الانتصار
لأهل الحديث
...
بقلم
محمد عمر بازمول
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونعوذ بالله؛ من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم .
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته و لا تموتن إلا وأنتم مسلمون } .
{ يا أيها الناس اتقوا ربّكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيراً ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، إن الله كان عليكم رقيباً }.
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً. يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً } .
أما بعد:
فإن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أمّا بعد:
فإن نصرة الحق لا تحتاج إلى أكثر من بيان أنه الحق وإيضاحه؛ فإن الحق أبلج، والباطل لجلج. والتعريف بأهل الحديث وتقرير مالهم من الفضل والشرف،
وإبراز منهجهم وأصولهم في التفقه، والذب عنهم، هو المقصود في هذه الكتاب، نصرة لهم أمام الهجمات التي توجه إليهم.
وقد أسميته : الانتصار لأهل الحديث( ).
ويشتمل على مدخل وأربعة مقاصد وخاتمة.
المدخل: في الرأي وأصحابه.
المقصد الأول: شرف أهل الحديث وفضلهم.
المقصد الثاني: منهج أهل الحديث في التفقه.
المقصد الثالث: أعيان أهل الحديث.
المقصد الرابع: الذب عن أهل الحديث.
الخاتمة : في بيان رتب الطلب.
سائلاً المولى عزوجل ذو الجلال والإكرام التوفيق والسداد والهدى والرشاد، وأن يتقبل جميع عملي خالصاً لوجهه الكريم، وداعياً إلى سنة نبيه الرؤوف الرحيم، وأن يرزقني فيه القبول إنه سبحانه السميع المجيب.
محمد بن عمر بن سالم بازمول
مكة المكرمة - العوالي ص.ب 7269(1/1)
المدخل: الرأي وأصحابه.
الرأي هو الخط المقابل للحديث والأثر، وبيان ما هية الرأي وأصحابه، يتحصل منه بيان ما هية الحديث وأهله؛ لذا كان من المفيد في التمهيد للتعريف بأهل الحديث وما يتعلق بهم، الدخول عن طريق التعريف بالرأي وأصحابه، وبضدها تتميز الأشياء.
ويشتمل هذا المدخل على ما يلي:
... أولاً : تعريف الرأي وأنواعه.
... ثانياً : بداية ظهور الرأي والبدع.
... ثالثاً : أصحاب الرأي المتقدمون والمتأخرون.
... رابعاً: أمور أنكرها أهل العلم على أصحاب الرأي.
وإليك البيان:
أولاً : تعريف الرأي وأنواعه .
الرأي في اللغة من رأى يرى رأياً فهو رأي.
يطلق بمعنى الاعتقاد. والعقل. والنظر. والتأمل.( ).
فهو اعتقاد النفس أحد النقيضين من غلبة الظن( ).
أو إجالة الخاطر في المقدمات التي يرجى منها إنتاج المطلوب( ).
أو استخراج صواب العاقبة( ).
وكل هذه التعاريف للرأي في اللغة عند التأمل متقاربة في المعنى، ويظهر ذلك من خلال ملاحظة الأمور التالية:
1 ـ أن الرأي لا يطلق لغة بهذا المعنى إلا على عملية التبصر والنظر والتأمل في طلب المعرفة ووجه الصواب فيما تتعارض فيه الأمارات( ).
وهذا ملحوظ في التعريف الأول بوضوح، ويستفاد في التعريف الثاني من قوله: "إجالة الخاطر في مقدمات يرجى منها.." إذ إجالة الخاطر لا تكون في الأمر الظاهر الذي لا تتعارض فيه الأمارات، وكذا في التعريف الثالث.
2 ـ أن الرأي عملية نظرية تتم بالتأمل فهو نظر بعين البصيرة حيث يجال النظر في المقدمات التي يراد معرفة المطلوب منها. وهذا ملحوظ في التعريف الثاني، ويستفاد من تأمل التعريف الأول والثالث.
3 ـ أن الرأي يستهدف معرفة المطلوب، ومما يعين فيه التأمل والنظر في العاقبة. وهذا ملحوظ في التعريف الثالث، وهو مستفاد من التعريف الأول والثاني.(1/2)
وتسمى القضية المستنتجة من الرأي: رأي. من باب تسمية المفعول بالمصدر( ). والحاصل أن الرأي في اللغة لا بد فيه من الأمور التالية:
1ـ أن يتم بالنظر والتأمل فهو بعين البصيرة لا بالعين الباصرة.
2ـ أنه في الأمور المتجاذبة الأمارات، لا في الأمور البدهية، أو التي لا اختلاف فيها، أو لا تتعارض فيها الأمارات، ولو احتاج إلى تأمل كدقائق الحساب ونحوها( ).
3ـ يطلب فيه معرفة رجحان أحد طرفي المختلفين.
4ـ نتيجته بغلبة الظن. فلا يقال في الأمر الذي يفيد العلم واليقين: إنه رأي.
قال الخطيب البغدادي رحمه الله: "النظر: ضربان.
ضرب هو النظر بالعين؛ فهذا حدّه الإدراك بالبصر.
والثاني: النظر بالقلب؛ فهذا حدّه الفكر في حال المنظور فيه. والمنظور فيه هو الأدلة والأمارات الموصلة إلى المطلوب، والمنظور له هو الحكم؛ لأنه ينظر لطلب الحكم، والناظر هو الفاعل للفكر. ....
وأمّا الرأي فهو استخراج صواب العاقبة، فمن وضع الرأي في حقه واستعمل النظر في موضعه؛ سدد إلى الحق المطلوب، كمن قصد المسجد الجامع فسلك طريقه، ولم يعدل عنه أداه إليه وأورده عليه."اهـ( ).و يمكن أن يُعرف الرأي بتعريف يجمع هذه المعاني، من خلال التعاريف السابقة، فأقول: هو النظروالتأمل في العاقبة لاستخراج الصواب في الأمر المتجاذب الأمارات
لمعرفة الراجح بحسب غلبة الظن.
تنبيه: أصل مادة (ر. أ. ي) يدل على نظر وإبصار بالعين الباصرة، أوعين البصيرة( ). والرأي بعين البصيرة وهو المقصود هنا.
ويفرق بين "رأى" البصرية وغير البصرية بحسب مصدرها.
فيقال: رأى بعينه. للرؤية البصرية، ومصدرها رؤية. ويقال: رأى في منامه. للرؤيا المنامية، ومصدرها رؤيا. ويقال: رأى كذا. للرأي بعين البصيرة، والمصدر رأي. ومنه تعلم أن ادراك المرئي بحسب قوى النفس على أضرب:
الأول: إدراكه بالعين الباصرة التي هي الحاسة.
الثاني: إدراكه بالوهم والتخييل وهو يشمل بعض ما يُرى في المنام.(1/3)
الثالث: إدراكه بالقلب( ).
وقد عدت لفظة (رأى) بالنظر إلى هذه المعاني من المشترك اللفظي( ).
والرأي في نصوص الشرع :
جاء في القرآن العظيم ذكر "الرأي" بمعنى العلم الذي يقتضي النظر والتأمل المؤدي إلى الاعتبار كما في قوله تعالى: {ألم تر إلى ربك كيف مد الظل} [آل عمران:13]، وقوله: {ولتحكم بين الناس بما أراك الله} [النساء:105]، {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل} [الفيل:1]، {ألم ترو كيف خلق الله سبع سموات طباقاً} [نوح:15]، {أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما} [الأنبياء:30].
وجاء الرأي في القرآن بمعنى النظر والتأمل كما في قوله تعالى: {ما أريكم إلا ما أرى} [غافر:29]، والمعنى: ما أشير عليكم إلا بما تأملت ونظرت فيه.
وجاء الرأي موصوفاً بأنه بلا روية ونظر كما في قوله تعالى: {فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشراً مثلنا وما نراك اتبعك إلا أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين} [هود:27].
فقوله: {بادي الرأي} يحتمل أن يكون بمعنى: أول وبداية نظرهم في الأمر، دون روية، أو نظر، أو تأمل. فهم اتبعوك دون نبيل رأي أو إمعان روية. ويحتمل أن يكون بمعنى: اتبعوك في الظاهر ولم يتبعوك في باطنهم( ).(1/4)
... أما في السنة النبوية فقد جاء الرأي بمعنى العقل والقياس في مقابل النص، كما في حديث أَبي حَصِينٍ قَالَ قَالَ أَبُو وَائِلٍ لَمَّا قَدِمَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ مِنْ صِفِّينَ أَتَيْنَاهُ نَسْتَخْبِرُهُ فَقَالَ: "اتَّهِمُوا الرَّأْيَ فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَهُ لَرَدَدْتُ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ وَمَا وَضَعْنَا أَسْيَافَنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا لِأَمْرٍ يُفْظِعُنَا إِلَّا أَسْهَلْنَ بِنَا إِلَى أَمْرٍ نَعْرِفُهُ قَبْلَ هَذَا الْأَمْرِ مَا نَسُدُّ مِنْهَا خُصْمًا إِلَّا انْفَجَرَ عَلَيْنَا خُصْمٌ مَا نَدْرِي كَيْفَ نَأْتِي لَهُ"( ).(1/5)
وفي رواية عَنْ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو وَائِلٍ قَالَ كُنَّا بِصِفِّينَ فَقَامَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ فَإِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَلَوْ نَرَى قِتَالًا لَقَاتَلْنَا فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ فَقَالَ بَلَى فَقَالَ أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ قَالَ بَلَى قَالَ فَعَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا أَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَقَالَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللَّهُ أَبَدًا فَانْطَلَقَ عُمَرُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللَّهُ أَبَدًا فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عُمَرَ إِلَى آخِرِهَا فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَفَتْحٌ هُوَ قَالَ نَعَمْ"( ).(1/6)
وجاء بمعنى الظن المقابل للعلم، كما في حديث رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ قَالَ: "قَدِمَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يَأْبُرُونَ النَّخْلَ يَقُولُونَ يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ فَقَالَ مَا تَصْنَعُونَ قَالُوا كُنَّا نَصْنَعُهُ قَالَ لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْرًا فَتَرَكُوهُ فَنَفَضَتْ أَوْ فَنَقَصَتْ قَالَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ : إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيٍ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ"( ).
ومحل الشاهد قوله: "إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر".
ووجه الدلالة أنه قابل بين الدين وبين الرأي، ويوضحه ما جاء عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ مَرَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْمٍ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ فَقَالَ مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ فَقَالُوا يُلَقِّحُونَهُ يَجْعَلُونَ الذَّكَرَ فِي الْأُنْثَى فَيَلْقَحُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَظُنُّ يُغْنِي ذَلِكَ شَيْئًا قَالَ فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ فَتَرَكُوهُ فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ :"إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ فَإِنِّي إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللَّهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ"( ). فذكر مكان الرأي "الظن" و أولى ما فسر به الحديث ما جاء في حديث غيره.(1/7)
وجاء في الحديث ذكر الإعجاب بالرأي، بمعنى اغترار المرء بعقله وبنفسه. عن أَبي أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيُّ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ فَقُلْتُ يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ كَيْفَ تَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} قَالَ أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ "بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ يَعْنِي بِنَفْسِكَ وَدَعْ عَنْكَ الْعَوَامَّ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ الصَّبْرُ فِيهِ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ وَزَادَنِي غَيْرُهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ قَالَ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ"( ).
كما أطلق الرأي على صاحب المشورة وحسن النظر والتأمل والتدبير.
عَنْ أَبِي رَزِينٍ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الرُّؤْيَا عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ مَا لَمْ تُعْبَرْ فَإِذَا عُبِرَتْ وَقَعَتْ قَالَ وَالرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ قَالَ وَأَحْسِبُهُ قَالَ لَا يَقُصُّهَا إِلَّا عَلَى وَادٍّ أَوْ ذِي رَأْيٍ"( ).
ومحل الشاهد قوله: "وادٍّ أو ذي رأي"، وجاء في رواية عند الترمذي: "لبيباً أو حبيباً".(1/8)
كما جاء في عبارات السلف إطلاق الرأي على أصحاب المقالات البدعية كمقالة الخوارج. عن يَزِيدُ الْفَقِيرُ قَالَ: كُنْتُ قَدْ شَغَفَنِي رَأْيٌ مِنْ رَأْيِ الْخَوَارِجِ فَخَرَجْنَا فِي عِصَابَةٍ ذَوِي عَدَدٍ نُرِيدُ أَنْ نَحُجَّ ثُمَّ نَخْرُجَ عَلَى النَّاسِ قَالَ فَمَرَرْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ فَإِذَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ جَالِسٌ إِلَى سَارِيَةٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَإِذَا هُوَ قَدْ ذَكَرَ الْجَهَنَّمِيِّينَ قَالَ فَقُلْتُ لَهُ يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ مَا هَذَا الَّذِي تُحَدِّثُونَ وَاللَّهُ يَقُولُ {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} وَ {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} فَمَا هَذَا الَّذِي تَقُولُونَ قَالَ فَقَالَ أَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَهَلْ سَمِعْتَ بِمَقَامِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَام يَعْنِي الَّذِي يَبْعَثُهُ اللَّهُ فِيهِ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَإِنَّهُ مَقَامُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَحْمُودُ الَّذِي يُخْرِجُ اللَّهُ بِهِ مَنْ يُخْرِجُ قَالَ ثُمَّ نَعَتَ وَضْعَ الصِّرَاطِ وَمَرَّ النَّاسِ عَلَيْهِ قَالَ وَأَخَافُ أَنْ لَا أَكُونَ أَحْفَظُ ذَاكَ قَالَ غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ زَعَمَ أَنَّ قَوْمًا يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ بَعْدَ أَنْ يَكُونُوا فِيهَا قَالَ يَعْنِي فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمْ عِيدَانُ السَّمَاسِمِ قَالَ فَيَدْخُلُونَ نَهَرًا مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ فَيَغْتَسِلُونَ فِيهِ فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمُ الْقَرَاطِيسُ فَرَجَعْنَا قُلْنَا وَيْحَكُمْ أَتُرَوْنَ الشَّيْخَ يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَجَعْنَا فَلَا وَاللَّهِ مَا خَرَجَ مِنَّا غَيْرُ رَجُلٍ وَاحِدٍ أَوْ كَمَا(1/9)
قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ"( ).
ولم يخرج الرأي في كلام السلف عن هذه المعاني، واصبح علماً على كل من يرجع إلى العقل عند كلامه في الدين، سواء مقدماً له على النص أم لا.
والمتأمل لكلامهم يستنتج أن الرأي يطلق عندهم على معنيين:
الأول: الرأي بمعنى الرجوع إلى العقل وتقديمه على النص.
الثاني: الرأي بمعنى الرجوع إلى العقل مع تقديم نصوص الشرع عليه؛ فهو القياس الصحيح والمعاني والعلل الصحيحة التي علق الشارع بها الأحكام وجعلها مؤثرة فيها طرداً وعكساً( ). فـ[نعم وزير العلم الرأي الحسن]( ).
والرأي بالمعنى الأوّل مذموم؛ إذ يقدم فيه العقل على النص فيما جاء فيه النص، أو يقاس بالعقل دون الرجوع إلى أصل.
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا واضلوا"
وفي لفظ: "أصبح أهل الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يعووها وتفلتت منهم أن يرووها فاشتقوا الرأي"( ).قال عبد الله بن مسعود :"قراؤكم وعلماؤكم يذهبون ويتخذ الناس رؤوساً جهالاً يقيسون الأمور برأيهم"( ).
عن الحسن: "إنما هلك من كان قبلكم حين تشعبت بهم السبل وحادوا عن الطريق فتركوا الآثار وقالوا في الدين برأيهم فضلوا وأضلوا"( ).
وقال سحنون في قول عمر رضي الله عنه: "اتقوا الرأي في دينكم"، قال: "يعني: البدع"( ).
وقال أبوبكر بن داود: "أهل الرأي هم أهل البدع" وهو القائل:
فقول رسول الله ازكى وأشرح"( )
ودع عنك آراء الرجال وقولهم
وقَالَ أبو عيسى الترمذي: "سَمِعْت يُوسُفَ بْنَ عِيسَى يَقُولُ سَمِعْتُ وَكِيعًا يَقُولُ حِينَ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ( ) قَالَ لَا تَنْظُرُوا إِلَى قَوْلِ أَهْلِ الرَّأْيِ فِي هَذَا فَإِنَّ الْإِشْعَارَ سُنَّةٌ وَقَوْلُهُمْ بِدْعَةٌ".(1/10)
وقَالَ: "وسَمِعْت أَبَا السَّائِبِ يَقُولُ كُنَّا عِنْدَ وَكِيعٍ فَقَالَ لِرَجُلٍ عِنْدَهُ مِمَّنْ يَنْظُرُ فِي الرَّأْيِ "أَشْعَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" وَيَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ هُوَ مُثْلَةٌ! قَالَ الرَّجُل:ُ فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ الْإِشْعَارُ مُثْلَةٌ! قَالَ: فَرَأَيْتُ وَكِيعًا غَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا! وَقَالَ أَقُولُ لَكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقُولُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ: مَا أَحَقَّكَ بِأَنْ تُحْبَسَ ثُمَّ لَا تَخْرُجَ حَتَّى تَنْزِعَ عَنْ قَوْلِكَ هَذَا"( ).
قال ابن عبدالبر بعد إيراده لبعض هذه الآثار: "وسائر الفقهاء قالوا في هذه الآثار وما كان مثلها في ذم القياس: إنه القياس على غير أصل والقول في دين الله بالظن"اهـ( ).
قلت: وبتأمل هذه النصوص وما في معناها يتبين أن الرأي المذموم في كلام السلف يطلق على أنواع( )، وهي التالية:
1 ـ الرأي المخالف للنص. وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام فساده وبطلانه، و لاتحل الفتيا به ولا القضاء، وإن وقع فيه من وقع بنوع تأويل وتقليد.
2 ـ الكلام في الدين بالخرص والظن مع التفريط والتقصير في معرفة النصوص وفهمها واستنباط الأحكام منها؛ فإن من جهلها وقاس برأيه فيما سئل عنه بغير علم بل لمجرد قدر جامع بين الشيئين ألحق أحدهما بالآخر أو لمجرد قدر فارق يراه بينهما يفرق بينهما في الحكم، من غير نظر إلى النصوص والآثار؛ فقد وقع في الرأي المذموم الباطل.(1/11)
3 ـ الرأي المتضمن تعطيل أسماء الرب وصفاته وأفعاله بالمقاييس الباطلة التي وضعها أهل البدع والضلال من الجهمية والمعتزلة والقدرية ومن ضاهاهم، حيث استعمل أهله قياساتهم الفاسدة وآراءهم الباطلة وشبههم الداحضة في رد النصوص الصحيحة الصريحة؛ فردوا لأجلها الفاظ النصوص التي وجدوا السبيل إلى تكذيب رواتها، وتخطئتهم، ومعاني النصوص التي لم يجدوا إلى رد ألفاظها سبيلاً. فقابلوا النوع الأول بالتكذيب، والنوع الثاني بالتحريف والتأويل( ).
4 ـ الرأي الذي احدثت به البدع، وغيرت به السنن وعم به البلاء، وتربى عليه الصغير، وهرم فيه الكبير.
5 ـ القول في أحكام شرائع الدين بالاستحسان والظنون والاشتغال بحفظ المعضلات والاغلوطات ورد الفروع بعضها على بعض قياساً، دون ردها على أصولها والنظر في عللها واعتبارها؛ فاستعمل فيها الرأي قبل أن ينزل وفرعت وشققت قبل أن تقع، وتُكُلِّم فيها قبل أن تكون بالرأي المضارع للظن.
كما يتبين أن الرأي المحمود في كلامهم يطلق على الأنواع التالية( )
1 ـ رأي الصحابة( ).
قال ابن مسعود رضي الله عنه: "من كان منكم متأسياً فليتأس بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، وأقومها هدياً، وأحسنها حالاً. قوماً اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإقامة دينه؛ فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم"( ).
عن عبد ربه، قال: كان الحسن في مجلس فذكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقال: "إنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوباً وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً. قوماً اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم؛ فإنهم - وربِّ الكعبة - على الهدى المستقيم"( ).(1/12)
عن أبي العالية قال: "تعلموا الإسلام، فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام، ولا تحرفوا الصراط يميناً ولا شمالاً، وعليكم بسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم والذي كان عليه أصحابه (وعند الآجري: "والذي عليها أصحابه") قبل أن يقتلوا صاحبهم. ومن قبل أن يفعلوا الذي فعلوا؛ فإنا قد قرأنا القرآن من قبل أن يقتلوا صاحبهم ومن قبل أن يفعلوا الذي فعلوا بخمس عشرة سنة. وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء"( ).
عن مجاهد، قال: "العلماء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم"( ).
عن ابن المسيب أنه سئل عن شيء، فقال: اختلف فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أرى لي معهم قولا.
قال ابن وضاح: هذا هو الحق.
قال ابن عبدالبر: "معناه ليس له أن يأتي بقول يخالفهم به"( ).
عن بقية بن الوليد قال قال لي الأوزاعي: "يا بقية: العلم ما جاء عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وما لم يجيء عن أصحاب محمد فليس بعلم. يا بقية لا تذكر أحداً من أصحاب محمد نبيك صلى الله عليه وسلم إلا بخير ولا أحداً من أمتك. وإذا سمعت أحداً يقع في غيره فاعلم أنه إنما يقول أنا خير منه"( ).
وسئل مالك: لمن تجوز الفتوى؟ فقال: لا تجوز الفتوى إلا لمن علم ما اختلف الناس فيه. قيل له: اختلاف أهل الرأي؟ قال: لا. اختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. الناسخ والمنسوخ من القرآن، ومن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا يفتي"( ).
قلت: فرأي الصحابة من الرأي المحمود، واتفاقهم إجماع وحجة، واختلافهم حد، لا يخرج عنه؛ فلا يأت أحد بقول يخرج به عن اختلافهم.
2 ـ الرأي الذي يفسر النصوص ويبين وجه الدلالة منها ويقررها ويوضح محاسنها ويسهل طريق الاستنباط منها.
قال الأوزاعي سمعت الزهري أو قال حدثني الزهري: "نعم وزير العلم الرأي الحسن"( ).
عن ابن المبارك سئل متى يسع الرجل أن يفتي؟ قال: "إذا كان عالماً بالأثر، بصيراً بالرأي"( ).(1/13)
عن ابن المبارك أنه قال: "ليكن الذي تعتمد عليه الأثر. وخذ من الرأي ما يفسر لك الحديث"( ).
قال الشافعي: "ولا يقيس إلا من جمع الآلة التي له القياس بها، وهي: العلم بأحكام الله: فرضه، وأدبه، وناسخه ومنسوخه، وعامه، وخاصه، وإرشاده.
ويستدل على ما احتمل التأويل منه بسنن رسول الله، فإذا لم يجد سنة فبإجماع المسلمين، فإذا لم يكن إجماع فبالقياس.
و لايكون لأحد أن يقيس حتى يكون عالماً بما مضى قبله من السنن، وأقاويل السلف، وإجماع الناس، واختلافهم، ولسان العرب.
و لايكون له أن يقيس حتى يكون صحيح العقل، وحتى يفرق بين المشتبه، ولايعجل بالقول به، دون التثبيت.
و لا يمتنع من الاستماع ممن خالفه لأنه قد يتنبه بالاستماع لترك الغفلة، ويزداد به تثبيتاً فيما اعتقد من الصواب.
وعليه في ذلك بلوغ غاية جهده، والإنصاف من نفسه، حتى يعرف من أين قال ما يقول، وترك ما يترك.
ولايكون بما قال أعنى منه بما خالفه، حتى يعرف فضل ما يصير إليه على ما يترك، إن شاء الله.
فأمّا من تمّ عقله ولم يكن عالماً بما وصفناه فلا يحل له أن يقول بقياس؛ وذلك أنه لا يعرف ما يقيس عليه، كما لا يحل لفقيه عاقل أن يقول في ثمن درهم و لاخبرة له بسوقه.
ومن كان عالماً بما وصفنا بالحفظ لا بحقيقة المعرفة؛ فليس له أن يقول أيضاً بقياس، لأنه قد يذهب عليه عقل المعاني.
وكذلك لو كان حافظاً مقصر العقل، أو مقصراً عن علم لسان العرب؛ لم يكن له أن يقيس من قِبَلِ نقص عقله، عن الآلة التي يجوز بها القياس.
و لانقول يسع هذا - والله اعلم - أن يقول أبداً إلا اتباعاً لا قياساً"اهـ( ).
وقال الشافعي رحمه الله: "كل ما أقام الله به الحجة في كتابه أو على لسان نبيه منصوصاً بيناً؛ لم يحل الاختلاف فيه لمن علمه.(1/14)
وما كان من ذلك يحتمل التأويل ويدرك قياساً، فذهب المتأوِّل أو القايس إلى معنى يحتمله الخبر أو القياس، وإن خالفه فيه غيره، لم أقل إنه يضيق عليه ضيق الخلاف في المنصوص."( ).
3 ـ ما تواطأت الأمة عليه وتلقاه خلفهم عن سلفهم؛ فإن تواطؤ الأمة لا يكون إلا صواباً.
قال ابن مسعود: "إن الله عزوجل نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم، خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، وابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه، فما رآه المؤمنون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المؤمنون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المؤمنون سيئاً فهو عند الله سيء"( ).
والمراد به إجماع الصحابة واتفاقهم على أمر، كما يدل عليه السياق( ).
قال محمد بن الحسن: "ومن كان عالماً بالكتاب والسنة، وبقول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما استحسن فقهاء المسلمين، وسعه أن يجتهد رأيه فيما ابتلي به، ويقضي به ويمضيه في صلاته وصيامه وحجه وجميع ما أمر به ونهي عنه، فإذا اجتهد ونظر وقاس على ما أشبه ولم يأل وسعه العمل بذلك، وإن أخطأ الذي ينبغي أن يقول به"( ).
قال محمد بن الحسن أيضاً: "العلم على أربعة أوجه:
ما كان في كتاب الله الناطق، وما أشبهه. وما كان في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المأثورة، وما أشبهها.
وما كان فيما أجمع عليه الصحابة رحمهم الله وما أشبهه.
وكذلك ما اختلفوا فيه لا يخرج عن جميعه؛ فإن أوقع الاختيار فيه على قول فهو علم تقيس عليه وما أشبهه.
وما استحسنه عامة فقهاء المسلمين، وما أشبهه وكان نظيراً له.
قال: ولايخرج العلم عن هذه الوجوه الأربعة"اهـ( ).(1/15)
4 ـ الاجتهاد في الواقعة بعد طلب علمها من القرآن والسنة، وما جاء عن الصحابة رضوان الله عليهم، فإنه ينظر إلى أقرب ذلك من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقضية أصحابه.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في خطابه إلى أبي موسى رضي الله عنه: "ثم الفهم الفهم فيما أدلى إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة. ثم قاييس الأمور عند ذلك. واعرف الأمثال ثم اعمد فيما ترى إلى احبها إلى الله أشبهها بالحق"( ).
عنْ شُرَيْحٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ: "إِلَيْهِ إِنْ جَاءَكَ شَيْءٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَاقْضِ بِهِ وَلَا تَلْفِتْكَ عَنْهُ الرِّجَالُ فَإِنْ جَاءَكَ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَانْظُرْ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاقْضِ بِهَا فَإِنْ جَاءَكَ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ سُنَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْظُرْ مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ فَخُذْ بِهِ فَإِنْ جَاءَكَ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ أَحَدٌ قَبْلَكَ فَاخْتَرْ أَيَّ الْأَمْرَيْنِ شِئْتَ إِنْ شِئْتَ أَنْ تَجْتَهِدَ رَأْيَكَ ثُمَّ تَقَدَّمَ فَتَقَدَّمْ وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَأَخَّرَ فَتَأَخَّرْ وَلَا أَرَى التَّأَخُّرَ إِلَّا خَيْرًا لَكَ"( ).(1/16)
عَنْ حُرَيْثِ بْنِ ظُهَيْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَال: "أَتَى عَلَيْنَا زَمَانٌ لَسْنَا نَقْضِي وَلَسْنَا هُنَالِكَ وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ قَدَّرَ مِنَ الْأَمْرِ أَنْ قَدْ بَلَغْنَا مَا تَرَوْنَ فَمَنْ عَرَضَ لَهُ قَضَاءٌ بَعْدَ الْيَوْمِ فَلْيَقْضِ فِيهِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنْ جَاءَهُ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَلْيَقْضِ بِمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ جَاءَهُ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَمْ يَقْضِ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْيَقْضِ بِمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ وَلَا يَقُلْ إِنِّي أَخَافُ وَإِنِّي أُرَى فَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَالْحَلَالَ بَيِّنٌ وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ فَدَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ"( ).
وفي رواية: عَنْ حُرَيْثِ بْنِ ظُهَيْرٍ قَالَ أَحْسَبُهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَال: "قَدْ أَتَى عَلَيْنَا زَمَانٌ وَمَا نُسْأَلُ وَمَا نَحْنُ هُنَاكَ وَإِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ أَنْ بَلَغْتُ مَا تَرَوْنَ فَإِذَا سُئِلْتُمْ عَنْ شَيْءٍ فَانْظُرُوا فِي كِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَفِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوهُ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ فَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فَاجْتَهِدْ رَأْيَكَ وَلَا تَقُلْ إِنِّي أَخَافُ وَأَخْشَى فَإِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ فَدَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ"( ).(1/17)
قال المزني رحمه الله: "الفقهاء من عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا وهلم جرا، استعملوا المقاييس في الفقه، في جميع الأحكام في أمر دينهم. قال: واجمعوا أن نظير الحق حق، وأن نظير الباطل باطل. قال: فلا يجوز لأحد إنكار القياس؛ لأنه التشبيه بالأمور والتمثيل عليها"اهـ( ).
قال محمد بن مسلمة رحمه الله: "إنما على الحاكم الاجتهاد فيما يجوز فيه الرأي، فإذا اجتهد وأراد الصواب بجهد نفسه فقد أدى ما عليه أخطأ أو أصاب.
قال: وليس أحد في رأي على حقيقته أنه الحق، وإنما حقيقة الاجتهاد، فإن اجتهد واخطأ في عقوبة إنسان فمات لم يكن عليه كفارة ولا دية لأنه قد عمل بالذي أمر به.
قال: وليس يجوز لمن لا يعلم الكتاب والسنة و لا مامضى عليه أولوا الأمر أن يجتهد رأيه، فيكون اجتهاده مخالفاً للقرآن والسنة، والأمر المجمع عليه"اهـ( ).
وقال ابن عبدالبر رحمه الله بعد نقله لبعض ما تقدم: "هذا يوضح لك أن الاجتهاد لا يكون إلا على أصول يضاف إليها التحليل والتحريم، وأن لا يجتهد إلا عالم بها، ومن أشكل عليه شيء لزمه الوقوف ولم يجز له أن يحيل على الله قولا في دينه لا نظير له من أصل، ولا هو في معنى أصل. وهو الذي لا خلاف فيه بين أئمة الأمصار قديماً وحديثاً؛ فتدبر"اهـ( ).
وقال الخطيب البغدادي رحمه الله: "وأمّا الرأي فهو استخراج صواب العاقبة، فمن وضع الرأي في حقه واستعمل النظر في موضعه؛ سدد إلى الحق المطلوب، كمن قصد المسجد الجامع فسلك طريقه، ولم يعدل عنه أداه إليه وأورده عليه "اهـ( ).(1/18)
وقال ابن حجر رحمه الله: "قال الأوزاعي: "العلم ما جاء عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لم يجيء عنهم فليس بعلم". وأخرج أبوعبيد ويعقوب بن شيبة عن ابن مسعود قال: "لا يزال الناس مشتملين بخير ما أتاهم العلم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وأكابرهم، فإذا أتاهم العلم من قبل أصاغرهم وتفرقت أهواءهم هلكوا". وقال أبو عبيدة: "معناه: أن كل ما جاء عن الصحابة وكبار التابعين لهم بإحسان هو العلم الموروث، وما أحدثه من جاء بعدهم هو المذموم". وكان السلف يفرقون بين العلم والرأي؛ فيقولون للسنة: علم، ولما عداها رأي. وعن أحمد: "يؤخذ العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم عن الصحابة، فإن لم يكن فهو عن التابعين مخير". وعنه: "ما جاء عن الخلفاء الراشدين فهو من السنة، وما جاء عن غيرهم من الصحابة فمن قال أنه سنة لم أدفعه". وعن ابن المبارك: ليكن المعتمد عليه الأثر، وخذوا من الرأي ما يفسر لكم الخبر".
والحاصل أن الرأي إن كان مستنداً للنقل من الكتاب والسنة فهو محمود، وإن تجرد عن علم فهو مذموم"اهـ( ).
وقال رحمه الله مبيناً هذا الموقف الوسط من الرأي: "...فأمّا من بعده [يعني : رسول الله صلى الله عليه وسلم ] فإن الوقائع كثرت والأقاويل انتشرت فكان السلف يتحرزون من المحدثات، ثم انقسموا ثلاث فرق: الأولى تمسكت بالأمر، وعملوا بقوله صلى الله عليه وسلم : "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين" . والثانية: قاسوا مالم يقع على ما وقع وتوسعوا في ذلك حتى أنكرت عليهم الفرقة الأولى... والثالثة: توسطت فقدمت الأثر مادام موجوداً فإذا فقد قاسوا "اهـ( ).
هذا آخر ما تيسر تحريره في بيان تعريف الرأي وأنواعه، ولله الحمد والمنة.
ثانياً : بداية ظهور الرأي والبدع .(1/19)
[اعلم أن عامة البدع المتعلقة بالعلوم والعبادات في هذا القدر وغيره، إنما وقع في الأمة في أواخر خلافة الخلفاء الراشدين، كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال: "من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي"... (1)
فلما ذهبت دولة الخلفاء الراشدين وصار مُلكاً ظهر النقص في الأمراء، فلا بد أن يظهر أيضاً في أهل العلم والدين؛ فحدث في آخر خلافة علي بدعتا الخوارج والرافضة؛ إذ هي متعلقة بالإمامة والخلافة، وتوابع ذلك من الأعمال والأحكام الشرعية.
وكان ملك معاوية ملكاً ورحمة.
فلما ذهب معاوية - رحمة الله عليه - وجاءت إمارة "يزيد" وجرت فيها فتنة قتل الحسين بالعراق، وفتنة أهل الحرة بالمدينة، وحصروا مكة لمّا قام ابن الزبير.
ثم مات يزيد وتفرقت الأمة: ابن الزبير بالحجاز، وبنوا الحكم بالشام، ووثب المختار بن أبي عبيد وغيره بالعراق، وذلك في أواخر عصر الصحابة، وقد بقي فيهم مثل عبدالله بن عباس، وعبدالله بن عمر، وجابر بن عبدالله، وأبو سعيد الخدري، وغيرهم؛ حدثت بدعة القدرية والمرجئة.. فردّها بقايا الصحابة كابن عباس وابن عمر وجابر وواثلة بن الأسقع وغيرهم - رضي الله عنهم - مع ما كانوا يردونه هم وغيرهم من بدعة الخوارج والروافض.(1)
وعامة ما كانت القدرية إذ ذاك يتكلمون فيه: أعمال العباد، كما يتكلم فيها المرجئة فصار كلامهم في الطاعة والمعصية، والمؤمن والفاسق، ونحو ذلك من مسائل الأسماء والأحكام، والوعد والوعيد، ولم يتكلموا بعد في ربهم و لا في صفاته إلا في أواخر عصر صغار التابعين، من حين أواخر الدولة الأموية.(1/20)
وحين شرع القرن الثالث تابعوا التابعين ينقرض أكثرهم - فإن الاعتبار في القرون الثلاثة بجمهور أهل القرن، وهم وسطه، وجمهور الصحابة انقرضوا بانقراض خلافة الخلفاء الأربعة، حتى إنه لم يكن بقي من أهل بدر إلا نفر قليل، وجمهور التابعين بإحسان انقرضوا في أواخر عصر أصاغر الصحابة، في إمارة ابن الزبير وعبدالملك، وجمهور تابعي التابعين انقرضوا في أواخر الدولة الأموية، وأوائل العباسية -، وصار في ولاة الأمور كثير من الأعاجم، وخرج كثير من الأمر عن ولاية العرب وعربت بعض الكتب العجمية، من كتب الفرس والهند والروم، وظهر ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: "ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل و لا يستشهد ويحلف ولا يستحلف"(1)؛ حدث ثلاثة أشياء: "الرأي" و "الكلام" و "التصوف".
وحدث "التجهم"، وهي نفي الصفات، وبإزائه التمثيل.
فكان جمهور الرأي من الكوفة؛ إذ هو غالب على أهلها، مع ما كان فيهم من التشيع الفاحش، وكثرة الكذب في الرواية، مع أن في خيار أهلها من العلم والصدق والسنة والفقه والعبادة أمر عظيم، لكن الغرض أن فيها نشأ كثرة الكذب في الرواية، وكثرة الآراء في الفقه والتشيع في الأصول.
وكان جمهور الكلام والتصوف في البصرة.
وكان أهل المدينة أقرب من هؤلاء وهؤلاء في القول والعمل إذ لم ينحرفوا انحراف الطائفتين من الكوفيين والبصريين: هوى ورواية، ورأيا وكلاماً وسماعاً، وإن كان في بعضهم نوع انحراف لكنهم أقرب.
وأمّا الشاميون فكان غالبهم مجاهدين، وأهل أعمال قلبية، أقرب إلى الحال المشروع من صوفية البصرة إذ ذاك.(1/21)
وقد شرك هؤلاء من البغداديين والخراسانيين والشاميين خلق، لكن الغرض أن الأصول ثمّ.كما أن علم النبوة من الإيمان والقرآن وما يتبع ذلك من الفقه والحديث وأعمال القلوب إنما خرجت من الأمصار التي يسكنها جمهور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي: الحرمان، والعراقان، والشام: المدينة ومكة، والكوفة والبصرة، والشام، وسائر الأمصار تبع.
فالقراء السبعة من هذه الأمصار، وكذلك أئمة أهل الحديث وأثبتهم أهل المدينة وأهل البصرة كالزهري، ومالك، وكقتادة، وشعبة، ويحي بن سعيد، وعبدالرحمن بن مهدي.
وأهل الكوفة فيهم الصادق والكاذب.
وأهل الشام لم يكن فيهم كثير كاذب، ولا أئمة كبار في القراءة والحديث، وكذلك أئمة الفقهاء، فمالك عالم أهل المدينة، و الثوري وأبو حنيفة وغيرهما من الكوفة، وابن جريج وغيره من أهل مكة، وحماد بن سلمة وحماد بن زيد من أهل البصرة، والأوزاعي وطبقته بالشام. وقد قيل: إن مالكاً إنما احتذى موطأه على كتاب حماد بن سلمة. وقيل: إن كتاب ابن جريج قبل ذلك. ثم الشافعي - وإن كان أصله مكياً - فإنه تفقه على طريقة أهل الحديث، غير متقيد بمصره، وكذلك الإمام أحمد - وإن كان أجداده بصريين - فإنه تفقه على طريقة أهل الحديث غير متقيد بالبصريين و لا غيرهم، كما أن عبدالله بن المبارك وإسحاق بن إبراهيم (ابن راهوية)، ومحمد بن إسماعيل البخاري وغيرهم من الخراسانيين،وكذلك أئمة الزهاد والعباد من هذه الأمصار كما ذكره أبو الفرج ابن الجوزي في صفوة الصفوة].(1)
ثالثاً : أصحاب الرأي المتقدمون والمتأخرون.
قال ابن تيمية رحمه الله: "ثم المتقدمون الذين وضعوا طرق الرأي والكلام والتصوف، وغير ذلك: كانوا يخلطون ذلك بأصول من الكتاب والسنة والآثار؛ إذ العهد قريب، وأنوار الآثار النبوية بعد فيها ظهور، ولها برهان عظيم، وإن كان عند بعض الناس قد اختلط نورها بظلمة غيرها.(1/22)
فأمّا المتأخرون فكثير منهم جرد ما وضعه المتقدمون. مثل من صنف في الكلام من المتأخرين، فلم يذكر إلا الأصول المبتدعة، واعرض عن الكتاب والسنة، وجعلهما إمّا فرعين، أو آمن بهما مجملاً، أو خرج به الأمر إلى نوع من الزندقة، ومتقدمو المتكلمين خير من متأخريهم.
وكذلك من صنف في الرأي فلم يذكر إلا رأي متبوعه وأصحابه، واعرض عن الكتاب والسنة، ووزن ما جاء به الكتاب والسنة على رأي متبوعه، ككثير من اتباع أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد.
وكذلك من صنف في التصوّف والزهد، جعل الأصل ما روي عن متأخري الزهاد، واعرض عن طريق الصحابة والتابعين. كما فعل صاحب الرسالة أبو القاسم القشيري، وأبوبكر محمد بن إسحاق الكلاباذي، وابن خميس الموصلي، في مناقب الأبرار، وأبوعبدالرحمن السلمي، في تاريخ الصوفية، لكن أبوعبدالرحمن صنف أيضاً سير السلف من الأولياء والصالحين وسير الصالحين من السلف، كما صنف في سير الصالحين من الخلف، ونحوهم، من ذكرهم لأخبار أهل الزهد والأحوال من بعد القرون الثلاثة، من عند إبراهيم بن أدهم، والفضيل بن عياض، وأبي سليمان الدارني، ومعروف الكرخي، ومن بعدهم، وأعراضهم عن حال الصحابة والتابعين، الذين نطق الكتاب والسنة، بمدحهم والثناء عليهم والرضوان عليهم.
وكان أحسن من هذا أن يفعلوا كما فعل أبو نعيم الأصبهاني في "الحلية" من ذكره للمتقدمين والمتأخرين، وكذلك أبو الفرج ابن الجوزي، في "صفوة الصفوة"، وكذلك أبوالقاسم التيمي في سير السلف، وكذلك ابن أسد بن موسى؛ إن لم يصعدوا إلى طريقة عبدالله بن المبارك، وأحمد بن حنبل، وهناد بن السري، وغيرهم، في كتبهم في الزهد، فهذا هذا، والله اعلم واحكم. فإن معرفة أصول الأشياء ومبادئها، ومعرفة الدين وأصله، وأصل ما تولد فيه؛ من أعظم العلوم نفعاً، إذ المرء مالم يحط علماً بحقائق الأشياء التي يحتاج إليها يبقى في قلبه حسكه"اهـ.(1 )
رابعاً: أمور أنكرها أهل العلم على أهل الرأي.(1/23)
أنكر أهل العلم على أهل الرأي أموراً، تقدم ذكرها والإشارة إليها أثناء الكلام السابق، ولكن أفردت ذكرها هنا تمييزاً لها ليتنبه من وقع فيها؛ فيجتنبها - بإذن الله تعالى -، وموعظة لمن عافاه الله منها، فيعرف نعمة الله عليه، ويحفظها.
وتتلخص هذه الأمور فيما يلي:
1ـ تركهم مراعاة أصول العلم. فأهل الرأي يهجمون على الحكم بالرأي، مع وجود النص، دون أثر.
قال أبومحمد عبدالله بن أبي زيد القيرواني في سياقه للأمور التي أجمعت عليها الأمة من أمور الديانة، ومن السنن التي خلافها بدعة وضلالة: "التسليم للسنن لا تعارض برأي و لا تدافع بقياس، وما تأوله منها السلف الصالح تأولناه. وما عملوا به عملناه، وما تركوه تركناه، ويسعنا أن نمسك عما أمسكوا، ونتبعهم فيما بينوا، ونقتدي بهم فيما استنبطوه ورأوه في الحوادث، ولا نخرج عن جماعتهم فيما اختلفوا فيه أو تأويله.
وكل ما قدّمنا ذكره فهو قول أهل السنة، وأئمة الناس في الفقه والحديث، على ما بيناه، وكله قول مالك"اهـ.(1)
2ـ استرواح أصحاب الرأي لترك السنن، وترك الاشتغال والاهتمام بطلبها. فمن وقع في الرأي استسهله واستروح إليه عن أن يطلب الحديث. وهذا ما أشار إليه الفاروق رضي الله عنه لمّا قال: "إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا واضلوا"، وفي لفظ: "أصبح أهل الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يعووها وتفلتت منهم أن يرووها فاشتقوا الرأي".(1)
3ـ أنهم يتخذون من كلام أئمتهم أصولاً يبنون عليها ويفرعون، وكأنه كلام الله تعالى، أو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/24)
قال ابن تيمية رحمه الله مبيناً حال أصحاب الرأي، والفرق بين المتقدمين منهم والمتأخرين: "ثم المتقدمون الذين وضعوا طرق الرأي والكلام والتصوف، وغير ذلك: كانوا يخلطون ذلك بأصول من الكتاب والسنة والآثار؛ إذ العهد قريب، وأنوار الآثار النبوية بعد فيها ظهور، ولها برهان عظيم، وإن كان عند بعض الناس قد اختلط نورها بظلمة غيرها.
فأمّا المتأخرون فكثير منهم جرد ما وضعه المتقدمون. مثل من صنف في الكلام من المتأخرين، فلم يذكر إلا الأصول المبتدعة، واعرض عن الكتاب والسنة، وجعلهما إمّا فرعين، أو آمن بهما مجملاً، أو خرج به الأمر إلى نوع من الزندقة، ومتقدمو المتكلمين خير من متأخريهم.
وكذلك من صنف في الرأي فلم يذكر إلا رأي متبوعه وأصحابه، واعرض عن الكتاب والسنة، ووزن ما جاء به الكتاب والسنة على رأي متبوعه، ككثير من اتباع أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد".(1)
قال ابن رجب رحمه الله: "ومن ذلك - أعني محدثات العلوم - ما أحدثه فقهاء أهل الرأي من ضوابط وقواعد عقلية، ورد فروع الفقه إليها، سواء أخالفت السنة، أم وافقتها، طرداً لتلك القواعد المقررة، وإن كان أصلها مما تأوّلوه على نصوص الكتاب والسنة، لكن بتأويلات يخالفهم غيرهم فيها، وهذا هو الذي أنكره أئمة الإسلام على من أنكروه من فقهاء أهل الرأي بالحجاز والعراق، وبالغوا في ذمّه وإنكاره”اهـ.(2)
4ـ أن فيه هجراً لما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتركاً لأصول العلم، وتنكيساً لها، وأخذاً عن الأصاغر لا الأكابر.
عن بقية بن الوليد قال: قال لي الأوزاعي: "يا بقية: العلم ما جاء عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وما لم يجيء عن أصحاب محمد فليس بعلم. يا بقية لا تذكر أحداً من أصحاب محمد نبيك صلى الله عليه وسلم إلا بخير ولا أحداً من أمتك. وإذا سمعت أحداً يقع في غيره فاعلم أنه إنما يقول أنا خير منه".(1)(1/25)
5ـ فرض المسائل قبل حدوثها على غير أصل، والإكثار من شواذ المسائل، والإكثار من الأسئلة دون بذل الجهد في التفهم،(2) والانشغال بذلك عن طلب الحديث والأثر؛ ولذلك قال من قال عن بعض أصحاب الرأي: إنه أعلم الناس بما لم يكن وأجهل الناس بما قد كان. يريد: أنه لم يكن له علم بآثار من مضى.(3)
عن زيد المنقري قال: "جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن شيء لا أدري ما هو؟ فقال له ابن عمر: لا تسأل عما لم يكن فإني سمعت عمر بن الخطاب يلعن من سأل عما لم يكن".(4)
6ـ الخوض في الدين بأمر هو ظن و بدعة؛ فإن الرأي غايته أنه ظن، وهو حادث.
عن الزهري: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو على المنبر: "أيها الناس إن الرأي إنما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيباً، لأن الله كان يريه، وإنما هو منا الظن والتكلف.(1)
وقال أبوبكر بن داود: "أهل الرأي هم أهل البدع". وهو القائل:
فقول رسول الله ازكى وأشرح"(2)
"ودع عنك آراء الرجال وقولهم
وقَالَ أبو عيسى الترمذي: "سَمِعْت يُوسُفَ بْنَ عِيسَى يَقُولُ سَمِعْتُ وَكِيعًا يَقُولُ حِينَ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ(3) قَالَ لَا تَنْظُرُوا إِلَى قَوْلِ أَهْلِ الرَّأْيِ فِي هَذَا فَإِنَّ الْإِشْعَارَ سُنَّةٌ وَقَوْلُهُمْ بِدْعَةٌ".(1/26)
وقَالَ: "وسَمِعْت أَبَا السَّائِبِ يَقُولُ كُنَّا عِنْدَ وَكِيعٍ فَقَالَ لِرَجُلٍ عِنْدَهُ مِمَّنْ يَنْظُرُ فِي الرَّأْيِ "أَشْعَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" وَيَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ هُوَ مُثْلَةٌ! قَالَ الرَّجُل:ُ فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ الْإِشْعَارُ مُثْلَةٌ! قَالَ: فَرَأَيْتُ وَكِيعًا غَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا! وَقَالَ أَقُولُ لَكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقُولُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ: مَا أَحَقَّكَ بِأَنْ تُحْبَسَ ثُمَّ لَا تَخْرُجَ حَتَّى تَنْزِعَ عَنْ قَوْلِكَ هَذَا".(1)
فهذه هي الأمور التي أنكرها أهل العلم على أصحاب الرأي، والله اعلم واحكم.
عَنِ الْحَسَنِ قَالَ:
"سُنَّتُكُمْ وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ بَيْنَهُمَا بَيْنَ الْغَالِي وَالْجَافِي فَاصْبِرُوا عَلَيْهَا رَحِمَكُمُ اللَّهُ فَإِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ كَانُوا أَقَلَّ النَّاسِ فِيمَا مَضَى وَهُمْ أَقَلُّ النَّاسِ فِيمَا بَقِيَ الَّذِينَ لَمْ يَذْهَبُوا مَعَ أَهْلِ الْإِتْرَافِ فِي إِتْرَافِهِمْ وَلَا مَعَ أَهْلِ الْبِدَعِ فِي بِدَعِهِمْ وَصَبَرُوا عَلَى سُنَّتِهِمْ حَتَّى لَقُوا رَبَّهُمْ فَكَذَلِكُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَكُونُوا".(2)
أسأل الله لي ولك السلامة والعافية، وأن يرزقني وإياك التوفيق والهدى والرشاد والسداد.
[الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل: بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى.
فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه؛ فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس فيهم!(1/27)
ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عقال الفتنة فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب؛ يقولون على الله، وفي الله، وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتن المضلين](1).
المقصد الأول : شرف أهل الحديث وفضلهم.
ويشتمل هذا المقصد على ذكر الأمور الدالة على شرف أهل الحديث وفضلهم، وهي التالية :
أنهم القائمون بنقل الدين وحفظه .
أنهم القائمون بالتمييز بين الصحيح والسقيم من الحديث .
أنهم هم الطائفة المنصورة، والفرقة الناجية .
أنهم اعلم الأمة بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وسيرته ومقاصده، وأحواله .
أن لهم خصوصية بالرسول صلى الله عليه وسلم دون غيرهم، سواء منهم أهل الدراية أم أهل الرواية .
أن أصولهم أصح من أصول غيرهم، وهم عند الاختلاف أقرب إلى الصواب من غيرهم .
أنهم في أهل الإسلام كأهل الإسلام في الملل .
أنهم أهل ائتلاف واتفاق، وثبات واستقرار على الحق .
هذا مجمل مالهم من الشرف والفضل، وإليك البيان :
تمهيد ......
[الحديث يشتمل على أصول التوحيد، وبيان ماجاء من وجوه الوعد والوعيد، وصفات رب العالمين تعالى عن مقالات الملحدين، والإخبار عن صفات الجنة والنار، وما أعد الله تعالى فيهما للمتقين والفجار، وما خلق الله في الأرضين والسموات من صنوف العجائب وعظيم الآيات، وذكر الملائكة المقربين، ونعت الصافين والمسبحين .(1/28)
وفي الحديث قصص الأنبياء، وأخبار الزهاد والأولياء، ومواعظ البلغاء، وكلام الفقهاء، وسير ملوك العرب والعجم، وأقاصيص المتقدمين من الأمم، وشرح مغازي الرسول صلى الله عليه وسلم، وسراياه، وجُمل أحكامه وقضاياه، وخطبه وعظاته، وأعلامه ومعجزاته، وعدة أزواجه وأولاده، وأصهاره وأصحابه، وذكر فضائلهم ومآثرهم، وشرح أخبارهم ومناقبهم، ومبلغ أعمارهم، وبيان أنسابهم.
وفيه تفسير القرآن العظيم، وما فيه من النبأ والذكر الحكيم، وأقاويل الصحابة في الأحكام المحفوظة عنهم، وتسمية من ذهب إلى قول كل واحد منهم من الأئمة المخالفين، والفقهاء المجتهدين .
وقد جعل الله تعالى أهله أركان الشريعة، وهدم بهم كل بدعة شنيعة، فهم أمناء الله من خليقته، والواسطة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأمته، والمجتهدون في حفظ ملته. أنوارهم زاهرة، وفضائلهم سائرة، وآياتهم باهرة، ومذاهبهم ظاهرة، وحججهم قاهرة. وكل فئة تتحيز إلى هوى ترجع إليه، أو تستحسن رأياً تعكف عليه، سوى أصحاب الحديث؛ فإن الكتاب عدتهم، والسنة حجتهم، والرسول فئتهم، وإليه نسبتهم، لا يعرجون على الأهواء، و لا يلتفتون إلى الآراء. يقبل منهم ما رووا عن الرسول، وهم المأمونون عليه، والعدول. حفظة الدين وخزنته، وأوعية العلم وحملته. إذا اختلف في حديث، كان إليهم الرجوع، فما حكموا به، فهو المقبول المسموع . ومنهم كل عالم فقيه، وإمام رفيع نبيه، وزاهد في قبيلة، ومخصوص بفضيلة، وقاريء متقن، وخطيب محسن. وهم الجمهور العظيم، وسبيلهم السبيل المستقيم. وكل مبتدع باعتقادهم يتظاهر، وعلى الإفصاح بغير مذاهبهم لا يتجاسر . من كادهم قصمه الله، ومن عاندهم خذله الله. لا يضرهم من خذلهم، ولا يفلح من اعتزلهم. المحتاط لدينه إلى إرشادهم فقير، وبصر الناظر بالسؤ إليهم حسير، وإن الله على نصرهم لقدير] .(1)(1/29)
وقد خص الله بمنه وفضله أهل الحديث بأمور لم يشركهم فيها أحد ، وإنما غاية من خالفهم أن يطلب مشابهتهم وشتان شتان بين مشرق ومغرب .
ومن هذه الأمور ما يلي :
أنهم القائمون بنقل الدين وحفظه .
فهم أمناء الله على دينه، وحفاظ سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
قال ابن قتيبة رحمه الله: "فأما أصحاب الحديث فإنهم التمسوا الحق من وجهته، وتتبعوه من مظانه وتقربوا من الله تعالى باتباعهم سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلبهم لآثاره وأخباره براً وبحراً، وشرقاً وغرباً، يرحل الواحد منهم راجلاً مقوياً في طلب الخبر الواحد أو السنة الواحدة حتى يأخذها من الناقل لها مشافهة. ثم لم يزالوا في التنقير عن الأخبار والبحث لها، حتى فهموا صحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، وعرفوا من خالفها من الفقهاء إلى الرأي فنبهوا على ذلك حتى نجم الحق بعد أن كان عافياً، وبسق بعد أن كان دارساً، واجتمع بعد أن كان متفرقاً، وانقاد للسن من كان عنها معرضاً، وتنبه عليها من كان عنها غافلاً، وحكم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن كان يحكم بقول فلان وفلان، وأن كان فيه خلاف على رسول الله صلى الله عليه وسلم"اهـ (1)
قال الخطيب البغدادي رحمه الله : "فقد جعل رب العالمين الطائفة المنصورة؛ حراس الدين، وصرف عنهم كيد المعاندين لتمسكهم بالشرع المتين، واقتفائهم آثار الصحابة والتابعين. فشأنهم حفظ الآثار، وقطع المفاوز والقفار، وركوب البراري والبحار، في اقتباس ما شرع المصطفى. لا يعرجون عنه إلى رأي و لا هوى. قبلوا شريعته قولاً وفعلاً، وحرسوا سنته حفظاً ونقلاً، حتى ثبتوا بذلك أصلها، وكانوا أحق بها وأهلها. كم من ملحد يروم أن يخلط بالشريعة ما ليس منها. والله تعالى يذب بأصحاب الحديث عنها. فهم الحفاظ لأركانها، والقوامون بأمرها وشأنها. إذا صدف عن الدفاع عنها فهم دونها يناضلون. أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم الغالبون"اهـ.(1)
قال أبو حاتم الرازي:(1/30)
"لم يكن في أمة من الأمم منذ خلق الله آدم أمناء يحفظون آثار الرسل إلا هذه الأمة .
فقال رجل: يا أبا حاتم! ربما رووا حديثاً لا أصل له، ولا يصح؟ فقال: علماؤهم يعرفون الصحيح من السقيم، فروايتهم ذلك للمعرفة ليتبين لمن بعدهم أنهم ميزوا الآثار وحفظوها. ثم قال: رحم الله أبازرعة، كان - والله - مجتهداً في حفظ آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم."اهـ(2).
أنهم القائمون بالتمييز بين الصحيح والسقيم من الحديث
قال أبو سعد السمعاني رحمه الله: "اعلم وفقك الله؛ أن علم الحديث أشرف العلوم بعد العلم بكتاب الله سبحانه وتعالى؛ إذ الأحكام مبنية عليهما، ومستنبطة منهما، والله سبحانه وتعالى شرّف نبينا صلى الله عليه وسلم، حيث قال: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} [النجم:3-4]...، وألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لابد لها من النقل، و لاتعرف صحتها إلا بالإسناد الصحيح، والصحة في الإسناد لا تعرف إلا برواية الثقة عن الثقة، والعدل عن العدل"اهـ (1).
[ فالإسناد مطلوب في الدين، قد رغبت إليه أئمة الشرع المتين، وجعلوه من خصائص أمة سيد المرسلين، وحكموا عليه بكونه من سنة الدين]. (2)
قال محمد بن سيرين رحمه الله: "هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم"(3)
قال سفيان الثوري: "الإسناد سلاح المؤمن"(4)
قال عبدالله بن المبارك: "الإسناد من الدين "(5)
قال الشاطبي رحمه الله تعالى: "جعلوا الإسناد من الدين، و لا يعنون: حدثني فلان عن فلان مجرداً. بل يريدون ذلك لما تضمنه من معرفة الرجال الذين يحدث عنهم، حتى لا يسند عن مجهول، ولا مجروح، و لا متهم، إلا عمن تحصل الثقة بروايته؛ لأن روح المسألة أن يغلب على الظن من غير ريبة: أن ذلك الحديث قد قاله صلى الله عليه وسلم، لنعتمد عليه في الشريعة، وتسند إليه الأحكام"اهـ.(1)(1/31)
قال اللكنوي رحمه الله بعد سوقه للعبارات السابقة عن ابن سيرين، و الذين معه، قال: "فهذه العبارات بصراحتها أو بإشارتها تدل على أنه لابد من الإسناد في كل أمر من أمور الدين، وعليه الاعتماد، أعمّ من أن يكون ذلك الأمر من قبيل الأخبار النبوية، أو الأحكام الشرعية، أو المناقب والفضائل، والمغازي والسير والفواصل، وغير ذلك من الأمور التي لها تعلق بالدين المتين، والشرع المبين. فشيء من هذه الأمور لا ينبغي عليه الاعتماد، مالم يتأكد بالإسناد، لا سيما بعد القرون المشهود لهم بالخير".(2)
ولمّا كان الأمر بهذه الخطورة؛ احتاج إلى معرفة عدول النقلة من غيرهم؛ ليؤخذ حديث العدل الضابط، ويترك حديث الفاسق، وينظر في حديث خفيف الضبط سيئ الحفظ، فإن وافق حديثه الثقات قُبِل واعتبر به، وإلا لم يقبل.
قال ابن أبي حاتم رحمه الله: "فلمّا لم نجد سبيلاٌ إلى معرفة شيء من معاني كتاب الله، ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا من جهة النقل والرواية؛ وجب أن نميز بين عدول الناقلة والرواة وثقاتهم، وأهل الحفظ والتثبت والإتقان منهم، وبين أهل الغفلة، والوهم، وسؤ الحفظ، والكذب، واختراع الأحاديث الكاذبة"اهـ .(1)
قال الإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري صاحب الجامع الصحيح: "اعلم رحمك الله أن صناعة الحديث ومعرفة أسبابه من الصحيح والسقيم إنما هي لأهل الحديث خاصة؛ لأنهم الحفاظ لروايات الناس، العارفين بها دون غيرهم، إذ الأصل الذي يعتمدون لأديانهم: السنن والآثار المنقولة، من عصر إلى عصر من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا هذا، فلا سبيل لمن نابذهم من الناس، وخالفهم في المذهب؛ إلى معرفة الحديث، ومعرفة الرجال، من علماء الأمصار فيما مضى من الأعصار، من نقل الأخبار، وحمال الآثار.(1/32)
وأهل الحديث هم الذين يعرفونهم ويميزونهم حتى ينزلونهم منازلهم، في التعديل والتجريح. وإنما اقتصصنا هذا الكلام لكي نثبته من جهل مذهب أهل الحديث، ممن يريد التعلم، والتنبيه على تثبيت الرجال وتضعيفهم، فيعرف ما الشواهد عندهم، والدلائل التي بها ثبتوا الناقل للخبر من نقله، أو اسقطوا من اسقطوا منهم. والكلام في تفسير ذلك يكثر وقد شرحناه في مواضع غير هذا وبالله التوفيق في كل ما نؤم ونقصد"اهـ .(2)
أنهم هم الطائفة المنصورة، والفرقة الناجية .
عَنْ ثَوْبَانَ قَال َقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ يَخْذُلُهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ "(1)
قَالَ أَبُو عِيسَى الترمذي: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَعِيلَ يَقُولُ سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ يَقُولُ وَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ فَقَالَ عَلِيٌّ هُمْ أَهْلُ الْحَدِيثِ "(2)
وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّهُ قَامَ فِينَا فَقَالَ أَلَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فِينَا فَقَالَ : "أَلَا إِنَّ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ افْتَرَقُوا عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَإِنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَهِيَ الْجَمَاعَة "(3)(1/33)
قال ابن تيمية رحمة الله عليه، في معرض كلام له على حديث الافتراق: "وأمّا تعيين هذه الفرق فقد صنف الناس فيهم مصنفات، وذكروهم في كتب المقالات، لكن الجزم بأن هذه الفرقة الموصوفة هي إحدى الثنتين والسبعين لا بد له من دليل؛ فإن الله حرّم القول بلا علم عموماً، وحرّم القول عليه بلا علم خصوصاً، فقال تعالى: {قل إنما حرّم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله مالم ينزل به سلطاناً، وأن تقولوا على الله ما لاتعلمون} [الأعراف:33]، وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً ولاتتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين إنما يأمركم بالسؤ والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لاتعلمون} [البقرة:169]، وقال تعالى: {ولاتقف ما ليس لك به علم} [الإسراء:36]. وأيضاً فكثير من الناس يخبر عن هذه الفرق بحكم الظن والهوى، فيجعل طائفته والمنتسبة إلى متبوعه الموالية له هم أهل السنة والجماعة، ويجعل من خالفها أهل البدع، وهذا ضلال مبين. فإن أهل الحق والسنة لا يكون متبوعهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي {لاينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}، فهو الذي يجب تصديقه في كل ما أخبر، وطاعته في كل ما أمر، وليست هذه المنزلة لغيره من الأئمة، بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن جعل شخصاً من الأشخاص غير رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحبه ووافقه كان من أهل السنة والجماعة، ومن خالفه كان من أهل البدعة والفرقة - كما يوجد ذلك في الطوائف من اتباع أئمة في الكلام في الدين وغير ذلك - كان من أهل البدع والضلال والتفرق.(1)(1/34)
وبهذا يتبين أن أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية: أهل الحديث والسنة، الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله، أعظمهم تمييزاً بين صحيحها وسقيمها، وأئمتهم فقهاء فيها، وأهل معرفة بمعانيها، واتباعاً لها: تصديقاً وعملاً وحباً وموالاة لمن والاها، ومعاداة لمن عاداها، الذين يردون المقالات المجملة إلى ما جاء به من الكتاب والحكمة؛ فلا ينصبون مقالة، ويجعلونها من أصول دينهم، وجُمَل كلامهم، إن لم تكن ثابتة فيما جاء به الرسول، بل يجعلون ما بعث به الرسول من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه"اهـ(1).
أنهم اعلم الأمة بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وسيرته ومقاصده، وأحواله .
قال ابن تيمية رحمه الله: "من المستقر في أذهان المسلمين: أن ورثة الرسل وخلفاء الأنبياء، هم الذين قاموا بالدين علماً وعملاً، ودعوة إلى الله والرسول، فهؤلاء اتباع الرسول حقاً. وهم بمنزلة الطائفة الطيبة من الأرض التي زكت فقبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، فزكت في نفسها وزكى الناس بها. وهؤلاء هم الذين جمعوا بين البصيرة في الدين والقوة على الدعوة؛ ولذلك كانوا ورثة الأنبياء الذين قال الله تعالى فيهم: {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار} [سورة ص:45]؛ فالأيدي: القوة في أمر الله. والأبصار: البصائر في دين الله، فبالبصائر يدرك الحق ويعرف، وبالقوة يتمكن من تبليغه وتنفيذه والدعوة إليه. فهذه الطبقة كان لها قوة الحفظ والفهم والفقه في الدين والبصر والتأويل، ففجرت من النصوص أنهار العلوم، واستنبطت منها كنوزها، ورزقت فيها فهماً خاصاً، كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد سئل: "هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس؟ فقال: لا، والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إلا فهماً يؤتيه الله عبداً من كتابه" .(1)(1/35)
فهذا الفهم هو بمنزلة الكلأ والعشب الذي انبتته الأرض الطيبة وهو الذي تميزت به هذه الطبقة عن الطبقة الثانية: وهي (يعني: الطبقة الثانية) التي حفظت النصوص فكان همها حفظها وضبطها فوردها الناس وتلقوها بالقبول، واستنبطوا منها واستخرجوا كنوزها واتجروا فيها، وبذروها في أرض قابلة للزرع والنبات، وردوها كل بحسبه {قد علم كل أناس مشربهم}، وهؤلاء الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: "نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها ثم أدّاها كما سمعها" فرب حامل فقه وليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" .(1)
وهذا عبدالله بن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة، وترجمان القرآن، مقدار ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم لا يبلغ نحو العشرين حديثاً الذي يقول فيه: "سمعت" و "رأيت"(2)
وسمع الكثير من الصحابة ؛ بورك له في فهمه والاستنباط منه ، حتى ملأ الدنيا علماً وفقهاً. قال أبومحمد بن حزم: "وجمعت فتواه في سبعة أسفار كبار". وهي بحسب ما بلغ جامعها، وإلا فعلم ابن عباس كالبحر، وفقهه واستنباطه وفهمه في القرآن بالموضع الذي فاق به الناس، وقد سمعوا ما سمع وحفظوا القرآن كما حفظه، ولكن أرضه كانت من أطيب الأراضي وأقبلها للزرع، فبذر فيها النصوص، فأنبتت من كل زوج كريم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
وأين تقع فتاوى ابن عباس وتفسيره واستنباطه من فتاوى أبي هريرة وتفسيره؟
وأبو هريرة أحفظ منه! بل هو حافظ الأمة على الإطلاق، يؤدي الحديث كما سمعه ويدرسه بالليل درساً، فكانت همته مصروفة إلى الحفظ وتبليغ ما حفظه كما سمعه، وهمة ابن عباس مصروفة إلى التفقه والاستنباط وتفجير النصوص، وشق الأنهار منها، واستخراج كنوزها.(1/36)
وهكذا ورثتهم من بعدهم: اعتمدوا في دينهم على استنباط النصوص لا على خيال فلسفي، و لا رأي قياسي، و لا غير ذلك من الآراء المبتدعات، لا جرم كانت الدائرة والثناء الصدق والجزاء العاجل والآجل لورثة الأنبياء التابعين لهم في الدنيا والآخرة، فإنّ المرء على دين خليله، {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}.
وبكل حال: فهو اعلم الأمة بحديث الرسول وسيرته ومقاصده وأحواله، ونحن لا نعني بأهل الحديث المقتصرين على سماعه آو كتابته أو روايته، بل نعني بهم: كل من كان أحق بحفظه ومعرفته وفهمه ظاهراً أو باطناً، واتباعه باطناً وظاهراً، وكذلك أهل القرآن.
وأدنى خصلة في هؤلاء: محبة القرآن والحديث والبحث عنهما وعن معانيهما، والعمل بما علموه من موجبهما، ففقهاء الحديث أخبر بالرسول من فقهاء غيرهم، وصوفيتهم أتبع للرسول من صوفية غيرهم، وأمراؤهم أحق بالسياسة النبوية من غيرهم، وعامتهم أحق بموالاة الرسول من غيرهم"اهـ(1)
أن لهم خصوصية بالرسول صلى الله عليه وسلم دون غيرهم، سواء منهم أهل الدراية أم أهل الرواية.
قال ابن تيمية رحمه الله: "من المعلوم أن كل من كان بكلام المتبوع وأحواله وبواطن أموره وظواهرها اعلم وهو بذلك أقوم؛ كان أحق بالاختصاص به. و لا ريب أن أهل الحديث أعلم الأمة وأخصها بعلم الرسول. وعلم خاصته مثل الخلفاء الراشدين وسائر العشرة، ومثل أبي بن كعب، وعبدالله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وعبدالله بن سلام، وسلمان الفارسي، وأبي الدرداء، وعبادة بن الصامت، وأبي ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، و حذيفة بن اليمان، و ومثل سعد بن معاذ، وأسيد بن الحصير، وسعد بن عبادة، و عباد بن بشر، وسالم مولى أبي حذيفة، وغير هؤلاء، ممن كان أخص الناس بالرسول وأعلمهم بباطن أموره واتبعهم لذلك.(1/37)
فعلماء الحديث اعلم الناس بهؤلاء وببواطن أمورهم، واتبعهم لذلك فيكون عندهم العلم: علم خاصة الرسول وبطانته، كما أن خواص الفلاسفة يعلمون علم أئمتهم، وخواص المتكلمين يعلمون علم أئمتهم، وخواص القرامطة والباطنية يعلمون علم أئمتهم، وكذلك أئمة الإسلام مثل أئمة العلماء، فإن خاصة كل إمام اعلم بباطن أموره، مثل مالك بن أنس؛ فإن ابن القاسم لمّا كان أخص الناس به وأعلمهم بباطن أمره اعتمد اتباعه على روايته حتى إنه يؤخذ عنه مسائل السر التي رواها ابن أبي الغمر، وإن طعن بعض الناس فيها. وكذلك أبو حنيفة؛ فأبو يوسف ومحمد وزفر من اعلم الناس به، وكذلك غيرهما.
وقد يكتب العالم كتاباً أو يقول قولاً فيكون بعض من لم يشافهه به اعلم بمقصوده من بعض من شافهه به كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فرب مبلغ أوعى من سامع" لكن بكل حال لا بد أن يكون المبلِّغ من الخاصة العالمين بحال المبلَّغ عنه، كما يكون في اتباع الأئمة من هو أفهم لنصوصهم من بعض أصحابهم"اهـ (1).
أن أصولهم أصح من أصول غيرهم، وهم عند الاختلاف أقرب إلى الصواب من غيرهم .
روى البويطي عن الشافعي رحمه الله أنه قال: "عليكم بأصحاب الحديث فإنهم أكثر الناس صواباً" .(1)
قال ابن تيمية رحمه الله: "موافقة [أحمد] للشافعي وإسحاق أكثر من موافقته لغيرهما. وأصوله بأصولهما أشبه منها بأصول غيرهما. وكان يثني عليهما ويعظمهما، ويرجح أصول مذهبهما على من ليست أصول مذاهبه كأصول مذاهبهما.
ومذهبه أن أصول فقهاء الحديث أصح من أصول غيرهم، والشافعي وإسحاق هما عنده من أجل فقهاء الحديث، في عصرهما.
وجُمِع بينهما بمسجد الخيف فتناظرا في مسألة إجارة بيوت مكة. والقصة مشهورة، وذَكَر أحمد أن الشافعي علا بالحجة في موضع، وأن إسحاق علاه بالحجة في موضع؛ فإن الشافعي كان يبيح البيع والإجارة، وإسحاق يمنع منهما، وكانت الحجة مع الشافعي في جواز بيعها، ومع إسحاق في المنع من إجارتها"اهـ .(2)(1/38)
وقال أبو الحسنات اللكنوي رحمه الله: "ومن نظر بنظر الإنصاف وغاص في بحار الفقه والأصول، متجنباً عن الاعتساف، يعلم علماً يقينياً: أن أكثر المسائل الفرعية والأصلية التي اختلف العلماء فيها؛ فمذهب المحدثين فيها أقوى من مذاهب غيرهم. وإني كلما أسير في شعب الاختلاف أجد قول المحدثين فيه قريباً من الإنصاف؛ فلله درّهم، وعليه شكرهم! كيف لا، وهم ورثة النبي حقاً، ونواب شرعه صدقاً، حشرنا الله في زمرتهم وأماتنا على حبهم وسيرتهم"اهـ(1).
أنهم في أهل الإسلام كأهل الإسلام في الملل
قال ابن تيمية رحمه الله: "وأهل السنة في الإسلام، كأهل الإسلام في الملل؛ وذلك أن كل أمة غير المسلمين فهم ضالون. وإنما يضلهم علماؤهم، فعلماؤهم شرارهم. والمسلمون على هدى، وإنما يتبين الهدى بعلمائهم، فعلماؤهم خيارهم، وكذلك أهل السنة. أئمتهم خيار الأمة، وأئمة أهل البدع أضر على الأمة من أهل الذنوب(2)؛ ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الخوارج، ونهى عن قتال الولاة الظلمة، وأولئك لهم نهمة في العلم والعبادة، فصار يعرض لهم من الوساوس التي تضلهم - وهم يظنونها هدى فيطيعونها - مالايعرض لغيرهم. ومن سلم من ذلك منهم كان من أئمة المتقين مصابيح الهدى، وينابيع العلم، كما قال ابن مسعود لأصحابه: كونوا ينابيع الهدى مصابيح الحكمة، سرج الليل، جدد القلوب، أحلاس البيوت، خلقان الثياب، تعرفون في أهل السماء، وتخفون على أهل الأرض."اهـ(1)
وقال أيضاً رحمه الله: "بعض أئمة أهل الكلام، تكلموا في أهل الحديث، وذموهم بقلة الفهم، وأنهم لا يفهمون معاني الحديث، ولا يميزون بين صحيحه من ضعيفه، ويفتخرون عليهم بحذقهم، ودقة علومهم فيها.(1/39)
و لا ريب أن هذا موجود في بعضهم، يحتجون بأحاديث موضوعة في مسائل الفروع والأصول، وآثار مفتعلة، وحكايات غير صحيحة، ويذكرون من القرآن والحديث ما لا يفهمون معناه، وقد رأيت من هذا عجائب، لكنهم بالنسبة إلى غيرهم في ذلك كالمسلمين بالنسبة إلى بقية الملل، فكل شر في بعض المسلمين فهو في غيرهم أكثر، وكل خير يكون في غيرهم فهو فيهم أعظم، وهكذا أهل الحديث بالنسبة إلى غيرهم، وبإزاء تكلم أولئك بأحاديث لا يفهمون معناها، تكلف هؤلاء من القول بغير علم ما هو أعظم من ذلك وأكثر، وما أحسن قول الإمام أحمد: ضعيف الحديث خير من الرأي!"اهـ(2)
أنهم أهل ائتلاف واتفاق، وثبات واستقرار على الحق.
قال أبو المظفر السمعاني رحمه الله: "ومما يدل على أن أهل الحديث هم على الحق: أنك لو طالعت جميع كتبهم المصنفة من أولهم إلى آخرهم، قديمهم وحديثهم، مع اختلاف بلدانهم وزمانهم، وتباعد ما بينهم في الديار، وسكون كل واحد منهم قطرا من الأقطار؛ وجدتهم في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة، ونمط واحد، يجرون فيه على طريقة لا يحيدون عنها، ولا يميلون فيها، قولهم في ذلك واحد، وفعلهم واحد، لا ترى بينهم اختلافاً ولا تفرقاً في شيء ما وإن قلْ. بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم نقلوه عن سلفهم، وجدته كأنه جاء من قلب واحد، وجرى على لسان واحد، وهل على الحق دليل أبين من هذا؟ قال الله تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} [النساء:82]. وقال تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولاتفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته إخواناً} [آل عمران:13].(1/40)
وأمّا إذا نظرت إلى أهل الأهواء والبدع، رأيتهم متفرقين مختلفين، وشيعاً وأحزاباً، لا تكاد تجد اثنين منهم على طريقة واحدة في الاعتقاد، يبدع بعضهم بعضاً، بل يترقون إلى التكفير، يكفر الابن أباه، والرجل أخاه، والجار جاره. تراهم أبداً في تنازع وتباغض، واختلاف، تنقضي أعمارهم ولمّا تتفق كلماتهم، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى، ذلك بأنهم قوم لا يعقلون. أوَ ما سمعت أن المعتزلة مع اجتماعهم في هذا اللقب يكفر البغداديون منهم البصريين، والبصريون منهم البغداديين، ويكفر أصحاب أبي علي الجبائي ابنه أبا هاشم، وأصحاب أبي هاشم يكفرون أباه أبا علي.
وكذلك سائر رؤوسهم وأرباب المقالات منهم إذا تدبرت أقوالهم رأيتهم متفرقين يكفر بعضهم بعضاً، ويتبرأ بعضهم من بعض.
وكذلك الخوارج والروافض فيما بينهم وسائر المبتدعة بمثابتهم. وهل على الباطل دليل أظهر من هذا، قال تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله} [الأنعام:159].
وكان السبب في اتفاق أهل الحديث أنهم أخذوا الدين من الكتاب والسنة، وطريق النقل فأورثهم الاتفاق والائتلاف وأهل البدعة، أخذوا الدين من المعقولات، والآراء فأورثهم الافتراق والاختلاف، فإن النقل والرواية من الثقات والمتقنين قلّما يختلف. وإن اختلف في لفظ أو كلمة فذلك اختلاف لا يضر الدين ولايقدح فيه. وأمّا دلائل العقل فقلما يتفق، بل عقل كل واحد يرى صاحبه غير مايرى الآخر، وهذا بيِّن والحمد لله. وبهذا يظهر مفارقة الاختلاف في مذاهب الفروع اختلاف العقائد في الأصول.(1/41)
فإنّا وجدنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي عنهم من بعده اختلفوا في أحكام الدين، فلم يفترقوا ولم يصيروا شيعاً؛ لأنهم لم يفارقوا الدين، ونظروا فيما أذن لهم [من اجتهاد إلى الرأي والاستنباط من الكتاب والسنة فيما لم يجدوا فيه نصاً]؛ فاختلفت أقوالهم وآراؤهم في مسائل كثيرة مثل مسألة الجد، والمشركة، وذوي الأرحام، ومسألة الحرام في أمهات الأولاد، وغير ذلك مما يكثر تعداده، من مسائل البيوع والنكاح والطلاق، وكذلك في مسائل كثيرة من باب الطهارة، وهيئات الصلاة، وسائر العبادات. فصاروا باختلافهم في هذه الأشياء محمودين وكان هذا النوع من الاختلاف رحمة من الله لهذه الأمة، حيث أيدهم باليقين، ثمّ وسع العلماء النظر فيما لم يجدوا حكمه في التنزيل والسنة، فكانوا مع هذا الاختلاف أهل الاختلاف أهل مودة ونصح، وبقيت بينهم أخوة الإسلام، ولم ينقطع عنهم نظام الألفة.
فلما حدثت هذه الأهواء المردية الداعية صاحبها إلى النار؛ ظهرت العداوة وتباينوا وصاروا أحزاباً، فانقطعت الأخوة في الدين وسقطت الألفة، فهذا يدل على أن هذا التباين والفرقة إنما حدثت من المسائل المحدثة التي ابتدعها الشيطان، فألقاها على أفواه أوليائه، ليختلفوا ويرمي بعضهم بعضاً بالكفر.(1/42)
فكل مسألة حدثت في الإسلام فخاض فيها الناس، فتفرقوا واختلفوا فلم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة، ولا بغضا ولاتفرقاً بينهم وبقيت الألفة والنصيحة والمودة والرحمة والشفقة، علمنا أن ذلك من مسائل الإسلام، يحل النظر فيها، والأخذ بقول من تلك الأقوال، لايوجب تبديعاً و لاتكفيراً كما ظهر مثل هذا الاختلاف بين الصحابة والتابعين، مع بقاء الألفة والمودة. وكل مسألة حدثت فاختلفوا فيها فأورث اختلافهم في ذلك التولي والإعراض والتدابر والتقاطع، وربما ارتقى إلى التكفير؛ علمت أن ذلك ليس من أمر الدين في شيء، بل يجب على كل ذي عقل أن يجتنبها، ويعرض عن الخوض فيها، لأن الله شرط تمسكنا بالإسلام أنا نصبح في ذلك إخواناً، فقال تعالى: {واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً} [آل عمران:103]."اهـ.(1)
وقال ابن تيمية رحمه الله: "إنك تجد أهل الكلام أكثر الناس انتقالاً من قول إلى قول، وجزماً بالقول في موضع وجزماً بنقيضه وتكفير قائله في موضع آخر، وهذا دليل عدم يقين؛ فإن الإيمان كما قال قيصر لمّا سأل أبا سفيان عمن أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم : "هل يرجع أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا. قال: وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشته القلوب، لا يسخطه أحد"(2)
ولهذا قال بعض السلف - عمر بن عبد العزيز أو غيره - "من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل".(1/43)
وأمّا أهل السنة والحديث فما يعلم أحد من علمائهم، و لا صالح عامتهم رجع قط عن قوله واعتقاده، بل هم أعظم الناس صبراً على ذلك، وإن امتحنوا بأنواع المحن، وفتنوا بأنواع الفتن، وهذه حال الأنبياء وأتباعهم من المتقدمين، كأهل الأخدود ونحوهم، وكسلف هذه الأمة والصحابة والتابعين، وغيرهم من الأئمة، حتى كان مالك رحمه الله يقول: "لا تغبطوا أحداً لم يصبه في هذا الأمر بلاء" يقول: إن الله لا بد أن يبتلي المؤمن، فإن صبر رفع درجته، كما قال تعالى: {الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا: آمنا وهم لا يفتنون؟ ولقد فتنا الذين من قبلهم، فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} [العنكبوت:1-3]، وقال تعالى: {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} [السجدة:24]، وقال تعالى: {والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} [سورة العصر].
ومن صبر من أهل الأهواء على قوله، فذاك لما فيه من الحق، إذ لا بد في كل بدعة عليها طائفة كبيرة من الناس أن يكون فيها من الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ويوافق عليه أهل السنة والحديث ما يوجب قبولها، إذ الباطل المحض لا يقبل بحال.
وبالجملة : فالثبات والاستقرار في أهل الحديث والسنة أضعاف أضعاف أضعاف ما هو عند أهل الكلام والفلسفة ، بل المتفلسف أعظم اضطراباً وحيرة في أمره من المتكلم ؛ لأن عند المتكلم من الحق الذي تلقاه عن الأنبياء ماليس عند المتفلسف ولهذا تجد أبي الحسين البصري وأمثاله أثبت من مثل ابن سينا وأمثاله .(1/44)
وأيضاً تجد أهل الفلسفة والكلام اعظم الناس افتراقاً واختلافاً مع دعوى كل منهم أن الذي يقوله حق مقطوع به، قام عليه البرهان. وأهل السنة والحديث أعظم الناس اتفاقاً وائتلافاً، وكل من كان من الطوائف إليهم أقرب كان إلى الاتفاق والائتلاف أقرب، فالمعتزلة أكثر اتفاقاً وائتلافاً من المتفلسفة؛ إذ للفلاسفة في الإلهيات والمعاد والنبوات، بل وفي الطبيعيات والرياضيات وصفات الأفلاك من الأقوال ما لا يحصيه إلا ذو الجلال .
وقد ذكر من جمع مقالات الأوائل، مثل أبي الحسن الأشعري في كتاب المقالات، ومثل القاضي أبي بكر في كتاب الدقائق من مقالاتهم، بقدر ما يذكره الفارابي وابن سينا وأمثالهما أضعافاً مضاعفة. ..."اهـ (1)
المقصد الثاني: منهج أهل الحديث في التفقه.
ويتلخص منهج أهل الحديث في المعالم التالية:
المعلم الأوّل:
لا فرق عندهم بين الحديث والفقه.
المعلم الثاني:
يتبعون الحديث الصحيح حيث كان إذا كان معمولاً به عند الصحابة ومن بعدهم، أو عند طائفة منهم . فإن اتفق السلف على ترك العمل بحديث تابعوهم وعلموا أنهم ما تركوه إلا على علم أنه لايعمل به.
المعلم الثالث:
شعار أهل الحديث اتباعهم للسلف الصالح.
المعلم الرابع:
الأصول والقواعد التي يبنى عليها ويستنبط منها، هي ألفاظ الكتاب والسنة، ومعانيها، وكلام الصحابة والتابعين .
المعلم الخامس :
يذمون الجدال والخصام والكلام في الدين "ويعنون به مسائل العقيدة كالكلام في الله تعالى، وصفاته، والقدر ونحو ذلك" (1) ، والمراء في مسائل الحلال والحرام، وينهون عن كثرة المسائل وعن أغلوطات المسائل، وعن المسائل قبل وقوع الحوداث .
المعلم السادس :
وكانوا ينكرون العلوم المحدثة، كالضوابط والقواعد العقلية التي ترد إليها الفروع سواء وافقت نصوص الشرع، أمْ لا. وكالطريقة التي عليها المتكلمون أو الفلاسفة. وكالكلام في العلوم الباطنة والمعارف وأعمال القلوب، بمجرد الرأي والذوق والكشف .(1/45)
المعلم السابع :
ويتم عندهم التفقه من خلال المراحل التالية:
الأولى: تمييز الصحيح من السقيم.
... الثانية: ضبط نصوص الكتاب والسنة.
... الثالثة: الاجتهاد على الوقوف على معانيها وتفهمها والتقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة، والتابعين، وتابعيهم. والاشتغال بذلك هو العلم النافع. وثمرته الخاصة به، هي الخشية لله تعالى .
المعلم الثامن:
لا يخوضون في الدين بآرائهم، ولا بعقولهم
وإليك البيان :
تمهيد :
في أصول أهل الحديث على الإجمال
قدّمت لك أن أصول أهل الحديث أصح من أصول غيرهم، وهم عند الاختلاف أقرب إلى الصواب من غيرهم.
قال ابن تيمية رحمه الله :
"موافقة [أحمد] للشافعي وإسحاق أكثر من موافقته لغيرهما . وأصوله بأصولهما أشبه منها بأصول غيرهما. وكان يثني عليهما ويعظمهما، ويرجح أصول مذهبهما على من ليست أصول مذاهبه كأصول مذاهبهما .
ومذهبه أن أصول فقهاء الحديث أصح من أصول غيرهم، والشافعي وإسحاق هما عنده من أجل فقهاء الحديث، في عصرهما."اهـ (1).
فأصول أهل الحديث جميعهم واحدة، يجمعها كلها أمر واحد، وهو الإتباع .
قال ابن تيمية رحمه الله :
"العلم المشروع، والنسك المشروع مأخوذ عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمّا ماجاء عمن بعدهم فلا ينبغي أن يجعل أصلاً، وإن كان صاحبه معذوراً، بل مأجوراً لاجتهاد أو تقليد.
فمن بنى الكلام في العلم: الأصول والفروع، على الكتاب والسنة والآثار المأثورة عن السابقين فقد أصاب طريق النبوة. وكذلك من بنى الإرادة والعبادة والعمل والسماع المتعلق بأصول الأعمال وفروعها من الأحوال القلبية والأعمال البدنية على الإيمان والسنة والهدي الذي كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقد أصاب طريق النبوة . وهذه طريق أئمة الهدى.(1/46)
تجد الإمام أحمد إذا ذكر أصول السنة قال: هي التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكَتَبَ كُتب التفسير المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين . وكتب الحديث والآثار المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين . وعلى ذلك يعتمد في أصوله العلمية وفروعه، حتى قال في رسالته إلى خليفة وقته : المتوكل: "لا أحب الكلام في شيء من ذلك إلا ما كان في كتاب الله، أو في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الصحابة أو التابعين، فأمّا غير ذلك فالكلام فيه غير محمود".
وكذلك في الزهد والرقاق والأحوال؛ فإنه اعتمد في كتاب الزهد على المأثور عن الأنبياء صلوات الله عليهم، من آدم إلى محمد، ثم على طريق الصحابة والتابعين، ولم يذكر من بعدهم .
وكذلك وصفه لآخذ العلم: أن يكتب "ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم عن الصحابة ثم عن التابعين". وفي رواية أخرى: "ثم أنت في التابعين مخير"اهـ(1)
ولا شك أن معرفة أقوال السلف من الصحابة والتابعين وأعمالهم وإجماعهم بل حتى اختلافهم، أنفع من معرفة أقوال المتأخرين وأعمالهم.(2)
وأنت إذا تأملت تجد كل طوائف وفرق الأمة المحمدية تزعم لنفسها أنها على الكتاب والسنة. والفرقان بين هذه الفرق والطوائف: أن ينظر أيّها على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فيتمسك بها؛ إذ هي الفرقة الناجية والطائفة المنصورة، وهي الجماعة، وهي سبيل المؤمنين.
قال الله تبارك وتعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا} [النساء:115].
وقال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي"(3)
ففهم القرآن العظيم والسنة النبوية مقيّد بفهم الصحابة رضوان الله عليهم، ليس لمن بعدهم الخروج من أقوالهم، والإتيان بقول مخالف لما قالوه!(1/47)
وقد ذكر الشافعي رحمه الله، في كتاب الرسالة القديمة بعد ذكر الصحابة رضي الله عنهم، والثناء عليهم بما هم أهله: "وهم فوقنا في كل علم واجتهاد، وورع، وعقل، وأمر استدرك به علم، واستنبط به، وآراءهم لنا أحمد، وأولى بنا من آراءنا عندنا لأنفسنا والله اعلم. ومن أدركنا ممن أرضى، أو حكى لنا عنه ببلدنا؛ صاروا فيما لم يعلموا لرسول الله فيه سنة إلى قولهم؛ إن اجتمعوا. وقول بعضهم؛ إن تفرقوا؛ فهكذا نقول إذا اجتمعوا أخذنا باجتماعهم. وإن قال واحدهم ولم يخالفه غيره أخذنا بقوله. فإن اختلفوا أخذنا بقول بعضهم، ولم نخرج من أقاويلهم كلهم"اهـ(1).
وهذا النهج؛ سبيل سلكه أئمة الدين، وشريعة وردها المهديون، السالكون الصراط المستقيم.
وهذا هو العلم الصريح الصحيح. ولله درّ القائل:
قال الصحابة ليس خلف فيه
العلم قال الله قال رسوله
بين الرسول وبين رأي سفيه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة
بين النصوص وبين رأي فقيه
كلا ولا نصب الخلاف جهالة
حذراً من التجسيم والتشبيه
كلا ولا ردّ النصوص تعمداً
قال الأوزاعي رحمه الله: "العلم ما جاء به أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فما كان غير ذلك فليس بعلم" (1).
وقد كان الزهري رحمه الله يكتب كلام التابعين وخالفه صالح بن كيسان ثم ندم على تركه ذلك (2) .
وعلى هذا سار أبو حنيفة النعمان عليه من الله الرحمة والرضوان .
قال ابن المبارك رحمه الله: سمعت أبا حنيفة [رضي الله عنه] يقول: "إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نختار من أقوالهم، وإذا جاء عن التابعين زاحمناهم"(3).
وسار عليه مالك بن أنس الأصبحي إمام دار الهجرة رحمه الله ورضي الله عنه وأرضاه.(1/48)
قال مالك - وقد ذكر له كتابه الموطأ -: "فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول الصحابة والتابعين ورأيهم. وقد تكلمت برأيي على الاجتهاد، وعلى ما أدركت عليه أهل العلم ببلدنا ولم أخرج عن جملتهم إلى غيره"اهـ (4).
وسبيل التزمه الشافعي رحمه الله ورضي عنه وأرضاه.(5)
قال الشافعي رحمه الله :
"العلم طبقات :
الأولى: الكتاب والسنة؛ إذا ثبتت السنة .
ثم الثانية : الإجماع فيما ليس فيه كتاب و لا سنة .
والثالثة: أن يقول بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم و لا نعلم له مخالفاً منهم .
والرابعة: اختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم.
والخامسة: القياس على بعض هذه الطبقات .
ولا يصار إلى شيء غير الكتاب والسنة وهما موجودان وإنما يؤخذ العلم من أعلى" (1).
وهو نهج أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله، ورضي عنه وأرضاه .
قال أحمد بن محمد بن حنبل:
"إذا كان في المسألة عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث؛ لم نأخذ فيها بقول أحد من الصحابة و لا من بعدهم خلافه .
وإذا كان في المسألة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قول مختلف نختار من أقاويلهم ولم نخرج عن أقاويلهم إلى قول غيرهم .
وإذا لم يكن فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم، و لا عن الصحابة قول؛ نختار من أقوال التابعين..." (1) .
وقال محمد بن الحسن:
"ومن كان عالماً بالكتاب والسنة، وبقول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما استحسن فقهاء المسلمين، وسعة أن يجتهد برأيه فيما ابتلي به، ويقضي به ويمضيه في صلاته وصيامه وحجه وجميع ما أمر به ونهي عنه، فإذا اجتهد ونظر وقاس على ما أشبه ولم يأل وسعه العمل بذلك، وإن أخطأ الذي ينبغي أن يقول به" (2) .
وقال محمد بن الحسن أيضاً :
"العلم على أربعة أوجه :
ما كان في كتاب الله الناطق، وما أشبهه. وما كان في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المأثورة، وما أشبهها .
وما كان فيما أجمع عليه الصحابة رحمهم الله وما أشبهه .(1/49)
وكذلك ما اختلفوا فيه لا يخرج عن جميعه؛ فإن أوقع الاختيار فيه على قول فهو علم تقيس عليه وما أشبهه .
وما استحسنه عامة فقهاء المسلمين، وما أشبهه وكان نظيراً له .
قال: ولايخرج العلم عن هذه الوجوه الأربعة"اهـ (1).
قلت: اتفقت كلمتهم رحمة الله عليهم، على هذا النهج؛ فمن خرج عنه خرج عن سبيل المؤمنين، والله الموفق .
قال أبو المظفر السمعاني رحمه الله: "إنا أمرنا بالاتباع، وندبنا إليه. ونهينا عن الابتداع، وزجرنا عنه. وشعار أهل السنة اتباعهم للسلف الصالح، وتركهم كل ما هو مبتدع محدث"اهـ(2) .
قال ابن تيمية رحمه الله: "من فسّر القرآن أو الحديث وتأوّله على غير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين فهو مفتر على الله، ملحد في آيات الله، محرِّف للكلم عن مواضعه. وهذا فتح لباب الزندقة والإلحاد، وهو معلوم البطلان بالإضطرار من دين الإسلام"اهـ (3).
فليس لأحد أن يتأوّل الآية أو الحديث على معنى يخالف مخالفة تضاد المعنى الذي فسّره به صحابة الرسول رضوان الله عليهم .
قال ابن رجب رحمه الله: "وفي زماننا [قلت: وفي زماننا أوكد] يتعين كتابة كلام أئمة السلف المقتدى بهم إلى زمن الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد. وليكن الإنسان على حذر مما حدث بعدهم فإنه حدث بعدهم حوادث كثيرة، وحدث من انتسب إلى متابعة السنة والحديث من الظاهرية ونحوهم وهو أشد مخالفة لها لشذوذه عن الأئمة، وانفراده عنهم بفهم يفهمه، أو يأخذ مالم يأخذ به الأئمة من قبله" (1).
ومن أجل هذا الأصل (وهو فهم القرآن العظيم والسنة النبوية على ضؤ فهم الصحابة رضوان الله عليهم)، ترى أهل السنة والجماعة، أهل الحديث، لا يخوضون في تفسير القرآن العظيم، وبيان معاني الحديث بمجرد اللغة، والرأي والمعقول؛ بل ينظرون في الآثار، ويجمعون ما جاء عن السلف في مصنفاتهم، ويبنون عليه فقههم واجتهادهم . وعلى خلافهم أهل البدع والأهواء !(1/50)
قال ابن تيمية رحمه الله: "وقد عدلت المرجئة في هذا الأصل (يعني: الإيمان)، عن بيان الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان، واعتمدوا على رأيهم، وعلى ما تأوّلوه بفهمهم اللغة، وهذه طريقة أهل البدع؛ ولهذا كان الإمام أحمد يقول: أكثر ما يخطيء الناس من جهة التأويل والقياس.
ولهذا نجد المعتزلة والمرجئة والرافضة وغيرهم من أهل البدع يفسرون القرآن برأيهم، ومعقولهم ، وما تأوّلوه من اللغة ؛ ولهذا تجدهم لا يعتمدون على أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، والصحابة والتابعين وأئمة المسلمين ، فلا يعتمدون لا على السنة ، و لا على إجماع السلف وآثارهم ، وإنما يعتمدون على العقل واللغة .
ونجدهم لا يعتمدون على كتب التفسير المأثورة ، والحديث وآثار السلف ، وإنما يعتمدون على كتب الأدب ، وكتب الكلام التي وضعها رؤوسهم . وهذه طريقة الملاحدة أيضاً، إنما يأخذون ما في كتب الفلسفة وكتب الأدب واللغة، وأمّا كتب القرآن والحديث والآثار؛ فلا يلتفتون إليها .
هؤلاء يعرضون عن نصوص الأنبياء إذ هي عندهم لا تفيد العلم .
وأولئك يتأوّلون القرآن برأيهم وفهمهم بلا آثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.وقد ذكرنا كلام أحمد وغيره في إنكار هذا وجعله طريقة أهل البدع"اهـ (1) .
قلت: قال أحمد ابن حنبل رحمه الله: "إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام" (2).
وهجر الأحاديث والآثار السلفية، واعتماد مجرد اللغة والعقل في فهم القرآن والحديث، طريق ركبه في هذا القرن أهل الاستشراق، فإن أحوجهم البحث إلى خبر نقلوه من كتب الجاحظ، أو من كتاب الأغاني، أو من العقد الفريد، فإن ضاق عليهم النقل، قالوا: هذا مقتضى العقل!!(1/51)
فالمسلم الذي يتبع ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، يقيد فقهه وفهمه للقرآن العظيم والسنة النبوية بفقه الصحابة رضوان الله عليهم، لا يخرج عنهم، فإن بدى له اجتهاد أو نظر في مسألة نظر هل له سلف فيها يأتمّ به، و إلا ترك؛ إذ كل خير في اتباع من سلف، وكل شر في ابتداع من خلف، وعليكم بالأمر العتيق.
ويمكن تلخيص منهج أهل الحديث في التفقه في المعالم التالية :
المعلم الأوّل:
لا فرق عندهم بين الحديث والفقه(1).وإنما يتعلم الطالب القرآن والحديث ممن يعلم ذلك . ويتعلم الفقه في الدين من شرائع الإسلام الظاهرة، وحقائق الإيمان الباطنة ممن يعلم ذلك. يجمعون ذلك ويطلبونه، فكل محدِّث فقيه، وكل فقيه محدِّث، وإنما كان فيهم من الغالب عليه الرواية، ومن الغالب عليه الدراية.
قال ابن رجب رحمه الله تعالى: "إن الله تعالى حفظ هذه الشريعة بما جعل لها من الحملة: أهل الدراية، وأهل الرواية.
فكان الطالب للعلم والإيمان يتلقى ذلك ممن يدركه من شيوخ العلم والإيمان؛ فيتعلّم [الطالب]: القرآن والحديث ممن يعلم ذلك . ويتعلم الفقه في الدين من شرائع الإسلام الظاهرة ، وحقائق الإيمان الباطنة ممن يعلم ذلك.
وكان الأغلب على القرون الفاضلة جمع ذلك كله ؛ فإن الصحابة تلقوا عن النبي صلى الله عليه وسلم جميع ذلك ، وتلقاه عنهم التابعون ، وتلقى عن التابعين تابعوهم، فكان الدين حينئذٍ مجتمعاً.
ولم يكن قد ظهر الفرق بين مسمّى الفقهاء ، وأهل الحديث . ولا بين علماء الأصول والفروع . و لا بين الصوفي والفقير والزاهد . وإنما انتشرت هذه الفروق بعد القرون الثلاثة . وإنما كان السلف يسمّون أهل العلم والدين: القرّاء، ويقولون: يقرأ الرجل: إذا تنسك .(1/52)
وكان العالم منهم يتكلم في جنس المسائل المأخوذة من الكتاب والسنة، سواء كانت من المسائل الخبرية العلمية ؛ - كمسائل التوحيد ، والأسماء والصفات ، والقدر والعرش، والكرسي، والملائكة، والجن، وقصص الأنبياء، ومسائل الأسماء والأحكام، والوعد والوعيد، وأحوال البرزخ، وصفة البعث والمعاد ، والجنة والنار، ونحو ذلك . - أو من أعمال الجوارح - كالطهارة، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والجهاد، وأحكام المعاوضات، والمناكحات، والحدود، والأقضية، والشهادة، ونحو ذلك . - أو من المسائل العلمية سواء كانت من أعمال القلوب؛ - كالمحبة، والخوف، والرجاء، والتوكل، والزهد، والتوبة، والشكر، والصبر، ونحو ذلك.
وإن كان لبعضهم في نوع من هذه الأنواع من مزيد العلم والمعرفة والحال ما ليس له في غيره مثله؛ كما كان يقال في أئمة التابعين الأربعة: - سعيد بن المسيب إمام أهل المدينة، وعطاء بن أبي رباح إمام أهل مكة، وإبراهيم النخعي إمام أهل الكوفة، والحسن البصري إمام أهل البصرة - كان يقال:
أعلمهم بالحلال والحرام: سعيد بن المسيب.
وأعلمهم بالمناسك: عطاء.
وأعلمهم بالصلاة إبراهيم.
واجمعهم الحسن.(1/53)
وكان أهل الدراية والفهم من العلماء إذا اجتمع عند الواحد منهم من ألفاظ الكتاب والسنة ومعانيها ، وكلام الصحابة والتابعين ما يسّره الله له؛ جعل ذلك أصولاً وقواعد يبني عليها ، ويستنبط منها ؛ فإن الله تعالى أنزل الكتاب بالحق والميزان . والكتاب فيه كلمات كبيرة هي قواعد كلية عامة، تشمل أنواعاً عديدة، وجزئيات كثيرة، و لا يهتدي كل أحد إلى دخولها تحت تلك الكلمات، بل ذلك من الفهم الذي يؤتيه الله من يشاء في كتاب. وأمّا الميزان فهو الاعتبار الصحيح. وهو من العدل والقسط الذي أمر الله بالقيام به كالجمع بين المتماثلين لاشتراكهما في الأوصاف الموجبة للجمع . والتفريق بين المختلفين لاختلافهما في الأوصاف الموجبة للفرق . وكثيراً ما يخفى وجه الاجتماع والافتراق ، ويدق فهمه .
وأمّا أهل الرواية إذا اجتمع عندهم من ألفاظ الرسول وكلام الصحابة والتابعين، وغيرهم في التفسير، والفقه، وأنواع العلوم؛ لم يتصرّفوا في ذلك بل نقلوه كما سمعوه، وأدّوه كما حفظوه، وربّما كان لكثير منهم من التصرّف والتمييز في صحة الحديث وضعفه من جهة إسناده وروايته ماليس لغيرهم"اهـ(1).
المعلم الثاني:
يتبعون الحديث الصحيح حيث كان إذا كان معمولاً به عند الصحابة ومن بعدهم ، أو عند طائفة منهم . فإن اتفق السلف على ترك العمل بحديث تابعوهم وعلموا أنهم ما تركوه إلا على علم أنه لايعمل به .
قال ابن رجب رحمه الله : "فأمّا الأئمة وفقهاء أهل الحديث فإنهم يتبعون الحديث الصحيح، حيث كان، إذا كان معمولاً به عند الصحابة، ومن بعدهم، أو عند طائفة منهم. فأمّا ما اتفق السلف على تركه، فلا يجوز العمل به لأنهم ما تركوه إلا على علم أنه لا يعمل به.
قال عمر بن عبد العزيز: خذوا من الرأي ما يوافق من كان قبلكم ؛ فإنهم كانوا اعلم منكم .
فأمّا ما خالف عمل أهل المدينة من الحديث، فهذا كان مالك يرى الأخذ بعمل أهل المدينة . والأكثرون أخذوا بالحديث"(1)(1/54)
وقال رحمه الله: "وليكن الإنسان على حذر مما حدث بعدهم، فإنه حدث بعدهم حوادث كثيرة. وحدث من انتسب إلى متابعة السنة والحديث من الظاهرية ونحوهم ، وهو أشد مخالفة لها لشذوذه عن الأئمة وانفراده عنهم بفهم يفهمه ، أو بأخذ مالم يأخذ به الأئمة من قبله"اهـ. (1)
المعلم الثالث:
شعار أهل الحديث اتباعهم للسلف الصالح
قال أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني في سياقه للأمور التي أجمعت عليها الأمة من أمور الديانة ، ومن السنن التي خلافها بدعة وضلالة : "التسليم للسنن لا تعارض برأي و لا تدافع بقياس ، وما تأوله منها السلف الصالح تأولناه . وما عملوا به عملناه ، وما تركوه تركناه ، ويسعنا أن نمسك عما أمسكوا ، ونتبعهم فيما بينوا، ونقتدي بهم فيما استنبطوه ورأوه في الحوادث ، ولا نخرج عن جماعتهم فيما اختلفوا فيه أو تأويله .
وكل ما قدّمنا ذكره فهو قول أهل السنة ، وأئمة الناس في الفقه والحديث ، على ما بيناه، وكله قول مالك"اهـ (1) .
قال أبو عبدالله محمد بن عبدالله (ابن أبي زمنين) رحمه الله : "اعلم رحمك الله أن السنة دليل القرآن . وأنها لا تدرك بالقياس . ولاتؤخذ بالعقول ، وإنما هي في الاتباع للأئمة ولما مشى عليه جمهور هذه الأمة . وقد ذكر الله عزوجل أقواماً أحسن الثناء عليهم ، فقال : {فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب} [الزمر:18] ، وأمر عباده فقال : {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه و لاتتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به، لعلكم تتقون} [الأنعام:151]."اهـ(1)
قال أبو المظفر السمعاني رحمه الله: "إنا أمرنا بالإتباع، وندبنا إليه، ونهينا عن الابتداع وزجرنا عنه. وشعار أهل السنة : اتباعهم للسلف الصالح ، وتركهم كل ما هو مبتدع محدث"اهـ(2).(1/55)
قال قوام السنة الأصبهاني رحمه الله : "وينبغي للمرء أن يحذر محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة . والسنة إنما هي التصديق لآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك معارضتها بـ : كيف ، ولِمَ .
والكلام والخصومات في الدين والجدال ؛ محدث ، وهو يوقع الشك في القلوب، ويمنع من معرفة الحق، الصواب.
وليس العلم بكثرة الرواية وإنما هو الاتباع والاستعمال؛ يقتدي بالصحابة والتابعين، وإن كان قليل العلم . ومن خالف الصحابة والتابعين فهو ضال ، وإن كان كثير العلم"اهـ(3) .
وقال : "وذلك أنه تبين للناس أمر دينهم فعلينا الاتباع ؛ لأن الدين إنما جاء من قبل الله تعالى ، لم يوضع على عقول الرجال وآرائهم ، قد بين الرسول صلى الله عليه وسلم السنة لأمته ، وأوضحها لأصحابه ، فمن خالف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من الدين فقد ضل."اهـ(1).
المعلم الرابع :
الأصول والقواعد التي يبنى عليها ويستنبط منها، هي الفاظ الكتاب والسنة، ومعانيها، وكلام الصحابة والتابعين .
قال ابن تيمية رحمه الله : "إن أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية : أهل الحديث والسنة ، الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله ، وأعظمهم تمييزاً بين صحيحها وسقيمها، وأئمتهم فقهاء فيها، وأهل معرفة بمعانيها، واتباعاً لها: تصديقاً وعملاً وحباً وموالاة لمن والاها، ومعاداة لمن عاداها، الذين يردون المقالات المجملة إلى ما جاء به من الكتاب والحكمة؛ فلا ينصبون مقالة، ويجعلونها من أصول دينهم، وجُمَل كلامهم، إن لم تكن ثابتة فيما جاء به الرسول، بل يجعلون ما بعث به الرسول من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه"اهـ(2) .(1/56)
وقال أيضاً رحمه الله: "قد ينص النبي صلى الله عليه وسلم نصاً يوجب قاعدة ويخفى النص على بعض العلماء حتى يوافقوا غيرهم على بعض أحكام تلك القاعدة، ويتنازعوا فيما لم يبلغهم فيه النص، مثل اتفاقهم على المضاربة ومنازعتهم في المساقاة والمزارعة وهما ثابتان بالنص. والمضاربة ليس فيها نص، وإنما فيها عمل الصحابة رضي الله عنهم؛ ولهذا كان فقهاء الحديث يؤصلون أصلا بالنص، ويفرعون عليه، لا يتنازعون في الأصل المنصوص، ويوافقون فيما لا نص فيه، ويتولد من ذلك ظهور الحكم المجمع عليه، لهيبة الاتفاق في القلوب وأنه ليس لأحد خلافه .
وتوقف بعض الناس في الحكم المنصوص؛ فقد يكون حكمه أقوى من المتفق عليه، وإن خفي مدركه على بعض العلماء فليس ذلك بمانع من قوته في نفس الأمر، حتى يقطع به من ظهر له مدركه"اهـ(1) .
قال ابن تيمية رحمه الله: "العلم المشروع، والنسك المشروع مأخوذ عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمّا ماجاء عمن بعدهم فلا ينبغي أن يجعل أصلاً، وإن كان صاحبه معذوراً، بل مأجوراً لاجتهاد أو تقليد.
فمن بنى الكلام في العلم: الأصول والفروع، على الكتاب والسنة والآثار المأثورة عن السابقين فقد أصاب طريق النبوة. وكذلك من بنى الإرادة والعبادة والعمل والسماع المتعلق بأصول الأعمال وفروعها من الأحوال القلبية والأعمال البدنية على الإيمان والسنة والهدي الذي كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقد أصاب طريق النبوة. وهذه طريق أئمة الهدى."اهـ(2)(1/57)
قال ابن رجب رحمه الله: "ومن ذلك - أعني محدثات العلوم - ما أحدثه فقهاء أهل الرأي من ضوابط وقواعد عقلية، ورد فروع الفقه إليها، سواء أخالفت السنة، أم وافقتها، طرداً لتلك القواعد المقررة، وإن كان أصلها مما تأوّلوه على نصوص الكتاب والسنة، لكن بتأويلات يخالفهم غيرهم فيها، وهذا هو الذي أنكره أئمة الإسلام على من أنكروه من فقهاء أهل الرأي بالحجاز والعراق، وبالغوا في ذمّه وإنكاره"اهـ (1)
وقال أيضاً رحمه الله : "وكان أهل الدراية والفهم من العلماء إذا اجتمع عند الواحد منهم من ألفاظ الكتاب والسنة ومعانيها، وكلام الصحابة والتابعين ما يسّره الله له؛ جعل ذلك أصولاً وقواعد يبني عليها، ويستنبط منها؛ فإن الله تعالى أنزل الكتاب بالحق والميزان. والكتاب فيه كلمات كبيرة هي قواعد كلية عامة، تشمل أنواعاً عديدة، وجزئيات كثيرة، و لا يهتدي كل أحد إلى دخولها تحت تلك الكلمات، بل ذلك من الفهم الذي يؤتيه الله من يشاء في كتاب. وأمّا الميزان فهو الاعتبار الصحيح. وهو من العدل والقسط الذي أمر الله بالقيام به كالجمع بين المتماثلين لاشتراكهما في الأوصاف الموجبة للجمع. والتفريق بين المختلفين لاختلافهما في الأوصاف الموجبة للفرق. وكثيراً ما يخفى وجه الاجتماع والافتراق، ويدق فهمه .
وأمّا أهل الرواية إذا اجتمع عندهم من ألفاظ الرسول وكلام الصحابة والتابعين، وغيرهم في التفسير، والفقه، وأنواع العلوم؛ لم يتصرّفوا في ذلك بل نقلوه كما سمعوه، وأدّوه كما حفظوه، وربّما كان لكثير منهم من التصرّف والتمييز في صحة الحديث وضعفه من جهة إسناده وروايته ماليس لغيرهم"اهـ(1).(1/58)
قال ابن حجر رحمه الله: "قال الأوزاعي: "العلم ما جاء عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لم يجيء عنهم فليس بعلم". وأخرج أبو عبيد ويعقوب بن شيبة عن ابن مسعود قال: "لا يزال الناس مشتملين بخير ما أتاهم العلم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وأكابرهم ، فإذا أتاهم العلم من قبل أصاغرهم وتفرقت أهواءهم هلكوا". وقال أبو عبيدة : "معناه: أن كل ما جاء عن الصحابة وكبار التابعين لهم بإحسان هو العلم الموروث، وما أحدثه من جاء بعدهم هو المذموم". وكان السلف يفرقون بين العلم والرأي؛ فيقولون للسنة: علم، ولما عداها رأي. وعن أحمد: "يؤخذ العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم عن الصحابة، فإن لم يكن فهو عن التابعين مخير". وعنه: "ما جاء عن الخلفاء الراشدين فهو من السنة، وما جاء عن غيرهم من الصحابة فمن قال أنه سنة لم أدفعه". وعن ابن المبارك: ليكن المعتمد عليه الأثر، وخذوا من الرأي ما يفسر لكم الخبر".
والحاصل أن الرأي إن كان مستنداً للنقل من الكتاب والسنة فهو محمود، وإن تجرد عن علم فهو مذموم"اهـ(1).
المعلم الخامس :
يذمون الجدال والخصام والكلام في الدين [ويعنون به مسائل العقيدة كالكلام في الله تعالى، وصفاته، والقدر ونحو ذلك(2) ] ، والمراء في مسائل الحلال والحرام، وينهون عن كثرة المسائل وعن أغلوطات المسائل، وعن الإكثار من فرض المسائل قبل وقوع الحوداث.
قال مالك بن أنس رحمه الله تعالى: "الكلام في الدين أكرهه. ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه، وينهون عنه؛ نحو الكلام في رأي جهم، والقدر، وكل ما أشبه ذلك.
و لاأحب الكلام إلا فيما تحته عمل. فأما الكلام في دين الله وفي الله عزوجل فالسكوت أحب إلي؛ لأني رأيت أهل بلدنا ينهون عن الكلام في الدين إلا فيما تحته عمل"اهـ(3).
قال إسحاق بن إبراهيم الحنظلي "ابن راهويه" : "اعلموا أن اتباع الكتاب والسنة اسلم. والخوض في أمر الدين بالمنازعة والرد حرام، والاجتناب عنه سلامة.(1/59)
وأرجو أن يجوز القياس على الأصل الثابت من العالم الفطن المتيقظ.
ولا تكاد تجد شيئاً من تأويل الكتاب والسنة مخالفاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم إذا صحت الرواية .
وعامة تاركي العلم والسنة وأصحاب الأهواء والرأي والمقاييس لثقل السنة عليهم .
ولا أعرف حديثين يخالف أحدهما الآخر .
ولكل ما روي من الأحاديث المختلفة معان يعلمها أهل العلم بها .
فبهذا الذي نقلناه طريقة السلف وما كانوا عليه"اهـ (1).
عقد الإمام الآجري رحمه الله في كتابه "الشريعة" باباً ترجمته: "ذم الجدال والخصومات في الدين"، أورد فيه جملة من الأحاديث والآثار المتعلقة بهذا الموضوع، وقال: "لمّا سمع هذا أهل العلم من التابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين، لم يتماروا في الدين، ولم يجادلوا، وحذروا المسلمين المراء والجدال، وأمروهم بالأخذبالسنن، وبما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وهذا طريق أهل الحق ممن وفقه الله عزوجل" (2).
ثم قال: "وبعد هذا نأمر بحفظ السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنن أصحابه رضي الله عنهم، والتابعين لهم بإحسان، وقول أئمة المسلمين مثل: مالك بن أنس، والأوزاعي، وسفيان الثوري، وابن المبارك وأمثالهم، والشافعي وأحمد بن حنبل، والقاسم بن سلام، ومن كان على طريقة هؤلاء من العلماء رضي الله عنهم، ونبذ من سواهم، ولا نناظر، و لانجادل، و لانخاصم، وإذا لقي صاحب بدعة في طريق أخذ في غيره، وإن حضر مجلساً هو فيه قام عنه، هكذا أدبنا من مضى من سلفنا."اهـ(1).
وقد ذكر ابن رجب رحمه الله موقف السلف أيضاً من ذلك، فقال: "ومما أنكره أئمة السلف: الجدال، والخصام، والمراء في مسائل الحلال والحرام أيضاً، ولم يكن ذلك طريقة أئمة الإسلام، وإنما أحدث ذلك كما أحدثه فقهاء العراقين في مسائل الخلاف بين الشافعية والحنفية، وصنفوا كتب الخلاف ووسعوا البحث والجدال فيها. وكل ذلك محدث لا أصل له، وصار ذلك علمهم، حتى شغلهم عن العلم النافع".(1/60)
ثم قال رحمه الله: "وقد ورد النهي عن كثرة المسائل وعن أغلوطات المسائل، وعن المسائل قبل وقوع الحوادث، وفي ذلك ما يطول ذكره.
ومع هذا ففي كلام السلف والأئمة كمالك والشافعي وأحمد وإسحاق؛ التنبيه على مأخذ الفقه، ومدارك الأحكام بكلام وجيز مختصر يُفهم به المقصود من غير إطالة ولا إسهاب.
وفي كلامهم من ردّ الأقوال المخالفة للسنة بألطف إشارة وأحسن عبارة، بحيث يغني ذلك من فهمه عن إطالة المتكلمين في ذلك بعدهم. بل ربما لم يتضمن تطويل كلام من بعدهم من الصواب في ذلك ما تضمنه كلام السلف، والأئمة مع اختصاره وإيجازه.
فما سكت من سكت عن كثرة الخصام والجدال من سلف الأمة جهلاً و لا عجزاً، ولكن سكتوا عن علم وخشية لله.
وما تكلم من تكلم، وتوسّع من توسَّع بعدهم باختصاصه بعلم دونهم، ولكن حباً للكلام وقلة ورع. كما قال الحسن وسمع قوماً يتجادلون: هؤلاء قوم ملوا العبادة وخف عليهم القول، وقلّ ورعهم فتكلموا."اهـ (1).
وقال ابن حجر رحمه الله مبيناً الموقف الوسط من الرأي، والقياس، والمسائل: "...فأمّا من بعده [يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم ] فإن الوقائع كثرت والأقاويل انتشرت فكان السلف يتحرزون من المحدثات، ثم انقسموا ثلاث فرق: الأولى تمسكت بالأمر، وعملوا بقوله صلى الله عليه وسلم : "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين" . والثانية: قاسوا مالم يقع على ما وقع وتوسعوا في ذلك حتى أنكرت عليهم الفرقة الأولى... والثالثة: توسطت فقدمت الأثر مادام موجوداً فإذا فقد قاسوا"اهـ (2).
المعلم السادس:
وكانوا ينكرون العلوم المحدثة، كالضوابط والقواعد العقلية التي ترد إليها الفروع سواء وافقت نصوص الشرع، أمْ لا.
وكالطريقة التي عليها المتكلمون أو الفلاسفة.
وكالكلام في العلوم الباطنة والمعارف وأعمال القلوب، بمجرد الرأي والذوق والكشف.(1/61)
وقد قال الشافعي رحمه الله: "ما جهل الناس ولا اختلفوا إلا بتركهم لسان العرب وميلهم إلى لسان ارسطاطاليس"(1) .
قال ابن عبدالبر رحمه الله: "أجمع أهل الفقه والآثار، من جميع الأمصار: أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ. و لايعدون عند الجميع في جميع الأمصار في طبقات العلماء، وإنما العلماء أهل الأثر والتفقه فيه، ويتفاضلون فيه بالإتقان والميز والفهم"اهـ(2) .
ونبّه ابن رجب رحمه الله إلى أنه لم يكن من منهج أهل الحديث الدخول في كلام المتكلمين أو الفلاسفة، ، وأنه شرّ محض، وقلّ من دخل في شيء من ذلك إلا وتلطخ ببعض أوضارهم(3).
وقال رحمه الله: "ومما أحدث من العلم: الكلام في العلوم الباطنة من المعارف وأعمال القلوب وتوابع ذلك، بمجرد الرأي والذوق أو الكشف. وفيه خطر عظيم، وقد أنكره أعيان الأئمة، كالإمام أحمد وغيره"اهـ(1)
وقال ابن حجر رحمه الله: "وقد توسع من تأخر عن القرون الثلاثة الفاضلة في غالب الأمور التي أنكرها أئمة التابعين وأتباعهم، ولم يقتنعوا بذلك حتى مزجوا مسائل الديانة بكلام اليونان، وجعلوا كلام الفلاسفة أصلاً يردون إليه ما خالفه من الآثار، بالتأويل ولو كان مستكرهاً، ثم لم يكتفوا بذلك حتى زعموا أن الذي رتبوه هو أشرف العلوم وأولاها بالتحصيل، وأن من لم يستعمل ما اصطلحوا عليه فهو عامي جاهل. فالسعيد من تمسك بما كان عليه السلف، واجتنب ما أحدثه الخلف، وإن لم يكن له منه بد فليكتف منه بقدر الحاجة ويجعل الأول المقصود بالإحالة، والله الموفق"اهـ (2).(1/62)
وقال السيوطي رحمه الله: "لم ينزل القرآن و لا أتت السنة، إلا على مصطلح العرب، ومذاهبهم في المحاورة والتخاطب والاحتجاج والاستدلال، لا على مصطلح يونان. ولكل قوم لغة واصطلاح، وقد قال تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} [إبراهيم:24]، فمن عدل عن لسان الشرع إلى لسان غيره، وخرّج الوارد من نصوص الشرع عليه فقد جهل، وضل ولم يصب القصد. ولهذا نرى كثيراً من أهل المنطق إذا تكلم في مسألة فقهية وأراد تخريجها على قواعد علمه أخطأ ولم يصب ما قالته الفقهاء ولا جرى على قواعدهم"اهـ (1)
وقال أيضاً: "إن المنطق لا يجر إلى خير. ومن لاحظه كان بعيداً عن إدراك المقاصد الشرعية، فإن بينه وبين الشرعيات منافرة" (2)
قلت: ومثله من رام التكلم في الشرع على سنن الإشارة ، وأحوال التصوف.
وكلاهما أعني التكلم في الشرع على قواعد المنطق، أو أحوال الباطن والإشارة،[سبب للإحداث والابتداع، ومخالفة السنة، ومخالفة غرض الشرع] (3)
قال الذهبي رحمه الله: "بل قلّ من أمعن في علم الكلام إلا وأداه اجتهاده إلى القول بما يخالف محض السنة؛ ولهذا ذمّ علماء السلف النظر في علم الأوائل؛ فإن علم الكلام مولد من علم الحكماء الدهرية، فمن رام الجمع بين علم الأنبياء عليهم السلام، وبين علم الفلاسفة بذكائه؛ لابد وأن يخالف هؤلاء وهؤلاء. ومن كف ومشى خلف ما جاءت به الرسل من إطلاق ما أطلقوا، ولم يتحذلق ولاعمّق - فإنهم صلوات الله عليهم أطلقوا وما عمّقوا - فقد سلك طريق السلف الصالح وسلم له دينه ويقينه، نسأل الله السلامة في الدين"اهـ (4).
المعلم السابع:
ويتم عندهم التفقه من خلال المراحل التالية:
... الأولى: تمييز الصحيح من السقيم.
... الثانية: ضبط نصوص الكتاب والسنة.
... الثالثة: الاجتهاد على الوقوف على معانيها وتفهمها والتقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة، والتابعين، وتابعيهم. والاشتغال بذلك هو العلم النافع. وثمرته الخاصة به، هي الخشية لله تعالى.(1/63)
قال ابن رجب رحمه الله مبيناً العلم النافع من ذلك جميعه، موضحاً المنهج في ذلك: "فالعلم النافع من هذه العلوم كلها ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها، والتقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم، في معاني القرآن والحديث، وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام، والزهد والرقائق، والمعارف وغير ذلك. والاجتهاد على تمييز صحيحه من سقيمه أوّلا. ثمّ الاجتهاد على الوقوف على معانيه وتفهمه ثانياً. وفي ذلك كفاية لمن عقل، وشُغْل لمن بالعلم النافع عُنِي واشتَغَل.
ومن وقف على هذا وأخلص القصد فيه لوجه الله عزوجل واستعان عليه ؛ أعانه وهداه، ووفقه وسدده، وفهّمه وألهمه، وحينئذٍ يثمر له هذا العلم ثمرته الخاصة به، وهي خشية الله، كما قال عزوجل: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}[فاطر:28]."اهـ (1)
والأصل عندهم أنه [لا يمكن أن يقال (في فهم النص، وبيان المراد منه) إلا ما قاله السلف قبلنا؛ لأنهم علموا مراد الرسول صلى الله عليه وسلم قطعاً، فإن كان من الصحابة أو التابعين (من نفى أن يكون في المسألة نص من الشرع) صارت مسألة اجتهاد] (1)
وحتى في مسائل الاجتهاد الأصل عندهم أن لا تتكلم إلا في مسألة لك فيها إمام، كما قال أحمد بن حنبل للميموني: "إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام" (2).
ومتى جاء النص فليس لأحد مع النبي صلى الله عليه وسلم قول إذا صح الخبر عنه، كما قال ابن خزيمة رحمه الله (3).
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الناس: "إنه لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم" (4).
المعلم الثامن:
لا يخوضون في الدين بآرائهم، ولا بعقولهم.(1/64)
عَنْ عَلِيٍّ رَضِي اللَّهُ عَنْه: "قَالَ لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيْهِ". وفي رواية: "قَالَ مَا كُنْتُ أَرَى بَاطِنَ الْقَدَمَيْنِ إِلَّا أَحَقَّ بِالْغَسْلِ حَتَّى رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ عَلَى ظَهْرِ خُفَّيْهِ". وفي رواية: "قَالَ: لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ بَاطِنُ الْقَدَمَيْنِ أَحَقَّ بِالْمَسْحِ مِنْ ظَاهِرِهِمَا وَقَدْ "مَسَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ظَهْرِ خُفَّيْهِ". (1)
وقال أبوعبدالله محمد بن إبراهيم البوشنجي رحمه الله: "الواجب على جميع أهل العلم والإسلام: أن يلزموا القصد للإتباع. وأن يجعلوا الأصول التي نزل بها القرآن وأتت بها السنن من الرسول صلى الله عليه وسلم غايات للعقول، ولا تجعلوا العقول غايات للأصول"اهـ (2).
وقال أبو المظفر السمعاني رحمه: "وأمّا أهل الحق؛ فجعلوا الكتاب والسنة أمامهم، وطلبوا الدين من قبلهما. وما وقع من معقولهم وخواطرهم، عرضوه على الكتاب والسنة؛ فإن وجدوه موافقاً لهما قبلوه، وشكروا الله عزوجل، حيث أراهم ذلك ووفقهم عليه. وإن وجدوه مخالفاً لهما تركوا ما وقع لهم، وأقبلوا على الكتاب والسنة، ورجعوا بالتهمة على أنفسهم؛ فإن الكتاب والسنة لا يهديان إلا إلى الحق، ورأي الإنسان قد يرى الحق، وقد يرى الباطل"اهـ (1)
وقال أيضاً رحمه الله: "وأمّا أهل السنة - سلمهم الله - فإنهم يتمسكون بما نطق به الكتاب والسنة. ويحتجون له بالحجج الواضحة والدلائل الصحيحة على حسب ما أذن فيه الشرع، وورد به السمع .
و لا يدخلون بآرائهم في صفات الله تعالى، و لا في غيرها من أمور الدين. وعلى هذا وجدوا سلفهم وأئمتهم.(1/65)
وقد قال الله تعالى: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً} [الأحزاب 45]. وقال أيضاً: {يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} [المائدة: 67]. وقال صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع، وفي مقامات شتى، وبحضرته عامة أصحابه رضي الله عنهم: "ألا هل بلغت" (2)
وكان مما انزل إليه، وأمر بتبليغه: أمر التوحيد، وبيانه بطريقته، فلم يترك النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً من أمور الدين وقواعده وأصوله وشرائعه وفصوله إلا بينه وبلغه على كماله وتمامه، ولم يؤخر بيانه عن وقت الحاجة إليه، إذ لو أخر فيها البيان لكان قد كلفهم ما لا سبيل لهم إليه"اهـ (1)
وقال أيضاً رحمه الله:
"إنا أمرنا بالإتباع والتمسك بأثر النبي صلى الله عليه وسلم، ولزوم ما شرعه لنا من الدين والسنة، و لا طريق لنا إلى هذا إلا بالنقل والحديث، بمتابعة الأخبار التي رواها الثقات، والعدول من هذه الأمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة من بعده؛ فنشرح الآن قول أهل السنة: إن طريق الدين هو السمع والأثر. وأن طريقة العقل والرجوع إليه، وبناء السمعيات عليه، مذموم في الشرع ومنهي عنه، ونذكر مقام العقل في الشرع، والقدر الذي أمر الشرع باستعماله وحرم مجاوزته...." (2)
وقال تلميذه قوام السنة الأصبهاني رحمه الله: "وذلك أنه تبين للناس أمر دينهم فعلينا الاتباع؛ لأن الدين إنما جاء من قبل الله تعالى، لم يوضع على عقول الرجال وآرائهم، قد بين الرسول صلى الله عليه وسلم السنة لأمته، وأوضحها لأصحابه، فمن خالف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من الدين فقد ضل."اهـ (1)
وقال: "و لانعارض سنة النبي صلى الله عليه وسلم بالمعقول؛ لأن الدين إنما هو الانقياد، والتسليم دون الرد إلى ما يوجبه العقل؛ لأن العقل ما يؤدي إلى قبول السنة، فأمّا ما يؤدي إلى إبطالها فهو جهل لا عقل."اهـ (2).(1/66)
المعلم الثالث:
شعار أهل الحديث اتباعهم للسلف الصالح
قال أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني في سياقه للأمور التي أجمعت عليها الأمة من أمور الديانة ، ومن السنن التي خلافها بدعة وضلالة : "التسليم للسنن لا تعارض برأي و لا تدافع بقياس ، وما تأوله منها السلف الصالح تأولناه . وما عملوا به عملناه ، وما تركوه تركناه ، ويسعنا أن نمسك عما أمسكوا ، ونتبعهم فيما بينوا، ونقتدي بهم فيما استنبطوه ورأوه في الحوادث ، ولا نخرج عن جماعتهم فيما اختلفوا فيه أو تأويله .
وكل ما قدّمنا ذكره فهو قول أهل السنة ، وأئمة الناس في الفقه والحديث ، على ما بيناه، وكله قول مالك"اهـ (1) .
قال أبو عبدالله محمد بن عبدالله (ابن أبي زمنين) رحمه الله : "اعلم رحمك الله أن السنة دليل القرآن . وأنها لا تدرك بالقياس . ولاتؤخذ بالعقول ، وإنما هي في الاتباع للأئمة ولما مشى عليه جمهور هذه الأمة . وقد ذكر الله عزوجل أقواماً أحسن الثناء عليهم ، فقال : {فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب} [الزمر:18] ، وأمر عباده فقال : {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه و لاتتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به، لعلكم تتقون} [الأنعام:151]."اهـ(1)
قال أبو المظفر السمعاني رحمه الله: "إنا أمرنا بالإتباع، وندبنا إليه، ونهينا عن الابتداع وزجرنا عنه. وشعار أهل السنة : اتباعهم للسلف الصالح ، وتركهم كل ما هو مبتدع محدث"اهـ(2).
قال قوام السنة الأصبهاني رحمه الله : "وينبغي للمرء أن يحذر محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة . والسنة إنما هي التصديق لآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك معارضتها بـ : كيف ، ولِمَ .
والكلام والخصومات في الدين والجدال ؛ محدث ، وهو يوقع الشك في القلوب، ويمنع من معرفة الحق، الصواب.(1/67)
وليس العلم بكثرة الرواية وإنما هو الاتباع والاستعمال؛ يقتدي بالصحابة والتابعين، وإن كان قليل العلم . ومن خالف الصحابة والتابعين فهو ضال ، وإن كان كثير العلم"اهـ(3) .
وقال : "وذلك أنه تبين للناس أمر دينهم فعلينا الاتباع ؛ لأن الدين إنما جاء من قبل الله تعالى ، لم يوضع على عقول الرجال وآرائهم ، قد بين الرسول صلى الله عليه وسلم السنة لأمته ، وأوضحها لأصحابه ، فمن خالف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من الدين فقد ضل."اهـ(1).
المعلم الرابع :
الأصول والقواعد التي يبنى عليها ويستنبط منها، هي الفاظ الكتاب والسنة، ومعانيها، وكلام الصحابة والتابعين
قال ابن تيمية رحمه الله : "إن أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية : أهل الحديث والسنة ، الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله ، وأعظمهم تمييزاً بين صحيحها وسقيمها، وأئمتهم فقهاء فيها، وأهل معرفة بمعانيها، واتباعاً لها: تصديقاً وعملاً وحباً وموالاة لمن والاها، ومعاداة لمن عاداها، الذين يردون المقالات المجملة إلى ما جاء به من الكتاب والحكمة؛ فلا ينصبون مقالة، ويجعلونها من أصول دينهم، وجُمَل كلامهم، إن لم تكن ثابتة فيما جاء به الرسول، بل يجعلون ما بعث به الرسول من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه"اهـ(2) .(1/68)
وقال أيضاً رحمه الله: "قد ينص النبي صلى الله عليه وسلم نصاً يوجب قاعدة ويخفى النص على بعض العلماء حتى يوافقوا غيرهم على بعض أحكام تلك القاعدة، ويتنازعوا فيما لم يبلغهم فيه النص، مثل اتفاقهم على المضاربة ومنازعتهم في المساقاة والمزارعة وهما ثابتان بالنص. والمضاربة ليس فيها نص، وإنما فيها عمل الصحابة رضي الله عنهم؛ ولهذا كان فقهاء الحديث يؤصلون أصلا بالنص، ويفرعون عليه، لا يتنازعون في الأصل المنصوص، ويوافقون فيما لا نص فيه، ويتولد من ذلك ظهور الحكم المجمع عليه، لهيبة الاتفاق في القلوب وأنه ليس لأحد خلافه .
وتوقف بعض الناس في الحكم المنصوص؛ فقد يكون حكمه أقوى من المتفق عليه، وإن خفي مدركه على بعض العلماء فليس ذلك بمانع من قوته في نفس الأمر، حتى يقطع به من ظهر له مدركه"اهـ(1) .
قال ابن تيمية رحمه الله: "العلم المشروع، والنسك المشروع مأخوذ عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمّا ماجاء عمن بعدهم فلا ينبغي أن يجعل أصلاً، وإن كان صاحبه معذوراً، بل مأجوراً لاجتهاد أو تقليد.
فمن بنى الكلام في العلم: الأصول والفروع، على الكتاب والسنة والآثار المأثورة عن السابقين فقد أصاب طريق النبوة. وكذلك من بنى الإرادة والعبادة والعمل والسماع المتعلق بأصول الأعمال وفروعها من الأحوال القلبية والأعمال البدنية على الإيمان والسنة والهدي الذي كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقد أصاب طريق النبوة. وهذه طريق أئمة الهدى."اهـ(1)(1/69)
قال ابن رجب رحمه الله: "ومن ذلك - أعني محدثات العلوم - ما أحدثه فقهاء أهل الرأي من ضوابط وقواعد عقلية، ورد فروع الفقه إليها، سواء أخالفت السنة، أم وافقتها، طرداً لتلك القواعد المقررة، وإن كان أصلها مما تأوّلوه على نصوص الكتاب والسنة، لكن بتأويلات يخالفهم غيرهم فيها، وهذا هو الذي أنكره أئمة الإسلام على من أنكروه من فقهاء أهل الرأي بالحجاز والعراق، وبالغوا في ذمّه وإنكاره"اهـ (2)
وقال أيضاً رحمه الله : "وكان أهل الدراية والفهم من العلماء إذا اجتمع عند الواحد منهم من ألفاظ الكتاب والسنة ومعانيها، وكلام الصحابة والتابعين ما يسّره الله له؛ جعل ذلك أصولاً وقواعد يبني عليها، ويستنبط منها؛ فإن الله تعالى أنزل الكتاب بالحق والميزان. والكتاب فيه كلمات كبيرة هي قواعد كلية عامة، تشمل أنواعاً عديدة، وجزئيات كثيرة، و لا يهتدي كل أحد إلى دخولها تحت تلك الكلمات، بل ذلك من الفهم الذي يؤتيه الله من يشاء في كتاب. وأمّا الميزان فهو الاعتبار الصحيح. وهو من العدل والقسط الذي أمر الله بالقيام به كالجمع بين المتماثلين لاشتراكهما في الأوصاف الموجبة للجمع. والتفريق بين المختلفين لاختلافهما في الأوصاف الموجبة للفرق. وكثيراً ما يخفى وجه الاجتماع والافتراق، ويدق فهمه .
وأمّا أهل الرواية إذا اجتمع عندهم من ألفاظ الرسول وكلام الصحابة والتابعين، وغيرهم في التفسير، والفقه، وأنواع العلوم؛ لم يتصرّفوا في ذلك بل نقلوه كما سمعوه، وأدّوه كما حفظوه، وربّما كان لكثير منهم من التصرّف والتمييز في صحة الحديث وضعفه من جهة إسناده وروايته ماليس لغيرهم"اهـ(1).(1/70)
قال ابن حجر رحمه الله: "قال الأوزاعي: "العلم ما جاء عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لم يجيء عنهم فليس بعلم". وأخرج أبو عبيد ويعقوب بن شيبة عن ابن مسعود قال: "لا يزال الناس مشتملين بخير ما أتاهم العلم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وأكابرهم ، فإذا أتاهم العلم من قبل أصاغرهم وتفرقت أهواءهم هلكوا". وقال أبو عبيدة : "معناه: أن كل ما جاء عن الصحابة وكبار التابعين لهم بإحسان هو العلم الموروث، وما أحدثه من جاء بعدهم هو المذموم". وكان السلف يفرقون بين العلم والرأي؛ فيقولون للسنة: علم، ولما عداها رأي. وعن أحمد: "يؤخذ العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم عن الصحابة، فإن لم يكن فهو عن التابعين مخير". وعنه: "ما جاء عن الخلفاء الراشدين فهو من السنة، وما جاء عن غيرهم من الصحابة فمن قال أنه سنة لم أدفعه". وعن ابن المبارك: ليكن المعتمد عليه الأثر، وخذوا من الرأي ما يفسر لكم الخبر".
والحاصل أن الرأي إن كان مستنداً للنقل من الكتاب والسنة فهو محمود، وإن تجرد عن علم فهو مذموم"اهـ(1).
المعلم الخامس :
يذمون الجدال والخصام والكلام في الدين [ويعنون به مسائل العقيدة كالكلام في الله تعالى، وصفاته، والقدر ونحو ذلك(2) ] ، والمراء في مسائل الحلال والحرام، وينهون عن كثرة المسائل وعن أغلوطات المسائل، وعن الإكثار من فرض المسائل قبل وقوع الحوداث.
قال مالك بن أنس رحمه الله تعالى: "الكلام في الدين أكرهه. ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه، وينهون عنه؛ نحو الكلام في رأي جهم، والقدر، وكل ما أشبه ذلك.
و لاأحب الكلام إلا فيما تحته عمل. فأما الكلام في دين الله وفي الله عزوجل فالسكوت أحب إلي؛ لأني رأيت أهل بلدنا ينهون عن الكلام في الدين إلا فيما تحته عمل"اهـ(3).
قال إسحاق بن إبراهيم الحنظلي "ابن راهويه" : "اعلموا أن اتباع الكتاب والسنة اسلم. والخوض في أمر الدين بالمنازعة والرد حرام، والاجتناب عنه سلامة.(1/71)
وأرجو أن يجوز القياس على الأصل الثابت من العالم الفطن المتيقظ.
ولا تكاد تجد شيئاً من تأويل الكتاب والسنة مخالفاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم إذا صحت الرواية .
وعامة تاركي العلم والسنة وأصحاب الأهواء والرأي والمقاييس لثقل السنة عليهم .
ولا أعرف حديثين يخالف أحدهما الآخر .
ولكل ما روي من الأحاديث المختلفة معان يعلمها أهل العلم بها .
فبهذا الذي نقلناه طريقة السلف وما كانوا عليه"اهـ (1).
عقد الإمام الآجري رحمه الله في كتابه "الشريعة" باباً ترجمته: "ذم الجدال والخصومات في الدين"، أورد فيه جملة من الأحاديث والآثار المتعلقة بهذا الموضوع، وقال: "لمّا سمع هذا أهل العلم من التابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين، لم يتماروا في الدين، ولم يجادلوا، وحذروا المسلمين المراء والجدال، وأمروهم بالأخذبالسنن، وبما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وهذا طريق أهل الحق ممن وفقه الله عزوجل" (2).
ثم قال: "وبعد هذا نأمر بحفظ السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنن أصحابه رضي الله عنهم، والتابعين لهم بإحسان، وقول أئمة المسلمين مثل: مالك بن أنس، والأوزاعي، وسفيان الثوري، وابن المبارك وأمثالهم، والشافعي وأحمد بن حنبل، والقاسم بن سلام، ومن كان على طريقة هؤلاء من العلماء رضي الله عنهم، ونبذ من سواهم، ولا نناظر، و لانجادل، و لانخاصم، وإذا لقي صاحب بدعة في طريق أخذ في غيره، وإن حضر مجلساً هو فيه قام عنه، هكذا أدبنا من مضى من سلفنا."اهـ(1).
وقد ذكر ابن رجب رحمه الله موقف السلف أيضاً من ذلك، فقال: "ومما أنكره أئمة السلف: الجدال، والخصام، والمراء في مسائل الحلال والحرام أيضاً، ولم يكن ذلك طريقة أئمة الإسلام، وإنما أحدث ذلك كما أحدثه فقهاء العراقين في مسائل الخلاف بين الشافعية والحنفية، وصنفوا كتب الخلاف ووسعوا البحث والجدال فيها. وكل ذلك محدث لا أصل له، وصار ذلك علمهم، حتى شغلهم عن العلم النافع".(1/72)
ثم قال رحمه الله: "وقد ورد النهي عن كثرة المسائل وعن أغلوطات المسائل، وعن المسائل قبل وقوع الحوادث، وفي ذلك ما يطول ذكره.
ومع هذا ففي كلام السلف والأئمة كمالك والشافعي وأحمد وإسحاق؛ التنبيه على مأخذ الفقه، ومدارك الأحكام بكلام وجيز مختصر يُفهم به المقصود من غير إطالة ولا إسهاب.
وفي كلامهم من ردّ الأقوال المخالفة للسنة بألطف إشارة وأحسن عبارة، بحيث يغني ذلك من فهمه عن إطالة المتكلمين في ذلك بعدهم. بل ربما لم يتضمن تطويل كلام من بعدهم من الصواب في ذلك ما تضمنه كلام السلف، والأئمة مع اختصاره وإيجازه.
فما سكت من سكت عن كثرة الخصام والجدال من سلف الأمة جهلاً و لا عجزاً، ولكن سكتوا عن علم وخشية لله.
وما تكلم من تكلم، وتوسّع من توسَّع بعدهم باختصاصه بعلم دونهم، ولكن حباً للكلام وقلة ورع. كما قال الحسن وسمع قوماً يتجادلون: هؤلاء قوم ملوا العبادة وخف عليهم القول، وقلّ ورعهم فتكلموا."اهـ (1).
وقال ابن حجر رحمه الله مبيناً الموقف الوسط من الرأي، والقياس، والمسائل: "...فأمّا من بعده [يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم ] فإن الوقائع كثرت والأقاويل انتشرت فكان السلف يتحرزون من المحدثات، ثم انقسموا ثلاث فرق: الأولى تمسكت بالأمر، وعملوا بقوله صلى الله عليه وسلم : "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين" . والثانية: قاسوا مالم يقع على ما وقع وتوسعوا في ذلك حتى أنكرت عليهم الفرقة الأولى... والثالثة: توسطت فقدمت الأثر مادام موجوداً فإذا فقد قاسوا"اهـ (1).
المعلم السادس:
وكانوا ينكرون العلوم المحدثة، كالضوابط والقواعد العقلية التي ترد إليها الفروع سواء وافقت نصوص الشرع، أمْ لا.
وكالطريقة التي عليها المتكلمون أو الفلاسفة.
وكالكلام في العلوم الباطنة والمعارف وأعمال القلوب، بمجرد الرأي والذوق والكشف.(1/73)
وقد قال الشافعي رحمه الله: "ما جهل الناس ولا اختلفوا إلا بتركهم لسان العرب وميلهم إلى لسان ارسطاطاليس"(2) .
قال ابن عبدالبر رحمه الله: "أجمع أهل الفقه والآثار، من جميع الأمصار: أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ. و لايعدون عند الجميع في جميع الأمصار في طبقات العلماء، وإنما العلماء أهل الأثر والتفقه فيه، ويتفاضلون فيه بالإتقان والميز والفهم"اهـ(3)
ونبّه ابن رجب رحمه الله إلى أنه لم يكن من منهج أهل الحديث الدخول في كلام المتكلمين أو الفلاسفة، ، وأنه شرّ محض، وقلّ من دخل في شيء من ذلك إلا وتلطخ ببعض أوضارهم(1).
وقال رحمه الله: "ومما أحدث من العلم: الكلام في العلوم الباطنة من المعارف وأعمال القلوب وتوابع ذلك، بمجرد الرأي والذوق أو الكشف. وفيه خطر عظيم، وقد أنكره أعيان الأئمة، كالإمام أحمد وغيره"اهـ(2)
وقال ابن حجر رحمه الله: "وقد توسع من تأخر عن القرون الثلاثة الفاضلة في غالب الأمور التي أنكرها أئمة التابعين وأتباعهم، ولم يقتنعوا بذلك حتى مزجوا مسائل الديانة بكلام اليونان، وجعلوا كلام الفلاسفة أصلاً يردون إليه ما خالفه من الآثار، بالتأويل ولو كان مستكرهاً، ثم لم يكتفوا بذلك حتى زعموا أن الذي رتبوه هو أشرف العلوم وأولاها بالتحصيل، وأن من لم يستعمل ما اصطلحوا عليه فهو عامي جاهل. فالسعيد من تمسك بما كان عليه السلف، واجتنب ما أحدثه الخلف، وإن لم يكن له منه بد فليكتف منه بقدر الحاجة ويجعل الأول المقصود بالإحالة، والله الموفق"اهـ (3)(1/74)
وقال السيوطي رحمه الله: "لم ينزل القرآن و لا أتت السنة، إلا على مصطلح العرب، ومذاهبهم في المحاورة والتخاطب والاحتجاج والاستدلال، لا على مصطلح يونان. ولكل قوم لغة واصطلاح، وقد قال تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} [إبراهيم:24]، فمن عدل عن لسان الشرع إلى لسان غيره، وخرّج الوارد من نصوص الشرع عليه فقد جهل، وضل ولم يصب القصد. ولهذا نرى كثيراً من أهل المنطق إذا تكلم في مسألة فقهية وأراد تخريجها على قواعد علمه أخطأ ولم يصب ما قالته الفقهاء ولا جرى على قواعدهم"اهـ (1)
وقال أيضاً: "إن المنطق لا يجر إلى خير. ومن لاحظه كان بعيداً عن إدراك المقاصد الشرعية، فإن بينه وبين الشرعيات منافرة" (2)
قلت: ومثله من رام التكلم في الشرع على سنن الإشارة ، وأحوال التصوف.
وكلاهما أعني التكلم في الشرع على قواعد المنطق، أو أحوال الباطن والإشارة،[سبب للإحداث والابتداع، ومخالفة السنة، ومخالفة غرض الشرع] (3)
قال الذهبي رحمه الله: "بل قلّ من أمعن في علم الكلام إلا وأداه اجتهاده إلى القول بما يخالف محض السنة؛ ولهذا ذمّ علماء السلف النظر في علم الأوائل؛ فإن علم الكلام مولد من علم الحكماء الدهرية، فمن رام الجمع بين علم الأنبياء عليهم السلام، وبين علم الفلاسفة بذكائه؛ لابد وأن يخالف هؤلاء وهؤلاء. ومن كف ومشى خلف ما جاءت به الرسل من إطلاق ما أطلقوا، ولم يتحذلق ولاعمّق - فإنهم صلوات الله عليهم أطلقوا وما عمّقوا - فقد سلك طريق السلف الصالح وسلم له دينه ويقينه، نسأل الله السلامة في الدين"اهـ (1)
المعلم السابع:
ويتم عندهم التفقه من خلال المراحل التالية:
... الأولى: تمييز الصحيح من السقيم.
... الثانية: ضبط نصوص الكتاب والسنة.
... الثالثة: الاجتهاد على الوقوف على معانيها وتفهمها والتقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة، والتابعين، وتابعيهم. والاشتغال بذلك هو العلم النافع. وثمرته الخاصة به، هي الخشية لله تعالى.(1/75)
قال ابن رجب رحمه الله مبيناً العلم النافع من ذلك جميعه، موضحاً المنهج في ذلك: "فالعلم النافع من هذه العلوم كلها ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها، والتقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم، في معاني القرآن والحديث، وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام، والزهد والرقائق، والمعارف وغير ذلك. والاجتهاد على تمييز صحيحه من سقيمه أوّلا. ثمّ الاجتهاد على الوقوف على معانيه وتفهمه ثانياً. وفي ذلك كفاية لمن عقل، وشُغْل لمن بالعلم النافع عُنِي واشتَغَل.
ومن وقف على هذا وأخلص القصد فيه لوجه الله عزوجل واستعان عليه ؛ أعانه وهداه، ووفقه وسدده، وفهّمه وألهمه، وحينئذٍ يثمر له هذا العلم ثمرته الخاصة به، وهي خشية الله، كما قال عزوجل: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر:28]."اهـ (1)
والأصل عندهم أنه [لا يمكن أن يقال (في فهم النص، وبيان المراد منه) إلا ما قاله السلف قبلنا؛ لأنهم علموا مراد الرسول صلى الله عليه وسلم قطعاً، فإن كان من الصحابة أو التابعين (من نفى أن يكون في المسألة نص من الشرع) صارت مسألة اجتهاد] (2)
وحتى في مسائل الاجتهاد الأصل عندهم أن لا تتكلم إلا في مسألة لك فيها إمام، كما قال أحمد بن حنبل للميموني: "إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام" (3).
ومتى جاء النص فليس لأحد مع النبي صلى الله عليه وسلم قول إذا صح الخبر عنه، كما قال ابن خزيمة رحمه الله (4).
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الناس: "إنه لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم" (1)
المعلم الثامن:
لا يخوضون في الدين بآرائهم، ولا بعقولهم.(1/76)
عَنْ عَلِيٍّ رَضِي اللَّهُ عَنْه: "قَالَ لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيْهِ". وفي رواية: "قَالَ مَا كُنْتُ أَرَى بَاطِنَ الْقَدَمَيْنِ إِلَّا أَحَقَّ بِالْغَسْلِ حَتَّى رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ عَلَى ظَهْرِ خُفَّيْهِ". وفي رواية: "قَالَ: لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ بَاطِنُ الْقَدَمَيْنِ أَحَقَّ بِالْمَسْحِ مِنْ ظَاهِرِهِمَا وَقَدْ "مَسَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ظَهْرِ خُفَّيْهِ". (2)
وقال أبوعبدالله محمد بن إبراهيم البوشنجي رحمه الله: "الواجب على جميع أهل العلم والإسلام: أن يلزموا القصد للإتباع. وأن يجعلوا الأصول التي نزل بها القرآن وأتت بها السنن من الرسول صلى الله عليه وسلم غايات للعقول، ولا تجعلوا العقول غايات للأصول"اهـ (1).
وقال أبو المظفر السمعاني رحمه: "وأمّا أهل الحق؛ فجعلوا الكتاب والسنة أمامهم، وطلبوا الدين من قبلهما. وما وقع من معقولهم وخواطرهم، عرضوه على الكتاب والسنة؛ فإن وجدوه موافقاً لهما قبلوه، وشكروا الله عزوجل، حيث أراهم ذلك ووفقهم عليه. وإن وجدوه مخالفاً لهما تركوا ما وقع لهم، وأقبلوا على الكتاب والسنة، ورجعوا بالتهمة على أنفسهم؛ فإن الكتاب والسنة لا يهديان إلا إلى الحق، ورأي الإنسان قد يرى الحق، وقد يرى الباطل"اهـ (1)
وقال أيضاً رحمه الله: "وأمّا أهل السنة - سلمهم الله - فإنهم يتمسكون بما نطق به الكتاب والسنة. ويحتجون له بالحجج الواضحة والدلائل الصحيحة على حسب ما أذن فيه الشرع، وورد به السمع .
و لا يدخلون بآرائهم في صفات الله تعالى، و لا في غيرها من أمور الدين. وعلى هذا وجدوا سلفهم وأئمتهم.(1/77)
وقد قال الله تعالى: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً} [الأحزاب 45]. وقال أيضاً: {يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} [المائدة: 67]. وقال صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع، وفي مقامات شتى، وبحضرته عامة أصحابه رضي الله عنهم: "ألا هل بلغت" (1)
وكان مما انزل إليه، وأمر بتبليغه: أمر التوحيد، وبيانه بطريقته، فلم يترك النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً من أمور الدين وقواعده وأصوله وشرائعه وفصوله إلا بينه وبلغه على كماله وتمامه، ولم يؤخر بيانه عن وقت الحاجة إليه، إذ لو أخر فيها البيان لكان قد كلفهم ما لا سبيل لهم إليه"اهـ (2)
وقال أيضاً رحمه الله:
"إنا أمرنا بالإتباع والتمسك بأثر النبي صلى الله عليه وسلم، ولزوم ما شرعه لنا من الدين والسنة، و لا طريق لنا إلى هذا إلا بالنقل والحديث، بمتابعة الأخبار التي رواها الثقات، والعدول من هذه الأمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة من بعده؛ فنشرح الآن قول أهل السنة: إن طريق الدين هو السمع والأثر. وأن طريقة العقل والرجوع إليه، وبناء السمعيات عليه، مذموم في الشرع ومنهي عنه، ونذكر مقام العقل في الشرع، والقدر الذي أمر الشرع باستعماله وحرم مجاوزته...." (1)
وقال تلميذه قوام السنة الأصبهاني رحمه الله: "وذلك أنه تبين للناس أمر دينهم فعلينا الاتباع؛ لأن الدين إنما جاء من قبل الله تعالى، لم يوضع على عقول الرجال وآرائهم، قد بين الرسول صلى الله عليه وسلم السنة لأمته، وأوضحها لأصحابه، فمن خالف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من الدين فقد ضل."اهـ (2)
وقال: "و لانعارض سنة النبي صلى الله عليه وسلم بالمعقول؛ لأن الدين إنما هو الانقياد، والتسليم دون الرد إلى ما يوجبه العقل؛ لأن العقل ما يؤدي إلى قبول السنة، فأمّا ما يؤدي إلى إبطالها فهو جهل لا عقل."اهـ (3)(1/78)
المقصد الثالث:
أعيان أهل الحديث
عقد أبوعبدالله الحاكم النيسابوري في كتابه "معرفة علوم الحديث" النوع العشرين من علم الحديث ، ذكر فيه جملة من أعيان أهل الحديث ، وقد أجاد وأفاد - رحمه الله - وسآتي بمقاصده هنا، باختصار يسير ، ثم أعطف عليه بزيادات وتتمات أسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق والهدى والسداد والقبول فيها وفي جميع عملي، إنه سميع مجيب.
قال عليه من الله الرحمة والرضوان : "النوع العشرون من هذا العلم - بعد ما قدّمنا ذكره من صحة الحديث إتقاناً ومعرفة ، لا تقليداً وظناً - معرفة فقه الحديث ؛ إذ هو ثمرة هذه العلوم وبه قوام الشريعة . فأمّا فقهاء الإسلام أصحاب القياس والرأي والاستنباط والجدل والنظر؛ فمعروفون في كل عصر وأهل كل بلد ، ونحن ذاكرون بمشية الله في هذا الموضع فقه الحديث عن أهله ، ليستدل بذلك على أن أهل هذه الصنعة من تبحر فيها لا يجهل فقه الحديث ، إذ هو نوع من أنواع هذا العلم.
فممن أشرنا إليه من أهل الحديث:
محمد بن مسلم الزهري [ت124هـ]( ).
عن مكحول قال : "ما رأيت أحداً أعلم بسنة ما ضية من الزهري".
عن ابن شهاب قال : "إن هذا العلم أدب الله الذي أدب به نبيه صلى الله عليه وسلم، وأدّب النبي صلى الله عليه وسلم أمته به، وهو أمانة الله إلى رسوله ليؤديه على ما أدي إليه ، فمن سمع علماً فليجعله أمامه حجة فيما بينه وبين الله عزوجل".
عن ابن شهاب قال حدثني أبوبكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام أن أباه قال : سمعت عثمان بن عفان يقول : "اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث" وذكر الحديث بطوله .
قال ابن شهاب: في هذا الحديث بيان أن لا خير في خل من خمر أفسدت حتى يكون الله يفسدها ، عند ذلك يطيب الخل . و لابأس على امريء أن يبتاع خلاً وجده من أهل الكتاب مالم يعلم أنها كانت خمراً فتعمدوا إفسادها بالماء ، فإن كان خمراً عمدوا ليكون خلاً فلا خير في أكله .(1/79)
قال ابن وهب : وسمعت مالكاً يقول: سمعت ابن شهاب سئل عن خمر جعلت في قلة وجعل معها ملح ، وأخلاط كثيرة ثم جعل في الشمس حتى عاد مُرِّياً يصطبغ به . قال ابن شهاب: شهدت قبيصة بن ذؤيب ينهى أن يجعل الخمر مرياً، إذا أخذ وهو خمر.
ومنهم يحيى بن سعيد الأنصاري[ت143هـ]( ).
عن حماد بن زيد قال : قدم أيوب من المدينة ، فقيل له: من أفقه من خلفت بها ؟ قال : يحي بن سعيد .
عن عبيدالله بن عمر قال: كان يحيى بن سعيد يحدث كأنما ينسج علينا اللؤلؤ .
عن الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد عن عمرو بن شعيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: والذي نفسي بيده مالي مما أفاء الله عليكم شيء و لامثل هذه أو هذا إلا الخمس . والخمس مردود عليكم . قال: فسئل يحي عن النفل في أوّل مغنم؟ فقال: ذلك على وجه الاجتهاد من الإمام وليس في ذلك أمر موقت و لا شيء ثابت؛ بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفل في بعض مغازيه، ولم يبلغنا أنه نفل في مغازيه كلها، فذلك عندنا على وجه الاجتهاد من الإمام في أوّل مغنم وفيما بعده.
ومنهم عبدالرحمن بن عمرو الأوزاعي[ ت157هـ]( ).
عن موسى بن بشار قال: ما رأيت أحداً قط أحدُّ نظراً و لا أنفى للغل عن الإسلام من الأوزاعي .
عن أبي عبدالله بن بحر قال: سمعت الأوزاعي يقول: يجتنب أو يترك من قول أهل العراق خمس ، ومن قول أهل الحجاز خمس : من قول أهل العراق : شرب المسكر ، والأكل عند الفجر في رمضان ، ولا جمعة إلا في سبعة أمصار ، وتأخير صلاة العصر حتى يكون ظل كل شيء أربعة أمثاله والفرار يوم الزحف . ومن قول أهل الحجاز : استماع الملاهي، والجمع بين الصلاتين من غير عذر ، والمتعة بالنساء ، والدرهم بالدرهمين والدينار بالدينارين ، يداً بيد ، وإتيان النساء في أدبارهن.(1/80)
عن أيوب السختياني قال: إذا حدثت الرجل بسنة ، فقال: دعنا من هذا وأجبنا عن القرآن فاعلم أنه ضال . قال الأوزاعي: إن السنة قاضية على الكتاب ولم يجيء الكتاب قاضياً على السنة .
ومنهم سفيان بن عيينة الهلالي[ ت198هـ]( ).
عن الشافعي قال: ما رأيت أفقه من ابن عيينة وأسكت عن الفتيا منه.
عن علي بن خشرم ، قال: كنا في مجلس سفيان بن عيينة ، فقال: يا أصحاب الحديث تعلموا فقه الحديث لا يقهركم أصحاب الرأي ؛ ما قال أبو حنيفة شيئاً إلا ونحن نروي فيه حديثاً أو حديثين . قال فتركوه وقالوا : عمرو بن دينار عن من ؟
عن نصر بن حاجب قال : سألت سفيان بن عيينة عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمواساة : أهي لازمة لهذه الأمة ؟ فقال : كانت لازمة للأنصار فيما بايعهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يواسوا المهاجرين ففعلوا ذلك حتى نزلت آية الزكاة المفروضة ثم ذكر التطوع في الصدقة فوُسِّع عليهم في ذلك إلا عند الضرورة حيث لا يجد غيره . قيل لسفيان : كيف قسم النبي صلى الله عليه وسلم للمهاجرين دون الأنصار وقد قاتلوا عليه جميعاً ؟ قال: إنما فعل ذلك لتقع المواساة عن الأنصار ، ثم ترجع إلى الأنصار أموالهم إذا استغنى عنهم المهاجرون ، فسقطت عن الأنصار المواساة إلا عند الضرورة ، ونظر بذلك لهما جميعاً .
ومنهم عبدالله بن المبارك الحنظلي[ ت181هـ]( ).
عن عبدالله بن مصعب قال: جمع عبدالله بن المبارك الحديث والفقه والعربية وأيام الناس والشجاعة والتجارة والسخاء والمحبة عند الفرق.
عن الفضيل بن عياض قال: وربِّ هذه البنية ما رأت عيناي مثل عبدالله بن المبارك.
عن حبان صاحب ابن المبارك قال: قلت لعبدالله بن المبارك قول عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت براءتها من السماء: "وبحمد الله لا بحمدك" إني لأستعظم هذا القول ؟! فقال عبدال له: ولت الحمد أهله .(1/81)
عن أبي عمار قال : سمعت عبدالله بن المبارك وسئل عن قوله صلى الله عليه وسلم : "كلابس ثوبي زور" قال: الذي يلبس ما ليس له.
عن الحسن بن الربيع قال: قال عبدالله بن المبارك في حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم: "استقيموا لقريش ما استقامت لكم" تفسيره حديث أم سلمة : " لا تقاتلوهم ما صلوا الصلاة "
ومنهم يحيى بن سعيد القطان[ ت198هـ]( ).
عن أحمد بن حنبل قال: سمعت يحيى بن سعيد أثبت الناس. وما كتبت عن مثل يحيى بن سعيد.
عن علي بن المديني قال: سمعت يحيى بن سعيد ذكر عن ابن جريج عن يعقوب بن عطاء عن عطاء عن ابن عباس في الإيلاء أنها واحدة بائنة . قال فدخلت على أبيه فأنكره! فخرجت إليه فقال: قد سمعت منه، أو حدثني به. قال علي : فقلت ليحيى: فما تقول أنت ؟ قال: حدثني شعبة قال حدثني ابن أبي نجيح علقمة في الإيلاء قال : يوقف. قال يحيى: وقال عطاء عن ابن عباس قال: إن مضت الأربعة الأشهر فهي واحدة بائنة.
قال: وسألت يحيى عن العطاس؟ فقال: كان شعبة يحدث عن ابن أبي ليلى عن أبيه عن أبي أيوب في العطاس . قال يحيى: والمستحب فيه ما حدّثنا ابن أبي ليلى قال حدثني أخي عن أبي عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله على كل حال. وليقل له يرحمك الله، وليقل يهديكم الله ويصلح بالكم". قال يحيى: فرددته على ابن أبي ليلى غير مرة فقال عن علي بن أبي طالب.
ومنهم عبدالرحمن بن مهدي[ ت198هـ]( ).
عن علي بن المديني قال: والله لو أخذت وحُلِّفت بين الركن والمقام لحلفت بالله أني لم أر قط أعلم بالحديث من عبدالرحمن بن مهدي.
عن أحمد بن حنبل قال: سألت عبدالرحمن بن مهدي عن رضاع الكبير ؟ فقال: سمعت مالكاً يحدث عن نافع عن ابن عمر قال: لا رضاعة إلا لصغير و لا رضاعة لكبير .(1/82)
عن أحمد بن حنبل قال: سألت عبدالرحمن عن نحل الولد؟ فقال: حدثنا مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة أن أبابكر نحلها جداد عشرين وسقاً من ماله بالغابة . قال عبدالله بن أحمد بن حنبل: كذا قال: "بالغابة" وإنما هي "بالعالية".
قال: وسألت عبدالرحمن عن الآبق إذا سرق ؟ فقال: حماد بن سلمة أخبرنا عن هشام بن عروة عن يحيى بن سعيد عن عروة بن الزبير قال: يقطع الآبق إذا سرق . وقال حماد : سأل رجل هشام بن عروة عنه فقال : لم أسمعه من أبي ولكن حدثني الثقة المأمون على ما تغيب عنه يحيى بن سعيد.
ومنهم يحيى بن يحيى التميمي[ت226هـ]( ).
قال إسحاق بن إبراهيم الحنظلي: ما رأيت مثل يحيى بن يحيى، ولا أحسب أن يحيى بن يحيى رأى مثل نفسه.
عن يحيى بن محمد قال: ما رأيت محدثاً أورع من يحيى بن يحيى و لا أحسن لباساً منه .
عن أبي زكرياء يحيى بن محمد بن يحيى، إملاء، قال: أتيت يحيى بن يحيى يوم جمعة فانطلقت معه إلى المسجد وهو راكب برذون حتى أتينا المسجد الجامع عند الزوال، فدخل المسجد ودخلت معه فصلى في الصحن في الشمس وذلك في الصيف، ولم يركع قبل الصلاة ولا بعدها، فلما أراد أن يسجد بسط كم قميصه فسجد عليه ، فلما انصرف انصرفت معه حتى دخل إلى بيته ومعنا رجل آخر يسمى محمد بن عثمان، فسأله محمد عن الطريق القذر يمر به الإنسان، - وذلك أنا مررنا بطريق قذر، فسأله محمد عن مثل ذلك الطريق يجتاز به الإنسان - فقال يحيى بن يحيى: قرأت على مالك عن محمد بن عمارة عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التميمي عن أم ولد لإبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف، قالت: سألت أم سلمة فقلت : إني امرأة أطيل ذيلي فأمر بالمكان القذر والمكان الطيب، فقالت أم سلمة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يطهره ما بعده".
قال أبوزكرياء: أحسبني كتبت هذا الحديث على مفتاح الحانوت ؛ لأنه لم يكن معي بياض .
ومنهم أحمد بن حنبل[ت241هـ]( ).(1/83)
عن الشافعي قال : خرجت من بغداد وما خلفت بها أفقه و لا أزهد و لا أورع ولا أعلم من أحمد بن حنبل.
عن عبدالله بن أحمد بن حنبل، قال: سألت أبي عن وطئ المستحاضة؟ فقال : حدثنا وكيع عن سفيان بن غيلان عن عبدالملك بن ميسرة عن الشعبي عن قمير عن عائشة قالت : المستحاضة لا يغشاها زوجها . قال أبي : ورأيت في كتاب الأشجعي كما رواه وكيع ؛ ورواه غندر عن شعبة عن عبدالملك بن ميسرة عن الشعبي أنه قال : المستحاضة لا يغشاها زوجها .
قال أحمد بن حنبل حدثني محمد بن عثمان بن صفوان بن أمية الجمحي قال ثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ما خالطت الصدقة مالاً إلا أهلكته".
قال أحمد بن حنبل : تفسيره : أن الرجل يأخذ الصدقة أو الزكاة وهو موسر أو غني ، وإنما هي للفقير .
قال أحمد بن حنبل: حدثنا مخلد بن يزيد عن الأوزاعي عن عبدالواحد بن قيس عن أبي هريرة قال : تكفير كل لحاء ركعتان .
قال أحمد: يعني: الرجل الذي يلاحي الرجل يخاصمه يصلي ركعتين ، تكفيره يعني : كفارته .
ومنهم علي بن عبدالله بن جعفر المديني[ت234هـ]( ).
عن عثمان بن سعيد الدارمي قال : سمعت علي بن المديني يقول: وهو كفر. يعني: من قال القرآن مخلوق.
ثم ذكر الحاكم أسامي مصنفات علي بن المديني فقال : إنما اقتصرنا على فهرست مصنفاته في هذا الموضع ليستدل به على تبحره وتقدمه وكماله.
ومنهم يحيى بن معين صاحب الجرح والتعديل[ت203هـ]( ).
عن جعفر بن محمد بن كزال قال: كنت مع يحيى بن معين بالمدينة فمرض مرضه الذي مات فيه وتوفي بالمدينة، فحمل على سرير رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجل ينادي بين يديه : هذا الذي كان ينفي الكذب عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
عن يحيى بن معين، قال: سمعت يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه قال: أخبرني من رأى بريدة بن سفيان يشرب الخمر في طريق الري .(1/84)
قال يحيى بن معين: وقد روى محمد بن إسحاق عن بريدة هذا، وأهل المدينة ومكة يسمون النبيذ خمراً، والذي عندنا أنه رأى بريدة يشرب النبيذ في طريق الري، فقال : رأيته يشرب خمراً.
وسئل ابن معين عن أقل المهر ؟ فقال : حدثنا الأسود بن عامر قال حدثنا سفيان الثوري عن أبي حازم عن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم زوّج امرأة من رجل على سورة من القرآن . وحدثنا يونس بن محمد قال حدثنا صالح بن رومان عن أبي الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لو أن رجلا تزوج امرأة على ملء كف من طعام لكان ذلك صداقاً " .
ومنهم إسحاق بن إبراهيم الحنظلي[ت238هـ]( ).
عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي قال: سألني أحمد بن حنبل عن حديث الفضل بن موسى من حديث ابن عباس قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم يلحظ في صلاته و لا يلوي عنقه خلف ظهره ؟" فحدثته. فقال له رجل: يا أبا يعقوب رواه وكيع خلاف هذا! فقال له أحمد بن حنبل: اسكت إذا حدثك أبويعقوب أمير المؤمنين فتمسك به .
ومنهم محمد بن يحيى الذهلي[ت258هـ وقيل 252هـ]( ) .
عن أبي عمرو أحمد بن نصر قال : رأيت محمد بن يحيى بعد وفاته في المنام فقلت: يا أبا عبدالله ما فعل بك ربك؟ قال: غفر لي. قلت: ما فعل بحديثك؟ قال: كتب بماء الذهب ورفع في عليين( ).
عن أبي عمر المستملي قال: حدثنا محمد بن يحيى بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه ليغان على قلبي" فسئل عن معناه؟ فقال: سمعت عفان يقول: سألت الأعراب عنه فقالوا: إنه ليغطى على قلبي.
قال: وسئل محمد بن يحيى عن اللفظة في الحديث: "هل رأيت الله؟ فيقول: "ما ينبغي لأحد أن يرى الله تعالى" فقال: هذا في الدنيا فأمّا في الآخرة فإن أهل الجنة ينظرون إلى الله تعالى بأبصارهم.
عن محمد بن يحيى قال: أرى الوضؤ من مس الذكر استحباباً لا إيجاباً لحديث عبدالله بن بدر عن قيس بن طلق عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم.(1/85)
ومنهم محمد بن إسماعيل البخاري[ت256هـ]( ).
عن أبي بكر بن إسحاق قال: ما رأيت تحت أديم هذه السماء أعلم بالحديث من محمد بن إسماعيل البخاري.
عن محمد بن إسماعيل البخاري قال: اعتللت بنيسابور علة خفيفة وذلك في شهر رمضان فعادني إسحاق بن راهوية في نفر من أصحابه فقال لي: أفطرت يا أبا عبدالله؟ فقلت: نعم. قال: خشيت أن تضعف عن قبول الرخصة. فقلت: أخبرنا عبدان عن ابن المبارك عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: من رأى المرض أفطر؟ قال: ومن أي مرض كان، كما قال الله عزوجل: {فمن كان منكم مريضاً} [البقرة: 187]. قال البخاري: ولم يكن هذا عند إسحاق.
عن محمد بن إسحاق يقول: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: عندنا خبر صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في القراءة على العالم! فقيل له: عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم؛ فذكر "قصة ضمام بن ثعلبة، وقوله للنبي صلى الله عليه وسلم: آلله أرسلك إلينا؟ فقال: نعم؛ آلله أمرك أن تأمرنا أن نصلي في اليوم والليلة؟ قال: نعم".
ومنهم أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم[ت264هـ]( ).
عن أبي العباس محمد بن إسحاق الثقفي قال: لما انصرف قتيبة بن سعيد إلى الري سألوه أن يحدِّثهم فامتنع، وقال: أحدثكم بعد أن حضر مجلسي أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وأبوبكر بن أبي شيبة، وأبوخيثمة؟ فقالوا له: عندنا غلاماً يسرد كل ما حدّثت به مجلساً مجلساً، قم يا أبا زرعة. فقام أبوزرعة فسرد كل ما حدّث به قتيبة، فحدثهم قتيبة.
ومنهم أبوحاتم محمد بن إدريس الحنظلي[ت275هـ وقيل277هـ]( ).
عن أحمد بن سلمة قال: ما رأيت بعد إسحاق ومحمد بن يحيى أحفظ للحديث و لا أعلم بمعانيه من أبي حاتم محمد بن إدريس.(1/86)
حديث أنس قال: كان ابن لأم سُليم يقال له: أبوعمير، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ربما يمازحه إذا دخل؛ فدخل يوماً فمازحه فوجده حزيناً فقال: مالي أراك أبا عمير حزيناً؟ قال: يارسول الله مات نغره الذي كان يلعب به. فجعل يناديه "يا أبا عمير ما فعل النغير؟"
قال أبوحاتم: فيه غير شيء من العلم، فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم مازح صبياً، وفيه أنه لم ينه عن لعب الصبي بالطير، وفيه أنه كنى من لم يولد له، وفيه أنه لم ينه عن صيد وحش المدينة، وفيه أنه صغر الطير وهو خلق من خلق الله.
ومنهم إبراهيم بن إسحاق الحربي البغدادي[ت285هـ]( ).
في حديث: "المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور" قال إبراهيم: فيه نهي عن الرياء، وله علة( ).
قال الحاكم سمعت القاضي محمد بن صالح يقول: لا نعلم أن بغداد أخرجت مثل إبراهيم بن إسحاق الحربي في الأدب والفقه والحديث والزهد، ثم ذكر القاضي أن له كتاباً في غريب الحديث لم يسبق إليه.
ومنهم مسلم بن الحجاج القشيري[ت261هـ]( ).
عن الحسين بن منصور قال: سمعت إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ونظر إلى مسلم بن الحجاج فقال: مرد كامل بوذ [يعني: ما اعظم هذا الرجل].
قال مسلم بن الحجاج في حديث أبي بن كعب قال: إنما كانت الفتيا الماء من الماء رخصة في أوّل الإسلام ثم نهي عنها.(1/87)
قال مسلم: حديث عثمان بن عفان وأبي سعيد الخدري في ترك الغسل من الإكسال وقوله: "الماء من الماء" ثابت متقدم من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم منسوخ بحديث عائشة وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان"، والرواية الأخرى، وجاوز الختان الختان، وفي حديث أبي هريرة من رواية هشام: "ثم جهدها" ومن رواية سعيد: "ثم اجتهد" وكل ذلك في المعنى راجع إلى أمر واحد وهو تغييب الحشفة في الفرج، فإذا كان ذلك منهما وجب عليهما الغسل وهما لا يبلغان ذلك من الفعل، وإلا قد اجتهد وجهدها. فأمّا حديث سهل بن سعد عن أبي بن كعب: الماء من الماء كانت رخصة من النبي صلى الله عليه وسلم ثم أمرنا بالاغتسال؛ فإن الزهري لم يسمعه من سهل بن سعد( ).
ومنهم أبوعبدالله محمد بن إبراهيم العبدي [أبوعبدالله البوشنجي ت29هـ]( ).
قال الحاكم: سمعت أبا زكرياء العنبري يقول: شهدت جنازة الحسين بن محمد القباني سنة تسع وثمانين ومئتين، فقدم أبوعبدالله للصلاة عليه فصلى عليه، فلما أراد أن ينصرف قدّمت دابته فأخذ أبوعمرو الخفاف بلجامه وأبو بكر محمد بن إسحاق بركابه وأبوبكر الجارودي وإبراهيم بن أبي طالب يسويان عليه ثيابه فمضى ولم يكلم واحداً منهم.
عن أبي بكر محمد بن إسحاق قال: لو لم يكن في أبي عبدالله البوشنجي من البخل في العلم ما كان - وكان يعلمني - ما خرجت إلى مصر.
قال أبوعبدالله البوشنجي في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "البذاء من الإيمان" قال: البذاء خلاف البذاذة، إنما البذاء طول اللسان برمي الفواحش والبهتان يقال: فلان بذيء اللسان والبذاذة التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها من الإيمان هي رثاثة الثياب في الملبس والمفرش وذلك تواضع عن رفيع الثياب وثمين الملابس والمفترش، وهي ملابس أهل الزهد في الدنيا، يقال: فلان بذ الهيئة رث الملبس، والله اعلم.(1/88)
وقال في حديث: "تهادوا تحابوا": بالتشديد من الحب، وأمّا بالتخفيف من المحاباة.
ومنهم عثمان بن سعيد الدارمي[ت280هـ]( ).
قال أبو الفضل بن إسحاق: ما رأينا مثل عثمان بن سعيد و لا رأى عثمان مثل نفسه، أخذ الأدب عن ابن الإعرابي، والفقه عن أبي يعقوب البوطي، والحديث عن يحيى بن معين وعلي بن المديني وتقدّم في هذه العلوم رحمه الله.
وقال عثمان بن سعيد في حديث البراء بن عازب: "أن رسول صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه إذا كبر حتى ترى إبهاماه قريباً من أذنيه"، قال: ليس في رواية الثوري وزهير وهشيم عنه أنه كان يرفعهما عند الركوع، وإنما ذكروا صفة الرفع كيف يرفع، وإلى أين يبلغ به، ولم يذكر فيه العود من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أنه لم يذكر فيه قراءته وركوعه وسجوده وتسليمه كيف كان، فهذا الذي يسبق إلى صحته عن يزيد. حدثنا علي بن المديني عن سفيان قال ثنا يزيد بن أبي زياد - وهو تابعي - بمكة، فلما قدمنا الكوفة إذا هو يقول: "رفع يديه ثم لا يعود"؛ قال سفيان: فإذا هم لقنوه هذه الكلمة. وسألت أحمد بن حنبل رحمه الله، فقال: لا يصح عنه هذا الحديث، وسمعت يحيى بن معين يضعف يزيد بن أبي زياد. قال عثمان بن سعيد: ولو صح عن البراء، أنه قال "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه إلا أول مرة"، وقال غيره أنه عاد لرفعهما؛ كان أولى الحديثين أن يؤخذ به حديث صاحب الرؤية لأنه لم يقدر على الحكاية إلا بالرؤية الصحيحة والحفظ، والذي قال لم أر فقد يمكن أنه عاد ولم يره.
ومنهم أبوعبدالله محمد بن نصر المروزي[ت294هـ]( ).
قال محمد بن عبدالله بن عبدالحكم المصري: كان محمد بن نصر المروزي عندنا إماماً فكيف بخراسان؟
وقال إسحاق بن إبراهيم الحنظلي: لو صلح في زماننا أحد للقضاء لصلح أبوعبدالله المروزي.(1/89)
قال أبوعبدالله الحاكم: فضائل أبي عبدالله المروزي ومناقبه كثيرة فإنه إمام الحديث بخراسان؛ وأمّا كلامه في فقه الحديث فأكثر من أن يمكن ذكره. ومصنفاته في بلاد المسلمين مشهورة ولعلها تزيد على ست مائة جزء، عندنا من المسموعات ما يزيد على مائة جزء.
ومنهم أبوعبدالرحمن أحمد بن شعيب النسائي[ت303هـ]( ).
قال الحاكم: سمعت أبا علي الحافظ غير مرة يذكر أربعة من أئمة المسلمين رآهم فيبدأ بأبي عبدالرحمن.
وقال: فأمّا كلام أبي عبدالرحمن على فقه الحديث فأكثر من أن يذكر في هذا الموضع، ومن نظر في كتاب السنن له تحير في حسن كلامه، وليس هذا الكتاب بمسموع عندنا. ومع ما جمع أبوعبدالرحمن من الفضائل رزق الشهادة في آخر عمره.
ومنهم أبوبكر محمد بن إسحاق بن خزيمة[ت311هـ]( ).
قال أبو العباس بن سريج وذكر أبابكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، فقال: يخرج النكت من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنقاش.
قال الحاكم أبو الحسن السنجاني: نظرت في مسألة الحج لمحمد بن إسحاق بن خزيمة فتيقنت أنه علم لا نحسنه نحن.
قال أبو عبدالله الحاكم: فضائل هذا الإمام مجموعة عندي في أوراق كثيرة وهي أشهر وأكثر من يحتملها هذا الموضع، ومصنفاته تزيد على مائة وأربعين كتاباً سوى المسائل. والمسائل المصنفة أكثر من مائة جزء، فإن فقه حديث بريرة ثلاثة أجزاء، ومسألة الحج خمسة أجزاء.
قال أبوبكر محمد بن إسحاق بن خزيمة عن معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صام الدهر ضيقت عليه جهنم" فقال: ينبغي أن يكون هاهنا معنى "عليه" "عنه" فلا يدخل جهنم؛ لأن من أراد لله عملاً وطاعة ازداد به عند الله رفعة وعليه كرامة وإليه قربة.(1/90)
وقال ابن خزيمة: من لم يقر بأن الله تعالى على عرشه قد استوى، فوق سبع سمواته فهو كافر بربه، يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وألقي على بعض المزابل حيث لا يتأذى المسلمون والمعاهدون بنتن ريح جيفته، وكان ماله فيئاً لا يرثه أحد من المسلمين إذ المسلم لا يرث الكافر كما قال صلى الله عليه وسلم.
وقال في حديث: "تقتل عماراً الفئة الباغية": فنشهد أن كل من نازع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في خلافته فهو باغ، على هذا عهدت مشايخنا وبه قال ابن ادريس رضي الله عنه.
وقال في حديث: "تحاجت الجنة والنار، فقالت الجنة: يدخلني الضعفاء" فقيل لمحمد بن إسحاق: من الضعيف؟ قال: الذي يبريء نفسه من الحول والقوّة، يعني في اليوم عشرين مرة إلى خمسين مرة.
وقال أيضاً: ليس لأحد مع النبي صلى الله عليه وسلم قول إذا صح الخبر عنه.
سمعت أبا هشام الرفاعي يقول: سمعت يحي بن آدم يقول: لا يحتاج مع قول النبي صلى الله عليه وسلم إلى قول أحد. وإنما كان يقال سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ ليعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم مات عليها.
قال أبوعبدالله الحاكم: قد اختصرت هذا الباب، وتركت أسامي جماعة من أئمتنا كان من حقهم أن أذكرهم في هذا الموضع، فمنهم أبوداود السجستاني، ومحمد بن عبدالوهاب العبدي، وأبوبكر الجارودي، وإبراهيم بن أبي طالب وأبوعيسى الترمذي، وموسى بن هارون البزاز، والحسن بن علي المعمري، وعلي بن الحسين بن الجنيد، ومحمد بن مسلم بن وارة، ومحمد بن عقيل البلخي، وغيرهم من مشايخنا رضي الله عنهم"اهـ( ).
التتمات :
هذه التتمات التي وعدت بها في أول هذا المقصد، أكمل بها الكلام على هذا الموضوع، وأتمم بها كلام الحاكم رحمه الله، والله المستعان، وعليه التكلان، وبه التوفيق.
التتمة الأولى:(1/91)
الطراز الأول والتاج المكلل في طبقات فقهاء أهل الحديث هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهرهم: الخلفاء الأربعة: أبوبكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم وأرضاهم.
وابن مسعود رضي الله عنه.
والعبادلة: ابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، وابن عمرو بن العاص رضي الله عنهم( ).
وعائشة وأم سلمة وزينب رضي الله عنهن.
وأنس وزيد وأبو هريرة وجابر وأبوسعيد رضي الله عنهم.
التتمة الثانية:
لم يذكر الحاكم رحمه الله في هذا النوع، الإمام أبا حنيفة، وكذا الإمام مالك بن أنس الأصبحي إمام دار الهجرة، كما لم يذكر الإمام الشافعي. لكنه في النوع التاسع والأربعين الذي عقده في معرفة: الأئمة الثقات المشهورين من التابعين وأتباعهم ممن يجمع حديثهم للحفظ والمذاكرة والتبرك بهم، وبذكرهم من المشرق إلى المغرب" ذكر منهم من أهل المدينة: مالك بن أنس الأصبحي( ). وذكر منهم من أهل الكوفة: أبا حنيفة النعمان بن ثابت التيمي( ). وذكر في النوع التاسع والثلاثين معرفة أنساب المحدثين. وذكر الطبقة الرابعة من الفقهاء والمحدثين الذين يجمعهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم نسب، منهم:"محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن المطلب بن عبدمناف"( ).
التتمة الثالثة:
قال ابن تيمية رحمه الله: "إسحاق بن راهويه قرين أحمد بن حنبل، ويوافقه في المذهب: أصوله وفروعه، وقولهما كثيراً ما يجمع بينه.
والكوسج سأل مسائله لأحمد وإسحاق، وكذلك حرب الكرماني سأل مسائله لأحمد وإسحاق، وكذلك غيرهما؛ ولهذا يجمع الترمذي قول أحمد وإسحاق، فإنه روى قولهما من مسائل الكوسج.
وكذلك أبو زرعة وأبو حاتم وابن قتيبة وغير هؤلاء من أئمة العلم والسنة والحديث، كانوا يتفقهون على مذهب أحمد وإسحاق ويقدمون قولهما على أقوال غيرهما.(1/92)
وأئمة الحديث كالبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم أيضاً من أتباعهما، وممن يأخذ العلم والفقه عنهما.
وداود من أصحاب إسحاق.
وقد كان أحمد بن حنبل إذا سئل عن إسحاق يقول: أنا اسأل عن إسحاق! إسحاق يسأل عني"اهـ( ).
ومن فقهاء الحديث سائر الأئمة الفقهاء المجتهدين الأعلام، فمنهم غير ما تقدم: الحمادين، وسفيان الثوري، وخلق من المتقدمين والمتأخرين( ).
وأذكر منهم غير ما تقدم:
ابن جرير الطبري [310هـ]
ابن أبي حاتم [327هـ]
الطحاوي [ت321هـ]
الآجري [ت360هـ]
ابن بطة [387هـ]
ابن أبي زمنين [ت399هـ]
أبوعبدالله الحاكم النيسابوري[ت405هـ]
اللالكائي [416هـ]
أبو إسحاق الإسفرايني[ت418هـ]
ابن حزم[ت456هـ]
البيهقي [ت458هـ]
ابن عبدالبر [ت463هـ]
الخطيب البغدادي [463هـ]
الحسين بن مسعود البغوي [ت516هـ]
المازري[ت536هـ]
القاضي عياض[ت544هـ]
ابن قدامة[ت620هـ]
مجد الدين ابن تيمية [ت652هـ]
ابن أبي شامة[ت665هـ]
النووي [776هـ]
ابن دقيق العيد [ت702هـ]
ابن تيمية [728هـ]
المزي[ت742هـ]
ابن عبدالهادي[ت744هـ]
الذهبي[ت748هـ]
ابن القيم[ت751هـ]
الشاطبي[ت790هـ]
ابن رجب[ت795هـ]
ابن الوزير اليماني[ت840هـ]
ابن حجر [ت852هـ]
السخاوي [ت902هـ]
السيوطي [ت911هـ]
محمد حياة السندي[ت1163هـ]
شاه ولي الله الدهلوي[ت1176هـ]
الصنعاني[ت1182هـ] صاحب سبل السلام شرح بلوغ المرام.
محمد بن عبدالوهاب[ت1206هـ]
الشوكاني [ت1250هـ]
عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ صاحب فتح المجيد[ت1285هـ]
اللكنوي [ت1304هـ]
محمد صديق خان[ت1307هـ]
شمس الحق العظيم آبادي[ت1349هـ]
محمد عبد الرحمن المباركفوري[ت1353هـ]
عبدالرحمن بن سعدي[ت1376هـ]
أحمد شاكر [ت1377هـ]
المعلمي اليماني[ت1386هـ]
محمد بن إبراهيم آل الشيخ[ت1389هـ]
محمد الأمين الشنقيطي [ت1393هـ]، صاحب "أضواء البيان"
عبد الحق الهاشمي[ت1393هـ أو بعدها بقليل]
بديع الدين السندي[ت1416هـ]
الألباني حفظه الله، ومتع به بصحة وعافية.(1/93)
عبد العزيز بن باز حفظه الله، ومتع به بصحة وعافية.
محمد بن صالح بن عثيمين حفظه الله، ومتع به بصحة وعافية.
وفي مشايخنا و إخواننا وأصحابنا ومعارفنا جماعة كثيرة من طلبة العلم - أحسن الله ختامنا وختامهم - على طريقة أهل الحديث، فهي شعارهم، وهي دثارهم. غفر الله للجميع، ورزقنا وإياهم الثبات على الحق، وأحسن ختامنا عليه بمنه وكرمه.
التتمة الرابعة:
نسبة العالم إلى مذهب من المذاهب الفقهية لا تعني خروجه عن أهل الحديث، مادام بعيداً عن الهوى والتعصب، مقدماً للحديث والأثر، متفقهاً على ضؤ فهم السلف رضوان الله عليهم، فكل همه الاتباع.
ولذلك قال يحي بن محمد العنبري: "طبقات أصحاب الحديث جمة: المالكية، والشافعية، والحنبلية، والراهوية، والخزيمية أصحاب محمد بن خزيمة"( ).
وقد وصف ابن تيمية رحمه الله تعالى الأئمة الأربعة وأتباعهم بأنهم أئمة أهل الحديث، والتفسير والتصوف، والفقه( ).
ومراده بهذا من كان لا يتعصب و لا يتبع الهوى، من أتباع أئمة المذاهب، إنما حاله أنه تفقه على كلام إمامه، و يقدم كلامه على كلام غيره، ما دام لا يوجد دليل يجب المصير إليه، مع حرصه على الاتباع، وترك التعصب والتقليد.
ويساعدك على فهم هذا أن تتذكر أن أصولهم واحدة، ومناهجهم متقاربة، والأمر كله عندهم دائر على الاتباع، وترك الابتداع.
وقد يأتي في كلام ابن تيمية رحمه الله وغيره من أهل العلم المغايرة بين أهل الحديث والحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنبلية( )، فيُشعر أن أهل الحديث غير هؤلاء! وذلك لأن مراده في هذا السياق وأمثاله: أتباع المذاهب على طريقة أصحاب الرأي؛ من كان منهم لا يذكر إلا رأي متبوعه وأصحابه، وأعرض عن الكتاب والسنة، ووزن ما جاء به الكتاب والسنة، على رأي متبوعه، ككثير من أتباع أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد( ). فقد يجتمع في أتباع المذهب الواحد من هم على طريقة أهل الحديث، ومن هم على طريقة أصحاب الرأي.
التتمة الخامسة:(1/94)
وجود خطأ ما لدى العالم لا يعني خروجه عن أهل الحديث، و لا يبرر إخراجه عنهم؛ لأن كونه من أهل الحديث لا يعني عصمته من الوقوع في الخطأ والزلل. وقد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطأ بعضهم بعضاً، ونظر بعضهم في أقاويل بعض، وتعقبها!( ).
والأصل : أن ينظر في منهج العالم وطريقته في العلم؛ هل مبناها على تقديم الحديث والأثر والاتباع (التفقه في القرآن والسنة على ضؤ ما كان عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم)؛ فإن كان كذلك فهو من أهل الحديث، ويُرَد ما أخطأ فيه.
قال ابن تيمية رحمه الله: "فإن أهل الحق والسنة لا يكون متبوعهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي {لاينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}، فهو الذي يجب تصديقه في كل ما أخبر، وطاعته في كل ما أمر، وليست هذه المنزلة لغيره من الأئمة، بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن جعل شخصاً من الأشخاص غير رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحبه ووافقه كان من أهل السنة والجماعة، ومن خالفه كان من أهل البدعة والفرقة - كما يوجد ذلك في الطوائف من اتباع أئمة في الكلام في الدين وغير ذلك - كان من أهل البدع والضلال والتفرق( )"اهـ.
وبناء على هذا: لا يقال عن ابن حزم والنووي و ابن حجر ونحوهم من أهل العلم، الذين عرفت محبتهم للحديث، وحرصهم على الاتباع، لا يقال عنهم: إنهم ليسوا من أهل الحديث! بل هم من أهل الحديث، وخطؤهم مردود، وهم في اجتهاد فاتهم فيه أجر، وحصلوا فيه أجراً.
التتمة السادسة:
من المهم جداً عند طلب فقه إمام من هؤلاء الأئمة، وخاصة الصحابة رضوان الله عليهم، التنبه للأمور التالية:
... ... - صحة ذلك النقل عنه، من جهة ثبوته.
... ... - صحة الفهم عنهم، من جهة معناه.
... ... - التأكد من استقراره عليه، فلا يكون قولاً رجع عنه.(1/95)
... ... - التأكد من أنه ليس للإمام في المسألة قولان، وإلا نظر في مخرج القولين، هل هما في المحصلة مرجعهما إلى معنى واحد، أو هما قولان لا يمكن التوفيق بينهما فينظر في المتأخر منهما، فإن لم يمكن اعتمد الأقرب لأصول فقه الإمام ونظره من جهة الدليل.
التتمة السابعة:
ليس من شرط الفقيه من أهل الحديث أن يعرف بكثرة الكلام، والمسائل.
قال قوام السنة الأصبهاني رحمه الله: "وينبغي للمرء أن يحذر محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة. والسنة إنما هي التصديق لآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك معارضتها بـ كيف، ولِمَ.
والكلام والخصومات في الدين والجدال؛ محدث، وهو يوقع الشك في القلوب، ويمنع من معرفة الحق، الصواب.
وليس العلم بكثرة الرواية وإنما هو الاتباع والاستعمال؛ يقتدى بالصحابة والتابعين، وإن كان قليل العلم. ومن خالف الصحابة والتابعين فهو ضال، وإن كان كثير العلم"اهـ( ).
وقد ذكر ابن رجب رحمه الله موقف السلف من ذلك، فقال: "ومما أنكره أئمة السلف: الجدال، والخصام، والمراء في مسائل الحلال والحرام أيضاً، ولم يكن ذلك طريقة أئمة الإسلام( )، وإنما أحدث ذلك كما أحدثه فقهاء العراقين في مسائل الخلاف بين الشافعية والحنفية، وصنفوا كتب الخلاف ووسعوا البحث والجدال فيها. وكل ذلك محدث لا أصل له، وصار ذلك علمهم، حتى شغلهم عن العلم النافع".
ثم قال رحمه الله: "وقد ورد النهي عن كثرة المسائل وعن أغلوطات المسائل، وعن المسائل قبل وقوع الحوادث، وفي ذلك ما يطول ذكره.
ومع هذا ففي كلام السلف والأئمة كمالك والشافعي وأحمد وإسحاق؛ التنبيه على مأخذ الفقه، ومدارك الأحكام بكلام وجيز مختصر يُفهم به المقصود من غير إطالة ولا إسهاب.(1/96)
وفي كلامهم من ردّ الأقوال المخالفة للسنة بألطف إشارة وأحسن عبارة، بحيث يغني ذلك من فهمه عن إطالة المتكلمين في ذلك بعدهم. بل ربما لم يتضمن تطويل كلام من بعدهم من الصواب في ذلك ما تضمنه كلام السلف، والأئمة مع اختصاره وإيجازه.
فما سكت من سكت عن كثرة الخصام والجدال من سلف الأمة جهلاً و لا عجزاً، ولكن سكتوا عن علم وخشية لله.
وما تكلم من تكلم، وتوسّع من توسَّع بعدهم باختصاصه بعلم دونهم، ولكن حباً للكلام وقلة ورع. كما قال الحسن وسمع قوماً يتجادلون: هؤلاء قوم ملوا العبادة وخف عليهم القول، وقلّ ورعهم فتكلموا."اهـ( ).
ثم قال: "وقد فتن كثير من المتأخرين بهذا، وظنوا، من كثر كلامه، وجداله، وخصامه في مسائل الدين فهو أعلم ممن ليس كذلك! وهذا جهل محض؛ وانظر إلى أكابر الصحابة وعلمائهم كأبي بكر، وعمر، وعلي، ومعاذ، وابن مسعود، وزيد بن ثابت كيف كانوا؟ كلامهم أقل من كلام ابن عباس وهم أعلم منه.
وكذلك كلام التابعين أكثر من كلام الصحابة، والصحابة أعلم منهم.
وكذلك تابعوا التابعين كلامهم أكثر من كلام التابعين، والتابعون أعلم منهم.
فليس العلم بكثرة الرواية، ولا بكثرة المقال، ولكنه نور يقذف في القلب يفهم به العبد الحق، ويميز به بينه وبين الباطل، ويعبر عن ذلك بعبارات وجيزة محصلة للمقصد.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصاراً؛ ولهذا ورد النهي عن كثرة الكلام، والتوسع في القيل والقال. ...
فيجب أن يعتقد أنه ليس كل من كثر بسطه للقول، وكلامه في العلم كان أعلم ممن ليس كذلك.(1/97)
وقد ابتلينا بجهلة من الناس يعتقدون في بعض من توسع في القول من المتأخرين أنه أعلم ممن تقدم؛ فمنهم من يظن في شخص أنه أعلم من كل من تقدم من الصحابة ومن بعدهم لكثرة بيانه ومقاله. ومنهم من يقول هو أعلم من الفقهاء المشهورين المتبوعين؛ وهذا يلزم منه ما قبله؛ لأن هؤلاء الفقهاء المشهورين المتبوعين أكثر قولاً ممن كان قبلهم، فإذا كان من بعدهم أعلم منهم لاتساع قوله كان أعلم ممن كان أقل منهم قولاً بطريق الأولى، كالثوري والأوزاعي والليث وابن المبارك، وطبقتهم، ومن قبلهم من التابعين والصحابة أيضاً، فإن هؤلاء كلهم أقل كلاماً ممن جاء بعدهم!!
وهذا تنقص عظيم بالسلف الصالح، وإساءة ظن بهم، ونسبة لهم إلى الجهل، وقصور العلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقد صدق ابن مسعود في قوله في الصحابة: إنهم أبر قلوباً، وأعمقها علوماً، وأقلها تكلفاً.
وروي نحوه عن ابن عمر أيضاً.
وفي هذا إشارة إلى أن من بعدهم أقل علوماً وأكثر تكلفاً. وقال ابن مسعود أيضاً: إنكم في زمان كثير علماؤه، قليل خطباؤه، وسيأتي بعدكم زمان قليل علماؤه، كثير خطباؤه. فمن كثر علمه وقل قوله فهو الممدوح، ومن كان بالعكس فهو مذموم."اهـ( ).
وهذا آخر هذه التتمات على هذا المقصد، ولله الحمد والمنة.
المقصد الرابع : الذب عن أهل الحديث
[قد لهج بذم أصحاب الحديث صنفان: أهل الكلام، وأهل الرأي. فهم في كل وقت يقصدونهم بالثلب والعيب، وينسبونهم إلى الجهل وقلة العلم، واتباع السواد على البياض.
وقالوا: غثاء( )، وغثر( )، وزوامل أسفار.
وقالوا: أقاصيص وحكايات وأخبار، وربما قرأوا {كمثل الحمار يحمل أسفاراً} [الجمعة: 5].
وفي الحقيقة: ما ثلموا إلا دينهم. و لاسعوا إلا في هلاك أنفسهم.
وما للأساكفة( ) وصوغ الحلي، وصناعة البز؟!
وما للحدادين وتقليب العطر، والنظر في الجوهر؟! أما يكفيهم صدأ الحديد، ونفخ في الكير، وشواظ الذيل والوجه، وغبرة في الحدقة.(1/98)
وما لأهل الكلام ونقد حملة الأخبار؟! وما أحسن قول من قال:
عداوة غير ذي حسب ودين
ويرتع منك في عرض مصون
بلاء ليس يشبهه بلاء
ينيلك منه عرضاً لم يصنه
لكن الحق عزيز، وكل مع عزته يدعيه، ودعواهم الحق تحجبهم عن مراجعة الحق. نعم إن على الباطل ظلمة، وإن على الحق نوراً، و لا يبصر نور الحق إلا من حشي قلبه بالنور {ومن لم يجعل الله له نوراً فماله من نور} [النور: 40]، فالمتخبط في ظلمات الهوى والمتردي في مهاوي الهلكة، والمتعسف في المقال، لا يوفق للعود إلى الحق، ولا يرشد إلى طريق الهدى؛ ليظهر وعورة مسلكه، وعز جانبه، وتأبيه إلا على أهله {كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون} [الأنعام: 108].]( ).
ولمّا كان الثلب والعيب والتعيير لأهل الحديث، تارة يكون بتوجيه أسئلة يراد منها ادخال الشبه، والتشكيك فيما لديهم من الحق، وتارة من خلال نبزهم بألقاب منفرة، وتارة بالطعن في بعض الأفراد منهم، رأيت أن يكون الذب عن أهل الحديث من خلال المطالب الثلاثة التالية:
المطلب الأول: في جواب مسائل وشبهات.
المطلب الثاني: في دفع النبز بالألقاب.
المطلب الثالث: في الذب عن أفراد منهم.
وإليك - سلمك الله - البيان:
المطلب الأول: في جواب مسائل وشبهات.
هناك مجموعة من المسائل يحلو للكثير من أهل الكلام والرأي إثارتها، وشغل الناس بها عن الحق الذي مع أهل الحديث.
ومن ذلك :
قولهم: من أين علم أصحاب الحديث يقيناً أنهم على الحق؟(1/99)
والجواب عليه: إن أهل المقالات وإن اختلفوا ورأى كل صنف منهم أن الحق فيما دعى إليه فإنهم مجمعون لا يختلفون على أن من اعتصم بكتاب الله عزوجل، وتمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد استضاء بالنور، واستفتح باب الرشد وطلب الحق من مظانه. وليس يدفع أهل الحديث عن ذلك إلا ظالم؛ لأنهم لا يردون شيئاً من أمر الدين إلى استحسان و لا إلى قياس ونظر، ولا إلى كتب الفلاسفة المتقدمين و لا إلى أصحاب الكلام المتأخرين.
فإن اعترض معترض عليهم بأنه يقع في الروايات التي ينقلونها الخطأ والتناقض! فيرد عليه: بأنهم ميزوا الصحيح من السقيم، والصواب من الخطأ، فهم يأخذون بالصحيح الصواب، ويردون السقيم الخطأ من الروايات، وأمّا المتناقض من الأخبار فهذا يبحثونه وينفون عنه التناقض والاختلاف باعتبار قواعد وأصول في علم لديهم يُعرف بـ "علم مختلف الحديث ومشكله"، فأي حديث تظن فيه التناقض ارجع فيه إلى كتب هذا العلم تجد - إن شاء الله تعالى - برد اليقين، وطمأنينة الحق ونوره( ). وسيأتي مزيد بسط لهذا المعنى في جواب المسائل الآتية.
وقولهم: كيف يوصف أهل الحديث بأنهم أهل ائتلاف واتفاق، والواقع أنهم دائماً لمّا يتكلمون بما معهم يقع اختلاف وافتراق؟
والجواب عليه: أهل الحديث أهل اتفاق وائتلاف، لا ينكر ذلك من تأمل وتدبر( ). أمّا الاختلاف والافتراق الذي تراه حينما يتكلمون بما معهم من العلم فهذا ضرورة أن الحق يدفع الباطل، وأن الدلائل الواضحة تفضح الشبه الواهية.(1/100)
ولأمر ما كان من أسماء القرآن العظيم وأوصافه: "الفرقان"، {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً} [الفرقان:1]، وكان من أسماء معركة بدر الكبرى: "يوم الفرقان"، { وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان} [الأنفال: 41]. وكيف يكون تصحيح الخطأ وهداية الضال دون تغيير سبيل صاحبه الذي هو عليه، ودعوته إلى الحق، مما يستدعي حصول نوع من الاختلاف، والافتراق والمخالفة؟ فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا دعى قومه إلى الهدى والحق حصل ما حصل من الافتراق والاختلاف، وكان ذلك ضرورة الدعوة إلى الحق ونبذ الباطل، وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا.
وقولهم: إنكم سميتم أنفسكم أهل السنة، وما نراكم في ذلك إلا مدّعين؛ لأنا وجدنا كل فرقة من الفرق تنتحل اتباع السنة، وتنسب من خالفها إلى الهوى، وليس على أصحابكم منها سمة وعلامة أنهم أهلها دون من يخالفها من سائر الفرق، فكلها في انتحال هذا اللقب شركاء متكافئون، ولستم أولى بهذا اللقب إلا أن تأتوا بدلالة ظاهرة، من الكتاب والسنة، أو من إجماع أو معقول!
والجواب عليه: قال الله تبارك وتعالى: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} [النجم: 3ـ4].
قال حسان بن عطية (أحد التابعين من ثقات الشاميين): "كان جبريل عليه السلام، ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة، كما ينزل عليه بالقرآن، يعلمه إياها، كما يعلمه القرآن"( ).
قال العراقي رحمه الله: "وصف السنة بالإنزال صحيح؛ فقد كان ينزل بها كما ينزل بالقرآن، كما في الحديث الصحيح في الرجل الذي أحرم لعمرة وهو متضمخ بخلوق، فنزل الوحي في ذلك بالسنة الثابتة من قوله: "ما كنت صانعاً في حجك فاصنعه في عمرتك"( )، الحديث المشهور."( ).(1/101)
وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيت هذا الكتاب ومثله معه. ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه. ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، و لا كل ذي ناب من السباع، و لا لقطة معاهد، ألا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه". أخرجه أبوداود.
ولفظ الترمذي: "ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكيء على أريكته؛ فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالا استحللناه، وما وجدنا فيه حراماً حرمناه. وإن ما حرّم رسول الله كما حرّم الله"( ).
فالسنة مثل القرآن في وجوب العمل بها، ولزوم قبولها.
ومثل القرآن العظيم، لا يقدح في ثبوته، وجود المحكم والمتشابه، فمحكمه يؤمن به ويصدق به، ومتشابهه يُسَلَّم له ويُحْكَم بالمُحْكَم عليه. والسنة فيها محكم ومتشابه، يصدق بهما، ويحمل متشابهها على محكمها.
فالسنة توافق القرآن العظيم، وتبينه، وتستقل عنه بالتشريع.
قال تبارك وتعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} [النحل:44].
وقال تعالى: {وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر:7].
وقال تعالى: {ومن يطع الرسول فقد أطاع الله} [النساء:80].(1/102)
[ووجدنا أصحاب الحديث أطلب الناس لهذه السنة، وفيها أرغب، ولصحاحها أتبع. فعلمنا أنهم أهلها دون سائر الفرق؛ لأن مدّعي كل صناعة إذا لم يكن معه دلالة على صناعته يكون مبطلاً في دعواه، وإنما يستدل على صناعته بآلته في صنعته، فإذا لم يكن معه دلالة عليه من صناعته وآلة من آلاته، ثم ادّعى تلك الصناعة كان في دعواه عند العامة مبطلاً! وفي المعقول عندهم متجهلاً! فإذا كانت معه آلات الصناعات والحرف؛ شهدت له تلك الآلات بصناعتها، بل شهد له كل من عاينه قبل الاختبار، كما أنك إذا رأيت الرجل فتح باب دكانه على بز؛ علمت أنه بزاز، وإن لم تختبره، وإذا فتح على تمر علمت أنه تمار، وإذا فتح على عطر علمت أنه عطار، وإذا رأيت بين يديه الكير والسندان والمطرقة علمت أنه حداد، وإذا رأيت بين يديه الإبرة، والجلم [يعني:المقص] علمت أنه خياط، وكذلك صاحب كل صناعة، إنما يستدل على صناعته بآلته، فيحكم بالمعاينة من غير اختبار. ولو رأيت بين يدي نجار قدوماً ومنشاراً ومثقاباً، ثم سميته خياطاً؛ جُهِّلت، وإذا رأيت بنّاء معه آلة البنائين ثم سميته حداداً؛ جُهِّلت، وكذلك من معه الكير، والسندان، ومنفخ إذا سميته بزازاً أو عطاراً جُهِّلت، ولو قال صاحب التمر لصاحب العطر: أنا عطار، قال له: كذبت، بل أنا هو، وشهد له بذلك كل من أبصره من العامة.(1/103)
ثم كل صاحب صناعة وحرفة يفتخر بصناعته، ويستطيل بها، ويجالس أهلها، و لا يذمها. ووجدنا أصحاب الحديث رحمهم الله قديماً وحديثاً، هم الذين رحلوا في طلب هذه الآثار التي تدل على سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذوها من معادنها وجمعوها من مظانها، وحفظوها فاغتبطوا بها، ودعوا إلى اتباعها، وعابوا من خالفها فكثرت عندهم، وفي أيديهم، حتى اشتهروا بها، كما اشتهر البزاز ببزه، والتمار بتمره، والعطار بعطره، ثم رأينا قوماً انسلخوا من حفظها ومعرفتها، وتنكبوا أتباع أصحها وأشهرها، وطعنوا فيها، وفيمن أخذ بها، وزهدوا الناس في جمعها ونشرها، وضربوا الأمثال لها ولأهلها أسوأ الأمثال، فعلمنا بهذه الدلائل الظاهرة، والشواهد القائمة أن هؤلاء الراغبين فيها، وفي جمعها وحفظها، وأتباعها؛ أولى بها وأحق من سائر الفرق الذين تنكبوا أكثرها، وهي التي تحكم على أهل الأهواء بالأهواء؛ لأن الاتباع عند العلماء هو الأخذ بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي صحت عنه عند أهلها ونقلتها، وحفاظها، والخضوع لها، والتسليم لأمر النبي صلى الله عليه وسلم فيها تقليداً لمن أمر الله بتقليده، والائتمار بأمره، والانتهاء عما نهى عنه، ووجدنا أهل الأهواء الذين استبدوا بالآراء، والمعقولات بمعزل من الأحاديث والآثار التي هي طريق معرفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا الذي قلناه سمة ظاهرة وعلامة بينه تشهد لأهل السنة باستحقاقها، وعلى أهل الأهواء في تركها، والعدول عنها، ولا نحتاج في هذا إلى شاهد أبين من هذا، ولا إلى دليل أضوأ من هذا]( ).
فإن قالوا: إن لكل فريق من الأهواء وأصحاب الآراء حججاً من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتجون بها!(1/104)
قلنا: أجل ولكن يحتجون بقول التابعي على قول النبي صلى الله عليه وسلم، أو بحديث مرسل ضعيف على حديث متصل قوي، ومن هاهنا امتاز أهل اتباع السنة من غيرهم؛ لأن صاحب السنة لا يألوا أن يتبع من السنن أقواها، ومن الشهود عليها أعدلها وأتقاها، وصاحب الهوى كالغريق يتعلق بكل عود ضعيف أو قوي، فإذا رأيت الحاكم لا يقبل من الشهود إلا أعدلها وأنقاها كان ذلك منه شاهداً على عدالته، وإذا غمّض وقنع بأرداها كان ذلك دليلاً على جوره، وكان المتبع لا يتبع من الآثار إلا ماهو عند العلماء أقوى، وصاحب الهوى لا يتبع إلا ما يهوى، وإن كان عند العلماء أوهاها! وكل ذي حرفة وصناعة موسوم بصناعته، معروف بآلته، متى أعوزته الآلة زالت عنه آية الصناعة، وكذلك سمات أهل السنن والأهواء، وفي دون ما فسرنا ما يشفي، والأقل من هذا يكفي، من كان موفقاً، ولحقه عون من الله تعالى.
فإن قالوا: قد كثرت الآثار في أيدي الناس، واختلطت عليهم!(1/105)
قلنا: ما اختلطت إلا على الجاهلين بها، فأمّا العلماء بها فإنهم ينتقدونها انتقاد الجهابذة الدراهم والدنانير، فيميزون زيوفها، ويأخذون جيادها، ولئن دخل في غمار الرواة من وسم بالغلط في الأحاديث فلا يروح ذلك على جهابذة أصحاب الحديث، ورتوت العلماء( )، حتى إنهم عدّوا أغاليط من غلط في الأسانيد والمتون، بل تراهم يعدون على كل رجل منهم في كم حديث غلط، وفي كم حرف حرّف، وماذا صحف! فإذا لم يروج عليهم أغاليط الرواة في الأسانيد والمتون والحروف، فكيف يروج وضع الزنادقة وتوليدهم الأحاديث؟ وهو الذي يقول بعض الناس: إن بعض الزنادقة ادّعى أنه وضع ألوفاً من الأحاديث وخلطها بالأحاديث التي يرويها الناس، حتى خفيت على أهلها!! وما يقول هذا إلا جاهل ضال مبتدع كذاب، يريد أن يهجن بهذه الدعوى الكاذبة صحاح آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادقة؛ فيغلِّط جهّال الناس بهذه الدعوى( ). وما احتج مبتدع في ردّ آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجة هي أوهى منها، و لا أشد استحالة، فصاحب هذه الدعوى يستحق أن يسف في فيه الرماد، وينفى من بلاد الإسلام، فتدبر رحمك الله!(1/106)
أيجعل حكم من أفنى عمره في طلب آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم شرقاً وغرباً، وبراً وبحراً، وارتحل في طلب الحديث الواحد فراسخ، واتهم أباه، وأدناه في خبر يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم، إذا كان موضع التهمة ولم يحابه في مقال، ولا خطاب غضباً لله وحمية لدينه، ثم ألف الصحف والأجلاد في معرفة المحدثين وأسمائهم، وأنسابهم، وقد أعمالهم، وذكر أعصارهم، وشمائلهم وأخبارهم، وفصل الرديء والجيد، والصحيح والسقيم حنقاً لله ورسوله، وغيرة على الإسلام والسنة، ثم استعمل آثاره كلها حتى فيما عدا العبادات من أكله، وطعامه وشرابه، ونومه ويقظته، وقيامه وقعوده، ودخوله وخروجه، وجميع سيرته، وسننه حتى في خطواته، ولحظاته، ثم دعا الناس إلى ذلك، وحثهم عليه وندبهم إلى استعماله، وحبب إليهم ذلك بكل ما يمكنه حتى في بذل ماله، ونفسه؛ كمن أفنى عمره في اتباع أهوائه، وآرائه وخواطره، وهواجسه، ثم تراه يرد ما هو أوضح من الصبح من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهر من الشمس برأي دخيل، واستحسان ذميم، وظن فاسد، ونظر مشوب بالهوى؟
فانظر وفقك الله للحق؛ أي الفريقين أحق بأن ينسب إلى اتباع السنة، واستعمال الأثر الفرقة الأولى أم الثانية؟
فإذا قضيت بين هذين بوافر لبك، وصحيح نظرك، وثاقب فهمك فليكن شكرك لله على حسب ما أراك من الحق، ووفقك للصواب، وألهمك من السداد، واختصك به من إصابة الحسن في القول والعمل، فإذا كنت كذلك فقد ازددت يقيناً على يقين، وثلجاً على ثلج، وإصابة على أصابة، ومن الله التأييد والتسديد، والإلهام والإعلام، وهو حسب أهل السنة، وعليه توكلهم، ومنه معونتهم وتوفيقهم، ونصرتهم بمنه وفضله، وعميم كرمه.]( ).(1/107)
فإن قيل: إن أهل الفقه مجمعون على قول الفقهاء، وطريق كل واحد منهم في الفروع، وأهل النحو مجمعون على طريقة البصريين والكوفيين في النحو، وكذلك أهل الكلام مجمعون على طريق كل واحد منهم: من متقدميهم وسلفهم. فأمّا ما يرجع إلى العقائد فلم يجتمع أهل الإسلام على ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، بل كل فريق يدعي دينه وينتسب إلى ملته، ويقول: نحن الذين تمسكنا بملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتبعنا طريقته، ومن كان على غير مانحن عليه فهو مبتدع صاحب هوى! فلم يجز اعتبار تنازعنا فيه بما قلتم!!
فالجواب: إن كل فريق من المبتدعة، إنما يدّعي أن الذي يعتقده هو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كلهم يدّعون شريعة الإسلام، ملتزمون في الظاهر شعائرها، يرون أن ماجاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق. غير أن الطرق تفرقت بهم بعد ذلك. وأحدثوا في الدين مالم يأذن به الله ورسوله؛ فزعم كل فريق أنه هو المتمسك بشريعة الإسلام. وأن الحق الذي قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو الذي يعتقده وينتحله!! غير أن الله تعالى أبى أن يكون الحق والعقيدة الصحيحة إلا مع أهل الحديث والآثار؛ لأنهم أخذوا دينهم وعقائدهم خلفاً عن سلف، وقرناً عن قرن، إلى أن انتهوا إلى التابعين، وأخذه التابعون عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/108)
ولاطريق إلى معرفة ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس من الصراط المستقيم، والصراط القويم إلا هذا الطريق، الذي سلكه أصحاب الحديث. وأمّا سائر الفرق فطلبوا الدين لا بطريقه؛ لأنهم رجعوا إلى معقولهم، وخواطرهم، وآرائهم؛ فطلبوا الدين من قِبَله، فإذا سمعوا شيئاً من الكتاب والسنة عرضوه على معيار عقولهم، فإن استقام قبلوه، وإن لم يستقم في ميزان عقولهم ردوه، فإن اضطروا إلى قبوله حرّفوه بالتأويلات البعيدة، والمعاني المستنكرة؛ فحادوا عن الحق، وزاغوا عنه ونبذوا الدين وراء ظهورهم، وجعلوا السنة تحت أقدامهم، تعالى الله عما يصفون.
وأمّا أهل الحق فجعلوا الكتاب والسنة أمامهم، وطلبوا الدين من قبلهما، وما وقع لهم من معقولهم وخواطرهم، عرضوه على الكتاب والسنة. فإن وجدوه موافقاً لهما قبلوه، وشكروا الله عزوجل حيث أراهم ذلك ووقفهم عليه، وإن وجدوه مخالفاً لهما تركوا ماوقع لهم، واقبلوا على الكتاب والسنة، ورجعوا بالتهمة على أنفسهم، فإن الكتاب والسنة لا يهديان إلا إلى الحق. ورأي الإنسان قد يرى الحق، وقد يرى الباطل.
وهذا معنى قول أبي سليمان الداراني - وهو واحد زمانه في المعرفة -: "ما حدثتني نفسي بشيء إلا طلبت منه شاهدين من الكتاب والسنة، فإن اتى بهما وإلا رددته في نحره" أو كلام هذا معناه.(1/109)
ومما يدل على أن أهل الحديث هم على الحق: أنك لو طالعت جميع كتبهم المصنفة من أولهم إلى آخرهم، قديمهم وحديثهم، مع اختلاف بلدانهم وزمانهم، وتباعد ما بينهم في الديار، وسكون كل واحد منهم قطرا من الأقطار؛ وجدتهم في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة، ونمط واحد، يجرون فيه على طريقة لا يحيدون عنها، ولا يميلون فيها، قولهم في ذلك واحد، وفعلهم واحد، لا ترى بينهم اختلافاً ولا تفرقاً في شيء ما وإن قلْ. بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم نقلوه عن سلفهم، وجدته كأنه جاء من قلب واحد، وجرى على لسان واحد، وهل على الحق دليل أبين من هذا؟ قال الله تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} [النساء:82]. وقال تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولاتفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته إخواناً} [آل عمران:13].
وأمّا إذا نظرت إلى أهل الأهواء والبدع، رأيتهم متفرقين مختلفين، وشيعاً وأحزاباً، لا تكاد تجد اثنين منهم على طريقة واحدة في الاعتقاد، يبدع بعضهم بعضاً، بل يترقون إلى التكفير، يكفر الابن أباه، والرجل أخاه، والجار جاره. تراهم أبداً في تنازع وتباغض، واختلاف، تنقضي أعمارهم ولمّا تتفق كلماتهم، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى، ذلك بأنهم قوم لا يعقلون. أوَ ما سمعت أن المعتزلة مع اجتماعهم في هذا اللقب يكفر البغداديون منهم البصريين، والبصريون منهم البغداديين، ويكفر أصحاب أبي علي الجبائي ابنه أباهاشم، وأصحاب أبي هاشم يكفرون أباه أبا علي.
وكذلك سائر رؤوسهم وأرباب المقالات منهم إذا تدبرت أقوالهم رأيتهم متفرقين يكفر بعضهم بعضاً، ويتبرأ بعضهم من بعض.
وكذلك الخوارج والروافض فيما بينهم وسائر المبتدعة بمثابتهم. وهل على الباطل دليل أظهر من هذا، قال تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله} [الأنعام:159].(1/110)
وكان السبب في اتفاق أهل الحديث أنهم أخذوا الدين من الكتاب والسنة، وطريق النقل فأورثهم الاتفاق والايتلاف وأهل البدعة، أخذوا الدين من المعقولات، والآراء فأورثهم الافتراق والاختلاف، فإن النقل والرواية من الثقات والمتقنين قلّما يختلف. وإن اختلف في لفظ أو كلمة فذلك اختلاف لا يضر الدين ولايقدح فيه. وأمّا دلائل العقل فقلما يتفق، بل عقل كل واحد يرى صاحبه غير مايرى الآخر، وهذا بيِّن والحمد لله. وبهذا يظهر مفارقة الاختلاف في مذاهب الفروع اختلاف العقائد في الأصول.
فإنّا وجدنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي عنهم من بعده اختلفوا في أحكام الدين، فلم يفترقوا ولم يصيروا شيعاً؛ لأنهم لم يفارقوا الدين، ونظروا فيما اذن لهم [من اجتهاد إلى الرأي والاستنباط من الكتاب والسنة فيما لم يجدوا فيه نصاً]؛ فاختلفت أقوالهم وآراؤهم في مسائل كثيرة مثل مسألة الجد، والمشركة، وذوي الأرحام، ومسألة الحرام في أمهات الأولاد، وغير ذلك مما يكثر تعداده، من مسائل البيوع والنكاح والطلاق، وكذلك في مسائل كثيرة من باب الطهارة، وهيآت الصلاة، وسائر العبادات. فصاروا باختلافهم في هذه الأشياء محمودين وكان هذا النوع من الاختلاف رحمة من الله لهذه الأمة، حيث أيدهم باليقين، ثمّ وسع العلماء النظر فيما لم يجدوا حكمه في التنزيل والسنة، فكانوا مع هذا الاختلاف أهل الاختلاف أهل مودة ونصح، وبقيت بينهم أخوة الإسلام، ولم ينقطع عنهم نظام الألفة.
فلما حدثت هذه الأهواء المردية الداعية صاحبها إلى النار؛ ظهرت العداوة وتباينوا وصاروا أحزاباً، فانقطعت الأخوة في الدين وسقطت الألفة، فهذا يدل على أن هذا التباين والفرقة إنما حدثت من المسائل المحدثة التي ابتدعها الشيطان، فالقاها على أفواه أوليائه، ليختلفوا ويرمي بعضهم بعضاً بالكفر.(1/111)
فكل مسألة حدثت في الإسلام فخاض فيها الناس، فتفرقوا واختلفوا فلم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة، ولا بغضا ولاتفرقاً بينهم وبقيت الألفة والنصيحة والمودة والرحمة والشفقة، علمنا أن ذلك من مسائل الإسلام، يحل النظر فيها، والأخذ بقول من تلك الأقوال، لايوجب تبديعاً و لاتكفيراً كما ظهر مثل هذا الاختلاف بين الصحابة والتابعين، مع بقاء الألفة والمودة. وكل مسألة حدثت فاختلفوا فيها فأورث اختلافهم في ذلك التولي والإعراض والتدابر والتقاطع، وربما ارتقى إلى التكفير؛ علمت أن ذلك ليس من أمر الدين في شيء، بل يجب على كل ذي عقل أن يجتنبها، ويعرض عن الخوض فيها، لأن الله شرط تمسكنا بالإسلام أنا نصبح في ذلك إخواناً، فقال تعالى: {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً} [آل عمران:103].]( ).
قالوا: جعلتم أصل الدين هو الاتباع، ورددتم على من يرجع إلى المعقول، ويطلب الدين من قبله، وهذا خلاف الكتاب؛ لأن الله ذم التقليد في القرآن وندب الناس إلى النظر والاستدلال، والرجوع إلى الاعتبار، وإنما ورد السمع مؤيداً لما يدل عليه العقل، ومن تدبر القرآن ونظر معانيه وجد تصديق ما قلناه!
والجواب( ): قد دللنا فيما سبق أن الدين هو الاتباع، وذكرنا في بيانه ودلائله ما يجد به المؤمن شفاء الصدر، وطمأنينة القلب، بحمد الله ومنه.
وأمّا لفظ التقليد فلا نعرفه جاء في شيء من الأحاديث، وأقوال السلف فيما يرجع إلى الدين، وإنما ورد الكتاب والسنة بالاتباع.
وقد قالوا: إن التقليد إنما هو: قبول قول الغير من غير حجة.
وأهل السنة إنما تبعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله نفس الحجة.
فكيف يكون هذا قبول قول الغير من غير حجة؟!(1/112)
فإن المسلمين لهم الدلائل السمعية على نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما نقل إلينا أهل الإتقان والثقات من الرواة ما لا يعد كثرة من المعجزات، والبراهين، والدلالات التي ظهرت عليه، وقد نقلها أصحاب الحديث في كتبهم ودوّنوها. فلما صحت عندهم نبوته، ووجدوا صدقه في قلوبهم وجب عليهم تصديقه فيما أنبأهم من الغيوب، ودعاهم إليه من وحدانية الله، واثبات صفاته، وسائر شرائط الإسلام.
وعلى أنا لا ننكر النظر قدر ما ورد به الكتاب والسنة، لينال المؤمن بذلك زيادة اليقين، وثلج الصدر، وإنما أنكرنا طريقة أهل الكلام على ما أسسوا؛ فإنهم قالوا: أول ما يجب على الإنسان النظر المؤدي إلى معرفة الباري.
وهذا قول مخترع لم يسبقهم إليه أحد من السلف وأئمة الدين، ولو أنك تدبرت جميع أقوالهم، وكتبهم، لم تجد هذا في شيء منها، لا منقولاً من النبي صلى الله عليه وسلم، و لا من الصحابة رضي الله عنهم، وكذلك من التابعين بعدهم.
وكيف يجوز أن يخفى عليهم أول الفرائض وهم صدور هذه الأمة، والسفراء بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
ولئن جاز أن يخفى الفرض الأول على الصحابة والتابعين، حتى لم يبينوه لأحد من هذه الأمة، مع شدة اهتمامهم بأمر الدين، وكمال عنايتهم حتى استخرجه هؤلاء بلطيف فطنتهم في زعمهم، فلعله خفي عليهم فرائض أخر.
ولئن كان هذا جائزاً؛ فلقد ذهب الدين واندرس؛ لأنا إنما نبني أقوالنا على أقوالهم، فإذا ذهب الأصل فكيف يمكن البناء عليه؟ نعوذ بالله من قول يؤدي إلى هذه المقالة التي تؤدي إلى الانسلاخ من الدين، وتضليل الأئمة الماضين.
هذا وقد تواترت الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يدعو الكفار إلى الإسلام و الشهادتين.
قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: "ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله"( ).
و قال صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله"( ).(1/113)
ومثل هذا كثير، ولم يرو أنه دعاهم إلى النظر والاستدلال، وإنما يكون حكم الكافر في الشرع أنه يدعى إلى الإسلام، فإن أبى وسأل النظرة، والإمهال لإيجاب إلى ذلك، ولكنه إما أن يسلم، أو يعطي الجزية، أو يقتل. وفي المرتد: إما أن يسلم، أو يقتل. وفي مشركي العرب على ما عرف.
وإذا جعلنا الأمر على ما قاله أهل الكلام، لم يكن الأمر على هذا الوجه، ولكن ينبغي أن يقال له - يعني الكافر -: عليك النظر والاستدلال لتعرف الصانع بهذا الطريق، ثم تعرف الصفات بدلائلها وطرقها، ثم مسائل كثيرة إلى أن يصل الأمر إلى النبوات. ولا يجوز على طريقتهم الإقدام على هذا الكافر بالقتل والسبي إلا بعد أن يذكر له هذا، ويمهل؛ لأن النظر والاستدلال لا يكون إلا بمهلة، وخصوصاً إذا طلب الكافر ذلك، وربما لا يتفق النظر والاستدلال في مدة يسيرة، فيحتاج إلى إمهال الكفار مدة طويلة تأتي على سنين، ليتمكنوا من النظر على التمام والكمال؛ وهذا خلاف إجماع المسلمين.
وقد حكي عن أبي العباس بن سريج، أنه قال: لو أن رجلاً جاءنا، وقال: إن الأديان كثيرة، فخلوني انظر في الأديان، فما وجدت الحق فيه قبلته، وما لم أجد فيه تركته؛ لن نخله، وكلفناه الإجابة إلى الإسلام وإلا أوجبنا عليه القتل.(1/114)
وقد جعل أهل الكلام من تخلف عن الإسلام ناظراً فيه وفي غيره من الأديان؛ مقيماً على الطاعة محموداً في فعله! وهذا جهل عظيم في الإسلام؛ فينبغي على قولهم: إذا مات في مدة النظر والمهلة، قبل أن قبول الإسلام أنه مات مطيعاً لله تعالى، مقيماً على أمره، لابد من إدخاله الجنة، كما يدخل المسلمون؛ فقد جعلوا غير المسلم مطيعاً لله تعالى، مؤتمراً بأمره، محموداً في فعله، وأوجبوا إدخاله الجنة. وقد قال الله سبحانه وتعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين} [آل عمران:85]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة"( ). وهذا حديث ثابت لا شك فيه".
ومما يدل على صحة ما ذهبنا إليه، من أن الدين طريقه الاتباع: أنا إذا سلكنا طريق الإنصاف، وطرحنا المكابرات من جانب فلا بد من الانقياد لما قلناه؛ لأن المقصود في الابتداء إذا كان هو إصابة الحق؛ فليتدبر المرء الحق.
فليتدبر المرء المسلم المسترشد أحوال هؤلاء الناظرين كيف تحيّروا في نظرهم، وارتكسوا فيه. فلئن نجا واحد بنظره فقد هلك فيه الألوف من الناس، وإلى أن يبصر واحد فواحد بنظره طريق الحق، بنظر رحمة سبق من الله له، فقد ارتطم بطريق الكفر والضلالات والبدع بنظرهم أضعاف أضعاف عدد الأولين.(1/115)
وهل كانت الزندقة والإلحاد وسائر أنواع الكفر والضلالات والبدع منشؤها وابتداؤها إلا من النظر؟! فلو أنهم أعرضوا عن ذلك، وسلكوا طريق الاتباع ما أدّاهم إلى شيء منها. فما من هالك في العالم إلا وبدو هلاكه من النظر! وما من ناج في الدين سالك سبيل الحق إلا و بدو نجاته من حسن الاتباع! أفيستجيز مسلم أن يدعو الخلق إلى مثل هذا الطريق المظلم ويجعله سبيل منجاتهم؟ وكيف يستجيز ذو لب وبصيرة أن يسلك مثل هذا الطريق، وأنى له الأمان من هذه المهالك؟ وكيف له المنجاة من أودية الكفر، وعامتها بل جميعها، إنما يهبط عليها من هذه المرقاة؟ - أعني: طلب الحق من النظر - ، ولو أعطي الخصم النصفة لا يجد بداً من الإقرار أن من كان غوره في النظر أكثر كانت حيرته في الدين أشد، وأعظم.
وهل رأى أحد متكلماً أدّاه نظره وكلامه إلى تقوى في الدين، أو ورع في المعاملات، أو سداد في الطريقة، أو زهد في الدنيا، أو إمساك عن حرام وشبهة، أو خشوع في عبادة، أو ازدياد من طاعة إلا الشاذ النادر؟!
قل: لو قلبت القصة كنت صادقاً تراهم أبداً منهمكين في كل فاحشة، ملتبسين بكل قاذورة لا يرعوون عن قبيح، و لا يرتدعون من باطل إلا من عصمه الله. فلئن دلهم النظر على اليقين وحقيقة التوحيد؛ فليس ثمرة اليقين هذا، وتعساً لتوحيد أدّاهم إلى مثل هذه الأشياء، وأوردهم هذه المتالف في الدين، ومن الله التوفيق وحسن المعونة.]( ).
قال ابن تيمية رحمة الله عليه: "ومن العجب: أن أهل الكلام يزعمون أن أهل الحديث والسنة أهل تقليد ليسوا أهل نظر واستدلال، وأنهم ينكرون حجة العقل. وربما حكى إنكار النظر عن بعض أئمة السنة، وهذا مماينكرونه عليهم.(1/116)
فيقال لهم: ليس هذا بحق؛ فإن أهل السنة والحديث لا ينكرون ما جاء به القرآن، هذا أصل متفق عليه بينهم. والله قد أمرنا بالنظر والاعتبار والتفكر والتدبر في غير آية. و لا يعرف عن أحد من سلف الأمة و لا أئمة السنة وعلمائها: أنه أنكر ذلك، بل كلهم متفقون على الأمر بما جاءت به الشريعة، من النظر والتفكر والاعتبار والتدبر وغير ذلك، ولكن وقع اشتراك في لفظ "النظر" و "الاستدلال" ولفظ "الكلام"؛ فإنهم أنكروا ما ابتدعه المتكلمون من باطل نظرهم وكلامهم واستدلالهم، فاعتقدوا أن إنكارهم هذا مستلزم لإنكار جنس النظر والاستدلال.
وهذا كما أن طائفة من أهل الكلام يسمي ما وضعه: أصول الدين، وهذا اسم عظيم، والمسمى به فيه من فساد الدين ما الله به عليم، فإذا أنكر أهل الحق والسنة ذلك، قال المبطل: قد أنكروا أصول الدين! وهم لم ينكروا ما يستحق أن يسمى أصول الدين، وإنما أنكروا ما سماه هذا أصول الدين، وهي أسماء سموها هم وآباؤهم بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان، فالدين ما شرعه الله ورسوله، وقد بين أصوله وفروعه، ومن المحال أن يكون الرسول قد بين فروع الدين دون أصوله، ...، فهكذا لفظ "النظر، والاعتبار، والاستدلال".
وعامة هذه الضلالات إنما تطرق من لم يعتصم بالكتاب والسنة، كما كان الزهري يقول: "كان علماؤنا يقولون: الاعتصام بالسنة هو النجاة"، وقال مالك: "السنة سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق".(1/117)
وذلك أن السنة والشريعة والمنهاج: هو الصراط المستقيم، الذي يوصل العباد إلى الله. والرسول: هو الهادي الخِرِّيت في هذا الصراط، كما قال تعالى: {إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً} [الأحزاب:45-46]، وقال تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم: صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض، ألا إلى الله تصير الأمور} [الشورى:52-53]، وقال تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام:153]. وقال عبدالله بن مسعود: "خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً، وخط خطوطاً عن يمينه وشماله، ثم قال: هذا سبيل الله، وهذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه و لاتتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}"( ).
وإذا تأمل العاقل الذي يرجو لقاء الله هذا المثال، وتأمل سائر الطوائف من الخوارج، ثم المعتزلة، ثم الجهمية والرافضة، ومن أقرب منهم إلى السنة، من أهل الكلام، مثل الكرامية والكلابية والأشعرية وغيرهم، وأن كلا منهم له سبيل يخرج به عما عليه الصحابة وأهل الحديث، ويدعي أن سبيله هو الصواب؛ وجدت أنهم المراد بهذا المثال الذي ضربه المعصوم، الذي لا يتكلم عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.
والعجب أن من هؤلاء من يصرح بأن عقله إذا عارضه الحديث - لاسيما في أخبار الصفات - حمل الحديث على عقله، وصرح بتقديمه على الحديث، وجعل عقله ميزاناً للحديث، فليت شعري: هل عقله هذا كان مصرَّحاً بتقديمه في الشريعة المحمدية، فيكون السبيل المأمور باتباعه؟ أم هو عقل مبتدع جاهل ضال حائر خارج عن السبيل؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله"اهـ( ).
هذا آخر مسائلهم وبنقضها يتم هذا المطلب، ولله الحمد والمنة.
المطلب الثاني: في النبز بالألقاب.(1/118)
مما وقع فيه بعض الناس من أهل الكلام والرأي: نبز أهل الحديث بألقاب، على سبيل التنقص، والعيب؛ ففضحوا بذلك أنفسهم، وما عابوا أهل الحديث بشيء!
قال أبوحاتم الرازي رحمه الله: "علامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر.
وعلامة الزنادقة: تسميتهم أهل السنة حشوية، يريدون إبطال الآثار.
وعلامة الجهمية: تسميتهم أهل السنة مشبهة.
وعلامة القدرية: تسميتهم أهل الأثر مجبرة.
وعلامة المرجئة: تسميتهم أهل السنة مخالفة ونقصانية.
وعلامة الرافضة: تسميتهم أهل السنة ناصبة.
و لا يلحق أهل السنة إلا اسم واحد، ويستحيل أن تجمعهم هذه الأسماء"اهـ( ).
وقد قال بعض الناس عن أهل الحديث: إنهم أجهل الناس بما يحملون، وأبخس الناس حظاً فيما يطلبون، وقالوا:
بجيدها إلا كعلم الأباعر
زوامل للأشعار لا علم عندهم
أو راح مافي الغرائر( )
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا
فرد عليهم قولهم هذا، ابن قتيبة رحمه الله، فقال: "وأمّا طعنهم على [أهل الحديث] بقلة المعرفة لما يحملون، وكثرة اللحن والتصحيف؛ فإن الناس لا يتساوون جميعاً في المعرفة والفضل، وليس صنف من الناس إلا وله حشو وشوب. فأين هذا العائب لهم عن الزهري اعلم الناس بكل فن، وحماد بن سلمة ومالك بن أنس، وابن عون، وأيوب، ويونس بن عبيد، وسليمان التيمي، وسفيان الثوري، ويحي بن سعيد، وابن جريج، والأوزاعي، وشعبة، وعبدالله بن المبارك، وأمثال هؤلاء من المتقنين؟
على أن المنفرد بفن من الفنون لا يعاب بالزلل في غيره، وليس على المحدث عيب أن يزل في الإعراب، ولا على الفقيه أن يزل في الشعر، وإنما يجب على كل ذي علم أن يتقن فنه، إذا احتاج الناس إليه فيه، وانعقدت له الرئاسة به، وقد يجتمع للواحد علوم كثيرة، والله يؤتي الفضل من يشاء"اهـ( ).(1/119)
وقال رحمة الله عليه أيضاً: "و لا أعلم أحداً من أهل العلم والأدب، إلا وقد اسقط في علمه كالأصمعي، وأبي زيد، وأبي عبيدة، وسيبويه، والأخفش، والكسائي، والفراء، وأبي عمرو الشيباني، وكالأئمة من قراء القرآن، والأئمة من المفسرين. وقد أخذ الناس على الشعراء في الجاهلية والاسلام الخطأ في المعاني، وفي الإعراب، وهم أهل اللغة، وبهم يقع الاحتجاج؛ فهل أصحاب الحديث في سقطهم إلا كصنف من الناس؟ على أنا لا نخلي أكثرهم من العذل في كتبنا في تركهم الاشتغال بعلم ما قد كتبوا، والتفقه بما جمعوا، وتهافتهم على طلب الحديث من عشرة أوجه، وعشرين وجهاً، وقد كان في الوجه الواحد الصحيح، والوجهين مقنع لمن أراد الله عزوجل بعلمه حتى تنقضي أعمارهم ولم يحلّوا من ذلك إلا بأسفار أتعبت الطالب، ولم تنفع الوارث؛ فمن كان من هذه الطبقة فهو عندنا مضيع لحظه، مقبل على ما كان غيره انفع له منه، وقد لقبوهم بالحشوية والنابتة والمجبرة، وربما قالوا: الجبرية، وسموهم الغثاء ، والغثر، وهذه كلها أنباز لم يأت بها خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أتى عنه في القدرية، والخوارج، ونحوهم، فهذه أسماء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلك اسماء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلك أسماء مصنوعة...، والفطرة التي فطر الناس عليها والنظر يبطل ما قذفوهم به.
أمّا الفِطَر فإن رجلاً لو دخل المصر واستدل على القدرية فيه أو المرجئة لدله الصبي والكبير والمرأة العجوز والعامي والخاصي والحشوة والرعاع على المسمين بهذا الاسم! ولو استدل على أهل السنة لدلوه على أهل الحديث! ولو مرّت جماعة فيهم القدري والسني والرافضي والمرجيء والخارجي فقذف رجل القدرية أو لعنهم لم يكن المراد بالشتم أو اللعن عندهم؛ أصحاب الحديث! هذا أمر لا يدفعه دافع و لا ينكره منكر.(1/120)
وأمّا النظر فإنهم أضافوا القدر إلى أنفسهم وغيرهم يجعله لله تعالى دون نفسه، ومدعي الشيء لنفسه أولى بأن ينسب إليه ممن جعله لغيره!...، وبلغني أن رجلاً من أصحاب الكلام قال لرجل من أهل الذمة: ألا تسلم يا فلان؟ فقال: حتى يريد الله تعالى. فقال له: قد أراد الله، ولكن إبليس لا يدعك. فقال له الذمي: فأنا مع أقواهما"اهـ( ).
وقال ابن تيمية رحمه الله: "جميع أصول الكفر ... هي تكذيب الرسل أو مضاهاتهم... وهذه هي أصول البدع، التي نردها نحن، في هذا المقام؛ لأن المخالف للسنة يرد بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يعارض قول الرسول بما يجعله نظيراً له، من رأي أو كشف، أو نحو ذلك.
ثم قال بعد كلام قريب من كلام ابن قتيبة الآنف الذكر: وهؤلاء يعيبون منازعهم [يعني: يعيبون أهل الحديث بوصفهم حشوية]:
إما لجمعه حشو الحديث، من غير تمييز بين صحيحه وضعيفه، أو لكون اتباع الحديث في مسائل الأصول من مذهب الحشو؛ لأنها مسائل علمية، والحديث لا يفيد ذل؛ لأن اتباع النصوص مطلقاً في المباحث الأصولية الكلامية حشو!! لأن النصوص لا تفي بذلك، فالأمر راجع إلى أحد أمرين: إما ريب في الإسناد، أو في المتن.
[و] إما لأنهم يضيفون إلى الرسول مالم يعلم أنه قاله، كالأخبار الآحاد، ويجعلون مقتضاها العلم.
وإما لأنهم يجعلون ما فهموه من اللفظ معلوماً، وليس هو بمعلوم؛ لما في الأدلة اللفظية من الاحتمال!
و لا ريب أن هذا عمدة كل زنديق ومنافق، يبطل العلم بما بعث الله به رسوله. تارة يقول: لا نعلم أنهم قالوا ذلك. وتارة يقول: لا نعلم ما أرادوا بهذا القول.
ومتى انتفى العلم بقولهم، أو بمعناه؛ لم يستفد من جهتهم علم، فيتمكن بعد ذلك أن يقول ما يقول من المقالات، ومن أمن على نفسه أن يعرض بآثار الأنبياء؛ لأنه قد وكل ثغرها بذينك [الدامجين] الدافعين لجنود الرسول عنه، الطاعنين لمن احتج بها.(1/121)
وهذا القدر بعينه هو عين الطعن في نفس النبوة، وإن كان يقر بتعظيمهم وكمالهم، إقرار من لا يتلقى الوحي من جهتهم علماً فيكون الرسول عنده كمنزلة خليفة يعطى السكة والخطبة، رسماً ولفظاً، كتابة وقولاً، من غير أن يكون له أمر أو نهي مطاع، فله صورة الإمامة بما جعله له من السكة والخطبة، وليس له حقيقتها!!"اهـ( ).
المطلب الثالث: في الذب عن أفراد من أهل الحديث
اعلم يا أخي - وفقنا الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته - إن لحوم العلماء - رحمة الله عليهم - مسمومة، و(سنة) الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة؛ لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براء؛ أمره عظيم، والتناول لأعراضهم بالزور والافتراء مرتع وخيم، والاختلاق على من اختاره الله منهم لنعش العلم؛ خلق ذميم، والاقتداء بما مدح الله قول المتبعين من الاستغفار لمن سبقهم وصف كريم؛ إذ قال مثنياً عليهم في كتابه، وهو بمكارم الأخلاق وضدها عليم: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم} [الحشر:10]، والارتكاب لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الاغتياب، وسب الأموات جسيم. {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً، قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً، فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} [النور:63](1).
وسأقتصر هنا على الذب عن بعض أعلام أهل الحديث، ومعهم صحابي جليل، طعن فيهم بعض أصحاب الكلام والرأي.
فأولهم: الصحابي الجليل، حافظ أمة المسلمين لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو هريرة، عبدالرحمن بن صخر الدوسي.
قال بعضهم فيه: لم يكن أبو هريرة فقيهاً!
فنقم أهل العلم على هذا القائل كلمته(1).(1/122)
وجاءت شهادة الحق في أبي هريرة رضي الله عنه، فقال غير واحد من أهل العلم: "أبوهريرة فقيه، لم يعدم شيئاً من أسباب الاجتهاد، وقد أفتى في زمن الصحابة، ولم يكن يفتي في زمنهم إلا مجتهد، وروى عنه أكثر من ثمانمائة رجل، ما بين صحابي وتابعي، منهم ابن عباس وجابر وأنس، وهذا هو الصحيح"(2).
ولما جرى العلماء على ترجيح رواية الفقيه على غير المعروف بالفقه، جعلوا ذلك في باب التعارض والترجيح، ومحله إذا وجد خبران لم يمكن الجمع بينهما، و لا معرفة المتقدم من المتأخر، فهم لم يجعلوها قاعدة مطلقة. فهم لم يشترطوا في قبول خبر الراوي كونه موصوفاً بالفقه(3)، إنما اشترطوا الضبط، فلو أن راوياً فقيهاً خالف راوياً غير فقيه، ودلت القرائن على ضبط الراوي غير الفقيه، اعتمدت رواية غير الفقيه، وردّت رواية الفقيه، فالمدار عندهم على ضبط الراوي. وبناء عليه فلا وجه لرد الرواية بكون راويها غير فقيه، بله أن يكون راويها صحابياً.
واختم الذب عن أبي هريرة رضي الله عنه، بكلمة للإمام ابن خزيمة رحمه الله (ت311هـ)، نقلها تلميذه الحاكم النيسابوري رحمه الله (ت405هـ)، يقول ابن خزيمة رحمه الله: "وإنما يتكلم في أبي هريرة لدفع أخباره من قد أعمى الله قلوبهم؛ فلا يفهمون معاني الأخبار:
إما معطل جهمي يسمع أخباره التي يرويها خلاف مذهبهم الذي هو كفر، فيشتمون أباهريرة ويرمونه - بما الله تعالى قد نزهه عنه - تمويهاً على الرعاء والسفل: أن أخباره لا تثبت بها حجة.
وإما خارجي يرى السيف على أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولايرى طاعة خليفة ولا إمام إذا سمع أخبار أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلاف مذهبهم الذي هو ضلال لم يجد حيلة في دفع أخباره بحجة وبرهان؛ كان مفزعه الوقيعة في أبي هريرة.(1/123)
أو قدري اعتزل الإسلام وأهله، وكفّر أهل الإسلام الذين يتبعون الأقدار الماضية، التي قدرها الله تعالى، وقضاها قبل كسب العباد لها، إذا نظر إلى أخبار أبي هريرة التي قد رواها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في إثبات القدر، ولم يجد بحجة يريد صحة مقالته - التي هي كفر وشرك - كانت حجته عند نفسه: أن أخبار أبي هريرة لا يجوز الاحتجاج بها.
أو جاهل يتعاطى الفقه ويطلبه من غير مظانه إذا سمع أخبار أبي هريرة فيما يخالف مذهب من قد اجتبى مذهبه واخباره، تقليداً بلا حجة ولابرهان؛ كَلِم في أبي هريرة ودفع أخباره التي تخالف مذهبه، ويحتج بأخباره على مخالفته إذا كانت أخباره موافقة لمذهبه.
وقد أنكر بعض هذه الفرق على أبي هريرة أخباراً لم يفهموا معناها..."اهـ (1).
وثانيهم: أبو حنيفة رضي الله عنه، والذب عن أهل الحديث، في كلامهم عن أبي حنيفة رضي الله عنه.
اعلم أن أباحنيفة في أصله على طريقة أهل الحديث، ولكن كثر في كلامه الرأي والقياس على غير أصل صحيح، بسبب قلة الأحاديث التي وقف عليها بأسانيد صحيحة لفشو الكذب في الكوفة المدينة التي كان فيها. كما نقل عنه بعض المقالات البدعية التي أصاب فيها أجراً وفاته آخر، وبسبب هذين الأمرين تكلم فيه أهل الحديث. والرجل إمام أجمعت الأمة على إمامته، فلا تدخل نفسك في تلك المضايق.
ومما يدل على نبله وفضله وأنه رضي الله عنه على طريقة أهل الحديث في أصله، ما يلي: بلغ الطحاوي قول الشاعر:
فعليك إثم أبي حنيفة وزفر
إن كنت كاذبة بما حدثتني
فقال الطحاوي: "وددت أن لي أجرهما وحسناتهما وعلي إثمهما وسيئاتهما"(1).
وقال الحسن بن زياد اللؤلؤي وقال له رجل في زفر بن الهذيل: أكان ينظر في علم الكلام؟ فقال: "سبحان الله ما أحمقك ما أدركت مشيختنا زفر وأبا يوسف وأبا حنيفة ومن جالسنا وأخذنا عنه يهمهم غير الفقه والاقتداء بمن تقدمهم" (2).(1/124)
قال ابن المبارك رحمه الله: سمعت أبا حنيفة [رضي الله عنه] يقول: "إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نختار من أقوالهم، وإذا جاء عن التابعين زاحمناهم"(3) .
عن يحي بن آدم قال: سمعت الحسن بن صالح يقول: "كان أبوحنيفة النعمان بن ثابت فهماً متثبتاً؛ فإذا صح عنده الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعده إلى غيره"(4).
قال أبو عمر ابن عبدالبر النمري رحمه الله: "أفرط أصحاب الحديث في ذم أبي حنيفة وتجاوزوا الحد في ذلك! والسبب والموجب لذلك عندهم:
إدخاله الرأي والقياس على الآثار واعتبارهما. وأكثر أهل العلم يقولون: إذا صح الأثر بطل القياس والنظر، وكان رده لما ردّ من أخبار الآحاد بتأويل محتمل، وكثير منه قد تقدمه إليه غيره، وتابعه عليه مثله، ممن قال بالرأي، وجل ما يوجد له من ذلك ماكان منه اتباعاً لأهل بلده، كإبراهيم النخعي، وأصحاب ابن مسعود، إلا أنه أغرق وافرط في تنزيل النوازل هو وأصحابه والجواب فيها برأيهم واستحسانهم؛ فأتى منه من ذلك خلاف كبير للسلف، وشنع هي عند مخالفيهم بدع، وما أعلم أحداً من أهل العلم إلا وله تأويل في آية أو مذهب في سنة ردّ من أجل ذلك المذهب سنة أخرى، بتأويل سائغ أو ادعاء نسخ؛ إلا أن لأبي حنيفة من ذلك كثيراً وهو يوجد لغيره قليل.
وقد ذكر يحي بن سلام قال: سمعت عبدالله بن غانم في مجلس إبراهيم بن الأغلب يحدث عن الليث بن سعد أنه قال: أحصيت على مالك بن أنس سبعين مسألة كلها مخالفة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، مما قال مالك فيها برأيه. قال: ولقد كتبت إليه في ذلك.(1/125)
قال أبو عمر بن عبدالبر النمري: ليس لأحد من علماء الأمة يثبت حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرده دون ادعاء نسخ عليه بأثر مثله أو بإجماع، أو بعمل يجب على أصله الانقياد إليه، أو طعن في سنده، ولو فعل ذلك أحد سقطت عدالته فضلاً عن أن يتخذ إماماً، ولزمه إثم الفسق.
ونقموا أيضاً على أبي حنيفة الإرجاء (1)، ومن أهل العلم من ينسب إلى الإرجاء كثير، لم يعن أحد بنقل قبيح ما قيل فيه، كما عنوا بذلك في أبي حنيفة؛ لإمامته. وكان أيضاً مع هذا يحسد، وينسب إليه ما ليس فيه، ويختلق عليه ما لا يليق، وقد اثنى عليه جماعة من العلماء، وفضلوه.
ثم قال: الذين رووا عن أبي حنيفة ووثقوه وأثنوا عليه أكثر من الذين تكلموا فيه، والذين تكلموا فيه من أهل الحديث أكثر ما عابوا عليه الإغراق في الرأي والقياس، والإرجاء، وكان يقال: يستدل على نباهة الرجل من الماضين بتباين الناس فيه. قالوا: ألا ترى إلى علي بن أبي طالب أنه هلك فيه فتيان محب مفرط، ومبغض أفرط..."اهـ(2).
وقد وصف ابن تيمية رحمه الله تعالى الأئمة الأربعة وأتباعهم بأنهم أئمة أهل الحديث، والتفسير والتصوف، والفقه(1)؛ ومنهم أبوحنيفة بلا شك.
قال ابن عبدالهادي: "ولله تعالى الخيرة من خلقه، فهو يخلق ما يشاء ويختار، فاختار آدم وذريته على العالمين، ثم اختار منهم النبيين والمرسلين، ثم اختار من بينهم سيد ولد آدم أجمعين، ثم اختارله أصحاباً فضلهم على سائر المؤمنين، ثم اختار لهم ورثة وخلفاء جعلهم خير التابعين ، ورفع منهم أقواماً على من سواهم من العالمين، فمنهم الأئمة الأربعة، أئمة الإسلام، وسُرُج الأنام، الذين شهرت فتاواهم وأقوالهم في الآفاق، ووقع على إمامتهم من الناس الاتفاق، وطبّق ذكرهم البلاد والأمصار، وسار علمهم مسير الشمس في الأقطار، وما ذلك إلا لسرائر علمها منهم عالم خفيات الأسرار، ولله في خلقه خواص خصهم بها، وقدرها لهم، وكل شيء عنده بمقدار"اهـ (2).(1/126)
والعذر لأهل الحديث الذين تكلموا فيه أنهم أرادوا النصيحة للناس وخاصة اتباعه ومن يتعصب له، أن لا يقع في ما لديه من الخطأ، الذي هو - إن شاء الله تعالى - مغفور لأبي حنيفة، أصاب فيه أجراً وفاته آخر. وحال أبي حنيفة من هذه الجهة ينبغي أن لا تكون محل خلاف، كذلك ينبغي أن لا تكون مبرراً لأن يؤخذ بقوله الذي أخطأ فيه، وهذا ما قصده - إن شاء الله تعالى - أهل الحديث من تحذيرهم وكلامهم في ذلك. خاصة إذا تذكرت أن بعض من نقل عنه الطعن في أبي حنيفة من جهة ما لديه من الخطأ؛ نقل عنه الثناء على أبي حنيفة من جهة أخرى! كما نقل عن ابن عيينة الثناء على أبي حنيفة، ونقل عنه الطعن فيه.
قال المعلمي رحمه الله: "إذا علمنا أن ابن عيينة كان يطيب الثناء على أبي حنيفة؛ فإن ذلك يرشدنا إلى حمل تلك المقالة على معنى آخر أدنى إلى الصواب، مع ما فيه من الحكمة البالغة التي تهدينا إلى باب عظيم النفع في فهم ما ينقل عن أهل العلم من كلام بعضهم في بعض.
وحاصله: أن أكثر الناس مغرمون بتقليد من يعظم في نفوسهم والغلو في ذلك، حتى إذا قيل لهم: إنه غير معصوم عن الخطأ والدليل قائم على خلاف قوله في كذا؛ فدل ذلك على أنه أخطأ، ولا يحل لكم أن تتبعوه على ما أخطأ فيه. قالوا: هو أعلام منكم بالدليل، وأنتم أولى بالخطأ منه؛ فالظاهر أنه قد عرف ما يدفع دليلكم هذا. فإن زاد المنكرون فأظهروا حسن الثناء على ذلك المتبوع كان أشد لغلو متبعيه.
خطب عمار بن ياسر في أهل العراق قبل وقعة الجمل ليكفهم عن الخروج مع أم المؤمنين عائشة فقال: "والله إنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة ولكن الله تبارك وتعالى ابتلاكم ليعلم إياه تطيعون أم هي" أخرجه البخاري في (الصحيح) من طريق أبي مريم الأسدي عن عمار (1)، وأخرج نحوه من طريق أبي وائل عن عمار (2).(1/127)
قال المعلمي: فلم يؤثر هذا في كثير من الناس، بل روي أن بعضهم أجاب قائلاً: "فنحن مع من شهدت له بالجنة يا عمار".
فلهذا كان من أهل العلم والفضل من إذا رأى جماعة اتبعوا بعض الأفاضل في أمر يرى أن ليس لهم اتباعه فيه إما لأن حالهم غير حاله، وإما لأنه يراه أخطأ؛ أطلق كلمات يظهر منها الغض من ذاك الفاضل لكي يكف الناس عن الغلو فيه الحامل لهم على اتباعه فيما ليس لهم أن يتبعوه فيه. ...
وأنت إذا تدبرت تلك الكلمات وجدت لها مخارج مقبولة وإن كان ظاهرها التشنيع الشديد. وفي ترجمة الحسن بن صالح بن حي من "تهذيب التهذيب" كلمات قاسية أطلقها بعض الأئمة فيه مع ما عرف من فضله، وفيها: "قال أبو صالح الفراء: ذكرت ليوسف بن أسباط عن وكيع شيئاً من أمر الفتن. فقال: ذاك يشبه أستاذه يعني الحسن (بن صالح) بن حي. فقلت: ليوسف أما تخاف أن تكون هذه غيبة؟ قال: لِمَ يا أحمق؟ أنا خير لهؤلاء من آبائهم وأمهاتهم؛ أنا أنهى الناس أن يعملوا بما أحدثوا فتتبعهم أوزارهم، ومن أطراهم كان أضر عليهم".
قال المعلمي: والأئمة غير معصومين من الخطأ والغلط، وهم إن شاء الله تعالى معذورون مأجورون فيما أخطأوا فيه كما هو الشأن فيمن أخطأ بعد بذل الوسع في تحري الحق، لكن لا سبيل إلى القطع بأنه لم يقع منهم في بعض الفروع تقصير يؤاخذون عليه، أو تقصير زجر اتباعهم من الغلو في تقليدهم"اهـ(1).
قلت: فهذا عذر أهل الحديث فيما جاء عنهم رحمهم الله من كلام في أبي حنيفة النعمان عليه من الله الرحمة والرضوان.
وثالثهم: أحمد بن حنبل، رحمه الله، فقد قالوا عنه: محدث ليس بفقيه!
وقد كذب الله هذه المقولة؛ حيث أجمعت الأمة بعد أنه إمام من أئمة الهدى والفقه، بل نسب إليه مذهب من المذاهب الفقهية المتبوعة، وذهبت تلك المقولة أدراج الرياح.(1/128)
وكان ممن تصدى لرد هذه المقولة، والذب عن الإمام أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله: أبو الوفاء علي بن عقيل - رحمه الله - حيث قال: "ومن عجيب ما تسمعه عن هؤلاء الأحداث الجهال، أنهم يقولون: أحمد ليس بفقيه، لكنه محدث!!
وهذا غاية الجهل؛ لأنه قد خرج عنه اختيارات بناها على الأحاديث بناء لا يعرفه أكثرهم. وقد خرج عنه من دقيق الفقه ما ليس نراه لأحد منهم، وانفرد بما سلّموه له من الحفظ، وشاركهم وربما زاد على كبارهم"اهـ (1).
قلت: وهذه العبارة: "محدث ليس بفقيه" إن أريد بها مجرد الوصف بأنه من أهل الحديث، النابغين النابهين فيه، ولم يرتب على ذلك شيء من سلب نعت الفقه، فهذا لا اعتراض عليه؛ إذ الإمام رحمه الله من أئمة الحديث، المشهود له بالدراية وطول الباع فيه، شُهد له بذلك، وهذا - ولله الحمد - مما لا يختلف فيه اثنان و لا ينتطح فيه عنزان، على ما أحسب.
أما إذا أريد بهذه العبارة: إسقاط كلام الإمام - وغيره من أهل الحديث الذين قيلت فيهم هذه العبارة ونحوها - في فقه الحديث، وبيان معانيه واختياراته وترجيحاته في مسائل العلم، فهذا معنى منكر باطل، يرد عليه بما يلي:
يقال لهم: ما الفقه عندكم؟ إن أردتم بالفقه حفظ المسائل والمتون والخوض بالافتراضات، دون تأصيل ذلك على الدليل الصحيح؛ فهذا الفقه أهل الحديث من أبعد الناس عنه، بله إمامهم أحمد بن حنبل رحمه الله.
وإن أردتم بالفقه: الفهم والتفقه لنصوص الكتاب العزيز والسنة المطهرة على ضؤ فهم الصحابة رضوان الله عليهم وتابعيهم، دون تعصب لأحد، إلا للدليل، فنحن نطالب بدليل واحد على أن الإمام أحمد أو أحد من أهل الحديث لم يكن كذلك!
ثم هل القول عن إنسان ما: إنه فقيه! يعني: أن كل ما جاء به حق؟ والقول عن إنسان ما: إنه محدث! يعني: أن كل ما جاء به باطل؟ أو أن العبرة بالدليل، فمن كان معه الدليل الصحيح السالم عن المعارضة فهو على الحق، ومن لا فلا؟!(1/129)
وإذا كان الحق يُعرف بالدليل الصحيح السالم عن المعارضة؛ فما فائدة القول: فلان محدث ليس بفقيه؟ هل تغني عن الحق شيئاً؟
إن هذه الكلمة: محدث ليس بفقيه، بتلك المعاني الباطلة كلمة شيطانية، تجري على ألسنة بعض الناس فتقذف في القلوب الاستهانة بالحديث وأهله، وأن الفقيه يمكنه أن يستغني عن الحديث، وتصور الأمر وكأن هناك مشكلة بين الحديث وبين الفقه، وقديماً نعى الخطابي (ت388هـ) رحمه الله، على من ذهب هذا المذهب، وسلك هذا السبيل، فقال رحمه الله: "ورأيت أهل العلم في زماننا قد حصلوا حزبين، وانقسموا إلى فرقتين: أصحاب حديث وأثر، وأهل فقه ونظر. وكل واحدة منهما لا تتميز عن أختها في الحاجة، و لا تستغني عنها في درك ما تنحوه من البغية والإرادة، لأن الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل، والفقه بمنزلة البناء الذي هو له كالفرع، وكل بناء لم يوضع على قاعدة وأساس فهو منهار، وكل أساس خلا من بناء وعمارة فهو قفر وخراب.
ووجدت هذين الفريقين - على ما بينهم من التداني في المحلين، والتقارب في المنزلتين، وعموم الحاجة من بعضهم إلى بعض، وشمول الفاقة اللازمة لكل منهم إلى صاحبه -: إخواناً متهاجرين، وعلى سبيل الحق بلزوم التناصر والتعاون غير متظاهرين.
فأمّا هذه الطبقة، الذين هم أهل الأثر والحديث؛ فإن الأكثرين منهم إنما وكدهم الروايات وجمع الطرق، وطلب الغريب والشاذ من الحديث الذي أكثره موضوع أو مقلوب؛ لا يراعون المتون، و لا يتفهمون المعاني، و لا يستنبطون سيرها، و لا يستخرجون ركازها وفقهها، وربما عابوا الفقهاء، وتناولوهم بالطعن، وادعوا عليهم مخالفة السنن، و لا يعلمون أنهم عن ملغ ما أتوه من العلم قاصرون، وبسؤ القول فيهم آثمون.(1/130)
وأمّا الطبقة الأخرى - وهم أهل الفقه والنظر - فإن أكثرهم لا يعرجون من الحديث إلا على أقله، و لا يكادون يميزون صحيحه من سقيمه، و لا يعرفون جيده من رديئه، ولا يعبأون بما بلغهم منه أن يحتجوا به على خصومهم إذا وافق مذاهبهم التي ينتحلونها، ووافق آرائهم التي يعتقدونها. وقد اصطلحوا على مواضعة بينهم في قبول الخبر الضعيف والحديث المنقطع، إذا كان ذلك قد اشتهر عندهم وتعاورته الألسن فيما بينهم، من غير ثبت أو يقين علم به؛ فكان ذلك ضلة من الرأي وغبناً فيه.
وهؤلاء - وفقنا الله وإياهم - لو حكي لهم عن واحد من رؤساء مذاهبهم وزعماء نحلهم قول يقول باجتهاد من قبل نفسه: طلبوا فيه الثقة، واستبرؤا له العهدة، فتجد أصحاب مالك لا يعتمدون من مذهبه إلا ما كان من رواية ابن القاسم، والأشهب، وضربائهم، من تلاد أصحابه، فإذا جاءت رواية عبدالله بن عبدالحكم وأضرابه لم تكن عندهم طائلاً!
وترى أصحاب أبي حنيفة لا يقبلون من الرواية عنه إلا ما حكاه أبو يوسف ومحمد بن الحسن والعلية من أصحابه والأجلة من تلامذته. فإن جاءهم عن الحسن بن زياد اللؤلؤي وذويه رواية قول بخلافه لم يقبلوه ولم يعتمدوه.
وكذلك تجد أصحاب الشافعي إنما يعولون في مذهبه على رواية المزني والربيع وسليمان المرادي، فإذا جاءت رواية حرملة والجيزي وأمثالهما لم يلتفتوا إليها، ولم يعتدوا بها في أقاويله.
وعلى هذا عادة كل فرقة من العلماء في أحكام مذاهب أئمتهم وأساتيذهم.(1/131)
فإذا كان هذا دأبهم وكانوا لا يقنعون في أمر هذه الفروع وروايتها عن هؤلاء الشيوخ إلا بالوثيقة والثبت، فكيف يجوز لهم أن يتساهلوا في الأمر الأهم والخطب الأعظم؟ وأن يتواكلوا الرواية والنقل عن إمام الأئمة ورسول رب العزة: الواجب حكمه. اللازمة طاعته. الذي يجب علينا التسليم لحكمه، والانقياد لأمره، من حيث لا نجد في أنفسنا حرجاً مما قضاه، و لا في صدورنا غلاً من شيء مما أبرمه وأمضاه. أرأيتم إذا كان للرجل أن يتساهل في أمر نفسه، ويتسامح عن غرمائه في حقه، فيأخذ منهم الزيف، ويغضي لهم عن العيب؛ هل يجوز له أن يفعل ذلك في حق غيره إذا كان تائباً عنه، كولي الضعيف، ووصي اليتيم، ووكيل الغائب؟ وهل يكون ذلك منه إذا فعله إلا خيانة للعهد، وإخفاراً للذمة؟ فهذا هو ذاك. إما عيان حس وإما عيان مثل. ولكن أقواماً عساهم استوعروا طريق الحق، واستطالوا المدة في درك الحظ، وأحبوا عجالة النيل، فاختصروا طريق العلم، واقتصروا على نتف وحروف منتزعة عن معاني أصول الفقه، سموها عللاً، وجعلوها شعاراً لأنفسهم في الترسم برسم العلم، واتخذوها جُنة عند لقاء خصومهم، ونصبوها دريئة للخوض والجدال، يتناظرون بها ويتلاطمون عليها. وعند التصادر عنها قد حكم للغالب بالحذق والتبريز، فهو الفقيه المذكور في عصره، والرئيس المعظم في بلده ومصره.
هذا وقد دس لهم الشيطان حيلة لطيفة، وبلغ منهم مكيدة بليغة، فقال لهم: هذا الذي في أيديكم علم قصير، وبضاعة مزجاة، لا تفي بمبلغ الحاجة والكفاية، فاستعينوا عليه بالكلام، وصلوه بمقطعات منه، واستظهروا بأصول المتكلمين؛ يتسع لكم مذهب الخوض ومجال النظر! فصدق عليهم ظنه، وأطاعه كثير منهم واتبعوه، إلا فريقاً من المؤمنين.
فيا للرجال والعقول! أنّى يذهب بهم؟ وأنى يختدعهم الشيطان عن حظهم وموضع رشدهم؟! والله المستعان"اهـ (1).(1/132)
وبعد: هل يقال عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، أو عن أحد كبار أهل الحديث، أنه محدث ليس بفقيه؟ بل هل يتردد أحد في الجزم بأنه لا فقه بدون حديث، و لاحديث دون فقه؟ بل هل يقول أحد إن الإمام أحمد وكبار أهل الحديث لم يكونوا على منهج السلف الصالح في التفقه؟
لست أظن من يقف على ما ذكرت يتردد في وصف الإمام أحمد بالفقه، وأن الله جمع له بين نعت المحدث ونعت الفقيه، بل لا أتصور محدثاً لا يفقه شيئاً مما يرويه!
وقوله صلى الله عليه وسلم: "نضر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها ثم بلغها عني، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" (1)؛ ليس فيه أن أهل الحديث لا يفقهون ما يروونه من أخبار، غاية ما فيه أنه ليس من شرط التحمل والأداء الفقه، إنما شرطه الحفظ (2). ولا يفهم من هذا الحديث وجود محدث لا يفقه شيئاً؛ فإن غايته أنه قد يوجد محدث ينقل حديثاً لا يفقهه، أو لا يفقه بعض ما فيه من معاني، لكن ليس في الخبر أنه لا يفقه شيئاً. وفي استعمال: "رُبّ" التي تفيد التقليل ما يشعر أن عامة أهل الحديث يفقهون حديثهم إلا القليل منهم فقد لا يفقه بعضاً مما يرويه، لا أنه لا فقه لديه.
وقبل أن أضع القلم وأطوي الصفحة، طاوياً - بإذن الله تعالى - معها هذه المقولة الباطلة، أسطر هنا المهمّات التالية:
أولا: هذه المقولة أوّلها هفوة، وبدعة، وآخرها تحلل وزندقة. أمّا كونها بدعة؛ فلأننا لم نعهدها من السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين. أمّا كونها تحلل وزندقة فلأنها تجر إلى اطراح كلام أهل العلم جميعه، وبالتالي اسقاط الشرائع وتعطيل الأحكام على المسلمين العوام؛ فبقال مرّة: هذا الحكم قاله فلان وهو محدث ليس بفقيه، فلا يقبل. ويقال مرّة: هذا الحكم قاله فلان، وهو فقيه ليس بمحدث، فلا يقبل. والنتيجة التحلل عن أحكام الديانة! أعيذك وإياي بالله العظيم من ذلك.(1/133)
ثانياً: ليس من مقصودي إثبات العصمة لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا أقصد أن الإمام أحمد بن حنبل وغيره من أئمة الحديث وكبارهم معصومون في كل قول يقولونه ويختارونه، إنما مقصودي بالذب عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله فيما رمي به، والذب عن أهل الحديث من خلال ذلك، وبيان أن منهج الإمام أحمد في التفقه هو منهج أهل الحديث وهو منهج الأئمة والسلف الصالح رضوان الله عليهم، وقد قدّمت لك معالم منهج التفقه عند السلف الصالح، فانظر هل خرج الإمام عن سبيلهم، أو شاق في آية أو حديث؟
ثالثاً: وقوع القصور في التطبيق، وحصول الأخذ والرد بين أهل العلم، لا يسلب نعت الفقه عنهم. وينبني على هذا أن تعلم: أن وقوع بعض القصور في تطبيق هذا المنهج في التفقه عند الإمام أحمد بن حنبل أو غيره من أهل الحديث لا يسلم منه أحد من المتفقهين، ونحن لا ندعي العصمة لأحد غير الرسل صلوات الله وسلامه عليهم.
وكذا وقوع الأخذ والرد في بعض مسائل العلم التي أبرز فيها الإمام اختياره واستدل له، لا يعني سلب نعت الفقه عنه، إذ ذلك لم يسلم منه أحد من الأئمة، بله العلماء، بله طلبة العلم، وقد قال مالك بن أنس الأصبحي إمام دار الهجرة: "كل منا يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر".
وأخيراً لا يفوتني أن الفت نظر الإخوة أهل الحديث إلى النهوض بجمع اختيارات أهل الحديث الفقهية، وتصنيفها على الأبواب، مع توثيقها وخدمتها، إذ في ذلك إثراء للمكتبة الإسلامية، وإبراز لفقه أهل الحديث، وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.
ورابعهم: ابن تيمية شيخ الإسلام، رحمه الله.
فقد شنت عليه هجمة شرسة، وأوذي ورمي بفرى ردها الله عنه(1) .
وخامسهم: محمد بن عبدالوهاب النجدي، مجدد التوحيد، والعقيدة الصحيحة، شيخ الإسلام، رحمه الله.
فقد لقي من العنت والتشغيب الكثير. ورميت دعوته بالأكاذيب، فأبطلها الله، وكفى شرها (2) .(1/134)
وسادسهم: عبد العزيز بن عبدالله بن باز، حفظه الله ومتع بعمره، بصحة وعافية، وسلامة حال.
فقد رماه بعض الرعاع، بالتناقض. وقد كذب الله عزوجل هذا، والعلماء يشهدون أن الرجل ليس بالمتناقض وحاله كحال غيره من أهل العلم، يزداد علمه فيتراجع، كما يتراجع آخرون، بل تراجع الشافعي عن مذهبه بأكمله، فصار يعرف عنه أن له مذهبين: مذهب قديم، ومذهب جديد. والفتوى علم لا يعرف حقيقته إلا من يدخل فيها، وللمفتي عبارات تتضمن من دقائق الإشارات إلى أمور الفقه لا يتفطن لها إلا العالم. والحال في المسائل الاجتهادية التي يجد فيها لدى العالم المفتي علماً جديداً أن يقول فيها: تلك على ما أفتينا، وهذه على ما نفتي!
وسابعهم: أبوعبدالرحمن محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله، ومتع بعمره بصحة وعافية وراحة بال، وسلامة حال.
وهذا الرجل هو شيخ الحديث في هذا العصر، يلقب بمحدث الشام، ولو قيل: محدث الدنيا، لاستحق ذلك، و لا أزكي على الله أحداً.
وخلاصة ما رموه به أن قالوا عنه:
- محدِّث ليس بفقيه.
- لا علم له بالأصول.
- لا شيوخ له.
- شاذ متفرد مخالف لما عليه الناس.
- لا يحترم العلماء و لا يعرف قدرهم.
- ظاهري المذهب.
- متساهل في التصحيح.
- متناقض في أحكامه على الحديث.
- لا يهتم بنقد المتن.
وهذه الأمور هي في الغالب ما يرمى به أهل الحديث في كل عصر، وقد رأيت عرضها وردّها، ذباً ودفاعاً عنهم.
أمّا قولهم: محدث ليس بفقيه؛ فقد سبق ردّ هذه المقولة، وبيان بطلانها عند الذب عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله.
وما ذكرناه هناك هو الرد على كل من يريد سلب نعت الفقه عن رجل من علماء أهل الحديث، في كل زمن، والله المستعان.
أمّا قولهم: لا علم له بالأصول. فهذه دعوى أين الدليل عليها؟ والواقع في كتب الشيخ خلافها.(1/135)
بل المعروف من سيرة الشيخ - حفظه الله - أنه كان يعقد درسين كل أسبوع يحضرهما طلبة العلم، وبعض أساتذة الجامعات، ومن الكتب التي درّسها في حلقاته العلمية: كتاب أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف.
وهذه التهمة - وهي نفي العلم بأصول الفقه - قد يلوكها بعضهم في الطعن على أهل الحديث، فيرميهم بها وإلى هؤلاء أقول: من المهم التنبه هنا إلى الأمور التالية:
1ـ أن السنة النبوية هي دلائل القرآن، كما قال الإمام أحمد بن حنبل في رسالته في السنة، رواية عبدوس. فكل حكم في القرآن تدل عليه السنة، وتبينه وتدل على المراد منه. وبها يتوصل إلى معرفة المراد.
2ـ أن علم الأصول مبني على دلالات القرآن العظيم والسنة والنبوية، بحسب اللسان العربي، مع مراعاة عرف زمن التشريع، والدراية بملابسات التشريع، وهذا الأمر سلم للصحابة، لا يشاركهم في معرفته والاطلاع عليه غيرهم، و لا طريق للوصول إليه إلا عن طريقهم.
إذا تقرر هذا فاعلم أن أهل الحديث هم أسعد الناس بكل ذلك، فلا أحد أعلم منهم بما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم. و لا أحد أعلم منهم بما جاء عن الصحابة رضوان الله عليهم. فهم في الحقيقة أهل الأصول، ومن منهجهم جعل نصوص القرآن والسنة أصلاً يبنون عليه، وهل سعي علماء الأصول إلا إلى هذا؟
ومنه تعلم علماء أهل الحديث هم علماء الأصول الشرعية، وقواعد الاستنباط، من خلال اتباعهم لما جاء عن الصحابة والتابعين.
أمّا قولهم: لا شيوخ له. فهذه كلمة عجلى؛ فإن الشيخ الألباني درس على والده بعض علوم الآلة كعلم الصرف، ودرس عليه أيضاً من كتب الفقه الحنفي: "مختصر القدوري"، وتلقى منه قراءة القرآن الكريم، وختمه عليه بقراءة حفص تجويداً.
ودرس على الشيخ سعيد البرهاني : "مراقي الفلاح" في الفقه الحنفي، و "شذور الذهب" في النحو، وبعض كتب البلاغة.(1/136)
وكان يحضر ندوات العلامة الشيخ محمد بهجت البيطار - رحمه الله - مع بعض أساتذة المجمع العلمي بدمشق، منهم: "عز الدين التنوخي" رحمه الله، إذ كانوا يقرأون "الحماسة" لأبي تمام(1).
والتقى الألباني - وهو في مقتبل العمر - بالشيخ محمد راغب الطباخ - رحمه الله - وقد أظهر الشيخ الطباخ إعجابه بالألباني، وقدّم إليه ثبته: "الأنوار الجلية في مختصر الأثبات الحنبلية".
فإذا علمت هذا؛ ظهر لك مدى ما يحمله قولهم: "لاشيوخ له" من مخالفة للواقع.
و لا يضر الشيخ قلة شيوخه (2).
ثم إني أتساءل: هل العلم لا يحصل إلا عن طريق التلقي عن الشيوخ؟ فإذا لم يكن لمريد العلم شيوخ لم يحصل علماً!
كم من عالم نهض بعلمه وعلّم وأحيا السنن وأمات الله على يديه البدع، ولم يكن له إلا الشيخ بعد الشيخ، فقد اعتمد في تحصيله على توفيق الله عزوجل له، ثم جهده الشخصي واجتهاده.
لست بهذا أنكر أن الأخذ عن الشيوخ من طرق التحصيل، - وليس لي و لا لغيري هذا - بل الأخذ عن الشيوخ من أهم طرق التحصيل في البدايات، ولكني أنكر حصر تحصيل العلم في الأخذ عن الشيوخ فقط!
أين الفهم؟
أين القراءة، والبحث، والنظر، والاجتهاد العصامي، في التحصيل؟
قال بعض الحكماء: "لن يصان العلم بمثل بذله ولن تكافأ النعمة فيه بمثل نشره. وقراءة الكتب أبلغ في إرشاد المسترشد من ملاقاة واضعيها؛ إذ كان مع التلاقي يقوى التصنع ويكثر التظالم، وتفرط النصرة، وتشتد الحمية، وعند المواجهة يملك حب الغلبة وشهوة المباهاة والرياسة مع الاستحياء من الرجوع والأنفة من الخضوع، وعن جميع ذلك يحدث التضاغن والتباين.
وإذا كانت القلوب على هذه الصفة امتنعت من المعرفة، وعميت عن الدلالة، وليست في الكتب علة تمنع من درك البغية وإصابة الحجة؛ لأن المتوحد بقراءتها، والمتفرد بعلم معانيها، لا يباهي نفسه، و لا يغالب عقله. والكتاب قد يفضل صاحبه، ويرجح على واضعه بأمور:(1/137)
إن الكتاب يُقرأ بكل مكان، ويظهر ما فيه على كل لسان، وموجود في كل زمان، مع تفاوت الأعصار، وبعد ما بين الأمصار، وذلك أمر مستحيل في واضع الكتاب، والمنزع بالمسألة والجواب.
وقد يذهب العالم وتبقى كتبه، ويفنى العقل ويبقى أثره. ولولا ما رسمت لنا الأوائل في كتبها، وخلّدت من فنون حكمها، ودونت من أنواع سيرها، حتى شاهدنا بذلك ما غاب عنا، وأدركنا به ما بعد منا، وجمعنا إلى كثيرهم قليلنا، وإلى جليلهم يسيرنا، وعرفنا مالم نكن لنعرفه إلا بهم، وبلغنا الأمد الأقصى بقريب رسومهم؛ إذا (1) لحسر طلاب الحكمة، وانقطاع سببهم عن المعرفة.
ولو ألجينا إلى مدى قوتنا ومبلغ ما تقدر على حفظه خواطرنا، وتركنا مع منتهى تجاربنا، لما أركته حواسنا وشاهدته نفوسنا، لقلت (2) المعرفة، وقصرت الهمة، وضعفت المنة، وماتت الخواطر، وتبلد العقل، ونقص العلم، فكان ما دوّنوه في كتبهم أكثر نفعاً، وما تكلفوه من ذلك أحسن موقعاً، ويجب الاقتفاء لآثارهم، والاستضاءة بأنوارهم؛ فإن المرء مع من أحب، وله أجر ما احتسب"اهـ (1).
فانظر - سلمك الله - مكانة الكتب، وما تنقله إلينا من العلم، فهل يقول قائل: لا طريق للعلم إلا التلقي عن المشايخ!
ولأمر ما كان أوّل ما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} [العلق:1] فبدأ التنزيل باقرأ، والقراءة من كتاب، وكفى بنفسك عليك بصيرة.
ولمّا قرر الشاطبي رحمه الله أن: "من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقق به: أخذه عن أهله المتحققين به على الكمال والتمام"؛ لمّا قرر هذا قال: "وإذا ثبت أنه لا بد من أخذ العلم عن أهله، فلذلك طريقان:
أحدهما: المشافهة. وهي أنفع الطريقين وأسلمهما"
ثم قال: "الطريق الثاني: مطالعة كتب المصنفين، ومدوني الدواوين، وهو أيضاً نافع في بابه بشرطين:(1/138)
... الأول: أن يحصل له من فهم مقاصد ذلك العلم المطلوب، ومعرفة اصطلاحات أهله، ما يتم له به النظر في الكتب، وذلك يحصل بالطريق الأوّل من مشافهة العلماء، أو هو راجع إليه، وهو معنى قول من قال: "كان العلم في صدور الرجال، ثم انتقل إلى الكتب، ومفاتحه بأيدي الرجال". والكتب وحدها لا تفيد الطالب منها دون فتح العلماء، وهو مشاهد معتاد.
... والشرط الثاني: أن يتحرى كتب المتقدمين من أهل العلم المراد، فإنهم أقعد به من غيرهم من المتأخرين..."اهـ (1).
قلت: فأنت ترى أن الشاطبي رحمة الله عليه، جعل الأخذ عن الكتب من طرق تحصيل العلم، ولم يحصر أخذ العلم على المشايخ فقط. نعم الأخذ عن الكتب يكون بالشرطين الذين ذكرهما، وهذا لا يحتاج إلى كثير شيوخ.
على أن قول القائل: لا شيوخ له، لا يغني من الحق شيئاً، إذ ليس ما يقوله مَن تلقى علمه عن المشايخ حق بأجمعه، و لا كل ما يقوله من لم يتلق علمه على المشايخ باطل بأجمعه، وإنما المدار على الدليل، فما كان من القول موافقاً للدليل وأسعد به كان الحق معه، وما لا فلا، فافهم.
وقولهم: "من كان شيخه كتابه كثر خطأوه على صوابه"؛ محله فيما كان من العلم طريقه السماع والرواية، كضبط القرآن العظيم، وقراءته، وضبط الروايات الحديثية، وأسماء الأعلام، والبقاع. أمّا ماكان من باب النظر والاستنباط والاستدلال، فهذا لا يقال فيه ذلك.
أما قولهم: شاذ متفرد مخالف لما عليه الناس؛ فهذه دعوى متهافتة.
إنما أهل الحديث والألباني منهم - ولا أزكي على الله أحداً - من الغرباء، الذين يحيون ما أمات الناس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقولهم: "تفرد فلان بكذا" لا ينفي عنه الفقه، و لا ينسبه إلى الشذوذ.(1/139)
قال أبومحمد بن حزم رحمة الله عليه: "إن حدّ الشذوذ هو مخالفة الحق، فكل من خالف الصواب في مسألة ما فهو فيها شاذ، وسواء كانوا أهل الأرض كلهم بأسرهم أو بعضهم. والجماعة والجملة هم أهل الحق، ولو لم يكن في الأرض منهم إلا واحد، فهو الجماعة، وهو الجملة. وقد اسلم أبوبكر وخديجة رضي الله عنهما فقط، فكانا هما الجماعة، وكان سائر أهل الأرض غيرهما وغير الرسول صلى الله عليه وسلم أهل شذوذ وفرقة.
وهذا الذي قلنا فيه بين العلماء، وكل من خالف فهو راجع إليه، ومقر به، شاء أو أبى. والحق هو الأصل الذي قامت السموات والأرض به، قال الله تعالى: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل} [الحجر:85]؛ فإذا كان الحق هو الأصل، فالباطل خروج عنه، وشذوذ منه، فلمّا لم يجز أن يكون الحق شذوذاً، وليس إلا حق أو باطل؛ صح أن الشذوذ هو الباطل. وهذا تقسيم أدلة ضروري وبرهان قاطع كاف، ولله الحمد"اهـ (1) .
فليس الشذوذ مخالفة الواحد من العلماء لجماعة منهم.
وليس الشذوذ مخالفة ما جرى عليه العمل، أو شاع بين الناس.
فكم من مسألة انفرد فيها قول أبي حنيفة رحمه الله! وكم من مسألة انفرد فيها قول مالك رحمه الله! وكم من مسألة انفرد فيها قول الشافعي رحمه الله! وكم من مسألة انفرد فيها قول أحمد رحمه الله! (1)، وما عُدّ ذلك عيباً في حقهم، ولا منقصاً من قدرهم، و لا سالباً نعت الفقه عنهم، و لا مانعاً له، و لا داعياً إلى نسبتهم - رحمة الله عليهم - إلى الشذوذ والتفرد!
وكيف يوصف بالشذوذ من جرّد المتابعة للمعصوم صلى الله عليه وسلم؟!
وهؤلاء أئمة المذاهب الفقهية ما منهم إلا أخذت عليه مسائل قال بعض العلماء: إنه خالف فيها السنة! (2)ومع ذلك لم يقل أحد من أهل العلم عنهم: إنهم شذوا أو تفردوا.(1/140)
فهذا الحافظ أبوبكر بن أبي شيبة (ت235هـ)، يصنف كتاب: "الرد على أبي حنيفة" يصدره بقوله: "هذا ما خالف به أبوحنيفة الأثر الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"اهـ (3).
وهذا الليث بن سعد رحمه الله، يقول: "أحصيت على مالك بن أنس سبعين مسألة كلها مخالفة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، مما قال مالك فيها برأيه. قال الليث: ولقد كتبت إليه في ذلك"اهـ (1).
وكذا الإمام الشافعي، والإمام أحمد بن حنبل رحمهما الله (2) .
وهؤلاء الأئمة لهم عذرهم في هذه المخالفة، وقد بسط الأئمة عذرهم في ذلك، كما تراه في كتاب "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" لأحمد بن عبد الحليم ابن تيمية رحمه الله.
وقال ابن عبدالبر رحمه الله: "ليس لأحد من علماء الأمة أن يثبت حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يرده دون ادعاء نسخ عليه بأثر مثله، أو بإجماع، أو بعمل يجب على أصله الانقياد إليه، أو طعن في السند. ولو فعل ذلك أحد سقطت عدالته، فضلاً عن أن يتخذ إماماً، ولزمه إثم الفسق"اهـ (3).
والمقصود أن مخالفتهم للسنة في هذه المسائل لم تسقط عنهم وصف الفقه، فما بالك بمخالفة ما عليه الناس! هل يقال عمن يخالف ما عليه الناس ويتبع في ذلك ما ظهر له من الدليل: ليس بفقيه، شاذ متفرد؟!
ثم متى كان جريان عمل الناس على شيء حجة مطلقة في شرع الله ترد من أجله النصوص؟
لله ما اصدق الكلمة التي نقلها محمد بن وضاح رحمه الله عن بعض من مضى أنه قال : "كم من أمر هو اليوم معروف عند كثير من الناس كان منكراً عند من مضى.
وكم من متحبب إلى الله تعالى بما يبغضه الله.
ومتقرب إلى الله بما يبعده الله منه.
وكل بدعة عليها زينة وبهجة"اهـ (1).
زمن صار فيه المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، وإذا غُيِّر قيل: غُيرت السنة!!
أما تستحي يارجل! ترد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتدفع في صدره، وتقدم عليه عمل الناس! وتقول: هذا حديث شاذ ليس عليه العمل!!(1/141)
هل يصير الحديث شاذاً لأنك لم تعلم من عمل به؟
هل يصير الحديث شاذاً لأن عمل الناس جرى على خلافه؟
هل تلتزم بهذا فلا تعمل بحديث حتى ترى الناس يعملون به؟
قال الشافعي رحمه الله: "أخبرنا سفيان وعبد الوهاب عن يحي بن سعيد عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب قضى في الإبهام بخمس عشرة، وفي التي تليها بعشر، وفي الوسطى بعشرٍ، وفي التي تلي الخنصر بتسعٍ، وفي الخنصر بستٍ.
قال الشافعي: لمّا كان معروفاً - والله أعلم - عند عمر أن النبي قضى في اليد بخمسين، وكانت اليد خمسة أطراف مختلفة الجمال والمنافع: نزلها منازلها، فحكم لكل واحد من الأطراف بقدره من دية الكف، فهذا قياس الخبر (1).
فلمّا وجدنا كتاب آل عمرو بن حزم، فيه: أن رسول الله قال: "وفي كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل"؛ صاروا إليه. ولم يقبلوا كتاب آل عمرو بن حزم - والله أعلم - حتى ثبت لهم أنه كتاب رسول الله.
وفي الحديث دلالتان:
أحدهما: قبول الخبر. والآخر: أن يقبل الخبر في الوقت الذي يثبت فيه، وإن لم يمضي عمل من الأئمة بمثل الخبر الذي قبلوا"اهـ (2).
وقال أبوبكر الطرطوشي رحمه الله: "شيوعة الفعل وانتشاره لا يدل على جوازه، كما أن كتمه لا يدل على منعه. ألا ترى أن بيع الباقلاء في قشره شائع في أقطار أهل الإسلام، وهو عند الشافعي لا يجوز! والاستئجار على الحج سائغ في أقطار أهل الإسلام وعند أبي حنيفة لا يجوز! واقتعاظ العمامة شائع في أهل الإسلام، وهو بدعة منكرة! والاقتعاظ هو التعميم دون الحنك...
وأكثر أفعال أهل زمانك على غير السنة، وكيف لا؟ وقد روّينا قول أبي الدرداء، إذ دخل على أم الدرداء مغاضباً فقالت له: مالك؟ فقال: والله ما أعرف منهم شيئاً من أمر محمد عليه الصلاة والسلام إلا أنهم يصلون جميعاً"اهـ (1).
قلت: هذه شكوى أبي الدرداء في زمانه، وهذه شكوى أبي بكر الطرطوشي في زمانه، فما بالك في زماننا؟ هل تجعل عمل الناس فيه حجة ترد بها الأحاديث؟(1/142)
أي ذنب لأهل الحديث - والألباني منهم - إذا وقفوا على حديث ظهرت لهم صحته، ولم يظهر له معارض معتبر، فعملوا به، ودعوا الناس إلى العمل على إحياء هذه السنة التي تضمنها هذا الحديث.
سبحان الله! بدلا من أن يشكر لهم هذا العمل يُذم، وينسبوا فيه إلى الشذوذ والتفرد!
قال ابن القيم رحمه الله: "لو تركت السنن للعمل لتعطلت سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودرست رسومها، وعفت آثارها.
وكم من عمل قد اطرد بخلاف السنة الصريحة على تقادم الزمان وإلى الآن.
وكل وقت تترك سنة، ويُعمل بخلافها، ويستمر عليها العمل، فتجد يسيراً من السنة معمولاً به على نوع تقصير.
وخذ بلا حساب ما شاء الله من سنن قد أهملت وعطل العمل بها جُملة، فلو عمل بها من يعرفها لقال الناس: تركت السنة.
فقد تقرر: أن كل عمل خالف السنة الصحيحة لم يقع من طريق النقل البتة. وإنما يقع من طريق الاجتهاد. والاجتهاد إذا خالف السنة كان مردوداً.
وكل عمل طريقه النقل، فإنه لا يخالف سنة صحيحة البتة"اهـ (1).
أمّا قولهم: لا يحترم العلماء و لا يعرف قدرهم. فهو دعوى عرية عن الدليل، بل الواقع خلافها. وكل ما في الأمر أن بعض الناس توهم أن الشيخ الألباني لما يعمل بالحديث الصحيح الذي لم يعلم له مخالفاً معتبراً؛ أهدر بتصرفه هذا العلماء الذين لم يعملوا بهذا الحديث، ولم يحترم قدرهم! وهذا الوهم لا وجه له، لما يلي:
ـ أن هناك فرقاً بين تجريد متابعة المعصوم صلى الله عليه وسلم، وبين إهدار أقوال العلماء.
قال ابن القيم رحمه الله: "الفرق بين تجريد متابعة المعصوم صلى الله عليه وسلم، وإهدار أقوال العلماء وإلغائها:
أن تجريد المتابعة: أن لا تقدم على ما جاء به قول أحد، و برأيه كائناً من كان، بل تنظر في صحة الحديث أوّلاً، فإذا صح لك نظرت في معناه ثانياً، فإذا تبين لك لم تعدل عنه، ولو خالفك من بين المشرق والمغرب.(1/143)
ومعاذ الله أن تتفق الأمة على مخالفة ما جاء به نبيها، بل لا بد أن يكون في الأمة من قال به، ولو لم تعلمه؛ فلا تجعل جهلك بالقائل به حجة على الله ورسوله، بل اذهب إلى النص، ولا تضعف. واعلم أنه قد قال به قائل قطعاً، ولكن لم يصل إليك.
هذا مع حفظ مراتب العلماء وموالاتهم واعتقاد حرمتهم وأمانتهم واجتهادهم في حفظ الدين وضبطه، فهم دائرون بين الأجر والأجرين، والمغفرة. ولكن لا يوجب هذا إهدار النصوص وتقديم قول الواحد منهم عليها بشبهة: إنه أعلم بها منك؛ فإن كان كذلك فمن ذهب إلى النص اعلم به منك، فهلا وافقته إن كنت صادقاً!
فمن عرض أقوال العلماء على النصوص ووزنها بها، وخالف منها ما خالف النص لم يهدر أقوالهم، ولم يهضم جانبهم، بل اقتدى بهم، فإنهم كلهم أمروا بذلك، فمتبعهم حقاً من امتثل ما أوصوا به لا من خالفهم.
فخلافهم في القول الذي جاء النص بخلافه أسهل من مخالفتهم في القاعدة الكلية التي أمروا ودعوا إليها: من تقديم النص على أقوالهم.
ومن هنا يتبين الفرق بين تقليد العالم في كل ما قال، وبين الاستعانة بفهمه =، والاستضاءة بنور علمه؛ فالأول: يأخذ قوله من غير نظر، و لاطلب لدليله من الكتاب والسنة، بل يجعل ذلك كالحبل الذي يلقيه في عنقه يقلده به، ولذلك سمي تقليداً، بخلاف من استعان بفهمه، واستضاء بنور علمه في الوصول إلى الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فإنه يجعلهم بمنزلة الدليل إلى الدليل الأول، فإذا وصل إليه استغنى بدلالته عن الاستدلال بغيره؛ فمن استدل بالنجم على القبلة فإنه إذا شاهدها لم يبق لاستدلاله بالنجم معنى.
قال الشافعي: إذ أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد"اهـ (1).
قلت: ينبني على هذا التقرير أمور أهمها ما يلي:(1/144)
... أن المحل الذي يطلب فيه وجود سلف للمستدل للعالم فيما ذهب إليه إنما هو في غير المسألة التي جاء فيها نص محكم سالم من النسخ والمعارضة.
وذلك أن الذي ينبغي للعالم إذا اجتهد في مسألة أن ينظر هل سبقه أحد من السلف إلى هذا الاجتهاد، أوْ لا؛ فإن لم يجد من سبقه إلى هذا الاجتهاد فليتوقف، ويتراجع.
وفي هذا قال ابن تيمية رحمه الله: "كل قول ينفرد به المتأخر عن المتقدمين، ولم يسبقه إليه أحد منهم؛ فإنه يكون خطأ، كما قال الإمام أحمد بن حنبل: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام"اهـ (2).
فإذا جاء الدليل الذي يلزم المصير إليه، لم يسع أحد مخالفته لمجرد أنه لا يعلم من قال به (1).
قال أبومحمد بن حزم رحمه الله: "فكل من أدّاه البرهان من النص أو الإجماع المتيقن إلى قول ما، ولم يعرف أحد قبله بذلك القول؛ ففرض عليه القول بما أدّى إليه البرهان، ومن خالفه فقد خالف الحق، ومن خالف الحق فقد عصى الله تعالى. قال تعالى: {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} [البقرة:111]، ولم يشترط تعالى في ذلك أن يقول به قائل قبل القائل به، بل أنكر على من قاله؛ إذ يقول عزوجل حاكياً عن الكفار منكراً عليهم أنهم قالوا: {ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق} [سورة ص:7].
قال أبومحمد: ومن خالف هذا فقد أنكر على جميع التابعين وجميع الفقهاء بعدهم، لأن المسائل التي تكلم فيها الصحابة رضي الله عنهم، من الاعتقاد أو الفتيا، فكلها محصور مضبوط، معروف عند أهل النقل من ثقات المحدثين وعلمائهم، فكل مسألة لم يرد فيها قول عن صاحب لكن عن تابع فمن بعده، فإن ذلك التابع قال في تلك المسألة بقول لم يقله أحد قبله بلا شك، وكذلك كل مسألة لم يحفظ فيها قول عن صاحب و لاتابع، وتكلم فيها الفقهاء بعدهم فإن ذلك الفقيه قد قال في تلك المسألة بقول لم يقله أحد قبله.(1/145)
ومن ثقف هذا الباب فإنه يجد لأبي حنيفة ومالك والشافعي أزيد من عشرة الآف مسألة لم يقل فيها أحد قبلهم بما قالوه، فكيف يسوِّغ هؤلاء الجهال للتابعين، ثم لمن بعدهم أن يقولوا قولاً لم يقله أحد قبلهم، ويحرم ذلك على من بعدهم إلينا ثم إلى يوم القيامة، فهذا من قائله دعوى بلا برهان، وتخرص في الدين، وخلاف الإجماع على جواز ذلك لمن ذكرنا"اهـ (1).
ومن نفيس كلام الألباني في هذا المعنى قوله: "إنه لا يضر الحديث، ولا يمنع العمل به عدم العلم بمن قال به من الفقهاء؛ لأن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود"اهـ (2).
وقوله: "تشبث به - يعني الحديث - وعض عليه بالنواجذ، ودع عنك آراء الرجال؛ فإنه إذا ورد الأثر بطل النظر، وإذا ورد نهر الله بطل نهر معقل"اهـ (1).
- وقوله: "هذا، ولعل فيمن ينصر السنة ويعمل بها ويدعو إليها من يتوقف عن العمل بهذه الأحاديث؛ بعذر أنه لا يعلم أحداً من السلف قال بها. فليعلم هؤلاء الأحبة: أن هذا العذر قد يكون مقبولاً في بعض المسائل التي يكون طريق تقريرها إنما هو الاستنباط والاجتهاد فحسب؛ لأن النفس حينئذ لا تطمئن لها خشية أن يكون الاستنباط خطأ، و لاسيما إذا كان المستنبط من هؤلاء المتأخرين الذين يقررون أموراً لم يقل بها أحد من المسلمين بدعوى أن المصلحة تقتضي تشريعها! دون أن ينظروا إلى موافقتها لنصوص الشرع أوّلا، مثل إباحة بعضهم للربا الذي سمّاه بـ "الربا الاستهلاكي" واليانصيب الخيري - زعموا - ونحوهما، أما ومسألتنا ليست من هذا القبيل؛ فإن فيها نصوصاً صريحة محكمة لم يأت ما ينسخها - كما سبق بيانه - فلا يجوز ترك العمل بها للعذر المذكور"اهـ (2).
قلت: و لا أعلم للشيخ الألباني مسألة اختار فيها قولاً لم يسبقه إليه أحد من أهل العلم، وهو يحرص دائماً على أن يذكر سلفه فيما اختار العمل به من الأقوال التي ظهر له موافقتها للنصوص.(1/146)
ـ والشيخ يرجع إلى أقوال العلماء ويعتبر كلامهم، ويستفيد منه، دون تعصب أو تقليد، فقد قال في مقدمة كتابه: "صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم": "وأمّا الرجوع إلى أقوالهم - يعني: العلماء - والاستفادة منها والاستعانة بها على تفهم وجه الحق فيما اختلفوا فيه مما ليس عليه نص في الكتاب والسنة، أو ما كان منها بحاجة إلى توضيح، فأمر لا ننكره، بل نأمر به، ونحض عليه؛ لأن الفائدة منه مرجوة، لمن سلك سبيل الاهتداء بالكتاب والسنة. قال العلامة ابن عبدالبر رحمه الله تعالى: "فعليك يا أخي بحفظ الأصول والعناية بها، واعلم أن من عني بحفظ السنن والأحكام المنصوصة في القرآن، ونظر في أقاويل الفقهاء، فجعله عوناً له على اجتهاده، ومفتاحاً لطرائق النظر، وتفسيراً لجمل السنن المحتملة للمعاني، ولم يقلد أحداً منهم تقليد السنن التي يجب الانقياد إليها على كل حال، دون نظر، ولم يرح نفسه مما أخذ العلماء به أنفسهم من حفظ السنن وتدبرها، واقتدى بهم في البحث والتفهم والنظر، وشكر لهم سعيهم فيما أفادوه ونبهوا عليه، وحمدهم على صوابهم الذي هو أكثر أقوالهم، ولم يبرئهم من الزلل كما لم يبرؤوا أنفسهم منه، فهذا هو الطالب المتمسك بما عليه السلف الصالح، وهو المصيب لحظه، والمعاين لرشده، والمتابع لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهدي صحابته رضي الله عنهم.
ومن أعف نفسه من النظر، وأضرب عما ذكرنا، وعارض السنن برأيه، ورام أن يردها إلى مبلغ نظره، فهو ضال مضل، ومن جهل ذلك كله أيضاً، وتقحم في الفتوى بلا علم فهو اشد عمى، واضل سبيلاً"اهـ (1).
فدعني عن بنيات الطريق" (1)
فهذا الحق ليس به خفاء
أمّا قولهم: ظاهري المذهب. فهذه دعوى كذلك، نطالب فيها بالدليل: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}!(1/147)
والواقع أن وصف أهل الحديث بأنهم من أهل الظاهر من الكلمات التي تسمع بين الفينة والأخرى، ولذلك فإن وصف الألباني بها ليس بمستغرب، إذ هو من أهل الحديث! وهذا الأمر - أعني: الفرق بين أهل الحديث والظاهرية، في الأخذ بالظاهر من النصوص - يحتاج إلى تحرير لإزالة لبس قد يكون علق بأذهان بعض الناس، و تحرير ذلك من خلال التساؤلات الآتية:
هل صرّح الشيخ في محل من كتبه إنه ظاهري المذهب؟
هل مجرد إحالة الشيخ إلى كتب ابن حزم تعني أنه ظاهري المذهب؟
هل مجرد وقوف الشيخ عند ظاهر النص يحشره في زمرة أهل الظاهر؟
وقبل الإجابة على هذه الأسئلة، أقول:
اعلم أن الظاهرية مذهب فقهي عتيد، من المذاهب التي لها أتباع إلى عصرنا هذا - وإن كانوا قلة - وكتاب "المحلى" لأبي محمد علي ابن حزم، يُعد من كتب الفقه التي تغني عن غيرها، و لايغني غيرها عنها، حتى قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام - وكان أحد المجتهدين -: "ما رأيت في كتب الإسلام في العلم مثل "المحلى" لابن حزم، وكتاب "المغني" للشيخ موفق الدين".
قال الذهبي رحمه الله معقباً على هذه الكلمة: "لقد صدق الشيخ عز الدين، وثالثهما: "السنن الكبير" للبيهقي، ورابعها: "التمهيد لابن عبدالبر. فمن حصل هذه الدواوين، وكان من أذكياء المفتين، وأدمن المطالعة فيها فهو العالم حقاً"اهـ(1)
وإمام هذا المذهب هو داود بن علي الظاهري (ت270هـ)، عاصر رحمه الله إسحاق بن راهوية (ت238هـ)، وأحمد بن حنبل (ت214هـ)، وغيرهما من الأئمة. وعدّه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في فقهاء الحديث.
قال ابن تيمية رحمه الله: "والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور ومحمد بن نصر المروزي وداود بن علي، ونحو هؤلاء كلهم فقهاء الحديث رضي الله عنهم أجمعين"اهـ (1).(1/148)
وأهم معالم هذا المذهب: الجمود على ظاهر لفظ النص دون مراعاة المعنى المقصود منه، وإبطال دليل القياس، والمبالغة في دليل الاستصحاب، واعتقاد أن الأصل في عقود المسلمين البطلان، وبسبب هذه الأمور شُنع عليهم (2).
وبعد هذا التعريف الموجز بـ "الظاهرية"، أعود إلى الإجابة عن تلك الأسئلة، فأقول:
لم أجد الشيخ الألباني في كتاب من كتبه، قد صرّح أنه ينتمي إلى مذهب الظاهرية، بل وجدت الشيخ - حفظه الله - يصرِّح في أكثر من موضع بمنهجه في الفقه، وأنه يعتمد فيه اتباع الأحاديث والآثار، ولايخرج عنها، مع احترام الأئمة جميعاً والاستفادة من فقههم (3). بل وجدت الألباني في مواضع يشنع على ابن حزم رحمه الله في جموده، فمرة قال في مسألة: "خلافاً لما قعقع حوله ابن حزم" (4)، ومرة قال: "وأغرب ابن حزم كعادته في التمسك بظاهريته" (5).
ومن مؤلفات الشيخ الألباني كتابه في الرد على ابن حزم في مسألة المعازف، وهذا الواقع يدفع بشدة أن ينسب الشيخ إلى المذهب الظاهري، نسبة مذهب، بله نسبة تقليد، وتعصب!
وبالنسبة للسؤال الثاني، فإني أقول: لا يحق لأحد أن ينسب أحداً إلى مذهب ما لمجرد أنه نقل عنه، أو أحال إليه، كيف يصح هذا؟ ولِمَ لم يقولوا: الألباني حنفي، أو مالكي، أو شافعي، أو حنبلي، أو تيمي، أو جوزي؟ مع العلم أن إحالاته إلى المذاهب الفقهية وأصحابها، وإلى ابن تيمية وابن القيم أكثر من إحالاته إلى الظاهرية، أو إلى ابن حزم رحمه الله تعالى.
وبالنسبة للسؤال الثالث، أقول: ومجرد الوقوف عند ظاهر النص، لا يبرر حشر الشيخ الألباني في الظاهرية، و إلا لزم من قال بذلك أن يعد جمهور السلف وأئمة الدين ظاهرية؛ لأن هذا هو الأصل عندهم، وهي بدهية في الاستدلال لا أظنها تخفى على من يتأمل.
وذلك لأن الأصل عند السلف: الوقوف على ظاهر النص، وترك الخروج عنه إلا بدليل.
والمراد بالظاهر ما ترجح أنه المقصود من الكلام، أو لم يأت قصد يخالفه (1).(1/149)
قال الإمام الشافعي رحمه الله، في كلام له: "فلما احتمل المعنيين - يعني : الحديث - وجب على أهل العلم أن لا يحملوها على خاص دون عام إلا بدلالة من سنة رسول الله أو إجماع علماء المسلمين الذين لا يمكن أن يجمعوا على خلاف سنة له.
(قال الشافعي:) وهكذا غير هذا من حديث رسول الله هو على الظاهر من العام حتى تأتي الدلالة عنه كما وصفت، أو بإجماع المسلمين: أنه على باطن دون ظاهر، وخاص دون عام، فيجعلونه بما جاءت عليه الدلالة ويطيعونه في الأمرين جميعاً"اهـ (1).
(وقال الشافعي:) "... فكل كلام كان عاماً ظاهراً في سنة رسول الله فهو على ظهوره وعمومه، حتى يعلم حديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - بأبي هو وأمي - يدل على أنه إنما أريد بالجملة العامة في الظاهر بعض الجملة دون بعض، كما وصفت من هذا، وما كان في مثل معناه"اهـ (2).
وهذا هو ما جرى عليه أهل العلم؛ حتى إن أئمة الحنفية إذا خالف الصحابي ظاهر مرويه فالعبرة عندهم بظاهر المروي لا بخلاف راويه (3).
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله: "الواجب حمل كلام الله تعالى ورسوله، وحمل كلام المكلف على ظاهره الذي هو ظاهره، وهو الذي يقصد من اللفظ عند التخاطب، و لا يتم التفهيم والفهم إلا بذلك، ومُدّعي غير ذلك على المتكلم القاصد للبيان والتفهيم كاذب عليه"اهـ (1).
قال الشنقيطي رحمه الله: "التحقيق الذي لا شك فيه، وهو الذي عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعامة المسلمين: أنه لا يجوز العدول عن ظاهر كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، في حال من الأحوال بوجه من الوجوه حتى يقوم دليل صحيح شرعي صارف عن الظاهر إلى المحتمل المرجوح"اهـ (2).
وقال أيضاً رحمه الله: "قد أجمع جميع المسلمين على أن العمل بالظاهر واجب حتى يرد دليل شرعي صارف عنه، إلى المحتمل المرجوح، وعلى هذا كل من تكلم في الأصول"اهـ(3).(1/150)
وبناء على هذا أقول: الأخذ بالظاهر ليس محلاً للخلاف بين الظاهرية وخصومهم، حتى ينسب أهل الحديث - والألباني منهم- إلى الظاهرية، لمجرد الوقوف عند ظاهر النصوص.
واعلم - بارك الله فيك - أن الظاهرية إنما ذموا لأمور أربعة ذكرها ابن قيم الجوزية، في قوله عن الظاهرية نفاة القياس:"أخطأوا من أربعة وجوه:
أحدها: ردّ القياس الصحيح، ولاسيما المنصوص على علته التي يجري النص عليها مجرى التنصيص على التعميم باللفظ.
الثاني: تقصيرهم في فهم النصوص، فكم من حكم دلّ عليه النص ولم يفهموا دلالته عليه، وسبب هذا الخطأ حصرهم الدلالة على مجرد ظاهر اللفظ دون إيمائه وتنبيهه وإشارته وعرفه عند المخاطبين.
الثالث: تحميل الاستصحاب فوق ما يستحقه، وجزمهم بموجبه لعدم علمهم بالناقل، وليس عدم العلم علماً بالعدم.
الرابع: اعتقادهم أن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملاتهم كلها على البطلان، حتى يقوم دليل على الصحة، فإذا لم يقم عندهم دليل على صحة شرط أو عقد أو معاملة استصحبوا بطلانه، فأفسدوا بذلك كثيراً من معاملات الناس، وعقودهم وشروطهم بلا برهان من الله بناء على هذا الأصل"اهـ (1).
وأهل الحديث - والألباني منهم - من أبعد الناس عن هذه الأخطاء التي سجلها العلماء على الظاهرية.
والمقصود هنا: أن الأخذ بالظاهر ليس محلاً للخلاف بين الظاهرية وغيرهم، إذ الجميع يأخذ بظاهر النصوص، و لا يتركه مالم تأت قرينة صارفة، وإنما محل الخلاف بين الظاهرية وغيرهم، هو: هل الاعتبار بظواهر الألفاظ والعقود، وإن ظهرت المقاصد والنيات بخلافها، أم للقصود والنيات تأثير يوجب الالتفات إليها ومراعاة جانبها؟(2).
وبعبارة أخرى: هل الأخذ بالظاهر يحتم الاكتفاء به أم لا؟ (1).
وقد تظاهرت أدلة الشرع وقواعده، على: أن القصود معتبرة في العقود، والأفعال، والألفاظ والعبادات.(1/151)
والألباني مع أهل الحديث يأخذ بالقياس، ويتفهم مقاصد الشرع، وينظر في كل ماله تأثير على ظاهر اللفظ، ويراعيه في فقهه ونظره - و لا أزكي على الله أحداً - فإن ظهر له، وإلا وقف عند ظاهر اللفظ، وعلى هذا النهج كان الصحابة والتابعون، بل هذا الأمر ومراعاته من الأمور التي ينبغي للمفتي مراعاتها.
قال ابن القيم رحمه الله: "ينبغي للمفتي أن يفتي بلفظ النص مهما أمكنه؛ فإنه يتضمن الحكم والدليل مع البيان التام، فهو حكم مضمون له الصواب، متضمن للدليل عليه في أحسن بيان، وقول الفقيه المعين ليس كذلك.
وقد كان الصحابة والتابعون والأئمة الذين سلكوا على مناهجهم يتحرون ذلك غاية التحري، حتى خلفت من بعدهم خلوف رغبوا عن النصوص، واشتقوا لهم ألفاظاً غير ألفاظ النصوص، فأوجب ذلك هجر النصوص.
ومعلوم أن تلك الألفاظ لا تفي بما تفي النصوص من الحكم، والدليل وحسن البيان، فتولد من هجران ألفاظ النصوص والإقبال على الألفاظ الحادثة وتعليق الأحكام بها على الأمة من الفساد ما لا يعلمه إلا الله، فألفاظ النصوص عصمة وحجة، بريئة من الخطأ والتناقض، والتعقيد والاضطراب، ولما كانت هي عصمة عهد الصحابة، وأصولهم التي إليها يرجعون كانت علومهم اصح من علوم من بعدهم، وخطؤهم فيما اختلفوا فيه أقل من خطأ من بعدهم، ثم التابعون بالنسبة إلى من بعدهم كذلك، هلم جرا.
ولمّا استحكم هجران النصوص عند أكثر أهل الأهواء والبدع، كانت علومهم في مسائلهم وأدلتهم في غاية الفساد والاضطراب والتناقض.(1/152)
وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سئلوا عن مسألة يقولون: قال الله كذا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أو فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، و لا يعدلون عن ذلك ما وجدوا إليه سبيلاً قط، فمن تأمل أجوبتهم وجدها شفاء لما في الصدور، فلما طال العهد وبعد الناس من نور النبوة صار هذا عيباً عند المتأخرين؛ أن يذكروا في أصول دينهم وفروعه: قال الله، وقال رسول الله... الخ كلامه رحمه الله(1) .
قلت: ولذا تجد كتاباً كـ "المواقف" للإيجي لا آية و لا حديث فيه من أوله إلى آخره إلا بما لا يتجاوز عدد أصابع اليد، وكذا غالب المتون الفقهية، ولابن خلدون كلام في مقدمته (2) حول أثر هذه المختصرات الفقهية (المتون) على طلبة العلم الشرعي.
والمقصود بيان أن جريان أهل الحديث - والألباني منهم - في مصنفاتهم وفتاواهم على النص، والتزام ظاهره، مالم يأت صارف صحيح معتبر، لا يحشرهم في المذهب الظاهري، بل الواقع أن هذا هو منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
أما قولهم: متساهل في التصحيح. فهذا أمر نسبي يختلف من بحسب الناس؛ فمن كان متشدداً يرى غيره متساهلاً، ومن كان متساهلاً يرى غيره متشدداً، والمرجع في معرفة الحقيقة إلى الاستقراء والسبر للحال، ومقارنته بغيره.
وجملة المسائل التي ينسب فيها الألباني إلى التساهل هي التالية:
1 ـ تحسين الحديث الضعيف بتعدد الطرق.
2 ـ قبول حديث الراوي مجهول الحال، واعتماده توثيق ابن حبان رحمه الله.
3 ـ تعديله لبعض الرواة الضعفاء.
وسأعرض هذه المسائل مبيناً الصواب فيها - إن شاء الله تعالى - ثم أذكر موقف الألباني، مقارناً مع كلام أهل العلم لتقف على الحق الحقيق بالقبول، إن شاء الله تعالى.
المسألة الأولى: تحسين الحديث الضعيف بتعدد الطرق.
الكلام فيها من خلال النقاط التالية:
- الحديث الضعيف الذي اشتد ضعفه لا يترقى إلى درجة الحسن لغيره بتعدد الطرق.(1/153)
... - شروط ترقي الحديث الضعيف إلى مرتبة الحسن لغيره.
... - الحديث الحسن لغيره محل للاجتهاد.
... - تعدد طرق الحديث يفيد في بيان مرتبة الحديث قبولاً ورداً.
لكل حديث نظر خاص.
وإليك البيان:
... الحديث الضعيف الذي اشتد ضعفه لا يترقى إلى درجة الحسن لغيره بتعدد الطرق.
... كل أنواع الحديث الضعيف تقبل الاعتبار والانجبار، وتترقى بتعدد الطرق، إلا الحديث الذي في سنده راوٍ كذاب وضاع، وحديث المتهم بالكذب، وحديث الراوي الذي في مرتبة الترك (كمن ساء حفظه جداً)، والحديث الشاذ، والحديث المنكر.
قال ابن الصلاح رحمه الله في تعريفه للقسم الأول من الحديث الحسن، وهو الحسن لغيره، قال رحمه الله: "الحديث الذي لا يخلو رجال إسناده من مستور لم تتحقق أهليته، غير أنه ليس مغفلاً كثير الخطأ فيما يرويه، و لا هو متهم بالكذب في الحديث، أي لم يظهر منه تعمد الكذب في الحديث، و لا سبب آخر مفسق، ويكون متن الحديث مع ذلك قد عُرِف بأنه روي مثله أو نحوه من وجه آخر أو أكثر حتى اعتضد بمتابعة من تابع راويه على مثله، أبو بما له من شاهد، وهو ورود حديث آخر بنحوه، فيخرج بذلك من أن يكون شاذاً ومنكراً، وكلام الترمذي على هذا القسم يتنزل"اهـ(1).
قلت: يعني كلام الترمذي في بيان مراده من الحسن عنده: "أن لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب، و لايكون شاذاً، ويروى من غير وجه"اهـ(1).
وقد دلّ هذا الكلام على إخراج الأنواع التالية، عن قبولها للترقي بتعدد الطرق، وهي:
- الحديث الذي فيه راوٍ كذاب.
- الحديث الذي في إسناده راوٍ متهم بالكذب.
- الحديث الذي فيه راوٍ مغفل كثير الخطأ، وفي حكمه سيء الحفظ جداً.
- الحديث الشاذ.
- الحديث المنكر.
وهذه الأنواع هي التي استثنيتها في صدر القاعدة عن قبول الترقي بتعدد الطرق.(1/154)
قال ابن الصلاح رحمه الله: "ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه، بل ذلك يتفاوت، فمنه ضعف يزيله ذلك بأن يكون ضعفه ناشئاً من ضعف حفظ راويه، مع كونه من أهل الصدق والديانة؛ فإذا رأينا ما رواه قد جاء من وجه آخر عرفنا أنه مما قد حفظه، ولم يختل فيه ضبطه له، وكذلك إذا كان ضعفه من حيث الإرسال زال بنحو ذلك، كما في المرسل الذي يرسله إمام حافظ إذ فيه ضعف قليل يزول بروايته من وجه آخر.
ومن ذلك ضعف لا يزول بنحو ذلك لقوّة الضعف، وتقاعد هذا الجابر عن جبره، ومقاومته؛ وذلك كالضعف الذي ينشأ من كون الراوي متهماً بالكذب أو كون الحديث شاذاً.
وهذه جملة تفاصيلها تدرك بالمباشرة والبحث، فاعلم ذلك فإنه من النفائس"اهـ(1).
شروط ترقي الحديث الضعيف إلى مرتبة الحسن لغيره.
والكلام السابق عن الترمذي وابن الصلاح رحمهما الله، يفيد أن تعدد طرق الحديث الضعيف لا يرقيه إلى مرتبة الحسن لغيره إلا بشرطين:
الأول : أن لا يشتد ضعف الطرق.
الثاني : أن يكون تعدد الطرق تعدداً حقيقياً بحيث لا يغلب على الظن أن هذه الطرق هي في الحقيقة طريق واحد، تصرف فيه الرواة، وهذا معنى قولهم: "يروى من غير وجه" أو "اختلف مخرج الحديث"(2).
... الحديث الحسن لغيره محل للاجتهاد.
... ولمّا كان الحديث الحسن لغيره، مما يتفاوت الناس في إدراكه حيث إن تفاصيله تدرك بالمباشرة والبحث، والناس يتفاوتون في ذلك، قال الإمام الذهبي رحمة الله عليه: "لا تطمع بأن للحسن قاعدة تندرج كل الأحاديث الحسان فيها، فأنا على إياس من ذلك، فكم من حديث تردد فيه الحفاظ: هل هو حسن أو ضعيف أو صحيح؟ بل الحافظ الواحد يتغير اجتهاده في الحديث الواحد، فيوماً يصفه بالصحة، ويوماً يصفه بالحسن، ولربما استضعفه. وهذا حق، فإن الحديث الحسن يستضعفه الحافظ، عن أن يرقيه إلى رتبة الصحيح، فبهذا الاعتبار فيه ضعف ما، إذ الحسن لا ينفك عن ضعف ما، ولو انفك عن ذلك لصح باتفاق"اهـ(1).(1/155)
وقال ابن كثير يرحمه الله عن الحديث الحسن: "وهذا النوع لمّا كان وسطاً بين الصحيح والضعيف في نظر الناظر، لا في نفس الأمر، عسُر التعبير عنه وضبطه على كثير من أهل هذه الصناعة؛وذلك لأنه أمر نسبي،شيء ينقدح عند الحافظ،ربما تقصر عبارته عنه"اهـ(2).
تعدد طرق الحديث يفيد في بيان مرتبة الحديث قبولاً ورداً.
قد يكون الحديث ضعيفاً فتتعدد طرقه فيترقى إلى درجة الحسن لغيره، لتوفر شروط ترقي الحديث فيه. وقد تتعدد طرق الحديث الذي ظاهره الصحة فيكشف هذا التعدد علة في الحديث، لم تكن ظاهرة!
قال ابن تيمية رحمة الله عليه: "والمقصود هنا: أن تعدد الطرق مع عدم التشاور أو الاتفاق في العادة؛ يوجب العلم بمضمون المنقول، لكن هذا ينتفع به كثيراً من عَلِم أحوال الناقلين، وفي مثل هذا ينتفع برواية المجهول، والسيء الحفظ، وبالحديث المرسل، ونحو ذلك؛ ولهذا كان أهل العلم يكتبون مثل هذه الأحاديث، ويقولون: إنه يصلح للشواهد والاعتبار ما لا يصلح لغيره.
وكما أنهم يستشهدون ويعتبرون بحديث الذي فيه سؤ حفظ، فإنهم أيضاً يضعفون من حديث الثقة الصدوق الضابط أشياء تبين لهم غلطه فيها، بأمور يستدلون بها، - ويسمون هذا علم علل الحديث، وهو من أشرف علومهم -، بحيث يكون الحديث قد رواه ثقة ضابط، وغلط فيه، وغلطه فيه عرف إما بسبب ظاهر، (وإما بسبب غير ظاهر)"اهـ(1).
وقال ابن حجر رحمه الله: "المقبول ما اتصل سنده وعدلت رجاله، أو اعتضد بعض طرقه ببعض حتى تحصل القوة بالصورة المجموعة، ولو كان كل طريق منها لو انفردت لم تكن القوة فيها مشروعة.
وبهذا يظهر عذر أهل الحديث من تكثيرهم طرق الحديث الواحد؛ ليعتمد عليه، إذ الإعراض عن ذلك يستلزم ترك الفقيه العمل بكثير من الأحاديث اعتماداً على ضعف الطريق التي اتصلت إليه"اهـ (1).
لكل حديث نظر خاص.
وأهل الحديث مع هذا جميعه يصرحون بأن لكل حديث نظر خاص من المحدث، خاصة في باب زيادات الثقات.(1/156)
قال ابن تيمية رحمه الله: "لكل حديث ذوق. ويختص بنظر ليس للآخر"اهـ (2).
قال ابن رجب رحمه الله في معرض كلام له على التفرد والتعليل به: "وأمّا أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الحديث إذا انفرد به واحد، وإن لم يرو الثقات خلافه: إنه لا يتابع عليه، ويجعلون ذلك علة فيه، اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه واشتهرت عدالته وحديثه، كالزهري ونحوه، وربما يستنكرون تفردات الثقات الكبار أيضاً، ولهم في كل حديث نقد خاص، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه"اهـ (3).
وقال ابن عبدالهادي رحمه الله في كلام له حول زيادات الثقات: "بل كل زيادة لها حكم يخصها، ففي موضع يجزم بصحتها... وفي موضع يغلب على الظن صحتها... وفي موضع يجزم بخطأ الزيادة ... وفي موضع يغلب على الظن خطأها... وفي موضع يتوقف في الزيادة.."اهـ (4).
وبعد: فأنت إذا تقرر لديك هذا البيان لمسألة تحسين الحديث الضعيف الذي لم يشتد ضعفه بتعدد الطرق؛ فاعلم أن الألباني - حفظه الله - لم يخرج عن سنن القوم، بل كان مطبقاً لقواعدهم، مراعياً لنهجهم، سالكاً فيه سبيلهم.
وأنت إذا لاحظت أن المرجع في هذه القضية إلى البحث وطول الممارسة والدربة في تخريج الحديث؛ فإنك تسلم - إن شاء الله تعالى - للألباني في حكمه بتحسين الحديث الضعيف الذي لم يشتد ضعفه بتعدد الطرق، إذ أمضى حفظه الله قرابة نصف قرن مشتغلاً بالحديث تخريجاً ودراسة ودعوة وتصنيفاً، مما يجعل كفته ترجح في هذا الجانب على غيره ممن يعترض عليه، ولما يبلي بلاءه في ذلك!
وأزيد إيضاحاً مسألة تقوي الحديث بتعدد الطرق، فأقول:
تعدد طرق الحديث الضعيف الذي لم يشتد ضعفه لا يخرج عن أن يقال فيه أحد الأقوال التالية:
القول الأول: إنه لا يفيد في قوة الحديث شيئاً، بل كل طريق للحديث يعل الطريق الآخر.
وعلى هذا لا يكون هناك حديث حسن لغيره أصلاً، وهذا كاف في طرح النظر عن تأمل هذا القول!(1/157)
القول الثاني: إنه يقوي الحديث الضعيف سواء كان شديد الضعف، أم يسير الضعف، مادام يغلب مع تعدد هذه الطرق، عدم وجود تواطؤ بين رجال هذه الطرق على رواية الحديث، ولم يكن المتن منكراً، وأن يكون المتن قصة طويلة تتكرر مع ذلك في كل مخرج (1).
القول الثالث: أنه يتقوى بذلك، بالشرطين السابقين:
- أن لا يشتد ضعف الحديث.
- أن تتعدد طرق الحديث.
والقول الوسط بين تشدد الأول، وتساهل الثاني هو القول الثالث.
فهل يقال عن هذا القول الثالث، الذي جرى عليه جمهور أهل الحديث، ومعهم الألباني، هل يقال عنه تساهل في التحسين؟!
المسألة الثانية: قبول حديث الراوي مجهول الحال، واعتماده توثيق ابن حبان رحمه الله.
وهذه من المسائل التي نسب فيها الألباني إلى التساهل دون دليل صحيح عليها! إذ الواقع أن الألباني حفظه الله ردّ في أكثر من موضع على من يعتمد توثيق ابن حبان رحمه الله للراوي، ووصف ابن حبان بالتساهل!
لكنه حفظه الله نبّه إلى أن الرجل الذي ينفرد ابن حبان رحمه الله بتوثيقه، ويروي عنه أكثر من ثقة، ولم يأت بمتن منكر أنه صدوق يحتج به. ولم يتنبه إلى هذا بعض الفضلاء فنسب الشيخ إلى التناقض.
وقد عقد الألباني في مقدمة كتابه: "تمام المنة" (1)، القاعدة الخامسة، وعنوانها: "عدم الاعتماد على توثيق ابن حبان"، ومما قاله فيها: "إن المجهول بقسميه لا يقبل حديثه
عند جمهور العلماء، وقد شذ عنهم ابن حبان فقبل حديثه، واحتج به وأورده في "صحيحه".(1/158)
ثم نقل الألباني عن الحافظ ابن حجر وابن عبدالهادي رحمهما الله، ما يؤكد ذلك، مع زيادة تحقيق وتدقيق منه حفظه الله، ثم ذكر بعض الأمثلة على من ذكره ابن حبان في الثقات، ولم يرو عنه غير راوٍ ضعيف أو مجهول، ثم نبه إلى أن الجهالة العينية وحدها ليست جرحاً عند ابن حبان، وقال: "وقد ازددت يقيناً بذلك بعد أن درست تراجم كتابه "الضعفاء" وقد بلغ عددهم قرابة ألف وأربعمائة راوٍ، فلم أر فيهم من طعن فيهم بالجهالة، اللهم إلا أربعة منهم، لكنه طعن فيهم بروايتهم المناكير، وليس بالجهالة، وهاك أسماء هم وكلامه فيهم..."
ثم قال الألباني: "والخلاصة أن توثيق ابن حبان يجب أن يتلقى بكثير من التحفظ والحذر لمخالفته في توثيقه للمجهولين، لكن ليس ذلك على إطلاقه كما بينه العلامة المعلمي في "التنكيل" (1/437-438)، مع تعليقي عليه، وراجع لهذا البحث ردّي على الشيخ الحبشي فإنه كثير الاعتماد على من وثقه ابن حبان في المجهولين ص18-21.
وإن مما يجب التنبيه عليه أيضاً؛ إنه ينبغي أن يضم إلى ما ذكره المعلمي أمر آخر هام، عرفته بالممارسة لهذا العلم، قلّ من نبه عليه، وغفل عنه جماهير الطلاب، وهو: أن من وثقه ابن حبان، وقد روى عنه جمع من الثقات، ولم يأت بما ينكر عليه، فهو صدوق يحتج به.وبناء على ذلك قويت بعض الأحاديث التي هي من هذا القبيل كحديث العجن في الصلاة، فتوهم بعض الناشئين في هذا العلم أنني ناقضت نفسي، وجاريت ابن حبان في شذوذه، وضعّف هو حديث العجن..."
وقد عاد الألباني إلى التدليل على صحة ما جرى عليه أثناء كتابه "تمام المنة" (1)، في ردِّه على بعض الفضلاء.
فهذا الذي جرى عليه الألباني حفظه الله، ليس من التناقض في شيء، والحمد لله، كما أنه ليس من التساهل، بل هو أمر جرى عليه جمهور أهل العلم!(1/159)
- عقد ابن أبي حاتم في كتابه الجرح والتعديل، باباً ترجمته: "باب في رواية الثقة عن غير المطعون عليه، أنها تقويه، وعن المطعون عليه أنها لا تقويه"، ثم قال: "سألت أبي عن رواية الثقات عن رجل غير ثقة مما يقويه؟ قال: إذا كان معروفاً بالضعف لم تقوه روايته عنه، وإذا كان مجهولاً نفعه رواية الثقة عنه."
وقال ابن أبي حاتم: "سألت أبازرعة عن رواية الثقات عن رجل مما يقوي حديثه؟ قال: إي لعمري. قلت: الكلبي روى عنه الثوري. قال: إنما ذلك إذا لم يتكلم فيه العلماء، وكان الكلبي يُتكلم فيه. ..."
قال ابن أبي حاتم رحمه الله: "قلت لأبي: ما معنى رواية الثوري عن الكلبي وهو غير ثقة عنده؟ قال: كان الثوري يذكر الرواية عن الكلبي على الإنكار والتعجب فتعلقوا روايته عنه وإن لم تكن روايته عن الكلبي قبوله له"اهـ (2).
- وقال ابن القطان رحمه الله عن سعيد بن محمد بن جبير: "لا يعرف حاله، وإن عرف نسبه وبيته، وروى عنه جمع، فالحديث لأجله حسن لا صحيح"اهـ (3).
- قال الذهبي رحمه الله: "الجمهور على أن من كان من المشايخ قد روى عنه جماعة، ولم يأت بما ينكر عليه أن حديثه صحيح"اهـ (1).
وهذه النصوص تفيد أن رواية الثقة عن الرجل الذي لا يعرف بجرح وتعديل مما يقويه (2)، ومحل هذا ولاشك إذا لم يأت بمتن منكر،
فكيف إذا انضاف إلى ذلك توثيق ابن حبان (3).
فإذا جرى الألباني على هذا يقال عنه متساهل؟!
المسألة الثالثة: تعديله لبعض الرواة الضعفاء. فهذه دعوى؛ إذ لا يستطيعون أن يأتوا براوٍ واحد أجمع على ضعفه، وجاء الألباني وعدّله هكذا!
نعم تجد الألباني يعدل راوٍ اختلف في توثيقه وجرحه، وهو حينما يرجح التعديل، إنما يرجحه بالمرجحات المعتبرة عند أهل العلم. ويطبق القواعد التي جرى عليها العلماء في الجرح والتعديل، فهو يقدم الجرح على التعديل.
و لا يقبل الجرح إلا مفسراً.
وإذا جرح الراوي بجرح وظهر له أنه ليس بجارح لسبب من الأسباب اعتبر ذلك.(1/160)
ويقبل الجرح المجمل في حق من لم تثبت عدالته.
ويراعي التفصيل في حال كل راوٍ، متبعاً - جهده وطاقته - كلام أئمة الجرح والتعديل.
خذ على سبيل المثال:
- إسماعيل بن عياش، تقرأ في ترجمته جرحاً مطلقاً، وتعديلاً مطلقاً، وتفصيلاً في حاله، فهو إذا روى عن الشاميين ضابط، وإذا روى عن غيرهم لا يضبط؛ فالألباني اعتمد التفصيل فيه، ولم يقبل الجرح المطلق و لا التعديل المطلق (1).
- عبدالله بن لهيعة؛ تقرأ في ترجمته جرحاً مطلقاً، وتعديلاً مطلقاً، وتفصيلاً يتبين منه ضبطه لما رواه قبل احتراق كتبه وأصوله، وضعف ضبطه بعد ذلك، والألباني يعتمد هذا التفصيل في حال ابن لهيعة، فيقبل ممن روى عنه قبل احتراق كتبه، ولا يقبل ممن روى عنه بعد الاحتراق إلا في الشواهد والمتابعات.
والأمثلة على هذا كثيرة، لست أرى حاجة إلى التطويل بذكرها، وحاله في ذلك لا ينسب إلى التساهل عند من تفكر، وأنصف.
أما قولهم: متناقض في أحكامه على الحديث. فهذا جهل أو تجاهل لحقيقة الوضع.
اعلم أن من البدهيات عند أهل السنة والجماعة أن العصمة لا تثبت لأحد من هذه الأمة غير نبي الله صلى الله عليه وسلم. أمّا غير النبي صلى الله عليه وسلم فلا تثبت له العصمة على انفراده، ونحن - ولله الحمد والمنة - على هذا الأصل؛ فلا نثبت العصمة للألباني حفظه، كما لا نثبتها لغيره من أهل العلم.
والخطأ وارد على كل واحد، إذ "كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون" (1)، فمن اجتهد من أهل العلم وأصاب له أجران، ومن اجتهد وأخطأ فقد أصاب أجراً (2).
أقول: فالخطأ والتناقض وارد على الألباني حفظه الله، كما هو وارد على غيره من العلماء؛ إذ الكل غير معصوم.
لكن هل مجرد حصول الخطأ والتناقض من العالم مسقط له، وسالب عنه وصف العلم؟
لا أظن أحداً منصفاً بلْه عالماً يقول بذلك!
نعم من كثر غلطه، وغلب خطؤه على صوابه على صوابه؛ سقط الاحتجاج به، وسلب عنه وصف الضبط.(1/161)
قال ابن الصلاح رحمه الله: "يعرف كون الراوي ضابطاً بأن نعتبر رواياته بروايات الثقات المعروفين بالضبط والإتقان؛ فإن وجدنا رواياته موافقة ولو من حيث المعنى لرواياتهم أو موافقة لها في الأغلب، والمخالفة نادرة عرفنا حينئذ كونه ضابطاً ثبتاً. وإن وجدناه كثير المخالفة لهم عرفنا اختلال ضبطه، ولم نحتج بحديثه، والله اعلم"اهـ (1).
والحال كما قال الذهبي رحمه الله: "أنا أشتهي أن تعرفني مَنْ هو الثقة الثبت الذي ما غلط، ولا انفرد بما لا يتابع عليه؟ بل الثقة الحافظ إذا انفرد بأحاديث كان أرفع له، وأكمل لرتبته، وأدل على اعتنائه بعلم الأثر وضبطه دون أقرانه لأشياء ما عرفوها. اللهم إلا أن يتبين غلطه ووهمه في الشيء فيعرف ذلك.. ثم قال: وإن إكثار الراوي من الأحاديث التي لا يوافق عليها لفظاً و لا سنداً يصيره متروك الحديث.. ثم قال: ولا مِنْ شرط الثقة أن يكون معصوماً من الخطايا والخطأ"اهـ(1)
إذا تقرر هذا؛ فاعلم أن جميع الأحاديث التي نسب فيها الألباني حفظه الله إلى التناقض في أحكامه عليها، لا تؤثر بحمد الله تعالى في الثقة به وبعلمه، عند المنصف بلْه العالم؛ إذ نسبة الأحاديث التي ذكر فيها تناقض الألباني إلى الأحاديث التي خرّجها الشيخ ولم ينسب فيها إلى التناقض قليلة لا يلتفت إليها، إذ هي لا تكدر بحر علمه، والماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث.
والأحاديث التي خرجها الألباني كثيرة، تقع في كتبه أذكر منها:
- صحيح وضعيف الجامع الصغير في ستة مجلدات.
- صحيح وضعيف السنن الأربعة في خمسة عشر مجلداً.
- إرواء الغليل في ثمانية مجلدات.
- سلسلة الأحاديث الصحيحة في ثمانية مجلدات.
- سلسلة الأحاديث الضعيفة في أربعة مجلدات.
- صحيح وضعيف الأدب المفرد في مجلدين.
- تخريج مشكاة المصابيح.
- تمام المنة في التعليق على فقه السنة.
- صحيح الترغيب والترهيب.
- ظلال الجنة في تخريج كتاب السنة.
- نيل المرام في تخريج كتاب الحلال والحرام.(1/162)
ومجموع الأحاديث في هذه الكتب إذا حذف المكرر منها يأتي بالآلاف، فانظر كم يصير العدد باعتبار الطرق، ثم انظر كم يصير العدد باعتبار الروايات؛ لأن هذا جميعه يُحكم عليه ويبين حاله، ثم انظر كم يقع ما نسب فيه الشيخ إلى التناقض - إذا سُلِّم - إلى مجموع ذلك!!
على أن الأحاديث التي نسب فيها الشيخ إلى التناقض لا تتجاوز الألف، ونسبة الشيخ فيها إلى التناقض دعوى حاقدة، وتدليس خبيث في أغلبها، و لا يسلم عند التحقيق منها إلا القليل والقليل جداً، فهي لا تخرج عن الأحوال التالية:
الأولى: أحاديث تغير حكم الألباني عليها بناء على ظهور حيثيات جديدة في القضية، لم يعلم بها ففاته الاطلاع عليها في دراسته وحكمه أوّل الأمر.
وهذه الحال في الحقيقة ليست من التناقض، إنما الواقع تغير في الحكم نتيجة تغير حيثياته، فهو مصيب في حكمه الأول بناء على الحيثيات التي بنى عليها حكمه أولا، وهو مصيب في حكمه الثاني بناء على الحيثيات الجديدة التي وقف عليها، فهل يُعد هذا من التناقض؟!
وهذه الحال تشمل الصور التالية:
1 ـ أحاديث حكم عليها بالنظر إلى طريق، ثم وقف على طريق آخر.
2 ـ أحاديث حكم عليها بناء على الراجح في حال الرّاوي عنده، ثم تجدد اجتهاده في حال الراوي، فتغير الحكم.
3 ـ أحاديث لم يتبين فيها علة، ثم ظهرت له بعد.
4 ـ أحاديث ظن فيها علة، ثم زالت لمّا وقف للحديث على طرق أخرى.
5 ـ أحاديث لم يعلم وجود متابع لها أو شاهد، ثم علمه بعد.
الحال الثانية: أحاديث من قبيل الحديث الحسن لغيره، الذي يتردد نظر المحدث فيه، فتارة يرقيه إلى الحسن، وتارة لا يخرج عن حيز الضعيف.
قال الذهبي رحمه الله: "لا تطمع بأن للحسن قاعدة تندرج كل الأحاديث الحسان فيها، فأنا على إياس من ذلك، فكم من حديث تردد فيه الحفاظ: هل هو حسن أو ضعيف أو صحيح؟ بل الحافظ الواحد يتغير اجتهاده في الحديث الواحد، فيوماً يصفه بالصحة، ويوماً يصفه بالحسن، ولربما استضعفه.(1/163)
وهذا حق، فإن الحديث الحسن يستضعفه الحافظ، عن أن يرقيه إلى رتبة الصحيح، فبهذا الاعتبار فيه ضعف ما، إذ الحسن لا ينفك عن ضعف ما، ولو انفك عن ذلك لصح باتفاق"اهـ (1).
ويبقى بعد هذا حالتان:
الحال الثالث: أحاديث نسب فيها إلى التناقض بغير حق، لقصور علم نسبه فيها إلى التناقض.
الحال الرابع: أحاديث اختلف فيها حكم الشيخ نتيجة للقصور البشري، الذي لا يخلو منه عالم بلْه أحد من بني آدم، وهي قليلة جداً، ويسيرة بجانب ذلك العدد الضخم من الأحاديث التي خرجها الشيخ طوال خمسين عاماً، خدمة للحديث دراسة وتخريجاً ودعوة، وأنت خبير والحال هذه أن نسبة الشيخ الألباني إلى التناقض، وإرادة اسقاط الثقة بعلمه وبكتبه، دعوى فارغة، حاقدة، لا تساوي في معيار الحق شيئاً، و لا يستحق أن ينسب فيها الشيخ حفظه الله إلى التناقض (1)
أما قولهم: لا يهتم بنقد المتن. فهذه دعوى باطلة لا أساس لها! والواقع في كتب الشيخ سلمه الله ينقضها؛ إذ النظرة العجلى إلى سلسلة الأحاديث الضعيفة، وسلسلة الأحاديث الصحيحة في أجزائهما العشرة، توقفك على مواضع كثيرة نقد فيها الألباني متن الحديث، بل هو ناقد بصير في ذلك!
والحقيقة إن قضية "نقد متن الحديث" عند المحدثين، من القضايا التي نالت عناية الكثير من الباحثين، ولعل العلامة المعلمي اليماني رحمه الله من أفضل من تكلم في هذا الموضوع (2)، جزى الله الجميع خير الجزاء، وأحسن إليهم، وجعل ما بذلوه من جهد في موازين حسناتهم يوم القيامة.ومن المفيد هنا تلخيص أهم معالم منهج المحدثين في نقد متن الحديث (3)، وذلك في النقاط التالية:
- يعتمد المحدث في حكمه على الأحاديث اعتماداً كلياً على السند، ويأتي المتن تبعاً له.
قال يحي بن سعيد القطان رحمه الله: "لا تنظروا إلى الحديث، ولكن انظروا إلى الإسناد، فإن صح الإسناد، وإلا فلا تغتروا بالحديث إذا لم يصح الإسناد"اهـ (1).(1/164)
- ينظر المحدث في المتن أثناء دراسته لسند الحديث من جهتين:
... الجهة الأولى: في حالة النظر في الموافقة والتفرد.
... الجهة الثانية: في حال النظر في مدى موافقة المتن ومخالفته لنصوص الشرع.
قال ابن أبي حاتم رحمه الله: "يقاس صحة الحديث بعدالة ناقليه.
وأن يكون كلاماً يصلح أن يكون من كلام النبوة.
ويعلم سقمه وإنكاره بتفرد من لم تصح عدالته بروايته"اهـ (2).
- ففي الجهة الأولى ينظر المحدث هل وافق الراوي غيره من أهل الحفظ والإتقان، أوْ لا؟
فإن شرك الراوي أهل الحفظ في روايته ووافقهم؛ قُبِل حديثه، وإلا رُدّ.
فإذا تفرد بالرواية فإذا كان في حيز الرد ردّ حديثه. وإن كان في حيز القبول؛ نظر هل هو ممن يحتمل تفرده أم لا؟
فإن كان ممن يحتمل تفرده قبل حديثه.
وإن كان ممن لا يحتمل تفرده نظر هل حدّث بما يحدث الثقات خلافه؟ فإن وجد أنه حدّث بما يحدث الثقات خلافه ردّ خبره هذا، إلا أن يرى المحدث أن هذه المخالفة غير مؤثرة، ويمكن الجمع والتوفيق.
وكذا إذا تفرد بالحديث راوٍ يحتمل تفرده ووقعت مخالفة بين حديثه الذي يرويه، وبين غيره من نصوص الشرع؛ فإنه يطبق قاعدة مختلف الحديث ومشكله (1).
- ويلاحظ أن المعتمد في المخالفة هو المخالفة المؤثرة المعتبرة التي لا يمكن فيها التوفيق والجمع. فلا يهجم على رد الحديث لأدنى مخالفة، أو لمجرد الاستبعاد العقلي، وأسوأ منهما رد الحديث لعدم الفهم، ولأن عقلك القاصر لا يبلغ فهمه!
بل الواجب مادام النظر في حديث ثابت اتفقوا على تصحيحه بأن كان في الصحيحين أو غيرهما، إذا ما ظهرت مخالفته لنصوص الشرع: تقديم التأويل (من أجل الجمع والتوفيق) فإن لم يمكن التأويل، و لا الطعن المعقول فالواجب التوقف(2).
وبعد : فأسوق لك هنا بعض الأحاديث التي نقد الألباني فيها المتن، بعد نقده للسند:
فمن ذلك: الحديث الثاني في سلسلة الأحاديث الضعيفة: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً"(1/165)
قال الألباني حفظه الله: "وجملة القول أن الحديث لا يصح إسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما صح من قول ابن مسعود والحسن البصري، وروي عن ابن عباس. ولهذا لم يذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان ص12، إلا موقوفاً على ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما... وأمّا متن الحديث فإنه لا يصح؛ لأن ظاهره يشمل من صلى صلاة بشروطها وأركانها بحيث إن الشرع يحكم عليها بالصحة، وإن كان هذا المصلي لا يزال يرتكب بعض المعاصي، فكيف يكون بسببها لا يزداد بهذه الصلاة إلا بعداً؟ هذا مما لا يعقل و لا تشهد له الشريعة ... الخ كلامه"اهـ
ومن ذلك الحديث رقم (32) في سلسلة الأحاديث الضعيفة: "الدنيا حرام على أهل الآخرة، والآخرة حرام على أهل الدنيا، والآخرة والدنيا حرام على أهل الله".(1/166)
قال حفظه الله بعد ذكره لضعف الحديث من جهة السند: "حري بمن روى هذا الخبر أن يكون غير ثقة، بل هو كذاب أشر، فإنه باطل لا يشك في ذلك مؤمن عاقل، إذ كيف يحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم على المؤمنين أهل الآخرة ما أباحه الله لهم من التمتع بالدنيا وطيباتها، كما في قوله عزوجل: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة:29]، وقوله: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة} [الأعراف: 32]. ثم كيف يجوز أن يقال: إن رسول الله حرّم الدنيا والآخرة معاً على أهل الله تعالى؟! وما أهل الله إلا أهل القرآن القائمين به، والعاملين بأحكامه، وما الآخرة إلا جنة أو نار! فتحريم النار على أهل الله مما أخبر به الله تعالى، كما أنه تعالى أوجب الجنة للمؤمنين به، فكيف يقول هذا الكذاب: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرّم عليهم الآخرة وفيها الجنة التي وعد بها المتقون، وفيها أعز شيء عليهم وهي رؤية الله تعالى كما قال سبحانه: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} [القيامة:23] وهل ذلك إلا في الآخرة؟! وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تعالى: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنة، وتنجينا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم، ثم تلا هذه الآية: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [يونس:26] رواه مسلم وغيره.
والذي أراه أن واضع هذا الحديث هو رجل صوفي جاهل أراد أن يبث في المسلمين بعض عقائد المتصوفة الباطلة التي منها تحريم ما أحل الله بدعوى تهذيب النفس، كأن ما جاء به الشارع الحكيم غير كاف في ذلك، حتى جاء هؤلاء يستدركون على خالقهم سبحانه وتعالى. ومن شاء أن يطلع على ما أشرنا إليه من التحريم فليراجع كتاب: "تلبيس إبليس" للحافظ أبي الفرج ابن الجوزي، يرى العجب العجاب"اهـ(1/167)
ومن ذلك كلامه في الحديث رقم (55) من سلسلة الأحاديث الضعيفة: "سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن"، بعد بيان ضعف إسناده، قال حفظه الله: "ويكفي في رد هذا الحديث إنه مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم في مشيه، فقد كان صلى الله عليه وسلم سريع المشي، كما ثبت ذلك عنه في غير ما حديث، وروى ابن سعد في الطبقات عن الشفاء بنت عبدالله أم سليمان، قالت: كان عمر إذا مشى أسرع.
[قال الألباني: راجع باب ما جاء في مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتاب الشمائل للترمذي (1/116-218)، وراجع (1/52) منه أيضاً، و الأدب المفرد للبخاري ص119، وطبقات ابن سعد (1/379-380) ومجمع الزوائد]
وقال: وقد روى الإمام أحمد (3035) من حديث ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا مشى مشى مجتمعاً ليس فيه كسل" ورواه البزار كما في مجمع الزوائد (8/281)، وسنده صحيح، وله شاهد عن سيار أبي الحكم مرسلاً، رواه ابن سعد (1/379)."اهـ
ومن ذلك كلامه على الحديث رقم (69)، في سلسلة الأحاديث الضعيفة: "مسح الرقبة أمان من الغل".
قال غفر الله له، بعد بيان ضعف الحديث من جهة السند: "فمثل هذا الحديث يُعد منكراً، لاسيما وهو مخالف الأحاديث الواردة في صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم، إذ ليس في شيء منها ذكر لمسح الرقبة، اللهم إلا في حديث طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده، قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح رأسه مرّة واحدة، حتى بلغ القذال، وهو أول القفا" وفي رواية: "ومسح رأسه من مقدمه إلى مؤخره حتى أخرج يديه من تحت أذنيه" أخرجه أبوداود وغيره، وذكر عن ابن عيينة أنه كان ينكره، وحق له ذلك؛ فإن له ثلاث علل، كل واحدة منها كافية لتضعيفه، فكيف بها وقد اجتمعت، وهي : الضعف، والجهالة، والاختلاف في صحبة والد مصرف. ولهذا ضعفه النووي وابن تيمية والعسقلاني، وغيرهم، وقد بينت ذلك في ضعيف سنن أبي داود رقم (15)"اهـ(1/168)
ومن ذلك الحديث رقم (87) في سلسلة الأحاديث الضعيفة: "إذا صعد الخطيب المنبر فلا صلاة ولاكلام".
قال الألباني بعد تضعيفه لسند الحديث: "وإنما حكمت على الحديث بالبطلان؛ لأنه مع ضعف سنده يخالف حديثين صحيحين:
الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة وقد خرج الإمام فليصل ركعتين" أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، من حديث جابر. وفي رواية أخرى عنه قال: "جاء سليك الغطفاني ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال له: يا سليك قم فاركع ركعتين وتجوز فيهما. ثم قال: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما" أخرجه مسلم (3/14-15)، وغيره.
الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت"، متفق عليه.
فالحديث الأول صريح لتأكيد أداء الركعتين بعد خروج الإمام، بينما حديث الباب ينهى عنهما. فمن الجهل البالغ أن ينهى بعض الخطباء عنهما من أراد أن يصليهما وقد دخل والإمام يخطب، خلافاً لأمره صلى الله عليه وسلم. وإني لأخشى على مثله أن يدخل في وعيد قوله تعالى: {أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى} [العلق:9]، وقوله: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} [النور:63]، ولهذا قال النووي رحمه الله: "هذا نص لا يتطرق إليه التأويل، ولا أظن عالماً يبلغه ويعتقده صحيحاً فيخالفه".(1/169)
والحديث الثاني يدل بمفهوم قوله: "والإمام يخطب" أن الكلام والإمام لا يخطب لا مانع منه، ويؤيده جريان العمل عليه في عهد عمر رضي الله عنه كما قال ثعلبة بن أبي مالك: "إنهم كانوا يتحدثون حين يجلس عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر حتى يسكت المؤذن، فإذا قام عمر على المنبر لم يتكلم أحد حتى يقضي خطبتيه كلتيهما" أخرجه مالك في موطئه (1/126)، والطحاوي (1/217)، والسياق له، وابن أبي حاتم في العلل (1/201)، وإسناد الأولين صحيح. فثبت بهذا أن كلام الإمام هو الذي يقطع الكلام، لا مجرد صعوده على المنبر، وأن خروجه عليه لا يمنع من تحية المسجد، فظهر بطلان حديث الباب والله تعالى هو الهادي للصواب"اهـ
فهذه أمثلة سريعة من المئة الأولى في سلسلة الأحاديث الضعيفة، للشيخ الألباني حفظه الله، تبين لك نقده للمتن واعتباره له. وسأورد أمثلة لأحاديث صححها الشيخ مع ورود مخالفة في متنها، ولكنها مخالفة يمكن معها الجمع والتوفيق، وذلك منه جرياً على سَنَن أهل الحديث من أنهم لا يحكمون برد الحديث إذا صح سنده، لمجرد مخالفة يمكن معها الجمع والتوفيق.
من ذلك الحديث رقم (10) في سلسلة الأحاديث الصحيحة، ترجم له: "التكالب على الدنيا يورث الذل" أورد تحته حديث أبي أمامة الباهلي، قال ورأى سكة وشيئاً من آلة الحرث، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يدخل هذا بيت قوم إلا أدخله الله الذل" أخرجه البخاري.
هذا الحديث أورده الشيخ لأن مستشرقاً ألمانياً زعم لأحد الطلاب المسلمين السوريين هناك أن الإسلام يحذر أهله من تعاطي استثمار الأرض، احتج بهذا الحديث وقال: إنه في البخاري. متعامياً عن المعنى الذي ذكره البخاري نفسه في ترجمته للحديث، حيث ترجم للحديث بقوله: "باب ما يحذر من عواقب الاشتغال بآلة الزرع، أو مجاوزة الحد الذي أمر به" (1).(1/170)
قال الألباني: "إنه محمول على من شغله الحرث والزرع عن القيام بالواجبات كالحرب ونحوه، .. فإن من المعلوم أن الغلو في السعي وراء الكسب يلهي صاحبه عن الواجب، ويحمله على التكالب على الدنيا، والإخلاد إلى الأرض، والإعراض عن الجهاد، كما هو مشاهد من الكثيرين من الأغنياء.
ويؤيد هذا الوجه قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم" وهو حديث صحيح بمجوع طرقه - وذكرها - ثم قال: فتأمل كيف بين هذا الحديث ما أجمل في حديث أبي أمامة المتقدم قبله، فذكر أن تسليط الذل ليس هو لمجرد الزرع والحرث، بل لما اقترن به من الاخلاد إليه، والانشغال به عن الجهاد في سبيل الله، فهذا هو المراد بالحديث، وأمّا الزرع الذي لم يقترن به شيء من ذلك فهو المراد بالأحاديث المرغبة في الحرث فلا تعارض بينها و لا إشكال"اهـ
ومن ذلك الحديث رقم (37) في سلسلة الأحاديث الصحيحة: "عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه كله، ثم لينتزعه فإن في إحدى جناحيه داء وفي الأخرى شفاء" أخرجه البخاري. وذكر الألباني أن الحديث ثابت عن أبي سعيد، وأنس أيضاً وخرّجه عنهما، ثم قال: "فقد ثبت الحديث بهذه الأسانيد الصحيحة عن هؤلاء الصحابة الثلاثة: أبي هريرة، وأبي سعيد، وأنس [رضي الله عنهم] ثبوتاً لا مجال لرده و لا للتشكيك فيه.." وردّ على من ادعى مخالفة الحديث للعلم ردّاً قوياً وترجم على الحديث وغيره مما هو في بابه: "مالم يعرفه الطب الحديث".(1/171)
ومن ذلك الحديث رقم (2472)، في سلسلة الأحاديث الصحيحة، عن ابن عباس: "كانت امرأة تصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم حسناء، من أجمل الناس"، فكان ناس يصلون في آخر صفوف الرجال فينظرون إليها، فكان أحدهم ينظر إليها من تحت إبطه إذا ركع، وكان أحدهم يتقدم إلى الصف الأوّل حتى لا يراها، فأنزل الله عزوجل هذه الآية: {ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين} [الحجر:24]" أخرجه أبوداود الطيالسي (2172)، والبيهقي في سننه (3/98)، من طريق الطيالسي، وأحمد (1/305)، والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة.
وهذا الحديث قال ابن كثير عنه: "حديث غريب جداً، وفيه نكارة شديدة" (1)؛ فقال الشيخ الألباني في تحقيق ماتع، بيّن فيه صحة الحديث من جهة السند، ومن جهة المعنى، ونفى غرابة عنهما، فقال: "وأمّا النكارة الشديدة التي زعمها ابن كثير رحمه الله؛ فالظاهر أنه يعني أنه من غير المعقول أن يتأخر أحد من المصلين إلى الصف الآخر لينظر إلى امرأة!
وجوابنا عليه: إنهم قد قالوا: إذا ورد الأثر بطل النظر! فبعد ثبوت الحديث لا مجال لاستنكار ما تضمنه من الواقع، ولو أننا فتحنا باب الاستنكار لمجرد الاستبعاد العقلي، للزم إنكار كثير من الأحاديث الصحيحة، وهذا ليس من شأن أهل السنة والحديث، بل هو من دأب المعتزلة وأهل الأهواء. ثم ما المانع أن يكون أولئك الناس المستأخرون من المنافقين الذين يظهرون الإيمان، ويبطنون الكفر؟ بل وما المانع أن يكونوا من الذين دخلوا في الإسلام حديثاً، ولمّا يتهذبوا بتهذيب الإسلام و لا تأدبوا بأدبه؟!"اهـ
وأنت ترى كيف أن الشيخ لم يهجم على رد الأحاديث لأدنى مخالفة بعد صحة سندها، وينظر في التوفيق والجمع ما أمكن. وهذا سنن أهل الحديث والشيخ يسير عليه.
وبهذا انتهي هذا المقصد. ولله الحمد والمنة.
الخاتمة
في رتب الطلب ودرجاته ومناقله(1/172)
هذه أيها الأخ الكريم خاتمة هذا الكتاب، أسأل الله سبحانه بأن له الحمد لاإله إلا هو الحنان المنان بديع السموات والأرض أن يرزقني وإياك حسن الختام، وأن يميتنا على الإسلام، إنه سميع مجيب.
وقد رأيت أن أختم هذا الكتاب بفصل ألخصه من كلام الحافظ ابن عبدالبر النمري كثير الفائدة، وموضوعه "رتب طلب العلم، ودرجاته، ومناقله"، أسأل الله عزوجل أن ينفعني وإياك به.
قال ابن عبدالبر النمري رحمه الله تعالى:
"طلب العلم درجات ومناقل ورتب، لاينبغي تعديها، ومن تعداها جملة فقد تعدى سبيل السلف رحمهم الله، ومن تعدى سبيلهم عامداً ضلَّ، ومن تعداه مجتهداً زلَّ.
فأول العلم: حفظ كتاب الله عزوجل، وتفهمه. وكل ما يعين على فهمه فواجب طلبه معه. و لا أقول: إن حفظه كله فرض، ولكن أقول: إن ذلك واجب لازم على من أحب أن يكون عالماً ليس من باب الفرض.
فمن حفظه قبل بلوغه ثم فرغ إلى ما يستعين به على فهمه من لسان العرب؛ كان له عوناً كبيراً على مراده منه، ومن سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم ينظر في ناسخ القرآن ومنسوخه، وأحكامه، ويقف على اختلاف العلماء واتفاقهم في ذلك، وهو أمر قريب على من قربه الله عليه .
ثم ينظر في السنن المأثورة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فبها يصل الطالب إلى مراد الله جل وعز في كتابه، وهي تفتح له أحكام القرآن فتحاً. وفي سير رسول الله صلى الله عليه وسلم تنبيه على كثير من الناسخ والمنسوخ في السنن. ومن طلب السنن فليكن معوله على حديث الأئمة الثقات الحفاظ الذين جعلهم الله خزائن لعلم دينه، وأمناء على سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومما يستعان به على فهم الحديث ما ذكرناه من العون على كتاب الله، وهو العلم بلسان العرب، ومواقع كلامها، وسعة لغتها، واستعارتها، ومجازها، وعموم لفظ مخاطبتها وخصوصه، وسائر مذاهبها؛ لمن قدر فهو شيء لا يستغني عنه.(1/173)
ويلزم صاحب الحديث أن يعرف الصحابة المؤدين للدين عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، ويعني بسيرهم، وفضائلهم، ويعرف أحوال الناقلين عنهم، وأيامهم وأخبارهم، حتى يقف على العدول، وهو أمر قريب كله على من اجتهد . فمن اقتصر على علم إمام واحد وحفظ ما كان عنده من السنن ووقف على غرضه ومقصده في الفتوى حصل على نصيب من العلم وافر، وحظ منه حسن صالح، فمن قنع بهذا اكتفى والكفاية غير الغنى .
ومن طلب الإمامة في الدين، وأحب أن يسلك سبيل الذين جاز لهم الفتيا نظر في أقاويل الصحابة والتابعين، والأئمة في الفقه . إن قدر على ذلك نأمره بذلك كما أمرناه بالنظر في أقاويلهم في تفسير القرآن، فمن أحب الاقتصار على أقاويل علماء الحجاز، اكتفى واهتدى - إن شاء الله - وإن أحب الإشراف على مذاهب الفقهاء متقدميهم ومتأخريهم بالحجاز والعراق، وأحب الوقوف على ما أخذوا وتركوا من السنن، وما اختلفوا في تثبيته وتأويله، من الكتاب والسنة، كان ذلك مباحاً، ووجهاً محموداً إن فهم وضبط ما علم أو سلم من التخليط نال درجة رفيعة ووصل إلى جسيم من العلم واتسع ونبل؛ إذا فهم ما اطلع، وبهذا يحصل الرسوخ لمن فقهه الله، وصبر على هذا الشأن، واستحلى مرارته، واحتمل ضيق المعيشة فيه.
واعلم يا أخي إن المفرط في حفظ المولدات لايؤمن عليه الجهل بكثير من السنن، إذا لم يكن تقدم علمه بها. وإن المفرط في حفظ طرق الآثار دون الوقوف على معانيها، وما قال الفقهاء فيها؛ لصفر من العلم، وكلاهما قانع بالشم من المطعم، ومن الله التوفيق والحرمان، وهو حسبي وبه أعتصم.(1/174)
واعلم يا أخي أن الفروع لا حدَّ لها تنتهي إليه أبداً، ولذلك تشعبت، فمن رام أن يحيط بآراء الرجال فقد رام ما لا سبيل له، و لا لغيره إليه؛ لأنه لا يزال يرد عليه ما لايسمع ولعله أن ينسى أول ذلك بآخره، لكثرته، فيحتاج أن يرجع إلى الاستنباط الذي كان يفزع منه، ويجبن عنه تورعاً بزعمه أن غيره كان أدرى بطريق الاستنباط منه، فلذلك عول على حفظ قوله، ثم إن الأيام تضطره إلى الاستنباط مع جهله بالأصول، فجعل الرأي أصلاً واستنبط عليه .
واعلم أنه لم تكن مناظرة بين اثنين أو جماعة من السلف إلا لتفهم وجه الصواب، فيصار إليه، ويعرف أصل القول وعلته، فيجري عليه أمثلته ونظائره.
فعليك يا أخي بحفظ الأصول والعناية بها.
واعلم أن من عني بحفظ السنن والأحكام المنصوصة في القرآن ونظر في أقاويل الفقهاء، فجعله عوناً له على اجتهاده، ومفتاحاً لطرائق النظر، وتفسيراً لجمل السنن المحتملة للمعاني، ولم يقلد أحداً منهم تقليد السنن التي يجب الانقياد إليها على كل حال، دون نظر، ولم يرح نفسه مما أخذ العلماء به أنفسهم من حفظ السنن وتدبرها، واقتدى بهم في البحث والتفهم والنظر، وشكر لهم سعيهم فيما أفادوه ونبهوا عليه، وحمدهم على صوابهم الذي هو أكثر أقوالهم، ولم يبرئهم من الزلل كما لم يبرؤوا أنفسهم منه، فهذا هو الطالب المتمسك بما عليه السلف الصالح، وهو المصيب لحظه، والمعاين لرشده، والمتابع لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهدي صحابته رضي الله عنهم.
ومن أعف نفسه من النظر، وأضرب عما ذكرنا، وعارض السنن برأيه، ورام أن يردها إلى مبلغ نظره، فهو ضال مضل، ومن جهل ذلك كله أيضاً، وتقحم في الفتوى بلا علم فهو اشد عمى،و أضل سبيلاً
ولكن لا حياة لمن تنادي
لقد أسمعت لو ناديت حياً
وقد علمت أنني لا أسلم من جاهل معاند لايعلم.
ولو كنت في غار على جبل وعر
ولست بناج من مقالة طاعن
ولو غاب عنهم بين خافيتي نسر
ومن ذا الذي ينجو من الناس سالماً(1/175)
واعلم يا أخي أن السنة والقرآن هما أصل الرأي والعيار عليه، وليس الرأي بالعيار على السنة، بل السنة عيار عليه، ومن جهل الأصل لم يصل الفرع أبداً.
وقال ابن وهب: حدثني مالك أن إياس بن معاوية قال لربيعة: إن الشيء إذا بني على عوج لم يكد يعتدل. قال مالك: يريد بذلك المفتي الذي يتكلم على أصل يبني عليه كلامه"اهـ(1).
قال الشافعي رحمه الله: "من تعلم القرآن عظمت قيمته.
ومن تكلم في الفقه نما قدره.
ومن كتب الحديث قويت حجته.
ومن نظر في الحساب جزل رأيه.
ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه"اهـ (2).
وقال ابن حبان رحمه الله: "إن في لزوم سنته صلى الله عليه وسلم: تمام السلامة، وجماع الكرامة؛ لا تطفأ سُرُجها، ولا تدحض حججها، من لزمها عصم، ومن خالفها يُذم؛ إذ هي الحصن الحصين، والركن الركين، الذي بان فضله، ومتن حبله، من تمسك به ساد، ومن رام خلافه باد، فالمتعلقون به أهل السعادة في الآجل، والمغبوطون بين الأنام في العاجل"اهـ (3).
وبهذا تتم هذه الخاتمة، وبها يتم هذا الكتاب، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك، وصل اللهم على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك اللهم على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
محمد بن عمر بن سالم بازمول
مكة المكرمة .
المحتويات
المقدمة .
Erreur ! Aucune entrée de table des matières n'a été trouvée.(1/176)