها الوحي الإلهي إلى ذروة متفردة حين يجعلها دينان وعبادة، ومحلا لثواب الله تعالى؛ أو عقابه الأليم عند المخالفة.
وتأمل معي الآيات القادمات حتى تكون الصورة واضحة في الأذهان قال تعالى: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [النحل: 90 - 92].
فهذه أربعة من أصول الخير يأمر الله تعالى عباده أن يتخلقوا بها، ويقرنها بأربع من (خلائق السوء) التي تدمر الأفراد والمجتمعات فينهي أشد النهي عها، حتى قال ابن مسعود -رضي الله عنه- عن أول آية (هي أجمع آية في القرآن للخير والشر).
إن الله -عز وجل- أورد هذه الألفاظ الجامعة عل علم وحكمة، فيأمر بالعدل وهو ضد الجور، أو بمعنى الاعتدال والتوسط الجامع لمحاسن الصفات المتعارضة، أما الإحسان فهو مرتبة فوق العدل، إذ يراد به الفضل كأن يعفو عن حقه، أو يأخذ دون أجره، أو يؤثر على نفسه، أو يراد به الإتقان في سلوك الخير، واختيار الأحسن في الأخلاق، وكذلك (إيتاء ذي القربى) كلمة على غاية من الإيجاز والإعجاز فتشمل كل إيتاء كالبذل المالي، والتعهد بالسؤال، والمودة، واللقاء بالبشاشة، وغير ذلك من ضروب العطاء المادي، والمعنوي (والوفاء بالعهد)، خلق أساسي من أخلاق الفرد والجماعة لا تستقيم الحياة إلا به، وهو يدل على الإيمان، كما يدل نقيضه على النفاق والفسوق (1).
وأما الكلمات الموبقات هي: الفحشاء، والمنكر، والبغي، والنقض لم تترك من أمر القبائح شيئا بضروبها الفردية والاجتماعية، وما يتعلق بالنفس أو بالغير، ويتصل
_________
(1) انظر: المنهاج القرآني في التشريع (419).(1/464)
بالأعراض وما دونها، مما يحرص عليه الإنسان، ويتميز به عن سائر الحيوان بعديد من الأمور:
منها إسناد الأمر والنهي إلى ذاته العليا ترغيبا وترهيبا، ومنها التصريح بلفظ الأمر والنهي: (يأمر، وينهي) أو بصيغتهما: (وأوفوا) (ولا تنقضوا) مع ما أردفه من ذكر الوعظ -وهو النصيحة- ليحرك النفوس إلى الاستجابة، تلطفا منه في الاستدعاء، ومنها تذكيرهم بعلمه المحيط: (وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ).
ومنها إبراز النكث بالعهود على أبشع صورة، إذ يضرب له مثالا محسوسا يتقرر به النفوس على هيئته المنفردة، المشبهة بمرأة خرقاء تكد في الغزل كدا حتى تبرمه وتحكمه، ثم تعود فتنقضه نقضا وتجعله (أنكاثا) أي طاقات متفرقة، ومنها ختم الآيات بذكر القيامة وهو استخدام للعقيدة في موطنه، ليصل بالتأثير إلى أغوار النفس الإنسانية فتهتز للنصح الإلهي من أعماقها، وتكون في أرجى أحوالها امتثالا واستجابة.
وهكذا ترتفع الأخلاق إلى أعلى المراتب في استمدادها -أمرًا ونهيا-من الله العلي الكبير، فتصبح على مستوى العبادة العليا، وتحشد لها في الآيات كل وسائل التأكيد والتأثير حتى ضرب الأمثال رحمة منه تعالى لعباده، وحرصا على هدايته، واستنقاذهم من سوء الأخلاق، وسوء الأحوال وضمانا لاستقرارهم على وجه طيب في الحياة ... ولذلك ختمت الآيات بهذه المعاني البينة من قوله تعالى:
(وَلاَ تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النحل: 94].
والمعني:
لا تتخذوا أيمانكم وسيلة للغدر والفساد فتتزلزل قواعد القيم في المجتمع، وتنزلق أقدامكم إلى الشك والحيرة في علاقاتكم تبعا لذلك، بعد أن كانت ثابتة(1/465)
بثبات القيم الأخلاقية، ويصيبكم سوء الدنيا والآخرة لأنكم أعرضتم عن تعاليم ربكم (1).
وعلى العكس من ذلك قوله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل: 97]، وهو بيان لسنة الله تعالى الماضية في ضمان سعادة الدنيا لمن آمن وعمل صالحا وتخلق بأخلاق هذا المنهاج الإلهي العظيم، حيث تقوم الحياة الطيبة على الثقة، والطمأنينة، وعدم المكر والغدر، ولأجر الآخرة أزكي وأطيب على أن هذه الأصول المجملة الجامعة جاءت بالتفصيل في القرآن الكريم مع التحديد فمثلا:
أ- أمر الله تعالى بالعدل في الأقوال:
(وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) [الأنعام: 152]، والعدل في الحقوق والأموال وكتابة الدين: (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ) [النساء: 135]، وهذا عدل مع النفس والأولياء مهما تكن النتائج، وهو بذاته العدل الذي أمرنا به مع الخصوم والأعداء، وجعل من صميم الدين والعبادة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ) [المائدة: 8]. وغير ذلك.
ب- والفحشاء:
جاء تفصيلها في أمور مثل، الزنى: (وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً) [الإسراء: 32]، والنكاح الباطل: (وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلاً) [النساء: 22]، والعرى في الطواف: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا) [الأعراف: 28].(1/466)
ج- والوفاء بالعهود:
جاء تفصيله في عقد الإيمان والتوحيد: (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلاَ يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ) [الرعد: 20]، وفي عقد البيعة العامة أو الخاصة: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [الفتح: 10]، والمراد بيعة الإيمان، أو بيعة الجهاد والحرب.
وفي معاهدات الهدنة، أو المصالحة، أو الموادعة ونحوها قال تعالى: (إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) [التوبة: 4]، وختام الآية مؤذن بأن الوفاء بالعهد ولو مع المشركين هو من التقوى المستوجبة لحب الله تعالى. فهذه كلها أعمال خلقية تدخل في جميع جوانب الحياة ويرتقى بها الوحي الإلهي إلى ذروة متفردة حين يجعلها دنيا، وعبادة، ومحلا لثواب الله تعالى، أو عقابه الأليم عند المخالفة.
وتأمل معي أخي الحبيب الآيات القادمة التي هي من أجمع الآيات لنوعي الخلق المحمود والمذموم.
قال تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا * رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا * وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا * وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلا مَّيْسُورًا * وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَّشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا * وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا * وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً * وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا(1/467)
فَلاَ يُسْرِف فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا * وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً * وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ
وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً * وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً * وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا) [الإسراء: 23 - 38].
إن الله -سبحانه وتعالى-، قد جعل التوحيد، أي: إفراد الله بالعبادة على رأس هذا المنهج الخلقي الذي رسمته الآيات مدحًا وذما، لأن التوحيد له في الحقيقة جانب أخلاقي أصيل، إذ الاستجابة إلى ذلك ترجع إلى خلق العدل والإنصاف، والصدق مع النفس، كما أن الإعراض عن ذلك يرجع في الحقيقة إلى بؤرة سوء الأخلاق في المقام الأول، مثل الكبر عن قبول الحق، والاستكبار عن اتباع الرسل غرورا وأنفه، أو الولوع بالمراء والجدل بالباطل مغالبة وتطلعا للظهور، أو تقليدا وجمودًا على الإلف والعرف مع ضلاله وبهتانه، وكلها -وأمثالها- أخلاق سوء تهلك أصحابها، وتصدهم عن الحق بعد ما تبين، وعن سعادة الدارين من استيقان أنفسهم بأن طريق الرسل هو السبيل إليها.
والآيات بعد ذلك تذكر أنماطا خلقية متعددة الجوانب في شؤون الأسرة مثل بر الوالدين، وما جاء فيه من وصايا غاية في السمو، والإحسان والوفاء بالجميل، ومثل الأقارب والضعفاء، وفي شؤون المال والإنفاق بالنهي عن التبذير، والأمر بالاعتدال بين الشح المطبق والبسط المستغرق، وقد نفر الله عن التبذير بإضافته إلى شر الخلق:
(إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ) [الإسراء: 27]، ونفر من الحرص والإمساك عن الإنفاق بتصويره على أبشع مثال: (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ) [الإسراء: 29].
وتأمر الآيات الكريمة بخلق جميل غاية في السمو وهو الحرص على الكلمة الطيبة، والعدة الجميلة إذا لم يجد الإنسان من المال ما يسع به الناس: (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلا مَّيْسُورًا) [الإسراء: 28]، وهي وصية ذات(1/468)
أثر بالغ في إحسان العلائق بين الناس، بل ربما فضلوها على العطاء المادي خاصة إذا اقترن بالمن والأذى ثم تتحدث الآيات عن سوء الخلق بالبغي والاستطلة، وقساوة القلب، وجفاف الرحمة، وجمود العاطفة الكريمة، ويتمثل ذلك في مظهره الجنائي وهو القتل، وخاصة قتل الابنة الصغيرة.
نعم القتل جريمة جنائية تسلك في قانون العقوبات القصاصية، ولكنها هنا تعالج من زاويتها الأخلاقية التي تستهدف الوقاية، وتعمل على تغيير الإرادة، وتوجيهها وجهة صالحة بتحريم الفعل، وتجريمه، وإصلاح عقيدة صاحبه (نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم) [وبهدم القيم الاجتماعية الجائرة التي صنعت هذا المنكر، وسوغته بلا نكير وتنهي الآيات عن الزنى وهو بنفس المقياس جريمة خلقية أساسها البغي والاستطالة على الأعراض والحرمات، وإهدار العفاف والشرف، والاستهتار بكل كريم من القيم الإنسانية العليا، وتأمر الآيات وتنهي عن أمور مردها إلى خلق الأمانة أو الخيانة، والجد أو العبث، والتواضع العزيز أو الكبر الغرور.
فمن الأمانة حفظ مال اليتيم حتى يبلغ أشده، والوفاء بالعهد وتوفيه الكيل والميزان والخيانة أضدادها.
ومن الجد اشتغال الإنسان بما يعنيه، وعدم تتبعه ما ليس له به شأن ولا علم: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) [الإسراء: 36]. والعبث كل العبث اشتغال الإنسان بما نهي عنه.
ومن التواضع العزيز شعور الإنسان بحدوده، ومعرفته قدر نفسه فيضعها في مواضعها الصحيحة.
ومن الكبر والغرور ذلك التطاول المبنى على الجهل والطيش والحماقة: (وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) [الإسراء: 37].
ولأن هذه وصايا جامعة لكل ما يصلح شأن الإنسان ختمها الله تعالى بقوله الحكيم: (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ) [الإسراء: 39]، فسماها حكمة، والحكمة كما علمنا من أبرز ملامح الوسطية، وختمها بالدعوة إلى(1/469)
التوحيد والنهي عن الشرك كما بدأها لأن الإيمان بالله تعالى مفتاح كل خير وحافظه وحارسه، والكفر به مفتاح كل شر وباعثه ومحركه (1).
ومن وسطية القرآن الكريم وحكمته: أنه يصدر هذه الآيات الأخلاقية بتقرير: (التوحيد والعبودية) لله تعالى، وهذا بدوره تأكيد أساسي على حقائق وأصول هذا المنهاج القرآني، التي تتبع جميعها هذا المدخل التأسيسي وبذلك يتقرر.
أ- أن الله تعالى هو وحده مصدر الشرائع جميعا، وهو شارع القيم والمعايير الأخلاقية، والتي تنسجم مع الفطرة، وتوافق العقل الراجح.
ب- أن الأخلاق دين ملتزم به؛ بل هي أصل من أصول المنهاج الإلهي، وليست مجرد فضائل فردية، أو آداب اجتماعية، أو أذواق حضارية ... إلخ.
ج أن الأخلاق قيم أساسية في حياة البشر يبغي أن تحظى بالثبات والاستقرار، وبالتالي يمنع الطواغيت من التلاعب بها، أو تشكيلها حسب المصالح والأهواء والنظريات .. إلخ.
4 - وقد احتوى القرآن الكريم على العديد من الآداب الفذة التي تعطي اسمى التوجيهات في باب الفضائل، والآداب الفردية والاجتماعية والتي لم تبلغ سفح ذراها أرقى المجتمعات في أمم الحضارة قديمها وحديثها، وحقا إنهما كما وصفها ربنا: (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) [البقرة: 138].
فهذا جزء من الأخلاق القرآنية أردت به التمثيل وليس الاستقصاء، وفي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهديه مزيد من التفصيل والبيان، وإن هذا الخلق الإسلامي نمط فريد وعجيب، ليس له مقارب ولا نظير، لأنه من رب العالمين، وقد تفرد بأمور وخصائص زاد من قوتها واكتمالها وجودها مجتمعة على هذا الوجه المحكم ومنها:
أ- وجود المرجع الوافي للأخلاق في المنهاج الرباني متمثلا في الكتاب والسنة، وقد حددًا ما يحمد أو يذم.
_________
(1) انظر: المنهاج القرآني في التشريع (425).(1/470)
ب- وجود ما يضبط السلوك ويبعث على العمل، وهو رجاء الله والدار الآخرة.
ج- وجود القدوة العملية وهي من أسس التربية الخلقية، وقد تمثل ذلك بأوفى معانيه في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما قال تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم: 4]، ولذلك جعله قدوة المؤمنين وأسوتهم: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21]، وجعل أصحابه أنفسهم قدوة للعالمين: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران: 110].
أساليب التأثير والاستجابة والالتزام التي تحول الخلق من دائرة النظريات إلى صميم الواقع التنفيذي، والعمل التطبيقي سواء كانت اعتقادية كمراقبة الله تعالى، ورجاء الآخرة، أو عبادية كالشعائر التي تعمل على تربية الضمائر، وصقل الإرادات، وتزكية النفس. ومن هذه الحوافز الإلزامية ما يأتي من خارج النفس متمثل في:
أ- التشريع: الذي وضع لحماية القيم الخلقية كشرائع الحدود والقصاص التي تحمي الفرد والمجتمع من رذائل البغي على الغير: (بالقتل أو بالسرقة) وانتهاك الأعراض: (بالزنى، والقذف)، أو البغي على النفس وإهدار العقل: (بالخمر، والمسكرات المختلفة).
ب- سلطة المجتمع التي تقوم على أساس ما أوجبه الله تعالى من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتناصح بين المؤمنين، ومسؤولية بعضهم عن بعض، وقد جعل الله تعالى هذه المسؤولية قريبة الزكاة، والصلاة، وطاعة الله ورسوله:
(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 71].
بل جعلها المقوم الأصلي لخيرية هذه الأمة: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [آل عمران: 110].(1/471)
ج- سلطة الدولة التي يوجب قيامها، ويقيمها على أسس أخلاقية وطيدة، ويلزمها أن تقوم على رعاية هذه الأخلاق وتبثها في سائر أفرادها ومؤسساتها، وتجعلها من مهام وجودها ومبرراته.
وبذلك يجتمع للخلق الإسلامي أطراف الكمال كلها، ويصبح -حين يفيق المسلمون -نظاما واقعيا مثاليا في توازن عجيب نلمس منه أثر الالتزام بالمنهج الرباني (1).
_________
(1) انظر: المنهاج القرآني في التشريع (433).(1/472)
المبحث السادس
علاقة الأخلاق بالقصص القرآني
إن القصص القرآني غني بالمواعظ والحكم والأصول العقيدية، والتوجيهات الأخلاقية، والأساليب التربوية، والاعتبار بالأمم والشعوب، والقصص القرآني ليس أمورا تاريخية لا تفيد إلا المؤرخين، وإنما هي أعلى، وأشرف وأفضل من ذلك فالقصص القرآني مليء بالتوحيد، والعلم ومكارم الأخلاق، والحجج العقلية، والتبصرة والتذكرة، والمحاورات العجيبة.
وأضرب لك مثلا من قصة يسوف -عليه السلام- متأملا في جانب الأخلاق التي عرضت في مشاهدها الرائعة قال علماء الأخلاق والحكماء: (لا ينتظم أمر الأمة إلا بمصلحين، ورجال أعمال قائمين، وفضلاء مرشدين هادين، لهم شروط معلومة، وأخلاق معهودة؛ فإن كان القائم بالأعمال نبيا فله أربعون خصلة ذكروها، كلها آداب وفضائل بها يسوس أمته، وإن كان رئيسا فاضلا، اكتفوا من الشروط الأربعين ببعضها، وسيدنا يوسف -عليه السلام- حاز من كمال المرسلين وجمال النبيين، ولقد جاء في سيرته هذه ما يتخذه عقلاء الأمم هدى لاختيار الأكفاء في مهام الأعمال إذ قد حاز الملك والنبوة! ونحن لا قبل لنا بالنبوة لانقطاعها، وإنما نذكر ما يليق بمقام رئاسة المدينة الفاضلة، ولنذكر منها ثلاث عشرة خصلة هي أهم خصال رئيس المدينة الفاضلة لتكون ذكرى لمن يتفكر في القرآن، وتنبيها للمتعلمين الساعين للفضائل) (1).
أهم ما شرطه الحكماء في رئيس المدينة الفاضلة:
1 - العفة عن الشهوات، ليضبط نفسه وتتوافر قوته النفسية: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) [يوسف: 24].
2 - الحلم عند الغضب، ليضبط نفسه: (قَالُوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ) [يوسف: 77].
_________
(1) تفسير القاسمى: (9/ 310).(1/473)
3 - وضع اللين في موضعه، والشدة في موضعها: (وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ * فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلاَ تَقْرَبُونِ) [يوسف: 59 - 60]، والصدر للين والعجز للشدة.
4 - ثقته بنفسه بالاعتماد على ربه: (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [يوسف: 55].
5 - قوة الذاكرة ليمكنه تذكر ما غاب ومضى له سنون، ليضبط السياسات ويعرف للناس أعمالهم: (وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ) [يوسف: 58].
6 - جودة المصورة والقوة المخيلة حتى تأتي بالأشياء تامة الوضوح: (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) [يوسف: 4].
7 - استعداده للعلم، وحبه له، وتمكنه منه: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ) [يوسف: 38].
(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ) [يوسف: 101].
8 - شفقته على الضعفاء وتواضعه مع جلال قدره وعلو منصبه، فخاطب الفتيين المسجونين بالتواضع فقال: (يَا صَاحِبَيْ السِّجْنِ) [يوسف: 39]، وحادثهما في أمور دينهما ودنياهما بقوله: (لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ) [يوسف: 37]، والثاني بقوله: (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [يوسف: 37]، وشهدا له بقولهما: (إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف: 36].
9 - العفو مع القدرة: (قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [يوسف: 92].
10 - إكرام العشيرة: (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) [يوسف: 93].(1/474)
11 - قوة البيان والفصاحة بتعبير رؤيا الملك، واقتداره على الأخذ بأفئدة الراعي والرعية والسوقة، ما كان هذا إلا بالفصاحة المبنية على الحكمة والعلم: (فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ) [يوسف: 54].
12 - حسن التدبير: (فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ) [يوسف: 47]، ما أجمل القرآن، وما أبهج العلم.
إن هذا التأمل المطلوب يدلنا على مدى العلاقة بين الأخلاق، والقصص القرآني، ويتضح للقارئ أن من أهداف القصص القرآني التذكير بالأخلاق الرفيعة التي تفيد الفرد، والأسرة، والجماعة، والدولة، والأمة.
كما أن من أهداف القصص القرآني التنفير من الأخلاق الذميمة التي تكون سببا في هلاك الأمم والشعوب.
فهذا بعض الأخلاق الفاضلة التي استنبطت من سورة يوسف -عليه السلام-، جاءت لتربي الأمة، وتدلها على الاستقامة، وتضعها على الصراط المستقيم بحكمة واعتدال، وأرجو من الله تعالى أن أكون قد وفقت في بيان المنهج القرآني في باب الأخلاق الذي هو المنهج السوي لما يجب أن تكون عليه أخلاق المسلم ومعاملاته، بعيدًا عن الغلو الجفاء مصيبا للمنهج الوسط في هذا الموضوع المهم.(1/475)
المبحث السابع
خلق النبي -صلى الله عليه وسلم- القدوة المثلى
إن الله -سبحان الله- أكرم نبينا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بأخلاق رفيعة، قال تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم: 4]، قال ابن عباس ومجاهد: (لعلي دين عظيم، لا دين أحب إلي ولا ارضى عندي منه، وهو دين الإسلام) (1).
وقال الحسن -رضي الله عنه- (هو آداب القرآن) (2).
ومعنى الآية واضح أي: ما كان يأمر به من أمر الله، وينهى عنه من نهي الله، والمعنى إنك لعلى الخلق الذي آثرك الله به في القرآن (3).
وعن عائشة -رضي الله عنها- عندما سئلت عن خلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: "كان خلقه القرآن" (4).
وقد جمع الله تعالى لنبينا -صلى الله عليه وسلم- مكارم الأخلاق في قوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف: 199].
ولا ريب أن للمطاع من الناس ثلاثة أحوال:
أحدهما: أمرهم ونهيهم بما فيه مصلحتهم.
الثاني: أخذه منهم ما يبذلونه مما عليهم من الطاعة.
الثالث: أن الناس معه قسمان: موافق له مال، ومعاد له معارض، وعليه في كل واحد من هذا واجب.
فواجبه في أمرهم ونهيهم: أن يأمر بالمعروف، وهو المعروف الذي به صلاحهم وصلاح شأنهم، وينهاهم عن ضده.
_________
(1) تهذيب مدارج السالكين: (2/ 653)، لعبد المنعم صالح العزي.
(2) تهذيب مدارج السالكين (2/ 653).
(3) المرجع السابق، (2/ 653).
(4) انظر: تفسير الطبري (14/ 18).(1/476)
وواجبه فيما يبذلونه له من الطاعة: أن يأخذ منهم ما سهل عليهم، وطوعت له به أنفسهم سماحة واختيارا ولا يحملهم على العنت والمشقة فيفسدهم.
وواجبه عند جهل الجاهلين عليه الإعراض عنهم، وعدم مقابلتهم بالمثل والانتقام منهم لنفسه، فقد قال الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف: 199].
قال مجاهد في معنى الآية: يعني خذ العفو من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تخسيس، مثل قبول الأعذار، والعفو المساهلة، وترك الاستقصاء في البحث، والتفتيش عن حقائق بواطنهم (1).
قال ابن عباس في قوله: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ) [الأعراف: 199]، وهو كل معروف وأعرفه التوحيد، ثم حقوق العبودية وحقوق العبيد (2). ثم قال تعالى: (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف: 199]، يعني إذا سفه عليك الجاهل فلا تقابله بالسفه، كقوله تعالى: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا) [الفرقان: 63].
وهكذا كان خلقه -صلى الله عليه وسلم-: قال أنس -رضي الله عنه-: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس خلقا" (3).
وقال: "ما مست ديباجا ولا حريرا ألين من كف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا شممت رائحة قط أطيب من رائحة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولقد خدمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين، فما قال لي قط: أف، ولا قال لشيء فعلته، لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا؟ " (4).
وأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أن البر هو حسن الخلق"، عن النواس بن سمعان -رضي الله عنه- قال: "سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن البر والإثم؟ فقال: البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس" (5).
_________
(1) تهذيب مدارج السالكين: (2/ 653).
(2) المرجع السابق (2/ 655).
(3) صحيح البخاري، كتاب الآداب، باب الكنية للصبي، (7/ 124) رقم (620.3).
(4) صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب صفة النبي -صلى الله عليه وسلم- (4/ 201 رقم 3561) ومسلم في (2330).
(5) رواه الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في البر والإثم (4/ 515 رقم 2389).(1/477)
فقابل البر بالإثم، وأخبر أن البر حسن الخلق، والإثم حواز الصدور، وهذا يدل على أن حسن الخلق الدين كله، وهو حقائق الإيمان، وشرائع الإسلام، ولهذا قابله بالإثم (1).
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يربي أصحابه على حسن الخلق ويحثهم عليه ولذلك نجد كثيرا من الأحاديث في فضل حسن الخلق:
فعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق وإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء" (2).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: تقوى الله، وحسن الخلق، وسئل عن أكثر من يدخل الناس النار؟ فقال: الفم والفرج" (3).
وعن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- "إن من أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائكم" (4).
وعن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم" (5).
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه" (6).
فجعل البيت العلوي جزاء لأعلى المقامات الثلاثة وهي حسن الخلق، والأوسط
_________
(1) تهذيب مدارج السالكين: (2/ 655).
(2) رواه الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في حسن الخلق (4/ 319 رقم 2002).
(3) رواه الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في حسن الخلق (4/ 319 رقم 2004).
(4) رواه الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في استكمال الإيمان (5/ 10 رقم 2612).
(5) رواه أبو داود، كتاب الأدب، باب ما في حسن الخلق (4/ 252 رقم 4798).
(6) رواه الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في المرء (4/ 315 رقم 1993).(1/478)
لأوسطها وهو ترك الكذب، والأدنى لأدناها وهو ترك المماراة وإن كان معه حق، ولا ريب أن حسن الخلق مشتمل على هذا كله". (1)
وعن جابر -رضي الله عنهما-، عنه -صلى الله عليه وسلم-: "إن من أحبكم إلي، وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون، قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارون والمشتدقون، فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون" (2).
الثرثار: هو كثير الكلام بغير فائدة دينية.
والمتشدق: المتكلم بملء فيه تفاصحا وتعاظما وتطاولا، وإظهارًا لفضله على غيره، والمتفيهق: وأصله: من الفهق، وهو الامتلاء (3).
_________
(1) تهذيب مدارج السالكين: (2/ 657).
(2) رواه الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في معالي الأخلاق (4/ 305 رقم 2018).
(3) تهذيب مدارج السالكين: (3/ 657).(1/479)
المبحث الثامن
نظرة العلامة ابن القيم إلى حسن الخلق
إن ابن القيم -رحمه الله- تتميز في كتابته عن غيره في باب الأخلاق والتزكية واشتهر بقوة حجته ودليله في عرضه للمسائل وله كلام نفيس جميل في حسن الخلق، فتكلم عن الأخلاق الأساسية التي استنبطها من القرآن الكريم والسنة النبوية، وجعلها أركانا لازمة لحسن الخلق، وبين أن منشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأركان. فقال -رحمه الله-: "وحسن الخلق يقوم على أربعة أركان، لا يتصور قيام ساقه إلا عليها: الصبر، والعفة، والشجاعة، والعدل".
فالصب يحمله على الاحتمال وكظم الغيظ، وكف الأذى، والحلم والأناة والرفق، وعدم الطيش والعجلة.
والعفة تحمله على اجتناب الرذائل والقبائح من القول والفعل، وتحمله على الحياء، وهو رأس كل خير، وتمنعه من الفحشاء، والبخل، والكذب، والغيبة، والنميمة.
والشجاعة تحمله على عزة النفس، وإيثار معالي الأخلاق والشيم، وعلى البذل والندى، الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته، وتحمله على كظم الغيظ والحلم، فإنه بقوة نفسه وشجاعتها يمسك عنانها، ويكبحها بلجامها عن النزع والبطش، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" (1).
وهو حقيقة الشجاعة وهي ملكة يقتدر بها العبد على قهر خصمه.
والعدل يحمله على اعتدال أخلاقه، وتوسطه فيها طرفي الإفراط والتفريط، فيحمله على خلق الجود والسخاء الذي هو توسط بين الذل والقحة، وعلى خلق
_________
(1) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب (7/ 129، رقم 6114).(1/480)
الشجاعة، الذي هو توسط بين الجبن والتهور، وعلى خلق الحلم، الذي هو توسط بين الغضب والمهانة وسقوط النفس. ومنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة (1).
ومن كلام ابن القيم يتضح لنا أن التوسط أحد أركان أربعة يقوم عليه حسن الخلق، وهي الصبر، والعفة، والشجاعة، والتوسط، والتوسط عبر عنه ابن القيم بلفظ العدل الذي يحمل الإنسان على اعتدال أخلاقه، وتوسطه فيها بين طرفي الإفراط والتفريط، وإنما كان للتوسط هذه المكانة الجليلة، لأن كل خلق محمود مكتنف بخلقين ذميمين، وهو وسط بينهما، وطرفاه خلقان ذميمان، كالجود: الذي يكتنفه خلقا البخل والتبذير. والتواضع: الذي يكتنفه خلقا الذل والمهانة، والكبر والعلو فإن النفس متى انحرفت عن التوسط انحرفت إلى أحد الخلقين الذميمين ولا بد، فإذا انحرفت عن خلق التواضع انحرفت إما إلى قحة وجرأة، وإما إلى عجز وخور ومهانة، بحيث يطمع في نفسه عدوه، ويفوته كثير من مصالحه، ويزعم أن الحامل له على ذلك الحياء، وإنما هو المهانة والعجز وموت النفس.
وكذلك إذا انحرفت عن خلق الصبر المحمود، انحرفت إما إلى جزع وهلع وجشع وتسخط، وإما إلى غلظة كبد، وقسوة قلب، وتحجر طبع. وإذا انحرفت عن خلق الحلم انحرفت إما إلى الطيش والترف والحدة والخفة، وإما إلى الذلة والمهانة والحقارة ففرق بين من حلمه حلم ذل ومهانة وحقرة وعجز، وبين من حلمه حلم اقتدار وعزة وشرف، كما قيل:
كل حلم أتى بغير اقتدار ... حجة لاجي إليه اللئام
وإذا انحرفت عن خلق الأناة والرفق انحرفت إما إلى عجلة وطيش وعنف، وإما إلى تفريط وإضاعة، والرفق والأناة بينهما، وإذا انحرفت عن خلق الشجاعة
_________
(1) تهذيب مدارج السالكين (2/ 658)(1/481)
انحرفت إما إلى تهور وإقدام غير محمود، وإما إلى جبن وتأخر مذموم، وإذا انحرفت عن خلق المنافسة في المراتب العالية والغبطة، انحرفت إما إلى حسد، وإما إلى مهانة، وعجز وذل ورضا بالدون.
وإذا انحرفت عن القناعة انحرفت إما إلى حرص وكلب وإما إلى خسة ومهانة وإضاعة، وإذا انحرفت عن خلق الرحمة انحرفت إما إلى قسوة، وإما إلى ضعف قلب وجبن نفس، كمن لا يقدم على ذبح شاة، ولا إقامة حد، وتأديب ولد، ويزعم أن الرحمة تحمله على ذلك، وقد ذبح أرحم الخلق -صلى الله عليه وسلم- بيده في موضع واحد ثلاثا وستين بدنة، وقطع الأيدي من الرجال والنساء، وضرب الأعناق، وأقام الحدود ورجم بالحجارة حتى مات المرجوم، وكان أرحم خلق الله على الإطلاق وأرافهم.
وكذلك طلاقة الوجه والبشر المحمود، فإنه وسط بين التعبيس والتقطيب وتصغير الخد، وطي البشر عن البشر، وبين الاسترسال بذلك مع كل أحد، بحيث يذهب الهيبة، ويزيل الوقار، ويطمع في الجانب، كما أن الانحراف الأول يوقع الوحشة والبغضة، والنفرة في قلوب الخلق.
وصاحب الخلق الوسط: مهيب محبوب، عزيز جانبه، حبيب لقاؤه (1) وفي صفة نبينا -صلى الله عليه وسلم- " من رآه بديهة هابه، ومن خالطه عشرة أحبه" (2).
_________
(1) تهذيب مدارج السالكين (2/ 661).
(2) رواه الترمذي، كتاب المناقب، باب في صفة النبي -صلى الله عليه وسلم- (5/ 559)، رقم (3638).(1/482)
المبحث التاسع
أخلاق جميلة
1 - الصبر:
إن القرآن الكريم دفعنا وحثنا على الالتزام بمكارم الأخلاق، والحرص على التخلق بالخلق الحسن ومن أهم هذه الأخلاق الصبر.
إن الصبر خلق محمود، وهو فضيلة بين رذيلتين، فإذا انحرف الإنسان عن الصبر إما أن يقع في جزع وهلع وجشع وتسخط، وإما أن يقع في غلظة كبد، وقسوة قلب، وتحجر طبع، والصبر من أبرز الأخلاق القرآنية التي عنى بها الكتاب العزيز في سوره المكية والمدنية.
يقول الغزالي (1) في كتاب الصبر والشكر من (ربع المنجيات) من كتاباه (إحياء علوم الدين) (ذكر الله تعالى الصبر في القرآن في نيف وسبعين موضعا) (2).
وينقل العلامة ابن القيم في (مدارج السالكين عن الإمام أحمد قوله: (الصبر في القرآن في نحو تسعين موضعا).
وترجع عناية القرآن البالغة بالصبر، إلى ما له من قيمة كبيرة دينية وخلقية، فليس هو من الفضائل الثانوية أو المكملة، بل هو ضرورة لازمة للإنسان ليرقى ماديا ومعنويا ويسعد فرديا واجتماعيا، فلا ينتصر دين، ولا تنهض دنيا إلا بالصبر، فالصبر ضرورة دنيوية كما هو ضرورة دينية، فلا نجاح في الدنيا ولا فلاح في الآخرة إلا بالصبر في الدنيا، لا تتحقق الآمال، ولا تنجح المقاصد، ولا يؤتى عمله أكله إلا بالصبر، فمن صبر ظفر، ومن عدم الصبر فلم يظفر بشيء لولا صبر الزارع على بذره ما حصد، ولولا صبر المقاتل في ساحة الوغي ما انتصر، وهكذا كل الناجحين
_________
(1) هو محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي أبو حامد المشهو بحجة الإسلام، له مائتي مصنف، ولد سنة 450 هـ، توفى سنة 505 هـ، شذرات الذهب، (3/ 10) وسير أعلام النبلاء (19/ 322).
(2) تهذيب مدارج السالكين (2/ 557).(1/483)
في الدنيا حققوا آمالهم بالصبر، استمرءوا المر، واستعذبوا العذاب، واستهانوا بالصعاب، ومشوا على الشوك، وحفروا الصخور بالأظافر، ولم يبالوا بالأحجار تقف في طريقهم، والطعنات تغرس في ظهورهم، وبالشراك تنصب للإيقاع بهم، وبالكلاب تنبح من حولهم، بل مضوا في طريقهم غير وانين ولا متوقعين مغضي الأعين على القذى، ساحبين الذيول على الأذى، متذرعين بالعزيمة، مسلحين بالصبر، وما أصدق قول الشاعر:
وقل من جد في أمر يحاوله ... واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر (1)
والصبر واجب بإجماع الأمة، وهو نصف الإيمان، فإن الإيمان نصفان:
نصف صبر، ونصف شكرن وقد ذكر في القرآن الكريم على ستة عشر نوعا:
الأول: الأمر به، نحو قوله تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ) [البقرة: 45].
الثاني: النهي عن ضده، كقوله: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ) [الأحقاف: 35].
الثالث: الثناء على أهله، كقوله تعالى: (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ) [آل عمران: 17]. وقوله: (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة: 177].
الرابع: إيجابه سبحانه محبته لهم، كقوله (وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [آل عمران: 146].
الخامس: إيجاب معيته لهم، وهي معية خاصة، تتضمن حفظهم ونصرهم وتأييدهم ليس معية عامة، وهي معية العلم، والإحاطة كقوله.
(فَإِن يَكُن مِّنْكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 249].
السادس: إخباره بأن الصبر خير لأصحابه، كقوله: (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ) [النحل: 96].
_________
(1) انظر: الصبر في القرآن، للشيخ القرضاوي، حفظه الله، (15).(1/484)
السابع: إيجاب الجزاء لهم بأحسن أعمالهم، كقوله تعالى: (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل: 96].
الثامن: إيجابه سبحانه الجزاء لهم بغير حساب، كقوله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10].
التاسع: إطلاق البشرى لأهل الصبر، كقوله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 155].
العاشر: ضمان النصر والمدد لهم، كقوله تعالى: (بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ) [آل عمران: 125].
الحادي عشر: الإخبار منه تعالى بأن أهل الصبر هم أهل العزائم، كقوله تعالى: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) [الشورى: 43].
الثاني عشر: الإخبار أنه ما يلقي الأعمال الصالحة وجزاءها والحظوظ العظيمة إلا أهل الصبر، كقوله تعالى: (وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ) [القصص: 80]، وقوله تعالى: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت: 35].
الثالث عشر: لإخبار أنه إنما ينتفع بالآيات والعبر أهل الصبر، كقوله تعالى: (فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) [سبأ: 19].
الرابع عشر: الإخبار بأن الفوز بالمحبوب، والنجاة من المكروه المرهوب ودخول الجنة، إنما نالوه بالصبر، كقوله تعالى: (وَالْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد: 23 - 24].
الخامس عشر: أنه يورث صاحبه درجة الإمامة، قال ابن القيم -رحمه الله-: "سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: يقول: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، ثم تلا قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة: 24].(1/485)
السادس عشر: اقترانه بمقامات الإسلام، والإيمان، كما قرنه الله سبحانه باليقين وبالإيمان، وبالتقوى، والتوكل، وبالشكر، والعمل الصالح والرحمة.
ولهذا كان الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له، كما أنه لا جسد لمن لا رأس له، وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- "خير عيش أدركناه بالصبر"، وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه: "من يتصبر يصبره الله" (1).
وفي الحديث الصحيح: "عجبا لأمر المؤمن: إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له (2)، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له، وأمر عند ملاقاة العدو بالصبر، وأمر بالصبر عند المصيبة، وأخبر: "أنه يكون عند الصدمة الأولى" (3).
أرفع الصبر ما كان اختيارًا "والصبر" في اللغة: الحبس والكف، ومنه قتل فلان صبرا: إذا أمسك وحبس، ومنه قوله تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الكهف: 28]. أي أحبس نفسك معهم (4).
فالصبر حبس النفس عن الجزع والتسخط، وحبس اللسان عن الشكوي، وحبس الجوارح عن التشويش، وهو ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، صبر عن معصية الله، وصبر على امتحان الله، فالأولان: صبر على ما يتعلق بالكسب، والثالث: صبر على ما لا كسب للعبد فيه (5).
وكان صبر يوسف عن مطاوعة امرأة العزيز على شأنها أكمل من صبره على إلقاء إخوته له في الجب، وبيعه وتفريقهم بينه وبين أبيه، فإن هذه أمور جرت عليه بغير اختيار لا كسب له فيها، ليس للعبد فيها غير الصبر، وأما صبره عن المعصية فصبر اختيار ورضا، ومحاربة للنفس (6).
_________
(1) صحيح البخاري، كتاب الرقاق، (7/ 234، رقم 6470).
(2) رواه مسلم (2999).
(3) صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب الصبر عن الصدمة الأولى (2/ 105 رقم 1302).
(4) تهذيب مدارج مسالكين: (2/ 561).
(5) تهذيب مدارج مسالكين: (2/ 561).
(6) تهذيب مدارج مسالكين: (2/ 562).(1/486)
والصبر على أداء الطاعات أكمل من الصبر على اجتناب المحرمات، فإن معصية فعل الطاعة أحب إلى الشارع من مصلحة ترك المعصية، ومفسدة عدم الطاعة أبغض إليه وأكره من مفسدة وجود المعصية، والصبر على طاعته -سبحانه وتعالى-، والصبر عن معصيته: أكمل من الصبر على أقداره.
لأن صبر الطاعة والابتعاد عن المعصية، صبر اختيار وإيثار ومحبة، وصبر نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام، على ما نالهم في الله باختيارهم وفعلهم، ومقاومتهم قومهم: أكمل من صبر أيوب على ما ناله في الله من ابتلائه وامتحانه بما ليس سببا عن فعله.
وكذلك صبر إسماعيل الذبيح، وصبر أبيه إبراهيم -عليه السلام- على تنفيذ أمر الله أكمل من صبر يعقوب على فقد يوسف، وبهذا يتضح أن هذا الصبر أكمل من الصبر على ابتلائه، والصبر على طاعته والصبر عن معصيته أكمل من الصبر على قضائه وقدره (1).
2 - الحياء:
إن خلق الحياء فضيلة بين رذيلتين، فمن انحرف عن الحياء إما أنا يقع في الجرأة والوقاحة، وإما أن يقع في العجز والخور والمهانة، وحقيقة الحياء، خلق يبعث على ترك القبائح، ويمنع من التفريط في حق صاحب الحق (2).
ويحدث الحياء للعبد من ربه، إذا أيقن بأن الله عالم به، رقيب عليه، لا تخفى عليه خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وقد جاءت الأحاديث في فضل الحياء وحث المسلمين عليه قال تعالى: (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى) [العلق: 14].
وقوله تعالى: (إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
وقوله تعالى: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر: 19].
_________
(1) تهذيب مدارج مسالكين: (2/ 574).
(2) تهذيب مدارج مسالكين: (2/ 621).(1/487)
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: مر برجل وهو يعظ أخاه في الحياء، فقال: "دعه، فإن الحياء من الإيمان" (1).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "الإيمان بضع وسبعون شعبة - أو بضع وستون شعبة- فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان" (2).
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنه قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشد حياء من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئا يكرهه عرفناه في وجهه" (3).
وفي الصحيح عنه -صلى الله عليه وسلم-: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت" (4).
وفي الترمذي مرفوعا، "استحيوا من الله حق الحياء، قالوا: إنا نستحيي يا رسول الله، قال: ليس ذلكم، ولكن من استحيي من الله حق الحياء، فليحفظ الرأس وما وعي، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيي من الله حق الحياء" (5).
وقد بين ابن القيم -رحمه الله-: (أن قوة خلق الحياء وقلة الحياء على حسب حياة القلب من قوة وحياة أو موت وضعف، وكلما كان القلب أحيي كان الحياء أتم) (6).
ومن علامات الشقاوة: قلة الحياء، وجمود العين، وقسوة القلب، والرغبة في الدنيا، وطول الأمل.
أنواع الحياء:
وقد قسم الحياء على عشرة أوجه: حياء جناية، وحياء تقصير، وحياء إجلال،
_________
(1) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب الحياء، (7/ 130، رقم 6118).
(2) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب أمور الإيمان، (1/ 10، رقم 9).
(3) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب الحياء، (7/ 130 رقم 619).
(4) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب إذا لم تستح فاصنع ما شئت. (7/ 31 رقم 6120).
(5) رواه الترمذي في كتاب صفة القيامة، باب (24: 4/ 550 رقم 2458).
(6) تهذيب مدارج السالكين (2/ 620).(1/488)
وحياء كرم، وحياء حشمة، وحياء استصغار للنفس واحتقار لها، وحياء محبة، وحياء عبودية، وحياء شرف وعزة، وحياء المستحي من نفسه.
فأما حياء الجنابة فمنه حياء آدم -عليه السلام- لما فر هاربا في الجنة، قال الله تعالى: أفرارًا مني يا آدم؟ قال: لا يا رب بل حياء منك.
وحياء التقصير: كحياء الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فإذا كان يوم القيامة قالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك.
وحياء الإجلال: هو حياء المعرفة، على حسب معرفة العبد بربه يكون حياؤه منه.
وحياء الكرم: كحياء النبي -صلى الله عليه وسلم- من القوم الذين دعاهم إلى وليمة زينب -رضي الله عنها- وأطالوا الجلوس عنده، فقام واستحى أن يقول لهم: انصرفوا.
وحياء الحشمة: كحياء علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أن يسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المذي لمكان ابنته منه.
وحياء الاستحقار، واستصغار النفس: كحياء العبد من ربه -عز وجل-: حين يسأله حوائجه، واحتقارا لشأن نفسه، واستصغار لها.
وقد يكون لهذا النوع سببان:
أحدهما: استحقار السائل نفسه، واستعظام ذنوبه وخطاياه.
الثاني: استعظام مسؤوله.
وأما حياء المحبة: فهو حياء المحبة من محبوبه، حتى إنه إذا خطر على قلبه في غيبته هاج الحياء من قلبه، وأحس به في وجهه، ولا يدري ما سببه، وكذلك يعرض للمحب عند ملاقاته محبوبه، ومفاجأته له روعة شديدة.
وأما حياء العبودية: فهو حياء ممتزج من محبة وخوف، ومشاهدة عدم صلاح عبوديته لمعبوده، وأن قدره أعلى وأجل منها، فعبوديته له توجب استحياءه منه لا محالة.(1/489)
وأما حياء الشرف والعزة: فحياء النفس العظيمة الكبيرة إذا صدر منها ما هو دون قدرها من بذل أو عطاء وإحسان فإنه يستحيي مع بذله.
حياء شرف نفس وعزة، وهذا له سببان:
أحدهما: هذا، والثاني، استحياؤه من الآخذ، حتى كأنه هو الآخذ السائل حتى إن بعض أهل الكرم لا تطاوعه نفسه بمواجهته لمن يعطيه حياء منه، وهذا يدخل في حياء اللوم، لأنه يستحيي من خجلة الآخذ.
وأما حياء المرء من نفسه: فهو حياء النفوس الشريفة العزيزة الرفيعة من رضاها لنفسها بالنقص، وقناعتها بالدون، فيجد نفسه مستحيا من نفسه، حتى كأن له نفسي، يستحي بإحداهما من الأخرى، وهذا هو أكمل ما يكون من الحياء، فإن العبد إذا استحى من نفسهن فهو بأن يستحي من غيره أجدر (1).
إن الصبر والحياء من ثمرات الإيمان الصحيح وتحقيق التوحيد لله رب العالمين.
3 - التواضع:
إن التواضع فضيلة بين رذيلتين، فإذا انحرف العبد عن التواضع إما أن يقع في الكبر والعلو، وإما أن يقع في ذل ومهانة وحقارة، قال تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ) [الفرقان: 63]، أي سكينة ووقارا متواضعين، غير أشرين، ولا مرحين ولا متكبرين، قال الحسن: علماء حلماء (2).
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَّرْتَدَّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) [المائدة: 54]، لما كان الذل منهم ذل رحمة وعطف وشفقة وإخبات عداه بأداة (علي) تضمنيا لمعاني هذه الأفعال، فإنه لم يرد به ذل الهوان الذي صاحبه ذليل، وإنما هو ذل اللين والانقياد الذي صاحبه ذلول.
وقوله تعالى: (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) هو من عزة والقوة والمنعة والغلبة، قال عطاء -
_________
(1) أخرجه ابن ماجه، كتاب الزهد، باب البراءة من الكبر (4/ 1399 رقم 4179).
(2) صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب: وتقول هل من مزيد (6/ 56 رقم 4850).(1/490)
رضي الله عنه- للمؤمنين كالوالد لولده، وعلى الكافرين كالسبع على فريسته، كما قال في الآية الأخرى: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح: 29].
وفي صحيح مسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم-:"إن الله أوحي إلي أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد" (1).
وفي البخاري عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أن النار قالت: ما لي لا يدخلني إلا الجبارون، والمتكبرون؟ وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم" (2).
من تواضع النبي -صلى الله عليه وسلم-:
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يمر على الصبيان فيسلم علهم، وكانت الأمة تأخذ بيده -صلى الله عليه وسلم- فتنطلق به حيث شاءت وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أكل لعلق أصابعه الثلاث، وكان يكون في بيته في خدمة أهله، ولم يكن ينتقم لنفسه قط، وكان -صلى الله عليه وسلم- يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويحلب الشاة لأهله ويعلق البعير، ويأكل مع الخادم، ويجالس المساكين، ويمشى مع الأرملة واليتيم في حاجتهما، ويبدأ من لقيه بالسلام، ويجيب دعوة من دعاه، ولو إلى أيشر شيء.
وكان -صلى الله عليه وسلم- هين المؤنة، لين الخلق كريم الطبع، جميع المعاشرة طلق الوجه، بساما، متواضعا من غير ذلة، جوادًا من غير سرف، رقيق القلب، رحيما بكل مسلم، خافض الجناح للمؤمنين، لين الجانب لهم (3).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا أخبركم بمن يحرم على النار؟ أو تحرم عليه النار، تحرم على كل قريب هين لين سهل" (4).
_________
(1)
(2) تهذيب مدارج السالكين (2/ 680).
(3) رواه الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق، باب (45: 4/ 564 رقم 2488).
(4) صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب من أجاب إلى كراع (6/ 175 رقم 5177).(1/491)
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لو دعيت إلى ذراع -أو كراع- لأجبت، ولو أهدي إلى ذراعا -أو كراعا- لقبلت" (1).
وكان -صلى الله عليه وسلم- يعود المريض، ويشهد الجنازة، ويركب الحمار، ويجيب دعوة العبد، وكان يوم قريظة على حمار مخطوم بحبل ليف (2).
من مواقف السلف في التواضع:
قال عروة بن الزبير -رضي الله عنهما-: رأيت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- على عاتقه قربة ماء فقلت: يا أمير المؤمنين، لا ينبغي لك هذا، فقال: لما أتاني الوفود سامعين مطيعين، دخلت نفسي نخوة، فأردت أن أكسرها (3).
وولي أبو هريرة -رضي الله عنه- إمارة مرة، فكان يحمل حزمة الحطب على ظهره، ويقول: (طوقوا للأمير) (4) أي: وسعوا لهز
ومر الحسن البصري على صبيان معهم كسر خبز، فاستضافوا، فنزل فآكل معهم ثم حملهم إلى منزله، فأطعمهم وكساهم، وقال: اليد لهم لأنهم لا يجدون شيئا غير ما أطعموني، ونحن نجد أكثر منه (5).
ويذكر أن أبا ذر (6) -رضي الله عنه- عير بلالا (7) -رضي الله عنه- بسواده ثم ندم، فألقى بنفسه، فحلف لا رفعت رأسي حتى يطأ بلال خدي (8).
_________
(1) تهذيب مدارج السالكين (2/ 680).
(2) هو أبو عبد الله عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد الأسدي القرشي، وهو أحد الفقهاء السبعة في المدينة، ولد سنة 22 هـ، وتوفى عام 93هـ.
(3) تهذيب مدارج السالكين (2/ 681).
(4) تهذيب مدارج السالكين (2/ 681).
(5) تهذيب مدارج السالكين (2/ 681).
(6) هو جندب بن جنادة الغفاري أحد السابقين الأولين، من نجباء أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- كان خامس خمسة في الإسلام، كان راسا في الزهد، والصدق، والعلم، والعمل، قوالا للحق، توفى 32 هـ، سيرا أعلام النبلاء (2/ 46).
(7) هو مولى أبي بكر الصديق، وهو مؤذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من السابقين الأولين الذين عذبوا في الله، شهد بدرا، وشهد له النبي -صلى الله عليه وسلم- على التعيين بالجنة، وحديثه في الكتبن توفى سنة 21 هـ، انظر: سير أعلام النبلاء: (1/ 347).
(8) تهذيب مدارج السالكين (2/ 681).(1/492)
وقال رجاء بن حيوة (1): (قومت ثياب عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- وهو يخطب باثني عشر دوهما، وكانت قباء وعمامة وقميصا وسراويل ورداء وخفين وقلنسوة) (2).
روح التواضع الانقياد للحق: إن روح التواضع هي أن ينقاد العبد لصولة الحق، ويخضع له، ولا يتعالى عليه، وفسر النبي -صلى الله عليه وسلم- الكبرى بضده فقال: "الكبر بطر الحق وغمط الناس" (3).
فبطر الحق: رده وجحده، وغمط الناس: احتقارهم وازدأؤهم، ومتى احتقرهم، وازدرأهم: دفع حقوقهم، وجحدهم واستهان بها.
وركن التواضع الأهم: التواضع للدين، وهو أن لا يعارض بمعقول منقولا، ولا يتهم للدين دليلا، ولا يرى إلى الخلاف سبيلا (4).
ولا يصح لعبد خلق التواضع حتى يقبل الحق ممن يحب وممن يبغض، فيقبله من عدوه كما يقبله من وليه، وكذلك قبول العذر ممن أساء، فإن خلق التواضع يجعل العبد يقبل المعذرة، حقا كانت أو باطلا، ويكل سريرته إلى الله، كما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المنافقين الذين تخلفوا عنه في الغزو، فلما قدم جاءوا يعتذرون إليه، فقبل أعذارهم، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى (5).
وتمام التواضع: أن لا يرى العابد لنفسه حقا على الله لأجل عمله، فإنه في عبودية وفقر محض، وذل وانكسار، فمتى رأي لنفسه على الله حقا: فسدت عبوديته، وصارت معلولة وخيف منها المقت، فالرب سبانه لا لأحد عليه حق، ولا يضيع لديه سعى كما قال الشاعر:
ما للعباد عليه حق واجب ... كلا، ولا سعى لديه ضائع
_________
(1) هو أبو المقدام الكندي الشامي التابعي الفقيه الوزير العادل كان شريفا نبيلا أفقه أهل الشام في عصره، من حسناته اختيار عمر بن عبد العزيز للولاية بعد سليمان وإقناع سليمان بذلك، توفى سنة 112هـ، انظر: سير أعلام النبلاء (5574).
(2) تهذيب مدارج السالكين: (2/ 681).
(3) رواه الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الكبر (4/ 318 رقم 1999).
(4) تهذيب مدارج السالكين: (2/ 683).
(5) انظر: المرجع السابق (2/ 687).(1/493)
إن عذبوا فبعدله، أو نعموا ... فبفضله، وهو الكريم الواسع (1)
إن المتأمل في القرآن الكريم يجد ما من خلق حسن في ميزان الفضائل النفسية، أو الآداب الاجتماعية، أو السلوك الفردي إلا وقد حض عليه، وحشد له كل قوى النفس والعقيدة، وعبأ حوله كل طاقات العبادة والأسوة، وبعث له كل حوافر التنفيذ، وحاطه بالبيان والتفصيل والتشريع، وجعله مسؤولية عامة للفرد والأمة والدولة والحكومة (2).
وفي هذا المبحث ضربت ثلاثة أمثلة للأخلاق التي حث القرآن عليها من باب الاختصار، وإلا فإن الأخلاق التي حث عليها القرآن لا يكفيها مجلد ضخم في شرحها وتفصيلها.
_________
(1) انظر: تهذيب مدارج السالكين: (2/ 687).
(2) انظر: المنهاج القرآني في التشريع (416).(1/494)
المبحث العاشر
من الأخلاق الذميمة
يرى بعض العلماء أن الأخلاق الذميمة، بناؤها على أربعة أركان: الجهل، والظلم، والشهوة، والغضب، ومن هذه الأخلاق تنشأ جميع الأخلاق السيئة، ويوضح ابن القيم -رحمه الله- ذلك فيقول:
(ومنشأ جميع الأخلاق السافلة، وبناؤها على أربعة أركان: الجهل، والظلم، والشهوة، والغضب).
فالجهل: يريه الحسن في صورة القبيح، والقبيح في صورة الحسن، والكمال نقصا، والنقص كمالا.
والظلم يحمله على وضع الشيء في غير موضعه، في موضع الرضا، ويرضى في موضع الغضب، ويجعل في موضع الأناة، ويبخل في موضع البذل، ويبذل في موضع البخل، ويحجم في موضع الإقدام، ويقدم في موضع الإحجام، ويلين في موضع الشدة، ويشتد في موضع اللين، ويتواضع في موضع العزة، ويتكبر في موضع التواضع.
والشهوة تحمله على الحرص والشح والبخل، وعدم العفة والنهمة والجشع، والذل والدناءات كلها.
والغضب يحمله على الكبر والحقد، والحسد، والعدوان، والسفه.
ويتركب من بين كل خلقين من هذه الأخلاق:
أخلاق مذمومة، وملاك هذه الأربعة أصلان: إفراط النفس في الضعف، وإفراطها في القوة، فيتولد من إفراطها في الضعف: المهانة والبخل، والخسة واللؤم، والذل والحرص، والشح وسفاسف الأمور، والأخلاق، ويتولد من إفراطها في القوة: الظلم والغضب والجدة والفحش، والطيش.(1/495)
فالأخلاق الذميمة: يولد بعضها بعضا، كما أن الأخلاق الحميدة يولد بعضها بعضا (1)، وهذا كلام نفيس، وفهم بليغ، يدل على فهم صاحبه لكتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-.
من الأخلاق السيئة التي نهى القرآن عنها:
1 - الظلم:
إن المسلم الذي رضى بالله ربا وبالإسلام دنيا، وبمحمد نبيا ورسولا لا يرضى لنفسه أن يكون ظالما، ولا يقبل الظلم من أحد.
قال تعالى: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ * وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ * وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمْثَالَ) [إبراهيم: 42 - 45].
وقال تعالى: (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) [الشورى: 42].
وقال تعالى: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) [الشعراء: 227].
وجاءت الأحاديث النبوية في الترهيب من الظلم بأنواعه الثلاثة:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن، دعوة الوالد، ودعوة المظلوم، ودعوة المسافر" (2).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: قال: "من كانت عنده مظلمة لأخيه في مال أو عرض فليأته فليتحلله منها، فإنه ليس ثم دينار ولا درهم من قبل أن يؤخذ من حسناته فإن لم تكن له حسنات أخذت من سيئات صاحبه فطرحت عليه" (3).
_________
(1) تهذيب مدارج السالكين (2/ 659).
(2) رواه الترمذي كتاب البر والصلة، باب دعوة الوالدين، (4/ 277 رقم 1905).
(3) صحيح البخاري، كتاب الرقاق، كتاب القصاص يوم القيامة، (7/ 251 رقم 5434).(1/496)
وعن أبي موسى -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله ليملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته" ثم تلا: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود: 102] (1).
وذكر العلماء أن أنواع الظلم ثلاثة هي:
1 - ظلم العبد لربه، وذلك يكون بالكفر به تعالى: قال سبحانه: (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة: 254].
ويكون بالشرك في عبادته تعالى بأن يصرف بعض عباداته إلى غيره، قال سبحانه: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13].
2 - ظلم العبد لغيره من عبادة الله ومخلوقاته، وذلك بأذيتهم في أعراضهم أو أبدانهم أو أموالهم بغير حق.
قال -صلى الله عليه وسلم-: "كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه".
3 - ظلم العبد نفسه، وذلك بتدسيتها وتلويثها بآثار أنواع الذنوب والجرائم والسيئات من معاصي الله ورسوله، قال تعالى: (وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [البقرة: 57].
فمرتكب الكبيرة نم الإثم والفواحش هو ظالم لنفسه إذ عرضها لما يؤثر فيها من الخبث والظلمة فتصبح به أهلا للعنة الله، والبعد منه.
ومن وسطية القرآن ترهيب الناس من ارتكاب الظلم بأنواعه، وبيان عاقبة الظلمة ومصيرهم الحتمي في الدنيا والآخرة، بضرب أمثلة للشعوب، والأمم والأفراد الذين انغمسوا في مستنقع الظلم الآسن، وكيف كان مآلهم ومرجعهم، وحث القرآن الكريم عبادة المؤمنين على ترك الظلم بأنواعه، والابتعاد عنه والرجوع والتوبة والإنابة إلى الله تعالى، بل حذر القرآن الكريم عباده المتقين من الدخول على الظلمة ومخالطتهم والركون إليهم.
_________
(1) صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب: وكذلك أخذ ربك (5/ 255).(1/497)
قال تعالى: (وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) [هود: 113]، فيصيبكم لفحها: (وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ) [هود: 113]، أي ما لكم من مانع يمنعكم من عذاب الله: (ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ) [هود: 113] لا تمنعون من عذابه.
2 - ذم خلق الكبرياء:
ومن وسطية القرآن ذم الأخلاق السيئة، وحث الناس على تركها وتخويفهم من فعلها، ومن أمثلة الأخلاق التي حذر القرآن من فعلها الكبرياء وجعلها رذيلة من الرذائل الاجتماعية لكونها تغرس الفرقة والعداوة بين الأفراد فتقضي على التعاون والمحبة بينهم.
والكبرياء لا تصرفنا عن محبة بعضنا البعض فقط، بل وتجعل إصلاح بعضنا لبعض أمرًا عسيرا، وذلك بتعامي المتكبر عن نقائصه وعيوبه، وتقدير نفسه فوق قدرها، وصم أذنيه عن سماع كل حديث فيه نقدا بناء لشخصه، ويفرح لكل حديث فيه مدح وتملق من مادحيه، لأن من أعجبته نفسه أبي أن يسمع النصيحة من غيره فيكون ذلك حائلا بينه وبين الاستفادة من علم العلماء واقتباس الفضيلة من الفضلاء فينزل إلى هوة من الجهل والضلال.
لهذا كان من سنة الله أن صرف قلوب المتكبرين عن سماع ما أنزل على رسله من البينات والهدى؛ لأن هؤلاء المتكبرين كتب الله عليهم الضلالة التي تؤدي بهم إلى غضبه وذلك من جراء كبريائهم، قال تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) [الأعراف: 146].
والقرآن يخبرنا أن المستكبرون كانوا أعصى الناس على الاستجابة لدعوة الرسل، لهذا حكى الله عن قوم نبيه صالح -عليه السلام- قال تعالى: (قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) [الأعراف: 75 - 76].(1/498)
وهؤلاء قوم عاد استكبروا عن سماع هداية الله فكان جزاؤهم العذاب الأليم في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ *فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لاَ يُنْصَرُونَ) [فصلت: 15 - 16].
لهذا توعد الله المتكبرين بالعذاب الأليم في الآخرة، فقال سبحانه: (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ) [الزمر: 60]، أي ليست النار كافية لهم سجنا وموئلا بسبب تكبرهم!!
ولنتساءل بماذا يفتخر المتكبر؟ هل بملاحته وقوته؟ إن الجمال يزول، وأقل مرض يضعفه، وكل يوم يفعل الزمان فعله بجسده إلى أن يصبح بعد سن الشباب موضع الضعف والهرم، وإن تباهي بماله وغناه فليعلمن أن الموت لا يفرق بين الغني والفقير، وإن الإنسان سيترك كل ما يملك إلى غيره، لهذا جاءت وصايا القرآن تنهي عن الاختيال.
قال تعالى: (وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) [الإسراء: 37]، أي لا تمشي متبخترا كمشي الجبارين فإنك لن تخرق الأرض بمشيك وشدة وطئك، ومهما شمخت بأنفك فلن تبلغ الجبال ارتفاعا.
ويقول تعالى في النهي عن التكبر: (وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [لقمان: 18].
أي لا تعرض عنهم بوجهك إذا كلمتهم أو كلموك احتقارًا له واستكبارا والأحاديث في ذم خلق الكبر كثيرة، فعن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:"ألا أخبركم بأهل الجنة كل ضعيف متضاعف، لو أقسم على الله لأبره ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر" (1).
_________
(1) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب الكبر، (7/ 118 رقم 6071).(1/499)
وأشد الكبر الذي فيه من يتكبر على العباد بعلمه، ويتعاظم في نفسه بفضيلته، فإن هذا لم ينفعه علمه، ومن طلب العلم للفخر والرياسة وبطر المسلمين فهذا من أكبر الكبر، ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر (1).
2 - ذم خلق العجب والغرور:
ومن وسطية القرآن في باب الأخلاق ذم اخلق العجب والغرور، والنهي عنهما، ولذلك تجد المسلم الصادق المخلص يحذر على نفسه وإخوانه من العجب والغرور، ويجتهد أن لا يكونا وصفا له في حالة من الحالات إذ هما من أكبر العوائق عن الكمال، ومن أعظم المهالك، في الحال والمآل، فكم من نعمة انقلبت بهما نقمة، وكم من عز صيراه ذلا، وكم من قوة أحالاها ضعفا، فكفي بهما داء عصالا، وكفى بهما على صاحبهما وبالا، فلذا حذرهما المسلم وخافهما، ولهذا جاء القرآن الكريم بتحريمهما، بالتحذير والتنفير منهما. قال الله تعالى: (وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) [الحديد: 14].
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) [الانفطار: 6].
وقال تعالى: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا) [التوبة: 25].
والأمثلة في ذلك كثيرة منها:
1 - أعجب إبليس -لعنة الله- بحاله، واغتر بنفسه وأصله فقال خلقتني من نار وخلقته من طين؟ فطرده الله من رحمته، ومن أنس حضرة قدسه.
2 - أعجبت عاد بقوتها واغترت بسلطانها وقالوا من أشد منا قوة فأذاقهم الله عذاب الخزي في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
3 - أعجب أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حنين بكثرتهم وقالوا: لن نغلب اليوم من قلة: فأصيبوا بهزيمة مريرة حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ثم ولوا مدبرين (2).
_________
(1) انظر: كتاب الكبائر (87).
(2) منهاج المسلم لأبي بكر الجزائري (244).(1/500)
ومظاهر الغرور والعجب كثيرة ومتنوعة منها:
1 - العلم: قد يعجب المرء بعلمه، ويغتر بكثرة معارفه فيحمله ذلك على عدم الاستزادة، وعلى ترك الاستفادة، أو يحمله على احتقار غيره من أهل العلم، واستصغار سواه وكفى بها هلاكا له.
2 - في المال: قد يعجب المرء بوفرة ماله، ويغتر بكثرة عرضه فيبذر ويسرف، ويتعالى على الخلق، ويغمط الحق فيهلك.
3 - في القوة: قد يعجب المرء بقوته ويغتر بعزة سلطانه فيعتدي ويظلم، ويقامر ويخاطر، فيكون في ذلك هلاكه ووباله.
4 - في الشرف: قد يعجب المرء بشرفه ويغتر بنسبه وأصله فيقعد عن اكتساب المعالي، ويضعف عن طلب الكمالات فيبطئ به عمله، ولم يسرع به نسبه، فيحقر، ويصغر، ويذل، ويهون.
5 - في العبادة: قد يعجب المرء بعمله، ويغتر بكثرة طاعته، فيحمله ذلك على الإدلال على ربه، والامتنان على منعمه، فيحبط عمله، ويهلك بعجبه، ويشقي باغتراره، وعلاج هذا الداء في ذكر الله تعالى وعلم العبد بأن ما أعطاه الله اليوم من علم، أو مال، أو قوة عزة، أو شرف قد يسلبه غدا لو شاء ذلك، وأن طاعة العبد للرب مهما كثرت لا تساوى بعض ما أنعم الله على عبده، وأن الله تعالى لا يدل عليه بشيء، إذ هو مصدر كل فضل، وواهب كل خير (1).
قال تعالى: (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) [لقمان: 20].
وبهذا نكتفي بضرب الأمثلة في الأخلاق السيئة، وبيان أن الله نهى عنها في كتابه وأمر الناس بالابتعاد عنها، وما بينته باختصار موجز على سبيل المثال لا على سبيل الحصر.
_________
(1) منهاج المسلم (245).(1/501)
إن وسطية القرآن في باب الأخلاق تتضح في ذمه وتحقيره وتنفيره من الأخلاق السيئة وسلط على هذه الأخلاق السيئة قوى النفس والاعتقاد وأطلق عليها أيضا قوى الأمة والسلطة لمطاردة الأخلاق السيئة ومنعها بالحكمة والموعظة الحسنة وبقوة السلطان الذي خوله الله صلاحيات في ذلك للقضاء على كل خلق ذميم، من خيانة، وغدر، واستبداد، ولم وكذب، وشهادة زور، وإسراف، وفحش، وكبر وغرور، وفخر ورياء، وبطر، وهمز ولمز وبخل ... إلخ (1).
إن المرء ليعجب من وسطية القرآن في باب الأخلاق كيف ضم القرآن كل هذه الأخلاق من حسنها وقبيحها، وكيف رغب في حسنها ورهب في قبيحها على وجه من التفصيل وكأن غرضه الوحيد هو هذا الباب من كثرة ما أبرزها، وصرف فيها القول، وضرب فيها الأمثال.
_________
(1) منهاج المسلم لأبي بكر الجزائري (244).(1/502)
الفصل الثالث
وسطية القرآن في التشريع
المبحث الأول
معني الشرع في اللغة والاصطلاح
أ- في اللغة:
الشرع مصدر شرع بالتخفيف، والتشريع مصدر شرع بالتشديد، والشريعة في أصل الاستعمال اللغوي: مورد الماء الذي يقصد للشرب (1)، ثم استعمالها العرب ي الطريقة المستقيمة، وذلك باعتبار أن مورد الماء سبيل الحياة والسلامة للأبدان، وكذلك الشأن من الطريقة المستقيمة، التي تهدي الناس إلى الخير، فيها حياة نفوسهم، وري عقولهم: قال تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا) [الجاثية: 18]، ويقال: (شرعت الإبل) إذا وردت شريعة الماء و (شرع له الأمر) بمعنى سنة وبين طريقته، قال تعالى: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا) [الشورى: 13]، وقال: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ) [الشورى: 21].
قال صاح القاموس: الشريعة ما شرعه الله لعباده (2).
وقال بعضهم: سميت الشريعة شريعة: تشبيها بشريعة الماء من حيث إن من شرع فيها على الحقيقة المصدوقة روى وتطهر.
ب- في الإصطلاح:
ما شرعه الله لعباده من العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات ونظم الحياة في شعبها المختلفة، لتحقيق سعادتهم في الدنيا والآخرة (3).
_________
(1) انظر: القاموس المحيط، باب العين، فصل الشين (946).
(2) المرجع السابق، (946).
(3) التشريع والفقه الإسلامي مناع القطان، (15).(1/503)
فشريعة الله هي المنهج الحق المستقيم، الذي يصون الإنسانية من الزيغ والانحراف، ويجنبها مزالق الشر، ونوازع الهوى، وهي المورد العذب الذي يشفي غلتها، ويحيي نفوسها، وترتوي به عقولها، ولهذا كانت الغاية من تشريع الله استقامة الإنسان على الجادة لينال عز الدنيا وسعادة الآخرة.
والشريعة بهذا المعنى خاصة بما ورد الله تعالى، وبلغه رسله لعباده، والله هو الشارع الأول، وأحكامه هي التي تسمى شرعا، فلا يجوز إطلاق هذا على القوانين الوضعية، لأنها صنع البشر، وقد جرى عرف كثير من الكتاب على تسمي القوانين الوضعية بالتشريع الوضعي، وتسمية الوحي الإلهي بالتشريع السماوي، والحق أن الشرع أو الشريعة لا يجوز إطلاقها إلا على الطريقة الإلهية دون سواها من طرائق الناس وأنظمتهم (1).
_________
(1) المرجع السابق (16).(1/504)
المبحث الثاني
وسطية القرآن في التشريع والتكليف
سبق أن ذكرت أن ملامح الوسطية اليسر ورفع الحرج، هذا أمر قرره القرآن في أكثر من موضع، قال تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج: 78]، قال تعالى: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185]، وقال تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) [البقرة: 286].
وسأجعل الحديث عن تقرير القرآن لمنهج الوسطية في التشريع والتكاليف في فقرات متتالية ليسهل فهم القضية واستيعابها:
1 - امتن الله على هذه الأمة في الكتاب العزيز بأن وضع عنها الإصر والأغلال التي كانت على من قبلها، ولم يحملها ما حمل من قبلها، فكان ذلك مظهرا من مظاهر وسطية هذا الدين (1)، يقول تعالى في وصف نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- في كلامه -عز وجل- مع قوم موسى -عليه السلام-: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) [الأعراف: 157] كما من جملة دعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين: (حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا) [البقرة: 286]، وقد جاء في الحديث: "قال الله قد فعلت"، وفي رواية: "قال: نعم" (2).
والإصر: هو العهد الثقيل الذي في تحمله أشد المشقة، والأغلال: هي الشدائد التي كانت في عبادتهم، روى الطبري عن الربيع في قوله تعالى: (رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا) [البقرة: 286]، يقول: التشديد الذي شددته على من قبلنا من أهل الكتاب.
وقال مال: الإصر: الأمر الغليظ (3).
وقال سعيد: الإصر: شدة العمل (4).
_________
(1) الوسطية في ضوء القرآن (155).
(2) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان باب إن الله لا يكلف إلا ما يطاق (1/ 16 رقم 126).
(3) انظر: تفسير الطبري (5/ 85).
(4) انظر: تفسير الطبري (5/ 85).(1/505)
وقال مجاهد: من اتبع محمدًا من أهل الكتاب، وضع عنهم ما كان عليهم من التشديد في دينهم (1).
وفي آيتي البقرة والأعراف إشارة إلى أنه -عليه السلام- قد جاء بالتيسير والسماحة والوسطية، ودلت آية الأعراف على أن شريعتنا أسهل الشرائع، وأنه وضع عن أمتنا كل إصر وثقل كان في الأمم الماضية (2).
ولبيان وسطية القرآن في التكاليف في ضوء ما شرعه الله في كتابه، وعلى لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- أذكر نماذج من الأحكام التي جاءت في التوراة التي بين أيديهم، يتبين منها الأغلال والآصار التي كانت عليهم.
جاء في سفر الخروج: (من شتم أباه وأمه يقتل قتلا، إذا نطح ثور رجلا أو امرأة وكان الثور نطاحا من قبل، وقد أشهد على صاحبه ولم يضبطه فقتل رجلا أو امرأة فالثور يرجم وصاحبه يقتل) (3).
(ولا تأخذوا فدية عن نفس القاتل المذنب للموت بل إنه يقتل) (4).
وفي سفر اللاويين: (كل من مس حاضا يكون نجسا إلى المساء، وكل ما تضطجع عليه في طمثها يكون نجسا، وكل ما تجلس عليه يكون نجسا، وكل من مس فراشها يغسل ثيابه، ويستحم بماء ويكون نجسا إلى المساء) (5).
وفي سفر التثنية: (لا تحرث على ثور وحمار معا، ولا تلبس ثوبا مختلطا صوفا وكتانا معا) (6).
وأصدق من ذلك وأبين وأدق قول الحق تبارك وتعالى في الكتاب العزيز: (فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللهِ
_________
(1) انظر: المرجع السابق (9/ 85).
(2) انظر: تفسير القاسمي (7/ 2882).
(3) رفع الحرج في الشريعة (158 - 159).
(4) رفع الحرج في الشريعة (158 - 159).
(5) رفع الحرج في الشريعة (158 - 159).
(6) انظر: رفع الحرج في الشريعة (160).(1/506)
كَثِيرًا) [النساء: 160]، وقوله سبحانه في بيان أنواع من المحرمات ع ليهم بسبب بغيهم: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) [الأنعام: 146].
وكل ذلك ساقه الله في كتابه لبيان ما امتن به على هذه الأمة من التخفيف، والتيسير والتسهيل، ونعت نبيه -صلى الله عليه وسلم- بأنه: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) [الأعراف: 157].
وقد ذكر علماؤنا رحمهم الله شيئا من الآثار والأغلال التي كانت على من قبلنا، منها: قطع موضع النجاسة من الثوب أو منه ومن البدن، وإحراق الغنائم، وتحريم السبت، وقطع الأعضاء الخاطئة، وتعين القصاص في العمد والخطأ من غير شرع الدية، وأمروا بقتل أنفسهم علامة على التوبة، وطلب منهم أداء ربع المال في الزكاة، وعدم جواز الصلاة إلا في البيعة، وحرمة الجماع في أيام الصوم بعد العتمة والنوم، وحرمة الطعام بعد النوم، وعدم التطهير بالتيمم، وكتابة ذنب الليل بالصبح على الباب (1).
ومما سبق يتضح دلالة آيتي البقرة والأعراف على تقرير منهج الوسطية في التشريع والتكليف.
2 - وردت آيات كثيرة تبين أن الله لا يكلف نفسا فوق طاقتها، ولا يكلف نفسا إلا وسعها وقدرتها، قال تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) [البقرة: 286].
وقال تعالى: (وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)] المؤمنون: 62].
وعلى الرغم من قوله تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) [البقرة: 286]. ظاهر الدلالة على عدم التكليف إلا في حدود القدرة والميسرة، إلا أن الله -سبحانه وتعالى-
_________
(1) هو برهان الدين أبو الحسن إبراهيم بن عمر البقاعي صاحب تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، توفى 885هـ.(1/507)
قد عقب هذه الجملة بدعاء على لسان عباده المؤمنين، يبين فيه ما امتن به عليهم من عدم المؤاخذة بالخطأ والنسيان، وحط الآصار والأغلال وعدم التكليف بما لا يطاق، وقد انتظم ذلك في ثلاثة أمور:
الأول: قوله تعالى (رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) [البقرة: 286].
الثاني: قوله: (رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا) [البقرة: 286].
وقوله تعالى: (رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ) [البقرة: 286].
قال البقاعي (1) تعليقا على هذه الآية: (وقد عرف الله عبادة المؤمنين مواقع نعمه من دعاء رتبه على الأخف على سبيل التعلي، إعلاما بأنه لم يؤاخذهم بما اجترحوه نسيانا، ولا بما قارفوه خطأ، ولا حمل عليهم ثقلا، بل جعل شريعتهم خفيفة سمحة، ولا حملهم فوق طاقتهم، مع أنه له جميع ذلك، وأنا عفا عنهم في سترهم فلم يخجلهم بذكر سيئاتهم) (2).
قال الدكتور صالح بن حميد معلقا على آيات عدم التكليف بما لا يطاق: ولا شك أن الأحكام الشرعية إذا كانت مطلوبة في حدود الوسع والاستطاعة دون بلوغ غاية الطاقة، ففي ذلك الدلالة الظاهرة على أن الحرج مرفوع، وأن الشريعة مبنية على التيسير، وعدم التعسير، فهي حنيفية سهلة سمحة (وسطية) (فلله الحمد والمنة) (3).
وقال الإمام الطبري: يعني بذلك جل ثناؤه: (لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) [البقرة: 286].
فيتعبدها إلا بما يسعها، فلا يضيق عليها، ولا يجهدها (4).
ففي كلام الطبري -رحمه الله- الدلالة على أن هناك تكليفا وأمرا بالتعبد، ولكنه في حدود الوسع والطاقة، لا تضييق فيه ولا إجهاد، وهذه حقيقة الوسطية.
_________
(1) تفسير البقاعي (1/ 557).
(2) رفع الحرج في الشريعة (73).
(3) رفع الحرج في الشريعة (73).
(4) انظر: تفسير الطبري (3/ 154).(1/508)
وقال رشيد رضا في تفسير قوله تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) ولا يحاسبها إلا على ما كلفها، والتكليف هو الإلزام بما فيه كلفة، والوسع ما تسعه قدرة الإنسان من غير حرج ولا عسر، وقال بعضهم: هو ما يهل عليه من الأمور المقدور عليها، وهو ما دون مدى طاقته، والمعنى: أن شأنه تعالى وسنته في شرع الدين ألا يكلف عباده ما لا يطيقون (1).
وخلاصة القول: أن هذه الآيات تقرر منهج الوسطية في التكليف، فهناك أوامر ونواهي، ولكنها في حدود الوسع، وعدم المشقة، وليس فيها تضييق وعسر وإحراج.
3 - ومما يؤكد ويقرر منهج الوسطية في التشريع والتكليف الآيات التي وردت برفع الحرج كقوله تعالى: (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ و) (مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ) [المائدة: 6].
وقوله تعالى: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج: 78].
وقوله: (مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللهُ لَهُ) [الأحزاب: 38].
ومثل ذلك الآيات التي جاءت تنفي الحرج عن فئة معينة، كقوله في سورة الفتح: (لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) [الفتح: 17].
وبعد أن بين سبحانه جواز الزواج من زوجة الابن المتبني حيث زواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من زينب (2)
بعد طلاق زيد (3) لها، قال سبحانه: (لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا) [الأحزاب: 37].
قال الدكتور صالح بن حميد: (إن رفع الحرج، والسماحة والسهولة راجع إلى الوسط والاعتدال، فلا إفراط ولا تفريط، فالتنطع والتشديد حرج في جانب عسر
_________
(1) انظر: تفسير المنار (3/ 145).
(2) هي زينب بنت جحش ابنة عمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زوجها الله لنبيه من غير ولي ولا شاهد، وكانت أسرع أمهات المؤمنين لحوقا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- بعد وفاته، وكانت من سادات النساء دينا وورعا وجودًا ومعرفة.
انظر سير أعلام النبلاء (2/ 211).
(3) هو زيد بن حارثة بن شراحبيل بن عامر بن النعمان الأمير الشهيد المسمى في سورة الأحزاب أبو أسامة الكلبي، سيد الموالي، توفى في غزوة مؤتة عام (8هـ)، انظر: سير أعلام النبلاء (1/ 220).(1/509)
التكاليف والإفراط والتفريط حرج فيما يؤدي إليه من تعطل المصالح وعدم تحقيق مقاصد الشرع قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) [البقرة: 143]، فالتوسط هو منبع الكمالات والتخفيف والسماحة ورفع الحرج على الحقيقة هو في سلوك طريق الوسط والعدل) (1).
فالله -سبحانه وتعالى- لم يكلف عباده ما لا يطيقون، وما ألزمهم بشيء يشق عليهم إلا جعل الله لهم فرجا ومخرجا، ولقد كانت الشدائد والعزائم في الأمم، فأعطى الله هذه الأمة من المسامحة واللين ما لم يعط أحدًا قبلها، رحمة من الله وفضلا.
يقول ابن العربي (2): (ولو ذهبت إلى تعديد نعم الله في رفع الحرج لطال المرام) (3).
وقال رشد رضا في تفسير آية المائدة: (مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ) [المائدة: 6]، أي ما يريد الله ليجعل عليكم فيما شرعه لكم في هذه الآية ولا في غيرها أيضًا حرجا ما. أي أدنى ضيق وأقل مشقة، لأنه -تعالى- غني عنكم، رؤوف رحيم بكم، فهو لا يشرع إلا ما فيه الخير والنفع لكم) (4).
قال ابن كثير في قوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج: 78]، أي: ما كلفكم ما لا تطيقون، وما ألزمكم بشيء يشق عليكم إلا جعل الله لكم فرجا ومخرجا، ولهذا قال -عليه السلام- "بعثت بالحنفية السمحة" وقال لمعاذ وأبي موسى (5) -رضي الله عنهما- حين بعثهما أميرين إلى اليمن: "بشرا ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا" (6).
_________
(1) رفع الحرج في الشريعة (13).
(2) هو أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد المعافري الإشبيلي المالكي، صاحب المصنفات، كأحكام القرآن، توفى بالقرب من فاس، ودفن بها عام (543هـ). انظر: الأعلام: (6/ 230).
(3) أحكام القرآن (3/ 1293).
(4) انظر تفسير المنار (6/ 258).
(5) هو عبد الله بن قيس بن سليم الأشعري اليماني، خرج من اليمن قاصدا االنبي -صلى الله عليه وسلم- فألقتهم الريح بأرض الحبش، فوافقوا جعفر بن أبي طالب والصحابة فعادوا معا إلى المدينة، استعمله النبي -صلى الله عليه وسلم- على زبيد وعدن، وعمر على الكوفة، مات سنة (42هـ) انظر: تهذيب التهذيب (5/ 362).
(6) أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب بعبث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن (5/ 126).(1/510)
والأحاديث في هذا كثيرة، ولهذا قال ابن عباس في قوله: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج: 78]، يعني من ضيق (1).
وقد اتضح لنا مما سبق أن آيات رفع الحرج دليل واضح وبرهان قاطع على وسطية هذا الدين في تشريعه وتكاليفه.
4 - نواصل ذكر الأدلة من القرآن الكريم في باب التشريع والتكليف التي تقرر منهج الوسطية، وأنه سمة هذا الدين، وسر من أسرار عظمته وهذه الآيات هي آيات التخفيف والتيسير قال سبحانه وتعالى: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185]، وقال جل في علاه: (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى) [الأعلى: 8]، وقال: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا *إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) [الانشراح: 5 - 6]، وقوله: (يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا) [النساء: 28].
فهذه الآيات تبين أن الله أراد بهذه الأمة اليسر والتخفيف، ونفى إرادة العسر والمشقة، وهذه الآيات وإن كان بعضها ورد في سياق قضية خاصة، كالآية الأولى وردت في شأن الرخصة في الصيام إلا أن المراد منها العموم، كما صرح بذلك غير واحد من المفسرين، وقد صرح كثير من المفسرين في الآيات السابقة أن المراد عموم التخفيف في الشريعة، وإرادة التيسير ورفع المشقة (2).
قال ابن كثير -رحمه الله-: في قوله: (يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا) [النساء: 28]، أي: في شرائعه، وأوامره، ونواهيه، وما يقدره لكم) (3).
قال مجاهد -رحمه الله-: أي في نكاح الأمة وفي كل شيء فيه يسر) (4).
ومن هنا نخلص إلى أن آيات التيسير والتخفيف جاءت لإرساء قواعد هذا الدين وعالميته، وإليك بعض الأدلة التي تؤكد وسطية هذا الدين في باب التشريع والتكليف.
_________
(1) انظر: تفسير ابن كثير (3/ 236).
(2) انظر: الوسطية في ضوء القرآن (162).
(3) انظر: تفسير ابن كثير (1/ 479) والقاسمي (5/ 1201).
(4) انظر: تفسير الطبري (5/ 30).(1/511)
المبحث الثالث
وسطية القرآن في تعدد الزوجات
من نماذج الوسطية في باب التشريع تعدد الزوجات حيث وسط بين إفراط وتفريط، وكان المجوس وعبدة البقر والمشركين من العرب قبل الإسلام، يتزوجون كل منهم بمئات النساء، وأما أهل الكتاب فكانوا لا يسمحون للرجل بأكثر من زوجة، فجاء الإسلام وقيد الزواج بأربع نسوة واشترط في ذلك العدل (1) والمقصود العدل المستطاع.
التعدد في الصين:
كان الصينيون في أقدم عصورهم يسيرون على نظام تعدد الزوجات، وكان لهم نظام خاص في ذلك، يباح للزوج أن يشترى فتيات يستمتع بهن، ويكن زوجات، إلا أنهن يخضعن للزوجة الأصلية، فيكون ذلك أشبه بالرياسة، وتكون منزلتهن أقل من الزوجة الأولى، وكانت الزوجات يخضعن للرجال، ويشعرن بالسعادة في ظل البيت الذي يضمهن، وكن مخلصات لأزواجهن، ولذلك كان الزوج يطلب من زوجاته ألا يتزوجهن بعده، وكثرا ما كن يحرقن أنفسهم تكريما له (2).
التعدد في الهند:
كان العدد مباحا في الهند القديمة، وكانت المرأة في منزلة أقل من منزلة الرجل، فكانت مطيعة، مخلصة له، وكان للرجل أن يتزوج من زوجات كثيرات، ويختار الزوج واحدة من زوجاته لتشرف على الباقيات، وتضع كل واحدة في مكانها.
وكان الزوج كثيرا ما يعاهد زوجاته على أن يحرقن (3) أنفسهن بعد مماته، ويذكر صاحب قصة الحضارة أن أحد ملوك الهند اختار ثلاثة آلاف من زوجاته البالغ
_________
(1) انظر الوسطية في الإسلام، للدكتور محمد عبد اللطيف، (108).
(2) تعدد الزوجات، لإبراهيم الجمل (15)
(3) تعدد الزوجات، لإبراهيم الجمل (29)(1/512)
عددهن اثنتى عشر ألفا، ليكن مقربات له على شرط أن يحرقن أنفسهن مختارات عند موته، وإن ذلك ليعد شرفا عظيما لهن (1).
وعدة حرق الزوجة أو الزوجات كانت قديمة، والهند من أوائل البلاد التي قدست هذه العادة.
العدد في فارس القديمة:
كان التعدد مباحا، فللرجل أن يتزوج بمن شاء منهن، وقد أقرت ذلك تعاليم زردشت (2)، ولقد أباح قدماء الفرس أن يجمع الرجل بين الأختين؛ بل ويتزوج الأب ابنته، والابن أمه، والأخ أخته، فالديانة عندهم تبيح ذلك (3).
التعدد في الجاهلية عند العرب:
مارس العرب في الجاهلية تعدد الزوجات، وكان يجوز للرجل أن يتخذ من الزوجات من شاء تبعا لقدرته وقوته ومكانته في قومه، فكلما كان غنيا كان في حاجة إلى الكثرة من النساء، يقمن بخدمته، وخدمة الواردين عليه للقرى والضيافة، تلك العادة التي كانت متأصلة في النفوس (4).
وكان العدد غير مقيد، فربما كان في عصمة الرجل عشر نساء أو مائة أو يزيد، فعبد المطلب جد النبي -صلى الله عليه وسلم- كان عنده ست زوجات، وله منهن عشرة رجال، وست نساء (5). وغيره كثير.
التعدد عند اليهود:
سارت الأسر العبرية على نظام تعدد الزوجات، فقد كان الرجل يتزوج بأكثر من واحدة، وكان عام بين البطارقة وملوك إسرائيل، وقد أقرت الشريعة الموسوية هذه
_________
(1) تعدد الزوجات، لإبراهيم الجمل (15)
(2) من الديانات الفارسية الإباحية القديمة الضاربة في التاريخ.
(3) المرجع السابق، (17).
(4) المرجع السابق، (29).
(5) انظر: سيرة ابن هشام (1/ 191).(1/513)
العادة، وأباحته دون تحديد في العدد، ولكن هذه الشريعة حرفت فما ندري الحقيقة في ذلك، كما أن التلمود قيد هذا العدد ونص كتاب (بياموث) على أن للرجل أن يتزوج من النساء بقدر ما يستطيع أن يعولهن، وفي مكان آخر قصر العدد على أربع (1).
إلا أن علماء وأحبار بني إسرائيل حرموا التعدد وذكروا أسبابا لذلك منها:
1 - ضيق المعيشة التي أصبح فيها أمر القيام بلوازم المرأة الواحدة لا يخلو من صعوبة.
2 - تعادل نسبة المواليد من الذكور والإناث تقريبًا.
3 - عادة المهر للزوجة، فالرجل اليهودي لا يستطيع أن يدفع أكثر من مهر زوجة واحدة.
4 - أخذ اليهود ينظرون إلى التعدد نظرة استهجان (2) وبذلك حدد اليهود الزواج بواحدة، والانفراد بالخدان والعشيقات والعاهرات.
التعدد عند النصارى:
ليس في الإنجيل قول صريح بتحريم تعدد الزوجات، ووجوب الاقتصار على زوجة واحدة، وأخذ نظام الزوجة الواحدة من الدول الأوروبية الوثنية، التي انتشرت فيها المسيحية، والتي تبيح مصاحبة الخليلات، عند شعوب اليونان والرومان، لقد كان تقاليد تلك الدول تحرم تعدد الزوجات، وقد سار أهلها بعد اعتناقهم المسيحية على ما وجدوا عليه العمل في وثنيتهم الأولى (3).
أ- من هدي القرآن للتي هي أقوم تعدد الزوجات:
قضية تعدد الزوجات دلالة واضحة على وسطية القرآن وهديته للتي هي أقوم، ومعلم من معالم الشريعة الغراء في رفع الحرج عن الأمة، وعلامة على اليسر
_________
(1) انظر: تعدد الزوجات (24).
(2) انظر: تعدد الزوجات (24).
(3) انظر: المرجع السابق (25).(1/514)
والسماحة في هذا الدين، لقد أتى القرآن الكريم في هذه المسألة بالكمال، وفي كل المسائل ليبرهن بالأدلة المحسوسة على وسطية القرآن في التشريع، وعلى إعجازه في إصدار الأحكام والتكاليف، وحتى لا يشك عاقل في كون القرآن الكريم تنزيل من حميد حكيم.
وإليك ما قاله العلامة محمد الأمين الشنقيطي في هذه المسألة في قوله تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء:9] حيث قال: (ومن هدى القرآن للتي هي أقوم، إباحة تعدد الزوجات إلى أربع، وأن الرجل إذا خاف عدم العدل بينهن لزمه الاكتفاء بواحدة، أو ما ملكت يمينه، كما قال تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا) [النساء: 3]، ولا شك أن الطريق التي هي أقوم وأعدلها، هي إباحة تعدد الزوجات لأمور محسوسة يعرفها كل العقلاء.
منها: أن المرأة الواحدة تحيض وتمرض، وتنفس، إلى غير ذلك من العوائق المانعة من قيامها بأخص لوازم الزوجية، والرجل مستعد للتسبب في زيادة الأمة، فلو حبس عليها في أحوال أعذارها لعطلت منافعه باطلا في غير ذنب.
ومنها: أن الله أجرى العادة بأن الرجال أقل عددًا من النساء في أقطار الدنيا، وأكثر تعرضا لأسباب الموت منهن في جميع ميادين الحياة، فلو قصر الرجل على واحدة لبقي عدد ضخم من النساء محروما من الزواج، فيضطرون إلى ركوب الفاحشة، فالعدل عن هدي القرآن في هذه المسألة من أعظم أسباب ضياع الأخلاق، والانحطاط إلى درجة البهائم في عدم الصيانة والحافظة على الشرف والمروءة، والأخلاق، فسبحان الحكيم الخبير، كتاب أحكمت آياته، ثم فصلت من لدن حكيم خبير.
ومنها: أن الإناث كلهن مستعدات للزواج، وكثير من الرجال لا قدرة لهم على القيام بلوازم الزواج لفقرهم، فالمستعدون للزوج من الرجال أقل من المستعدات له(1/515)
من النساء، لأن المرأة لا عائق لها، والرجل يعوقه الفقر وعدم القدرة على لوازم النكاح، فلو قصر الواحد على الواحدة، لضاع كثير من المستعدات للزواج أيضًا بعدم وجود أزواج؛ فيكون ذلك سببا لضياع الفضيلة وتفشي الرذيلة، والانحطاط الأخلاقي، وضياع القيم الإنسانية، كما هو واضح، فإن خاف الرجل ألا يعدل بينهن، وجب عليه الاقتصار على واحدة، أو ما ملكت يمينه؛ لأن الله يقول: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ) [النحل: 90]، والميل بالتفضيل في الحقوق الشرعية بينهن لا يجوز لقوله تعالى: (فَلاَ تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ) [النساء: 129].
أما الميل الطبيعي بمحبة بعضهن أكثر من بعض، فهو غير مستطاع دفعه للبشر، لأنه انفعال وتأثر نفسي لا فعل، وهو المراد بقوله: (وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ) [النساء: 129]، وأما ما يزعمه بعض الملاحدة من أعداء دين الإسلام، من أن تعدد الزوجات يلزم الخصام والشغب الدائم المفضي إلى نكد الحياة؛ لأنه كلما أرضى إحدى الضرتين سخطت الأخرى، فهو بين سخطتين دائما، وأن هذا ليس من الحكمة، فهو كلام ساقط، يظهر سقوطه لكل عاقل؛ لأن الخصام والمشاغبة بين أفراد أهل البيت لا انفكاك عنه البتة، فيقع بين الرجل وأمه، وبينه وبين أبيه، وبينه وبين أولاده، وبينه وبين زوجته الواحدة، فهو أمر عادي ليس له كبير شأن وهو في جنب المصالح العظيمة التي ذكرنا في تعدد الزوجات من صيانة النساء وتيسير التزويج لجميعهن، وكثرة عدد الأمة لتقوم بعددها الكثير في وجه أعداء الإسلام، لأن المصلحة العظمى يقدم جلبها على دفع المفسدة الصغرى.
فلو فرضنا المشاغبة المزعومة في تعدد الزوجات مفسدة، أو أن إيلام قلب الزوجة الأولى بالضرة مفسدة، لقدمت عليها تلك المصالح الراجحة.
فالقرآن أباح تعدد الزوجات لمصلحة المرأة في عدم حرمانها من الزواج، ولمصلحة الرجل بعدم تعطل منافعه في حال قيام العذر بالمرأة الواحدة، ولمصلحة الأمة ليكثر عددها فيمكنها مقاومة عدوها لتكون كلمة الله هي العليا، فهو تشريع حكيم خبير لا يطعن فيه إلا من أعمى الله بصيرته بظلمات الكفر، وتحديد الزوجات بأربع تحديد من(1/516)
حكيم خبير، وهو أمر وسط بين القلة المفضية إلى تعطل بعض منافع الرجل، وبين الكثرة التي هي مظنة عدم القدرة على القيام بلوازم الزوجية للجميع (1).
هذا دفاع عظيم في قضية تعدد الزوجات وتعمدت الإطالة في هذا المبحث لما ظهرت من آراء وأفكار مستوردة من الغرب للهجوم على الشريعة الغراء، وقد أعجبني كلام نفيس للأديب المفكر سيد قطب -رحمه الله- في ظلال القرآن عندما قال: (إن الإسلام نظام للإنسان، نظام واقعي إيجابي يتوافق مع فطرة الإنسان وتكوينه، ويتوافق مع واقعه وضروراته، ويتوافق مع ملابسات حياته المتغيرة في شتى البقاع وشتى الأزمان وشتى الأحوال.
إنه نظام واقعي إيجابي، يلتقط الإنسان من واقعه الذي هو فيه، ومن موقعه الذي هو عليه، ليرتفع به في المرتقى الصاعد، إلى القمة السامقة في غير إنكار لفطرته أو تنكر، وفي غير إغفال لواقعه أو إهمال، وفي غير عنف في دفعه أو اعتساف.
إنه نظام لا يقوم على الحذلقة الجوفاء؛ ولا على التطرف المائع، ولا على المثالية الفارغة، ولا على الأمنيات الحالمة، التي تصطدم بفطرة الإنسان وواقعه وملابسات حياته، ثم تتبخر في الهواء، وهو نظام يرعى خلق الإنسان، ونظافة المجتمع، فلا يسمح بإنشاء واقع مادي من شأنه انحلال الخلق، وتلويث المجتمع، تحت مطارق الضرورة التي تصدم بذلك الواقع، بل يتوخى دائما أن ينشئ واقعا يساعد على صيانة الخلق، ونظافة المجتمع، مع أيسر جهد يبذله الفرد ويبذله المجتمع، فإذا استصحبنا معنا هذه الخصائص الأساسية في النظام الإسلامي، ونحن ننظر إلى مسألة تعدد الزوجات، فماذا ترى؟
نرى: أولا: أن هناك حالات واقعية في مجتمعات كثيرة -تاريخية وحاضرة تبدو فيها زيادة النساء الصالحات للزواج، على عدد الرجال الصالحين للزواج ... والحد الأعلى لها الاختلال الذي يعتري بعض المجتمعات لم يعرف تاريخيا أنه
_________
(1) أضواء البيان (2/ 415) إلى (417).(1/517)
تجاوز نسبة أربع إلى واحد، وهو يدور دائما في حدودها، فكيف يعالج هذا الواقع، الذي يقع ويتكرر وقوعه، بنسب مختلفة، هذا الواقع الذي لا يجدي فيه الإنكار؟ نعالجه بهز الكتفين، أو نتركه يعالج نفسه بنفسه حسب الظروف والمصادفات؟ إن هز الكتفين لا يحل مشكلة، كما أن ترك المجتمع يعالج هذا الواقع حسبما اتفق لا يقول به إنسان جاد، يحترم نفسه، ويحترم الجنس البشري.
لابد إذن من نظام ولابد إذن من إجراء وعندئذ نجد أنفسنا أمام احتمال من ثلاثة احتمالات:
1 - أن يتزوج كل رجل صالح للزواج امرأة من الصالحات للزواج ... ثم تبقي واحدة أو أكثر -حسب درجة الاختلال الواقعة- بدون زواج، تقضي حياتها - أو حياتهن- لا تعرف الرجال.
2 - أن يتزوج كل رجل صالح للزواج واحدة فقط زواجا شرعيا نظيفا، ثم يخادن أو يسافح واحدة أو أكثر، من هؤلاء اللواتي ليس لهن مقابل في المجتمع من الرجال فيعرفن الرجل خدينا أو خليلا في الحرام والظلام.
3 - أن يتزوج الرجال الصالحون -كلهم أو بعضهم - أكثر من واحدة .. وأن تعرف المرأة الأخرى الرجل، زوجة شريفة، في وضح النور لا خدينة ولا خليلة في الحرام والظلام.
الاحتمال الأول ضد الفطرة، وضد الطاقة، بالقياس إلى المرأة التي لا تعرف في حياتها الرجال، ولا يدفع هذه الحقيقة ما يتشدق به المتشدقون، من استغناء المرأة عن الرجل بالعمل والكسب، فالمسألة أعمق بكثير مما يظنه هؤلاء السطحيون المتحذلقون، المتطرفون الجهال عن فطرة الإنسان، وألف عمل، وألف كسب لا تغني المرأة عن حاجتها الفطرية إلى الحياة الطبيعية، سواء في ذلك مطالب الجسد والغريزة، ومطالب الروح والعقل، من السكن والإنس بالعشير، والرجل يجد العمل ويجد الكسب، ولكن هذا لا يكفيه؛ فيروح يسعى للحصول على العشيرة، والمرأة كالرجل -في هذا- فهما من نفس واحدة.(1/518)
والاحتمال الثاني ضد اتجاه الإسلام النظيف، وضد قاعدة المجتمع الإسلامي العفيف؛ وضد كرامة المرأة الإنسانية، والذين لا يحلفون أن تشيع الفاحشة في المجتمع، هم أنفسهم يتعالون على الله، ويتطاولون على شريعته، لأنهم لا يجدون من يردعهم عن هذا التطاول، بل يجدون من الكائدين لهذا الدين كل تشجيع وتقدير.
والاحتمال الثالث: هو الذي يختاره الإسلام رخصة مقيدة -لمواجهة الواقع الذي لا ينفع فيه هز الكتفين، ولا تنفع فيه الحذلقة والادعاء -يختاره متمشيا مع واقعيته الإيجابية، في مواجهة الإنسان كما هو بفطرته وظروفه وحياته - ومع رعايته للخلق النظيف والمجتمع المتطهر، ومع منهجه في التقاط الإنسان من السفح، والرقي به في الدرج الصاعد إلى القمة السامقة، ولكن في يسر ولين وواقعية) (1).
وعدد -رحمه الله- أسباب التعدد بأسلوبه المتميز وأدبه الرفيع وحججه الدامغة وأقام الحجة على المغرضين المتلوثين بالأمراض الفكرية الغربية.
دراسة مهمة عند التعدد في إفريقيا:
في هذا العصر صدرت دراسات واسعة جدًا بأقلام كثير من الباحثين الأوروبيين رجالا ونساء عن ظاهرة التعدد وخاصة لدى الشعوب الإفريقية، تستبين منها ضرورة هذا المبدأ للاجتماع الإنساني في كثير من الشعوب، وتتجلى بها حكمة الله في تشريعه الحكيمن ويندحر فيها دين الكنيسة الذي يبرأ منه الوحي الإلهي الكريم، ونقتبس هنا قليلا -من كثير- من هذه الدراسات التي أوردها كتاب (تعدد الزوجات لدى الشعوب الإفريقية) يقول مؤلفه.
(تعدد الزوجات يعد في الواقع أحد الملامح البارزة لنظام الزواج والأسرة لدى الشعوب الإفريقية، فعلى اختلاف هذه الشعوب من حيث الجنس، والمرحلة الحضارية، فإنها تتفق في إباحة تعدد الزوجات، وقد وصف بعض الملاحظين
_________
(1) في ظلال القرآن (580 - 581).(1/519)
الأوروبيين تعدد الزوجات لدى الشعوب التي كانت محل دراستهم وصفا يبدو منه تعدد الزوجات وكأنه النظام العادي للزواج، ويعد المؤلف أسبابا ثمانية للتعدد منها:
أولا: الرغبة في الحصول على الذرية.
ثانيا: الرغبة في تكثير الذرية كضرورة للحياة، ولتأمين حياة الرجل وشيخوخته، وللحصول على القوة والنفوذ، وللمحافظة على تثمير ثروته.
ثالثا: توطيد علاقته بأكبر عدد من العائلات التي يصاهرها، ليحصل أيضًا على الاستقرار والأمن.
رابعًا: أهميته الكبيرة للمرأة داخل البيت وخارجه.
ويختمها بقوله: (ولعل القارئ قد أدهشه أننا لم نذكر من بينها سببا لعله أول ما يتبادر إلى الذهن ... ألا وهو رغبة الرجل في التنقل والتغيير، وكان هذا السبب يظن قديما أنه السبب الرئيسي لتعدد الزوجات، فقديما كان الأوروبيون ولا يزال بعضهم يعتقدون أن تعدد الزوجات لدى الإفريقيين يرجع إلى ما يتميز به الرجل الإفريقي من شهوة عارمة إلا أن هذه الفكرة في الواقع لا تستند إلى أساس سليم، فقد اتضح من الدراسات المختلفة أن الرجال يقبلون على تعدد الزوجات في معظم الحالات لأسباب لا صلة بقوة الشهوة).
ثم يورد أسبابا دقيقة لوجود الزيادة الدائمة في عدد النساء على عدد الرجال، ثم يقول: (وكانت بعض الشعوب تتخلص من النساء بوأدهن وقد عرف ذلك في الرومان، واليونان، وعرب الجاهلية، ولكن التعدد الذي لجأت إليه الشعوب الإفريقية أدى إلى امتصاص أي عدد زائد من النساء) (1).
إلى هنا يتضح أن تعدد الزوجات ضرورة حياة لهذا الشعوب، فماذا كانت نتيجة حكم الله -عز وجل- الذي يقوم على العلم والحكمة؟ وماذا كانت نتيجة شريعة الكنيسة المبتدعة؟ وقوانين الغرب المحرمة للتعدد؟
_________
(1) انظر: تعدد الزوجات لدى الشعوب الإفريقية، د. محمد سلام زناتي (7 - 14).(1/520)
ويقول صاحب كتاب تعدد الزوجات لدى الشعوب الإفريقية عن التعدد إنه:
(نظام تذهب جذوره بعيدًا في أعماق الحياة الإفريقية، وليس من السهل على الإفريقيين التخلي عنه طالما بقيت الأسباب والظروف التي دعتهم وتدعوهم إلى ممارسته، ومن هنا كان ترحيبهم بالإسلام وانتشاره بينهم انتشارا سريعا، على الرغم من عدم وجود حركة تبشيرية منظمة وراءه) (1).
وهذا الكلام لا يستقيم في أسباب انتشار الإسلام وحده؛ لأن من أسباب انتشار الإسلام لكونه دين الفطرة وعقيدته سهلة وأحكامه تنسجم مع أحوال البشر، كما كانت حركة الفتح الإسلامي منظمة ومرتبة ثم يتحدث المؤلف عن أمر بالغ الخطورة ينبغي أن يعيه كل مسلم، ليعلم عن تجربة عظمة هذه الشريعة التي شرفنا الله بها، مهما بدا لصغار النفوس والعقول من رأي في بعض مبادئها فقد تناول الاحتلال وجيوشه، المجهزة بإغراءات مادية كثيرة لجذب الشعوب الإفريقية إلى كنائسها، ولكنها تصطدم اصطداما مروعا بضرورة الحياة في المجتمع الإفريقي، حين تطلب من أهله أن يتخلوا عن التعدد بحكم الدين (2).
(لذلك فإن موقف الإفريقي الذي يرغب في اعتناق المسيحية ليس سهلا، فالديانة الجديدة تلزمه بالتخلي عن كل زوجاته إلا واحدة، وتحرمه من ثانية في المستقبل إذا لم يكن له سوى واحدة، بينما ظروف حياته تدعوه إلى عدم التخلي عن هذه الرخصة، وكثيرا ما ضحى الإفريقيون بالديانة الجديدة، في سبيل الاحتفاظ بحقهم في ممارسة تعدد الزوجات.
يقول A.Shton عن الباستوتو:
(لقد هاجمت الكنائس بأجمعها تعدد الزوجات، واعتبرته خارجا على القانون لكن من الملاحظ أن كثيرا من الرؤساء وغيرهم مستعدون أن يطردوا في سبيله من
_________
(1) المرجع السابق (69).
(2) انظر: المنهاج القرآني في التشريع، لعبد الستار فتح الله (584).(1/521)
الكنيسة (1) وتعارض النساء أيضًا بشدة دعوة الكنيسة لمنع التعدد كما جاء في أقوال المبشرين أنفسهم، وقد يشير هذا دهشتنا ولكن: (إذا تعمقنا في المسألة قليلا وجدنا أن موقف النساء ينطوي على إدراك سليم لحقيقة الأمر بالنسبة لهن، فذكاؤهن العملي وخبرتهن اليومية جعلتهن يدركن أن النتيجة الطبيعية للأخذ بنظام الزوجة الواحدة، هي أن يبقي عدد من النساء لا يجدن طريقه إلى الزواج، وتكوين أسرة، والزواج والأسرة هما هدف الإفريقية وغاية حياتها فوحدة الزوجة معناها حرمان عدد غير قليل من النساء من مزايا الأمومة والحياة العائلية، ولا أشق على نفس المرأة من أن يحكم عليها بهذا المصير، فالمرأة الإفريقية تدرك إدراكا فطريا أنها ستكون الضحية الأولى بهذه الدعوة الجديدة) (2).
شر البدائل عن التعدد:
ولذلك يكاد يجمع الباحثون على أن النتيجة التي ترتبت على حمل الإفريقيين على التخلي عن تعدد الزوجات، هي اتجاه متزايدا نحو الانحلال وفساد الأخلاق، فيحدثنا إسكابيرا Schapeva عن أثر محاربة البعثات التبشيرية المسيحية لتعدد الزوجات لدى (الكجاتلا) (أحد قبائل جنوب إفريقية)، (إن عددًا من الأعضاء في الكنيسة يتخذون عشيقات في الخفاء على غير علم من المبشرين .. لاستخدامهن في زيادة أفراد القبيلة ... ) (3).
ويقول Wetserman: ( إن معارضة الكنائس الأوروبية لتعدد الزوجات كانت من بين الأسباب التي دفعت الإفريقيين من جهات متفرقة من القارة إلى الانفصال عن الكنائس الأوروبية، وتكوين كنائس مستقلة تسمح تعاليمها بممارسة تعدد الزوجات) (4).
ونخلص من هذا الاقتباس بأن هذه الدراسات الحديثة تثبت لنا وسطية القرآن في
_________
(1) تعدد الزوجات لدي الشعوب الإفريقية (70).
(2) المرجع السابق (74 - 76).
(3) المرجع السابق (77).
(4) تعدد الزوجات الشعوب الإفريقية (82).(1/522)
باب التشريع في مسألة تعدد الزوجات وبيان ضرورته لمجتمعات بأسرها رجالا ونساء لم تعرف أسرارها إلا في هذا القرن إن الله العليم الخبير شرع لعباده دينا قيما يلائم الفطرة، وينظم الحاجات، والمصالح تنظيما كريما شريفا.
ب- التعدد وشروطه في القرآن:
إن إباحة القرآن للتعدد لم تكن ضرورة مقيدة بالعدل المستحيل كما قيل، وإنما هو إباحة عامة تعرض لها الأحكام الشرعية الأخرى، تبعا لظروف صاحبها، وقد شفعه الشارع -مثل كل الأحكام- بوصاياه الخلقية، وضماناته القانونية، التي تجعل منه عند التطبيق مصلحة اجتماعية، ورحمة الناس، وتخفف إلى أقصى الحدود من أضراره الجانبية.
وقد قيده الله تعالى بضوابط وحدود منها:
1 - جعل حده الأقصى أربع نسوة كما قال تعالى: (فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ) [النساء: 3]، وكان في الجاهليات بلا حدود.
2 - أ, جب العدل والمساواة بين الزوجات، في جميع الحقوق التي في إمكان الزوج كالمبيت، والجماع، والنفقة، والمسكن، وغير ذلك، ولم يستثن من ذلك إلا (الميل القلبي) الذي لا يملكه أحد، بشرط ألا يكون له تأثير في المعاملة الظاهرة، ولذلك حث الله تعالى من يخشى التقصير على اجتناب التعدد، فقال تعالى في ختام الآية السابقة: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا) [النساء:3]، فجعل الله تعالى العدل أمرًا لازما يتحرى بقدر الوسع والطاقة كما قال تعالى: (وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ) [النساء: 129].
ذلك لأن العدل الكامل المطلق غير مستطاع، خاصة ميل القلب، فأمر الله تعالى بالعدل الممكن، الذي لا يترخص فيه صاحبه، ولا يتنطع (1).
_________
(1) انظر: المنهاج القرآني في التشريع (588).(1/523)
وبهذا يستبين خطأ الذين قالوا: إن العدل شرط لصحة التعدد، وقد نفى الله القدرة عليه، وبالتالي فهو نفي لإباحة التعدد، وهذا خطأ في التأويل، واعتساف في التفسير، وفي ظني أن القائلين بهذا أرادوا الدفاع عن الإسلام في وجه مهاجميه خاصة في أواخر القرن الماضي وما تلاه، حين اشتدت موجة الهجوم والتشكيك على الإسلام.
واليوم يعود المنكرون الطاعنون إلى التسليم بصحة هذا المبدأ، وينادي كثير منهم بإباحته في مجتمعاتهم، وقد ساق الشيخ محمد رشيد مجموعة من مقالات عديدة من الصحف الأوروبية دعا فيها كاتبوها إلى إباحة التعدد، ويقارنون يبنه وبين مفاسد المجتمع الأوروبي تجد ذلك في تفسير المنار (1)، ووجدت في تفسير الشيخ ممد رشيد رأي الشيخ محمد عبده (2) -رحمه الله-: (في تعدد الزوجات حيث اشتد على مبدأ تعدد الزوجات وكذلك مدرسته من بعده، ويتلخص رأي محمد عبده في: (أنه ضرورة بغيضة اشترط الله لها ما يصعب تحقيقه وأنها أجيزت لضرورات تاريخية لم يعد لها مبرر أو وجود الآن) (3)، ولم يحالفه الصواب وإنما تأثر بالهجمة الغربية الشرسة على أحكام الإسلام.
وبقي أن نشير إلى أن كل المجتمعات التي تحرم التعدد، وتنعي على إباحته بحجة أنه امتهان لكرامة المرأة، وإيذاء لمشاعرها، ومجلبة لمفاسد اجتماعية من ناحية اختلاف الأسرة، ونحو ذلك، هذه المجتمعات تبيح للمرأة أحط أنواع العلاقات سفاحا، وعهرا، وخدانا، وتعترف بأبناء الحرام تيسيرا لهذه العلاقات، والواضح أن أول ضحية لهذه الأوضاع هي المرأة، التي جعلت فريسة سهلة لعلاقات آثمة مع رجال لا
_________
(1) انظر: تفسير المنار، (4/ 348).
(2) هو محمد عبده بن حسن خير الله من آل التركمانين ولد في مصر سنة 1266هـ، وتعلم في طنطا ثم الأزهر، وتصوف وتفلسف وكتب في الصحف وتعلم اللغة الفرنسية بعد الأربعين، وشارك في محاربة الاستعمار الإنجليزي، وتولى القضاء، ثم أصبح مفتي الديار المصرية، واستمر على ذلك إلى أن توفى سنة 1323هـ.
انظر: الأعلام (6/ 252).
(3) انظر: المنهاج القرآن في التشريع (588).(1/524)
يتحملون مسؤولية الأسرة، ورعاية الأبناء الذين يخرجون من هذه العلاقات، ليكونوا بلاء على المجتمع كله (1).
إن إباحة تعدد الزوجات بالشروط والحدود المذكرة يدل على وسطية القرآن في باب التشريع، وقد اختلف الفقهاء في حكم التعدد، فذهب الجمهور إلى أن الأمر في قوله تعالى: (فَانكِحُوا) للإباحة مثل أمر في قوله تعالى: (وكُلُوا وَاشْرَبُوا) وفي قوله: (كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) [طه: 81]، وقال أهل الظاهر: النكاح واجب وتمسكوا بظاهر هذه الآية: (فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم) (2).
ولست في صف المدافعين عن الإسلام، فأحكام القرآن واضحة بينة تقنع العقل، وتؤثر في القلب، وتطهر النفس وترشد إلى الطريق المستقيم، بل إني في صف المهاجمين على النظم الجاهلية، التي ترى الحسن قبيحا، والقبيح حسنا، والحلال حراما، والحرام حلالا، فتقبل أن يكون للرجل عشيقات وخدينات، ويعاشرهن بطريق الفاحشة والرذيلة، وتستنكر عليه أن يعدد الزوجات، فيكون له اثنتان أو ثلاث، بطريق العفة والطهر، بل رأينا ما هو أقبح من هذا عند الغربيين، المعترضين على شريعة الإسلام، وتلامذتهم المفتونين بمبادئ الغرب، من بعض أبناء المسلمين، حيث جعلوا للمرأة الحرية أن تعاشر من تشاء، دون مؤاخذة أو معارضة، ونتج عن ذلك تعدد الأزواج، فالمرأة عندهم لا تقتصر على زوجها؛ بل تمارس حقها في الاتصال بمن تشاء كما يصنع الرجل مع الصديقات والعشيقات.
فلينظر العاقل إلى أية درجة من الانتكاس وصلت هذه الحضارة الغربية العفنة، ثم هم بعد ذلك يعترضون على نظام الإسلام، ويعتبرون ما هم عليه من القذارة حضارة؟ (فَمَا لِهَؤُلاءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا) [النساء: 78] (3).
فإن مسألة تعدد الزوجات وتقييده بشروط وحدود تدل عل وسطية القرآن الكريم في باب التشريع.
_________
(1) انظر: المنهاج القرآني في التشريع (589).
(2) روائع البيان في تفسير آيات الأحكام، للصابوني (1/ 397).
(3) انظر: المرجع السابق، (1/ 402).(1/525)
المبحث الرابع
الطلاق
ومن أمثلة الوسطية في التشريع في القرآن الكريم، قضية الطلاق حيث وقع الناس فيها بين الإفراط والتفريط فكان أهل الجاهلية من العرب يطلقون كيف شاؤوا بدون حدود أو ضوابط أو معالجة لما يترتب عليه الطلاق من أمور متعددة، وأما أهل الكتاب فكانوا لا يسمحوا للرجل أن يطلق أبدًا.
أما الإسلام فوضح لأتباعه أن الطلاق مسموح به للضرورة وجعله أبغض الحلال إلى الله، وجعله آخر الدواء وليس تشهيا، وهذا عين التوسط وحكمته البالغة (1).
ومنهج الوسطية في التشريع معالمه واضحة في موضوع الطلاق وأحكامه فلم يحرم الطلاق، ولم يجعله متاحا دون قيد أو شروط أو وصف.
بل إنه فرق بين الحالات التي تبين فيها المرأة من طلقة واحدة أو ثلاث طلقات، وهكذا إن وسطية القرآن في التشريع في موضوع الطلاق راعت أحوال وأوضاع المرأة والرجل والأسرة والمجتمع.
آيات الطلاق في القرآن:
قال تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاَحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ
_________
(1) الوسطية في الإسلام (108).(1/526)
عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة: 228 - 3231].
أولا: المعني الإجمالي لآيات الطلاق:
يقول الله تعالى ما معناه: الأزواج المطلقات اللواتي طلقهن أزواجهن لسبب من الأسباب على هؤلاء انتظار مدة من الزمن هي مدة (ثلاثة أطهر) أو (ثلاثة حيض) لمعرفة براءة الرحم حتى لا تختلط الأنساب.
وأزواجهن أحق بهن في الرجعة من الأجانب إذا لم تنقض عدتهن، وكان الغرض من هذه الرجعة (الإصلاح) لا (الإضرار) ولهن من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف على ازواجهن، مثل الذي عليهن من الطاعة فيما أمر الله -عز وجل-، وللرجال عليهن درجة القوامة، والإنفاق والإمرة والطاعة.
ثم بين تعالى أن الطلاق الذي تجوز به الرجعة مرتان، فإن طلقها الثالثة فلا تحل له حتى تتزوج بعده بزوج آخر، أما إذا لم يكن الطلاق ثلاثا فله أن يراجعها إلى عصمة نكاحه، فإما أن يمسكها بالمعروف فيحسن معاشرتها وصحبتها، وإما أن يطلق سراحها لتتزوج بمن تشاء لعلها تسعد بالزواج الثاني (وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ) [النساء: 130].
ولا يحل الله لكم أيها الرجال تأخذوا مما دفعتم إليهن من المهور شيئا؛ لأنكم قد استمتعتم بهن إلا إذا خفتم سوء العشرة بين الزوجين، وأرادت الزوجة أن تختلع بالنزول عن مهرها أو بدفع شيء من المال لزوجها حتى يطلقها فليس هناك جناح من أخذ الفداء، ثم بين تعالى أنه إذا طلقها الثالثة بعد أن راجعها مرتين، فلا تل له إلا بالزواج بزوج آخر، بعد أن يذوق عسيلتها وتذوق عسيلته، فإن طلقها(1/527)
الزوج الثاني فلا بأس أن تعود إلى زوجها الأول إن كان ثمة دلائل على الوفاق والتلاق، ثم أمر الأولياء بألا يمنعوا المرأة من العودة إلى زوجها إذا رغبت في العودة، لا سيما إذا صلحت الأحوال وظهرت أمارات الندم على الزوجين في استئناف الحياة الفاضلة والعيشة الكريمة (1).
وإذا نظرت في سبب نزول هذه الآيات وجدت أن الهدف الأساسي هو رفع الظلم وإزالة الحرج وتيسير الأمور والهداية إلى الصراط المستقيم، فقد ذكر في سبب نزول هذه الآيات أن أهل الجاهلية لم يكن عندهم للطلاق عدد، وكان يطلق الرجل امرأته ما شاء من الطلاق، فإذا كادت تحل راجعها، فعمد رجل لامرأته على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال لها: لا آويك ولا أدعك تحلين، قالت كيف؟ قال: أطلقك فإذا دنا مضى عدتك راجعتك، فشكت ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله تعالى: (الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) (2).
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: كان الرجل يطلق امرأته ثم يراجعها قبل انقضاء عدتها ثم يطلقها، يفعل بها ذلك يضارها ويعضلها فأنزل الله تعالى: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ) (3).
وأخرج البخاري عن معقل بن يسار (4) -رضي الله عنه- أنه زوج أخته رجلا من المسلمين على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- فكانت عنده ما كانت ثم طلقها طليقة لم يراجعها حتى انقضت العدة، فهويها وهويته ثم خطبها مع الخطاب فقال له:
"يا لكع (5) أكرمتك بها وزوجتك فطلقتها: والله لا ترجع إليك أبدًا قال: فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل الله: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ
_________
(1) انظر: روائع البيان تفسير آيات الأحكام (1/ 300).
(2) رواه الترمذي، كتاب الطلاق، باب (16: 2/ 497 رقم 1192).
(3) جامع البيان للطبري (2/ 480).
(4) هو معقل بن يسار المزني البصري -رضي الله عنه- من أهل بيعة الرضوان، مات بالبصرة في آخر خلافة معاوية.
انظر سير أعلام النبلاء (2/ 576).
(5) لكع: أي لئيم.(1/528)
تَعْضُلُوهُنَّ) [البقرة: 232]، فلما سمعها معقل: قال: سمعا لربي وطاعة ثم دعاه فقال: أزوجك وأكرمك" (1).
ثانيا: الحكمة من الطلاق:
فإذا تأمل العاقل حكمة الله في الطلاق وجده عدة حكم منها: عدم تعطيل النسل المرغوب فيه، فقد تكون المرأة عقيمة لا تلد، والرجل فقيرا لا قدرة له على الجمع بين زوجتين وهو في الوقت نفسه يرغب في الولد ليعينه في شيخوخته، ويحفظ له اسمه بعد موته، ومن الحكم أيضًا: رفع الحرج عن الزوجين، لأن أحدهما قد يتصف بسوء خلقه، أو فساد في تربيته أو ضعف في دينه، أو يكون بينهما تخالف في الطباع وتضاد في المقاصد فتتنافر القلوب، أو ينعدم التآلف، والأسرة إذا لم تقم على المحبة أو تدعم بالموافقة تداعت أركانها وانهار بناؤها (2).
ولهذا نرى كثيرا من الدول الأوروبية والأمريكية اضطرت أخيرًا إلى تبني ما كانت تكره سابقا على الإسلام، فقد أقرت الزواج المدني الذي يحتوي على الطلاق، وجعلته شرعة ثابتة في قانونها الشخصي وأصلا من أصول مدنيتها الحديثة، وإن خالف ذلك أصول دينها.
ثم إن الطلاق ليس بدعا في الشرائع؛ بل هو عريق في الأمم القديمة، وقد كان الرجل يستعمله بمطلق حريته، وليس للمرأة أن تطلبه بحال من الأحوال وظل الأمر كذلك إلى عهد الدولة الرومانية حيث أصبحت الروابط جد واهية والطلاق فاشيا، وعلى ذلك جرت القوانين العبرية القديمة والأثينية وكان الأمر فيه إفراط وتفريط.
ثم لما جاءت الديانة الموسوية حسنت من أحوال الزوجة ولكنها أباحت الطلاق لسبب من ثلاثة: الزنى والعقم، وعيب الخلق أو الخلق.
أما المسيحية فالرأي الغالب بين رجال الكنيسة هو: أن الطلاق -حتى في حالة
_________
(1) رواه البخاري، كتاب التفسير، باب (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ) (5/ 189 رقم 4529).
(2) روح الدين الإسلامي، لعفيف طبارة (376).(1/529)
الزنى- محرم، فيجب على الزوج إعادة زوجته الخاطئة متى ندمت وتابت عن ذنبها، ولكن للزوج الحق؛ بل واجب عليه أن يبتعد عن التي تصر على خطئها، كما أنه ليس له الحق في التزوج، فزني الزوجة يؤدي إلى الانفصال الجسماني إذا دعاه الزوج وليس الأمر كذلك بالنسبة لزنى الزوج، فالانفصال الجسماني لا يفصم عرى الزوجية وإنما يؤدي فقط إلى إعفاء الزوجين من واجبات الزوجية، ومع ذلك فقوامة الزوج على زوجته تبقى ولا تزول.
فالتفريق الجسدي الذي وضع أسسه رجال الكنيسة لا يختلف عن الطلاق إلا بمسألة عدم تلاشى الزواج اسما، لكن الزواج في الحقيقة قد تلاشى فعلا.
فالزوجان يعيشان متباعدين ولم يبق بين الزوجين من أحكام الزواج إلا أمران: وجوب النفقة عند الحاجة، ووجوب المحافظة على عفتهما، زد على ذلك: أن قيام الزواج اسما يمنعها من الزواج ثانيا، ويكونان كما قال المسيو بلانيول (1): (قد ضحيا ببقائهما دون ما أمل، ويجدان أنفسهما قد حكم عليهما بالعزوبة الإجبارية) وقال أيضًا: (إن في أغلب الأوقات يكون الباعث على استحالة بقاء الحياة هو زنى أحد الزوجين أو زنا الاثنين معا، فهل يظن إذا فرق بينهما أن يتخليا عن علاقتهما غير المشروعة؟ ثم ما هو المركز الاجتماعي للمرأة المهجورة؟ وما هو مركز الزوج إذا كانت المرأة تعبث بشرفه حاملة مجررة اسمه واسم أولاده في كل مكان، ومعجزة إياه بطلب الدراهم، أو مهددة إياه بفضائح جديدة؟)، ثم قال: (إن التفريق الجسدي لا يزيل داء إلاويستبدل بداء آخر، فإنه لا يوجد البتة صبغة حياة زوجية بين زوجين مكرهين على أن يعيشا معا، ولكن توجد فضائح علنية تحمل الزوج الآخر على اليأس، حتى إن الزوجين بعد التفريق الجسدي يمكنهما أن يقترفا المساوئ أكثر من ذي قبل) (2).
وهذه أحكام تصطدم مع الفطرة السليمة، والعقول الحكيمة، وتبتعد عن معاني
_________
(1) بلانيول: القانون المدني الفرنسي (1/ 367) نقلا عن روح الإسلام (378).
(2) القانون المدني الفرنسي (1/ 368)، نقلا عن روح الإسلام (378).(1/530)
الإنسانية التي جاءت الشرائع السماوية لتحث الناس عليها، ولذلك لا نستغرب إلحاح الجماهير وضغطها على الحكومة الإيطالية في إيطاليا حتى تصدر الدولة قانونا يبيح الطلاق أمام القضاة، وكان لهذا القانون دوي هائل في إيطاليا كلها، وعلى الفور انبرت (الكنيسة الكاثوليكية) لمقاومته، وجمعت ألوف الأصوات حتى ترغم الحكومة على إجراء استفتاء شعبي عليه، ورغم جهود الفاتيكان ونفوذ الكنيسة، ودعاويها الدينية، إلا أن نداء الفطرة كان أقوى وأندى وانتصرت الفطرة وصدر قانون إباحة الطلاق وابتهج الشعب الإيطالي بذلك (1).
وننقل هنا بعض ما نشرته الصحف على سبيل المثال:
(روما - وكالات الأنباء: احتفل مئات الألوف من الإيطاليين مساء أمس الأول بنتيجة الاستفتاء الذي أسفر عن الإبقاء على إباحة الطلاق، فساروا في مواكب نظمت في المدن الكبرى، وهم يحملون المشاعل والأعلام ... ).
وتعتبر هذه النتيجة هزيمة قاسية للحزب المسيحي، والكنيسة، ومما يذكر أن النتيجة كانت 59% (2)، مؤيدين لإباحة الطلاق، بينما عارضت الطلاق 40%ـ وهذا كله من أجل حقيقة واحدة قررها القرآن العظيم، وأغنى البشر فيها بشريعته عن متاعب وتجارب القرون، ولم تلحق به أوروبا فيها إلا بعد أن ذاقت الويلات الهائلة نفسيا واجتماعيا (3).
ثالثا: مسالك القرآن والسنة في علاج الخلاف العائلي بين الزوجين:
سلك الإسلام في معالجة الخلاف العائلي بين الزوجين الطرق التالية:
1 - دعا الزوجين إلى أن يشعر كل واحد منهما بمسؤوليته نحو الآخر ونحو أولادهما أما الله -سبحانه وتعالى- فهو المطلع على أعمالهم سواء كانت خيرا أو شرًا
_________
(1) انظر: المنهاج القرآني في التشريع (578).
(2) انظر: جريدة الجمهورية، بالقاهرة، تاريخ الأربعاء، 25 مايو 1974م.
(3) انظر: المنهاج القرآن يفي التشريع (578).(1/531)
وهو الرقيب الحفيظ العليم العزيز الحكيم قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم: 6].
وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته إلى أن يقول: والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيته" (1).
2 - فإذا بدأ الخلاف بينهما أوصاهما بأن يتحمل كلا أخلاق الآخر ويصبر على ما يكرهه منه، فالحياة لم تسو بين الناس في عقولهم وأخلاقهم وطباعهم، ولابد من إغضاء الإنسان عما لا يرضيه، وكثيرا ما يكون الخير فيما يكرهه الإنسان ويتأذى به.
وفي قوله تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) [النساء: 19].
وقد حكى لي أحد الآباء -رحمه الله- تعالى أنه تزوج امرأة حدثت بينهما مشاكل وكاد أن يطلق زوجته إلا أنه أثناء تلاوته لكتاب الله مر على الآية المذكورة فعزم على الإعراض عن فكرة الطلاق وصلح حالهما وبارك الله له في ذريته وأنجب منها ذكورًا وإناثا وأصبحوا رجالا ونساء على خير وصلاح منهم ثلاثة من حفظة كتاب الله.
3 - فإذا لم يعد أحدهما يعد يحتمل الآخر، ويصبر على الخلاف معه، واشتد الخلاف بينهما بحيث يخشى من الشقاق والافتراق، أوجب الإسلام أن يحكم أهلهما في هذا الخلاف، فيختار الزوج واحدًا يمثله، وتختار الزوجة واحدًا يمثلها ويجتمعان كمحكمة عائلية ينظران في أسباب الخلاف وعوامله، ويحاولان إصلاح الأمور بينهما بما يستطيعان، ولا ريب في أن كلا من الزوجة والزوجة إذا كان راغبا في إنهاء الخلاف وعودة الوئام بينهما إلى سابق عهده فإن الحكمين سينجحان في مهمتهما، وهذا ما تحدث عن القرآن الكريم بقوله: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُّرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا) [النساء: 35].
_________
(1) رواه البخاري، كتاب النكاح، باب المرأة راغبة في بيت زوجها (6/ 185 رقم 5200).(1/532)
فإذا لم ينفع التحكيم وأصر كل من الطرفين على موقفه، أجاز الإسلام أن يقع الطلاق بين الزوجين لمرة واحدة تعتد فيها الزوجة في بيت الزوجية مدة تقارب ثلاثة أشهر ويعرف ذلك في محله في كتب الفقه، وفي خلال العدة تعيش الزوجة في بيت الزوجية، إلا أن زوجها لا يعاشرها معاشرة الأزواج، والحكمة من جعل العدة بهذا الشكل هو ترك الفرصة الكافية لإعادة الصفاء وزوال أثر الخلاف السيئ على حياتهما وحياة أولادهما، فلعلهما يعودان عن الخصام والنزاع، ويعود الهدوء والحب إلى جو الأسرة.
هذا مع أن الإسلام أجاز إيقاع الطلاق في هذه الحالة كأمر لا مفر منه فإنه يراه مكروها، وينفر منه أشد التنفير ويجعله أبغض الحلال إلى الله (1).
ثم إن هذه الطلقة التي أوقعها الزوج تعتبر طلقة رجعية ما دامت المرأة في العدة، بمعنى أن الزوج يستطيع أن يرجع إليها من غير مهر ولا عقد ولا شهود؛ بل يكفي أن يتعاشرا معاشرة الأزواج لينتهي أثر هذه الطلقة، وتعود الحياة الزوجية غل سابق عهدها وفي مذهب الشافعي لا بد من المراجعة بالقول كأن يقول لها (راجعتك) فتحل له رأسا (2).
5 - إذا انتهت العدة ولم يراجع الزوج زوجته أصبحت الطلقة بائنة بمعنى أن الزوج لا يستطيع أن يعود إليها إلا بمهر وعقد جديدين، وإن المرأة لو رفضت العودة إليه وفضلت أن تقترن بزوج آخر، لا يملك الزوج الأول إجبارها على العودة، ولا منعها ن الزواج بالثاني.
6 - إذا عاد إلى الحياة الزوجية -سواء خلال العدة أو بعدها- ثم تكرر الخلاف نعيد ذات الخطوات السابقة، من إيصائهما بحسن معاملة أحدهما للآخر، وتحمل أحدهما ما يكرهه من الثاني، فإذا اشتد الخلاف ثانية لجأنا ألى التحكيم العائلي، فإذا لم ينجح في الإصلاح بينهما كان للزوج أن يطلقها طلقة ثانية، ولها ذات الأحكام التي تأخذها الطلقة الأولى (3).
_________
(1) المرأة بين الفقه والقانون، للدكتور مصطفي السباعي (125).
(2) المرأة بين الفقه والقانون، للدكتور مصطفي السباعي (125).
(3) المرأة بين الفقه والقانون، للدكتور مصطفي السباعي (125).(1/533)
7 - فإذا عاد الزوج إلى زوجته بعد الطلقة الثانية وعاد الخلاف بينهما، عدنا إلى اتخاذ الخطوات السابقة قبل إيقاع الطلاق، فإذا لم ينفع كل ذلك في الإصلاح بينهما جاز للزوج أن يطلق زوجته الطلقة الثالثة والأخيرة، وتصبح بائنة منه بينونة كبرى، بمعنى أنه لا يستطيع أن يرجعها إليه بعد هذه الطلقة إلا بعد إجراء شديد الوقع على نفس الزوج والزوجة معا وهو أن تكون الزوجة تزوجت بآخر بعد انقضاء عدتها من الأول، ثم وقع الخلاف بينها وبين الثاني فطلقها، عندئذ يجوز للزوج الأول أن يعود إليها بعد عدتها من طلاق الزوج الثاني، ويجب أن يكون ذلك كله طبيعيا من غير احتيال ولا تواطؤ.
والحكمة من هذا الإجراء أن الزوج لا يقدم على إيقاع الطلقة الثالثة بعد كل ما سبق من محاولات التحكيم، وبعد طلقتين سابقتين اعتدت المرأة بعدهما، إلا بعد استفحال الخصومة بينه وبين زوجته، بحيث أصبح يعتقد أن استمرار حياتهما الزوجية على هذا الشكل، طلاق وافتراق ثم عودة التقاء مرتين متتاليتين، أصبح جحيما لا يطاق، وأنه قرر التخلص نهائيا من هذه الرابطة الزوجية، فأفهمه الشارع أنه حين يوقع الطلقة الثالثة قد بانت عليه بينونة كبرى لا سبيل إلى رجوعها إليه إلا بعد أن تجري الحياة الزوجية مع زوج آخر، ولو أبحنا له أن يعود إلى الزواج منها بعد طلاقها للمرة الثالثة، ثم يعود فيطلقها حين يختلفان، ثم يود فيرجعها حين يتفقان لكان ذلك عبثا في الحياة الزوجية واستمرار لتعاسة الأسرة وشقائها إلى ما لا نهاية، إذن فلا بد من حد يقف عنده الطلاق، وقد قدره الشارع بثلاث تخفيفا لعذاب الزواج والزوجة والأولاد على السواء، وهذه هي أهم مبادئ الطلاق وخطواتهن وهي كما ترى حريصة كل الحرص على أن لا تنقطع الحياة الزوجية لأول خلاف يقع بينهما؛ بل جعلت لهم فرصة يستطيعان فيها إصلاح ما في نفسيهما إن أرادا الإصلاح والعيش معا في حياة هانئة مستقرة (1). وهذا يدل على وسطية القرآن في تشريع أحكام الطلاق قد وضحته السنة وتابعه الصحابة واقتفى أثرهم التابعون بإحسان.
_________
(1) المرأة بين الفقه والقانون، (125)، إلى (127).(1/534)
رابعًا: من وسطية القرآن في الطلاق جعله في يد الرجل:
إن الله -سبحانه الله- بين في آيات الطلاق أن الطلاق في يد الزوج ولم يجعله في يد المرأة ولم يجعله في يد القاضي إلا إذا كان بطلب المرأة، قد يقول القائل: (إن الطريق المثلي إذا كان الزوجان غير متفقين في الطلاق أن يكون بيد القاضي ليس لأحدهما أن ينفرد به؛ لأن القاضي ناظر غير متحيز، ولأن العقد الذي ينشئ حقوقا لازمة لا تبطله الإرادة المنفردة، ولأنه جعل بيد أحدهما لانفصم العقد بنوبة غضب عارضة فإذا جاء الندم كان في غير وقته.
وإن لذلك مكانا من الفكر، قد أخذت به شرائع ولكنه لا يستقيم إلا إذا كانت أمور النفوس وخفايا القلوب يمكن أن تثبت بالدليل الظاهري، لأن القاضي لا يقضي إلا بما تثبته الأمارات والبينات، ثم إن القضاء إنما ينظر فيما هو أحق أو ظلم ليقر الحق ويمنع الظلم، والمسألة في الحياة الزوجية ليست مسألة ظالم ومظلوم، وإنما هي صلاحيتها للبقاء بإمكان استمرار المودة، أو عدم صلاحيتها، فمثلا إذا تقدم الزوج طالبا الطلاق لأنه أصبح ببغض زوجه، وأن حبل المودة قد تقطع بينهما، وأنه حاول إصلاح الأمر -فلم يفلح- أفيطلق القاضي أم لا يطلق؟
لا شك أن الطلاق في هذا الحال أمر لا بد منه، ولكن ما الفرق بين إيقاع القاضي الطلاق وإيقاعه هو؟ وإذا كان سبب الطلاق أمرًا غير الحب والبغض فهل من المصلحة الاجتماعية أن تنشر دخائل الأسر في دور القضاء، وتسجل في سجلاته، ومنها ما لا يسوغ إعلانه ... ) (1).
وبذلك تكون الأضرار عظمية من فضح الأسرار الزوجية أمام المحكمة والمحامين عن الطرفين، وقد تكون هذه الأسرار مخزنة، من الخير لأصحابها سترها لنتصور أن رجلا اشتبه في سلوك زوجته، وتقدم إلى المحكمة طالبا طلاقها لهذا السبب، كما تكون الفضائح في هذا الموضوع، وكم يكون مدى انتشارها بين الأقرباء والأصدقاء والجيران وبعض الصحف التي تتخذ من مثل هذه القضايا مادة للرواج؟
_________
(1) الأحوال الشخصية قسم الزواج، للعلامة أبو زهرة (278).(1/535)
إن المحاكم في بعض البلاد الغربية لا تحكم بالطلاق إلا إذا ثبت زنى الزوج أو الزوجة، وكثيرا ما يتواطئان فيما بينهما على الرمي بهذه التهمة ليفترقا، وقد يلفقان شهادات ووقائع مفتعلة لإثبات الزنى حتى تحكم المحكمة بالطلاق.
فأي الحالتين أكرم وأحسن وأليق بالكرامة، أن يتم الطلاق بدون فضائح، أم أن لا يتم إلا بعد الفضائح؟ (1).
وأما عطاء المرأة وحدها حق الطلاق، فيه خسارة مالية للرجل وزعزعة لكيان الأسرة، والمرأة لا تخسر ماديا بالطلاق؛ بل تربح مهرا جديدا، وبيتا جديدا، وعريسا جديدا، وإنما يخسر الرجل الذي دفع المهر للمرأة ويقوم بنفقه البيت والأولاد، وقد دفع نفقات العرس، وثمن أثاث البيت، فإذا أعطيت المرأة حق الطلاق بمجرد إرادتها سهل عليها أن توقعه متى اختصمت مع الزوج نكاية به ورغبة ي تغريمه، سيما وهي سريعة التأثر، شديدة الغضب، لا تبالي كثيرا بالنتائج وهي في ثورتها وغضبها، ولنتصور رجلا اختلف مع زوجته فإذا هي تطلقه وتطرده من البيت وهو صاحبه ومنفق عليه (2).
ويعجبني في هذا المقام ما قاله العلامة محمد الأمين الشنقيطي في تفسيره حيث قال: (ومن هدي القرآن للتي هي أقوم) جعله الطلاق بيد الرجل، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ) [الطلاق: 1]، ونحوها من الآيات؛ لأن النساء مزارع وحقول، تبذر فيها النطف كما يبذر الحب في الأرض، كما قال تعالى: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ) [البقر: 223].
ولا شك أن الطريق التي هي أقوم الطرق: أن الزارع لا يرغم على الازدراع في حقل لا يرغب الزراعة فيبه؛ لأنه يراه غير صالح له، والدليل الحسي القاطع ما جاء به القرآن من أن الرجل زارع، والمرأة مزرعة وأن آلة الازدراع مع الرجل؛ فلو أرادت المرأة أن تجامع الرجل وهو كاره لها، لا رغبة له فيها لم ينتشر، ولم يقم ذكره إليها فلا
_________
(1) انظر: المرأة بين الفقه والقانون (128 - 129).
(2) انظر المرجع السابق (127 - 128).(1/536)
تقدر منه على شيء، بخلاف الرجل فإنه قد يرغمها وهي كارهة فتحمل وتلد؛ فدلت الطبيعة والخلقة على أنه فاعل وأنها مفعول به ولذا أجمع العقلاء على نسبة الولد له لا لها. وتسوية المرأة بالرجل في ذلك مكابرة في المحسوس كما لا يخفى) (1).
وأما الدكتور مصطفي السباعي (2) -رحمه الله- فيقول: (وجعل الطلاق بيد الرجل وحده، وهو الطبيعي المنسجم مع واجباته المالية نحو الزوجة والبيت، فما دام هو الذي يدفع المهر ونفقات العرس والزوجية، كان من حقه أن ينهي الحياة الزوجية إذا رضي ويتحمل الخسارة المالية والمعنوية الناشئين في رغبته في الطلاق والرجل في الأعم الغالب أضبط أعصابًا، وأكثر تقديرا للنتائج في ساعات الغضب والثورة، وهو لا يقدم على الطلاق إلا عن يأس من إمكان سعادته الزوجية مع زوجته ومع علم ما يجره الطلاق من خسرة، وما يقتضيه الزواج الجيد من نفقات، فقل أن يقدم عليه إلا وهو على علم تام بالمسؤولية، وعلى يأس تام من استطاعته العيش مع زوجته، لذلك نجد أن إعطاء الرجل وحده حق الطلاق طبيعي ومنطقي ومنسجم) (3).
وهذا يدل على حكمة العلي الحكيم في تشريعاته الرشيدة، كما يدل على وسطية القرآن وحكمته ووضعه للناس على الصراط المستقيم، ومع هذا فقد راعي الشارع الحكيم أمورًا وظروفا قد تمر بالمرأة لا تستطيع أن تستمر في الحياة الزوجية فجعل من حقها أن تطلق الطلاق أو فسخ النكاح ويسمي هذا في أبواب الفقه: الخلع (4).
ويكون ذلك عن طريق القاضي، وحكمة ذلك: أن المرأة تحكمها العاطفة، والعاطفة إذا سيطرت على الأمور الخطيرة قد تضر ولا تنفع، والطلاق من أخطر الأمور، وقد لوحظ أن النساء اللواتي يملكن حق الطلاق لأنفسهم يسئن استخدام هذا الحق، ويطلقن أنفسهن لأتفه الأمور، ولو أننا جعلنا الطلاق بيد المرأة لكان ذلك ظلم
_________
(1) أضواء البيان (3/ 414 - 415).
(2) هو مصطفى حسني السباعي من حمص ببلاد الشام، ولد عام 1917م، وتوفى عام 1964م، من كبار الإخوان المسلمين بسوريا ترك مؤلفات في الجانب الشرعي، ومن أشهرها السنة ومكانتها في التشريع.
(3) المرأة بين الفقه والقانون (129 - 130).
(4) الخلع: هو افتداء المرأة من زوجها الكارهة له بمال تدفعه إليه ليتخلى عنها.(1/537)
للرجل بضياع ما أنفق في سبيل هذا الزواج من نفقات مالية وإنها لكثيرة فلم يكن للمرأة حق طلب الطلاق إلا من طريق القاضي على شرط أن يقبل الزوج، وتعوضه الزوجة بعض خسارته أو كلها، تلك الخسارة التي تلحق به من جراء الطلاق (1).
وقد روى البخاري -رحمه الله- عن ابن عباس، أن امرأة ثابت بن قيس (2) أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقبل الحديقة وطلقها تطليقة" (3).
وقد استنبط الفقهاء من الحديث السابق ومن قوله تعالى: (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) [البقرة: 229]، أحكاما تدل على عدل الإسلام وحرصه على رفع الظلم الواقع بالمرأة، ولذلك جعلوا للخلع شروطا منها.
1 - أن يكون البغض من الزوجة، فإن كان الزوج هو الكاره لها فليس له أن يأخذ منها فدية، وإنما عليه أن يصبر عليها، أو يطلقها إن خاف ضررا.
2 - أن تطالب الزوجة بالخلع حتى تبلغ درجة من الضرر، تخاف معها أن لا يقيما حدود الله في نفسها أو في حقوق زوجها.
3 - أن لا يتعمد الزوج أذية الزوجة حتى تخالع منه، فإن فعل فلا يحل له أن يأخذ منها شيئا أبدًا، وهو عاص والخلع ينفذ طلاقا بائنا، فلو أراد مراجعتها لا يحل له إلا بعد عقد جديد (4).
ومن أراد الاستزادة فعليه بمراجعة كتب الفقه، وقد جعلت الشريعة للمرأة الحق في طلب الطلاق إذا امتنع الزوجة من خلع زوجته بشرط أن يكون لها سبب شرعي
_________
(1) انظر: روح الإسلام (380).
(2) قيل: هي جميلة بنت أبي بن عبد الله بن سلول، وقيل: هي حبيبة بنت سهل، انظر: سير أعلام النبلاء (1/ 312).
(3) رواه البخاري، وكتاب الطلاق، باب الخلع، (6/ 208 - 209 رقم 5273).
(4) منهاج المسلم لأبي بكر الجزائري (575).(1/538)
مثل: أن يكون بالزوج عيب مستحكم لا يمكن البرء منه، أو يمكن، ولكن بعد زمن طويل، ولا تقبل المقام معه، كالجنون والجذام والبرص، أو غاب عنها زوجها سنة فأكثر، أو ليست له المقدرة على إمتاع زوجته جنسيا وغير ذلك من الأسباب التي دونت عند الفقهاء (1).
خامسا: حماية الشريعة للزوجة في باب الطلاق:
وإذا كانت الشريعة قد أعطت الرجل الطلاق مطلقا من كل قيد فإنها قد فرضت عليه في مقابل ذلك واجبات قصد منها حماية الزوجة وحفظ مصلحتها. والطلاق إما أن يكون قبل الدخول، وقبل فرض مهر للزوجة، وإما أن يكون قبل الدخول وبعد فرض مهر للزوجة، وإما أن يكون بعد الدخول، وفي كل حال من هذه الحالات ألزمت الشريعة الرجل بالتزامات لا مفر منها عليه أن يؤديها للمرأة، وهذه الالتزامات تعتبر من ناحية تعويضا للمرأة كما أنها من ناحية أخرى تحمل الرجل على أن يفكر كثيرا قبل استعمال حق الطلاق.
أ- الطلاق قبل الدخول وفرض المهر:
إذا طلق الرجل المرأة قبل أن يدخل بها أو يفرض لها مهرا فعليه أن يمتعها أي يعوضها عن الطلاق بما يقتضيه العرف، أي بما تعارف أمثال الزوج ومن هم في طبقته على أدائه للمرأة في مثل هذه الحالة، والمقصود بالأمثال، أن يكونوا مثله من الناحية المالية وذلك قوله: (لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) [البقرة: 236].
ب- الطلاق قبل الدخول وبعد فرض المهر:
وإذا طلق الرجل زوجته قبل الدخول وبعد فرض المهر فهو ملزم بأن يدفع لها نصف المهر تعويضا على الطلاق طبقا لقوله تعالى: (وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن
_________
(1) انظر: روح الدين الإسلامي (385).(1/539)
تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) [البقرة:237].
ج- الطلاق بعد الدخول:
أما إذا طلق الرجل المرأة بعد الدخول فهو ملزم لها بكل المهر ولو كان أكثره غير حال، وعليه أن يسلمها كل ما قدمه لها بمناسبة الزواج أو ما ملكها إياه في حال الزوجية سواء كان ملزما به أم متفضلا به عليها وذلك طبقا لقوله تعالى: (وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا) [النساء: 20].
وعلى الزوج بعد ذلك أن ينفق على الزوجة حتى تستوفي عدتها وتصبح بذلك أهلا للزواج من غيره، وقبل أن تدخل في وسطية القرآن الكريم في فرض العدة على المرأة المطلقة وأحكامها وحكمتها نتكلم في وسطية القرآن في المتعة وعن مرونة أحكام الله في الطلاق، قال تعالى في شأن المطلقات: (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) [البقرة: 236].
وقال تعالى: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) [البقرة: 241].
والقضية تدور على عدة محاور، فإما ألا يكون هناك أي تمتيع للمطلقة، وهذا له آثاره السلبية وبخاصة على المطلقة التي ستسقبل حياة جديدة، تحتاج إلى تخفيف وقع الطلاق وأثره حسيا ومعنويا، وإما أن يكون هناك تمتيع مغلظ، وهذا فيه إثقال على الزوج المطلق، وإما أن تكون هناك متعة يراعي فيها ظروف الزوج وإمكاناته مع عدم إهمال حق المطلقة في المتعة، وهذا هو الأمر الوسط الذي أقره القرآن، وأصبح شرعا من لدن حكيم عليم (1).
ومن وسطية القرآن في أحكام الطلاق أنها جاءت مرنة وعامة إلى آخر حدود
_________
(1) انظر: الوسطية في ضوء القرآن (165).(1/540)
العموم والمرونة، ومن ثم كانت صالحة لكل عصر، ولكل مصر، ولم تكن في حاجة إلى التعديل أو التبديل، ولقد أثبت ذلك الزمن نفسه حيث مر على هذه النصوص أكثر من ثلاثة عشر قرنا وهي لا تزال على ما كانت عليه يوم نزولها من الجدة والصلاحية والسمو.
وإذا كانت الشريعة الإسلامية قد قررت حق الطلاق للزوجين من ثلاثة عشر قرنا وأحاطته بهذه الضمانات القوية العادلة، فإن العالم المتحضر لم يعرف هذا الحق، ولم يعترف به إلا في القرن العشرين، بل كان البعض يأخذون على الشريعة أنها جاءت مقررة لحق الطلاق، ثم دار الزمان دورته وجاء عصر العلوم والرقي، وتقدمت الأمم وتفتحت العقول فرأي المفكرون أن تقرير حق الطلاق نعمة على المتزوجين، وأنه الطريق الوحيد للخلاص من الزواج الفاشل، ومن سوء العشرة والآلام النفسية، وأن الطلاق هو الذي يحقق سعادة الزوجين إذا فشل الزواج في تحقيقها، وأنه يحفظ الرجل والمرأة من التعرض للخطاء ووساوس الشيطان (1).
_________
(1) انظر: التشريع الجنائي الإسلامي، للدكتور عبد القادر عودة (انظر 1/ 48).(1/541)
المبحث الخامس
وسطية القرآن في العدة
يعترض سبيل قطع العلاقات الزوجية عقبات يقصد منها الإبقاء على رابطة الزوجية حتى بعد وقوع الخلاف بين الزوجين الذي يؤدي إلى الطلاق.
فكل طلاق تتبعه فترة تريث تسمى العدة، جاء في القرآن: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) [الطلاق: 1].
وفترة التريث تتفاوت في طولها وقصرها تبعا لحالة الزوجة فمن وسطية القرآن جاءت أحكام العدة مفصلة منها:
أولا: عدة الحامل:
وهي وضع الولد: (وَأُولاَتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) [الطلاق: 4].
ثانيا: عدة المتوفى عنها زوجها (غير الحامل):
أربعة أشهر وعشرة أيام جاء في القرآن: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) [البقرة: 234].
ثالثا: عدة المطلقة (غير الحامل) تنقسم إلى قسمين:
أ- ذوات الحيض: وعدتهم ثلاثة قروء (1)، أي ثلاث دورات كاملة من الحيض والطهر، جاء في القرآن: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ) [البقرة: 238].
ب- عدة البائسات: وهن اللواتي تجاوزن سن الحيض، وعدتهن ثلاثة أشهر، جاء في القرآن: (وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ) [الطلاق: 4].
يلحق باليائسات اللاتي تجاوزن سن البلوغ دون أن يحضن مثلان ويجدر بالملاحظة أن المطلقة قبل الدخول، لا عدة عليها مطلقا لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
_________
(1) ثلاثة قروء تقريبا بثلاثة أشهر في أغلب النسا.(1/542)
آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً) [الأحزاب: 49].
فإذا وقع الطلاق وأصبحت الزوجة في العدة يستمر الزوجان يقطنان في مسكن واحد، ويستمر الزوج في الإنفاق، ولا يجوز للزوج أن يخرج الزوجة من بيت الزوجية إلا في حالة سوء السيرة، جاء في القرآن: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ) [الطلاق: 1]، فهذه الآية لها غاية واضحة هي فسح المجال للزوجين لإعادة العلاقات بينهما، وتخفيف حدة الخلاف، فإذا كان هنالك بقية من أمل أو محبة فإن هذه تظهر آثارها أثناء العدة فتكون وسيلة لعودة الألفة والوفاق.
وللعدة أحكام أهمها: أنه يحرم أن تخطب فيها، ومنها أنه يجب أن تظل في بيتها لا تخرج منه إلا لضرورة ملحة، هذا إذا كانت معتدة من طلاق لوجود من ينفق عليها، ولا تحرم عليها الزينة وما يتبعها لأن هذه تشجع على عودة الحياة الزوجية، أما إذا كانت معتدة لوفاة فإنها لا تخرج من المنزل إلا للضرورة الشديدة، ويحرم عليها الزينة وتوابعها.
والحكمة من العدة متعددة منها: أن الإسلام يحرص على بقاء الزوجية المؤبدة، فإذا حصل الطلاق فإن العدة تبقي من الصلات بين الزوجين ما يستطيع الزوج به مراجعة زوجته، فهي فترة لإمعان الفكر قبل حل الحياة الزوجية.
ومن حكم العدة: أنه يتبين فيها للمرأة الحمل وعدمه، وفي ذلك من النفع ما فيه كي لا تختلط الأنساب، ومنها: الحداد على المتوفى فإن وفاة الزوج خسارة فادحة للزوجة، إذا خسرت رب أسرتها ومعينها، فمن الوفاء أن تمتنع عن الزوج فترة من الزمن (1)، وبهذا يتضح لنا وسطية القرآن وحكمته واستقامته على الصراط المستقيم في أحكامه التي تصلح كل مكان وزمان، كما أنها صالحة لكل زمان ومكان.
_________
(1) روح الدين الإسلامي (385 - 386).(1/543)
المبحث السادس
وسطية القرآن في المواريث
كان الميراث في الجاهلية فوضى يورث من شاء ما شاء إلا النساء، فكان أهل الجاهلية لا يورثونهن، بل ربما ورثوهن تركة كما يورث المتاع، وذلك كالخالة زوجة الأب، كان يرث شخصها أكبر الأولاد بعد وفاة أبيهم، وجاء الإسلام فشرع نظاما متكاملا للإرث فريدا لم يسبق ولن يلحق، ومن الملاحظ أن التشريع الإسلامي في أغلبه جاء في القرآن مجملا وفصلته السنة المطهرة إلا نظام الإرث، فقد جاء مفصلا في سورتي النساء والمائدة، وبعض البقرة، فلم يترك الأمر سبهللا كما كان، بحيث تجتمع رؤوس الأموال بيد القلة من الناس، ولم يجعل التركة ملكا للدولة كما في بعض الأنظمة في العصر الحديث، فتنعدم المسؤولية الفردية والكيان الشخصي للإنسان، بل كان بيد هذا وذاك بحيث فتت الثروة تفتيتا، وأعطى هذه الثروة للأجيال القادمة بالوضع المعتدل المتزن إلى من ينبغي أن يحملوا الأمانة من بعد (1).
ميراث المرأة قبل الإسلام:
لقد كانت المرأة قبل أن تبزغ شمس الإسلام لا تعطي شيئا من الإرث، بحجة أنها لا تقاتل ولا تدافع عن حمى العشيرة، وكان العربي يقول: (كيف نعطي المال من لا يركب فرسا، ولا يحمل سيفا، ولا يقاتل عدوا) (2)!!.
فكانوا يمنعونها من الإرث كما يمنعون الوليد الصغير.
ومن هنا يعلم الباحث المنصف، أن الشريعة الإسلامية، جاءت والعرب تظلم النساء، ولا تعطيهن من ميراث أزواجهن أو آبائهن شيئا، فقررت الشريعة السمحة بهذه الآيات لهن حقا في الميراث، يأخذنه بعزة وكرامة، لا منة لأحد عليهن، وليس حسانا أو تحنثا، بل هو فريضة الله لهن.
_________
(1) الوسطية في الإسلام (108 - 109).
(2) انظر: المواريث في الشريعة للصابوني (19).(1/544)
ولما نزلت آيات المواريث، كبر ذلك على العرب، فكانوا يودون أن ينسخ ذلك الحكم؛ لأنه كان يخالف ما اعتادوه وألفوه (1).
روى أن جرير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: (لما نزلت الفرائض التي فرض الله فيها ما فرض، للولد الذكر، والأنثى، والأبوين، كرهها بعض الناس، وقالوا: تعطي المرأة الأربع، والثمن، وتعطي الابنة النصف، ويعطي الغلام الصغير، وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم، ولا يحوز الغنيمة!! اسكتوا عن هذا الحديث، لعل رسول الله ينساه، أو نقول له فيغيره .. فقال بعضهم يا رسول الله أنعطى الصبى الميراث، وليس يغني شيئا، أنعطي الجارية نصف ما ترك أبوها وليست تركب الفرس، ولا تقاتل القوم؟؟) (2).
هذا شأن الإسلام مع المرأة، رفع عن كاهلها الظلم، ودفع عنها العدوان وورثها بعد أن لم تكن ترث، وجعل لها نصيبا مفروضا على كره من الرجال .. ولكن نبتت في هذا الزمان نابتة خطيرة، وظهرت فكرة ضالة خبيثة يقولون: إن الإسلام بخس المرأة حقها في الميراث، وجعلها على النصف من حظ الرجل!! يريدون -على حد زعمهم- دفع الظلم عنها بتسويتها بالرجل في الميراث، وهؤلاء إنما هم (ثعالب البشر) يمكرون بالمرأة ويغررون بها من أجل أن تتمرد على تعاليم الإسلام، وتطالب بالمساواة مع الرجل، ومن العجب أن هؤلاء الذين يبكون أو يتباكون على المرأة، هم أنفسهم الذين ضنوا عليها بلقمة العيش، وبخلوا عليها بالنفقة، وأجبروها على النزول إلى العمل، وإلى الحانوت، وإلى المكتب، لتكتسب وتنفق على نفسها من مالها الذي جمعته إنهم تلامذة الغربيين، المخدعون بمدنيتهم الكاذبة، الذين لا يقيمون للمرأة وزنا، ولا ينظرون إليها إلا بمنظار الشهوة والمتعة، يبخلون عليها بالنفقة ويحرمونها من حرية التصرف، حتى في أموالها الخاصة، إلا بإذن الرجل، ويكلفونها بأن تعمل لتكسب، وتنفق على نسها، ويعرضونها للخطر في نفسها وعرضها ثم يدعون أن الدين قد ظلمها وان الشريعة قد بخستها حقها!! (3).
_________
(1) انظر: المواريث في الشريعة للصابوني (19).
(2) تفسير الطبري.
(3) انظر: المواريث في الشريعة الإسلامية (20).(1/545)
وقد أعجبني ما قاله الدكتور مصطفي السباعي -رحمه الله- في الرد على من زعم أن الإسلام لم يساو بين المرأة والرجل في الميراث، وهذا يعتبر ظلما حيث قال: (إن الإسلام أثبت تقديره للمرأة، ورعايته لحقوقها، بإعطائها حق الميراث، خلافا لما كان عليه عرب الجاهلية وكثير من الشعوب القديمة وبعض الشعوب في العصر الحاضر) (1).
كما أنه راعي العدالة في توزيع الأعباء والواجبات، ففي نظام الإسلام يلزم الرجل بأعباء وواجبات مالية لا تلزم بمثلها المرأة، فهو الذي يدفع المهر، وينفق على أثاث بيت الزوجية، وعلى الزوجة والأولاد.
أما المرأة فهي تأخذ المهر ولا تسهم بشيء من نفقات البيت على نفسها وعلى أولادها ولو كانت غنية، ومن هنا كان من العدالة أن يكون نصيبها في الميراث أقل من نصيب الرجل، وقد كان الإسلام معها كريما متسامحا حين طرح عنها كل تلك الأعباء، وألقاها على عبء الرجل ثم أعطاها نصف ما يأخذ (2).
إن الشرائع التي تعطي المرأة في الميراث مثل نصيب الرجل، ألزمتها بأعباء مثل أعبائه، وواجبات مالية مثل واجباته، لا جرم أن كان إعطاؤها مثل نصيبه في الميراث في هذه الحالة أمرًا منطقيا ومعقلا، أما أن نعفي المرأة من كل عبء مالي، ومن كل سعي للإنفاق على نفسها وعلى أولادها، ونلزم الرجل وحده بذلك، ثم نعطيها مثل نصيبه في الميراث، فهذا أمر ليس منطقيا مقبولا في شريعة العدالة (3).
يقول الدكتور: (جوستفان لوبون) الفرنسي في كتابه: (حضارة العرب): (ومبادئ المواريث التي نص عليها القرآن على جانب عظيم من العدل والإنصاف .. والشريعة الإسلامية منحت الزوجات -اللواتي يزعم أن المسلمين لا يعاشرونهن بالمعروف - حقوقا في المواريث لا نجد مثلها في قوانيننا) (4).
_________
(1) المرأة بين الفقه والقانون، (34).
(2) المرأة بين الفقه والقانون، (34).
(3) المرجع السابق (35 - 36).
(4) حضارة العرب ترجمة عادل زعيتر (416).(1/546)
وقال الشيخ محمد الأمين في أضواء البيان: (ومن هدى القرآن للتي هي أقوم -تفضيله الذكر على الأنثى في الميراث- كما قال تعالى: (وَإِن كَانُوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [النساء: 176].
وقد صرح تعالى في هذه الآية الكريمة: أنه يبين لخلقه هذا البيان الذي من جملته تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث لئلا يضلوا فمن سوى بينهما فيه فهو ضال قطعا، ثم بين أنه أعلم بالحكم والمصالح وبكل شيء من خلقه بقوله: (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [النساء: 11]، ولا شك أن الطرق للتي هي أقوم الطرق وأعدلها، تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث الذي ذكر الله تعالى، كما أشار إلى ذلكم بقوله: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) [النساء: 34]، أي وهو النساء، وقوله: (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) [البقرة: 228]، وذلك لأن الذكورة كمال خلقي، وقوة طبيعية، وشرف وجمال، والأنوثة نقص خلقي، وضعف طبيعي، كما هو محسوس مشاهد لجميع العقلاء لا يكاد ينكره إلا مكابر في المحسوس.
وقد أشار جل وعلا إلى ذلك بقوله: (أَوَ مَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ) [الزخرف:18]، لأن الله أنكر عليهم في هذه الآية الكريمة أنهم نسبوا له ما لا يليق به من الولد، ومع ذلك نسبوا له أخس الوالدين، وأنقصهما وأضعفهما. ولذلك ينشأ في الحلية أي الزينة من أنواع الحلي والحلل ليجبر نقصه الخلقي الطبيعي بالتجميل بالحلي والحلل، وهو الأنثى بخلاف الرجل، فإن كما ذكورته وقوته وجماله يكفيه عن الحلي؛ كما قال الشاعر:
وما الحلي إ لا زينة من نقيصة ... يتمم من حسن إذا الحسن قصر
وأما إذا كان الجمال موفرا ... كحسنك لم يحتج إلى أن يزورا
وقال تعالى: (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى) [النجم: 21 - 22]، أي(1/547)
غير عادلة؛ -لأن الأنثى أنقص من الذكر خلقة وطبيعة، فجعلوا هذا النصيب الناقص لله -عز وجل-: عن ذلك علوا كبيرا - وجعلوا الكامل لأنفسهم كما قال: (وَيَجْعَلُونَ للهِ مَا يَكْرَهُونَ) [النحل: 62]، أي وهو البنات، وقال: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) [النحل: 58]، وكل هذه الآيات القرآنية تدل على أن الأنثى ناقصة بمقتضى الخلقة والطبيعة، وأن الذكر أفضل وأكمل منها؛ (أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) [الصافات: 153 - 154].
ومن الأدلة على أفضلية الذكر على الأنثى: أن المرأة الأولى خلقت من ضلع الرجل الأول: فأصلها جزء منه، فإذا عرفت من هذه الأدلة، أن الأنوثة نقص خلقي، وضعف طبيعي فاعلم أن العقل الصحيح الذي يدرك الحكم والأسرار، يقضي بأن الناقص الضعيف بخلقته وطبيعته، يلزم أن يكون تحت نظر الكامل في خلقته، القوي بطبيعته، ليجلب له ما لا يقدر على جلبه من النفع، ويدفع عنه ما لا يقدر على دفعه من الضر؛ كما قال تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ =) [النساء: 34].
وإذا علمت ذلك، فاعلم أنه لما كانت الحكمة البالغة، تقتضي أن يكون الضعيف الناقص مقوما عليه من قبل القوى الكامل، اقتضى ذلك أن يكون الرجل ملزما بالإنفاق على نسائه، والقيام بجميع لوازمهن في الحياة، كما قال تعالى: (وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) ومال الميراث ما مسح في تحصيله عرقا، لا تسببا فيه البتة، وإنما هو تمليك من الله ملكهما إياه تمليكا جبريا، فاقتضت حكمة الحكيم الخبير أن يؤثر الرجل على المرأة في الميراث وإن أدليا بسبب واحد، لأن الرجل مترقب للنقص دائما بالإنفاق على نسائه، وبذل المهور لهن، والبذل في نوائب الدهر، والمرأة مترقبة للزيادة بدفع الرجل لها المهر، وإنفاقه عليها وقيامه بشؤونها، وإيثار مترقب النقص دائما على مترقب الزيادة دائما لجبر بعض نقص المترقب حكمة ظاهرة واضحة، لا ينكرها إلا من أعمى الله بصيرته بالكفر والمعاصي (1).
_________
(1) أضواء البيان (3/ 418).(1/548)
آيات المواريث:
1 - قال الله تعالى في كتابه العزيز: (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) [النساء:11].
2 - وقال تعالى: (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ) [النساء: 12].
3 - وقال جل ثناؤه: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِن امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [النساء: 176].
توضيح وبيان:
هذه آيات كريمة، من كتاب الله -عز وجل- وضح الباري تبارك وتعالى فيها نصيب كل وارث، ممن يستحق الإرث، وأرشد إلى مقدار إرثه وشروطه، كما بين جلت حكمته الحالات التي يرث فيها الإنسان، والحالات التي لا يرث فيها، ومن يرث بالفرض، أو بالتعصب، أو بهما معا، ومتى يحجب من الإرث كليا أو جزئيا.
إنها آيات ثلاث ولكنها جمعت -على وجازتها- أصول علم الفرائض،(1/549)
وأركان أحكام الميراث، فمن أحاط بهما فهما وحفظًا، وإدراكا فقد سهل عليه معرفة نصيب كل وارث، وأدرك حكمة الله الجليلة في قسمة الميراث على هذا الوجه الدقيق العادل، الذي لم ينس فيه حق أحد، ولم يغفل من حسابه شأن الصغير والكبير، والرجل والمرأة، وأدق أصول العدل، ووزع التركة بين المستحقين توزيعا عادلا حكيما، بشكل لم يدع فيه مقالة لمظلوم، أو شكوى لضعيف أو رأيًا لتشريع من التشاريع الأرضية، يهدف إلى تحقيق العدالة أو رفع الظلم عني بني الإنسان (1).
وكل ما كتبه العلماء في القديم والحديث، وكل األفوه في علم المواريث فإنما هو بيان وتوضيح لهذه الآيات الكريمة، التي جمعت فأوعت، وقسمت فعدلت، وأحكمت التشريع، وفصلت التوزيع، وأبانت لكل ذي حق حقه، دون محاباة، أو مداراة، فسبحان من شرع الأحكام في كتابه المعجز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من بين خلفه، تنزيل من حكيم حميد، وجلت حكمة الله وتشريعه الكامل الخالد أن يدانيه بشر (2) وصدق الله: (آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا) [النساء: 11].
آيات مجملة تشير إلى حقوق الورثة بدون تفصيل:
وردت آيات كريمة، في شأن المواريث غير هذه الآيات الثلاث، ولكنها مجملة تشير إلى حقوق الورثة بدون تفصيل، وتوضيح أن للأقرباء حقا في الإرث، دون تحديد أو بيان لمقدار كل وارث، والآيات التي أشارت إلى الإرث هي:
أولا: قوله تعالى: (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الأنفال: 75].
ثانيا: قوله تعالى: (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا) [الأحزاب: 6].
_________
(1) المواريث في الشريعة (14).
(2) المرجع السابق (15).(1/550)
ثالثا: وقوله تعالى: (لِلرِّجَالِ نَصِيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا) [النساء: 7].
ففي الآية الأولى والثانية، إشارة إلى أن أهل القرابة أحق بميراث قريبهم الميت من غيرهم، ممن ليس له صلة قرابة بالميت، فهم أحق بالإرث من المؤمنين والمهاجرين، وقد كان المسلمون في صدر الإسلام يرثون بسبب (الهجرة) و (المؤاخاة) التي آخي فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار، فكان المهاجري يرث أخاه الأنصاري، دون قريبه، والأنصاري يرث أخاه المهاجري دون قريبه، بسبب (المؤاخاة في الدين) واستمر الأمر على ذلك، إلى أن استمكن الدين ورست قواعده بفتح مكة، فنسخ الله تعالى الإرث بالهجرة والمؤاخاة وجعلها بالقرابة والنسب، وهذا من وسطية القرآن في باب الميراث.
والآية الثالثة: رفع بها الباري تبارك وتعالي الظلم عن الضعيفين (الطفل والمرأة) وعاملهما بالرحمة والعدل، ورد إليهما حقوقهما في الإرث، حيث أوجب توريث النساء والرجال، ولم يفرق بين صغير وكبير، ولا بين ذكر وأنثى؛ بل جعل لكل نصيبا في الميراث سواء قل الإرث أم كثر، وسواء رضي المورث أم لم يرض، فرد إلى النساء والأطفال اعتبارهما، وقضى على الظلم والحيف بشأنهما، وهذا من وسطية القرآن في باب الميراث (1).
إن المتأمل في أحكام الله تعالى في قضية الميراث يوقن إيقانا تاما أن هذه الأحكام ربانية المصدر لما احتوت عليه من حكمة وعدل واعتدال واستقامة.
يقول سيد قطب -رحمه الله-: (إن هذا النظام في التوريث هو النظام العادل المتناسق مع الفطرة ابتداء، ومع واقعيات الحياة العائلية والإنسانية في كل حال، يبدو هذا واضحا حين نوازنه مع أي نظام آخر، عرفته البشرية في جاهليتها القديمة، أو جاهليتها الحديثة، في أية بقعة من بقاع الأرض.
_________
(1) المواريث في الشريعة (16).(1/551)
إنه نظام يراعي معنى التكافل العائلي، كاملا، ويوزع الأنصبة على قدر واجب كل فرد في الأسرة في هذا التكافل، فعصبة الميت هم أولى من يرثه -بعد أصحاب الفروض كالوالد والوالدة- لأنهم هم كذلك أقرب من يتكفل به، ومن يؤدي عنه في الديانات والمغارم، فهو نظام متناسق، ومتكامل.
وهو نظام يراعي أصل تكوين الأسرة البشرية من نفس واحدة فلا يحرم امرأة ولا صغيرا لمجرد أنه امرأة أو صغير، ولا يميز جنسا على جنس إلا بقدر أعبائه في التكافل العائلي الاجتماعي.
وهو نظام يراعي طبيعة الفطرة الحية بصفة عامة، وفطرة الإنسان بصفة خاصة، فيقدم الذرية في الإرث على الأصول، وعلى بقية القرابة، لأن الجيل الناشئ هو أداة الامتداد وحفظ النوع، فهو أولى بالرعية -من وجهة نظر الفطرة الحية- ومع هذا فلم يحرم الأصول وبقية القرابات؛ بل جعل لكل نصيبه مع مراعاة منطق الفطرة الأصيل.
وهو نظام يتمشى مع طبيعة الفطرة كذلك في تلبية رغبة الكائن الحي -بخاصة الإنسان- في أن لا تنقطع صلته بنسله، وأن يمتد في هذا النسل، ومن ثم هذا النظام الذي يلبي هذه الرغبة، ويطمئن الإنسان الذي بذل جهده في ادخار شيء من ثمرة عمله، إلى أن نسله لن يحرم من ثمرة هذا العمل، وأن جهده سيرثه أهله من بعد. مما يدعوه إلى مضاعفة الجهد، ومما يضمن للأمة النفع والفائدة -في مجموعها- من هذا الجهد المضاعف مع عدم الإخلال بمبدأ التكافل الاجتماعي العام الصريح القوي في هذا النظام.
وأخيرا فهو نظام يضمن تفتيت الثروة المجتمعية، على رأس كل جيل، وإعادة توزيعها من جديد، فلا يدع مجالا لتضخم الثروة وتكدسها في أيد قليلة ثابتة -كما يقع في الأنظمة التي تجعل الميراث لأكبر ولد ذكر- أو تحصره في طبقات قليلة- وهو في هذه الناحية أداة متجددة الفاعلية في إعادة التنظيم الاقتصادي في الجماعة، ورده إلى الاعتدال، دون تدخل مباشر من السلطات هذا التدخل الذي لا تستريح(1/552)
إليه النفس البشرية بطبيعة اركب فيها من الحرص والشح، فأما هذا التفتيت المستمر والتوزيع المتجدد، فيتم والنفس به راضية، لأنه يماشي فطرته وحرصها وشحها! وهذا هو الفارق الأصيل بين تشريع الله لهذه النفس وتشريع الناس) (1).
وبهذا يتضح منهج القرآن في وسطيته في أحكام الميراث.
_________
(1) في ظلال القرآن (1/ 596 - 597).(1/553)
المبحث السابع
وسطية في القرآن في اليمين وكفارته
قال تعالى: (لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) [البقرة: 225].
وفي قوله تعالى: (لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُّؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانََ) [المائدة: 89].
وموضوع الحنث في اليمين، إما أن يكون فيه كفارة بإطلاق، أو لا يكون فيه كفارة بإطلاق، أو التفصيل.
والأمر الأول: فيه من المشقة والعسر ما لا يخفى.
والأمر الثاني: يؤدي إلى الاستهانة باليمين، وهو قادح من قوادح الإيمان.
أما التفصيل: وهو التفريق بين لغو اليمين الذي يصعب التحرز منها، فهذا معفو عنه، أما ما عداه ففيه الكفارة الشرعية صيانة لليمين والقسم، هذا هو الأمر الوسط، فلا إفراط فيه ولا تفريط.
أما في بيان كفارة اليمين:
(وَلَكِن يُّؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ) [المائدة: 89].
والوسطية في هذه الآية من ثلاثة وجوه:
1 - أن إطعام المساكين يراعي فيه نوعية الطعام أو الكسوة الوسط في ذلك، وجعل المقياس الذي يرجع إليه في اختيار هذا الوسط إطعام الرجل لأهله أو كسوتهم، فينظر في ذلك ويخرج الوسط منه.(1/554)
وفي هذا تتحقق الوسطية من وجهين أيضًا:
الأول: مراعاة الوسط في حق كل إنسان، فلم يؤخذ من أعلى ماله أو أدناه؛ بل الوسط منه، مراعاة للفقير أيضًا.
الثاني: مراعاة الفرق بين حال الغني والفقير والمتوسط، وهذا فيه معنى الوسطية ما فيه، فلم يأت الحكم بالتسوية بينهم.
2 - أنه جعل الكفارة تدور على ثلاثة أمور: إما الإطعام، أو الكسوة، أو الإعتاق، والحالف مخير بينها دون إلزام بواحد منها، وهذا فيه من التوسعة والتيسير ما لا يخفى.
3 - إذا لم يجد الحالف أو لم يستطع على أي نوع من هذه الثلاثة انتقل إلى الصيام، وهذه رحمة من الله وتوسعة على عباده وبهذا اجتمعت أطراف الوسطية في هذه القضية، وهي قضية جزئية يسيرة (1).
_________
(1) انظر: الوسطية في ضوء القرآن (166).(1/555)
المبحث الثامن
وسطية القرآن في حل طعام أهل الكتاب ونسائهم
وكذلك نلحظ الوسطية في التشريع في حل طعام أهل الكتاب وجواز نكاح نسائهم والوسطية تبرز في موضوع الطعام وموضوع النكاح من أهل الكتاب مما لا يحتاج إلى شرح، وسوف أبين الحكمة من هذا التشريع.
قال تعالى: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ و) [المائدة: 5].
إن أهل الكتاب أقرب إلى المسلمين من الكافرين الملحدين؛ ولذلك شرع الإسلام معاشرتهم حتى يعرفوا حقيقة الإسلام وبالتخلق والعمل يظهر لهم أن ديننا هو عين دينهم مع مزيد بيان وإصلاح يقتضيه ترقي البشر وإزالة بدع وأوهام دخلت عليهم من باب الدين وما هي من الدين في شيء، وأما المشركون فلا صلة بين ديننا ودينهم قط، ولذلك دخل أهل الكتاب في الإسلام مختارين بعد ما انتشر بينهم وعرفوا حقيقته ولو قبلت الجزية من مشركي العرب كما قبلت من أهل الكتاب لما دخلوا في الإسلام كافة ولما قامت لهذا الدين قائمة (1).
ومن الحكم في إباحة التزوج بأهل الكتاب وجواز أكل طعامهم إزالة الجفوة التي تحجبهم عن محاسن الإسلام بإظهار محاسنه لهم بالمعاملة فينبغي لكل مسلم يريد الزواج منهم أن يكون مظهرا لهذه الحكمة وسالكا سبيلها، وذلك بأن يكون قدوة صالحة لامرأته ولأهلها في الصلاح والتقوى ومكارم الأخلاق، فإن من لم ير نفسه أهلا لذلك فلا يقدم عليه (2).
ويقول سيد قطب -رحمه الله-: في ظلال القرآن: (وهنا نطلع على صفحة من
_________
(1) تفسير المنار (6/ 192).
(2) انظر: المرجع السابق (6/ 195 - 196).(1/556)
صفحات السماحة الإسلامية؛ في التعامل مع غير المسلمين، ممن يعيشون في المجتمع الإسلامي (في دار السلام) أو تربطهم به روابط الذمة والعهد، من أهل الكتاب.
إن الإسلام لا يكتفي بأن يترك لهم حريتهم الدينية ثم يعتزلهم فيصبحوا في المجتمع الإسلامي مجفوين معزولين-أو منبوذين- إنما يشملهم بشيء من المشاركة الاجتماعية، والمجاملة ولخلطة فيجعل طعامهم حلا للمسلمين وطعام المسلمين حلا لهم كذلك ليتم التزاور والتضايف والمؤاكلة والمشاربة.
وكذلك يجعل العفيفات من نسائهم -وهن المحصنات- بمعنى العفيفات الحرائر طيبات للمسلمين، ويقرن ذكرهن بذكر الحرائر العفيفات من المسلمات، وهي سماحة لم يشعر بها إلا اتباع الإسلام من بين سائر اتباع الديانات والنحل، فإن الكاثوليكي المسيحي ليتحرج من نكاح الأرثوذكسية، أو البروتستانتية، أو المارونية المسيحية، ولا يقدم على ذلك إلا المحللون عندهم من العقيدة! وشرط حل المحصنات هو شرط المحصنات المؤمنات: (إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ).
ذلك أن تؤدي المهور، بقصد النكاح الشرعي، الذي يحصن به الرجل امرأته ويصونها، لا أن يكون هذا المال طريقا إلى السفاح أو المخادنة.
والسفاح هو أن تكون المرأة لأي رجل؛ والمخادنة أن تكون المرأة لخدين خاص بغير زواج ... وهذا وذاك كانا معروفين في الجاهلية العربية، ومعترفا بهما في المجتمع الجاهلي قبل ظهور الإسلام.
وهكذا يتضح لنا وسطية القرآن في التشريع في كلياته وجزئيات ولا يخلو أي تشريع في القرآن الكريم من ملامح الوسطية من حكمة أو استقامة أو اعتدال أو عدل أو هداية إلى الصراط المستقيم.(1/557)
المبحث التاسع
من وسطية القرآن في التشريع مراعاة سنة التدرج
ومن تسهيل الإسلام وتيسيره على الناس: أنه راعى معهم سنة التدرج فيما يشرعه لهم، من واجب أو محرم. فتجد حين فرض الفرائض كالصلاة والصيام والزكاة، فرضها على مراحل ودرجات حتى انتهت إلى الصورة الأخيرة، فالصلاة فرضت أول ما فرضت ركعتين ركعتين، ثم أقرت في السفر على هذا العدد، وزيدت في الحضر إلى أربع أعني الظهر والعصر والعشاء.
والصيام فرض أولا على التخيير، من شاء صام ومن شاء أفطر وفدى، أي: أطعم مسكينا عن كل يوم يفطره كما روى البخاري عن سلمة بن الأكوع (1) تفسيرا لقوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 184]، ثم أصبح الصيام فرضا لازما لكل صحيح مقيم لا عذر له، (فَمَن شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة: 185].
والزكاة فرضت أولا بمكة مطلقة غير محددة ولا مقيدة بنصاب، ومقادير وحول، بل تركت لضمائر المؤمنين، وحاجات الجماعة والأفراد، حتى فرضت الزكاة ذات النصب والمقادير في المدينة. والمحرمات كذلك، لم يأت تحريمها دفعة واحدة، فقد علم الله سبحانه مدى سلطانها على الأنفس، وتغلغلها في الحياة سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات.
فليس من الحكمة منع الناس عنها بأمر مباشر يصدر لهم، إنما الحكمة إعدادهم ذهنيا وعقليا ونفسيا لتقبلها، وأخذهم بسنة التدرج في تحريمها حتى إذا جاء الأمر الناهي عن الفعل كانوا مسرعين في تنفيذه قائلين سمعن وأطعنا.
_________
(1) هو أبو مسلم سلمة بن الأكوع، وقيل: سلمة بن عمرو بن الأكوع، واسم الأكوع سنان بن عبد الله الأسلمي، كان ممن بايع تحت الشجرة، وكان شجاعا راميا محسنا فاضلا، غزا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سبع غزوات، توفى بالمدينة سنة 74 هـ,. وقيل: 64 هـ: انظر: أسد الغابة (2/ 271)، تهذيب التهذيب (4/ 150).(1/558)
أولا: الخمر:
ولعل أوضح مثال معروف في ذلك هو تحريم الخمر على مراحل معروفة في تاريخ التشريع الإسلامي حتى إذا نزلت الآيات الحاسمة في النهي عنها في سورة المائدة، وفي ختامها: (فَهَلْ أَنْتُم مُّنتَهُونَ) [المائدة: 91]، قال المؤمنون في قوة وتصميم، قد انتهينا يا رب (1).
وفي قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا) [البقرة: 219].
يقول سيد قطب -رحمه الله-: وهذا النص الذي بين أيدينا كان أول خطوة من خطوات التحريم، فالأشياء والأعمال قد لا تكون شرا خالصا فالخير يلتبس بالشر، والشر يلتبس بالخير في هذه الأرض ولكن مدار الحل والحرمة هو غلبة الخير أو غلبة الشر، فإذا كان الإثم في الخمر والميسر أكبر من النفع، فتلك علة تحريم ومنه وإن لم يصرح هنا بالتحريم والمنع.
هنا يبدو لنا طرف من منهج التربية الإسلامي القرآني الرباني الحكيم.
وهو المنهج الذي يمكن استقراؤه في الكثير من شرائعه وفرائضه وتوجيهاته، ونحن نشير إلى قاعدة من قواعد هذا المنهج بمناسبة الحديث عن الخمر والميسر عندما يتعلق الأمر أو النهي بقاعدة من قواعد التصور الإيماني أي بمسألة اعتقادية، فإن الإسلام يقضي فيها قضاء حاسما منذ اللحظة الأولى.
ولكن عندما يتعلق الأمر أو النهي بعبادة وتقليد، أو بوضع اجتماعي معقد، فإن الإسلام يتريث به ويأخذ المسألة باليسر والتدرج، ويهيئ الظروف الواقعة التي تيسر التنفيذ والطاعة، فعندما كانت المسألة مسألة التوحيد أو الشرك: أمضى أمره منذ اللحظة الأولى، في ضربة حازمة جازمة لا تردد فيها ولا تفلت، ولا مجاملة فيها ولا مساومة، ولا لقاء في منتصف الطريق؛ لأن المسألة هنا مسألة قاعدة أساسية للتصور، لا يصلح بدونها إيمان ولا يقام إسلام.
_________
(1) الخصائص العامة للإسلام (181).(1/559)
فأما الخمر والميسر فقد كان الأمر أمر عادة وإلف، والعادة تحتاج إلى علاج، فبدأ بتحريك الوجدان الديني المنطقي التشريعي في نفوس المسلمين، بأن الإثم في الخمر والميسر أكبر من النفع، وفي هذا إيحاء بأن تركهما هو الأولى ثم جاءت الخطوة الثانية بآية سورة النساء: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) [النساء: 43].
والصلاة في خمسة أوقات، معظمها متقارب، ولا يكفي ما بينهما للسكر، والإفاقة! وفي هذا تضييق لفرص المزاولة العملية لعادة الشرب، وكسر لعادة الإدمان التي تتعلق بمواعيد التعاطي، إذ المعروف أن المدمن يشعر بالحاجة إلى ما أدمن عليه من مسكر أو مخدر في الموعد الذي اعتاد تناوله، فإذا تجاوز هذا الوقت وتكرر هذا التجاوز فترة حدة العادة وأمكن التغلب عليها ... حتى إذا تمت هاتان الخطوتان جاء النهي الجازم الأخير بتحريم الخمر والميسر (1): (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنصَابُ وَالأزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة: 90].
ولعل رعاية الإسلام للتدرج، هي التي جعلته يقضي على نظام الرق الذي كان نظاما سائدا في العالم كله عند ظهور الإسلام وكان إلغاؤه يؤدي إلى هزة عنيفة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية فكانت الحكمة في تضييق روافده؛ بل ردمها كلها ما وجد إلى ذلك سبيل، وتوسيع مصارفه إلى أقصى حد، فيكون ذلك بمثابة إلغاء الرق بطريق التدرج وهذه السنة الربانية في رعاية التدرج واضحة في كتاب الله دالة على وسطية القرآن ومعلم من معالم الحكمة والاعتدال، في تشريعات العليم الحكيم.
ولذلك يجب على الدعاة أن يراعوا سنة التدرج في سياسة الناس فعندما يراد تطبيق نظام الإسلام في الحياة، وإعادة حياة في ظل شرع الله متكاملة من جميع النواحي، فلا نتوهم أن ذلك يتحقق بجرة قلم، أو بقرار من رئيس الدولة، أو مجلس قيادة، أو برلمان.
إنما يتحقق ذلك بطريق التدرج، المبني على تصور صحيح واعتقاد سليم، نراعي
_________
(1) في ظلال القرآن (1/ 229).(1/560)
الإعداد والتهيئة الفكرية والنفسية والأخلاقية والاجتماعية، وهو نفس المنهاج الذي سلكه النبي -صلى الله عليه وسلم- لتغيير الحياة الجاهلية إلى حياة إسلامية، فقد ظل ثلاثة عشر عاما في مكة، كانت مهمته فيها تنحصر في تربية الجيل المؤمن الذي يستطيع فيما بعد أن يحمل عبء الدعوة، وتكاليف الجهاد لحمايتها ونشرها في الآفاق (1).
ثانيا: التدرج في تحريم الربا:
لقد كان من حكمة الله في تحريم الربا، كما هو الشأن في تشريعاته: (التدرج في التحريم والانتقال من التعريض والتلويح إلى النص الصريح، ومن النهي الجزئي إلى النهي الكلي الحاسم) (2).
وإليك البيان: لقد تناول القرآن الحديث عن الربا في أربعة مواضع، وكان أول موضع منها وحيا مكيا والثلاثة الباقية وحيا مدنيا.
الموضع الأول: يقول -سبحانه وتعالى-: (وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِنْدَ اللهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) [الروم: 39].
الآية كما ترى موعظة سلبية فقد قالت: إن الربا لا ثواب له عند الله، ولكن تقل إن الله ادخر لآكله والمتعامل به عقابا بخلاف الزكاة، فهلا ثوابها المضاعف عند الله، وفي هذا إيماء إلى أن الربا غير مقبول عند الله (3).
الموضع الثاني: كان درسا وعبره قصهما علينا القرآن من سيرة اليهود الذين حرم الله عليهم الربا فأكلوه، فعاقبهم الله بمعصيتهم، ومن الواضح أن هذه العبرة لا تقع موقعها إلا إذ كان من ورائها ضرب من تحريم الربا على المسلمين، ولكن إلى الآن تحريم بالتعريض، لا بالنص الصريح قال عز شأنه: (فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) [النساء: 160 - 161]، وفي
_________
(1) انظر: الخصائص العامة للإسلام (182).
(2) حلول لمشكلة الربا، د. محمد محمد أبو شبهة (28).
(3) انظر: حلول لمشكلة الربا (28).(1/561)
هذا الموضع نص القرآن على أن الربا كان محرما في الديانة الموسوية التي هي أوسع الشرائع السابقة وأكثرها عناية بالتشريعات وهذا النص من شأنه أن يدع المسلمين في موقف ترقب وانتظار لنهي يوجه إليهم قصدًا في هذا الشأن (1).
الموضع الثالث: قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدِّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [آل عمران: 130 - 132]، وفي هذا الموضع جاء النهي الصريح عن الربا بعد التمهيدين السابقين في الموضعين؛ ولكنه لم يكن إلا نهيا جزئيا عن الربا الفاحش الذي يتزايد حتى يصير أضعافا مضاعفة، وبهذا النهي عن الربا الفاحش تهيأت النفوس وأصبحت مستعدة لتقبل النهي العام الشامل لكل أنواع الربا قل أم كثر، وهذا هو ما ورد في الآيات التي ختم بها التشريع في الربا.
الموضع الرابع: قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ) [البقرة: 278 - 279].
خاطب الله المؤمنين بأشرف صفاتهم وهو الإيمان ليحملهم ذلك على تقوى الله وترك ما بقي لهم من الربا قبل التحريم وفي هذا الأمر تحريما مؤبدا مؤكدًا، وإنذارا قطع كل الأعذار.
وبهذا تتضح وسطية القرآن في التشريع في باب التدرج عند التحريم لشيء اعتاد الأفراد عليه أو ألفوه في المجتمع فالتدرج في التحريم وسط بين التحريم الفوري الذي لا ينسجم مع نفوس الناس وفطرتهم وما اعتادوه وبين الإفراد وهو ترك الناس على ما اعتادوه من فساد وحرام لا يليق مع البشر السوى.
_________
(1) انظر: المرجع السابق، ص (29).(1/562)
خلاصة الجزء الثالث
1 - إن معنى العبادة في اللغة الطاعة ومعنى التعبد في اللغة التنسك والتذلل.
2 - إن معنى العبادة في الشرع: خضوع وحب، والعبادة المأمور بها العبد تتضمن معنى الذل والخضوع لله، ومعنى الحب فهي تتضمن غاية الذل لله بغاية المحبة له.
3 - إن دعائم العبادة التي تنظم أعمال الإنسان القلبية، والعملية الفردية والجماعية: المحبة والخوف والرجاء.
4 - إن منهج التفريط في العبادة مثله اليهود حتى أصبحت القيم المادية محور الحياة، وأصبح الإنسان في نظر اليهود آلة تحرك، ومعدة تهضم، وكائن يلهو، وتعلقوا بالدنيا غاية التعلق وحرصوا عليها حتى ولو كانت حياة البهائم ونحوها.
5 - إن منهج الإفراط والغلو في العبادة ابتدعته النصارى فحرموا الزواج، وكبتوا الغرائز، ومنعوا الزينة والطيبات من الرزق.
6 - وقعت في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض الاجتهادات الخاطئة التي تشير إلى سبيل الغلو، والتشدد في الدين عن حرص صادق للازدياد من الخير، فردهم النبي الكريم إلى الصراط المستقيم وقوم هذا العوج وأرشدهم إلى سبيل الاعتدال والخير القويم.
7 - إن القرآن الكريم يقرر منهج الوسطية في العبادة بأساليب متعددة ومتنوعة فأحيانا بيان الانحراف الواقع في حقيقة العبادة وأحيانا بيان كيفية عبادته وحده -سبحانه وتعالى-.
8 - إن أحاديث كثيرة وتوجيهات نبوية كريمة رسمت منهج الوسطية للمسلمين في العبادة، والحث على الاقتصاد والاعتدال فيها والنهي عن التعمق والتشدد، والاقتصاد على ما يطاق من العبادة، والابتعاد عن تكلف ما لا يطاق.
9 - إن دائرة العبادة التي خلق الله لها الإنسان، وجعلها غايته في الحياة، ومهمته في(1/563)
الأرض، دائرة رحبة واسعة، تشمل شؤون الإنسان كلها، وتستوعب حياته جميعا، وتستغرق كافة مناشطه وأعماله.
10 - إن من قواعد الدين العظيمة: أنه لا عبادة إلا بدليل من الكتاب أو السنة.
11 - إن المباحات تتحول إلى طاعات بالنية الصادقة ويؤجر عليها العبد بالثواب من الله تعالى.
12 - إن شرطي قبول العبادة هما: الإخلاص لله تعالى، واتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- هذان الشرطان دليل على وسطية القرآن في باب العبادة.
13 - تنقسم العبودية في القرآن الكريم إلى عامة، وهي عبودية الربوبية، وهي لكل الخلق، وعبودية خاصة، وهي عبودية الطاعة العامة، وإلى خاصة الخاصة، وهي عبودية الرسل عليهم الصلاة والسلام.
14 - إن مهمة الجانب العبادي للإنسان تعتبر ركنا أصيلا في المنهاج الإلهي الذي شرعه الله تعالى على غاية العلم والحكمة وجعله بناء محكما يشد بعضه بعضا.
15 - نستطيع أن نستخلص مهمة العبادة في أمور منها: تثبيت الاعتقاد، وتأسيس وتثبيت القيم الأخلاقية وإصلاح الجانب الاجتماعي وغير ذلك من الأمور.
16 - إن في القرآن الكريم عدة توجيهات ومبادئ إصلاحية كانت ولا تزال هي حج الأساس، التي يقوم عليها صرح العبادة الشعائرية في الإسلام.
17 - إن الأخلاق القرآنية نمط فريد لا يقاربه ولا يدانيه شيء من حكم الحكماء، أو نظر الفلاسفة، أو شرائع المشرعين أو عادات الأمم وآدابها، إلا أن تكون بقية من الوحي الرباني بقيت بين الناس، أو أثرا من سلامة الفطرة التي فطر الله عليها الناس.
18 - إن القرآن الكريم وسط في باب الأخلاق بين غلاة المثاليين الذين تخيلوا الإنسان ملاكا أو شبه ملاك، فوضعوا له من القيم والآداب ما لا يمكن له، وبين غلاة الواقعيين، الذين حسبوه حيوانا أو كالحيوان.(1/564)
19 - إن الأخلاق في القرآن الكريم لم تدع جانبا من جوانب الحياة الإنسانية: روحية، أو جسمية، أو دينية، أو دنيوية، أو عقلية، أو عاطفية، أو فردية، أو اجتماعية، إلا رسمت له المنهج الأمثل، للسلوك الرفيع.
20 - إن من وسطية القرآن في الأخلاق إقرار التفاوت الفطري والعلمي بين الناس، فليس كل الناس في درجة واحدة من حيث قوة الإيمان، والالتزام بما أمر الله به من أوامره، والانتهاء عما نهى عنه من نواه والتقيد بالمثل العليا.
21 - إن الأخلاق ليست شيئا ثانويا في هذا الدين، وليست محصورة في نطاق معين من نطاق السلوك البشري، إنما هي ركيزة من ركائزه، كما أنها شاملة للسلوك البشري كله.
22 - إن الأخلاق الرفيعة ثمرة طبيعية للعقيدة الصحيحة، وكذلك العبادة الحية الخاشعة لله من ثمار العقيدة الصحيحة.
23 - تتضح وسطية القرآن في مجال التشريع في إباحة تعدد الزوجات بالشروط والحدود التي ذكرها المولى -عز وجل-، وكذلك في إباحة الطلاق وأحكام المواريث والأخذ بسنة التدرج في التشريع.
* * *(1/565)
فهرس المصادر والمراجع
أولا: القرآن الكريم:
ثانيا: المصادر والمراجع العامة:
1 - أن قيم الجوزية حياته وآثاره، بكر بن عبد الله أبو زيد، مكتبة المعارف، الرياض الطبعة الثانية 1405هـ/1985م.
2 - أبو الأعلى المودوي فكرة ودعوته، د. سمير عبد الحميد إبراهيم، دار الأنصار.
3 - إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي، دار المعرفة، بيروت.
4 - إرواء الغليل، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، دمشق، بيروت، الطبعة الثانية 1405هـ.
5 - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للشيخ محمد الأمين الشنقيطي، عالم الكتب، بيروت، سنة 1403هـ/ 1983م.
6 - أعلام الموقعين عن رب العالمين لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر ابن القيم، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، صيدا -بيروت، طبعة 1407هـ.
7 - إغاثة اللفهان، ابن القيم، دار المعرفة، بيروت.
8 - اقتضاء الصراط المستقيم للشيخ أحمد بن عبد السلام بن تيمية، تحقيق د. ناصر عبد الكريم العقل، الطبعة الأولى، 1404هـ، مطابع العبيكان.
9 - الأخلاق الإسلامية وأسسها، عبد الرحمن بن حسن بن حبنكة الميدانين دار القلم، دمشق، بيروت، الطبعة الأولى 1399هـ.
10 - الأدب المفرد للإمام البخاري، تحقيق قصى محب الدين الخطيب، الطبعة الثانية 1379هـ.(1/566)
11 - الأركان الأربعة، أبو الحسن الندوي، دار الكتب العربية، بشاور، باكستان.
12 - الاستيعاب في معرفة الأصحاب لأبي عمر يوسف بن عبد البر، تحقيق علي محمد البجاوي، مطبعة نهضة مصر، القاهرة.
13 - الأسفار المقدسة في الأديان السابقة للإسلام، د. علي عبد الواحد وافي، دار النهضة، مصر، 1392هـ/1972م.
14 - الأسماء والصفات لأبي بكر بن عبد الحي البيهقي، تعليق محمد زاهد الكوثري، مطبعة دار السعادة، مصر.
15 - الإسلام في مواجهة الاستشراق العالمي، د. عبد العظيم المطعني، دار الوفاء، المنصورة، مصر، الطبعة الثانية 1413هـ/ 1992م.
16 - الإصابة في تمييز الصحابة، للحافظ أحمد بن حجر العسقلاني، تحقيق علي محمد البجاوي، دار نهضة مصر.
17 - الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية، لعمر بن علي البزار، تحقي قزهير الشاويش، الطبعة الثانية، 1406هـ.
18 - الأعلام لخير الدين الزركلي، دار العلم، الطبعة الثالثة، 1389هـ.
19 - الإيمان والحياة يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة العاشرة، 1405هـ/ 1984م.
20 - الإيمان بالقضاء والقدر، محمد إبراهيم الحمد، دار ابن خزيمة، الرياض بالسعودية، الطبعة الأولى 1415هـ.
21 - الإيمان: أركانه، حقيقته نواقضه، د. محمد نعيم ياسين، الطبعة الرابعة.
22 - البداية والنهاية، ابن كثير، مطبعة دار الفكر العربي.
23 - التحرير والتنوير، للشيخ محمد الطاهر بن عاشور، دار الكتب الشرقية، تونس.(1/567)
24 - التخويف من النار والتعريف بدار أهل البوار، للحافظ أبي الفرج بن الجوزي، المكتبة العلمية، بيروت.
25 - التدمرية في تحقيق الإثبات لأسماء الله وصفاته لابن تيمية، المطبعة اسلفية، مصر، الطبعة الثالثة، 1400هـ.
26 - التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة للقرطبي، طبعة المكتبة السلفية، المدنية المنورة.
27 - التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة عشرة 1415هـ/ 1994م.
28 - التشريع والفقه الإسلامي، مناع القطان، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثامنة، 1407هـ/1987م.
29 - التعريفات، الجرجاني، دار الكتب العلمية، بيروت.
30 - التفسير القيم، ابن القيم، تحقيق حامد الفقي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1398هـ.
31 - التفسيرالكبير الرازي، فخري الدين أبو عبد الله محمد بن عمر، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثانية.
32 - التلمود تاريخه وتعاليمه، ظفر الإسلام خان، نشر دار النفائس، الطبعة الثانية، 1972م.
33 - التوراة السامرية، طبع دار الأنصار، القاهرة.
34 - التوراة، دراسة وتحليل د. محمد شلبي شتروي، مكتبة الفلاح، الكويت، الطبعة الأولى، 1404هـ.
35 - التوضيح والبيان لشجرة الإيمان، عبد الرحمن السعدي، مطبعة المشهد الحسيني، القاهرة.(1/568)
36 - الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار الكتب العربي، القاهرة، 1987م، الطبعة الثالثة.
37 - الجرح والتعديل، لابن حاتم الرازي، الطبعة العثمانية بحيدر آباد، 1375هـ.
38 - الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لأبي عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، تحقيق يوسف علي بدوي، مكتبة التراث، المدينة المنورة، الطبعة الأولى، 1408هـ.
39 - الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لشيخ الإسلام أحمد بن عبد لحليم بن تيمية، توزيع الرئاسة العامة لإدارة البحوث والإفتاء والدعوة الإرشاد، الرياض السعودية.
40 - الحكمة في الدعوة إلى الله، سعيد بن وهف القحطاني، مؤسسة الجريسي، الرياض، السعودية، الطبعة الأولى، 1412هـ/ 1992م.
41 - الخصائص العامة للإسلام، يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة بيروت، الطبعة الثالثة، 1415هـ/ 1985م.
42 - الدرر السنية في الأجوبة النجدية، جمع الشيخ عبد الرحمن قاسم، الطبعة الخامسة، 1413هـ/1992م.
43 - الدرر المنثور في التفسير بالمأثور، لأبي عبد الرحمن جلال الدين السيوطي دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى 1403هـ/ 1983م.
44 - الدعوة إلى الإسلام، سير تومانس، ترجمة حسن إبراهيم وزملائه، نشر مكتبة النهضة، الطبعة الثانية، 1957م.
45 - الديباج المذهب، لابن فرحون، أبو إسحاق إبراهيم بن علي دار الكتب العلمية، بيروت.
46 - الزهد، لنهاد بن السري، تحقيق عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائي، دار الخلفاء للكتاب الإسلامي، الطبعة الأولى، 1406هـ.(1/569)
47 - السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، مصطفي السباعي، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الرابعة، 1405هـ/ 1985م.
48 - السنة، ابن أبي عاصم، المكتب الإسلامي بيروت، دمشق، الطبعة الأولى 1400هـ.
49 - الشريعة، للآجرين تحقيق محمد حامد الفقي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1403هـ.
50 - الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية، مرعي بن يوسف، دار الفرقان، دار الرسالة، الطبعة الأولى، 1404هـ/ 1981م.
51 - الصبر في القرآن الكريم، يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية 1409هـ/ 1989م.
52 - الطبقات الكبرى لابن سعد، دار صياد بيروت.
53 - الضوء اللامع، للسخاوي شمس الدين محمد بن عبد الرحمن، دار مكتبة الحياة، بيروت.
54 - العبر في خبر من غبر، لأبي عبد الله الذهبي، تحقيق أبي هاجر محمد بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1405هـ.
55 - العبادة في الإسلام، يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية عشرة، 1405هـ/ 1985م.
56 - العقيدة في الله، د. عمر الأشقر، مكتبة الفلاح، الكويت، الطبعة الخامسة، 1974م.
57 - العلم والبحث العلمي، دراسة في منهاج العلوم، لحسين عبد الحميد رشوان، المكتب الجامعي، الإسكندرية.
58 - الغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرة، د. عبد الرحمن بن معلا اللويحق، مؤسسة الرسالة بيروت، الطبعة الأولى، 1412هـ/ 1992م.(1/570)
59 - الفرق بين الفرق، البغدادي، دار المعرفة، بيروت.
60 - الفصل في الملل والأهواء، لأبي محمد علي بن أحمد، ابن حزم الظاهري، تحقيق د. محمد إبراهيم، د. عبد الرحمن عميرة، دار الجيل، بيروت.
61 - القضاء والقدر، د. عمر الأشقر، مكتبة الفلاح، الكويت، الطبعة الأولى 1410هـ.
62 - القاموس المحيط، لمجد الدين الفيروز أبادي، مؤسسة الرسالة.
63 - القواعد الحسان لتفسير القرآن، عبد الرحمن السعدي، دار ابن الجوزي، الدمام، السعودية الطبعة الأولى، 1413هـ/ 1993م.
64 - القول المفيد على كتاب التوحيد للشيخ محمد بن صالح العثيمين، دار العاصمة، الرياض، الطبعة الأولى، 1415هـ.
65 - القول المختصر المبين في مناهج المفسرين، أبو عبد الله محمد الحمود النجدي، مكتبة دار الإمام الذهبي، الطبعة الأولى، 1412هـ.
66 - الكامل في التاريخ، لابن الأثير أبي الحسن علي بن محمد بن محمد، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الرابعة، 1403هـ.
67 - الكتاب المقدس، (العهد الجديد) الأناجيل.
68 - الكتاب المقدس (العهد القديم) طبعة جمعية التوراة الأمريكية.
69 - الكواشف للزمخشري، أبو القاسم جار الله محمود عمر الزمخشري الخوارزمي، مكتبة المعرف، الرياض.
70 - الكنز المرصود في قواعد التلمود، ترجمة د. يوسف نصر الله، قدم له مصطفى الزرقا، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى 1408هـ/ 1987م.
71 - الكواشف الجلية عن معاني الوسطية، لعبد العزيز السلمان، مكتبة الرياض الحديثة، الطبعة السادسة، 1398هـ/: 1978م، الرياض.(1/571)
72 - المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين لابن حبان البستي، تحقيق محمود إبراهيم زايد، دار المعرفة، بيروت.
73 - المحجة في سير الدلجة، لابن رجب، دار البشائر الإسلامية، بيروت، 1404هـ.
74 - المرأة بين الفقه والقانون، مصطفي السباعي، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة السادسة، 1404هـ/ 1984م.
75 - المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة، تحقيق ودراسة عبد الإله الأحمدي، دار طيبة، الطبعة الأولى، 1412هـ/1991م.
76 - المسيحية، أحمد شلبي مكتبة النهضة المصرية، الطبعة السادسة، 1978م.
77 - المستدرك، الحاكم أبو عبد الله النيسابوري، مكتب المطبوعات الإسلامية.
78 - المصطلحات الأربعة في القرآن، أبو الأعلى المودودي تعريب محمد كاظم، دار القلم الكويت، الطبعة السادسة، 1397هـ.
79 - المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، المكتبة الإسلامية، استانبول، تركيا، الطبعة الثالثة.
80 - الملل والنحل، الشهرستاني، محمد عبد الكريم، تحقيق عبد العزيز محمد الوكيل، مؤسسة الحلبي وشركاه، 1387هـ/1968م.
81 - المفردات في غريب القرآن، لأبي القاسم الحسين بن محمد الرغب الأصبهاني، تحقيق محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت، لبنان.
82 - المنهاج القرآني في التشريع، د. عبد الستار فتح الله سعد، مطابع دار الطباعة الإسلامية، الطبعة الأولى، 1413هـ/ 1992م.
83 - الموطأ للإمام مالك بن أنس، تصحيح وتعليق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي.(1/572)
84 - الميزان في مقارنة الأديان، حقائق ووثائق، تأليف محمد عزت الطهطاوي، دار القلم، دمشق، والدار الشامية، بيروت، الطبعة الأولى، 1413هـ/ 1993م.
85 - النبأ العظيم، د. محمد بن عبد الله، دار القلم، الكويت، الطبعة الرابعة، 1397هـ.
86 - النبوة والأنبياء في ضوء القرآن، الندوي، أبو الحسن على الحسيني، دار القلم، دمشق، الطبعة السادسة، 1404هـ/1984م.
87 - النجود الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، يوسف بن تغري بردي، دار الكتب المصرية.
88 - النهاية في غريب الحديث، ابن الأثير، مجد الدين أبو السعادات، تحقيق طاهر أحمد الزاوي وحمود محمد الطناجي، المكتبة العلمية، بيروت.
89 - الوسطية في ضوء القرآن، د. ناصر العمر، دار الوطن، الرياض الطبعة الأولى، 1414هـ/ 1993م.
90 - الوسطية في الإسلام، محمد عبد اللطيف الفرفور، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى 1414هـ/ 1993م.
91 - الوصية الكبرى، ابن تيمية، أحمد عبد الحليم، تحقيق أبو عبد الله محمد بن حمد الحمود، مكتبة ابن الجوزي، الإحساء، الطبعة الأولى، 1407هـ/ 1987م.
92 - اليوم الآخر الجنة والنار، د. عمر الأشقر، مكتبة الفلاح، الكويت، الطبعة الثانية، 1408هـ/ 1988م.
93 - بين المسيحية والإسلام، أبو عبيدة الخزرجي، تحقيق وتعليق د. محمد شامة، مطبعة المدني، القاهرة، نشر مكتبة وهبة.
94 - تاج العروس، محمد مرتضى الزبيدي، دار ليبيا، مطبعة دار سعاد، بيروت، 1381هـ/ 1966م.(1/573)
95 - تاريخ الأمم والملوك، الطبري: أبو جعفر محمد بن جرير، تحقيق أبو الفضل إبراهيم، دار سويدان، بيروت.
96 - تاريخ بغداد الخطيب البغدادي، أبو بكر أحمد بن علي، بتصحيح السيد محمد سيد العرفي، دار الكتاب العربي، بيروت.
97 - تأويل مختلف الحديث، لأبي عبد الله بن مسلم بن قتيبة، تصحيح محمد زهري النجاري، دار الجيل، بيروت 1393هـ/ 1973م.
98 - تجريد أسماء الصحابة لأبي عبد الله الذهبي، تصحيح صالحة عبد الحكيم شرف الدين، بومباي، الهندين 1389م.
99 - تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، عبد الرحمن عبد الرحيم المباركفوري، دار الاتحاد العربي، الطبعة الثانية، 1385هـ/ 1965م.
100 - تعدد الزوجات لإبراهيم الجمل، دار الاعتصام توزيع دار النصر للطباعة الإسلامية.
101 - تعدد الزوجات لدى الشعوب الإفريقية، للدكتور سلام زناتي، دار المعارف، 1963م، سلسلة اقرأ (242).
102 - تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن كثير، تحقيق: عبد العزيز غنيم، وحمد أحمد عاشور، ومحمد إبراهيم البناء، مطبعة الشعب القاهرة.
103 - تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار المعرفة، الطبعة الثانية، بيروت.
104 - تفسير القاسمي، محمد جمال الدين القاسمي، راجعه محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية، 1398هـ،1978م.
105 - تفسير البغوي، المسمي معالم التنزيل، لأبي محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي الشافعي، تحقيق خالد عبد الرحمن العك، ومروان سوار، دار المعرفة، بيروت.(1/574)
106 - تقريب التهذيب، ابن حجر: أحمد بن علي العسقلاني، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، مكتبة محمد النمنكاني، المدينة المنورة.
107 - تهذيب الأسماء واللغات، أبو زكريا محيي الدين شرف النووي، نشر دار الكتب العلمية، بيروت.
108 - تهذيب التهذيب، ابن حجر، أحمد بن علي العسقلاني دار المعارف النظامية بالهند، الطبعة الأولى، 1325هـ.
109 - تيسير الكريم الرحمن في فتسير كلام المنان، للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تحقيق محمد هري النجار، المؤسسة السعدية بالرياض، 1977م.
110 - تهذيب تاريخ دمشق، عبد القادر بن بدران، دار الميسرة، بيروت.
111 - تهذيب مدارج السالكين، لابن القيم، هذبه عبد المنعم صالح العلي العزي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة، 1409هـ/ 1989م.
112 - تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تحقيق محمد زهري النجار، المؤسسة السعدية بالرياض 1977م.
113 - تيسير العزيز الحميد، سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة السادسة، 1405هـ/ 1985م.
114 - جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لابن جرير الطبري، دار الفكر، بيروت، 1405هـ.
115 - جامع بيان العلم وفضله، لأبي عمر يوسف بن عبد البر، دار الفكر، بيروت.
116 - جامع الأصول في أحاديث الرسول لابن الأثير، تحقيق عبد القادر الأرناؤوط، مكتبة الحلواني، الطبعة الأولى 1372هـ/ 1932م.
117 - جامع العلوم والحكم، لابن رجب الحنبلي، تحقيق شعيب الأرناؤوط وإبراهيم باجس، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة، 1412هـ/ 1991م.(1/575)
118 - جنة الرضا في التسليم لما قدر الله وقضى، لأبي يحيي محمد بن عاصم الغرناطي، تحقيق، د. صلاح جرا، دار البشير، 1410هـ.
119 - حضارة العرب، د. جوستاف لوبون، ترجمة الأستاذ محمد عادل زعيتر.
120 - حقيقة البدعة وأحكامها، سعيد ناصر الغامدي، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى 1412هـ/ 1992م.
121 - حلول لمشكلة الربا للشيخ محمد بن محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، الدار السلفية لنشر العلم، الطبعة الثانية، القاهرة، 1409هـ.
122 - الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم الأصبهاني، دار الكتاب العربي، بيروت الطبعة الثالثة، 1400هـ.
123 - خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، لسيد قطب، دار الشروق، الطبعة السابعة، سنة 1402هـ.
124 - خصائص الشريعة الإسلامية، عمر الأشقر، مكتبة الفلاح، الكويت، الطبعة الأولى، 1982م.
125 - دراسات قرآنية، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الخامسة، 1408هـ/1988م.
126 - درء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية، تحقيق د. محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الطبعة الأولى، 401هـ/ 1981م.
127 - دع القلق وابدأ الحياة، ديل كارينجي، تعريب عبد المنعم محمد الزيادي، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1980م.
128 - ديوان الإمام الشافعي، جمعه وعلق عليه: محمد عفيف الزغبي، دار المطبوعات الحديثة، الطبعة الخامسة.
129 - ديوان الإمام علي، جمعه وطعه نعيم زوزور، دار الكتب العلمية، بيروت.
130 - ديوان لبيد بن ربيعة العامري، دار صادر، بيروت.(1/576)
131 - رسائل العقيدة، للشيخ محمد بن صالح العثيمين، دارطيبة، الرياض، الطبعة الثانية، 1406هـ.
132 - رسائل وفتاوى في ذم ابن عربي الصوفي، جمع وتحقيق د. موسى بن سليمان الدرويش، الطبعة الأولى 1410هـ.
133 - رف الحرج في الشريعة الإسلامية، د. محمد صالح عبد الله بن حميد، دار الاستقامة، الطبعة الثانية، 1412هـ.
134 - روائع البيان تفسير آيات الأحكام لمحمد علي الصابوني، دار القلم، الطبعة الأولى، 1411هـ/ 1990م.
135 - روح الدين الإسلامي، عفيف عبد الفتاح طبارة، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الثالثة والعشرون، 1982م.
136 - زاد الداعية إلى الله، محمد بن صالح العثيمين، مطابع المدينة، الرياض بالسعودية.
137 - زاد المسير في علوم التفسير، للإمام أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، المكتب الإسلامي.
138 - زاد المعاد في هدي خير العباد، للإمام ابن القيم، تحقيق شعيب وعبد القادر الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة بيروت، الطبعة الثانية 1401هـ.
139 - سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة، ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، الطبعة الخامسة، 1405هـ/1985م.
140 - سنن أبي داود سليمان بن الأشعث، تحقيق عزت عبيد الدعاس، حمص، الناشر محمد السيد.
141 - سنن الترمذي، لأبي عيسي الترمذي، تحقيق أحمد شاكر، مطبعة مصطفي الحلبي، القاهرة.
142 - سنن الدارمي، دار الدعوة، تركيا 1401هـ.(1/577)
143 - سير أعلام النبلاء، الذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان، تحقيق شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة الطبعة الثانية، 1402هـ/ 1982م.
144 - سيد قطب الشهيد الحي، صلاح الخالدي، مكتبة الأقصى، عمان، الطبعة الأولى، 1981م.
145 - السيرة النبوية، ابن هشام أبو محمد عبد الملك بن هشام، تحقيق مصطفي السقا، وزملائه، الطبعة الثانية، 1375هـ.
146 - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، اللالكائي، تحقيق. د. أحمد بن سعد حمدان الغامدي، دار طيبة، الرياضة، السعودية.
147 - شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد الحنبلي، دار الآفاق الجديدة، بيروت.
148 - شرح السنة لأبي محمد الحسين بن مسعود البغوي، تحقيق علي محمد معوض وعادل أحمد عبد الموجد، دار الكتب العلمية، الطبعة الأ, لى، 1412هـ/ 1992م.
149 - شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار بن أحمد، تحقيق د. عبد الكريم عثمان، مكتبة وهبة، مطبعة الاستقلال الكبرى، الطبعة الأولى، 1384هـ/1965م، القاهرة.
150 - شرح العقيدة الطحاوية، لمحمد بن محمد بن أبي العز الحنفي، المكتب الإسلامي، بيروت الطبعة الرابعة، 1391هـ.
151 - شرح المعلقات السبع، للقاضي حسين بن أحمد بن الزوزني، تحقيق يوسف علي بدوي، دار ابن كثير، دمشق، الطبعة الأولى، 1410هـ/ 1989م.
152 - شرح العقائد السبع الطوال، لأبي بكر محمد بن القاسم الأنباري، تحقيق: عبد السلام هارون، دار المعارف، الطبعة الثانية، 1969م، مصر.
153 - شرح العقيدة النونية، لابن القيمن لمحمد خليل هراس، الفاروق الحديث للطباعة.(1/578)
154 - شيخ الإسلام أحمد تقي الدين ابن تيمية جهاده، دعوته، وعقيدته، تأليف الشيخ أحمد القطان، ومحمد الزين مراجعة سماحة الشيخ عبد العزيز بن بار -رحمه الله- مكتبة الندى، الطبعة الثانية، 1409هـ.
155 - صحيح البخاري، محمد إسماعيل البخاري، دار الفكر، الطبعة الأولى، 1411هـ/1991م.
156 - صفة الصفوة لابن الجوزي، تحقيق محمود خوري، ومحمد رواسي قلعجي، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية، 1399هـ.
157 - صحيح مسلم بشرح النووي، المطبعة المصرية، بالأزهر، الطبعة الأولى، 1347هـ/1929م.
158 - طبقات الشافعية الكبرى للسبكي تاج الدين عبد الوهاب بن علي، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية.
159 - طبقات المفسرين للحافظ شمس الدين محمد بن علي بن أحمد الداوودي، دار الكتب العلمية، بيروت الطبعة الأولى، 1403هـ/ 1983م.
160 - ظاهرة الغلو في الدين في العصر الحديث، لمحمد عبد الحكيم حامد، دار المنار الحديثة، الطبعة الأولى، 1411هـ/1991م.
161 - عبد الحميد بن باديس العالم الرباني والزعيم السياسي، تأليف مازن صلاح مطبقاتي، دار القلم، دمشق الطبعة الأولى، 1410هـ/ 1989م.
162 - عشرون حديثا من صحيح مسلم دراسة أسانيد وشرح متونها بقلم عبد المحسن العباد المدرس بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، 1409هـ، الطبعة الأولى.
163 - علو الله على خلقه، تأليف د. موسى بن سليمان الدويش، مكتبة العلو والحكم، بالمدينة المنورة، الطبعة الأولى، 1407هـ/1986م.
164 - النصيحة في صفات الرب جل وعلا وتتضمن عقيدة الإمام عبد الله يوسف الجويني للعلامة أحمد بن إبراهيم الواطسي الشافعي الصوفي، ألمعروف بابن شيخ الحراميين، المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثةن 1403هـ/ 1983م.(1/579)
165 - عون المعبود شرح سنن أبي داود لأبي محمد شمس الحق العظيم أبادي، دار الفكر، الطبعة الثالثة، 1399هـ/ 1979م.
166 - فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني، تصحيح وتعقيب عبد العزيز بن باز، دار الفكر، 1411هـ/ 1990م.
167 - فتح القدير، محمد بن علي محمد الشوكاني، دار الخير، بيروت، الطبعة الأولى، 1412هـ/ 1991م.
168 - فتوح البلدان للإمام أبي العباس أحمد بن يحيي بن جابر البلاذري، مؤسسة المعارف، بيروت، طبعة 1407هـ/1987م.
169 - قصة الاضطهاد الديني في المسيحية والإسلام، د. توفيق الطويل، طبعة دار الثقافة الإسكندرية، 1366هـ/ 1947م.
170 - قواعد التحديث محمد جمال الدين القاسمين دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1399هـ/ 1979م.
171 - لسان العرب لابن منظور، جمال الدين محمد بن مكرم، دار صادر، بيروت.
172 - لسان الميزان، لابن حجر العسقلاني، مؤسسة الأعلمي، بيروت، الطبعة الثانية، 1390هـ.
173 - لوامع الأنوار البهية، للسفاريني، طبعة دولة قطر، الطبعة الأولى.
174 - ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ لأبي الحسن علي بن الحسين الندوي، دار المعارف، الطبعة السابعة، 1408هـ/ 1988م.
175 - مجاز القرآني لأبي عبيدة معمر بن المثني التيمي، تحقيق د. محمد فؤاد سزكين دار الفكر، الطبعة الثانية، 1390هـ/1970م.
176 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، دار الكتاب العربي، الطبعة الثانية، 1967م، بيروت.
177 - مجموع الرسائل الكبرى، لأحمد عبد الحليم، ابن تيمية، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان.(1/580)
178 - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية جمع عد الرحمن بن قاسم، الطبعة الأولى، السعودية.
179 - مجلة البحوث الإسلامية، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة الإرشاد، الرياض، السعودية، عدد 345، عام 1413م.
180 - مجلة المسلمون، عدد 11 تاريخ 13 ربيع الأول 1402هـ/ 18/ 1/1982م
181 - محاضرات في النصرانية، أبو زهرة محمد، دار الفكر العربي، القاهرة، طبعة غفل.
182 - مشكاة المصابيح، للخطيب التبريزي، المكتب الإسلامي، دمشق الطبعة الأولى، 1381هـ/ 1961م.
183 - مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لابن قيم الجوزية، تحقيق محمد حامد الفقي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1392هـ.
184 - معجم البلدان للشيخ الإمام شهاب الدين أبي عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي البغدادي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، طبعة سنة 1399هـ/ 1989م.
185 - معجم الأدباء، لياقوت الحموي، إحياء التراث العربي، بيروت، طبعة 1408هـ/ 1988م.
186 - معجم مقاييس اللغة لابن فارس أبي الحسين بن فارس، تحقيق عبد السلام هارون، دار الكتب العلمية، إيران.
187 - مفتاح دار السعادة، لابن قيم الجوزية، دار الكتب العلمية، بيروت.
188 - مقاصد المكلفين لعمر الأشقر، مكتبة الفلاح، الكويت، الطبعة الأولى، 1401هـ.
189 - منهاج السنة النبوية لابن تيمية، تحقيق د. محمد رشاد سالم، الطبعة الأولى، 1406هـ.
190 - منهاج المسلم لأبي بكر الجزائري، دار الشروق، جدة، الطبعة التاسعة 1409هـ/1989م.(1/581)
191 - منهج البحث العلمي عند العرب، لجلال محمد عبد الحميد موسى، دار الكتاب اللبناني، الطبعة الأولى، 1972م، بيروت.
192 - منهج التربية الإسلامية، محمد قطب، دار الشروق، الطبعة السابعة، 1403هـ/ 1983م.
193 - ميزان الاعتدال، للإمام الذهبي، تحقيق علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت.
194 - هداية الحياري لابن القيم، محمد أبو بكر، الطبعة المطبوعة ضمن الجامع الفريد، بدون تاريخ، توزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العامة والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض، المملكة العربية السعودية.
195 - هذه الصوفية، تأليف عبد الرحمن الوكيل، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الرابعة، 1984م.
196 - وسطية الإسلام وأمته في ضوء الفقه الحضاري، لعمر بهاء الدين الأميري، الدوحة، قطر، 1906م.
197 - وسطية أهل السنة بين الفرق، د. محمد باكريم محمد باعبد الله، دار الراية، الرياض، السعودية، الطبعة الأولى، 1415هـ/ 1994م.
198 - وفيات الأعيان وأنباء الزمان لابن خلكان أبو العباس شمس الدين أحمد، تحقيق، إحسان عباس، دار صادر، بيروت.
199 - يقظة أولى الاعتبار مما ورد في ذكر الجنة والنار، لصديق حسن خان.(1/582)