الإسلام
وأحداث الحادي عشر
من أيلول 2001
زبير سلطان قدوري
الإسلام
وأحداث الحادي عشر
من أيلول 2001
دراسة
المقدمة
منذ أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر عام 2001 على نيويورك وواشنطن والحملة الهوجاء الظالمة المعادية للعروبة والإسلام من قبل القوى الفاعلة في الولايات المتحدة وحليفاتها في الغرب مستعرة بكل أبعادها السياسية والثقافية والعسكرية والاقتصادية، تستهدف تدمير مرتكزات الإسلام والعروبة من قيم ومبادئ. تسعى للهيمنة على الأرض وثرواتها، واستعباد الإنسان، وفرض هيمنة استعمارية على المنطقة، بما يخدم المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة وشريكاتها، ويحقق طموحات وأهداف الشريك الأهم في المنطقة المشرع الصهيوني الاستيطاني.
هذه الحملة الضارية قد جرى التمهيد لها قبل أحداث الحادي عشر من أيلول بسنين عديدة عبر نظريات فكرية، قدمت صوراً مشوهة عن الإسلام، واعتبرته الخطر الأكبر على الحضارة الغربية، وما أنتجته من أنماط سياسية وثقافية واجتماعية خاصة منها الديمقراطية وحقوق الإنسان. واستهدفت تلك الحملة تقديم صورة مغايرة لحقيقة الإسلام للرأي العام الغربي، من خلال تصويره كدين للإرهاب والحروب والقتل والعبودية، ويرفض الديمقراطية، ويقمع الحرية، ويحمل في ثناياه الشر بكل أنواعه للغرب ولحضارته.
فأنتج المعادون للإسلام من أصحاب تلك الحملة وعلى رأسهم القوى الصهيونية ذات التأثير السياسي والإعلامي والاقتصادي في الولايات المتحدة وأوربا مبدأً سياسياً جديداً، يقوم على ضرورة إشاعة الديمقراطية والحرية وفق الرؤيا الأمريكية والمتصهينة منها في العالم الإسلامي عامة والوطن العربي والشرق الأوسط خاصة. وذلك باستخدام كل أوراق الضغط على الأنظمة والشعوب معاً، وإن تطلب الأمر استخدام القوة العسكرية لفرضها، فعلى الولايات المتحدة وحلفائها أن لا تتوان في استخدامها، دون أن تهتم بالمعارضة الدولية والمحلية.(1/1)
وترى تلك المجموعات المعادية للإسلام أن غياب الديمقراطية والحرية في تلك البلدان، هو السبب الرئيسي في نمو ظاهرة الإرهاب في العالم، والتي باتت تشكل خطراً على الأمن القومي في الغرب والولايات المتحدة بالتحديد مع النماذج الديمقراطية في العالم وفي مقدمتها الكيان الصهيوني. كما أن ظاهرة الإرهاب تهدد مصالح الغرب في العالم وخاصة الشرق الأوسط.
وربط أصحاب هذا الرأي بين غياب الديمقراطية ورفضها، وتنامي ظاهرة الإرهاب في العالم الإسلامي، والشعور بالحقد والكراهية للولايات المتحدة والغرب والكيان الصهيوني وبين الحضارة الإسلامية، لهذا قالوا: لم يعد الصراع الدولي اليوم صراع إيديولوجيات، بل هو صراع حضارات. فأطلقوا نظرية صدام الحضارات المؤسسة على التصادم الحتمي بين الغرب والإسلام، بسبب ما تحمل كل حضارة من ثقافات متعارضة مع الأخرى. وجرى تعبئة إعلامية وثقافية من قبل القوى المعادية للعرب والمسلمين، لتشن حملة من التحريض المنظم في وسط الرأي العام الغربي على الإسلام وحضارته ومرتكزاته الفكرية والثقافية وبناه التعليمية. وليس من الغرابة بمكان، أن يكون مبشرو هذه النظرية من غلاة الصهاينة واليهود المعادين للعروبة والإسلام معاً، أمثال بنيامين نتنياهو وصموئيل هنتغتون إضافة إلى القوى المتصهينة المؤثرة على السياسة الأمريكية أمثال ريتشارد بيرل ووليفز وارمتاج وغيرهم.
حيث بدأ نتنياهو قبل عشرين عاماً من أحداث نيويورك وواشنطن من خلال كتبه، بالتحريض على العرب والمسلمين في الغرب، ويفتخر بأنه كان وراء إقناع الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان بضرب ليبيا في الثمانينات، وتحسر كثيراً لفوات فرصة ضرب سورية، بعد أن كان أقنع القيادة الأمريكية آنذاك على ضربها، إلا أن اندلاع أحداث الخليج عام 1990 منع من تحقيق ذلك.(1/2)
واحتوت كتابات نتنياهو والتي سبقت نظرية صدام الحضارات لصموئيل هنتغتون بعشر سنوات سموماً ضد الإسلام والعروبة، وتحريضاً على مواجهة المسلمين في بلادهم وبلاد الغرب. فكتب عما أسماه بالإرهاب الإسلامي، الذي اعتبره خطراً على ديمقراطية الغرب. وقدم للدول الغربية عشرة وصايا لمحاربة ذلك الإرهاب. وطلب تحجيم القوة العسكرية في البلاد العربية والإسلامية، حتى لا تهدد الغرب والكيان الصهيوني. وفرض حصار على دول كسورية والعراق وإيران وغيرها من الدول الرافضة للمشروع الصهيوني والمناصرة للحق الفلسطيني، على اعتبارها دولاً داعمة للإرهاب.
وحذر أيضاً كما يحذر هنتغتون في كتابه صدام الحضارات من تنامي الهجرة الإسلامية إلى بلاد الغرب، واعتبرها قنبلة موقوتة ستدمر حضارة الغرب، ودعا إلى إعادة هؤلاء المهاجرين إلى بلادهم، حتى لا يؤثروا بالمجتمع الأوربي والأمريكي، ويبدلوا أنماط حياتهم الاجتماعية والثقافية والسياسية. وأكد أن الخطورة في الهجرة ستكون من خلال ازدياد أعداد المهاجرين المسلمين، الذين سيشكلون في المستقبل قوة تأثير في القرار السياسي الأوربي والأمريكي (لوبي)، فيتحكمون بالقرار الغربي.
ثم جاء يهودي آخر صموئيل هنتغتون، ليجمع أفكار نتنياهو المعادية للعروبة والإسلام، ويصيغ بها نظرية جديدة سميت بـ (صدام الحضارات). التي لا يختلف مضمونها عن أفكار نتنياهو السابقة. حيث قسم العالم إلى حضارات ثمان، تنتمي كل واحدة منها إلى دين معين لا إلى أوطانها. ولم يذكر من بين تلك الديانات الديانة اليهودية، هذا الإغفال بالطبع لمعرفته الأكيدة بعدم وجود حضارة يهودية، كما أنه أراد بخبث واضح تحييد اليهود من صراع الحضارات، ليستفيدوا من تلك الحضارات جميعاً، دون أن يخسروا شيئاً.(1/3)
نظرية صدام الحضارات التي طرحها هنتغتون، استهدفت قبل وقوع أحداث الحادي عشر من أيلول تهيئة الرأي العام العالمي عامة والغرب خاصة ذهنياً لوقائع قادمة ضد الغرب من قبل المسلمين. لهذا جرى قبل الأحداث تحويل النظرية إلى أشكال من الممارسة والتطبيق، بغية ترسيخ فكرة العداء الإسلامي للغرب، من خلال تصنيع مجموعات وتنظيمات إرهابية في دوائر المخابرات الأمريكية والموساد، تلبس لبوس الإسلام، لأن أفرادها ينتمون إلى الإسلام، لتقوم بممارسة الإرهاب البشع والمرفوض إنسانياً وليس إسلامياً فقط، حتى تكتمل الصورة المشوهة عن العروبة والإسلام لدى الرأي العام الغربي.
حيث مارست تلك التنظيمات الإرهابية المصنعة في بلدان عربية وإسلامية كمصر والجزائر وأفغانستان وغيرها من البلدان أبشع الجرائم من قتل وذبح ضد المدنيين العزل، وإلحاق الأذى والتدمير بالمؤسسات الثقافية والمدنية والسياحية، تلك الجرائم التي يدينها الإسلام، الذي جاء لمحاربتها أصلاً. كانت الهدف منها كما أرادت دوائر الموساد والمخابرات الأمريكية، تقديم نموذجاً عما أسموه بالإرهاب الإسلامي للعالم عامة وللرأي الغرب خاصة، فيكون العالم مهيأ نفسياً لحدث أكبر، يكون فيه المتهم جاهزاً.
وهكذا تمت التهيئة لصناعة حدث خطير وجريمة كبرى كما حدث في الحادي عشر من أيلول عام 2001 في نيويورك وواشنطن. حتى إذا ما وقع حدث جلل ضد الغرب والولايات المتحدة، سيصدق الرأي العام العالمي عامة والأمريكي خاصة، بأنها من صنع المسلمين وأعمالهم الإرهابية. فيتم بسببها تحقيق أهداف استراتيجية أمريكية وصهيونية، دون النظر إلى الأرواح التي ستزهق من هذا الحدث، ما دام يحقق لها أغراضها وأهدافها. ثم يلبس العرب والمسلمون جريمة الحدث، في حين يصبح المجرم الحقيقي بريئاً ومعتدى عليه.(1/4)
وهكذا تم تصنيع أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، ليبدأ الغزاة صانعوا الحدث من جني ثماره، قبل أن تكشف الحقائق، ويظهر المجرم الحقيقي. فأمام قرع طبول الحرب وأصوات الطائرات والدبابات والبوارج وحاملات الطائرات، يختفي صوت الحقيقة، ويضيع ويتبدد أمام قرقعة السلاح. هذا إذا علمنا أن من يرفع صوت الحقيقة، ومن يحمل وزر الجريمة، هو أضعف من أن يرد الذباب عن وجهه.
فالجنود في المعسكرين الأمريكي والصهيوني يعيثون فساداً في الأرض تحت ذريعة أحداث هم صانعوها. فمن ذرائعها يتم تحقيق استراتيجية الهيمنة والتقسيم للبلاد العربية والإسلامية، عبر سلسلة من الحروب بدأت في أفغانستان والعراق، وستنتهي بالسيطرة الشمولية على الأرض والإنسان والثروة، وتحقيق أحلام صهيون والإدارة الأمريكية اليمينية بتدمير العروبة والإسلام.
هذا الكتاب يسلط الضوء على أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001. ويجيب على أسئلة كثيرة تدور في الساحتين العربية والدولية، ويرد على نظرية صدام الحضارات. ويؤكد أن الصراع لم يكن يوماً بين الحضارات، بل صراعاً في السلوك والغايات والأهداف وبالناتج الثقافي لتلك الحضارات.
وبقدم الكتاب عرضاً مستفيضاً عن الغايات والأهداف التي من أجلها تمت صناعة أحداث الحادي عشر من أيلول، وما تبعها من نتائج مأساوية وكارثية أصابت العالم العربي والإسلامي. ويبين الكتاب الأسباب الحقيقية وراء احتلال كل من أفغانستان والعراق واستمرار التهديد لسورية وإيران.
وفي الباب الثاني من الكتاب نوضح بجلاء إن الإسلام هو دين الحضارة والعلم، ويقبل الحضارات الأخرى ويقدم لها ويأخذ منها، ولم يكن يوماً محارباً لمعتقدات الآخرين الدينية، بل كان ولا زال يوجب على أتباعه احترام معتقدات الآخرين منطلقاً من قاعدة قوله تعالى: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغيّ(. وليس هناك صدام حضارات بل صدام بين السلوكيات الثقافية المنتجة بين حضارة وأخرى.(1/5)
ويقدم الكتاب الدلائل على أن ما يسمى بالإرهاب الإسلامي إنما هو صناعة صهيونية وأمريكية، لتخدم أهداف بعيدة للمشروعين الأمريكي والصهيوني، والمعارض والمتصادم مع المشروع العربي النهضوي منذ بداية القرن العشرين.
كما أن هذا الكتاب في بابه الرابع يرد على الاتهامات الأمريكية والصهيونية للإسلام واتهامه بالظلامية، ورفض الحرية، وأنه دين الاستبداد. ويوضح رؤية الإسلام للحرية، ويبرهن أن الإسلام جاء بالأساس لتحرير الإنسان من كل أشكال الرقّ. ويوضح مفهوم الشورى في الإسلام مع الدلائل.
ويبحث الباب الخامس من الكتاب موقف الإسلام من العدل رداً على بعض السياسيين والمفكرين والصحفيين المتصهينين الذين اتهموا الإسلام بالجور والظلم.
إن هذا الكتاب يأتي في زمن تتسارع الأحداث، التي تستهدف المنطقة العربية والإسلامية، يجيب عن بعض أسباب هذه الأحداث ليكون عوناً للقارئ العربي والمسلم في فهم جزء من الحقيقة عن الهجمة الأمريكية والصهيونية ومن تحالف معهما ضد العرب والمسلمين في الوقت الراهن.
راجياً من الله العزيز القدير أن أكون قد أسهمت في الدفاع عن العروبة والإسلام أمام هذه الحرب الظالمة، التي تقودها القوى المتصهينة في الولايات المتحدة والغرب والكيان الصهيوني.
زبير سلطان قدوري
??
الباب الأول
أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر
صناعة وأهداف
بعد مضي عام ونصف على أحداث الحادي عشر من أيلول عام 2001 في نيويورك، لا بد من وقفة يسترجع فيها المشاهد تلك الأحداث، ليقوم بتقييم لها، ويتعرف على بعض حقائق مسبباتها، وعلى بعض من أسرارها، التي تحصلت لديه من الأبحاث والدراسات الإقليمية والدولية التي نشرت عنها. كما يتطلب منه استخدام تفكيره في فك بعض من رموزها، لعله يصل إلى بعض النتائج، التي توصله إلى القليل من الحقيقة، التي ستغيب عن العالم سنوات قد تمتد عشرات السنين أو أكثر.(1/6)
فالحقيقة الكاملة لا تظهر إلا بعد مرور زمن طويل، وقد لا تظهر مطلقاً، حيث ستبقى في عالم الغيب، وسراً من أسرار صناع الحدث، قد يكونون في هرم السلطة وطبعاً مع أجهزتهم الأمنية المتعددة الأغراض في صناعة أحداث نيويورك وواشنطن في الحادي عشر من أيلول 2001.
فليست كل الظواهر التي تنشأ مع الحدث مباشرة حقائق، بل هي ظواهر تخفي في طياتها ما هو أدهى وأمر، مما ظهر للرائي أو المستمع أثناء وقوع الحدث، فكثيراً من وظائف وأهداف الحدث الآنية توظف بعد وقوع الحدث، لتحقيق الهدف الرئيسي من صناعته. ثم تبقى بعد ذلك حقيقة صناعته وشخوصه وطرائق تنفيذه سراً، قلنا إما تكتشف أجزاء منه، أو لا تكتشف، إلا إذا حدث تصدع أو تمرد بين مجموعة صانعيه، فيمكن معرفة الحقيقة أو جزء منها.
إلا أن حدث هاماً في تاريخ العالم، كالذي حدث في نيويورك وواشنطن، أدى إلى حدوث تغيرات في مجرى تاريخ الأمم، يتطلب من كل باحث أو محلل أو مهتم بعلم تاريخ الشعوب، أن يتقصى الحدث بكل أبعاده، ليتمكن من الوصول إلى معرفة الحقيقة أو جزء منها. وأن يقوم بالتقاط أجزاء من هنا أو هناك مما حدث، حتى يتمكن من رسم الشكل الأولي للصورة المقاربة لبعض من الحقيقة، ريثما يظهر الزمن الحقيقة كاملة أو القسم الأعظم منها.
ولقد علمنا التاريخ أيضاً، أن كثيراً من المؤامرات والجرائم، التي تحيكها، وترتكبها دول طامعة في ثروة أو أرض أو فرض هيمنة على بلد آخر، تقوم بنسج خيوطها، وتنفذها، وتتهم الآخرين بها، سواء أكانوا دولاً أو أحزاباً ومنظمات أو جماعات من المعادين لها. حتى وأن ضحت بجزء من مواطنيها أو جنودها أو عتادها، أو حتى تضحي بقسم من منشآتها في سبيل هدف ترمي لتحقيقه. وبعد تقوم بحسابات التوازن بين الربح والخسارة. وتاريخ الإدارات الأمريكية وأجهزتها الأمنية، وحليفتها الحركة الصهيونية وجهازها السيئ الصيت الموساد حافل بتلك المؤامرات القذرة.(1/7)
وفي هذه القراءة الأولية، نسعى للبحث عن الجزء اليسير من معرفة الحقيقة، من خلال ما توفر لدينا من معلومات عما حدث في الحادي عشر من أيلول 2001 في الولايات المتحدة. حتى نتمكن من تحليل بسيط لخلفيات هذا الحدث، وعن المستفيد منه، والتوظيفات التي تمت لاستثماره من قبل القوى الإقليمية والدولية، ولتحويله إلى رأس مال تباع وتشترى من خلاله الكثير من القضايا الدولية، وفي مقدمتها قضايا العرب والمسلمين.
فالحدث من حيث الشكل الذي تم به، وبهذا الحجم والدقة في الإصابة لأهدافه ليس بالأمر السهل، وتنفيذه بما خطط ورسم له، يصعب على دول كبرى القيام به. فمكان الحدث هو الولايات المتحدة، وهي أقوى دول العالم مالياً وعسكرياً واقتصادياً، والتي تملك أرقى وأحدث وسائل المراقبة والتجسس الجوية والأرضية، مما يسمح لها بالتجسس على العالم كله. إضافة إلى أن لديها شبكات من الجواسيس والعملاء، تعم المعمورة براً وبحراً وجواً، وهي تفتخر بأن لديها مخابرات مركزية (سي. آي. أى) يحيط بعملائه وأجهزته كل دول العالم. وهي تملك تاريخاً بصناعة المؤامرات من تغيير أنظمة، وتنصيب أخرى على السلطة، وتدرب جيوش من التنظيمات في مختلف القارات، لتحقيق أهدافها من تفجير الصراعات العرقية والطائفية والقومية، وتدبر الاغتيالات السياسية لكبار المسؤولين في العالم، وتصنع الحروب وبؤر التوتر في أنحاء المعمورة، وتتنصت على غرف نوم قادة وزعماء حكومات، وتشارك في كل الخبائث، ولديها من وسائل المراقبة والرصد والتجسس، مما يسمح لها أن تعرف ما يجري في العالم كله.
?
* الفصل الأول
من صنع أحداث الحادي عشر من أيلول/
سبتمبر 2001؟(1/8)
في مقابلة صحفية تمت للرئيس السابق للمخابرات الألمانية (إيكهارت فرتباخ)، عن رؤيته عما حدث في نيويورك وواشنطن، وتحليله لقدرة مجموعة صغيرة من تنظيم القاعدة التابع لأسامة بن لادن في صناعة هذه الأحداث الضخمة. استبعد أن يقوم بها أي تنظيم، بل في رأيه لا يمكن أن تنفذه إلا دول متقدمة ومتطورة، وقال (إن هجمات 11/9 كانت تحتاج إلى سنوات من التخطيط. وحجمها يبين أنها نتيجة لأعمال تنظمها دول)(1)
فالاختراق للولايات المتحدة بهذا الحجم الضخم، ليس من السهولة بمكان، وخاصة لتنظيم كتنظيم القاعدة، كما تدعي الولايات المتحدة وأجهزتها الأمنية، أو كما يدعي قادة القاعدة عبر أشرطة فيديو، تبث من قناة الجزيرة القطرية. فتنظيم القاعدة لا يضاهي لا في الشكل ولا في المضمون أجهزتها الأمنية، سواء أكان في الحجم أو الإمكانات أو القدرات المادية والتقنية وغيرها، فلا توجد مقارنة ولا بأي نسبة كانت.
إضافة أن الموقع الجغرافي للولايات المتحدة المطوق بالمحيطات، لا يسمح بهذا الاختراق السهل. وهذا الموقع المحصن جغرافياً أفشل محاولات أعدائها من الدول العظمى في الحربين العالميتين الأولى والثانية من الوصول إلى برها. وطالما تغني الأمريكيون بالأمن من خلال موقعهم الجغرافي. الذي صعب حتى على هتلر اختراقه في الحرب العالمية الثانية، أو حتى الوصول إلى شواطئها. كان ولا زال سوراً أمنياً مانعاً، يحمي الولايات المتحدة من أي هجوم بري محتمل.
كما إن قواعدها العسكرية مزروعة في دول عدة على امتداد المعمورة، لا يسمح بحدوث ما حدث، إلا عبر تقنيات متقدمة جداً، وخدمات لوجستية ومخابراتية هائلة، سواء في داخل الولايات المتحدة وخارجها، حتى يتم تنفيذ عمليات بهذا الحجم الضخم، الذي حدث في الحادي عشر من أيلول.(1/9)
وبما أن ما حدث في الحادي عشر من أيلول لا تستطيع القيام به أي دولة من الدول المتقدمة اليوم، والتي تناطح الولايات المتحدة بامتلاكها القدرات العسكرية والاقتصادية والمخابراتية. فكيف بابن لادن وإمكانياته المتواضعة أمام الولايات المتحدة ومن خلفها الحلف الأطلسي بإمكاناته الهائلة، يقوم بهذا العمل دون غطاء داخلي، وتسهيلات من أجهزة الرصد الاستخباراتي للولايات المتحدة؟.
وللدلالة على توفر غطاء مخابراتي من قبل أجهزة أمنية أمريكية وغيرها، أو من أجهزة استخباراتية دولية تعمل في الولايات المتحدة عدم استغلال عامل الزمن لمنع مسلسل الأحداث. حيث نرى أن فارقاً زمنياً بين الطائرتين اللتان اصطدمتا في مركز التجارة الدولية في نيويورك يزيد على ثلث الساعة، ووجود فترة زمنية ثانية، بين الطائرة الثانية التي صدمت برج مركز التجارة الدولية، وارتطام الطائرة الثالثة بالبنتاغون في واشنطن المحصن تحصيناً بالغاً.
فأين غابت تلك القوة الهائلة من القوات المسلحة والأجهزة الأمنية المكلفة برصد الخطر عن بلادها عن منع بقية الطائرات من التنفيذ بعد ارتطام الطائرة الأولى بمركز التجارة الدولية؟ وكيف لم تستغل القوات المسلحة والأمنية هذا الوقت في درء الخطر بعد الضربة الجوية الأولى؟ ولماذا ترك هذا الزمن لتنفيذ مخطط الجريمة؟.
والسؤال الآخر الذي يخطر على البال اليوم بعد مضي أكثر من عام، أين الصناديق السوداء لتلك الطائرات، التي قامت بضرب مركز التجارة العالمي والبنتاغون؟ فمن المعروف لدى الجميع أن تلك الصناديق لا تتأثر لا بحريق أو ماء بحر أو غيرها. لماذا لم يعلن عن وجودها؟ وما هي المعلومات التي احتوتها أشرطتها.؟ فحتى تاريخ هذا اليوم لم تعلن الولايات عن اكتشاف تلك الصناديق السوداء، بل لم تقل شيئاً!!. فما مصير تلك الصناديق؟ وأين هي الآن؟ ولماذا التكتم عليها من قبل الإدارة الأمريكية؟.
* الحدث فوق طاقة تنظيم القاعدة أو غيره(1/10)
إن ما حدث في الحادي عشر من أيلول في نيويورك وواشنطن، حسب كل الخبراء من عسكريين واستراتيجيين وباحثين في كل أنحاء العالم، يستغرق إعداده عدة سنوات. فكيف لم يكتشف خلال الإعداد له، الذي قدر بعدة سنوات؟ وكيف يكتشف بعد التنفيذ مباشرة وبساعات قليلة؟ حيث اتهمت الإدارة الأمريكية بعد ساعات من الحدث تنظيم القاعدة وزعيمه أسامة بن لادن، بالهجمات التي أصابت برجي مركز التجارة العالمي ووزارة الدفاع (البنتاغون).
فالذي يتمكن من معرفة القائم بالعملية خلال ساعات، ويمتلك القدرة الدقيقة في معرفة الفاعل، وبسرعة مذهلة! أليس بالأحرى أن يكتشف عمليات التخطيط له، الذي استغرق سنوات؟.
أليس من الغريب أيضاً أن يطلب وزير الدفاع رامسفيلد من الإدارة العسكرية بعد خمس ساعات من الأحداث، وضع خطة لضرب العراق(2)، وكأن وزير الدفاع يترقب هذا الحدث، فيسرع بالاستفادة الفورية من نتائجه، فيضع جدولاً لتوظيف الحدث تنظيم القاعدة وأفغانستان ومن ثم العراق!!
ولماذا أطلقت على دول معينة العراق وإيران وكوريا الشمالية دول محور الشر؟ وهؤلاء ليس لهم أية علاقة بين الحدث لا من قريب أو بعيد، كما نشرت السلطات الأمنية الأمريكية عن مرتكبي الحادث، إلا لنوايا مبيتة ومرسومة مسبقاً، ثم تختار سبع دول أخرى أسماها الرئيس الأمريكي بالدول المارقة وهي (العراق وسوريا وإيران وليبيا والسودان وإيران وكوبا وكوريا الشمالية) بذريعة أنها تهدد الولايات المتحدة على زعمه، هل جاءت التسمية عبثاً أم لتصفية حسابات من دول نهجت نهجاً وطنياً مستقلاً غير تابع لها؟.
وعقب الحدث شنت وسائل الإعلام الغربية المشبوهة حملة على الإسلام، تتهمه بأنه مستودع يفرخ الإرهابيين، وبأنه يعلم اتباعه كراهية الغرب، وأنه خطر على ديمقراطية الغرب.(1/11)
ولكن لمعرفة المجرم الحقيقي صانع الحدث، لا بد من العودة إلى بدهيات قانون اكتشاف الجرائم، الذي يقول (لمعرفة الجرائم ابحث عن المستفيد). فمن هو المستفيد من نتائج هذه الأحداث سوى الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني!!.؟ فالإسلام المتهم، لم يستفد منه، بل تمت محاصرته، وأخذت بلدانه على حين غرة.
وقد فوجئت به كافة الدول الإسلامية بما فيها حكومة طالبان في أفغانستان، التي يتواجد فيها أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة. والمتابع لسير التداعيات العسكرية والسياسية بعد الأحداث، قد شاهد أن الاستغراب والاستنكار لما حدث، كان بادياً على جميع تلك الدول والمؤسسات الروحية والمدنية الإسلامية، لما جرى في نيويورك وواشنطن.
وهذا ينفي التهمة عن الإسلام والمسلمين. وإن كان تنظيم القاعدة بزعامة ابن لادن تورط به، كما تدعي أشرطة قناة الجزيرة القطرية على لسان أسامة بن لادن وكبار تنظيم القاعدة، أو أشرطة بعض المنفذين/ وحتى وأن كانت ملفقة، فالتقنيات الحديثة في علم الصوتيات والتصوير قادر على خلق مثل هذه الأشرطة/ فمن المؤكد أنه تم استغلال القاعدة لتنفيذ الحدث، سواء علمت، أو لم تعلم بهذا الاستغلال. وإنها كانت تقوم بهذا الحدث برعاية وتسهيلات ومراقبة أجهزة الأمن الأمريكي والصهيوني.
فالمستفيد كما أشرنا، وسنبنيه فيما بعد هو الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، وفق معادلة قانون الربح والخسارة لدى الرأسماليين والتجار والحركات العنصرية وسياسي الغرب. فبالنسبة للولايات المتحدة الربح أكبر وأعظم من خسارة برجين وقسم من البنتاغون. أما عن الضحايا لا يهتم بهم من صنع، وشارك، وغطى الحدث، أما تحقيق أرباح سياسية وعسكرية واقتصادية وثقافية.(1/12)
والمستفيد الرئيسي الثاني من الحدث الكيان الصهيوني، فقد عادت له الأحداث بمكاسب كبيرة، سواء بتغطيتها للجرائم الهائلة، التي يرتكبها بحق الشعب العربي الفلسطيني وأرضه، أم في صرف أنظار الرأي العالمي عن هذه الجرائم. كما أتاحت له فرصة لصق تهمة الإرهاب بالمقاومة الفلسطينية.
?
* الفصل الثاني
دروس من تاريخ الولايات المتحدة
في صناعة أحداث لتستفيد منها.
والتاريخ كما قلنا أعلاه علمنا الكثير حول صناعة المؤامرات والجرائم، التي يرتكبها وتحيكها الدول الكبرى الطامعة بثروات غيرها، ومن ثم إلصاقها بالآخر. وتاريخ المخابرات المركزية الأمريكية أو الموساد الصهيوني حافل بمثل تلك الجرائم، ومن ثم إلصاقها بالعرب وغيرهم من الشعوب المناهضة للهيمنة والمشروع الصهيوني. ففي مسألة الربح والخسارة يدقق كلاهما في المسألة، وحين يتبين لهما أن الربح كبير، فلا يمتنعان عن تنفيذ أي جريمة أو مؤامرة، وإن كانت تتطلب التضحية بجنودهما أو مواطنيهما.
فالولايات المتحدة لها باع طويل في صناعة مؤامرات وأحداث، واتهام الخصوم بها، فالتاريخ يتحدث عن قصص حدثت من قبل، جرى فيها قتل وحرق وتدمير لمنشآت وآلات حربية من قبلها، ومن ثم تقوم باتهام الآخرين بها. فمنذ النشأة الأولى لها، تمت إبادة الهنود الحمر تحت ذرائع واهية كاذبة. كما قام بعض البحارة الأمريكيون في عام 1898 بحرق سفينة الماين، وقتل 266 بحاراً فيها من زملائهم البحارة الأمريكيين، واتهموا الأسبان بها بغية إشعال حرب معهم للسيطرة على الجزيرة الكوبية، التي كانت مستعمرة من قبل أسبانيا وفرض الحماية الأمريكية عليها.(1/13)
وحروب السنوات الأربع في بداية القرن التاسع عشر مع دول المغرب العربي، تمت هي الأخرى بنفس الطريقة، والقصص كثيرة عن ممارسات الولايات المتحدة في صنع جرائم واتهام الآخرين، بغية هدف رسمته، لتحقق من خلاله أرباحاً تعادل عشرات المرات من خسارتها. وكذلك الحركة الصهيونية فتاريخها حافل بمثل تلك الجرائم، واتهام الآخرين بها، حتى وإن كانت تلك الجرائم تودي بحياة المئات من اليهود.
* من الشواهد على تصنيع الحدث
ومن الدلائل القليلة التي توفرت بعد عام من أحداث أيلول 2001، قد اعترفت الإدارة الأمريكية يوم الخميس 19 أيلول 2002 في ردها على الكونغرس الأمريكي، بأنها كانت على علم بالتهديدات التي يشكلها أسامة بن لادن قبل 11 أيلول عام 2001. وادعت أنها لم تكن تملك ما يكفي من المعلومات الاستخباراتية الدقيقة للحؤول دون وقوع الهجمات على نيويورك وواشنطن.
واعترفت في ردها، أن أجهزة الاستخبارات الأمريكية تلقت عشرات التحذيرات، بشأن إمكانية حصول هجوم، لكنها تجاهلتها. وهذا ما أكده ريتشارد ارميتاج نائب وزير الخارجية في شهادته المكتوبة أمام اللجنة المؤلفة من مجلس الشيوخ والنواب، واعترف أن أجهزة الاستخبارات الأمريكية تلقت العشرات من التحذيرات، تشير إلى إمكانية استخدام الطائرات كسلاح.
وبرر عدم اتخاذ الإجراءات الأمنية المطلوبة، قائلاً: (لكن أياً من تلك التحذيرات لم يتنبأ بهجمات الحادي عشر من أيلول). وادعى (أن ما لم نعلمه كان على المستوى التكتيكي، لم نكن نعلم ما هي الأهداف التي ينوي تنظيم القاعدة مهاجمتها، ومتى وكيف؟).(3)
وكانت السيدة إليانور هيل رئيس لجنة التحقيق الذي يجريه الكونغرس حول إخفاقات أجهزة الاستخبارات، قد قدمت تقريراً للجنة يوم الأربعاء 18 أيلول 2002 من ثلاثين صفحة، أكدت فيه أن هذه الأجهزة، كانت على علم بخطر وقوع هجمات، تستخدم فيها طائرات مدنية قبل هجمات 11 أيلول(1/14)
2001. لكنها اعتبرت تلك الأجهزة أن هذا الخطر ليس كبيراً.
ومن المعلومات المثيرة التي أوردتها السيدة هيل في تقريرها، أن المعلومات الأولية حول احتمال شن هجمات بالطائرات، يعود إلى عام 1994، حين خطف مسلحون جزائريون طائرة تابعة للخطوط الجوية الفرنسية، وهددوا بتفجيرها في برج إيفل. وقالت إنه في عام 1995 داهمت الشرطة الفيلبينية شقة في مانيلا، وعثرت على وثائق تفيد عن مؤامرة لصدم طائرة في المركز الرئيسي لوكالة الاستخبارات المركزية قرب واشنطن. وأحد واضعي الخطة كان رمزي يوسف الذي اعتقل وأدين في تفجير مركز التجارة العالمي عام 1993. أما الثاني فهو خالد الشيخ محمد، الذي يعتقد المسؤولون الأمريكيون أنه العقل المدبر لهجمات 11 أيلول.
وجاء في التقرير أن أجهزة الاستخبارات تلقت تقريراً في كانون الثاني عام 1996 من مصادر يعتد بها، يفيد عن تخطيط تنظيم القاعدة لعملية تقضي بانطلاق طائرة من أفغانستان إلى الولايات المتحدة، وتصطدم بالبيت الأبيض. وفي عام 1997 تلقت أيضاً تقريراً بأن مجموعات إرهابية اشترت طائرات، لتضرب بها مبان في الولايات المتحدة. وفي آب 1998 تلقت تقريراً يفيد بأن نشطاء عرب، يخططون لقيادة طائرة محملة بالمتفجرات من بلد أجنبي، وصدمها بمركز التجارة الدولي. وفي أيلول من نفس العام علمت الأجهزة أن ابن لادن، يخطط لتفجير طائرة في إحدى المطارات الأمريكية. وبعد أسابيع وردت معلومات، تفيد أن ابن لادن سيستهدف مركز التجارة الدولي.(1/15)
وفي شباط 2001 وردت معلومات جميعها تؤكد أن ابن لادن سيضرب في الأشهر المقبلة، وأن الهجوم سيكون في نيويورك وكاليفورنيا. وفي نيسان 2001 وردت معلومات أن ابن لادن مهتم باستخدام طائرات تجارية للقيام بهجمات في الولايات المتحدة. وفي أيار وحزيران من العام نفسه ورد /23/ تقريراً، أفادت أن الهجوم وشيكاً. وفي نهاية صيف عام 2001 أكدت معلومات للمخابرات الأمريكية المركزية أن تنظيم القاعدة، يستعد لشن هجوم في الولايات المتحدة. وفي 10 أيلول 2001 رصدت أجهزة الاستخبارات مكالمتين هاتفيتين تتحدثان عن هجوم وشيك، ولم تترجم المكالمتين إلى اللغة الإنكليزية إلا في 12 أيلول 2001)(4)
?
* الفصل الثالث
روايات تحمل الكثير من الثغرات
عن دور تنظيم القاعدة في صناعة الحدث
من المفارقات التي تدعو إلى إعادة صياغة الأحداث بشكل تسلسلي، حتى يتبين للباحث أن أصابع المخابرات المركزية غير بعيدة عن صناعة الأحداث، من خلال المشاركة والتسهيلات اللوجستية، وغض الطرف والحماية، وعدم منع الحدث قبل وقوعه. فمن بعض المواقف التي تدعو للشك، فنرى أن زياد الجراح أحد المتهمين في تنفيذ هجمات 11 أيلول هو من المطلوبين من قبل الأجهزة الأمنية الأمريكية، يتم توقيفه بناء على طلب تلك الأجهزة في مطار دبي عام 1998، وهو في طريقه إلى لبنان، ومن ثم يسمح له بالسفر بعد اتصال مسؤول أمريكي في المخابرات المركزية.
أما خالد المحدار أحد أبرز منفذي الأحداث، فقد عممت الأجهزة الأمنية الأمريكية على مطاراتها وحدودها وسفاراتها، بأنه رجل خطر على الولايات المتحدة الأمريكية، فإذا به يدخل إلى الولايات المتحدة بتأشيرة دخول أمريكية، ويتم التغاضي عنه في المطار، وتم ذلك قبل وقوع الأحداث بثلاثة أسابيع. وادعت المخابرات المركزية الأمريكية أنها علمت به، ولكنه فر عن مراقبتها.(1/16)
وزكريا الموسوي الفرنسي الجنسية المغربي الأصل، تعلم المخابرات المركزية بأنه حسب ما توفر لديها من معلومات من قبل الأجهزة الأمنية الفرنسية والغربية، بأنه كان يعد لعمل ضد المصالح الأمريكية. لكنه يدخل للولايات الأمريكية بأمان، وحين تطلب بعض الأجهزة الأمنية من إدارتها تفتيش جهازه الحاسوب (الكومبيوتر)، تتدخل الإدارة الأعلى في الأجهزة، وتمنعها من التفتيش.(5)
ومن الدلائل على صناعة الحدث من قبل الأجهزة الأمنية، أن عميلاً للمخابرات يدعى (فينكس) يعمل في ولاية أريزونا، قدم مذكرة إلى المخابرات المركزية، بين فيها ازدياد العرب الذين يدرسون الطيران. وتقدم بتقرير في 2 تموز من عام 2001 حذر المباحث الفدرالية من حملة هجومية جوية على أمريكا. كما حذرت المخابرات المركزية في 6 آب 2001 من هجمة على الولايات المتحدة ستتم لها علاقة بالطيران.
ومن السخرية أن يبرر أحد المسؤولين في المخابرات المركزية مرور المكلف بحمل السكاكين إلى الطائرة المختطفة من بوابة التفتيش، التي تنذر لوجود إبرة لا سكين من دقتها، دون أن يتم تفتيشه، ومن ثم إيقافه من قبل رجال الأمن في المطار. فيبرر هذا المسؤول عملية المرور دون تفتيش قائلاً: لقد أنذرت أجهزة التفتيش عند مرور حامل السكاكين البوابة، إلا أن مرور فتاة جميلة في نفس اللحظة، سحرت عينا الحارس وبقي ملتفتاً عليها، مما جعلته يسمح له بالدخول دون تفتيش، وبركوب الطائرة. هل هذا معقول؟(6). إلا في العرف الأمريكي، الذي يجد مبررات له، وإن كانت تافهة.
الاكتشاف الأول عقب الحدث مباشرة عن علاقة القاعدة بهذا الحدث من قبل إف. بي. آي، يذكر بدخول عملاء من شبكة ابن لادن للولايات المتحدة الأمريكية، وأنهم تدربوا على قيادة الطائرات بصورة سريعة، وأنهم خطفوا الطائرات بعد أن تقسموا إلى مجموعات.(1/17)
وفي 14/9/2001 أعلنت أسماء تسعة عشر بادعاء أنهم قاموا بعملية الخطف: 1ـ خالد المحدار (سعودي الجنسية). 2ـ ماجد مقعد (سعودي). 3ـ نواف الحازمي (سعودي) 4ـ سالم الحازمي (سعودي). 5ـ هاني حنجور. 6ـ سطام السقامي (سعودي). 7ـ وليد الشهري (سعودي). 8ـ وائل الشهري (سعودي). 9ـ محمد عطا (مصري). 10ـ عبد العزيز العمري (سعودي). 11ـ مروان الشحي. 12ـ فايز رشيد أحمد القعدي بني حماد. 13ـ أحمد الغامدي (سعودي). 14ـ حمزة الغامدي (سعودي). 15ـ سعيد الغامدي (سعودي). 16ـ أحمد إبراهيم الحزناوي (سعودي). 17ـ أحمد النعمي. 18ـ زياد الجراح.
وكذبت السفارة السعودية في واشنطن هذا النبأ، فقالت أن خمسة من هؤلاء هم أحياء، يقيم أربعة منهم في وطنهم، وهم:
عبد العزيز العمري ومهند الشهري وسالم الحازمي وسعيد الغامدي، والخامس يعمل طيار في خطوط الجوية المغربية وهو وليد الشهري يقيم في الدار البيضاء. ونفى الأمير نايف بن عبد العزيز وزير الداخلية وجود أي دليل قدمته الولايات المتحدة عن علاقة السعوديين بهذا الحادث.
ويسأل تيري ميسان كيف تم اكتشاف أسماء هؤلاء الانتحاريين؟ قائلاً: (وإذا ما راجعنا اللوائح بأسماء الضحايا المنشورة من قبل شركات الطيران بتاريخ 13 أيلول، نفاجأ بعدم إدراج أسماء القراصنة عليها.)(7) فكيف عرفت إذاً تلك الأسماء، إن لم تكن مدرجة مع أسماء الضحايا؟. أليس هذا الأمر مسبق الصنع؟.
وذكر كل من وزير العدل جون أشكروفت ومدير جهاز أف. بي. آي روبرت مويلر في 28/9/2001، بأنه وجدت رسائل تتضمن تعليمات للانتحاريين في حقيبة، قد تركها أبرز قادتهم محمد عطا، ليتمكن من صعود الطائرة. وفق أقوال جهاز أف. بي. آي.(1/18)
وقالوا أنهم وجدوا أيضاً نسخة مماثلة في حقيبة نواف الحازمي، تركها في مطار دالس، أما الأغرب ما تم ادعاؤه، هو أنهم وجدوا نسخة في بقايا الطائرة، التي تفجرت فوق ستوني كريك تانوتشيب في بنسلفانيا. والغرابة تأتي كيف تصمد ورقة تعليمات من الحريق، الذي أصاب الطائرة، في حين صهر الحريق الصندوق الأسود الذي لا يتأثر بالنيران!!؟.
أكذوبة من أكاذيب الأجهزة الأمنية الأمريكية والإدارة أيضاً، كما ادعت من قبل أنها وجدت جواز سفر محمد عطا بين أنقاض برج التجارة الدولية، فكيف تنصهر الطائرة، والفولاذ الذي بني به البرجين، وبقي جواز سفر محمد عطا سالماً!!؟ من أي نوع صنع هذا الجواز!!؟ قد يكون صنع من مواد قد جلبت من الشمس لا ندري!!.
لنرى ماذا في تلك الورقة كما تدعي وزارة العدل وجهاز أف. بي. آي؟ فقد تضمنت التالي:
(1ـ عاهد نفسك على الاستشهاد وجدد نيتك به. احلق جسدك وطهره بماء الكولونيا. واستحم.
2ـ تأكد من حسن اطلاعك على جميع تفاصيل الخطة وكن مستعداً للرد المعاكس ورد فعل العدو.
3ـ اقرأ سورتي التوبة والأنفال تمعن بمضمونهما وفكر بكل ما وعد الله به الشهداء.).(8)
* القاعدة وفق الإعلام القطري والغربي تتبنى أحداث 11 أيلول 2001
وفق الإعلام القطري (قناة الجزيرة) والإعلام الغربي الأمريكي، تم الادعاء بأن تنظيم القاعدة بزعامة أسامة بن لادن قد تبنى هجمات الحادي عشر من أيلول على نيويورك وواشنطن. هذا التبني وعلى الرغم من الأشرطة المفبركة والمصنعة، لا يزال موضع شك لدى معظم المحللين العسكريين الاستراتيجيين والمراقبين للأحداث العالمية، بسبب ضخامة الحدث، والمتطلبات التقنية العالية لتصنيعه، وضرورات توفر إمكانات هائلة لتنفيذه بهذه الدقة كما بينا أعلاه.(1/19)
وعلى الرغم من أكذوبة البنتاغون، الذي نشر شريط الاعترافات، التي قيل أن أسامة بن لادن أدلى بها في 13/12/2001. فقد جاء بث الشريط بعد إلحاح داخلي ودولي على الإدارة الأمريكية، لتقديم الأدلة عن تورط ابن لادن وتنظيم القاعدة بأحداث نيويورك وواشنطن. ومما يبين حالة التزوير والتلفيق للشريط، فقد جاء متطابقاً تماماً مع كل أكاذيب وزيف الإدارة الأمريكية وأجهزتها الأمنية، التي أعلنت عنها عقب الأحداث مباشرة، وكأن الإف. بي. أي. أو السي. آى. أي قد قامت بتلقين ابن لادن ما يقول في الشريط.
ثم تتالت الأشرطة التلفزيونية المسجلة لابن لادن وبعض من قيادة التنظيم ولأحد المنفذين في قناة الجزيرة القطرية عبر أشرطة مشكوك في مصدرها، وقيل أن مؤسسة تدعى (السحاب)، هي التي تقوم بالتسجيل والتصوير، ثم تقوم بإرسالها إلى قناة الجزيرة القطرية. لماذا قناة الجزيرة؟
والجواب لتنفي الإدارة الأمريكية عن نفسها عملية التزوير، وتقول إن مصدرها جاء من قناة عربية، ومن المعروف أن تنظيم القاعدة في غالبيته من العرب وخاصة من أبناء الجزيرة العربية والخليج، ورأس التنظيم سعودي الجنسية، فتكون بذلك مصداقيتها لدى الرأي العام الغربي أكثر تصديقاً، من أن هي التي أذاعتها أو مصدرها الوحيد.
وكما قلنا لقد قدمت الأشرطة معلومات كل ما جاء فيها، كان متطابقاً مع الرواية الأمريكية تماماً. لتؤكد مصداقية ادعاءاتها باتهام تنظيم القاعدة بالمسؤولية عن أحداث الحادي عشر من أيلول. وكما أشرنا إن تقنيات العصر في صناعة وسائل التزييف والتحوير لتلك الأشرطة ممكنة لدول وأشخاص من هم أقل من إمكانيات الولايات المتحدة.(1/20)
علماً أن أجهزة المخابرات المركزية بارعة في صناعة الأشرطة التلفزيونية المزيفة. فقد لعبت الأشرطة المزيفة دوراً هاماً في إثارة الرأي العام في رومانيا على تشاوشيسكو، حين أظهرت صوراً لجثث ضحايا، ادعت أنهم قتلوا على يد مخابرات تشاوشيسكو، ثم تبينت بعد تغيير النظام في رومانيا وإعدام تشاوشيسكو، أنها كانت ملفقة ومزورة. وكذلك تمت صناعة شريط من قبل المخابرات المركزية تصور صدام حسين يرقص مع الممثلة الأمريكية مادونا.
ومن أشكال التزوير الإعلامي ما حدث في حرب الخليج، حين تم عرض شريط تلفزيوني يعرض جنوداً عراقيين يقومون بإلقاء الأطفال حديثي الولادة في حاضناتهم من نوافذ مستشفى كويتي. ويعرض أيضاً فتاة كويتية تبكي وهي تروي كيف يقوم الجيش العراقي بهذه الأعمال الوحشية في الكويت؟. وتبين بعد ذلك أن الفتاة كانت تعيش في لندن مع أبيها سفير الكويت في واشنطن، ولم تكن في الكويت أثناء الاحتلال العراقي للكويت. كما صورت المخابرات المركزية فلماً لابن لادن نفسه وهو يقطع رؤوس معارضيه.(9)
ويقول تيري ميسان الصحفي الفرنسي في كتابه (التضليل الشيطاني) عن شريط الاعتراف الذي أذيع لابن لادن: (إن عميل ابن لادن لم يعمد فقط إلى تدعيم الأكذوبة القائلة أن انهيار البرجين تم بفعل الاحتراق، وأكذوبة سقوط الطائرة على البنتاغون، بل حرص على مجافاة البداهة. حقاً فإن الشريط ينتهي بهذا التعليق: "كانوا (أي الأمريكيون) مذعورين، وقد ظنوا أن الأمر يتعلق بانقلاب سياسي." (صدق) عدو الولايات المتحدة رقم (1) هو الذي يؤكد ذلك).(10)
وقد شكك ونفى الرئيس الباكستاني برويز مشرف في نيويورك، أثناء زيارة لها، إمكانية تنفيذ مثل هذا الحدث من قبل تنظيم القاعدة، لافتقار تنظيم القاعدة القدرة على تنفيذه، فقال أنه غير مقتنع بأن أسامة بن لادن، هو الذي كان وراء أحداث الحادي عشر من أيلول. وأكد لا يمكن لابن لادن، أن يكون قادراً على فعل هذا الأمر.(11)
?(1/21)
* الفصل الرابع
دلائل على أصابع الموساد
لعب الكيان الصهيوني دوراً بارزاً في صناعة أحداث نيويورك وواشنطن. فقد كشفت بعض المعلومات التي أعقبت الأحداث مباشرة، عن اعتقال الشرطة الفيدرالية الأمريكية (أف. بي. أي) لخمسة من الإسرائيليين في مدينة نيوجرسي القريبة من نيويورك، للاشتباه بعلاقتهم بالتفجيرات التي جرت في الحادي عشر من أيلول 2001. واعترفت صحيفة هاآرتس الصهيونية أن الخمسة المشتبه بهم بالتورط بالانفجار، تم اعتقالهم بعد أربع ساعات من وقوع التفجير في نيويورك، أثناء قيامهم بالتصوير على سطح بناية الشركة، التي يعملون بها، بالتعاون مع صاحب الشركة الإسرائيلي أيضاً.
ونقلت الصحيفة عن أحد المعتقلين قوله: إن الشرطة الفيدرالية الأمريكية استجوبتهم لمدة ثلاثة أيام. في حين حققت معه شخصياً لمدة أربع عشرة ساعة متواصلة، خصوصاً عن انتمائه لجهاز الموساد الإسرائيلي، بعد أن تبين أن لديه الجنسية الإسرائيلية.
وأكدت هاآرتس نقلاً عن مصادر الخارجية الإسرائيلية، أن القنصلية الإسرائيلية في نيويورك، تلقت معلومات من مكتب التحقيقات الفدرالية الأمريكية (أف. بي. أي)، حول ظروف الحادث، كما تستنكر السلوك الغريب بعد تفجير نيويورك، من قيام الإسرائيليين بالرقص والقهقهة ابتهاجاً بالانفجار المدمر. وأبلغ مكتب التحقيقات الأمريكية القنصلية الإسرائيلية، أنه سيتم طرد هؤلاء الإسرائيليين الخمسة من الولايات المتحدة، لتواجدهم فيها بشكل غير قانوني، ولعدم حصولهم على تصاريح عمل.(12)(1/22)
وكشفت صحيفة الوطن العمانية أن أكثر من أربعة آلاف إسرائيلي، يعملون في مركز التجارة الدولية، تغيبوا عن عملهم يوم الاعتداء على المركز، بناء على إيعاز من الحكومة الإسرائيلية. ونقلت الصحيفة عن مصادر دبلوماسية غربية قولها إن عدم التحاق الإسرائيليين بأعمالهم يوم الهجوم، أثار شكوكاً لدى المسؤولين في الحكومة الأمريكية، الذين يحاولون معرفة كيف علمت الحكومة الإسرائيلية بخبر الهجمات بشكل مسبق، وإخفاء تلك المعلومات عن الحكومة الأمريكية.
وأكدت مصادر صحفية، أن التقارير الإخبارية الأولى التي وصلت من نيويورك، عقب الهجوم، أشارت أن عدداً كبيراً من الإسرائيليين واليهود، يعملون في مركز التجارة العالمي، ولكن لم تذكر أية أخبار لاحقة شيئاً عن وجود إصابات بين الإسرائيليين واليهود. وهذا ما يثير الشكوك بشأن دور إسرائيلي في أحداث نيويورك وواشنطن.(13)
وكشفت صحيفة ألمانية تصدر من هامبورغ تسمى (دي تسايت) في 2/10/2002 في تقرير لها من أربع صفحات عن ملف للمخابرات الفرنسية، أن الاستخبارات الإسرائيلية (الموساد) حذرت مسبقاً الولايات المتحدة بشأن مخططي هجمات 11 أيلول 2001. ويظهر من الملف الفرنسي أن الموساد كان يتتبع الخطوات العملية لتنفيذ هجمات الحادي عشر من أيلول. حيث قام باستئجار إحدى الشقق في بلدة هوليوود في ولاية فلوريدا لفريق من الموساد على مقربة من شقة محمد عطا ومروان الشحي، ومن المعروف أن العطا هو أبرز المتهمين في قيادة الهجوم الجوي على مركز التجارة الدولية وكان رئيس الفريق المخابراتي الصهيوني يدعى (حنان سيرفاتي)، كان يقيم قرب مركز البريد في هوليوود، حيث استأجرت مجموعة عطا صندوق بريد لها.(1/23)
ومن القراءة الأولية لمجريات الأحداث يظهر دوراً جلياً للموساد الصهيوني في صناعة الحدث والمشاركة فيه. ثم انتظار وقوعه في وقته الزمني، وإلا لماذا تواجد خمسة من الموساد الصهيوني على إحدى البنايات لتصوير الحدث قبل وقوعه. وانتشار ما يقارب المائة والخمسون من الموساد في أماكن الأحداث؟ ألا هذا يدل على امتلاك الكيان الصهيوني لمعلومات عن الحدث قبل وقوعه؟. هذا إن لم يكن مشاركاً فيه، أو من صنعه؟. ولماذا بعد ساعات قليلة تم اكتشاف اسم الفاعل (ابن لادن)؟.
وتقول المخابرات الفرنسية في تقريرها: أن تلك الحقائق توحي بأن الموساد كان يراقب المجموعة، وأن الإسرائيليين قدموا للأمريكيين قبل أسابيع عدة لوقوع الهجمات لائحة بأسماء أشخاص موجودين في الولايات المتحدة، يشتبه في أنهم يعدون لهجوم إرهابي.
كما أكد الأمريكيون عن وجود شبكة تجسس تابعة للموساد، كانت تضم 120 عميلاً، في 30 نيسان 2001، كانت تتابع تلك المجموعة، وأنها قامت باعتقالهم واستجوابهم قبل طردهم.(14)
ومن الملاحظات التي تؤكد ضلوع الكيان الصهيوني في أحداث الحادي عشر من أيلول عام 2001، عن تأجيل زيارة كانت مقررة لرئيس وزراء الكيان الصهيوني قبل يومين من الأحداث. وكذلك تأجلت زيارة وزير الدفاع الصهيوني كانت هي أيضاً مقررة للولايات المتحدة قبل الحدث بيومين. في حين نجد أن الوزير الصهيوني السابق أفرام سنيه، الذي كان في الولايات المتحدة وقت الأحداث، أقام غرفة عمليات في نيويورك بعد الأحداث، وهذا مخالف لكل الأعراف الدولية.
ومن الملاحظات الأخرى قيام عدد كبير من اليهود في الكيان الصهيوني ببيع أسهمهم من شركات الطيران الأمريكية قبل الأحداث بستة أيام، وقد جنوا بعدها أرباحاً هائلة بملايين الدولارات(15).(1/24)
وكشفت صحيفة هاآرتس عن تلقي مؤسسة (أوديجو) الصهيونية، وهي مؤسسة تعمل في مجال البريد الإلكتروني إنذاراً بقيام هجوم على مركز التجارة الدولية في نيويورك قبل ساعتين من حصول الهجوم، وقد اعترف مدير المؤسسة (ميشا ماكوفر) بحصول مؤسسته على مثل هذا الإنذار(16).
ومن الأبحاث الجديدة لبعض خبراء حوادث الطيران حول أحداث الحادي عشر من أيلول. فقد رأى بعض الباحثين المصريين ومنهم المستشار الدكتور حسن أحمد عمر الرئيس السابق في محاكم الاستئناف المصرية، أن هناك تشابهاً بين الانفجار الذي حدث انفجار الطائرة الإسرائيلية في أمستردام الهولندية يوم الأحد 4/11/1994، والتي كانت تحمل غازاً ساماً منقولة من نيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية إلى مطار تل أبيب في الكيان الصهيوني. حيث وقفت تلك الطائرة في مطار أمستردام للتزود بالوقود، وحين إقلاعها انفجرت، وسقطت على حي سكني في العاصمة الهولندية، أدى الحادث إلى مقتل (250) شخصاً من أهالي الحي المذكور، إضافة إلى ركاب الطائرة. وبقي الأمر غير معروف حتى كشفته الصحف الأوربية والصهيونية، وبينت أن الطائرة محملة بالغاز السام (أويسيد فلوفستاتنيك).
والعلاقة ما بين حوادث نيويورك وأمستردام، هو التشابه في الاحتراق الكامل للطائرة. حيث أن الغاز المذكور الذي كانت تحمله الطائرة الصهيونية، يذيب الألمنيوم الذي صنعت منه الطائرة، والفولاذ أيضاً، بسبب الحرارة الشديدة التي يطلقها الغاز بعد الانفجار، فهو يصهر الطائرة بالكامل.(1/25)
فالطائرات التي أذيع بأنها قامت بعمليات التفجير على مبنيي التجارة الدولية في نيويورك، ومبنى البنتاغون في واشنطن، والتي أسقطت في بنسلفانيا قد احترقت بالكامل. فلو فرضنا أن الطائرات التي ارتطمت بمركزي التجارة الدولية والبنتاغون، تمت إذابتها بفعل الاصطدام، فالطائرة التي سقطت في بنسلفانيا لماذا احترقت وذابت؟ إن لم يكن قد حملت هي والطائرات بالغاز السام الذي حملت به الطائرة الصهيونية، التي سقطت على حي في أمستردام، مع العلم لا يوجد هذا الغاز إلا في الولايات المتحدة، ولم يسمح ببيعه إلا للكيان الصهيوني.
ومن المشاهدات لبعض المحللين، أن الانفجار ولَّد سحابة غبارية، كما تظهر الصور التي التقطت لها، وهي عبارة عن تفاعل البنزين الذي في الطائرة مع الكيماوي المحملة به. كما ظهر في الصور التي صورت السحابة الغبارية، التي ظهرت مع انفجار طائرة أمستردام طبق الأصل. وبذلك نرى تطابقاً ما بين ما حدث في أمستردام ونيويورك، والمفجر والمخطط والمنفذ واحد من حيث التشابه والتطابق، وهذا يوضح أن الذي حَمَلَ الطائرات بالغاز السام واحد في أمستردام ونيويورك وواشنطن وبنسلفانيا. في حين نجد الرواية الرئيسية الأمريكية التي تستهزئ بعقول الناس، تقول إن الإرهابيين الذين فجروا الطائرات، بعد أن سيطروا عليها بالسكاكين، التي حملوها معهم بالطائرات.
أما عن عملية السيطرة على الطائرة، وتوجيهها، وحرفها عن مسارها بواسطة السكاكين، رواية أمريكية تتضمن الكثير من الكذب، لاستحالة الأمر مع وجود هذا الجمع في الطائرة. ولكن الذي يمكن تصديقه، هو السيطرة على الطائرة من خلال الطيار الآلي، والتحكم به عن بعد، وتوجيهه أرضياً من قبل القوى المستفيدة من هذا الحدث.
وبذلك تكتمل لنا الصورة، لنؤكد أن تعاوناً تم ما بين المخابرات المركزية والموساد وباطلاع الإدارتين الصهيونية والأمريكية، لصناعة الحدث، لتحقيق أهداف استراتيجية على مستوى العالم.(1/26)
وإن كان لتنظيم القاعدة دور في التنفيذ، فقد تم تسهيل ركوب عدد من تنظيم القاعدة في الطائرات، وزودت الطائرات بالغاز السام، الذي يبعث حرارة عالية تصهر الطائرة، بحيث تختفي كل معالم الجريمة، بما فيها الصناديق السوداء، وجرى التحكم بالطائرات عن طريق الطيار الآلي، وتوجيهها نحو أهدافها المحددة، وفجرت بعد ذلك، وتم إلصاقها بالعرب والمسلمين لتحقيق أرباحاً جمة تعادل آلاف ما تم خسارته.
ومن شاهد الفيلم السينمائي (القبلة الطويلة)، الذي أنتج قبل الأحداث، يبين كيف تصنع المخابرات المركزية والموساد عملية انفجار مركز التجارة الدولي، ومن ثم تتهم به المسلمين.
وليس المحللين العرب وبعض الأوربيين يؤكدون ما قلناه، بل هناك العديد من المحللين الأمريكيين الموضوعيين، يؤكدون أن ما جرى هو من صنع المخابرات المركزية والموساد الصهيوني. وآخر من تحدث بذلك أمير شعراء نيوجرسي/ أميري باراكا/ الذي اتهم اليهود بالتفجيرات التي حدثت في نيويورك وواشنطن حيث جاء في قصيدة له بعض التساؤلات قال فيها:
ـ من كان يعلم أن مركز التجارة العالمي سينسف؟
ـ من أخبر أربعة آلاف إسرائيلي يعملون في البرجين أن يلتزموا منازلهم في ذلك اليوم؟
ـ ولماذا بقي شارون بعيداً؟
وعلى الرغم من احتجاجات منظمة يهودية على قصيدته، تحت ذريعة أنها تشوه سمعة اليهود، وتؤذي مشاعرهم. وطالبت من حاكم ولاية نيوجرسي بسحب لقب أمير شعراء نيوجرسي عنه. إلا أن باركا رفض سحب القصيدة، وقال لصحيفة نيويورك تايمز: أنه مقتنع أن إسرائيل كانت على علم مسبق بهجمات الحادي عشر من أيلول، وأنه مستعد للدفاع عن رأيه، وأنه لا يعتزم الاستقالة عن إمارة الشعر.
ومضى يقول للصحيفة: (من الواضح أن الإسرائيليين كانوا على علم بهجمات الحادي عشر من أيلول، شأنهم شأن الرئيس الأمريكي جورج بوش. وأن السماح بوقوع الهجمات خدم البيت الأبيض في أفغانستان والعراق وبقية الشرق الأوسط.)(17)
?
* الفصل الخامس(1/27)
الحدث يكذب الرواية الأمريكية
كتب الصحفي الفرنسي (تيري ميسان) كتاباً سمي بـ(الخديعة الكبرى) كما ترجم للعربية، أو (التضليل الشيطاني) الصادر عن دار الوطنية الجديدة بدمشق عام 2002. يفضح فيه الإدارة الأمريكية ومحاولاتها في تضليل الرأي العام الأمريكي والدولي عن حقائق الحدث ووقائعه، ويؤكد أن هذا التضليل تم في صناعة أكذوبة ارتطام طائرة بوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) ويقول: (الحاصل: إن هذه الخرافة المريبة بُنيت تدريجياً الكذبة تلو الكذبة، فإذا ما عدتم إلى بيان البنتاغون الأول.. سوف يتبين لكم أن لا ذكر لطائرة البوينغ فيه. لم تظهر نظرية (الطائرة الانتحارية) إلا بعد مضي نصف ساعة، كما أن مسألة مطاردة الطائرة الشبح لا أثر لها في الإفادة التي أدلى بها قائد الأركان العامة، ولم يتم اختلاق قصة ضلال الطائرات الـ ف ـ 16 من قبل NORAD إلا بعد مرور يومين.
إن الرواية الرسمية محض دعاية. ويبقى أن 125 شخصاً لقوا حتفهم في البنتاغون، واختفت طائرة تقل 64 راكباً؟ ما هو مصير الرحلة 77 للخطوط الأمريكية (AA)؟ هل لقي ركابها حتفهم؟ إذا كان الرد بالإيجاب، من قتلهم ولماذا؟ وفي حال العكس، فأين هم؟ تلك مجموعة من الأسئلة التي يتوجب على الإدارة الأمريكية الإجابة عنها.)(18)(1/28)
وعن الدقة اللامتناهية في إصابة البرجين من قبل طائرتين مدنيتين، فيقول تيري ميسان: (إن عرض كل من البرجين لا يتجاوز 63,70 متراً، وأكبر عرض لطائرة البوينغ 47.60 متراً. وقد لاحظنا على أشرطة الفيديو كيف أن الطائرتين قد ضربتا الهدف بدقة في وسطه، ولو أن أياً من الطائرتين انحرف عن مسارها مسافة 55.65 متراً لكانتا أخطأتا الهدف كلياً. كم يلزم ثلاثة أعشار الثانية لقطع مثل هذه المسافة بسرعة متوسطة مقدارها (700 كلم/ ساعة). وتلك تجربة يستلزم تنفيذها من المهارة مستوى لا يتمتع به سوى طيارين أفذاذ، ذلك نظراً لقدرة هذه الأجهزة المحدودة على المناورة، فكيف إذا كان القبطان من الهواة؟.)(19)
وتحدث تيري ميسان عن استخدام منارة إلكترونية لبلوغ الطائرتين الدقة في الهدف، تصدر عنها (إشارة صادرة من نقطة الهدف كفيلة بتوجيه الطائرة إليها آلياً). وقال أن وجود مثل هذه الإشارة كانت موجودة في مركز التجارة الدولية، وقد التقطها بواسطة إذاعات لهواة الراديو، وسجلوها لأنها تقاطعت مع بث هوائيات التلفزة المنصوبة على سطح البرجين.(20)
ومن مجريات تنفيذ الحدث، نتبين أن صناعته فوق طاقة هؤلاء الطيارين حديثي المهارة في الطيران، غير قادرين على توجيه الطائرات بهذه الدقة والسرعة والقدرة على المناورة، ما ظهر في الاستدارة للطائرة الثانية التي اصطدمت في برج التجارة الدولية. فإن كانت الطائرة استطاعت الثبات على مسارها لأنها في اتجاه الريح. فإن الطائرة الثانية كانت مضطرة للقيام بمناورة التفاف معقدة لأنها بعكس اتجاه الريح، فكيف استطاعت الارتطام بوسط البرج أفقياً كالطائرة الأولى؟ ويعجز عنه طيارين محترفين وذوي خبرة عالية!!.(1/29)
يقول ميسان: (.. في كل الأحوال كان لا بد من وجود من يساعد على الأرض. فإن تأمن ذلك لا يعود ضرورياً وجود قراصنة كثر على متن الطائرة، ذلك يكفي وجود فريق صغير لوصول الطائرة بالطيار الآلي. ومن ناحية أخرى إن صعود قرصنة على الرحلة ليس ضرورياً على الإطلاق، لأن العملية لم تعد لخطف الركاب، يكفي قرصنة برامج حاسوب الطائرة قبل الإقلاع، حتى يصبح التحكم بالطائرة ممكناً، وهي في الجو بواسطة تكنولوجية (الغلوبال هوك) التي ابتكرتها وزارة الدفاع الأمريكية. وبكلام آخر يمكن بفضل هذه التقنية التحكم بطائرة البوينغ عن بعد، بحيث تصبح طائرة شبيهة بطائرات التجسس التي لا قائد على متنها.(21)
وأكد تيري ميسان بوجود متفجرات داخل المبنى، حيث أن اتحادات إطفائي نيويورك، رفضوا نظرية انهيار البرجين نتيجة إحراق وقود الطائرتين، وأن الانهيار تم من خلال الحرارة التي ولدهما مخزونا الطائرتين من الوقود، الذي تسبب بضعف الهيكل المعدني المركزي للمبنيين.
فأكد اتحاد الإطفائيين إن الهيكل يتحمل الحرارة. وقال رجال الإطفاء أنهم سمعوا أصوات انفجارات في أسفل الأبنية، وطالبوا بتحقيق مستقل، وقال ميسان (كما أكد فان رومير وهو خبير شهير من معهد نيو مكسيكو للمناجم، أن الانهيار لم يكن ممكناً إلا بواسطة متفجرات. ولكنه تراجع عن رأيه هذا أمام الضغوط الرسمية التي تعرض لها).(22)
ويستشهد تيري ميسان من إجابة الرئيس الأمريكي جورج بوش على إحدى التساؤلات الصحفية بعلم المخابرات وإداراته بهذه الهجمات. وهذا يرشح الرأي بأن المخابرات المركزية لم تقدم التسهيلات فقط، بل كانت مشاركة في صنعها، فيقول: (لنصغ الآن إلى هذا الاعتراف الغريب، الذي أدلى به الرئيس جورج دبليو بوش، وكان ذلك بمناسبة مهرجان نظم في أورلاندو بتاريخ 4 كانون2001.(1/30)
سؤال: ما أود قوله بداية سيدي الرئيس هو أنه لا يمكن تقدير كم هو مهم ما فعلتموه من أجل بلدنا. والشيء الآخر هو التالي: ماذا كان شعوركم عندما علمتم بالهجوم الإرهابي؟
الرئيس جورج دبليو بوش: شكراً يا جوردان، أنت تعلم يا جوردان، وسوف لن تصدق، إن قلت لك في أية حال أوقعني هذا الهجوم الإرهابي. كنت في فلوريدا، وسكرتيري العام أندي كارد، في الواقع كنا في قاعة للدروس، أتحدث بشأن برنامج بالغ الفعالية للتدريب على القراءة. كنت جالساً خارج القاعة بانتظار لحظة الدخول، فرأيت طائرة تصطدم بالبرج ـ كان التلفاز مشتعلاً ـ وبما أني كنت أنا نفسي قبطاناً. قلت: يا لهذا القبطان المرعب، ثم قلت: ربما كان ذلك حادثاً مخيفاً. ولكن قادوني [حينئذ إلى الصف]، ولم يتسن لي الوقت الكافي للتفكير في الأمر.
كنت جالساً في الصف وسكرتيري العام أندي كارد، الذي تراه جالساً هناك، دخل وقال لي: "طائرة ثانية ارتطمت بالبرج، إن أمريكا تتعرض للهجوم".
في الواقع يا جوردان بداية لم أكن أدري ماذا أقول ماذا سمعت. أنت تعلم أنني ترعرعت في فترة لم يخطر لي فيها أن أمريكا قد تتعرض لهجوم ـ ربما والدك أو والدتك كانا يفكران مثلي آنذاك ـ في تلك البرهة رحت أفكر ملياً في معنى أن ترى نفسك مهاجماً. وكنت أعرف أنني في حال تجمعت كل الدلائل المؤكدة على أننا تعرضنا لهجوم، سأجعل الجحيم جزاء الذي تجاسر على مهاجمة أمريكا (تصفيق).
هكذا إذن وحسب ما صُرِّح به، شاهد الرئيس مشاهد أول اصطدام قبل حدوث الثاني. هذه المشاهد لا يمكن أن تكون تلك التي سجلها الأخوان جول وجدعون نوديه صدفة، بالفعل كان الأخوان نوديه قد أمضيا يومهما بالكامل، وهما يصوران في موقع مركز التجارة العالمي. ولم تبث وكالة غاما شريطهما للفيديو إلا بعد انقضاء 13 ساعة. إن الموضوع يتعلق إذاً بمشاهد سرية نقلت إليه دون تأخير إلى قاعة).(23)(1/31)
شكل الرئيس الأمريكي لجنة مستقلة للتحقيق بأحداث الحادي عشر من أيلول برئاسة هنري كسينجر في 27/11/2002، وتضم عشرة من الديمقراطيين والجمهوريين، وتملك تفويضاً واسعاً. وتستند في أعمالها على التحقيقات المحددة، التي أجرتها لجنتا الاستخبارات في مجلسي الشيوخ والنواب. ومنحت اللجنة ثمانية عشر شهراً لدراسة قضايا مثل أمن الملاحة الجوية، ومشاكل الحدود بالتوازي مع الاستخبارات، ودراسة زيادة كبيرة في الإنفاق الاستخباراتي، لكشف الضعف في مجال مكافحة الإرهاب.(24)
فاختياره كان لصالح القوى الصهيونية الفاعلة في الإدارة الأمريكية ومراكز تأثيرها في المخابرات المركزية ووزارة الدفاع ووزارة الخارجية، وهي طبعاً ستكون نتائجها لغير صالح العرب والمسلمين طبعاً. وستتم تغطية مساهمات الموساد والمخابرات المركزية الأمريكية، التي يسيطر عليها اليهود الصهاينة من رئيسها اليهودي جورج تنت إلى بقية قيادة هذا الجهاد الخطير على الدول العربية والإسلامية. فهنري كيسنجر معروف بعدائه للعرب وللمسلمين، وهو اليهودي الذي خدم الصهيونية في مواقعه السابقة في عهد نيكسون كمستشار للأمن القومي أو وزيراً للخارجية، وسيبقى يدافع ويعمل لصالح المشروع الصهيوني المعادي للعروبة والإسلام.
إلا أن كيسنجر استقال من رئاسة الهيئة بعد شهر من تكليفه برئاسة اللجنة، والسبب مطالبة لجنة الأخلاقيات في الكونغرس بالإفصاح عن علاقاته المالية،(25) وهكذا يتم تمييع عمليات التحقيق، بانتظار من يرأس اللجنة ويصدق على ما وصلت إليه إدارة بوش الابن وأجهزته الأمنية من نتائج، تم تحريف وتزوير وتلفيق معظمها.
?
* الفصل السادس
توظيف البترول القزويني
لصالح أحداث أيلول/ سبتمبر.(1/32)
يقول كاتب أمريكي يدعى (غور فيدال): (وقد ثبت فيما بعد أن غزو أفغانستان لم تكن له صلة بأسامة بن لادن، وإنما كان أسامة مجرد ذريعة لاستبدال الطالبان بحكومة أكثر استقراراً، تستطيع أن تسمح لشركة /Union Oil of California/ بمد خط الأنابيب، الذي يحقق الأرباح لعصبة تشيني ـ بوش ضمن أطراف أخرى)(26).
ويورد الكاتب معلومات هامة حول هذا الخط، والمباحثات التي أجرتها رئاسة شركة يونوكال مع ممثلي حكومة طالبان في كانون الثاني عام 1997 في شوجرلاند بتكساس، وكيف قامت تلك الشركة بتدريب عناصر أفغانية لمد خط الأنابيب بموافقة الحكومة الأمريكية.
فقد استضافت الشركة المذكورة وفداً من حكومة طالبان، وللبحث في كيفية مد خط أنابيب لبترول وغاز نفط قزوين من الحقول إلى شواطئ الباكستان، وقد أوردت محطة بي. بي. سي في 4 كانون الأول 1997 خبراً عن تلك المباحثات، وقالت المحطة: (أن متحدثاً باسم شركة يونوكال ذكر أن من المتوقع أن يقضي رجال الطالبان بضعة أيام في المقر الرئيسي للشركة) وذكر مراسل المحطة، إن اقتراح إنشاء خط للأنابيب عبر أفغانستان، هو جزء من مشروع دولي للاستفادة من تنمية موارد الطاقة الغنية في بحر قزوين.(1/33)
وهذا يوضح أن لبترول قزوين دوراً رئيسياً في شن الحرب على حكومة الطالبان، والتي أعقبت أحداث الحادي عشر من أيلول، وليست مسألة محاربة الإرهاب إلا الوجه الظاهر لتلك الحرب. ويتساءل المرء لماذا كانت حكومة طالبان جيدة، وتمنح من الحكومة الأمريكية أربعين مليون دولار تحت ذريعة محاربتها لزراعة الحشيش؟ وذلك عندما كانت تتعاون مع شركة يونوكال وبقية الشركات المرشحة لإنشاء خط الأنابيب، الذي يمتد من تركمنستان إلى الباكستان عبر أفغانستان بما فيها شركة شيفرون، التي كانت في السابق إحدى موظفاتها كوندوليزا رايس مستشارة الأمن القومي اليوم، وحين فشلت المباحثات تغير الأمر مائة وتسعين درجة حين اصطدمت المصالح النفطية الأمريكية مع طالبان، وأصبحوا في ليلة وضحاها إرهابيين ويؤون منظمات إرهابية، وكانت المدائح تُكال إلى طالبان، واعتبارها القوة الوحيدة القادرة على توفير الاستقرار والسلام في أفغانستان، كما تشهد جريدة (وول ستريت جورنال) الأمريكية بقولها: (سواء شئنا أم أبينا، فإن طالبان هي القادرة على تحقيق السلام في أفغانستان في اللحظة التاريخية).(27)
بل كانت الولايات المتحدة تطرح في عام 1997 بإمكانية تحول حكومة الطالبان إلى دولة حليفة لها في مواجهة إيران وروسيا تحقيقاً لمصالحها البترولية، وهذا ما أشارت إليه صحيفة (نيويورك تايمز) عندما قالت: (إن حكومة كلينتون أخذت بالرأي القائل بأن انتصار الطالبان سوف يجد قوة موازنة لإيران. ويفتح الباب أمام سبل جديدة للتجارة، يمكن أن تضعف نفوذ روسيا وإيران في المنطقة).(28)(1/34)
إلا أن هذه الحسابات الأمريكية لم تجد لها آنذاك في كابول من يستمع إليها. وفشلت الولايات المتحدة بتحويل حكومة طالبان إلى تنظيم عميل يخدم مصالحها. فبعد هذا الفشل تغير المزاج السياسي الأمريكي تجاه حكومة طالبان رأساً على عقب، وذلك منذ أواسط عام 2000، وعقب فشل المباحثات النفطية بين حكومة الطالبان والشركات النفطية الأمريكية.
وازدادت حالة العداء من خلال حملات إعلامية مكثفة على حكومة الطالبان خاصة بعد نجاح بوش في انتخابات الرئاسة، فقد أصبحت حكومة الطالبان عقبة كبيرة أمام مصالحها البترولية. فكتب السيد /فردريك ستار/ رئيس "معهد آسيا الوسطى بجامعة جون هويكنز" في صحيفة (الواشنطن بوست) يقول: (لقد بدأت الولايات المتحدة بهدوء بالوقوف إلى جانب من يدعون في الحكومة الروسية إلى القيام بعمل عسكري ضد أفغانستان، وأنها تناقش فكرة شن غارة جديدة للقضاء على ابن لادن).(29)
وليس غريباً لإتمام الصفقة البترولية، أن يؤتى بالسيد حميد قرضاي رئيساً لحكومة أفغانستان بعد الإطاحة بحكومة طالبان، وهو الذي كان يعمل في شركة يونوكال الأمريكية، التي كانت تفاوض حكومة الطالبان على مد أنبوب البترول من تركمانستان إلى الباكستان عبر أفغانستان، وذو العلاقة القوية مع المخابرات المركزية الأمريكية.
ولم نعد نسمع في الخطاب الأمريكي بعد مرور سنة على الغزو المسلح لأفغانستان ضرورة استمرارية البحث عن ابن لادن والملا عمر، بل كل ما نسمعه هو تحويل صدام حسين إلى ابن لادن، وقرع طبول الحرب على العراق. فتم السكوت عن ابن لادن بسبب تحقيق الهدف الرئيسي من الحرب على حكومة الطالبان، وهو إبرام عقد مدّ لأنابيب بين الدول الثلاث أفغانستان وتركمانستان والباكستان لاستثمار نفط بحر قزوين في 27/12/2002 في عشق آباد عاصمة تركمانستان، بين الرئيس التركماني صابر مراد نيازوف، والرئيس الأفغاني حميد قرضاي، ورئيس وزراء باكستان ظفر الله جمالي.(1/35)
وتضمن العقد مدّ أنبوب غاز من بحر قزوين إلى المحيط الهندي، حيث سيربط حقل دولت آباد (جنوب شرق تركمانستان) بالمرافئ الباكستانية على المحيط الهندي عن طريق جبال أفغانستان. ويبلغ طول الأنبوب 1500 كيلو متر، وتقدر تكاليفه بملياري دولار.(30)
وهكذا بدأت ثمار الغزو الأمريكي على أفغانستان تنضج، ليتناوله الغزاة الذين تستروا بما يسمى مكافحة الإرهاب، والذي ثبتت الأيام أنه صناعة الأمريكية الصهيونية. ولم تكن في الحقيقة أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 كما أشرنا سبباً لغزو أفغانستان وفق ادعاءات الإدارة الأمريكية، بل إن مخطط الغزو كان جاهزاً قبل تلك الأحداث. ولم تكن الأحداث سوى مبرر في تنفيذه.
?
* الفصل السابع
لماذا تم تصنيع أحداث الحادي عشر من أيلول؟
أولاً ـ الحدث يولد المشاعر العدائية ضد المعتدي المفترض، فتتوفر الذريعة الضرورية لشن الحرب بسرعة، فتكون أولاً تنفيساً لمشاعر العداء، وثانياً تخلصاً من حالة الذعر الذي خلقه الحدث، وأججته الإدارة الأمريكية ووسائل إعلامها. كما تتوفر أجواء عدائية تجعل من كتاب وصحفيين وإعلاميين يدعون الإدارة الأمريكية للانتقام، ومن ثم يسمح لأمثال برجنسكي وكيسنجر وبعض الاستراتيجيين الأمريكيين، يدعون إلى ضرورة شن حرب يلهي الشعب الأمريكي عن تساؤلاته للإدارة عن تقصيرها، وعن عدم قدرتها على إيقاف الحدث قبل وقوعه.
ثانياً ـ كما تم استغلال الحدث للخروج من المأزق الاقتصادي، الذي وصل إليه الاقتصاد الأمريكي قبل الأحداث، حيث بدأ التراجع الاقتصادي يبرز جلياً في مؤشرات البطالة، التي وصلت في الثامن من أيلول 2001 إلى
(3.35) مليون شخص. كما انخفضت مؤشرات الإنتاج الصناعي، ففي شهر آب 2001 فقد انخفض قطاع المعادن والمرافق إلى 0.8% عن الشهر الذي سبقه. وانخفضت السلعة التشغيلية إلى 76.2% وهو أدنى انخفاض منذ تموز 1983. وهبط مؤشر داو جونز إلى 800 نقطة(31).(1/36)
ثالثاً ـ الاستجابة للضغط المتلاحق من قبل شركات النفط لاحتلال أفغانستان، لتأمين الخطوط القادرة على نقل النفط عبرها، لأن الأرباح الهائلة التي سيقدمها النفط القزويني تثير شهية شركات النفط، والتي انبثقت منها إدارة (بوش ـ وتشيني). إضافة أنها تخرج الاقتصاد الأمريكي من أزمته. فقد كان هناك إلحاحاً من قبل شركات لإزالة حكومة الطالبان كونها العائق في استغلال الثروة الهائلة من الكنز النفطي القزويني، كما قال خبير النفط الأمريكي /جيمس دوربان/: (إن هؤلاء الذين يسيطرون في الطرق النفطية لوسط آسيا، سيؤثرون في الاتجاه المستقبلي، وكميات تدفق، وتوزيع الإيرادات من موارد النفط والغاز).(32)
…ومن يعرف الثروات الهائلة التي ستحققها الولايات المتحدة من نفط بحر قزوين، سيتعرف على الدافع الحقيقي وراء الحرب التي شنتها على أفغانستان، فيقول إسماعيل الشطي الكاتب وعضو مجلس النواب الكويتي (يقدر ما يختزنه حوض بحر قزوين بخمسة تريليون دولار من موارد النفط والغاز، وفي أقل تقدير بحوالي أربعة تريليون دولار.. بالإضافة إلى كميات ضخمة من الموارد البترولية غير المطورة في آسيا الوسطى تقدر بـ6.6 تريليون متر مكعب من الغاز الطبيعي و10 مليارات برميل من احتياطات النفط غير المطورة)(33)
رابعاً ـ من الأرباح التي أفرزتها أحداث الحادي عشر من أيلول، هو تصفية حسابات مع أعداء سابقين، يسمح للولايات المتحدة الظرف الزمني والدولي باعتبارها سيدة العالم اليوم بتحقيق انتصارات عليهم، فيقول غور فيدال: (إن عصبة تشيني ـ بوش تريد حرباً للسيطرة على أفغانستان. وإنشاء خط للأنابيب، والتحكم في بترول ستانات أوراسيا لصالح شركائها في الأعمال، وكذلك إنزال أكبر قدر من الدمار بالعراق وإيران بدعوى أن هذين البلدين الشريرين، ربما ينشران فوق القمح الذهبي لدينا بودرة الجمرة الخبيثة أو شيئاً كهذا)(34)(1/37)
ومن تصفية الحسابات فقد كشفت وسائل الإعلام الغربية، أن رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي طلب الأعداد للهجوم على العراق بعد ثلاث ساعات فقط من أحداث 11/ أيلول. كما خرج الرئيس جورج بوش بإطلاق الحملات الرهيبة على العديد من البلدان تحت ذريعة الإرهاب باسم محور الشر والدول الشريرة وغيرها من الألقاب.
* استراتيجية الهيمنة على العالم
أعطت أحداث الحادي عشر من أيلول الفرصة الذهبية للولايات المتحدة في فرض هيمنتها على ثروات العالم، وفرض أنماطها السياسية والسلوكية على العالم أجمع. من خلال ما أطلق عليه استراتيجية الأمن القومي للرئيس جورج بوش الابن، والذي أعلنها في 17/9/2002. وأشار إليها الرئيس بوش في خطاب الرئاسة في 1/6/2002 حين حدد تلك الاستراتيجية بثلاثة مهمات هي:
ـ (سندافع عن السلام بمحاربة الإرهاب والطغاة.
ـ سنحافظ على السلام ببناء العلاقات الجيدة بين القوى العظمى.
ـ سنوسع السلام بتشجيع المجتمعات الحرة والمنفتحة على امتداد القارات.)(35)
وهذه الاستراتيجية كما يبدو تختلف عن سابقاتها من الاستراتيجيات، التي وضعتها الإدارات السابقة الأمريكية بما فيه الإدارة السابقة للرئيس بيل كلينتون، والتي تعتمد على تقوية أمن أمريكا، ودعم الازدهار الاقتصادي الأمريكي، ودعم الديمقراطية وحقوق الإنسان في الخارج.
فالملاحظ أن بوش قد وضع استراتيجية مختلفة وخاصة عن الحرب وبما يعرف (الحرب على ما أسماهم بالطغاة)، حيث اعتبرهم مصدر الخطر على الولايات المتحدة وعلى العالم الديمقراطي. وضع نظرية افتراضية تقول: بإمكان هؤلاء الطغاة تزويد منظمات الإرهاب بالأسلحة الكيماوية أو ذات التدمير الشامل، مما يهدد الولايات المتحدة والنظام العالمي.(1/38)
علماً أن الولايات المتحدة هي التي فرضت تلك الأنظمة الديكتاتورية ضد رغبات شعوبها، وحمت الكثير منهم من غضب تلك الشعوب، ووفرت لهم الدعم المادي والسياسي خدمة لمصالحها. يقول جون لويس غاديس عن سبب محاربة إدارة بوش الابن لهؤلاء الطغاة: (لقد لاحظ بوش أن الاستراتيجية الأمريكية ركزت في الماضي على الدفاع ضد الحكام الطغاة، وهؤلاء الخصوم يحتاجون "لجيوش عظيمة وقدرات صناعية كبيرة" كي لا يهددوا المصالح الأمريكية، وهذه الإمكانيات لا يمكن تأمينها إلا عبر مؤسسات الدول)(36)
?
* الفصل الثامن
الحرب على العراق لأجل النفط
كما أشرنا من قبل، أن وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد أعلن بعد ثلاث ساعات فقط من تفجير البرجين في نيويورك بضرورة الحرب على العراق، محملاً إياه مسؤولية دعم الإرهاب، وأهم دول محور الشر كما صنفه القاموس السياسي لإدارة بوش، وهي العراق وإيران وكوريا الشمالية. ووضع العراق على قائمة الدول التي يجب أن تتحمل مسؤولية ما حدث في الحادي عشر من أيلول، على الرغم من عدم توفر أي دليل يربط العراق بما حدث، ولا بأية علاقة بينية بين أسامة بن لادن وتنظيمه تنظيم (القاعدة). فلا يمكن أن يوجد تعاون بين الطرفين لاختلاف العقائد والأهداف بين الحزب الحاكم في العراق برئاسة صدام حسين، الذي يتبنى العلمانية، وبين تنظيم ديني متطرف كتنظيم القاعدة.(1/39)
إلا أن الرئيس بوش الابن وإداراته، كانوا قد وضعوا قبل الأحداث كما أشرناه أعلاه، استراتيجية تقوم على فرض السيطرة على مصادر الطاقة النفطية في العالم كرهاً أو طوعاً، تطبيقاً لطروحات بعض ما يسمى بالصقور من اليمين الأمريكي، والتي ترى ضرورة السيطرة على النفط، طالما نملك اليوم قوة عسكرية لا منافس لها في العالم. هذه الاستراتيجية بدأ تنفيذها أولاً في احتلال أفغانستان لمد أنابيب نفط بحر قزوين كما أشرنا. أما نفط الخليج من المعروف أنه منذ سنين تحت الهيمنة الأمريكية، وأصبح بعد غزو الكويت تحت حماية عسكرة القوات الأمريكية المباشرة، لترهب من يحاول أن ينزع منها تلك الهيمنة سواء من الداخل أو من الخارج، ولم يبق إلا النفط العراقي والإيراني خارج الهيمنة المطلقة.
لهذا تم وضع العراق وإيران ضمن قائمة دول محور الشر، التي ترى فيها الإدارة الأمريكية وفق زعمها خطراً يهددها. وطبعاً كان لا بد من أن يكون العراق التالي بعد أفغانستان، فأمريكا تتدرج بالأخذ بالدول بدء من الضعيف، حتى تنتهي إلى الأقوى. فكانت أفغانستان الأولى، ثم من بعدها العراق، ومن ثم ستأتي حتماً إيران من بعد الانتهاء من العراق.
وهكذا انطلقت الحملة الأمريكية ضد العراق، ما أن انتهت ترتيبات مدّ الخطوط لنفط بحر قزوين عبر أفغانستان، وتوفرت الحماية لهذا الخطوط من قبل تواجد عسكري أمريكي مدعوم من قوات أوربية من دول الحلف الأطلسي. فقد بدأت مسألة التحضير لشن حرب على العراق من خلال جملة من التهديدات للنظام العراقي، تدعوه لنزع أسلحته وتدميرها، وتغيير نظامه السياسي، وترحيل صدام حسين وحاشيته عن العراق.(1/40)
ولتغطية الحملة الاستعمارية الجديدة بغطاء دولي، تم استصدار قرار من مجلس الأمن في تشرين الأول عام 2002 تحت رقم 1441. والقاضي بإعادة فرق التفتيش للعراق، لنزع وتدمير أسلحته الكيماوية والجرثومية. بدعوى أن العراق اخترق الحظر الدولي عليه، والقرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي بتدمير أسلحته الجرثومية والكيماوية وصواريخه بعيدة المدى. وادعت الولايات المتحدة، أن العراق يقوم بإعادة تصنيع أسلحة التدمير الشامل المحظورة عليه منذ عام 1991 بعد الانتهاء من حرب الخليج الثانية، وانتهاء الاحتلال العراقي للكويت.
وعلى الرغم من معرفة الإدارة الأمريكية ودول العالم، أن لجان التفتيش السابقة (أونسكوم)، قامت بتفكيك وتدمير معظم أسلحة العراق المحرمة، وفق قرارات مجلس الأمن الدولي خلال ست سنوات من عملها في العراق في عقد التسعينات. ويقول تقرير أعده منتدى الحرية الرابع، ومعهد ب. كروك لدراسات السلام الدولي بجامعة نوتردام:
(إن أونسكوم ووكالة الطاقة الذرية الدولية كانتا فعالتين في كشف كثير من عناصر برامج أسلحة العراق المحرمة وتدميرها.. إن معظم برامج الأسلحة المحرمة العراقية تمت إزالته. وقد أعلنت وكالة الطاقة الذرية الدولية في عام 1998 أنه "ليس هناك من مؤشر إلى أن العراق يملك أسلحة نووية أو أية مقادير ذات مغزى من مادة يمكن استخدامها في صنع أسلحة نووية،" ومن بين 819 صاروخاً من طراز سكود كان معروفاً أنها موجودة لديه في بداية حرب الخليج، عثرت أونسكوم عليها جميعاً عدا صاروخين اثنين. ولم تعثر أونسكوم على تطوير ناجح لصاروخ وطني، ولا على مؤشرات إلى اختبار صاروخ محظور. كذلك ذكرت أونسكوم أنها حققت تقدماً كبيراً في تدمير مخزونات الأسلحة الكيميائية ومنشآت إنتاجها، لكن مفتشي الأمم المتحدة كانوا أقل نجاحاً في إزالة قدرات الأسلحة البيولوجية)(37)(1/41)
وهكذا نرى أن معظم أسلحة العراق الكيميائية والبيولوجية والجرثومية والصواريخ بعيدة المدى، قد دمر معظمها على يد لجنة التفتيش (أونسكوم)، والتي رحلت عن العراق في عام 1996 بضغط أمريكي، كما كشف أحد أعضاء تلك اللجنة بأن البعض منهم كان يتجسس على العراق لصالح المخابرات المركزية والموساد الصهيوني. فلم تكن عمليات التفتيش الجديدة إلا لخلق الذرائع لضرب العراق، ووضعه تحت الهيمنة الأمريكية، وفق استراتيجيتها الجديدة التي أشرنا إليها.
* النظام العراقي من حليف إلى عدو
النظام العراقي الذي وضع على لائحة الأنظمة الخارجة على القانون بالعرف الأمريكي بعد الغزو العراقي للكويت، هو نفس النظام الذي كان الصديق الحميم أثناء حربه على الجمهورية الإسلامية الإيرانية ما بين أعوام 1980-1988. فالعلاقات الحميمية التي كانت بين الطرفين أثناء تلك الحرب، كانت تستند على أن الحرب التي قامت بين العراق وإيران كانت تخدم الهدف الاستراتيجي الأمريكي في المنطقة، الذي يهدف إلى إبقاء منابع النفط تحت المظلة الأمريكية.
فكان أمل الولايات المتحدة من تلك الحرب، أن تستعيد إيران بنفطها وموقعها الاستراتيجي من حكومة إسلامية متحررة، أخرجت إيران من تبعية الولايات المتحدة، وأزالت قواعدها، واستولت على سفارتها، واعتقلت موظفيها. ولم تقف عند هذا الحد، بل رفعت شعارات معادية للوجود الأمريكي بالكامل في منطقة الخليج. وأظهرت الثورة الإسلامية في أيامها الأولى عداوة للولايات المتحدة لحمايتها لنظام الشاه السابق، وأطلقت على الولايات المتحدة اسم (الشيطان الأكبر).(1/42)
ولم تكن خطيئة الثورة العداء لأمريكا فقط، وإنما رؤيتها للكيان الصهيوني بأنه كيان استعماري استيطاني مغتصب لأرض إسلامية مقدسة. وكان من إجراءاتها الأولى تحويل سفارة الكيان الصهيوني إلى سفارة فلسطين، وقطع العلاقة التوحيدية بين المخابرات الإيرانية (السافاك) والمخابرات الصهيونية (الموساد). كما اعتبرت مسألة تحرير البيت المقدس إلزام لكل المسلمين. وهنا وقعت الثورة في المحظور الأمريكي المتصهين، فكان لا بد من إجهاض الثورة الإسلامية في إيران من قبل الدوائر الأمريكية والصهيونية. فاستخدم النظام العراقي لهذه المهمة، فشن حرباً دامت سنوات ثمان، كانت نتائجها لصالح أمريكا والصهيونية، وخسارة للعرب والمسلمين عامة وللعراق وإيران خاصة.
ومن يتتبع سير الأحداث أثناء اشتعال الثورة الإيرانية ضد نظام الشاه الوكيل للمصالح الأمريكية، والشرطي الأمريكي في الخليج، والراعي الذي يحمي مصالحها في المنطقة، والظهير المساند للكيان الصهيوني ضد الأمة العربية. يقول المفكر والكاتب الأمريكي نعوم تشومسكي: (حاولت إدارة كارتر تبني انقلاب عسكري لإعادة الشاه، وأرسل قائد الناتو (NATO)، ولكنه فشل في مهمته، لم يستطع كسب دعم عملاء أمريكا في الجيش الإيراني. بعدها مباشرة انضمت السعودية وإسرائيل (الداعمتان الباقيتان) للجهود الرامية لتجهيز انقلاب يعيد التركيبة السابقة بوسائل عادية، ومنها بعث جيوش. تم إحباط المحاولة التي كانت معروفة تماماً.
وصل النذر اليسير من المعلومات للناس هنا، وذلك عندما لم يعد بالإمكان إخفاء الحقائق. وسمي عندها حرب الرهائن (أزمة الرهائن) التي كان لها وقع إنساني مؤثر لدى الشعب الأمريكي.(1/43)
كان "الريغانيون" يبحثون عن إطلاق الرهائن المختطفين في لبنان. أرسلت الولايات المتحدة قوات إلى إيران (مجموعات عسكرية خاصة) عبر إسرائيل كان لها صلات وثيقة بعناصر من الجيش الإيراني وممولة من قبل السعودية. ولم تكن هذه القوات مرسلة للتفاوض من أجل الرهائن لسبب بسيط، هو أنه لم يكن هناك رهائن أصلاً!! أولاً "الرهائن" أخذوا من لبنان فيما بعد، وصادف أنهم إيرانيون! إن ذلك إجراء طبيعي اتخذته إيران)(38)
وحين فشلت المحاولة الانقلابية بعد اكتشاف الحكومة الإيرانية الإسلامية لها. كما فشل أيضاً الغزو العسكري الأمريكي الليلي لإيران، الذي أرسل لفك الرهائن الأمريكيين، الذين أسروا في السفارة الأمريكية في طهران من قبل طلبة الثورة، فغرقت القوات الأمريكية في رمال صحراء طبس، حين تصادمت الطائرات الأمريكية بسبب العواصف الرملية، التي ثارت فجأة وكأنها تدافع عن ثورتها الإسلامية. وتحطمت بعض الطائرات، وعادت البقية خائبة دون أن تحقق أي من أهدافها. ولم تجد الولايات طريقة لإعادة هيمنتها على إيران إلا بالتحريض على شن حرب خارجية من دول الجوار، وكان العراق الدولة الوحيدة، التي تتوفر فيها عوامل الصراع مع النظام الإيراني الجديد، فبدأت بتحريض العراق على شن حرب لإسقاط الحكومة الثورية الإيرانية المعادية للولايات المتحدة. فشن النظام العراقي الحرب على إيران، وكانت الحسابات أن تدوم أياماً، وإذا بها تمتد أكثر من ثمانية أعوام.(1/44)
وخلال سنوات الحرب قُدمت للنظام العراقي كل مستلزمات القوة لتحقيق النصر، وتم التجاوز عن تصرفات عراقية تعتبر كفراً في القاموس الأمريكي، حين هاجمت الطائرات العراقية سفينة أمريكية وقتلت /37/ بحاراً أمريكياً. ولم توجه الولايات المتحدة للقوات العراقية أية ضربة انتقامية، بل اعتبرت خطأً فنياً. بل انتقمت أمريكا من طائرة تجارية إيرانية في عام 1988، كانت تحلق في الأجواء الإيرانية، فقتلت /290/ مدنياً إيرانياً بريئاً بصاروخ من مدمرة أمريكية، كانت متواجدة في المياه الإقليمية لإيران.
وكان لهذا الحدث دوره الكبير في إنهاء الحرب لصالح صدام حسين، فقد شعر الإيرانيون أن الولايات الأمريكية وضعت ثقلها العسكري بشكل كامل إلى جانبه، بعد أن كانت تقدم له فقط الدعم اللوجستي والعسكري، وترسل له الصور الملتقطة من طائرات التجسس الأمريكية على المواقع الإيرانية.
وينسى وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد اليوم، أنه كان في العراق ضيفاً على صدام حسين في عام 1986، يقدم الخدمات لصدام حسين في حربه ضد إيران، والأدهى أنه لم ينطق بأية كلمة عن القنابل الكيماوية، التي صبت على أهالي حلبجة في حينها، التي يتباكى عليها في هذه الأيام.
واستخدام جريمة حلبجة مثلاً على جرائم صدام، من قبل إدارة بوش من أجل ضحاياها، وليس على حدّة الجريمة وقسوتها، وهي مرفوضة حتماً من كل إنسان يملك وازعاً أخلاقياً، بل من أجل خلق ذرائع تبرر حرب على العراق. ونتذكر جميعاً وكل من كان يتابع مجريات الحرب العراقية الإيرانية، أن الإدارة الأمريكية كانت أثناء الحرب تتهم إيران بما جرى في حلبجة وليست العراق يومها.(1/45)
ومن هنا نجد تلون السياسة الأمريكية، وتقلباتها الحادة فحين كانت الحرب التي يخوضها النظام العراقي مع إيران، تصب في خدمة الأهداف الاستراتيجية للمصالح الأمريكية، كان يحصل على البراءة والتقدير. وحين يصبح نفس النظام عائقاً لمصالحها وأهدافها الاستراتيجية، تشوه صورته في المحافل الدولية وأمام الرأي العام العالمي، وتوضع الذرائع لشن الحرب عليه.
من المعروف تاريخياً أن الولايات المتحدة تقلب ظهر المجن بسرعة تتجاوز سرعة البرق لحلفائها وأصدقائها من الأنظمة الحاكمة، أن شكلت تلك الأنظمة عائقاً لمصالحها، وتتخلى عن أشد حلفائها إخلاصاً أمام مصالحها. وفي مثال شاه إيران وماركوس الفلبين وسهارتو إندونيسيا وغيرهم عبرة لمن لا يعتبر من حلفاء أمريكا اليوم.
بل هي لا تتورع عن التآمر على كل من كان يوماً في زمرة من عملوا في أحضان المخابرات المركزية مثل أورتيغا في بنما، الذي غزت بلاده القوات الأمريكية، واعتقلته حين أصبح يشكل تهديداً لمصالحها. بعد أن عمل زمناً طويلاً في خدمة مخابراتها المركزية، وشارك حتى في عملياتها القذرة بتجارة المخدرات. وثم تولى رئاسة البلاد. وحين اصطدمت مصالح أمريكا مع بعض المصالح الوطنية لبلاده، وأراد أن يبيض وجهه أمام شعبه، كانت نتيجته كما أسلفنا، ولا يزال إلى يومنا هذا يقبع في سجونها، دون أن يجد رحمة من أسياده السابقين. فلا وفاء للولايات المتحدة لكل من تحالف معها، وارتمى في أحضانها، فهي كالعقرب تلسع صاحبها في أي وقت تشاء.
* الحجج الأمريكية الواهية لشن الحرب على العراق(1/46)
أما الحجة الكاذبة بأن النظام العراقي قد أعاد ترسانته من أسلحة التدمير الشامل وخاصة الكيماوي والبيولوجي، وأنه أعاد برنامجه النووي، مجرد أكذوبة مفضوحة تعرفها الإدارة الأمريكية قبل غيرها، فهي تعرف أن العراق لا يملك شيئاً مما تدعيه من الأسلحة، وتعرف بها الدوائر البحثية والاستراتيجية الأمريكية نفسها. ونقتطف بعض من التقرير، الذي تقدم به منتدى الحرية الرابعة ومعهد جوان ب. كروك لدراسات السلام الدولي بجامعة نوتردام الأمريكية فيقول:
(لقد عرقلت عقوبات الأمم المتحدة المستمرة ضد العراق مقدرة النظام على إعادة بناء قدرته في مجال الأسلحة، وعلى الرغم من أن العقوبات لم تكن ناجحة في إقناع حكومة بغداد بالالتزام بقرارات الأمم المتحدة، فإنها كانت وسيلة فعالة كوسيلة للاحتواء العسكري.
لقد منعت العقوبات حكومة بغداد من كسب سبيل للوصول إلى إيراداتها النفطية الضخمة، فالأمم المتحدة ـ وليس حكومة بغداد ـ هي التي تسيطر على معظم الدخل المستمد من مبيعات النفط العراقي. ومنذ العقوبات يقدر أن حكومة بغداد قد حرمت من أكثر من 150 مليار دولار من إيرادات النفط. ونتيجة لهذا فإن العراق عجز عن شراء ما يكفي من أسلحة وبضائع ذات صبغة عسكرية، لكي يعيد بناء قواته المسلحة ويحدثها.
إن العجز المتراكم بالنسبة إلى العراق عن استيراد الأسلحة منذ عام 1990 يربو عن 50 مليار دولار. هذا هو المبلغ من النقود الذي كان العراق سينفقه على استيراد الأسلحة، لو أنه استمر في شراء الأسلحة بالمعدل الذي سار أثناء عقد الثمانينات الماضي. وعلى الرغم من أن العراق يكسب بعض إيراد لا قيود عليه عن طريق التهريب أو الصفقات السرية (يقدر ما بين 1.5 مليار و3 مليارات دولار سنوياً) إلا أن هذا الدخل ليس كافياً لتمويل برنامج تطور عسكري واسع النطاق. ونتيجة لهذا تقلصت مقدرة العراق على إنتاج أسلحة للدمار الشامل ووسائل إطلاقها)(39).(1/47)
ومن يراجع تاريخ التهديدات الأمريكية للعراق بالاجتياح والتهديد تحت ذريعة تهديده لجيرانه، وضرورة نزع سلاحه. فهذه التهديدات انطلقت موجتها الأخيرة بعد ثلاث ساعات من أحداث الحادي عشر من أيلول عام 2001 كما أشرنا سابقاً من قبل وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد. على الرغم من انتفاء كل الدلائل على تورط العراق ونظامه بتلك الأحداث. وهذا ما يدل على توفر نية احتلال العراق مبيتة قبل الضربة.
وتكشف بعض الوثائق أن عملية احتلال العراق والهيمنة على نفطه من قبل صناع القرار الأمريكي في عهد بوش الابن، ليست مرتبطة بأحداث الحادي عشر من أيلول، بل قبل الحدث بسنوات، حيث قام هؤلاء بتقديم مذكرة إلى الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون عام 1998، تدعوه إلى بناء وجود عسكري قوي في الخليج، والعمل على حماية مصالح الولايات المتحدة الحيوية عند الضرورة، ولو تطلب قلب النظام الحاكم في العراق. وكان من بين الموقعين عليها (دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الحالي، ونائبه بول وولفوتيز، وجون بولتون، وريتشارد بيرل، وجميعهم من المؤيدين لإسرائيل، كما وقع عليها إيليوت أبراهام الصديق لرئيس وزراء الكيان الصهيوني)(40).
وكما أشرنا أن نفط العراق يلعب دوراً رئيسياً في تلك الحرب أعدتها الولايات المتحدة والصهيونية العالمية ضد العراق، فاحتلال منابع النفط العراقية يزيد من امتلاك الولايات المتحدة لنفط العالم، خاصة أن المصادر النفطية تشير إلى قرب نضوب الكثير من آبار النفط الأمريكية. وقد أعلنت وزارة الطاقة الأمريكية في بداية عام 2003 (أنه بحلول عام 2025 فإن مستوردات الولايات المتحدة من النفط ستزيد لتصبح حوالي 70% من إنتاجها النفطي).(41)(1/48)
لهذا إذا تمت السيطرة على النفط العراقي، فإن الولايات المتحدة تكون قادرة على سد تلك الاحتياجات، يقول الصحفي البريطاني "روبرت منسيك": (إذا ما تحقق الغزو، وتم تعيين نظام حكم موال لأمريكا فإن الأمريكيين سيسيطرون بذلك على فائض نفطي يصل إلى 112 مليار برميل من النفط. وإذا ما أضفنا الاحتياطي المؤكد من النفط العراقي، فإن الأمريكيين يكونون قد سيطروا ربما على ربع احتياطات العالم النفطية)(42)
* الحرب على العراق بداية إمبراطورية أمريكية
والأخطر من احتلال النفط هو ما يرسم في الدوائر الأمريكية المتصهينة والدوائر الصهيونية، هو إعادة رسم الخارطة السياسية في العالمين العربي والإسلامي، والذي يستهدف تقسيم العرب والمسلمين وإذلالهم وإضعافهم، وإعادة تقسيمهم أجزاء طائفية وقطرية وعشائرية، وغيرها من التقسيمات التي تسهل نهب ثروات المنطقة وأولاها النفط، وسيطرة كاملة للولايات المتحدة على الأرض والثروة، وحماية الكيان الصهيوني بما يحقق المشروع الصهيوني في المنطقة.
وتبرهن الأحداث التي تلت الحادي عشر من أيلول، إن الإدارة الأمريكية التي يغلب على منشأ معظم زعمائها من شركات النفط، أن الولايات المتحدة رأت في مستقبلها الاقتصادي، واستمرارها في الهيمنة على العالم، والتفرد بزعامته يكمن في السيطرة على مصادر الطاقة، الذي يلعب النفط الدور الرئيسي فيه. فالنمو الاقتصادي لبعض الدول كالصين واليابان ومنظومة السوق الأوربية كلها، تهدد تلك الزعامة الدولية لها، واقتصادها مهما بلغ من النمو والتنوع غير قادر في المستقبل على المواجهة الاقتصادية لتلك الدول والتجمعات، كما أن هناك دول قد تظهر فجأة تملك القوة الاقتصادية والعسكرية مما يربك وضعها. فوجدت أن سيطرتها على النفط، يعطيها استمرارية القوة بالتحكم بعصب الحياة للصناعة الدولية. وإمكانية فرض الهيمنة على اقتصاد العالم، وتسييره وفق أجندة خاصة بالولايات المتحدة.(1/49)
وفي عودة إلى مبدأ كارتر الذي صدر في 24 نيسان عام 1980، وكانت منطقة الخليج ملتهبة في نذر حرب بين العراق وإيران، والذي تضمن الكفالة المسلحة الأمريكية لحماية مصالحها النفطية، فيقول المبدأ: (إن كل محاولة تقوم بها قوى خارجية. بهدف السيطرة على الخليج، ستعتبر انتهاكاً للمصالح الحيوية لأمن الولايات المتحدة الأمريكية. وبصفتها تلك ستلقى الصد بكل الوسائل الممكنة، بما في ذلك استخدام القوة المسلحة)(43)
وترى الولايات المتحدة بترسانتها العسكرية الجبارة اليوم، يمكنها تحقيق ما تريد، دون أن تجد رادعاً عسكرياً دولياً في مواجهتها. وهذه فرصة تاريخية نادرة قد تفلت منها بمرور الزمن. كما أن الوضع الدولي بعد أحداث 11 أيلول يعطيها فرصة السيطرة على قرارات الهيئة الدولية ومجلس الأمن. فسعت إلى إطلاق شعار محاربة الإرهاب، ووضعت ما يزيد على ستين بلداً في تلك اللائحة، وأولها العراق وإيران ودول في منطقة الخليج للسيطرة على النفط. وشددت من تهديداتها على العراق بعد ضمان خط النفط المار بأفغانستان.
ومن المفارقات التي تكشف أهداف الولايات المتحدة الخفية التي أشرنا إليها، سكوتها المفاجئ عن ابن لادن والملا عمر وتنظيما القاعدة وطالبان، ليصبح صدام حسين ونظامه بدلاً عنهما المهدد الرئيسي للولايات المتحدة ولمصالحها. وأنه يمكن أن تلحق صواريخه أضراراً بالولايات المتحدة، على الرغم من التقرير الذي أشرنا إليه سابقاً بأن العراق لم يعد يملك من صواريخه القصيرة المدى سوى اثنين، ولم تجدهما لجنة التفتيش أنسكوم ولا الحكومة العراقية. ولعل بوش يرعب شعبه من الصاروخين المفقودين، إن وجدهما صدام حسين. هل هناك استخفاف بالعقل البشري أكثر من ذلك؟.(1/50)
وكما أشرنا أن النفط هو الغاية في الحرب على العراق والتخطيط لاحتلاله فالدلائل واضحة وجلية، عندما نراجع خلفية بعض صناع القرار في الإدارة الأمريكية، فكما أشرنا سابقاً معظمها من العاملين في شركات النفط:
ـ فالرئيس جورج بوش الابن ينحدر من عائلة تملك شركات نفطية كبيرة معروفة في تكساس.
ـ وديك تشيني نائب الرئيس كان رئيساً لشركة هاليبرتون في دالاس، وهي من أهم شركات الخدمات النفطية في العالم. و(قد بلغ دخل تشيني منها عام 2000 فقط 36 مليون دولار).
ـ ومستشارة الأمن القومي المعادية للعرب والمسلمين غونداليزا رايس، كانت تعمل عضوة في مجلس إدارة شركة شيفرون النفطية من عام 1991 إلى عام 2000. ومن ابتهاج الشركة على تعيينها في هذا المنصب الرفيع، أطلقت اسمها على إحدى ناقلاتها البترولية.
ـ وغايل نورتون وزير الداخلية كانت تعمل في مركز أبحاث محافظ تموله شركات نفطية.
ـ ووزير التجارة (دون إيفانز) كان رئيساً لشركة توم براون إنكربوريشن النفطية المعروفة في تكساس حتى عام 2000، وكان يتولى إدارة (تي. أم. بي. آر) شارب للتنقيب عن النفط.
ـ ووزير شؤون الجيش توماس دايت كان نائباً لرئيس خدمات إيزون للطاقة.
ـ ونائب وزير الداخلية (ستيفن غريلز) أحد شخصيات مؤسسة بيئية تمولها الصناعات النفطية والكيميائية.
ـ ونائب وزير الطاقة (فرانسيس بلايك) كان نائباً للرئيس الأول لشركة كروبوريت بزنس النفطية.
ـ ونائبة وزير التجارة للشؤون الاقتصادية (كاتلين كوبر) مديرة سابقة في شركة إيكسون موبيل كوربوريشن.
ـ ومساعد وزير الطاقة (دان بروليت) له حصص في مجموعة شركات الباين النفطية.(44)
علماً أن ديك تشيني نائب الرئيس حصل من خلال صفقات بترولية، قام بها مع العراق لصالح شركته النفطية هاليبرتون من خلال ما أطلق عليه النفط مقابل الغذاء، على ما يقارب 36 مليون دولار عمولة (بزنس)، لجهوده في الحصول على تلك الصفقة البترولية الكبيرة مع العراق(45).(1/51)
فيتضح أن هذه الإدارة المنبثقة عن شركات النفط عدا وزير الخارجية كولن باول، إدارة تبحث عن السيطرة على النفط من جانب، ولزيادة ثروتها الشخصية من خلال عمولتها من الصفقات، وتوفير مصادر النفط للشركات البترولية العالمية.
فالحرب التي أعلنت على الإرهاب التي أعلنها الرئيس الأمريكي جورج بوش وإدارته، كما نرى بعد مضي أشهر قليلة أصبحت حرباً من أجل الاستيلاء على نفط الشعوب ونهبها. وليس غريباً أن يدلي كولن باول وزير الخارجية الأمريكي يوم الأربعاء 22/1/2003، أن البترول العراقي سيكون أمانة بيد الجيش الأمريكي.(46)
فاللص والمغتصب أصبح الأمين على ثروات الشعوب، ولكن الشعب العراقي الذي مات منه ما يقارب المليون إنسانا خلال عشر سنوات من الحصار، ومن قصف الطائرات الأمريكية والبريطانية، والتي تجوب أجواء العراق جنوباً وشمالاً، تقصف وتقتل ما تشاء من المدنيين، هل يملك هذا الجيش المحتل أي صفة من صفات الأمانة؟
* شعوب العالم ترفض الحرب القذرة على العراق
أظهرت ردود الفعل الدولية وخاصة الشعبية منها على الحشد الأمريكي العسكري لشن حرب على العراق، قدرة تلك الشعوب من خلال حثها على اكتشافها لأهداف تلك الحرب وغايتها غير الشريفة، فهي ليست كما تدعي الإدارة الأمريكية بأن الحرب على العراق من أجل تخليص الشعب العراقي من دكتاتورية صدام حسين، ولا من أجل أمن وحماية دول الجوار العراقي من شروره، ولا من الخوف على أراضي الولايات المتحدة من صواريخ صدام. بل هي استراتيجية بعيدة للولايات المتحدة للهيمنة على ثروات العالم، ويقوم الرئيس بوش وإدارته اليمينية بتنفيذها، من خلال حروب تنسف الاستقرار والسلم الدوليين.(1/52)
هذا ما أعلنته الشعوب في الكرة الأرضية من اليابان وإندونيسيا شرقاً مروراً بالشعوب الآسيوية والأفريقية والأمريكية اللاتينية غرباً، وكذلك الشعوب الأوربية، التي خرجت بالملايين، وكذلك قطاع واسع من شعب الولايات المتحدة، وحتى أهالي ضحايا 11/أيلول ذهبوا إلى العراق، ووقفوا يعارضون الحرب على شعب محاصر وجائع.
وتشكلت حركة أمريكية مناوئة للحرب مع العراق، ولتوجهات إدارة بوش العدوانية أسمت نفسها (ليس باسمنا). وأخرجت أولى تظاهراتها ضد الحرب يوم الأحد 6/10/2002 في الساحة المركزية في نيويورك، وكان من بينهم أقارب ضحايا الحادي عشر من أيلول احتجاجاً على الحرب ضد العراق، ورفعت لافتات تطالب بتغيير النظام في واشنطن، ووصفت الرئيس جورج بوش الابن (الإمبراطور جورج المجنون)(47).
واتخذت بعض المعارضات أشكال منها عرائض حملت مئات التواقيع من العاملين في الإبداع والبحث والفكر والفن في الولايات المتحدة الأمريكية، ونذكر هنا المذكرة الغاضبة التي أرسلتها النجمة والناشطة السياسية الأمريكية (باربرا سترايسند) إلى الزعيم الديمقراطي (ريتشارد غيبهارت)، طالبة منه بالانتقال من المواقع الدفاعية إلى الهجوم لوقف التهديدات بالحرب، التي يشنها الرئيس بوش، وبعدم (تجاهل التأثير الواضح على إدارة بوش لمصالح صناعة النفط والشركات وشركات الكيماويات وصناعة الأخشاب على سبيل المثال لا الحصر). وقالت: (من الواضح أن العديد من هذه الصناعات التي يديرها مانحون جمهوريون كبار ومقربون من الحزب الجمهوري، ستحقق مكاسب كبيرة، إذا خضنا حرباً ضد العراق)(1/53)
وحثت (سترايسند) الديمقراطيين، على عدم السماح لبوش باستخدام الحرب لصرف الأنظار عن سياساته الداخلية والاقتصادية، وفشله في تفكيك شبكة القاعدة الإرهابية بالكامل. وكتبت (سترايسند) في مذكرتها: (صدام لم يفجر مركز التجارة العالمي). وأضافت أن على الحزب الديمقراطي أن (ينقل علناً هذه الرسالة إلى الشعب الأمريكي).(48)
ورغم معارضة تلك الملايين من شعوب الأرض الرافضة لتوجهات الحرب، التي تعدها الولايات المتحدة ضد العراق، بل استمرت في تحدي إرادة تلك الشعوب، وحشدت ما يقارب ربع مليون عسكري، مسلحون بكل أنواع الأسلحة الحديثة، لشن حرب تدميرية على العراق. ضاربة عرض الحائط شعاراتها حول الديمقراطية، والانصياع لإرادة الشعوب.
* أوربا والخوف من الهيمنة الأمريكية على مصادر الطاقة
إن المؤشرات الاقتصادية للولايات المتحدة تؤكد قابليتها لأزمة اقتصادية كبيرة خلال السنوات العشرين، فقد بدأت بعض شركاتها العملاقة تتعرض للانهيار، وهذا ما ينبأ عن انهيار اقتصادي ضخم للولايات المتحدة. لم يجد خبراؤها الاستراتيجيين من حل سوى الاستيلاء على منابع الطاقة، والتحكم بها لمواجهة هذا الانهيار، مستخدمة كل ما لديها من قوة عسكرية. إلا أن هذا الحل الاستراتيجي البعيد المدى لحل الأزمة الاقتصادية الأمريكية الحالية، التي بدأت تتفاقم. بعد أن أشارت بعض المصادر إلى إفلاس وخسائر لشركات أمريكية بلغ تعدادها المليون ونصف بين شركة كبيرة وصغيرة أمريكية(49). أوجد الحل الاقتصادي بالاستيلاء على مصادر الطاقة في العالم، إلى حالات من الشرخ في العلاقات بين الولايات المتحدة حلفائها الأوربيين وخاصة ألمانيا وفرنسا، اللتان شعرتا بخطورة الاستيلاء الأمريكي على منابع الطاقة، وانفراد الولايات المتحدة بها. مما يزعزع الاقتصاد العالمي ككل، ويهدد الصناعة الأوربية بشكل خاص، حيث يضعها تحت رحمة الولايات المتحدة.(1/54)
فلم يخف وزير خارجية الولايات المتحدة كولن باول في تقريره أمام الكونغرس في 9/2/2003. أن يعلن بصراحة أن الولايات المتحدة بعد احتلالها للعراق، ستقوم بإعادة ترتيب المنطقة وفق المصالح الأمريكية وشروط السلام الصهيوني. أي أن تصبح المنطقة العربية في ظل هيمنة أمريكية صهيونية.
ومن هنا جاءت معارضة فرنسا وألمانيا لشن حرب على العراق. مما أحدث انقساماً حاداً في اجتماع وزراء دفاع الأطلسي (الناتو) يوم الأربعاء 5/2/2003، حين عارضت كل من ألمانيا وفرنسا وبلجيكا اقتراحاً أمريكياً بدعم الحلف لتركيا، إذا خاضت الحرب مع العراق. فكان الرفض الثلاثي صفعة حادة للولايات المتحدة، التي تحاول توفير حشد أوربي وعالمي لحربها مع العراق، وتعثرت العديد من الاجتماعات المتتالية لرأب الصدع داخل الحلف حتى خرجوا بعد صيغة توفيقية، لم تحضرها فرنسا.
إن التمرد الفرنسي والألماني يشكل أولاً البدايات بعد انتهاء الحرب الباردة، لتفرد الولايات المتحدة في إدارة الأزمات الدولية، ووقف حالة الطاعة للسيد الأمريكي، وإلى بذور توجهات نحو تعددية قطبية، تخلق نوعاً من التوازن الدولي. هذا التوجه الجديد لفرنسا وألمانيا، أوجد لهم من يساندونهم في مواقفهم كالروس والصينيين. وهذا ما اتضح في الدعوات للدول الأربع في منع الحرب على العراق، مع الاتفاق على نزع أسلحة العراق، ولكن بطريقة سلمية بعيدة عن الحروب.
* الذرائع الواهية لشن الحرب على العراق(1/55)
من الغباء السياسي الأمريكي البريطاني لشن الحرب على العراق، هو استغباء الآخرين. من خلال ما يطرحونه من أدلة غالبها ملفق على العراق، فسرعان ما تكشفها الأوساط العلمية والإعلامية. وتصنيع ذرائع واهية لإيجاد المبرر للحرب على العراق، حتى ولو كان كذباً. وهذا ما أفقد مصداقية إدارتي بوش وبلير في الولايات المتحدة وبريطانيا، حتى عند شعبيهما. ففي استطلاع جرى في بريطانيا ونشرته كافة وسائل الإعلام يوم الثلاثاء 11/2/2003، يشير إلى أن غالبية البريطانيين العظمى ترفض الحرب، ووصلت نسبة الرافضين للحرب من الشعب البريطاني إلى 80%.
وكذلك في الولايات المتحدة فإن الغالبية العظمى ترفض تلك الحرب، رغم أن الإعلام الذي تتحكم به القوى الصهيونية واليمينية الداعمة للحرب، يحاول أن يزيف رفض الشارع الأمريكي لتلك الحرب. فذكر أحد الباحثين أن الصحافة الشعبية الأمريكية، تبين الغالبية العظمى من الشعب الأمريكي ترفض الحرب، إلا أنها تُزوّر من قبل الصحافة الأمريكية الكبيرة. وذكر أن سيدة أمريكية، ذكرت أنها كانت تريد أن تعبر عن رأيها عن رفضها للحرب، ولكنها لم يسمح لها، حتى اتصلت في إحدى القنوات، وسئلت قبل أن تظهر على الهواء مباشرة، فقالت إنها مؤيدة، ولكنها مجرد أن أصبحت على الهواء، عبرت عن رفضها للحرب، فقطع الإرسال مباشرة(50). وهذا ما يدل على تزوير كثير من الاستطلاعات، التي تجريها صحف أمريكية متصهينة، يظهر أن غالبية الشعب الأمريكي مع الحرب على العراق.
ومن دلائل تزوير وتلفيق ذرائع الحرب على العراق، هو ما كشفته الصحافة البريطانية. فقد قدمت الحكومة البريطانية تقريراً وزع على أعضاء مجلس الأمن، قبل أن يلقي الوزير كولن باول تقريره ضد العراق في يوم الأربعاء 5/2/2003. بينت فيه أن العراق خرق قرارات الأمم المتحدة، وأشاد به باول في جلسة الأربعاء المذكورة.(51)(1/56)
ولكن تبين أنه نقل أربع صفحات منه من رسالة لطالب أمريكي من أصل عراقي يدعى /إبراهيم مرعشي/، أما باقي التقرير نسخ من رسائل جامعية، كما قال /غلين رانجوالا/ الاختصاصي بالشؤون العراقية في جامعة كامبردج: (إن أحد عشر صفحة من صفحات التقرير التسع عشرة أخذت بالكامل من رسائل أكاديمية) وعقب بقوله: (إذا كان طبيعة "معلومات" الاستخبارات هي في الواقع مجرد بحث عبر الأنترنيت فإنها تثير الشك حول درجة الإقناع في مزاعم الحكومة السابقة).(52)
وفضحت القناة الرابعة في التلفزيون البريطاني يوم الخميس 6/2/2003 أصل هذا التقرير البريطاني، فقالت (إن مقالة نشرها إبراهيم المرعشي في مجلة "ميدل إيست ريفيو أوف إنترناشيونال أفيرز" شكلت أربع صفحات من الملف، أما محتوى أكثر من ست صفحات من الصفحات الباقية، فقد اعتمد على مقالات كتبها شون بوين وكين جوس، وظهرت في نشرة "جينز أنتليجنس ريفيو" في تشرين الثاني من العام 1997).(53)
وهذا يدلل على ضعف المبررات لشن حرب على العراق. ثم أطلقت الولايات المتحدة ذريعة أخرى للحرب بربط العراق بتنظيم القاعدة، والذي نفاه أسامة بن لادن في الشريط الذي عرضته قناة الجزيرة مساء الأربعاء 12/2/2003، بل كفر النظام. إلا أن الولايات المتحدة وبريطانيا اعتبراه رغم النفي، أن هناك علاقات بين النظام وتنظيم القاعدة. كل ذلك يبين مدى تفاهة المبررات أمام الإصرار على تنفيذ مخطط رهيب يبدأ في العراق وينتهي غرباً في طنجة وشرقاً في جاكارتا.
?
* الفصل التاسع
التهيئة الأمريكية البريطانية للعالم
لاحتلال العراق(1/57)
بدأت الحملة الأمريكية لاحتلال العراق كما أشرنا بعد الساعات الأولى لانتهاء أحداث نيويورك وواشنطن، ثم أخذت تستعر بشدة من قبل الإدارة الأمريكية وحليفها رئيس الوزراء البريطاني توني بلير لتحضير العالم وتهيئته للقيام بعمل عسكري مشترك بينهما ضد العراق ونظامه، من خلال تضخيم دعاية بأن العراق يملك أسلحة دمار شامل، وأنه يطور أسلحته الكيماوية والجرثومية، ويسعى لإعادة العمل بمشروعه النووي. واعتبرت الدولتان العراق يقوم باختراق لقرارات مجلس الأمن الدولي التي تحظر عليه امتلاك أو تطوير أسلحة الدمار الشامل والصواريخ التي تتجاوز الخمسين كيلو متراً، ومنعه من إعادة بناء مشروعه النووي، وتدمير كل ما لديه من تلك الأسلحة، وبضرورة عودة المفتشين الدوليين للعراق للتفتيش عن تلك الأسلحة.
وتم تضخيم القدرات العراقية العسكرية لتصور للغرب عامة والشعب الأمريكي خاصة، بأنها تشكل تهديداً خطيراً للأمن القومي للولايات المتحدة. وهي أكذوبة يعلم مطلقيها قبل غيرهم إن العراق كما أشرنا في فصل سابق قد دمرت أسلحته على يدي مفتشي (أنسكوم)، استمرت سبع سنوات منذ انتهاء حرب الخليج الثانية. وهذا ما أثبتته لجان التفتيش الدولية التي انبثقت عن قرار مجلس الأمن رقم (1441)، سواء مفتشو الأسلحة النووية التابعون لوكالة الطاقة النووية برئاسة محمود البرادعي. أو مفتشو الأسلحة الجرثومية والكيماوية والصاروخية برئاسة هانز بليكس، حيث لم تعثر على تلك الأسلحة المزعومة.(1/58)
وفي الأشهر الأخيرة التي سبقت الحرب، وسعت الحملة الأمريكية والبريطانية دائرة الذرائع لتبرير الحرب، لتشمل ضرورة تغيير النظام في العراق إضافة لنزع أسلحة العراق. تحت ذريعة الخطر الذي يشكله صدام حسين على الأمن القومي للشعب الأمريكي. لأن هناك تعاوناً بينه وبين منظمات إرهابية، منها تنظيم القاعدة ضد الولايات المتحدة ومصالحها، حتى وصل الأمر بالحملة الدعائية الأمريكية ضد العراق بالتأكيد على وجود علاقة بين صدام ونظامه في أحداث الحادي عشر من أيلول.
وقبل الحرب بأيام، حاولت الولايات المتحدة ومعها بريطانيا وإسبانيا الحصول على موافقة دولية لشن حرب على العراق، لكنها فشلت بسبب المعارضة الدولية للحرب، والتي تزعمتها روسيا وفرنسا وألمانيا. وللتأكيد على موقف الدول الثلاث المعارضة للحرب أصدروا بياناً مشتركاً في 5/آذار/2003، طالبوا فيه بضرورة إعطاء فرصة للمفتشين مدة زمنية لاستكمال مهمتهم. بعد أن وافق العراق على عودتهم، وتعاون معهم إلى أقصى حدود التعاون، حتى أنه باشر بتدمير صواريخ (الصمود) القصيرة المدى بناء على طلب لجان التفتيش. (نص البيان الثلاثي في الملحق)
ورغم ما قدمه كل من البرادعي وبليكس من تقارير، يبينان فيه عدم عثور المفتشين على أي من أسلحة الدمار الشامل أو استئناف البرنامج النووي لدى العراق، إلا أن كلاً من الولايات المتحدة وبريطانيا استمرتا في حملتهما الدعائية ضد العراق. ومن ثم بدأ الحشد العسكري الأمريكي والبريطاني والأسترالي في الخليج لشن حرب على العراق. بذريعة أن صدام ونظامه يشكل خطراً على المجتمع الدولي وعلى جيرانه وشعبه، ولا بد من تحرير العراق منه وإرساء الديمقراطية وفق النموذج الأمريكي.
* مبررات الرئيس جورج بوش لشن الحرب على العراق(1/59)
وضع الرئيس جورج بوش قبل أيام من شن الحرب على العراق مبررات ومسوغات تلك الحرب، من خلال خطاب ألقاه في 27/شباط/2003 في مؤسسة الأبحاث (أمريكان إنتربرايز)، ورغم ما جاء فيه من مبررات ثبت بعد الحرب بطلانها، إلا أننا رأينا تقديمها للقارئ كوثيقة من وثائق تلك الحرب الظالمة، نبرز من خلالها جبروت وطغيان القوة الأمريكية تجاه البلدان الضعيفة.
ونذكر مما جاء في هذا الخطاب التالي:
ـ أضاف إلى المبررات السابقة لشن الحرب على العراق، ضرورة تغيير نظامه السياسي بالقوة، حفاظاً على أرواح الأمريكيين من خطر أسلحة صدام حسين عليهم، ومن أجل ما أسماه تحسين فرص السلام ما بين العرب والكيان الصهيوني، وكأن النظام العراقي يملك صواريخ عابرة للقارات تهدد القارة الأمريكية، وأنه يمنع عملية السلام التي لم تنفذ إسرائيل أي منها، فقال: (إن إنهاء هذا الخطر المباشر والمتنامي أمر ضروري لحماية سلامة الأمريكيين، وسيمهد الطريق لمرحلة جديدة للسلام في الشرق الأوسط).
ـ أكد في خطابه على الخطر الذي تشكله الأسلحة العراقية على العالم، لأنها بيد ديكتاتور لا يعيش إلا بالدماء، وأن هناك علاقات بين نظام صدام حسين والمنظمات الإرهابية في العالم، فقال إن في العراق: (دكتاتوراً يبني ويخفي أسلحة تسمح له بالسيطرة على الشرق الأوسط، وترهب العالم المتحضر، ونحن لن نسمح بذلك. ولهذا الدكتاتور علاقات وثيقة مع التنظيمات الإرهابية، ويمكن أن يزودها بالأسلحة الرهيبة لضرب هذه البلاد، وأمريكا لن تسمح له بذلك...)(1/60)
ـ أتهم النظام العراقي بزرع الفتن بين الدول، وقدم الشكل الجديد للعراق وفق المنظور الأمريكي بعد احتلاله قائلاً: (النظام العراقي أظهر قوة الطغيان في نشر الخلافات والعنف في الشرق الأوسط. والعراق المحرر سيظهر قوة الحرية في تحويل هذه المنطقة الحيوية من خلال جلب الأمل والتقدم لحياة الملايين. مصالح أمريكا وأمنها وإيمان أمريكا بالحرية كلها، توصل الاتجاه ذاته: إلى عراق حرّ مسالم).
ـ تعهد في حال استخدام القوة مساعدة العراق بالإمدادات الضرورية، كما تعهد بتوفير الأمن ضد الذين يسعون للانتقام، وتهديد وحدة التراب العراقي، وحول النظام الجديد في العراق بعد نظام صدام حسين قال: (لا تنوي الولايات المتحدة تقرير طبيعة وشكل الحكومة العراقية الجديدة، فهذا خيار للشعب العراقي. ولكننا سنضمن عدم استبدال ديكتاتور قاس بآخر، يجب أن يكون هناك صوت لجميع العراقيين في الحكومة الجديدة، ويجب حماية حقوق جميع المواطنين).
ـ وعن مدة الاحتلال لم يضع مدة زمنية لفترة الاحتلال بل قال: (وسنبقى في العراق طالما دعت الضرورة، ولكن ليس يوماً أكثر من اللازم). وبرر أن من أهداف شن الحرب ما أسماه نشر الديمقراطية في العراق، وأشار إلى تجارب الاحتلال الأمريكي في اليابان وألمانيا، حيث أرسى الاحتلال الديمقراطية في البلدين، وهذا ما سيجري على العراق، فقال: (إن الكثيرين يشككون بقدرة اليابان وألمانيا على صيانة قيم الديمقراطية، ولكنهم أخطئوا.. والبعض يقول الشيء ذاته حول العراق، وهم مخطئون أيضاً).(1/61)
ـ وأدعى أن تغيير النظام في العراق سيحل مشكلة الشرق الأوسط أي الصراع الصهيوني الفلسطيني، ويجفف التمويل والدعم للمنظمات الفلسطينية المقاومة للاحتلال الصهيوني فقال: (إن النجاح في العراق سيبدأ مرحلة جديدة للسلام في الشرق الأوسط، ويبدأ بعملية التقدم باتجاه دولة فلسطين الديمقراطية، وسيحرم شبكات الإرهاب من راع ثري يمول تدريب الإرهابيين، ويقدم المكافآت لعائلات الانتحاريين).
ـ ووجه تحذيراً لأعضاء مجلس الأمن الرافضين إعطاء الولايات المتحدة وبريطانيا قراراً بشن الحرب على العراق وقال: (إنه خلال المواجهة مع العراق كانت الولايات المتحدة تؤكد التزامها بالمؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة.. وإن أمريكا تؤمن بمجلس الأمن، ولذلك تريد أن تكون لقراراته معنى) أي أن يؤيده باستخدام القوة ضد العراق.(54).
?
* الفصل العاشر
احتلال العراق
رغم محاولات الولايات المتحدة وحليفتها بريطانيا لاستصدار قرار من مجلس الأمن في السابع من آذار 2003، وعلى الرغم مما قدمه كولن باول وزير الخارجية الأمريكي من تقرير حاول فيه إقناع المجلس بتبرير الحرب ضد العراق لامتلاكه أسلحة الدمار الشامل، وأنه أخفاها عن المفتشين الدوليين، ولا يزال يراوغ في تنفيذ قرار مجلس الأمن /1441/، الذي يدعو العراق لنزع أسلحته.
إلا أن عدداً هاماً من أعضاء المجلس لم يقتنعوا بما جاء في تقرير باول، والسبب أن كل من البرادعي وبليكس قدماً تقريرين أكدا فيهما عدم اكتشاف المفتشين لتلك الأسلحة رغم التفتيش المفاجئ، وبينا أن العراق يتعاون معهما ضمن القرار الدولي 1441، وطالباً من المجلس مدة زمنية إضافية لاستكمال عمليات التفتيش.(1/62)
ولما تبين للولايات المتحدة أن الحصول على غطاء دولي لشن حرب على العراق مستحيلاً، بسبب إعلان كل من فرنسا وروسيا عن إمكانية استخدام حق /الفيتو/ ضد أي قرار يتضمن شن الحرب على العراق، تحركت خارج نطاق المجلس، لتشن حرباً على العراق دون أي غطاء دولي شرعي. فعقد اجتماع للحرب ضم كل من الرئيس الأمريكي جورج بوش ورئيس وزراء بريطانيا توني بلير ورئيس وزراء أسبانيا أزنار في البرتغال في 16/3/2003، حيث أمهل الثلاثة المجتمع الدولي /24/ ساعة لإعطاء ترخيص للحرب، وإلا فإنهم سيتحركون منفردين وبمشاركة من يرغب من الدول، من أجل إسقاط النظام الحاكم فغي بغداد (55). واتفق الرؤساء الثلاثة على شن الحرب على العراق في النصف الثاني من شهر آذار.
وفي ليلة 17 آذار وجه الرئيس الأمريكي خطاباً، أنذر فيه الرئيس العراقي صدام حسين بمغادرة العراق خلال 24 ساعة مع ولديه عدي وقصي، وإلا سيواجه ضربة عسكرية تحدد واشنطن توقيتها، واعداً أنه بعد تحرير العراق فإن العراقيين سيقدمون نموذجاً لكل شعوب الشرق الأوسط. وأكد أن الولايات المتحدة وحلفاءها مجازون باستخدام القوة لإزالة أسلحة العراق، وفقاً لقرارات الأمم المتحدة الصادرة منذ التسعينات، مشدداً على (أن أمن العالم يتطلب نزع أسلحة صدام الآن) ونصح (كافة المواطنين الأجانب بمغادرة العراق)(56). ورفض العراق الإنذار، ودعا الشعب لمواجهة الغزو الأمريكي البريطاني عبر رسالة وجهها صدام حسين.(1/63)
وفي العشرين من شهر آذار 2003 شنت الولايات المتحدة بالتحالف مع بريطانيا واستراليا حرباً عسكرية غير متكافئة مع العراق المنهك من الحصار والديون والحروب، استخدمت قوات التحالف أحدث ما لديها من أسلحة متطورة جواً وبراً وبحراً. وبقيت الحرب على أشدها إلى صباح يوم التاسع من نيسان، حين سقط الجزء الأهم من بغداد، فانهارت الدفاعات العراقية التي قدمت في بداية الحرب أروع أشكال الصمود والدفاع أمام قوات الغزو المدججة بأحدث الأسلحة المتطورة.
وضربت بلدة (أم قصر) الحدودية مثالاً على التحدي ومواجهة الغزاة، ورفض الاستسلام على الرغم من صغر البلدة، التي لا تتجاوز الثلاثة أحياء سكنية، ومن قربها من الحدود الكويتية التي انطلقت منها قوات الغزو. حيث بقيت فيها جيوب المقاومة أكثر من عشرة أيام، تصد الهجمات المتتالية لقوات التحالف الغازية، والتي تفوقها آلاف المرات عدة وأعداداً. وحين أسر الغزاة المقاومين تبين أنهم كانوا أقل من فصيلة مشاة. فقد كان صمودهم مثار إعجاب العالم كله، الذي كان يتابع هذا الصمود العظيم عبر شاشات التلفاز العربية والعالمية. ولم تكن أم قصر وحدها المثل الوحيد في المقاومة، بل كانت كل مدن الجنوب والوسط والموصل وما حولها أمثلة في المواجهة.
وقدر البرفسور أنتوني كوردسمان الذي يعمل في مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية في واشنطن تقريراً في التاسع من نيسان 2003 جاء فيه حول ما استخدمته قوات التحالف من قوة نارية ضد العراق داء فيه:
ـ افتقار شبه كلي إلى المعلومات الأساسية عن الحملة الجوية التي شملت حتى التاسع من نيسان /أبريل نحو 34 ألف طلعة، منها 13 ألف إغارة، و6850 طلعة تزويد بالوقود في الجو، و6500 طلعة جسور، وأكثر من 2250 طلعة مخابرات واستطلاع استراتيجي.
ـ .. إطلاق أكثر من 750 من صواريخ كرزو، وما بين 15 ألفاً و16 ألف وحدة ذخيرة دقيقة التصويب، و7500 سلاح غير موجه...(57).(1/64)
وقد رأى بعض المحللين والصحفيين بقصور من الرؤية، إن بغداد قد سقطت دون قتال. وإن الرهان كان على أن يحدث قتال شديد في بغداد أسوة بأم قصر وغيرها، دون أن يدركوا أن بغداد قد قاتلت منذ اليوم الأول للحرب، حين تعرضت لقصف جوي وبري وبحري متواصل مدى عشرين يوماً، أي ما يعادل حسب تقدير كثير من الخبراء العسكريين في العالم ثلاثة قنابل نووية من التي ألقيت على هورشيما اليابانية، كما أبيدت عدداً من فرق من الحرس الجمهوري، التي كانت تحمي بغداد مثل فرقة نبوخذ نصر وغيرها. وذكر وزير الحرب الأمريكي أنه تم استخدام أحدث الأسلحة والقنابل الحديثة، التي لم يعرف عنها العالم شيئاً.
وقد أشارت العديد من وكالات الأنباء أيضاً عن صفقة تمت بين أجهزة المخابرات الأمريكية مع حفنة من قادة الجيش والحرس الجمهوري، خان هؤلاء القادة بلادهم مقابل حفنة من الدولارات، مع تامين ملاذ آمن خارج العراق، على أن يقوموا بتسليم البلاد، وإعطاء الجيش والحرس أوامر بترك مواقعهم العسكرية والسماح للقوات الغازية باحتلال البلاد. إلا أن هذه المعلومات ليست مؤكدة وغير دقيقة، وتحتاج إلى التدقيق والتقصي للوصول إلى مصداقيتها. والقارئ يعرف أن أسرار الحروب تحتاج لسنوات حتى تظهر جزء من أسرارها، ولن تظهر حقيقتها بشكل كامل.
* من مفاعيل الاحتلال الأولية للعراق.(1/65)
برزت في الأيام الأولى أكذوبة حرية العراق وتحريره من الدكتاتورية، فقد تجلت في تصرفات جنود الاحتلال من خلال التفتيش الكيفي للمنازل العراقية المدنية، التي لم يكن لسكانها أية علاقة بالحرب والمحمية بالقانون الدولي من خلال اتفاقية جنيف. فقد كان جنود الاحتلال يعيثون فساداً في منازل المواطنين من سرقة المال والحلي والأشياء الثمينة، واعتقال مواطنين العراق بدون تهمة، ووضعهم في مواقف مزرية، حيث يغطى الرأس بأكياس، وتصفد أيديهم بالحبال، ويبقون في العراء دون السماح لهم حتى بالتحرك لأغراض شخصية، وإبقاء العديد منهم في الصحراء تحت شمس حارقة. والقتل العمد بدون أي سبب، وامتهان كرامتهم.
* ومن نتاج ذلك الاحتلال:
ـ سرقة وتدمير كنوز العراق الأثرية من خلال نهب منظم من قبل مافيا أمريكية وصهيونية ودولية منظمة تحت أنظار قوات الاحتلال لمتحف بغداد، الذي يضم عشرات الآلاف من القطع الأثرية لحضارة امتدت سبعة آلاف عام. مما أثار استهجان العالم كله، وأعاد للذاكرة تدمير هولاكو التتري لبغداد. وقد طالبت معظم المنظمات الثقافية في العالم بإعادة المسروقات لأنها ملك البشرية جمعاء لا ملك العراق وحده.
ـ إفساح المجال للصوص لحرق وتدمير وسرقة البنى العلمية والتعليمية المصرفية وغيرها، بهدف تدمير العراق شمولياً. فلم تسلم الكليات العلمية من التدمير والنهب المنظم، وكذلك الوزارات والمؤسسات الرسمية ودوائر الأحوال الشخصية والمباني الحكومي.
ـ أصدرت الإدارة الأمريكية المحتلة قراراً بحل الجيش العراقي، وإلغاء الأجهزة الأمنية والأجهزة شبه العسكرية التي تمولها الدولة، مما أدى إلى فقد أكثر من نصف مليون لوظائفهم ولمصدر عيشهم الوحيد.
ـ تدمير المرافق العامة وعدم إصلاحها كالكهرباء والماء والصرف الصحي.
ـ انعدام الأمن كلياً حيث تتحول المدن بعد غروب الشمس مرتعاً للصوص وقطاع الطرق.(1/66)
ـ في حين تعلن القوات المحتلة عن وجود مقابر جماعية قام بها النظام السابق، بلغ عدد قتلى القوات المحتلة للعراقيين ما يقرب الثمانية آلاف إضافة إلى آلاف الأسرى في وضع إنساني مزر.
ـ شكل الحاكم الأمريكي في العراق بول بريمر مجلس الحكم الانتقالي للعراق مؤلفاً من /25/ شخصية، اختيروا على أساس طائفي وعرقي. وهذا يحدث لأول مرة في تاريخ العراق منذ ظهوره ككيان سياسي، وهم: ممثلو الشيعة وعددهم /14/ والسنة /4/ والأكراد /5/ ومسيحي واحد، وتركماني واحد.(58).
ـ من مأساة هذا التشكيل هو إلغاء الصفة العربية عن العراق، في حين أعطيت الصفة القومية للأكراد والتركمان، وقسم العرب شيعة وسنة ومسيحيين.
ـ أعطيت للحاكم الأمريكي بريمر حق نقض أي قرار صادر عن هذا المجلس دون أن يقدم أي تبرير.
ـ كانت أولى قرارات المجلس الانتقالي إلغاء كل أعياد العراق الرسمية، والاحتفال فقط بيوم احتلال العراق في التاسع من نيسان، وتشكيل محاكم للعراقيين، ومنع محاكمة جنود الاحتلال.
* الإرهاصات الأولية للاحتلال.
بعد انتهاء الحرب، واحتلال العراق، بدأت الولايات المتحدة العمل على المستوى الدولي لشرعنة الاحتلال، استطاعت أن تحصل على قرار مجلس الأمن الدولي في 22/5/2003، يحمل رقم /1483/. شرع فيه الاحتلال الأمريكي البريطاني للعراق، وفوضهما بالسيطرة المطلقة على مستقبله السياسي وموارده الطبيعية. وقد صوتت على هذا القرار /14/ دولة من أعضاء مجلس الأمن الـ/15/ بنعم على القرار، في حين تغيبت سورية عن الجلسة وهي العضو العربي الوحيد في المجلس.
ـ ويفسح القرار لدولتي الاحتلال المجال باستئناف تصدير النفط العراقي، كما طلب من الأمين العام للأمم المتحدة بتعيين ممثل خاص له في بغداد على أن يتعاون مع سلطات الاحتلال في إعادة بناء العراق سياسياً واقتصادياً.(1/67)
ـ شنت حملة شعواء بعد الحرب على سورية وإيران، حيث اتهمت سورية بإيواء قادة النظام العراقي السابق، وتهريب الأسلحة والمتطوعين العرب إلى العراق. ثم تطور الأمر إلى تهديد سورية بالحصار وحتى بالاعتداء إذا لم تقفل مؤسسات المنظمات الفلسطينية الإعلامية بذريعة دعم المنظمات الإرهابية، وأن تقوم بنزع سلاح حزب الله اللبناني ونزع أسلحته، وأن تنزع أسلحة الدماء الشامل لديها.
أما إيران فاتهمت بتطوير سلاحها النووي، وعليها القبول بالتفتيش المفاجئ لمنظمة الطاقة الدولية، وأن تغير سياستها تجاه القضية الفلسطينية بدعم السلام الصهيوني الأمريكي، وأن تتوقف عن مساعدة حزب الله في لبنان.
وقد ردت سورية على ذلك باقتراح تقدمت به إلى المنظمة الدولية بنزع أسلحة الدمار الشامل في كل منطقة الشرق الأوسط، مما أدى إلى تجاهل الولايات لهذا المقترح لأنه يمس الكيان الصهيوني وترسانته النووية. ولكن القوى المتصهينة في الإدارة الأمريكية لا تزال تعمل وتحرض ضد سورية ما دامت لا ترضخ للشروط الصهيونية.
* المقاومة العراقية تعرّي أكاذيب الحرب
بعد شهر فقط من انتهاء الحرب برزت المقاومة العراقية، لتواجه الاحتلال وتوقع في قواته خسائر يومية، فزرعت الرعب والخوف في قلوب جنود الغزاة. فظهر الارتباك والخوف والرعب في صفوف القوات الغازية، كلما تزايدت أعداد القتلى من الجنود الأمريكيين. حتى وصل الأمر في أحد الجنود الأمريكيين يطالب وزير دفاعه بالاستقالة لأنه يكذب من خلال مقابلة تلفزيونية أجرتها إحدى المحطات الأمريكية، مما أدى أن يحذر قائد القوات الأمريكية الوسطى أبو زيد أن يهدد الجنود بالعقوبة، إن تطاولوا على قادتهم.(59).(1/68)
انعكست أعمال المقاومة العراقية والخسائر في القوات الغازية على الرأي العام الأمريكي والأوروبي، وكذلك عدم العثور على أسلحة الدمار الشامل، التي كانت الذريعة الأهم لشن الحرب على العراق. فظهرت فضائح الأكاذيب التي ساقتها إدارتي بوش وبلير حول أسلحة الدمار الشامل وخطورتها على الأمن القومي الأمريكي خاصة وعلى العالم عامة.
فتكشفت أكذوبة محاولة النظام العراقي السابق شراء يورانيوم من النيجر، والتي تبين أنها كانت من صنع الموساد الصهيوني، التي أعلم بها المخابرات البريطانية ثم نقلت إلى المخابرات الأمريكية، وتضمنها خطاب بوش لحالة الاتحاد. وتمت مساءلة رئيس المخابرات المركزية جورج تنت (يهودي) أمام الكونغرس مساء 16/7/2003، الذي أعلن تحمله لمسؤولية الكذبة، ومن خلال قوة اللوبي الصهيوني في الكونغرس تمت تغطية تلك الجريمة. بل تمت الإشادة ببطولات تنت ليبقى في منصبه الخطير. ولكن الصيف والعام القادم سيشهدان نشر كثير من أكاذيب مبررات الحرب بسبب الانتخابات الأمريكية، حيث بدأ المرشحون الديمقراطيون يثيرون ملفات الحرب الملفقة، ويطالبون الرئيس الأمريكي بتقديم الأدلة التي برر بها الحرب على العراق، والتي لم يعثر على أي منها.
كما تمت مساءلة رئيس الوزراء بلير عن أسلحة الدمار الشامل في الصحافة البريطانية وأعضاء مجلس العموم عن أسلحة الدمار الشامل العراقية. وسخر هانز بليكس كبير المفتشين الدوليين في العراق من قدرة العراق على إطلاقها خلال /45/ دقيقة، التي ذكرها بلير في تقريره قبل الحرب على العراق في مجلس العموم.(1/69)
وحين لم تجد الإدارة الأمريكية والبريطانية وجود ما ساقته من تبريرات حول أسلحة العراق، ثم تسويق أكذوبة جديدة هي أنهما قامتا من أجل تخليص الشعب العراقي من الدكتاتورية، ووضعه على طريق الحرية. ولكن هذه الأكاذيب لا تزال تتفاعل حتى تطيح برؤوس من صنع هذه الحرب، وهذا مرتبط من خلال تصاعد وتيرة المقاومة العراقية ضد الاحتلال، والرفض الجماهيري في العراق للاحتلال وأذنابه، ووصول نعوش الجنود إلى واشنطن ولندن.
* الخاتمة
الربح والخسارة من أحداث أيلول
في قراءة متأنية لميزان الربح والخسارة من أحداث الحادي عشر من أيلول عام 2001، لمعرفة الفاعل الحقيقي لتلك الأحداث، فالمجرم هو من يستفيد من الجريمة. ومن خلال ما تبع أحداث أيلول من تطورات كبيرة على المستوى الداخلي للولايات المتحدة والعالم خاصة المناطق العربية والإسلامية، نجد أن المستفيد الرئيسي من تلك الأحداث هو الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني.
وأن المتضرر من تلك الأحداث هي أغلبية دول العالم وخاصة من يملك النفط وبلدان المرور لأنابيب النفط، وعلى رأسها الأمة العربية ودول إسلامية، وبقية الدول التي وضعت في قائمة دول محور الشر (العراق وإيران وكوريا الشمالية). والمتضرر الكبير كان الشعب الفلسطيني، الذي تركته الولايات بزعامة الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، ليمارس حليفه شارون وحكومته الصهيونية ساديته، وتلذذه بالدم الفلسطيني، ويحقق مشروعه بإفراغ ما تبقى من فلسطين من الفلسطينيين.(1/70)
ومن نتائج الأحداث تم الإعلان عن الهيمنة الأمريكية على العالم، عبر إطلاق حاكميتها على القرار الدولي، ومصادرة حرية القرار للهيئات الدولية في الأمم المتحدة سواء في مجلس الأمن أو حتى الجمعية العمومية، ووجوب تابعية دول العالم للإدارة الأمريكية، من خلال الشعار الذي أطلقه الرئيس جورج بوش الابن (من لم يكن معنا فهو ضدنا). أي لا خيار أمام أي دولة في العالم باختيار الحياد، أما مع أو ضد، فلا وسطية، ولا حياد، ولا معارضة في أي أمر تريده تلك الإدارة الأمريكية من أية دولة في العالم.
ورفع درجات التهديد بالحرب لتأديب الدول الرافضة بعدم السير وفق المزاج الأمريكي. ووصلت القوات الأمريكية إلى بحر قزوين برضا أو عدم الرضا الخفي لدول حوض بحر قزوين، دون معارضة روسية أو أوروبية، وتم الاستيلاء على الثروة النفطية الهائلة لهذا البحر. وأزيلت حكومة طالبان عن الحكم في أفغانستان، بعد ذبح وقتل آلاف الضحايا من الشعب الأفغاني، وبعض العرب والباكستانيين والشيشان وغيرهم من المسلمين، الذين كانوا يتواجدون في أفغانستان.
وشنت الحرب على العراق، وتم احتلاله ونهب ثرواته الطبيعية والأثرية، ودمرت بناه الفوقية والتحتية بقوة تدميرية، لنهب أمواله بحجة إعادة بناء العراق، التي ترسو يومياً إعادة البناء على شركات يملكها ديك تشيني وكوندليزا رايس وغيرهم من شركات النفط الأمريكية، وكان باول وزير الخارجية الأمريكي قد أعلن قبل الحرب: (إن النفط العراقي سيكون أمانة بيد الجيش الأمريكي)، وفق قانون إدارة بوش القائل: (النفط أينما وجد في العرف الأمريكي يجب أن يكون ملك أمريكا) وبدأت حملات التصفية للحسابات القديمة مع المنظمات العربية والإسلامية، التي ناهضت هيمنة الولايات المتحدة منذ عشرات السنين، وكذلك الدول التي كانت لها مواقف معارضة من حكومة بوش. ووصل الأمر بتلك الإدارة الجهنمية، أن هددت دول بالسلاح النووي فقط لمجرد تصفية الحسابات.(1/71)
ففي التقرير السنوي الذي تصدره هيئة رئاسة الأركان المشتركة للقوات المسلحة الأمريكية، والذي يستعرض القوات الاستراتيجية النووية الأمريكية في داخل الولايات المتحدة وفي أنحاء العالم، جاء فيه أن إدارة بوش (أصدرت توجيهاتها إلى البنتاغون بأن يعد الخطوط العامة لاستخدام القنابل النووية ضد سبعة من بلدان العالم على الأقل ـ وهي روسيا والصين والعراق وإيران وكوريا الشمالية وليبيا وسوريا ـ خمسة منها لا تملك سلاحاً نووياً، وقد أضيفت مؤخراً إلى خطط التهديف النووي).
كذلك يقضي التقرير (مراجعة الحالة النووية بإجراء استعدادات لاستخدام الأسلحة النووية في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وفي مواجهة بين تايوان والصين، وفي هجوم تشنه كوريا الشمالية على كوريا الجنوبية، وهجوم عراقي ضد إسرائيل أو بلد آخر مجاور له، وفي أوضاع أخرى غير محددة)(60).
وعلى المستوى الداخلي الأمريكي تم تمرير مشروع بوش الابن حول المظلة الدفاعية، التي كانت تعارضه غالبية الشعب الأمريكي، وكذلك تم إقرار ميزانية الدفاع بسهولة، التي بلغت الأربعمائة مليار دولار من الكونغرس دون معارضة. واختفت عيوب عملية وصول بوش الابن إلى رئاسة الولايات المتحدة عن طريق المحكمة الفيدرالية، وانتهت مسألة التشكيك بانتخابه، بل الأدهى من ذلك، أن الأحداث قد رفعت من رصيد شعبية بوش الابن المتدنية، حتى أصبحت شعبيته تفوق كل رؤساء أمريكا السابقين، والمكاسب كثيرة لا تعد، أمام خسارة برجي التجارة الدولية وجزء من مبنى البنتاغون، وما فيها من أرواح بشرية لا ذنب لها.(1/72)
أما الكيان الصهيوني الذي كان محاصراً قبل الأحداث من قبل الرأي العام العالمي، لممارساته الوحشية ضد الأطفال والنساء في فلسطين، والمأزق الذي وضع فيه بسبب الانتفاضة، كان المستفيد الأكبر من أحداث أيلول 2001. فأصبح السفاح شارون رجل سلام في عرف الرئيس بوش الابن، وأطلق يده ليفعل ما يشاء في الأراضي المحتلة، وتمت عمليات الإبادة للفلسطينيين تحت أنظار العالم كله، دون أن يحرك أحد ساكناً، وأخرست ألسن المعارضة في أوروبا والعالم لتلك الممارسات الوحشية.
وتم رفع العصا الغليظة الأمريكية والصهيونية والتابع البريطاني في وجه الدول العربية والإسلامية، ولم يتورعوا عن طرح خرائط جيدة للمنطقة العربية، تبدأ في العراق وتنتهي في المغرب، دون أن يجدوا لرد العملي والفعلي لهذه الجريمة، بل يطلبوا ثقافات جديدة تطبق على جميع دول العالم وأولهم العرب والمسلمين وفق المزاج الأمريكي والصهيوني، أي ثقافة الخنوع والذل والإهانة والركوع الدائم.
وهكذا تبقى الاستكشافات عن حقيقة ما جرى في 11 أيلول مستمرة، كما أن الحدث يتطلب عمل جماعي حكاماً ومحكومين من العرب والمسلمين للمواجهة، وإنزال الهزيمة بقوى الشر مهما عظمت، ففي إرادة الشعوب يكمن النصر والعزة ورد العدوان.
وهكذا استخدمت الولايات المتحدة أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001 لشن مجموعة من الحروب لتحقيق مصالحها العسكرية والاقتصادية والثقافية والسلوكية.
??
المصادر :
1 ـ (American Free Press 4 كانون الأول 2001).
2 ـ قناة الجزيرة القطرية ـ 6/2/2002 ـ أخبار الظهيرة.
3 ـ السفير اللبنانية ـ العدد 9306 ـ 20/9/2002.
4 ـ المصدر السابق.
5 ـ يسري فودة ـ سري للغاية ـ قناة الجزيرة ـ 12/9/2002.
6 ـ المصدر السابق.
7 ـ تيري ميسان ـ التضليل الشيطاني ـ الدار الوطنية الجديدة ـ دمشق 2002 ـ ط1ـ ص48.
8 ـ المصدر السابق ـ ص45 و46.
9 ـ قناة الجزيرة القطرية ـ برنامج آخر حروب القرن ـ 23/2/2002.(1/73)
10 ـ تيري ميسان ـ التضليل الشيطاني ـ مصدر سابق ـ ص98.
11 ـ مجلة نيويوركر امريكية ـ 4/8/2002.
12 ـ هاآرتس الصهيونية ـ 17/9/2001.
13 ـ الوطن العمانية ـ17/9/2001.
14 ـ السفير اللبنانية ـ العدد 9318 ـ 4/10/2002 ـ ص17.
15 ـ قناة دريم الفضائية المصرية ـ 26/9/2001.
16ـ هاآرتس ـ فلسطين المحتلة ـ 27/9/2001.
17 ـ البعث الدمشقية ـ ص16 ـ 1/10/2002.
18 ـ تيري ميسان ـ التظليل الشيطاني ـ مصدر سابق ـ ص19.
19 ـ المصدر السابق ـ ص27.
20 ـ المصدر السابق ـ ص28 و29.
21 ـ المصدر السابق ـ ص28.
22 ـ المصدر السابق ـ ص29.
23 ـ المصدر السابق ـ ص31 و32.
24 ـ الثورة الدمشقية ـ العدد 11959 ـ ص1 ـ 28/11/2002.
25 ـ عصام محفوظ ـ حول التحقيق في عملية 11 أيلول ـ السفير اللبنانية ـ العدد 9407 ـ ص17 ـ 25/1/2003.
26 ـ السفير اللبنانية ـ العدد 9370 ـ ص19 ـ 9/12/2002.
27 ـ المصدر السابق.
28 ـ نيويورك تايمز ـ 26/5/1997.
29 ـ الواشنطن بوست ـ 19/12/2000.
30 ـ السفير اللبنانية ـ العدد 938 ـ ص13 ـ 28/12/2002.
31 ـ إسماعيل الشطي ـ تحديات استراتيجية بعد أحداث الحادي عشر من أيلول ـ مجلة المستقبل العربي اللبنانية ـ العدد 283 ـ ص45ـ 9/2002.
32 ـ (جيمس دوريان ـ 2001 September (Oil and Gaz Journal).
33 ـ إسماعيل الشطي ـ تحديات استراتيجية بعد أحداث الحادي عشر من أيلول ـ مصدر سابق ـ ص45.
34 ـ المصدر السابق.
35 ـ جون لويس غاديس ـ Foreign Policy ـ تشرين الثاني / كانون الأول 2002 ـ ترجمة: طلال الساحلي ـ السفير اللبنانية ـ العدد 9396 ـ 13/1/2003 ص19).
36 ـ المصدر السابق.
37 ـ أعد التقرير كل من ديفيد كورترايت من غوشين، انديانا ـ وألستير من واشنطن ـوجورج أ. لوبيز ـ جامعة نوتردام، انديانا الأمريكية ـ ترجمة مجلة المستقبل العربي اللبنانية ـ العدد 283 ـ 9/2002 ـ ص142).(1/74)
38 ـ نعوم تشومسكي ـ أحاديث وحوارات قبل وبعد 11/أيلول 2001 ـ دار الرضا للنشر ـ دمشق ـ2002 ـ ط1ـ ص23.
39 ـ مجلة المستقبل العربي اللبنانية ـ العدد 283 ـ 9/2002ـ ص143.
40 ـ أحمد برغل ـ حرب من أجل النفط ـ الثورة السورية ـ العدد 12017 ـ 5/2/2003 ـ ص9.
41 ـ المصدر السابق.
42 ـ المصدر السابق.
34 ـ ستيفان فاخوفياك ـ إمبراطورية الشر ـ مجلة بجاسك البولونية ـ البعث 11989 ـ 2/2/2003 ـ ص10.
44 ـ (الدكتور عيد أبو سكة ـ الذئاب القادمة إلى الشرق ـ جريدة البعث السورية ـ العدد 11983 ـ 23/1/2003 ـص11).
45 ـ عبد الله النفيسي ـ قناة الجزيرة القطرية الفضائية ـ برنامج بلا حدود ـ 12/2/2003.
46 ـ قناة الجزيرة القطرية الفضائية ـ النشرة الصباحية ـ 23/1/2003.
47 ـ البعث السورية ـ العدد 11900 ـ 28/10/2002 ـ ص1.
48 ـ السفير اللبنانية ـ العدد 9313 ـ 28/9/2002.
49 ـ قناة المنار اللبنانية الفضائية ـ 24/2/2003.
50 ـ قناة الجزيرة القطرية الفضاية ـ 4/2/2003.
51 ـ السفير اللبنانية ـ العدد 9419 ـ 28/1/2003ـ ص12.
52 ـ المصدر السابق.
53 ـ سميح فرسون ـ جذور الحملة الأمريكية لمناهضة الإرهاب ـ المستقبل العربي ـ بيروت ـ العدد 284 ـ 10/2002 ـ ص18/19).
54 ـ واشنطن ـ هشام ملحم ـ السفير اللبنانية ـ العدد 9434 ـ 28/2/2003 ـ ص16.
55 ـ السفير اللبنانية ـ العدد 9446 ـ 17/3/2003 ـ ص1.
56 ـ السفير اللبنانية ـ العدد 9447 ـ 18/3/2003 ـ ص1.
57 ـ أنتوني كوردسمان ـ تقرير مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) ـ الصادر في 10 نيسان 2003.(1/75)
58 ـ يضم مجلس الحكم العراقي كل: الشيعة: ـ أحمد الجلبي ـ عبد العزيز الحكيم ـ إبراهيم الجعفري ـ وائل عبد اللطيف ـ إياد علاوي ـ عقيله الهاشمي ـ حميد مجيد موسى ـ كريم محمداوي ـ أحمد البراك ـ موفق الربيعي ـ سمير محمود ـ محمد بحر العلوم ـ رجاء حبيب الخزاعي ـ عز الدين سليم. السنة: نصير كامل الجاردجي ـ عدنان الباجه جي ـ غازي اليارو ـ محسن عبد العزيز. الأكراد: جلال الطالباني ـ مسعود بارزاني ـ صلاح الدين بهاء الدين ـ محمد علي عثمان ـ دارا نور الدين. مسيحي: يوناديم يوسف كنو. تركمان: شنكول حبيب عمر.
59 ـ وكالات الأنباء العالمية 16/7/2003.
60 ـ سمير فرسون ـ مصدر سابق.
??
الباب الثاني
صدام سلوكيات لا صدام حضارات
المقدمة
ليست هي المرة الأولى في التاريخ بعد أحداث الحادي عشر من أيلول عام 2001 في نيويورك وواشنطن، التي تستعر فيها حملة ظالمة ضارية ضد العرب والمسلمين، تريد اجتثاث عقيدتهم وثقافاتهم المبنية على سلوكيات رفيعة القيم والمعاني والمبادئ الأخلاقية العالية، تحت أسماء وذرائع شتى من قبل الغرب. فالحملات الغربية بدأت مع تعاظم الإسلام، وانتشاره على بقاع كثيرة في المعمورة، وسوف تستمر تلك الحملة حتى قيام الساعة.
هذا الصراع والصدام إن كان في القرون الوسطى أخذ شكل الصراع الديني، فهو ليس كما يقول صموئيل هنتغتون وغيره بأنه صراع وصدام حضارات، بل هو صراع وصدام الثقافات السلوكية بين الطرفين. لما يحمل الإسلام من منهج دنيوي وديني متكامل، يسعى لبناء مجتمع إنساني متآخ متعاون متكافل متساو، يسوده السلم والعدل والرحمة. وهذا يتناقض كلياً مع الغرب بما يحمل من سلوكيات ثقافية وإيديولوجية، تقوم على نهب الآخر واستغلاله، وفرض أنماطه الاجتماعية والاقتصادية والثقافية على كل الشعوب، ولو بالقوة والقهر.(1/76)
من يعود في الذاكرة التاريخية إلى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين الماضيين، ويستعرض الاستعدادات العسكرية الاستعمارية الغربية التي كانت قائمة على قدم وساق لاستكمال احتلال كامل الوطن العربي والبلاد الإسلامية من قبل القوى الاستعمارية آنذاك، سيشاهد إنها نسخة جديدة متطابقة تماماً عما يجري اليوم. من خلال الحملات السياسية والإعلامية والثقافية والعسكرية الأمريكية الصهيونية، والتي انطلقت منذ بداية القرن الحادي والعشرين بهدف الاحتلال والهيمنة على البلدان العربية والإسلامية بدءاً من العراق. والسيطرة الكاملة على ثروات العالم عامة، والبلاد العربية والإسلامية خاصة.
الفصل الأول:
الإسلام السدّ الأعظم
أمام الهيمنة وقد رأى العالم كله كيف انطلقت منذ أحداث الحادي عشر من أيلول حرب ضارية، تضمنت هجوماً إعلامياً مكثفاً على الإسلام، تقوم على اعتباره العائق الأكبر في وجه مشاريع الهيمنة، وفرض الإرادة الأمريكية والصهيونية على الشعوب العربية والإسلامية، وأنه العامل الأهم في التحريض على مقاومة تلك المشاريع الشيطانية، والدافع الرئيسي للشعوب بالتمسك بالحرية ومناهضة كل أشكال الاستبداد والهيمنة والظلم والعبودية؟. وقد كتب بعض من المفكرين والسياسيين والكتاب الاستراتيجيين في الغرب والكيان الصهيوني أمثال هنتغتون وفوكوياما وميشال ويلبيك وباترسون ونتنياهو وكنداليزا رايس وغيرهم عن خطورة الإسلام على الغرب وديمقراطيته وعلى قيمه وسلوكه، ووصفوا الإسلام بالجهل والتخلف والاستبداد وإرهاب الآخرين، وأنه دين الإرهاب والقتل وغيرها من الصفات الكاذبة والملفقة. تلك الكتابات كانت قبل أحداث أيلول وبعده، ولكن ضمن نسق الحملة الأمريكية الصهيونية الغربية المتكاملة الأبعاد والأهداف هذه الكتابات التي تختزن كل أشكال الكذب والافتراء والتزييف لجوهر الإسلام وعقيدته، ليست هي الكتابات الأولى المعادية للإسلام، ولن تكون الأخيرة.(1/77)
بل كتب من قبلهم مفكرون وعلماء الغرب منذ قرون عن خطورة الإسلام على الغرب، قاموا بتشويه مريع لصورة الإسلام الحقيقية. ونذكر هنا ما كتبه المسيو كيمون في كتابه (باثولوجيا الإسلام) قائلاً: (إن الديانة المحمدية جذام نشأ بين الناس، وأخذ يفتك بهم فتكاً ذريعاً، بل هي مرض مريع، وشلل عام، وجنون ذهولي يبعث الإنسان على الخمول والكسل، ولا يوقظه منهما إلا ليسفك الدماء، ويدمن على معاقرة الخمور، ويجمح في القبائح، وما قبر محمد في مكة إلا عمود كهربائي يبث الجنون في رؤوس المسلمين، ويلجئهم إلى الإتيان بمظاهر الهستيريا، والتعود على عادات تنقلب إلى طباع أصلية، ككراهية لحم الخنزير والنبيذ والموسيقى والجنون الروحاني والليمانيا أو الماليخونيا، وترتيب ما يستنبط من أفكار القسوة والفجور في اللذات...) وشبه كيمون المسلمين بالفهود والضباع. وقال من الواجب إبادة خمسهم، والحكم على الباقي بالأشغال الشاقة، وتدمير الكعبة، ووضع ضريح محمد في متحف اللوفر)(1)
وتتكامل اليوم تلك الحملات ذات الأبعاد التاريخية، من خلال الحملة الضارية التي تشنها الولايات المتحدة الأمريكية ومن ورائها من الحلفاء الغربيين والحركة الصهيونية وجماعات الكنيسة الأصولية الصهيونية، التي تؤثر بشكل كبير على مجمل صناعة القرارات السياسية لإدارة الرئيس جورج بوش الابن اليوم.
حرب علنية على الإسلام والمسلمين منذ أحداث أيلول 2001. تحت ذريعة محاربة الإرهاب أو كما قال الرئيس بوش (حملة صليبية على الإرهاب)، تلك الحرب التي تتكشف مضامينها يوماً بعد يوم كما أشرنا أعلاه من سيطرة سياسية وعسكرية واقتصادية، إلى حرب عسكرية وثقافية لفرض الأنماط السلوكية والثقافة الغربية على البلدان الإسلامية، لتكون نسخة مشوهة عن المجتمع الأمريكي بكل سيئاته الكثيرة، وإيجابياته القليلة.(1/78)
وقد أوضح ريتشارد هاس مدير مكتب التخطيط السياسي في وزارة الخارجية الأمريكية، هدف الحملة الأمريكية على بلدان العالم الإسلامي، هو فرض الأنماط والقيم الأمريكية حتى ولو بالقوة. فقال في خطاب له في نيسان 2002 إن ما بعد الحرب الباردة تشكلت تحديات ما فوق القومية، ولم يعد مواجهتها بالردع والاحتواء، بل بالإدماج، وقال:
(إن الهدف الأساسي للسياسة الخارجية الأمريكية في القرن الحادي والعشرين، وهو إدماج بلدان ومنظمات أخرى في الترتيبات، التي ستدعم عالماً، يتسق مع المصالح والقيم الأمريكية. وبهذا ندعم السلام والرخاء والعدل على أوسع نطاق ممكن. إن إدماج شركاء جدد سيساعدنا على التصدي للتحديات التقليدية المتعلقة بصون السلام في مناطق مقسمة، وكذلك التصدي للأخطار عبر القومية، مثل الإرهاب الدولي وانتشار أسلحة الدمار الشامل. كما سيساعدنا على أن يجلب إلى العالم المعولم أولئك الذين كانوا استبعدوا في السابق. إن مصيرنا في هذه الحقبة يتداخل بنسيجه مع نسيج مصير الآخرين. ومن ثم يتعين أن يكون نجاحنا نجاحاً يتشارك فيه الآخرون).(2).
وحملت هذه الحرب شعارات مضللة وكاذبة ومخادعة، منها ما يتلون بلون الديمقراطية باعتبارها غائبة عن معظم البلدان الإسلامية، حيث قالت مستشارة الأمن القومي الأمريكي كونداليزا رايس، أن الهدف من حملة الولايات المتحدة على العراق: (إن الولايات المتحدة الأمريكية تهدف إلى بناء الديمقراطية في العراق بعد عمل عسكري للإطاحة بالرئيس العراقي صدام حسين). وأوضحت رغبة واشنطن في (وضع العالم الإسلامي على طريق الديمقراطية أو مسيرة الحرية) معتبرة أن القيم الأمريكية من الحرية والديمقراطية يمكن أن تسري على الإسلام أيضاً).(3).(1/79)
هذا الإدعاء الكاذب من قبل مستشارة الأمن القومي، الذي تدعي فيه، أن الولايات المتحدة تسعى لفرض الديمقراطية والحرية في العالم العربي والإسلامي، أو لحماية الديمقراطية في الغرب كما أدعى نتنياهو وغيره. فالتاريخ يدحض هذا الكذب لأن الولايات المتحدة أكثر دول الغرب رعت وحمت النظم الاستبدادية والديكتاتورية في العالم الإسلامي منذ الثلاثينات من القرن الماضي إلى يومنا هذا.
ما دامت هذه النظم تقوم على خدمة مصالحها ومشاريعها النهبوية. بل هي التي تآمرت وشاركت وأسهمت في إسقاط العديد من نظم ديمقراطية وشعبية في العالم الإسلامي والعالم الثالث، فقط كونها كانت تسعى لامتلاك حقوقها، وتحرير إرادتها السياسية في توجيه مقدراتها بشكل مستقل، بعيداً عن الهيمنة الأمريكية والغربية.
ومن يتابع الحملة الشرسة، التي تديرها الإدارة الأمريكية والقوى المتصهينة المتحكمة في القرار السياسي الأمريكي ضد العروبة والإسلام، وهي تطلق نعوتاً على دول عربية وإسلامية، أو حتى دول مستقلة أخرى مثل كوريا الشمالية. أي الدول التي رفضت الهيمنة الأمريكية، بأسماء ذات دلالات مقيتة، لتحريض الرأي العام الأمريكي خاصة والغربي عامة، مثل /الدول المارقة/ و/دول محور الشر/ و/دول الداعمة للإرهاب/ وغيرها من الألقاب.
والباحث في التاريخ، يعرف أنها ليست المرة الأولى التي تُصدر فيها الولايات المتحدة الأمريكية نعوتاً سيئة على دول تتعارض سياساتها وسلوكياتها معها، والتي لا تنطبق في الحقيقة إلا عليها. فهي الدولة المارقة على حقوق الشعوب في تقرير مصيرها، وهي دولة الشر التي تزرع الدمار والحروب في العالم. وهي دولة الإرهاب في هيمنتها وسرقتها لثروات الشعوب، وبدعمها المطلق لكل منظمات ودول الإرهاب في العالم. وما دعمها وحمايتها لشارون وقادة الكيان الصهيوني من القتلة والإرهابيين إلا دليلاً على رعايتها للإرهاب العالم.(1/80)
والولايات المتحدة اليوم هي التي تهدد العديد من الدول المستقلة وذات السيادة، بشن حروب عليها وبأشكال مختلفة تحت تلك الشعارات الزائفة. فلو بحثنا في صفحة العلاقات التاريخية العربية ـ الأمريكية، لوجدنا أن الولايات المتحدة الأمريكية بعد استقلالها بسنوات قليلة، أطلقت مثل هذه النعوت على دول عربية وهي تونس والجزائر والمغرب وليبيا، حين أسمت تلك الدول بـ (الدول الهمجية). علماً أن المغرب كان أول دولة في العالم تعترف باستقلال الولايات المتحدة عن بريطانيا، وقد خاضت مع تلك الدول حروباً بدأت عام 1801 واستمرت حتى عام 1805م.
وكشفت صفحات التاريخ، أن أسباب تلك الحروب دنيئة وقذرة فهي تدور حول تجارة الأفيون، التي كانت تقوم بها الولايات المتحدة. فقد كان التجار الأمريكيون يشترون الأفيون من أزمير وغيرها من الموانئ التركية، ويقومون بنقله عبر البحر الأبيض المتوسط إلى الصين، مروراً برأس الرجال الصالح، فالمحيط الهندي والهادي.
وكان التجار الأمريكيون يتنافسون مع زملائهم التجار الإنكليز على نقل ما بين 4 إلى 5 طن من الأفيون سنوياً إلى الصين، ويسممون بها الشعب الصيني لتخديره وتركيز الضعف في جسمه، لمنعه من مقاومة المستعمر البريطاني، الذي يستهدف احتلال أجزاء من أرضه. واشتركت إنكلترا والولايات المتحدة على نشر الأفيون بين صفوف الشعب الصيني. تلك الحرب القذرة التي أطلق عليها المؤرخون بحرب الأفيون.
كان الربح الرأسمالي وراء تجارة الأفيون أيضاً، فقط أرباح الفوائد من الرأسمال الأمريكي الموظف في تلك التجارة أكثر من 500%. مما جعل هؤلاء التجار يجنون أرباحاً قدرت بمئات الدولارات.(4)(1/81)
وأثناء ذلك طالبت دول المغرب العربي الولايات المتحدة بتغيير المعاهدات القديمة الموقعة بين الطرفين، وكان حاكم المغرب قد عقد معاهدة تجارية مع الحكومة الأمريكية في عام 1786. تعهد بموجبها بحماية التجار الأمريكيين، ويعفيهم من رسوم الترانزيت مقابل مبلغ قدره /10/ آلاف دولار سنوياً.(5). وتبعه حكام الجزائر وليبيا وتونس في عقد معاهدات مماثلة مع الولايات المتحدة، مع حاكم طرابلس الغرب في 1796 وحاكم تونس في عام 1797.
ومع ازدياد العمليات التجارية الأمريكية رفع حكام المغرب وتونس والجزائر وليبيا الرسوم مقابل مرور السفن في موانئ تلك البلدان، وتزويدها بالطعام والماء، أثناء تواجدها في موانئ تلك البلدان مع ضمان سلامتها.
وحين ازدادت أعداد السفن التجارية المحملة بالأفيون بسبب كثرتها، والخدمات لبحارتها. طالب أولئك الحكام بتعديل تلك المعاهدات القديمة، مع وقف تعسف البحارة الأمريكيين مع العاملين في الموانئ، وإلى زيادة المدفوعات والإعانات. انزعج تجار الأفيون في الولايات المتحدة، والذين كان يطلق عليهم "تجار بوسطن" من تلك الطلبات، وخاصة زيادة الرسوم. وشعروا بأنهم سوف يخسرون قسماً من أرباحهم، وهذا صعب عليهم دفع قسم ضئيل من أرباحهم، طالبوا الحكومة الأمريكية أن تهددهم، وتشن حرباً عليهم، ليذعنوا لإرادتها.
مع تعاظم ثروات هؤلاء التجار في بوسطن، الذين كان يطلق عليهم آنذاك بـ (زمرة ايسكس)، تعاظم في الوقت نفسه تأثيرهم على القرار السياسي الأمريكي. ومن خلال الرشاوى، وشراء الضمائر، وتوظيف الأموال في انتخابات مجلس الشيوخ (الكونغرس). أصبحوا يشاركون في تعيين العديد من الوزراء، وفي صناعة القرار السياسي رؤساء الجمهورية.(60).(1/82)
وبتوجيه وتأثير وتحريض من تجار بوسطن أعلنت حكومة الولايات المتحدة الحرب على بلدان المغرب العربي. وأطلقت عليهم اسم (الدول الهمجية)، كما تطلق اليوم على بعض الدول ألقاب المارقة أو محور الشر، أو الدول الداعمة للإرهاب، وغيرها من المسميات الأمريكية. مع العلم أن دول المغرب آنذاك، لم تطالب إلا بالقليل من حقوقها.
وشنت الولايات المتحدة على تلك البلدان حرباً بحرية ضروساً، سميت تاريخياً بحرب الخمس سنوات. والتي امتدت من عام 1801 إلى عام 1805. قصفت السفن الحربية الأمريكية خلالها الموانئ العربية الإسلامية، وتم تدمير العديد منها. وكانت تلك الحروب أولى الحروب تقوم بها الولايات المتحدة بعد استقلالها.
وانتهت تلك الحرب غير المتكافئة على إجبار حكام المغرب والجزائر وطرابلس الغرب بالتوقيع على معاهدات تجارية، سطرت وفق رغبة الولايات الأمريكية ومصالحها. وأصبحت تلك الحرب القذرة نصراً للولايات المتحدة، لا تزال تتغنى به إلى يومنا هذا، في نشيد بحريتها الوطني، ممجداً انتصارات كانت لصالح تجار الأفيون. فاحتوى النشيد العبارات التالية: (من تلال مونت يسوما إلى سواحل طرابلس. في السماء. وفي الأرض. وفي البحر. خضنا معارك الوطن).(7)
?
* الفصل الثاني
الحملة الجديدة على الإسلام
الحملة الغربية الصهيونية بزعامة الولايات المتحدة اليوم على الإسلام بأبعادها العسكرية والسياسية والثقافية، هي بدء انطلاقة لحرب إبادة، وتدمير، وترويع، وتخويف، لا يسلم منها أي مسلم في أية بقعة على الأرض، سواء أكان سكن في بلاد المسلمين أو في بلاد الغرب نفسه. ولن ينجو منها أي قطر حتى وإن كان تابعاً، فهدف الحملة الاستراتيجي هو الخضوع الكامل والتسليم للإرادة الأمريكية، لتتحول البلدان العربية والإسلامية إلى نماذج ممسوخة، قد تم تصنيعها في المختبرات الأمريكية على يدي مهندسين صهاينة.(1/83)
وإن كانت الحملة عسكرية قد احتلت أفغانستان، وفي طريقها لاحتلال العراق. وما يجري من إبادة مريعة بوحشية بربرية، لم ير العالم مثيلاً لها على الأرض الفلسطينية المحتلة. وإرسال الإنذارات ورسائل التهديد والوعيد للدول المسماة من قبل الولايات المتحدة بالدول الداعمة للإرهاب كسورية والسودان وليبيا وإيران، فإنها مغلفة بتهديد من لون آخر للسعودية واليمن ومصر وغيرها من الأقطار العربية والإسلامية. وما تم رصده من بضع دولارات لما يسمى بالتأهيل للديمقراطية، وإعادة البناء التعليمي وفق المزاج الأمريكي. وما دعوة وفود نسائية وشبابية إلى الولايات المتحدة عام 2002 بحجة التأهيل الديمقراطي إلا بداية مخطط رهيب، يهدف إلى هيمنة كاملة للمشروع الصهيوني الأمريكي الغربي على العالمين العربي والإسلامي.
هذه الحملة التي انطلقت شرارتها الفكرية بطرح ما يسمى ب (صدام الحضارات) لدى العديد من مفكري الغرب، واشتهرت بأطروحة للكاتب الأمريكي صومائيل هنتغتون، الذي يعتبر من أهم مفكري الغرب والولايات المتحدة، والأستاذ في جامعة هارفرد، والباحث في العلوم السياسية والدراسات الاستراتيجية. والذي أصدر كتاباً تحت عنوان (صدام الحضارات وإعادة النظام العالمي). وقد ترجم إلى العديد من اللغات الحية في العالم.
وهذا الكتاب، يرى أن الصراع، لن يكون إيديولوجيا كما كان في السابق، أيام الحرب الباردة بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي، ولن يكون الصراع طبقياً بين الفقراء والأغنياء كما كان في القرن الماضي، ولا اقتصادياً أو اجتماعياً بل صراعاً ثقافياً.(1/84)
وفي رأيه أن هذا الصراع يتطلب من كل أمة من الأمم أن تبحث عن هويتها الثقافية. وقسم العالم إلى ثمان مجموعات ثقافية حضارية هي: الحضارة الغربية وتضم أمريكا وأوروبا وأستراليا، والحضارة الصينية والمستمدة من تعاليم كونفوشيس، والحضارة الإسلامية، والحضارة الهندية، والحضارة اليابانية، والحضارة السلافية الأرثوذكسية، والحضارة الأمريكية اللاتينية، والحضارة الأفريقية.(8).
اعتبر هنتغتون بموجب هذا الانتماء الجديد للهوية الثقافية، أن الإسلام سيعتبر العدو الرئيسي للحضارة الغربية، كونه يرفض ما أسماه (بالغربنة). لأن المسلمين يرون في الإسلام الحل لكافة قضاياهم، ويرفضون الحضارة الغربية بديلاً عنه.
فكتب يقول حول ما أسماه بالانبعاث الإسلامي (.. الانبعاث الإسلامي أو الصحوة الإسلامية في مداه وعمقه هو آخر مظهر في تكييف الحضارة الإسلامية مع الغرب، إنه مجهود لإيجاد "حل" ليس في الإيديولوجيات الغربية، ولكن في الإسلام، إنه يجسد قبول الحداثة ورفض الغربنة، واستعادة الالتزام بالإسلام كمرشد في الحياة في العالم المعاصر).(9)
أما ما يقلقه ويقلق مفكري الغرب وساستهم هو الانبعاث الإسلامي أو الصحوة الإسلامية، ويعتبر الأصولية هي وجهها السياسي فيقول: (إن الانبعاث الإسلامي هو مجهود يقوم به المسلمون لتحقيق هذا الهدف. إنه حركة ثقافية فكرية واجتماعية وسياسية عريضة تعمُّ أرجاء الإسلام.
الأصولية التي تفهم عادة بأنها الإسلام السياسي، هي فقط عنصر واحد من إحياء أكثر شمولاً للأفكار والممارسات والعلوم الإسلامية، ولتكريم الإسلام من قبل المسلمين. الانبعاث هو التيار الرئيسي ليس متطرفاً، هو منتشر
وليس معزولاً)(10)(1/85)
ولكن لو عدنا إلى الشكل العملي لهذا الانبعاث، لوجدناه يعتمد على قائمة أعدها مفكر غربي يدعى (جون. ل. إرسبوزنيو) الذي وضع قائمة للصحوة الإسلامية في الحياة الشخصية للمسلم: (الاهتمام المتزايد بالشعائر الدينية (التردد على المسجد. الصلاة. الصيام) تعدد البرامج والمطبوعات الدينية، التركيز الأكثر على الزيّ الإسلامي والقيم الإسلامية، وإعادة الصوفية).(11)
وفي رأي هنتغتون أسباب عودة المسلمين إلى هويتهم الثقافية أي الإسلام، يعود إلى انتشار الفساد في المؤسسات، إضافة إلى الركود الاقتصادي، وانتشار ظاهرة الفقر بشكل واسع بين الطبقات الشعبية. فوجد المسلمون في عودتهم إلى دينهم الذي يطرح قيم وسلوكيات عالية، هو العلاج لكل ظواهر الفساد والفقر.
اعتبر هنتغتون الحضارة الإسلامية من الحضارات المتحدية للغرب مع الحضارة الصينية، كونهما رافضتا قبول هيمنة الحضارة الغربية عليهما كبقية الحضارات الأخرى الضعيفة والمتأرجحة، وتعتزان بحضارتهما.
وتوقع صراعاً قادماً بين الغرب والإسلام بسبب عدم القدرة على التوافق فيقول: (أربعة عشر قرناً.. أثبتت أن العلاقات بين الإسلام والمسيحية كانت غالباً عاصفة، كل واحد نقيض للآخر).(12)
أما عوامل الصدام القادم بين الغرب والإسلام، بعد أن يقوم بتشويه حقائق التاريخ والعوامل الموضوعية في ماهية الصراع، فيدعي أن عوامل مختلطة مشابهة زادت من الصراع بين الإسلام والغرب في القرن العشرين:
1 ـ النمو السكاني للمسلمين خلق بطالة لعدد كبير، وهؤلاء الساخطون من الشبان الذين جندوا للأهداف الإسلامية، ومارسوا ضغوطاً على المجتمعات المجاورة، وهاجروا إلى الغرب.
2 ـ الإحياء الإسلامي أعطى للمسلمين إعادة الثقة في أهمية حضارتهم وقيمهم، مقارنة بتلك التي في الغرب.
3 ـ جهود الغرب في جعل قيمهم ومؤسساتهم عالمية، والمحافظة على تفوقهم العسكري، والتدخل في صراعات العالم الإسلامي، خلقت ازدراء شديداً بين المسلمين.(1/86)
4 ـ انهيار الشيوعية حوّلت العدو المشترك للغرب وللإسلام، وترك كل واحد، يرى الآخر مصدر تهديد له.
5 ـ الاتصال المتزايد بين المسلمين والغربيين، ولّد في كل واحد منهما شعوراً جديداً بهويتهم، وكيف أن هذه الهوية مختلفة عن الآخر. التفاعل والتمازج فاقم الاختلافات حول حقوق أعضاء الحضارة الواحدة في بلاد يسيطر عليها أعضاء من الحضارة الأخرى. وفي كلِّ من المجتمعين المسلم والمسيحي انحدر التسامح مع الآخر بشكل حاد في الثمانينات والتسعينات).(13)
ويتحدث هنتغتون عن أن أسباب تجدد الصراع بين الإسلام والغرب اليوم (يكمن في التساؤلات الأساسية للقوة والثقافة. من الذي يحكم؟ القضية الأساسية حددها لينين، هي في جذور الصراع بين الإسلام والغرب. ولكن هناك صراع إضافي يعتبره لينين غير ذي معنى، بين رؤيتين مختلفتين لما هو الصح، وما هو الخطأ. وحيث إن الإسلام يبقى إسلاماً (سيبقى)، والغرب سيبقى غرباً (مشكوك فيه) هذا الصراع الأساسي بين حضارتين عظيمتين سيستمر، لتحديد علاقاتهما في المستقبل مثلما في السابق خلال الأربعة عشر قرناً).(14)
ومن مسببات الصراع القادم بين الحضارتين يقول هنتغتون: (المشكلة في الغرب ليس هي الأصولية الإسلامية، المشكلة الإسلام، حضارة مختلفة وشعوبها مقتنعة بتفوقها الثقافي وواعية بدونيّة موقعها. المشكلة بالنسبة للإسلام ليست المخابرات الأمريكية أو وزارة الدفاع أو الخارجية الأمريكية. المشكلة للغرب حضارة مختلفة، شعوبها مقتنعة بعالمية ثقافتها، واعتقاد هذه الشعوب بتفوقها. القوة تجبرهم بالالتزام لتوسيع تلك الثقافة من خلال العالم. هذه هي المكونات الأساسية والتي تشغل الصراع بين الإسلام والغرب).(15)(1/87)
وينسى هنتغتون أن الغرب بحضارته، كان وراء تدمير معظم الشعوب الإسلامية اقتصادياً واجتماعياً، حين استعمر بلادهم ونهب خيراتهم، وبدّد ثرواتهم، ولا زالت شركاته تسرق بترولهم، وأساطيله الحربية تحتل بحارهم، وقواتهم تحمي أنظمة مرفوضة من شعوبها. وارتكب جريمة في حق الإسلام والعروبة، حين زرع كياناً استيطانياً، سلّحه بأقوى الأسلحة، ودعمه. ليمارس التدمير والقتل والتشريد، واستنزاف مداخيل الدول المجاورة له، والتي كان لها أن تعود بتنمية شعوبهم ورفاهيتها، لولا وجود هذا الصراع مع الكيان الصهيوني.
وخلال الوجود الاستعماري في القرنين التاسع عشر والعشرين، كان التركيز الثقافي والسياسي الاستعماري يعمل على فصل الدول العربية والإسلامية عن موروثها من القيم والسلوكيات والثقافات، التي أنتجتها من خلال زرع القيم والسلوكيات الغربية. كما هي اليوم فرض النمط السلوكي الغربي على البلاد العربية والإسلامية.
ونورد هنا لقول وزير فرنسي في عام 1900، يتفاخر بفصل تونس عن باقي شقيقاتها من البلدان الإسلامية والعربية من خلال فرض النمط الغربي عليها فيقول: (تمكنا بواسطة ما أدخلناه من التعديلات الطفيفة شيئاً فشيئاً، وأجريناه من المراقبة على شؤون الأمور الإدارية والسياسية من التداخل في شؤون البلاد والقبض على أزمتها بدون شعور أهلها. تم هذا الانقلاب بسرعة ولين فلم يتألم منه الأهلون، ولم تنخدش له احساساتهم..) ويقول: (وجملة القول أن انقلاباً عظيماً حدث بدون أن يجر وراءه ألماً أو توجعاً أو شكوى، بحيث وطدت الآن دعائم السلطة المدنية من غير أن يلحق بالدين مساس، وتسربت الأفكار الأوروبية بين السكان بدون أن يتألم منها الإيمان المحمدي، واقترنت السلطة الفرنسية بالسلطة الوطنية اقتراناً لم تغشه سحابة كدر.(1/88)
إذن يوجد الآن بلد من بلاد الإسلام قد ارتخى، بل انفصم الحبل بينه وبين البلاد الإسلامية الأخرى الشديد الاتصال بعضها ببعض. إذن توجد أرض تنفلت شيئاً فشيئاً من مكة ومن الماضي الآسيوي. أرض نشأت فيها نشأة جديدة، أنبتت قضائها وإدارتها وعاداتها وأخلاقها، أرض يصح أن تتخذ مثلاً يقاس عليه، ألا وهي البلاد التونسية).(16)
وينسى أن الغرب وحضارته، كان وراء تدمير المشروع العربي القومي النهضوي منذ مائة عام، وحارب مشاريع وحدوية وساعد في تدمير نهضته الثقافية والاقتصادية والسياسية. ولا زال الغرب يحارب أي مشروع وحدوي، ويفكك أي تجمع إقليمي عربي، ويسعى لإفشاله.
ويحذر هنتغتون من تطور القوى العسكرية الإسلامية والصينية وهما الحضارتان المتحديتان للغرب، بل يحذر من تعاون أكيد بين الإسلام والصين لمواجهة الحضارة الغربية، علماً أنها أكذوبة يسوقها هنتغتون للجمهور الغربي لخلق حالة من الهلع والخوف المستقبلي من تلك الحضارتين. فالإسلام لا يشكل دولة كالصين، بل دول متعددة الأشكال والأنظمة السياسية، وينتهج معظمها النمط الغربي سياسياً وتشريعياً. أما الدول التي تتبع الشريعة الإسلامية فهي لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة. وهذا ما ينسف كل مقولة هنتغتون في التحالف الإسلامي الصيني المستقبلي. كما أن الصين تنتهج النظام الشيوعي، ولا يقوم نظامها السياسي على تعاليم كونفوشيس.(1/89)
وأخطر ما تحمل أفكار هنتغتون هو تحذيره للغرب من النمو الديمغرافي للمسلمين، وفي رأيه هذا سيؤدي بالشباب المسلم نتيجة البطالة إلى تكوين مجموعات متمردة وعنيفة داخل مجتمعاتها. كما يدفع هؤلاء إلى الهجرة إلى بلاد الغرب الأوربي والأمريكي، وهنا تكمن الخطورة على الغرب من هذه الهجرة. فالإسلام كما يصوره هنتغتون يحرض على العنف وسفك الدماء، وأن المسلمين متورطون في أعمال العنف أكثر من كل شعوب الحضارات الأخرى. والسبب كما يدعي هي صعوبة اندماجهم مع شعوب الحضارات الأخرى. لهذا فالإسلام مصدر عدم الاستقرار في العالم.
ولا غرابة أن يتوافق طرح هنتغتون مع ما كتب وبشر به نتنياهو في كتبه الثلاث:
1 ـ الإرهاب الدولي.
2 ـ الإرهاب كيف يمكن للغرب أن ينتصر؟
3 ـ محاربة الإرهاب كيف تستطيع الديمقراطيات هزيمة الإرهابيين المحليين والدوليين؟
والتي تضمنت خوفه على الغرب وحضارته من الإسلام، الذي يشكل في رأيه إرهاباً خطيراً في العالم، بما يحمل من وسائل دمار وعدوان وحقد على حضارة الغرب وديمقراطيته. ويدعو قادة الغرب إلى مواجهة الهجرة الإسلامية، وإلى أسلمة بعض الغربيين. معتبراً الهجرة الإسلامية مقتل الغرب، لما يحمل المهاجرون المسلمون من تعاليم مدمرة لديمقراطية الغرب وحضارته.
وليس هنتغتون ونتنياهو فقط في هذه الزفة، فظاهرة اليمين المتطرف المعادي للمهاجرين المسلمين في الغرب، تطالب هي الأخرى بطرد المهاجرين، وإعادتهم إلى بلادهم. مع العلم أن إحصائيات الأمم المتحدة تدعو إلى الهجرة إلى الشمال الأوروبي بسبب التناقص السكاني في أوروبا. وما ظاهرة جان ماري لوبان في فرنسا ودعواته المعادية للمهاجرين، إلا شاهداً على العداء المشترك ضد الإسلام والمهاجرين بين الصهيونية واليمين المتطرف وأنصار الصهيونية في الكنيسة البروستانية الأمريكية.
?
* الفصل الثالث
صدام سلوكيات لا صدام حضارات(1/90)
الحضارة هي إنتاج إنساني لأمة معينة، ومظهر لرقيّها الفكري والفني. ولم يتحدث التاريخ عن أمة حجبت حضارتها عن الأمم الأخرى، إلا لفترة معينة من الزمن، أو لظرف يستحيل بها الوصول إلى الآخرين. كما هي حضارات الهنود الحمر بسبب عدمية وسائل المواصلات آنذاك. ولكن الآن بدأ العالم يتواصل معها بتعرفه على تلك الحضارة من خلال المكتشفات الآثرية لأوابدها. أي أن الحضارات تتمازج وتتواصل ولا تتصادم، بل أن معظم الحضارات القديمة والحديثة أثرت وتأثرت بالمجتمع الإنساني كله.
فالحضارة الإغريقية تناقلت إنتاجها الفكري والفني حضارات مختلفة، وأسهمت الحضارة الإسلامية بإعادة إنتاجها من جديد، وقدمتها للإنسانية أجمع، لا تزال تؤثر إلى يومنا في فكر الشعوب. وكذلك الحضارات القديمة في بلاد الرافدين ووادي النيل وفارس والرومان، والحضارة العربية الإسلامية والهندية والصينية وصولاً إلى الحضارة الغربية الحالية، فهي بعد إنتاجها تعود ملكيتها للإنسانية وعلى مر العصور.
والصدام بين الحضارات كما يطرحه بعض مفكري الغرب وساستهم والصهاينة اليوم، هو أكذوبة على التاريخ والعقل. فالشاهد التاريخي يكذب ذلك، والعقل بما يحس ويلمس يستنكره أيضاً. إذاً أي صدام يريدون؟ إنه صدام سلوكيات ثقافية التي أنتجتها الحضارات، وهذا ما يحدث حقاً اليوم. حين تحاول أمة أو دولة فرض سلوكياتها، وأنماط حياتها على شعوب وأمم أخرى. وليس صدام حضارات.(1/91)
أنتجت الحضارة الإسلامية سلوكاً ثقافياً يتباين بما أنتجته الحضارة الغربية من سلوك ثقافي، ولكن قد تتلاقى في البعض، إلا أنها تختلف في الكثير. فالإسلام طرح قيماً وسلوكيات عالية القيمة في الشكل والمضمون. فأقر حرية الإنسان في الاختيار بدءاً من الدّين وانتهاء بأبسط أشكال الحياة. ففي حرية المعتقد ينطلق الإسلام من قوله تعالى (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغيّ..( وصولاً إلى حرية اختيار السكن والموطن والزوجة والعمل وغيرها من الاختيارات الأخرى. إلا أنه وضع ضوابط لهذه الحرية بحيث لا تهدد المجتمع، ولا ركائز الدين، وأوجد مجموعة من المثوبات والعقوبات في الدنيا والآخرة، لمن يحسن السلوك ولمن يسيء إليه.
في حين أنتجت الحضارة الغربية سلوكاً محموداً كالديمقراطية وحقوق الإنسان إلا أنها في جانب آخر أطلقت العنان للرغبات الفردية دون أي ضابط، حتى لو أدت إلى تدمير المجتمع. وباحت للحرية الفردية أن تقوم باستغلال الآخرين بما فيهم الشعوب. هذا نتاج السلوك الثقافي للحضارة الغربية، فالاستغلال سمة الحضارة الرأسمالية الغربية.
وكذلك الحضارة الإسلامية جمعت في إطارها الثقافي بين المادة والروح، بينما ركز السلوك الغربي على المادة في معظم العلاقات الإنسانية. والإسلام أعطى للأسرة منزلة عالية في العلاقات الزوجية، وعلاقات الولد بأبيه وأمه، أو في علاقة الأب والأم بالأبناء حيث جعل بينهما مودّة ورحمة. فرفض أية علاقة جنسية خارج إطار الأسرة، وحارب الإباحية، وشدّد العقاب عليها في الدنيا والآخرة. ورفض ولادة أبناء خارج السير الزوجي الشرعي من باب حماية المجتمع والفرد معاً. ووجد في الشذوذ الجنسي خروجاً عن مسار الطبيعية البشرية، واعتبره جريمة كبرى، ومن الكبائر في الدنيا والآخرة.(1/92)
أما الحضارة الغربية أباحت سوكاً متبايناً مع الإسلام، فهي أطلقت الإباحة الجنسية إلى حدّ الغلو. فعلى فراش المرأة تجد أولاداً غير شرعيين من أكثر من رجل واحد. وقد يمضي الرجل والمرأة سنين طويلة في علاقات جنسية، ينتج عنها ولادة أطفال، دون أن يثبّتا عقد زواج بينهما، ويبقى الأطفال غير شرعيين، ينسبون في أكثر الأحيان إلى عائلة الأم. وأعطيت الفتاة حرية في بناء علاقات جنسية منذ بلوغها الثامنة عشر، فلا يستغرب الأب، أن تنام في بيته ابنته وصديقها (بوي فرند)، ويمارسان أمامه علاقات غرامية.
وقد وصل إلى رئاسة الولايات المتحدة عدد من الرؤساء، تمّ تبنيهم من آخرين غير آبائهم الحقيقيين، مثل رونالد ريغن وبيل كلنتون. وهذه العلاقة طبيعية في السلوك الثقافي الغربي ومباح بها، في حين هي من أشد المحرمات في الإسلام.
والسلوك الغربي أباح للشاذين إقامة علاقات علنية، وسمح لهم بالزواج الشاذ في الكنيسة، وتم تقليدهم مناصب رفيعة في الدولة فمنهم وزراء وسفراء وأعضاء في البرلمانات الغربية، وسنّت تشريعات بحماية الشاذين والشاذات. وقد أقر البرلمان البلجيكي يوم الجمعة في 31/1/2003 بالغالبية (91 نائباً ومعارضة 22 نائباً وامتناع 9 أعضاء) مشروع قانون يسمح بالزواج بين شخصين من الجنس نفسه، وأعطي اللوطيين والسحاقيات الحقوق نفسها التي يتمتع بها الأزواج الآخرون، خصوصاً في ما يتعلق بالملكية والإرث. وعلق وزير العدل البلجيكي (مارك فيروبلغهن) على ما أقره برلمانه من السماح بممارسة الشذوذ علناً قائلاً: (العقليات تطورت وبالتالي ما من سبب لعدم السماح لزوجين من الجنس نفسه بالزواج)(17) ويعتبر البرلمان البلجيكي الثاني بعد البرلمان الهولندي والحبل على الجرار.(1/93)
ولفرض هذا السلوك الشائن على المجتمع العربي والإسلامي والذي تحاربه كل المعتقدات الروحية، ويعتبره الإسلام من أكبر الجرائم التي تنافي السلوك البشري وتدمير قيم المجتمع وتنشر الفساد والرذيلة والانحطاط الاجتماعي. فقد بدأت الضغوط تمارس على بعض البلدان الإسلامية التي تكافح هذه الرذيلة، وتعمل على ردع اتباعها.
وأثناء محاكمة هؤلاء الشواذ في مصر، فوجئت المحكمة بحضور مندوبين عن سفارات كل من فرنسا والولايات المتحدة وكندا والدانمارك وسويسرا في القاهرة للمحاكمة، والأغرب من ذلك، قيام سفير الدانمارك بزيارتهم في السجن، وعرض عليهم اللجوء ليمارسوا حريتهم في اللواطة في بلاده. كما خرجت مظاهرات في كل من الولايات المتحدة وأوربا، تندد بمصر لاعتقالها تلك الخلية الفاسدة.(18)
ولنشر هذا السلوك الفاسد في البلدان العربية والإسلامية، تم الإعلام عن تنظيم للشواذ الجنسي في المغرب بدعم غربي، بل تمت الدعوة لعقد مؤتمر للشواذ في مراكش في شباط 2003، تكريساً لإفساد المجتمع المغربي العربي المسلم. وتم عرض فيلم مغربي بعنوان "لحظة ظلام" تصور فيه مشاهد للشذوذ الجنسي تشجيعاً لممارسته علانية في المغرب. كما تم إحداث تنظيمات من نفس النوع بأسماء عربية وإسلامية في الولايات المتحدة تحت مثل (الفاتحة) و(السواسية) و(الكلمة)(19). إنها حرب بين سلوك الفضيلة الذي يدعو له الإسلام، وسلوك الانحطاط والرذيلة الذي يدعو له الغرب.(1/94)
وفرض الإسلام سلوكاً على الجار تجاه جاره، وطلب منه أن يؤدي له الرعاية والاحترام مع التواصل والزيارة. وبالغ الإسلام في العناية بالجار، وضرورة تفقد أحواله، إلى حدود ربط إيمان الفرد في علاقته الحسنة مع جاره. كما جاء في قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [والله لا يؤمن من بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم]. ولم يحدد رسول الله (() دين الجار ومذهبه. بل يكفي أن يكون جاراً سواء أكان مسلماً أو مسيحياً أو يهودياً، فالسلوك الإسلامي المطلوب تقديم الرعاية والمودة والإحسان. أما في الغرب قال أحد ساسته: (لقد استطعنا أن نوصل الإنسان إلى القمر ولم نتمكن من إيجاد علاقة بين الجار وجاره).
إن السلوك الحضاري الإسلامي حافظ على البناء الاجتماعي بغية التماسك، وخلق مجتمع تكافلي تضامني. بنيت أسسه على الزكاة، والإحسان، والصدقة، وطاعة الوالدين وأولوا الأمر ما داموا يقيمون شريعة الله، وإغاثة الملهوف، ورعاية اليتيم وتقديم الدعم المادي والمعنوي للفقير والمسكين، والقول الحسن للناس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومحاربة المخدرات والخمر والقمار، والإسراف والبخل، ورفض التعامل بالرّبا والتشديد على محاربته، كل ذلك من أجل بناء سلوك ثقافي أنتجته الحضارة الإسلامية.
وفي العلاقات الدولية أظهرت الحضارة رفضها لسلوك العدوان، واغتصاب أراض أو حرية الغير، وبناء أفضل العلاقات الإنسانية والاقتصادية مع دول العالم، ورفضت أي اعتداء على أراضيها ومواطنيها وحدودها، وجعلت من السلوك الدفاع عن الوطن والأمة، بل من السلوك مساندة الشعوب المناهضة للاستعمار والاستبداد.(1/95)
وأنتجت الحضارة الإسلامية سلوكاً خاصاً في الحروب، بحيث لا تعتدي الدولة الإسلامية كما أسفلنا، بل ترد العدوان، ولا تستخدم الإبادة الكلية للخصم، فمن وصية أبي بكر لجيشه بعدم الترويع والإسراف في القتل، والابتعاد عن الشيوخ والنساء والأطفال ورفض هدم المعابد والبيوت للخصم، أو قطع أشجاره، وتدمير بيوته. ومن السلوك الإحسان للأسرى وضرورة حسن معاملتهم، والحفاظ عليهم.
في حين أنتجت الأنظمة الغربية سلوك العدوان والاغتصاب، وأوجدت ظاهرة الاستعمار والهيمنة، واستخدمت الإبادة الجماعية، ولا يزال كتّاب الغرب أنفسهم، يتحدثون عن سلوكهم الدموي الذي مارسه جنودهم وغزاتهم. ومن شواهد التاريخ على السلوك البربري، المذبحة التي قام بها الصليبيون حين دخلوا مدينة القدس العربية في عام 1099م.
وهذه وثيقة كتبها أحدهم عن تلك المذبحة: (بعد أن سقطت المدينة وقعت المذبحة، إذ ذبح كل المسلمين ـ رجالاً ونساء وأطفالاً ـ فيما عدا الحاكم وحرسه الذين تمكنوا من افتداء أنفسهم بالمال، وتم اصطحابهم إلى خارج المدينة. وفي معبد سليمان وحوله "خاضت الجياد في الدم حتى الركب بل وحتى اللجام. إن حكم الله عادلاً ورائعاً. إن هذا المكان نفسه، الذي ارتفعت خلاله هرطقات هؤلاء المجدفين في حق الله، هو الذي يتلقى الله دماءهم فيه الآن". أما بالنسبة ليهود القدس فحين اجتمعوا في معبدهم الرئيسي أضرمت فيه النيران وحرقوا جميعاً أحياء.
وقد سار الصليبيون في مواكب النصر إلى كنيسة القبر المقدس، وهم يبكون فرحاً، ويغنون أغاني الشكر لله: "أيها اليوم الجديد، أيها اليوم الجديد، أيتها البهجة، أيتها البهجة، أيها الفرح الجديد الدائم.. ذلك اليوم، خالدة ذاكراه طوال القرون الآتية، حوّل كل عذابنا ومصاعبنا إلى فرح وبهجة، ذلك اليوم: تثبيت أكيد للمسيحية، ومحق للوثنية، وتجديد لإيماننا).(20)(1/96)
ويذكر الكاتب الأمريكي كافين رايلي، إن الصليبيين الذين "حكموا القدس من 1099 إلى 1185، أدركوا أن المسلمين أشد منهم تسامحاً بكثير. ويروي أسراهم عن السلوك الإسلامي المغاير لسلوك الصليبيين، فيحكي أحد الأسرى، واسمه (أوليفروس المدرسي (عن كرم السلطان الملك الكامل الذي هزم جيشاً من جيوش الصليبيين الغازية المتأخرة، ثم أعطى الناجين منهم الطعام: "من يمكن أن يشك في أن مثل هذا العمل الطيب والصداقة والأريحية هو من عند الله؟ إن الرجال الذين قتلنا آباءهم وأبناءهم وبناتهم وأخواتهم، وقضوا نحبهم يتعذبون، والذين استولينا على أراضيهم، والذين سقناهم عرايا من بيوتهم، أعطونا من طعامهم، وأبقوا على حياتنا عندما كنا نتضور جوعاً، وغمرونا بعطفهم حتى ونحن تحت رحمتهم).(21)
ويذكر الكاتب الأمريكي كيف عامل صلاح الدين الأيوبي الأسرى من الصليبيين حين استعاد القدس في عام 1187م من الاحتلال الصليبي فيقول: (فإن صلاح الدين عامل ذراري الصليبيين الأوائل في القدس بسخاء عظيم، فسمح للقادرين منهم بشراء حرياتهم، وأعتق فقراءهم بدون مقابل. بل إن صلاح الدين أمر بعد ذلك بتوزيع تركته بين فقراء المسلمين واليهود والمسيحيين على السواء).(22)
ورغم هذا السلوك الإنساني العالي من القيم الرفيعة المبني على تعاليم الإسلام الذي قام به صلاح الدين، فإنه لم يغير من سلوك الوحشية والبربرية، الذي اتسم به الغرب. فقد قام ريتشارد الأول (قلب الأسد) ملك إنجلترا أثناء حملته لاستعادة القدس بجرائم تقشعر لها الأبدان، فقد أمر بذبح وقتل ما بين ألفين وثلاثة آلاف من أسرى المسلمين، والغريب أنه قام ببقر أجسامهم بحثاً عن الذهب، الذي ظن أن بعضهم ابتلعه، ثم أمر بإحراق جثثهم، ثم البحث بين الرماد عن الذهب).(33)(1/97)
وقد اعترف عدد من كتّاب الغرب بتأثر الغرب بالسلوك الإنساني الروحاني ذو القيم الرفيعة، من خلال الاحتكاك الذي حدث بين الطرفين العربي الإسلامي والغربي في الحروب الصليبية. فكتب ستاندال في كتابه (في الحب) يقول: (لقد كنا ـ نحن الغربيين ـ برابرة في نظر الشرق، حينما أزعجناه في حملاتنا الصليبية، ولذا نحن مدينون إلى الصليبيين وعرب أسبانيا بكل ما هو نبيل في عاداتنا وتقاليدنا).(24)
ومن السلوك البربري والوحشي الممتد من تلك الحقبة هو ما تقوم به الولايات المتحدة، بإبادة شعوب ضعيفة فلم تتورع في استخدام أسلحة الدمار الشامل بغية تحقيق أهدافها، دون أن يردعها أي وازع ديني أو أخلاقي. وهناك الكثير من الشواهد في فيتنام وفلسطين والجزائر واليابان وكوريا وأفغانستان وغيرها. بل من السلوك الأمريكي أن يوصف شارون مرتكب جرائم قبية وصبرا وشاتيلا وجنين وطولكرم وغزة وغيرها، ومحترف التدمير الشمولي من قبل أكبر رئيس دولة غربية بأنه رجل سلام، في حين يعتبر المقاوم الفلسطيني إرهابي. ويطالب الفلسطيني المدافع عن نفسه وأرضه بوقف إطلاق النار، وهو لا يملك إلا سلاحاً فردياً، ويبارك العسكري الصهيوني بقتله الفلسطينيين بدم بارد، ويقتلع الأشجار، ويهدم البيوت على رؤوس أصحابها، ولم تسلم من شره حتى سيارات الإسعاف، أو ترك الجرحى ينزفون حتى الموت. وأن تستخدم كل الأسلحة المتطورة ضد الفلسطينيين.
وظهر السلوك الحضاري الغربي مؤخراً في الحرب التي تشنها الولايات المتحدة في أفغانستان، فتم استخدام قنابل تحمل عشرات الأطنان من المتفجرات، رميت بها قرى أفغانية آمنة، قتل فيها كل ذي روح، وهدمت بيوت فقيرة من الطين واللبن على رؤوس أصحابها.(1/98)
وشهد العالم من خلال وسائل الإعلام المرئية كيف كانت الأنظمة الغربية وخاصة الأمريكية في معاملتها لأسرى مقيدون بالسلاسل، وبسجون مغلقة عليهم الأبواب وحشروا كالحيوانات في قلعة (جانجي). وكيف قصفوا بالطائرات والمدافع دون رحمة ولا شفقة، وأبيد في ساعات ما يقارب خمسمائة أسير. تلك هي الحضارة الغربية المدمرة وساحقة لكل القيم والشرائع، وحتى بقوانين، هي وضعتها كقوانين جنيف التي تحمي الأسير من المعاملة السيئة.
وشهد صحفي بريطاني شهير (روبرت فيسك) على تلك المذبحة البربرية، التي يخجل منها المغول في حروبهم. فكتب في صحيفة (الانديبندت البريطانية): (إن الغرب بدأ يتحول إلى مجرم حرب. والدليل على ما فعلته الولايات المتحدة بالسجناء في قلعة قرب مزار الشريف). وتابع يقول في وصف تلك المذبحة: إن الطائرات الأمريكية قصفت مزار الشريف لتمهيد الطريق أمام قوات تحالف المعارضة الشمالية، ليقوموا بقتل نحو ثلاثمائة أسير حرب من الطالبان في القلعة التي حوصروا فيها) ثم ردد مبررات القوات الأمريكية لذبح الأسرى بحجة التمرد. تمردوا.. وهم مقيدون بالسلاسل كما وجدت جثثهم وصورت بوسائل الإعلام، أو البعض منهم في زنزانات السجن فقال: (إن القوات الأمريكية والجنود البريطانيين ساعدوا تحالف المعارضة الشمالية في قمع تمرد الأسرى الطالبان بقتلهم جميعاً).
ثم يعود الصحفي البريطاني لضميره فيقول: (ليس هناك أي مبرر للولايات المتحدة لتساعد على تنفيذ تلك المجزرة) وأشار إلى امتناع مراسلي التلفزيونات الغربية عن عرض صور كافية للمجزرة، واللجوء بدلاً من ذلك إلى عرض الأحاديث بين الجنود الأمريكيين ومقاتلي تحالف الشمال الأفغانية للتغطية على مشاهد المجزرة الرهيبة).(25)(1/99)
ومن السلوك الغربي المتحضر الذي يبشر به العالم، فقد رفض وزير الخارجية البريطاني إجراء أي تحقيق في مجزرة جانجي. كما طلبت منظمة العفو الدولية. وقال إن الحكومة البريطانية لا ترى حاجة لإجراء مثل هذا التحقيق. (وكالات الأنباء يوم الجمعة 30/11/2001). وأدانت منظمة العفو الدولية بشدة في بيان لها صدر يوم السبت 1/12/2001، رفض بريطانيا إجراء تحقيقات في مجزرة جانجي، التي راح ضحيتها أكثر من خمسمائة أسير أفغاني. وقالت المنظمة إن رفض بريطانيا إجراء هذا التحقيق، يضع المملكة المتحدة أمام تساؤلات حول التزامها بالقانون الدولي.
ولتعرية القيم غير الحضارية التي يتشدق بها كتاب الغرب أمثال هنتغتون وفوكوياما، فقد رفض القائمون على تلك السلوكيات الحضارية للغرب التحقيق بهذه الجريمة. على الرغم من كل الطلبات التي قامت بها منظمة العفو الدولية، وكذلك مطالبة مفوضة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان السيدة (ماري روبنسون) في 1/12/2001 بضرورة فتح تحقيق في المذبحة الوحشية. وكان جواب الإدارة الأمريكية التي تتشدق باستمرار في إعلامها الرسمي بحقوق الإنسان الرفض وعدم الاستجابة للنداءات الدولية. فقلل وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد من أهمية المطالبة بفتح تحقيق دولي حول المجزرة، بل أبدى استغرابه وامتعاضه من فتح مثل هذا التحقيق(26). فالقتلى في نظره هم أقل من الحشرات ولا يستحقون أن يسأل عن أسباب ذبحهم وإبادتهم، تلك هي إنسانية حضارة الغرب المتغطرس الذي يملأ الدنيا يومياً صريخاً بحقوق الإنسان وتطبيق القرارات الدولية حول ذلك.(1/100)
وتمثل السلوك الوحشي بمعاملة الأسرى في غوانتنامو حين نقلتهم مصفدي الأقدام والأيدي بالطائرات إلى هذا المعتقل الرهيب، ثم وضعوا في أقفاص لا توضع فيها الحيوانات الشرسة، وتتم معاملتهم بما دون الحيوان. لماذا غوانتنامو وليست سجون الولايات المتحدة. حتى لا يستفيد الأسير من حقوق الأسر والمحاكمة العادلة، بل حتى لا تطبق عليه اتفاقية جنيف التي تحمي أسرى الحرب من هذه المعاملة غير الإنسانية. ولم تعر الإدارة الأمريكية أي اهتمام للنداءات التي وجهتها المنظمات الدولية للمعاملة وفق اتفاقية جنيف الدولية.
وليس غريباً هذا السلوك الأمريكي تجاه من يرفض هيمنتها وسيطرتها واحتلالها، فقد تم بهذا تطبيق هذا السلوك على فيتنام حين تمت إبادة الأرض والإنسان معاً، حيث قدر خبراء الحرب أن الولايات المتحدة ألقت طن من الديناميت على كل دونم من الأرض في فيتنام، كما ذبح عشرات الألوف من أبناء فيتنام فقط لأنه قاوموا الاحتلال الأمريكي، وأيضاً استخدمت الولايات المتحدة أقفاص الحيوانات للأسرى الفيتناميين.
ونذكر هنا السلوك الأمريكي المتشدق بالحرية كيف مات ما يزيد على مليون طفل عراقي بسبب الحصار الذي فرضته أمريكا على شعب العراق. ثم أكملته بقتلها عشرات الألوف من العراقيين حين احتلت العراق، واعتقلت باعترافها ما بين الثلاثة آلاف والأربعة آلاف من أبناء الشعب العراقي، وعاملتهم معاملة لا تليق بالحيوان ولا بالإنسان، حين داهمت بيوتهم في منتصف الليالي، ووضعت على رؤوسهم أكياس سوداء، وصفدت أياديهم، واستخدمت التعذيب والإذلال معهم، ولم يسلم من شر هذا السلوك العدواني لا شيخاً ولا طفلاً ولا امرأة.
?
* الفصل الرابع
السلوك الأمريكي التصادمي
مع العروبة والإسلام(1/101)
يذكر الكاتب الأمريكي كافين رايلي في كتابه (الغرب والعالم)، إن الولايات المتحدة الأمريكية تتسم بميل خاص إلى العنف والنمو الأشد تطرفاً للحضارة الغربية الأوربية. ويعيد أسباب ذلك إلى الجذور، التي ينحدر منها الأمريكيون. حيث يؤكد انحدار الأمريكيين من البرابرة عشاق الدماء فيقول: (لقد انحدر جميع الأمريكيين البيض (في جانب كبير على الأقل) من القبائل البربرية التي اجتاحت روما وأوروبا من سهوب آسيا. وقد كان أسلافنا هؤلاء جحافل جامحة).(27) ويقول: (إن الأسلاف القبليين كانوا دون شك ـ من "برابرة" وهذه الكلمة ملائمة، فقد كانوا همجاً بالمعنى الذي يستعمله اليونان والرومان).(28)
ولقد ذكرنا في مطلع البحث أن الولايات المتحدة الأمريكية بعد بضع سنين على استقلالها، هاجمت الشمال الأفريقي العربي، دون مبررات له سوى توفير حرية الملاحة لسفن كانت تحمل الأفيون لتجار بوسطن. ولتؤكد على جذرها البربري التاريخي الذي أشار إليه الكاتب الأمريكي كافين رايلي؛ لا زال نشيد بحريتها يمجد تلك الحروب على قذارة أسبابها، وبدون خجل، من أنها قامت من أجل تجارة الأفيون.(1/102)
ومن الجرائم التي ارتكبتها الولايات المتحدة بحق العرب والمسلمين، هو دعمها المطلق بدون حدود للكيان الصهيوني، ولممارسات حكامه في القتل والتشريد والطرد والإذلال اليومي للفلسطينيين؟ فمنذ بدء المؤامرة الصهيونية في القرن الماضي، ساندت بقوة إقامة كيان صهيوني سرطاني في قلب الأمتين العربية والإسلامية، حين مارست ضغطاً هائلاً على الحكومة البريطانية، من أجل الإسراع بإصدار وعد منها لإقامة كيان صهيوني في فلسطين قبل نهاية الحرب العالمية الأولى. وقدمت للكيان كل مستلزمات النشوء حين ظهر في عام 1948، وقدمت له كل متطلبات القوة، ليغدو قوة ضاربة. التي ترهب المنطقة، وجعلته مخفراً متقدماً لرعاية مصالحها، ولا تزال تقدم كل أشكال الرعاية والحماية له إلى يومنا هذا. وهي تبارك عدوانه وقتله واغتصابه.
هذا السلوك الغربي الحضاري أدى إلى إخراج الملايين من أراضيهم، وتشريدهم في بقاع العالم، وإحلال بدلاً عنهم غرباء تم جمعهم من أنحاء الأرض.
وعلى مرأى العالم تساند جرائمه الدموية، بالرغم من نقل تلك الجرائم على شبكات تلفاز العالم، ضاربة عرض الحائط كل القرارات الدولية، حتى لجنة التحقيق الدولية المشكلة من الأمين العام للأمم المتحدة حول كارثة جنين، وقفت إلى جانب الكيان الصهيوني، بمنعها من الوصول إلى جنين، وكانت وراء حلها دون أن تمارس عملها.
إن السلوك الثقافي للولايات المتحدة في قضية الصراع العربي/ الصهيوني وحده دليل على أنه سلوك بربري، لا يحمل في ثناياه أي جانب إنساني، فشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان تسقطها أمريكا في هذه القضية، حين ترعى العدوان، وتناصر الباطل، وتحمي المجرم، وتدافع عن السفاح.
الإسلام والحرب الجديدة عليه(1/103)
حين كانت الشيوعية العدو الأول للولايات المتحدة، أرادت أمريكا استخدام الإسلام، ليكون شريكاً لها في حملتها على الشيوعية، فأنشأت المخابرات المركزية الأمريكية في بداية الثمانينات دائرة خاصة بها أطلقت عليها (الدائرة الإسلامية). وزادت من قواتها المسلحة على حدود بلدان آسيا الجنوبية الغربية وأفريقيا الشمالية، وعززت تواجدها في البحر الأحمر والخليج العربي والبحر الأبيض المتوسط، وبدأت تثير المشاعر الدينية الإسلامية ضد الشيوعية، وقدمت دعماً لا محدوداً لما يطلقه عليه آنذاك المجاهدين في أفغانستان، فمولتهم بالسلاح والمال والدعاية والإعلام والتدريب، وكتبت نعوم تشومسكي: (أن المخابرات المركزية دعمت في أفغانستان أكثر المقاتلين تعصباً من بين الذين أمكنها تعبئتهم ضد السوفييت، ولكن عدداً قليلاً من الناس يعلم أن واشنطن، استمرت في تقديم الدعم العسكري للمشاركين في حرب العصابات، بعد انسحاب السوفييت من أفغانستان في شباط عام 1989. وكان هدفها تنسيق عملية إسقاط حكومة نجيب الله الاشتراكية. وقدمت للمجاهدين بعد جلاء الروس عبر باكستان إمدادات أنظمة نزع الألغام (لايتفوت) وصواريخ (ستينغر) المضادة للطائرات، ومدافع هاون إسبانية 120 مم وأسلحة أخرى). هذا حين كان المجاهدون المسلمون يخدمون مصالحها. ولكن الأمر اختلف حين تصادمت المصالح بين الطرفين، وأصبح تعارضاً في التوجهات متعاكسة، غدا المجاهدون إرهابيين في نظر الولايات المتحدة.
ووجهت دعايتها في الثمانينات للاحترام المخلص للحضارة الإسلامية ولثقافتها، وشن مدراء الجامعات والوزراء والعلماء في الغرب والولايات المتحدة خاصة حملة لإقناع ملايين المسلمين بخطورة الشيوعية وضرورة تحالف الغرب بزعامة أمريكا ضد العدو المشترك. وفي حزيران 1982 أطلق الرئيس الأمريكي حملة ضد الشيوعية تحت عنوان (حملة صليبية على الشيوعية).(1/104)
ولكن في بداية القرن الحالي قلبت أمريكا ظهر المجن فأصبح الشعار (حملة صليبية ضد الإسلام). لماذا؟
فقد انتهت الشيوعية ولم يبق إلا الإسلام كما قال جورج بوش الأب في عام 1991. فبعد هذا العام يجب أن يتغير النمط السلوكي في العالم وفق نمط ورغبات الولايات المتحدة. إلا أن الإسلام باعتباره يملك سلوكاً ثقافياً عالياً وغير قابل للتغير وفق الأهواء الأمريكية بدأت حالة التصادم.
فشنت الحملات والافتراءات على الإسلام واتهامه برفضه للتقدم والتطور، ومصدر للإرهاب الدولي. ولم تترك الحملة جانباً إلا وحاربت فيه الإسلام، فاعتبرت المدارس الدينية مدارس إرهاب، ودعت إلى إغلاقها. وطلب من وزير التعليم في السعودية تغيير المناهج الدينية، بما يتلاءم والنمط الأمريكي. أي ليصبح تعليماً دينياً أمريكياً. يحذف ما يريد من آيات القرآن، ويراد أن يكتب القرآن وفق المزاج الأمريكي. وكذلك يقتصر تلاوته في البيوت والمساجد فقط. وقد يقترح بدائل عن آيات قرآنية خاصة منها، التي تكشف سلوك اليهود المتصف بقتل الأنبياء والخداع والتضليل والكذب أو الداعية للجهاد ضد الطغاة والمستعمرين، بآيات أخرى توافق السلوك الأمريكي الصهيوني.
وبضغط كبير وشديد من الرئيس جورج بوش الابن على الحكومة الباكستانية، لتغيير مناهج التعليم الديني، وضبط المساجد فيها بما يخدم المصالح والسلوكيات للولايات المتحدة. وجّه الرئيس برويز مشرف كلمة لشعبه في 1/1/2002 بمناسبة العام الجديد تضمنت تطبيق التعليمات الأمريكية حول المنظمات الإسلامية والتعليم الديني والمساجد ومنها:
1 ـ حظر التنظيمات الإسلامية التي تقاتل الهند من أجل تقرير المصير للشعب الكشميري أمثال جيش محمد والحزب الجعفري من العمل في الأراضي الباكستانية وتقييد حريتها.(1/105)
2 ـ سيطرة الدولة على التعليم الديني بالكامل، ومنع الجمعيات وغيرها من فتح مدارس التعليم الديني إلا بإشراف الدولة، ومنع أي تعليم ديني مشبوه على حد قوله يدعو إلى الإرهاب.
3 ـ تحديد عمل مكبرات الصوت في المساجد بحيث تصبح فقط للآذان وخطبة الجمعة، وأن توضع تحت رقابة الدولة.
4 ـ الإشراف على المدارس الدينية وخاصة مدارس تحفيظ القرآن الكريم. وعدم فتح أي مدرسة لتحفيظ القرآن إلا برخصة من قبل الدولة.
5 ـ حصر الطلاب الأجانب الذين يتعلمون في المدارس الدينية، وأن يكون وجودهم برخصة من قبل الدولة.(29)
وتم تجميد أموال العشرات من الجمعيات الخيرية في أمريكا، تحت ذريعة دعم الإرهاب. وهذه الأموال ما هي إلا أموال زكاة وصدقات للفقراء والمساكين ولبيوت الله ودور العجزة والأيتام. ومن السلوك الأمريكي سجن المئات من المسلمين في الولايات المتحدة دون أي اتهام موجه له فقط لأنه مسلم.
وهكذا بدأ الصدام بين سلوكيتين إحداهما تدعو للفضيلةـ وأخرى تدعو للطغيان والظلم والهيمنة. ولكن هذا الصراع مهما طال سيكون خيراً على العرب والمسلمين، ليستيقظوا من سبات عميق، ويواجهوا عدواً يريد تمزيقهم، واغتصاب أراضيهم، ونهب ثرواتهم. كما قال سمسون وزير المال الأمريكي الأسبق: (البترول لنا، وما العرب إلا يرقدون عليه). فالأمة العربية والإسلامية مدعوة اليوم إلى اليقظة من مؤامرات صهيونية غربية قادمة تريد حصاد الأخضر واليابس.
?
* الفصل الخامس
نماذج من السلوكيات الإسلامية.
من النماذج السلوكيات التي دعا إليها الإسلام:
…السلوك المفروض على المسلم
من يراجع كتب السير والتاريخ، سيرى كيف كان الرسول (() يطلب من يريد الدخول في الإسلام سلوكاً إنسانياً رفيعاً يقوم على مرتكزات أخلاقية عليا في معاملته لنفسه وأسرته ومجتمعه ومحيطه من المسلمين وغيرهم؟(1/106)
ومن يطلع على كيفية مبايعة الرسول (() من قبل من أراد الدخول في الإسلام فسيرى أنها تبدأ في الإقرار بعدم الشرك بالله أي بالاعتراف بوحدانية الله. وهذا الاعتراف يفرض عليه اتباع سلوكيات أخلاقية عالية، كما وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. ومن السلوكيات التي كان يصر عليها الرسول في البيعة نذكر منها:
ـ عدم السرقة وهي جريمة كبيرة على صغرها، فهي تورع بيوت آمنة، وتأخذ أموال تعب وكدّ صاحبها. وقد تؤدي السرقة إلى إزهاق أرواح بريئة، وجرائم السرقة في العالم تدل على عواقبها السيئة.
ـ وأن لا يزنوا والزنى فاحشة تدمر مؤسسة الأسرة، وتنشر كل أشكال الفساد، وتدمر بنيان المجتمع.
ـ ولا يقتلوا أولادهم والقتل هنا من خشية الفقر أو بسبب عدم القدرة على تربيتهم فقتل الأطفال من الجرائم البشعة والمحرمة في الإسلام.
ـ ويمتنعون عن قول الزّور والكذب والدّس وغيرها.
ـ والعمل بالأمر بالمعروف وهو خلق من أجمل الأخلاق.
ـ والدعوة إلى الفضيلة والبر والإحسان وغيرها من مكارم الأخلاق. كما وردت في الحديث النبوي التالي: [عن عبادة بن الصامت رضي الله قال: بايعت رسول الله (() في رهط فقال: [أبايعكم على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فأخذ به في الدنيا فهو كفارة له وطهور، ومن ستره الله، فذلك إلى الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له].(30)
السلوك الإسلامي في الحروب
من وصايا الرسول (() لأمراء الجيوش وهم زاحفين للحروب جاء في مختار مسلم ما يلي:(1/107)
[كان رسول الله (() إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً. ثم قال: "اغزوا باسم الله في سبيل الله. قاتلوا من كفر بالله. اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً. وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم. ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء. إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا، فسلهم الجزية. فإن هم أجابوك، فاقبل منهم، وكف عنهم، فإن هم أبوا، فاستعن الله وقاتلهم".
"وإذا حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه".
"وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزل على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فأنت لا تدري أتصيب حكم الله فيهم
أم لا").(31)
هذا هو السلوك الإسلامي الداعي إلى مجتمع الفضيلةوالنقاء والسلام، وذاك السلوك الغربي الداعي للنهب والهيمنة واستعباد الشعوب، ومن هنا يكون الصدام في سلوك الثقافات الناتجة عن الحضارات. ولا يوجد صدام الحضارات كما يدعي بعض كتّاب الغرب.
?
المصادر:
1 ـ الإمام محمد عبده ـ الإسلام بين العلم والمدنية - دار المدىـ دمشق ـ 2002 ـ ص22 و23 ـ من مقالة مسيو هانوتو وزير خارجية فرنسا عام 1900 في جريدة "جورنال" الفرنسية عن الإسلام والمسألة الإسلامية، نشرت في المؤيد المصرية.
2 ـ مايكل هدسون ـ مآزق إمبريالية: إدارة المناطق الجامحة ـ المستقبل اللبنانية ـ العدد ـ 284 ـ 10/2002 ـ ص39.
3 ـ الفاينانشال تايمز اللندنية ـ 24/9/2002.(1/108)
4 ـ بوندا ريفسكي ـ الغرب ضد العالم الإسلامي ـ دار التقدم ـ موسكو ـ 1985 ـ ص52.
5 ـ المصدر السابق ـ 52.
6 ـ المصدر السابق ـ 54.
7 ـ المصدر السابق ـ 55.
8 ـ صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي ـ صموئيل هنتغتون ـ ترجمة د. مالك عبيد أبو شهيوة ود. محمود محمد خلف ـ الدار الجماهيرية ـ ليبيا ـ مصراته ـ 1999 ـ ص109.
9 ـ المصدر السابق ـ ص214/ 215.
10 ـ المصدر السابق ـ ص215.
11 ـ المصدر السابق ـ ص217.
12 ـ المصدر السابق ـ ص370.
13 ـ المصدر السابق ـ ص374.
14 ـ المصدر السابق ـ ص374.
15 ـ المصدر السابق ـ ص383
16 ـ الإمام محمد عبده ـ الإسلام بين العلم والمدنية ـ مصدر سابق ـ ص26.
17 ـ السفير اللبنانية ـ العدد ـ 9413 ـ 1/2/2003.
18 ـ قناة اقرأ الفضائية ـ برنامج أقوال الصحف ـ 25/1/2003.
19ـ المصدر السابق.
20 ـ الغرب والعالم ـ كافلين رايلي ـ ترجمة د. عبد الوهاب محمد المسيري ود. هدى عبد السميع حجازي ـ مراجعة د. فؤاد زكريا ـ سلسلة عالم المعرفة ـ 90 ـ المجلس الوطني الكويتي للثقافة والفنون ـ الكويت ـ 1985 ـ ص175.
21 ـ المصدر السابق ـ ص199/ 200.
22 ـ المصدر السابق ـ ص200.
23 ـ المصدر السابق ـ ص201.
24 ـ روجيه غارودي ـ ما يعد به الإسلام ـ دار الوثبة ـ دمشق ـ 1982 ـ ص216.
25 ـ صحيفة الأنديبندت البريطانية ـ 29/11/2001.
26 ـ صحيفة البعث السورية ـ العدد 11650 ـ 2/12/2001 ـ ص10.
27 ـ الغرب والعالم ـ كافين رايلي ـ مصدر سابق ـ ص197.
28 ـ المصدر السابق ـ ص177.
29 ـ وكالات الأنباء ـ 1/1/2002.
30 ـ صحيح البخاري ـ دار العلوم الإنسانية ـ دمشق ـ ج4 ـ ص2337.
31 ـ عباس محمود العقاد ـ مجموعة العبقريات الإسلامية ـ بيروت ـ دار الكتاب العربي ـ 1972 ـ ط1 ـص85.
??
الباب الثالث
(الإرهاب الإسلامي)
صناعة غربية صهيونية.
* المقدمة(1/109)
تحدثنا في الفصل السابق عن أحداث الحادي عشر من أيلول عام 2001 في نيويورك وواشنطن، وبينا أن صناعة هذا الحدث تحتاج إلى قوى دولية كبيرة، تملك أدق الأجهزة وأحدث التقنيات والمقومات العالية لتنفيذه، تساندها أجهزة استخباراتية وعناصر مؤثرة على الأرض، وذات نفوذ في أجهزة السلطة الأمنية والإدارية والفنية.
إلا أن إدارة الرئيس جورج بوش التي يغلب عليها الرؤوس اليمنية الحامية، والباحثة على امتلاك ثروات العالم والتحكم بمقدارته الاقتصادية والثقافية، وتنفيذ مشروع الهيمنة على دول العالم عامة والعالم العربي والإسلامي خاصة. هذا إذا راجعنا بعض الملفات الأمريكية بعد انتهاء الحرب الباردة، وظهور الانتصار الأمريكي فيها، وانهيار المعسكر الشيوعي الند لها.
ونذكر هنا فقط مفردة من تقرير وضعه البنتاغون عام 1992 حين كان وزير الدفاع ديك تشيني، والذي أصبح نائب الرئيس الأمريكي. جاء في هذا التقرير: (يجب على الولايات المتحدة أن تسيطر على العالم بقوة وحيدة القطب. عندها ستحمي النظام الحديد، بينما تسمح للآخرين بمتابعة اهتماماتهم المشروعة، في حين تقوم واشنطن بالدفاع عنهم. ويجب أن تستعد الولايات المتحدة بشكل كاف لشؤون الصناعية المتقدمة ولإحباطها في تحدي قيادتنا أن يسعوا في قلب ترتيبنا للنظام السياسي، أو حتى الطموح إلى دور عالمي أو إقلمي بارز.)(1).(1/110)
لهذا كان لابد من صناعة حدث هام كحدث الحادي عشر من أيلول لانطلاق الامبراطورية الأمريكية أي روما الجديدة. وكان لابد من متهم فتم تصنيع ما يسمى بالإرهاب الإسلامي. إضافة إلى بعض الدول التي استخدمت الحدث لتصفية حساباتها مع قوى داخلية أو خارجية معادية لها، من خلال توظيف الشعارات التي أطلقتها الإدارة الأمريكية بعد الحدث كالتحالف الدولي لمحاربة الإرهاب. ومع الأسف أن تصفية الحسابات تمت ضد بلاد وحركات إسلامية، كانت تناضل من أجل حق تقرير المصير، أو لتحرير أرض من محتل، أو لتحسين شروط حياتهم، أو من أجل المساواة مع الآخرين من بقية أبناء الوطن الذي يعيشون به، فاستخدم هؤلاء المصطلحات التي أطلقتها الإدارة الأمريكية حول ما يسمى بمحاربة الإرهاب، لقمع وتصفية الحسابات. علماً كان القسم الأعظم من تلك الحركات في العرف الأمريكي قبل أحداث أيلول 2001 أصحاب حق وقضية.
فاستخدمها الروس في حربهم الطاحنة مع الشيشان، والهند مع المنظمات الكشميرية المطالبة منذ نصف قرن بالاستقلال وتقرير المصير. والصين في قتل وسحق المطالبين ببعض الحقوق في ولاياتها الغربية، والفلبين مع جبهة مورو، ودول أخرى استخدمتها أيضاً ضد تنظيمات أو جماعات معارضة لها بذريعة محاربة الإرهاب.
?
* الفصل الأول
المجرم من جنى أرباح الحدث!!!
المستفيد الأول كانت الولايات المتحدة من تلك الأحداث، وظهرت استفادتها منذ الساعة الأولى للأحداث، بإعلانها الحرب على ستين دولة في العالم تحت ذريعة مكافحة الإرهاب، لفرضها هيمنتها العسكرية والسياسية والاقتصادية على مناطق الثروة والنفط التي تتواجد في العالمين العربي والإسلامي.(1/111)
أما الكيان الصهيوني فكان الرابح الثاني من الأحداث، ووظفها لصالحه في قمع الشعب العربي الفلسطيني وانتفاضته الباسلة، وبتصفية الحساب مع ياسر عرفات وإدارته الناتجة عن اتفاقية أوسلو، ومع المنظمات الفلسطينية الأخرى المعارضة لأوسلو، التي جرّت مجموعة من الكوارث والمصائب للقضية الفلسطينية.
فتحت غطاء الأحداث وغياب الضمير العالمي وتخاذل وضعف وجبن الموقف العربي، أقدمت حكومة العدو الصهيوني برئاسة آرييل شارون على استخدام أشد أنواع الإرهاب ضد الشعب العربي الفلسطيني كالذبح والقتل والتدمير، ونهب الأراضي، وهدم البيوت، وتخريب المزارع، وإتلاف المحاصيل، وزرع الخوف والرعب والدمار في كافة الأراضي الفلسطينية المحتلة، وحصد رجال المقاومة بين القتل والأسر، حيث اعتبرت الحكمة الصهيونية الأحداث الفرصة الذهبية في تحقيق المشروع الصهيوني بتهويد الأراضي العربية المحتلة.
وظهرت مشاريع أمريكية صهيونية جديدة بعد الأحداث، تدعو إلى إعادة تقسيم المنطقة العربية، وذلك ضمن البرامج التي تطرحها الإدارة الأمريكية من خلال التهديد بحرب ضد العراق، وبما يخدم مصالح الحليفين الأمريكي والصهيوني، قد صرح علانية أمام الكونغرس الأمريكي كولن باول أن الحرب على العراق، ستؤدي إلى إعادة بناء المنطقة وفق المصالح الأمريكية، وقال البعض ووفق شروط السلام الإسرائيلية.(1)
البداية أفغانستان
فور انتهاء الأحداث التي جرت في نيويورك يوم الثلاثاء 11/9/2001 أطلقت الحكومة الأمريكية وعلى رأسها رئيس الجمهورية (جورج بوش الابن) شعاراً هو (الحرب على الإرهاب)، ليشمل كل أنحاء العالم. وقد حددت السلطات الأمريكية أكثر من ستين بلداً في العالم تدعم الإرهاب، إما من خلال التمويل أو التخطيط أو توفير الحماية لمنظمات إرهابية.(1/112)
وتجزأت من تلك البلدان دول سبع أسمتهم بالدول المارقة (إيران والعراق وكوريا الشمالية وليبيا وسوريا والسودان وكوبا)، كما سميت ثلاث دول منهم بدول محور الشر (العراق وإيران وكوريا الشمالية).
أما حكومة طالبان فتعرضت منذ اللحظات الأولى إلى خيار فوري إما بتسليم أسامة بن لادن ومجموعته من عناصر القاعدة، أو تحمل نتائج الحرب التي ستشن عليها؟ وذلك قبل أن يظهر أي تقرير مخابراتي أو أمني يؤكد بأدلة دامغة تورط أسامة بن لادن ومجموعته بتلك الأحداث.
وطالبت حكومة الطالبان والولايات المتحدة بتقديم الدليل على اتهامها لابن لادن وتنظيمه بما حدث في نيويورك وواشنطن، حتى تستجيب لمطالبها، وتقدمه للمحاكمة، إلا أن الولايات المتحدة رفضت تقديم أي دليل، سوى اتهامها، وأصرت على مطلبها. ورفضت حكومة طالبان ما تمليه الإدارة الأمريكية دون دليل أو حجة دامغة.
وفي 7 تشرين الثاني 2001 شنت الولايات المتحدة الحرب على حكومة طالبان في أفغانستان، وشاهد العالم أحداث تلك الحرب المأساوية، وما نتج عنها من مآسي وكوارث وويلات ألحقت بالشعب الأفغاني الفقير المسكين. حيث ألقيت عليهم الطائرات الأمريكية آلاف الأطنان من القنابل بمختلف الأوزان والأنواع ومنها ما يزيد على عشرة أطنان، والتي سقطت على أبنية طينية وكهوف ومزارع صغيرة وأسواق مات وقتل آلاف من المدنيين العزل، وقتل المئات من الأسرى في قلعة جانجي قرب مزار الشريف، واعتقل مئات آخرين كأسرى في معتقل غوانتنامو، تم نقلهم مصفدي الأرجل والأيدي وعوملوا كالحشرات لا كالحيوانات وأقل من ذلك. حرب من الغريب أن تتم باسم الحضارة والرقي. ومن المضحك والمبكي معاً، في الوقت الذي كانت الطائرات الأمريكية تلقي بالقنابل التدميرية على الشعب الأفغاني، كانت في الوقت نفسه تقوم بإلقاء أغذية على هذا الشعب الجائع. لتدعي أمام العالم بأنها تقوم بعمل إنساني فتسخر وتستخف بالعقل البشري في كل أنحاء العالم.
?(1/113)
* الفصل الثاني
الإرهاب التلفيقي
والخطورة التي نتجت عن أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، هو ماتم طرحه من شعارات من قبل الإدارة الأمريكية والقوى الصهيونية حول ما سمي بالحملة ضد الإرهاب، حيث حصر الإرهاب بالعرب والمسلمين من قبل تلك القوى. وما أطلق عليه من قبل وسائل الإعلام الغربي والصهيوني بالإرهاب الإسلامي، فتم تقنين الإرهاب العالمي، الذي تمارسه قوى وتنظيمات وأفراد في كل أنحاء العالم، ومن مختلف الأعراق والأجناس والأديان، ليكون في رأي تلك الوسائل المشبوهة فقط عربياً وإسلامياً. وشنت حملات مكثفة من عمليات غسيل للذهن العالمي بكل وسائل الدعاية التلفيقية والكاذبة لإقناع الناس بأن الإرهاب مصدره الإسلام والمسلمين.
ما هو الإرهاب؟
الإرهاب يعني في اللغة العربية الترويع والتخويف. وفي التعريف السياسي وفق تعريف نعوم تتشومسكي: (بأنه استعمال مدروس للعنف ضد المدنيين لإجبار وترهيب السكان المدنين أو الحكومات من خلال زرع الرعب).(2)
والإرهاب ليس بالأمر الجديد على العالم، قد تمت صناعته مع أحداث الحادي عشر من أيلول 2001، بل هو عمل قديم قدم التاريخ استخدمته أمم سابقة ولاحقة، ولم تنجُ منه أمة من الأمم، ولا أي بلد من البلدان في العالم.
ولكل حالة من حالات الإرهاب لها مسبباتها، وجذور لنشأتها، حيث تختلف كل حالة عن الأخرى، من حيث الأهداف والغايات والوسائل. كما تختلف نوعية الإرهاب من حقبة زمنية إلى حقبة أخرى، ومن بيئة إلى بيئة، ومن ظرف زمني إلى ظرف زمني آخر.
أما في العصور الحديثة فإن الإرهاب الحالي، نشأ من سبب يكاد أن يكون وحيداً، أو سبباً رئيسياً في نشأته، ألا وهو الاستعمار الغربي بأشكاله السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية، غبر ثلاث قرون من النهب والقهر والاستعباد والترويع لشعوب العالم الثالث عامة والبلدان العربية والإسلامية خاصة.(1/114)
يضاف إلى هذا السبب أسباب ثانوية، ومنها التخلف، والجوع، وتدني المستوى المعاشي، والأمية التعليمية والثقافية، وغياب الديمقراطية، وفرض أنظمة قمعية متخلفة مستبدة من قبل القوى الغربية خدمة لمصالحها في دول العالم الثالث، تستمد شرعيتها من تحالف مستغل من الداخل والخارج، المبني من مصالح القوى الإمبريالية ومصالح الطبقات الطفيلية والعشائرية والفاسدة.
كما أن الصراع والمنافسة على مصادر الطاقة والثروات والأسواق في العالم الثالث في القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، الذي أدى إلى نهب ثروات الشعوب، والتي كانت ستشكل حالة إنقاذ لتلك الشعوب من الفقر والتخلف، واستخدامها في تنمية اقتصادية واجتماعية وثقافية، تؤدي إلى تغيرات جذرية في نمط المعيشة المتدنية، والارتقاء بها إلى مصاف الأمم المتطورة. هذا النهب لا عقلاني من قبل القوى الإمبريالية للثورة وبالتعاون مع قوى حاكمة مستبدة ومتخلفة، أدى إلى ظهور تنظيمات وجماعات إرهابية، إما رداً على ذلك النهب، أو خدمة لمصالح الناهبين، لتخويف وترويع أية معارضة، أو لقمع أية حركة احتجاج شعبي، وأحياناً خدمة لمصالح قوى تريد جزء من الثروة المنهوبة.
?
* الفصل الثالث
أمريكا مؤسسة الإرهاب في العصر الحديث
لا نريد البحث عن تاريخ الإرهاب منذ أن تشكلت الدول في بداية التاريخ الإنساني، فهذا يحتاج إلى كتاب أو مجلد خاص، بل نريد فقط دراسة موجزة لتاريخ الممارسات الإرهابية، التي قادتها الولايات المتحدة في العالم كدولة ضد كل مناوئيها من الدول أو التنظيمات أو الأشخاص المدافعين عن مصالح بلادهم. فسنجد أن الولايات المتحدة الأمريكية هي المؤسس الرئيسي للإرهاب في العالم.(1/115)
لقد مارست الولايات المتحدة الإرهاب منذ دخول مؤسسيها إلى أرض القارة الجديدة في نهاية القرن الخامس عشر، وبعد استقلالها مارست كل أشكال الإرهاب المنظم ضد شعوب دول العالم شرقاً وغرباً، مارسته من خلال جيوشها باحتلال أو تدخل، ومن خلال جهازها سيئ الصيت المخابرات المركزية (CIA) في صناعة المؤامرات والانقلابات وتخريب الذمم، ونشر الجواسيس والفساد، وحياكة الاضطرابات ضد الأنظمة الوطنية والمتحررة، كما قامت بتشكيل وتدريب وتمويل وتسليح مجموعات إرهابية على مستوى العالم خدمة لمصالحها ومصالح الشركات الإمبريالية المستغلة.
من يستطلع ممارسات الإرهاب في العصر الحديث، يجد أن أقسى أشكال ممارسات الإرهاب قد ظهرت بعد اكتشاف القارة الأمريكية مباشرة، حين بدأ الغزو الجماعي الاستيطاني البربري لأرض القارة الجديدة. حيث بدأت عمليات مسح الشعب الأصلي للبلاد المكتشفة عن خارطة الوجود الكوني. فجرت على أرضهم، وأرض أجدادهم عمليات التطهير العرقي بأبشع صوره، عبر عمليات إرهابية لا تزال تسود صفحات تاريخ القارة الأمريكية من شدة مآسيها الرهيبة.
لقد كان القسم الأعظم من المهاجرين الأوائل من الأوربيين من عتاة المجرمين وأصحاب السوابق، أخرج البعض منهم من السجون التي كانوا يقضون فيها أحكاماً قضائية تصل البعض منهم إلى حكم المؤبد، وأرسلوا إلى استعمار القارة الجديدة، وممارسة الإرهاب ضد السكان الأصليين. ومن عجائب الدنيا أن يدعي هؤلاء كما تم إفهامهم من الذين أرسلوهم، بأنهم شعب الله المختار على تلك الأرض الجديدة، فمن واجبهم تطهيرها من أصحابها الحقيقيين. وهذا الزعم الكاذب نراه الآن في ادعاءات الصهاينة في فلسطين بأنهم شعب الله المختار، وعليهم تطهيرها من سكانها الأصليين.(1/116)
هذا الشعب الأوروبي المختار من الله زيفاً، قام بمجازر تقشعر لها الأبدان بحق شعب آمن ومسالم، لم يعتدِ يوماً على أي بلد أوروبي. حتى يمكن خلق المبررات الأخلاقية لتلك الإفادة، بل تمت إبادتهم، واستعبادهم، واسترقاقهم دون أي ذنب ارتكبوه. فكانت تباد قراهم وتجمعاتهم السكنية وتحرق بيوتهم ومزارعهم دون أي سبب ارتكبوه. لقد مورست تلك الأعمال الإرهابية ليس لحاجة المهاجر الأمريكي لأرض ومزارع تلك القرى والتجمعات فقط، بل لإشباع رغبات وحشية في داخل نفس هذا المستوطن، وإرضاء لشهواته الذاتية التواقة للتلذذ بممارسة القتل من أجل القتل، والترويع لخلق حالة من الرعب والإرهاب ضد الآخر.
ووضع المستوطن الأمريكي الجديد، الذي يتشدق اليوم أحفاده بالديمقراطية وحقوق الإنسان قانوناً من أبشع القوانين الإرهابية الظالمة في التاريخ البشري، حيث سنت السلطات الأمريكية مكافآت مالية، لمن يقتل هندياً، ويسلخ فروته، ويقدمها للسلطات الأمريكية. وكانت المكافآت تتوزع على المجرمين وفق التعريفة التالية:
المستوطن الذي يأتي بقروة الرأس له (50) جنيهاً. والجندي (10) جنيهات، ورجل الحرس (20) جنيهاً، ثم ارتفعت فاتورة الشراء عام 1704 إلى (100) جنيه لكل فروة رأس هندية.
وكان الأمريكيون الأجداد الأوائل يتباهون بين بعضهم البعض بالملابس والأحذية المصنوعة من جلود الهنود، بل كانت المباهاة الأكثر بين الطبقة النبيلة هي في أكياس التبغ المصنوعة من عظام الهنود(3).
لقد دمر الأوربيون المؤسسون لأمريكا حضارات الهنود، التي كانت سائدة آنذاك في القارة الأمريكية. فقد كان الهنود (الأزتيك) أشادوا حضارة كبيرة لا تزال إلى يومنا هذا شاهدة على عظمة تلك الحضارة الراقية، ودللت من خلال أهراماتها ومعابدها وقبورها ومنحوتاتها والأبنية الضخمة، واستخدام الصناعة الفنية وأدوات البناء مثل السيراميك وغيرها على مدى التقدم الهندسي الراقي.(1/117)
كانت الإبادة الكاملة لشعب الأزتيك من قبل المؤسسين الأمريكيين قتلاً وسلخاً وذبحاً وتدميراً عن وجه الأرض من الجرائم التي تقشعر لها الأبدان، وما تم تدميره لشعب الأرتيك وحضارته، تكرر أيضاً من خلال تدمير حضارة هندية أخرى، هي حضارة دولة الأنكا في البيرو.
تلك أولى ممارسات الإرهاب الأمريكي في العصر الحديث، بأبشع صوره وأشكاله، والمتمثل بالإبادة الجماعية، والتطهير العرقي، وطرد الناس سكان الأرض الأصليين من بيوتهم ومزارعهم، وإحلال أناس غرباء جدد بدلاً عنهم، ليس لهم علاقة بالأرض والوطن.
وقد شعر بعض الكتاب الأمريكيين، ممن استيقظت ضمائرهم اليوم بالعار من هذه الصور الإرهابية البشعة، التي مارسها أجدادهم الغزاة بحق أناس مسالمين متحضرين، فكتبت هيلين جاكسون كتاباً عن تلك الممارسات الرهيبة أسمته (عصر العار)، كتب في مقدمة الكتاب أسقف مينيسوتا هـ. ب. وايبل (إن الكشف الحزين عن الوعود التي نكث بها، والعقود المنتهكة وأعمال العنف اللاإنسانية تسبب حمرة الخجل لدى الذين يحبون بلدهم)(4).
ومن جرائم الإرهاب الأمريكي الأخرى، استرقاق عشرات الآلاف من الأفارقة بوسائل إرهابية شنيعة، حيث كانوا يصطادون الأفارقة في مزارعهم وبيوتهم وفي الغابات كالحيوانات، أو يشترونهم من تجار الرقيق بأبخس الأثمان، ويعبئون في سفن بريطانية وأمريكية من سواحل أفريقية الغربية، ويكدسونهم في تلك السفن كالساردين، والبعض مكبلين بالحديد والحبال، يقضون أشهر في البحر إلى أن يصلوا الشواطئ الأمريكية، ولم يتبق إلا نصفهم إن لم يكن أقل من ذلك، في حين يكون الآخرون قد لاقوا حتفهم قبل أن يصلوا إلى الشاطئ، وتبدأ مأساة الأحياء من الأفارقة من خلال استعبادهم، واستخدامهم تحت ظروف قاسية بالعمل في مزارع القطن الأمريكية.(1/118)
ومن إرهاب الولايات المتحدة الأمريكية العالمي، نذكر أنها أول دولة في العالم استخدمت القنابل النووية ضد مجموعات بشرية حين ألقت قنابلها النووية ضد مدينتي هروشيما وناغازاكي اليابانيتين قبل نهاية الحرب العالمية الأولى من أقسى أشكال الإرهاب في تاريخ العالم. حيث حصدت مئات الألوف من الناس المدنيين الأبرياء بدون تفريق بين رضيع وشيخ وشاب، وكانت كل الدلائل تشير آنذاك إلى قرب قبول اليابان بوقف إطلاق النار.
ورغم كل الادعاءات الأمريكية بأن استخدام تلك القنابل، كان للضرورة، حتى تتوقف اليابان عن الحرب. إلا أن الحقيقة كان الهدف من إلقاء القنابل النووية، هو إشعار العالم بقدرات الولايات المتحدة التسليحية، التي لا تضاهى، وخلق حالة الرهبة والخوف عند دول العالم بعدم التصدي لإطماعها المستقبلية، ولزرع شعور آخر من الخوف في قلوب البشرية جمعاء، بأنها لا تتورع باستخدام كل ما لديها من أسلحة تدميرية بحق من يقف أمام مصالحها وأهدافها في المستقبل، وأنها تدوس على كل شعاراتها التي تطلقها في السلام وحقوق الإنسان وحق تقرير المصير وغيرها أمام أطماعها ورغباتها.
* صور من الإرهاب الأمريكي ضد العالم
نذكر فقط بعض العمليات الإرهابية، التي مارستها الولايات المتحدة في المنتصف الثاني من القرن العشرين. فمن أعمال الإرهاب الأمريكي في القرن العشرين، محاولة غزو كوبا، فقد شكلت المخابرات المركزية الأمريكية عصابات من المرتزقة الكوبيين، ودربتها على الأسلحة، وقدمت لها كل الدعم، لتقوم بغزو كوبا، وإسقاط نظام كاسترو فيها. وفعلاً في 17 نيسان 1961، قامت تلك العصابات بغزو الجزيرة الكوبية، وخاضت مع القوات الكوبية المدافعة معركة كبيرة، سميت يومها معركة خليج الخنازير، حيث فشلت تلك المحاولة الإرهابية، وأسر فيها ما يقارب 1500 أسير.(1/119)
كما قامت القوات الأمريكية بغزو جزيرة غرينادا في عام 1983، تحت ذريعة قيام حكومة موالية للسوفيت وكوبا فيها، بعد أن كانت الجماهير أفشلت الانقلاب، الذي أعدته المخابرات المركزية الأمريكية ضد رئيس حكومتها موريس بيشوب في 12/10/1983، وأطلقت الجماهير رئيسها من قبضة الانقلابيين. فدخلت القوات الأمريكية المسلحة بعد فشل الانقلاب إلى الجزيرة لتغير حكومة منتخبة من الشعب بالرعب والإرهاب، ومن ثم تقوم بإعدام زعماء السلطة التشريعية في عام 1985، لتنهي أي أمل للشعب بالحرية، ولتحكم قبضتها الإرهابية على هذه الدولة الصغيرة.
وعملت الولايات المتحدة بكل الوسائل التأمرية والتخريبية من أجل إسقاط أنظمة ديمقراطية أو أنظمة اشتراكية في العالم عامة وأمريكا اللاتينية خاصة، من خلال مساندة ودعم انقلابات عسكرية، أوجدت حكاماً ديكتاتوريين، عاثوا في بلادهم فساداً وإرهاباً وقتلاً. ومن الأمثلة على ذلك تدخلها العسكري في الدومينيكان في 28 نيسان عام 1965 لمنع القوى الاشتراكية من استلام السلطة. وساهمت بشكل فعال في إسقاط الحكومة الشعبية في تشيلي، وكانت وراء مقتل مئات المناضلين من التشيليين ومصرع الرئيس التشيلي المنتخب سلفادور اللندي، ودعمت بقوة النظام العسكري الاستبدادي في ذلك البلد. وساندت ودربت وسلحت عصابات إرهابية في أمريكا الوسطى مثل عصابات الكونترا لإسقاط الحكومة الثورية في نيكاراغوا، وغزت بنما وألقت القبض على رئيسها نوريغا وأودعته في سجونها.(1/120)
وفي حربها البشعة في فيتنام، والتي امتدت من أواسط الستينات في القرن العشرين وحتى نهايات السبعينات منه، فقد مارست كل أشكال العنف والإرهاب بحق الشعب الفيتنامي، الذي قاتل من أجل الحرية وتوحيد البلاد، وتحرير جنوب البلاد من الغزاة الأمريكيين. فاستخدمت الولايات المتحدة كل ما تملك من أسلحة ضد هذا الشعب العظيم المكافح، لمنعه من تحقيق أهدافه المشروعة. وألقت قنابلها بمختلف أنواعها على كل جزء من فيتنام الشمالية، وقدرت كمية ما ألقي عليها بحوالي طن من القنابل على كل دونم من أرض فيتنام.
ولم تتورع من استخدام القنابل الكيماوية والجرثومية والنابالم وكل الأسلحة المحظورة في العالم في حربها ضد بلد صغير كفيتنام محدود الموارد، حين حرقت مئات الآلاف من الهكتارات المزروعة بالأرز والمواد الغذائية، وهوجمت قرى صغيرة وآمنة، وأبيدت على بكرة أبيها دون ذنب يذكر، وتم ذلك من أجل خلق حالة من الإرهاب والرعب والخوف في قلوب الفيتناميين المناضلين لتحرير بلادهم من سيطرتها.
وخلال حرب الخليج الأولى أسقطت قواتها البحرية طائرة إيرانية مدنية عام 1988 في مياه الخليج دون أي سبب يبرر تلك الجريمة، فقتلت العشرات من ركابها. وقصفت بطائرتها الحربية القصر الرئاسي الليبي في بنغازي. وساندت ولا زالت حركة التمرد في السودان أمثلة لها كثيرة في العالم.
وردت الولايات المتحدة على أحداث نيويورك وواشنطن بحملة ضد العرب والمسلمين، أسمتها في البداية الحملة الصليبية على الإرهاب، كما ورد على لسان جورج بوش الابن، ثم تغيرت العدالة المطلقة أو غيرها من التسميات الأخرى، ولم يخف السيد كولن باول وزير الخارجية عن مخطط استعماري جديد للمنطقة، حين أعلن يوم الجمعة 7/2/2003 أمام الكونغرس (أن بعد الحرب على العراق، سنعيد ترتيب منطقة الشرق الأوسط وفق مصالحنا)(5).(1/121)
ومن الإرهاب الممارس كانت ضرورات المصالح في أفغانستان تتطلب إزهاق أرواح مئات الأفغان الأبرياء ومن جنسيات أخرى، وفق العرف الأمريكي، ومورس الإرهاب بشكل تعجز عنه عصابات المافيا، كما حدث في قلعة جانجي قرب مدينة مزار الشريف الأفغانية، فتم ذبح أكثر من خمسمائة أفغاني وعربي وباكستاني وشيشاني خلال ثلاثة أيام (26 و27 و28 تشرين الثاني 2001) من خلال القصف الجوي للطائرات الأمريكية، وقصف أرضي مع وإدخال جيش الشمال المتحالف مع الولايات المتحدة وبريطانيا بقيادة إرهابي كبير الجنرال الأمي دوستم.
والإرهاب الأكبر كان وما زال هو ما تقدمه الولايات المتحدة الأمريكية من دعم مطلق مادياً وعسكرياً وسياسياً للكيان الصهيوني، الذي يقود إرهاباً منظماً تحت أبصار العالم وأسماعه ضد العرب عامة والفلسطينيين خاصة، وهذا الدعم كان منذ أن تواجدت عصابات الصهاينة على أرض فلسطين. فإن صناعة ودعم الإرهاب الصهيوني بدعم الغرب عامة والولايات المتحدة خاصة، وحده يحتاج إلى كتاب ذو مجلدات ضخمة.
الولايات المتحدة دولة الإرهاب المنظم، منذ النشأة الأولى وحتى تشكلها واستقلالها، ولا تزال منذ بداية القرن التاسع عشر، تنشر الخوف والتسلط في العالم، وتنهب وتسرق ثروات الشعوب، وتغتصب أراضيهم، وتصادر حرياتهم، وإرادتهم في تقرير مصيرهم، وتوجيه قدراتهم. فهل هناك إرهاباً أشد من إرهاب أمريكيا وأبشع!؟.
كتب ستيفان فاخوفياك الكاتب البولوني في مجلة (بجاسك) البولونية: (الولايات المتحدة مافيا كبيرة تنفذ منذ قيامها، أي أكثر من قرنين خططها المتزايدة العدوانية والناجمة عن مذاهب مصممة بهدف غزو العالم: إمبراطورية عالمية يحكمها مختارون عمليون من (بناة العالم)(6).
?
* الفصل الرابع
لماذا يصنع الإرهاب الإسلامي؟(1/122)
ظاهرة ما يسمى بالإرهاب الإسلامي، التي اخترعت منذ ما يزيد على عقد من الزمان، وأمست بعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 مركز اهتمام الدوائر السياسية والأمنية والإعلامية في العالم، وتحتل تلك الظاهرة أبرز فقرات الخطب الرئيسية لقادة دول العالم الغربي والشرقي، وتكاد لا تخلو منه صحيفة أو نشرة أخبار في أية وسيلة إعلامية في كل أنحاء المعمورة، وترتفع أطنان من أوراق البحوث والدراسات عن تلك الظاهرة وخطورتها على تقدم وحضارة العالم، كما تتواجد الكثير من المواقع على الانترنيت المتحدثة عن تلك الظاهرة.
وبالعودة إلى جذور تكوين ظاهرة ما يسمى بالإرهاب الإسلامي، سيجد الباحث أو القارئ إن جذوره كانت صناعة غربية. وأن للولايات المتحدة الريادة في تصنيعه منذ أكثر من خمسين عاماً، لمواجهة حركة النهوض القومي العربي التحرري في بداية الخمسينات من القرن الماضي وخاصة في منطقة وادي النيل والمشرق العربي، بغية إجهاضه، ومنعه من تحقيق أهدافه التي تتصادم مع المشروعين الغربي الأمريكي والصهيوني العالمي. ومن أجل خدمة مصالح الولايات المتحدة وعلى رأسها استمرارية الهيمنة على النفط والمواقع الاستراتيجية في الشرق الأوسط، ومنع الخصم السوفيتي من الدخول إلى المنطقة، والهدف الرئيسي الثاني حماية الكيان الصهيوني، الذي يعتبر الولاية الأمريكية المدللة في الشرق الأوسط.
ففي عقد الخمسينيات من القرن الماضي تم من قبل الولايات المتحدة استخدام الإسلام شعاراً تضليلاً في مواجهة المدّ القومي التحرري للهيمنة الإمبريالية، والذي رفع شعار بناء وحدة الأمة العربية، وتحرير الثروة العربية من الاستغلال النهبوي من الشركات الغربية، وبالعمل لبناء قوة عربية تواجه التحدي الصهيوني المدمر للنهوض والتحرر العربيين.(1/123)
فشجعت تنظيمات وحركات ذات شعارات إسلامية، ودعمت، وحمت أنظمة موالية لها، ترفع شعار الإسلام، وحرضت تلك التنظيمات والدول على الدخول في صراع مرير مع أنظمة وأحزاب قومية حاكمة، لأشغالها ومنعها من تحقيق أي من أهدافها، التي أشرنا إليها. ومع الأسف كانت بعض تلك الصراعات والمواجهات عدائية ودامية أحياناً مع قوى ودول وتنظيمات قومية وماركسية وعلمانية تحت شعارات التكفير والإلحاد. حتى غدا الصراع مع العدو الصهيوني الرئيس ثانوياً أمام تلك الصراعات، التي استمرت ما يقارب من نصف قرن، ولم تدرك القوى الوطنية والقومية والإسلامية مدى المخطط الأمريكي في تأجيج هذا الصراع إلا في وقت متأخر مما أضاع من العديد من الفرص لصالح الوطن والأمة.
ورفعت الولايات المتحدة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية شعارات مضللة خدمة في صراعها مع المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي، ومنها التحالف من أجل مواجهة (الشيوعية أو المدّ القومي أو المدّ السوفيتي)، وغيرها من الشعارات التي تدعو إلى تحالف مع القوى الإسلامية ضد الشيوعية الملحدة في مرحلة الخمسينات، أو التحالف أو التعاون لإسقاط الحكومات القومية كالناصرية والبعثية، واستمرت تلك الشعارات حتى بعد سقوط المدّ القومي التحرري بعد هزيمة 1967 وحتى عام 1990. وإلى عام 1991 بعد سقوط الاتحاد السوفيتي.
ونتج عن ذلك الصراع إخفاقات كبيرة للمشروع القومي العربي النهضوي، وانتكاسات كبيرة في الخطط التنموية لمعظم البلدان المناوئة للولايات المتحدة، ونشر الثقافات التصارعية بين المذاهب والأديان، مما خلق خلخلة في النسيج القومي، الذي تشكل خلال النضال القومي والوطني الشعبي من أجل الإسقاط القطري، أو النضال من أجل التوحد القومي في الصراع مع الصهيونية ومشروعها الاستيطاني في فلسطين، وما يشكله من خطر كبير على الأمة العربية ونسجيها الاجتماعي.
* خلفية صناعة الإرهاب الإسلامي(1/124)
من ينظر اليوم إلى خارطة العالم، ويدقق في مناطق بؤر التوتر والحروب والدمار، يجد معظمها في المناطق التي يسكنها المسلمون بدءاً من الصحراء في المغرب العربي والجزائر غرباً، وانتهاء بإندونيسيا شرقاً، مروراً طبعاً بالسودان وفلسطين والصومال والعراق والباكستان والبوسنة وكوسوفو وألبانيا والشيشان ومناطق الاتحاد السوفييتي السابق وأفغانستان وكشمير. ويتساءل لماذا؟
ومن بحث من خلال الأبواب الخلفية عن أسباب وغايات هذا التوتر، سيجد أولى تلك المسببات حرب الهيمنة على ثروات تلك البلدان وفي مقدمتها النفط والغاز والموقع الاستراتيجي. ويعرف أن الأصابع الأمريكية، هي التي تحرك أدوات الصراع كدمى مسرح العرائس. ويتخذ هذا الصراع ألواناً بين قوميات مختلفة، أو ديانتين، أو نزاع حول حدود، أو نزاع بين قوى علمانية وقوى دينية، أو صراع عشائري، أو حركة ضد نظام حكم..إلخ من أشكال الصراع.
لكن بعض مفكري الغرب المؤمنين بصدام الحضارات، يعزون أن تلك الصراعات هي في جوهر الإسلام، الذي يرفض الآخر ولا يستطيع العيش معه بسلام. يقول المفكر الغربي صموئيل هنتغتون مروج نظرية صدام الحضارات: (في كل هذه المناطق العلاقات بين جماعات المسلمين وشعوب حضارات أخرى -الكاثوليك، البروتستانت، الأرثوذكس، الهندوس، الصينيين، البوذية، اليهودية- كانت عامة علاقات عدائية معظم هذه العلاقات كانت علاقات عنيفة إلى حد كبير في الماضي، والعديد منها كانت علاقات عنيفة في التسعينيات. وعلى طول محيط الإسلام، المسلمون لديهم مشاكل للعيش بسلام مع جيرانهم(7).(1/125)
وقد برهنت الأحداث التي جرت في ساحات إسلامية وعربية أكذوبة الصدام فقط بين الإسلام والمسيحية على أسس ثقافية دينية، فكثير من الصراعات كانت بين أبناء ديانة واحدة ومذهب واحد خدمة لمصالح الداخل والخارج معاً. فالصراع الدامي منذ عام 1991 في الجزائر، بين أبناء وطن واحد، وديانة واحدة، وحتى مذهب ديني واحد، هذا الصراع الذي ألبس لباساً إسلامياً، من يراجع ملفاته وأسراره، سيجد خلفه الولايات المتحدة، التي سعت منذ استقلال الجزائر إلى طرد فرنسا من منابع الغاز الجزائري.
وتلعب المخابرات المركزية دوراً خفياً في تحريك اللعبة الدامية في الجزائر، وليس غريباً إن وجدنا أصابع للموساد الصهيوني، يشارك في تلك اللعبة القذرة بهدف النيل من الكعكة النفطية الجزائرية، وإلى تصفية الحساب مع الجزائر، التي شكلت ثقلاً هاماً في الصراع العربي/ الصهيوني منذ استقلال الجزائر في الستينيات والسبعينيات وحتى الثمانينات مغربياً. ومثل بسيط نسوقه هو ما حدث في الجزائر بتفجير سيارة مفخخة في حي شعبي في العاصمة الجزائرية قبل عيد الفطر السعيد، وذهب ضحيته العشرات من المدنيين البسطاء دون أي ذنب. لإلباس الإسلام جريمة الحدث، فكيف يتبنى الحادث أنور هدام باسم جبهة الإنقاذ الإسلامية، في بيان يصدر من الولايات المتحدة، حيث هو يقيم لاجئاً؟ في حين تنفيه قيادة الجبهة في الجزائر. وحين تبحث عن شكل الانفجار وطريقة تنفيذه، لوجدته لا يختلف عن الانفجار الذي قامت به المخابرات المركزية في بيروت في الحي الشعبي في بئر العبد في بيروت قبل شهر من الحادثة المذكورة!!(8).
* الصناعة والتدريب والتمويل للإرهاب.(1/126)
لعبت المخابرات المركزية دوراً هاماً في تصنيع ما تسميه الإرهابيين الإسلاميين في أفغانستان، سواء من تنظيمات أمراء الحرب في الحقبة السوفيتية، أو في عهد الرئيس الأسبق نجيب الله الشيوعي، وحتى بعد انتهاء الحكم الشيوعي، كان للولايات المتحدة وجهازها المخابرات سي. آي. أى له الدور في بناء تلك التنظيمات، وتدريبها وتسليحها، بما فيها ما يسمى بتنظيم القاعدة. ويقول نعوم تشومسكي عن التنظيمات التي تشكلت أثناء الاحتلال السوفييتي لأفغانستان، والتي أطلق عليها (المجاهدون المسلمون): (أنني لم أشك لحظة، في أن هذه المجموعات نُظمت بواسطة المخابرات المركزية والمخابرات الباكستانية والمصرية وحلفاء آخرين للولايات المتحدة. وهم منظمون ومجتهدون ومدربون ومسلحون لخوض معركة مقدسة ضد الروس، والتي خاضوها بالفعل. ولكنهم بدؤوا مباشرة بأعمال إرهابية منذ 20 سنة، حين قاموا باغتيال الرئيس المصري. ومنذ ذلك الحين هم يقومون بأعمال إرهابية. وإن المجموعة التي نظمتها المخابرات المركزية، تم تشكيلها من المجموعات الإسلامية المتطرفة الراديكالية، والتي كان لديهم أعمال خاصة بهم. قاموا بما طلبته منهم وكالة المخابرات المركزية(9).
ويذكر الصحفي الفرنسي تيري ميسان أن ضابطاً مصرياً يدعى (علي محمد) انضم إلى الجيش الأمريكي، كلف من قبل المخابرات الأمريكية بتدريب تنظيم القاعدة ما بين أعوام 1988 و1998. وكان في نفس الوقت يأتي إلى الولايات المتحدة، ويقوم بتدريب الأعضاء الأكثر سرية في شبكات الظل، وضباط القوات الأمريكية الخاصة.. ويقول أن أسامة بن لادن كان مستمراً في العمل لحساب السي. آي. أى حتى العام 1998)(10).(1/127)
ويذكر مايكل واينز أن المخابرات المركزية الأمريكية بقيت على علاقات مع بن لادن وتنظيمه تنظيم القاعدة حتى بعد أحداث 11 أيلول 2001، حين استخدم هذا التنظيم في مواجهة وتدمير الروح المعنوية للجيش الروسي من خلال إلحاق الخسائر به، وأهانته، حتى تشرين الثاني 2001. كما أن تنظيم بن لادن (تنظيم القاعدة) استخدم من قبل المخابرات المركزية في عام 1999 في مساندة ثوار كوسوفو ضد دكتاتور الصرب(11).
وأسامة بن لادن ابن أكبر الأثرياء السعوديين، وهو من أصول يمنية، بعد مقتل والده بحادث طائرات عام 1988، تم توزيع ثروته على أولاده، فكان نصيب ابنه أسامة ما يقدر ب(300) مليون دولار(12). وظفها في إنشاء عدة مصارف وشركات زراعية وأعمال مختلفة كالمقاولات وبعض الصناعات مثل مصنع الأدوية، الذي ضربته الطائرات الأمريكية في السودان. كما وظف مع أخوته أموالهم في شركات كمجموعة كارليل في الولايات المتحدة، والتي أسست عام 1987. ويبلغ رأسمالها(12) مليار دولار، وتدير شركات سفن آب، وهي تحتل المرتبة الحادية عشرة بين شركات التسليح الأمريكية. وساندت حملة بوش الأب في عام 1990 في حملته الانتخابية الرئاسية. ولها علاقات واسعة مع أسرة بوش، التي تملك شركات نفطية في تكساس. وهذا يبين مدى العلاقات الحميمة السابقة بين الطرفين، قبل الافتراق الذي بدأ بعد الغزو العراقي للكويت في 2 آب عام 1990، كما تتحدث بعض المصادر.
?
* الفصل الخامس
التصوير المشوه للإسلام
إن الهجوم الإعلامي الغربي والشرقي المكثف على الإسلام والمسلمين في كل أنحاء العالم وفي الغرب بخاصة، بغية خلق صورة مشوهة في أذهان العالم أنظمة وشعوب عن الإسلام على أنه فكر جامد، رافض للحضارة والتقدم التكنولوجي والتطور العلمي، يقوم على الاستبداد، ويعادي الديمقراطية، يحبذ الرق، واضطهاد المرأة، فيمنعها من المشاركة في الحياة المدنية والسياسية والإدارية، ويسلبها حرية القرار والاختيار.(1/128)
وإن الدين الإسلامي يحرض على القتل والإرهاب والتدمير، واستباحة دماء من يخالفونه. ويصور المسلمين على أنهم ينشئون في بيئة جاهلة عنيفة، تقوم على حب القتل، وتصدير الإرهاب، ومعاداة الحداثة والتطور. وكراهية الغرب لديمقراطيته، ولما وصل إليه من حضارة وازدهار اقتصادي واجتماعي.
تلك هي صورة الإسلام التي تقدمها وسائل الإعلام الغربي الصهيوني للفرد الغربي في أمريكا وأوربا من قبل أعداء الإسلام. ولا بد من سؤال يدور في ذهن كل عربي ومسلم، لماذا هذه الحرب التشويهية على الإسلام؟.
وللإجابة على هذا السؤال يجب أن نتعرف على أغراض وأهداف وغايات مطلقي هذا الافتراء البشع على الإسلام. فنرى إن الغرب والصهيونية هما اللذان يقودان الحملة العدائية على الإسلام، والسبب أن لكل منهما تصفية حساب مع الإسلام والعروبة. فالمشروعان الصهيوني والغربي الإمبريالي في المنطقة العربية، يلقيان مقاومة عنيفة من قبل العروبة والإسلام، وصعوبة في نهب الثروة والأرض والحقوق من قبلهما، إذن لا بد من محاربتهما، وتشويه صورتهما في العالم، بغية خلق جبهة من قوى عالمية لها مصالح في المنطقة ضد العروبة والإسلام. والتشويه إحدى الأسلحة المضادة للعروبة والإسلام.
فالتشويه بدأ منذ عام 1991 بصورة لا سابقة لها. وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي مباشرة، حين ظهر ساسة ومفكرين غربيين وخاصة في الولايات المتحدة حين قال الرئيس جورج بوش بعد سقوط الاتحاد السوفيتي: (إن خطر الشيوعية سقط ولم يبق إلا الإسلام الخطر على الغرب). وتداعت بعد ذلك الأقلام الصهيونية والمتصهينة في حملة عنيفة على الإسلام كرمز للإرهاب ومستودع له.(1/129)
والحرب على الإسلام هو حرب على العروبة وكل المنتمين إليها مسلمين ومسيحيين، فالإسلام إلى جانب كونه دين سماوي توحيدي، فإنه للعرب كان مشروعاً نهضوياً لاستعادة الحرية وتحرير الأرض العربية من الاستعمار الروماني والفارسي والحبشي، وبناء دولة عظمى لهم، امتدت من أسوار الصين إلى تخوم باريس في القرون الوسطى.
والإسلام بقي الوعاء الفكري والتراثي والتاريخي، الذي حفظ الأمة العربية من الاندثار والتلاشي أمام اندفاعات الاستعمارية العسكرية والسياسية والفكرية كالصليبيين والمغول والترك والبريطانيين والفرنسيين والإيطاليين والصهاينة. فحافظ على اللغة العربية أمام تلك المحن القاسية، وأبقى روح النضال والمقاومة في نفوس العرب لمواجهة الغزاة والطامعين، واستمر يحرض على العلم والمعرفة على مدى الزمن رغم التجهيل المقصود من قبل المستعمرين.
إن الحملة الراهنة التي تشن على الإسلام تشوبهاً وافتراءً، ضمن مخطط معاد للإسلام والعروبة معاً، يرسم هذه الخطط أعداء لكليهما، سواء أكانوا حكومات أو مؤسسات غربية وصهيونية. وأن كان لكل واحد أهدافه وغاياته، وأن كان هناك اختلافاً في الصور والأشكال، إلا أنها واحدة في المضمون. ويكاد يجعهم سقف دائرة تأمرية واحد في المشاركة والتنفيذ.
مع العلم أن العداء وحملات الافتراء على الإسلام والعروبة، ليست وليدة هذه الأيام، بل بدأت منذ الأيام الأولى للدعوة الإسلامية. ومنذ أن بشر، ودعا إليها الرسول الكريم محمد عليه الصلاة والسلام في مكة المكرمة، واستمرت إلى يومنا هذا. وستبقى الحملات العدائية والمغرضة مستمرة، ما دام الإسلام قائماً، من قبل كل المتضررين من فكره وعقيدته ومنهجه، والسلوكيات التي يدعو لها.
* نظرية صدام الحضارات والإسلام.(1/130)
منذ الصدام الأول في القرن السابع الميلادي بين الإسلام والإمبراطورية البيزنطية في البدايات الأولى لظهور الإسلام، يلاحظ استمرارية الحملات الفكرية والإعلامية والعسكرية الغريبة على الإسلام حتى يومنا هذا. على الرغم من المحاولات المتكررة للحوار والتبادل الثقافي بين الإسلام والغرب، التي بدأت في عهد هارون الرشيد في رسالة الحوار مع الإمبراطور شارلمان، وإن كانت متقطعة في أثناء الوجود العربي في الأندلس، أو من خلال المبادلات الثقافية منذ القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا.
إلا أن عقلية العداء للإسلام لا زالت تبرز جلية عند أول اختلاف بين العرب والمسلمين من جهة، والغرب الأوربي والأمريكي من جهة أخرى، أو ظهور تباين في المصالح والأهداف. حتى تكاد أن تتشكل لدى العديد من المثقفين العرب والمسلمين قناعة، بأن الغرب وقادته على مر العصور، لا يمكنهم أن يروا الإسلام على حقيقته، كداعية للسلام والأمن والمساواة والتعاون بين الشعوب والأفراد، أو بوجهه الحضاري من خلال القيم والسلوكيات ينادي بها، ويفرضها على اتباعه.
ولا أريد في هذه الدراسة استعراض كافة الحملات المعادية للإسلام، بل نستعرض الشكل العدائي الجديد بما يسمى (صدام الحضارات. وتأتي في مقدمتها أطروحة (صدام الحضارات) لصموئيل هنتغتون المفكر اليهودي الأمريكي، الذي يحتل مكانة رفيعة في مجال العلوم السياسية والدراسات الاستراتيجية في أمريكا والغرب. حيث أحدثت هذه الأطروحة ضجة واسعة في الوسط الفكري العالمي، ومنها الوسط الفكري العربي والإسلامي. لما حملته من أفكار وأراء تجاه حضارات العالم، ومواقفها المستقبلية من الحضارة الغربية المتمثلة بوجهها الأمريكي.(1/131)
حيث اعتبر هانتغتون في أطروحته، أن السياسة بعد انتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، ارتبطت بالثقافة. وإن الخلافات القادمة لن تكون إيديولوجية واقتصادية بل ثقافية. لأن شعوب العالم بعد سقوط الإيديولوجيات حسب اعتقاده، ستبحث عن انتمائها الحضاري التاريخي، كهوية لها.
وبسبب هذا الانتماء للماضي الحضاري، يعتقد هانتغتون أن السياسة الدولية ستشهد صراعاً حضارياً، بين حضارات ثمان هي في اعتقاده ينقسم العالم حولها، وهي حضارات: الغربية والصينية والإسلامية والهندية واليابانية والسلافية الأرثوذكسية والأمريكية اللاتينية والأفريقية.
وما يهمنا ما كتب عن الإسلام وحضارته واحتمالات الصراع معه، فيرى هانتغتون أن أسباب ظهور الصحوة الإسلامية، تعود إلى جملة من الأسباب الداخلية والخارجية. وأهمها هو تأكيد الذات، من خلال أخذ المسلمين بالحداثة، ورفض الثقافة الغربية، واعتبار الدين من خلال سلوكياته وقيمه هو الموجه للحياة.
ويرجع أسباب عودة المسلمين إلى دينهم إلى الفساد المنتشر في المؤسسات والركود الاقتصادي، وبروز الفقر. فالدين من خلال ما يطرح من قيم سلوكية عالية، سيؤدي إلى معالجة تلك الأسباب.
ويبين في أطروحته أن الشعوب الإسلامية والآسيوية هي أكثر عداوة للغرب، طبعاً لا يتحدث عن جذور هذا العداء ومنشئه التاريخي، وعن الظلم الذي حاق بالمسلمين والآسيويين نتيجة القهر والاستبداد الاستعماري الأوربي والأمريكي. ولا إلى التدمير الثقافي والاقتصادي، وزرع الكيان الصهيوني السرطاني، الذي يستنزف كل قواتهم المادية والروحية، بل يعود به إلى الثقة بالنفس، والقيم لدى الشعوب الإسلامية والآسيوية. لهذا يحذر الغرب من خطر التنامي العسكري المتطور لدى الصين والبلدان الإسلامية عليه، بل يحذر من تعاون أكيد بين الحضارتين الإسلامية والكونفوشيسية ضد الحضارة الغربية.(1/132)
وبعد أن يحذر من النمو الديمغرافي للمسلمين، الذي سيؤدي بالشباب إلى تكوين مجموعات عنيفة ومتمردة، يقوم بتحذير الغرب من هذا الخطر الديمغرافي، الذي سيدفع بالشباب المسلم إلى الهجرة إلى بلاد الغرب الأوربي والأمريكي، والخطورة على حضارة الغرب هنا، هو ما يحملونه من قيم حضارة إسلامية معادية لتلك الحضارة.
ويسوق هانتغتون جملة من الأكاذيب والافتراءات، فيدعي أن الإسلام محرض للعنف وسفك الدماء. ومن هذه القاعدة الكاذبة، اعتبر المسلمين متورطين في أعمال العنف أكثر من كل شعوب الحضارات الأخرى. ويسوق تبريراً كاذباً لمسببات وجود العنف والإرهاب لدى المسلمين، هي صعوبة اندماجهم مع شعوب الحضارات الأخرى، وإلى التزايد السكاني الكبير. وعلى هذا يبني مقولته بأن الإسلام مصدر عدم الاستقرار في العالم.
ويشارك هانتغتون في الزفة الإعلامية الكبرى المضادة للإسلام، عدد كبير من المفكرين والسياسيين الغربيين، ويجري استخدام معظم وسائل الإعلام في الغرب والكيان الصهيوني، ترتكز على تخويف الغرب شعوباً وأنظمة من إرهاب إسلامي محتمل مستقبلاً. على اعتبار أن الإسلام دين عنيف، يصدر الإرهاب والرعب. لهذا لا يمكن التعايش معه، ومع المنتمين إليه سواء كانوا في بلاد الإسلام، أو من هاجر منهم إلى الغرب.
ونستعرض آراء مفكر غربي آخر يدعى الدكتور جاك أتالي، وهو عالم اقتصاد ومفكر فرنسي معروف، حيث يرى أنه لا زالت أوربا منغلقة على الإسلام، على اعتبارها نادياً مسيحياً يهودياً.(1/133)
والسبب أن الأوربيين لا يزالون يجدون صعوبة شاقة في معرفة الإسلام، على الرغم من وضوح الإسلام، وليس لديه أسرار كهنوتية، أو طلاسم تقتصر معرفتها على حفنة من رجال الدين، كما هي بعض الأديان، فقرآن الإسلام، وأحاديث نبيه عليه الصلاة والسلام، واجتهادات فقهائه منشورة، إلا أننا نرى هذا الباحث والمفكر يعتبر معرفة الإسلام كمن يكتشف قارة كأمريكا مثلاً. حيث يقول: (وما زلنا في أوربا نحاول اكتشاف الإسلام، كما فعلنا مع أمريكا. واكتشاف الإسلام يضاهي اكتشاف أمريكا في صعوبته).
بل ويؤكد أن اندماج المسلمين الفرنسيين والمهاجرين المسلمين ممن يحملون الجنسية الفرنسية بالفرنسيين من المسيحيين وغيرهم، لا تزال صعبة وشبه مستحيلة فيقول: (.. هذا الاندماج مسألة صعبة للغاية.. بل شبه مستحيلة.. هذا واقع.. فعلى حد علمي لا يوجد مسلم واحد من الحكومة الفرنسية، ولا يوجد مسلم في البرلمان الفرنسي، ولا يوجد مدير شرطة مسلم، وأن كان هناك بعض المديرين من أبناء المهاجرين الجزائريين الذين انضموا إلى الجيش الفرنسي. كما لا يوجد في فرنسا مسلم رئيساً لجامعة أو مركز أبحاث كبير. وهكذا يتضح أن المدينة الفاضلة هي كذبة على النطاق الدولي)(11).
ولا يعالج السبب الحقيقي في عدم وصول مسلم فرنسي في الحكومة أو البرلمان، فهو يعلم أن حرباً ضروساً ضد المسلمين سواء من كانوا من الفرنسيين أو المهاجرين المتفرنسين. رغم أن عددهم يسمح لهم بأن ينالوا ربع المقاعد، وأن يمثلوا في البرلمان. إلا أن الحرب المكشوفة ضد الإسلام والمسلمين تمنع ذلك، فما معنى محاولة سجن روجيه غارودي، ومضايقة وعزل المطران الفرنسي الذي ناصره.(1/134)
ويبين جاك أتالي أكذوبة الادعاء الأوربي عامة والفرنسي خاصة، بأن الغرب واحة الديمقراطية، فيوضح بأنه لا يزال المسلمون في فرنسا، يعيشون في ضواحي المدن، التي لا تتوفر فيها المدارس الكبيرة، ولهذا تقل فرص التعليم لأطفال العائلات المسلمة، التي تسكن الضواحي عن غيرهم في المدن 22 مرة. ويقول أيضاً أنه لا زالت هناك صعوبة كبيرة لاندماج المرأة المسلمة في فرنسا.
ويشير المفكر الفرنسي جاك أتالي إلى نظرية أنجلوساكسونية، التي تؤكد ما جاء به صموئيل هانتغتون، فهذه النظرية: (تدعو إلى رؤية العالم بعد نصف قرن من الزمان. إن أوربا تشكل اليوم 4% من سكان الأرض، وعدد سكان الولايات المتحدة الأمريكية لا يزيد عن ذلك. إذن فإن عدد سكان أوربا وأمريكا معاً أقل من 10% من سكان كوكب الأرض. بينما يمثل عدد سكان الصين من 10 إلى 15% من سكان الكوكب. وطبقاً لحسابات التعداد يتراوح عدد المسلمين ما بين 20 إلى 45% أي حوالي ثلث سكان الأرض. وهذه النسبة ستكون خطرة على الغرب أن تمكنوا من التحالف مع الصينيين ليشكلوا بعدها الغالبية السكانية في العالم.
لذلك يدعو علماء المستقبل في الولايات المتحدة وأوربا إلى ضرورة التحالف اليهودي المسيحي، ويستنكر هؤلاء العلماء الوحدة السياسية الأوربية، لأن الوحدة بالنسبة لهم، هي وحدة العالم الغربي كله.
.. ويؤكد هؤلاء العلماء، على ضرورة أن يعمل الأوربيون والأمريكيون معاً في هذا الإطار، من أجل التصدي لهذا التهديد الخارجي، ويصبح بذلك العدو هو تحالف الإسلام والصين كقوة عظمى..)(12).(1/135)
هذه النظرية المعادية للإسلام في المحتوى والشكل مؤسسة على الكذب والتحريض، فصناعها يعلمون علم اليقين، أن الإسلام لا يشكل كتلة واحدة داخل دولة أو إمبراطورية واحدة كالأمة الصينية، والمسلمون يتواجدون في كل أنحاء العالم. وتختلف نسبة وجودهم في تلك الدول ما بين الغالبية المطلقة إلى مجموعة من الأقليات. والغالبية العظمى من الدول ذات الغالبية السكانية من المسلمين دول علمانية، لا تشرع دساتيرها وفق الشريعة الإسلامية، والنظام القائم فيها نظام علماني، بل دول تسير وفق التقليد المنهجي السياسي والقانوني الغربي.
فأين الخوف الذي يأتي من الإسلام على الغرب كما يدعي صناع صدام الحضارات؟
وما يطرحونه من خطورة الإسلام على الغرب، ما هو في حقيقة الأمر لا يعدو إلا مخيل وهمي زرعته القوى المعادية للإسلام وفي مقدمتها الصهيونية، تستهدف منه نشر الخوف والرعب لدى الغربيين من عدو تم تحضيره من بطون تاريخ القرون الوسطى، ليسهل هضمه وتسويقه إلى الشعوب الغربية، بعد أن تمت صناعته في مطابخ دوائر مؤسسات بحثية غربية متصهينة، تغذيها مادياً الصهيونية لأهداف معادية للإسلام وعقيدته.
* من أين يأتي الخوف من الإسلام؟(1/136)
يأتي الخوف من الإسلام كما تصوره الدوائر المتصهينة من ازدياد انتشاره في الغرب على أيدي المهاجرين المسلمين، والذين يحتكون بالشباب الغربي فيؤثرون عليهم بسلوكهم، مما يؤدي إلى اعتناق العديد منهم للدين الإسلامي. وفي ازدياد اتباع الديانة الإسلامية في الغرب، تحرض الصهيونية والمؤسسات المتصهينة الغرب بخطورة أسلمة العديد من الشباب الغربي. وهذا ما يقرأ من خلال الأبحاث التي يطرحها صناع صدام الحضارات، لنرى ما يقوله هنتغتون من الخوف على الغرب من الإسلام من خلال المهاجرين من أتباعه: (الثقافة الغربية تتحداها جماعات في المجتمعات الغربية، ومن أحد هذه التحديات يأتي من المهاجرين من حضارات أخرى، والذين يرفضون ومستمرون في الارتباط مع قيم وعادات وثقافات مجتمعاتهم، هذه الظاهرة أكثر وضوحاً بين المسلمين في أوربا، وكذلك تظهر بدرجة أقل بين الأسبان في الولايات المتحدة والذين يشكلون أقلية واسعة، إذا فشل الاحتواء، في هذه الحالة الولايات المتحدة ستصبح دولة متصدعة، بكل إمكانية الحرب الأهلية والذي سيتوالى فيما بعد. في أوربا الحضارة الغربية يمكن أن تقوض بإضعاف مكونها الرئيسي المسيحية(13).
* لماذا التحريض على الإسلام والمهاجرين المسلمين؟
يأتي من التغيير المحتمل، فالغرب الذي أفلس روحياً، وانتشرت فيه ثقافة السوق والديمقراطية ذات النمط الرأسمالي، التي تعتمد على الاحتكار، والغنى الفاحش لطبقات رأسمالية محدودة العدد تملك ثروات هائلة، مع ازدياد عدد الفقراء والمتشردين، وارتفاع أعداد العاطلين عن العمل نتيجة السماح للقوى الرأسمالية بتراكم الثروة لديها، من خلال السلوك الاستغلالي لشعوبهم تحت ذريعة الحرية الفردية المطلقة، وعبر نهب الشعوب في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.(1/137)
فماذا كانت نتائج تلك الثقافة المبنية على الاستغلال سوى ثقافة اللهو، والغناء والرقص، والإباحية والشذوذ، والانتحار وغيرها؟ والتي أنتجت فراغاً روحياً. بدأ الشباب الأوربي يبحث عن إملائه، ووجد الكثير منهم في الإسلام ضالته، فبدأت حركة وأن كانت بطيئة من اعتناق الدين الإسلامي، فظهرت في مدن غربية عدة المساجد والمراكز الإسلامية، وبدا تتشكل المجتمعات الإسلامية في أوربا وأمريكا، وأن كان اعتناق الإسلام من قبل الأوربيين قليل جداً، إلا أنه بدأ يؤرق مفكري وسياسي الولايات المتحدة وأوربا. فبدأت أجراس التحريض اليومي للمؤسسات المتصهينة لمنع انتشار الإسلام.
لهذا تشكل نوع من التحالف بين الساسة وعدد كبير من مفكري الغرب المتصهينين على معاداة الإسلام، إضافة إلى أنصار من اتباع المذهب الإنجليكي المتصهين والمؤسسة السياسية والعسكرية اليمنية الأمريكية، والتي تمثلها اليوم إدارة الرئيس جورج الابن وديك تشيني وكوندليزا رايس ورامسفيلد وغيرهم من مالكي القرار السياسي الأمريكي.
كما أن خلق عدو جديد للغرب هو الإسلام، في تصور المؤسسة اليمنية في الولايات المتحدة، يؤدي إلى استمرارية قيادة أمريكا للعالم الغربي، ويبقي هيمنتها على شعوب العالم، وانفرادها كالدولة الأعظم في العالم، الذي تُرضخ السياسة الدولية وفق نهجها وإرادتها.(1/138)
فبعد انهيار الاتحاد السوفييتي ومعسكره، الذي كان يوحد قوى الغرب خلف الولايات المتحدة، وجدت الولايات المتحدة نفسها بحاجة ماسة لعدو بديل للمعسكر السوفيتي، يبقي الغرب موحداً خلفها. لهذا خلقوا كذباً وافتراءً فكرة الخطر الإسلامي على الغرب، فلا بد من استمرارية التوحد لمواجهته. وجاء هذا الاختيار متوافقاً مع أهداف المشروع الصهيوني العنصري الاستيطاني، الذي يرى في العروبة والإسلام القوة الحقيقية في التصدي له وإجهاضه. فتوحد الصهاينة والمؤسسات الغربية فكرية وسياسية في صناعة ما يسمى بالإرهاب الإسلامي كل حسب ما يخدم أهدافه.
وهذا ما عبر عنه جورج بوش الأب في عام 1991 وكلا من المستشار الألماني ورئيس الوزراء الفرنسي مع سكرتير حلف شمال الأطلسي في عام 1995 بأن الأصولية الإسلامية خطيرة مثلما كانت الشيوعية للغرب. وعضو في إدارة كلينتون أشار للإسلام بأنه خصم عالمي للغرب(14).
?
* الفصل السادس
الصهيونية وحملة الافتراء.
ليس غريباً على اليهود بشكل عام، والحركة الصهيونية بشكل خاص أن يعاديا العروبة والإسلام، وذلك مصداقية لقوله تعالى: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا..(. بل الغرابة ستكون أن كان العكس من ذلك، فحينها لا بد من مراجعة. فإن مديح الصهاينة لهما يعني أنهما في وضع خاطئ، ولا بد من التصحيح. أما استمرارية حالة العداء، وشن حملات التشهير ضد الإسلام والعروبة من قبل اليهود والصهاينة، يعني أن الإسلام والعروبة هما في خير وعلى صواب.
وتعود أسباب الحالة العدائية إلى اختلاف وتصادم الأهداف والغايات بين الإسلام والعروبة من جهة، وبين اليهودية والمشروع الصهيوني من جهة أخرى.(1/139)
فالشريعة اليهودية من خلال توراتها وتلمودها، تعتبر كل البشر عدا اليهود هم بمستوى الحيوانات، إن لم يكن أقل. لهذا أباحت تلك الشريعة استباح أموال غير اليهود وأرضهم وأجسادهم وأرواحهم. بل من الواجب تنفيذ الاستباحة، بموجب قانون الاصطفاء الإلهي لهم من دون البشر، الذين اصطنعوه لأنفسهم من قبل إلههم، حين اختارهم شعباً خاصاً له من دون مخلوقاته.
وتم البناء السلوكي والإيديولوجي للمكون الثقافي والسيكولوجي للفرد اليهودي على مر التاريخ على قاعدة الاصطفاء والاختيار الإلهي. وجاءت الصهيونية كحركة عنصرية، لتترجم هذه القاعدة عسكرياً وسياسياً وثقافياً، في أبشع أشكال العنصرية المقيتة في حق الأمة العربية عامة والشعب العربي الفلسطيني خاصة.
وليس العالم اليوم بحاجة إلى إيراد الشواهد على هذا القول، فكل يوماً تنقل وسائل الإعلام شواهد حية من تلك الممارسات العنصرية الإرهابية، التي تعطي أبشع الصور للحقد والتسلط والتعالي والسحق المادي والمعنوي للإنسان الفلسطيني، دون أي رادع أخلاقي وقانوني وإنساني.
في حين أن الإسلام مغاير لهذه العقائد والسلوكيات، فهو يدعو إلى المساواة المطلقة بين البشر، دون النظر إلى الجنس أو العرق أو القومية على قاعدة القانون الإسلامي (لا فرق بين عربي وعجمي ولا أبيض ولا أسود ولا أحمر إلا بالتقوى). ومن مقولة خالدة لرسول الإسلام محمد عليه الصلاة والسلام: [الناس سواسية كأسنان المشط]. ويهدف إلى بناء عالم بشري أرضي، يسوده الحق والعدل والسلام، وعدم الإكراه في الاعتقاد الديني والمذهبي، وإلى التعايش المشترك وفق أداء الحقوق والواجبات على الفرد.
* بنيامين نتنياهو يكتب عن الإرهاب الإسلامي!!!(1/140)
نورد هنا نموذجاً من الحملات التي شنتها الحركة الصهيونية على الإسلام، هو ما كتبه زعيم إرهابي ورئيس وزراء للكيان الصهيوني الأسبق بنيامين نتنياهو، وهو صاحب المجازر المعروفة عما أسماه الإرهاب الإسلامي، حيث ألف ثلاث كتب حول هذا الموضوع وهي:
- الإرهاب الدولي: تحد واستجابة، وقائع مؤتمر القدس حول الإرهاب الدولي. والذي صدر في عام 1981.
- الإرهاب: كيف يمكن للغرب أن ينتصر؟. وصدر عام 1986.
- محاربة الإرهاب: كيف تستطيع الديمقراطيات هزيمة الإرهابيين المحليين والدوليين؟ وصدر عام 1995.
ومعظم ما جاء في تلك الكتب كان تحريضاً واضحاً للحكومات الغربية على الإسلام والعروبة، من خطر الإرهاب الإسلامي على أنظمتها الديمقراطية، وشعوبها، ومصالحها، لما يحمل من وسائل دمار وسلوكيات عدوانية وحقد حضاري.
ويقدم نتنياهو في كتبه مجموعة من النصائح والوسائل لمواجهة ما زعمه من خطر الإرهاب الإسلامي. فهو يدعو الولايات المتحدة الأمريكية إلى قيادة العالم الغربي، لشن حرب ضارية ضد المسلمين، ودعاها إلى استخدام قوتها العسكرية والاقتصادية والسياسية ضد المسلمين، إلى أن يرضخوا ويستسلموا لاتباع النمط السلوكي والثقافي والاجتماعي الأمريكي الصهيوني.
ودعا نتنياهو الولايات المتحدة والدول الغربية إلى أن تشمل تلك الحرب المسلمين في أوربا وأمريكا. فهم في رأيه بؤرة خطرة لنمو الإرهاب ضد حضارة الغرب وأمريكا، وأن تركوا سيفسدون تلك الحضارة والديمقراطية التي أنتجتها بزرعهم في داخلها مبادئ الإسلام وأفكاره الرافضة والمعادية لتلك الحضارة والديمقراطية.(1/141)
ولا حاجة أن نقول أن ما أورده نتنياهو في كتبه من أكاذيب وتزوير وقلب للحقيقة، بغية خداع العقل الفردي للإنسان الغربي مهما كانت مواقعه، قالباً للحقائق، بحيث يغدو الضحية قاتلاً، والمجرم الإرهابي الحقيقي ضحية، فبنيامين نتنياهو من زعماء التطرف اليمني الصهيوني ومن أشد زعماء الليكود عداءً للعرب والمسلمين وجرائمه معروفة ضد الفلسطينيين، حتى أن الشارع الصهيوني أسقطه في انتخابات 1999 نتيجة عدم القدرة على تحمل الرأي العام الدولي لسلوكه ضد السلام والفلسطينيين.
وما كتب نتنياهو إلا جزء صغير من الحرب الصهيونية ضد العرب والإسلام، لطمس جريمة اغتصاب فلسطين، واقتلاع شعب من وطنه وأرضه، واستبداله بمجرمين صهاينة يهود من كل أنحاء العالم. وخلق ثكنة في المنطقة العربية مدججة بالمرتزقة والقتلة والسفاحين والمزودين بأحدث الأسلحة والمدعومين من النظام الغربي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، لتحقيق مصالح المشروعين الصهيوني والغربي.
وفي العودة إلى كتب نتنياهو نجد فيها أيضاً تحريضاً خبيثاً للكامن التاريخي في عقل الفرد الغربي من الموروث المعادي للإسلام، وتقديم الإسلام بصورة العدو الدائم للغرب وحضارته. وأن عدم اجتثاثه من خلال توجيه ضربة قاصمة له، سيكون الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة في دائرة الخطر المميت، وسيكون الخطر الداهم أيضاً على مصالحه في منطقة الشرق الأوسط والعالم. ولا ينسى أن يلعب بمشاعره في الخطورة على مصالحه الحيوية، وخاصة النفط الذي يعتبر عصب الحياة للصناعة في الغرب.
ومن الكذب والتزوير الذي أورده نتنياهو ضد الإسلام في كتبه، ادعاؤه أن الإسلام يحمل إيديولوجية غير عقلانية، كالشيوعية التي تحمل إيديولوجية غير عقلانية. ولكن الاختلاف بينهما، أن الشيوعية ذات أسلوب عقلاني، في حين الإسلام ذا أسلوب غير عقلاني.(1/142)
ولا بد من يتساءل لماذا التشبيه بين الإسلام والشيوعية؟ وكيف يكون أسلوب الشيوعية عقلاني، في حين ، الإسلام ذو أسلوب غير عقلاني؟.
إنه الخبث الصهيوني التحريضي المضاد للإسلام، حيث يعلم أن الغرب الرأسمالي وخاصة الولايات المتحدة، لا زال يحمل ثقافة العداء للشيوعية، التي خاض معها صراعاً عنيفاً امتد ثمانين عاماً في القرن العشرين، وانتهى الصراع بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ومعسكره الاشتراكي، وبما سمي بنهاية الحرب الباردة عام 1991.
فالشيوعية خطر على النظام الرأسمالي، لما تحمله من عقيدة تغيرية شمولية لهذا النظام، فهي تدعو إلى إسقاطه وإبداله بالنظام الاشتراكي، الذي ينزع الملكية الخاصة لتتحول إلى ملكية عامة. وتختلف الأساليب في التغيير لدى المنظومات الشيوعية من واحدة إلى أخرى. فمنها من يدعو إلى التغيير عن طريق الثورة أو الانقلاب المسلح العسكري أم المدني أو البرلمان أو التحالف.. إلى آخره من الأساليب والوسائل التغيرية المختلفة.
فالشيوعية نظام وعقيدة مادية دنيوية، في حين الإسلام دين توحيدي سماوي، يحمل عقيدة شمولية روحية ومادية، من قاعدة قوله تعالى: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار(. ومن قانون: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لأخرتك كأنك تموت غداً).
عقيدة حملت في طياتها العدل والحق والتسامح والإنصاف، ونصرة المظلوم، وإشباع الجائع، ورد المظالم، والإحسان وحتمية زوال الإنسان عن الدنيا والمال والجاه والبدن والنعمة، لهذا قرن بين الإيمان والعمل الصالح في معظم آيات القرآن الكريم، وسيكون هناك الحساب والجزاء في الآخرة، فلا يضيع عند الله عز وجل مثقال ذرة كانت خيراً أم شراً.(1/143)
وفي الإسلام مبدأ السواسية بين كل البشر في العمل والتعامل مبدأ أساسي ورئيسي، إضافة إلى المودة والرحمة، وإغاثة الملهوف، واحترام الجار وتكريمه، دون النظر إلى انتمائه الديني أو القومي أو العرقي. وأقر الإسلام الملكية الفردية، وحض على كل معاني الخير والصلاح في الدنيا والآخرة. ونقتبس هنا قولاً للقائد الخالد حافظ الأسد: (الإسلام دين الحق والعدالة والمساواة بين البشر، وهو تكميل للديانات السماوية، ونبراس للفلسفات الكبرى المطالبة بالعدالة للبشر جمعاء).
أما ما يقوله بنيامين نتنياهو، بأن الإسلام ذو أسلوب غير عقلاني فهو الكذب بعينه، وافتراء بين لا يحتاج إلى دلائل. ويقصد في هذا القول، إن الإسلام يتبع وسائل الإرهاب والترويع والتخويف في نشر عقيدته، أو في مواجهته بما أسماه الديمقراطية الغربية على اعتبار الإسلام غير ديمقراطي.
فالرد عليه إن الإسلام هو الدين والعقيدة الرافضة للإكراه، وفرض القبول بالدعوة لها، وهناك العديد من آيات القرآن الكريم التي تبين هذه المسألة، ونذكر منها قوله تعالى: (لا إكراه في الدين لقد تبين الرشد من الغي(. ويقول الرحمن عز وجل: (إنك لا تهدي من أحببت إن الله يهدي من يشاء(. وعديدة هي الآيات الكريمة التي ترفض الإكراه في دخول الإسلام.
فالأسلوب الذي يرتضيه الإسلام، ويؤكد عليه هو الإقناع والحوار الديمقراطي من قاعدة قوله تعالى: (وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة(.
ويدعو إلى أسلوب اللطف والسماحة والتسامح من قاعدة (ولا تستوي الحسنة والسيئة. ادفع بالتي هي أحسن. فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم((15).(1/144)
ويرفض الإسلام بشدة قتل إنسان وزهق روحه، بدون سبب موجب له وهو المحدد في النص القرآني، فقتل إنسان مهما كانت ديانته وعقيدته جريمة عظيمة عند الله عز وجل، كما ورد في التنزيل الكريم: (.. من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً. ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً..((16).
الدين السماوي الذي يرفض أن يقتل حيوان بدون مبرر، أو صيد حيوانات دون الحاجة لها، ويعلن رسوله عليه الصلاة والسلام عن امرأة دخلت النار بسبب هرة، فقط لأنها حبستها وماتت. وعن رجل دخل الجنة لسقايته كلباً عطشاناً. كيف يكون دين قتل وإرهاب وسفك دماء؟.
ونعود إلى كتب نتنياهو التي لاقت ترحيباً من السلطة الأمريكية، فيذكر في كتابه أنه استطاع يقنع الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان بخطورة الإرهاب الإسلامي على الولايات المتحدة الأمريكية والغرب الأوربي. ويذكر إن الرئيس رونالد ريغان قرأ كتابه الإرهاب: كيف يمكن للغرب أن ينتصر؟. عندما كان في طريقه لحضور قمة طوكيو حول الإرهاب. وبناء على توصياته تم اتخاذ إجراءات عسكرية ضد الدول الإرهابية، ومنها ضرب ليبيا عام
1986. وكانت حسرة نتنياهو جاءت من انفلات سوريا وإيران من العقاب الأمريكي بسبب حرب الخليج الثانية عام 1990.
ويقدم نتنياهو للغرب وصايا عشرة لمواجهة الإرهاب الإسلامي والحكومات الإسلامية الإرهابية. كما رسمت في عقل نتنياهو الصهيوني الحاقد وطبعاً هي سوريا وإيران وليبيا والسودان، ولا غرابة أن تورد سنوياً هذه الدول في لائحة الأمريكية تحت اسم دول داعمة للإرهاب. -وتم تطبيقها حرفياً من قبل إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر عام 2001- أما الوصايا العشر التي قدمها نتنياهو للغرب فهي:
1-فرض عقوبات على الدول التي تزود الدول الإرهابية الإسلامية بالأسلحة والتقنية النووية.
2-فرض عقوبات اقتصادية وعسكرية دبلوماسية على الدول الإرهابية.(1/145)
3-تحييد معاقل الإرهاب.
4-تجميد الأرصدة المالية الموجودة في الغرب للمنظمات والأنظمة الإرهابية.
5-تبادل المعلومات الاستخبارية.
6-مراجعة التشريعات لإتاحة حرية أكبر للعمل ضد المنظمات الإرهابية.
7-المتابعة النشطة للإرهابيين.
8-عدم إطلاق سراح هؤلاء الإرهابيين.
9-تدريب قوات خاصة لمحاربة الإرهاب.
10-تدريب وتنوير وتوعية المواطنين بهذا الخصوص(17).
?
* الفصل السابع
نظرية بوش على ما يسمى بالإرهاب
(الحرب الاستباقية)
من يستمع إلى الخطب التي يرددها الرئيس الأمريكي جورج بوش وأعضاء حكومته اليمنية على ما يسمى بالإرهاب، والذي يكاد يقتصر على المسلمين وبلدانهم، وحتى في أماكن تواجدهم شرقاً أو غرباً. تلك الحملة التي انطلقت في أعقاب أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 قد شملت بلداناً إسلامية مثل العراق وسوريا وليبيا والسودان وأفغانستان وإيران ومنظمات إسلامية تتواجد في بلدان إسلامية وغيرها. ومن تحليلات أهداف تلك الحملة وفق الرؤية الأمريكية التي اعتمدت على ما سمي بنظرية الرئيس جورج بوش الابن وأطلق عليها نظرية (الحرب الاستباقية) نرى:
-إن الرئيس جورج بوش يرى أن على الولايات المتحدة، أن تشن حرباً على بلدان تشكل تهديداً لأمن الولايات المتحدة، فهي تأوي، وتدعم ما أسماه بالإرهابيين، أو تقوم بتطوير أسلحة ذرية أو كيماوية أو بيولوجية تهدد بها الولايات المتحد أو أنها سوف تقدمها لإرهابيين قد يستخدمونها ضدها كحالة العراق، وأفغانستان أيام حكم طالبان.
-ويرى أن تستبق الولايات وقوع الحدث سواء سيحدث أو لن يحدث، من خلال حرب تسيطر فيه على هذا البلد الإرهابي وفق منطق بوش، وتقوم بتدمير أسلحته، ومنعه من التهديد، ثم تقوم الولايات المتحدة من خلال جنودها بإعادة ترتيب هيكل البلد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، بما يوافق المزاج والنمط الأمريكي، ليكون التابع المخلص لها.(1/146)
يقول الرئيس بوش الابن: (لقسم كبير في الماضي كان الدفاع عن أمريكا يعتمد على مبدأ الردع والاحتواء في الحرب الباردة. وفي بعض الحالات ستطبق هذه الاستراتيجيات. لكن أخطاراً جديدة ستتطلب تفكيراً جديداً، فالردع -أي الوعد بانتقام شامل ضد دول- لا يعني شيئاً ضد شبكات إرهابية مبهمة حيث لا دول أو مواطنين للدفاع عنهم. والاحتواء غير ممكن حينما يمتلك طغاة غير متوازنين عقلياً أسلحة للتدمير الشامل، يمكنهم إطلاقها بواسطة صواريخ، أو أن يزودوا بها سراً حلفاء إرهابيين لهم.. فإذا ما انتظرنا حتى تتحقق هذه الأخطار مادياً، فإننا سنكون قد أطلنا انتظارنا أكثر مما يلزم..)(18).
وقد قدم الرئيس بوش توضيحاً لاستراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديد، التي تعمد على نظرية (الحرب الاستباقية) في خطابه في 17/أيلول/ 2002. حيث أبرز خطورة التنظيمات الإرهابية على الولايات المتحدة من حيث سهولة الاختراق وإحداث الفوضى وتحقيق الهدف بأقل التكاليف، فقال: (.. إن مهمة الدفاع عن وطننا قد تغيرت تغيراً كبيراً، فإن أعداء الماضي كانوا لا يحتاجون إلى جيوش كبيرة وإمكانات صناعية هائلة لتهديد أمريكا. أما الآن فإن الشبكات المشبوهة من الأفراد بإمكانها إحداث الفوضى والمعاناة في عقر دارنا وبتكلفة تقل عن تكلفة شراء دبابة. فقد تم تنظيم الإرهابيين لاختراق المجتمعات المفتوحة وتحويل قوى التكنولوجيا الحديثة ضدنا).(1/147)
ثم وضع في نفس الخطاب استراتيجية الحرب الوقائية بقوله: (سنعمل على إحداث الفوضى لدى المنظمات الإرهابية وتدميرها من خلال الدفاع عن الولايات المتحدة الأمريكية والشعب الأمريكي ومصالحنا داخل البلاد وفي الخارج. وذلك من خلال تحديد التهديد وتدميره قبل أن يصل إلى حدودنا. وبينما سنعمل باستمرار على حث مساندة المجتمع الدولي، إلا أننا لن نتردد مطلقاً في العمل بشكل منفرد، لو استلزم الأمر لممارسة حقنا في الدفاع عن النفس من خلال العمل بشكل وقائي ضد هؤلاء الإرهابيين لمنعهم من إحداث أي ضرر ضد شعبنا وبلدنا).
تلك النظرية الاستراتيجية الجديدة التي تعطي للولايات المتحدة الحق أن تعمل منفردة بضرب أي بلد ما في العالم عسكرياً أو محاصرته وتهديده باستخدام القوة تحت ذريعة دعم أو إيواء منظمات الإرهاب، أو اتخاذ أي إجراء عسكري أو سياسي أو اقتصادي ضد أية منظمة إقليمية أو دولية تتهمها بالإرهاب.
والخطورة في هذه الاستراتيجية الجديدة للأمن القومي الأمريكي حسب نظرية الرئيس جورج بوش الابن، تكمن في إنها لا تعير للقانون الدولي أي اعتبار، بل تنسف كل الشرائع الدولية التي تكفل سيادة الدول وأمنها واستقلالها، كما أصبحت المنظمة الدولية التي تحمي الأمم الضعيفة من الاحتجاج والاحتلال والهيمنة مهمشة وضعيفة وفي كثير من الأحيان مغيبة إن لم تتخذ القرارات التي تخدم مصالح الولايات المتحدة وهيمنتها على العالم.
?
* الفصل الثامن
الحرب الإرهابية الخبيثة على الإسلام
من أشكال الحرب الخبيثة على الإسلام:(1/148)
- حملة ثقافية فكرية يقودها مجموعة من المفكرين الغربيين المتصهينين، أو من اليهود أو من المنتمين للكنيسة الأصولية الصهيونية المعادية للعرب والمسلمين، تُصدر هذه المجموعة عدة نظريات، التي تطرح حتمية الصدام بين الإسلام والغرب. وتأتي حتمية الصدام والصراع من اختلاف الثقافات والحضارات بين الطرفين. ويقول أبرز كتاب هذه الحملة صموئيل هنتغتون أن الاختلاف سيكون في العديد من القضايا ومنها أن (الصراع بين الغرب والإسلام ركز على القضايا الحضارية المتداخلة مثل انتشار الأسلحة النووية والديمقراطية وحقوق الإنسان والسيطرة على النفط والهجرة والإرهاب الإسلامي والتدخل الغربي أكثر من التركيز على الأراضي)(19).
- حملة إعلامية عنيفة على مستوى العالم، تستخدم فيها كل وسائل الإعلام المرئي والمسموع والانترنيت وغيرها. يقدم من خلالها الإسلام للعالم بأنه مستودع الإرهاب، تخرج منه قوى ظلامية حقودة جاهلة رافضة لكل أشكال الحضارة الغربية الحالية، تهاجم الديمقراطية، ونظمها، وتقتل دعاتها، تزعزع السلم العالمي، تهدد الاستقرار الدولي، تكفر كل من ليس معها في الفكر والممارسة. وكل فرد في العالم مهدد بالويلات من عناصر هذا المستودع.
- استغلال إعلامي لمفاعيل قوى إسلامية متطرفة، ومنها من تدعي وصايتها على الإسلام والمسلمين، ومنها من يكفر من لا يقبل باجتهاده، وآرائه وطريقته، وتفكيره، ويصل حد الغلو بهذه القوى لما تحمل من أفكار متطرفة، من استخدام العنف والقتل لمعارضيها، وحتى بمن يرفض بالانضمام إلى مجموعتها.
- تغذية الصراعات العنيفة بين بعض القوى الإسلامية، كما كان يحدث في أفغانستان قبل الاحتلال الأمريكي الأخير، مثلاً بالسلاح والتمويل، لإظهار صورة مشوهة للإسلام في وسائل الإعلام الغربي. علماً أن تلك القوى قد نشأت، وترعرعت في أحضان المخابرات المركزية الأمريكية، لتكون أداتها في صراعها مع النظام الشيوعي السابق في أفغانستان.(1/149)
- استغلال أوضاع سياسية واجتماعية لتشويه صورة الإسلام وخاصة في قضية المرأة من حيث التعليم والتشغيل، وتولي المناصب الإدارية والسياسية، والافتراء بأن الإسلام ينظر إليها نظرته الدونية. علماً أن علماء الغرب وباحثيه، يعلمون أن الإسلام، كان ولا يزال يحترم المرأة، ويساويها مع الرجل في كل أمور الحياة، وخاصة في التعليم والعمل. بل رفع المرأة في الإسلام إلى مرتبة القدسية العليا كما جاء في قول رسول الله(: [الجنة تحت أقدام الأمهات].
- صناعة مجموعات عميلة للموساد الصهيوني وللمخابرات المركزية الأمريكية والأجهزة الأمنية الغربية الأخرى، تلبس لبوس الإسلام المتشدد والمتطرف، وتنفذ مخططات أعداء العروبة والإسلام. وهذا ما نراه في الجرائم البشعة التي تمارسها تلك التنظيمات باسم الإسلام، كما في الجزائر، حيث تقتل عائلات بكاملها أطفالاً ونساء وشيوخاً، وتغتصب الفتيات المسلمات الطاهرات، حيث يؤخذن أسيرات إلى مقراتهم البعيدة. ويمارسون أبشع وأشنع الجرائم التي ترفضها حتى برابرة القرون الوسطى، حين يؤخذ الطفل من ثدي أمه، ويذبح أمامها، ثم يقطع ثدياها. وتصور تلك الجرائم أمام عدسات التلفاز، لتنقل تلك الصور البشعة إلى كل أنحاء العالم، لتقول هذا هو الإسلام.
…وليس غريباً أن يحضر اثنا عشر ضابطاً من الموساد الصهيوني مؤتمراً للحركات الإسلامية في لندن آب 1994، وهم يرتدون الثياب ويطلقون اللحى، ثم يختلون بجلسة على هامش المؤتمر. وليس غريباً أن يلجأ البعض منهم إلى الكيان الصهيوني، أو وجود ما يزيد على مائة عائلة لمتطرفين تعيش في الكيان الصهيوني وتحت حمايتهم.(1/150)
- خلق حالة وهمية مرعبة، بعد أن يتم نفخها كالبالون لتغدو الضفدعة ديناصوراً مرعباً يزحف على العالم كله، يزرع الرعب والخوف والدمار، ويصور وهمياً قوة عظمى تناطح الدول الكبرى وتهز أنظمتها وأمنها القومي ومصالحها في كل أنحاء العالم، كما في حالة صدام حسين وأسامة بن لادن، فالأول يملك أسلحة ستدمر الغرب والولايات المتحدة، والثاني لا يقع انفجار في روسيا وتركيا وكينيا وبريطانيا وأمريكا واليمن والأردن والكويت واستراليا وحتى في القمر، إلا وكان وراءه ابن لادن. فهل يعقل هذا؟ ولو كان يملك ثورات أمريكا والغرب، فهو زيف ما بعده زيف.
- اعتبار كل نضال ومقاومة عربية وإسلامية ضد الاحتلال الصهيوني عمل إرهابي، ومحاربة ومحاصرة كل دولة عربية وإسلامية تساند المقاومة عمل إرهابي ومساند له. فتعتبر سورية العربية الحاملة للهم القومي والمتصدية للمخططات الصهيونية والغربية المضادة للمشروع القومي الوحدوي النهضوي، والتي رعت المقاومة الفلسطينية لاستعادة الحق العربي الفلسطيني المشروع في الدولة والاستقلال، ودعم المقاومة اللبنانية عمل مساند للإرهاب، وتصويرها دولة تهدد السلم العالمي، وهذا بالطبع يعرفه الغربيون قبل غيرهم أنه كذب.
…وكم سعى القائد الراحل حافظ الأسد طيلة عقد من الزمان، لتضع الأمم المتحدة تعريفاً بين النضال الوطني والإرهاب. فالنضال الوطني لتحرير الأرض عمل مشروع، تقره كل الشرائع والقانونين الدولية والسماوية. في حين الإرهاب ضد الأبرياء عمل ترفضه سوريا وتحاربه. إلا أن الكيان الصهيوني والولايات المتحدة حاربت هذه دعوة التعريف، ولا زالت لأنهما يعرفان أن الحق إلى جانب سورية.(1/151)
- تزييف وتشويه صورة العربي والمسلم في وسائل الإعلام العالمية، فيصور المسلم وحش قادم من مجاهل التاريخ، بلبس ثياباً فضفاضة ويطلق لحية كثة وطويلة، وحاجباً كثيفاً، وأنفاً كمنقار الطير، يحمل أسلحة، شره بالأكل وبالنساء، مغتصب قاتل جاهل. وصورة العربي لا تقل عن ذلك فقط يرتدي عقالاً، ولا هدف له سوى النساء والمال وليس لديه مبادئ وأخلاق.
من هنا نقول أن محاولات تصوير الإسلام بالمستودع، الذي يخرج من خباياه الإرهابيين، إلا شكل من أشكال تسويق مؤامرة تكشفت بعد الحرب على أفغانستان، وصدور اللوائح المتتالية من قبل الإدارة الأمريكية بمصادرة وتجميد أرصدة جمعيات إسلامية خيرية، وفي حربها على العراق، وبتهديدها المستمر لسورية وإيران ولبنان وغيرها من الدول العربية والإسلامية. ورأت كل مقاومة للهيمنة الأمريكية وللمشروع الصهيوني السرطاني إرهاباً يتطلب مكافحته، حتى لمن يتصدى للدولة الصهيونية بالحجارة أو بالفداء الروحي إرهاباً ضد أمريكا والغرب. ويبقى شارون ومجازره التي لا تعد ولا تحصى بطلاً في نظر الولايات المتحدة، ورجل سلام يدافع عن ديمقراطية زائفة.
والحقيقة كل الحقيقة أن الولايات المتحدة والكيان الصهيوني يزرعان الإرهاب والخوف والرعب في العالم، وما أشلاء الأطفال والنساء في فلسطين وأفغانستان وصبرا وشاتيلا وفيتنام وجنازات الأطفال في العراق إلا شواهد على الإرهابي الحقيقي.
?
* المصادر:
(1)-نعوم تشومسكي-أحاديث وحوارات قبل وبعد 11 أيلول 2001-دار الرضا للنشر-دمشق-تشرين الأول 2002-ص48.
(1)-وكالات الأنباء العالمية-الجمعة 7/2/2003.
(2)-نعوم تشومسكي-أحاديث وحوارات-دار الرضا للنشر-تشرين الأول 2002-ص89.
(3)-ديب علي حسن-الإرهاب الأمريكي من حصاد الرؤوس إلى نهب الشعوب-جريدة الثورة-العدد 11984-28/12/2002.
(4)-إمبراطورية الشر-ستيفان فاخوفياك-ترجمة ميشيل منير-البعث-العدد 11989-2/2/2003-ص10-نقلاً عن مجلة بجاسك البولونية.(1/152)
(5)-وكالات الأنباء 7/2/2003.
(6)-صحيفة البعث السورية-العدد-11989-2/2/2003-ص10.
(7)-صموئيل هتنغتون-صدام الحضارات-الدار الجماهيرية الليبية-1999-مصراته-
ص440.
(8)-عصام محفوظ-العلاقة الأمريكية بالإرهاب بين التشجيع والردع-السفير اللبنانية-العدد 94606-24م1/2003-ص21).
(9)-نعوم تشومسكي-المصدر السابق-ص57.
(10)-تيري ميسان-التضليل الشيطاني-الدار الوطنية الجديدة-دمشق-2002-ص99.
(11)-السياسة الدولية-مصر-مؤسسة الأهرام-العدد 144-إبريل2001-ص120) مايكل وايتر-الحرب ضد الإرهاب تسليط أضواء جديدة على النزاع في الشيشان-نيويورك تايمز-9/12/2001.
(12)-تيري ميسان-مصدر سابق-ص94..المصدر السابق.
(13)-صموئيل هنتغتون- صدام الحضارات -مصدر سابق-ص508.
(14)-2002.. صموئيل هنتغتون-صدام الحضارات-الدار الجماهيرية-ليبيا-مصراته-1999 ص379.
(15)-سورة فصلت.
(16)-سورة المائدة-32.
(17)-سعد الشلماني-نتنياهو ونظرية الإرهاب الإسلامي-مجلة المستقبل-بيروت-العدد 262-12/2000-ص20.
(18)-خطبة ألقاها الرئيس جورج بوش في أكاديمية "وست بوينت" 1/6/2002.
(19)-هنتغتون-صدام الحضارات-مصدر سابق-ص275.
??
الباب الرابع
الإسلام والحرية
برزت بعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 دعوات مشبوهة من دوائر غريبة متصهينة، تدعو إلى ضرورة إجراء تغيير شمولي في البلاد العربية والإسلامية، تشمل كافة أنماطها السياسية والثقافية والاجتماعية، وفق ما ترسمه الإدارة الأمريكية. لإرساء الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، التي تفتقدها الدول العربية والإسلامية، مدعية إن سبب فقدان الحرية والديمقراطية في تلك يعود إلى الإسلام. فهو وفق رؤيتها دين يرتكز على الاستبداد والقهر، وبما أنه المصدر الرئيسي والشرعي لتلك الأنظمة، لهذا تتصف بالاستبداد وقمع الحريات.(1/153)
ومن تلك الدعوات الأمريكية، ما ذكرته مستشارة الأمن القومي الأمريكي كونداليسا رايس عن مخطط الإدارة الأمريكية، الذي يسعى إلى فرض الحرية والديمقراطية على تلك الأنظمة في العالمين العربي والإسلامي. وقالت أن واشنطن ستعمل على: (وضع العالم الإسلامي على طريق الديمقراطية ومسيرة الحرية). معتبرة أن القيم الأمريكية من الحرية والديمقراطية، يمكن أن تسري على الإسلام أيضاً(1).
ونذكر من الافتراءات والأكاذيب، التي صدّرها مجموعة من المفكرين والسياسيين والإعلاميين في الغرب عبر وسائل الإعلام المختلفة، بغية تشويه رسالة الإسلام السامية للبشرية جمعاء، واتهامه باتهامات باطلة وكاذبة، ومنها الظلامية أي معاداة الحرية والديمقراطية. وهذا ما كتبه صموئيل هنتغتون فقال: (إن الإسلام قوة الظلام في العالم، بسبب نزوع المسلمين نحو الصراع العنيف)(2).
وما قاله الروائي الفرنسي ميشال ويلبيك ضد الإسلام في حديث له لمجلة (لير) الشهرية الصادر في أيلول 2001: (إن أكثر الأديان غباء هو الدين الإسلامي) وأضاف: (لقد أصبت بانهيار حقيقي عندما قرأت القرآن) وخلص إلى القول: (إن الإسلام ديانة خطيرة منذ ظهورها). وحين اعترض عليه المسلمون في فرنسا، وأقاموا دعوة قضائية ضده بسبب الإهانة العنصرية والتحريض الديني، كرر قوله المعادي للإسلام أمام محكمة الجنح في باريس يوم الثلاثاء 18/9/2002 بقوله: (أنا لا أكره الإسلام بل أزدريه).
إن الحرية أهم أهداف رسالة الإسلام إلى البشرية على مر العصور والدهور، ولكن الحرية بمفهومها القيميّ، فالإسلام يعني بالحرية (تحرير الإنسان من الرقّ الخارجي)، المتمثل في عبوديته للطاغوت كالإنسان المؤله، والحجر ومكونات الطبيعة وغيرها من مخلوقات الله عز وجل، التي تجعله مستعبداً ذليلاً، مسلوب العقل والإرادة، خاضع لنزوات وإرادة الطاغوت.(1/154)
والحرية أيضاً بتحرير الإنسان من (الرقّ الداخلي)، المتمثل بأهواء النفس الطامعة بكل ما حولها من ماديات، والمندفعة نحو شهوة الغرائز، التي ليس لها حدود، والتي تنزع من الإنسان إنسانيته ومُثُله، والقيم الأخلاقية الاجتماعية التي فطر عليها. والتي تحوله إلى وحش كاسر، يفسد في الأرض بلا حدود، دون أي رادع قيمي أو أخلاقي، يعيد له فطرته وإنسانيته والسلوك العالي القيم التي دعا إليها الله عز وجل في كتبه المقدسة.
كما يهدف الإسلام إلى نقل الإنسان من واقع الذلّ والخنوع للقوى الظالمة، وانتشاله من قاع الفساد والتعسف والظلام إلى رحاب جنّة الحرية الحقيقية المتمثلة في مجتمع النور، الذي يسوده العدل والإنصاف والحياة الكريمة، وحرية العقل في الاختيار في مجتمع الشورى. مصداقية لقوله تعالى: (الله وليّ الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون((3).
أي نقل الإنسان إلى الحرية الحقيقية، التي تطلق الإنسان إلى الإبداع، من خلال توفر أهم عامل للإبداع الأمن الداخلي والخارجي. فالأمن الداخلي يبرز جلياً بالطمأنينة الذاتية من خلال التحرر من عبودية الطاغوت إلى عبادة الخالق عز وجل الواحد الأحد المتصف بالرحمة والعدل والإنصاف والقدرة والحكمة والعلم والمعرفة المطلقة، وعبادته وحده فقط دون أي شريك كان، وإسقاط كل الآلهة المصطنعة، التي تتسم بالظلم والقهر والجور. هذا الأمن الداخلي لا يعرفه إلا المؤمن المستسلم لله عز وجل، وهذا ما يوفره الإسلام. قال تعالى:
(الذين آمنوا تطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب((4).(1/155)
يسعى الإسلام لتحرير الإنسان من عبودية الدنيا، التي يسودها الطمع المادي والمعنوي، والصراع الدامي على ماديتها الفانية، وتحريره من أجواء الفساد الذي تعيش في أحواضه الآسنة كل قوى الشر، لينقله إلى رحاب نور الروح الطاهرة والمادة النظيفة والعلاقات الاجتماعية والثقافية، التي تتسم بالمودة والرحمة والإخاء والتعاضد والإحسان والبر والتعاون والمحبة. كما جاء في قوله تعالى: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون
(11) ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون(12)((5).
فالطواغيت من البشر المؤلهة لنفسها، تسعى لاحتكار الإنسان روحاً وعقلاً، ليكون عبداً لها ولمصالحها الدنيوية، فتسلب منه الإرادة والتفكير، وتوهمه بأنها تملك قدرات خارقة، ليظل تحت سلطانها ورهبتها والخشية منها، مستفيدة من استخدام ما تملك من سلطان الجاه والمال والمنصب في زرع الرعب والخوف في نفسه، فيبقى أسير هواها ومشيئتها، التي تعارض فطرته الإنسانية المنفطرة على الحرية والاجتماع.
وفي حقيقتها غير قادرة على دفع الضرر عن نفسها، إذا أراد الله عز وجل شيئاً، قال تعالى: (واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً((6). وما يملك الطاغية المؤله في الحقيقة إلا وسائل التهديد والترهيب والوعيد بالقتل والتعذيب، كما جاء في قول فرعون لموسى عليه السلام، حسب ما أوردته الآية الكريمة: (لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين((7).(1/156)
فالله عز وجل الذي خلق الإنسان ضعيفاً، يتحول إلى طاغية متجبر على الأرض، حين يتولى ويتحكم بشؤون الآخرين من خلال رزقهم ومعيشتهم، وتزداد حالة الطغيان لديه، إذا أصبح حاكماً مطلقاً. فتتحلق حوله حاشية تزيف له أعماله، وتزين له أعماله، فتحول كلماته المبهمة إلى كتاب مقدس، وأفعاله إلى منهج، وكل ما يقوم به ويفعله نبراس يحتذى به. فيتمكن منه الغرور حتى يصدق كل أكاذيبه. ومع الأيام يصبح إلهاً على الرعية أن تقوم بعبادته.
وشهدت الأرض نماذج من هذا النوع في الماضي والحاضر. فرئيس كان في هايبتي في الستينات من القرن الماضي، يقول لشعبه: أمكم مريم العذراء وأنا أبوكم. وفي تركمانستان الرئيس صابر مراد نيازوف يدعي أن الوحي يأتيه، وكتب كتاباً أسماه (روناما) قال عنه: (أنه يعوض أوجه القصور في كل من القرآن والإنجيل) ومن سخريات القدر أنه فرض ليكون الكتاب حجر الزاوية في النظام التعليمي في كافة البلاد، وجوهر التعليم في حد ذاته(8) فتدهور التعليم بكل درجاته حتى الجامعي.
وأمثال هذا الطاغية وغيره كثر في عالمنا اليوم، ويدرك هو وغيره أنه أضعف مخلوقات الأرض، لا يقدر على خلق بعوضة، أو منعها إن آذته أو سلبت منه شيئاً، كما جاء في المثل الذي ضربه الله عز وجل عن زيف قدرات الحاكم المؤله لنفسه الخارقة، قال تعالى: (يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وأن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه ضعف الطالب والمطلوب((9).
?
* الفصل الأول
أولى حرية الإنسان في الإسلام كرامته.(1/157)
كرم الله عز وجل الإنسان على سائر مخلوقاته في الأرض، ورفعه إلى مكانة عالية رفيعة، حين جعله خليفة في الأرض كما قال تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة..((10)، وزيادة في التكريم أمر الملائكة في السجود له. هذه المكانة العالية المعطاة من الله عز وجل دليل على تكريم الإنسان من قبله عز وجل، وإلى الاحترام الذي يحمله الإسلام لإنسانية الإنسان، بما تحمل من قيم وسلوكيات يجب احترامها وتعزيزها.
قال تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا((11).
واحترم الإسلام العقل، واعتبر التفكير والعمل هي الأداة الأساسية لمعرفة الخالق عز وجل ومخلوقاته في السماوات والأرض، حيث قال الله عز وجل: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب((12).
فالعلم الذي غرسه الرحمن عز وجل في الإنسان سواء في بداية خلقه لآدم، كما قال تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها..((13). أو في الأجيال المتلاحقة من البشر، حيث علم الإنسان من بعد ذلك العلوم والمعارف، وهداه لتعلم الكتابة، التي تعتبر أهم تحول تاريخي في حياة البشرية، قال تعالى: (اقرأ باسم ربك الذي خلق(1) خلق الإنسان من علق(2) اقرأ وربك الأكرم(3) الذي علم بالقلم(4) علم الإنسان ما لم يعلم(5)((14).
فالعلم والتفكير العقلي من أهم الميزات التي ميز الرحمن عز وجل الإنسان على سائر مخلوقاته، وقد رعى الإسلام المعرفة وأصحابها، ووضع لها احتراماً خاصاً في سلوكيات اتباعه، الذين حضهم على المعرفة والبحث العلمي والفكري وسائر فنون المعرفة، حتى أنه رفض المساواة بين العلم والجهل رفضاً مطلقاً، قال الله عز وجل: (.. قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب((15).(1/158)
ومن خلال امتلاك الإنسان للعقل والتفكير، ترك الإسلام للإنسان حرية الاختيار بين الإيمان بوحدانية الله عز وجل واتباع تعاليمه، أو اختيار طريق الكفر والإلحاد، ولكنه وضع نتائج لذلك الاختيار، بين الفوز بالجنة أو الدخول إلى جهنم وبأس المصير، قال تعالى: (قل الله أعبد مخلصاً له ديني(14) فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين(15)((16).
?
* الفصل الثاني
الإسلام
أعطى الإنسان حرية الاعتقاد والاختيار
الحرية في الاعتقاد والاختيار هي الأساس الأول الذي قامت عليه رسالة الإسلام، فرفض الإسلام الإكراه والقسر في دخول الناس في الدّين. بل وضع مبدأ الاختيار الارادي أساساً في الدخول فيه، بعد أن يتمّ تبيان دعوته ورسالته، والأسس التي تقوم عليها لكافة الناس.(1/159)
وأوضحت عدة آيات في القرآن الكريم مبدأ حرية الاعتقاد، وعدم إكراه الناس ليؤمنوا بالإسلام، نذكر منها قوله تعالى: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم((17). فأمر الله عز وجل واضح في هذه الآية الكريمة، فبعد أن اتضح مفهوم الإسلام وأهدافه للبشرية أجمع على مرّ الدهور والعصور، دعا الرحمن عز وجل أن يترك للإنسان حرية الاختيار بين طريق السلامة والأمن والاستقامة والراحة المادية والمعنوية في الدنيا والآخرة، وبين طريق الهلاك والآلام والندامة والحسرة والتيه والضلال، وبذلك تقع على الإنسان عاقبة هذا الاختيار ونتائجه، فإن أحسن نجا، وإن أساء هلك. وتعددت الآيات الكريمة، التي تحض على ترك حرية الاختيار الإرادي للإنسان في الدخول في الإسلام أو عدمه، ومن الآيات الكريمة التي بينت حرية الاختيار الإرادي قوله تعالى: (قل يا أيها الناس قد جاءكم الحقّ من ربّكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضلّ فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل((18).
أمر الله عز وجل رسوله الكريم محمد(، أن يبلغ الناس كافة حقيقة الدعوة الإسلامية وأهدافها السامية العليا. ومن ثم ترك الأمر للإنسان بحرية قبولها أو رفضها، فهو حر في اختيار الهدى أو الضلالة، وليس الرسول( مسؤولاً عن هذا الاختيار، بل تقع نتيجة الاختيار على الإنسان نفسه. قال تعالى: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون((19).(1/160)
وقال تعالى: (وأن اتلوا القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضلّ فقل إنما أنا من المنذرين((20). وهذه الآية تطلب من الرسول(، أن يقرأ على الناس القرآن، ويفسره، ويبين ما فيه من أحكام وسلوكيات، ووحدانية الله عز وجل، ويوم الحساب وغيرها من العقائد المختلفة، التي جاءت بها الرسالة المحمدية للبشرية جمعاء، وتترك بعد ذلك للإنسان حرية الاعتقاد والاختيار.
وما مهمة الرسول إلا التبليغ والتذكير والتنبيه والإنذار من عواقب الشرك والفساد وعدم الإيمان بوحدانية الله عز وجل وبيوم الحساب، كما كلفه بها الله عز وجل، وهذه مهمة كافة الرسل الذين أرسلهم الله عز وجل لكافة البشر، قال تعالى: (وما نرسل المُرسلين إلا مبشرين ومنذرين...((21). يبشروا بضرورة الخلاص من الشرك والإلحاد، وبالرسالة السماوية المتسمة بالعدل والحق، وباليوم الآخر الذي ينصف فيه الأبرار من المؤمنين وذوي السلوك الحسن، وينال فيه كل حق حقه، وترد فيه المظالم، ويعاقب الظالم والمتجبر والفاسد والملحد وغيرهم، ممن زرعوا الأرض فساداً.
إن الله عز وجل أرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام إلى الناس كافة، حتى يكون حجة عليهم، ويدحض أي ادعاء بأنهم لم يبلغوا، وأنهم لا يعلمون، قال تعالى: (رُسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس حُجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً((22).
وقال تعالى: (يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربّكم فآمنوا خيراً لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله عليماً حكيماً((23).(1/161)
وهكذا يظهر لنا الإسلام دين آمن بحرية اختيارات العقل للإنسان، مما يكذب كل ادعاء المستشرقين، الذين حاولوا أن يصوروا الفتوحات الإسلامية على أنها كانت لإكراه الناس بالدخول بالإسلام بحد السيف. ومن يراجع تاريخ الفتوحات الإسلامية شرقاً وغرباً، سيجد أن المسلمين لم يرغموا مسيحياً أو يهودياً على الدخول بالإسلام، والشواهد على محافظتهم على أماكن العبادة لليهود والنصارى، وسيجد حتى الوثنين من البوذيين والهندوس والسيخ وغيرهم، تركت معابدهم وهي شاهدة اليوم على ذلك رغم السيادة الإسلامية على تلك البلاد. وهذا ما يكذب ادعاء من قال عن الإكراه في دخول الإسلام، ويثبت على محافظة الإسلام على تطبيق مبدأ حرية الاختيار.
?
* الفصل الثالث
الإسلام
جاء لتحرير الإنسان من أغلال العبودية.
جاء الدين الإسلامي كما قلنا سابقاً من أجل تحرير الإنسان من رق العبودية للطاغوت البشري أو الحجري وغيره، وإطلاقه إلى أفق مجتمع العدل والمساواة، الذي يتساوى فيه الغني والفقير في الحقوق والواجبات، وتكون فيه التكاليف على حسب القدرة والاستطاعة، وتحفظ للإنسان الكرامة والأمن على نفسه وماله وعرضه ودينه، ويرفض الإسلام من أين كان المساس بها إلا بالحق. وما قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخليفة الراشدي الثاني: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً) إلا انعكاساً لتعاليم الإسلام بضرورة صون حرية الإنسان، وواجب الدولة والمجتمع المحافظة عليها وحمايتها.(1/162)
جاءت رسالة الإسلام لتحطم الأغلال التي قيدت بها العديد من المجتمعات، ومنها أغلال الرذيلة والفساد والعدوان وكافة الخبائث التي تعيث فساداً في الأرض. وليدعوا إلى مجتمع إنساني يتحلى بالقيم الإنسانية الرفيعة العالية. وقد أوضحت الآية الكريمة التالية معنى تلك الحرية، قال تعالى: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعززوه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون((24).
وتوجهت رسالة الإسلام من الجزيرة العربية إلى بقاع العالم شرقاً وغرباً، تحمل أهم مضمون لها، وأولى أهدافها الدعوة إلى التوحيد في عبادة الله عز وجل، ورفض عبادة البشر والأصنام وغيرها، التي تتنافى مع العقل البشري.
والهدف الثاني هو تحرير الإنسان من العبودية، التي فرضها الطغاة من حكامه عليه، تلك رسالة الإسلام في شقيها التوحيدي والتحريري، التي كانت مهمة الفتح تبليغها للناس كافة.
ومن الشواهد التاريخية على ذلك، ما قاله زُهرة بن عبد الله بن قتادة بن الحويّة للقائد الفارسي الشهير رستم، وهو ينقل إليه رسالة الإسلام وغاية الفتح، فحين سأله رستم عن هذا الإسلام الذي يقاتل العرب من أجله فقال: (هو دين الحقّ لا يرغب عنه أحد إلا ذلّ، ولا يعتصم به أحد إلا عزّ) فقال رستم: ما هو؟ قال: أما عموده الذي لا يصلح إلا به فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله. قال: وأي شيء أيضاً؟ قال زُهرة: وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله، والناس بنو آدم وحواء وأخوة لأب وأم. قال رستم: ما أحسن هذا)(25).(1/163)
ولزيادة المعرفة برسالة الإسلام طلب رستم من قائد الجيش الإسلامي سعد بن أبي وقاص مبعوثاً من قبله، فأرسل إليه ربعي عامر وكان جندياً بسيطاً فحين سأله رستم: ما جاء بكم؟ قال ربعي: الله جاء بنا، وهو بعثنا، لنُخرج من يشاء من عباده من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. فأرسلنا بدينه إلى خلقه، فمن قبله، قبلنا منه، ورجعنا عنه، وتركنا أرضه دوننا، ومن أبى قاتلناه حتى نُفضي إلى الجنة أو الظفر)(26).
* تحرير الإنسان من رق الدّين
حارب الإسلام الربّا حرباً ضارية كونها تضع الأغلال في أيدي العديد من الفقراء والمحتاجين، وكان الناس يسترقون بسبب عدم القدرة على دفع الدين المتراكم من الربّا، حيث يتحولون من أحرار إلى عبيد، بسبب عسرتهم عن دفع ما ترتب عليهم من أموال الربّا.
وكانت لهذه الحرب التي شنها الإسلام ولا زال على الرّبا، لها الأثر الفعال في تحطيم قيود عبودية الرّبا، وفك رقاب العديد من الناس من الرقّ والتسول والإذلال، الذي يلاقونه من المرابي بسبب عدم قدرتهم على دفع المبالغ المدانين بها، أو الأقساط الواجب دفعها، أو الفائدة التي تتضاعف بسبب عدم القدرة على السداد.
وكم من أعراض انتهكت بسبب الرّبا؟ وكم من جريمة ارتكبت بسببها؟. وقصص العالم لا تزال تروي لهذا اليوم مآسي الرّبا، الذي حطمت بيوت كرماء، وأذلت أعزاء في قومهم، وخربت بيوت أغنياء، واستباحت دم الفقراء.
وكانت الرّبا ولا زالت من أهم الخبائث، التي تقيد العديد من المجتمعات في العالم.
وبسبب ما ترتكبه من جرائم شدّد الإسلام على إنهاء الربا، وحاربها محاربة عنيفة للقضاء والحد من شرورها، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الرّبا إن كنتم مؤمنين(278) فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تُظلَمون(279)((27).(1/164)
لقد استهدف الإسلام من محاربة الرّبا تحرير الإنسان من أغلال دين مال الرّبا، وإطلاقه من قيوده، وأعاد له كرامته ووجوده في عزّ وكرامة، وفرض على الأغنياء كفاية الفقراء من خلال أموال الزكاة المفروضة والصدقات، وحض الإسلام على الإنفاق، وآيات الزكاة والصداقات والإنفاق على الفقراء كثيرة هي القرآن الكريم، والتي وعدت المنفق دون منّة أو رياء الناس بالفوز بالجنة. وتعتبر الزكاة ركناً أساسياً من أركان الإسلام، ومن قرأ التاريخ يعرف السبب الرئيسي لحروب الردة، وهي إلى الامتناع عن دفع الزكاة، حين شن الخليفة الراشدي الأول أبو بكر الصديق حرباً ضروساً على الممتنعين عن دفع الزكاة.
* التحرير من أغلال الهوى القاتل والعدوان والأعراف والعادات السيئة.
جاء الإسلام أيضاً ليحرر الإنسان من قيود الشهوات المادية والعدوانية، ومن الأعراف السيئة التي فرضتها القبائل البدوية المتخلفة على أبنائها. فالإسلام رفض اغتصاب أموال الناس بدون حق، وحرم الرشوة للحكام لأكل أموال الناس بالباطل قال تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون((28).
ووضع قواعد للتعامل المالي برفض أكل الأموال عن طريق الخداع والنصب والسرقة والاغتصاب، وحبب التعامل في التجارة على قاعدة التراضي، وحرر الإنسان من قتل نفسه بانصرافه الكلي خلال حياته على جمع المال، وعدم الالتفاف إلى نفسه وصحته وأسرته، بل كرس حياته فقط لجمع المال من أي طريق كان، دون أن يعطي لنفسه حقها الاجتماعي والثقافي والروحي، أو قتل النفس كالانتحار وغيرها من الطرق الأخرى المؤدية إلى قتل النفس. قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً((29).(1/165)
وحرر الإسلام أموال اليتامى والفقراء من الاغتصاب والنهب والسرقة من قبل الأغنياء والأوصياء، حيث كانت أموالهم مستباحة من قبل الأقوياء لمعرفتهم بضعف اليتيم، وعدم قدرته عن انتزاع حقه منهم، فشدد الإسلام على ضرورة إعادة أموال اليتامى إليهم، وحرم تحريماً مطلقاً أكل أموالهم بالباطل، وأنذرهم عذاباً شديداً، قال تعالى: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم سعيراً((30).
وطالب الأوصياء عليهم بإعادة أموالهم إليهم، وعدم اقتطاع أي مال منه إلا للضرورات في رعاية اليتيم، ومنع أخذ المال كاملاً، قال تعالى: (وأتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حُوباً كبيراً((31).
?
* الفصل الرابع
تحرير المرأة الحقيقي في الإسلام
أسقط الإسلام القيود التي كانت تفرضها بعض العادات القبلية السيئة مثل زواج الولد لامرأة أبيه، وحرمه لما فيه من إساءة الولد لأبيه الميت، وفيه تقزز للنفس البشرية، قال تعالى: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً((32). وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته؛ إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها، وإن شاءوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها، فنزلت هذه الآية في ذلك قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً((33).
ووضع قواعد أخلاقية عليا في مسألة الزواج، حين حرم، ومنع الزواج من الأقارب الأصول قال تعالى: (حرمت عليكم أمهاتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم الاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم الاتي في جحوركم من نسائكم الاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف وإن الله كان غفوراً رحيماً((34).(1/166)
وأسقط عادة أخذ مال المهر من الزوجة بعد طلاقها، وبذلك فك القيد الاستغلالي من الحاجة إلى تسديد المهر من امرأة لم يعد لها أي وارد مالي إلا ما يحسن فيه إليها ذويها، وكانت رهينة لقيد سداد المهر، الذي أعطي لها حين تزوجت، وقد تكون قد تصرفت به، ولم يبق منه شيئاً، قال تعالى: (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وأتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً(20) كيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً(21)((35).
وحرر الإسلام المرأة من أغلال أعراف سيئة، كان يمارسها العرب في الجاهلية، وهي دونية المرأة في مجتمعها، الذي كان يرى السيادة والعز والفخار فقط في الذكورية، وأن العار المستقبلي والمحتمل في المرأة. ولهذا أوجدوا عرفاً، يقوم على وأد البنات، الذي يعتبر من أبشع الأعراف القبلية، التي عرفها تاريخ الجزيرة العربية ما قبل الإسلام. وصور القرآن الكريم حالة الرجل الذي يبشر بمولدة له أنثى، وكيف يشعر بالحرج والخجل بتلقي النبأ في مجلس وبين أصحابه؟ وكيفية ردة فعله تجاه هذا النبأ؟ فيقول الله عز وجل: (وإذا بُشِّرَ أحدهم بالأنثى ظلَّ وجهه مسوداً وهو كظيم(58) يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون(59)((36).
لو تمعنا في هذه الصورة القرآنية الكريمة، لظهر لنا مشهد الرجل، وكيف يتلقى نبأ ولادة زوجته بنتاً له؟ فتصوره غاضباً وقد اسود وجهه من هذا النبأ، وكيف يحاول التخفي من الإحراج والتهكم والسخرية من قبل قومه لمولودته الأنثى، ومن ثم يزداد إحراجاً في القرار الذي يتطلب منه اتخاذه، فهو حائر بين أمرين، يجب أن يقرر إحداهما، هل يتركها تعيش مع عائلته، أم يقتلها حية وذلك يدفنها في التراب؟(1/167)
وقد تحدثت بعض المصادر التاريخية عن جرائم وأد البنات في الجاهلية، ومنها القصة الذي ذكرها سيدنا عمر بن الخطاب حين ضحك وبكى مرة فسئل من قبل الحاضرين لماذا فعل ذلك؟ ذكر أنه ضحك حين كان يعبد صنماً من التمر، ويطلب منه المساعدة والعون، ولكنه حين يجوع يقوم بأكله، فيقول أنه ضحك كيف يعبد إلهاً ثم يقوم بأكله، ويرى إلى أي مدى وصل عقل الإنسان من الانحدار، بعدمية الإدراك والتمييز العقلي.
وذكر أنه بكى حين أخذ ابنته الصغيرة لوأدها إلى الصحراء، وأنه قام بحفر حفرة لدفنها فيها، وكيف كانت الطفلة الصغيرة تنفض الغبار المتطاير من الحفرة عن لحيته؟ ورغم هذا الفعل النبيل من تلك الطفلة، لم يرق لها قلبه، الذي كان جافاً بسبب جاهليته، بل دفنها وهي تسأله لماذا؟. لهذا بكى عمر بحرقة للقلب القاسي في الجاهلية، وكيف استطاع الإسلام أن يحوله إلى أرق القلوب الإنسانية التي عرفها تاريخ البشرية.
وهكذا كان حال البنات الصغيرات ما قبل الإسلام، يقتلن بدون ذنب ارتكب، ويدفن أحياء دون أي رادع خلقي وإنساني، فجاء الإسلام ليسقط هذا العرف القبلي الجائر، ويحرر البنت من جريمة لم ترتكبها، ويعيد لها مكانتها الاجتماعية والثقافية أسوة بالرجل. وشدد القرآن الكريم على عقوبة من يقوم بهذا الفعل الشنيع في قوله تعالى: (وإذا الموءودة سئلت(8) بأي ذنب قتلت(9)((37).
جاء الإسلام ليعيد المرأة إلى مكانتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. قال تعالى: (للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن((38). وحتى في الحروب كان للمرأة المشاركة فيها جنباً إلى جنب مع الرجل، ويذكر التاريخ العديد من النساء في هذا المجال بدءاً من أم عمارة مروراً بصفية عمة رسول الله( وحتى الخنساء وخولة بنت الأزور وغيرها.(1/168)
هذه المرأة المسلمة التي حررت من خلال تعاليم الإسلام منذ أربعة عشر قرناً، كانت المرأة في الغرب حتى قرون قريبة في وضع مزدرى ودونيّ عن الرجل، ونذكر قول لعباس محمود العقاد قال فيه: (ولقد تقدم الزمن في الغرب من العصور المظلمة إلى عصور الفروسية إلى ما بعدها من طلائع العصر الحديث، ولما تبرح المرأة في منزلة مسفهة لا تفضل ما كانت عليه في الجاهلية العربية، وقد تفضلها منزلة المرأة في الجاهلية.
ففي سنة 1790، بيعت امرأة في أسواق إنجلترا بشلنين لأنها ثقلت بتكاليف معيشتها على الكنيسة التي كانت تؤويها..
وبقيت المرأة إلى سنة 1882، محرومة من حقها الكامل في ملك العقار، وحرية المقاضاة.
وكان تعلم المرأة سبّة، تشمئز منها النساء قبل الرجال، فلما كانت اليصابات بلا كويل تتعلم في جامعة جنيف سنة 1849-وهي أول طبيبة في العالم-كان النسوة المقيمات معها يقاطعنها، ويأبين أن يكلمنها، ويزوين ذيولهن من طريقها احتقاراً لها، كأنهن متحرزات من نجاسة يتقين مساسها..
ولما اجتهد بعضهم في إقامة معهد يعلم النساء الطب بمدينة فلادليفيا الأمريكية، أعلنت الجماعة الطبية بالمدينة، أنها تصادر كل طبيب يقبل التعليم بالمعهد، وتصادر كل من يستشير أولئك الأطباء.
وهكذا تقدم الغرب إلى أوائل عصرنا الحديث، ولم تتقدم المرأة فيه تقدماً يرفعها من مراوغة الاستعباد، التي استقرت فيها من قبل الجاهلية العربية..
فماذا صنع محمد؟ وماذا صنعت رسالة محمد؟
حكم واحد من أحكام القرآن أعطى المرأة من الحقوق كفاء ما فرض عليها: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف((39).
?
* الفصل الخامس
الإسلام وتحرير العبيد من الرّق.
كثيرة هي الاتهامات ضد الإسلام من قبل كتاب وباحثي الغرب، ومنها أن الإسلام يؤيد استمرارية الرّق، ويشجعه. وهذا كذب وافتراء وتزوير ضد الإسلام، الذي جاء ليحرر الإنسان من الظلم والعبودية على مختلف أشكالها، كما بيّنا في بدايات هذا الفصل.(1/169)
الإسلام ظهر ومجتمع الرّق يسود العالم قانوناً وعرفاً، فجاءت رسالة الإسلام حينئذ لتطرح مسألة المساواة بين مختلف أبناء البشر، على اعتبارهم يعودون جميعاً إلى أصل واحد، وأب واحد وأم واحدة، هما آدم وحواء عليهما السلام.
كما قال تعالى: (خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها..((40)، وما جاء على لسان رسول الله محمد(: [كلكم لآدم وآدم من تراب].
واعتبرت رسالة الإسلام، أن التفاوت بين البشر ليس بألوانهم وأصولهم وانتماءاتهم الطبقي، بل من خلال ما يقدم المرء من عمل صالح لنفسه ولمجتمعه ولدينه وللبشرية جمعاء. كما جاء في الحديث الشريف: [الناس سواسية كأسنان المشط، لا فرق بين عربي وأعجمي، ولا أسود ولا أبيض إلا بالتقوى].
لهذا كان الإقبال الأول على اعتناق الدعوة الإسلامية غالبيتهم من العبيد والضعفاء والمساكين، في نفس الوقت كانت تلاقي الرفض والعداء من أغنياء قريش وسادتها، لرفضهم المساواة بينهم وبين هذه الطبقة الضعيفة، وذكر القرآن الكريم أن المقاومة للدعوة السماوية دائماً تكون من قبل الأغنياء والسادة قال تعالى: (وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مُترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون(34) وقالوا نحن أكثر أموالاً وما نحن بمعذبين(35)((41).(1/170)
ودللت القصص الواردة في القرآن الكريم، أن معظم الرسل والأنبياء يكون أتباعهم من الفقراء والعبيد. لأن في دعوة السماء الخلاص والتحرر من كل الأغلال، التي فرضتها قوانين الاستغلال والرق والعبودية. وخير مثل على ذلك ما جاء في الحوار بين سيدنا نوح عليه السلام والأغنياء من قومه، كما أورده القرآن الكريم: (ولقد أرسلنا إلى نوحاً إلى قومه إني نذير مبين(25) أن لا تبعدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم(26) فقال الملأ الذين كفروا من قومه وما نراك إلا بشراً مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين(27) قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وأتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون(28) ويا قومي لا أسألكم عليه مالاً إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوماً تجهلون(29) ويا قومي من ينصرني من الله أن طردتهم أفلا تذكرون(30)((42).
حاول أغنياء قريش ووجهائهم من المناهضين للدعوة الإسلامية، أن يبعدوا هؤلاء الفقراء والعبيد من حول الرسول(، ففاوضوه على طردهم، ليتسنى لهم التفكير بقبول الدعوة. فجاءت الآية القرآنية محذرة من هذه المؤامرة الخبيثة، التي حاكها قادة الكفر في قريش، قال تعالى: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين(52) وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهولاء منّ الله عليهم من بيننا أليس الله أعلم بالشاكرين(53)((43).(1/171)
وفشلت تلك المحاولات، لهذا لقي أتباع الرسول محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام الظلم الشديد من أسيادهم. وتذكر كتب التاريخ العديد من أشكال تلك المعاناة، التي لقيها العبيد وفقراء المسلمين في بدايات الدعوة، وشكل البعض منهم أمثال بلال الحبشي رضي الله عنه وصهيب الرومي وياسر وزوجته سمية وابنهم عمار نماذج في التضحية والفداء في سبيل الإسلام. وليس صدفة أن يكون أول من استشهد في سبيل الدعوة الإسلامية من الرقيق هي سمية أم عمار بن ياسر على أيدي الطغاة من قريش.
فالدعوة الإسلامية كانت تحريراً لهؤلاء الفقراء والعبيد من الظلم والقهر، وليس فقط رفع الظلم الاجتماعي والاقتصادي عنهم، وإلى نقلهم من الطبقة الدونية المسحوقة إلى السيادة والقيادة، قال تعالى: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين((44).
لذلك حظي هؤلاء الضعفاء المتحررين من العبودية مكانة متقدمة في المجتمع الإسلامي، سواء كان في عهد الرسول( في المدينة أو في الخلافتين الراشدية والأموية. وقد تولى سلمان الفارسي إمارة خراسان تقديراً لمكانته الرفيعة في الإسلام. وارتفعت مكانة سالم مولى أبي حنيفة، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان سالم مولى أبي حذيفة يؤم المهاجرين الأولين أصحاب النبي( في مسجد قباء وفيهم أبو بكر وعمر وأبو سلمة وزيد وعمر بن ربيعة(45).(1/172)
وكان لزيد بن حارثة مكانة عالية في الإسلام، ولم يعامله رسول الله( معاملة العبد، بل عامله كولد له وتبناه، وأشهر رسول الله( تبنيه لزيد لقريش. لهذا كان أهل مكة يطلقون عليه اسم زيد بن محمد، وبقي يحمل هذا الاسم، حتى نزلت آية من الله عز وجل، تطلب أن ينسب العبد أو المتبنى إلى والده الحقيقي، قال تعالى: (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم الائي تظاهرون منهم أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق ويهدي السبيل(4) أدعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفوراً رحيماً(5)((46). فأعاد الرسول( نسبه إلى أبيه حارثة، وكان من أقرب الناس له. حتى أنه زوجه من ابنة عمته زينب بنت جحش، وهي من حرائر قريش، دلالة على عدم التفريق بين العبد والحر في الإسلام. وقد نصت الآية سابقة على المساواة، حين قالت: أخوان في الدين.
وقلد الرسول( زيداً قيادة الجيش في غزوة مؤتة، وهي مرتبة يتنافس عليها قادة المسلمين. كما حظي ولده أسامة مكانة عالية في جهاز الدولة الإسلامية من بعد استشهاد أبيه، وقلده الرسول( قبل وفاته قيادة جيش معدّ للزحف على تبوك، وكان فيه شيوخ الإسلام ورموزه مثل أبي بكر وعمر بن الخطاب.
كثيراً ما ظهرت العديد من الدراسات والأبحاث والمقالات الغربية، التي تتهم الإسلام كذباً وافتراءً بأنه يقف مع العبودية، ويحبذ الاسترقاق. بل وصلت الدعاية الغربية في تزويرها وكذبها، بأن اتهمت المسلمين بأنهم كانوا وراء تجارة الرقيق في أفريقيا في القرن السادس عشر وبعده.(1/173)
في حين كل الدلائل التاريخية الموثقة تثبت أن تلك التجارة، كان يقوم بها الأوربيون والأمريكيون، وكانوا يستخدمون وسائل قذرة في عملية الاستعباد، من خلال السرقة واصطياد الأفارقة، وتحويلهم إلى عبيد، ثم إرسالهم إلى أمريكا، وهناك يستخدمونهم في مزارع القطن في جنوب الولايات المتحدة. إنما استهداف الإسلام كان للتشويه ولخلق حالة من العداء والكراهية بين الإسلام والأفارقة سواء في القارة أو في الولايات المتحدة وبقية القارة الأمريكية، خاصة بعد أن رأى الحاقدين على الإسلام من الغربيين الإقبال الكبير على الدخول بالإسلام من قبل هؤلاء. فظهرت حملات تشويه الإسلام، وتبرئة الغرب من هذه الجريمة الإنسانية، وإلصاقها بالإسلام والمسلمين.
إن الإسلام كما أشرنا سابقاً، ظهر في عزّ مرحلة الرقّ، التي كان تاريخ البشرية يمر بها. لهذا عمل على التخلص التدريجي من حالة الاسترقاق، حيث بدأ في فك مسألة التحرير من العبودية على أشكال مختلفة منها:
1-التشجيع على تحرير العبيد الذين أسلموا.
2-فرض عملية تصحيح الأخطاء في الحقوق الشخصية والاجتماعية والدّين، وغيرها من الخطايا والآثام والذنوب، في عتق العبد وتحريره.
3-جعل على رأس أعمال البرّ والصدقات والتقرب إلى الله عز وجل، تحرير العبيد وتكريمه.(1/174)
4-منع استرقاق الناس سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين من رعايا الدولة الإسلامية، وأيضاً من رعايا دول أخرى إلا من كانت في حالة حرب مع الدولة الإسلامية. حيث كان رقّ الأسرى بحالة الحرب في تلك المرحلة الزمنية (القرون الوسطى) قانون دولي متعارف عليه بين الدول، فعلى الدولة الإسلامية في حالة الحرب عليها أن تعامل الدولة التي تحاربها بالمثل في استرقاق رعاياها. حيث يتم تبادل الأسرى بعد انتهاء الحرب، والفداء عنهم بالمال وتحريرهم. إلا أن الإسلام دعا إلى إطلاق سراحهم، حتى لو لم يتم التبادل مع الدولة المحاربة على قاعدة إسلامية تقول: (فإما منّاً وإما فداء).
5-وسن قانوناً جديداً يعطي للرقيق تحرير نفسه بالمقاضاة مع سيده، إذا تمكن من ذلك.
لهذا نرى منذ البدايات الأولى للدعوة الإسلامية، تم تشجيع الأغنياء من المسلمين للقيام بعملية تحرير العبيد، وخاصة من الذين أسلموا من باب التقرب إلى الله، ولرفع الظلم الشديد الذي يلاقونه من قبل سادتهم من كفار قريش. وبين الله عز وجل الإيمان الحقيقي وأوجه البرّ في أمور عديدة ومنها عتق العبيد وتحريرهم من العبودية قال تعالى: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وأتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وأتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون((47).
حيث حثّ الله عز وجل على عتق العبيد، بقوله (وفي الرقاب(، واعتبره بمرتبة واحدة مع الصدقات والزكاة والصلاة، ومن أفضل الأعمال قربى إلى الله عز وجل، والتي يسعى الإنسان المسلم لأدائها.(1/175)
وحض رسول الله ( على عتق العبيد المسلمين، ورغب فيه، واعتبره عملاً هاماً من أعمال نيل رضى الله عز وجل. بل فيه الكثير من الحسنات، التي تنجي صاحبها من عذاب يوم القيامة. قال رسول الله (: [أيما رجل أعتق امرأ مسلماً، استنقذ الله بكل عضو منه عضواً منه من النار](48).
وكانت تعاليم الإسلام تطلب من مالكي العبيد، أن يعاملوا العبيد المعاملة الحسنة، ويقدموا لهم الرعاية السليمة، التي تحفظ لهم كرامتهم وإنسانيتهم. وشدد الإسلام على المساواة بين العبد وسيده في المأكل والملبس قال رسول الله (: [أطعموهم مما تأكلون وأكسوهم مما تلبسون](49).
ودعا رسول الله ( إلى التعامل النديّ بين السيد والرقيق، واعتباره أخ له، لا عبداً مملوكاً فقط وحرمانه من إنسانيته، حيث قال عليه الصلاة والسلام: [هم إخوانكم وخولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، ويلبسه مما يلبس، ولا تكلفونهم ما يغلبون، فإن كلفتموهم فأعينوهم](50).
من ينظر إلى حديث رسول الله ( هذا، يجد السلوك الإنساني السامي في معاملة الرقيق، حيث ليست المساواة في الأكل والملبس فقط، بل حتى في عدم التكليف بالعمل الصعب وغير المطاق من قبل الرقيق. فإن كان العمل من الصعوبة لا طاقة للعبد القيام به، ومن الضرورة تنفيذه، فعلى المالك تقديم المساعدة والمساندة له في التنفيذ.
من يقرأ هذا من العلماء والمهتمين في التاريخ، ويقارنون ما حاق بهذه الطبقة من تعسف وظلم، وانتهاك لإنسانيتها عبر مراحل التاريخ، ومنذ ظهور الرقّ، حتماً إن كان يملك ضميراً ووجداناً، سيقول: إن الإسلام أول من قام بتحرير الرقيق، وأول من سعى إلى رفع القيود عنهم، وإلى إعادة إنسانية الرقيق له. وليس غريباً أن يوصي رسول الله ( بالرقيق حين يقول: (اتقوا الله في الضعيفين النساء والرقيق)(51)(1/176)
وشهد بداية الدعوة الإسلامية في مكة، أولى عملية التحرير من قبل أبو بكر الصديق رضي الله عنه، حيث قام بشراء عدد من العبيد، وحررهم من العبودية. وقلده العديد من أغنياء المسلمين في عتق رقاب الكثير من العبيد المسلمين، وتحريرهم تقرباً إلى الله عز وجل، وتنفيذاً لرغبات الإسلام في عتق الرقاب المؤمنة.
وأمر الرسول ( بأن يتم تغيير اسم العبيد إلى اسم (فتيان وفتيات)، لهذا أصبح يقال: فتيانكم وفتياتكم. وهذا التغيير في الاسم والمعاملة كان له الأثر الكبير في إحداث نقلة نوعية في تحطيم كثير من القيود، التي كانت يكبل بها العبيد.
ولكن الأهم في عملية كسر أغلال العبودية، كان في المساواة السريعة بين السادة والعبيد المحررين في الحقوق والواجبات والتكاليف تجاه الدين والمجتمع والدولة. ولم تذكر كتب التاريخ أي حالة من نقص في تلك المساواة، بل وردت حادثة أثناء فتح مكة، أن بعض سادة قريش حاول النيل من بعض الأرقاء السابقين مثل بلال وصهيب، فغضب رسول الله (، وزجرهم حين اعتبرهم أفضل منهم، لأسبقيتهم، وأنهم في مكانة متقدمة عليهم في الإسلام.
ونذكر من الأعمال التدريجية التي استخدمها الإسلام لتحرير العبيد، اعتبار تحرير العبد من الأعمال التي تنجي العبد من نار جهنم، قال تعالى: (فلا أقتحم العقبة(11) وما أدراك ما العقبة(2) فك رقبة(13)( (سورة البلد).
ووضع الإسلام إحدى مصارف الزكاة، هي تحرير العبيد قال تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل والله حكيم عليم((52).(1/177)
كما وضع الإسلام من كفارات بعض الخطايا والذنوب تحرير العبيد، وعتقهم، ومنها كفارة القتل بالخطأ، قال تعالى: (ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة وديّة مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وأن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليماً حكيماً((53).
وفرض الإسلام عتق العبد وتحريره من العبودية في مسألة (الظهار)، وهي عادة جاهلية يقوم بها الرجال، لفك العلاقة الزوجية بين الزوج وزوجته. حيث يقول لها (أنت علي كظهر أمي)، فتحرم عليه، كما حرمت عليه أمه الحقيقية، فأبطل الإسلام هذه العادة السيئة، مؤكداً أن الأم هي الأم الحقيقية، التي ولدته، ولن تكون زوجته مهما قال. لهذا فرض على الزوج، الذي استخدم مسألة الظهار قبل أن يراجع زوجته، أن يقوم بعتق عبد، وتحريره من العبودية قال تعالى: (والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير((54).
ومن المشجعات ما أمر النبي ( المسلمين بتحرير العبيد حين كسوف الشمس قالت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: (أمر النبي ( بالعتاقة في كسوف الشمس)(55).
ودعا النبي ( إلى تشجيع الزواج من العبيد، وعتقهن. عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله ( (أيما رجل كانت له جارية فأدبها فأحسن تأديبها واعتقها وتزوجها فله أجران)(56).
فالإسلام إذن كان منذ بدايات دعوته في مكة المكرمة، يدعو إلى تحرير العبيد، ولكن استخدم عمليات التدرج في التحرير كما بينا، حيث كانت الظروف الدولية آنذاك، وما صاحب الدعوة من عمليات حربية دفاعاً عن نفسها، في مواجهة أكبر دولتين في العالم آنذاك الفرس والروم إضافة إلى العرب المناوئين لها، كانت تتطلب التدرج.
?
* الفصل السادس(1/178)
الشورى جوهر النظام الإسلامي
كثيراً ما اتهم الإسلام ظلماً وزوراً برفضه للديمقراطية، واتصافه بالاستبداد من قبل الكثير من كتاب الغرب والشرق معاً، علماً إن الإسلام جاء لينهي أنظمة الاستعباد والمؤلهة لنفسها، والتي تترفع على رعيتها، وتقسم مجتمعها إلى طبقات هرمية، تكون الطبقة الحاكمة أعلاها، وتليها طبقة النبلاء ثم التجار فالفلاحين وبقية الرعية، وأدناها طبقة العبيد التي لا تملك حتى قرار نفسها. ولا تقرب الطبقة الحاكمة إلا حاشية تتكون من النبلاء والأثرياء من علية القوم، الذين يكونون مؤسسات الحكم والمشورة. وحتى البرلمانات التي تشكلت في روما، كانت مقصورة فقط على النبلاء والأثرياء. أما بقية الطبقات في المجتمع كانت معدومة الرأي والاختيار لنظمها ولحكامها، فالمؤسسات الديمقراطية المزعومة أثناء ظهور الإسلام سواء في بيزنطة وروما وفارس كانت فقط لحاشية الحاكم والطبقة النبيلة.
في حين أحدث الإسلام نظام الشورى كأول أسلوب ديمقراطي في القرون الوسطى، وفق ما طلب الله عز وجل من الرسول (: [.. وشاورهم في الأمر..](57). وأحدث قانون البيعة العامة للخليفة بعد ذلك، والتي تشارك فيها كافة طبقات المجتمع دون استثناء ولا تخصيص، وأحدث مجلساً مصغراً لأهل العقد والحل، ليمثلوا عامة الناس في ترشيح الخليفة.
أما الشورى في الإسلام فلا تمييز بين غني وفقير، فهي لعامة المسلمين، كما قال تعالى: (والذين استجابوا لربّهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون((58). فلم تستثنِ الآية الكريمة أحد من المسلمين في مسألة الشورى بل هي للجميع. وهنا تتجلى الحرية في أجمل صورها في الاختيار الإرادي للمسلم عبر الشورى.(1/179)
والشورى هي كما وردت في الآيات الكريمة هي فريضة واجبة، وليست فقط حقاً من حقوق الأمة، ويقول الدكتور محمد عمارة: (لم يقف الإسلام من الشورى عند حد اعتبارها "حقاً" من حقوق الإنسان.. وإنما ذهب فيها كما هي عادته مع ما اعتبر في الحضارات الأخرى مجرد حقوق- ذهب فيها إلى حدّ جعلها "فريضة شرعية واجبة" على كافة الأمة وفي كل مناحي السلوك الإنساني)(59).
ويرى الدكتور محمد عمارة، أن الشورى الإسلامية تقوم على الأسس التالية:
* الأمة فيها وبها، هي مصدر السلطات وصاحبة السلطان في سياسة الدولة وتنظيم المجتمع وتنمية العمران.
* وهذه الأمة تختار ممثليها العارفين بالواقع وبالشريعة معاً... وهم أهل الاختيار، الذين يختارون رأس الدولة الإسلامية... وكذلك أهل العقد والحل، الذين يحافظون على اتساق "الواقع" مع "الشريعة" ويطورون "التشريع" ليلائم الواقع الجديد.
* وهذه الأمة، من وراء ممثليها، عليها وعليهم فريضة مراقبة حكومتها.. ومحاسبتها.. والأخذ على يديها.. ولها -بل عليها- فريضة تغيير هذه الحكومة، إن هي فسقت، أو جارت، أو ضعفت عن النهوض، بما فوضت إليها من مهام! -تصنع ذلك بالسلم إن أمكن.. وبالثورة إن لم يكن بد من ذلك!..
أما حدود الشريعة والأطر التي حددها الدين ورسمها. فإنها لا تمثل انتقاصاً من حق الأمة في أن تكون، في شؤون دنياها. مصدر للسلطة والسلطان.. لأن هذه الحدود والأطر هي الثوابت الكافلة لتحقيق مصالح مجموع الأمة وأفرادها.. ومن ثم فإن حرية الأمة -بواسطة ممثليها- في التشريع عندما تقف عند الحدود التي لا يجوز تجاوزها.
وهي إبقاء الحرام حراماً والحلال حلالاً، فليس في ذلك انتقاص من حرية الأمة. وإنما هو التزام بالأطر الدينية المحققة لمصلحة الأمة كما رآها الشارع سبحانه وتعالى..)(60).(1/180)
ويرى رجاء (روجيه) غارودي في السلطة السياسية التي أقيمت في المدينة المنورة في عهد رسول الله ( وسلم وخلفائه الراشدين: (أنه بفضل مبدأين أساسيين وهما: المبدأ القائل بأن السلطة لله وحده، وكل سلطة اجتماعية يجب أن يعاد فيها النظر. ومبدأ (الشورى) الذي ينفي كل واسطة بين الله والشعب. بفضل هذين المبدأين، تم إبعاد كل طغيان مطلق يخلع سلطانه صفة القداسة، ويجعل من الحاكم إلهاً على الأرض. كما تم استبعاد أية (ديمقراطية) من طراز غربي، أي تلك التي تتصف بالفردية، وتغليب الكم على الكيف، وبالجمود والوصاية واستلاب الإنسان، فالحرية ليست سلبية واعتزالاً بل هي إتمام لمشيئة الله)(61).
* النظام الراشدي أنموذجاً
لقد أوجد الرسول ( أنموذجاً فريداً في الحكم، في زمن كان يسود العالم القهر والظلم على يدي أباطرة وملوك وحكام، حيث كان البعض منهم يعتبر نفسه أنه إله في الأرض، لا يمكن مساءلته أو محاسبته من أي سلطة كانت، فهو صانع السلطات التنفيذية والتشريعية، وهو فوقها جميعاً، يحاسبها متى شاء، ويبقيها ويزيلها متى شاء، مجرد دمية يحركها كما يريد، والرعية في مفهومه هم جزء من ممتلكاته.
فأقام الرسول عليه الصلاة والسلام أول دولة في العالم، مؤسسة على المساواة بين الحاكم والرعية، ينصف فيها الجميع دون استثناء. وقد يقول قائل كان في أثينا دولة ديمقراطية، نقول نعم، ولكن كانت فقط لرجال أثينا من طبقة الأحرار، أما بقية الناس ليس لهم أية حقوق. في حين الإسلام ساوى بين الحر والعبد والرجل والمرأة، والكل تحت قاعدة قانونية حددها رسول الله ( (الناس سواسية كأسنان المشط لا فرق بين أبيض وأسود إلا بالتقوى).(1/181)
وكذلك كافة الرعية أمام القضاء متساوون لا فرق بين الجميع حاكم ومحكوم، يقف أمام القاضي الشاكي والمشتكى مهما كانت مرتبته الحكومية حتى وإن كان رئيس الدولة. ولا يفرق قانون الشريعة الإسلامية بين العبد وسيده. فالحقوق القانونية مضمونة لكافة الناس.
وتعتبر خزينة الدولة (بيت مال المسلمين) هي ملكية عامة لكافة المسلمين دون استثناء، لا يستطيع الحاكم التصرف بها، إلا وفق قواعد محددة في الشريعة، وللجميع حصة في تلك الخزينة.
وأهم ما اتسمت به الدولة العدل، والذي يعتبر أساس الحرية وضمان الحقوق، فسيادة القانون على كافة أفراد المجتمع، تطبق على الجميع، فكثيراً ما وقف بعض الخلفاء أمام القاضي في قضية مثارة عليهم من أحد الرعية سواء أكان مسلماً أو من أهل الكتاب، وعومل الحاكم المدعى عليه مع المدعي من الرعية على قدم المساواة أمام القضاء.
وضمنت الدولة الحرية الاقتصادية، واعتبرت قانون التراضي شرطاً في البيع قال تعالى: (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم((62). ووضع على التجارة سواء البيع الفردي أو الإجمالي رقابة تموينية سميت (بالحسبة) تمنعها من الاستغلال والفساد والغش، ووضعت الدولة على الناتج الاقتصادي الزراعي والتجاري والرعوي رسوماً سواء في الزكاة أو غيرها من الرسوم، لتصرف مع بقية ما يأخذ من زكاة من رؤوس الأموال على كافة أفراد الشعب واحتياجات الدولة العسكرية والإدارية.
وفي النظام السياسي تم تأسيس أول دولة رئاسية جمهورية في التاريخ، لا تعتمد اختيارات حكامها على النسب والعشيرة والمال والوراثة والقوة العسكرية، بل اعتمدت على التقوى، والحكمة، والأسبقية في الإسلام، وصلاحية سيرة الحاكم الذاتية، والقدرة على إدارة الأزمات، وعلى ملكاته الشخصية في الإمساك بزمام الأمور، وعلى ما يملك من إمكانات معرفية عالية في الدين والشريعة، وهذا ما تم فعلاً في العهد الراشدي.(1/182)
فالاختيارات التي تمت للخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم على قاعدة ما أشرنا إليه. وقد يدعي بعض أعداء الإسلام من الذين يحاولون الولوج إلى ثغرة من الثغرات لنقد النظام الإسلامي ومنها الخلافة الراشدية، فيدعي أنها لم تكن نظاماً تشاورياً وباختيارات ديمقراطية، ويضرب مثلاً على اختيار أبي بكر الصديق رضي الله عنه لعمر بن الخطاب رضي الله عنه لخلافته. فحتماً أنه سيكون جاهلاً بالواقع التاريخي لعملية الاختيار. فأبو بكر رضي الله عنه قد أشار أهل العقد والحل في عملية الاستخلاف، فالحقيقة التاريخية تقول: (فجمع إليه نخبة من أهل الرأي وقال لهم فيما قال: ".. قد أطلق الله أيمانكم من بيعتي، وحل عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم، فأمروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمرّتم في حياة مني كان أجدر ألا تختلفوا بعدي".
فلم يستقم لهم أمر، كما جاء في رواية الحسن البصري، ورجعوا إليه يقولون "إن الرأي يا خليفة رسول الله رأيك" فاستمهلهم حتى "ينظر لله ولدينه ولعباده". ثم استقر رأيه على استخلاف عمر بعد مشاورة عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وسعيد بن زيد وأسيد بن الخضير. وسأل عليّاً فقال: "عمر عند ظنك به، ورأيك فيه، إن وليته -مع أنه كان والياً معك- نحظى برأيه ونأخذ منه، فامض لما تريد، ودع مخاطبة الرجل، فإن يكن ما ظننت إن شاء الله فله عمدت، وإن يكن ما لا تظن لم ترد إلا الخير".
وأملى أبو بكر كتاب العهد على عثمان بن عفان، فكتبه، وختمه، وخرج به مختوماً، ونادى بالناس: "أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟". وقيل أن أبا بكر أشرف على الملأ من كوة في غرفته، فقال: "يا أيها الناس! إني عهدت عهداً أفترضونه؟ "فقالوا" رضينا يا خليفة رسول الله". وقام عليّ كرم الله وجهه فقال "لا نرضى إلا أن يكون عمر". ثم كانت البيعة التي أجمع عليها المسلمون(63).
لهذا يعتبر فترة الرسول ( والفترة الراشدية النموذج الحقيقي للنظام الإسلامي.(1/183)
* شكل الحكومة الراشدية الأولى
كتب محمود عباس العقاد حول الحكومة الراشدية يقول: (فأي حكومة هي حكومة الصديق أو حكومة الإسلام في عهده؟. وأي عناوين الحكم في هذا العصر الحديث؟.
الديمقراطية -ولا ريب- هي أقرب النظم إلى نظام الحكم في عهد الصديق. ولكن الديمقراطية أشكال تختلف في العصر الواحد بين أمة وأمة، ولها قواعد دستورية ومقدمات تاريخية من العسير، أن نوحد بينها وبين قواعد الخلافة ومقدماتها، ومن السهل جداً مع هذا نصدُف عن هذا التوحيد دون نُغِض من نوع الحكومة في صدر الإسلام.
فليس من المحقق أن حكومة الإسلام يومئذ توصف بالديمقراطية على المعنى الذي نفهمه من هذه الكلمة هذه الأيام.
ولكن من المحقق أن الحكومة الإسلامية على النحو الذي جاء به القرآن الكريم، واتفق عليه المسلمون كانت بعيدة كل البعد عن جميع أنواع الحكومات المعيبة أو جميع المبادئ التي تستند في تقرير حكم الشعوب على أساس معيب.
فإذا كانت حكومة الخلافة لم تقرر الديمقراطية على أساسها العصري المعروف بيننا فهي -بلا ريب- قد أبعدت مبادئ الأوتوقراطية، ومبادئ الثيوقراطية ومبادئ الأليجاركية، ومبادئ حكومة الغوغاء، وسائر المبادئ التي لا تستقيم مع حرية الفرد ومع الفطرة السليمة).(1/184)
وعدد عباس محمود العقاد أشكال تلك النماذج من الحكومات وبين أن الإسلام يرفضها قائلاً: (فالأتوقراطية وهي حكومة الفردي المستبد ممنوعة في الإسلام، لأن القرآن الكريم يأمر النبي (() أن يشاورهم في الأمر، وينص على أن (أمرهم شورى بينهم). وإذا كان النبي (() الذي يتلقى الوحي الإلهي لا يَجِل عن مشاورة أتباعه، والرجوع إلى رأيهم في سياسته، فغيره من ولاة الأمر أولى أن يتقيد بالشورى، ويتجنب حكومة الطغيان. والثيوقراطية وهي حكومة التي يدعي فيها الحاكمون صفة إلهية ممنوعة كذلك في الإسلام. لأن القرآن الكريم يعلم المسلمين أن النبي (() بشر مثلهم، ويبطل الكهانة والوساطة بين الإنسان وربه، وقد نهى النبي (() ولاته وأمراء جيشه، أن يبرموا العهود باسم الله أو باسم رسوله...
والأليجاركية وهي حكومة الفئة القليلة من الأعيان والثروات ممنوعة كذلك من المسلمين، لأن بيعة الخاصة في الإسلام لا تغني عن بيعة العامة، وليس في الإسلام سادة نسب كما جاء في الحديث الشريف: "اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة".
وحكومة الأهواء سواء كانت أهواء الوجوه أو أهواء السواد ممنوعة كما منعت الحكومات التي أسلفناها، فليست أهواء المحكومين مُغنية عن أصول الحق والعدل، ودستور الشريعة والنظام، وفي ذلك يقول القرآن الكريم: (فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق، لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً((64).
* النص العقدي بين الأمة والخليفة(1/185)
ومن يقرأ خطبة الخليفة الراشدي الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه، يجد فيها العلاقة العقدية، التي تفرض إقامتها بين الحاكم والأمة، والمبنية على أسس البناء العادل في النظام الإسلامي، وهي الطاعة للحاكم ما دام ملتزماً بالشريعة الإسلامية ونصوص هذا التعاقد، فإن تمت المخالفة لهذه الأسس العقدية، طلب من الأمة إجراء التقويم المطلوب للحاكم عما خالف وشذ عنه. فالخليفة في بداية البيان السلطوي الأول، يذكر أن الاختيار الذي تم له من قبل الأمة ليس لكونه أفضلهم، ولكنه جاء باختيارات الأمة ومبايعته له (فإني وليت عليكم، ولست بخيركم). ولهذا وضع ميثاقاً عقدياً بين الأمة والحاكم، ويعتبر هذا العقد هو من صلب روح الإسلام في تحديد سلطات الأمة والحاكم.
ولهذا نرى ما جاء في هذا الميثاق الذي طرحه الخليفة الأول، ووافقت عليه الأمة التالي:
1- القرآن الكريم والسنة مصدر التشريع والدستور الناظم للدولة، وتجري محاسبة الخليفة عند مخالفتهما أو تجاوزهما من قبل الأمة أو ممثليها من أهل الحل والعقد، حيث يفقد الطاعة الشرعية، وهذا ما نص عليه البيان: (أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم..)
2- ممثلو الأمة هم الذين يختارون الخليفة وهم أهل الاختيار وهم من فقهاء الأمة وعلمائها.
3- الأمة مصدر السلطة وتملك سلطة المحاسبة والعزل، وتمت الإشارة إليها في الكلمة بقوله: (فإن أحسنت فأعينوني، وأن أسأت فقوموني).
4- أن يكون الحاكم صادقاً مع أمته، وإن كذب عليها فقد خانها (الصدق أمانة، والكذب خيانة).
5- المساواة والإنصاف بين الجميع دون النظر للضعف والقوة (الضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوي منكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله).(1/186)
6- الحاكم بشر كأي فرد من أفراد الأمة، وليس معصوماً عن الخطأ، لذا لا بد من التصحيح له في حال وقوعه في الخطأ (أيها الناس أنا مثلكم، وإني لا أدري لعلكم ستكلفونني ما كان رسول الله ( يطيق، إن الله اصطفى محمداً على العالمين، وعصمه من الآفات، فإنما أنا متبع، ولست بمبتدع، فإن استقمت فاتبعوني، وإن زغت فقوموني) فكم نرى اليوم بعد مرور ألف وأربعمائة عام من حكام على الأرض، يدّعون أنهم أنصاف آلهة، لا يخطئون أبداً، بل كل ما يقولون ويعملون له مرتبة القداسة؟.
7- الحاكم كونه من البشر، فإنه يصاب في الغرور، وتزيين العمل من قبل وساوس الشيطان وهوى النفس (ألا وإنما لي شيطان يعتريني، فإذا أتاني فاجتنبوني)(النص في الملحق).
* الصفات المطلوبة في الحاكم المسلم
يعتبر وجود حاكم يرأس الدولة ضرورة أساسية في هيكلية الدولة الإسلامية، وهي فرض كفاية. ويتم اختياره من أهل الاجتهاد الذين تتوفر فيهم ثلاث شروط هي:
1-العدالة.
2-العلم الذي يتوصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة.
3-أن يكونوا من أهل الرأي والتدبير، المؤديين إلى اختيار من هو للإمامة أصلح(65).
…وجاء في حديث لرسول الله ( شروطاً للحاكم المسلم ومنها:
1-أن يكون من قريش.
2-أن يتصف بالعدل والرحمة والوفاء بالعهد. قال رسول الله (: (الملك في قريش لهم عليكم، ولكم عليهم مثله، ما حكموا فعدلوا، واسترحموا فرحموا، وعاهدوا فوفوا، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)(66)
…وجاء في فقه أحمد بن حنبل صفات الإمام ما يلي:
-بالغاً عاقلاً، لأن غير البالغ يحتاج إلى ما يلي أمره، فلا يلي أمره غيره.
-سميعاً بصيراً ناطقاً، لأن غير المتصف بهذه الصفات لا يصلح للسياسة.
-حراً لا عبداً، لأن الإمام ذا الولاية العامة لا يكون ولياً عليه غيره.
-ذكراً.(1/187)
-عدلاً وقال هنا ابن حنبل حول موضوع العدالة، تشترط في ولاية القضاء، ولكنها لا تشترط في رأيه في الحاكم وأن اغتصب السلطة، بل واقر في إمامة مغتصب السلطة، وعدم مخالفته، فهو يقول: (وهي دون الإمامة العظمى فإن قَهَر الناس غير عدل فهو إمام)(67).
…ولكن في رأيي المتواضع والله أعلم، أن اغتصاب السلطة، وقهر الناس على مبايعته، فهي إكراه، ومبايعة المكره كما أرى باطلة، ومن هنا تبطل ولاية المغتصب والله أعلم.
-غير عاجز (معاق). وذهاب اليدين والرجلين يمنع ابتداءها واستدامتها.
ومن الصفات التي يراها ابن حنبل أن لا يعزل الحاكم لفسقه، بل يعزل فيها القاضي تحت تبرير (لما فيه من المفسدة) ويستند لحديث (...إلاَّ تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان)(68).
وأرى والله أعلم، أن الفاسق لا يمكن أن ظهر فسقه الاستمرارية في الحكم، لما فيه المفسدة للأمة والدين. والحديث الذي يورده الإمام أحمد جاء من رواية عبادة بن الصامت حول مبايعة الرسول (، وهي بيعة للرسول عليه الصلاة والسلام، والبيعة لمن أمر بإقامة العدل والإنصاف. وكان خير حكام الأرض جميعاً في تطبيق العدالة والمساواة، والمثل الأعلى في السلوك الإنساني المبني على قيم العدالة. أرى ليس من الأنصاف مساواة رسول الله ( ببقية الحكام المسلمين وغيرهم. واعتبارهم واحداً من حيث الطاعة. فكم من حاكم على مرور الأربعة عشر قرناً على ظهور الإسلام كاد ظلمه وجوره، يتجاوز فرعون المثل في الطغيان والظلم؟ وكم حاكم مستبد ضيع الأمة والدين، بإعلان فسقه وجوره، فدمر الأمة، وشوه صورة الدّين؟
إن البيعة على عدم المنازعة والسمع والطاعة، كما ورد في حديث رسول الله (، كانت على ما أوتي به من ربّه، وما سنن من الشرائع، وعدم المعارضة والتغيير بالقوة لنظام فاسد تحت ذريعة السمع والطاعة خوفاً من مفسدة وفتنة، سيكون كما الساكت عن الحق أي شيطان أخرس كما ورد في الحديث الشريف.(1/188)
بل الرسول الأعظم ( أبطل صلاة الإمام المكروه من المأمومين، وبين عباس العقاد أن (قوام الرئاسة والإمامة عنده (ويقصد هنا رسول الله() شرطان هما: جماع الشروط في كل رئاسة، وهما الكفاءة والحب: "أيما رجل استعمل رجلاً على عشرة أنفس علم أن في العشرة أفضل ممن استعمل فقد غش الله وغش رسوله وغش المسلمين" وقال "أيما رجل أمَّ قوماً وهم كارهون لم تجز صلاته أذنيه"(69).
فالقرآن الكريم الذي حذر من خطورة الفاسق، من أن يأتي بنبأ كاذب، فيه هلاك إنسان أو أمة أو فيه هلاك للمال والعرض والنفس، وطلب أن يتم تدقيق أقواله والتأكد منها قبل اتخاذ القرار، كما قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين((70). فكيف يكون إذا كان الفاسق هو صاحب القرار في مصير الأمة والعباد؟
وتلك مصيبة كبرى حين يتولى هذا الفاسق أمر الأمة، والتاريخ مليء بالتبريرات لمستبدين اغتصبوا السلطة من قبل فقهاء السلطة. وبرروا جورهم وظلمهم وفسادهم. يقول الدكتور محمد عمارة: (.. لكن مظالم التفرد والفردية والاستبداد التي جنحت بعيداً عن هذه الفلسفة للحكم، قد أثمرت عصورها المظلمة وتطبيقاتها الظالمة فكراً هزيلاً، حاول أصحابه تزوير نسبه إلى الإسلام، ليضيفوا عليه شرعية الدين ومشروعيته.. فزعموا أن الشورى غير ملزمة للحاكم.. فعليه أن يستشير، ثم بعد ذلك يمضي ما رآه، حتى لو خالف الأمة جمعاء.. ولقد تجاهل هذا النفر من فقهاء الملوك والأمراء والسلاطين ما عناه ويعنيه قول الرسول (: "إن أمتي لا تجتمع على ضلالة". ما يعنيه هذا الحديث من "عصمة الأمة" التي يتجسد اجتهادها، ويتمثل في الصفوة الجامعة لقدرات المشورة وإمكانات الاجتهاد.. فرأيناهم يرجحون كفة "الفرد الحاكم" على كفة "المشيرين".(1/189)
ولقد حاول هذا النفر من فقهاء السلاطين تزوير نسب هذا الفكر الشائه إلى الإسلام.. فقالوا: إن هذا هو ما يعنيه قول الله سبحانه في هذه الآية (فإذا عزمت فتوكل على الله(.. فإذا استشار الحاكم كان قد أدى ما عليه.. وله بعد ذلك أن يعزم، أي يقرر ما يشاء.. ونسوا أن هذا "العزم" -القرار- هو- في سياق الآية- ثمرة الشورى..
فالشورى إذا جردت من ثمرتها، وهو القرار -العزم-كانت عقيماً.. بل "مسرحية عبثية" يجب أن يتنزه عنها الفكر الذي يعرض لآيات الله، سبحانه بالنظر والتفسير..)(71).
وقد رفض عدد من خيرة صحابة رسول الله ( الظلم والجور والاستبداد للحاكم، ومنهم من تخرج من مدرسته الجليلة الثرية بعلوم الدين والمعرفة مثل الحسين بن علي رضي الله عنهما سبط رسول الله (، وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما الذي عاش في بيت خالته عائشة رضي الله عنها. وغيرهم من تبعوهم من خيرة الصحابة والتابعين لهي دلالات على ضرورة مواجهة الاستبداد والظلم والجور، الذي يمارسه الحكام من الطغاة. وقد قال
رسول الله( عن هؤلاء (عن حذيفة عن النبي ( أنه قال: إنها ستكون عليكم أمراء يَظلمون ويَكذبون فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني، ولست منه، ولن يَردَ على الحوض. ومن لم يصدقهم بكذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه، وسيرد على الحوض)(72).
وقيادة الحكم مسؤولية خطيرة في الإسلام، فهي الخط المستقيم في العدل والإنصاف والرحمة والمساواة بين الرعية، والحفاظ على حدود الدولة وأمن الأمة. وبهذا قال رسول الله (: (السلطان ظل الله في الأرض، يأوي إليه كل مظلوم من عباده، فإن عدل كان له الأجر -وكان- يعني على الرعية الشكر. وإن جار أو حاف أو ظلم كان عليه الوزر، وكان على الرعية الصبر، وإن جار الولاة /قحطت/ السماء، وإذا منعت الزكاة، هلكت المواشي، وإذا ظهر الزنا ظهر الفقر والمسكنة. وإذا خفرت الذمة أويل الكفار أو كلمة نحوه)(73).(1/190)
والإمامة ليست مكسباً، بل هي مغرماً، لأن فيها وِزّر الأمة كلها، يحمله الحاكم يوم القيامة. عن عوف بن مالك قال: قال رسول الله (: (إن شئتم أنبأتكم عن الإمارة وما هي؟) فناديت بأعلى صوتي ثلاث مرات ما هي يا رسول الله؟ قال: أولها ملامة، وثانيها ندامة، وثالثها: عذاب يوم القيامة إلا من عدل، وكيف يعدل مع أقربيه)(74). لهذا كان الأتقياء من المسلمين يبتعدون عنها لما فيها من حمل ثقيل تجاه أمته وربه ودينه.
من مواصفات الحاكم المسلم التواضع والمشاركة والحب المتبادل بينه وبين رعيته، فإذا كان الإمام في الصلاة تبطل صلاته، إن كان أمَّ أناس كارهون له، فكيف بالحاكم؟ والمطلوب منه التبادل في مشاعر الحبّ بينه وبين شعبه.
ونذكر حادثة من السيرة النبوية الشريفة هنا، أن الرسول ( كان يشارك أصحابه في السفر في الأعمال واحتياجات السفر، ونذكر قوله لأصحابه الذين توزعوا العمل: (وعليّ جمع الحطب). وحين قالوا له: يا رسول الله نكفيك العمل، قال: (علمت أنكم تكفونني، ولكن أكره أن أتميز عليكم، إن الله سبحانه وتعالى يكره من عبده أن يراه متميزاً بين أصحابه).
وشارك رسول الله ( في حفر الخندق بيديه الشريفتين أثناء غزوة الخندق المشهورة. وكان الرسول ( المثل الأعلى للحاكم المتواضع والمحبوب من قبل رعيته. وكان كذلك أصحابه من بعده أثناء خلافته أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.
* المؤتمر الشعبي الأول في الإسلام (اجتماع السقيفة)
مؤتمر السقيفة الذي عقد بعد وفاة الرسول (، على الرغم من كثير من الملاحظات عليه، والدراسات التي تناولته من إيجابيات وسلبيات، إلا أنه يشكل أولى مقدمات البحث عن دور الأمة في اختيار السلطة. وإن كانت ممثلة في شريحة معينه. ومن خلال المناقشات التي جرت في هذا المؤتمر أو الاجتماع تبرز ظاهر الديمقراطية والحرية في أجمل صورها، من خلال الحوار حول مواصفات الحاكم المطلوبة الذي يخلف رسول الله (.(1/191)
كما ظهرت المعارضة وشرعيتها في المؤتمر، ولم تشر كتب التاريخ إنها حوسبت على اعتراضها واختياراتها، بعد أن أصبحت أقلية وتمت المبايعة للخليفة الأول من قبل أكثرية الأمة. وقد استمرت المعارضة ممثلة بسعد بن عبادة للخليفة أبي بكر الصديق ومن بعده عمر بن الخطاب وحتى وفاته، ولم تجر له أية مساءلة على رفضه للبيعة، بل بقيت له مكانته في الدولة من الاحترام والمكانة الرفيعة فيها، كونه من أصحاب رسول الله ( ومن أوائل الأنصار. كما لم تقم السلطة بمحاسبة من اعترض على البيعة في المؤتمر.
ومن يقرأ ما أعقب مؤتمر السقيفة من معارضات لكبار الصحابة، ومنهم العشرة المبشرين في الجنة، يدرك أن الإسلام قبل المعارضة للحاكم، ولكن ليست المعارضة التي تؤدي لتدمير الوطن، والأمن القومي والاجتماعي إلى الخطر الذي يهدد بنيان الدولة. لهذا رأينا امتناع سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه عن المبايعة أشهراً حتى وفاة سيدتنا فاطمة رضي الله عنها، وكانت مبايعته حين رأى اشتداد أزمة المرتدين، التي أصبحت تهدد وجود الإسلام والدولة الإسلامية. فتوحد الجميع في وجه الخطر.
كما امتنع في البدايات نفر من الأمويين على مبايعة أبي بكر رضي الله عنه، والتفوا حول عثمان بن عفان، وآخرون حول سعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن ابن عوف من بني زهرة. وهذه دلالة على أن المعارضة والرأي الآخر موجود في البذور الأولى للدولة الإسلامية. ولم يُكفر هؤلاء، بل أن المعارضين هم أكثر علماء الأرض بعد الرسول (، وبينوا للأجيال القادمة أن عملهم هذا، ليس خروجاً عن تعاليم الإسلام، كما يدعي البعض من كتاب وفقهاء السلطة(75).(1/192)
وحول ما يقوله بعض العلماء: من مات، ولم تكن في عنقه بيعة للإمام، مات ميتة الجاهلية، يقول الدكتور محمد عمارة: (في المأثورات النبوية الشريفة أحاديث يرددها ويذيعها كثير من "أمراء" الجماعات الإسلامية الجديدة، تحكم بالجاهلية على من فارق الجماعة، وعلى من مات وليس في عنقه بيعة للإمام.. وهم بترديدهم هذه الأحاديث يوجبون الطاعة (للأمراء) على الكافة، ويحرمون "المعارضة، ويجعلونها إثماً دينياً وخطيئة ترتد بأصحابها إلى الجاهلية بعد الإسلام؟!
فأين يقف الإسلام الحق في هذه القضية؟! وما قوله الفصل في هذا الإشكال؟! إنه صحيح، وحق، وصدق أن رسول الله (، قد قال -فيما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "من خلع يداً من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له. ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة الجاهلية".
لكن الأمر الذي يغفله -أو يتغافل عنه- هؤلاء "الأمراء" أن هذه البيعة، التي يتحدث عنها الحديث النبوي الشريف كانت بيعة الذين آمنوا للرسول (، الذي دعاهم إلى الإيمان.. فهي البيعة له بالنبوة، وموضوعها التوحيد والإسلام.. إنها البيعة التي خرجوا بها من الجاهلية إلى الإسلام، ومن ثم فإن خلعها والخروج من طاعتها، هي -بالقطع- عودة إلى الجاهلية مرة أخرى.. فهي لم تكن بيعة من "الرعية السياسية" لمحمد ( برئاسة "الدولة"، لأن هذه الرئاسة قد جاءت تبعاً، كضرورة اقتضتها "الدولة" التي تأسست لسياسة الرعية وحماية الدين، وإنما كانت بيعة من "المؤمنين" للنبي الرسول عليه الصلاة والسلام.. فبيعة الرسول، هذه وحدها، دون أية بيعة أخرى لأي خليفة أو حاكم أو أمير، هي التي توصف بأنها هي "الإسلام"، وهي التدين بالدين الإسلامي.. إنها في الحقيقة: بيعة الله سبحانه وتعالى. التي قال عنها لنبيه ك [إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله] (الفتح-10) كما قال أيضاً [من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً] (النساء-80)..(1/193)
وليست كذلك بيعة أمراء السياسة والولاة والخلفاء والرؤساء في دولة الإسلام... فمعارضة هؤلاء الأمراء، ورفض البيعة لهم، لاختلاف منهجهم السياسي وسبيلهم في سياسة المجتمع وحكم الأمة عن منهج المعارضين لهم. لا يعني الانتقال بالمعارضين من معسكر الإسلام والإيمان إلى معسكر الجاهلية بأي حال من الأحوال.
إن الذين يرددون هذه المأثورات النبوية، موظفين لها في غير موضعها وإطارها، إنما يرتكبون خطأ سياسياً فاحشاً، عندما يجتهدون لإسلاس قيادة الأمة -كل الأمة -للأمراء، كل الأمراء.. ويرتكبون خطيئة دينية، عندما يذهبون فيسخرون المأثورات الدينية والأحاديث النبوية الشريفة في غير السياق الذي قيلت ورويت فيه.. وذلك باب واسع لشر مستطير شاع ويشيع في كتابات العديد من الإسلاميين) (76).
مُسَاءلة الحاكم
كما ظهر في فترة الرسول ( والخلفاء الراشدين مسألة (مساءلة الحاكم)، ليس فقط من قبل أهل العقد والحل، بل من قبل عامة الناس. فقد تمت مساءلة الرسول من إعرابي في توزيع الغنائم بعد غزوة حنين، ورفضت امرأة تحديد المهر، الذي أشار إليه الخليفة عمر بن الخطاب. واحتج إعرابي على توزيع الثياب حين وجد أن ثوب الخليفة عمر أطول من ثوبه، وهناك الكثير من كتب السير وتاريخ الفترة الراشدية تظهر قانون المساءلة، وحتى في حضور الخليفة شخصياً أمام القاضي من شكوى لمواطن أقام عليه دعوة في القضاء.(1/194)
وكان الإسلام لكثير من الشعوب والطبقات الفقيرة المخلص المنتظر من الظلم والحيف والقهر والعبودية، فحرر الإسلام الفلاحين (الأقنان) عبيد الأرض في الأندلس (أسبانيا) حين دخلوها، وحرروا ملايين المستضعفين في بلاد الشام وفارس وآسيا. وبشهادة كافة المؤرخين إن الفاتحين العرب كانوا مباشرة يتساوون في الحقوق والواجبات بعد فتح أي مدينة وبلد بعد إسلامها، أو دفعها للجزية. ومن هنا كان قول المؤرخ الأوربي (لم يعرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب) والرحمة كانت ليس من انتماء القوم للعروبة، بل السلوك في الذي فرضه الإسلام على أتباعه.
* المساواة أساس الحرية في الإسلام
الحرية أساسها المساواة بين الرعية جميعاً دون أي تفريق بين غني وفقير وعبد وسيد وحاكم ومحكوم، وانتفاء الظلم والقهر من أي مصدر مالي أو سلطوي، لهذا كانت أولى توجهات الرسالة الإسلامية هي، تحقيق المساواة بين الناس أمام قوانين الشريعة، قال رسول الله( : (الناس سواسية كأسنان المشط، ولا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى).
ولا فروق في الإسلام بين المستويات الاجتماعية والاقتصادية في الرعية، وحتى بين البشر جميعاً من سكان الأرض، إنما الفرق الوحيد بينهم هو في التقوى، والتي تتضمن كل أشكال الطهر والاستقامة والعمل الصالح، كما قال تعالى: (يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير( (77).
وفي الختام أورد عن الحرية في الإسلام ما قاله المغيرة بن شعبة لرستم قائد جيش فارس: (إننا معشر العرب لا نستعبد بعضنا بعضاً، فظننت أنكم تداسون قوتكم كما نتواسى، فكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب لبعض) فقال الدهاقين: (والله لقد رمى بكلام لا تزال عبيدنا ينتزعون إليه، قاتل أوّلينا حين كان يصغرون أمر هذه الأمة.( (78)
?
(1)-صحيفة الفاينانشال تايمز -24 /9/ 2002(1/195)
(2)-Samuel p. Huntington, The Clash of Civilizations and the Remaking of World order (New york: simon and Schuster, 1998) p. 125
3-البقرة -257
4-الرعد -8
5-البقرة
6-الفرقان -3
7-الشعراء -29
8-السفير اللبنانية -العدد 9303 -17 /9/ 2002
9-الحج -73
10-البقرة -40
11-الإسراء -70
12-آل عمران -190
13-البقرة -31
14-سورة العلق
15-الزمر -9
16-الزمر
17-البقرة 256
18-يونس -108
19-سبأ -28
20-النمل -92
21-الكهف -56
22-النساء -165
23-النساء 170
24-الأعراف -157
25-ابن الأثير -الكامل في التاريخ، دار صادر بيروت -1979 -المجلد الثاني -ص 462
26-المصدر السابق -463
27-البقرة
28-البقرة -188
29-البقرة 29
30-النساء -10
31-النساء 2
32-النساء -22
33-صحيح البخاري -دار العلوم الإنسانية -دمشق 1993 -ص 2389.
34-النساء -23
35-البقرة
36-النمل
37-التكوير
38-النساء -32
39- عباس العقاد -مجموعة العبقريات الإسلامية -دار الكتاب العربي -بيروت 1992 -ط1 -ص 106
40-الزمر -6
41-سبأ -
42-هود
43-الأنعام
44-القصص -5
45-صحيح البخاري -مصدر سابق -ص 6755
46-الأحزاب
47-البقرة -177
48-صحيح البخاري -مصدر سابق -ج2 -ص 833
49-الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي -تحقيق حبيب الأعظمي -كشف الأسرار عن زوائد البزار على الكتب الستة -مؤسسة الرسالة بيروت 1979 -ط1 ج2 -145.
50-عباس محمود العقاد -مجموعة العبقريات الإسلامية -مصدر سابق -ص 142
51-المصدر السابق -ص 142
52-التوبة -60
53-النساء -93
54-المجادلة -3
55-صحيح البخاري -مصدر سابق -ج2 -ص 834
56-المصدر السابق -ج2 -ص 843
57-آل عمران -159
58-الشورى -38
59-د. محمد عمارة -الإسلام وحقوق الإنسان ضرورات لا حقوق -المجلس الوطني للثقافة والآداب -الكويت -مايو /أيار 1985 -ص 34.
60-المصدر السابق -ص 53 و54
61-روجيه غارودي - ما يُّعد به الإسلام -دار الوثبة دمشق -1982 -ص 57
62-النساء -29(1/196)
63-عباس محمود العقاد -مجموعة العبقريات الإسلامية -مصدر سابق -ص 287 /288
64-المصدر السابق -ص 279 م 280
65-الدكتور علي أبو الخير -الواضح في فقه الإمام أحمد -دار الخير -بيروت -1996 -ص 519.
66-الهيثمي -كشف الأسرار -مصدر سابق -228
67-د. علي أبو الخير -الواضح في فقه الإمام أحمد -ص 520
68-المصدر السابق -ص 521
69-عباس العقاد -مجموعة العبقريات -مصدر سابق -ص 79
70-الحجرات -6
71-د. محمد عمارة -الإسلام وحقوق الإنسان -مصدر سابق -ص 35 و36
72-الهيثمي -كشف الأسرار -مصدر سابق -ج2 -ص 239 /240
73-المصدر السابق ص 233
74-المصدر السابق ص 238
75-ابن قتيبة -الإمامة والساسة -القاهرة 1331ه -ج1 -ص 116
76-محمد عمارة -الإسلام وحقوق الإنسان -مصدر سابق -ص 91 /92
77-الحجرات -13
78-ابن الأثير -الكامل في التاريخ -مصدر سابق -ج2 -ص 465.
??
الباب الخامس
الإسلام والعدل
مقدمة
مما تضمنته الحملة الظالمة على الإسلام بعد أحداث الحادي عشر من أيلول عام 2001، اتهامه زوراً وبهتناً بأنه يدعو إلى الظلم، ويشجع على الاستبداد، وبربري لا يتسم بالعدل بل بالتخلف والجهل. وإن كانت الحملة الغربية الصهيونية على العروبة والإسلام اليوم، ليست بالجديدة. إنما جزء من حملات بدأت من البعثة المحمدية، وسوف تتلون بأشكال مختلفة وفق أزمنتها. لها هدف واحد هو نشر الأضاليل الكاذبة والمشوهة لحقيقة رسالة الإسلام الحنيف، الذي يدعو لخلق مجتمع بشري يسوده العدل والمساواة، ينتفي منه الظلم والاستبداد والطغيان.(1/197)
ومن أهداف الحملة إقناع الشارع الأوربي والأمريكي، بأن الحضارة الإسلامية متدنية عن الحضارة الغربية كما عبر عن ذلك رئيس وزراء إيطاليا سليفيو برلوسكوني. وتطاول البعض على رسالة الإسلام، حين كتبت الكاتبة الإيطالية أورينا بلاتشي تقول: (إذا كان القرآن عادلاً، لماذا يعد العين بالعين والسن بالسن؟). ودعت الشباب الغربي لحرب دينية ضد الإسلام قائلة: (انهضوا أيها الشباب.. أنكم أمام حرب دينية) (1) ووصفت المسلمين بالفئران التي تحيطهم القاذورات.
وفي الحملة الظالمة التي يقودها بعض أعضاء الكنيسة الصهيونية أمثال القس جيري فالويل والقس بات روبرتسون ضد الإسلام اتهموا رسوله الكريم في التطرف والإرهاب فيقول القس جبري فالويل في مقابلة تلفزيونية مع محطة /سي. بي. أس /يوم الأحد 6 /10/ 2003: (أنا أعتقد إن محمد كان إرهابياً. لقد قرأت كتابات مسلمين وغير مسلمين، لكي أقرر أنه كان رجلاً عنيفاً، رجل حرب). أما القس روبرتسون كان قد سبقه بالتناول من شخصية النبي( في مقابلة تلفزيونية قال فيها: كان مجرد متطرف، لقد كان سارقاً وقاطع طريق) (2).
هكذا هي بعض الصور القليلة التي يبثها الحاقدون من الغربيين المتصهينين إضافة إلى الصهاينة أنفسهم، الذين لم يتركوا وسيلة إلا وحاولوا تزوير حقيقة الإسلام الباحث عن السلام ونشر العدل في العالم كله، له ولكل البشرية جمعاء.
حتى في فتوحاته التي قام بها لنشر العدل والمساواة، قال مؤرخ غربي (لم يعرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب). والحقيقة لم ترَ البشرية دّيناً كالإسلام، يشدد على إقامة العدل بين الناس على مختلف انتماءاتهم وعقائدهم وألوانهم وقومياتهم، دون النظر إن كانوا من اتباعه أو من اتباع ديانة أخرى، فالمساواة والعدل من صلب رسالته إلى البشرية، لأنه دين الحقّ قال تعالى: (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً( (3).
?
* الفصل الأول
رسالة الإسلام نشر العدل على الأرض(1/198)
فكانت من أهم مهام أمة الإسلام نشر الدعوة إلى الحق، وإقامة العدل بين الناس قال تعالى: (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون( (4). والعدل صفة من صفات الإسلام، وسمة من سماته. تعرفت عليه من خلاله شعوب الأرض، فآمن به الكثير منهم، لما اتصف به من عدل ومقاومة للظلم بكل صوره وأشكاله.
والتاريخ حافل بالحوادث والقصص، التي تظهر العدل الذي مارسه المسلمون تطبيقاً لتعاليم الإسلام، التي وردت في القرآن الكريم والسنة الشريفة. فكانت تلك الممارسات خلال العهود الإسلامية قمة في السلوك الإنساني في تطبيق القانون، دون النظر إلى المستوى الطبقي أو الاجتماعي.
ويقدم التاريخ أمثلة حسية على ممارسات العدل، ويظهر محاكمات لرأس الدولة (الخليفة) مع أحد أفراد الشعب العاديين على قضية خلافية أمام القضاء، والبعض منها كان بينه وبين مواطن من أهل الكتاب. وقد قضى بعض القضاة حكماً على رأس الدولة لصالح لهذا المواطن من أفراد الشعب ضد الخليفة. وهذا السلوك الدقيق في تطبيق القانون، لا يزال إلى هذا اليوم أمنية وهدفاً، تناضل من أجل تحقيقه كافة بشعوب الأرض. بل من حلم الإنسانية، أن يقوم بناء نظام دولي مؤسس على العدل والمساواة. وهذا ما جاء به الإسلام، وسعى إليه، وفرضه على اتباعه، ودعا العالم لتطبيقه.
ولا غرابة في ذلك، فإقامة العدل بين الناس من الفرائض الأساسية، التي جاء بها الدين الإسلامي، وأحد أهم مرتكزات نظامه القانوني والسياسي. فالعدل أمر من الله عز وجل مفروض على أية سلطة إسلامية إقامته، وكافة الشرائع السماوية السابقة (يا داود إنّا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله وإن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب( (5).(1/199)
والعدل بين الناس مطالب بتنفيذه كل أفراد الأمة الإسلامية حكاماً ومحكومين، وتطبيق المساواة الكاملة أمام القانون الإسلامي لكافة الرعية في الدولة، وإلا أصيبت بالإثم الأمة كلها بسبب عدم التطبيق، وابتليت بالظلم والجور والفساد من حكامها، قال تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله سميعاً بصيراً( (6).
ومن يقرأ الآية السابقة، يجد أن الله عز وجل، يأمر المسلمين بإقامة العدل بين كافة الناس دون تخصيص. والأمر هنا يعتبر في الإسلام، كما قلنا فريضة كما هي فرائض الصلاة والزكاة وصوم رمضان وحج البيت. لذلك فإن المسلم مطالب بالرضوخ لقرارات وأحكام العدل وتنفيذ الحكم القضائي المستند على أسس القانون السماوي. وليس له الخيار في القبول أو الرفض بطاعة القانون الإسلامي في حال صدوره، بل الإذعان له وتنفيذه. قال تعالى: (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون (51) ومن يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقيه فأولئك هم الفائزون (52)( (7).
ومن أوامر الله عز وجل على الحاكم المسلم أو القاضي أو أي مسلم مكلف بالفصل في قضية ما، أن يحكم بالعدل والإنصاف، وأن يبتعد عن أي هوى شخصي في تطبيق العدل، ولا يتأثر بمؤثرات صلات القرابة، في أن يقضي بالعدل، حتى لو كان أحد الخصمين أخوه أو أبوه أو قريبه من عشيرته، فعليه أن يقضي بالعدل، ويحق الحقّ، ليفوز برضى الله عز وجل، تطبيقاً لقوله تعالى: (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى( (8).(1/200)
وعلى القاضي أن يرفض أية ضغط عليه لينحرف عن العدل، سواء من سلطة أعلى منه، أو تحقيقاً لرغبات قريب أو بعيد، أو خوف من قوة مهما كانت، ولا يخشى أي تهديد، يمنعه من إقامة العدل. وعليه أن يتخذ قرار حكمه القضائي مبنياً على تحرياته عن الحقيقة، ووفق البينة والدلائل والمعطيات، التي توفرت له من وقائع وشهود إثبات وغيرها من الأدلة المادية والحسية، فقد قال رسول الله (: [إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فأقضي على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار] (9) وأن يحكم بما أنزل الله عز وجل، وليس برأيه الشخصي، لاستقامة العدل وفق القانون الإلهي الواحد للجميع، حيث يلقى عليه تبعات هذا الحكم، فإن أحسن أثيب، وإن أخطأ فقد ارتكب ذنباً أمام الله. قال تعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم وأحذرهم أن يفتنوك بما أنزل الله إليك( (10).
وأكد الله عز وجل في القرآن الكريم على إقامة العدل بين الناس، دون النظر إلى الطرفين المتخاصمين وإلى انتماءاتهم الدينية أو العرقية. فالعدل يجب أن يقام، حتى وإن كان ينفذ على أقرب الناس للقاضي أو الحاكم أو الشخص الذي يفصل في قضية ما، فالمطلوب من القاضي هدف محدد، هو إقامة العدل دون النظر إلى النتائج، التي ستعقب صدور هذا الحكم، حتى وأن أدى قرار الحكم إلى عزله أو إغضاب ولاة الأمور، وحتى وأن خسر نفسه. فالله عز وجل يطلب ويأمر بالعدل، ويجزي القاضي الذي يقضي به، قال تعالى: (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً( (11).(1/201)
فالعدل كما أشرنا سابقاً أمر من الله عز وجل، فرضه جل جلاله على الحكام المسلمين وعلى كل أفراد المجتمع الإسلامي بإقامته بين الناس، لأنه أحد ركائز أركان النظام الإسلامي، ومن أهم أسس بنيانه الداخلي، قال تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي ويعظكم لعلكم تذكرون( (12). كما يأتي ضمن قوانين السلوك المأمور المسلم بتطبيقها، فلا يمكن أن يبنى مجتمع مسلم سليم دون إقامة العدل، لأن فيه سعادة المجتمع وتطوره وأمنه.
وليس هناك للمسلم في الاختيار بين العدل والظلم، أو القبول أو الرفض لشرع الله ورسوله (، لأن العدل والرضوخ لقراراته من صلب الإيمان، والاعتقاد بالدين الإسلامي. فطاعة الله عز وجل ورسوله فرض، وخلافها فسوق وكفر، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيراً وأحسن تأويلاً( (13).
فالقبول بالحكم، والتقاضي بالشريعة الإسلامية الغراء، هو أمر من
الله عز وجل.بل المطلوب من المسلم القبول بما يحكم به القضاء الإسلامي المستند على أحكام صادرة من التشريع الإسلامي العادل، وليس المطلوب من المسلم القبول فقط بتنفيذ الحكم كونه حكماً، بل القبول به برحابة صدر، والرضا به روحياً ومادياً، قال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يُحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدون في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً) (14) فمن سياق الآية الكريم يتبين للقارئ مدى ما وصل إليه الإسلام في تنفيذ العدالة، فلا يقبل الإسلام من المسلم فقط تنفيذ الحكم، بل الرضا به معنوياً، حتى لا يبق في نفس المحكوم شيئاً من التنفيذ بالإكراه، بل القبول به من أعماق قلبه، لأنه من صلب الإيمان، وأن يستسلم لهذا الحكم بكل جوارحه.(1/202)
كما أن الحكم الذي يقضي به القاضي، يجب أن يستند على الشريعة الإسلامية لقوله تعالى: (إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً( والتي انبثقت من كتاب الله عز وجل وسنة نبيه، فالأحكام والأوامر والواجبات والسنن، التي قالها الرسول (، الاحتكام بها أيضاً، أمراً من الله عز وجل الذي قال :(يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيراً لكم وأن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله عليماً حكيماً( (160) حتى يكون القبول به برضاً روحي، تتلقاه النفس بسرور وطمأنينة، كونه يكسب رضا الرحمن عز وجل، وفيه الثواب الطيب في الدنيا والآخرة.
والمطلوب من المسلم أن يحتكم إلى القضاء في أية قضية خلافية بينه وبين شخص آخر، أو في أية مظلمة ظلم بها، ويمتنع أن يستخدم قوته الشخصية أو عشيرته أو جماعته أو نفوذه في تنفيذ حُكمٍ، حَكم به شخصياً على آخر، كونه يرى أنه صاحب حق في اتخاذ قرار يحكم به على الآخرين، أو أنه هو على صواب. فالواجب على المسلم أن يرفع مظلمته أو قضيته للقضاء ليفصل فيها. قال تعالى: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب( (17). ومن هذه الرؤيا القرآنية الكريمة، يتبين لنا ما وصل إليه لإسلام من المدنيّة، في بناء المؤسسات الحضارية المتقدمة، والمبنية على سيادة القانون، ورفض القانون العشائري والأعراف القبلية المبنية في كثير منها على الجهل والظلم. وذلك منذ أربعة عشر قرناً من الزمان.(1/203)
فالإسلام بدأ منذ الأيام الأولى بعد هجرة الرسول ( إلى المدينة المنورة في تأسيس دولة القانون، ومارس تطبيقه على جميع رعايا الدولة، سواء أكانوا مسلمين أو من أهل الكتاب من خلال إقامة شرع الله عز وجل، وفق ما أنزل الله عز وجل في كتابه الكريم من أحكام وحدود. فكان القرآن الكريم دستوراً، تشرع منه القوانين، فهو حكم الله عز وجل وما ورد في القرآن من أحكام وقوانين، ورد معظمها في التوراة والإنجيل والزبور وتعاليم الأنبياء جميعاً، لذلك لا يوجد في كتب الله عز وجل السماوية اختلاف أو تناقض، وهذا ما يعرفه أهل الكتاب، ويعلمون أن ما شرع الله وعز وجل في القرآن الكريم هو حق، فما أنزل في القرآن من أحكام وحدود، هي ما أنزل عليهم من قبل قال تعالى: (أفغيرَ الله أبتغي حَكَماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً والذين أتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربّك بالحق فلا تكونن من الممترين( (18).
والعدل مطلب واجب تطبيقه بأمر من الله عز وجل، وقد جاء في كل رسالات الله عز وجل للبشرية جمعاء على لسان رسله عليهم الصلاة والسلام، فأمرهم بالدعوة إليه بين الناس، وأن تطبقه كل النظم الحاكمة على مختلف أشكالها وانتماءاتها القومية والدينية. وفرضت الكتب والتعاليم السماوية عليهم وعلى أتباعهم بإقامته في حال وصولهم إلى الحكم، أو تولي أمور الناس، وهذا ما أمر به داود عليه السلام حين استلم الحكم، وأصبح ملكاً على بني إسرائيل، قال تعالى: (يا داود إنّا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب( (19).(1/204)
إضافة إلى ما جاء في كتاب الله عز وجل من قوانين وتشريعات أي الأحكام والحدود، أضيفت إلى القانون الإسلامي ما سنه رسول الله ( من أحكام وتشريعات وممارسات قضائية تطبيقاً لقوله تعالى: (وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب( (20). والتي استكملت بعدها مصادر التشريع الإسلامي بعد وفاة الرسول ( من اجتهادات الخلفاء الراشدين وعلماء الفقه الإسلامي على مذاهبهم المعروفة.
إضافة إلى تلك المصادر أضيف القياس، فأصبحت مصادر التشريع الإسلامي أربع القرآن الكريم والسنة الشريفة والاجتهاد والقياس.
ومن هنا كان بنيان دولة الإسلام، كما قلنا مؤسسة على العدل من خلال سيادة القانون على الجميع دون استثناء، وبنى المسلمون أسس دولتهم على شعار خالد يقول: (العدل أساس الملك). وفي هذا البناء الحقوقي السماوي العادل، قام الإسلام بنسف البناء القانوني المستند على القبلية الجاهلية المتخلفة، الذي بنيت مؤسساته على الظلم والطبقية وعدم المساواة، والتفريق بين الناس على قواعد المال الجاه.
فساد العدل في جميع أركان الدولة الإسلامية في عهد رسول الله ( وخلفاءه الراشدين من بعده، وكذلك مورس في فترات مختلفة من العهود الإسلامية، التي أعقبت العهد الراشدي، من قبل قلة من حُكامٍ اتقوا الله عز وجل فحكموا بالعدل والقسط. حيث أقيمت المساواة الحقوقية بين الرعية جميعاً، فانتفت المظالم، وتحققت لأول مرة دولة القانون والحق في جزيرة العرب والعالم الإسلامي، لا تفرق بين سيد وعبد ولا رئيس ولا مرؤوس.(1/205)
العدل كما أشرنا مؤسس على تعاليم الخالق عز وجل. ومن هو أعدل من الله عز وجل!!؟ فالله عز وجل هو العدل المطلق. وهو البصير بعباده، والأكثر خبرة ومعرفة في مكوناتهم الروحية والمادية. لهذا كانت تعاليم الإسلام التي يحتكم بها المسلمون في قضاياهم وفق كتاب الله وشريعته الغراء، إنما تنفيذاً لقوله تعالى: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب( (21). ومن يراجع ببصيرة خالية من كل ريب ما احتوى كتاب الله من إحكام وتشريعات سيجدها حتماً قمة في العدل والقسط.
وأين العدل اليوم الذي يتساوى فيه الناس كأسنان المشط؟ وأين العدل الذي يقتص من خليفة، يحكم نصف الأرض لمواطن فقير إذا ظلمه؟ فكم من قضية اليوم ذهب ضحيتها مئات أو آلاف الأبرياء نتيجة نزوة أو طيش حاكم، أو قرار دولي تجافى عن العدل، ونفذ لرغبات دولة مستبدة؟. وكم من قضية فصل بها قضاء ظالم، أدت أحكامه إلى خراب أسر ومجتمعات وأفراد!؟. فالعدل حين يكون سيد قوانين وسلوك وتطبيقات أمة من الأمم، فسيحل الأمن والرخاء والسعادة على مجتمعها. لذا أكد الإسلام على أن بناء المجتمع النظيف، يتم من خلال ممارسة العدل دون تمييز بين أفراده وبقية المجتمعات الأخرى.
?
* الفصل الثاني
القضاء والإسلام
إن مهمة القاضي من أصعب المهام في الإسلام، لما تتطلب منه الدقة والفصاحة، وأن تتوفر لديه كل الإمكانات المعرفية في الشريعة، ومع القدرة الشخصية في امتلاك البصيرة، والدقة في الأمر، لإنصاف الناس، وإرساء العدل بينهم. ومن أبرز الصفات التي يجب أن يتحلى بها القاضي التالي:
- قال الحسن البصري: أخذ الله على الحكام أن لا يتبعوا الهوى، ولا يخشوا الناس، ولا يشتروا بآياته ثمناً قليلاً. (22)
- وقال مزاحم بن زفر: قال لنا عمر بن عبد العزيز: خمس إذا أخطأ القاضي منهن خطة، كانت فيه وصمة: أن يكون فهيماً، حليماً، عفيفاً، صَلِيباً، عَالِماً سؤولاً عن العلم. (23).(1/206)
- الحلم، وأن لا يقضي وهو غضبان. عن أبي بكرة أنه كتب لأبنه عبد الرحمن بن أبي بكرة (وكان بسجستان بأن لا تقضي بين اثنين وأنت غضبان، فإني سمعت النبي ( يقول: [لا يقضين حَكَمٌ بين اثنين وهو غضبان] (24).
لذلك كان العلماء وفقهاء المسلمين الكبار يتهربون من مهمة القضاء خشية الوقوع في خطأ يغضب الله عز وجل، فيكون مصيره النار. ونذكر منها أن أمير المؤمنين عثمان بن عفان، طلب من عبد الله بن عمر بن الخطاب، أن يتولى القضاء بين الناس، فرفض. فقال عبد الله بن عمر: لا أقض بين رجلين ما بقيت. فرد عليه عثمان رضي الله عنه: لتفعلن فإن أباك كان يقضي، فقال له عبد الله: كان أبي أعلم مني وأتقى.
وتعرض أبو حنيفة الإمام الفقيه المجتهد للتعذيب، حين رفض طلب الخليفة المنصور بتولي القضاء في ولاية الكوفة. وسجنه الخليفة أحد عشر يوماً، وكان كل يوم يجلد عشرة جلدات بالسوط في سجنه، فتحمل العذاب على تولي القضاء. وحين قابل الخليفة، فطلب منه تولي القضاء، فقال له: أتق الله ولا ترع في أمانتك إلا من يخاف الله.. أنني لا أصلح لذلك.
قال الخليفة المنصور: كذبت! أنت تصلح. فوجدها أبو حنيفة مخرجاً له، فقال: لقد حكمت لي على نفسك، كيف يحل لك أن تولي قاضياً على أمانتك وهو كذاب؟. فسكت عنه الخليفة وتركه.
* الشهادة فرض لضرورة العدل
والإسلام كما أنه يرفض مطلقاً أن لا يحكم إلا بالعدل، كذلك أيضاً يطلب بناء الأحكام القضائية على الأدلة والبينة. وتأتي شهادة الشاهد على ما رأى، ولمس، وعرف باليقين الكامل البعيد عن الافتراء والتلفيق والتزوير والكذب من أولى مقومات النطق بالحكم، ومن أسس بناء قرار القاضي.(1/207)
الشهادة في الإسلام هي فرض على المسلم، عليه الإدلاء بها أمام القاضي، إن طلبت منه، أو لم تطلب منه. وخاصة أن عرف بأن ظلماً قد وقع على بريء، وهو يعلم بذلك. فعليه الإدلاء بها، وإن كان القاضي لم يستدعيه، أو يجهل بأنه يعلمها. فهي في القرآن شهادة لله عز وجل. لذا طلب الله عز وجل من المسلمين، أن يقضوا بين الناس بالعدل، ويشهدوا بالحق. حتى وإن كانت هناك عداوة بينهم وبين أخوان لهم من المسلمين، أو بينهم وبين غير المسلمين.
فالعدل فرض وواجب إقامته، وكذلك الشهادة هي فرض وواجب الإدلاء بها، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبيراً بما تعملون( (25).
لأن الشهادة هي إحدى أركان البينة، ومن أسس إقامة مدلولات الحكم، والمستند الرئيسي للقاضي في فصل القضية.
والإسلام فرض الشهادة على اتباعه، ودعاهم إلى تقديمها لتبيان الحقيقة.
وأولى تلك الشهادات هي الشهادة بوحدانية الله عز وجل، وهي حق على كافة أتباع الديانات السماوية، وعدم كتمان شهادة مبينة من حقوق الله عز وجل قال تعالى: (قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أأنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد إنما هو إله واحد وأنني بريء مما تشركون (19) الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون (20) ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون( (21) (26).(1/208)
وأشد الناس ظلماً من كتم شهادة عنده لله في وحدانيته، أو إخفاء ما جاء في كتبه المقدسة من حقائق المعرفة، أو كتم شهادة يعلمها في حق الله عز وجل، طلبت منه في مجلس أو مجمع للناس، أو غيرها من مجالس العلم والدين والتذاكر، أو كتمها بغية مجاملة لوجيه، أو ذو منصب، أو لمدارة فاسق، أو غيره من الطغاة والظلام من أجل محاباته، أو الخوف منه، أو لغاية أخرى قال تعالى: (.. ومن أظلم من كتم شهادة عنده من الله..( (27).
ثم تأتى الشهادة بين الناس في المرتبة الثانية، التي أكد الله عز وجل على ضرورة الإدلاء بها، وعدم كتمانها، قال تعالى: (... ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه إثم قلبه والله بما تعملون عليم). (28). ففيها تبيان لحقوق الفرد والمجتمع، وفيها يتضح العدل، ويستطيع القاضي أو الحاكم رؤية حقيقة الذنب أو القضية من خلال الشهود والبينة، ويقضي بها.
والشهادة يجب أن يدلى بها بصورتها الواقعية دون زيادة أو نقصان، حتى وإن كانت تلك الشهادة على الوالدين أو الابن أو من ذوي القربى، وأن لا يخشى إلا الله عز وجل في قول الحق بشهادته، سواء كان المتضرر حاكماً أو غنياً أو فقيراً أو قريباً أو بعيداً، حتى وإن كان عدواً. قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً( (29).
والشهادة كما العدل هي فرض من الله عز وجل على المسلم الإدلاء بها، كما هي في حقيقتها بما رأى باليقين وبالحقّ كما أشرنا سابقاً، والإدلاء بالشهادة، هي من صفات وسمات الإيمان في الإسلام، قال تعالى في وصفه للمؤمنين المصلين الدائمين على صلاتهم في سورة المعارج: (والذين هم بشهاداتهم قائمون((30). وذكرت الشهادة هنا من ضمن سلسلة من الصفات الكريمة التي يجب أن يتحلى بها المصلي الدائم.(1/209)
وأن تتسم تلك الشهادة بالحق، دون أن تأخذه عاطفة القربى أو الروابط العائلية أو الحزبية أو القومية أو غيرها من الروابط الأخرى المختلفة، قال تعالى: (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى((31).
وشدد الإسلام على محاربة شهادة الزّور في الدنيا والآخرة، واعتبرها من أكبر الكبائر. قال رسول الله ((): [ألا أنبئكم بأكبر الكبائر. قلنا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئاً فقال: ألا قول الزّور وشهادة الزّور، ألا قول الزور وشهادة الزّور. فما زال يقولها حتى قلت لا يسكت](32).
??
* الفصل الثالث:
صور من العدل:
رفض الإسلام أن يقوم الناس أو مجموعة منهم أو أفراداً، مهما كانت صفتهم، أن يقوموا بالقصاص من الجاني. مهما كانت جريمته، إلا عبر محاكمة عادلة، يقضي بها قاض، يصدر عنه حكماً، وتقوم بتنفيذها السلطات الحاكمة.
وتذكر بعض السير وكتب التاريخ عن قصاص، نفذ من قبل أفراد في عهد رسول الله (()، فرفضها رسول الله (() لمخالفتها أهم شروط أسس العدل التي أشرنا إليها. ومن تلك الحوادث ما قام به نفر من مسلمي خزاعة بعد فتح مكة، حين قتلوا مشركاً، فرفض رسول الله (() هذا العمل وقال: [.. فمن قال لكم أن رسول الله قد قاتل فيها فقولوا إن الله قد أحلها لرسوله ولم يحللها لكم يا معشر خزاعة].(33).
وفي العدل كان لعمر بن الخطاب الباع الطويل في إقامته على حرفيته، فسمي بالفاروق لعدله الحرفي بين رعيته والآخرين، حيث لم يكن يفرق في إقامة الحدّ، بين ابنه وبين بقية رعاياه. فالعدل يطبق على الجميع، ودون النظر إلى النتائج، ونذكر هنا قصة إقامة الحدّ على ولده عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب. التي يرويها عمرو بن العاص والي مصر أيام الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه:(1/210)
(.. دخلا "عبد الرحمن بن عمر وأبو سروعة"، وهما منكسران، فقالا: أقم علينا حدّ الله، فإننا أصبنا البارحة شراباً فسكرنا، فزبرتهما وطردتهما. فقال عبد الرحمن: إن لم تفعل أخبرت أبي اذا أقدمت عليه.. فحضرني رأي وعلمت أني إن لم أقم عليها الحدّ غضب عليّ عمر في ذلك، وعزلني، وخالفه ما صنعت، فنحن على ما نحن عليه، إذ دخل عبد الله بن عمر، فقمت إليه، فرحبت به، وأردت أن أجلسه في صدر مجلسي، فأبى عليَّ، وقال: أبي نهاني أن أدخل عليك إلا أن أجد من ذلك بداً. "إن أخي لا يحلق على رؤوس الناس، فأما الضرب، فاصنع ما بدا لك".قال عمرو بن العاص: وكانوا يحلقون مع الحدّ، فأخرجتهما إلى صحن الدار، فضربتهما الحدّ، ودخل ابن عمر بأخيه إلى بيت الدار، فحلق رأسه ورأس أبو سروعة. فو الله ما كتب إلى عمر بشيء مما كان حتى إذا تجنبت كتابه إذا هو نظم فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى العاصي بن العاصي:
".. عجبت لك يابن العاص ولجرأتك على خلاف عهدي.. فما أراني إلا عازلك . تضرب عبد الرحمن في بيتك؛ وقد عرفت أن هذا يخالفني؟.. إنما عبد الرحمن رجل من رعيتك، تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين. ولكن قلت هو ولد أمير المؤمنين، وقد عرفت ألا هوادة لأحد من الناس عندي في حق يجب لله عليه، فإذا جاءك كتابي هذا، فابعث به في عباءة على قتب، حتى يعرف سوء ما صنع"..
قال: "فبعثت به كما قال أبوه، وأقرأت ابن عمر كتاب أبيه، وكتبت إلى عمر كتاباً أعتذر فيه، وأخبره أني ضربته في صحن داري ,بالله الذي لا يحلف بأعظم منه آتي الحدود في صحن داري على الذمي والمسلم، وبعثت بالكتاب مع عبد الله بن عمر".(1/211)
قال أسلم: "فقدم عبد الرحمن على أبيه، فدخل عليه وعليه عباءة، ولا يستطيع المشي من مركبه. فقال: يا عبد الرحمن فعلت كذا؟ فكلمه عبد الرحمن بن عوف وقال: يا أمير المؤمنين قد أقيم الحدّ عليه مرة. فلم يلتفت إلى هذا عمر وزبره. فجعل عبد الرحمن يصيح: أنا مريض وأنت قاتلي! فضربه وحبسه، ثم مرض فمات رحمه الله).(34).
ورغم أن عمر بن الخطاب شديد في إقامة الحد حتى على نفسه، فأنه كان يرفض الغلو في أخذ الحدود، فقد غضب من أبي موسى الأشعري، وهو من كبار ولاته، لأنه غالى في جلد شارب خمر، وحلق شعره، وسوّد وجهه، ونادى في الناس ألا يجالسوه ولا يؤاكلوه.
فاشتكى هذا الرجل إلى عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، فأعطاه عمر مائتي درهم، وكتب إلى أبي موسى الأشعري: (لئن عدت لسودنَّ وجهك، ولأطوفن بك في الناس). وأمره أن يسحب أمره ليجالسه الناس ويأكلوا معه، وأن يمهله ليتوب، ويقبل شهادته إن تاب.(35).
وعدل عمر لم يقف عند طبقة معينة، فقد كانت لا تأخذه في الله عز وجل لومة لائم، فالجميع لديه في سوية واحدة أمام العدل والقضاء به. وهذا تطبيق عملي لأحد أهم مرتكزات الإسلام، وهو إقامة العدل على الجميع دون تمييز، مهما كانت مكانة الشخص المدان ومرتبة، بل أن يقام العدل، حتى وإن كانت نتائجه بتوقعات الآخرين خطيرة على أمن الدولة نفسها، أو قد يؤدي تطبيقه إلى اضطرابات داخلية فيها.
فحين عزل عمر بن الخطاب رضي الله عنه قائد الجيش خالد بن الوليد رضي الله عنه، وهو المحبوب من جنده، وقائد الانتصارات العظيمة والباهرة على الفرس والروم، لم يلتفت إلى النتائج التي قد تنتج عنه من عصيان عسكري، أو امتناع القائد المعزز بقواته عن تنفيذه، أو استغلال من قبل العدو لانقسام قد يحدث في الجيش.(1/212)
والسبب أن عمر رضي الله عنه أحصى عليه بعض المآخذ، ومنها إنفاقه من بيت المال في غير ما يرضاه، فأمر به أن يحاكم في مجلس عام، كما يحاكم أصغر الجند. وعزله عن قيادة الجيش، بعد مقاسمته فيما يملك من نقد ومتاع..)(36).
فالعدل كله واجب التطبيق في نظر عمر رضي الله عنه مهما كانت النتائج. ونفذ خالد بن الوليد رضي الله عنه قرار الخليفة برضى وطاعة، وقبل المحاكمة. والتحق بعدها بالجيش جندياً عادياً، ولم تؤثر عليه القضية برمتها، فكان باسلاً في المعارك كقائد وجندي، يؤدي رسالة الإسلام الهادفة لإقامة العدل في كل أنحاء الأرض.
ومن صور العدل والمساواة في الحق بين الأمير والمواطن العادي في الإسلام، ومن الأشكال التي تم تطبيقها في العهد الراشدي، نذكر هنا أيضاً كيف وقف عمر بن الخطاب مطبقاً للعدل، منتصفاً لأعرابي بسيط، لطمه الأمير جبلة بن الأيهم أمير الغساسنة وزعيمهم، فاشتكى لعمر من عمل الأمير، فحكم للأعرابي بلطم جبلة الأمير أمام الناس كما لطمه. فغضب جبلة بن الأيهم من هذا الحكم، فلم يستوعب أنّ أعرابي بسيط يقتص من أمير، ولم يدرك أن الإسلام ساوى في الحقوق بين الأمير والفقير في الحقوق، فلا تزال الأعراف الطبقية تعشش في ذهنه، فهرب إلى الروم، حين عرف أن الحكم لابد، أن ينفذ. ولم يتأثر الإسلام حين ارتد جبلة وهرب إلى الروم خوفاً من إقامة العدل، ولم يتهاوى الإسلام بهروبه، بل سجل التاريخ أن الإسلام يقيم العدالة على الأرض دون تمييز أو استثناء.(1/213)
وكان من عدل عمر رضي الله عنه فيما ترد كل الروايات التاريخية، أنه كان يطوف في المدينة ليلاً، يتفقد أحوال رعيته، فيعالج أوضاع الناس من عوز وجور وظلم. فكان يجلب الدقيق على ظهره لأم وصبية جياع، ويقوم كل الليل من أجل توفير احتياجات امرأة تولد، وليس لها أحد يرعاها، ويسمع لامرأة تصحح له أمراً، أراد إصداره في تخفيض المهور، ويضع راتباً لكل يهودي ومسيحي عاجز مع خادم يخدمه. وتطول الروايات عن عدل عمر، ويمكن للقارئ أن يعود إلى العديد من مصادر التاريخ، ليعرف عن عدل هذا الخليفة العظيم.
ومن عدل الإسلام ما ردّ به الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه على من عاتبه في مساواته بين الناس في العطاء، فقال: (اتأمُرونّي أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه، والله لا أطور به ما سَمَر سمير، وما أمّ نجم في السماء نجماً، ولو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف وإنما المال مال الله) (37).
ومن كلام أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه في طلبه من رعيته بالعون على إقامة العدل، بإنصاف المظلوم، والأخذ على يد الظالم، قال: (لم تكُن بيعتكم إياي فلتة، وليس أمري وأمركم واحداً، إنّي أريدكم لله. وأنتم تريدوني لأنفسكمّ! أيها الناس أعينوني على أنفسكم، وأيم الله لأنصفن المظلوم، ولأقودن الظالم بخزامته حتى أورده منهل الحق، وإن كان كارهاً).(38).(1/214)
ومن أروع النصائح ما كان يوصي به الإمام علي رضي الله عنه ولاته في الأمصار، وفيما كتبه إلى الأشتر النخعي لما ولاه مصر وأعمالها. ونقتطف بعض ما جاء في هذا الكتاب الجامع، الذي تضمن شروط الوالي العادل، والتي جاء فيها ما يلي: (فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح، فاملك هواك، وشحّ بنفسك عما لا يحل لك، فإن الشح بالنفس الإنصاف منها فيما أحبت أو كرهت، وأشعر قلبك الرحمة بالرعية، والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين، وإما نظير لك في الخَلق...).
وقال له: (أنصف الله، وأنصف الناس من نفسك، ومن خاصة أهلك، ومن لك فيه هوى من رعيتك، فإنك إلا تفعل تَظلم! ومن ظلم عباد الله، كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حُجته، وكان لله حرباً حتى ينزع ويتوب، وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة (على ظلم، فإن الله يسمع دعوة المضطهدين، وهو للظالمين بالمرصاد). وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل، وأجمعها لرضى الرعية..)(39).
وسئل الإمام علي كرم الله وجهه: أيهما أفضل: العدل أو الجود؟ فقال رضي الله عنه: (العدل يضعُ الأمور مواضِعها، والجود يخرجها عن جَهتِها. والعدل سائس عام، والجود عارض خاص، فالعدل أشرفهما وأفضلهما).(40).
وسئل الإمام علي كرم الله وجهه عن العدل، فقال: (والعدل منها أربع شعبٍ: على غائِصِ الفَهمِ، وغَورِ العلم، وزهرةِ الحُكُمِ، ورِساخَةِ الحِلمِ، فمن فهِمَ عَلِمَ غور العلم، ومن علم غور العلم صدر عن شرائع الحكم، ومن حلم لم يفرط في أمره، وعاش في الناس حميداً.(41).(1/215)
تلك صور من عدالة الإسلام، ومن دعوته الدائمة للعدل والمساواة، وسيادة القانون على الجميع دون استثناء، وأن يطبق على الحاكم والمحكوم، بل الإسلام لم يفرق في تطبيق العدل على المسلم وغير المسلم، فالعدل هو هدف في مكنوناته ملزم من اعتنق الإسلام، أن يطبق على نفسه وعلى غيره، وفق نظام مؤسسات الدولة، هذا هو الإسلام الذي يحاول المتصهينون في الغرب تشويه صورته، كما جاء في مقدمة البحث.
?
*مصادر البحث:
1 ـ مجلة الشروق الإماراتية ـ عدد أيار 2002.
2 ـ السفير اللبنانية ـ العدد 9319 ـ 5/10/2003 ـ ص 12.
3 ـ سورة الإسراء ـ 105
4 ـ سورة الأعراف ـ 181
5 ـ ص ـ 26.
6 ـ النساء ـ 58.
7 ـ النور ـ 51 و52.
8 ـ الإنعام ـ 153
9 ـ صحيح البخاري ـ تحقيق الدكتور مصطفى البغا ـ دمشق ـ دار العلوم الإنسانية ـ 1993 ـ ج4 ـ ص 2461.
10 ـ المائدة ـ 49.
11 ـ النساء ـ 58.
12 ـ النحل 90
13 ـ النساء ـ 59
14 ـ النساء ـ 65
15 ـ النساء ـ 105
16 ـ النساء ـ 170
17 ـ الشورى ـ 10
18 ـ الأنعام ـ 114
19 ـ ص ـ 26
20 ـ الحشر ـ 7
21 ـ الشورى ـ 10
22 ـ صحيح البخاري ـ مصدر سابق ـ ج4 ـ ص 2458
23 ـ صحيح البخاري ـ مصدر سابق ـ ج 4 ـ ص 2459
24 ـ صحيح البخاري ـ مصدر سابق ـ ج 4 ـ ص 2454
25 ـ المائدة ـ 8
26 ـ الأنعام
27 ـ البقرة ـ 140
28 ـ البقرة ـ 282
29 ـ النساء ـ 135
30 ـ المعارج ـ 33
31 ـ الأنعام ـ 153
32 ـ صحيح البخاري ـ مصدر سابق ـ ج4 ـ ص 2100
33 ـ عباس محمود العقاد ـ العبقريات الإسلامية ـ بيروت ـ دار الكتاب العربي ـ 1972 ـ ص 79.
34 ـ عباس محمود العقاد ـ العبقريات الإسلامية ـ مصدر سابق ـ ص 331 و 332.
35 ـ عباس محمود العقاد ـ العبقريات الإسلامية ـ مصدر سابق ـ ص 333 و334.
36 ـ عباس محمود العقاد ـ العبقريات الإسلامية ـ مصدر سابق ـ 348.(1/216)
37 ـ نهج البلاغة ـ للإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ـ المستشارية الثقافية الإيرانية بدمشق ـ الطبعة الثالثة ـ 1996. ـ ص 146.
38 ـ نهج البلاغة ـ مصدر سابق ـ ص 156.
39 ـ نهج البلاغة ـ مصدر سابق ـ ص 367 و368.
40 ـ نهج البلاغة ـ مصدر سابق ـ ص 495 و496.
41 ـ نهج البلاغة ـ مصدر سابق ـ ص 410.
??
* الملحق رقم (1)
الإعلان المشترك الفرنسي ـ الروسي ـ الألماني
حول العراق في 5/3/2003
النص الكامل للإعلان المشترك الصادر عن فرنسا وروسيا وألمانيا حول العراق الذي نشر في باريس في 5/3/2003 عقب اجتماع وزراء خارجية الدول الثلاث (دومينيك دوفيلبان وزير خارجية فرنسا ـ ايغور ايفانوف وزير خارجية روسيا ـ يوشكا فيشر وزير خارجية ألمانيا):
إن هدفنا المشترك يبقى نزع سلاح العراق الفعلي والكامل وفقاً للقرار /1441/.
نعتبر أن هذا الهدف يمكن بلوغه سلمياً عبر عمليات التفتيش. ونلاحظ أن هذه العمليات تعطي نتائج مشجعة أكثر فأكثر:
ـ تدمير صواريخ صمود /2/ قد بدأ ويتقدم.
ـ العراقيون يقدمون معلومات في المجال البيولوجي والكيميائي.
ـ مقابلة العلماء العراقيين تتواصل.
إن روسيا وألمانيا وفرنسا يعلنون دعمهم الحازم للسيد هانس بليكس ومحمد البرادعي كبيري المفتشين الدوليين، ويعتبرون اجتماع مجلس الأمن الدولي في السابع من آذار مرحلة مهمة في العملية القائمة.
ندعو بحزم السلطات العراقية للتعاون بفعالية أكبر مع المفتشين على طريق إزالة الأسلحة بشكل كامل في بلادها.
إن عمليات التفتيش هذه لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية.
ونود بالتالي أن تجري بوتيرة سريعة من الآن وصاعداً في إطار المقترحات الواردة في المذكرة، التي قدمتها دولنا الثلاث إلى مجلس الأمن الدولي. نحن نرغب في :
ـ توضيح المسائل العالقة وإدراجها بالتسلسل برنامجاً بعد برنامج.
ـ في المقابل وضع جدول استحقاقات مفصل.(1/217)
وانطلاقاً، من هذا النهج سيتمكن المفتشون من أن يقترحوا بدون إبطاء برنامج عمل مرفق بتقارير مرحلية منتظمة إلى مجلس الأمن الدولي، ويمكن أن يتضمن هذا البرنامج بنداً يتعلق بتحديد موعد للسماح لمجلس الأمن بتقويم النتائج الكاملة لهذه العملية، في هذا الإطار لن ندع مشروع قرار يجيز اللجوء إلى القوة يمر في مجلس الأمن.
إن روسيا وفرنسا بصفتهما عضوين دائمين في مجلس الأمن ستتحملان كامل المسؤولية الملقاة على عاتقهما بخصوص هذه النقطة.
لقد وصلنا إلى منعطف، وبما أن هدفنا إزالة الأسلحة العراقية سلمياً وبشكل تام، لدينا اليوم إمكانية التوصل عبر السبل السلمية إلى تسوية شاملة في الشرق الأوسط، بدءاً من إحراز تقدم في عملية السلام، وذلك عبر نشر وتنفيذ خارطة الطريق. وتحديد إطار عام للشرق الأوسط يركز على الأمن والاستقرار، والتخلي عن مبدأ القوة ومراقبة التسلح، واتخاذ تدابير لإرساء الثقة.
?
* ملحق رقم
نص خطبة الخليفة الراشدي الأول
(أبو بكر الصديق رضي الله عنه).(1/218)
(أما بعد، أيها الناس، فإني وليت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة. والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح(1) عليه حقه إن شاء الله، والقوي منكم الضعيف عندي، حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله، فإنه لا يدعه قوم إلا وضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم.. أيها الناس، إنما أنا مثلكم، وإني لا أدري لعلكم ستكلفونني ماكان رسول الله(() يطيق، إن الله اصطفى محمداً على العالمين، وعصمه من الآفات، فإنما أنا متبع ولست بمبتدع، فإن استقمت فاتبعوني، وإن زغت فقوموني. وإن رسول الله(() قبض، وليس أحد من هذه الأمة يطلبه بمظلمة، ضربة سوط فيما دونها، ألا وإنما لي شيطان يعتريني، فإذا أتاني فاجتنبوني، لا أوثر في أشعاركم وأبشاركم(2)، وإنكم تغدون وتروحون في أجل قد غيِّب عنكم علمه، فإن استطعتم ألا يمضي هذا الأجل إلا وأنتم في عمل صالح فافعلوا، ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله. فسابقوا في مهل آجالكم من قبل أن تسلمكم آجالكم إلى انقطاع الأعمال، فإن قوماً نسوا آجالهم، وجعلوا أعمالهم لغيرهم، فإنها كما أن تكونوا أمثالهم، الجدّ الجدّ، والوحَى الوحَى(3)، والنجاة النجاة، وإن وراءكم طالباً حثيثاً، أجلاً مره سريع، واحذروا الموت، واعتبروا بالآباء والأبناء والإخوان، ولا تغبطوا الأحياء إلا بما تغبط به الأموات.
إن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما أريد وجهه، فأريدوا الله بأعمالكم واعلموا أن ما أخلصتم لله من أعمالكم، فطاعة أتيتموها، وحظ ظفرتم به، وضرائب أديتموها، وسلف قدمتموه من أيام فانية لأخرى باقية، لحين فقركم وحاجتكم، واعتبروا يا عباد الله بمن مات منكم، وفكروا فيمن كان قبلكم.(1/219)
أين كان أمس؟ وأين هم اليوم؟ أين الجبارون الذين كان لهم ذكر القتال والغلبة ومواطن الحروب؟ قد تضعضع بهم الدهر وصار رميماً، قد تركت عليهم القالات، الخبيثات للخبيثين، والخبيثون للخبيثات. وأين الملوك الذين أثاروا الأرض وعمروها، قد بعدوا، ونسي ذكرهم، وصاروا كـ"لا شيء".ألا إن الله قد أبقى عليهم التبعات، وقطع عنهم الشهوات، ومضوا والأعمال أعماله، والدنيا دنيا غيرهم، وبقينا خلفاً بعدهم، فإن نحن اعتبرنا بهم نجونا. أين الوضاء الحسنة وجوههم، المعجبون بشبابهم؟ صاروا تراباً، وصار ما فرطوا فيه حسرة عليهم.
أين الذين بنوا المدائن، وحصنوها بالحوائط، وجعلوا فيها الأعاجيب؟ وقد تركوها لمن خلفهم، فتلك مساكنهم خاوية وهم في ظلمات القبور، هل تحس منهم من أحد، أو تسمع لهم ركزا(4)؟ أين ما تعرفون من أبنائكم وإخوانكم.؟ قد انتهت بهم آجالهم، فوردوا على ما قدموا، فحلوا عليه، وأقاموا للشقوة أو السعادة فيما بعد الموت، ألا إن الله لا شريك له، ليس بينه وبين أحد من خلقه سبب يعطيه به خيراً، ولا يصرف به عنه شراً إلا بطاعته واتباع أمره، واعلموا أنكم عبيد مذنبون، وأن ما عنده لا يدرك إلا بطاعته.
ألا وإنه لا خير بخير بعده النار، ولا شر بشر بعده الجنة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
?
(1) أي برد عليه حقه.
(2) الأبشار: مفردها بشره وهي الجلد.. والأشعار: الشعر الذي ينبت من مسام الجلد
(3) الوحَى:الإسراع.
(4) الركز: الصوت الخفي. (المصدر السابق ـ د.محمد عمارة ـ الإسلام وحقوق الإنسان ـ ص 170 ـ 172.
الفهرس:
المقدمة……5
الباب الأول: أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر صناعة وأهداف…11
* الفصل الأول: من صنع أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر2001؟…15
* الفصل الثاني: دروس من تاريخ الولايات المتحدة في صناعة أحداث لتستفيد منها.…19
* الفصل الثالث: روايات تحمل الكثير من الثغرات عن دور تنظيم القاعدة في صناعة الحدث…22(1/220)
* الفصل الرابع: دلائل على أصابع الموساد…27
* الفصل الخامس: الحدث يكذب الرواية الأمريكية…33
* الفصل السادس: توظيف البترول القزويني لصالح أحداث أيلول/ سبتمبر…37
* الفصل السابع: لماذا تم تصنيع أحداث الحادي عشر من أيلول؟…40
* الفصل الثامن: الحرب على العراق لأجل النفط…43
* الفصل التاسع: التهيئة الأمريكية البريطانية للعالم لاحتلال العراق…58
* الفصل العاشر: احتلال العراق…62
الباب الثاني: صدام سلوكيات لا صدام حضارات…75
المقدمة……77
الفصل الأول: الإسلام السدّ الأعظم…78
الفصل الثاني: الحملة الجديدة على الإسلام…84
* الفصل الثالث: صدام سلوكيات لا صدام حضارات…90
* الفصل الرابع: السلوك الأمريكي التصادمي مع العروبة والإسلام…99
* الفصل الخامس: نماذج من السلوكيات الإسلامية.…103
الباب الثالث : (الإرهاب الإسلامي) صناعة غربية صهيونية.…107
* المقدمة……109
* الفصل الأول: المحرم من جنى أرباح الحدث!!!…111
* الفصل الثاني: الإرهاب التلفيقي…114
ما هو الإرهاب؟…114
الفصل الثالث: أمريكا مؤسسة الإرهاب في العصر الحديث…116
* الفصل الرابع: لماذا يصنع الإرهاب الإسلامي؟…122
* الفصل الخامس: التصوير المشوه للإسلام…127
* الفصل السادس: الصهيونية وحملة الافتراء.…136
*الفصل السابع: نظرية بوش على ما يسمى بالإرهاب (الحرب الاستباقية)…142
*الفصل الثامن: الحرب الإرهابية الخبيثة على الإسلام…145
الباب الرابع : الإسلام والحرية…148
*الفصل الأول: أولى حرية الإنسان في الإسلام كرامته.…148
*الفصل الثاني: الإسلام أعطى الإنسان حرية الاعتقاد والاختيار…148
*الفصل الثالث: الإسلام جاء لتحرير الإنسان من أغلال العبودية.…148
* الفصل الرابع: تحرير المرأة الحقيقي في الإسلام…148
* الفصل الخامس: الإسلام وتحرير العبيد من الرّق.…148
*الفصل السادس: الشورى جوهر النظام الإسلامي…148
الباب الخامس : الإسلام والعدل…148(1/221)
* الفصل الأول : رسالة الإسلام نشر العدل على الأرض…148
* الفصل الثاني : القضاء والإسلام…148
* الفصل الثالث: صور من العدل:…148
* الملحق رقم (1) الإعلان المشترك الفرنسي ـ الروسي ـ الألماني حول العراق في 5/3/2003…148
*ملحق رقم نص خطبة الخليفة الراشدي الأول (أبو بكر الصديق ().…148
الفهرس……148
??
??
??
??
??
- 12 -
- 13 -(1/222)