بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمْ
الاعتصام بحبل الله بين الواقع والمبشرات
(دراسة قرآنية واقعية)
…
بحث مقدم إلى مؤتمر
"الإسلام والتحديات المعاصرة"
المنعقد بكلية أصول الدين في الجامعة الإسلامية
في الفترة: 2-3/4/2007م
إعداد:
د. محمود هاشم عنبر
أستاذ مساعد بقسم التفسير وعلوم القرآن - كلية أصول الدين – الجامعة الإسلامية
أبريل/ 2007
ملخص البحث
…هذه الدراسة قائمة على منهج التفسير الموضوعي لموضوع قرآني وهو (الاعتصام بحبل الله بين الواقع والمبشرات) لنرى من خلال البحث والدراسة تعريف الاعتصام لغة وشرعاً، والآيات القرآنية التي حثت على الاعتصام بحبل الله ونبذت الفرقة والاختلاف، كما ونتعرف من خلال البحث على ثمرات الاعتصام وويلات الفرقة والاختلاف ونستقرئ مستقبل الأمة الإسلامية من خلال المبشرات القرآنية والنبوية والواقعية، وكل ذلك من خلال دراسة موضوعية وواقعية، وفي الختام أهم النتائج التي تمَّ التوصل إليها من خلال هذه الدراسة.
ABSTRACT
…As a real example of type of subjective studied, this study discusses the adhered to much in the rope of Allah, a many the tidings and present setuation.
…This research done through combining verses from several suras in the holy Koran, it shows all means of rejection between muslim finally the research speaks about the results and conoclution, the best result, that if muslim adhered in Islam, they will be the best nation, and the future for Muslim.
المقدمة
الحمد لله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المجاهدين محمد بن عبدالله عليه أفضل صلاة وأتم تسليم أما بعد:(1/1)
…فقد أصبح المسلمون اليوم كمّاً مهملاً بين الأمم والشعوب، وأصبحت أمَّة الإسلام التي وصفها الله من فوق سبع سموات بأنها خير أمَّة أخرجت للناس تعيش حالة من الذلة والمهانة والضياع، يتخطفها أعداؤها من كل حدب وصوب، ويطمع فيها القاصي والداني، سلبت أرضها، وخدشت كرامتها، وغربت شمس عزتها، وانتهكت حرماتها ومقدساتها، وضاعت هيبتها بين الشعوب، حتى أصبح أعداؤها يتحكمون في رسم حاضرها، والتخطيط لمستقبلها بما يتناسب مع مصالحهم وتحقيق أهدافهم، وسبب ذلك كله هو تخلي المسلمين عن مصدر قوتهم وعزتهم وسيادتهم، وتخليهم عن الإسلام رسالة ومنهجاً ونظاماً للحياة، حتى ضاع الدين الحق من واقعنا ومجتمعاتنا، ضاع من سلوكنا وتعاملنا مع بعضنا، فدبَّت الفرقة والتنازع في جسد الأمة، وحل بين أبنائها الخلاف وتأصل في واقعها الضعف، فاستأسد الأعداء علينا بعد أن وجدوا أمة الإسلام فريسة سهلة، وصيداً ثميناً، وحتى تعود الأمة إلى مجدها وعزها لا بد من تصحيح مسارها لإنقاذها من التردي والسقوط والانهيار، وذلك بالاعتصام بحبل الله والالتفاف حول دينه والوثوق بوعده ونصره، ونبذ الفرقة والتنازع والاختلاف والذي يؤدي كله إلى الفشل والضعف والذلة والمهانة، فالأمة بحاجة إلى بعث جديد، تنفض فيه غبار الجبن والخوف عن نفسها، وتستعد لقيادة البشرية كما كانت وهي مرشحة لذلك، فعلى الأمة أن تستنهض همم أبنائها، وتبث العزائم في قلوبهم ونفوسهم لصدارة العالم وقيادة الإنسانية، فبالرغم من كل التحديات الواقعية، والمؤامرات الدولية على الإسلام والمسلمين فإننا نعتقد جازمين وواثقين بوعد الله بأن المستقبل لهذا الدين، وأن شمس القوة والهيمنة والقيادة بدأت تغرب في بلاد الغرب لتشرق على الأمة الإسلامية من جديد، نستقرئ ذلك من خلال المبشرات القرآنية والنبوية والواقعية.(1/2)
فمستعيناً بالله، ومتوكلاً عليه وحده أتقدم بهذا الجهد العلمي المتواضع لتجسيد ما يجول في خاطري من أفكار، آملاً أن تبعث العزيمة في النفوس الغيورة على مستقبل هذه الأمة، وذلك خلال سطور هذا البحث.
…وقد جعلته من مقدمة وثلاثة مباحث وخاتمة وهي كما يلي:
المقدمة: وقد تناولت هدف البحث وغايته بإجمال ثم هيكلية البحث مفصلة.
المبحث الأول: وقفات مع آيات الاعتصام ونبذ الفرقة والخلاف.
…ويشتمل على ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعريف الاعتصام في اللغة والاصطلاح.
المطلب الثاني: آيات الاعتصام ونبذ الفرقة والاختلاف في السياق القرآني.
المطلب الثالث: الاعتصام بحبل الله سبيل لوحدة الأمة.
المبحث الثاني: ثمرات الاعتصام بحبل الله وويلات الفرقة والخلاف.
…ويشتمل على مطلبين:
المطلب الأول: ثمرات الاعتصام بحبل الله.
المطلب الثاني: ويلات الفرقة والاختلاف.
المبحث الثالث: استقراء مستقبل الأمة في ظل الواقع والمبشرات.
…ويشتمل على ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: المبشرات القرآنية.
المطلب الثاني: المبشرات النبوية.
المطلب الثالث: المبشرات الواقعية.
الخاتمة: وتشمل أهم النتائج والتوصيات.
المبحث الأول
وقفات مع آيات الاعتصام ونبذ الفرقة والاختلاف
المطلب الأول: تعريف الاعتصام في اللغة والاصطلاح
أولاً: الاعتصام في اللغة:
…العصمة في كلام العرب بمعنى المنع، وعصمة الله لعبده أن يعصمه مما يوبقه، تقول عصمه يعصمه عصماً منعه ووقاه، وفي التنزيل قوله تعالى: { سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ } (1) أي يمنعني من تغريق الماء.
…واعتصم فلان بالله إذا امتنع به، والعصمة بمعنى الحفظ، ومنه قوله تعالى: { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس } (2) أي يحفظك ويحميك.
__________
(1) سورة هود : الآية 43 .
(2) سورة المائدة : الآية 67 .(1/3)
…والاعتصام بمعنى الامتناع، تقول اعتصمت بالله إذا امتنعت بلطفه من المعصية واستعصم بمعنى امتنع وأبى، ومنه قوله تعالى حكاية عن امرأة العزيز حين راودت يوسف عن نفسه { وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ } (1) بمعنى أنه أبى عليها ولم يجبها إلى ما طلبت. والعاصم المانع والحامي (2).
…ويقول ابن فارس: عصم: العين والصاد والميم أصل واحد صحيح يدل على إمساك ومنع وملازمة، والمعنى في ذلك كله معنى واحد، ومن ذلك العصمة، وهي أن يعصم الله تعالى عبده من سوء يقع فيه، واعتصم العبد بالله تعالى إذا امتنع، واستعصم: التجأ وتقول العرب أعصمت فلاناً " أي هيأت له شيئاً يعتصم بما نالته يده أي يلتجئ ويتمسك به (3).
…فمن خلال ما تقدم يتبين لنا أن الاعتصام في اللغة وردت بمعان عديدة وهي المنع والاتقاء والحفظ والحماية والالتجاء وكلها معان متقاربة تدور حول فلك واحد.
ثانياً: الاعتصام في الاصطلاح:
تقاربت معاني الاعتصام في الاصطلاح عند المفسرين كما تقاربت عند اللغويين ويظهر ذلك جلياً من خلال المعاني الاصطلاحية الآتية:
الإمام الشوكاني يعرف الاعتصام بقوله: " الاعتصام بالله التمسك بدينه وطاعته والوثوق بوعده"(4).
ويعرف الإمام الزمخشري الاعتصام بقوله: " التمسك بدينه والالتجاء إليه في دفع شرور الكفار ومكايدهم"(5).
__________
(1) سورة يوسف : الآية 32 .
(2) انظر : لسان العرب، لابن منظور، ج12، ص469، 470 .
(3) انظر : معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، ج4، ص331 .
(4) فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، ج1، ص 367 .
(5) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، ج1، ص385،" بتصرف بسيط ".(1/4)
أما الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور فيجمع بين التعريف اللغوي والاصطلاحي للاعتصام فيقول: " الاعتصام افتعال من عصم وهو طلب ما يعصم أي يمنع وذلك بالإجتماع على هذا الدين وعدم التفرق ليكتسبوا باتحادهم قوة ونماء " (1).
فمن خلال هذه المعاني يتبين لنا أن الاعتصام في الاصطلاح يأتي بمعنى التمسك بالدين والوثوق بوعد الله والالتجاء إليه في دفع شرور الكفار ومكايدهم.
…وعند النظر في العلاقة بين التعريف اللغوي والاصطلاحي للفظة الاعتصام يتبين لنا أن المعنى الاصطلاحي يمثل جزءاً من المعاني اللغوية لهذه اللفظة، ولا غرابة في ذلك فالقرآن قد نزل بلغة العرب وذلك تصديقاً لقوله تعالى { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } (2).
المطلب الثاني: آيات الاعتصام ونبذ الفرقة والاختلاف في السياق القرآني:
…الاعتصام بحبل الله هو سبيل المنعة والقوة، وهو سبيل النصر والتمكين والعزة والكرامة، ولقد سجلت أمة الإسلام في التاريخ مكانة مرموقة وسؤدداً عظيماً يوم أن تمسك المسلمون بدينهم، واعتزوا بتعاليم ربهم وتمسكوا بسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، والتمسوا العزة في دين الله فأعزهم الله سبحانه، وأظهرهم على أعدائهم، فحافظوا على قيادتهم للإنسانية، وريادتهم للبشرية ما بقوا معتصمين بحبل الله، متآلفين على قلب رجل واحد، فهابهم أعداؤهم، وحسبوا لهم ألف حساب وحساب، وحين وقع الخلاف بين أبناء الأمة، وتنازعوا فيما بينهم ضاعت هيبتهم من قلوب أعدائهم، وأصابهم الوهن والضعف، فتداعت عليهم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها وذهبت ريحهم وتبددت قوتهم، وأصبحت بلاد العالم الإسلامي لقمة سائغة، يتطاول عليها القاصي والداني، ويتجرأ عليها الضعفاء قبل الأقوياء.
__________
(1) انظر : التحرير والتنوير، المجلد الثالث، ج4، ص31 .
(2) سورة يوسف : الآية 2 .(1/5)
…لذلك يخاطبنا رب العزة والجلال بضرورة الاعتصام والوحدة والبعد عن الاختلاف والفرقة حتى يعود للأمة مجدها وعزتها وسؤددها، وذلك في الآيات الآتية:
قوله تعالى: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا... } (1).
وقوله: { إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } (2).
وقوله: { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ } (3).
وقوله: { وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (4).
وقوله: { فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ } (5).
وقوله: { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ } (6).
وقوله: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا...... } (7).
وقوله: { أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيه } (8).
وقوله: { حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ } (9).
وقوله: { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُم } (10).
__________
(1) سورة آل عمران : الآية 103 .
(2) سورة النساء : الآية 146 .
(3) سورة النساء : الآية 175 .
(4) سورة آل عمران : الآية 101 .
(5) سورة الحج : الآية : 78 .
(6) سورة آل عمران : الآية 105 .
(7) سورة آل عمران : الآية 103 .
(8) سورة الشورى : الآية 13 .
(9) سورة آل عمران : الآية 152 .
(10) سورة الأنفال : الآية 46 .(1/6)
مثل: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (1).
{ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ - إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } (2).
وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ... } (3).
وقوله: { وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ - مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } (4).
وقوله: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ } (5).
وبالنظر إلى الآيات السابقة - سواء التي حثت على الاعتصام بحبل الله أو التي حذرت من الفرقة والاختلاف ونهت عن التنازع الذي يؤدي إلى الفشل وذهاب القوة والهيبة – نلاحظ أن جميع هذه الآيات مدنية أي أنها نزلت بعد هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة وإقامة دولة الإسلام على أرضها، وألمس في ذلك إشارتين:
__________
(1) سورة الأنعام : الآية 153 .
(2) سورة هود : الآية 118-119 .
(3) سورة الأنعام : الآية 159 .
(4) سورة الروم : الآية 31-32 .
(5) سورة التوبة : الآية 107 .(1/7)
…الإشارة الأولى: للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه بأن اعتصامهم بحبل الله هو سبب من أسباب بناء دولتهم ونشأتها وإظهاره على أعدائه بعد تلك السلسلة من العذابات التي تعرض لها هو وأصحابه في مكة وتلك الهجرات المتتالية بدءاً بالهجرة الأولى إلى الحبشة ومروراً بالهجرة الثانية إليها، وهجرته - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف وانتهاء بالهجرة إلى المدينة المنورة، كما كان في هذه الآيات المدنية أيضاً تحذير للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من الفرقة والاختلاف لأن ذلك سيؤدي إلى الضعف بعد القوة وإلى الفشل والهزيمة بعد النجاحات والنصر والتمكين.
…الإشارة الثانية: إلى أبناء أمة الإسلام بأن يعتصموا بحبل الله ويلجأوا إليه ويحتموا بجنابه حتى يعودوا إلى مجدهم وعزهم، فلا يمكن أن تقوم لهم قائمة إلا بالسير على خطى الحبيب محمد - صلى الله عليه وسلم - ولن تعود إلى الأمة عزتها وكرامتها إلا إذا اعتز أبناؤها بالإسلام ونبذوا الفرقة والخلافات وأصبحوا على قلب رجل واحد فلن تنصر أمة الإسلام ولن يتحقق وعد الله لها إلا بنصرة دينه كما قال سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } (1).
المطلب الثالث: الاعتصام بحبل الله سبيل لوحدة الأمة:
…إنَّ نعم الله علينا عظيمة، وأعظم هذه النعم بعد نعمة الإيمان والهداية هي نعمة الأخوة في الله التي جعلت أبناء أمة الإسلام تربطهم علاقة متينة راسخة هي علاقة الدين التي هي أقوى من علاقة النسب، وهي العلاقة التي جعلت المسلمين جميعاً كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى رغم اختلاف ألوانهم وأجناسهم ولغاتهم يوحدهم الاعتصام بحبل الله والانضواء تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله.
__________
(1) سورة محمد : آية 7 .(1/8)
…ولقد ذكر الله سبحانه رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بهذه النعمة العظيمة بعد أن كانوا قبل الإسلام متقاتلين متحاربين لأقل الأسباب وأتفهها فقال: { وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً... } (1).
…أمرهم الله سبحانه أن يذكروا نعمته عليهم إذ كانوا أعداء مختلفين يقتل بعضهم بعضاً وينهب بعضهم بعضاً فأصبحوا بسبب هذه النعمة إخواناً متحابين (2).
…" فالأخوة المعتصمة بحبل الله نعمة يمتن الله بها على الجماعة المسلمة الأولى وهي نعمة يهبها الله لمن يحبهم من عباده وهو هنا يذكرهم بهذه النعمة، يذكر كيف كانوا في الجاهلية أعداء، وما كان أعدى من الأوس والخزرج في المدينة أحد وهما الحيان الغربيان في يثرب، يجاورهما اليهود الذين كانوا يوقدون حول هذه العداوة وينفخون في نارها حتى تأكل روابط الحيين جميعاً، ومن ثم تجد يهود مجالها الصالح الذي لا تعمل إلا فيه، ولا تعيش إلا معه فألَّف الله بين قلوب الحيين من العرب بالإسلام، وما كان إلا الإسلام وحده يجمع هذه القلوب المتنافرة، وما كان إلا حبل الله الذي يعتصم به الجميع فيصبحون بنعمة الله إخوانا " (3).
__________
(1) سورة آل عمران : الآية 103 .
(2) انظر : فتح القدير، للشوكاني، ج1، ص367 .
(3) في ظلال القرآن، للأستاذ سيد قطب، ج1، ص442 .(1/9)
…ويبين الأستاذ محمد الطاهر بن عاشور أثناء تفسيره لهذه الآية دور الاعتصام بالله والتمسك بدين الله في وحدة المسلمين الأوائل وبالتالي في وحدة أبناء أمة الإسلام في كل زمان وإلى قيام الساعة فيقول: يصور الله سبحانه حال المسلمين قبل إسلامهم ليحصل من استفظاعها انكشاف فائدة الحالة التي أمروا بأن يكونوا عليها وهي الاعتصام جميعاً بالإسلام الذي كان سبب نجاتهم من تلك الحالة وفي ضمن ذلك تذكير بنعمة الله تعالى الذي اختارهم لهذا الدين، وفي ذلك تحريض على إجابة أمره تعالى إياهم بالاتفاق والتذكير بنعمة الله تعالى طريق من طرق مواعظ الرسل، كما قال سبحانه وتعالى حكاية عن هود: { وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ } (1)، وقال عن شعيب: { وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ } (2)، وهذا التذكير خاص بمن أسلم من المسلمين بعد أن كان في الجاهلية لأن الآية خطاب للصحابة، ولكن المنة به مستمرة على سائر المسلمين، ذلك لأن كل جيل يقدر أن لو لم يسبق إسلام الجيل الذي قبله لكانوا هم أعداء، والخطاب للمؤمنين وهم يومئذ المهاجرون والأنصار، وكان جميعهم قبل الإسلام في عداوة وحروب فالأوس والخزرج كانت بينهم حروب دامت مائة وعشرين سنة قبل الهجرة ومنها كان يوم بعاث، ولقد حاولت حكماؤهم وأولو الرأي منهم التأليف بينهم، وإصلاح ذات بينهم بأفانين الدعاية من خطابة وجاه وشعر فلم يصلوا إلى ما ابتغوا حتى ألف الله بين قلوبهم بالإسلام فكان الاعتصام بدين الله والالتفاف حول نبيهم سبباً في وحدتهم وأخوتهم (3).
__________
(1) سورة الأعراف : الآية 69 .
(2) سورة الأعراف : الآية 86 .
(3) انظر : التحرير والتنوير، المجلد الثالث، ج4، ص33، 34 .(1/10)
…ومن الآيات الدالة على عظيم نعمة الله في تأليف قلوب المسلمين ووحدتهم بسبب اعتصامهم بدينهم قوله تعالى: { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ... } (1).
…أي جمعها على الإيمان بك وعلى طاعتك ومناصرتك ومؤازرتك بعد أن كانت بين الأنصار حروب طاحنة في الجاهلية فقطع الله ذلك بينهم بنور الإيمان (2).
…أخرج الإمام البخاري في صحيحه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب الأنصار في شأن غنائم حنين فقال لهم: "يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي وكنتم متفرقين فألفكم الله بي " (3).
…يقول الأستاذ سيد قطب في معنى الآية: " هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وجعل منهم قوة موحدة بعد أن كانت قلوبهم شتى، وعداوتهم جاهرة، وبأسهم بينهم شديداً، فقد كان بينهم في الجاهلية من الثارات والدماء والمنازعات ما يستحيل معه الالتئام فضلاً عن هذا الإخاء الذي لم تعرف له الأرض نظيراً ولا شبيهاً.
__________
(1) سورة الأنفال : الآيتان 62، 63 .
(2) انظر : تفسير القرآن العظيم لابن كثير، ج2، ص323 .
(3) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الطائف في شوال سنة ثمان، حديث رقم 4330 .(1/11)
لقد وقعت المعجزة التي لا يقدر عليها إلا الله، والتي لا تصنعها إلا هذه العقيدة، فاستحالت هذه القلوب النافرة، وهذه الطباع الشموس، إلى هذه الكتلة المتراصة المتآخية الذلول بعضها لبعض، المحب بعضها لبعض، المتآلف بعضها مع بعض بهذا المستوى الذي لم يعرفه التاريخ والذي تتمثل فيه حياة الجنة وسمتها البارزة أو يمهد لحياة الجنة وسمتها البارزة والتي من صورها قوله تعالى: { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } (1)، إن هذه العقيدة عجيبة فعلاً، إنها حين تخالط القلوب تستحيل إلى مزاج من الحب والألفة ومودات القلوب فإذا نظرة العين، ولمسة اليد، وخفقة القلب ترانيم من التعارف والتعاطف والولاء والتناصر، والسماحة والهوادة، لا يعرف سرها إلا من ألف بين هذه القلوب ولا تعرف مذاقها إلا هذه القلوب (2).
فمن خلال ما تقدم نلاحظ دور الاعتصام بحبل الله في توحيد الأمة ورفعتها وكيف أن الالتفاف حول هذه العقيدة سبيل إلى تماسك الأمة وصلابتها.
المبحث الثاني
ثمرات الاعتصام بحبل الله وويلات الفرقة والاختلاف
…الاعتصام بحبل الله وصية الله سبحانه وتعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه الذين آمنوا معه، والذين منَّ عليهم بنعمة الأخوة والهداية وآمنهم بعد خوف ويسَّر لهم إقامة دولة لهم على أرض المدينة المنورة بعد أن كانوا قلة مستضعفين، والتحذير من الفرقة والاختلاف وصية الله أيضاً لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ولأمته حتى لا يبددوا قوتهم ويضعفوا جمعهم ويصبحوا لقمة سهلة وصيداً ثميناً يتكالب عليهم الأعداء من كل حدب وصوب فكانت هذه الوصايا الثمينة من الله للمسلمين الأوائل ولأمة الإسلام في كل زمان إلى قيام الساعة لما للاعتصام بحبل الله من ثمرات وما للفرقة والاختلاف من ويلات.
__________
(1) سورة الحجر : الآية 47 .
(2) انظر : في ظلال القرآن، ج3، ص1548 .(1/12)
المطلب الأول: ثمرات الاعتصام بحبل الله:
…للاعتصام بحبل الله ثمرات عظيمة في الدنيا والآخرة بيَّنها الله سبحانه في كتابه وهي:
أولاً: الامتثال لأمر الله:
…فاعتصام الأمة بحبل الله والالتفاف حول دينهم فيه امتثال لأمر الله وسمع وطاعة له والرضا بما ارتضاه، فالله سبحانه وتعالى لا يأمر إلا بخير ولا يحذر إلا من شر حين يقول: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا.... } (1).
…أي تعلقوا بأسباب الله جميعاً، وتمسكوا بدينه الذي أمركم به، وعهده الذي عهده إليكم في كتابه من الألفة والاجتماع على كلمة الحق والتسليم لأمر الله فقد كره الله لكم الفرقة وحذركموها ونهاكم عنها ورضي لكم السمع والطاعة والألفة والجماعة، فارضوا لأنفسكم ما رضي الله لكم (2).
…يقول الإمام الفخر الرازي حول معنى الاعتصام بحبل الله: " واعلموا أنه تعالى لما أمرهم بالاتقاء عن المحظورات أمرهم بالتمسك وبالاعتصام بما هو كالأصل لجميع الخيرات والطاعات وهو الاعتصام بحبل الله، واعلم أن كل من يمشي على طريق دقيق يخاف أن تنزلق رجله فإذا تمسك بحبل مشدود الطرفين بجانبي ذلك الطريق أمن من الخوف، ولا شك أن طريق الحق طريق دقيق، وقد انزلق أرجل الكثير من الخلق عنه، فمن اعتصم بدين الله وبنياهه يكون بذلك قد أطاع الله تعالى وامتثل لأوامره ويأمن من الانزلاق عن طريق الحق، فكان المراد من الحبل ههنا كل شيء يمكن التوصل به إلى الحق في طريق الدين " (3). ومن هنا يتبين لنا أن طاعة الله تعالى والامتثال لأمره هي ثمرة من ثمرات الاعتصام بحبل الله.
ثانياً: الهداية إلى صراط الله المستقيم:
__________
(1) سورة آل عمران : الآية 103 .
(2) انظر : جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لابن جرير الطبري، ج4، ص31-33 .
(3) التفسير الكبير ومفاتيح الغيب، م 4، ج8، ص178، " بتصرف " .(1/13)
…فالهداية إلى الحق ثمرة من ثمرات الاعتصام بحبل الله كما قال سبحانه: { وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (1).
…" فالاعتصام بالله والتوكل عليه هو العمدة في الهداية، والعدة في مباعدة الغواية والوسيلة إلى الرشاد، وطريق السداد، وحصول المراد " (2).
…ويقول الإمام القرطبي: " ومن يعتصم بالله أي يمتنع ويتمسك بدينه وطاعته فقد هدي أي وفق وأرشد إلى صراط الله المستقيم " (3).
…ويقول الإمام الشوكاني: " أرشدهم الله إلى الاعتصام به ليحصل لهم بذلك الهداية إلى الصراط المستقيم الذي هو الإسلام " (4).
__________
(1) سورة آل عمران : الآية 101 .
(2) تفسير القرآن العظيم، للحافظ بن كثير، ج1، ص387 .
(3) الجامع لأحكام القرآن، ج4، ص387 .
(4) فتح القدير، ج1، ص367 .(1/14)
…ويقول الإمام محمد الطاهر بن عاشور: سياق الآية مؤذن بأنها جرت على حادثة حدثت وأن لنزولها سبباً، وسبب نزولها أن الأوس والخزرج كانوا في الجاهلية قد تخاذلوا وتحاربوا حتى تفانوا وكانت بينهم حروب كان آخرها يوم بعاث التي انتهت قبل الهجرة بثلاث سنين، فلما اجتمعوا على الإسلام زالت تلك الأحقاد من بينهم وأصبحوا عدة للإسلام، فساء ذلك يهود يثرب، فقام شاس بن قيس اليهودي وهو شيخ قديم منهم بإرسال شاب يهودي جلس إلى الأوس والخزرج يذكرهم حروب بعاث، فكادوا أن يقتتلوا، ونادى كل فريق يا للأوس! يا للخزرج، وأخذوا السلاح، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فدخل بينهم وقال: أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم ثم قرأ عليهم: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ، وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (1).
…فما فرغ منها النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى ألقوا السلاح، وعانق بعضهم بعضاً، وقوله: " ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم، أي من يتمسك بالدين فلا يخش عليه الضلال، وفي هذا إشارة إلى التمسك بكتاب الله ودينه لسائر المسلمين الذين لم يشهدوا حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن ذلك هو السبيل في عصمة المسلمين من كيد أعدائهم من المشركين وأهل الكتاب الذين يحاولون جاهدين في الإيقاع بين المسلمين كما كانوا يفعلون زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - (2).
__________
(1) سورة آل عمران : الآيتان 100، 101 .
(2) التحرير والتنوير، م3، ج4، ص28، " بتصرف " .(1/15)
…فطاعة أهل الكتاب تحمل معنى الهزيمة الداخلية، والتخلي عن دور القيادة الذي من أجله أنشئت الأمة المسلمة، وهم أيضاً لا يحرصون على شيء حرصهم على إضلال هذه الأمة عن عقيدتها وإثارة الفتن والقلائل بين أبنائها، ويبذلون في سبيل ذلك كل ما في وسعهم من مكر وحيلة وقوة وعدة، وحين يعييهم أن يحاربوا الإسلام بأنفسهم يجندون من المنافقين المتظاهرين بالإسلام، أو ممن ينتسبون زوراً إليه لتنخر لهم في جسمه وجسم أتباعه من داخل الدار، فالاعتصام بالله والالتفاف حول دينه والتمسك بكتابه والوثوق بوعده يعصم الأمة من مكايدهم ومخططاتهم وإذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد استوفى أجله، واختار الرفيق الأعلى، فإن آيات الله باقية، وهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باق، ونحن اليوم مخاطبون بهذا القرآن كما خوطب به الأولون، وطريق العصمة بيّن ولواء العصمة مرفوع، ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم (1).
ثالثاً: الدخول في رحمة الله ونيل فضله وهدايته:
…وهي ثمرات الاعتصام بالله كما يقول سبحانه: { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً } (2).
…والمراد آمنوا بالله في ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه واعتصموا به في أن يثبتهم على الإيمان، ويصونهم عن نزغ الشيطان، ويدخلهم في رحمة منه وفضل، ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً فوعد الله المعتصمين به بأمور ثلاثة: الرحمة والفضل والهداية، قال ابن عباس رضي الله عنهما: الرحمة الجنة، والفضل ما يتفضل به عليهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً يريد ديناً مستقيماً (3).
__________
(1) انظر : في ظلال القرآن، للأستاذ سيد قطب، ج1، ص438، 439 .
(2) سورة النساء : الآية 175 .
(3) انظر : التفسير الكبير ومفاتيح الغيب، م6، ج11، ص122 .(1/16)
…ويقول الإمام الحافظ ابن كثير في تفسير الآية: " الذين آمنوا بالله واعتصموا به جمعوا بين مقامي العبادة والتوكل على الله في جميع أمورهم فهؤلاء يرحمهم الله ويدخلهم الجنة ويزيدهم ثواباً ومضاعفة ورفعاً في درجاتهم من فضله عليهم وإحسانه إليهم، ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً أي طريقاً واضحاً لا اعوجاج فيه ولا انحراف وهذه صفة المؤمنين في الدنيا والآخرة، فهم في الدنيا على منهاج الاستقامة وطريق السلامة في جميع الاعتقادات وفي الآخرة على صراط الله المستقيم المفضي إلى روضات الجنان " (1).
…ويتحدث الأستاذ سيد قطب عن علاقة التلازم والتوافق بين الإيمان والاعتصام فيقول: والاعتصام بالله ثمرة ملازمة للإيمان به، متى صح الإيمان، ومتى عرفت النفس حقيقة الله، وعرفت حقيقة عبودية الكل له، فلا يبقى أمامها إلا أن تعتصم بالله وحده، وهو صاحب السلطان والقدرة وحده، فهؤلاء يدخلهم الله في رحمة منه وفضل، رحمة في هذه الحياة الدنيا قبل الحياة الأخرى، وفضل في هذه العاجلة قبل الفضل في الآجلة فالإيمان هو الواحة الندية التي تجد فيها الروح الظلال من هاجرة الضلال في تيه الحيرة والقلق والشرود، كما أنه هو القاعدة التي تقوم عليها حياة المجتمع ونظامه، فالذين آمنوا بالله واعتصموا به في رحمة من الله وفضل في حياتهم الحاضرة وفي حياتهم الآجلة، وكلمة إليه في قوله: { وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً } تخلع على التعبير حركة مصورة، إذ ترسم المؤمنين ويد الله تنقل خطاهم في الطريق إلى الله على استقامة، وتقربهم إليه خطوة خطوة، وهي عبارة يجد مدلولها في نفسه من يؤمن بالله على بصيرة، فيعتصم به على ثقة حيث يحس في كل لحظة أنه يهتدي، وتتضح أمامه الطريق، ويقترب فعلاً من الله كأنما هو يخطو إليه في طريق مستقيم (2).
__________
(1) تفسير القرآن العظيم، ج1، ص592 .
(2) انظر : في ظلال القرآن، ج2، ص823 .(1/17)
رابعاً: استحقاق معية المؤمنين ومرافقتهم في الدارين:
…فهذه أيضاً شهادة من الله لمن اعتصم بحبل الله وتمسك بدينه وأخلص عمله فيه بأنه مع المؤمنين كما يقول سبحانه: { إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } (1).
…جاءت هذه الآية الكريمة بعد الحديث عن المنافقين وما يستحقون من الله من عذاب يوم القيامة فهم أشد الناس عذاباً وفي الدرك الأسفل من النار إلا الذين تابوا منهم وأصلحوا عملهم واعتصموا بالله وأخلصوا لدينهم بحيث لم يشبه عملهم بتردد ولا تربص بانتظار من ينتصر من الفريقين المؤمنين والكافرين، فأخبر أن من صارت حاله إلى هذا الخير فهو مع المؤمنين وفي لفظ (مع) إيماء إلى فضيلة من آمن من أول الأمر ولم يصم نفسه بالنفاق لأن (مع) تدخل على المتبوع وهو الأفضل (2).
…ويقول الإمام القرطبي: هذا استثناء ممن نافق، ومن شرط التائب من النفاق أن يصلح في قوله وفعله ويعتصم بالله أي يجعله ملجأ ومعاذاً، ويخلص دينه لله وإلا فليس بتائب قال الفراء: معنى " فأولئك مع المؤمنين " أي من المؤمنين (3).
…ويقول الإمام النسفي في معنى الآية: نزلت هذه الآية تتحدث عن المنافقين الذين تابوا من نفاقهم، وأصلحوا ما أفسدوا من أسرارهم وأحوالهم في حال النفاق واعتصموا بالله ووثقوا به كما يثق المؤمنون الخلص، وأخلصوا دينهم لله لا يبتغون بطاعتهم إلا وجهه، فأولئك مع المؤمنين وهم أصحابهم ورفاقهم وفي معيتهم في الدارين الدنيا والآخرة (4).
__________
(1) سورة النساء : الآية 146 .
(2) انظر : التحرير والتنوير، لابن عاشور، م3، ج5، ص244 .
(3) انظر : الجامع لأحكام القرآن، ج5، ص423 .
(4) مدارك التنزيل وحقائق التأويل، ج1، ص291، 292، " بتصرف " .(1/18)
…فهذه بعض ثمرات الاعتصام بحبل الله فما أحوجنا إلى الامتثال لأمر الله والاعتصام بحبله وأن نتعرف على الله في الرخاء حتى يتعرف علينا وقت الشدة، وما أحوجنا أن نلجأ إليه سبحانه ليمنحنا الهداية الإلهية إلى صراطه المستقيم، وما أحوجنا إلى رحمات الله ونيل فضله لنكون في معية المؤمنين في الدارين فكل هذه الثمرات وعد بها رب العزة والجلال إذا اعتصمنا بحبله والتزمنا بشرعه ووثقنا بوعده.
المطلب الثاني: ويلات الفرقة والاختلاف:
…نهى الله سبحانه وتعالى أمة الإسلام عن الفرقة والاختلاف وحذر من الاكتواء بويلاتها مذكراً بما حصل للأمم السابقة من جراء فرقتهم ومحذراً من الويلات التي تنجم عن ذلك والتي من أخطرها:
أولاً: التشبه بالكافرين من أبناء الأمم الماضية:
كما قال سبحانه: { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (1).
…" ينهى الله تبارك وتعالى هذه الأمة أن يكونوا كالأمم الماضين في افتراقهم واختلافهم وتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع قيام الحجة عليهم " (2).
…ويقول الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: قوله: { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا } معطوف على قوله { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر } وفي هذا تمثيل لحال التفرق في أبشع صوره المعروفة لديهم عن مطالعة أحوال اليهود وفيه إشارة إلى أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يفضي إلى التفرق والاختلاف إذ تكثر النزاعات والنزغات وتنشق الأمة بذلك انشقاقاً شديداً.
__________
(1) سورة آل عمران : الآية 105 .
(2) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، ج1، ص390 .(1/19)
…وأريد بالذين تفرقوا واختلفوا الذين اختلفوا في أصول الدين من اليهود والنصارى من بعد ما جاءهم من الدلائل المانعة من الاختلاف والافتراق، وقدم الافتراق على الاختلاف للإيذان بأن الاختلاف علة التفرق وهذا من المفادات الحاصلة من ترتيب الكلام وذكر الأشياء مع مقارناتها وفيه إشارة بأن الاختلاف المذموم هو الذي يؤدي إلى الافتراق، وهو الاختلاف في أصول الدين الذي يفضي إلى تكفير بعض الأمة بعضاً أو تفسيقه دون الاختلاف في الفروع المبنية على اختلاف مصالح الأمة في الأقطار والأعصار وهو المعبر عنه بالاجتهاد، ونحن إذا تقصينا تاريخ المذاهب الإسلامية لا نجد افتراقاُ نشأ بين المسلمين إلا عن اختلاف العقائد والأصول دون الاختلاف في الاجتهاد في فروع الشريعة (1).
ثانياً: الفشل وذهاب القوة:
…كما بين الله سبحانه وتعالى وهو ينهي عن الفرقة والتنازع والاختلاف أن مآل ذلك كله هو فشل الأمة وضعفها وهوانها على أعدائها وذلك في قوله: { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } (2).
…"المعنى ولا تختلفوا فإن التنازع والاختلاف يوجب الفشل والضعف والجبن، وقوله تعالى: { وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } يعني قوتكم" (3).
__________
(1) انظر : التحرير والتنوير، م3، ج4، ص42، 43 .
(2) سورة الأنفال : الآية 46 .
(3) لباب التأويل في معاني التنزيل، للخازن، ج2، ص317 .(1/20)
…فالناس يتنازعون حين تتعدد جهات القيادة والتوجيه، وحين يكون الهوى المطاع هو الذي يوجه الآراء والأفكار، فإذا استسلم الناس لله ورسوله انتفى السبب الأول الرئيس للنزاع بينهم – مهما اختلفت وجهات النظر في المسألة المعروضة – فليس الذي يثير النزاع هو اختلاف وجهات النظر، إنما الهوى الذي يجعل كل صاحب وجهة يصر عليها مهما تبين له وجه الحق، وإنما هو وضع الذات في كفة والحق في كفة وترجيح كفة الحق، عندئذ يزول التنازع ويتلاشى الخلاف ويحل الوفاق والوئام مكان النزاع والصدام فيبقى للدين هيبته
وللإسلام قدسيته وللوحدة مكانتها (1).
…والنهي عن التنازع يقتضي الأمر بالتفاهم والتشاور، ومراجعة بعضهم بعضاً حتى يصدروا عن رأي واحد، فإن تنازعوا في شيء رجعوا إلى أمرائهم وردوا أمرهم إليهم ولقد كان التنازع مفضياً إلى الفشل لأنه يثير التغاضب ويزيل التعاون بين القوم، ويحدث فيهم أن يتربص بعضهم ببعض الدوائر، فيحدث في نفوسهم الاشتغال باتقاء بعضهم بعضاً، وتوقع عدم إلفاء النصير عند مآزق القتال فيصرف الأمة عن التوجه إلى شغل واحد فيما فيه نفع جميعهم، ويصرف الجيش عن الإقدام على أعدائهم فيتمكن منهم العدو كما قال سبحانه: { حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ } (2) (3).
…وهذا الفشل والضعف أدى إلى تفكك الأمة الإسلامية وضعفها وهوانها على أعدائها، فاستبيحت الديار، وانتهكت الأعراض، وخدشت الكرامة، ودنست المقدسات، وعزت النخوة، وقلَّ النصير ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ثالثاً: الدخول في دائرة الشرك:
__________
(1) انظر : في ظلال القرآن، ج3، ص1528، 1529 .
(2) سورة آل عمران : الآية 152 .
(3) انظر : التحرير والتنوير، لابن عاشور، م6، ج10، ص30، 31 .(1/21)
…حيث يبين الله سبحانه أن الفرقة والاختلاف هي صفة من صفات المشركين وينهى ويحذر أبناء الأمة من مغبة الوقوع في ذلك فيقول: { وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ - مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } (1).
…فالله عز وجل هو الذي يصف المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، فالشرك ألوان وأنماط كثيرة، منهم من يشركون الجن، ومنهم من يشركون الملائكة، ومنهم من يشركون الملوك والسلاطين، ومنهم من يشركون الكهان والأحبار، ومنهم من يشركون الأشجار والأحبار، ولا تنتهي أنماط الشرك وأشكاله، وكل حزب منهم بما لديهم فرحون، بينما الدين القيم واحد لا يتبدل ولا يتفرق، ولا يقود أهله إلا إلى الله الواحد (2).رابعاً: تبرؤ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم:
…فقد برأ الله سبحانه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أصحاب البدع الذين تفرقوا في دينهم واختلفوا فيما بينهم فقال سبحانه: { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } (3) فمعنى شيعاً: فرقاً وأحزاباً حيث أوجب الله براءة رسوله - صلى الله عليه وسلم - منهم، أي هؤلاء الذين تفرقوا واختلفوا لست منهم يا محمد وهم ليسوا منك (4).
__________
(1) سورة الروم : الآية 31-32 .
(2) انظر : في ظلال القرآن، للأستاذ سيد قطب، ج5، ص 2768 .
(3) سورة الأنعام : الآية 159 .
(4) انظر : الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، ج7، ص 148 .(1/22)
…ويقول الإمام الحافظ ابن كثير { الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً } هم أصحاب البدع والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله وكان مخالفاً له، فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق، فمن اختلف فيه وكانوا شيعاً، أي فرقاً كأهل الملل والنحل والأهواء والضلالات فإن الله تعالى قد برأ رسوله - صلى الله عليه وسلم - مما هم فيه (1).
ورغم هذه التحذيرات الإلهية كلها نجد أمة الإسلام قد اختلفت وتنازعت فضعفت وفشلت وها هي الأمم تتكالب عليها من كل حدب وصوب حتى أصبحت هذه الأمة التي وصفها الله من فوق سبع سموات بأنها خير أمة أخرجت للناس كمّاً مهملاً بين الأمم والشعوب.
المبحث الثالث
استقراء مستقبل الأمة في ظل الواقع والمبشرات
…إن لشمس الحضارات دورات فلكية تغرب في بلاد لتشرق في بلاد، وإن حضارة الإسلام قد أوشكت على الشروق في العالم كله بأبهى حللها وأروع صورها، ولا شك أن الإسلام مرشح لقيادة البشرية في المرحلة المقبلة لإنقاذها من التردي والسقوط، وتخليصها من متاهات الحضارة المادية المعاصرة، والتي إن استمرت ستنتهي بتدمير الإنسان تدميراً كاملاً، والقضاء على ما تبقى من قيمه ومقدراته، فالمارد الإسلامي يتقدم اليوم إلى العالم بأسره حاملاً معه الشريعة الربانية التي ستنقذ البشرية مما هي فيه وتقودها إلى السعادة والطمأنينة، وتنقلها من واقع مأساوي متردي إلى واقع جديد طالما انتظرته الأجيال الماضية وحلمت به الأجيال الحاضرة.
…والمؤمن الصادق في إيمانه لا بد أن يؤمن إيماناً جازماً بأن المستقبل لهذا الدين، وأن أمة الإسلام مرشحة لقيادة العالم وريادة البشرية، وهذا التفاؤل إنما هو ثقة بوعد الله وإيمان بمبشرات قرآنية ونبوية معززة بمجموعة من المبشرات الواقعية.
أولاً: المبشرات القرآنية:
__________
(1) انظر : تفسير القرآن العظيم، ج2، ص 196 .(1/23)
…وعد الله سبحانه وتعالى المؤمنين الصادقين بالاستخلاف والنصر والغلبة والتمكين في الأرض، وقد أنجز الله سبحانه وتعالى هذا الوعد لرسوله وللمؤمنين وهو وعد ماض إلى يوم القيامة وسنة من سنن الله لا تتبدل ولا تتحول، وما على المسلمين الصادقين إلا أن ينهضوا لحمل راية الدين والمضي بها اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - واقتفاءً بخطواته المباركة، فمن المبشرات القرآنية التي تبشر بالاستخلاف والتمكين.
1- قوله تعالى: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } (1).
__________
(1) سورة النور : آية 55 .(1/24)
…فمن الحقائق الكبرى التي يجب أن تكون مستقرة في قلب كل مؤمن هي وعد الله لعباده بالاستخلاف في الأرض، ووعده لدينه بالظهور والغلبة في الأرض، ومن ثمَّ التمكين في الأرض كما يقول الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره لهذه الآية الكريمة: هذا وعد من الله تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض، أي أئمة الناس والولاة عليهم، وبهم تصلح البلاد وتخضع لهم العباد وليبدلنهم من بعد خوفهم من الناس أمناً وحكماً، وقد أنجز الله وعده لعباده المؤمنين، فلم يمت النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكاملها، وأخذ الجزية من أهل الكتاب، ومن مجوس هجر، ثمَّ لما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -، فجيَّش الجيوش، ودكَّ الحصون، وفتح الله على يديه جزءاً من بلاد فارس وبصرى ودمشق من بلاد الشام، وألهم الله الصديق - رضي الله عنه - أن يستخلف عمر الفاروق من بعده، فقام بالأمر بعده قياماً تاماً، وتم في عهده فتح البلاد الشامية بكاملها، وديار مصر إلى آخرها، وأكثر إقليم فارس، وكسر كسرى وأهانه غاية الهوان، وهزم قيصر وانتزع يده عن بلاد الشام، ثم لما كان عهد عثمان - رضي الله عنه - امتدت الممالك الإسلامية إلى مشارق الأرض ومغاربها ففتحت بلاد المغرب والأندلس وقبرص وبلاد القيروان ووصلت الفتوحات شرقاً، إلى أقصى بلاد الصين، وفتحت مدائن العراق وخراسان والأهواز وجبي الخراج من المشارق والمغارب إلى خليفة المسلمين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وذلك ببركة جمعه للأمة على حفظ القرآن الكريم، وبقيت الأمة الإسلامية في طليعة الأمم والشعوب تحتل مكان القيادة والريادة ما بقيت متمسكة بكتاب ربها وسنة نبيها محمد - صلى الله عليه وسلم - وبقي المسلمون أعزاء ما بقوا يعتزون بدينهم، ويلتفون حول إسلامهم، فلما هان على(1/25)
المسلمين دينهم وبحثوا عن العزة في غيره أذلهم الله ووصلوا إلى هذه الحالة من الذلة والمهانة والضعف والهوان، ومع ذلك فإن سنن الله ماضية إلى يوم القيامة لا تتحول ولا تتبدل، وما زال وعد الله باقياً لهذه الأمة بالنصر والتمكين، إن عادت الأمة إلى رشدها، وتمسكت بكتاب ربها، وسنة نبيها، عندئذٍ ستكون لهم الغلبة، وسيتحقق لهم النصر والتمكين والخلافة في الأرض (1).
…ويتحدث الأستاذ سيد قطب رحمه الله عن حقيقة الإيمان الذي يتحقق به وعد الله وحقيقة الاستخلاف والتمكين في الأرض اللذين وعد الله بهما عباده في هذه الآية فيقول: "إن حقيقة الإيمان التي يتحقق بها وعد الله حقيقة ضخمة، فهو الإيمان الذي يستغرق الإنسان كله بخواطر نفسه، وخلجات قلبه، وأشواق روحه، وحركات جسمه، ولفتات جوارحه، وسلوكه مع ربه، ومع الناس جميعاً، يتوجه بهذا كله إلى الله ليكون هذا الإيمان منهج حياة كامل يتضمن كل ما أمر الله به ونهى عنه، ويدخل في ذلك كله إعداد العدة والتهيؤ لحمل الأمانة الكبرى في الأرض وهي أمانة الاستخلاف والتي يبين الأستاذ سيد قطب حقيقتها فيقول: "إنها ليست مجرد الملك والقهر والغلبة والحكم، إنما هي هذا كله على شرط استخدامه في الإصلاح والتعمير والبناء، وتحقيق المنهج الذي رسمه الله للبشرية كي تسير عليه.
__________
(1) تفسير القرآن العظيم، ج3، ص 300 بتصرف .(1/26)
…إن الاستخلاف في الأرض قدرة على العمارة والإصلاح لا على الهدم والإفساد، وقدرة على تحقيق العدل والطمأنينة لا على الظلم والقهر، وقدرة على الارتفاع بالنفس البشرية والنظام البشري لا على الانحدار بالفرد والجماعة، فأما الذين يملكون فيفسدون في الأرض وينشرون فيها البغي والجور، وينحدرون بها إلى مدارج الحيوان فهؤلاء ليسوا مستخلفين في الأرض، إنما هم مبتلون بما هم فيه، أو مبتلى بهم غيرهم، وتمكن الدين بعد الاستخلاف يتم بتمكينه في القلوب، كما يتم بتمكينه في تصريف الحياة وتدبيرها، فقد وعدهم الله إذن أن يستخلفهم في الأرض وأن يجعل دينهم الذي ارتضى لهم هو الذي يهيمن على الأرض، ويأمر بالإصلاح والعدل ويأمر بعمارة الأرض والاستعلاء على شهواتها، والانتفاع بكل ما أودعها الله من ثروة، ومن رصيد، ومن طاقة، مع التوجه بكل نشاط فيها إلى الله.
…فإذا استقام المسلمون على النهج فلا عليهم من قوة الكافرين فما هم بمعجزين في الأرض وقوتهم المادية الظاهرة لن تخضع المؤمنين الذين يتسلحون بسلاح الإيمان، فالقلوب المؤمنة التي تجاهد الأعداء تصنع الخوارق والأعاجيب بعون من الله ومدد منه، إنه ما من مرة سارت هذه الأمة على نهج الله إلا تحقق لها وعد الله بالاستخلاف والتمكين والأمن، وما من مرة خالفت هذا النهج الإلهي إلا ذلت وتخلفت في ذيل القافلة، وطردت من الهيمنة على البشرية واستبدَّ بها الخوف وتخطفها الأعداء ألا وإن وعد الله قائم، ألا وإن شرط الله معروف فمن شاء الوعد فليقم بالشرط (1).
…2- ومن المبشرات القرآنية التي تبين أن الغلبة لهذا الدين وأن جند الله هم المنصورون والغالبون قوله تعالى: { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ - إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ - وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } (2).
__________
(1) انظر : في ظلال القرآن، ج4، ص 2528-2530 .
(2) سورة الصافات : آية 171 .(1/27)
…فهذه الآية الكريمة تسلية ووعد من الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه المؤمنين من بعده بأن الله سينصرهم على من عاداهم، وهي بشارة أيضاً بالغلبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد تسليته وللمؤمنين، فإن المؤمنين هم جند الله وهم أنصاره الذين نصروا دينه، وقوله: (لهم الغالبون) يشمل علوهم
على عدوهم في مقام الحجاج وملاحم القتال في الدنيا وعلوهم عليهم في الآخرة (1).
…فوعد الله واقع وكلمة الله قائمة، فهذا الوعد الإلهي للمؤمنين بالنصر والغلبة سنة من سنن الله الكونية، سنة ماضية كما تمضي هذه الكواكب والنجوم في دوراتها المنتظمة، وكما يتعاقب الليل والنهار في الأرض على مدار الزمان، وكما تنبثق الحياة في الأرض الميتة ينزل عليها الماء، ولكنها مرهونة بتقدير الله، يحققها حين يشاء، وقد تبطئ آثارها الظاهرة بالقياس إلى أعمار البشر المحدودة ولكنها لا تختلف أبداً، ولا تتخلف وقد تتحقق في صورة لا يدركها البشر لأنهم يطلبون المألوف من صور النصر والغلبة، وقد يريد الله صورة أخرى أكمل وأبقى فيكون ما يريده الله، ولقد أراد المسلمون قبيل غزوة بدر أن تكون لهم عير قريش وأراد الله أن تفوتهم القافلة الرابحة الهينة، وأن يقابلوا الطائفة ذات الشوكة وكان ما أراده الله هو الخير لهم وللإسلام، وكان هو النصر الذي أراده الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وجنده ودعوته، وقد يهزم جنود الله في معركة من المعارك وتدور عليهم الدائرة، ويقسوا عليهم الابتلاء، لأن الله يعدهم للنصر في معركة أكبر، ولأن الله يهيئ الظروف من حولهم ليؤتى النصر يومئذ ثماره في مجال أوسع وفي خط أطول، وفي أثر أدوم، لقد سبقت كلمة الله، ومضت إرادته بوعده وثبتت سنته لا تتخلف ولا تحيد (2).
__________
(1) انظر: التحرير والتنوير، لسماحة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، م11، ج23، ص 194، 195 .
(2) انظر : في ظلال القرآن، للأستاذ سيد قطب، ج5، ص 3001، 3002 .(1/28)
3- ومن المبشرات القرآنية التي تعد المسلمين بالنصر والتمكين قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ - أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ - الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } (1).
…"فالله سبحانه وتعالى قد وعد المؤمنين بالدفاع عنهم، ولقد كان مشركو مكة يؤذون أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بألسنتهم وأيديهم، فيشكون ذلك إلى رسول الله فيقول لهم: "إصبروا فإني لم أومر بالقتال" فأباح لهم القتال في المدينة وكانت هذه الإباحة من جملة دفع الله لأعدائهم ودفاعه عنهم، ولولا هذا الدفاع الإلهي لهدمت في زمن موسى الكنائس وفي زمن عيسى الصوامع والبيع وفي زمن محمد - صلى الله عليه وسلم - المساجد، وذلك على أيدي الكفار والمشركين الذين يصدون عن سبيل الله ويقفون في وجه دعوة الله ويقسم الله سبحانه في قوله: { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ } أي والله لينصر الله من ينصر دينه وأولياءه وهو وعد من الله مؤكد بالقسم بالنصر لمن إن مكن في الأرض أقام الصلوات الخمس وآتى الزكاة المفروضة، وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، والله لا يخلف وعده" (2).
__________
(1) سورة الحج : الآيات 38-41 .
(2) فتح القدير، للشوكاني، ج3، ص 456، 457 .(1/29)
…ومن اللطائف التي ذكرها الأستاذ سيد قطب رحمه الله في تفسير هذه الآية قوله: "لقد ضمن الله للمؤمنين أنه سيدافع عنهم، ومن يدافع الله عنه فهو ممنوع حقاً من عدوه ظاهرٌ حتماً عليه، ولكن الله سبحانه لم يرد أن يكون حملة دعوته وحماتها من الكسالى الذين يجلسون في استرخاء ثم يتنزل عليهم نصره سهلاً هيناً بلا عناء، بل جعل نصره لهم ودفاعه عنهم عن طريقهم هم أنفسهم، فالبنية الإنسانية لا تستيقظ كل الطاقات المذخورة فيها كما تستيقظ وهي تواجه الخطر، وهي تدفع وتدافع، وهي تستجمع كل قوتها لتواجه القوة المهاجمة، والنصر السريع الذي لا يكلف عناء، والذي يتنزل هيناً ليناً على القاعدين المستريحين يعطل تلك الطاقات عن الظهور، وأيضاً فالنصر السريع يسهل فقدانه وضياعه لأنه رخيص الثمن لم تبذل فيه تضحيات، ولأن الذين نالوه لم تدرب قواهم على الاحتفاظ به ولم تشحذ طاقاتهم وتحشد لكسبه، وبالتالي لا تتحفز ولا تحتشد للدفاع عنه، من أجل هذا كله جعل الله دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم أنفسهم، ولم يجعله لقية تهبط عليهم من السماء بلا عناء.
…وللنصر تكاليفه وأعباؤه حين يتأذن الله به بعد استيفاء أسبابه وأداء ثمنه وتهيؤ الجو حوله لاستقباله واستبقائه، فالله ينصر من ينصره، ينصر الذين ينصرون نهجه معتزين بالله وحده دون سواه، والنصر الذي يعد الله به هو النصر القائم على أسبابه ومقتضياته المشروط بتكاليفه وأعبائه، فهو نصر له سببه، وله ثمنه، وله تكاليفه، وله شروطه فلا يعطى لأحد جزافاً أو محاباة (1)
4- ومن المبشرات القرآنية أيضاً قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ - كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } (2).
__________
(1) انظر : في ظلال القرآن، ج4، ص 2426-2428 .
(2) سورة المجادلة : الآيتان 20، 21 .(1/30)
…فهذه الآية الكريمة تتحدث عن سنة ثابتة من سنن الله، وتبين أن الذين يحادون الله ورسوله سيلحقهم الذل في الدنيا والآخرة، وقد قضى الله سبحانه قضاء ثابتاً بالذلة للكافرين وأعداء الدين، والغلبة لرسله وأوليائه، وهذه الغلبة على نوعين: فمن يؤمر منهم بالحرب فهو غالب بالحرب، ومن لم يؤمر بالحرب فهو غالب بالحجة (1).
…فالمؤمن يجب أن يتعامل مع وعود الله بالغلبة والنصر والتمكين على أنها هي الحقيقة الواقعة، رغم ما نراه من أحوال المسلمين اليوم وواقع حياتهم، وصور الحروب الهائلة والمتنوعة التي يشنها أعداء الدين على أهل الإيمان، حيث يقتلون العباد، ويقطعون الأرزاق، وينتهكون الحرمات، ويدنسون المقدسات، ويهلكون الحرث والنسل، ويتسلطون على المسلمين في بلادهم بكل أنواع النكاية، وبكل أساليب البطش والتنكيل والهلاك، والتي أفقدتهم إنسانيتهم، وأظهرت حقدهم الدفين وأفكارهم الماكرة، ومع ذلك بقي الإيمان في قلوب المؤمنين يحميهم من الانهيار والضياع، والذوبان في الأمم المستعمرة، فحين ينظر الإنسان إلى هذا الواقع يشعر بمعية الله، وقرب تحقق وعد الله وأن الذين يحادون الله ورسوله مهما علوا في الأرض فهم الأذلون، وأن الله ورسله وأوليائه هم الغالبون.
5- ومن المبشرات القرآنية على غلبة الدين ونصر أتباعه الإخبار بضعف كيد الكفار وضلال سعيهم في النيل من الإسلام وفشل كيدهم في الصد عنه والتآمر عليه وذلك في قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } (2).
__________
(1) انظر : لباب التأويل في معاني التنزيل، للخازن، ج4، ص 264 .
(2) سورة الأنفال : آية 36 .(1/31)
…فهذه الآية نزلت بعد هزيمة المشركين في غزوة بدر كما يقول ابن كثير رحمه الله: "لما أصيبت قريش يوم بدر مشى عبدالله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة فقالوا: يا معشر قريش إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا أن ندرك منه ثأراً بمن أصيب منا ففعلوا، فأخبر تعالى أن الكفار ينفقون أموالهم ليصدوا عن اتباع طريق الحق فسيفعلون ذلك ثم تذهب أموالهم ثم تكون عليهم حسرة، أي ندامة، لأنهم أرادوا إطفاء نور الله وظهور كلمتهم على كلمة الحق والله متم نوره ولو كره الكافرون، وهو سبحانه مظهر دينه على كل دين، فهذا الخزي لهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار، فمن عاش منهم رأى بعينه وسمع بأذنه ما يسوءه، ومن قتل منهم أو مات فإلى الخزي الأبدي والعذاب السرمدي (1).
…وفي ذلك تحفيز ضمني للمسلمين بأن يتجمعوا حول دينهم وأن ينفقوا الغالي والنفيس في الذود عنه ودحض وصد الاعتداءات عليه، فإذا كان أهل الباطل ينفقون أموالهم للدفاع عن باطلهم ولا يبخلون فجدير بأهل الحق أن يكونوا أحرص على الإنفاق في سبيل الله والبذل
في سبيل نصرته ورد العدوان عنه.
ثانياً: المبشرات النبوية:
…بشر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمة الإسلام بالغلبة على أعدائها وبالنصر والتمكين والخلافة من خلال أحاديث كثيرة بينت أنَّ المستقبل لهذا الدين لأنه منهج حياة للبشرية يشتمل على كل المقومات المنظمة لشتى جوانب الحياة البشرية، وينسجم بتعاليمه مع المصلحة الإنسانية والمتطلبات الفطرية، ومن هذه الأحاديث:
__________
(1) انظر : تفسير القرآن العظيم، ج2، ص 307 .(1/32)
1- ما رواه تميم الداري - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر) (1).
2- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تقوم الساعة حتى يكثر فيكم المال ويفيض، وحتى يخرج الرجل بزكاة ماله فلا يجد أحداً يقبلها منه، وحتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً) (2).
…فهذه البشارة النبوية تبشر بحقبة من الرخاء والأمن والأمان تعمُّ ربوع هذا الكون يؤدي فيها الناس زكاة أموالهم، وتوزع الزكاة على المحتاجين، فينعم الجميع بالخير، وتسود العدالة الاجتماعية في أجمل صورها، وتفيض الأموال بحيث يخرج الرجل بزكاة ماله فلا يجد أحداً يقبلها قناعة من الناس بما في أيديهم، واكتفاء بما منَّ الله به وأنعم عليهم من مال، ولا يكون ذلك إلا في ظل سيادة الإسلام للبشرية، وقيادته للإنسانية، وتطبيق الإسلام وتجسيده واقعاً في حياة الناس.
3- ومن المبشرات النبوية أيضاً البشارة بقتال أعداء الإسلام وانتصار المسلمين عليهم، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر يا مسلم يا عبدالله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد، فإنه من شجر اليهود) (3).
__________
(1) رواه ابن حبان في صحيحه رقم 1631،1632،والألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة،ج1،ص7.
(2) رواه مسلم، كتاب الزكاة، باب الترغيب في الصدقة، ج7، ص 76، حديث رقم (157) .
(3) رواه البخاري، كتاب الجهاد، باب قتال اليهود، ج6، ص 75، حديث رقم (2926) .(1/33)
…فالاستعلاء اليهودي في الأرض لن يدوم، ووعد الله متحقق لا محالة لأن الله لا يخلف وعده والمعركة الفاصلة التي يبشر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المسلمين واليهود واقعة بإذن الله وسيعود اليهود إلى وضعهم الطبيعي الذي كتبه الله عليهم من الذلة والمسكنة وغضب من الله فقد توفرت فيهم أسباب الاندحار والهزيمة وسينجز الله للأمة وعده يوم أن يتوفر فيها أسباب النصر.
4- ومن المبشرات النبوية البشارة بقيام الخلافة الراشدة وذلك في حديث حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (تكون النبوة ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم يكون ملكاً عاضاً فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت) (1).
…فمن خلال هذا الحديث يتبين لنا أن أمة الإسلام على موعد مع نصر وتمكين من الله، وإقامة خلافة على منهاج النبوة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - إذ يعد بذلك إنما ينطق بوحي من الله سبحانه، فالوعد وعد الله ولن يخلف الله وعده.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في مسنده، ج4، ص 273، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، ج6، ص 188، رجاله ثقات، وأخرجه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة ، ج1، ص 8، 9 .(1/34)
5- المبشرات بوجود الطائفة المنصورة بأرض الشام عامة، وبفلسطين التي هي أرض المحشر والمنشر خاصة، حيث تظهر هذه المبشرات من خلال أحاديث نبوية تبين فضل الشام، وأن هذه الأرض المباركة سيكون لها دور في تاريخ البشرية وقيادتها، فمن هذه الأحاديث ما رواه عبدالله بن حوالة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (سيصير الأمر إلى أن تكونوا جنوداً مجندة: جند بالشام، وجند بالعراق، فقلت: خر لي يا رسول الله إن أدركت ذلك فقال: عليك بالشام فإنها خيرة الله من أرضه يجتبي إليها خيرته من عباده، فأما إن أبيتم فعليكم بيمنكم، واستقوا غُدُركم فإن الله توكل لي بالشام وأهله) (1).
……فمن خلال هذه المبشرات النبوية نستمد يقيناً لا يتزعزع بأن المستقبل للإسلام وأن له دوراً قادماً في قيادة البشرية بعد أن أثبت الواقع في الماضي والحاضر، ومن خلال التجارب العملية إفلاس كل النظم والمذاهب في مناهجها وتشريعاتها وعقائدها وفشلها في قيادة سفينة الإنسانية نحو حياة عزيزة مطمئنة كريمة.
ثالثاً: المبشرات الواقعية:
__________
(1) رواه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في سكنى الشام، حديث رقم (2483) .(1/35)
……من أعظم المبشرات الواقعية بأن المستقبل للإسلام: الصحوة الإسلامية المباركة التي يشهدها العالم الإسلامي اليوم حيث أصبح الالتزام بتعاليم الدين الحنيف والتمسك بشرائع الإسلام وآدابه وأخلاقه ظاهرة واضحة بين جيل الشباب والفتيات، وهي حدث تاريخي له دلالته الواقعية، فهي تجيء من جهة بعد الجهد الكبير الذي بذلته القوى الصليبية والصهيونية على مدى ما يقرب من قرنين من الزمان لزحزحة الأمة المسلمة عن دينها وسلخها عن عقيدتها وأخلاقها، وتجئ من جهة أخرى والبشرية في أحد منعطفاتها التاريخية، وقد بدأت تيأس من حضاراتها المادية الجافة وبدأت تتطلع وتبحث عن المنقذ والمخلص الجديد (1).
……والصحوة الإسلامية بمظاهرها وتياراتها الظاهرة والخفية ليست عارضة أو طارئة، كما أنها ليست رد فعل لظروف معينة أو أوضاع اجتماعية، بل هي امتداد طبيعي لرسالة الأمة الإسلامية من خلال الطائفة القائمة على الدين، الظاهرة على الحق رغم كل العقبات والتحديات والمؤامرات التي تحاول زحزحتها عن إسلامها.
……هذه الصحوة الإسلامية ظهرت بعد فشل النظم المستوردة في حل مشكلات الناس وقضاياهم وفشل الزعماء العلمانيين وسياساتهم في تحقيق ما كانت تعلقه عليهم الشعوب من الآمال والأماني حيث لم يجد المسلمون من زعمائهم العلمانيين إلا المزيد من تمزق الدول الإسلامية، وتفتيت العالم الإسلامي، وتراكم الديون الربوية، وظهور طبقة الأغنياء والمترفين والمفسدين في الأرض، وانهيار الأخلاق، وتدهور القيم، واستفحال الفواحش والمنكرات، واقتطاع القدس وما حولها من قلب العالم الإسلامي، فحين يأس الناس من هذه النظم والزعامات اتجهوا إلى الإسلام فكانت هذه الصحوة(2).
……وتتجلى مظاهر هذه الصحوة الإسلامية في أمور كثيرة منها:
__________
(1) انظر : رؤية إسلامية لأحوال العالم الإسلامي، للأستاذ محمد قطب، ص 242 .
(2) انظر : واقعنا المعاصر، للأستاذ محمد قطب، ص 538-539 .(1/36)
عودة كثير من الشباب إلى الإسلام رغم محاولات الأحزاب العلمانية والإلحادية التي بذلت لصرفهم عن ذلك، حتى أصبحت كثير من هذه الأحزاب تعاني من الكساد في ترويج أفكارها، وقلة أعداد الشباب الذين يطرقون أبوابها، وتحول كثير من الشباب من الأحزاب الشيوعية والقومية إلى الحركة الإسلامية كما هو مشاهد اليوم في الجزء المحتل من فلسطين عام ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين.
ومن مظاهر الصحوة الإسلامية الفوز الذي يحققه أصحاب الاتجاه الإسلامي في النقابات المهنية والمنظمات الطلابية ومجالس الطلبة في المعاهد والجامعات في كثير من ديار الإسلام.
كما أصبحت مكة المكرمة تزدحم بالشباب المسلم القادمين من أنحاء العالم الإسلامي لأداء مناسك العمرة والحج، كما يلاحظ عودة الكثير من النساء خاصة الفتيات إلى الحجاب الشرعي.
ومن مظاهر الصحوة أيضاً توبة عدد كبير من الممثلين والممثلات، والمغنين والمغنيات، حيث عادوا إلى دينهم وتمسكوا به معتزين ونادمين على ما فات، كما عاد الشباب المسلم الذي يدرس في أوروبا وأمريكا إلى الإسلام، وانكبوا عليه فهماً وعملاً ودعوة، ولم تؤثر فيهم الثقافة الغربية اللادينية، بل أصبحوا هم دعاة في بلاد الغرب وصورة نقية صافية تمثل هذا الدين في بلاد الكفر، مما جعل الكثير، بل الآلاف من الغربيين والأمريكيين يعتنقون الإسلام اقتناعاً به، وهروباً من حياتهم المادية، ومعاناتهم الروحية، فانتشر الإسلام في أوروبا وأمريكا وتحولت العشرات من الكنائس إلى مساجد (1).
__________
(1) انظر : عداء اليهود للحركة الإسلامية، زياد أبو غنيمة، ص 101، واقعنا المعاصر، للأستاذ محمد قطب، ص 538-539 .(1/37)
…ولا يجوز أن يتطرق إلى قلوبنا الشك، بسبب ما نراه حولنا من الضربات الوحشية التي تكال لطلائع البعث الإسلامي في كل مكان، ولا بسبب ما نراه كذلك من ضخامة الأسس التي تقوم عليها الحضارة المادية، فالذي يفصل في الأمر ليس هو ضخامة الباطل، وليس هو قوة الضربات التي تكال للإسلام، إنما الذي يفصل في الأمر هو قوة الحق ومدى الصمود للضربات، فالبشرية اليوم بحاجة إلى من يغنيها عن جهالة الشيوعية، ويريحها من طغيان الرأسمالية، فكلاهما نظام معاند للفطرة البشرية، والنظام الإسلامي هو البديل والقرآن والسنة هما العلاج والحل لكل ما تعانيه البشرية من هموم ومشاكل ومعضلات في شتى مناحي الحياة.
…ونحن أمام هذه المبشرات القرآنية والنبوية والواقعية لا يسعنا إلا أن نؤمن إيماناً جازماً بوعد الله ونثق ثقة تامة بنصر الله وتمكينه، فالمارد الإسلامي يتقدم لقيادة البشرية، ونصر الله آت لا محالة وسنة الله ماضية، ولن تجد لسنة الله تحويلاً، ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
الخاتمة
……الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على خاتم النبوات والرسالات وعلى آله وصحبه أجميعن، أما بعد:
……فالحمد لله الذي أعانني على كتابة هذا البحث ويسر لي الوصول إلى خاتمته، فله الحمد في الأولى والآخرة حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وله الشكر في الأولى والآخرة شكراً يوافي نعمه وثناءً كما أثنى على نفسه.
……لقد توصلت من خلال هذا البحث إلى مجموعة من النتائج أذكر أهمها:
1- إن الاعتصام لفظة وردت في كلام العرب بمعان عديدة وهي المنع والاتقاء والحفظ والحماية والالتجاء، وأن المعنى اللغوي للاعتصام أعمُّ وأشمل من المعنى الاصطلاحي والذي يمثل جزءاً من المعاني اللغوية.
2- الاعتصام في الاصطلاح بمعنى: "التمسك بالدين، والوثوق بوعد الله والالتجاء إليه في دفع شرور الكفار ومكايدهم.(1/38)
3- إن جميع الآيات التي حثت على الاعتصام بحبل الله وحذرت من الفرقة والتنازع والاختلاف هي آيات مدنية نزلت بعد أن قامت للمسلمين قائمة، ونشأت لهم دولة على أرض المدينة المنورة، وفي ذلك إشارة إلى أن الاعتصام بحبل الله والبعد عن الفرقة والاختلاف من أسباب الحفاظ على قوة المسلمين متماسكة وإبقاء دولتهم قائمة.
4- إن الاعتصام بحبل الله سبيل المنعة والقوة، والنصر والتمكين، واستحقاق إنجاز وعد الله وتمكينه وخلافته، وسبيل لوحدة الأمة وعزتها.
5- إن الفرقة والتنازع والاختلاف الذي دبَّ في جسد الأمة كان سبباً في تفتيت وحدتها، وتبديد قوتها، وتكالب الأعداء عليها.
6- إن ثمرات الاعتصام بحبل الله كثيرة وأهمها: الامتثال لأمر الله، والهداية إلى صراط الله المستقيم، والدخول في رحمة الله ونيل فضله وهدايته، واستحقاق معية المؤمنين ومرافقتهم في الدارين.
7- إن ويلات الفرقة والاختلاف كثيرة أهمها وأخطرها التشبه بالكافرين من أبناء الأمم الماضية، وفشل أبناء الأمة وذهاب قوتهم، والدخول في دائرة الشرك وتبرؤ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ممن فرقوا دينهم وكانوا شيعاً.
8- إن شمس القوة والهيمنة بدأت تغرب في بلاد الكفر والضلال لتشرق على العالم الإسلامي وأن الإسلام في المرحلة المقبلة مرشح لقيادة الإنسانية وزعامة البشرية، نستقرئ ذلك من خلال المبشرات القرآنية والنبوية والواقعية.
…أسأل الله تعالى أن يتقبل مني هذا الجهد العلمي خالصاً لوجهه الكريم وأن يرزقني الإخلاص في السرِّ والعلن والسداد في القول والعمل.
سبحان ربك ربِّ العزة عمَّا يصفون
وسلام على المرسلين
والحمد لله رب العالمين
المصادر والمراجع
القرآن الكريم.
تفسير التحرير والتنوير، تأليف سماحة الأستاذ الإمام الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، دار سحنون للبيع والتوزيع، تونس.(1/39)
تفسير القرآن العظيم، للإمام الحافظ عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاه.
التفسير الكبير ومفاتيح الغيب، للإمام محمد الرازي فخر الدين، المكتبة التجارية، مصطفى أحمد الباز، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، 1414هـ-1994م.
الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبدالله محمد بن أحمد الأنصارى القرطبي، دار الحديث القاهرة، ط2، 1416هـ-1996م.
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، تأليف محمد بن علي بن محمد الشوكاني، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
في ظلال القرآن، للأستاذ سيد قطب، دار الشروق، ط17، 1412هـ-1992م.
لباب التأويل في معاني التنزيل، تأليف علاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم البغدادي الشهير بالخازن، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1415هـ-1995م.
مدارك التنزيل وحقائق التأويل، للإمام عبدالله بن أحمد بن محمود النسفي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1415هـ-1995م.
مع البيان عن تأويل آي القرآن، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، دار الفكر، 1408هـ-1988م.
لسان العرب، للإمام العلامة جمال الدين أبي الفضل محمد بن مكرم بن منظور الأنصارى، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1424هـ-2003م.
معجم مقاييس اللغة، لأبي الحسن أحمد بن فارس بن زكريا، تحقيق وضبط عبدالسلام محمد هارون، دار الجيل، بيروت، ط1، 1411هـ-1991م.
رؤية إسلامية لأحوال العالم المعاصر، للأستاذ محمد قطب، دار الوطن للنشر، الرياض، ط1، 1411هـ-1991م.
عداء اليهود للحركة الإسلامية، زياد محمود أبو غنيمة، دار الفرقان للنشر والتوزيع، عمان، الأردن.
واقعنا المعاصر، للأستاذ محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى، 1403هـ-1983م.(1/40)